الخائفونَ: هُمْ أهلُ دارِ السَّلامِ، وأَصْحابُ النَّعيمِ وَالإكْرامِ، يقولُ سبحانَهُ: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } { الرحمن:46 } .
بارَكَ اللهُ لي ولكم في الوَحْيَيْنِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكم بِهَدْيِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستَغْفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فاستَغْفِروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلَى جَزيلِ النَّعْمَاءِ، والشُّكْرُ له عَلَى فُيُوضِ الرَّحْمَةِ وَالآلاءِ، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له فاطِرُ الأَرْضِ وَالسَّماءِ، وأشهدُ أنَّ محمداً خاتَمُ الرُّسُلِ وَالأنبياءِ، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ ذَوِي البِرِّ وَالوَفاءِ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يَوْمِ الجَزاءِ.
أمَّا بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكوا مِنْ دِينِكم بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاعْلَمُوا أنَّ أجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لا تَقْوَى، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } { الطلاق:5 } .
عِبادَ اللهِ:
اعْلَمُوا أنَّ كُلَّ خَوْفٍ خَلا مِنَ الرَّجاءِ، فهُوَ يَأْسٌ وقُنُوطٌ، { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } { الحجر:56 } ، خاطَبَ اللهُ المُسْرِفينَ عَلَى أَنْفُسِهم، الغَرْقَى في ذُنُوبِهم، ونهَاهُمْ عَنِ القُنُوطِ مِنْ رَحْمَتِهِ؛ لِتَنْهَضَ هِمَمُهُمْ، لِطَرْقِ أَبْوابِ مَغْفِرَتِهِ يقولُ اللهُ تعالَى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { الزمر:53 } .(202/7)
وعَنْ أنسِ بنِ مالِكٍ - رضي الله عنه - قالَ:سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"قالَ اللهُ تبارَكَ وتعالَى: يا ابنَ آدَمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ علَى ما كانَ مِنْكَ وَلا أُبالِي، يا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنوبُكَ عَنَانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي، يا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطايا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَةً" [أخرجَهُ الترمذيُّ].
إنَّ الرَّجاءَ الصادِقَ هوَ الذي يَدْفَعُ صاحِبَهُ إلى فِعْلِ الخَيْرِ، وَالاسْتِزادَةِ مِنْ أعْمالِ البِرِّ، { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } { الكهف:110 } .
اللهمَّ اجْعَلْنا مِنَ القانِعِينَ بِرِزْقِكَ، الرَّاضِينَ بِقَضائِكَ، المُتَّبِعِينَ لِنبيِّكَ، اللهمَّ لا تَجْعَلِ الدُّنْيا أكْبَرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولا إلى النَّارِ مَصِيرَنا، وَاجْعَلِ الجَنَّةَ دارَنا وَقَرارَنا، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ وَالمسلمينَ، وأَذِلَّ الكُفْرَ وَالكافِرِينَ، اللهمَّ اهْزِمْ مَنْ عادَى الإسلامَ وَالمسلمينَ وآذَى أُمَّةَ خَيْرِ المُرْسَلينَ، اللهمَّ انْصُرْ دِينَكَ وكِتابَكَ وَسُنَّةَ نبيِّكَ وعِبادَكَ المؤمنينَ، اللَّهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، وَاجْعَلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شُهَداءَنا وشُهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، اللهمَّ صَلِّ عَلَى نبيِّكَ محمدٍ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ، وآخرُ دَعْوَانا أنِ الحمدُ للهِ رَبَّ العالَمِينَ.
…………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(202/8)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(202/9)
اطبع هذه الصحفة
فاذكروني أذكركم
مَعْشَرَ الإخْوَةِ الأحْبابِ:
اعْلَمُوا أنَّ الذَّاكِرينَ هُمْ أَهْلُ الانْتِفاعِ بآياتِ اللهِ تعالَى وهُمْ أوُلو الألْبابِ، كَما جاءَ نَعْتُهم في مُحْكَمِ الكِتابِ: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } { آل عمران: 190-191 } .
أعانَنِي اللهُ وإيَّاكُمْ عَلَى الذِّكْرِ، وَاصْطَفانا مِنْ بَيْنِ عِبادِهِ لِلشُّكْرِ، وغَفَرَ لنا ما اجْتَرَحْنَاهُ مِنَ الْوِزْرِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 13من ذي القعدة 1428هـ الموافق23/11/2007م
فاذكروني أذكركم
الحمدُ للهِ الذي أَعَدَّ المغْفِرَةَ والأجْرَ العَظيمَ لِمَنْ ذَكَرَهُ كَثيراً، وجعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرادَ أنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرادَ شُكُوراً.
أحمدُ رَبِّي حمداً كثيراً طَيِّباً مُبارَكاً فيهِ، خَلَقَ كُلَّ شيءٍ فقَدَّرَهُ تَقْدِيراً.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ فاطِرُ السَّماواتِ وَالأرضِ ليسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ وكانَ اللهُ سميعاً بصيراً.
وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثَهُ بِالهُدَى ودِينِ الحَقِّ إلى النَّاسِ كافَّةً بشيراً ونذيراً.
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى عبدِكَ ورسولِكَ مُحمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ وآتِهِمْ مِنْ لَدُنْكَ فَضْلاً كَبِيراً.
أمَّا بعدُ:(203/1)
فأُوصِيكُمْ بتَقْوَى اللهِ الحميدِ المجيدِ، والإكْثارِ مِنْ ذِكْرِهِ فهوَ القَوْلُ السَّديدُ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } { الأحزاب:70-71 } .
عِبادَ اللهِ:
إنَّ الذِّكْرَ قَرِينُ الشُّكْرِ، كما قالَ تعالَى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } { البقرة:152 } .
ويُصَدِّقُ ذلِكَ: ما أخرجَهُ أبو داودَ عَنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أخَذَ بِيَدِهِ وقالَ:"يا مُعَاذُ؛ وَاللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ، وَاللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ. فقالَ: أُوصِيكَ يا معاذُ؛ لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ تقولُ: اللهمَّ أعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِكَ".
وقَدْ جاءَ في القرآنِ؛ الحَثُّ عَلَى ذِكْرِ الرَّحمنِ؛ مِنْ عَشْرَةِ أوْجُهٍ حِسانٍ، حَيْثُ وردَ الأمْرُ بالذِّكْرِ في كُلِّ حالٍ، والإكثارُ مِنْهُ في الغُدُوِّ وَالآصالِ، كَما قالَ الكبيرُ المُتَعالِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } { الأحزاب:41-42 } .
وقَدْ عُلِّقَ الفَلاحُ باسْتِدامَةِ الذِّكْرِ والإكْثارِ مِنْهُ، كَما عُلِّقَ الفُسُوقُ علَى نِسْيانِهِ والغَفْلَةِ عَنْهُ، فَفي مَقامِ مَدْحِ الذَّاكِرينَ المُفْلِحِينَ؛ يقولُ رَبُّ العالَمِينَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { الأنفال:45 } .(203/2)
وفي مَقامِ تَوْبيخِ الغافِلينَ الفاسِقينَ؛ يقولُ أصْدَقُ القائِلينَ: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } { الحشر: 19 } .
فمَنْ رَطَّبَ لِسانَهُ بالذِّكْرِ: فُهوَ مَوْعودٌ بالمغفِرَةِ وَالأَجْرِ، كما قالَ تعالَى: { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } { الأحزاب: 35 } .
ومَنْ لَهَا عَنِ الذَّكْرِ وَانْشَغَلَ بغيرِهِ فهوَ مِنَ الخاسِرينَ، كما جاءَ وَصْفُ ذلِكَ في الكتابِ الْمُبِينِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } { المنافقون: 9 } .
وقَدَ جَعَلَ رَبُّ العالمَِينَ ذِكْرَهُ جَزاءً لِذِكْرِ الذَّاكِرينَ: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } { البقرة: 152 } .
وذِكْرُ اللهِ تعالَى أكْبرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، لأنَّهُ حَياةُ كُلِّ حَيٍّ، { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
وذِكْرُ اللهِ تعالَى فاتِحَةُ الأعْمالِ الصَّالِحَةِ وخاتِمَتُها، { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } { النساء: 103 } .
وذَلِكَ أنَّ الذِّكْرَ قَرِينُ جَميعِ الأعْمالِ الصَّالِحَةِ وَرُوحُها، فمتىَ عَدِمَتْهُ كانَتْ كالجَسَدِ بِلا رُوحٍ، قالَ تعالَى: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } { طه: 14 } .(203/3)
مَعْشَرَ الإخْوَةِ الأحْبابِ:
اعْلَمُوا أنَّ الذَّاكِرينَ هُمْ أَهْلُ الانْتِفاعِ بآياتِ اللهِ تعالَى وهُمْ أوُلو الألْبابِ، كَما جاءَ نَعْتُهم في مُحْكَمِ الكِتابِ: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } { آل عمران: 190-191 } .
أعانَنِي اللهُ وإيَّاكُمْ عَلَى الذِّكْرِ، وَاصْطَفانا مِنْ بَيْنِ عِبادِهِ لِلشُّكْرِ، وغَفَرَ لنا ما اجْتَرَحْنَاهُ مِنَ الْوِزْرِ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ خَلَقَنا لِعبادَتِهِ وتَوْحيدِهِ، وأَعَانَنا عَلَى ذِكْرِهِ وحَمْدِهِ وتَمْجيدِهِ، أحْمَدُ رَبِّي حَمْداً كَثيراً طَيِّباً مُبارَكاً فيهِ يَحْلُو بِتَرْدِيدِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ؛ أقْرَبُ إلى أحَدِنَا مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا مُحمَّداً أفْضَلُ رُسُلِ اللهِ تعالَى وأكْرَمُ عَبيدِهِ، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ هُدَاةِ الْخَيْرِ لِطالِبِهِ وَمُرِيدِهِ.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ حَيْثُما كُنْتُم فإنَّهُ عَلَّامُ الغُيُوبِ، وأكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ فإنَّهُ طُمَأْنِينَةٌ للِقُلُوبِ.
مَعْشَرَ الإخْوَةِ الكِرامِ:
اعْلَمُوا أنَّ الذِّكْرَ ثلاثةُ أقْسَامٍ، ذِكْرُ الأَسْماءِ الحُسْنَى وَالصِّفاتِ العُلَى التي تَفَرَّدَ بها ذو الجَلالِ والإكْرامِ، وذِكْرُ أَوَامِرِ اللهِ تعالَى بِإتْيَانِ الحَلالِ وَالانْتِهَاءِ عَنِ الحَرامِ، وذِكْرُ ما يُسْدِيهِ اللهُ تعالَى مِنْ الإِحْسانِ والإِفْضالِ والإِنْعَامِ.(203/4)
فَاعْمُرُوا -أيُّها المسلمونَ والمسلماتُ- أَوْقاتَكُم وبُيُوتَكم بِالذِّكْرِ فإنَّهُ مِنْ أزْكَى الأعَمْالِ الصَّالحاتِ، وهوَ فَيْصَلُ ما بَيْنَ الأَحْياءِ وَالأَمْواتِ، فقد أخْرَجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"مَثَلُ البَيْتِ الذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ؛ وَالبَيْتِ الذي لا يُذْكَرُ اللهُ فيهِ: مَثَلُ الحَيِّ والميِّتِ".
فَالْهَجُوا بِالذِّكْرِ وَاحْذَروا الغَفْلَةَ- مَعْشَرَ الإخْوَةِ الفُضَلاءِ-؛ فإنَّ اللِّسانَ الغافِلَ كالْعَيْنِ العَمْيَاءِ، والأُذُنِ الصَّمَّاءِ، واليَدِ الشَّلاَّءِ.
أخرَجَ أحمدُ وَالتِّرمذيُّ وابنُ ماجَه عَنْ عبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ - رضي الله عنه - أنَّ رجُلاً قالَ: يا رسولَ اللهِ؛ إنَّ شرائِعَ الإسلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أتَشَبَّثُ بهِ. قالَ:"لا يَزالُ لِسانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللهِ".
واعْلَموا عافانِي اللهُ وإيَّاكُم أنَّ الجزاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فكَما أنَّ العَبْدَ يَذْكُرُ رَبَّهُ في هذِهِ الحياةِ العاجِلَةِ: فإنَّ رَبَّهُ يَذْكُرُهُ إذا لَقِيَهُ في الحياةِ الآجِلَةِ، فقَدْ أخرَجَ ابنُ ماجَه عَنِ النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ مِمَّا تَذْكُرونَ مِنْ جلالِ اللهِ -التَّسْبِيحَ والتَّهْلِيلَ والتَّحْمِيدَ- يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ العَرْشِ، لهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، تُذَكِّرُ بصاحِبِها، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أنْ يكونَ له -أوْ لا يَزالُ له- مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ؟".(203/5)
فَالذِّكْرُ يا عِبادَ اللهِ أَخَفُّ ما يَحْمِلُهُ المَرْءُ في حَضَرِهِ وسَفَرِهِ؛ وفي صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ؛ وفي فَراغِهِ وشَغْلِهِ، فقَدْ أخرجَ ابنُ ماجَه عَنْ أُمِّ هانِئٍ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ:"أَتَيْتُ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ؛ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ، فإنِّي قَدْ كَبِرْتُ وضَعُفْتُ وَبَدُنْتُ. فقالَ: كَبِّرِي اللهَ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَاحْمَدِي اللهَ مِائَةَ مَرَّةٍ، وسَبِّحِي اللهَ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ فَرَسٍ مُلْجَمٍ مُسْرَجٍ في سبيلِ اللهِ، وخَيْرٌ مِنْ مِائَةِ بَدَنَةٍ، وخَيْرٌ مِنْ مِائَةِ رَقَبَةٍ".
عِبادَ الرحمنِ:
إنَّ اللهَ قَدْ أمَرَكُم بأَمْرٍ بَدَأَ فيهِ بِنَفْسِهِ التي كُلَّ يومٍ هِيَ في شَانٍ، وَثَنَّى بملائكِتِهِ التي لا تَفْتُرُ في لَيْلٍ ولا نَهارٍ عَنِ الحَمْدِ وَالسُّبْحَانِ، وخَتَمَ بكم أيُّها الخَلْقُ مِنْ إنْسٍ وَجانٍّ، فقالَ إعْلاءً لِقَدْرِ نَبيِّهِ سيِّدِ وَلَدِ عَدْنانَ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب: 56 } .
اللهمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ وعَلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ عَلَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما بارَكْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، في العالَمِينَ، إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ.
وَارْضَ اللهمَّ عَنِ الأَرْبعَةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ؛ وَالأَئِمَّةِ الحُنَفاءِ المَهْدِيِّينَ، أُوليِ الفَضْلِ الجَلِيِّ؛ وَالقَدْرِ العَلِيِّ: أبي بكرٍ وعمرَ وعُثمانَ وعَلِيٍّ.
وَارْضَ اللهمَّ عَنْ آلِ نَبيِّكَ وَأَزْواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنَ الأَرْجاسِ، وَصَحابَتِهِ الصَّفْوَةِ الأخْيَارِ مِنَ النَّاسِ.(203/6)
اللهمَّ اغْفِرْ للمسلمينَ وَالمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم وَالأمْوَاتِ.
اللهمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِكَ.
عِبادَ اللهِ: اذْكروا اللهَ ذِكْراً كَثيراً، وَكَبِّروهُ تَكْبِيراً، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(203/7)
اطبع هذه الصحفة
حق الجار
أيُّها المؤمنونَ:
إنَّ الواجِبَ عَلَى كُلٍّ مِنَّا أنْ يَتَفَقَّدَ أُمُورَ جارِهِ، ويعْمَلَ عَلَى جَلْبِ الخَيْرِ لَه، وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ، حتَّى يكونَ في عِيشَةٍ هَنِيَّةٍ، وحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ رَضِيَّةٍ.
يَنْبَغِي لِلْجارِ أنْ يَتَعاهَدَ جارَهُ بِما تَيَسَّرَ مِنَ الهَدايَا، أوْ بِالصَّدَقَةِ إنْ كانَ مُحْتاجاً، وَدَعْوَتُهُ وَالدُّعاءُ له، وَاللطافَةُ بهِ وبأهلِهِ وأوْلادِهِ، وَالصَّفْحُ عَنْ زَلَّتِهِ إنْ أخْطَأَ، وَبَداءَتُهُ بِالسَّلامِ، وإظْهارُ البِشْرِ لَهُ، وَعِيَادَتُهُ إذا مَرِضَ، وَتَعْزِيَتُهُ إذا أُصِيبَ، وتَهْنِئَتُهُ إذا فَرِحَ، وَسَتْرُ ما انْكَشَفَ لَهُ مِنْ عَوْرَةٍ، وغَضُّ البَصَرِ عَنْ مَحارِمِهِ، ومَنْعُ الأهْلِ وَالأوْلادِ مِنْ أَذِيَّةِ أهْلِهِ وَأوْلادِهِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ:20من ذي القعدة 1428هـ الموافق30/11/2007م
حق الجار
الحمدُ للهِ المُحْسِنِ الآمِرِ بالإحْسانِ، وَالشُّكْرُ له وقَدْ جعَلَ المَزِيدَ وَالشُّكْرَ فيِ اقْتِرانٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شرِيكَ له المُنْعِمُ المنَّانُ، شَهادَةً تُزَيِّنُ صاحِبَها بالأخْلاقِ الحِسانِ، وَتُنْجِيهِ مِنَ الهَلاكِ وَالْخُسْرانِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المؤَيَّدُ بِالمعْجِزاتِ وَالقُرْآنِ، حَثَّ عَلَى الإحْسانِ إلى الجِيرانِ، بَلْ جعَلَ ذَلِكَ مِنْ كَمالِ الإيمانِ صَلَّى اللهُ وسلَّمَ علَيْهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ ذَوِي الْفَضْلِ وَالعِرْفانِ وعَلَى تابِعيهِمْ بإحْسانٍ ما تَعاقَبَ الجَدِيدانِ وتَوَالَى النَيِّرانِ.
أمَّا بعدُ:(204/1)
فَأُوصِيكم ـ إخْوَةَ الإيمانِ ونفسِي ـ بتَقْوَى المَلِكِ الدَّيَّانِ، فتَقْوَاهُ سبحانَهُ سَبَبُ الرَّحْمَةِ وَالغُفْرانِ، وطريقُ مَحَبَّةِ الرَّحمنِ ونَيْلِ الجِنانِ يقولُ سبحانَهُ في مُحْكمِ القرآنِ: { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } { الأنفال:29 } .
أَيَضْمَنُ لِي فَتىً تَرْكَ المعاصِي … وَأَرْهَنُهُ الكَفالَةَ بِالْخَلاصِ
أطاعَ اللهَ قَوْمٌ فاسْتَراحُوا… ولَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ المعَاصِي
عِبادَ اللهِ:
إنَّ تَرابُطَ المجتَمَعِ، وتَواصُلَ أفْرادِهِ، وتَماسُكَ أجْزائِهِ، وتَرَاصَّ لَبِنَاتِهِ، مَقْصِدٌ عظيمٌ مِنْ مَقاصِدِ الشَّريعَةِ، وهَدَفٌ مُهِمٌّ مِنْ أهْدافِ العَقِيدَةِ، كَما قالَ سبحانَهُ: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } { التوبة:71 } وتَصْدِيقٌ لِقَوْلِ المُصْطَفَى- صلى الله عليه وسلم -:"المؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ- رضي الله عنه -]، فَلا طريقَ بَيْنَ المؤمِنينَ يُوصِلُ إلى العَدَاوَةِ وَالشَّحْناءِ إلاّ كانَ مُحَرَّماً، ولا طَرِيقَ يُوصِلُ إلى المَحبَّةِ وَالصَّفاءِ إلا كانَ مَنْدوباً مُفَضَّلاً.
إخوةَ الإسلامِ:(204/2)
ومِنْ جُمْلَةِ ما أوْصَى بهِ الإسلامُ أتباعَهُ حُسْنُ الجِوارِ، ومَعْرِفَةُ حُقُوقِ الجارِ، فَلِلْجارِ في الإسلامِ حُرْمَهٌ مَصُونَةٌ، وحُقُوقٌ كَثيرَةٌ، لَمْ تَعْرِفْها قَوانينُ الأخْلاقِ، وَلا شَرائِعُ البَشَرِ، فقَدْ بَلَغَ مِنْ عَظيمِ حَقِّ الجارِ أنْ قَرَنَهُ اللهُ سبحانَهُ بِعبادَتِهِ وتَوْحيدِهِ، وجعَلَهُ مِنَ الحُقُوقِ العَظِيمَةِ فقالَ سبحانَهُ: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } { النساء:36 } وقَدْ حَظِيَ الجارُ بِالفَضْلِ وَالْمَكْرُمَةِ، في سُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ:" ما زالَ جِبْريلُ يُوصِينِي بالجارِ حتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ"]أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ ابنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عَنْهما[، وعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍوـ رضِيَ اللهُ عَنْهماـ قالَ:قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"خَيْرُ الأصْحابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُم لِصاحِبِهِ، وخَيْرُ الجِيرانِ عِنْدَ اللهِ تعالَى خَيْرُهُم لجارِهِ" [أخرجَهُ الترمذيُّ] وقَدْ كانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ مفاخِرِ أهْلِ الجاهِليَّةِ، ومِنْ مَكارِمِهِمُ الحَسَنَةِ، حتَّى قالَ قائِلُهم:
أقولُ لِجارِي إذْ أتانِي مُعَاتِباً … مُدِلَّا بِحَقٍّ أوْ مُدِلَّا بِباطِلِ
إذا لَمْ يَصِلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُجاوِرِي إليْكَ فَما شَرِّي إليْكَ بِوَاصِلِ
أتبْاعَ خاتَمِ المرسَلِينَ:(204/3)
ومِنْ عَظيمِ اهْتِمامِ الإسلامِ بِالجارِ، أنَّه لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ جارٍ وآخَرَ، يقولُ الحافِظُ بنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ:" وَاسْمُ الجارِ يَشْمَلُ المسْلِمَ وَالكافِرَ، والعابِدَ والفاسِقَ، وَالصَّديقَ وَالعَدُوَّ، وَالغَرِيبَ وَالبَلَدِيَّ، والنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَالقَريبَ وَالأجْنَبِيَّ، وَالأقْرَبَ داراً وَالأبْعَدَ، ولَه مَراتِبُ، بَعْضُها أعْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَأعْلاها مَنِ اجْتَمَعَتْ فيهِ الصِّفاتُ الأُوَلُ كُلُّها، ثُمَّ أكْثَرُها، وهَلُمَّ جَرًّا إلى الواحِدِ، وعَكْسُهُ مَنِ اجْتَمَعَتْ فيهِ الصِّفاتُ الأُخْرَى كَذلِكَ".
وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الجِوارِ، وكُلُّ الأقْوالِ فيهِ مُشْعِرَةٌ باهْتِمامِ الإسلامِ بِالجارِ وحُقُوقِهِ، يقولُ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ:" وَاخْتُلِفَ في حَدِّ الجِوارِ، فجاءَ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - :مَنْ سَمِعَ النِّداءَ فَهُوَ جَارٌ، وقِيلَ: مَنْ صَلَّى مَعَك صَلاةَ الصُّبْحِ في المسْجِدِ فهوَ جارٌ، وعَنْ عائشةَ:"حَدُّ الجارِ أربعونَ داراً مِنْ كُلِّ جانِبٍ".
أيُّها المؤمنونَ:
إنَّ الواجِبَ عَلَى كُلٍّ مِنَّا أنْ يَتَفَقَّدَ أُمُورَ جارِهِ، ويعْمَلَ عَلَى جَلْبِ الخَيْرِ لَه، وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ، حتَّى يكونَ في عِيشَةٍ هَنِيَّةٍ، وحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ رَضِيَّةٍ.(204/4)
يَنْبَغِي لِلْجارِ أنْ يَتَعاهَدَ جارَهُ بِما تَيَسَّرَ مِنَ الهَدايَا، أوْ بِالصَّدَقَةِ إنْ كانَ مُحْتاجاً، وَدَعْوَتُهُ وَالدُّعاءُ له، وَاللطافَةُ بهِ وبأهلِهِ وأوْلادِهِ، وَالصَّفْحُ عَنْ زَلَّتِهِ إنْ أخْطَأَ، وَبَداءَتُهُ بِالسَّلامِ، وإظْهارُ البِشْرِ لَهُ، وَعِيَادَتُهُ إذا مَرِضَ، وَتَعْزِيَتُهُ إذا أُصِيبَ، وتَهْنِئَتُهُ إذا فَرِحَ، وَسَتْرُ ما انْكَشَفَ لَهُ مِنْ عَوْرَةٍ، وغَضُّ البَصَرِ عَنْ مَحارِمِهِ، ومَنْعُ الأهْلِ وَالأوْلادِ مِنْ أَذِيَّةِ أهْلِهِ وَأوْلادِهِ.
وَلِلْجارِ حَقٌّ فاحْتَرِزْ مِنْ أَذَاتِهِ…وَمَا خَيْرُ جارٍ لَمْ يَزَلْ لَكَ مُؤْذِياً
أيُّها الجارُ الكريمُ :
إذا دَعاكَ جارُكَ فأَجِبْهُ، وإنِ اسْتَشارَكَ فَأَشِرْ عَلَيْهِ، وإذا كانَ مَظْلُوماً فانْصُرْهُ، أوْ ظالِماً فَاقْبِضْ عَلَى يَدَيْهِ، وإنْ أحْسَنَ فَاشْكُرْهُ، وإنْ أساءَ فَاعْفُ عَنْهُ، فَرُبَّ جارٍ مُتَعَلِّقٍ بجارِهِ يَوْمَ القِيامَةِ يقولُ: يا رَبِّ إنَّ هَذا قَدْ أغْلَقَ بابَهُ دُونِي، ومَنَعَنِي مَعْرُوفَهُ، وَرَآنِي عَلَى الشَّرِّ فَلَمْ يُذْهِبْنِي عَنْهُ.
فَبِأداءِ حُقُوقِ الجارِ، وَالإحْسانِ إليهِ تَحْصُلُ المَوَدَّةُ، ويُصْبِحُ الرُّجُلُ مَحْبوباً بَيْنَ جِيرانِهِ، إنْ غابَ سَأَلُوا عَنْهُ، وإنْ مَرِضَ عادُوهُ، وإنْ سافَرَ انْتَظَرُوا عَوْدَتَهُ بِلَهْفَةٍ وَشَوْقٍ في أقْرَبِ وَقْتٍ، وإنْ حَضَرَ أَسْمَعوهُ كلاماً طَيِّباً يُسَرُّ بهِ.(204/5)
رُوِيَ أنَّ إبراهيمَ بنَ حُذَيْفَةَ باعَ دارَهُ، فلمَّا أرادَ المُشْتَرِي أنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ قالَ: لَسْتُ أُشْهِدُ عَلَيَّ ولا أُسَلِّمُها حتَّى يَشْتَروا مِنِّي جِوارَ سَعيدِ بنِ العاصِ، وَتَزايَدُوا في الثَّمَنِ، وقالَ بَعْضُهم لإبراهيمَ: وهَلْ رأيْتَ أَحَداً يَشْتَرِي جِواراً أوْ يَبِيعُهُ؟ فقالَ: أَلا تَشْتَرُونَ جِوارَ مَنْ إِنْ أسَأْتَ إليهِ أحْسَنَ، وإنْ جَهِلْتَ عَلَيهِ حَلُمَ، وإنْ أعْسَرْتَ وَهَبَ، لا حاجَةَ لِي في بَيْعِكم، رُدُّوا عَلَيَّ دارِي، فبَلَغَ ذلِكَ جارَهُ سعيدَ بنَ العاصِ، فبَعَثَ إليهِ بِمائَةِ ألْفِ دِرْهَمٍ.
وَفِي المُقابِلِ فإنَّ أحَدَهُمُ اضْطُرَّ إلى بَيْعِ مَنْزِلِهِ بأَزْهَدِ الأَثْمانِ مِنْ أَجْلِ جارِهِ، وحِينَ لامَهُ النَّاسُ قالَ لهم:
يَلُومُونَنِي أَنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي ولَمْ يَعْلَمُوا جاراً هُناكَ يُنَغِّصُ
فقُلْتُ لَهم: كُفُّوا المَلامَ فإنَّما بِجيرَانِها تَغْلُو الدِّيارُ وتَرْخُصُ
بارَكَ اللهُ لي ولكم في كِتابِهِ، وَوَفَّقَنِي وإيَّاكُم لِهَدْيِ نَبيِّهِ ونَهْجِ أصْحابِهِ،وجَنَّبَنَا أسْبابَ سُخْطِهِ وعِقابِهِ، أقولُ ما تسمعونَ وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكم ولِسائِرِ المسلمينَ إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذِي بَيَّنَ الواجِباتِ وَالحُقُوقَ، وحَذَّرَ مِنَ القَطِيعَةِ وَالعُقُوقِ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الرَّبُّ الخالِقُ ومَنْ سِواهُ مَخْلُوقٌ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الصادِقُ المَصْدوقُ صَلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ ما تعاقَبَ الجَدِيدانِ ما بَيْنَ غُرُوبٍ وشُرُوقٍ.
أمَّا بعدُ:(204/6)
فاتَّقُوا اللهَ سبحانَهُ، وَاعْلَمُوا أنَّ المَرْءَ لَنْ يَكْمُلَ إيمانُهُ، حتَّى يُحْسِنَ إلى جِيرانِهِ، وأنَّ الإساءَةَ إلى الجِيرانِ سَبَبٌ قَدْ يُؤدِي بصاحِبِهِ إلى النِّيرانِ، فعَنْ أبِي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، واللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ" قِيلَ: ومَنْ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ:" الذي لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ"[أخرجَهُ البخاريُّ]وعِنْدَ مسلمٍ:"لا يَدْخُلُ الجَنْةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جارُهُ بوائِقَهُ".وبَوائِقُهُ أيْ: شُرورُهُ وَآثامُهُ.
ثُمَّ لِتَعْلَموا عِبادَ اللهِ أنَّ حُسْنَ الجِوارِ يَقْتَضِي الإحسانَ إلى الجارِ، والصَّبْرَ عَلَى أَذاهُ فعَنْ أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُحِبُّ ثَلاثَةً- وذَكَرَ مِنْهم- رَجُلٌ كانَ له جارُ سُوءٍ يُؤْذِيهِ فصَبَرَ عَلَى أَذاهُ حتَّى يَكْفِيَهُ اللهُ إيَّاهُ بِحيَاةٍ أوْ مَوْتٍ" [أخرجَهُ أحمدُ والطبرانِيُّ واللفظُ له] ويقولُ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -:"ليسَ حُسْنُ الجِوارِ تَرْكَ الأذَى، وَلَكنْ حُسْنُ الجِوارِ الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى".
ثُمَّ صَلُّوا وسَلِّمُوا – حَفِظَكُمُ المَوْلَى- عَلَى خَيْرِ الوَرَى، وإمامِ الهُدَى، كَما أمَرَ رَبُّكُم جَلَّ وعَلا، فقالَ عَزَّ مِنْ قائِلٍ : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب:56 } ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نبيِّنا محمدٍ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ وأتْباعِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ.(204/7)
اللهمَّ أَعِنَّا عَلَى أَداءِ الحُقُوقِ، وَجَنِّبْنا طَرِيقَ المعاصِي وَالفُسُوقِ، اللهمَّ وَفِّقْنا لِمَرْضاتِكَ، وجَنِّبْنا مَا يُوجِبُ عُقُوبَتَكَ، يا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ وَالمسلمينَ، وأَذِلَّ الكُفْرَ وَالكافِرينَ، وَانْصُرْ دِينَكَ وكِتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّكَ وعِبادَكَ المؤمنينَ.
اللهمَّ اغْفِرْ للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم وَالأمْواتِ، اللهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، عاجلِهِ وآجِلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْهُ وما لمْ نَعْلَمْ، ونَعوذُ بِكَ مِنَ الشرِّ كُلِّهِ، عاجِلِهِ وآجِلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْهُ وما لم نَعْلَمْ، اللهمَّ إنَّا نسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ ما سَأَلَكَ عَبْدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما عاذَ بِهِ عَبْدُكَ ونَبِيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وما قَرَّبَ إلَيْها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ، ونعوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وما قَرَّبَ إلَيْها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ، ونسأَلُكَ أنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضاءٍ قَضَيْتَهُ لنا خَيْراً.
اللهمَّ آمِنَّا في الوَطَنِ، وادْفَعْ عَنَّا الفِتَنَ وَالمِحَنَ، ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ،اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أُمُورِنا لِحَمْلِ الأَمانَةِ، وَارْزُقْهُم صَلاحَ البِطانَةِ، وَاحْفَظْهُم مِنْ كَيْدِ أَهْلِ البَغْيِ وَالخِيانَةِ.رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنةً، وفيِ الآخرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
عِبادَ اللهِِ: اذْكُروا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَكَبِّرُوهُ تَكْبِيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
لجنة الخطبة المذاعة الموزعة
---(204/8)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(204/9)
اطبع هذه الصحفة
العشر من ذي الحجة
أَيُّها النَّاسُ:
في هذِهِ الأيَّامِ الطيِّبَةِ يُشْرَعُ التَّنافُسُ في العَمَلِ الصَّالِحِ، وقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذلِكَ سُنَّةُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومِنْ أجْمَعِ ما جاءَ في بَيانِ خَيْرِيَّتِها وزَكَاوَةِ الأعْمالِ فيها وبَرَكَتِها: قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:" مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ"قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ:"وَلَا الْجِهَادُ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ"[أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما]، وأخرجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ ابنِ عمرَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 27من ذي القعدة1428هـ الموافق 7/12/2007م
العشر الأول من شهر ذي الحجّة(205/1)
الحمدُ للهِ الذي نَعُدُّ نِعَمَهُ ولا نُحْصِيها، ونَدْأَبُ له عَمَلاً فَلا نَجْزِيها، وإنْ نُّعَمَّرْ في الفانِيَةِ لا نَقْضِيها، الحمدُ للهِ الذي ألِفَتْنَا نِعَمُهُ ونحنُ بِكُلِّ شَرٍّ، فأصْبَحْنا وأَمْسَيْنا فيها بكُلِّ خَيْرٍ، لا خَيْرَ اللّهمَّ إلّا خَيْرُكَ، ولا إلهَ لنا غَيْرُكَ، إِلهَ الصَّالحِينَ ورَبَّ العالَمِينَ، كَفَيْتَنا وَآوَيْتَنا، وأنْعَمْتَ عَلَيْنا وهَدَيْتَنَا، وأَكْرَمْتَنَا بمَواسِمِ الخَيْراتِ، وأيَّامِ الطَّاعاتِ وَالحَسَناتِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ؛ صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ ومَنْ سارَ عَلَى نَهْجِهِ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فأُوصِيكم-أيُّها النَّاسُ ونفسِي- بتَقْوَى اللهِ العظيمِ وطاعَتِهِ، ومُصاحَبَةِ أهْلِ خَشْيَتِهِ؛ قالَ سبحانَه: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .
أيُّها المسلمونَ:
رَحِمَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى العِبادَ بأنْ أَتَاحَ لهم أَزْماناً فاضِلَةً يَسْتَدْرِكونَ فيها تَقْصِيرَهم في العَمَلِ الصَّالِحِ؛ فأكْرَمَهم بِمَواسِمَ صالِحَةٍ وأيَّامٍ خَيِّرَةٍ، يَتَقرَّبونَ فِيها إلى رَبِّهم، ويَسْتَعِيدونَ بَعْضَ عافِيَتِهم في الخيْرِ والعِبادَةِ.(205/2)
ومِنْ أيَّامِ الخَيْرِ وَالبرَكَةِ التي تَحُلُّ عَلَى المسلمينَ كُلَّ عامٍ: عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ، المكَرَّمَةُ المبَجَّلَةُ بمَزيدِ القُرُباتِ وصُنوفِ الطَّاعاتِ والعِباداتِ، ولقَدْ رَفَعَ اللهُ تعالَى مِنْ قَدْرِها حتَّى أقْسَمَ بها؛ فقالَ سبحانَه: { وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ } { الفجر:1-2 } ، وذَكَرَها عَزَّ وجَلَّ في مَوْضِعِ الحَثِّ عَلَى تَعْظيمِ اللهِ تعالَى وإجْلالِهِ فقالَ: { وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ } { الحجّ:28 } .
أَيُّها النَّاسُ:
في هذِهِ الأيَّامِ الطيِّبَةِ يُشْرَعُ التَّنافُسُ في العَمَلِ الصَّالِحِ، وقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذلِكَ سُنَّةُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومِنْ أجْمَعِ ما جاءَ في بَيانِ خَيْرِيَّتِها وزَكَاوَةِ الأعْمالِ فيها وبَرَكَتِها: قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:" مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ"قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ:"وَلَا الْجِهَادُ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ"[أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما]، وأخرجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ ابنِ عمرَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ".
عِبادَ اللهِ:(205/3)
إنَّ خَيْرَ ما تَسْتَفْتِحونَ بهِ هَذَا الموْسِمَ الكَرِيمَ؛ التَّوْبَةُ إلى اللهِ تعالَى مِن جميعِ الذُّنوبِ والمظالِمِ؛ فإنَّها مِفْتاحُ السَّعادَةِ وعَليْها تُشَيَّدُ الصَّالِحاتُ، ورُبَّ عَمَلٍ عظيمٍ غَمَصَتْهُ ذُنوبٌ سالفةٌ لم يَتَطَهَّرْ صاحِبُها مِنْها؛ فلَمْ يَفْلَحْ في دَرْكِ بَرَكَتِها ونَيْلِ ثَوابِها، وكانَتْ علَيْهِ وَبَالاً وخُسْراناً، ولم يُفِدْ مِنْها غَيْرَ النَّصَبِ والتَّعَبِ، وقَدْ حَثَّ اللهُ تعالَى في كتابِهِ العزيزِ عَلَى التَّوْبةِ إليهِ فقالَ سبحانَهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { التحريم: 8 } .(205/4)
أَلَا فَلْيَفْرَحْ بِتَوْبَتِكم رَبُّكُمُ الكَريمُ في مُسْتَهَلِّ هذِهِ الأيَّامِ الطَيِّبَةِ المبارَكَةِ؛ فقَدْ أخرَجَ البخاريُّ في صَحيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَلهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ؛ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ؛ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي؛ فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ"، ولقَدْ كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَكْثِرُ مِنْها في كُلِّ وَقْتٍ وحِينٍ؛ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ"[أخرجَه مسلمٌ].
أيُّها المسلمونَ:
ومِنْ أَجَلِّ الأَعْمالِ الصَّالِحَةِ في هذِهِ الأيَّامِ حَجُّ بَيْتِ اللهِ الحرامِ، الذي جَعَلَهُ الموْلَى سبحانَهُ المثابَةَ الآمِنَةَ لِلنَّاسِ، فهوَ الطَّاعَةُ النَّافِعَةُ التي مَنْ جاءَ بها عَلَى وَجْهِها فقَدْ حَلَّتْ كَرامَتُهُ وحُقَّتْ جائِزَتُهُ، وقَدْ سُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كما في حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أيُّ العمَلِ أفْضَلُ؟ فقالَ - صلى الله عليه وسلم -:"إيمانٌ باللهِ ورسولِهِ"قِيلَ: ثُمَّ ماذا؟ قالَ:"الجِهادُ في سبيلِ اللهِ"قِيلَ: ثُمَّ ماذا؟ قالَ:"حَجٌّ مَبْرورٌ". [أخرجَهُ البخاريُّ].(205/5)
إنَّ الحَجَّ الصَّحيحَ الخالِصَ-عِبادَ اللهِ- تُغْفَرُ بهِ الذُّنوبُ وَالزَّلاَّتُ، وتَزُولُ بهِ العَثَراتُ وَالسَّيِّئاتُ؛ قالَ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ حَجَّ لِلهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"[أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -]، وفي الصَّحيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ".
مَعْشَرَ المُوَحِّدِينَ:
إنَّ مِنْ أزْكَى الطَّاعاتِ في هذِهِ الأيَّامِ ذِكْرَ اللهِ تعالَى بشَتَّى الأَذْكارِ وَالمحامِدِ، فإنَّهُ صَنْعَةُ الصَّالحِينَ ودَأْبُهُم، وقَدْ قالَ اللهُ تعالَى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } { الرّعد:28 } ، وقَدْ أخْرَجَ التِّرمذيُّ عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟" قَالُوا: بَلَى. قَالَ:"ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى"، وقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رضي الله عنه -:"مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ" [أخرجَه التِّرمذيُّ].(205/6)
وإنَّ اللهَ سبحانَهُ لَيَقْتَرِبُ مِنْ عَبْدِهِ الذِي يَذْكُرُهُ، ويَخُصُّهُ بكَرامَتِهِ وَوِلايَتِهِ، أخرجَ مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي؛ إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
وكَما أنَّ ذِكْرَ اللهِ تعالَى مِنْ أفْضَلِ الأعمالِ الصَّالِحَةِ؛ فإنَّ الكلامَ بغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ مَفْسَدةٌ ومَشْغَلَةٌ يَنْبَغِي أنْ تُصانَ عَنْها هذِهِ الأيَّامُ الغالِيَةُ، وهَذا نَبيُّ اللهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليهِ السَّلامُ يُوصِِي بقولِهِ:"لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ، وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ؛ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافىً؛ فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ، وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَى الْعَافِيَةِ"[أخرجَه مالكٌ في مُوَطَّئِهِ].
إخوةَ الإسلامِ:(205/7)
كانَ لِسَلَفِنا الصَّالِحِ في هذِهِ الأيَّامِ اجتهادٌ خاصٌّ يَليقُ بمكانَتِها وفَضْلِها، وكانُوا يَفْعَلونَ أشياءَ كثيرةً مِنَ الصَّالِحاتِ بُغْيَةَ أنْ يتَأسَّى بهم غَيْرُهُم، فيكونَ لَهم أَجْرُ السَّبْقِ وأجْرُ مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهم، قالَ الإمامُ البخاريُّ - رحِمَهُ اللهُ-:"وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ".
فأَكْثِرُوا-رحِمَكُمُ اللهُ- فِيها مِنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وقِراءَةِ القُرْآنِ، وَصِلُوا أرْحامَكُم، وَوَسِّعُوا صَدَقاتِكم، وفَرِّجُوا الكُرُباتِ، وَاقْضُوا الحاجاتِ، وَامْشُوا في الشَّفاعاتِ وسائِرِ أنْواعِ الطَّاعاتِ.
وَاعْلَمُوا -رحِمَكُمُ اللهُ- أنَّ الصِّيامَ في هذِهِ الأيَّامِ مِنْ رَغائِبِ الخَيْرِ، وهوَ جُنَّةٌ وَوِقاءٌ مِنَ الشَّرِّ، وهوَ كما جاءَ في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" الصِّيَامُ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ" أخرجَه أحمدُ، فاجْتَهِدوا في الصِّيامِ وتابِعُوا هذِهِ الأيَّامَ المفضَّلَةَ بهِ؛ فإنَّها مَغْنَمُكُم ورِبْحُكُمْ، ولا تَكُونوا مِنَ الغافِلينَ اللَّاهِينَ، وَاعْلَمُوا أنَّ أفْضَلَهُ وَآكَدَهُ صِيامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لغَيْرِ الحاجِّ، فقَدْ أخرَجَ مسلمٌ عَنْ أبي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ "؛ فَلا يَفُوتَنَّكُم خَيْرُ هَذا اليومِ وبَرَكَتُهُ، فإنَّ المُوَفَّقَ مَنِ اغْتَنَمَهُ وَالمحْرُومَ مَنْ حُرِمَهُ.(205/8)
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ وَالسُّنَّةِ، ونَفَعَنِي اللهُ وإيَّاكم بما فِيهما مِنَ الآياتِ وَالْحِكْمَةِ، أقولُ ما تَسْمَعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم؛ فاستغْفِروهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي تَواضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِعَظَمَتِهِ، وذَلَّ كُلُّ شيءٍ لِعِزَّتِهِ، وخَضَعَ كُلُّ شيءٍ لإرادَتِهِ، وَاسْتَسْلَمَ كُلُّ شيءٍ لِقُدْرَتِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً رسولُ اللهِ؛ اللهمَّ صَلِّ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأصْحابِهِ وسَلِّمْ تَسْلِيماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فَيا أَيُّها المسلمونَ:
أَوْصَى بَعْضُ الصَّالحِينَ أَخَاهُ بقولِهِ: احْذَرْ أَنْ يَراكَ اللهُ حَيْثُ نَهاكَ أوْ يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ، وَاجْهَدْ أنْ يكونَ لكَ خَبِيَّةُ عَمَلٍ لا يَعْلَمُ بها إلَّا اللهُ؛ فإنَّ ذلِكَ أعْظَمُ وَسِيلَةٍ لِخُلُوصِ ذَلِكَ العَمَلِ مِنَ الشِّرْكِ، وقَليلٌ مَنْ يكونُ له هَذا، وثابِرْ عَلَى عَمَلِ الخَيْرِ في عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ؛ فاجْتَهِدُوا -رَحِمَنِي اللهُ وإيَّاكم- في العِبادَةِ والطَّاعَةِ ولا تَمَلُّوا؛ فإنَّها أيَّامٌ قَلِيلَةٌ مُنْصَرِمَةٌ، وفي الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى.
ألاَ وصَلُّوا وسَلِّمُوا عَلَى عَبْدِ اللهِ ورَسُولِهِ؛ فقَدِ قالَ تعالَى: { إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } . اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ ورَسولِكَ سَيِّدِنا محمّدٍ، وارْضَ اللهمَّ عَنْ خُلَفائِهِ الرَّاشِدينَ الأَئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ الذين قَضَوْا بالحقِّ وبهِ كانُوا يَعْدِلونَ.(205/9)
اللهمَّ احْفَظْنا بالإسلامِ قائِمِينَ وَاحْفَظْنا بالإسلامِ قاعِدِينَ وَاحْفَظْنا بالإسلامِ راقِدِينَ، ولا تُشْمِتْ بِنَا الأَعْداءَ والحاسِدِينَ، وَاجْعَلْنا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، اللهمَّ اغْفِرْ لِلْمسلمينَ وَالمسلماتِ، وَالمؤمنينَ وَالمؤمناتِ، وأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهم وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهم وَاهْدِهِم سُبُلَ السَّلامِ، وجَنِّبْهُمُ الْفَواحِشَ وَالفِتَنَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ.
اللهمَّ آمِنَّا في أوْطانِنا وأَصْلِحْ أَئِمَّتنَا وَوُلاةَ أُمُورِنا، وَاجْعَلِ اللهمَّ وِلايَتَنَا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا ربَّ العالَمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(205/10)
اطبع هذه الصحفة
وليطوفوا بالبيت العتيق
أيُّهَا الإخْوَةُ الكِرَامُ:
قَدْ أظلَّتْكُم عَشْرٌ هِيَ أشْرَفُ الأيَّامِ، قَدْ زيَّنَها اللهُ تعالى بخامسِ أركانِ الإسلامِ، وهُوَ حَجُّ بيتِهِ الحرامِ، الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى طُهْرَةً للذُّنُوبِ والآثامِ، فقد أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:مْن أتَىَ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أمُّهُ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 4 من ذي الحجة 1428هـ الموافق 14/12/2007م
وليطوفوا بالبيت العتيق
الحمدُ للهِ؛ ذي الجلالِ والإكرامِ، والنَّوالِ والإفضالِ والإنعامِ، اختصَّ بعضَ الشهورِ والأيَّامِ، بالخيراتِ الجِسامِ؛ والفضائلِ العِظامِ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيهِ على ما أبدعَهُ مِنَ الشرائعِ واختارَهُ مِنَ الأحكامِ، التي تُهَذِّبُ النُّفوسَ وتُنِيرُ الأفهامَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ الملكُ القُدُّوسُ السَّلامُ، الحيُّ القيُّومُ الذي لا ينامُ ولا ينبغي لهُ أنْ ينامَ.
وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا ورسولَنَا؛ وحبيبَنَا وخليلَنَا؛ خيرُ الأنامِ، وأفضلُ مَنْ صلَّى وزكَّى وصامَ، وخيرُ مَنْ حجَّ واعتمرَ إلى بيتِ اللهِ الحَرامِ، أَخْرَجَ اللهُ بهِ النَّاسَ إلى النُّورِ بعدَ تقلُّبِهِمْ في غياهبِ الظَّلامِ، فدعَاهُمْ إلى الجنَّةِ دارِ السَّلامِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الكرامِ، صلاةً وسلاماً دائمينِ مُتعاقِبَيْنِ ما تعاقبتِ اللَّيالي والأيَّامُ.
أمَّا بعدُ:
فأوصيكمْ معشرَ الإخوةِ الكرامِ؛ بتقوى الملكِ القدوسِ السلامِ، فتقوى اللهِ تعالى خيرُ زادٍ يصطحبُهُ الحاجُّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ.
أيُّهَا الإخْوَةُ الكِرَامُ:(206/1)
قَدْ أظلَّتْكُم عَشْرٌ هِيَ أشْرَفُ الأيَّامِ، قَدْ زيَّنَها اللهُ تعالى بخامسِ أركانِ الإسلامِ، وهُوَ حَجُّ بيتِهِ الحرامِ، الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى طُهْرَةً للذُّنُوبِ والآثامِ، فقد أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:مْن أتَىَ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أمُّهُ".
ومَوْسِمُ الحجِّ مَلِيءٌ بالعِبَرِ والدُّرُوسِ، التِي تحدُو بالنفوسِ؛ لعبادةِ الملكِ القُدوسِ، فمِنْ هذهِ الدروسِ والعِبَرِ، التِي هِيَ عِبْرَةٌ لِمَنِ اعْتَبَرَ؛ وذِكْرَى لِمَنِ ادَّكَرَ:
أنَّ الحاجَّ إلى بيتِ الرحمنِ: يُخَلِّفُ وراءَهُ الأوطانَ؛ ويُوَدِّعُ الأهلَ والوِلْدَانَ؛ ويتركُ الأموالَ والخِلَّانَ، وهكذا العبدُ فِي هذهِ الدارِ؛ إذا وافَتْهُ المَنِيَّةُ وانتقلَ إلى دارِ القَرَارِ، فإنَّهُ يَتركُ المَالَ والأهلَ والأولادَ، ولا يَأخذُ إلا عَمَلَهُ الذي هُوَ خيرُ الزَّادِ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"يَتْبَعُ المَيِّتَ ثلاثةٌ، فيَرْجِعُ اثنانِ ويبقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أهلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ، فيَرْجِعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويَبقَى عملُهُ" [أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -].
فقُلْ لِي بربِّكَ: ماذا قدَّمْتَ لنفسِكَ؟ وأيَّ عملٍ صالحٍ اصْطَحَبْتَ لقبرِكَ؟ يَا مَنْ غَرَّهُ طولُ الأيَّامِ والليالِ: هلْ حَاسَبْتَ نَفْسَكَ قبلَ تَصَرُّمِ الآجَالِ؟ هلْ فكَّرْتَ فيمَا تستقبِلُهُ مِنَ الأهْوَالِ، يومَ تنفردُ وحيداً فريداً عن الصاحبةِ والولدِ والآلِ، ليسَ لكَ ضجيعٌ إلا مَا قدَّمْتَ مِنْ صالحِ الأعمالِ، كأنِّي وقدِ انْصَرَفَ مُشَيِّعُوكَ بالآمَالِ، يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهم فِي قِسْمَةِ مَا خَلَّفْتَهُ مِنَ الأموالِ.(206/2)
تَزَوَّدْ قَرِيناً مِنْ فِعَالِكَ إنَّمَا قرينُ الفتى في القبرِ مَا كانَ يَفْعَلُ
وإنْ كُنْتَ مَشغولاً بشيءٍ فَلا تَكُنْ بغيرِ الذي يَرضَى بهِ اللهُ تُشْغَلُ
فلَنْ يَصْحَبَ الْإِنْسَانَ مِنْ بعدِ مَوْتِهِ إلى قَبْرِهِ إلا الذي كانَ يَعْمَلُ
ألا إنَّمَا الإنسانُ ضيفٌ لأهلِهِ يُقِيمُ قليلاً عِنْدَهُمْ ثُمَّ يَرْحَلُ
ومِنْ هذهِ العبرِ والعظاتِ؛ التي يَعتبرُ بها الحُجَّاجُ في أشرفِ مواسِمِ الخيراتِ: اجتماعُهُمْ جميعُهُم في يومِ عرفاتٍ، يوم يَدْنُو الربُّ الحميدُ؛ في عَشِيّةِ عرفاتٍ مِنَ العبيدِ، فيُبَاهِي بِهِمْ ملائكتَهُ وحَمَلَةَ عرشِهِ المَجيدِ.
فعنْ جابرِ بنِ عبدِاللهِ الأنصاريِّ رضيَ اللهُ عنهُمَا قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَا مِنْ أيامٍ أفضلُ عندَ اللهِ مِنْ أيامِ عَشْرِ ذي الحِجَّةِ، فقالَ رجلٌ:يَا رسولَ اللهِ؛ هُنَّ أفضلُ أمْ عِدَّتُهُنَّ جِهَاداً فِي سبيلِ اللهِ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: هُنَّ أفضلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَاداً في سبيلِ اللهِ، ومَا مِنْ يومٍ أفضلُ عِندَ اللهِ مِنْ يومِ عرفةَ، يَنْزِلُ اللهُ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيا، فيُبَاهِي بأهلِ الأرضِ أهلَ السَّمَاءِ، فيقولُ: انظرُوا إلى عبادِي شُعْثاً غُبْراً ضَاحِينَ- أي: بارزين للشمس غير مستترين منها-، جَاؤوا مِنْ كلِّ فجٍ عميقٍ، يَرْجُونَ رحمَتِي ولَمْ يَرَوْا عَذابِي، فَلَمْ يُرَ يومٌ أكثرُ عِتقاً مِنَ النَّارِ مِنْ يومِ عرفةَ"[رواه ابن حبان].(206/3)
واجتماعُ الناسِ؛ وقدْ تجرَّدُوا مِنَ المَخيطِ ومَا اعتادُوهُ مِنَ اللباسِ: يُذَكِّرُهُمْ باجتماعِهِمْ فِي عرصاتِ يومِ القيامة، يومِ التغابنِ والندامةِ؛ والحسرةِ والملامةِ، يومَ يَخرجونَ مِنَ الأجداثِ مُسرعينَ، ويُبعثونَ مِنْ قُبورِهِمْ حُفاةً عُراةً غيرَ مَختونينَ، تقولُ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"يُحشرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ حُفاةً عُراةً غُرْلاً. قلتُ: يَا رسولَ اللهِ؛ النساءُ والرجالُ جميعاً ينظرُ بعضُهُمْ إلى بعضٍ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:يَا عائشةُ؛ الأمرُ أشدُّ مِنْ أنْ يَنظرَ بعضُهُمْ إلى بعضٍ" [أخرجهُ البخاريُّ ومسلمٌ واللفظ له].
وتذكَّرْ أيُّها الحاجُّ وأنتَ بينَ هذهِ الجُموعِ؛ يومَ تُنَاجِي ربَّكَ بدعاءٍ قدْ عَلاهُ التضرُّعُ والخشوعُ: أنَّكَ سَتَقِفُ بينَ يَدَيْهِ وقَدْ عَلَتْكَ السكينةُ والخُضوعُ، فمَا أعْدَدْتَ لهذهِ الساعةِ بينَ يَدَيْ ربِّ الأربابِ؛ يومَ يُوَجَّهُ إليك الخِطابُ، هلْ أعْدَدْتَ لها حُسْنَ الجَوابِ؟
وإنَّ مِمَّا شَرَعَهُ اللهُ سبحانَهُ وتعالى للحُجَّاجِ والمُعتمرينَ؛ مِمَّا يُوجبُ العِبرةَ للمُعتبرينَ: ذَبْحَ الهَدايا والقَرابينِ، تذكيراً للأمةِ بِمَا كانَ مِنْ قصةِ أبيهِم إبراهيمَ معَ ولدِهِ إسماعيلَ؛ عليهما أفضلُ الصلاةِ والسلامِ والتبجيلِ، وذلكَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى أمرَ إبراهيمَ أن ينقُلَ هاجرَ وابنَها إسماعيلَ ويُسْكِنَهُمَا بوادٍ غيرِ ذي زَرْعٍ، حفظاً لقلبِ زوجتِهِ سَارَّةَ ودَفْعاً لأذى الغَيْرَةِ والطَّبْعِ.
وقدْ أجْرَى اللهُ تعالى العادةَ التي لا تتبدَّلُ، والناموسَ الذي لا يتغيَّرُ ولا يتحوَّلُ: أنَّ مَنْ تركَ شيئاً للهِ: عَوَّضَهُ اللهُ خَيْراً مِنْهُ.(206/4)
فانظرْ إلى إبراهيمَ الخليلِ، لمَّا أرادَ أنْ يذبحَ ولدَهُ امتثالاً لأمرِ ربِّهِ الجليلِ، باركَ اللهُ تعالى لَهُ في نسلِهِ وجعلَهم خيرَ آلٍ، واختصَّهم بالنبوةِ والإرسالِ، وجعلَ جميعَهُمْ مِنْ ذُرِيَّةِ إسحاقَ العليمِ، إلا خاتَمهمْ وإمامَهمْ مُحمَّداً - صلى الله عليه وسلم - فهُوَ من نسلِ إسماعيلَ الحليمِ.
فحَقَّ لبيتٍ هَؤُلاَءِ أهلُهُ: أن ينعقدَ على حُبِّهِ الجَنانُ، وأنْ يلهجَ بالصلاةِ والسَّلامِ عليه اللسانُ، { رحمتُ اللهِ وبركاتُه علَيْكُمْ أهلَ البيتِ إنَّهُ حميدٌ مجيدٌ } { هود: 73 } .
بَاركَ اللهُ لِي ولَكُمْ في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعَنَا بهديِ النَّبيِّ الكريمِ، الهادِي إلى الصِّراطِ المُستقيمِ، والدَّاعِي إلى الدِّينِ القَوِيمِ.
أقولُ مَا سَمِعْتُمْ، وأسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ من كلِّ ذنب، فاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ كانَ للأوَّابِينَ غَفُوراً، وللمُحْسِنِينَ شَكُوراً.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ؛ عددَ مَا تحرَّكَتِ القلوبُ شوقاً إلى بيتِ اللهِ العتيقِ، الحمدُ للهِ عددَ مَا أَتَى مِنْ راجلٍ وضامرٍ مِنْ كُلِّ فجٍّ عميقٍ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيهِ وأسألُهُ السَّدادَ والرَّشادَ والتوفيقَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، الهادِي إلى سواءِ السبيلِ والطَّريقِ، وأشهدُ أنَّ نبينَا مُحمداً رسولٌ مِنْ أنفسنا هُوَ بالمُؤمنينَ رؤوفٌ ورحيمٌ ورفيقٌ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى مَنْ أنعمَ اللهُ عليهِمْ مِنْ كلِّ نبيٍّ وشهيدٍ وصالحٍ وصِدِّيقٍ.
أما بعدُ:(206/5)
فيا معشرَ المسلمينَ والمسلماتِ: اعلموا أنَّما { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } { البقرة: 197 } .
ونَخْتِمُ مشاهدَ الحجِّ النَّبيلةَ؛ وهي مشاهدُ كثيرةٌ لا تَسْتَوْعِبُهَا هذهِ الدقائقُ القليلةُ: بمشهدِ التلبيةِ الجليلةِ، (لبَّيْكَ اللهُمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريكَ لكَ لبَّيْكَ، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلكَ، لا شَرِيكَ لكَ).
فيَا مَنْ عَاهَدْتَ ربَّكَ الخَلاَّقَ، وواعَدْتَهُ على أنْ تأخُذَ بقوةٍ الميثاقَ، فتُلَبِّيَ فِي الحجِّ أوامِرَهُ ونَوَاهِيَهُ، وتُسَارِعَ وتُسَابِقَ فِي إحرامِكَ لتُحقِّقَ مَرَاضِيَهُ، فدعاكَ ربُّكَ للحجِّ فقلتَ: سمعاً وطاعةً، ونَهاكَ عن محظوراتِ الإحرامِ فتباعدتَ عَنِ التفريطِ والإضَاعَةِ.
فقُلْ لِي بربِّكَ يَا مَنْ تَوَجَّهَ نداءُ الحجِ إليكَ، فقُلْتَ: لبَّيْكَ اللهُمَّ لبَّيْكَ، كيفَ لطَّخْتَ بالرِّبا يَدَيْكَ، وكيفَ أطْلَقْتَ فِي المشهدِ الذميمِ نَاظِرَيْكَ، وكيفَ شَنَّفْتَ بالصوتِ الرَّخِيمِ أذُنَيْكَ، وكيفَ مَدَدْتَ إلى الزُورِ يَدَيْكَ، وكيفَ مشيت إلى الفُجُورِ برِجْلَيْكَ، أينَ قولُكَ: لبَّيْكَ اللهم لبَّيْكَ؟ أين قولُكَ: لبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ؛ والخيرُ بِيَدَيْكَ.(206/6)
فالواجبُ على مَنِ امتثلَ أمرَ الملكِ القُدوسِ السَّلامِ، فتركَ المُباحاتِ حالَ تَسَرْبُلِهِ بالإحرام: أنْ يَهْجُرَ في حلِّهِ المُنكراتِ والآثامَ؛ وأنْ يتباعَدَ فِي منزلِهِ عَنِ المُوبقاتِ الحَرامِ، ليَدْخُلَ جَنَّةَ ربِّهِ بسلامٍ، اللهُمَّ احفظِ الحُجَّاجَ والمُعتمرينَ، وأَرْجِعْهُمْ إلى أهلِيهِمْ سَالِمِينَ؛ وأَوْصِلْهُمْ إلى أوْطَانِهِمْ غَانِمِينَ، غيرَ خَزَايَا ولا مَفْتُونِينَ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(206/7)
اطبع هذه الصحفة
يوم الحج الأكبر
إخوةَ الإيمانِ:
في هذا اليومِ ترى الناسَ ممتثلينَ أمرَ ربِّهم حينَ قال { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } { الكوثر:2 } ، مُتَّبِعِينَ هَدْيَ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - الذي "ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا" كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -.
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ.
خطبة عيد الأضحى المبارك
بتاريخ10من ذي الحجة 1428هـ
يوم الحج الأكبر
الحمدُ للهِ معيدِ الجمعِ والأعيادِ، ورافعِ السبعِ الشدادِ عاليَةً بغيرِ عمادٍ، ومادِّ الأرضِ ومُرْسِيها بالأطوادِ، أحْمَدُه على نعَمٍ لا يُحْصى لها تَعْدَادٌ، وأشكُرُهُ وكُلَّمَا شُكِرَ زَادَ، وأشهَدُ أن لاَ إِلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولاَ أندادَ، وأشهدُ أنّ سيدَنَا محمداً عبدُه ورسولهُ الذِي شَرَع الشرائعَ وسنَّ الأعيادَ، وقرَّرَ قواعدَ الملةِ ورفعَ العمادَ، صلَّى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ الأمجادِ، وعلَى تَابِعيِهمْ بِإِحسانٍ إِلَى يومِ المَعَادِ.
أما بعدُ:
فأُوصيكمْ – إِخْوَتِي في اللهِ ونفْسِي– بتقوَى اللهِ، فللتقوَى خُلِقْتُمْ، ولطاعتِهِ اجتَمَعْتُمْ، ولجلالِهِ رَكَعتمْ وسجَدْتُمْ، والمتشبثُ بحبلِ التقوَى أقْوى حالاً، وأحسنُ مآلاً، يقولُ اللهُ سبحانَهُ: { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا } { الطلاق: 5 } .
عبادَ اللهِ:
في هذَا اليومِ الأغَرِّ، يحتفلُ المسلمونَ جميعاً بعيدِ الأضحى المباركِ، وينْعَمُونَ ببهجتِهِ، فتُنْحَرُ الأَضَاحِي والقرابينُ، وتُقَدَّمُ الهداياَ والعطاياَ، ويَتَزَاوَرُ الأهلُ والأرْحامُ والجِيرانُ.(207/1)
ومَنْ أدركَ العيدَ، وفَهِمَ حِكْمَةَ التشريعِ، بادرَ إلى الخيرِ مَا استطاعَ إلى ذلِكَ سبيلاً، وأَكْثَرَ منْ ذكرِ اللهِ بكرةً وأصيلاً، فمَا الفرحةُ فيِ العيدِ إلاّ فرحةٌ بإتمامِ الطاعةِ، وابتهاجٌ واستبشارٌ بعقبَى العبادةِ، فعيدُ الفطرِ يكونُ بعدَ تمامِ الصيامِ، وفي أعقابِ خيرِ لياليِ العامِ، وعيدُ الأَضْحَى يكونُ أثناءَ حَجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ، وبعدَ انقضاءِ أهمِّ أركانِهِ العظامِ، ثُمّ هوَ في أعقابِ خيرِ أيامِ العامِ، من أجلِ ذلكَ كانتْ الفرحةُ في العيدِ مقترنةً بذكِر اللهِ وتعظيمِهِ، والبعدِ عنْ أسبابِ سخَطِهِ وتعذِيِبهِ، كَمَا قالَ سبحانَهُ { قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } { يونس:58 }
اللهُ أكبرُ الله أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ.
إخوةَ الإيمانِ:
في هذا اليومِ ترى الناسَ ممتثلينَ أمرَ ربِّهم حينَ قال { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } { الكوثر:2 } ، مُتَّبِعِينَ هَدْيَ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - الذي "ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا" كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -.
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ.
أتباعَ سيدِ المرسلينَ:(207/2)
في اليومِ التاسعِ منْ ذِي الحجةِ بعرفاتٍ، في آخرِ سنةٍ منْ حياةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقبلَ وفاتِهِ بثلاثةِ أشهرٍ، خطَبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الجموعِ الغفيرةِ منْ حجاجِ بيتِ اللهِ الحرامِ، حيثُ وَدَّعَ الناسَ فِيها، وبيَّنَ لهمْ قواعدَ الدِّينِ وآدابَ الملةِ، وبسَطَ سياسةَ الإسلامِ العامةَ، وأوضحَ لهمْ مبادِئَهُ القوِيمةَ، ونَعَى عَلَى أَهْلِ الجاهليةِ عاداتِهِمْ الممقوتةَ، فكانَ مِما قالَ - صلى الله عليه وسلم - كمَا أوْرَدَهُ ابنُ إِسْحَاقَ في السيرةِ: "أَيُّهَا النَّاسُ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ"، فَيَا لها من قواعدَ راسيةٍ، وحقوقٍ ساميةٍ، أشادَ بهاَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وحثَّ علَى مراعاتِهاَ، فالظلمُ محرمٌ وممنوعٌ لأنهُ يَتَنَافَى مع أُخُوّةِ الإِسلامِ ورابطةِ الإيمانِ.
اللهَ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ.
عبادَ اللهِ:(207/3)
ثمَّ نصحَ - صلى الله عليه وسلم - في خطبَتِهِ فقالَ: "وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا"، فهذاَ الحديثُ وإنْ كانَ وَارِداً في الودائِع والحوائجِ الحسيةِ، إلاَّ أنَّ الإسلامَ قَدْ عظَّمَ شأنَ الأمانةِ بشكلٍ عامٍّ، فالأبُ أمينٌ علَى أهلِ بَيْتِهِ، في تنشِئَتِهِمْ عَلَى الخيرِ، وتجنيِبهِمْ السُّوءَ والضيرَ، والمرأةُ أمينةٌ في بيتِ زوجِهَا، والموظفُ مؤتمنٌ على وظيفَتِهِ، والحاكِمُ أمينٌ عَلَى رَعيَِّتِهِ، ومنْ ماتَ غَاشّاً لِلأمانةِ مُتَّصفاً بالخيانةِ، فقدْ تُوُعِّدِّ بالعذابِ الأليمِ والخزْيِ العظيمِ، يقولُ اللهُ سبحَانَهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } { الأنفال:27 } .
اللهَ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ.(207/4)
ثم حذَّرَ صلواتُ رَبي وسلامُهُ عليْهِ منَ الربَا فقالَ:"وَإِنَّ كُلَّ رباً مَوْضُوعٌ، وَلَكِنْ لَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ، لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ، قَضَى اللهُ أَنَّهُ لاَ رِبَا، وإِنَّ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلَّهُ" ولا تخْفَى عليكمْ حرمةُ الربَا، بنصوصِهِ الجَلِيَّةِِ التيِ تقشَعِرُّ منها الجلودُ، وترتجفُ من هَوْلها القلوبُ، فهوَ مدمِّرٌ للدينِ، ومُهْلكٌ للاقتصادِ، وقاطعٌ لأواصِرِ الأخُوّةِ، وفيهِ المحاربةُ للهِ ولرسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، يقولُ الله سبحانَهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } { البقرة: 278-279 }
أيها الناسُ:(207/5)
يواصِلُ خيرُ البريةِ ورسولُ البشريةِ - صلى الله عليه وسلم - تعاليمَهُ الساميةَ ونصائحَهُ الغالِيَةَ، فيقولُ: "أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَداً، وَلَكِنَّهُ إِنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ مِمَّا تَحْقِروُنَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ" الشيطانُ وجنودُهُ فيِ الأرضِ أعداءٌ متربِّصونَ، هَمُّهُمْ بَثُّ الفسادِ، ونشرُ الكفرِ والإلحادِ، حتّى نكونَ معهمْ على درجةٍ سواءٍ: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { فاطر:6 } ، وقالَ تعالَى عنْ جندِ الشيطانِ منَ البشرِ: { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء } { النساء:89 } فالحذرَ كلَّ الحذرِ من شرِّهمْ، على اختلافِ أساليِبِهمْ، وتنوُّعِ وسائِلهمْ، لا سِيَّمَا علَى الدِّينِ والأخلاقِ.
اللهَ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ.(207/6)
ثم وَصَّى بالنساءِ خيراً فقالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّاً، وِلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقّاً، لَكُمْ عَلَيْهنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَنْ لا يَأْتينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فيِ المَضَاجِعِ، وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِن انْتَهَيْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكُسْوَتُهُنَّ بِاْلَمعَرُوفِ، وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنّهُنَّ عَوَانٍ ]أي أسيرات[ لاَ يَمْلِكْنَ لأنفسِهنَّ شَيْئاً، وَإنَّكُمْ إِنَّماَ أَخَذْتُمُوْهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، واسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَاتِ اللهِ، فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ قَوْلِي فإنِّي قَدْ بَلَّغْتُ" تعلموا آدابَ الحياةِ الزوجيةِ وعلموها نساءَكُمْ، أقيموُا الحياةَ علىَ الحبِّ والتقديرِ والتبجيلِ، تصلَحْ أحوالُكُمْ، ويسعَدْ أولادُكمْ، وتدْحَرُوا الشيطانَ الذِي يَسُرُّه وقوعُ الطلاقِ، وحصولُ البغضِ والفراقِ، فعنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ – رضيَ اللهُ عنهما – قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ ِإبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى المَاَءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَاياَه، فَأَدَنْاَهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يجَيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُوُلُ: "فَعلْتُ كَذَا وَكَذاَ، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً، قاَلَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتهِ، قَالَ:فَيُدْنِيهِ مِِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ"، فَيَلْتَزِمُهُ؛ أَيْ يَضُمُّهُ [أخرجَهُ مسلمُ].
اللهَ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ.(207/7)
باركَ اللهُ لِي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَنِي وإياكمْ بِهَدْيِ النبيَّ الكرِيم، عَلَيهِ أفضلُ الصلاةِ وأزكى التسليمِ، أقولُ مَا تَسْمَعُونَ وأستغفرُ اللهَ لِي ولكمْ ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروهُ إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذِي سهّلَ لعبادِهِ طريقَ العبادةِ ويسّرَ، وجعلَ لهمْ عيداً يعودُ عليهمْ في كلِّ سنةٍ ويتكررُ، أحمدُهُ سبحانَهُ وهُوَ المستحقُّ لأنْ يُحمَدَ ويُشْكَرَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ الملكُ العظيمُ الأكبرُ، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه الشافعُ المشفعُ في المحشرِ، نبيٌ ما طلعتْ الشمسُ علَى أجملَ منهُ وجهاً، ولا أنورَ، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ الذين أذهبَ اللهُ عنهمْ الرجسَ وطَهَّرَ، وعلَى مَنْ تبِعَهمْ بإحسانٍ إلى يومِ المْسُّتَقَرِّ.
أما بعدُ:(207/8)
فاتقُوا اللهَ إخوةَ العقيدةِ، وخُذُوا بتعاليمِ نبيِّكمُ - صلى الله عليه وسلم - السديدةِ، فقدْ ختمَ هذهِ الوصاياَ بوصيةٍ عظيمةٍ رشيدةٍ فقال:"وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضلَّوا بَعْدَهُ إن اعْتَصَمْتُمْ به: كتابَ اللهِ، وأنتمْ تُسْأَلُونَ عنِّي، فَماَ أَنْتمْ قائلونَ؟ قالوُا: نَشهدُ أنكَ قد بَلّغْتَ وأدّيْتَ ونصَحْتَ، فقالَ بأُصْبُعِهِ السبابةِ يَرْفَعُهُا إلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: اللّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ" أخرجَهُ مسلمُ، وفي هذاَ الموقفِ المباركِ نزلَ قولُ اللهِ تعالَى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا { } المائدة:3 } فالخيرُ كلُّهُ في كتابِ اللهِ، وفي اتِّبَاعِ صراطِ اللهِ، ومن بدَّلَ أو انْحَرَفَ: ضلَّ عن الصراطِ، ووقعَ في الحيرةِ والتشرذمِ والانحطاطِ، يقولُ الله جلّ جلالُه: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } { الجاثية:18 } .
ثُمَّ صَلُّوا وسَلمُوا - رحمكمُ اللهُ – على الهادِي البشيرِ والسراجِ المنيرِ، كما أمَرَ بذلكمْ اللطيفُ الخبيرُ فقالَ سبحانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا { الأحزاب: 56 }(207/9)
اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وأَتْبَاعِهِ إِلى يومِ الدينِ، اللهمَّ آتِ نفوسَنَا تْقَوَاهَا، وزكِّهَا أنتَ خَيْرُ مَنْ زكَّاها أنتَ وليُّها ومولاها، اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهمْ والأمواتِ، إنكَ سميعٌ مجيبُ الدعواتِ، اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، وانصُرْ عبادَكَ المؤمنينَّ يا قويُّ يا مَتِينُ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنْاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(207/10)
اطبع هذه الصحفة
الثبات حتى الممات
أتباعَ سيدِ المرسلينَ:
ومن أسبابِ الثباتِ على دينِ اللهِ، الدعاءُ والإلحاحُ على اللهِ بالثباتِ، فالدعاءُ يكونُ سبباً للهدايةِ أصلاً، ويكونُ عاملاً للثباتِ ثانياً، والقلوبُ كلُّها بينَ أصبعينِ منِ أصابعِ الرحمنِ، وهيَ أوعيةُ الهدايةِ، وبَها قَدْ تَكُونُ الغوايةُ، ففِي الحديثِ:"مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أصبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ، وإِنْ شَاءَ أَنْ يُقيِمَهُ أَقَامَهُ، وَكُلَّ يَوْمٍ المِيزَانُ بِيَدِ اللهِ، يرفعُ أَقْوَاماً، وَيَمَنعُ آخَرِيَن إلى يومِ القِيَامَةِ "[أَخْرَجَهْ الطبرانيُّ]، وثَبَتَ في الحديثِ الصّحيحِ أن أكْثَرَ دُعائِه - صلى الله عليه وسلم - "يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فقِيلَ لَهُ في ذاكَ؟ قال: "إنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أصْبَعينِ مِنْ أَصَابِعِ الرَحْمَنِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ"[أخْرَجَهُ الترمذيُّ]، وكانَتْ أكثرَ أيمانِهِ: "لاَ وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ"، فَأَلِحُّوا علَىَ اللهِ بذلكَ- معشرَ المسلمينَ- لاَ سِيّمَا في أوقاتِ الإجابةِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 18 من ذي الحجة 1428هـ الموافق 28/12/2007م
الثبات حتى الممات(208/1)
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شروِر أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَه لا شريكَ لَه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } { النساء:1 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } { الأحزاب:70-71 } .
أما بعدُ:
فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هدْيُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وإن شرَّ الأمورِ محدثاتُهَا، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
إِخوةَ الإسلامِ:(208/2)
إنَّ لكلِّ امرئِ خاتمةً، ولكلِّ حيٍّ نهايةً، فيَا شقاءَ مَنْ كانتْ خاتمتُهُ إلى سوءٍ وعذابٍ، ويا سعادةَ مَنْ كانتْ خاتمتُهُ إلى هدىً وصوابِ، وأتاهُ أمرُ اللهِ وهُوَ في تعظيمٍ للهِ واستبشارٍ، وفي شوقٍ لأنْ يلحقَ المتقينَ الأبرارَ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } { الفجر:27-30 } ، فحينَ حضرتْ معاذَ بنَ جبلٍ - رضي الله عنه - الوفاةُ قالَ: "الَّلهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنيِّ لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ البَقَاءَ فيِ الدُّنْيَا،لِكَرْيِ اْلأَنْهَارِ، وَلاَ لِغَرْسِ اْلأَشْجَارِ، وَلَكِنْ كُنْتُ أُحِبُّ البَقَاءَ لِمُكَابَدَةِ اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَلِظَمَأِ الْهَوَاجِرِ في الْحَرِّ الشَّدِيدِ، وَلِمُزَاحَمَةِ العُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ"، ولما نَزَلَ بمعاويةَ بنِ أبِي سفيانَ - رضي الله عنه - الموتُ، قِيلَ لهُ: ألا تُوصِي؟ فَقَالَ:"اللهُم أَقِلِ الْعَثْرَةَ، وَاعَفُ عَنِ الزَّلَّّةِ، وَتَجاوَزْ بِحِلْمِكَ عَنْ جَهْلِ مَنْ لَمْ يَرْجُ غَيْرَكَ، فَمَا وَرَاءَكَ مَذْهَبٌ، وَقَالَ:
هُوَ الموْتُ لَا مَنْجَى مِنَ اْلَمْوتِ وَالذِي نُحاذِرُ بَعْدَ اْلَموْتِ أَدْهَى وَأَفْظَعُ(208/3)
يقولُ بكر بنُ سليمان الصوّافُ: دخلْنا علَى مالِك-رحمه الله- في العَشِيّة التي قُبِضَ فِيهاَ فقُلْنَا: يَا أَبا عبدِ اللهِ كيف تَجِدُكَ؟ قال: "مَا أَدِرْي مَا أَقُولُ لَكُمْ إِلاَّ إنَّكُمْ سَتُعَايِنُونَ غَداً مِنْ عبْد اللهِِ مَا لَمْ يَكُنْ لَكُمْ فيِ حِسَابٍ"قَالَ:مَا بَرِحْنَا حَتَّى أَغْمَضْنَاهُ،ويقولُ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ- رحمهما اللهُ-: " لما حضرتْ أبي الوفاةُ جلستُ عنْدَه، فجَعَلَ يعرَقُ ثم يُفِيقُ ثم يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ، ويقول بِيَدِهِ: لَا. بَعْدُ،لاَ.بَعْدُ، ثلاثَ مرّاتٍ، ففعلَ هذاَ مرّةً ثانيةً وثالثةً، فلماَّ كانتْ الثالثةَ، قلتُ له:يا أبتِ إنّك قلتَ كذَا وكذَا، فقال: مَا تَدْرِي، هذا إبليسُ قائمٌ حذائِي عاضٌّ على أنامِلِهِ، يقولُ: فُتَّنِي يا أحمدُ، وأنا أقولُ: لاَ بعدُ حتىَّ أموتَ".
أيها الإخوةُ المؤمنونَ:
ما أحوجَ المرءَ، وهُوَ يعيشُ زمانَ الغربةِ، لأنْ يتعرفَ على أسبابِ الثباتِ، التي تُثَبِّتُهُ علَى دينِ اللهِ حتىَّ المماتِ، ويتأكدُ ذلكَ عندَ فسادِ الزمانِ، وندرةِ الإخوانِ، وضعفِ الْمُعِينِ، وقِلةِ الناصرِ.(208/4)
ولنعلمْ أنَّ الهدايةَ والثباتَ مردُّهما إلى القلبِ الذِي هوَ أكثرُ الجوارحِ تقلُّبًا، فعن المقدادِ بنِ الأسودِ - رضي الله عنه - قالَ: لا أقولُ في رجلٍ خَيْرًا ولا شرّاً حتى أنظرَ ما يُخْتَمُ له، بَعْدَ شَيْءٍ سمعتُهُ منْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قيلَ وما سمعتَ؟ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لَقَلْبُ ابنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَاباً مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْياً "[أخرجَهُ أحمدُ]، وعن أبي موسَى الأشعريِّ - رضي الله عنه - عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"إنَّمَا سُمِّيَ القَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ، إنَّماَ مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَل رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فيِ أَصْلِ شَجَرَةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ "[أخرجَه أحمدُ].
أخِي المسلمَ:(208/5)
وإليكَ بعضَ الأسبابِ التي تُثَبِّتُ على الحقِّ، وتجلُبُ لك محبةَ الخلقِ، فأوَّلُها وأهمها: الاعتصامُ بالكتابِ والسنّةِ، فهمَا نورٌ وَضَّاءٌ يَهَتْدِي به أولو الألبابِ، وما فَتِئَ المصطفَى- صلى الله عليه وسلم - يدعُو أمتَهُ للتَّمَسُّكِ بهمَا والرجوعِ إليهمَا، حتَّى وافاهُ اليَقِينُ، وفي الحديثِ "وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ:كِتَابَ اللهِ"[أخرجَهُ مُسْلِمٌ]، وعن العرباضِ بنِ ساريةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِييَّنَ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا وعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ اْلأُمُورِ، فَإِنَّ كلَّ مَحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالةٌ"[رواه أحمدُ وأبو داودَ]، فكُلَّما كانَ التزامُ الأمةِ بالوحيَيْنِ قويّاً، كَانَ ثباتُهاَ علَى الحقِّ أقوَى، وكلَّمَا هُجِرَ القرآنُ واندرستْ السنّةُ، كانَ ذَلكَ داعياً لِلاِنحرافِ وباعثاً للضَّلالِ، ولاَ حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.
وَالْجَهْلُ دَاءٌ قَاتِلٌ وَشِفَاؤُهُ أَمْرَانِ فيِ التَّرْكِيبِ مُتَّفقَانِ
نَصٌّ مِنَ اْلَقُرْآنِ أَوْ مِنْ سُنَّةٍ وَطَبِيبُ ذَاكَ الْعَالِمُ الرَّبَّانِي
وَاللهِ مَا قالَ امُْرؤٌ مُتَحَذْلِقٌ بِسِوَاهُمَا إِلاَّ مِنَ الْهَذَيَانِ
أمةَ القرآنِ:(208/6)
ومنْ أسبابِ الثباتِ: استدامةُ الطاعاتِ: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } { فصلت:30 } ، فهذا وعدٌ منَ اللهِ أنْ يحفظَ الملتزمينَ بطاعتِهِ، وهوَ أمرٌ عزيزٌ ليسَ بالْهَيِّنِ، يحتاجُ إِلى مجاهدةٍ ومصابرةٍ: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } { النساء:66 } ، ويقولُ سُبْحَانَه: { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ } { إبراهيم:27 } ، قال قتادةُ: "أمّا الْحَيَاةُ الدنْيَا فَيُثَبِّتُهُمْ بالْخَيْرِ والعَمَلِ الصَّالَحِ وفي الآخِرَةِ فيِ الْقَبْرِ".(208/7)
أمّا الكُسَالَى والمفرِّطونَ، والذينَ يُقْدِمونَ على الطاَّعةِ حيناً، ويَتَهَاوَنُونَ فِيها حيناً آخرَ، فهؤلاءِ علَى خطَرٍ، وهلْ يضمَنُون لأنفُسِهمْ أَلاَّ تَخْتَرِمَهُمْ المنيّةُ في حالِ تفريطِهِمْ، فيُخْتَمَ لهمْ بسوءِ الخاتمةِ؟ فعنْ عائشةَ – رضيَ اللهُ عنها- قالتْ: كان للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حصيرٌ، وكان يَحْتَجِره باللَّيْلِ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيُهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ حتَّى كَثُروُا، فَأَقْبَلَ فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النْاسُ خُذُوا منَ الْأَعْمَالِ ما تُطِيقُوَن فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وإِنَّ أَحَبَّ اْلأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَادَامَ وَإِنْ قَلَّ"[أخرجَهُ البَخَاريُّ]، وفي روايةِ مسلمِ:"كانَ آلُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إذا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ".
أتباعَ سيدِ المرسلينَ:(208/8)
ومن أسبابِ الثباتِ على دينِ اللهِ، الدعاءُ والإلحاحُ على اللهِ بالثباتِ، فالدعاءُ يكونُ سبباً للهدايةِ أصلاً، ويكونُ عاملاً للثباتِ ثانياً، والقلوبُ كلُّها بينَ أصبعينِ منِ أصابعِ الرحمنِ، وهيَ أوعيةُ الهدايةِ، وبَها قَدْ تَكُونُ الغوايةُ، ففِي الحديثِ:"مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أصبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ، وإِنْ شَاءَ أَنْ يُقيِمَهُ أَقَامَهُ، وَكُلَّ يَوْمٍ المِيزَانُ بِيَدِ اللهِ، يرفعُ أَقْوَاماً، وَيَمَنعُ آخَرِيَن إلى يومِ القِيَامَةِ "[أَخْرَجَهْ الطبرانيُّ]، وثَبَتَ في الحديثِ الصّحيحِ أن أكْثَرَ دُعائِه - صلى الله عليه وسلم - "يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فقِيلَ لَهُ في ذاكَ؟ قال: "إنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أصْبَعينِ مِنْ أَصَابِعِ الرَحْمَنِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ"[أخْرَجَهُ الترمذيُّ]، وكانَتْ أكثرَ أيمانِهِ: "لاَ وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ"، فَأَلِحُّوا علَىَ اللهِ بذلكَ- معشرَ المسلمينَ- لاَ سِيّمَا في أوقاتِ الإجابةِ.
عبادَ اللهِ:
ومنْ هذهِ الأسبابِ ذكرُ اللهِ تعالَى، وتأمَّلْ كيفَ قرَنَ الله سُبحَانَهُ بيْنَ الذكرِ والثَّبَاتِ في آيةٍ واحدةٍ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } { الأنفال:45 } .(208/9)
ومنها: عدمُ الاغترارِ بالباطلِ وكثرةِ المبطلينَ، كما قالَ سبحانَهُ: { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ - مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } { آل عمران:196-197 } ، ويقولُ سبحانَهُ: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } { الرعد:17 } ، ومنها: التحَلِّي بالأخلاقِ المعينةِ على الثباتِ، وفي مقدِّمتِهَا: الصبرُ والتقوَى، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { آل عمران:200 } ، ويقولُ سبحانَه: { وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } { العصر:1-3 } ، وفي الحديثِ:"وما أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِن الصبرِ"[أخرجه البخاريُّ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه -].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ، ونفَعَنِي وإياكمْ بَما فيهِ من الهُدَى والبَيَانِ، أقولُ مَا تَسْمَعُونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، يَهدِي مَنْ يشاءُ ويُضِلُّ مَنْ يشاءُ، وهوُ أَحكمُ الحاكمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وُحدَه لا شريكَ له، قيُّومُ السمواتِ والأرضينَ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، صلى اللهُ وسلمَ عليه، وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعينَ، وعلى تابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أمّا بعدُ:(208/10)
فإنَّ منْ أهمِّ أسبابِ الثباتِ، على دينِ اللهِ تعالى، الالتفافَ حولَ العلماءِ الصالحينَ، والدُّعاةِ الصادقينَ، الذين يُثَبِّتُونَ الناسَ حينَ الفتنةِ، ويُؤَمِّنُونَهُمْ حينَ الخَوْفِ والرّهُبةِ، أولئكَ مصابيحُ الدُّجَى، يُحْيِي اللهُ بهمْ قلوبَ العبادِ، ويُخَلِّصُ بهم آخرينَ من الفسادِ، ويَتَمَاسَكُ على الطريقِ القويمِ بسَبِبِهِمْ أممٌ وأقوامٌ، كادُوا أَنْ يَقَعُوا في الحرامِ والإِجْرَامِ، ولم يَزَل المسلمونَ يذكرونَ مواقفَ الثباتِ في حياةِ أبي بكرٍ وسَائرِ الخلفاءِ الراشدينَ والأئمةِ المهديينَ، رضيَ اللهُ عنهمْ.
وتأمَّلْ ما قاله ابنُ القيمِ عن شيْخِهِ ابنِ تيميةَ رحمهمَا اللهُ: "وكُنَّا إِذاَ اشْتَدَّ بِنَا الخَوْفُ، وسَاءَتْ بِنَا الظنونُ، وضَاقَتْ بِنَا الْأَرَضُ أَتَيْنَاهُ، فَمَا هُوَ إلاّ أَنْ نَرَاهُ ونَسْمَعَ كَلَاَمَهُ فَيَذْهَبُ ذلك كلُّه عنَّا".(208/11)
ثم صَلُّوا وسَلِّمُوا على الهادِي البشيرِ، والسراجِ المنيرِ، كما أمرَ بذلكمْ اللطيفُ الخبيرُ فقالَ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } ، فاللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ على محمدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمعينَ، اللهمَّ يا مقلبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلوبَنَا عَلَى دِينِكَ، اللهمَّ اجعَلْ خيرَ أعمَارِنَا أَوَاخِرَهَا، وخَيُرَ أعْمَالِنَا خواتيمَهَا، وخيرَ أياَّمِنا يومَ نَلْقَاكَ، اللهمَّ اجْعَلِ الحياةَ الدنَيا زِيادَةً لنَا في كلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً لنا منْ كُلِّ شَرٍّ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مُطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(208/12)
اطبع هذه الصحفة
التربية الإسلامية سياج الأمن للمجتمع
من خصائص التربية الإسلامية التكامل، فهي تعنى بالإنسان من ناحيتيه: الجسم والروح، وتعلم أن الجسم خلقه الله من الطين وغذاه مما يخرج من ذلك الطين، أما الروح فهي نفخة من روح الله تعالى، وغذاؤها في الصلة بالله {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71, 72].
وقد أعطت التربية الإسلامية الجسم حقه ومطالبه فلم تحرمه من الطيبات، وأحلت له الطعام والشراب، ولم تحرم عليه إلا ما يفسد ويضر الإنسان قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. ولم تضيق عليه في الاستمتاع بالجنس الآخر، فأباحت لكل من الذكر والأنثى ذلك عن طريق الزواج الشرعي قال الله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] وقد وجهت التربية الإسلامية الإنسان إلى العناية بكل من جسمه وروحه وقاية ورعاية وعلاجاً، قال(صلي الله عليه وسلم) "فإن لجسدك عليك حقاً" [متفق عليه] ورغبة المسلم في الحرص على توافر عناصر القوة في جسمه ونفسه "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" [رواه مسلم].
التربية الإسلامية سياج الأمن للمجتمع(209/1)
الحمد لله الذي خلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل القرآن هدى للمتقين، ورحمة للخلق كلهم أجمعين وأشهد أن محمداً رسول الله أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكان(صلي الله عليه وسلم) الترجمة الإنسانية لأخلاق القرآن، والقدوة الحسنة للإنسان في كل زمان ومكان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن دعا بدعوته، واستن بسنته وسلك طريقه إلى يوم الدين.
الاخوة المسلمون:
من خصائص التربية الإسلامية التكامل، فهي تعنى بالإنسان من ناحيتيه: الجسم والروح، وتعلم أن الجسم خلقه الله من الطين وغذاه مما يخرج من ذلك الطين، أما الروح فهي نفخة من روح الله تعالى، وغذاؤها في الصلة بالله {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71, 72].
وقد أعطت التربية الإسلامية الجسم حقه ومطالبه فلم تحرمه من الطيبات، وأحلت له الطعام والشراب، ولم تحرم عليه إلا ما يفسد ويضر الإنسان قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. ولم تضيق عليه في الاستمتاع بالجنس الآخر، فأباحت لكل من الذكر والأنثى ذلك عن طريق الزواج الشرعي قال الله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] وقد وجهت التربية الإسلامية الإنسان إلى العناية بكل من جسمه وروحه وقاية ورعاية وعلاجاً، قال(صلي الله عليه وسلم) "فإن لجسدك عليك حقاً" [متفق عليه] ورغبة المسلم في الحرص على توافر عناصر القوة في جسمه ونفسه "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" [رواه مسلم].
( 2 )(209/2)
بهذا التوجيه أوجدت التربية الإسلامية التوازن بين مطالب الجسم وحاجات الروح، ووجهت المسلم إلى الاعتدال بإعطاء كل منهما حاجته ومطلبه حتى لا يطغى عنصر منهما على الآخر قال جل شأنه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] ولما علم الرسول(صلي الله عليه وسلم) بالنفر الذين أرادوا الانقطاع للعبادة نهاهم عن ذلك، ودعاهم إلى التوازن بين مطالب الجسد وحاجات الروح وقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" [رواه البخاري].
الاخوة المسلمون:
لن نتمكن من تحقيق التكامل بين الجسد والروح، ولن نستطيع أن نوازن بين حاجات كل منهما إلا بالتربية السليمة الحكيمة لأننا إذا أطلقنا العنان للجسم لإشباع مطالبه دون أن نحد من تلك المطالب بالتهذيب والتدريب والتربية، فسيتحول الإنسان إلى كائن بعيد عن الإنسان الذي اختاره الله لعمارة الأرض، وستتوجه حياته كلها للحصول على المتع الحسية والمادية من طعام وشراب وملذات وشهوات قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12].
الاخوة المسلمون:
إن الأجيال الحالية من الأبناء في حاجة إلى رعاية دائمة وفاعلة، فظروف العصر تحيطهم بالكثير مما يؤثر في حياتهم ويفقدهم التوزان المطلوب للإنسان كي يكون نافعاً، وقد يندفعون بوسائل وأساليب ومغريات العصر إلى سلوك سبل غير قويمة تدمر أرواحهم، وتهلك أبدانهم، وتغير حياة أسرهم، وتضعف مجتمعهم.
وواجبنا جميعاً آباء ومربين ومسئولين أن نعمل كل في مجاله على إنارة الطريق للأبناء، وإبعادهم عن(209/3)
وساوس شياطين الإنس الذين يثيرون فيهم الغرائز فينطلقون مع الغواية إلى طريق الهلاك قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175].
( 3 )
وعلينا أن نفتح لهم أبواب الهداية، ونغذي أرواحهم بالعبادة يقول تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
ومن الوسائل المؤثرة والناجحة في التربية القدوة الصالحة الطيبة فمنها يتشرب الأبناء السلوك والعادات، والمشاعر والأفكار، وقد بين القرآن أثر القدوة في التربية في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وقد كان الرسول(صلي الله عليه وسلم) الصورة الكاملة لمنهج الإسلام في التربية وتمثلت فيه كل تعاليم القرآن الكريم، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول قالت: "كان خلقه القرآن" [رواه مسلم] وأول ما يتلقاه الأبناء من قيم وسلوك وعادات ومشاعر ومفاهيم يكون من الأسرة ففيها يتعلم ويتشرب ويتخلق الإبن بأخلاق أسرته من صدق أو كذب، وفضيلة أو رذيلة، وأمانة أو خيانة، ورحمة أو قسوة.. وقد شاهد الرسول(صلي لله عليه وسلم) امرأة تنادي ابنها وتغريه كي يقبل عليها فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "ما أردت أن تعطيه؟!" فقالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله(صلي الله عليه وسلم): أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة" [رواه أبو داود والبيهقي].
الاخوة المسلمون:(209/4)
قد تكون الأسرة صالحة وقدوة طيبة، ولكن الإبن يبتعد عن تلك القدوة ويسلك سلوكاً غير قويم، بدافع آخر أو بقدوة غير الأسرة، وهنا تكون الموعظة الحسنة والتوجيه السليم عاملاً من عوامل التربية يعيد ذلك الإبن إلى الطريق القويم وينجيه من المهالك. {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
والموعظة الحسنة لها شروط كي تؤدي ثماراً طيبة وقد قيدتها الآية الكريمة بالحسنة، ومن شروطها الرفق والإقناع والصبر، فالغلظة والشدة لا تجدى ولا تثمر، وإنما الذي يجدى ويثمر ويفيد هو تقدير وتفهم موقف المخطئ، والرفق به والصبر عليه، والتفاهم معه وإقناعه بالصواب، ويعلمنا الرسول (صلي الله عليه وسلم) كيف تكون الموعظة فقد أتاه شاب يطلب منه الإذن بالزنا، فزجره الصحابة وأسكتوه. لكن النبي(صلي الله عليه وسلم) ترفق به وأدناه منه – فلما جلس حاوره وأقنعه وأقر الشاب بالحوار أنه لا يحب ذلك لأمه أو أخته أو إحدى قريباته، وهنا وضع الرسول يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه" فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شئ" [رواه أحمد]
( 4 )
الاخوة المسلمون:
إن الفراغ وعدم اشتغال الأبناء بالنافع من العمل مفسد للنفس ومبدد للطاقة، ويعودهم العادات الضارة والفاسدة، وعلينا أن نملأ هذا الفراغ بما يصلح الأجسام والعقول والأرواح من عبادة ورياضة وقراءة ودراسة، يقول(صلي الله عليه وسلم) "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" [رواه البخاري].(209/5)
وإن مجتمعنا لن يعيش في أمن ويهنأ أفراده وتسعد أسره ويترابط ويتماسك بنيانه، ويسير في طريق الخير والتقدم ما لم نقم بواجبنا نحو أبنائنا فنحسن توجيههم وننصحهم، ونكون قدوة طيبة لهم، ونعطيهم من أوقاتنا وجهدنا وإشرافنا ما يطمئننا على حسن مسيرتهم، فهم أمل المستقبل ورجال الغد يقول(صلي الله عليه وسلم): "والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها" [متفق عليه].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(209/6)
اطبع هذه الصحفة
النفس اللوامة
أيُّها النّاسُ:
إنَّ الانطلاقَ إلى قِمَّةِ الإيمانِ يبدأُ مِنْ مُكاشَفَةِ النَّفْسِ بِذُنُوبِهَا وأخْطائِهَا، وحَرِيٌّ بالعَبْدِ أَنْ يَخْلُوَ إلى نفسِهِ ويحاكِمَهَا، حتَّى يَشْعُرَ إِبَّانَ مُحاَسَبَتِهِ نفسَهُ وكَأَنَّ شيئاً آخَرَ يُحاوِرُه، وطَرَفُ المحاوَرَةِ هوَ فِطْرَتُهُ النَّقِيَّةُ، وعَقْلُهُ الوَضَّاءُ، ونفْسُهُ اللّوَّامَةُ التي تُذَكِّرُهُ بما ارتَكَبَهُ مِنْ ذنوبٍ ومُوبِقاتٍ حتَّى يُحقَّقَ مَنْزِلَةَ التَّوْبَةِ، ويَصِلَ بذلكَ إلى الاطْمِئنانِ الرُّوحِيِّ { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } { الرّعد:28 } ؛ فالنّفسُ اللاّئِمَةُ لِصاحِبِهَا وسيلةٌ عظيمةٌ لاكْتِشافِ الأخْطاءِ، والعَمَلِ على هَجْرِهَا والتَّوْبَةِ مِنْها؛ إِذِ الذُّنوبُ كالسُّمُومِ داخِلَ الجِسْمِ، ولنْ يجدَ المسلمُ طَعْماً للرَّاحَةِ ما لَمْ يَطْرُدْها مِنْ داخِلِه؛ فكذلِكَ الذُّنوبُ!
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 26 من ذي الحجة 1428الموافق4/1/2008م
النّفس اللّوّامة(210/1)
الحمدُ للهِ الذِي قَهَرَتِ العقولَ بدائعُ حِكَمِه، وخَصَمَتِ الأْلبَابَ لَطَائِفُ حُجَجِه، وقطعَتْ عُذْرَ الْمُلْحِدِينَ عَجَائِبُ صَنْعَتِهِ، وهَتَفَتْ في أَسْماَعِ العالَمِينَ ألْسُنُ أدِلَّتِه، شَاهِدَةً أنَّهُ اللهُ الذي لاَ إلهَ إلاَّ هوَ، الذِي لاَ عِدْلَ له ولاَ مَثِيلَ، وأنَّه الجبَّارُ الذِي خَضَعَتْ لِجَبَرُوتِهِ الجَبَابِرَةُ، والعَزِيزُ الذِي ذَلَّتْ لعِزَّتِهِ الملوكُ الْأَكَاسِرَةُ، وخشَعَتْ لِمَهَابَةِ سَطْوَتِهِ ذَوُو المْهَابَةِ، وأَذْعَنَ له جَمِيعُ الخَلْقِ بالطَّاعَةِ واْلِإجَابَةِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، ونَجِيُّهُ المصطفَى مِنْ خَلْقِهِ وخْليلُه، صلَّى اللهُ عليه وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها النَّاسُ:
أُوصيكمْ ونَفْسِي بتقوَى اللهِ العظيمِ، ومُحَاسَبةِ النَّفْسِ قبْلَ يومِ الحسابِ، فَمَنْ فَعَلَ هُدِيَ إلى الخَيْرِ وَأَنَابَ، ومَنْ تَوَلَّى عَنْ ذَلِكَ خَسِرَ ونَدِمَ وَخَابَ، قالَ اللهُ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } { الحشر: 18 } .
أيُّها المسلمونَ:
قالَ اللهُ تعالَى: { لآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلآ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ* أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } { القيامة:1-4 } .(210/2)
يقولُ الحَسَنُ البصريُّ -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسيرِ مَعْنَى "النّفسِ اللَّوّامَةِ":«إنَّ المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلاّ يَلُومُ نفسَه: ما أرَدْتُ بِكَلِمَتِي؟ ما أردْتُ بِأُكْلَتِي؟ ما أرَدْتُ بحديثِ نَفْسِي؟ وإنَّ الفاَجِرَ يَمْضِي قُدُماً، ما يُعاتِبُ نَفْسَه»، وعَنْه رحمهُ اللهُ قالَ: «ليسَ أحدٌ مِنْ أهْلِ السّماواتِ وَالأرَضِينَ إلاّ يَلُومُ نَفْسَه يومَ القِيَامَةِ».
هذهِ النَّفْسُ اللّوّامَةُ المتَيَقِّظَةُ التَّقِيَّةُ الخائِفَةُ المتوجِّسَةُ التي تُحاسِبُ نفْسَهَا، وتَتَلفَّتُ حَوْلَها، وتَتَبيَّنُ حقيقةَ هَواها، وتَحْذَرُ خِداعَ ذَاتِها؛ هيَ النَّفْسُ الكريمةُ علَى اللهِ سبحانَه، حتَّى لَيَذْكُرَها معَ القيامَةِ، وهيَ المقابِلةُ للنَّفْسِ الفاجِرَةِ، التي تريدُ أنْ يَفْجُرَ صَاحِبُهَا ويَمْضِيَ في الفُجُورِ قُدُماً، وتَبْغِي أنْ يَكذِبَ ويَتَولَّى، ويَذْهَبَ إلى أهْلِهِ يتَمَطَّى؛ دونَ حِسابٍ لها، ودونَ تَلَوُّمٍ ولا تَحَرُّجٍ أوْ مُبالاةٍ!
قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -:"حاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُم قَبْلَ أنْ تُوزَنُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ"[رواه ابنُ أبي شيبةَ في مُصَنَّفِهِ]، وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ -رحمه اللهُ- قَالَ: «لا يَكُونُ الْعَبْدُ تَقِيّاً حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كَمَا يُحَاسِبُ شَرِيكَهُ؛ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَمَلْبَسُهُ؟!».
أيُّها النّاسُ:(210/3)
إنَّ الانطلاقَ إلى قِمَّةِ الإيمانِ يبدأُ مِنْ مُكاشَفَةِ النَّفْسِ بِذُنُوبِهَا وأخْطائِهَا، وحَرِيٌّ بالعَبْدِ أَنْ يَخْلُوَ إلى نفسِهِ ويحاكِمَهَا، حتَّى يَشْعُرَ إِبَّانَ مُحاَسَبَتِهِ نفسَهُ وكَأَنَّ شيئاً آخَرَ يُحاوِرُه، وطَرَفُ المحاوَرَةِ هوَ فِطْرَتُهُ النَّقِيَّةُ، وعَقْلُهُ الوَضَّاءُ، ونفْسُهُ اللّوَّامَةُ التي تُذَكِّرُهُ بما ارتَكَبَهُ مِنْ ذنوبٍ ومُوبِقاتٍ حتَّى يُحقَّقَ مَنْزِلَةَ التَّوْبَةِ، ويَصِلَ بذلكَ إلى الاطْمِئنانِ الرُّوحِيِّ { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } { الرّعد:28 } ؛ فالنّفسُ اللاّئِمَةُ لِصاحِبِهَا وسيلةٌ عظيمةٌ لاكْتِشافِ الأخْطاءِ، والعَمَلِ على هَجْرِهَا والتَّوْبَةِ مِنْها؛ إِذِ الذُّنوبُ كالسُّمُومِ داخِلَ الجِسْمِ، ولنْ يجدَ المسلمُ طَعْماً للرَّاحَةِ ما لَمْ يَطْرُدْها مِنْ داخِلِه؛ فكذلِكَ الذُّنوبُ!
مَعْشَرَ المسلمينَ:
كانَتْ مُشْكِلَةُ المشركينَ الأُولَى هِيَ صُعُوبَةُ تَصَوِّرِهم لجَمْعِ العِظامِ البالِيَةِ، الذَّاهِبَةِ في التُّرابِ، لإعِادَةِ بَعْثِ الإنسانِ حَيّاً، ولعلَّها لا تزالُ كذلكَ في بعضِ النُّفُوسِ إلى يَوْمِنَا هَذا! والقرآنُ يَرُدُّ علَى هذَا الحُسْبانِ الغافِلِ مُؤكِّداً وُقُوعَه: { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } والبَنَانُ: طَرَفُ الأُصْبُعِ؛ فها هوَ ذا جَوابُ اللهِ تعالَى عَنِ اسْتِنْكارِ المشركينَ؛ بما هوَ أعظمُ مِن مُجَرَّدِ جَمْعِ العِظامِ، وهو تَسْوِيَةُ البَنَانِ، وتَرْكيبُهُ في مَوْضِعِهِ كما كانَ! وهيَ كِنايةٌ عَنْ إعادَةِ تَكْوِينِ الخَلْقِ بأدقِّ ما فيه.(210/4)
إنَّ هذاَ الإنسانَ يُريدُ أنْ يفْجُرَ، ولا يريدُ أنْ يَصُدَّه شيءٌ عَنْ فُجُورِهِ، ولا أنْ يَكونَ هُناكَ حِسابٌ عَلَيْهِ ولا عِقابٌ، ومِنْ ثَمَّ فهوَ يَسْتَبْعِدُ وقوعَ البَعْثِ، ويَسْتَغْرِبُ مَجِيءَ يومِ القيامَةِ: { بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ*يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } .
قالَ بعضُ العُلَماءِ: كانَ أشْيَاخُنا يحاسِبونَ أنفسَهُمْ علَى ما يَتَكَلَّمونَ به وما يفعلُونَهُ، ويُقيِّدونَهُ في دَفْترٍ؛ فإذا كانَ بعدَ العشاءِ حاسَبُوا نُفُوسَهُمْ، وأحضرُوا دَفَاتِرَهُمْ، ونظروُا فيماَ صَدَر مِنْهمْ مِنْ قَوْلٍ وعَمَلٍ، وقابلوا كُلاًّ بما يَستحِقُّهُ؛ إنِ استحقَّ اسْتغفاراً اسَتْغفَروا، أوِ التَّوْبةَ تَابُوا، أوْ شُكْراً شَكَرُوا، ثُمَّ يَنَامُونَ، وزادَ عليهمْ آخرونَ الخواطِرَ؛ فكانوا يُقَيِّدون ما حَدَّثُوا به أنفُسَهُمْ أَوْ هَمُّوا به، وحاسَبُوهَا عَلَيْهِ.
أيُّها المسلمونَ:
إنَّ قُدْرَةِ العَبْدِ المؤْمِنِ -بفضلِ اللهِ تعالَى وجمَيلِ كَرَمِهِ- عَلَى إِصْلاَحِ نَفْسِهِ؛ قُدْرَةٌ هائِلةٌ جِدّاً، وهذا هو السِّرُّ في تَكاثُرِ نُصوصِ الوَحْيِ عَلَى اْلأَمْرِ بالتَّوْبَةِ، قالَ اللهُ تعالَى: { تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } { التحريم:8 } ، وقالَ أيضاً: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { النور:31 } ، وإنَّما يَسْهُلُ الرُّجوعُ إلى اللهِ تعالَى والتَّوْبَةُ إليهِ بِدَوَامِ مُحاسَبَةِ النَّفسِ وعَدَمِ تَرْكِها هَمَلاً.
عِبادَ اللهِ:(210/5)
إنَّ لَوْمَ المؤمنِ نفسَهُ بينَ الْحِِينِ والآخَرِ يَهدِيهِ إلى أنْ يكْتَشِفَ ما في داخِلِهِ مِنَ الخيرَ وَالشَّرِّ، سيجدُ مِنْ دخائِلِهِ وَساوِسَ شيطانِيَّةً؛ كالحَمِيَّةِ وَالغُرُورِ وَالكِبْرِ والكَذِبِ والخَوْفِ مِنَ المستَقْبَلِ؛ القائِمِ علَى أساسِ عَدَمِ الثِّقَةِ في اللهِ سبحانَهُ وتعالَى، مِمَّا يدفعُهُ إلى تَعاَطِي اْلأَسْباَبِ المحرَّمَةِ لِجَلْبِ الرِّزْقِ؛ كالرِّبا وَالغِشِّ والاحْتِيَالِ، وكُلُّها تدفَعُهُ باتِّجاهِ الحِرْصِ وَالطَّمَعِ وتَناسِي رَحمةِ اللهِ ونِعْمَتِهِ وجميلِ عَطائِهِ ورِزْقِهِ؛ كما أنَّ المؤمنَ اللَّوَّامَ لنفسِهِ مِن جانِبٍ آخرَ؛ يَرَى خيراً تَنْطَوِي عليهِ نفسُهُ؛ كقيامِهِ بما فُرِضَ علَيْهِ مِنَ الصَّلاةِ وَالزّكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ، وبسببِ جِلْسَةِ اللَّوْمِ تلكَ يَثْبُتُ علَى الخيرِ ويزيدُ مِنْه، ويَرْتَدِعُ عَنِ الشَّرِّ ويَنْتَهِي عَنَه.
قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } { القيامة:14-15 } وَالمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ دَعْوَةُ العبدِ إلى مُحاكَمَة نَفْسِهِ في مَحْكَمَةِ الذَّاتِ وَالضَّميرِ قَبْلَ مَحْكَمَةِ يومِ القِيامةِ؛ يومَ لا تَنْفَعُ غَفْلَةٌ وَلا غَوَايَةٌ، وقَدْ كَتَبَ عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - إلى بعضِ عُمَّالِهِ، فكانَ في آخرِ كتابِهِ: «أنْ حاسِبْ نَفْسَكَ في الرَّخاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ؛ فإنَّهُ مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ في الرَّخاءِ قبلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ عادَ مَرْجِعُهُ إلى الرِّضَا وَالغِبْطَةِ، ومَنْ ألْهَتْهُ حياتُهُ وشَغَلَهُ هَواهُ عادَ مَرْجِعُهُ إلى النَّدامةِ وَالحَسْرَةِ؛ فتَذَكَّرْ ما تُوعَظُ بِه لكيْ تَنْتَهِيَ عمَّا يُنتَهَى عَنْه» رواهُ البَيْهقِيُّ في شُعَبِ الْإيمَانِ.(210/6)
بارَكَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعَنِي وإيَّاكمْ بما فيهِ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ مَا تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ مِنْ كُلِّ ذنبٍ فاستغفروهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثّانية
الحمدُ للهِ الذِي أعْظَمَ علَى عبادِهِ المِنَّةَ، بما دَفَعَ عَنْهُمْ كيْدَ الشَّيْطانِ ورَدَّ أَمَلَهُ وخَيَّبَ ظَنَّهُ؛ إذْ جَعَلَ مُحاسبةَ النَّفْسِ حِصْناً لأوليائِهِ وجُنَّةً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، قائدُ الخَلْقِ ومِفْتاحُ الجنَّةِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ ذَوِي الأبْصارِ الثَّاقِبَةِ وَالعقولِ الرَّاجِحَةِ المطمَئِنَّةِ.
أمَّا بعدُ:
عبادَ اللهِ:
قالَ اللهُ تعالَى: ?وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ? { البقرة: 235 } ؛ فعرَّفَ المؤمنينَ المتيقِّظِينَ أنَّ اللهَ تعالَى لهمْ بِالمِرْصادِ، وأنَّهمْ سَيُناقَشُون الحِسابَ، ويُطالَبُونَ بمثاقِيلِ الذَّرِّ مِن سائِرِ الأقْوالِ وَالأفْعالِ، وتحقّقُوا أنَّهُ لا يُنْجِيهمْ مِنْ هذِهِ الأَخْطَارِ إلاّ لُزُومُ المحاسَبَةِ وصِدْقُ المُراقبةِ لِلنَّفْسِ في أنْفاسِهَا وحَرَكَاتِهَا، وخَطَرَاتِهَا ولَحظاتِها، فَمَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ قبْلَ أن يُحَاسَبَ خَفَّ في القِيامةِ حِسَابُهُ، وحَسُنَ عِنْدَ السُّؤالِ مَنْطِقُهُ وحَضَرَ جَوَابُهُ، وآلَ إلى خَيْرٍ مُنْقَلَبُهُ ومَآبُهُ، ومَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ دامَتْ حَسَرَاتُهُ، وطالَتْ في عَرَصاتِ القِيامَةِ وقَفَاتُهُ، وقَادَتْهُ إلى الخِزْيِ وَالمَقْتِ وَالنَّكَالِ سَيِّئاتُهُ وغَفَلاتُهُ.
أَلاَ وصلَّوا وسَلِّمُوا علَى نبَيِِّّ المرْحَمةَ وقائِدِ الملْحَمَةِ.(210/7)
اللهمَّ أَعِنَّا عَلَى إصلاحِ أَنْفُسِنا، ونبِّهْنَا مِنْ نَوْمَةِ الغافِلين، وبَصِّرْنَا بِعُيُوبِنَا، ولا تَكِلْنا إلى هَوانَا طَرْفَةَ عَيْنٍ أبداً، ولا تَجْعَلِ الدُّنْيا أكْبَرَ هَمِّنَا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، ولا تَجْعَلْ مُصِِيبَتَنَا في دِينِنَا.
اللهمَّ حَبِّبْ إِليْنا الإيمانَ وزَيِّنْهُ في قُلُوبِنا، وكَرِّهْ إلينا الكُفْرَ وَالفُسوقَ وَالعِصْيانَ وَاجْعَلْنا يا رَبَّنا مِنَ الرَّاشِدِينَ، وأحْسِنْ خاتِمَتنَا في الأُمُورِ كُلِّها وَأَجِرْنا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيا وعَذَابِ الآخِرَةِ.
اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، وَاجْعَلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، وَاكْلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالعافِيَةِ وَالإيمانِ، ياذا الجلالِ وَالإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِنًا مطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالَمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(210/8)
اطبع هذه الصحفة
دروس وعبر من هجرة سيد البشر صلى الله عليه وسلم
عبادَ اللهِ:
لَقَدِ اسْتَلْهَمْنَا مِنَ الهجرةِ المطهَّرَةِ أنَّ المؤمنَ لا يُفَرِّطُ بالأسبابِ مَهْمَا كانَ تَعَلُّقُهُ بِالمسَبِّبِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّ ذلكَ مِنْ تَمامِ التَّوَكُّلِ عَلَى الْحَيِّ الذِي لا َيَمُوتُ، فَلَقَدِ اتَّخذَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في هِجْرَتِهِ طَرِيقاً مُعَاكِساً للمدينةِ، فاتَّجَهَ جَنُوباً اتِّقَاءً لطَلَبِ المشركينَ، وأَوَى إلى غارِ ثَوْرٍ مَلْجَأً، واسْتَأْجَرَ هَادِياً مَاهِرَاً بالطَّرِيقِ، وَأمَّنَهُ عَلَى راحِلَتَيْنِ لَه، ولأَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنهم -، وحَمَلَ مَعَهُ الزّادَ للطريقِ، وتَأَمَّلوُا - أيُّها الإخوةُ الكِرامُ - في هذا الموْقِفِ العظيمِ حينَ جَدَّتْ قريشٌ في طَلَبِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَخَذُوا مَعَهُمْ القَافَةَ حتَّى انتهَوْا إِلى بابِ الغَارِ، ووَقَفُوا عليْهِ. يقولُ أبو بكرٍ - رضي الله عنهم -:"نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ المشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا، وَنَحْنُ في اْلغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ:"يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَاِلثُهُمَا"[رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أنسٍ - رضي الله عنهم -].إِنَّهَا الثَّقَةُ العظيمةُ باللهِ في قلبِ رسولِ اللهِ عليهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ التِي اسْتَنْزَلَتْ نَصْرَ اللهِ وتَأْيِيدَهُ: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى(211/1)
وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { التوبة: 40 } . وفي هذَا بَيَانٌ لفضلِ أبِي بَكْرٍ - رضي الله عنهم -، إذِ اخْتَارَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِصُحْبَتِهِ في أَصْعَبِ المواقِفِ، وَأَخْطَرِ اْلأَحْوَالِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 2من المحرم 1429الموافق11/1/2008م
دروس وعبر من هجرة سيد البشر
الحمدُ للهِ الذِي أرْسَلَ رسُولَهُ بالهُدَى ودِينِ الحقِّ لِيُظْهِرَهُ علَى الدِّينِ كُلِّهِ، وكفَى باللهِ شهيداً،وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ نَصَرَ عَبْدَهُ وأعَزَّ جُنْدَهُ وهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، سبحانَهُ أشْكُرُهُ وأُمَجِّدُهُ تمجيدًا، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ ، شَرَحَ اللهُ صدرَهُ وَوَضَعَ عَنْه وِزْرَهُ ورَفَعَ له ذِكْرَهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا.
أَمَّا بعدُ:
فَأُوصِيكمْ - أيُّها الناسُ ونفسِي- بتقوَى اللهِ عزَّ وجَلَّ، فَبِالتَّقْوَى يُدْرَكُ المطلوبُ، ويُدْفَعُ المرهُوبُ، وتُفْرَجُ الكُروبُ. قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } { الطلاق:2-3 } .
أيُّها المسلمونَ الأَعِزَّةُ:(211/2)
إنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ تفْخَرُ بعُظَمائِهَا، وتَحْتَفِي بسيرةِ نُبَلَاِئهَا، يذكرونَ مآثِرَهُمْ، ويُسَطِّرُونَ مفاخِرَهُم، ويجعلونَ أقْوَالَهُمْ وأفعالَهُمْ مَناراً يَهْتَدُونَ به، ومِنْهَاجا ًيسيرونَ عليه. وإنَّ سِيرةَ نبيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وهو خَلِيلُ الحقِّ وصَفْوَةُ الخَلْقِ - أطْهَرُ السِّيَرِ؛ حافلةٌ بِالدروسِ وَالعِبَرِ، ومليئةٌ بالأحْداثِ الجِسامِ والأخبارِ العِظامِ، إنَّها سيرةٌ تجمعُ هَدْيَ رسولٍ، ومَنْهَجَ نَبِيٍّ، وأُسلوبَ مُعَلِّمٍ، وحِكْمَةَ بَصيرٍ، وحُنْكَةَ قَائدٍ، ومنَاقِبَ مَاجِدٍ. ومِنْ تلكَ المناراتِ البيضاءِ، وَالأحداثِ الغَرِّاءِ التي حَوَّلَتْ وَجْهَ التاريخِ: حَدَثُ هِجْرَةِ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مكةَ المكرَّمَةِ إلى المدينةِ المنوَّرَةِ التي فَرَّقَ اللهُ فيها بينَ أوليائِهِ وأَعْدَائِهِ، وجَعَلَهَا مَبْدَأً لإعزازِ دِينهِ، ونصْرِ عَبْدِهِ ورسولِهِ، فَمِنْ مَعِينِهَا تُؤْخَذُ الدروسُ، وَمِنْ أحْدَاثِهَا تُسْتَلْهَمُ العِبَرُ.(211/3)
لقَدْ دعَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قومَهُ- بادِئَ اْلأَمْرِ- سِرًّا، ثم أُمِرَ بأنْ يَصْدَعَ بالدَّعْوَةِ فاسْتَجَابَ لأمرِ رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالَى، ولم يَرُقْ ذلكَ لِلمشركينَ، فَقَاوَمُوا دَعْوَتَهُ وكَادُوا لَهُ ولأَصْحَابِهِ كَيْداً عَظِيمًا، وصَبُّوا عليْهِمْ ألْواناً مِنَ العذابِ، وَأصنافاً مِنَ الأَذَى، حتَّى هاجرَ كثيرٌ مِنْهُمْ، وكُلَّمَا أشْرَقَتْ شمسُ يومٍ جديدٍ اشتَدَّتْ وَطْأَتُهُمْ وَازْدَادَ صَلَفُهُمْ حتَّى تآمروا عَلَى قَتْلِهِ وَالقَضَاءِ عَلَيْهِ، ومَكَرُوا ومَكَرَ اللهُ واللهُ خَيْرُ الماكريَن، عِنْدَهَا أُمِرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالهِجْرةِ إلى المدينةِ، لِيَلْحَقَ بأصحابِهِ هُنَالِكَ. فَتَعَالَوْا نَسْتَلْهِمْ مِنْ تلكَ الرحلةِ المبارَكَةِ دُرُوسًا نَسْتَنيرُ بها في حياتِنا، وَعِبَراً نَنْتَفِعُ بها في دَعْوَتِنا: وأَوَّلُ هذهِ الدروسِ وَالعِبَرِ أَنَّ الصِّراعَ بَيْنَ الحقِّ وَالبَاطِلِ قائمٌ إلى قِيامِ الساعَةِ؛ كمَا قالَ اللهُ جَلَّ ثناؤُه: { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } { آل عمران:140 } ، ثم تكونُ الدَّوْلَةُ لِلمؤمنينَ، وتظهرُ الغَلَبَةُ لأوْلياءِ الرحمنِ المتقينَ، قالَ اللهُ تعالَى: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } { غافر:51 } ، ومِنْها أنَّ الدِّينَ مُقَدَّمٌ علىَ كلِّ شيْءٍ في حياةِ المسلمِ؛ فهُوَ أَوْلَى مِنَ النَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالمالِ وَالوَطَنِ، فقَدْ هاجَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وتَرَكَ ذلكَ كُلَّهُ اْبتِغَاءَ مرضاةِ اللهِ، عَنِ ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -(211/4)
لمكَّةَ: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحَبَّكِ إِليَّ، ولولَا أنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ"[رواهُ الترمذيُّ].
وَمِمَّا يُسْتَلْهَمُ مِنَ الدروسِ وَالعِبَرِ، أنَّ اللهَ تعالَى لا يَتَخَلَّى عَنْ نُصْرَةِ أوليائِهِ وخُذْلانِ أَعْدَائِهِ، وَإِنِ اشْتَدَّتِ الخطوبُ، وعَظُمَتْ الأهوالُ، ومهما كاَدَ الأعداءُ ومَكَروُا، فإنَّ عَاقِبَةَ كَيْدِهِمْ إلى ضَلاَلٍ، ونهايةَ مَكْرِهِمْ إلى خُسَرانٍ وَزَوَالٍ؛ كما قالَ اللهُ جَلَّ ثناؤُهُ: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } { الأنفال:30].
عبادَ اللهِ:(211/5)
لَقَدِ اسْتَلْهَمْنَا مِنَ الهجرةِ المطهَّرَةِ أنَّ المؤمنَ لا يُفَرِّطُ بالأسبابِ مَهْمَا كانَ تَعَلُّقُهُ بِالمسَبِّبِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّ ذلكَ مِنْ تَمامِ التَّوَكُّلِ عَلَى الْحَيِّ الذِي لا َيَمُوتُ، فَلَقَدِ اتَّخذَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في هِجْرَتِهِ طَرِيقاً مُعَاكِساً للمدينةِ، فاتَّجَهَ جَنُوباً اتِّقَاءً لطَلَبِ المشركينَ، وأَوَى إلى غارِ ثَوْرٍ مَلْجَأً، واسْتَأْجَرَ هَادِياً مَاهِرَاً بالطَّرِيقِ، وَأمَّنَهُ عَلَى راحِلَتَيْنِ لَه، ولأَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنهم -، وحَمَلَ مَعَهُ الزّادَ للطريقِ، وتَأَمَّلوُا - أيُّها الإخوةُ الكِرامُ - في هذا الموْقِفِ العظيمِ حينَ جَدَّتْ قريشٌ في طَلَبِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَخَذُوا مَعَهُمْ القَافَةَ حتَّى انتهَوْا إِلى بابِ الغَارِ، ووَقَفُوا عليْهِ. يقولُ أبو بكرٍ - رضي الله عنهم -:"نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ المشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا، وَنَحْنُ في اْلغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ:"يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَاِلثُهُمَا"[رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أنسٍ - رضي الله عنهم -].إِنَّهَا الثَّقَةُ العظيمةُ باللهِ في قلبِ رسولِ اللهِ عليهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ التِي اسْتَنْزَلَتْ نَصْرَ اللهِ وتَأْيِيدَهُ: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { التوبة: 40 } . وفي(211/6)
هذَا بَيَانٌ لفضلِ أبِي بَكْرٍ - رضي الله عنهم -، إذِ اخْتَارَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِصُحْبَتِهِ في أَصْعَبِ المواقِفِ، وَأَخْطَرِ اْلأَحْوَالِ.
إِخْوَةَ الإِيمَانِ:
ومنْ عَظِيمِ هذهِ الدروسِ وَالْعِبَرِ، ما كانَ مِنْ شَأْنِ سُرَاقَةَ بنِ مَالِكٍ، الذي خرجَ في طَلَبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومَنْ مَعَهُ حتى إذَا أَدْرَكَهُمْ غَاصَتْ يَدَا فَرَسِهِ في الأرضِ، ثُمَّ زَجَرَهَا فَنَهَضَتْ، ثُمَّ غَاصَتَا مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: قدْ عَلِمْتُ أنَّ الذِي أَصَابَنِي بِدُعَائِكُمَا، فادْعُوا اللهَ لِي؛ ولَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا، فدعَا له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وطَلَبَا مِنْهُ أَنْ يُخْفِيَ خَبَرَهُمَا، فَفَعَلَ فَانْظُروُا إلى عِنايَةِ اللهِ وحِفِظِهِ لرسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ خَرَجَ سراقةُ بنُ مالكٍ أولَ النَّهارِ جَاهِدًا عَلَيْهما، وَطالبًا رُؤُوسَهُمَا، وصارَ آخِرَ النَّهَارِ حَارِسًا لَهُماَ، ومُعَمِّياً عَنْهُما!!. وفي هذهِ الرحلةِ المبارَكَةِ، تَجَلَّتْ مَعانِي المحبَّةِ والإخاءِ، وبرَزَتْ صُوَرُ التضْحِيَةِ وَالفِداءِ، ولاَ أَدَلَّ علَى ذلكَ مِمَّا فَعَلَهُ الأَنْصَارُ، إذْ كَانُوا يَخْرجُونَ كُلَّ يومٍ مِنَ الغَدَاةِ- لَمَّا بَلَغَهُمْ خُروجُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مكةَ، وقَصْدُهُ المدينةَ ـ ينتظرونَهُ حتَّى يردَّهُم حَرُّ الظَّهيرَةِ. وحينَ بَلَغَهُمْ قُدُومُهُ المدينةَ ثَارُوا إلى السِّلاحِِ وتَلَقَّوْهُ بسُرُورٍ لا يُوصَفُ، وسُمِعَتْ الرَّجَّةُ وَالتَّكْبيرُ في المدينةِ فَرَحاً بقدُوُمِهِ وَابْتِهَاجاً لِرُّؤْيَتِهِ، وبَقِيَ في بَنِي عمرِو بْنِ عَوْفٍ حتَّى بَنَى مَسْجِدَ قُباءَ ، ثَُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ إِلىَ المدِيَنةِ والناسُ يتَسَابقونَ إلى خِطَامِهَا، كُلٌ يقولُ: هَلُمَّ إِلَى العَدَدِ وَالعُدَّةِ(211/7)
والسِّلاَحِ وَالْمَنَعَةِ، وهُوَ يَقُولُ لَهُمْ:"خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " حتَّى بَرَكَتْ في مَوْضِعِ المسْجِدِ النَّبَوِيِّ. فَيَا لَلهِ مَا أَعْظَمَ حُبَّ اْلأَنْصَارِ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.!
بارك اللهُ لِي ولكمْ في الوَحْيَيْنِ، ونفَعَنَا جميعاً بِهَدْيِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، وأَستغفرُ اللهَ لِي ولكمْ ولسائِرِ المسلمينَ؛ فاستغفروهُ إنَّهُ هوَ خيرُ الغافِرينَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ، وَالعاقبةُ لِعبادِهِ المتقينَ، ولا عُدوانَ إلاَّ علَى القومِ الظالمينَ، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له؛ يَنْصُرُ مَنْ يشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وهوَ خَيْرُ الناصِرينَ. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، جاهَدَ في اللهِ حَقَّ جِهادِهِ حتَّى أتاهُ اليقينُ، فاللهمَّ صَلِّ عليْهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ الذينَ آوَوْا وَنَصَرُوا وجاهَدُوا وصَبَرُوا، وسَلِّمْ تَسْلِيماً كثيراً إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَاعْمَلُوا بِطاعَتِهِ ورِضَاه، فإنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وقَاهُ، ومَنْ تَوَكَّلَ علَيْهِ كَفَاهُ، وكَفَى باللهِ وَكيلاً.
إِخوةَ اْلإسلامِ:
إِنَّ أَوَّلَ خَطْوَةٍ خَطَاهَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ نُزولِهِ بالمدينةِ في أَخْوَالِهِ بَنِي النَّجَّارِ: إقامَةُ المسجدِ النبويِّ في الموْضِعِ الذِي برَكَتْ فيهِ ناقَتُهُ عليْهِ الصلاةُ وَالسلامُ، وسَاهَمَ في بِنَائِهِ بنفسِهِ، فكانَ يَنقُلُ اللَّبِنَ وَالحِجارَةَ، ويَقُولُ: اللهمَّ لاَ عيِشَ إلاَّ عيشُ الآخرهْ فاغْفِر لِلأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ.
وجعَلَ المسلمونَ ينقُلُونَ مَعَهُ اللَّبِنَ ويَرْتَجِزُونَ:
لَئِنْ قَعَدْنا وَالرَّسُولُ يَعْمَلُ لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّلُ(211/8)
إنَّهُ بُرْهانٌ عَمَلِيٌّ مَلْموسٌ علَى التعاونِ وَالمحبَّةِ وَالتضْحِيَةِ في مُجتْمَعِ المسلمينَ. وفي مُبَادَرَةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بِناءِ مسجدِ قُبَاءَ ومَسْجدِهِ، إشارةٌ إلى مكانَةِ المسجدِ في حَيَاةِ المسلمينَ، ودِلالةٌ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالَى، فلقَدْ كانَ المسجدُ مَناراَ للعِلْمِ، ورَوْضَةً للعِبادَةِ، ومجلِساً للشورَى، ومُنْطَلَقاً للفتوحاتِ الإسلاميَّةِ. وفي مُؤاخاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ المهاجرينَ والأنصارِ، وما لَقِيَهُ المهاجرونَ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الأنصارِ مِنْ نُصْرَةٍ ومَحبَّةٍ وَبذْلٍ ومُوَاساةٍ، حيثُ قالتِ الأنصارُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اقْسِمْ بينَنَا وبينَ إِخْوانِنَا النَّخِيلَ. قالَ: لَا فَقَالَ: تَكْفُونَا الْمَؤُونَةَ وَنُشْرِكْكُمْ في الثَّمَرَةِ. قالوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا"[رواهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنهم -].
ففِي ذلِكَ كُلِّهِ مَعْنَى الإخاءِ الحِقيِقيِّ الذي تَذُوبُ فيهِ عَصَبِيَّاتُ الجاهِليَّةِ، وَتعْلُو فيهِ معانِي الإيمانِ، وتَسْقُطُ جميعُ الفَوارِقِ؛ فلا يكونُ الوَلاءُ وَالبَراءُ إلاَّ لِلإسلامِ.(211/9)
اللهمَّ اغْفِرْ لِلمسلمينَ وَالمسلماتِ، وَالمؤمنينَ والمؤمناتِ؛ الأحياءِ مِنْهمْ وَالأمواتِ،اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ وأهلَهُ، وأذِلَّ الشِّرْكَ وأهلَهُ.اللهمَّ ارْزُقْناَ حُبَّكَ وحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وحُبَّ كُلِّ عَمَلٍ يقرِّبُنَا إلى حُبِّكَ. اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أُمورِنَا لما تُحِبُّ وتَرْضَى، وخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، وَاكْلأْهما بِرعايَتِكَ، وَألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ وَالعافِيَةِ وَالإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكْرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِنًا مطمئِنّاً سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالَمِينَ.
……………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(211/10)
اطبع هذه الصحفة
جهود آل البيت رضي الله عنهم في الدعوة إلى الله تعالى
مَعْشَرَ المُتابِعِينَ لأئِمَّةِ آلِ البَيْتِ المُهْتَدِينَ:
إنَّ الإيمانَ بالقَضاءِ وَالقَدَرِ مِنْ أركانِ الدِّينِ، ولا يَبْلُغُ العَبْدُ حَقِيقَةَ هَذا الإيمانِ حتَّى يَعْلَمَ أنَّ ما أصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وما أخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، لِذا فقَدْ عَابَ أئِمَّةُ آلِ البَيْتِ عَلَى مَنْ أظْهَرَ التَّسَخُّطَ عَلَى المُصابِ، وَتَبَرَّمَ مِنْ مُرِّ ما أُصِيبَ بِهِ الأحْبابُ، فقَدْ قالَ أبوجَعْفَرٍ الباقِرُ - رضي الله عنهم -: "لَمَّا هَمَّ الحُسَيْنُ - رضي الله عنهم - بِالشُّخُوصِ إلى المدِينَةِ: أقْبَلَتْ نِساءُ بَنِي عَبْدِالمُطَّلِبِ فاجْتَمَعْنَ لِلنِّياحَةِ، فمَشَى فِيهنَّ الحُسَيْنُ فقالَ: أُنْشِدُكُنَّ باللهِ أنْ تُبْدِينَ هَذا الأَمْرَ، هذِهِ مَعْصِيَةٌ للهِ ورسولِهِ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
9 محرم 1429هـ الموافق 18 /1/ 2008م
جهود آل البيت رضي الله عنهم في الدعوة إلى الله تعالى
الحمدُ للهِ الكبيرِ المُتَعَالِ، الموْصُوفِ بأوْصافِ الجَمالِ، والمنْعُوتِ بنُعُوتِ الجَلالِ، شَرَّفَ بعضَ خلْقِهِ علَى بعضٍ بالإنْعامِ والإفْضالِ، وجعلَ بَيْتَ نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - خيرَ بَيْتٍ وآلٍ، أحمدُ رَبِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيهِ وهوَ المحْمُودُ علَى كُلِّ حالٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ شَدِيدُ المِحالِ، المُنَزَّهُ عَنِ الشُّرَكاءِ وَالنُّظَراءِ والأمْثالِ، وأشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّداً عبدُاللهِ ورسولُهُ أصْدَقُ البَرِيَّةِ لَهْجَةً في جَميلِ الأقْوالِ، وأتْقاهُمْ وأخْشاهُمْ لِرَبِّهِ في جَليلِ الأفْعالِ، أرسَلَهُ اللهُ تعالَى رحمةً للعالَمِينَ لِيَضَعَ عَنْهُمُ الآصارَ والأغْلالَ.(212/1)
فصلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ في الحَالِ والمقَالِ، صَلاةً وسَلاماً مُتَعاقِبَيْنِ ما تعاقَبَتِ الأيامُ وَاللَّيالِ.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ وقابِلُوا أوامِرَهُ بالامْتِثَالِ، وسارِعُوا إلى مغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وتَزَلَّفُوا إليهِ بصالِحِ الأعْمالِ، وحافِظُوا علَى الفرائِضِ فإنَّها وَسِيلَةٌ إلى بُلُوغِ الآمالِ، وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعونَ فيهِ إلى اللهِ حيثُ لا بَيْعٌ فيهِ ولا خِلالٌ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } { الحجرات: 1 } ، وَاعْلَمُوا رَحِمَنِي اللهُ وإيَّاكُم: أنَّ اللهَ تعالَى هوَ مَوْلاكُمْ، وهوَ جلَّ جَلالُهُ يَخْلُقُ ما يشاءُ ويَخْتارُ، ما كانَ لأحدٍ مِنْ عِبادِهِ الخِيَرَةُ فِيما اخْتَارَ، وإنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اخْتارَهُمُ الرَّبُّ تبارَكَ وتعالَى وفضَّلَهم علَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، وجعلَ نَسْلَهم خَيْرَ نَسْلِ العالَمِينَ مَحْتِداً وقَبِيلاً: آلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذينَ هُدُوا في شَرَفِ النَّسَبِ سَبِيلاً، وجُعِلَتْ شمسُ فَضْلِهِمْ في سَماءِ العالَمِينَ دَليلاً.
عِبادَ اللهِ المؤمنينَ:
إنَّ آلَ بَيْتِ إمامِ المرْسَلينَ؛ صلَّى عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ رَبُّ العالَمِينَ، قَدْ قَيَّضَهُمُ اللهُ تَعالَى لِلذَّوْدِ عَنْ شَرْعِهِ المُبِينِ، فَنَفَوْا عَنْهُ تَحْرِيفَ الغالِينَ، وَانْتِحالَ المُبْطِلينَ، وتَأْوِيلَ الجاهِلِينَ.(212/2)
وإنَّ ذِرْوَةَ سَنَامِ هؤلاءِ الأئِمَّةِ الأنْجابِ: عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ أبوتُرَابٍ، ابنُ عَمِّ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم -؛ وزَوْجُ الزَّهْراءِ فاطمةَ البَتُولِ. ومِنْ أئِمَّةِ آلِ البَيْتِ: ابنْاهُ أبومحمدٍ الحَسَنُ وأبوعَبْدِاللهِ الحُسَيْنُ، رَيحْانَتا النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اللذانِ قَرَّتْ بهما العَيْنُ، ومِنْهُمْ: ابنُ الحُسَيْنِ عَلِيٌّ، زينُ العابِدينَ الإمامُ التَّقِيُّ.
ومِنْهُمْ: ابنُهُ أبوجَعْفَرٍ محمدُ بنُ عليٍّ الباقِرُ، الذي بَقَرَ بإمامَتِهِ في الدِّينِ العِلْمَ الزَّاخِرَ.
ومِنْ أئِمَّةِ آلِ البَيْتِ أيضاً: ابنُهُ أبوعبدِاللهِ جَعْفَرُ الصَّادِقُ الفَقِيهُ، الإمِامُ الهُمَامُ النَّبِيهُ.
ومِنْهُمْ: ابنُهُ مُوسَى الكاظِمُ، الإمامُ القُدْوَةُ الحازِمُ.
ومِنْهُمْ: ابنُهُ علِيٌّ الرِّضَى، أحَدُ أئِمَّةِ الهُدَى.
وقَدْ نَصَرَ اللهُ تعالَى بهؤلاءِ الأئِمَّةِ هَذا الدِّينَ، فأوْضَحُوا بِالحُجَّةِ وَبَيَّنُوا بالمَحَجَّةِ حَقِيقَةَ الإيمانِ برَبِّ العالَمِينَ، وأنَّ اللهَ تبارَكَ وتعالَى هُوَ المسْتَحِقُّ بأنْ يُفرَدَ بالتَّوْحيدِ، ويُبَرَّأَ ويُنَزَّهَ عَنِ الشِّرْكِ وَالتَّنْديدِ، كَما قالَ أبوجعفرٍ الباقِرُ - رضي الله عنهم -: "ما مِنْ شيءٍ أعظَمُ ثَوَاباً مِنْ شَهادَةِ أنْ لا إلِهَ إلاّ اللهُ؛ لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ، ولا يَشْرَكُهُ في الأمْرِ أَحَدٌ".
فَالرَبُّ تبارَكَ وتَعالَى المُتَفَرِّدُ بالخَلْقِ مَعَ الإماتَةِ والإحْياءِ: هوَ المستَحِقُّ بأنْ يُفْرَدَ بِالعِبادَةِ مَعَ الخَوْفِ وَالرَّجاءِ، فلا يُشْرَكُ مَعَهُ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ، لا مِنَ الملائِكَةِ ولا مِنَ الأنبياءِ، ولا الصَّالِحينَ ولا الأَوْلِيَاءِ.(212/3)
فإذا حَزَبَكَ كَرْبٌ؛ أوْ أحاطَ بِكَ خَطْبٌ: فَلا تَدْعُ إلاّ الرَّبَّ، فقَدْ قالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ - رضي الله عنهم -: "ادْعُ اللهَ، ولا تَقُلْ: قَدْ فَرَغَ مِنَ الأمْرِ، فإنَّ الدُّعاءَ هوَ العِبادَةُ، إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يقولُ: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } { غافر:60 } وَقَالَ: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } { غافر:60 }
فإذا أرَدْتَ أنْ تَدْعُوَاللهَ:فَمَجِّدْهُ وَاحْمَدْهُ وسَبِّحْهُ وهَلِّلْهُ وَأَثْنِ عَلَيْهِ، وصَلِّ علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ سَلْ تُعْطَ".
وَأَسْكِنْ يا عَبْدَاللهِ خَوْفَكَ مِنَ اللهِ تعالَى في سُوَيْداءِ الفُؤادِ، وإيَّاكَ إيَّاكَ أنْ تَخافَ أَحَداً مِنَ العِبَادِ، لِذا قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ - رضي الله عنهم -: "مَنْ خَافَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ: أخافَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ، ومَنْ لَمْ يَخَفِ اللهَ عَزَّ وجَلَّ: أخافَهُ اللهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ"، فَلا تَخَفْ أحَداً مِنَ المَخْلُوقِينَ، لا السَّحَرَةَ ولا العَرَّافِينَ، فإنَّهمْ كَهَنَةٌ وكَفَرَةٌ بما أُنْزِلَ علَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صلى الله عليه وسلم -، فاحْذَرِ السَّحْرَ وَتَعَلُّمَهُ، كَخَشْيَتِكَ الكُفْرَ وتَكَلُّمَهُ، كما قالَ جعفرٌ الصادِقُ - رضي الله عنهم -: "مَنْ تَعلَّمَ شَيئْاً مِنَ السِّحْرِ قَليلاً أوْ كَثيراً: فقَدْ كَفَرَ، وكانَ آخِرَ عَهْدِهِ بِرَبِّهِ، وَحَدُّهُ أنْ يُقْتَلَ؛ إلاّ أنْ يَتُوبَ".(212/4)
وإيَّاكَ أنْ تَخْطُوَ إلى العَرَّافِينَ بِقَدَمِكَ، فَتَبُوءَ بالإثْمِ ولنْ تَنْتَفِعَ يَوْمَ القِيامَةِ بِنَدَمِكَ، فقَدْ قالَ عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنهم -: "مَنْ جَاءَ عَرَّافاً فسَأَلَهُ فصَدَّقَهُ بِما قالَ: فقَدْ كَفَرَ بما أُنْزِلَ عَلَى محمدٍ، وإنَّ كَثِيراً مِنَ الرُّقَى وتَعْلِيقِ التَّمائِمِ: شُعْبَةٌ مِنَ الإشْرَاكِ".
فاحْذَرْ يا عبدَاللهِ مِنْ طاعَةِ هؤلاءِ المُجْرِمينَ، فإنَّها عِبادَةٌ لِغَيْرِ رَبِّ العالَمِينَ، لِذَا قالَ جعفرٌ الصادِقُ - رضي الله عنهم -: "مَنْ أطاعَ رَجُلاً في مَعْصِيَةِ اللهِ: فقَدْ عَبَدَهُ".
مَعْشَرَ المُوَالِينَ لأَئِمَّةِ آلِ البَيْتِ المُتَّقِينَ:
عَلَيْكُمْ بِمُراقَبَةِ اللهِ تعالَى وَالإخْلاصِ له في جَمِيعِ أَعْمالِكُمْ، وتَجَنَّبُوا الرَّياءَ في أَفْعالِكُمْ، وَالتَّسْمِيعَ في أقْوَالِكُمْ، كَما قالَ جعفرٌ الصَّادِقُ - رضي الله عنهم -: "ما بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ إلاّ قِلَّةُ العَقْلِ. قِيلَ: وكَيْفَ ذَلِكَ يا ابْنَ رَسولِ اللهِ؟ قالَ: إنَّ العَبْدَ يَعْمَلُ العَمَلَ الذِي هوَ للهِ رِضىً؛ فَيُرِيدُ بِهِ غَيْرَ اللهِ، فَلَوْ أنَّهُ أخْلَصَ للهِ لَجاءَهُ الذي يُريدُ في أسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ".
ومَنْ كانَتْ عِنْدَهُ حاجَةٌ فَلْيُنْزِلْ حاجَتَهُ بِالعَزِيزِ الشَّكُورِ، فهوَ وحْدَهُ الذِي بِيَدِهِ مَقادِيرُ الأُمُورِ، فَلْيَقْصُدْهُ بالطَّلَبِ وَلا يَقْصُدْ أحَداً مِنْ أرْبابِ القُبُورِ، فَهُمْ مُرْتَهَنُونَ بأعْمالِهمْ إلى يَوْمِ البَعْثِ وَالنُّشوُرِ، لِذا فقَدْ أُثِرَ عَنْ أئِمَّةِ آلِ البَيْتِ؛ النَّهْيُ عَنِ البِنَاءِ عَلَى قَبْرِ الميِّتِ، فقَدْ قَالَ جعفرٌ الصَّادِقُ - رضي الله عنهم -: "لا تَبْنُوا عَلَى القُبُورِ، ولا تُصَوِّرُوا سُقُوفَ البَيْتِ، فإنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَرِهَ ذَلِكَ".(212/5)
وقَدِ اشْتَدَّ نَكِيرُ أئِمَّةِ آلِ البَيْتِ عَلَى مَنْ صَلَّى إلى قُبُورِ الأمْواتِ، أوْ ذَبَحَ لَهُمُ القَرابِينَ طَمَعاً في قَضَاءِ الحاجاتِ، أوْ دَعاهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ تعالَى في كَشْفِ المُلِمَّاتِ، لِذا قالَ جعفرٌ الصادِقُ - رضي الله عنهم -: "لا يكونُ العَبْدُ مُشْرِكاً حتَّى يُصَلِّيَ لِغَيْرِ اللهِ؛ أوْ يَذْبَحَ لِغَيْرِ اللهِ؛ أوْ يَدْعُوَ لِغَيْرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ".
وإيَّاكَ وَالنَّذْرَ لِغَيْرِ اللهِ تعالَى فإنَّهُ مُحَرَّمٌ، فقَدْ جاءَ الخَبَرُ عَنْ أئِمَّةِ آلِ البَيْتِ في النَّهْيِ عَنْ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ فإنَّهُ مُحَرَّمٌ، كما قالَ جعفرٌ الصادِقُ - رضي الله عنهم -: "لا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ، ولا فِيما لا يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ".
مَعْشَرَ المُتابِعِينَ لأئِمَّةِ آلِ البَيْتِ المُهْتَدِينَ:
إنَّ الإيمانَ بالقَضاءِ وَالقَدَرِ مِنْ أركانِ الدِّينِ، ولا يَبْلُغُ العَبْدُ حَقِيقَةَ هَذا الإيمانِ حتَّى يَعْلَمَ أنَّ ما أصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وما أخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، لِذا فقَدْ عَابَ أئِمَّةُ آلِ البَيْتِ عَلَى مَنْ أظْهَرَ التَّسَخُّطَ عَلَى المُصابِ، وَتَبَرَّمَ مِنْ مُرِّ ما أُصِيبَ بِهِ الأحْبابُ، فقَدْ قالَ أبوجَعْفَرٍ الباقِرُ - رضي الله عنهم -: "لَمَّا هَمَّ الحُسَيْنُ - رضي الله عنهم - بِالشُّخُوصِ إلى المدِينَةِ: أقْبَلَتْ نِساءُ بَنِي عَبْدِالمُطَّلِبِ فاجْتَمَعْنَ لِلنِّياحَةِ، فمَشَى فِيهنَّ الحُسَيْنُ فقالَ: أُنْشِدُكُنَّ باللهِ أنْ تُبْدِينَ هَذا الأَمْرَ، هذِهِ مَعْصِيَةٌ للهِ ورسولِهِ".(212/6)
وقالَ زَيْنُ العابِدِينَ - رضي الله عنهم -: "إنَّ الحُسيْنَ قالَ لأخْتهِ زَيْنَبَ: يا أخْتاه؛ إنِّي أقْسَمْتُ عَلَيْكِ، فَأَبرِّي قَسَمِي، لا تَشُقِّي عَلَيَّ جَيْباً، ولا تَخْمُشِي عَلَيَّ وَجْهاً، ولا تَدْعِي عَلَيَّ بالوَيْلِ وَالثُّبُورِ إذا أنا هَلَكْتُ".
وهَذا لِاعْتِقادِ أئِمَّةِ آلِ البَيْتِ بأنَّ كُلَّ مُصابٍ وإنْ كانَ عَظِيماً، فإنَّهُ لا يَبْلُغُ مُصَابَهُمْ بأبِيهِمْ محمدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عليهِ؛ لِذا قالَ جعفرٌ الصَّادِقُ - رضي الله عنهم -: "إذا أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ: فاذْكُرْ مُصابَكَ بِرَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ الناسَ لَمْ يُصابُوا بِمثْلِهِ أَبَداً".
مَعْشَرَ المُحِبِّينَ لآلِ البَيْتِ الطَّاهِرينَ: لَقَدْ كانَ مِنْ وَصِيَّةِ أَئِمَّةِ آلِ البيْتِ النَّاصِحينَ: سَلامَةُ القَلْبِ مِنَ الحِقْدِ عَلَى المسْلِمِينَ، كَما قالَ جعفرٌ الصَّادِقُ - رضي الله عنهم -: (إذا أَرَدْتَ أنْ تَعْلَمَ أنَّ فِيكَ خَيْراً: فَانْظُرْ إلى قَلْبِكَ، فإنْ كانَ يُحِبُّ أهْلَ طاعَةِ اللهِ؛ وَيَبْغَضُ أهْلَ مَعْصِِيَتِهِ: فَفِيكَ خَيْرٌ، واللهُ يُحِبُّكَ، وإنْ كانَ يَبْغَضُ أهْلَ طاعَةِ اللهِ؛ ويُحِبُّ أهْلَ مَعْصِيَتِهِ: فلَيْسَ فِيكَ خَيْرٌ، واللهُ يَبْغَضُكَ، وَالمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ).
وأوْلَى الناسِ بِسَلامَةِ القَلْبِ مِنْهُ، مَنْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ، لا سِيَّما مَنْ كانَا وَزِيرَيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حياتِهِ، وضَجِيعَيْهِ في القَبْرِ بَعْدَ وَفاتِهِ، فقَدْ قالَ جعفرٌ الصَّادِقُ - رضي الله عنهم -: (مَنْ زَعَمَ أنِّي إمامٌ مَعْصُومٌ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ: فأنا بَرِيءٌ مِنْهُ، ومَنْ زَعَمَ أنِّي أَبْرَأُ مِنْ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ: فأنا بَرِيءٌ مِنْهُ).(212/7)
وقَالَ: (لا تَنالُنِي شَفاعَةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ القِيامَةِ إنْ لَمْ أكُنْ أَتَوَلاَّهُما؛ وَأَبْرَأُ مِنْ عَدُوِّهِما).
فهذِهِ بَعْضُ الآثارِ وَالأخْبَارِ، الوارِدَةِ عَنْ أئِمَّةِ آلِ البَيْتِ الأطْهارِ، ومَنْ كانَ في سُطُورِ كُتُبِ السِّيَرِ والتارِيخِ باحِثاً عَنْ هذِهِ الحَقائِقِ وَاللَّطائِفِ، فَسَيقِفُ ولا بُدَّ عَلَى هذِهِ الأقْوالِ المُسَطَّرَةِ فِي كُتُبِ جَميعِ الطَّوَائِفِ، فَأَكْرِمْ بِبَيْتٍ هَؤلاءِ خِيارُ أئِمَّتِهِ!، وأَكْرِمْ بِحَدِيثٍ هُمْ مِسْكُ خَاتِمَتِهِ!، { رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } { هود: 73 } .
بارَكَ اللهُ لِي ولكُمْ في الفُرْقانِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَوَفَّقَنا لِلاعْتِصامِ بِهِ وبما كانَ عَلَيْهِ النبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وأَزْكَى التَّسْلِيمِ؛ مِنَ الهَدْيِ القَوِيمِ؛ وَالصِّراطِ المُسْتَقِيمِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستَغْفِرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنَ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبوا إليهِ واستَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَدَدَ مَا تَرَطَّبَتِ الأَلْسُنُ بِالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ لآلِ البَيْتِ مِنْ فَجِّ قَلْبِهَا الْعَمِيقِ، وَالْحَمْدُ للهِ عَدَدَ مَا أَثْنَى الْمُثنْوُنَ عَلَيْهِمْ وَسَأَلُوا لَهُمُ السَّدَادَ والرَّشَادَ وَالتَّوْفِيقَ، وَأَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ، وَأَشْهَدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِنَا هُوَ بالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ وَرَفِيقٌ.(212/8)
صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ آلِ بَيْتِهِ فَكَانَ مِنْهُمُ الشَّهِيدُ وَالصَّالِحُ وَالصِّدِّيقُ.
أَمَّاَ بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ يَا أَهْلَ الإِيمَانِ؛ بِتَقْوَى الْمَنَّانِ، فَهِيَ مِنْ أَمَاراتِ الصِّدِّيقِيَّةِ وَعَلامَاتِ الإِحْسَانِ.
مَعْشَرَ الْمُحِبِّينَ لآلِ البَيْتِ الطَّاهِرِينَ: هَذِهِ عَقِيدَةُ أَئِمَّةِ آلِ البَيْتِ الزَمُوهَا وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْعَادِينَ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِذاً مِنَ الْغَالِينَ، فَقَدْ حَذَّرَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ - رضي الله عنهم - مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (الْغُلاَةُ شَرُّ خَلْقِ اللهِ، يُصَغِّرُونَ عَظَمَةَ اللهِ، وَيَدَّعُونَ الرُّبُوبِيَّةَ لِعِبَادِ اللهِ، وَاللهِ إِنَّ الْغُلاةَ لَشَرٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالذِينَ أَشْرَكُوا)، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَحَقُّ بِمَحَبَّةِ أَئِمَّةِ آلِ البَيْتِ وَمُتَابَعَتِهِمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟. الذِينَ تَابَعُوهُمْ وَلَمْ يَلْبِسُوا مُتَابَعَتَهُمْ بِغُلُوٍّ أُولَئِكَ هُمُ الْمُوَافِقُونَ الصَّادِقُونَ، فَمَا أَحْوَجَنَا مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الأخْيَارِ؛ إِلَى قِرَاءَةِ سِيَرِ أَئِمَّةِ آلِ البَيْتِ الأَبْرَارِ، لِنَتَعَرَّفَ عَلَى حَقِيقَةِ مُوَافَقَتِنَا لِنَهْجِهِمُ الِْمِعْطَارِ، وَلْيَكُنْ مِسْكُ الْخِتَامِ، مَعْشَرَ الإخْوَةِ الْكِرَامِ: تَرْطِيبَ أَلْسِنَتِكُمْ بِالصَّلاةِ وَالسَّلاَمِ، عَلَى خَيْرِ الأنَامِ، امْتِثَالاً لأَمْرِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ السَّلامِ، حَيْثُ قَالَ فِي أَصْدَقِ قِيلٍ وَأَحْسَنِ حَدِيثٍ وَخَيْرِ كَلاَمٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب: 56 } .(212/9)
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ وَالأَئِمَّةِ الْحُنَفَاءِ المهْدِيِّينَ، أُولِي الْفَضْلِ الْجَلِيِّ؛ وَالْقَدْرِ الْعَلِيِّ: أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ؛ وَعُمَرَ الفَارُوقِ؛ وَذِي النُّورَيْنِ عُثْمَانَ؛ وَأَبِي السِّبْطَيْنِ عَلِيٍّ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ عَمَّيْ نَبِيِّكَ حَمْزَةَ وَالْعَبَّاسِ، وَرَيْحَانَتَيْهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلاَ الْتِبَاسٍ، وَآلِهِ وَأَزْوَاجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنَ الأرْجَاسِ، وَصَحَابَتِهِ الصَّفْوَةِ الأَخْيَارِ مِنَ النَّاسِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ والْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ ومَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ اَلْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قْولٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.(212/10)
عِبَادَ اللهِ: اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَكَبِّرُوهَ تَكْبِيراً، { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(212/11)
اطبع هذه الصحفة
التعظيم والإجلال بين الصحب والآل
عِبَادَ اللهِ المؤْمِنينَ:
إِنَّ الْحَديثَ عَنْ فَضَائِلِ آلِ البَيْتِ الطَّيِّبِينَ، حَدِيثٌ تَأْلَفُهُ الطِّبَاعُ؛ وَتَتَشَنَّفُ مِنْهُ الأَسْمَاعُ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَنْ نُحْصِيَ في هَذِهِ الكَلِمَاتِ مَا لآلِ البَيْتِ مِنَ الَفَضْلِ الْجَلِيِّ؛ وَالْقَدْرِ الْعَلِيِّ، ولَكِنْ حَسْبُنَا أَنْ نَسْتَحْضِرَ طَرَفاً مِنْ مَكَارِمِهِمُ الْمُتَكَاثِرَةِ؛ وأَنْ نَسْتَذْكِرَ نُتَفاً مِنْ مَنَاقِبِهِمُ الَْوَافِرَةِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
16محرم 1429هـ الموافق25 /1/2008م
التَّعظيمُ والإجلالُ بينَ الصَّحبِِ وَالآلِِ
الحمدُ للهِ الكبيرِ الْمُتَعَالِ، الْمَوْصُوفِ بأَوْصَافِ الجَمَالِ، وَالمنْعُوتِ بِنُعُوتِ الْجَلالِ، فَضَّلَ بَعْضَ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ بالإِنْعَامِ وَالإِفْضَالِ، وجَعَلَ بَيْتَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خيرَ بَيْتٍ وَآلٍ، أَحْمدُ رَبِّي حمداً كَثِيراً طيبِّاً مُبَارَكاً فِيهِ وهُوَ المحمُودُ عَلَى كلِّ حَالٍ، وأشهدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شَدِيدُ المِحَالِ، المُنَزَّهُ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالأَمْثَالِ، وَأَشْهَدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّداً عَبْدُاللهِ ورَسُولُهُ أَصْدَقُ البَرِيَّةِ لَهْجَةً في جَميلِ الأَقْوَالِ، وَأَتْقَاهُمْ وَأَخْشَاهُمْ لِرَبِّهِ في جَلِيلِ الأَفْعَالِ، أَرْسَلَهُ اللهُُ رحمةً للعَالَمِينَ لِيَضَعَ عَنْهُمُ الآصارَ وَالأَغْلاَلَ، فَصَلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأَصْحَابِهِ الرَّاشِدِينَ المهْدِيِّينَ في الْحَالِ وَالْمَقَالِ، صَلاةً وَسلاماً مُتَعَاقِبَيْنِ مَا تَعَاقَبَتِ الأيَّامُ وَاللَّيَالِ.(213/1)
أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ وقَابِلُوا أَوَامِرَهُ بِالامْتِثَالِ، وسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وتَزَلَّفُوا إِلَيْهِ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَحَافِظُوا عَلَى الفَرَائِضِ فَإنَّها وَسِيلَةٌ إِلَى بُلُوغِ الآمَالِ، وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ لا بَيْعَ فِيهِ وَلا خِلالَ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } { الحجرات: 1 } . وَاعْلَمُوا رَحِمَنِي اللهُُ وَإِيَّاكُمْ: أنَّ اللهََ تعالَى هُوَ مَوْلاَكُمْ، وهُوَ جَلَّ جَلالُهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويَخْتَارُ، مَا كاَنَ لأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ الْخِيَرَةَ فيمَا اخْتَارَ، وَإنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اخْتَارَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتعَالَى وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، وَجَعَلَ نَسْلَهُمْ خَيْرَ نَسْلِ العالَمِينَ مَحْتِداً وقَبِيلاً: آلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذِينَ هُدُوا في شَرَفِ النَّسَبِ سَبِيلاً، وجُعِلَتْ شَمْسُ فَضْلِِهِمْ في سَمَاءِ العَالَمِينَ دَلِيلاً.
عِبَادَ اللهِ الأَخْيَارَ:(213/2)
اِعْلَمُوا رَحِمَنِي وَإِيَّاكُمُ الرَّحِيمُ الغَفَّارُ؛ أنَّ رَوْضَ شَرْعِكُمُ الْمِعْطَارَ، قَدْ فَاحَ مِنْهُ عَبَقُ الثَّنَاءِ عَلَى آلِ نَبِيِّنَا المخْتَارِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَدْ سَطَّرَتْ نُصُوصُ الوَحْيِ فَضْلَ الآلِ تَسْطِيراً، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } { الأحزاب:33 } ، فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هذِهِ الآيَةُ الْمُحْكَمَةُ بِلاَ الْتَباسٍ، فَضْلَ آلِ البَيْتِ وأَنَّهُمْ مُطَهَّروُنَ مِنَ الأَرْجَاسِ.(213/3)
وَمِنْ هَذِهِ الفَضَائِلِ الكَثِيرَةِ، وَالْمَنَاقِبِ الوَفِيرَةِ: مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ - رضي الله عنهم - قالَ: "قامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْماً فِينا خَطِيباً بماءٍ يُدْعَى خُمّاً بيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينةِ، فحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وذَكَّرَ، ثُمَّ قَاَلَ: أَمَّا بعدُ، أَلا أَيُّهَا النَّاسُ؛ فَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فأُجِيبُ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ، فِيهِ الهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتابِ اللهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، فَحَثَّ عَلَى كتابِ اللهِ، ورَغَّبَ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ: في أهلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهََ فيِ أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهََ فيِ أَهْلِ بَيْتِي)، فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الوَصِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ؛ وهَذِهِ الخُطْبَةُ الْمُصْطَفَوِيَّةُ الْمُنِيفَةُ: حُبَّ آلِ البَيْتِ وتَعْزِيرَهُمْ، وَمُوَالاتَهُمْ وَتَوْقِيرَهُمْ؛ لِذَا فَقَدْ أُمِرَ المُسْلِمُ أنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى لَهُمْ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وأَنْ يَسْألَهُ أَنْ يَذْكُرَهُمْ فِي الَمْلأِ اْلأَعْلَى وَيُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْبَرَكَاتِ، كَمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِالرَّحْمنِ بنِ أبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ: (لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ - رضي الله عنهم - فَقَالَ: أَلاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا(213/4)
صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).
عِبَادَ اللهِ المؤْمِنينَ:
إِنَّ الْحَديثَ عَنْ فَضَائِلِ آلِ البَيْتِ الطَّيِّبِينَ، حَدِيثٌ تَأْلَفُهُ الطِّبَاعُ؛ وَتَتَشَنَّفُ مِنْهُ الأَسْمَاعُ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَنْ نُحْصِيَ في هَذِهِ الكَلِمَاتِ مَا لآلِ البَيْتِ مِنَ الَفَضْلِ الْجَلِيِّ؛ وَالْقَدْرِ الْعَلِيِّ، ولَكِنْ حَسْبُنَا أَنْ نَسْتَحْضِرَ طَرَفاً مِنْ مَكَارِمِهِمُ الْمُتَكَاثِرَةِ؛ وأَنْ نَسْتَذْكِرَ نُتَفاً مِنْ مَنَاقِبِهِمُ الَْوَافِرَةِ.(213/5)
مِنْ ذَلِكَ مَعْشَرَ الْمُسَلِمِينَ: أَنَّ آلَ بَيْتِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الطَّاهِرِينَ، قَدْ بَلَغَ بِهِمُ البِرُّ وَالإِحْسَانُ بِأَبِيهِمْ خَاتَمِ الأَنْبيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ - صلى الله عليه وسلم -،إِلَى مَحَبَّةِ وَمَوَدَّةِ صَحَابَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ،لأنَّ آلَ البَيْتِ الأَتْقِيَاءَ،قَدْ عَلِمُوا أنَّ أَبَاهُمْ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ حَثَّ عَلَى بِرِّ الآبَاءِ، وَمِنْ صُوَرِ هَذَا الْبِرِّ مَحَبَّةُ وَمَودَّةُ صَحَابَتِهِ الأَوْفِيَاءِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ؛الْوَصِيَّةُ ِبهذَا الْأَدَبِ الْمُنِيفِ،كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فيِ صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللهِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ الله ِ - صلى الله عليه وسلم -يَقُولُ:"إِنَّ أَبَرَّ البِرِّ صِلَةُ الوَلَدِ أَهْلَ وِدِّ أَبِِيهِ" يَا مُحِبِّي الحَقِّ وَطُلابَهُ: اِعْلَمُوا هَدَانِي اللهُ وَإيَّاكُمُ السَّدَادَ وَالإِصابَةَ: أَنَّ الصِّلَةَ بَيْنَ الْقَرَابَةِ وَالصَّحَابَةِ، فِيهَا مَتَانَةٌ وَصَلابَةٌ، لأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالقَرَابَةِ، فَقَدْ رَعَى الصَّحَابَةُ وَاجِبَ الْقَرَابَةِ أَكْمَلَ الرِّعَايَةِ، وَاعْتَنَى الْقَرَابَةُ بِحُرْمَةِ الصَّحَابَةِ أَنْبَلَ الْعِنَايَةِ، وَهَذَا التَّعْظِيمُ وَالإِجْلاَلُ؛ خُلُقٌ مُتَبَادَلٌ بَيْنَ الصَّحْبِ وَالآلِ، فَكَما أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقْدُرُونَ القَرَابَةَ الْقَدْرَ الْعَلِيَّ، فَكَذَا كَانَ الْقَرَابَةُ يُجِلُّونَ الصَّحَابَةَ الإِجْلالَ الْجَلِيَّ، وخَيْرُ شَاهِدٍ يَدُلُّ عَلَى تَعَانُقِ الآلِ وَالأَصْحَابِ مُعَانَقَةَ الأَبْدَانِ لِلأَرْوَاحِ؛ وَقَدْ شَعَّ نُورُ شَمْسِهِ الْوَضَّاحُ: تَسْمِيَةُ أَبْنَائِهِمَا بأَسْمَاءِ بَعْضِهِمُ(213/6)
المِلاحِ، وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنَ النِّكَاحِ.
ففِي بَابِ الأَسْمَاءِ قَدْ بَلَغَتِ الْمَحَبَّةُ بَيْنَ القَرَابَةِ وَالصَّحَابَةِ أَسْنَى الْمَطَالِبِ، وَذَلِكَ يَتَجَلَّّى فِي تَسْمِيَةِ آلِ الْبَيْتِ بَعْضَ أَبْنَائِهِمُ السَّادَةِ النَّجَائِبِ، بِأََسْمَاءِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَوِي الْمَكْرُمَاتِ وَالْمَنَاقِبِ، كَمَا هُوَ مُثْبَتٌ فِي كُتُبِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ، فَأَرْعُونِي أَسْمَاعَكُمْ لِأُشَنِّفَهَا بِهَذِهِ التُّحْفَةِ اللَّطِيفَةِ، وَأُعَرِّفَهَا بِبَعْضِ أَغْصَانِ شَجَرَةِ النَّسَبِ الشَّرِيفَةِ، مِمَّنْ تَسَمَّى بِأَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ المُنِيفَةِ، وَباسْمِ صِدِّيقِهِمْ أَبي بَكْرٍ الْخَلِيفَةِ فَمِنْهُمْ: أَبوُبَكْرِ: بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ: بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ: بْنُ عَلِيٍّ زَيْنِ العَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ: بنُ مُوسَى الْكَاظِمِ ابْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْباقِرِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ اْلعَابِدِينَ، وَأَبُو بَكْرِ: بْنُ عَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ، وَغَيْرُهُمْ.(213/7)
فَلَوْ سَأَلْنَا آلَ البَيْتِ الكِرَامَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الذِي نَسَبْتُمْ إِلَيْهِ هَؤُلاءِ الأَعْلامَ؟لَقَالَ آلُ البَيْتِ الأَطْهَارُ: سُبْحَانَ اللهِ إنَّهُ أبو بَكْرٍ؛ الذيِ كَانَ مَعَ أَبِينَا مُحَمَّدٍ { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:40]، إنَّهُ أَبُو بَكْرٍ؛ الذِي وَاسَى أَبَانَا مُحمَّداً - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ إِقَامَتِهِ وَيَوْمَ ظَعْنِهِ فِي الأَسْفَارِ، إِنَّهُ أَبُو بكرٍ؛ الذِي زَوَّجَ أَبَانَا مُحمَّداً - صلى الله عليه وسلم - ابْنَتَهُ عَائِشَةَ فَلَمْ يَنْكِحْ غَيْرَهَا مِنَ الأَبْكَارِ، إِنَّهُ أبو بكرٍ؛ الذِي جَاوَرَ أَبانَا مُحمَّداً - صلى الله عليه وسلم - في قَبْرِهِ الذِي في الدَّارِ.
مَعْشَرَ الأَحْبَابِ:(213/8)
كَمَا أَنَّ مِنْ أَغْصَانِ شَجَرَةِ آلِ البَيْتِ الأَنْجَابِ، المُنْحَدِرِ نَسْلُهُمُ الطَّاهِرُ مِنْ عَلِيٍّ أبي التُّرَابِ، مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِ الفَارُوقِ عُمَرَ بِنِ الخَطَّابِ فَمِنْهُمْ: عُمَرُ: بنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعُمَرُ: بنُ الْحَسَنِ بنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعُمَرُ: بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعُمَرُ:بْنُ عََلِيٍّ زَيْنِ العَابِدِينَ بْنِ الحُسَيْنِ، وَعُمَرُ: بْنُ مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَغَيْرُهم، فَلَوْ سَأَلْنَا آلَ الْبَيْتِ الْأَطْهَارَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الذِي نَسَبْتُمْ إِلَيْهِ أَبْنَاءَكُمُ الْأَبْرَارَ؟ لَقَالَ آلُ البَيْتِ الْأَخْيَارُ: سُبْحَانَ اللهِ إنَّهُ عُمَرُ؛ الذِي أَعَزَّ اللهُ بِهِ دِينَ أَبِينَا مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ الْخَفَاءِ وَالاسْتِتَارِ، إِنَّهُ عُمَرُ؛ الذِي زَوَّجَ أَبَانَا مُحمَّداً - صلى الله عليه وسلم - ابْنَتَهُ حَفْصَةَ الصَّائِمَةَ القَائِمَةَ فِي الْأَسْحَارِ، إِنَّهُ عُمَرُ؛ الذِي زَوَّجَهُ أَبُونَا عَلِيٌّ ابنتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ طَاهِرَةَ اِلْإزَارِ، إِنَّه عُمَرُ؛ الذِي ظَفِر في مَضْجَعِهِ فِي القَبْرِ بِشَرَفِ الْجِوَارِ.
ويَا لَيْتَ شِعْرَ الشُّعَرَاءِ: مَنْ يُنْبِئُنَا بِمَنْ تَسَمَّى مِنْ آلِ الْبَيْتِ الْأتْقِيَاءِ، المْنُحَدِرِ نَسْلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الكِسَاءِ، بِأَسْماءِ بَعْضِ الصَّحَابِيَّاتِ اللاَّتِي كَمُلْنَ مِنَ النِّسَاءِ، إِنَّهُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نَبَأٌ عَظِيمٌ قَدْ سَطَّرَهُ يَرَاعُ الْعُلَمَاءِ، حِينَ ذَكَرُوا تَسَابُقَ آلِ البَيْتِ إِلَى التَّسَمِّي بِاسْمِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ الْمُبرَّأَةِ مِنَ السَّمَاءِ.(213/9)
فَمِنْهُنَّ: عَائِشَةُ: بنْتُ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مْحَمَّدٍ البَاقِرِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ العَابِدِينَ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَائِشَةُ: بنْتُ مُوسَى الكَاظِمِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَعَائِشَةُ: بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى الكَاظِمِ، وعَائِشَةُ: بنْتُ عَليٍّ الرِّضا بْنِ مُوسَى الكَاظِمِ، وَعَائِشَةُ: بِنْتُ عَلِيٍّ الْهَادِي بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوَادِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضا، وعَائِشَةُ: بِنْتُ مَحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْحَسنِ المُثَنَّى بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، وغيرُهُنَّ، ولَوْ سَأَلْنَا آلَ البَيْتِ الْأَبْرَارَ: مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الِتي نَسْبتُمْ إِلَيْها بَنَاتِكُمُ الطَّاهِراتِ ؟
لَقَالَ آلُ البَيْتِ الْأَخْيَارُ: سُبْحَانَ اللهِ إنَّها عَائِشَةُ؛ التي كَانَ يَتَعَاهَدُهَا بِالْهَدَايَا فِي لَيْلَتِهَا مِنْ أِبينَا مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - المُهَاجِرُونَ وَالْأََنْصَارُ، إنَّها عَائِشَةُ؛ التي أُنْزِلَ عَلَى أَبِينَا مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بَرَاءَتُهَا مِنَ اِلإِفْكِ وَطَهَارَتُهَا مِنَ الْعَارِ، إنَّها عَائِشَةُ؛ التي قُبِضَ أَبونا مُحمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - في لَيْلَتِها وفي حِجْرِها وكانَ يُمَرَّضُ عِنْدَها في الدَّارِ، إنَّها عائِشَةُ؛ التي أخْبَرَ أبونا مُحمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّها زَوْجُهُ في الدُّنيا وَفِي دَارِ القَرَارِ.
وَلاَ عَجَبَ إنَّهُ بِرُّ آلِ البَيْتِ الْأَطْهَارِ؛ وَهُمُ الْأَبْنَاءُ الصَّالِحُونَ الْأَبْرَارُ، بِأَصْحَابِ أَبِيهمُ المصْطَفَى المخْتَارِ، فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ هَلْ لِهَذَا الْبَيْتِ فِي الْفَضْلِ مِنْ مُنَافِسٍ فِي المِضْمَارِ؟
هُوَ وَاحِدُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ نِدٌّ وَلا حَتَّى الْقِيَامةِ يُوجَدُ(213/10)
فأَكْرِمْ ببَيْتٍ هَذَا آلُهُ!، وَببِرٍّ هَذَا مَآلُهُ!، { قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } { هود: 73 } .
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الفُرْقَانِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَوَفَّقَنَا لِلاِعْتِصَامِ بِهِ وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ النبيُّ الكَرِيمُ؛ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاَةِ وأَزْكَى التَّسْلِيمِ؛ مِنَ الْهَدْيِ الْقَوِيمِ؛ وَالصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الغَفُورَ الْحَلِيمَ، لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فَتُوبُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَدَدَ مَا تَرَطَّبَتِ الألْسُنُ بالثَّنَاءِ والدُّعَاءِ لآلِ البَيْتِ مِنْ فَجِّ قَلْبِهَا الْعَمِيقِ، وَالْحَمْدُ للهِ عَدَدَ مَا أَثْنَى الْمُثْنُونَ عَلَيْهِمْ وَسَأَلُوا لَهُمُ السَّدادَ وَالرَّشادَ وَالتوفيقَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ الْهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيلِ والطَّرِيقِ، وَأَشْهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّداً رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِنَا هُوَ بِالمؤْمِنينَ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ وَرَفِيقٌ، صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عليهِ وعَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عليهِمْ مِنْ آلِ بَيْتِهِ فكَانَ مِنْهُمُ الشَّهِيدُ وَالصَّالِحُ والصِّدِّيقُ.
أَمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكُمْ يَا أَهْلَ الإِيمَانِ؛ بِتَقْوَى المَنَّانِ، فَهِيَ مِنْ أَمَارَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ وَعَلامَاتِ الإِحْسَانِ.(213/11)
مَعْشَرَ الْمُحِبِّينَ؛ لآلِ البَيْتِ الطَّاهِرِينَ: سَبَقَتِ الإشَارَةُ إِلَى مَا وَقَعَ بَيْنَ الْقََرَابَةِ وَالصَّحَابَةِ مِنَ الأَسْمَاءِ، فَلْنُشِرْ إلَى مَا وَقَعَ بَيْنَهُما مِنَ الْمُصاهَرَةِ وَالأَبَنْاءِ، فَقَدْ زَوَّجَ عَلِيُّ بْنُ أِبي طَالِبٍ ابْنَهُ الحَسَنَ بِحَفْصَةَ بِنْتِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَزَوَّجَ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَوَلَدَتْ لَهْ زَيْداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَكَذَا زَوَّجَ عَلِيٌّ زَيْنُ العَابِدِينَ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ابْنَهُ مُحَمَّداً الْبَاقِرَ بِأُمِّ فَرْوَةَ بِنْتِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِيَ بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَوَلَدَتْ لَهُ جَعْفَرَ الصَّادِقَ - رضي الله عنهم - أَجْمَعِينَ، ولَوْ سأَلْنَا آلَ البَيْتِ الْأَطْهَارَ: مَا الذِي حَمَلَكُمْ عَلَى مُنَاكَحَةِ هَؤْلاءِ الأَصْهَارِ؟ لَقَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ أَوَ لَمْ يَقُلْ أَبُونَا المصْطَفَى المْخْتَارُ - صلى الله عليه وسلم -:"تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الأَكْفَاءَ وأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ"[أخرجَهُ ابنُ ماجَه مِنْ حديثِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها].(213/12)
فَمَا أَحْوَجَنَا مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الأَخْيَارِ؛ إلى قِرَاءَةِ تَارِيخِ أُمَّتِنَا المِعْطَارِ، لنَتَعَرَّفَ عَلَى المَحَبَّةِ وَالقَرَابَةِ بَيْنَ آلِ البَيْتِ الْأَطْهَارِ؛ وَبيْنَ الصَّحَابَةِ الأَبْرَارِ، لِتَلْهَجَ أَلْسِنَتُنَا بِقَوْلِ الْعَزِيزِ الغَفَّارِ: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ { } الحشر:10 } .(213/13)
اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحمدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيمَ وعَلَى آلِ إبراهيمَ، وبَارِكْ عَلَى محمدٍ وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ علَى إبراهيمَ وعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، في العَالَمِينَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ، وَارْضَ اللهمَّ عَنِ الأَرْبَعَةِ الخلَفاءِ الرَّاشِدِينَ؛ والأئِمَّةِ الحُنَفَاءِ المهْدِيِّينَ، أُولِي الفَضْلِ الْجَلِيِّ؛وَالقَدْرِ الْعَلِيِّ: أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ؛وعُمَرَ الفَارُوقِ؛وذِي النُّورَيْنِ: عُثمانَ؛وأبي السِّبْطَيْنِ: عَلِيٍّ، وَارْضَ اللهُمَّ عَنْ عَمَّيْ نَبِيِّكَ: حَمْزَةَ والْعَبَّاسِ،ورَيْحَانَتَيْهِ:الحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ الَجَّنَةِ بِلاَ الْتِبَاسٍ، وَآلِهِ وأزْوَاجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنَ الأرْجَاسِ، وصَحَابَتِهِ الصَّفْوَةِ الأَخْيارِ مِنَ النَّاسِ، اللّهُمَّ اغفِرْ لِلمسلمينَ وَالمسلماتِ؛ وَالمؤمنينَ وَالمؤمناتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ،اللهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، ما عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، ونَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كلِّهِ، عَاجِلِهِ وآجِلِهِ، ما عَلِمْنَا مِنْهُ ومَاَ لَمْ نَعْلَمْ، اللهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -،ونَعَوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ ونَبِيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الجنَّةَ وما قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أو عَمَلٍ، ونَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، ومَا قَرَّبَ إليْهَا من قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ،ونَسْأَلُكَ أنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْراً،اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي الوَطَنِ، وَادْفَعْ عَنَّا الفِتَنَ وَالْمِحَنَ؛ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ،اللَّهُمُّ وَفِّقْ وُلاةَ أُمُورِنَا لِحَمْلِ(213/14)
الأَمَانَةِ،وَارْزُقْهُمْ صَلاحَ البِطَانَةِ، وَاحْفَظْهُمْ مِنْ كَيْدِ أَهْلِ البَغْيِ وَالخِيَانَةِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَّا حَسَنةً؛وَفيِ الْآخِرَةِ حَسَنَةً؛ وَقَنِا عَذَابَ النَّارَ،وآخِرُ دَعْوَانا أنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
…… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(213/15)
اطبع هذه الصحفة
خير دينكم الورع
إخْوَةَ الإِسْلامِ:
إنَّ الوَرَعَ مَرَاتِبُ، والنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ، كَمَا يَتَفَاضَلُونَ فِي سَائِرِ شُعَبِ الإِيمانِ، وَإنَّما يَكُونُ الوَرَعُ مَرْضِيّاً مُسْتَسَاغاً مِمِّنِ اسْتَقَامَتْ نُفُوسُهُم بفِعْلِ الوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ المحْظُوراتِ، أمَّا مَنْ يَغْشَى الْكَبَائِرَ وَيُجاهِرُ بِهَا، ويُفَرِّطُ في الوَاجِبَاتِ أَوْ فِي بَعْضِها، ثُمَّ يَسْعَى لِتَرْكِ الشُّبُهَاتِ؛ فَهَذَا وَرَعُهُ زائِفٌ، وقَدْ رَوَى البخاريُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: كُنْتُ شَاهِداً لابْنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عَنْهما -وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ- فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ ?، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ ? يَقُولُ: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا».
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 23 من المحرم 1429هـ الموافق1/2/2008م
خَيْرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ
الحمْدُ للهِ المحْمُودِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، المتفَرِّدِ بالعِزِّ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، المبتَدِئِ بِالنِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا، والمتكفِّلِ للبَرِيَّةِ بأَرْزَاقِهَا قَبْلَ خَلْقِهَا؛ أحمدُهُ حَمْداً يُرْضِيهِ ويَدُلُّنا عَلَيْهِ، وَأَشْكُرُهُ شُكراً يُزَكِّينا لَدَيْهِ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنا محمّداً عبْدُ اللهِ ورسولُهُ؛ مِفْتَاحُ الرَّحْمَةِ، وخاتَمُ النُّبُوَّةِ، الأمِينُ فِيمَا اسْتُودِعَ، وَالصَّادِقُ فِيمَا بَلَّغَ، صلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ وسَلَّمَ تسْليماً كثيراً.(214/1)
أمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ - أيُّهَا النَّاسُ ونَفْسِي- بتقوَى اللهِ العظيمِ وحُسْنِ مُنَاجَاتِهِ، وإعْدَادِ العُدَّةِ لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُلاقَاتِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } { البقرة: 281 } .
أَيُّهَا المسْلِمُونَ:
الورَعُ في الدِّينِ مِنْ خِصَالِ المتَّقِينَ، وأَماراتِ القُرْبِ مِنْ رَبِّ العالَمِينَ، وهُوَ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ مُراقَبَةِ العَبْدِ لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، والورَعُ فِي أَصْلِهِ هُوَ الكَفُّ عَنِ الْمحَارِمِ وَالتَّحَرُّجُ مِنْها، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْكَفِّ عَنِ التَّوَسُّعِ في المُباحِ وَالْحَلالِ، لأنَّ الشَّأْنَ في ذَلِكَ التَّوَسُّعِ أَنْ يَجُرَّ إلى الوُقُوعِ فيما حَرَّمَ اللهُ؛ إذِ النَّفْسُ طَامِعَةٌ إذا أَطْمَعْتَهَا؛ عَنِ النُّعْمَانِ بنِ بَشيرٍ -رضِيَ اللهُ عَنْهما- قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ? يقولُ: «إنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبَهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألاَ وَإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً، ألاَ وَإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ»[أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ]،وعَنْ أنسٍ - رضي الله عنه -أنَّ النبيَّ ? وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ:«لَوْلاَ أنِّي أخَافُ أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا»[متفقٌ عَلَيْهِ].(214/2)
إنَّ هَذِهِ الخَصْلَةَ العَظِيمَةَ لا تَتِمُّ إلاّ لِمَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ، وكَبَحَ جِمَاحَها عَنِ الاسْتِرْسَالِ في اللَّذَّاتِ وَالشَّهَّوَاتِ، وقَدْ يَكُونُ مَبْدَأُ الأَمْرِ حَلالاً مُباَحاً، ثُمَّ لا يَزَالُ الشَّيْطَانُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يُوقِعَهُ في مَا حَرَّمَ اللهُ تعالَى، وقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ? أنَّه قالَ: «لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَراً لِمَا بِهِ الْبَأْسُ» حسَّنَهُ التِّرمذيُّ، وكانَ النَّبيُّ ? يُوصِي بِهِ مَنْ يُحِبُّ مِنْ أصحابِهِ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ،وَكُنْ قَنِعاً تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً،وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً» [رواهُ ابنُ ماجَه].
إخْوَةَ الإِسْلامِ:(214/3)
إنَّ الوَرَعَ مَرَاتِبُ، والنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ، كَمَا يَتَفَاضَلُونَ فِي سَائِرِ شُعَبِ الإِيمانِ، وَإنَّما يَكُونُ الوَرَعُ مَرْضِيّاً مُسْتَسَاغاً مِمِّنِ اسْتَقَامَتْ نُفُوسُهُم بفِعْلِ الوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ المحْظُوراتِ، أمَّا مَنْ يَغْشَى الْكَبَائِرَ وَيُجاهِرُ بِهَا، ويُفَرِّطُ في الوَاجِبَاتِ أَوْ فِي بَعْضِها، ثُمَّ يَسْعَى لِتَرْكِ الشُّبُهَاتِ؛ فَهَذَا وَرَعُهُ زائِفٌ، وقَدْ رَوَى البخاريُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: كُنْتُ شَاهِداً لابْنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عَنْهما -وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ- فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ ?، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ ? يَقُولُ: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا».
وسَأَلَ رَجُلٌ بِشْرَ بنَ الحارِثِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ زوجةٌ، وأمُّهُ تأمرُهُ بطَلاقِهَا؛ فقالَ: «إنْ كانَ بَرَّ أُمَّهُ في كُلِّ شَيْءٍ ولم يَبْقَ مِنْ بِرِّها إلاَّ طلاقُ زَوْجَتِهِ فَلْيَفْعَلْ، وإنْ كانَ بَرَّها بطلاقِ زَوْجَتِهِ، ثُمَّ يَقوُمُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أُمِّهِ فَيَضْرِبُهَا! فلا يَفْعَلْ».
أَيُّها الْمُسْلِمُونَ:(214/4)
كَانَ الصَّالِحُونَ مِمَّنْ مَضَوْا يتوَرَّعُونَ عَمَّا اشتَبَهَ عَلَيْهِمْ أمْرُهُ، حتَّى صَارَ شِعَاراً لَهُمْ فِي سُلُوكِهِمْ، وغَدَا مِنْ أَسْهَلِ الأَمُورِ عَلَيْهِمْ، قالَ العُمَرِيُّ الزَّاهِدُ-رَحِمَهُ اللهُ-:«إذا كَانَ الْعَبْدُ وَرِعاً تَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لا يَرِيبُهُ»، وقَالَ هِشَامُ بنُ حَسَّانٍ - رحمهُ اللهُ-: «تَرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَرْبَعِينَ أَلْفاً فِيمَا لا تَرَوْنَ بِهِ الْيَوْمَ بَأْسَاً»، وكانَ إبراهيمُ بنُ أَدْهَمَ -رحمهُ اللهُ- كَبِيرَ الشَّأْنِ في بَابِ الوَرَعِ، قالَ: «أَطِبْ مَطْعَمَكَ، وَلا حَرَجَ عَلَيْكَ أَنْ لا تَقُومَ اللَّيْلَ وَلاَ تَصُومَ النَّهَارَ» يَعْنِي: النَّافِلَةَ، وقالَ أحدُ الصَّالِحينَ: «عَلامَةُ التَّقْوَى: الْوَرَعُ، وعَلامَةُ الوَرَعِ: الوقوفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ»، وقالَ بِشْرُ بْنُ الحَارِثِ-رحمهُ اللهُ-: «أشَدُّ الأعمالِ ثلاثَةٌ: الْجُودُ فِي القِلَّةِ، وَالوَرَعُ في الخَلْوَةِ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ يُخافُ مِنْهُ ويُرْجَى».
عبادَ اللهِ:
إنَّ سُلُوكَ الوَرَعِ يَحْتَاجُ مِنَ الْعَبْدِ إلَى فِقْهٍ عَظيمٍ في دَلالاتِ النُّصُوصِ وَالأَحْوَالِ؛ فَلَيْسَ مِنَ الوَرَعِ تَرْكُ مَا تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ فِي تَرْكِهِ أَعْظَمَ مِنْ فِعْلِهِ، ولَيْسَ مِنَ الْوَرَعِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَبْدُ شَيئاً مَشْكُوكاً فِيهِ فَيتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ وُقُوعُهُ فِي مُنْكَرٍ مُتَحَقَّقٍ.(214/5)
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رحمهُ اللهُ-: «وتَمَامُ الوَرَعِ أَنْ يَعْلَمَ الإِنْسَانُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وشَرَّ الشَّرَّيْنِ, ويَعْلَمَ أنَّ الشَّريعَةَ مَبْناها علَى تَحْصِيل الْمصالِح وتَكْمِيلِها، وتَعْطِيلِ المفاسِدِ وتَقْلِيلِها، وإلاَّ فمَنْ لَمْ يُوازِنْ ما في الفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالمفْسَدَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَقَدْ يَدَعُ وَاجِباتٍ َويَفْعَلُ مُحَرَّماتٍ، ويَرَى ذلِكَ مِنَ الوَرَعِ» انتهَى كلامُهُ -رحمهُ اللهُ-.(214/6)
إنَّ مِنْ قِلَّةِ الفِقْهِ في الوَرَعِ أَنْ يَكُونَ المرءُ شَدِيدَ التَّوَرُّعِ في بَابِ الأَمْوَالِ، مُتَسَاهِلاً في بَابِ الدِّمَاءِ أَوِ الأَعْرَاضِ أَوِ الْعَكْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ وَرِعاً في أُمُورِ الدُّنْيا مُضَيِّعاً لِلْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ فَقِهَ الصَّحَابَةُ - رضي الله عنهم - هَذَا البَابَ وَالْتَزَمُوا بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ: كَانَ لأبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - غُلامٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ و«الخَرَاجُ»: شَيْءٌ يَجْعَلُهُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ يُؤدِّيهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَباقِي كَسْبِهِ يَكُونُ لِلْعَبْدِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْماً بِشَيءٍ فَأكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلامُ: تَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بكرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الكَهَانَةَ، إِلاَّنَّي خَدَعْتُهُ؛ فَلَقِيَنِي فَأعْطَانِي لِذلِكَ هَذَا الَّذِي أكَلْتَ مِنْهُ، فَأدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ.[رواهُ البخاريُّ]، وكذَلِكَ أُثِرَ عَنِ الْفَارُوقِ - رضي الله عنه - مِنْ صُوَرِ الْوَرَعِ مَا تَقِفُ عِنْدَهُ الأَنْفَاسُ إجْلالاً وإكْباراً؛ فَعَنْ نَافِعٍ -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - "كَانَ فَرَضَ لِلمُهَاجِرينَ الأَوَّلِينَ أرْبَعَةَ آلافٍ، وَفَرَضَ لابْنِهِ ثَلاثَةَ آلافٍ وَخَمْسَمائةٍ، فَقيلَ لَهُ: هُوَ مِنَ المُهَاجِرينَ فَلِمَ نَقَصْتَهُ؟ فَقَالَ: إنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أبُوهُ. يقولُ: لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ".[رواهُ البخاريُّ].
إِخْوَةَ الإِسْلامِ:(214/7)
إنَّ الوَرَعَ يَدْخُلُ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِ الشَّرْعِ؛ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاتِ وَالأَخْلاقِ، وَمَظَاهِرُهُ لا تَكَادُ تَنْحَصِرُ، ومَنْ رَبَّى نَفْسَهُ عَلَى مُرَاعَاتِهِ كَانَ فِيه سَجِيَّةً وخُلُقاً، ونَجَا مِنْ رِقَّةِ الدِّينِ وَآفَةِ التَّفْرِيطِ.
بَارَكَ اللهُ لي وَلَكُمْ في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثّانية
الحمْدُ للهِ الذِي شَرَحَ صُدُورَ الوَرِعِينَ لِلسُّنَّةِ فانْقَادُوا لاتِّبَاعِهَا، وَأَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ العالِمُ بِانْقِيَادِ الأَفْئِدَةِ وَامْتِنَاعِها، المُطَّلِعِ عَلَى ضَمَائِرِ الْقُلوُبِ فِي افْتِرَاقِهَا وَاجْتِمَاعِهَا، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الذِي انْخَفَضَتْ بِهِ كَلِمَةُ الْبَاطِلِ بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ مَا دَامَتِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ في سُمُوِّهَا وَاتِّسَاعِهَا، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الذينَ حَفِظُوا أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ وَأَحْوَالَهُ حَتَّى أَمِنَتْ بِهِمُ السُّنَنُ الشَّرِيفَةُ مِنْ ضَيَاعِهَا.
أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، واعْلَمُوا أنَّ كُلَّ عَبْدٍ مُلاقٍ مَوْلاهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:(214/8)
عَنْ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَباً وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ؛ فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ? شَيْئاً؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ:«مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ فَقَالُوا: أَوْصِنَا. فَقَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَأْكُلَ إِلاَّ طَيِّباً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْطَاعَ أَنْ لا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ» [رواهُ البخاريُّ]، وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أنَّ هذِهِ الْمَعَالِمَ فِي طَرِيقِ الوَرَعِ الصَّادِقِ إِنِ اتَّبَعْتُمُوهَا أَفْلَحْتُمْ، وَإِنِ اهْتَدَيْتُم بِهَدْيِهَا زَكَتْ نُفُوسُكُمْ وَنَجَحْتُمْ.
ثُمَّ صَلُّوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، فَقَدْ قَالَ رَبُّكُمْ جَلَّ وَعَلا، ومَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } .(214/9)
اللهمَّ اغِْفرْ لِلْمُسْلِِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ؛ إنَّكَ يَا مَوْلانَا سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، اللهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّناَ فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ، اللهمَّ وَفِّقْ أمِيرَنَا وَوَليَّ عَهْدِهِ لِهُداكَ، واجْعَلْ عمَلَهُمَا في رِضَاكَ، اللَّهمَّ احْفَظْهُمَا بِحِفْظِكَ، واكْلَأْهُمَا بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثَوْبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذاَ الْجَلالِ والإكْرَامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شُهَدَاءَنا وشُهَدَاءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالَمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(214/10)
اطبع هذه الصحفة
فاعلم أنه لا إله إلا الله
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ:
وَكَلِمَةُ التُّوْحِيدِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، وَأَسَاسُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، فَمَنْ قَالَهَا بِإخْلاصٍ وَيَقِينٍ وَعَمِلَ بِهَا لَمْ يُوَازِهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يُدَانِ فَضْلَهَا فَضْلٌ؛ فَعَنْ عبدِاللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ رضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إنَّ نَبيَّ اللهِ نُوحاً - صلى الله عليه وسلم - لمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قالَ لابْنِهِ إنِّي قاصٌّ علَيْكَ الوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وأنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بِلا إِلهَ إلاَّ اللهُ؛ فإنَّ السَمَواتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ في كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ في كِفَّةٍ رَجَحَتْ بهِنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، ولَوْ أنَّ السَمَواتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلَقَةً مُبْهَمَةً[أيْ مُغْلَقَةً]قَصَمَتْهُنَّ[أيْ كَسَرَتْهُنَّ] لا إِلهَ إلاَّ اللهُ، وسُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فَإنَّها صَلاةُ كُلِّ شَيءٍ، وبها يُرْزَقُ الخَلْقُ. وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ[أخرجَهُ أحمدُ]. وَقَدْ أُمِرَ
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ1صفر 1429هـ الموافق 8/2/2008م
فاعلم أنه لا إله إلا الله
الْحَمْدُ لِلهِ الذِي شَهِدَتْ لَهُ بالرُّبُوبِيَّةِ كُلُّ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَقَرَّتْ لَهُ بِإلَهِيَّتِهِ جَمِيعُ مَصْنُوعَاتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَبِيهَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلا أَفْعَالِهِ وَلا صِفَاتِهِ؛ سُبْحَانَهُ لا فَوْزَ إِلاَّ فِي طَاعَتِهِ، وَلا عِزَّ إِلاَّ فِي التَّذَلُّلِ لِعَظَمَتِهِ، وَلا غِنَى إِلاَّ فِي الافْتِقَارِ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ.(215/1)
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ رُسُلِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَسَفِيرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ؛ فَفَتَحَ بِهِ أَعْيُناً عُمْياً، وَآذَاناً صُمّاً ، وَقُلُوباً غُلْفاً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيدًا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ الذِي خَلَقَكُمْ لِتَوْحِيدِهِ، وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِهِ وَتَمْجِيدِهِ، وكَتَبَ الْعِزَّ لأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَالذُّلَّ عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ. قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { البقرة: 21 } .
أَيُّهَا الْمُوَحِّدُونَ:(215/2)
إِنَّ كَلِمَةَ (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) هِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ، قَامَتْ بِهَا الأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ، وَخُلِقَتْ لأَجْلِهَا الْمَخْلُوقَاتُ، وَبِهَا أَرْسَلَ اللهُ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَأَحَلَّ الْحَلالَ وَحَرَّمَ الْحَرامَ، وَلأَجْلِهَا نُصِبَتِ الْمَوَازِينُ،وَوُضِعَتِ الدَّوَاوِينُ، وَقَامَ سُوقُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَبِهَا انْقَسَمَتِ الْخَلِيقَةُ إِلَى مُؤْمِنِينَ وَكُفَّارٍ، وَأَبْرَارٍ وَفُجَّارٍ، وَبِهَا تَعَلَّقَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَعَنْ حُقُوقِهَا سَيَكُونُ السُّؤَالُ وَالْحِسَابُ، وَلأَجْلِهَا جُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ، وَهِيَ حَقُّ اللهِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، مَنْ عَلِمَ مَعْنَاهَا وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا كُتِبَ لَهُ الأَمْنُ وَهُوَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَكَانَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاَسِرِينَ. هِيَ الْعُرْوَةُ الوُثْقَى التِي قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ { البقرة: 256 } ، كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ رَحِمَهُمَا اللهُ. وَهِيَ الْقَوْلُ الثَّابتُ الذِي ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بالْقَوْلِ الثَّابتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ { } إبراهيم: 27 } .(215/3)
وَهِيَ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ التِي ضَرَبَهَا اللهُ مَثَلاً فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } { إبراهيم: 24 } .
وَهِيَ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْخَلْقِ، وَأَوَّلُ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ـ { اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } { الأعراف: 65 } . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُعَاذاً إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى"[رواهُ البخاريُّ].
إِخْوَةَ الإِسْلاَمِ:(215/4)
( لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَخَيْرُ مَا قَالَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَفِي الْحَدِيثِ:"خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي:لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الُْملْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [رَوَاهُ التِّرْمِذِيٌّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا]. فَلا يَثْقُلُ مَعَهَا شَيْءٌ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِاللهِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤوُسِ الْخَلائِقِ، فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئاً؟ فَيَقُولُ: لا يَارَبِّ! فَيَقُولُ: أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لا. ثُمَّ يَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ؟ أَلَكَ حَسَنَةٌ؟ فَيُهَابُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لا. فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ، وَإنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ فَيَقُولُ:يَارَبِّ! مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟! فَيَقُولُ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ"[رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَاللَّفْظُ لَهُ].
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ:(215/5)
وَكَلِمَةُ التُّوْحِيدِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، وَأَسَاسُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، فَمَنْ قَالَهَا بِإخْلاصٍ وَيَقِينٍ وَعَمِلَ بِهَا لَمْ يُوَازِهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يُدَانِ فَضْلَهَا فَضْلٌ؛ فَعَنْ عبدِاللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ رضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إنَّ نَبيَّ اللهِ نُوحاً - صلى الله عليه وسلم - لمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قالَ لابْنِهِ إنِّي قاصٌّ علَيْكَ الوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وأنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بِلا إِلهَ إلاَّ اللهُ؛ فإنَّ السَمَواتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ في كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ في كِفَّةٍ رَجَحَتْ بهِنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، ولَوْ أنَّ السَمَواتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلَقَةً مُبْهَمَةً[أيْ مُغْلَقَةً]قَصَمَتْهُنَّ[أيْ كَسَرَتْهُنَّ] لا إِلهَ إلاَّ اللهُ، وسُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فَإنَّها صَلاةُ كُلِّ شَيءٍ، وبها يُرْزَقُ الخَلْقُ. وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ[أخرجَهُ أحمدُ]. وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَيُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَصَمَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَيُقيِمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلوُا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ"[رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَلِلهِ دَرُّ كَلِمَةِ(215/6)
التَّوْحِيدِ فَكَمْ أَخْرَجَتْ أَقْوَاماً مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ إِلَى أَنْوَارِ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلهِ وَحْدَهُ، وَكَمْ أَحْسَنَتْ خَوَاتِيمَ أَقْوَامٍ مَاتُوا عَلَيْهَا، فَعَنْ مُعُاذٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"مَنَ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إلا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ"[رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ] .
بَارَكَ اللهُ لي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بهَدْيِ النَّبيِّ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلهِ الذِي خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، وَشَرَحَ صُدُورَ الْمُوَحِّدِينَ لِمَعْرِفَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ؛ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِطَاعَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ نَطَقَ بالشَّهَادَتَيْنِ وَدَعَا إِلَى مِلَّتِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ؛ الذِينَ دَعَوْا بِدَعْوَتِهِ وَحَكَمُوا بشَرِيعَتِهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ الذِي خَلَقَكُمْ، وَبيَّنَ لَكُمْ سَبِيلَ التَّوْحِيدِ فَاسْلُكُوهُ، وَحَذَّرَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ فَاجْتَنِبُوهُ.
عِبَادَ اللهِ:(215/7)
لَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ سَبيلاً إِلَى الْجِنَانِ، وَسَبَبًا مُخَلَِّصًا مِنَ النِّيرَانِ؛ وَلَنْ يَسْتَقِيمَ حَالُ عَبْدٍ إِلاَّ إِذَا نَطَقَ بهَا عَالِماً مَعْنَاهَا؛ عَامِلاً بِمُقْتَضَاهَا؛ وَقَدْ قِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَلَيْسَ لا إِلَهَ إِلا اللهُ مِفْتَاحاً لِلْجَنَّةِ ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فَتَحَ لَكَ، وَإِلاَّ لَمْ يَفْتَحْ لَكَ.
وَلِكَيْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِفْتَاحًا لِلْجِنَانِ؛ فَلابُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ شُرُوطِهَا التِي هِيَ بمَنْزِلَةِ أَسْنَانِ المِْفْتَاحِ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ:
الْعِلْمُ بِمَعْنَاهَا: أَيْ لاَ مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ الآلِهَةِ وَإِنْ عُبِدَتْ فَعِبَادَتُهَا بَاطِلَةٌ، قاَلَ اللهُ تَعَالَى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } { محمد:19 } ، وَعَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ"[رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَمِنْهَا: الْيَقِينُ الْمُنَافِي لِلشَّكِّ، إِذْ لابُدَّ مِنَ الْيَقِينِ الْجَازِمِ فَلا تَنْفَعُ مَعَ الشَّكِّ وَالظَّنِّ وَالتَّرَدُّدِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } { الحجرات: 15 } .(215/8)
وَمِنْهَا: الْقَبُولُ لِمَا اقْتَضَتْهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَمَنْ رَدَّهَا وَلَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ كَافِرًا، وَمِنْهَا: الانْقِيَادُ التَّامُّ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ. قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا { } النساء 65 } .
وَمِنْهَا: الصِّدْقُ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ صِدْقًا مُنَافِياً لِلْكَذِبِ والنِّفَاقِ؛ لأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَهَا، وَلَكِنْ لَمْ يُطَابِقْ هَذَا الْقَوْلُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ؛ كَمَا قَالَ اللهُ عَنْهُمْ: { يَقُولُونَ بأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } { الفتح: 11 } . وَعَنْ مُعَاذٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"ما مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صِدْقاً مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ" [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَمِنْهَا: الْمَحَبَّةُ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُحِِبَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَيُحِبَّ الْعَمَلَ بِمَا تَقْتَضِيهِ، وَيُحِبَّ أَهْلَهَا وَيُوَالِيَهُمْ وَيُعَادِيَ مَنْ يُعَادِيهِمْ.
وَخَاتَمِةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ: الإِخْلاصُ، وَمَعْنَاهُ:صِدْقُ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَخِلْيصُ النِّيَّةِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ.قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } { البينة: 5 } .
فَمَا أَعْظَمَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ!. وَمَا أَجَلَّ قَدْرَهَا!، وَأَعْظَمَ أَثَرَهَا وَنَفْعَهَا!، وَمَنْ أَرَادَ الفَوْزَ وَالنَّجَاةَ فَلْيَعْمَلْ لهَا وَلْيُحافِظْ عَلَيْهَا.(215/9)
اللهمَّ رَبَّنا أَحْيِنَا عَلَى لا إِلهَ إلاَّ اللهُ، وأَمِتْنَا عَلَيْها، وَاجْمَعْنَا بِأَهْلِهَا في دارِ كَرامَتِكَ ومُسْتَقَرِّ رَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنيِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ يا مَوْلانا سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، اللهمَّ أعِزَّ الإسْلامَ وَالمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمشْرِكينَ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَ الدِّينَ. اللهمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنا في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيا وعَذَابِ الآخِرَةِ، اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووليَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عمَلَهُمَا في رِضَاكَ، اللَّهمَّ احْفَظْهُمَاِ بحفْظِكَ، وَاكْلأْهُمَا برِعَايَتِكَ، وأَلْبسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ والعَافِيَةِ والإيَمانِ، ياذَا الْجَلاَلِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئنّاً سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلاَدِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شُهَدَاءَنَا وشهَدَاءَ المُسْلِمِينَ أجمعينَ، وآخِرُ دَعْوَانا أنِ الحمدُ للهِ رَبَّ العالَمِينَ.
…………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(215/10)
اطبع هذه الصحفة
من وصايا حكيم الأمة
مَعْشَرَ المُعْتَبِرِينَ؛ بِوَصَايَا السَّالفِيِنَ:
إِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْماَلِ، فالسَّعِيدُ مَنْ شَغَلَهُ مَالُهُ فِي صَالِحِ الْمَآلِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَغَلَهُ مَالُهُ عَنْ صَالِح الأَعْمَالِ، فَقَدْ قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ تَفْرِقَةِ الْقَلْبِ. قِيلَ: وَمَا تَفْرِقَةُ الْقَلْبِ؟ فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: أن يُجْعَلَ لِي في كُلِّ وَادٍ مَالٌ)، فَكَثْرَةُ الأَمْوَالِ مُشَتِّتَةٌ لِلقُلُوبِ، وَمُوجِبَةٌ لِلْحِسَابِ بَيْنَ يَدَيْ عَلاَّمِ الْغُيُوبِ، وَهَلِ الْمَالُ إِلاَّ مَا هُوَ مَأْكُولٌ وَمَشْرُوبٌ؟ وَمَا هُوَ مَلْبُوسٌ وَمَرْكُوبٌ؟ كَمَا قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (أَهْلُ الأَمْوَالِ يَأْكُلُونَ وَنَأْكُلُ، وَيَشْرَبُونَ وَنَشْرَبُ، وَيَلْبَسُونَ وَنَلْبَسُ، وَيَرْكَبُونَ وَنَرْكَبُ، وَلَهُمْ فُضُولُ أَمْوَالٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا؛ وَنَنْظُرُ إِلَيْهَا مَعَهُمْ، وَحِسَابُهُمْ عَلْيَها؛ وَنَحُنُ مِنْهَا بُرَآءُ)، وَمَاذاَ يَنْفَعُكَ كَثْرَةُ مَالِكَ إِنْ كُنْتَ جَمَّاعاً هَلُوعاً، فَإِذَا سُئِلْتَ نَفَقَةً كُنْتَ شَحِيحاً مَنُوعاً، لِذَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (وَيْلٌ لِكُلِّ جَمَّاعٍ، فَاغِرٍ فَاهُ كَأنَّهُ مَجْنُونٌ، يَرَى مَا عِنْدَ النَّاسِ؛ وَلاَ يَرَى مَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَوْ يَسْتَطِيعُ لَوَصَلَ اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ، وَيْلَهُ مِنْ حِسَابٍ غَليِظٍ؛ وَعَذابٍ شَدِيدٍ).
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 8 من صفر 1429هـ الموافق15/2/2008م
من وصايا حكيم الأُمَّة(216/1)
الْحَمْدُ لِلهِ الذِي غَرَسَ أَشْجَارَ الحِكْمَةِ فِي قُلُوبِ السَّلَفِ فَاجْتَنَى مِنْ ثَمرَةِ وَصَايَاهُمْ مَاصَفَا مِنْهَا وَرَاقَ، أَحْمَدُ رَبِّي حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ مُوقِناً أَنَّ حَمْدَهُ غَايَةٌ لاَ تَبْلُغُهَا مَحَامِدُ الْحَامِدِينَ وَلاَ تُطَاقُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً تُبَرِّئُ مُعْتَقِدَهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَأِشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ الذِي اخْتَرَقَ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ السَّبْعَ الطِّبَاقَ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَصْحَابِهِ الذِينَ صَدَقَتْ لَهُمْ فِي مُتَابَعَةِ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - الْمَحبَّةُ وَالأَشْوَاقُ، صَلاةً وَسَلاَماً عَدَدَ مَا خُطَّتْ وَصَايَا السَّلَفِ عَلَى الأَوْرَاقِ، فاتَّعَظَتْ بِهَا النُّفُوسُ فَأَرْسَلَتْ عَلَى الْخُدُودِ سَوَاكِبَ الأَحْدَاقِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، فَتَقْوَاهُ خَيْرُ زَادٍ لِيَوْمِ التَّلاقِ، وَاحْذَرُوا سَخَطَهُ وَاطَّرِحُوا رِبْقَ مَعْصِيَتِهِ مِنَ الأَعْنَاقِ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } { الأحزاب: 70-71 } .(216/2)
اعْلَمُوا رَحِمَنِي اللهُ وَإيَّاكُمْ أنَّ مِمَّا يُرَقِّقُ الطَِّبَاعَ؛ فَيَعِظُ الْقُلُوبَ ويُشَنِّفُ الأَسْمَاعَ؛ وَيَدْعُو أَصْحَابَهَا إِلَى الاتِّبَاعِ: مَا جَاءَ فِي وَصَايَا السَّلَفِ؛ التِي هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاعِظِ التُّحَفِ، وَحَسْبُنَا مِنْ وَصَايَا السَّلَفِ التِي تُعْلِي الهِمَّةَ: وَصَايَا وَمَوَاعِظُ حَكِيمِ هَذِهِ الأَُمَّةِ: الذي هوَ أوَّلُ قُضَاةِ الشَّامِ، وَصَدْرُ قُرَّائِهَا الأَعْلاَمِ، وَخَيرٌ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ الْعِظَامِ: حُسْنُ صَحَابَتِهِ لِخَيْرِ الأَنَامِ؛ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاَةِ وَأَزْكَى السَّلاَمِ، إِنَّهُ عَامِرٌ الأَنْصَارِيُّ المُلَقَّبُ بِعُوَيْمِر،ٍ أَحَدُ رِجَالاَتِ الْخَزْرَجِ الفُضَلاَءِ، الْمعْرُوفُ وَالمُشْتَهِرُ بِكُنْيَتِهِ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -، فَدُونَكُمْ هَذِهِ الوَصَايَا وَالْمَوَاعِظَ وَالحِكَمَ الزَّاخِرَةَ؛ التِي تُصْلِحُ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا شُؤُونَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
عِبَادَ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ:(216/3)
مَنْ رَامَ مِِنْكُمُ الإِمَامَةَ فِي الدِّينِ، فَعَلَيْهِ بِإزَارِ الصَّبْرِ، وَرِدَاءِ الْيَقِينِ، وَثَمَرَةُ الصَّبْرِ الرِّضَا بِالأَحْكَامِ، وَثَمْرَةُ الْيَقِينِ الإِخْلاَصُ مَعَ الاِسْتِسْلاَمِ، وَقَدْ قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -:(ذُرْوَةُ الإِيمَانِ: الصَّبْرُ لِلْحُكْمِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ، وَالإِخْلاَصُ لِلتَّوَكُّلِ، وَالاِسْتِسْلاَمُ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ)، وَمَنْ حُرِمَ الاتِّباعَ في الْعَمَلِ: كَانَ هَوَاهُ قَائِدَهُ إِلَى الزَّلَلِ، لِذَا قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (إِذَا أَصْبَحَ الرَّجُلُ: اجْتَمَعَ هَوَاهُ وَعَمَلُهُ، فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ تَابِعاً لِهَوَاهُ: فَيَوْمُهُ يَوْمُ سُوءٍ، وَإِنْ كَانَ هَوَاهُ تَبَعاً لِعَمَلِهِ: فَيَوْمُهُ يَوْمٌ صَالِحٌ)، فَمَا ابْتُلِيَ عَبْدٌ بِمُتَابَعَةِ هَوَاهُ: إِلاَّ أَبْغَضَهُ رَبُّهُ وَمَوْلاَهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كَتَبَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ الأَنْصَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، فَقَالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ، أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ: أَبْغَضَهُ اللهُ، فَإِذَا أَبْغَضَهُ اللهُ: بَغَّضَهُ إِلَى عِبَادِهِ)، فَإِنَّ الْعِبَادَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى صِلَةٌ وَلاَ نَسَبٌ؛ إِلاَّ مَا قَدَّمُوهُ لأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍٍ وَلَنِعْمَ السَّبَبُ، كَمَا قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُسُ: مُرَّ بِالسَّبْيِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - فَبَكَى، فَقُلْتُ لَهُ: تَبْكِي فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الذِي أَعَزَّ اللهُ فِيهِ الإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ؟ فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: يَا(216/4)
جُبَيْرُ؛ بَيْنَا هَذِهِ الأُمَّةُ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ إِذْ عَصَوُا اللهَ؛ فَلَقُوا مَا تَرَى، مَا أَهْوَنَ الْعِبَادَ عَلَى اللهِ إِذَا هُمْ عَصَوْهُ).
مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ:
إِنَّ خَيْرَ وَصِيَّةٍ لِلسَّابِقِينَ وَاللاَّحِقِينَ: الْوَصِيَّةُ بِالْخَشْيَةِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلاَ سَبِيلَ إِلَى الْخَشْيَةِ إِلاَّ بِالفِقْهِ فِي الدِّينِ، فَاحْرِصْ عَلَى أَنْ تَكُونَ مِنَ المُتَعَلِّمِينَ، فَإِنَّ المُتعَلِّمَ شَرِيكٌ فِي أَجُورِ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، لِذَا قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (مَالِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ، وَجُهَّالَكُمْ لاَ يَتَعَلَّمُونَ، تَعَلَّمُوا فَإِنَّ الْعَالِمَ وَالمُتَعَلِّمَ شَرِيكَانِ فِي الأَجْرِ).(216/5)
وَاحْرِصْ يَا مَنْ أَكْرَمَكَ اللهَ تَعَالَى بِالْعِلْمِ بِالشَّرْعِ: عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَحَطْتَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ النَّفْعِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (لَنْ تَكُونَ عَالِماً حَتَّى تَكُونَ مُتَعَلِّماً، وَلاَ تَكُونُ مُتعَلِّماً حَتَّى تَكُونَ بِمَا عَلِمْتَ عَامِلاً، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ إِذَا وَقَفْتُ لِلْحِسَابِ أَنْ يُقَالَ لِي: مَا عَمِلْتَ فِيَما عَلِمْتَ)، فَتَرْكُ المُتَعَلِّمِ لِلْعَمَلِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ: أَسْوَأُ حَالاً مِمَّنْ طَوَّقَتْهُ رُسُومُ الْجَهْلِ الْوَضِيعَةُ، كَمَا قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (وَيْلٌ لِلذي لاَ يَعْلَمُ مَرَّةً، وَوَيْلٌ لِلذِي يَعْلَمُ وَلاَ يَعْمَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ)، وَذَلِكَ أنَّ الْعَالِمَ بِالْفَرَائِضِ الآمِرَةِ وَالزَّاجِرَةِ: سَتَرْقُبُهُ عَيْنُ السُّؤاَلِ الْبَاصِرَةُ، لِذاَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَعَلِمْتَ أَمْ جَهِلْتَ؟ فَإِنْ قُلْتُ: عَلِمْتُ؛ لاَ تَبْقَى آيَةٌ آمِرَةٌ أَوْ زَاجِرَةٌ إلاَّ أُخِذْتُ بِفَرِيضَتِهَا الآمِرَةِ: هَلِ ائْتَمَرْتَ؟ وَالزَّاجِرَةِ: هَلِ ازْدَجَرْتَ؟ فَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَنَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ).(216/6)
لِذاَ كَانَتْ مَسْؤُولِيَّةُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ عَظِيمَةً، وَمَسْؤُولِيَّةُ الأُمَّةِ تِجَاهَهُمْ جَسِيمَةً، فَلا َيُحِبُّ الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ إِلاَّ أَصْحَابُ الْقُلُوُبِ السَّلِيمَةِ، وَلا يُبْغِضُهُمْ وَيَنْتَقِصُهُمْ إِلاَّ أَصْحَابُ الْقُلُوبِ السَّقِيمَةِ، فَقَدْ قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (اطْلُبُوا الْعِلْمَ، فَإِنْ عَجَزْتُمْ: فَأَحِبُّوا أَهْلَهُ، فَإِنْ لَمْ تُحِبُّوهُمْ: فَلاَ تُبْغِضُوهُمْ)، فَالْعَامِلُ بِعِلْمِهِ مَعَ نَوْمِهِ وَإِفْطَارِهِ: رُبَّمَا سَبَقَ الْجَاهِلَ الْعَابِدَ مَعَ اغْتِرَارِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (يَا حَبَّذَا نَوْمُ الأَكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ، كَيْفَ يَغْبِنُونَ سَهَرَ الْحَمْقَى وَصَوْمَهُمْ، وَمِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ بِرٍّ مَعَ تَقْوَى وَدِينٍ: أَعْظَمُ وأَفْضَلُ وَأَرْجَحُ مِنْ أَمْثَالِ الْجِبَالِ مِنْ عِبَادَةِ المُغْتَرِّينَ).
مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الْفُضَلاَءِ:
هَلْ سَأَلَ أَحَدُنَا نَفْسَهُ مَا الذِي يُحَبِّبُهُ فِي طُولِ الْبَقَاءِ؟ فَاسْمَعْ رَحِمَكَ اللهُ تَعَالَى مَا ذَكَرُهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ؛ فَقَدْ قَالَ - رضي الله عنه -: (لَوْلاَ ثَلاَثٌ مَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ: سَاعَةُ ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَالسُّجُودُ فِي اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ جَيِّدَ الْكَلاَمِ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ).
فَذَكَرَ - رضي الله عنه - مِنْ جُمْلَةِ مَا يُحَبِّبُهُ فِي الْبَقَاءِ:(216/7)
مُجَالَسَةَ الطَّيِّبِينَ مِن الأَخِلاَّءِ الأَتْقِيَاءِ الأَنْقِيَاءِ، الذِينَ لا يُشْرِكُونَكَ فِي إِثْمِ الْغِيبَةِ وَلاَ النَّمِيمَةِ، وَلاَ يُفْلِسُونَكَ مِمَّا اكْتَسَبْتَهُ مِنَ الأُجُورِ الْعَظِيمَةِ، بِخِلاَفِ مَنْ إِذَا وَلَّيْتَ مَجْلِسَهُ وَلَكَ إِدْبَارٌ وَإِعْرَاضٌ، انْتَهَكَ حُرْمَتَكَ وَقَرَضَ عِرْضَكَ بِكُلِّ مِقْرَاضٍ، لِذَا قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَرَقاً لاَ شَوْكَ فِيهِ، فَأَصْبَحُوا شَوْكاً لاَ وَرَقَةَ فِيهِ، إِنْ نَقَدْتَهُمْ نَقَدُوكَ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ لاَ يَتْرُكُوكَ. قِيلَ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ فَقَالَ أَبوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: تُقْرِضُهُمْ مِنْ عِرْضِكَ؛ لِيَوْمِ فَقْرِكَ)، وَهَؤُلاَءِ لاَ حِيلَةَ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِهِمْ إِلاَّ بمُدَاراتِهِمْ إذَا لَقِيَهُمْ فِي الْمَجَالِسِ وَالدُّرُوبِ، وَيَجْعَلُ بُغْضَ أَفْعَالِهِمْ وَكَرَاهِيَةَ أَقْوَالِهِمْ وَاسْتِنْكَافَ أَحْوَالِهِمْ فِي الْقُلُوبِ، كَمَا قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (إِنَّا لنُكَشِّرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ؛ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ)، فَاحْمَدِ اللهَ تَعَالَى عَلَى مُعَافَاتِكَ وَلاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمينَ، فإنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَلاَ تَأْمَنْ أَنْ يُعَافِيَهُ اللهُ تَعَالَى وَيَبْتَلِيَكَ ولَوْ بَعْدَ حِينٍ، فَقَدْ قَالَ أَبُوقُلاَبَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى: (إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَصَابَ ذَنْباً، فَكَانُوا يَسُبُّونَهُ، فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَجَدُّتُموُه فِي قَلِيبٍ؛ أَلَمْ تَكُونُوا مُسْتَخْرِجِيهِ؟ قَالُوا: بَلَى. فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: فَلاَ تَسُبُّوا أَخَاكُمْ، وَاحْمَدُوا اللهَ(216/8)
عَزَّ وَجَلَّ الذِي عَافَاكُمْ. قَالُوا: أَفَلاَ تُبْغِضُهُ؟ فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: إِنَّمَا أُبْغِضُ عَمَلَهُ، فَإِذَا تَرَكَهُ: فَهُوَ أَخِي).
مَعْشَرَ المُعْتَبِرِينَ؛ بِوَصَايَا السَّالفِيِنَ:
إِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْماَلِ، فالسَّعِيدُ مَنْ شَغَلَهُ مَالُهُ فِي صَالِحِ الْمَآلِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَغَلَهُ مَالُهُ عَنْ صَالِح الأَعْمَالِ، فَقَدْ قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ تَفْرِقَةِ الْقَلْبِ. قِيلَ: وَمَا تَفْرِقَةُ الْقَلْبِ؟ فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: أن يُجْعَلَ لِي في كُلِّ وَادٍ مَالٌ)، فَكَثْرَةُ الأَمْوَالِ مُشَتِّتَةٌ لِلقُلُوبِ، وَمُوجِبَةٌ لِلْحِسَابِ بَيْنَ يَدَيْ عَلاَّمِ الْغُيُوبِ، وَهَلِ الْمَالُ إِلاَّ مَا هُوَ مَأْكُولٌ وَمَشْرُوبٌ؟ وَمَا هُوَ مَلْبُوسٌ وَمَرْكُوبٌ؟ كَمَا قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (أَهْلُ الأَمْوَالِ يَأْكُلُونَ وَنَأْكُلُ، وَيَشْرَبُونَ وَنَشْرَبُ، وَيَلْبَسُونَ وَنَلْبَسُ، وَيَرْكَبُونَ وَنَرْكَبُ، وَلَهُمْ فُضُولُ أَمْوَالٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا؛ وَنَنْظُرُ إِلَيْهَا مَعَهُمْ، وَحِسَابُهُمْ عَلْيَها؛ وَنَحُنُ مِنْهَا بُرَآءُ)، وَمَاذاَ يَنْفَعُكَ كَثْرَةُ مَالِكَ إِنْ كُنْتَ جَمَّاعاً هَلُوعاً، فَإِذَا سُئِلْتَ نَفَقَةً كُنْتَ شَحِيحاً مَنُوعاً، لِذَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (وَيْلٌ لِكُلِّ جَمَّاعٍ، فَاغِرٍ فَاهُ كَأنَّهُ مَجْنُونٌ، يَرَى مَا عِنْدَ النَّاسِ؛ وَلاَ يَرَى مَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَوْ يَسْتَطِيعُ لَوَصَلَ اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ، وَيْلَهُ مِنْ حِسَابٍ غَليِظٍ؛ وَعَذابٍ شَدِيدٍ).
مَعْشَرَ الْعِبَادِ:(216/9)
هَلْ تَفَكَّرَ أَحَدُكُمْ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ الآبَاءُ وَالأَجْدَادُ؟ هَلْ أَحْضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَوْتَ وَاسْتَعَدَّ لِيَوْمِ الْمَعادِ؟ فَقَدْ قَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - فَقَالَ: أَوْصِنِي. فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: اذْكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّرَّاءِ: يَذْكُرْكَ فِي الضَّرَّاءِ، وَإِذَا ذَكَرْتَ الْمَوْتَى: فَاجْعَلْ نَفْسَكَ كَأَحَدِهِمْ، وَإِذَا أَشْرَفَتْ نَفْسُكَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا: فَانْظُرْ إِلَى مَا يَصِيرُ).(216/10)
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُعِينُكَ عَلَى هَوْلِ مَا سَتَلْقَاهُ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ تَعَالَى كَأنَّكَ تَرَاهُ، كَمَا قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (اعْبُدِ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي الْمَوْتَى، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَلِيلاً يُغْنِيكَ: خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُلْهِيكَ، وَأَنَّ البِرَّ لاَ يَبْلَى، وَأَنَّ الإِثْمَ لاَ يُنْسَى)، وَتَذَكَّرْ أَنَّ انْخِرَامَ يَوْمِكَ وَانْصِرَامَ شَهْرِكَ: مِعْوَلٌ لِنَقْضِ حَيَاتِكَ وَهَدْمِ عُمْرِكَ، لِذَا قَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (ابْنَ آدَمَ؛ طَأِ الأَرْضَ بِقَدَمِكَ، فَإِنَّهَا عَنْ قَلِيلٍ تَكُونُ قَبْرَكَ، ابْنَ آدمَ؛ إِنَّمَا أَنْتَ أيَّامٌ، فَكُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ: ذَهَبَ بَعْضُكَ، ابْنَ آدَمَ؛ إِنَّكَ لَمْ تَزَلْ فِي هَدْمِ عُمْرِكَ مِنْ يَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ)،وَاعْتَبِرْ بِمَنْ تَفَلَّتَتْ مِنْ أَجْسَادِهِمُ الأَرْوَاحُ،وأَكْثِرْ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مِنَ الغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، فَقَدْ قَالَ شُرَحْبِيلُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(إِنَّ أبَا الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -كَانَ إِذاَ رَأى جَنَازَةً قَالَ:اغْدُوا فَإِنَّا رَائِحُونَ، وَرُوحُوا فَإِنَّا غَادُونَ، مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ،وَغَفْلَةٌ سَرِيعَةٌ،كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظِاً،يَذْهَبُ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ،وَيَبْقَى الآخِرُ، لاَ حِلْمَ لَهُ).(216/11)
فَمَنْ أَوْدَعَ قَلْبَهُ تَذَكُّرَ الْمَوْتِ وَالْمآلِ: لَمْ يَغْتَرَّ وَيَفْرَحْ بِكَثْرَةِ الأَعْمَالِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ شُعْبَةٌ لِحَسَدِ أَحَدٍ عَلَى حُسْنِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ أبوُالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -:(مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ: قلَّ فَرَحُهُ، وَقَلَّ حَسَدُهُ)، فهذِهِ الوَصَايَا المأْثُورَةُ عَنِ الصَّحابِيِّ الحَكِيمِ، وَالْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الخَيْرِ العَمِيمِ: هِيَ مِصْدَاقُ قَوْلِ الرَّسولِ الكَرِيمِ؛ عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وأزْكَى التَّسلِيمِ:"خَيْرُ أُمَّتِي: القَرْنُ الذِينَ يَلُونِي، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ"[أخرجَه مُسلمٌ في صحيحِهِ مِنْ حَديثِ عبدِاللهِ بنِ مَسْعودٍ - رضي الله عنه -]، فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً اعْتَبَرَ وَادَّكَرَ بهذِهِ المواعِظِ والوَصَايَا، فَتابَ إلى رَبِّهِ وَاستغفَرَهُ مِمَّا اقْتَرَفَهُ مِنَ الخَطايَا.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ الذِي جَذَبَ قُلُوبَ العِبَادِ إِلَى وَصَايَا السَّلَفِ التِي زُيِّنَ جِيدُهَا بِأَنْفَسِ الْقَلائِدِ، أَحْمَدُ رَبِّي حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبارَكاً فِيهِ وَلاَ يُحْصِي حَامِدٌ حُسْنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بَجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً أُسِّسَتْ عَلَيْهَا قَوَاعِدُ الْعَقَائِدِ، وَأَشْهَدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ الذِي كَمَّلَ اللهُ تَعَالَى خَلْقَهُ وخُلُقَهُ بِالْفَضَائِلِ الزَّوَائِدِ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وأَصْحَابِهِ الذِينَ كَابَدُوا في مَحَبَّتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ الشَّدَائِدَ.(216/12)
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِالتَّقْوَى فَهِيَ خَيْرُ الْعَوَائِدِ، فَمَا اسْتَفَادَ عَبْدٌ كَالتَّقْوَى فَهِيَ أَفْضَلُ الْفَوَائِدِ.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء - رضي الله عنه -:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ وَيَأْبَى اللهُُ إِلاَّ مَا أَرَادَا
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللهِ أَفْضَلُ ما اسْتَفَادَا
عبادَ اللهِ المُؤْمِنينَ:
فَنِعْمَ الرَّاعِي لِرَعِيَّتِهِ النَّاصِحُ الأَمِينُ، فَإِنَّ الرَّعِيَّةَ تَنْتَفِعُ بِنُصْحِهِ وَأَمَانَتِهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، فَقَدْ قَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لأَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: (إِنَ احْتَجْتُ بَعْدَكَ: أَآكُلُ الصَّدَقَةَ؟ فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: لاَ، اعْمَلِي وَكُلِي. فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:فَإِنْ ضَعُفْتُ عَنِ الْعَمَلِ؟ فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: التَقِطِي السُّنْبُلَ؛ وَلاَ تَأْكُلِي الصَّدَقَةَ)، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ بَهَذِهِ المَثَابَةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ تُغْتَبَطُ بالمُجَاوَرَةِ لَهُ وَحُسْنِ الصَّحَابَةِ، لِذَا قَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (اللّهُمَّ إنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ خَطَبَنِي فَتَزَوَّجَنِي فِي الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ فَأَنَا أَخْطُبُهُ إِلَيْكَ؛ فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُزُوِّجَنِيهِ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ أَبُوالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -: فَإِنْ أَرَدْتِ ذَلِكَ؛ وَكُنْتُ أَنَا الأَوَّلَ: فَلاَ تَزَوَّجِي بَعْدِي).(216/13)
قَالَ لُقْمَانُ بْنُ عَامِرٍ رَحَمِهُ اللهُ تَعَالَى: (فَمَاتَ أَبوُالدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه -، وَكَانَ لأُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا جَمَالٌ وَحُسْنٌ؛ فَخَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ - رضي الله عنه -، فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: لاَ، وَاللهِ مَا أَتَزَوَّجُ زَوْجاً فِي الدُّنْيَا؛ حَتَّى أَتَزَوَّجَ أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ)، فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى وَصَايَا السَّلَفِ السَّابِقِينَ، التِي تُهَذِّبُ أَخْلاَقَنَا وَتُثَبِّتُ فِي قُلُوبِنَا الدِّينَ، { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ { } الحشر:10 } .
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ،اللَّهُمَّ كُنْ لَنَا مُؤَيِّداً، وَلاَ تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَداً، وَقَنِّعْنَا مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَهَوِّنْ عَلَيْنا كُلَّ أَمْرٍ عَسِيرٍ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ ضِيقٍ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ مَخْرَجاً، اللَّهُمَّ اجْمَعْ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَوَفِّقْ وُلاَةَ أُمُورِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، واجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنَاً مُطْمَئِنّاً سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(216/14)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(216/15)
اطبع هذه الصحفة
الوحدة والتماسك
إِخْوَةَ الْعَقِيدَةِ:
إِنَّ الْوَحْدَةَ أُمْنِيَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَمَقْصِدُ كُلِّ مُخْلِصٍ، وَغَايَةٌ نَبِيلَةٌ لاَ تَشُوبُهَا شَائِبَةٌ، يَسْعَى لَهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ؛ وَهِيَ مَحَطُّ أَنْظَارِ الْمُخْلِصِينَ، وَإَنَّ أُمَّتَنَا لَتَمْلِكُ مِنْ أَسْبَابِ الْوَحْدَةِ وَعَوَامِلِ الْقُوَّةِ مَالاَ تَمْلِكُهُ أُمَّةٌ سِوَاهَا، فَيَنْبَغِِي أَنْ نُعَمِّقَ هَذِهِ الأَسْبَابَ فِي قُلُوبِنَا، وَنُرَسِّخَهَا فِي نُفُوسِنَا؛ لِتَسْتَمِرَّ لَنا النِّعْمَةُ، وَتَكْمُلَ لَنَا الْمِنَّةُ، وَأَعْظَمُ مَا يُحَقِّقُ لَنَا وَحْدَتَنَا أَنْ نُعَمِّقَ الإحْسَاسَ بِالأُصُولِ الإِيمَانِيَّةِ إِحْسَاسًا يُخَالِطُ شِغَافَ الْقُلُوبِ، وَيُرْضِي عَلاَّمَ الْغُيُوبِ؛ إِذْ إنَّنَا نَجْتَمِعُ عَلَى أُصُولِ الإيمانِ الِتي أَنْبَتَهَا الإِسْلاَمُ نَبَاتًا حَسَنًا؛ قَالَ اللهُ تعالَى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } { البقرة: 285 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 15 من صفر1429هـ الموافق 22/2/2008م
الوحدة والتماسك(217/1)
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْداً يَمْلأُ أَقْطَارَ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلائِهِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ،كَتَبَ الْعِزَّةَ لأَوْليَائِهِ،وَالذِّلَّةَ عَلَى أَعْدَائِهِ،وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُاللهِ وَرَسُولُهُ وَخَاتِمُ أَنْبِيَائِهِ،أَعَزَّ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ،وَكَثَّرَ بِهِ بَعْدَ القِلَّةِ،وَكَانَ الْقُدْوَةَ الْمُثْلَى لِعِبَادِ اللهِ وَأَصْفِيَائِهِ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبْهِ الذِينَ اعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيراً إلَى يَوْمِ لِقَائِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ الذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينوُا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ فَهُوَ أَهْلُ الشُّكْرِ وَالْغُفْرَانِ، { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } { المائدة: } 2 .
إِخْوَةَ الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ:(217/2)
مَا مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ إِلاَّ وَتَطْمَحُ لِنَيْلِ الْمَعَالِي وَالَْمجْدِ، وَتَرْنُو إِلَى مَدَارِجِ الْعِزِّ وَالسُّؤْدَدِ، تَبْذُلُ قُصَارَى جُهْدِهَا، وَتُقَدِّمُ أَرْوَاحَهَا وَأَمْوَالَهاَ أَثْمَانَا بَاهِظَةً لِتُحَقِّقَ أُمْنِيَاتِهَا، وَتَصِلَ إِلَى تَطَلُّعَاتِهَا فِي الوَحْدَةِ وَالتَّماسُكِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّكَاتُفِ، وَلَقَدْ كَانَتْ أُمَّةُ الإسْلامِ مِثَالاً يُحْتَذَى، وَأَمَلاً يُرْتَجَى؛ لِكُلِّ شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ التِي تَرْغَبُ فِي الْعَيْشِ الْكَرِيمِ، وَتَسْمُو إِلَى تَحْقِيقِ أَهْدَافِهَا فِي الْحَضَارَةِ وَالْبِنَاءِ، إِذْ كَانَتْ أُمَّةُ الإسْلامِ مُتَمَسِّكَةً بِكِتَابِ رَبِّهَا، وَمُقْتَفِيَةً هَدْيَ نَبِيِّهَا عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، قَامَتْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، وَأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، وَصِدْقٍ فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ، وَإِخْلاَصٍ فِي النِّيَّاتِ. انْضَوَى تَحْتَ رَايَتِهَا الرُّومِيُّ وَالْحَبَشِيُّ، وَتَآخَى، في ظِلاَلِهَا الْعَرَبِيُّ وَالْفَارِسِيُّ؛ مُسْتَجِِيبِينَ لأَمْرِ رَبِّهِمْ عَزِّ وَجَلَّ: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { آل عمران:103 } ، لَقَدْ عَاشُوا كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا تَأَلَّمَ مِنْهُ عُضْوٌ تَأَلَّمَ لأَلَمِهِ سَائِرُ الأَعْضَاءِ؛ كَأَنَّهُمْ جُمِعُوا عَلَى أَتْقَى رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:(217/3)
تِلْكَ صُورَةٌ رَائِعَةٌ مِنْ صُوَرِ مُجْتَمَعِ الإِسْلامِ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ أَشَدُّ مَا نَكُونُ حَاجَةً إِلَى تَمَثُّلِ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ الرَّبَّانِيِّ، وَالاقْتِدَاءِ بِهِ في الْوَحْدَةِ وَالتَّآلُفِ، وَالتَّمَاسُكِ وَالتَّكَاتُفِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْفُرْقَةِ وَالاخْتِلاَفِ، وَنَبْذِ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ وَالنِّزَاعِ التِي تَذْهَبُ بِريِحِنَا، وَتُوهِنُ عَزِيمَتَنَا، وَتَنَالُ مِنْ قُوَّتِنَا.إِنَّنَا نَنْطَلِقُ فِي وَحْدَتِنَا مِنْ تَوْحِيدِ خَالِقِنَا جَلَّ فِي عُلاَهُ كَمَا قَالَ رَبُّنا عَزَّ وجَلَّ: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } { البقرة: 163 } ، وَمِنْ إِيمَانِنَا بِرَسُولِنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } { الفتح: 29 } ، وَمِنْ وَحْدَةِ إِسْلاَمِنَا الذِي رَضِيَهُ اللهُ دِينًا لِلْعَالَمِينَ، وَلاَ يَقْبَلُ مِنْ بَعْدِهِ دِيناً سِوَاهُ مِنَ المَخْلُوقِينَ: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين } { آل عمران: 85 } .(217/4)
وَمِنْ كِتَابِ رَبِّنَا نَسْتَمِدُّ وَحْدَتَنَا الإِيَمانِيَّةَ، وَنَسْتَنْهِضُ قُوَّتَنَا الإِسْلامِيَّةَ وَأَيُّ كِتَابٍ أَعْظَمُ مِنَ الْقُرْآنِ الذِي يَدْعُو إِلَى أَعْدَلِ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَالاِعْتِقَادَاتِ: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا { الإسراء: 9 } ، وَالْكَعْبَةُ الْمُشَرَّفَةُ - قِبْلَتُنَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا- رَمْزٌ لِوَحْدَتِنَا وَعُنْوَانٌ لِقُوَّتِنَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } { البقرة: 144 } .
وَللهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
كُونُوا جَمِيعاً يا بَنِيَّ إِذَا اعْتَرَى خَطْبٌ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا أَفْرَادَا
تَأْبَى الرِّمَاحُ إِذَا اجْتَمَعْنَ تَكَسُّرًا وَإِذَا افْتَرَقْنَ تَكَسَّرَتْ آحَادَا
إِخْوَةَ الْعَقِيدَةِ:(217/5)
إِنَّ الْوَحْدَةَ أُمْنِيَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَمَقْصِدُ كُلِّ مُخْلِصٍ، وَغَايَةٌ نَبِيلَةٌ لاَ تَشُوبُهَا شَائِبَةٌ، يَسْعَى لَهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ؛ وَهِيَ مَحَطُّ أَنْظَارِ الْمُخْلِصِينَ، وَإَنَّ أُمَّتَنَا لَتَمْلِكُ مِنْ أَسْبَابِ الْوَحْدَةِ وَعَوَامِلِ الْقُوَّةِ مَالاَ تَمْلِكُهُ أُمَّةٌ سِوَاهَا، فَيَنْبَغِِي أَنْ نُعَمِّقَ هَذِهِ الأَسْبَابَ فِي قُلُوبِنَا، وَنُرَسِّخَهَا فِي نُفُوسِنَا؛ لِتَسْتَمِرَّ لَنا النِّعْمَةُ، وَتَكْمُلَ لَنَا الْمِنَّةُ، وَأَعْظَمُ مَا يُحَقِّقُ لَنَا وَحْدَتَنَا أَنْ نُعَمِّقَ الإحْسَاسَ بِالأُصُولِ الإِيمَانِيَّةِ إِحْسَاسًا يُخَالِطُ شِغَافَ الْقُلُوبِ، وَيُرْضِي عَلاَّمَ الْغُيُوبِ؛ إِذْ إنَّنَا نَجْتَمِعُ عَلَى أُصُولِ الإيمانِ الِتي أَنْبَتَهَا الإِسْلاَمُ نَبَاتًا حَسَنًا؛ قَالَ اللهُ تعالَى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } { البقرة: 285 } . وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ عَنِ الإِيمَانِ قَالَ:"أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"[رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -].(217/6)
وَلَيْسَ ثَمَّةَ أُسُسٌ لَلْوَحْدَةِ أَقْوَى مِنْ هَذِهِ الأُسُسِ الإِيمانِيَّةِ، وَلا تُوجَدُ رَوَابِطُ أَمْتَنُ مِنْ هَذِهِ الرَّوَابِطِ الإِسْلامِيَّةِ. وَمِمَّا يُعَمِّقُ الشُّعُورَ بِضَرُورَةِ الْوَحْدَةِ وَأَهَمِّيَّتِهَا: الْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ صَفَاءِ الْقُلُوبِ، وَتَوْحِيدِ الْمَشَاعِرِ، وَسِيَادَةِ مَبْدَأِ الْحُبِّ وَالتَّفَاهُمِ وَالائْتِلاَفِ؛ عَلَى الْكَرَاهِيةِ وَالتَّنَاحُرِ وَالاخْتِلاَفِ. وَإِنَّ الإِسْلاَمَ الذِي جَمَعَ شَتَاتَ الْقُلُوُبِ بِالأَمْسِ، وَجَبَلَ الْمَشَاعِرَ وَصَهَرَ الرَّوَابِطَ فِي بُوتَقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَطْفَأَ نَارَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْحُرُوبِ بَيْنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ؛ لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُوَحِّدَ قُلُوبَنَا وَمَشَاعِرَنَا الْيَوْمَ؛ لِنَكُونَ مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُؤمِنِينَ الذِينَ عَاشُوا كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ: إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَبِغَيْرِ الْحُبِّ وَالتَّآلُفِ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ لَنْ تَجْتَمِعَ الْقُلُوبُ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ، وَلَنْ يَكْمُلَ إِيمَانُ الْعَبْدِ إِلاَّ إِذَا أَحَبَّ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِثْلَ مَا يِحُبُّ لِنَفْسِهِ، فَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -قالَ:"لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"[متفقٌ علَيْهِ].
مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ:(217/7)
إِنَّ التَّآزُرَ وَالتَّنَاصُرَ مِنْ أَقْوَى ثِمَارِ الوَحْدَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ وَالأُخُوَّةِ الإِيَمانِيَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ بِهَا الْحُبُّ وَالإِيثَارُ وَالتَّرَاحُمُ وَالتَّعَاطُفُ بَيْنَ أَفْرَادِ الشَّعْبِ الْوَاحِدِ. وَتَأَمَّلُوا مَا كَانَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ مِنْ مَحَبَّةٍ وَإِيثَارٍ؛ حَيْثُ يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي ذلِكَ: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { الحشر:8-9 } .
فَالْمُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، وَالْمُؤْمِنُ يَشُدُّ أَزْرَ أَخِيهِ الْمْؤمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، فَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَان يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً"وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ"[مُتْفَقٌ عَلَيْهِ].(217/8)
وَلِكَيْ تَبْقَى ظِلاَلُ الْوَحْدَةِ وَارِفَةً فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَرَفَّعَ عَنِ النِّزَاعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ، وَنَتَعَالَى عَلَى الْخِلافَاتِ، فَوَحْدَةُ الأُصُولِ الإِسْلاِميَّةِ وَالأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ فَوْقَ كُلِّ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ شَخْصِيَّةٍ. وَقَدْ حَذَّرَنَا رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الْخِلافِ؛ لأِنَّهُ يُوهِنُ عَزْمَ الأُمَّةِ وَلاَ يَأْتِي بِخْيرٍ، قَالَ سُبْحَانَهُ: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { آل عمران:105 } وبيَّنَ لَنَا أَنَّ التَّنَازُعَ يُذْهِبُ الْقُوَّةَ، وَيُفَتِّتُ الْوَحْدَةَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } { الأنفال: 46 } . بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الْقَوْمِ الظَّالِميِنَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شِرِيكَ لَهُ؛ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:(217/9)
فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْصُرُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، وَيُغِيثُ مَنْ نَادَاهُ، وَيُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ.
أَيُّهَا الْمسُّلِمُونَ:
اعْلَمُوا أَنَّ وَحْدَةَ الأُمَّةِ أَمَانَةُ فِي أَعْنَاقِنَا، وَنَحْنُ مَسْؤُولُونَ عَنْهَا أَمَامَ اللهِ: أَحَفِظْنَا أَمْ ضَيَّعْنَا ؟ فَعَلَيْنَا أَنْ نَعْمَلَ بِجِدٍّ وَصِدْقٍ، وَإِخْلاَصٍ وَمُثَابَرَةٍ؛ لِنَعيِشَ الإِيمَانَ الذِي لاَ يَعْرِفُ التَّرَدُّدَ، وَالْوَحْدَةَ التِي لاَ تَعْرِفُ التَّفَرُّقَ، والشُّورَى التيِ لاَ يُخَالِطُهَا اسْتِبْدَادٌ، وَالتَّضَامُنَ الذِي لاَ تُلاَمِسُهُ أَثَرَةٌ، لِنَتَعَاوَنْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَنَتَنَاهَ عَنِ الإِثْمِ وَالْمُنْكَرِ وَالْعُدْوَانِ، وَلْنَكُنْ يَداً عَلَى مَنْ سِوَانَا: دِينُنَا الإِسْلاَمُ، وَمَنْهَجُنَا الْقُرْآنُ، وَقُدْوَتُنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلْتَكُنْ آمَالُنَا مُشْتَرَكَةً، وَآلاَمُنَا مُقْتَسَمَةً. لِيَعْطِفْ فِينَا الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَلَيَنْصُرِ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، وَلْيَرْحَمْ كَبِيرُنَا صَغِيرَنَا، وَلْيُوَقِّرْ صَغِيرُنَا كَبِيرَنَا، وَلْنَجْتَمِعْ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ وَنَنْبُذْ مَا دُونَهاَ مِنَ الْبَاطِلِ؛ لِتَجْمَعَنا أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ، وَتَرْبُطَنا رَابِطَةُ الرَّحِمِ وَالْقَرَابَةِ، وَتَقُودَنَا الأَخْلاَقُ الْكَرِيمَةُ، { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } { الأنبياء:92 } ، وَقَالَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم -:"إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثاً وَيسْخَطَ لَكُمْ ثَلاثاً: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ(217/10)
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاَّهُ اللهُ َأمْرَكُمْ . وَيَسْخَطُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ". [ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ واللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -] وَفيِ الاجْتِمَاعِ الْبَرَكَةُ، وَفِي التَّفَرُّقِ الضَّعْفُ وَالْخُذْلاَنُ، وَيَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ: شَذَّ فِي النَّارِ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ،اللَّهُمَّ كُنْ لَنَا مُؤَيِّداً، وَلاَ تَجْعَلْ لِفَاجِرٍعَلَيْنَا يَداً، وَقَنِّعْنَا مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَهَوِّنْ عَلَيْنا كُلَّ أَمْرٍ عَسِيرٍ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ ضِيقٍ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ مَخْرَجاً، اللَّهُمَّ اجْمَعْ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَوَفِّقْ وُلاَةَ أُمُورِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، واجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنَاً مُطْمَئِنّاً سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(217/11)
اطبع هذه الصحفة
الإيمان باليوم الآخر وأثرة في حياة المسلم
إن مشيئة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن تكون للإنسان حياة من دارين: دار امتحان وبلاء ودار حساب وجزاء، فجعل الحياة الدنيا دار ممر، والحياة الأخرى دار مقر، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] فالحياة الدائمة والحياة الحقة هي الحياة الآخرة أما الحياة الدنيا فإنها طالت أو قصرت ليست بدار خلود، كل ما فيها إلى فناء {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}[الرحمن: 26 . 27].
والإيمان باليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور، وسؤال وحساب، وثواب وعقاب،وجنة ونار، ركن من أركان الإيمان، له أثره في حياة المؤمن واستقامة سلوكه لأنه يعلم يقيناً أنه لا عاصم له من أمر الله في يوم الدين {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88, 89].
الإيمان باليوم الآخر وأثرة في حياة المسلم(218/1)
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، سبحانه سوف يجمع الخلائق للحساب على ما اقترفوا في حياتهم الدنيا قولاً وفعلاً، له الخلق والأمر، لا نحصى ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، إلهاً قادراً وحكماً عدلاً، أحصى كل شئ عدداً وسبق في علمه ما كان وما يكون، وأمره سبحانه بين الكاف والنون إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخليله نبي الهداية ورسول الرحمة، أرسله ربه بالهدى ودين الحق، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم صراطاً مستقيماً.
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
إن مشيئة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن تكون للإنسان حياة من دارين: دار امتحان وبلاء ودار حساب وجزاء، فجعل الحياة الدنيا دار ممر، والحياة الأخرى دار مقر، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] فالحياة الدائمة والحياة الحقة هي الحياة الآخرة أما الحياة الدنيا فإنها طالت أو قصرت ليست بدار خلود، كل ما فيها إلى فناء {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}[الرحمن: 26 . 27].(218/2)
والإيمان باليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور، وسؤال وحساب، وثواب وعقاب،وجنة ونار، ركن من أركان الإيمان، له أثره في حياة المؤمن واستقامة سلوكه لأنه يعلم يقيناً أنه لا عاصم له من أمر الله في يوم الدين {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88, 89].
( 2 )
وأن كل إنسان محاسب على جميع ما قدم في هذه الحياة الدنيا {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}
[الإسراء: 13, 14] ولن تغيب صغيرة ولا كبيرة عن الحساب مصداقاً لقول الله تعالى:
{وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
ولذلك كان إنكار المشركين والملاحدة قديماً وحديثاً لليوم الآخر سبيلاً إلى التحلل من التكاليف والالتزامات الأخلاقية، وتكأة لارتكاب المحرمات وقالوا {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37].
أيها المسلمون:(218/3)
إن أصحاب المذاهب الإلحادية في العصور الحديثة يذهبون أيضاً إلى إنكار البعث والنشور والحياة الآخرة، ولذلك فقد أطلقوا لأنفسهم العنان لارتكاب المحرمات، واصطنعوا لأنفسهم قانوناً أخلاقياً يبيح لهم كل ما تصبوا إليه أنفسهم من الشهوات، وما يرتكبونه من مظالم، فما دامت الدنيا هي كل رحلة الإنسان في حياته فلماذا يلزم نفسه بأحكام وتشريعات وآداب وأخلاق ومثل عليا؟، ولماذا يبذل ويضحي؟ ونحن نرى ونسمع عن تجمعات ومؤتمرات تضم قيادات عالمية مرموقة تجتمع وتنفض من أجل تحطيم القوانين الأخلاقية التي تحرم ما يخالف الفطرة الإنسانية الربانية التي فطر الله الناس عليها، فيدعون إلى إباحة الزنا وإنجاب الأبناء غير الشرعيين وتبديل ما شرع الله من الحلال والحرام تحت حجج واهية ودعاوي لا أساس لها ولا سند من عقل أو دين.
فالله تعالى يقول في محكم كتابه بياناً لحدود الله في تشريع الحلال والحرام {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وحينما تنادي هؤلاء المشركين والملاحدة بهذا الخطاب الرباني فإنهم يقولون قولتهم الباطلة: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وذلك لكي ينفلتوا من الحسيب والرقيب، ويوهمون أنفسهم أنهم الفائزون بما حصلوا عليه من متاع الحياة الدنيا في حين أنهم في غيهم يعمهون { وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 74].
ومن ثم رأينا تلك الدول الظالمة المتجبرة وأولئك الأفراد الممعنين في الجريمة دون أن تخشى هذه الدول أوقادتها من عاقبة هذا البغي والعدوان أو يكف هؤلاء الأفراد عن ارتكاب الجرائم واقتراف المحرمات
( 3 )(218/4)
أما المؤمنون الذين صدقوا في إيمانهم فإنهم يخشون يوم الحساب فيستقيم سلوكهم طمعاً في ثواب الله تعالى وخوفاً من عقابه، ولذلك نراهم قد أقاموا على أنفسهم من أنفسهم رقيبا في السر والعلن، لأنهم يؤمنون حقاً وصدقاً أن الله تعالى معهم في السر والعلن {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، وأن كل إنسان موكل به ملائكة يحصون أعماله صغيرها وكبيرها خيرها وشرها { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] فالإيمان باليوم الآخر يجعل المؤمن – دائماً – وقافاُ عند أمر ربه ، يرعى حق الله وحقوق العباد فلا يتمادى في غي أو ينساق وراء اطماعه وشهواته، وهؤلاء هم المتقون الذين عناهم الله تعالى بقوله {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]
أيها المسلمون:(218/5)
إن الإيمان باليوم الآخر هو الذي يقف بين الإنسان وارتكاب المخالفات، وهذا أمر مفهوم بداهة لدى جميع العقلاء وإلا فلماذا شرعت الدول والأمم على مر العصور العقوبات، وأقامت دور القضاء، وأنشأت المؤسسات العقابية، أليس في هذا دليل على أن اليوم الآخر حقيقة لا ريب فيها..، لأنه لا بد من الحساب وضرورة الثواب والعقاب، حتى يمكن لأمور الحياة أن تسير ولذلك فإن الإيمان باليوم الآخر هو ميزان الاعتدال الذي يصلح به أمر الفرد، وتصلح عليه حياة الجماعة، فحينما قامت دولة الإسلام مؤسسة على الإيمان كانت تمثل ذروة الحضارة الإنسانية، وحينما أخطأت امرأة وارتكبت جريمة الزنا جاءت إلى الرسول (صلي الله عليه وسلم)تطلب تطبيق حكم الشرع عليها، وهى تعلم تماماَ ما هو هذا الحكم، وما ذاك إلا لأنها كانت تؤمن إيماناً جازماً بأنها إذا أفلتت في الدنيا – من العقاب الذي شرعه الله لهذه الجريمة، فإن جزاءها ينتظرها في يوم الدين {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
ومن هنا قامت للإسلام دولة يقتص فيها الحاكم من نفسه ومن أهل بيته، قبل أن يقتص من أفراد الأمة، وتحاسب الأسرة أبناءها وتقوم على تربيتهم لأنها مسئولية سوف يحاسب عليها أفرادها، ويحاسب الفرد نفسه لأنه على يقين من أن الله يعلم سره وجهره، وانه مجزى بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
( 4 )
فالإيمان ليس ألفاظاً تردد، ولا مظاهر تخدع، وإنما هو حقيقة تملأ القلب والوجدان وتتطبع في التصرفات والسلام ومصداق ذلك قول الله تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 14].(218/6)
فلا غش ولا خداع ولا خيانة ولا عدوان ولا اغتصاب إذا ما اطمأن القلب بالإيمان، وإنما هناك فلاح وصلاح {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1].
أيها المسلمون:
لننصت خاشعين متأملين إلى قول رسولنا rالذي يوضح أثر الإيمان باليوم الآخر والاستعداد له في النجاة لصاحبه "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح).
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(218/7)
اطبع هذه الصحفة
الرشوة في ميزان الشريعة
عِبَادَ اللهِ:
الرِّشْوَةُ هِيَ الْوُصْلَةُ إِلَى الْحَاجَة بِالمُصَانَعَةِ، أَوْ هِيَ: مَا يُعْطَى لإِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ لإِحْقَاقِ بَاطِلٍ؛ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحَمِهَ اللهُ:«وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ أَخْذَ الرِّشْوَةِ عَلَى إِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ مَا لاَ يَجوُزُ؛ سُحْتٌ حَرَامٌ».
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ22 من صفر 1429هـ الموافق 29/2/2008م
الرّشوة في ميزان الشّريعة الإسلاميّة
الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ - مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- وَأَخْلِصُوا لَهُ الدِّينَ، وَاحْذَرُوا مَوَاطِنَ غَضَبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ? { الأنفال: 29 } .
عِبَادَ اللهِ:(219/1)
إِنَّ الإِسْلاَمَ قَدْ حَثَّ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَجَعَلَهَا آيَةً عَلَى حُسْنِ الإِيمَانِ وَتَمَامِ الصِّيَانَةِ، وَدَلِيلاً عَلَى رُسُوخِ اليَقِينِ وَصَفَاءِ الدِّيَانَةِ، وَكُلَّمَا تَعَلَّقَتِ الْمَكَارِمُ بِالْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ كَانَ الشَّرْعُ أَشَدَّ عَلَيْهَا تَأْكِيداً وَحَضّاً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ».[رواهُ أَحْمَدُ].
وَمِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ وَعَذَابِهَا؛ أَنْ يَحْفَظَ الْمُسَلِمُ نَفْسَهُ مِنْ جَمِيعِ مُحَرَّمَاتِ الدُّنْيِا وَمُشْتَبِهَاتَهِا؛ فَقَدْ أَوْصَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَعْباً - رضي الله عنه - حِينَ قَالَ لَهُ: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ؛ النَّارُ أَوْلَى بِهِ. يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ: النَّاسُ غَادِيَانِ فَغَادٍ بَائِعٌ نَفْسَهُ وَمُوبِقٌ رَقَبَتَهُ، وَغَادٍ مُبْتَاعٌ نَفْسَهُ وَمُعْتِقٌ رَقَبَتَهُ».[رواهُ أحمدُ].
وَقَدْ فَهِمَ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُونَ هَذَا الأَمْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: «لَوْ قُمْتَ قِيَامَ السَّارِيَةِ؛ مَا نَفَعَكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ في بَطْنِكَ».(219/2)
وَلَمَّا ضَعُفَ اليَقِينُ، وَقَلَّتِ الْمُرَاقَبَةُ للهِ تَعَالَى؛ خَلَّطَ النَّاسُ وَلَمْ يَسْتَوْثِقُوا، وَهَذَا مِصْدَاقُ مَا أخْبَرَ بِهِ الَْمعْصُومُ الصَّادِقُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ:«لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ؛ أَمِنْ حَلالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ». [رواهُ البخاريُّ].
عِبَادَ اللهِ:
يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ? { النساء: 29 } .
قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَدْخُلُ فِي أَكْلِ الأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ: الْخَائِنُ، وَالسَّارِقُ، وَآكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَشَاهِدُ الزُّورِ، وَمَن اسْتَعَارَ شَيْئاً فَجَحَدَهُ، وَآكِلُ الرِّشْوَةِ، وَمُنْتَقِصُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَمَنْ بَاعَ شَيْئاً فِيهِ عَيْبٌ فَغَطَّاهُ؛ فَالْبَاطِلُ يَعُمُّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا؛ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أُخِذَ بِغَيْرِ وجْهِهِ الشَّرْعِيِّ.(219/3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاّ طَيِّباً، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ؛ فَقَالَ تَعَالَى: ?يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً?، وَقَالَ تَعَالَى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ?، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامُ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟».[رواهُ مُسْلِمٌ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْيَهُودَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَاصِفاً إيَّاهُمْ بِخُبْثِ النِّيَّةِ، وَفَسَادِ الطَّوِيَّةِ، وَذَهَابِ الْمُرُوءَةِ، وانْعِدَامِ الضَّمِيرِ؛ ذَلِكَ أنَّهُمْ عَشِقُوا الْمَالَ، وَآثرُوا الدُّنْيَا، ونَسُوا حَظَّ اللهِ تَعَالَى، فَأَنْسَاهُمُ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنَفْسَهُمْ، وَأَوْقَعَهُمْ فِي عَوَاقِبِ ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ؛ فَهُمْ قُسَاةُ القُلوُبِ الذِينَ كَرِهُوا الشَّرَائِعَ، فَأَحَبُّوا الْكَذِبَ وَالْغِشَّ والزُّورَ؛ وَأَنْبَأَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُمْ بقَوْلِهِ: ?سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ? { المائدة:42 } ، قَالَ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ: هُمْ حُكَّامُ الْيَهُودِ؛ يَسْتَمِعُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ يَأْتِيهِمْ بِرِشْوَةٍ.(219/4)
وَفِي وَصْفٍ آخَرَ لَهُمْ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ?وَتَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ? { المائدة:62-63 } ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رضي الله عنه -عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» [أخرجَهُ أبو داودَ].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضِيَ اللهُ عَنْهما عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لَعَنَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ. [رواهُ الترمذيُّ].
عِبَادَ اللهِ:
الرِّشْوَةُ هِيَ الْوُصْلَةُ إِلَى الْحَاجَة بِالمُصَانَعَةِ، أَوْ هِيَ: مَا يُعْطَى لإِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ لإِحْقَاقِ بَاطِلٍ؛ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحَمِهَ اللهُ:«وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ أَخْذَ الرِّشْوَةِ عَلَى إِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ مَا لاَ يَجوُزُ؛ سُحْتٌ حَرَامٌ».
وَالرِّشْوَةُ مَرَضٌ فَتَّاكٌ يُفْسِدُ الأَخْلاَقَ، وَيُسَاعِدُ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَيَجْعَلُ الْحَقَّ بَاطِلاً وَالْبَاطِلَ حَقّاً، وَيَسْرِي فِي النَّاسِ حَتَّى يُورِدَهُمْ مَوَارِدَ التَّلَفِ.(219/5)
وَمَا دَاخَلَتِ الرِّشْوَةُ قَلْباً إلاَّ أَظْلَمَتْهُ، وَلاَ خَالَطَتْ عَمَلاً إلاَّ أَفْسَدَتْهُ، وَلاَ نِظَاماً إِلاَّ خَرَّبَتْهُ، وَمَا فَشَتْ فِي أُمَّةٍ إِلاَّ حَلَّ فِيهَا الْغِشُّ مَحَلَّ النُّصُحِ، وَالْخِيَانَةُ مَكَانَ الأَمَانَةِ، والظُّلْمُ بَدَلَ الْعَدْلِ، فَهِيَ تُهْدِرُ الْحُقُوقَ، وَتُعَطِّلُ الْمَصَالِحَ، وَتُجَرِّئُ الظَّلَمَةَ وَالْمُفْسِدِينَ.
أَيُّهَا النَّاسُ:
إِنَّ أَهْلَ الرِّشْوَةِ يُصَوِّرُونَ بَاطِلَهُمْ صُوَراً مُتَلَوَّنَةً؛ فَهَذِهِ هَدِيَّةٌ، وَتِلْكَ إِكْرَامِيَّةٌ، وَهَذِهِ مُحَابَاةٌ، وَذَلِكَ إِبْرَاءٌ مِنَ الدَّيْنِ، وَهَاتِيكَ رَدٌّ لِلْجَمِيلِ، وَهَكَذَا يُمْلِي الشَّيْطَانُ لأَوْلِيَائِهِ!
كُلُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ طَمْسِ حَقٍّ، أَوْ سُكُوتٍ عَلَى بَاطِلٍ، أَوْ تَقْدِيمٍ لِمُتَأَخِّرٍ، أَوْ تَأْخِيرٍ لِمُتَقَدِّمٍ، أَوْ رَفْعٍ لِخَامِلٍ، أَوْ مَنْعٍ لِكُفُؤٍ، أَوْ تَغْيِيرٍ لِشُرُوطٍ، أَوْ إِخْلاَلٍ بِمُوَاصَفَاتٍ، أَوْ عَبَثٍ بِمُنَاقَصَاتٍ، أَوْ تَلاَعُبٍ بِمَوَاعِيدَ، وَهَلُمَّ جَرّاً مِمَّا يُعْرَفُ في دُنْيَا النَّاسِ، وَمَا أَكْثَرَهُ!(219/6)
وَالرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي وَالرَّائِشُ مُتَوَاطِئُونَ عَلَى تَضْيِيعِ الْحقُوَقِ، مُتَسَاعِدُونَ عَلَى إِشَاعَةِ ذَلِكَ، لِتَسْتَمْرِئَ الأُمَّةُ جِنَايَتَهُمْ؛ فَهُمْ لِهَذَا مَلْعُونُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، مَطْرُودُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، مَمْحُوقٌ كَسْبُهُمْ، زَائِلَةٌ بَرَكَتُهُمْ، فَبِسَبَبِهِمْ: كَمْ مِنْ مَظَالِمَ انْتُهِكَتْ!، وَكَمْ مِنْ دِمَاءٍ ضُيِّعَتْ!، وَكَمْ مِنْ حُقُوقٍ طُمِسَتْ!،[وَالرَّائِشُ: هُوَ الوَسِيطُ الذِي يُوصِلُ الرِّشْوَةَ لآخِذِهَا، فَكُلُّ مَالٍ كَسَبَهُ ذُو الْوَجَاهَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ مِنْ ذَوِي الْحَوَائِجِ إلَيْهِ بِجَاهِهِ، فَهُوَ سُحْتٌ].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي اللهُ وَإيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِميِنَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ؛ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالمَِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً إِلى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتّقُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوا رَبَّكُمْ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى.(219/7)
مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الْمُسْلِمِينَ: الرِّشْوَةُ فَخُّ الْمُرُوءَةِ، وَمِصْيَدَةُ الأَمَانَةِ، وَغَرَقُ الدِّيَانَةِ، وَحَبَائِلُ الشَّرَفِ، بِفُشُوِّها تُصَابُ مَصَالِحُ الأُمَّةِ بِالشَّلَلِ، وَجُهُودُ الْمُخْلِصِينَ بِالْكَلَلِ، وَعَزَائِمُ الْمُجِدِّينَ بِالْخَوَرِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبْخَارِيُّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ؛ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؛ فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي؛ فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ إِنْ كَانَ بَعِيراً لَهُ رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ»، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ، ثَلاثاً. أَلاَ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّ الْهُدَى وَسَفِينَةِ النَّجَاةِ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ:?إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً? { الأحزاب:56 } .(219/8)
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ والأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ الْمَهْدِيِّينَ الذِينَ قَضَوْا بِالْحَقِّ وَبِهِ كَانُوا يَعْدِلُونَ، اللَّهُمَّ اكْفِنَا بَحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَبِطَاعَتِكَ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ يَارَبَّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ تَأْخُذَنَا عَلَى غِرَّةٍ، أَوْ أَنْ تَذَرَنَا فِي غَفْلَةٍ، أَوْ تَجْعَلَنَا مِنَ الْغَافِلِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَناَ مَا قَدَّمْنَا، وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا، وَمَا أَعْلَنَّا، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، اللَّهُمَّ آتِ قُلُوَبنَا تَقْوَاهَا, وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهاَ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى, وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ الدُّنيْا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ إِلَى النَّارِ مَصِيرَنَا, وَتَوفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ؛ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مُبَدِّلِينَ وَلاَ مَفْتُونِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلاَةَ أُمُورِنَا، وَاجْعَلِ اللَّهُمَّ وِلاَيَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ وَاتِّبَعَ رِضَاكَ يَارَبَّ الْعَالَمِينَ.
……………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(219/9)
اطبع هذه الصحفة
آداب المرور
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ:
رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنهم - عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ»؛ فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ. إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا! قَالَ: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا»؛ قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ»؛ فَالْمُسْلِمُ - بِأَمْرِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْبَغِِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ وأَذَاهُ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 29صفر1429هـ الموافق 7/3/2008م
آداب المرور
الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَىِ بهَدْيِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ - أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ وَرَاقِبُوهُ، وَأَطِيعُوهُ وَلاَ تَعْصُوهُ، قَالَ تَعَالَى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ { } آل عمران:102 } .
أَيُّهَا النَّاسُ:(220/1)
لَمْ يَتْرَكِ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ مِنْ أُموُرِنَا شَارِدَةً وَلاَ وَارِدَةً إلاَّ وَكَانَ لَهُ فِيَها تَوْجِيهٌ وَتَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: «لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَتَقَلَّبُ فِي السَّمَاءِ طَائِرٌ إِلاَّ ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلْماً»[رواهُ أحمدُ].
وَمِنْ أِعْظَمِ مَا جَاءَتْ فِيهِ تَوْجِيَهاتُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: أَرْوَاحُ النَّاسِ وَدِمَاؤُهُمْ؛ فَالْحِفَاظُ عَلَيْهَا مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الإِسْلاَمِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ جَمِيعُ الْوَسَائِلِ التِي تَكْفُلُ سَلاَمَةَ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ، وَمِنْ أَكْثَرِ الْوَسَائِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ انْتِشَاراً فِي حَيَاتِنَا: مَرْكَبَاتُنَا وَسَيَّاراتُنَا؛ فَهِيَ مِنْ أَلْصَقِ مَا يَكُونُ بِنَا فِي سَاعَاتِ أَيَّامِنَا وَلَيَالِينَا، وَهِيَ بِلاَ شَكٍّ نِعَمٌ مَنَّ اللهُ بِهَا عَلَيْنَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ } { النحل: 5-8 } .(220/2)
نَعَمْ؛ هِيَ نِعَمٌ عَظِيمَةٌ مُمْتِعَةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، وَتَدبَّرَ حَالَهُ يَوْمَ كَانَ يَقْطَعُ الأَمْيَالَ الْقَلِيلَةَ فِي مَسِيَرةِ أَيَّامٍ، وَأَصْبَحَ الْيَوْمَ يَطْوِيهَا فِي سَاعَاتٍ أَوْ دَقَائِقَ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَ لَنَا هَذِهِ الْمَرَاكِبَ وَأَوْزَعَنَا شُكْرَهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } { الزخرف:13-14 } .
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ الأَرْوَاحَ لاَ تَهُونُ إِلاَّ إِذَا هَانَتْ عَلَيْنَا نُصوُصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ! وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ، وَتَأَمَّلُوا - سَلَّمَكُمُ اللهُ وَعَافَاكُمْ - كَمْ مِنْ عَائِلَةٍ فَقَدَتْ أَصْحَابَهَا!، وَأُسْرَةٍ تَيَتَّمَ أَوْلاَدُهَا!، أَوْ أَصَابَهَا عَاهَاتٌ فِي أَهْلِهَا!؛ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَقَدَ سَمْعَهُ أَوْ بَصَرَهُ أَوْ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شُلَّ عَنِ الْحَرَكَةِ تَمَاماً، وَلَوْ كُنَّا أُصِبْنَا بِهَذَا فِي أَرْضِ حَرْبٍ لَكَانَتْ فَاجِعَتُنَا عَظِيمَةً مُحْزِنَةً، وَلَعُدَّتْ هَزِيمَتُنَا نَكْرَاءَ مُخْزِيَةً، فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ نُصَابُ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِأَنْفُسِنا وَبِأَيْدِينَا؛ فَنَفْقِدُ كُلَّ يَوْمٍ أَعْدَاداً لاَ نُحْصِيهَا تَحْتَ هَذَا الْحَدِيدِ الذِي لاَ يَعْرِفُ رَحْمَةً وَلاَ شَفَقَةً؟!.(220/3)
إِنّ نَظْرَةً خَاطِفَةً فِي كَثِيرٍ مِنْ شَوَارِعِنَا تَجْعَلُنَا أَمَامَ كَوْمٍ هَائِلٍ مُرِيعٍ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الْمُرُورِيَّةِ؛ فَهَذَا مُتَهَوِّرٌ مِنْ شِدَّةِ سُرْعَتِهِ، وَذَلِكَ يَقُودُ سَيَّارَتَهُ مُعاكِساً السَّيْرَ، وَهَذَا يَقِفُ فِي غَيْرِ أَمَاكِنِ الْوُقُوفِ، وَهَؤُلاَءِ رِفْقَةٌ وَاقِفُونَ وَسَطَ طَرِيقِ الْماَرَّةِ لِلسَّلاَمِ، وَلَعَلَّكَ تَرَى فِي يَوْمِكَ وَلَيْلَتِكَ عَدَداً مِمَّنْ يَقْطَعُ إِشَارَةَ الْمُرُورِ لاَ يَعْرِفُ لَهَا حُرْمَةً وَلاَ يُقِيمُ لَهاَ وَزْناً.
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ:
رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنهم - عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ»؛ فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ. إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا! قَالَ: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا»؛ قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ»؛ فَالْمُسْلِمُ - بِأَمْرِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْبَغِِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ وأَذَاهُ.
فَهَلْ مِنْ شَكٍّ فِي أَنَّ مَنْ يَقُودُ بِتَهَوُّرٍ فَيَصْطَدِمُ بِالنَّاسِ أَوْ يُرْبِكُهُمْ وَيُفْزِعُهُمْ يَكُونَ مُؤْذِياً النَّاسَ؟
أَوَتَشُكُّ أَخِي أَنَّ مَنْ يَقْطَعُ الإِشَارَةَ؛ فَإنَّهُ يَكُونُ مُؤْذِياً النَّاسَ؟ أَفَلاَ يَكُونُ أَخَذَ بِهَذاَ الطَّيْشِ حَقَّ غَيْرِهِ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ فِيهِ، وَرُبَّمَا أَزْهَقَ أَرْوَاحاً وَأَتْلَفَ أَمْوَالاً بِهَذِهِ الرُّعُونَةِ.(220/4)
وَلاَ شَكَّ إِخْوَانِي أَنَّ مَنْ يَعْكِسُ اتِّجَاهَ السَّيْرِ قَدْ آذَى إِخْوَانَهُ وَشُرَكَاءَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَقَفَ وُقُوفاً خَاطِئاً، وَهَلُمَّ جَرّاً.
هَذِهِ الأَذِيَّةُ - أَيُّهَا الإِخْوَةُ- مِنَ الضَّرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعاً؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ».
فَاللهََ اللهََ فِي نَفْسِكَ وَذُرِّيَّتِكَ وَأَهْلِكَ وَإِخْوَانِكَ وَأَحْبَابِكَ يَا سَائِقَ السَّيَّارَةِ؛ لاَ تَتَكَلَّفْ - هَدَاكَ اللهُ وَبَصَّرَكَ- بِتَهَوُّرِكَ مِنَ الْحِمْلِ مَا لاَ تُطِيقُهُ لاَ فِي الدُّنْيَا ولاَ فِي الآخِرَةِ؛ فَإِنَّ خَطَأً وَاحِداً فِي الدُّنْيَا يُكَلِّفُكَ وَغَيْرَكَ مَآسِيَ لاَ تَنْمَحِي جِرَاحَاتُها وَلاَ تَنْدَمِلُ آثَارُهَا، وَإِنَّ قَطْرَةَ دَمٍ وَاحِدَةً تَتَسَبَّبُ فِي إِرَاقَتِهَا مِنْ أَخِيكَ الذِي ظَلَمْتَهُ تُطِيلُ وُقُوفَكَ لِلْحسَابِ غَداً بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى.(220/5)
أَخِي قَائِدَ السَّيَّارَةِ: يَنْبَغِي عَلَيْكَ مُرَاعَاةُ مَا أَرْشَدَكَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَثْنَاءَ قِيَادَتِكَ لِسَيَّارَتِكَ؛ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تُسَمِّيَ اللهَ تعَالَى عِنْدَ رُكُوبِكَ وَتَحْمَدَهُ وَتُسَبِّحَهُ؛ فعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيّاً أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا؛ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ؛ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ؛ ثَلاثاً، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا؛ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ: { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } { الزخرف: 13 } ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ ثَلاثاً، اللَّهُ أَكْبَرُ؛ ثَلاثاً، سُبْحَانَكَ إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ»، ثُمَّ ضَحِكَ؛ فقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ؛ فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُكَ» رواهُ الترمذيُّ وقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».(220/6)
وَإِنْ كُنْتَ مُسَافِراً دَعَوْتَ بِدُعَاءِ السَّفَرِ الْمَشْهُورِ؛ فَقَدْ عَلَّمَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَصْحابَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجاً إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاثاً، ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ» وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وَزَادَ فِيهِنَّ:«آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» [رواهُ مسلمٌ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
كَثِيراً مَا نَرَى وَنَقْرَأُ عِبَارةً جَمِيلَةً؛ تَقُولُ: «الْقِيَادَةُ فَنٌّ وَذَوْقٌ»، فَيَا لَيْتَكَ أَخِي السَّائِقَ تَتَّصِفُ بِهَا؛ فَتَكُونُ قَائِداً مُتَخَلِّقاً بِأَخْلاَقِ الإِسْلاَمِ، تُحْسِنُ التَّصَرُّفَ وَالْهُدُوءَ وَالرَّوِيَّةَ، وَتَتَجَنَّبُ الْوُقُوعَ فِي الْمَهَالِكِ أَوْ إِيقَاعَهَا بِالآخَرِينَ، وَتَكُونُ صَاحِبَ ذَوْقٍ رَفِيعٍ يَتَجَلَّى فِي إِكْرَامِ الآخَرِينَ وَإِيثَارِهِمْ لُطْفاً مِنْكَ وَبِرّاً وَإِحْسَاناً.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية(220/7)
الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَ وَأَرْشَدَ، وَعَدَ عَلَى ذَلِكَ الْمُؤْمِنيِنَ، وَتَوعَّدَ عَلَى عَدَمِ الْحَمْدِ الْكُفَّارَ وَالْجَاحِدِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى: { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَابْتَلُواْ اليَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } { النساء: 4- 5 } .
إنَّ عُمُومَ الأَمْرِ فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ يَقْتَضِي أَنْ لاَ نَدْفَعَ بِأَمْوَالِنَا التِي جَعَلَ اللهُ فِيهَا مَصَالِحَنَا الدِّينِيَّةَ والدُّنْيَوِيَّةَ لِلسُّفَهَاءِ، والسَّفِيهُ هُوَ الذِي لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ، وَلاَ شَكَّ- أَيُّهَا الفُضَلاَءُ- أنَّ السَّيَّارَاتِ مِِنَ الأَمْوَالِ، وَدفْعُهُا لِلسُّفَهَاءِ مِنَ الصِّغَارِ أَوِ الْكِبَارِ فِيهِ مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ لأَنَّ السَّفِيهَ سَوْفَ يُهْمِلُ تِلْكَ النِّعْمَةَ، وَلَنْ يُقَدِّرَهَا قَدْرَهَا.(220/8)
وَالْمُلاَحَظُ أَنَّ بَعْضَ الآبَاءِ الْيَوْمَ يَدْفَعُونَ بِسَيَّارَاتِهِمْ لأِبْنَائِهِمْ؛ إِمَّا بِإلْحَاحٍ مِنَ الْوَلَدِ أَوْ مِنْ أُمِّهِ، وَإِمَّا بِرَغْبَةٍ مِنْ الأَبِ فِي أَنْ يُرِيحَهُ ابْنُهُ مِنْ بَعْضِ الْمُهِمَّاتِ، وَيَكْونُ ذَلِكَ فِي مُقَابِلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُصُولِ مَصَائِبَ أَوْ مُضَايَقَاتٍ وَإِزْعَاجٍ لِلنَّاسِ؛ فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُرَاقِبَ رَبَّهُ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَيَقِيَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الضَّرَرِ؛ إِذْ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ فِي الإِسْلاَمِ.أَلاَ وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَى نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى وَحَبِيبهِ الْمُجْتَبَى فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب:56 } .
اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ، وَعنَّا مَعَهُمْ بَفَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ يَا كَرِيمُ. اللَّهُمَّ أعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ, وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَاجْعَلِ اللَّهُمَّ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنّاً سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُمَا لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَهُمَا فِي رِضَاكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وآخِرُ دَعْوَانَا أنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(220/9)
اطبع هذه الصحفة
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ النَّبِيَّ ? هُوَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ? { المائدة:55 } ، بَلْ هُوَ ? أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ? النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ? { الأحزاب:6 } ، وَهَذِهِ الأَوْلَوِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْمَحبَّةَ الصَّادِقَةَ وَتَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْمُتَابَعَةِ لَهُ ?، وَمُوَافَقَتَهُ فِي مَحَابِّهِ وَمَكَارِهِهِ؛ وَمَنْ أَحَبَّ رَسُولَ اللهِ ? صَادِقاً مِنْ قَلْبِهِ؛ لَزِمَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْمَحَابِّ وَالْمَكَارِهِ، وَإِلاَّ نَقَصَ مَحَبَّتَهُ لِحَبِيبِهِ ? أَوْ نَقَضَهَا، قَالَ تَعَالَى: ? فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ? { القصص:50 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ6ربيع الأول 1429هـ الموافق14/3/2008م
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ(221/1)
الْحَمْدُ للهِ الْمُتَفَرِّدِ بِالأُلُوهِيَّةِ، الْمُتَعَزِّزِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، الْمَانِّ عَلَيْنَا بِتَوَاتُرِ آلاَئِهِ، وَالْمُتَفَضِّلِ عَلَيْنَا بِسَوَابِغِ نَعْمَائِهِ، الذِي خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ أَرَادَ بِلاَ مُعِينٍ وَلاَ نَصِيرٍ، وَأَنْشَأَ الْبَشَرَ كَمَا أَرَادَ بِلاَ شَبِيهٍ وَلاَ نَظِيرٍ؛ فَمَضَتْ فِيهِمْ بِقُدْرَتِهِ مَشِيئَتُهُ، وَنَفَذَتْ فِيهِمْ بِحِكْمَتِهِ إِرَادَتُهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لاَ رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ المُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ المرْتَضَى، بَعَثَهُ بِالنُّورِ المُضِيِّ، وَالأَمْرِ الْمَرْضِيِّ، عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَدُرُوسٍ مِنَ السُّبُلِ، فَدَمَغَ بِهِ الطُّغْيَانَ، وَأَظْهَرَ بِهِ الإِيمَانَ، وَرَفَعَ دِينَهُ عَلَى سَائِرِ الأَدْيَانِ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ؛ مَا دَارَ فِي السَّمَاءِ فَلَكٌ، وَمَا سَبَّحَ فِي الْمَلَكُوتِ مَلَكٌ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ - أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفْسِي- بِتَقْوَى اللهِ الْعَظِيمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ? { الحشر: 18 } .
عِبَادَ اللهِ:(221/2)
خَلَقَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَوْجَدَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِنَعْبُدَهُ وَنَتَّقِيهِ، وَبَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْجَامِعَةَ التِي تَرْبُطُنَا بِهِ جَلَّ وَعَلاَ وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَبِأَنْبِيَائِهِ الْكِرَامِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إِنَّمَا هِيَ جَامِعَةُ الإِيمَانِ؛ فَهِيَ مَعْقِدُ الوِلاَيَةِ وَأَسَاسُ الرَّابِطَةِ: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? { الحجرات:13 } ؛ فَأَتْقَى الْعِبَادِ أَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ وَإنْ كَانَ ضَعِيفاً فَقِيراً، وَأَشْقَى العِبَادِ أَذَلُّهُمْ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ عَظِيماً أَثِيراً؛ ذَلِكَ أَنَّ العِبَادَ لَمْ يُخْلَقُوا عَبَثاً، وَلَمْ يُتْرَكُوا سُدًى؛ إِنَّمَا خُلِقُوا لِغَايَةٍ؛ ذَكَرَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ? { الذاريات:56-58 } .(221/3)
وَلأَجْلِ هَذِهِ الْغَايَةِ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى رُسُلَهَ وَبَعَثَ فِي الْخَلِيقَةِ أَنْبِيَاءَهُ؛ لِيُقِيمَ عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ? { النحل:36 } ، وَقَالَ أَيْضاً: ? إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ ? { فاطر:24 } ؛ فَكَانَتْ أَعْظَمَ مِنَّةٍ وَأَكْبَرَ نِعْمَةٍ مِنَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ بَعَثَ فِيهِمُ الأَنَبِيَاءَ وَالرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَكَانَ أَعْظَمَ الأَنْبِيَاءِ قَدْراً وَأَبْلَغَهُمْ أَثَراً وَأَعَمَّهُمْ فَضْلاً نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - الذِي خَتَمَ اللهُ بِهِ النَّبِيِّينَ، وَبَعَثَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ؛ فَأَحْيَا بِهِ مَا انْدَرَسَ مِنْ حَنِيفِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَخْرَجَ قَوْمَهُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْوَثَنِيَّةِ إِلَى أَنْوَارِ الْعِلْمِ وَالتَّوْحِيدِ وَالأَخْلاَقِ السَّنِيَّةِ؛ فَكَانَ بِحَقٍّ نِعْمَةً عَظِيمَةً وَمِنَّةً كَرِيمَةً، قَالَ تَعَالَى: ? لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ? { آل عمران:164 } .
أَيُّهَا النَّاسُ:(221/4)
لَقَدْ مَلأَ النَّبِيُّ ? الْقُلُوبَ الْمُؤْمِنَةَ بِهِ إِيَماناً وَحِكْمَةً وَيَقِيناً، وَأَرْسَى فِي الْمُجْتَمَعِ المُسْلِمِ دَعَائِمَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالأَمْنِ؛ حَتَّى اسْتَوْجَبَ الْمَحَبَّةَ التَّامَّةَ الْمُقَدَّمَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى عَلَى الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، كَمَا اسْتَحَقَّ نَبِيُّنَا ? الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ فِي الْيَوْمِ الْمَشْهُودِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَقَالَ تَعَالَى: ? اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ? { البقرة:257 } ؛ كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاؤُهُ: ? أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ? { يونس:62 } ، وَالْمَلاَئِكَةُ كَذَلِكَ أَوْلِيَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ قَالَ تَعَالَى: ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ? { فصلت:30-31 } .
وَاللهُ جَلَّ شَأْنُهُ وَمَلاَئِكَتُهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ? إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ? { التحريم:4 } .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:(221/5)
إِنَّ النَّبِيَّ ? هُوَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ? { المائدة:55 } ، بَلْ هُوَ ? أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ? النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ? { الأحزاب:6 } ، وَهَذِهِ الأَوْلَوِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْمَحبَّةَ الصَّادِقَةَ وَتَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْمُتَابَعَةِ لَهُ ?، وَمُوَافَقَتَهُ فِي مَحَابِّهِ وَمَكَارِهِهِ؛ وَمَنْ أَحَبَّ رَسُولَ اللهِ ? صَادِقاً مِنْ قَلْبِهِ؛ لَزِمَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْمَحَابِّ وَالْمَكَارِهِ، وَإِلاَّ نَقَصَ مَحَبَّتَهُ لِحَبِيبِهِ ? أَوْ نَقَضَهَا، قَالَ تَعَالَى: ? فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ? { القصص:50 } .
إِنَّ كَوْنَ النَّبِيِّ ? أَوْلَى بِالْمُؤْمِنيِنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ كَمَالَ الاِنْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ ? وَالتَّسْلِيمِ لأَمْرِهِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ؛ فَيُصَدِّقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَيُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وَأَنْ يُطِيعَ اللهَ بِمَا شَرَعَ وَقَرَّرَ، قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا? { النساء:65 } .
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ:(221/6)
لَقَدْ خَرَجَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، تَارِكِينَ وَرَاءَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، فَارِّينَ إِلَى اللهِ بِدِينِِهِمْ، مُؤْثِرِينَ عَقِيدَتَهُمْ عَلَى وَشَائِجِ الْقُرْبَى، وَذَخَائِرِ الْمَالِ، وَأَسْبَابِ الْحَيَاةِ، وَذِكْرَيَاتِ الطُّفُولَةِ وَالصِّبَا، وَمَوَدَّاتِ الصُّحْبَةِ وَالرُّفْقَةِ، نَاجِينَ بِعَقِيدَتِهِمْ وَحْدَهَا، مُتَخَلِّينَ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهَا، وَكَانُوا - رضي الله عنهم - بِهَذِهِ الهِجْرَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ: الْمَثَلَ الْحَيَّ الْوَاقِعَ فِي الأَرْضِ عَلَى تَحَقُّقِ الْعَقِيدَةِ فِي صُورَتِهَا الْكَامِلَةِ، وَاسْتِيلاَئِهَا عَلَى الْقَلْبِ؛ بِحَيْثُ لا تَبْقَى فِيهِ بَقِيَّةٌ لِغَيْرِ الْعَقِيدَةِ.
وَنَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى إِخْوَانِهِمُ الأَنْصَارِ، الذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛ فَاسْتَقْبَلُوهُمْ فِي دُورِهِمْ، وَفِي قُلُوبِهِمْ، وَبِأَمْوَالِهِمْ، وَتَسَابَقُوا إِلَى إِيوَائِهِمْ؛ وَتَنَافَسُوا فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَنْزِلْ مُهَاجِرِيٌّ فِي دَارِ أَنْصَارِيٍّ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ؛ إِذْ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ أَقَلَّ عَدَداً مِنَ الأَنْصَارِ، وَشَارَكُوهُمْ كُلَّ شَيْءٍ عَنْ رِضَى نَفْسٍ، وَطِيبِ خَاطِرٍ، وَفَرَحٍ حَقِيقِيٍّ مُبَرَّأٍ مِنَ الشُّحِّ الْفِطْرِيِّ، كَمَا هُوَ مُبَرَّأٌ مِنَ الخُيَلاَءِ وَالْمُرَاءَاةِ!.وَآخَى رَسُولُ اللهِ ? بَيْنَ رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرِجَالٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَ هَذَا الإِخَاءُ صِلَةً فَرِيدَةً فِي تَارِيخِ التَّكَافُلِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْعَقَائِدِ، وَقَامَ هَذَا الإِخَاءُ فَوْقَ مَقَامِ أُخُوَّةِ الدَّمِ.(221/7)
وَقَرَّرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْوِلاَيَةَ الْعَامَّةَ لِلنَّبِيِّ ?، وَهِيَ وِلاَيَةٌ تَشْمَلُ رَسْمَ مِنْهَاجِ الْحَياةِ بَحَذَافِيرِهَا، وَأَمْرُ الْمُؤْمِنيِنَ فِيهَا إِلَى الرَّسُولِ ?؛ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَخُتَارُوا إِلاَّ مَا اخْتَارَهُ لَهُمْ بِوَحْيٍ مِنْ رَبِّهِ؛ حَتَّى لاَ تَكُونَ أَهُوَاؤُهُمْ إِلاَّ تَبَعاً لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ?، وَتَشْمَلُ هَذِهِ الْوِلاَيَةُ كَذَلِكَ مَشَاعِرَهُمْ؛ فَيَكُونُ شَخْصُهُ ? أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ فَلاَ يَرْغَبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ، وَلاَ يَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ! عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ? وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ?: "لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ"؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ?: "الآنَ يَا عُمَرُ" [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]، وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ?: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"[رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]، نَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَبِسُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية(221/8)
الْحَمْدُ لِلهِ وَليِّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَائِدُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُقِمْ لأَيِّ آصِرَةٍ مِنَ الأَوَاصِرِ التَي تَرْبِطُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدُّنْيِا وَزْناً إِذَا تَعَارَضَتْ مَعَ آصِرَةِ الإِيمَانِ؛ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ? لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ? { المجادلة:22 } ، وَيَقُولُ أَيْضاً: ? قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ? { التوبة:24 } .(221/9)
أَلاَ فَلْيَعْلَمْ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّهُ بِقَدْرِ زِيَادَةِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ؛ يَزْدَادُ مِنْ وِلاَيَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُوَالاتُهُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ مِنْ هَذَا الإِيَمانِ وَتِلْكَ التَّقْوَى، ثُمَّ اعْلَمُوا - يَا عِبَادَ اللهِ- أَنَّ كَلَّ آصِرَةٍ مِنَ الأَوَاصِرِ الَّتي تَجْمَعُ بَيْنَ النَّاسِ في هذِهِ الدُّنيا مَصِيرُها الانْقِطاعُ، وقَدْ تنْقَلِبُ إلى عَدَاوَةٍ يومَ القِيامَةِ؛ إلاَّ أُخُوَّةَ الإيمانِ؛ قَالَ الحقُّ جَلَّ وَعَلاَ: ? الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ? { الزخرف:67 } .
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ ورَسُولِكَ سَيِّدِنَا محمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحَابَتِهِ أجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الأرْبَعَةِ الرَّاشِدِينَ، وسائِرِ أصْحَابِ نَبِيِّكَ وأَتْباعِهِمُ الْمُحْسِنِينَ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِفَضْلِكَ وإحْسَانِكَ يا أكْرَمَ الأكْرَمِينَ. اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسْلامَ وَالمسْلِمِينَ, وأذِلَّ الشِّرْكَ وَالمشْرِكِينَ، واجْعَلِ اللَّهُمَّ هَذَا البَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنّاً سَخَاءً رَخَاءً وسَائِرَ بَلادِ المسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْْهُما لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَهُما في رِضَاكَ يا رَبَّ العَالمَِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(221/10)
اطبع هذه الصحفة
أمك ثم أمك
مَعْشَرَ أَهْلِ الإِيمَانِ:
نَبْعُ الْحَنَانِ وَالرِّقَّةِ، وَوِعَاءُ الْعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، الْمُرْهَفَةُ فِي أَحَاسِيسِهَا، الرَّقِيقَةُ فِي مَشَاعِرِهَا، الصَّادِقَةُ فِي حُبِّهَا، حَيَاتُكَ أَغْلَى إِلَيْهَا مِنْ نَفْسِهَا، وَسَعَادَتُكَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْ رَاحَتِهَا، كَمْ سَهِرَتْ لِتَنَامَ! وَجَاعَتْ لِتَشْبَعَ! إِنَّهَا أُمُّكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ، أُمُّكَ التِي حَمَلَتْكَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ عَدَداً، أُمُّكَ التِي لَمْ تُقَدِّمْ عَلَى حُبِّكَ مِنَ الْخَلْقِ أَحَداً، حَمَلَتْكَ كَرْهاً، وَوَضَعَتْكَ كَرْهاً، مَشَقَّةً بَعْدَ مَشَقَّةٍ، وَثِقَلاً مِنْ بَعْدِ ثِقَلٍ، تَرَكَتِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ تَوَحُّماً، وَفَارَقَتِ النَّوْمَ تَوَجُّعاً وَتَأَلُّماً، وَعِنْدَ الوِلادَةِ صَحِبَتْهَا زَفَرَاتٌ وَأَنَّاتٌ، وَقَاسَتْ آلامًا وَآهَاتٍ، وَحِينَ أَبْصَرَتْكَ أَبْصَرَتْ فِيكَ الْحَيَاةَ وَبَسْمَتَهَا، وَالسَّعَادَةَ وَبَهْجَتَهَا، تَحِنُّ إِلَيْكَ وَتَهْوَاكَ، وَتَحْنُو عَلَيْكَ وَتَرْعَاكَ، آثَرَتْكَ بِالشَّهَوَاتِ عَلَى النَّفْسِ، وَلَوْ غِبْتَ عَنْهَا سَاعَةً صَارَتْ كَأَنَّهَا فِي حَبْسٍ، وَكَمْ أَطْعَمَتْكَ فِي حَيَاتِكَ حُلْواً!، وَكَمْ جَنَّبَتْكَ فِي أَيَّامِكَ مُرّاً!.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ13ربيع الأول 1429هـ الموافق21/3/2008م
أمّك ثمّ أمّك(222/1)
إِنَّ الْحَمْدَ لِلّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَىِ بهَدْيِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمًّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ ـ عِبَادَ اللهِ وَنَفْسِي ـ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَقَدْ فَازَ مَنْ أَطَاعَهُ وَاتَّقَاهُ، وَخَابَ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَعَصَاهُ، وَطُوبَى لِمَنْ بَرَّ أُمَّهُ وَأَبَاهُ.
مَعْشَرَ أَهْلِ الإِيمَانِ:(222/2)
نَبْعُ الْحَنَانِ وَالرِّقَّةِ، وَوِعَاءُ الْعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، الْمُرْهَفَةُ فِي أَحَاسِيسِهَا، الرَّقِيقَةُ فِي مَشَاعِرِهَا، الصَّادِقَةُ فِي حُبِّهَا، حَيَاتُكَ أَغْلَى إِلَيْهَا مِنْ نَفْسِهَا، وَسَعَادَتُكَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْ رَاحَتِهَا، كَمْ سَهِرَتْ لِتَنَامَ! وَجَاعَتْ لِتَشْبَعَ! إِنَّهَا أُمُّكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ، أُمُّكَ التِي حَمَلَتْكَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ عَدَداً، أُمُّكَ التِي لَمْ تُقَدِّمْ عَلَى حُبِّكَ مِنَ الْخَلْقِ أَحَداً، حَمَلَتْكَ كَرْهاً، وَوَضَعَتْكَ كَرْهاً، مَشَقَّةً بَعْدَ مَشَقَّةٍ، وَثِقَلاً مِنْ بَعْدِ ثِقَلٍ، تَرَكَتِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ تَوَحُّماً، وَفَارَقَتِ النَّوْمَ تَوَجُّعاً وَتَأَلُّماً، وَعِنْدَ الوِلادَةِ صَحِبَتْهَا زَفَرَاتٌ وَأَنَّاتٌ، وَقَاسَتْ آلامًا وَآهَاتٍ، وَحِينَ أَبْصَرَتْكَ أَبْصَرَتْ فِيكَ الْحَيَاةَ وَبَسْمَتَهَا، وَالسَّعَادَةَ وَبَهْجَتَهَا، تَحِنُّ إِلَيْكَ وَتَهْوَاكَ، وَتَحْنُو عَلَيْكَ وَتَرْعَاكَ، آثَرَتْكَ بِالشَّهَوَاتِ عَلَى النَّفْسِ، وَلَوْ غِبْتَ عَنْهَا سَاعَةً صَارَتْ كَأَنَّهَا فِي حَبْسٍ، وَكَمْ أَطْعَمَتْكَ فِي حَيَاتِكَ حُلْواً!، وَكَمْ جَنَّبَتْكَ فِي أَيَّامِكَ مُرّاً!.
إِنَّهَا الأُمُّ: مُرَبِّيَةُ الأَجْيَالِ، وَصَانِعَةُ الرِّجَالِ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:
اَلأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا أَعْدَدْتَ شَعْباً طَيِّبَ الأَعْرَاقِ
الأُمُّ أُسْتَاذُ الأَسَاتِذَةِ الأُلَى شَغَلَتْ مَآثِرُهُمْ مَدَى الآفَاقِ
قَالَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ - رضي الله عنهم -: شَهِدَ ابْنُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَاـ رَجُلاً يَمَنِيّاً يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَمَلَ أُمَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ يَقُولُ:(222/3)
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُها لَمْ أُذْعَرِ
ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ: أَتَرَانِي جَزَيْتُهَا؟ قَالَ: "وَلا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ"[رواهُ البخاريُّ في الأدَبِ المفْرَدِ].
فَحَقُّهَا عَلَيْكَ - أَيُّهَا الْمُسْلِمُ - عَظِيمٌ، وَفَضْلُهَا عَلَيْكَ عَمِيمٌ، إِذْ جَمِيلُهَا يَرْبُو عَلَى كُلِّ جَمِيلٍ، وَإِحْسَانُهَا يَفْضُلُ كُلَّ إِحْسَانٍ.
عِبَادَ اللهِ:
وَلَقَدْ أَوْصَى الإِسْلامُ بِالْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا إِحْسَاناً؛ قِيَاماً بِبَعْضِ حَقِّهِمَا، وَتَقْدِيراً لِفَضْلِهِمَا، وَكَفَى بِبِرِّهِمَا شَرَفاً أَنْ قَرَنُهُ اللهُ بِتَوْحِيدِهِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } { الإسراء:23 } وَقَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } { لقمان: 14 } وَقَدْ خَصَّ الأُمَّ بِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ، وَكَمَالِ الرِّعَايَةِ؛ لِمَزِيدِ فَضْلِهَا وَتَجَلُّدِهَا، وَفَائِقِ عَطْفِهَا وَتَحَمُّلِهَا؛ مِنْ مَشَاقِّ الْحَمْلِ، وَشَدَائِدِ الطَّلْقِ،وَتَعَبِ التَّرْبِيَةِ وَالرِّضَاعِ.قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } { لقمان :14 } .(222/4)
فَقَدْ جَعَلَتْ بَطْنَهَا لِوَلِيدِهَا وِعَاءً، وَثَدْيَهَا لَهُ سِقَاءً،وَحِجْرَهَا لَهُ حِوَاءً؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهم - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ:مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ:"أُمُّكَ".قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:"أُمُّكَ".قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:"أُمُّكَ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:"أَبُوكَ"[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. وَبِرُّهَا مِنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَعَنْ عَبْدِِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ:سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -:أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى؟ قَالَ:"الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا" قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ" قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:"الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ"[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ الْمُسْلِمَ يَعْتَرِفُ بِحَقِّ وَالِدَيْهِ، وَيَعْمَلُ لأَدَاءِ هَذَا الْحَقِّ الذِي عَلَيْهِ؛ طَاعَةً لِوَصِيَّةِ اللهِ بِالإِحْسَانِ، وَأَدَاءً لِلْحُقُوقِ وَطَمَعاً فِي الْغُفْرَانِ.
وَمِنْ بِرِّ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ أَنْ يُطِيعَهَا وَلاَ يَعْصِيَ أَمْرَهَا مَا لَمْ تَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ"[رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه].(222/5)
وَمِنْ بِرِّهَا أَنْ يُحْسِنَ صُحْبَتَهَا، وَيُلَبِّيَ دَعْوَتَهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُشْرِكَةً، كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } { لقمان: 15 } ، وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَليَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -قُلْتُ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ:"نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ".[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].(222/6)
وَمِنَ الْبِرِّ بِالأُمِّ أَنْ لاَّ يُجَاهِدَ أَوْ يُسَافِرَ إِلاَّ بِإذْنِهَا إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ، فَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. قَالَ:"وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟" قُلْتُ:نَعَمْ. قَالَ"ارْجِعْ فَبَرَّهَا" ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الْجَانِبِ الآخَرِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَاد مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. قَالَ:"وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟"قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ:"فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا"ثُمَّ أَتِيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ.قَالَ:"وَيْحَكَ،أَحَيَّةٌ أُمُّكَ ؟"قُلْتُ:نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.قَالَ:"وَيْحَك، الزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ"[رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَاللَّفْظُ لَهُ].(222/7)
وَمِنَ الْبِرِّ بِالأُمِّ أَنْ لاَ يَقُولَ لهَاَ مَا يَكُونُ فِيهِ أَدنْىَ تَضَجُّرٍ أَوْ تَبَرُّمٍ، يَقُولُ الْحَقُّ جَلَّ جَلالُهُ: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } { الإسراء:23 } وَأَنْ يَتَلَطَّفَ لهَاَ بِكُلِّ قَوْلٍ لَيِّنٍ خَاشِعٍ، وَيَجْعَلَ نَفْسَهُ مَعَهَا فِي اسْتِكَانَةٍ وَتَوَاضُعٍ؛ كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ فِي عُلاَهُ: { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } { الإسراء:23 - 24 } ، هَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - كَانَتْ أُمُّهُ فِي بَيْتٍ وَهُوَ فِي بَيْتٍ آخَرَ، فَإِذاَ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ وَقَفَ عَلَى بَابِهَا فَقَالَ:"السَّلاَمُ عَلَيْكِ يَا أُمَّاهُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَتَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا بُنَيَّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَيَقُولُ: رَحِمَكِ اللهُ كَمَا رَبَّيْتِنِي صَغيِراً. فَتَقُولُ: رَحِمَكَ اللهُ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيراً"[أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ الْمُفْرَدِ].
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ لاَ يَمْشِي عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ إِذَا كَانَتْ أُمُّهُ تَحْتَهُ؛ بِرّاً بِهَا، وَخَوْفاً مِنْ عَقِّهَا. وَكَانَ بَعْضَهُمْ لاَ يَأْكُلُ مَعَ أُمِّهِ خَشْيَةَ أَنْ تَمْتَدَّ يَدُهُ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَتْ إِلَيْهِ عَيْنُهَا، فَيَعُقُّهَا.
عِبَادَ اللهِ:(222/8)
وَإِنَّ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَلاَّ يَعُقَّ أُمَّهُ، وَلاَ يَتَعَرَّضَ لِسَبِّهَا؛ إِذْ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَهَل يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟!قَالَ:"نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ". وَمِنْ بِرِّ الْمَرْءِ بِأُمِّهِ: أَنْ يَسُدَّ حَاجَاتِهَا، وَيَقُومَ بِوَاجِبَاتِهَا، وَأَنْ يَصِلَ أَهْلَ وِدِّهَا، وَيَدْعُوَ لَهَا، وَيَسْتَغْفِرَ لَهَا وَيَصِلَ الرَّحِمَ التِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهَا وَإِكْرَامُ صَدِيقَاتِها وَيُنْفِذَ وَصِيَّتَهَا مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا. جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ البَرَرَةِ أُولِي الْقُلوُبِ الْمُطِيعَةِ، وَجَنَّبَنَا سُبُلَ الْعُقُوقِ وَالْقَطِيعَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغَفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلّهِ الذِي وَعَدَ الْمُحْسِنِينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ وَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ بِرَّ الأُمَّهَاتِ وَالآبَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؛ قُدْوَةُ الْخَلْقِ وَإِمَامُ الأَنِبيَاءِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْبَرَرَةِ الأَتْقِيَاءِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً مَا ذَكَرَ اللهَ ذَاكِرٌ فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.(222/9)
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ الذِيِ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَرَاقِبُوهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَعْمَلُونَ.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ بِرَّ الأُمِّ جَمَعَ مِنَ الْخَيْرِ أَكْمَلَهُ، وَمِنَ الإِحْسَانِ أَجْمَلَهُ، وَحَازَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْفَعَهُ، وَحَوَى مِنَ الْفَضْلِ أَرْفَعَهُ. أَلاَ وَإِنَّ الْبَارَّ بِأُمِّهِ يَجْنِي ثِمَاراً طَيِّبَةً، َويُهَيِّئُ لَهُ أَسْبَاباً لِرَحْمَةِ اللهِ جَالِبَةً، وَمِنْ أَعْظَمِ ثِمَارِ بِرِّ الأُمَّهَاتِ: دُخُولُ جَنَّةٍ عَرْضُهَا الأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، كَذَلِكُمُ البِرُّ، كَذَلِكُمُ الْبِرُّ"وَكَانَ حَارِثَةُ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ"[رَوَاهُ الْحَاكِمُ ].(222/10)
وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ دَعْوَتَهُ، وَيُفَرِّجَ كُرْبَتَهُ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَتَهُ، فَعَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ اليَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ" فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَه"ُ[رواهُ مسلمٌ] .(222/11)
وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ: أَنَّهُ يَزِيدُ الرِّزْقَ سَعَةً، وَالْعُمْرَ بَرَكَةً؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ[أَيْ يُؤَخَّرُ لُهُ عُمُرُهُ] فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَبِرُّ الأُمِّ يَكَفِّرُ ذُنُوباً عَظِيمَةً، وَيَمْحُو آثَاماًًً جَسِيمَةً، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمُرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْباً عَظِيماً فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ قَالَ:"هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ"قَالَ:لاَ. قَالَ:"هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:"فَبَرَّهَا"[أَخْرَجَهُ التّرْمِذِيُّ]، فَاحْرِصُوا ـ أَيُّهَا الإِخْوَةُ ـ عَلَى بِرِّ أُمَّهَاتِكُمْ، وَلاَ يُؤْثِرَنَّ أَحَدٌ زَوْجَتَهُ عَلَى أُمِّهِ، وَلاَ يَبَرُّ صَدِيقَهُ وَيَعُقُّ أَبَاهُ؛ فَإِنَّ الأَمْرَ دُيُونٌ؛ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَإِخْوَانِنَا وَأَخَوَاتِنَا، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُحْسِناً فَزِدْ لَهُ فِي حَسَنَاتِهِ، وَمَنْ كَانَ مُسِيئاً فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ. اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا يا رَبَّنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ. الَّلهُمَّ أَصْلِحْ وُلاَةَ أُمُورِنَا وَوَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى. رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِمَنْ لَهُ حَقٌ وَفَضْلٌ عَلَيْنَا وَلِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(222/12)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(222/13)
اطبع هذه الصحفة
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين
أيُّهَا الْمُسْلِموُنَ:
إِنَّ الصَّالِحِينَ مِمَّنْ مَضَوْا؛ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقِ رَبِّهِمْ إِلاَّ بِصِدْقِهِم مَعَ رَبِّهِمْ وَوَفَائِهِمْ بِمَا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: ?مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً * لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا? { الأحزاب:23 } ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ مُمْتَدِحاً الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ - رضي الله عنهم -: ?لِلفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيارِهِم وَأَموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ? { الحشر:8 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 20 من ربيع الأول 1429هـ الموافق28/3/2008م
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(223/1)
الْحَمْدُ لِلهِ الذِي رَضِيَ لَنَا الإِسْلاَمَ دِيناً، وَنَصَبَ لنَاَ الدَّلاَلَةَ عَلَى صِحَّتِهِ بُرْهَاناً مُبِيناً، وَأَوْضَحَ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ حَقّاً يَقِيناً، وَأَشْهَدُ أَنْ لاّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلاَ ضِدَّ لَهُ وَلاَ نِدَّ، وَلاَ صَاحِبَةَ لَهُ وَلاَ وَلَدَ، تَعَالَى عَنْ إِفْكِ الْمُبْطِلِينَ، وَتَقَدَّسَ عَنْ شِرْك الْمُشْرِكِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ بَرِيَّتِهِ؛ ابْتَعَثَهُ بِخَيْرِ مِلَّةٍ وَأَحْسَنِ شِرْعَةٍ، وَأَظْهَرِ دَلاَلَةٍ وَأَوْضَحِ حُجَّةٍ، إِلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ؛ إِنْسِِهِمْ وَجِِنِّهِمْ، عَرَبِهِمْ وَعَجَمِِهِمْ، صَلَّى اللهُ وَسلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكُمْ - عِبَادَ اللهِ وَنَفْسِي- بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي المتَّقِينَ، وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ فِي الْمُنِيبِينَ ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ? { التوبة:119 } .
أَيُّهُا النَّاسُ:
إنَّ مِنَ الْخِلاَلِ الْكَرِيمَةِ التيِ تُحَلِّي الْمُسْلِمَ وتُزَيِّنُهُ؛ الثَّبَاتَ عَلَى الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، فِي الْعَلاَنِيَةِ وَالسِّرِّ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الخَلَّةَ الطَّيِّبَةَ كَمَا تَظْهَرُ عَلَى الأَقْوَالِ، لاَ بُدَّ أَنْ تَتَمَثَّلَهَا الْجَوارِحُ، وَيَرْكَنَ إِلَيْهَا الْقَلْبُ؛ فَالْمُسْلِمُ الْحَقُّ لاَ يَقُولُ إِلاَّ صِدْقاً، وَلاَ يُخَالِفُ بِأَعْمَالِهِ مَا يَقُولُهُ وَيَعْتَقِدُهُ؛ ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ? { الصَّف:2-3 } .(223/2)
وَالْمُسْلِمُ الصَّادِقُ الْمُتَمَيِّزُ هُوَ الثَّابِتُ الْمُسْتَقِيمُ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ؛ لاَ يَرُوغُ يَمِيناً وَلاَ شِمَالاً، وَهُوَ الذِي قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِهِ: ?لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ? { البقرة:177 } ؛ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: ?أُولَئِكَ الذِينَ صَدَقُوا? أَيْ: هَؤُلاَءِ الذِينَ اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الذِينَ صَدَقُوا في إِيمَانِهِمْ؛ لأَنَّهُمْ حَقَّقُوا الإِيمَانَ القَلْبِيَّ بِالأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، فَهَؤُلاَءِ هُمُ الذِينَ صَدَقُوا، ?وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ?؛ لأَنَّهُمُ اتَّقَوُا الْمَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ.
أيُّهَا الْمُسْلِموُنَ:(223/3)
إِنَّ الصَّالِحِينَ مِمَّنْ مَضَوْا؛ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقِ رَبِّهِمْ إِلاَّ بِصِدْقِهِم مَعَ رَبِّهِمْ وَوَفَائِهِمْ بِمَا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: ?مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً * لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا? { الأحزاب:23 } ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ مُمْتَدِحاً الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ - رضي الله عنهم -: ?لِلفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيارِهِم وَأَموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ? { الحشر:8 } .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
اِعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّهُ لاَ نَجَاةَ وَلاَ فَوْزَ في الآخِرَةِ، وَلاَ فَلاَحَ وَلاَ تَوْفِيقَ إِلاَّ لِلصَّادِقِينَ، وَالصَّدْقُ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِينَ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: ?قَالَ اللهُ هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم لهم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ? { المائدة:119 } ، وَقَالَ تَعَالَى: ?وَالَّذِي جَاء بِالصِّدقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ? { الزمر:33 } ، وقَالَ جَلَّ وعَلاَ: ?طَاعَةٌ وَقَولٌ مَعرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمرُ فَلَو صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيرًا لَهُم? { محمد:21 } .(223/4)
وَمَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ فِي كُلِّ أَمْرِهِ كَافَأَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِالنُّزُلِ الْكَرِيمِ، وَاللَّقَبِ الْعَظِيمِ؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا"[رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ صَلَواتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال:"لاَ؛ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وَصِيَامُ رَمَضَانَ"، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُهُ؟ قَالَ:"لا؛ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قَالَ: "لا؛ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ: فَأَدبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفلَحَ إِنْ صَدَقَ"[أخرجَهُ الشَّيْخانِ].
عِبادَ اللهِ:(223/5)
إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيَجْزِي الصَّادِقَ بِنِيَّتِهِ وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ، كَمَا يُجْزَي الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ، بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"[رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ الشَّهادَةِ"[رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
أَمَّا مَنْ قَالَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بِصِدْقٍ وَاعْتَقَدَهَا بِحَقٍّ؛ فَإِنَّ لَهُ شَأْناً وَأَيَّ شَأْنٍ!؛ فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ مُعَاذٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ"، وَفِيهِ أَيْضاً أنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرُوا رَجُلاً مِنْهُمْ أَمَامَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاكِتٌ؛ فَلَمَّا أَكْثَرُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ؟" فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالُوا: إِنَّهُ لَيَقُولُهُ؛ قَالَ: "وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَئِنْ قَالَهَا صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ لا تَأْكُلُهُ النَّارُ أَبَداً" فَمَا فَرِحُوا بِشَيْءٍ قَطُّ كَفَرَحِهِمْ بِمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم -.
أَيُّهَا الصَّادِقُونَ:(223/6)
مَنْ أَرَادَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا؛ فَعَلَيْهِ بِالصَّدْقِ لاَ يَتَجَاوَزُهُ أَبَداً، وَمَنْ أَرَادَ زِينَةَ الدُّنْيَا الطَّيِّبَةََ الْحَلاَلَ؛ فَعَلَيْهِ كَذَلِكَ بِالصِّدْقِ لاَ يَتَجَاوَزُهُ أَبَداً؛ فَإِنَّهُ سَيُفْلِحُ وَيَنْجَحُ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضَيِ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. مَا عَمَلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "الصِّدْقُ، وَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ، وَإِذَا بَرَّ آمَنَ، وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ»؛ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. مَا عَمَلُ النَّارِ؟ قَالَ: "الْكَذِبُ؛ إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ فَجَرَ، وَإِذَا فَجَرَ كَفَرَ، وَإِذَا كَفَرَ دَخَلَ" يَعْنِي النَّارَ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ، وَلا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعاً، وَلا تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالأَمَانَةُ جَمِيعاً"[أَخْرَجَهُمَا الإِمَامُ أَحْمَدُ].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثّانية(223/7)
الْحَمْدُ لِلهِ الذِي هَدَى بفَضْلِهِ مَنْ شَاءَ إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَضَلَّ مَنْ شَاءَ بِعَدْلِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أَحْمَدُ رَبِّي وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ، وَأَشْهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ الأَمِينُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقوا اللهَ رَبَّكُمْ وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ وَلاَ تَعْصُوهُ، وَاعْلَمُوا أنَّكُم عَمَّا قَرِيبٍ مُلاقُوهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
لَمْ تُؤْتَ أُمَّةُ الإِسْلاَمِ فِي مَاضِيهَا وَلاَ حَاضِرِهَا إِلاَّ مِنْ عَدَمِ صِدْقِهَا مَعَ رَبِّهَا؛ لَكِنَّهَا لَمْ تُبْتَلَ بِعَدَمِ الصِّدْقِ بمِثْلِ مَا بُلِيَتْ بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الذِي كَثُرَ فِيهِ الدَّجَّالُونَ وَالأَفَّاكُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَعَالِمُونَ؛ الذِينَ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ"؛ قِيلَ:"وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟" قَالَ:"الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ"[رواهُ أحمدُ].(223/8)
أَلاَ فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّها الْمُسْلِمُونَ - وَكُونُوا صَادِقِينَ فِي أَقْوَالِكُمْ وأَعْمَالِكُمْ وَجَمِيعِ أََحْوَالِكُمْ، اُصْدُقُوا اللهَ يَصْدُقْكُم، واسْتَعْصِمُواِ بِه يَعْصِمْكُمْ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ يَفْرَحْ بِكُمْ، وَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَت: مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْكَذِبِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْكِذْبَةِ؛ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً.[أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ]، أَلاَ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّ الْهُدَى وَمُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ؛ فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ?إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً? { الأحزاب:6 } .
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ الْمَهْدِيِّينَ الذِينَ قَضَوْا بِالْحَقِّ وَبِهِ كَانُوا يَعْدِلُونَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَنَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَنَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنَسْأَلُكَ قُلُوباً سَلِيمَةً وَأَلْسِنَةً صَادِقَةً، وَنَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِماَ تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ.(223/9)
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(223/10)
اطبع هذه الصحفة
العدل أساس بناء الأمم وقيام الحضارات
الحمد لله رب العالمين ، الحكم العدل ، يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشىء إن الله هو السميع البصير وأشهد أن لا إله إلا الله له الخلق والأمر والغلبة والقهر خلقه محتاج إليه وهو غني عن عن العالمين .
وأشهد أن لا إله إلا الله له الخلق والأمر والغلبة والقهر خلقه محتاج إليه وهو غني عن العالمين .
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً رسول الله دعا الناس إلى الخير فدعى بحكمة ودعا على بصيرة وساس بحزم. r وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين .
أما بعد :
فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم وطاعته والخوف منه وخشيته ، ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئكهم الفائزون "(224/1)
إن الأمم والمجتمعات تقوم على أسس وثوابت من القيم والفضائل التى تجلب لها الخير وترد عنها الشر وتقوم اعوجاجها وتصون كرامتها وتنفي عنها خبثها حتى تتفرغ لأداء مهمتها في الكون وتحقق الغاية التي وجد من أجلها الإنسان على وجه الأرض والمجتمعات السليمة تظهر فيها هذه الأسس واضحة مسيطرة على ظواهر الناس ومواطنهم ترى فيها الخير يعلو على الشر والحق يعلو على الباطل فيدفعه على ظواهر الناس وبواطنهم ترى فيها الخير يعلو على الشر والحق يعلو على الباطل فيدفعه فإذا هو زاهق ، فنرى الخير يعم والشر ينحصر والضعيف يأخذ حقه من القوي ، والظالم ينبذه المجتمع والأمن يسود والعدل يقام بين الناس ، لو أنصف الناس استراح القاضي وبات كل عن أخيه راضي ، والعدل أساس الملك تسعد به الأمم والأفراد فيهيؤ به الضعفاء ويقوم به الأقوياء وهو ميزان الله في الأرض } والسماء رفعها ووضع الميزان الا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان {[ الرحمن ] وقديماً قالوا : قد يدوم الملك مع الكفر ولا يدوم مع الظلم فكم من مالك غير مسلمة حكمت بالعدل فدام الملك فيها لأن العدل كان أساسها ، وكم من محالك مسلمة استعر فيها الظلم فبارت وحلت محلها ممالك أخرى غيرها وهذا العدل صلاحها ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [ الأنبياء : ] إنها سنة الله في خلقه حينما يريد استبدال أمة مكان أمة فيهدم دولة الظلم على رؤوس الظالمين فيها فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً
( 2 )
فلم بك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافون
[ غافر : 8 ](224/2)
إن الله تعالى يأمر بالعدل وهو الحكم العدل ، يامر بالعدل في جميع جوانب الحياة حتى تستقيم حياة الناس ويعيشوا عيشة العزة والكرامة آمنين على اعراضهم وأموالهم وأنفسهم فالعدل في الحكم يجعل الناس في مأمن من بطش الطغاة الذين يحكمون الناس بالهوس وقد حذر الله تعالى الحكام من ذلك فقال لنبيه داود عليه السلام : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب [ ص ] وسواء كان هذا الهوى في جانب الحاكم أو في جانب المحكوم فلا بد أن يخلو منه الحكم بين الناس حتى لا يجامل أحد على حساب أحد أو يظلم أحد لبعده أو عداوته الحاكم وقد ظهر هذا واضحاً في قول الله تعالى لنبيه r: } وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون { [ المائدة : 49 ] فمن الذي يستخف بعذاب وصفه الكبير المتعال بالشدة ؟ ويشتريه بمتاع هذه الحياة إلا من سعة نفسه ولم ينفذ الايمان إلى سويداء قلبه ؟ ولذلك كان الصحابة حريصين أشد الحرص في ولايتهم للناس فكانوا رفقاء بهم عادلين بينهم وسنختصر بعض مظاهر العدالة في حكم الصحابة رضى الله عنهم ، روى الإمام أحمد عن أنس رضى الله عنه أن النبي rالله عليه وسلم قال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان
[ سند الإمام أحمد ح 3 ص 281 ](224/3)
كان أبو بكر رضي الله عنه يتقصى أخبار الولاه ويسأل الرعية هل من أحد يشتكي ظلامه ؟ فإن وجد ظلامه أنصف المظلوم على سنته التى اسنها وهي أن الكبير صغير حتى يأخذ الحق منه ، عبقرية الصديق العقاد ، و أخرج الطبراني عن الحسن بن علي قال : لما احتضر أبو بكر قال : يا عائشة انظري اللقمة التي كنا نشرب من لبنها والجفنة التي كنا نصطبغ فيها والقطيفة التي كنا نلبسها فإننا كنا ننتفع بذلك حين على أمر المسلمين فإذا مت فاردويه إلى عمر " فلما مات أبو بكر رضي الله عنه أرسلت به إلى عمر فقال : " رحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت من جاء بعدك " إنها النزاهة في الحكم والتجرد فيه لله وإسعاد الرعية على حساب حظهم في الحياة فإذا عم الناس نفع يكون الوالي آخر المنتفعين وإذا ألمت بالأمة مضرة يكون الوالي أول المتضررين حتى يرفع الضرر عن الناس جميعاً .
( 3 )(224/4)
أما عدالة عمر فقد صارت بعدالته واستقامته الركبان ولم حبه لرعيته واشفاقه عليها وتضحيته من أجلها محل شك أو نزاع ويكفينا في هذا أن نور طرقاً من ذلك كان عمر رضي الله عنه يصوم كثيراً ، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبر قد طيبها فأتى به فإذا تدبر من سنام ومن كبد فقال : بخ بخ ! بئس الوالي أنا أكلت طيبها وأطعمت الناس كراويسها ، إرفع هذه الجفنة ، هات غير هذا الطعام فأتى بخبز وخل فجعل يكسر بيده ويثرو ذلك الخبز ثم أمر بحمل تلك الجفنة إلى أهل بيت من بيوت المسلمين ، كان يشعر شعورا ً عميقاً بمسؤولياته لدرجة أنه كان الناس ينامون وهو يحرسهم ويدور بأزقة المدينة عله يجد جائعاً فيطعمه أو صاحب حاجة فيقضيها له ، لقد وجده رسول ملك الروم نائماً على الرمال فقال قولته المشهورة : [ عدلت فأمنت فنمت ] وكان يقول : أبما عامل لي ظلم أحداً ، فبلغني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته " فهو يحمل نفسه مسئولية فعل ولائه بالناس ، وكان يوصي ولاته بالناس ويقول لكل واحد منهم افتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملاً " وهكذا كان باقي الصحابة في معاملاتهم مع رعيتهم لم يطلب منهم أحد شيئاً لنفسه ولم يسع وراء شهواته ولكنه كان إرضاء لله رب العالمين وكانوا ينظرون إلى الحكم على أنه تكليف وليس تشريفاً فالحاكم رجل من الرعية ذو حمل ثقيل لأنه سيسأل أمام الله تعالى عن كل فرد من رعيته لقد كان قدوتهم في ذلك هو رسول الله r الذي كانت تستوقفه المرأة العادية من نساء المسلمين تحكي له مشكلتها وتجادله في ذلك وهو ينصت إليها حتى سمع الله قولها من فوق سبع سموات : } قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير { [ المجادلة : 1 ] فقد علم الناس العدل في القول والعمل فهو يقول لهم : إن المقسطين على منابر من نور عن عين الرحمن عز وجل وكلنا يديه يمين ، الذين بعدلون(224/5)
في حكمهم وأهليهم وما ولوا .. [ رواه مسلم ]
إن المجتمع الذي ينام فيه المجرك لأنه أمن العقوبة وبات فيه المظلوم قلقاً لأنه يئس من إرجاع حقه ، هو مجتمع هش مآله إلى الإنهيار والزوال لأنه لا يصلح للبقاء ولو بقى لا يصلح للتشييد والبناء وبناؤه لا يصلح للسكن والطمأنينة .
أيها المسلمون :
أرسل عمر رضى الله عنه إلى قاضيه أبى موسى الأشعري جاء في أولها : آس بين الناس في نجلك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك .
( 4 )
فنرى في هذه الرسالة أن القاضي يقضي بين الناس بالعدل لا يتحيز لأحد ولو كان هذا الواحد هو أمير المؤمنين نفسه لأن الإسلام علمهم النزاهة في القول والعمل فكان القاضي ميزان له قلب مفعم بالإيمان والخوف من الله تعالى ، لقد كان أحمد بن سهل جار القاضي مصر بكار بن قتيبة : فحدث انه مر على بيت بكار في أول الليل فسمعه يقرأ هذه الآية : }با داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب { قال : ثم قمت في السحر فسمعته يقرؤها ويرددها فلا عجب أن يكون بقار من أعدل القضاه حكماً ومن الاحاديث الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين ] رواه أبو داود والترمذي ، حسن ففي هذا الحديث تمثيل القاضي إذ يلاقي جزاءه في الآخرة بأشد الناس عذاباً في هذه الحياة وهو المذبوح بغير سكين ، هذا حال من يكون حظه من علم القضاء نجا أو يكون حلق العفاف عنده واهياً .
بل يذهب الأمر بنا إلى أبعد من ذلك وهو العدالة حتى في القول : يقول الله تعالى : }إذ قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى {[ الأنعام : 152 ](224/6)
بل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينا درساً في هذا الباب حين وقف ليقيد من نفسه حين قال : أيها الناس من كنت جلدت له ظهر فهذا ظهر فليقص مني ، ثم يقول الله تعالى : }إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون {
فإذا كان الله يامر بالعدل والإحسان وببعض الظلم فما بال المجتمعات قد شح فيها العدل وخشى فيها الظلم حتى كاد أن يصبح عادة سائدة في المجتمعات عامة والإسلامية خاصة . إنه العدل المطلق حين يقف الرسول r من نفسه لأن هذا يكون قدرة في استيفاء الحقوق من الكبار ، اما التراخي والإغضاء عن الكبار مراعاة لمراكزهم في حقوق الأفراد وأهمالاً من الهيئة الاجتماعية في حماية أفراد المجتمع فإنه في نفس الوقت جرثومة خطيرة إذا لم يقص عليها وتجتث من جذورها باضت وأفرخت وأتت بنفس الصنف المجرم بعد حين قريب أو بعيد إنها المثل السيء الردىء في عدم مبالاة ممثل الهيئة الاجتماعية بأمن الأفراد وحرياتهم وأرزاقهم وكرامتهم وأعراضهم ، قد يقول بعض الناس دعونا من الماضي واسدلوا عليه ستار النسيان والصفع والتنازل ولنبدأ حياة جديدة متطلعين إلى مستقبل أكرم وأفضل وباله من رأي خطر يملؤه الخطا من كل جوانبه وياله من أسلوب يجر على
الناس أوخم العواقب وأفظع المظالم حين يردم بالتراب على حقوق الضعفاء لصالح الأقوياء ، إنهم
( 5 )(224/7)
يقولون إن مقومات الحضارة المدنية نسيان الحقوق والتسامح فيها ولست أدرى كيف يمكن أن تقام للمستقبل حضارة تبني على الضلال والظلم والفساد ، إن الفرق بين التقدم والرجعية انه في قديم الزمان كان الحق للقوة أما التقدم الإنساني والعزة البشرية فلن تقوم إلا على تنفيذ حدود الله في الكبير والصغير في أكبر رأس وفي الذي يكفي الشوارع والطرقات ، هناك فقوم حضارة ويسود أمن ويزهو رخاء ، إن الدعوة إلى التسامح وترك الأحقاد لن يحققها ويجعلها واقعاً محسوساً بين الناس إلا إذا قامت الموازين القسط فلا إرجاح ولا تطفيف وزالت كل مظاهر الظلم في أي موقع من مواقع المجتمع ، إن إبقاء أي مظهر من مظاهر الظلم ليس من ورائه إلا تأصيل الأحقاد في النفوس وتعميقها ، فالمظلوم كلما رأى ظالمه على حاله لا تمتد إليه يد العدالة حز ذلك في نفسه وقلبه وحطم معنوياته لنه يرى أن المظالم ما تزال ممتدة الجزور وارفة الظلال ، إن الذي يبني المستقبل للأفراد والمن هو الأيدي النظيفة التي لم تتلوث باعتداء على أحد ، إنها النفس الطيبة التي لم ترض لنفسها الإساءة إلى الناس في يوم من الأيام ، إنه العقل السليم الذي لم تشب تفكيره المظالم والاستهانة بحقوق قرد من الأفراد .
إنا نريد إذا ما الظلم حاق بنا عدل الأناس لا عدل الموازين
عدل الموازين ظلم حين ننصبها على المساواة بين الحر والدون
ما فرقت كفة الميزان أو عدلت بين الحلى وأحجار الطواحين
يقول الرسول r: ليس من والي أمة أو كثرت لا بعدل فيها إلا كبه الله تبارك وتعالى على وجهه في النار .. رواه أحمد
ويقول : ما من والي عشرة إلا ويأتي يوم القيامة مغلولاً يفكه العدل أو يوبقه الجوز التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(224/8)
اطبع هذه الصحفة
استوصوا بالنساء خيراً
إن الإسلام هو الرسالة التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الذين أخرجتهم هذه الرسالة العظيمة من ظلمات الشرك والجهل والظلم المرأة، فقد أعاد الإسلام لها كرامتها وآداميتها، لأنها صنو الرجل، وأخته في الإنسانية والإسلام قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]
وقال(صلي الله عليه وسلم): "إنما النساء شقائق الرجال" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) عن عائشة رضي الله عنها.
إن المرأة هي إحدى جناحي المجتمع، ويستحيل أن يعيش ويسمو إذا بترت، وهي إحدى رجليه، ولن يتقدم أبداً متى شلت، فالمرأة هي نصف الأمة، والحديث عنها هو الحديث عن نصف الإنسانية وعن أم الإنسانية، لذا أهتم الإسلام بها منذ أن انتشر ضوؤه، فأعلى مكانتها، وأنصفها من الجور الذي كانت تقاسي مرارته، وأعطا ها من الحقوق ما أعطاه للرجل الا ما استثناه مما يخص أحدهما دون الآخر، وهذا لا يتنافى مع المساواة، قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]
استوصوا بالنساء خيراً
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، نحمده ونستعينه، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الزوجين الذكر والأنثى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي المجتبى والرسول المصطفى،اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل التقوى.
أما بعد:
فيا عباد الله:(225/1)
إن الإسلام هو الرسالة التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الذين أخرجتهم هذه الرسالة العظيمة من ظلمات الشرك والجهل والظلم المرأة، فقد أعاد الإسلام لها كرامتها وآداميتها، لأنها صنو الرجل، وأخته في الإنسانية والإسلام قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]
وقال(صلي الله عليه وسلم): "إنما النساء شقائق الرجال" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) عن عائشة رضي الله عنها.
إن المرأة هي إحدى جناحي المجتمع، ويستحيل أن يعيش ويسمو إذا بترت، وهي إحدى رجليه، ولن يتقدم أبداً متى شلت، فالمرأة هي نصف الأمة، والحديث عنها هو الحديث عن نصف الإنسانية وعن أم الإنسانية، لذا أهتم الإسلام بها منذ أن انتشر ضوؤه، فأعلى مكانتها، وأنصفها من الجور الذي كانت تقاسي مرارته، وأعطا ها من الحقوق ما أعطاه للرجل الا ما استثناه مما يخص أحدهما دون الآخر، وهذا لا يتنافى مع المساواة، قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
( 2 )
أيها المسلمون:(225/2)
لقد ساوى الإسلام بين الرجال والنساء في التكاليف الشرعية والعقائد والعبادات والأخلاق، وأنهم سواء في استحقاق الثواب والعقاب قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] وقال جل شأنه: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ} [النور: 31] وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
ليس للرجل فضل على المرأة، ولا للمرأة فضل على الرجل إلا بقدر ما قدم من عبادة لله تعالى وخدمة للمجتمع، قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
لقد رفع الإسلام من شان المرأة، ومنحها حقوقها الإنسانية المشروعة بما ليس له نظير في شرع مثله، ولا جرم فذلك تنظيم العلي الأعلى جل وعلا، فقد قرر الإسلام للمرأة حق التملك بعد أن كانت محرومة منه في عصر الجاهلية وقبل الإسلام، وفي بعض الدول الأوربية في العصر الحديث، فترث أباها، وأخاها وزوجها قال تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [النساء: 7].
ولا يجوز لأحد أن يستولى على ما لها إلا بإذنها فلها حق التصرف في مالها شراء وبيعاً وهبة، سواء كان مصدره إرثاً أو مهراً أو تجارة أو غير ذلك.(225/3)
قال الله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}[النساء: 4].
( 3 )
معشر المسلمين:
لقد منحت الشريعة الإسلامية المرأة حق إبداء الرأي في مسائل العامة والخاصة، وعلى رأسها ما يتعلق بحقها في اختيار زوجها بلا حرج، وعلى المجتمع أن يستمع لقولها ويحترمه اقتداء بالنبي (صلي الله عليه وسلم)، فقد أخذ برأي زوجه أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية، عندما منعه المشركون من إتمام مناسك العمرة ومن دخول مكة ، قالت: اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر هديك، فخرج فنحر هديه، ثم دعا حالقه فحلق، ففعل المسلمون مثل ما فعل، وقال (صلي الله عليه وسلم) " لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالت عائشة رضي الله عنها: إن البكر تستحي، فقال: رضاها صمتها" رواه الخمسة وابن ماجة".
أن تعليم المرأة أمور حياتها ودينها من الأمور الثابتة في الإسلام، فالرسول (صلي الله عليه وسلم) علم نساء المسلمين أمور دينهم ففي صحيح البخاري ومسلم أن النبي rكان يخص النساء بأيام يعلمهن فيها ما علمه الله وقال (صلي الله عليه وسلم): "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (رواه البيهقي صحيح الجامع الصغير) ومعلوم أن الأحكام التي تطلب من المسلمين تشمل الرجال والنساء الا ما جاء يخص الرجال في الحكم ولم يرد هنا ما يخص الرجال وقال (صلي الله عليه وسلم) "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (رواه أحمد وأبو داود) ومعلوم أن المسجد في عصر النبوة كان محراب الصلاة وجامعة العلم والعلوم.
وقد ورد أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها كانت تعلمها امرأة يقال لها الشفاء العدوية، تعلمها القراءة والكتابة، فلما تزوجها النبي (صلي الله عليه وسلم) طلب من الشفاء أن تعلمها تحسين الخط وترتيبه كما علمتها أصل الكتابة.
أيها المسلمون:(225/4)
لقد أمر الإسلام الآباء أن يعتنوا بتربية بناتهن وتعليمهن، لأن المرأة نصف المجتمع ولا بد من إصلاح هذا النصف، وإلا بقي هذا النصف أشل.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "من بلى من هذه البنات بشئ فأحسن إليهن كن له ستراً من النار" وضرب النبي (صلي الله عليه وسلم) المثل الأعلى في تكريم البنت، فقد كان يحمل أمامة بنت ابنته زينب وهو يصلي، حين كان الناس يأنفون من الابتسامة للبنات كما حكى القرآن عنهم قال الله تعالى: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58, 59]
لقد كرم الإسلام المرأة كزوجة فأعطاها من الحقوق ما للزوج إلا القوامة فأعطاها للرجل لأنه أقدر على تحمل المسئولية لما منحه الله من الفطرة التي تساعده على ذلك.
( 4 )
قال جل شانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ} [النساء: 34].
وقال سبحانه {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ولقد حظيت المرأة بوظيفة هي أسمى الوظائف، فهي مديرة مصنع الرجال، أعظم مصنع في العالم، وهذا لا يقوم به الرجل قال سبحانه {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] وقال (صلي الله عليه وسلم): "المرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها" [رواه الشيخان].(225/5)
فالمرأة ريحانة البيت وروحه، بها يكون البيت سكناً للزوج والأولاد، قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] وقال (صلي الله عليه وسلم) "الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة" (رواه مسلم) وأوصى الرسول (صلي الله عليه وسلم) في حجة الوداع الرجال بالإحسان إلى النساء فقال: "استوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً" (رواه الترمذي).
كما منحها الإسلام حق طلب الطلاق إذا تعرضت للإساءة قال سبحانه: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].
معشر المسلمين:
لقد أوجبت الشريعة الإسلامية على الأولاد البر والإحسان بأمهاتهم جزاء ما قدمن من جهد نحوهم، والإحسان يتعدى الحياة إلى ما بعد الموت، قال جل شأنه {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24].
( 5 )(225/6)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقال يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك.
أيها الأخوة المسلمون:
لا يعرف دستور ولا قانون ولا دين أعطى المرأة من المكانة اللائقة لها، وكفل لها حقوقها مثل الإسلام، لقد اعترف بإنسانيتها كاملة كالرجل، وفتح أمامها باب التعليم، واسبغ عليها مكانة اجتماعية سامية، منذ طفولتها حتى مماتها، منذ كانت بنتاً ثم زوجة ثم أماً، وهذه المكانة تنمو كلما تقدمت بها السن كما منحها حقوقها القانونية والدستورية فأعطاها حق الأهلية المالية كاملة في جميع التصرفات حين تبلغ سن الرشد، وبارك مشاركتها في خدمة المجتمع بما لا يتعارض مع وظيفتها الأولى وهي رعاية الأسرة.
وهكذا يتبين لنا أيها الاخوة الكرام – إن الإسلام كرم المرأة بما منحه لها من حقوق إنسانية واجتماعية وقانونية ودينية، وعلى المرأة الآن أن تهتم بدينها، فلا تفرط في أحكامه وتشريعاته، وتفخر بدينها الذي سما على تشريعات العالم الأخرى وحضاراتها بما منحه لها من امتيازات تفوق ما أعطاه لها غير الإسلام.
قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(225/7)
اطبع هذه الصحفة
جناية المخدرات علي المجتمع
مما هو معلوم أن المجتمع مجموعة من الأفراد يعيشون فوق بقعة من الأرض، تربطهم روابط متعددة، ويشكلون أمة وشعباً، وبسواعد أفراد المجتمع تبني حياة الأمة ويتبوأ الوطن مكانته ويقيم صرح نهضته، وإن الدراسات المستقبلية الواعية لتركز على العنصر البشري والعقل البشري الذي يحرك الآلة مهما تطورت وتقدمت.
فواجب علينا أن نعني بهذه الثروة البشرية ولا نبددها ونتركها نهباً للآفات المدمرة والمخدرات القاتلة، سواء كانت شراباً يؤخذ بالفم، أم مادة تشم بالأنف، أو دخاناً يصل إلى تجاويف الصدر، أو سائلاً يوضع في الجلد.
وإذا بحثنا عن أسباب الإدمان على هذه الآفة نجد أن أهمها: التفكك الأسرى والنزاعات العائلية كحالات الطلاق التي ينشأ عنها تشرد الأبناء وضياعهم، وكذلك القدوة السيئة عندما ينشأ الشاب أو الفتاة فيرى والده يتناول هذه الموبقات فيعتقد أن هذا هو السلوك المثالي،
جناية المخدرات علي المجتمع
الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان وكرمه بالعقل والمنطق، وجعله سيداً لهذا الكون(226/1)
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر الإنسان بالمحافظة على حياته وحياة الآخرين، وحرم عليه أن يقتل نفسه أو يلحق بها الأذى فقال {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}[النساء: 29]، وأشهد أن محمدا رسول الله نبي الهدى والرحمة، أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه وأحبابه، ومن اهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
مما هو معلوم أن المجتمع مجموعة من الأفراد يعيشون فوق بقعة من الأرض، تربطهم روابط متعددة، ويشكلون أمة وشعباً، وبسواعد أفراد المجتمع تبني حياة الأمة ويتبوأ الوطن مكانته ويقيم صرح نهضته، وإن الدراسات المستقبلية الواعية لتركز على العنصر البشري والعقل البشري الذي يحرك الآلة مهما تطورت وتقدمت.
فواجب علينا أن نعني بهذه الثروة البشرية ولا نبددها ونتركها نهباً للآفات المدمرة والمخدرات القاتلة، سواء كانت شراباً يؤخذ بالفم، أم مادة تشم بالأنف، أو دخاناً يصل إلى تجاويف الصدر، أو سائلاً يوضع في الجلد.(226/2)
وإذا بحثنا عن أسباب الإدمان على هذه الآفة نجد أن أهمها: التفكك الأسرى والنزاعات العائلية كحالات الطلاق التي ينشأ عنها تشرد الأبناء وضياعهم، وكذلك القدوة السيئة عندما ينشأ الشاب أو الفتاة فيرى والده يتناول هذه الموبقات فيعتقد أن هذا هو السلوك المثالي،
( 2 )
ومن الأسباب أيضاً رفقاء السوء وجماعة الإثم والشهوات يصورون للعضو الجديد أن تعاطي المخدرات رمز للرجولة والتحرر، ومن الأسباب كذلك الضغوط النفسية والوظيفية والأسرية التي تدفع بعضهم إلى التعاطي والإدمان لتخفيض شعورهم بالتوتر أو كوسيلة للهروب من مواجهة الواقع المؤلم.
أيها المسلمون:
هذه بعض الأسباب فما آثارها ونتائجها؟ منها على سبيل المثال أولاً: تدمير الجهاز العصبي، فيفقد المدمن سيطرته على الانفعالات والمهارات، ويأتي بأفعال يستنكرها بعد زوال أثر المخدر، وكذلك فقدان القدرة على الانتباه والتركيز، وما أكثر ما نسمع عن حوادث السير نتيجة القيادة تحت تأثير المخدر، ثانياً: ضمور خلايا المخ وفقدان السيطرة على العضلات والهلوسة وتخيل أمور غير واقعية، ثالثاً: العزلة والانطواء على النفس وشحوب الوجه واصفراره، وانخفاض الوزن بصورة واضحة ثم التأخر الدراسي أو إهمال واجبات الوظيفة، رابعاً: سرعة الاستثارة وتقلب المزاج وكثرة النوم وإهمال العناية بالملابس والمظهر الخارجي، خامساً: تليف الكبد وأمراض الكلى سادساً: الانحرافات الجنسية والشذوذ وفقد الغيرة على الأهل ومنها قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وضياع الأموال وخراب البيوت والتفكك الأسري والطلاق وتشريد الأولاد ونتيجة فقدان الوازع الأخلاقي.
أيها المسلمون:(226/3)
لقد أوجب الإسلام على المسلم أن يكون قوياً في كل نواحيه الصحية والفكرية والروحية والاقتصادية والسلوكية بوجه عام، وقد جاء في ذلك قول النبي (صلي الله عليه وسلم): "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز"
(رواه مسلم) إن الصحة لها مكانتها في الإسلام، حيث منع كل ما يؤثر على صحة الإنسان حتى لا يضعف عن أداء واجباته الدينية والدنيوية، وقرر أنها نعمة لا يفطن إلى قدرها كثير من الناس، كما يقول المثل السائر ((الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفه إلا المرضى)) وقد قال النبي (صلي اللع عليه وسلم): "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" (رواه البخاري)، من أجل ذلك نهى الإسلام عن كل ما يضر البدن والعقل، وحرم جميع المطعومات والمشروبات الضارة كالميتة ولحم الخنزير والخمر والمخدرات لما فيها من ضرر وضرار قال (صلي الله عليه وسلم): "لا ضرر ولا ضرار"
( 3 )
وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قدم من جيشان – وجيشان من اليمن – فسأل رسول الله (صلي الله عليه وسلم): عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر، فقال له (صلي الله عليه وسلم): أو مسكر هو؟ قال الرجل: نعم ، قال (صلي الله عليه وسلم): "كل مسكر خمر، وإن عند الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال: قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال عرق أهل النار أو عصارة أهل النار" (رواه مسلم)
أيها المسلمون:
إذا كان الأمر كذلك فهل يليق بالمسلم أن يبيع دينه بعرض قاتل من الدنيا؟ هل يليق به أن يبيع عقله بثمن بخس من الخيال والوهم ، هل يليق به أن يذل نفسه لعادة خبيثة تجره إلى الهلاك والدمار؟ هل يليق به أن يدمر نفسه وبيته وأولاده ومجتمعه أو ينقل أموال بلده إلى أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر؟(226/4)
لقد جرت المسكرات والمخدرات والتدخين على المجتمع وبالاً خطيراً وشراً مستطيراً ولو ادرك المدمنون ما يفرغون في أجوافهم من سموم، وما ينتظرهم من أمراض مستعصية، و ما يورثون أولادهم من جنون وضياع لما أقدموا عليها. لو رأوا أنفسهم وهم غائبون عن الوجود بتصرفون كالبله لعرفوا إلى أي مدى وصلوا بأنفسهم إلى الانحطاط والحماقة ولأدركوا أي جناية أقدموا عليها، وأية مصيبة جلبوها بأيديهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
معشر المسلمين:
( 4 )(226/5)
إن انتشار المخدرات بهذه الصورة يهدد مستقبلنا، ويهدد مستقبل الفرد والأسرة والمجتمع، وإذا كان الأمر كذلك فعلى المعنيين بشئون الإصلاح والتربية، وعلى الآباء والأمهات أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم في سبيل الإنقاذ، وإنهم بالعزم والحزم وقوة الإرادة وتوحيد الجهود لواصلون بعون الله إلى إنقاذ الشباب – إلى إنقاذ فلذات أكبادهم – إلى إنقاذ عماد مجد الأمة وبناة نهضتها، وإن أمة يسرى فيها فيروس الإدمان لهي أمة تسير بخطى سريعة نحو الفناء والهلاك وضياع الصحة والمال والشباب وضعف الإنتاج، إن الواقع مر وملئ بمآسي الإدمان، ولم تطو صفحاته بعد، وإنه لملئ بشتى الصور المخزية، إن أمة يتحول أبناؤها إلى أدوات خطر ومعاول هدم بفعل المخدرات والأدمان عليها لهي أمة يجب أن يستنفر فيها المصلحون وأن يهبوا جميعاً في سرعة سريعة لمحاربة هذا الوباء الخطر والقضاء عليه بكل ما أوتوا من وسائل وأسباب ليسلم الشباب ويسلم المجتمع ويسلم الوطن ويعيش أفراده في صحة وعافية قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90، 91] نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يحفظ شبابنا وأمتنا وأبناءنا وبناتنا من كل سوء ومكروه، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا وأن يهدينا سواء السبيل وأن يتوب علينا ويهدي عاصينا إنه هو التواب الرحيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين
من كل ذنب فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم.
---(226/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(226/7)
اطبع هذه الصحفة
التفكك الأسري من أهم أسباب الإدمان
تقوم الأسرة المسلمة على الزوج والزوجة والأولاد، وهذه الأسرة الإسلامية هي النواة الأولى للمجتمع، وإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع.. ولم تهتم ملة من الملل، ولا دين من الأديان بنظام الأسرة، ووضع ما يحقق لها السعادة والعافية كما اهتم بها الإسلام
فقد وضع الأساس القوي لاختيار الزوج والزوجة، يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): "فاظفر بذات الدين تربت يداك" (رواه الشيخان) ويقول: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض فساد كبير" (رواه الترمذي) كما جعل لكل من الزوجين حقوقاً وواجبات، إذا التزما بها التزاماً تاماً نجت سفينة الأسرة من الغرق ومن جميع الأهوال والنكبات.. فقد فرض الإسلام على الرجل أن يتوخى الخير لزوجته في كل تصرفاته قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] والمعاشرة بالمعروف تكون بالكلمة الطيبة، والمعاملة اللينة، والخطاب الرقيق، والبعد عن صغائر الأمور.. كما تكون بالاحترام المتبادل، ومراعاة الشعور، والتغاضي عن كل ما يعكر الصفو، ويغير النفوس. يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): "استوصوا بالنساء خيراً" (متفق عليه). وذلك لضعفها، وحاجتها إلى الرعاية والإكرام، فما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم. ولقد نهى الرسول (صلي الله عليه وسلم): عن إهانتها بأي نوع من أنواع الإهانة، فقال عليه الصلاة والسلام: "ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت" (حديث حسن رواه أبو داود).. كما فرض عليها طاعته في غير معصية، والمحافظة على عرضه وماله، والقيام بتربية أولاده، وتهيئة كل الظروف لراحته وسعادته.
التفكك الأسري من أهم أسباب الإدمان(227/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الملك ملكه، والخلق خلقه، والناس عباده، له الحمد حتى يرضى.. وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين.. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم، على عبدك ورسولك، سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين، وصحابته المجاهدين، ومن تبعهم بأحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
أيها الإخوة المسلمون:
تقوم الأسرة المسلمة على الزوج والزوجة والأولاد، وهذه الأسرة الإسلامية هي النواة الأولى للمجتمع، وإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع.. ولم تهتم ملة من الملل، ولا دين من الأديان بنظام الأسرة، ووضع ما يحقق لها السعادة والعافية كما اهتم بها الإسلام(227/2)
فقد وضع الأساس القوي لاختيار الزوج والزوجة، يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): "فاظفر بذات الدين تربت يداك" (رواه الشيخان) ويقول: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض فساد كبير" (رواه الترمذي) كما جعل لكل من الزوجين حقوقاً وواجبات، إذا التزما بها التزاماً تاماً نجت سفينة الأسرة من الغرق ومن جميع الأهوال والنكبات.. فقد فرض الإسلام على الرجل أن يتوخى الخير لزوجته في كل تصرفاته قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] والمعاشرة بالمعروف تكون بالكلمة الطيبة، والمعاملة اللينة، والخطاب الرقيق، والبعد عن صغائر الأمور.. كما تكون بالاحترام المتبادل، ومراعاة الشعور، والتغاضي عن كل ما يعكر الصفو، ويغير النفوس. يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): "استوصوا بالنساء خيراً" (متفق عليه). وذلك لضعفها، وحاجتها إلى الرعاية والإكرام، فما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم. ولقد نهى الرسول (صلي الله عليه وسلم): عن إهانتها بأي نوع من أنواع الإهانة، فقال عليه الصلاة والسلام: "ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت" (حديث حسن رواه أبو داود).. كما فرض عليها طاعته في غير معصية، والمحافظة على عرضه وماله، والقيام بتربية أولاده، وتهيئة كل الظروف لراحته وسعادته.
أيها الإخوة المسلمون:
( 2 )
بهذه التعاليم السمحة، وبهذه الآداب العائلية، ينشأ الأولاد أسوياء النفوس، أصحاء الأبدان، لا يوجد بينهم منحرف ولا معوق، أخلاقهم كريمة، وصدورهم نقية، وألسنتهم عفيفة، أهل بر وخير، كما ينشأون بعيدين عن الهموم والقلق، والخوف والاضطراب، لأنهم تربوا في بيت قائم على العدالة الاجتماعية، والنظام الإسلامي.(227/3)
والعدالة التي دعا إليها القرآن الكريم، ودعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم، هي العدالة النفسية الخلقية، التي تجعل الحقوق والواجبات متساويين متماثلين، فما من حق إلا ويقابله واجب، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] وهذه الدرجة ليست درجة حق خلا من واجب، فإذا كان للرجل على زوجته حق الطاعة، فلها عليه حق العدل والمساواة (منهاج الصالحين)
أما إذا خلا البيت من المعاني النبيلة، والعواطف الرقيقة، والسكينة والمودة والرحمة، التي أنعم الله بها على بيت الزوجية، فإن هذا البيت يتحول إلى ساحة قتال، يتبادل فيها الزوجان السباب والشتائم والتهم، والضرب والصياح والإهانة، ويسمع الناس كل يوم عن معارك جديدة، ونزاعات جديدة.
( 3 )
كل ذلك يحدث، والأولاد ينظرون، تتقطع أكبادهم من الخوف، وتبح أصواتهم من الاستغاثة، ومن وسط الدموع والعبرات ينظرون بهم وحزن إلى مستقبل مظلم، لا يدركون مكانهم منه، وكثيراً ما ينتهي الأمر إلى كلمة الطلاق، التي هي أبغض الحلال إلى الله، ويذهب كل من الزوجين إلى حال سبيله. والأولاد إلى أين يذهبون؟ وإلى من يلجأون؟ ومن يرتب لهم أمور الحياة من تعليم وآداب وسلوك ومعيشة؟.
إنهم بلا شك سيتخطفهم قرناء السوء، وشياطين الإنس، يعلمونهم فن السرقة، وتعاطي المخدرات، وجميع وسائل الشر والانحراف.. للمخدرات تكاليف باهظة تحتاج إلى الحصول على المال بأية طريقة من طرق الحرام، ولو كلفهم ذلك قتل النفس، وعقوق الوالدين، والتضحية بأحب الناس إليهم، فيعم الفساد، وتنقطع الأواصر، ويصبح الأولاد ضحية ما ارتكب الوالدان من حماقة، وما أقدما عليه من مصائب.
أيها المسلمون:(227/4)
ما هو السبب فيما يحدث من انحراف؟ السبب هو التفكك الأسري، ووضع البيت المسلم في مهب الريح، وعدم تحمل المسئولية التي ألقاها الإسلام على كل من الزوجين، وأين الرعاية التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم في عنق كل من الوالدين بقوله "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته" (متفق عليه).
أيها الإخوة المسلمون:
إن نظرة بسيطة إلى أحوال المدمنين للمخدرات، ودراسة أحوالهم، تبين لنا أن أكبر الأسباب في تفشيها يرجع إلى سوء الأحوال في بيت الزوجية، وإلى التفكك الأسري نتيجة للخلافات المستمرة التي عجز المصلحون عن القضاء عليها في مهداها، مع أن المولى سبحانه وتعالى رسم لنا الطريق فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء: 35].
ولكن بكل أسف يركب كل من الزوجين رأسه، ويعاند نفسه، ويصر على القطيعة، غير مبال بما يرتكب من فظاظة بأولاده الذين جعلهم الله قرة العيون ومهج النفوس، والذين هم أمل صفات عباد الرحمن، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74].
دعوة إسلامية لو عقلها المسلمون لعرفوا سر السعادة في الدنيا والآخرة، وحرصوا على أن يجعلوها ضمن مقاصدهم السامية.
أيها الإخوة المسلمون:
( 4 )(227/5)
الأولاد أمانة، والله سائلنا عن أداء الأمانة، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وإنهم رعيتكم التي استرعاكم الله إياها، قال رسول الله (صلي الله عليهوسلم): إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته
(الأحاديث الصحيحة رقم 41636).
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(227/6)
اطبع هذه الصحفة
كم في الإسراء والمعراج من دروس وعبر
.تحتفل الأمة الإسلامية هذه الأيام بحدث ضخم من أحداث الإسلام، وذكرى لها أثرها في حياة المسلمين، هي ذكرى الإسراء والمعراج.
الإسراء بالرسول (صلي الله عليه وسلم) من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى بالقدس الشريف، يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1] ثم العروج به إلى سدرة المنتهى ليكون في ضيافة الذات العلية.
والإسراء والمعراج حدث ضخم في تاريخ البشرية كلها، فلم يحدث لأمة قبل أمتنا، ولا نبي قبل نبينا (صلي الله عليه وسلم).
فقد كان استجابة من الله تعالى لدعاء قلب مكلوم، ونفس حزينة، فوضت أمرها إلى بارئها فقالت "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، لكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة"
كم في الإسراء والمعراج من دروس وعبر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
تحتفل الأمة الإسلامية هذه الأيام بحدث ضخم من أحداث الإسلام، وذكرى لها أثرها في حياة المسلمين، هي ذكرى الإسراء والمعراج.(228/1)
الإسراء بالرسول (صلي الله عليه وسلم) من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى بالقدس الشريف، يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1] ثم العروج به إلى سدرة المنتهى ليكون في ضيافة الذات العلية.
والإسراء والمعراج حدث ضخم في تاريخ البشرية كلها، فلم يحدث لأمة قبل أمتنا، ولا نبي قبل نبينا (صلي الله عليه وسلم).
فقد كان استجابة من الله تعالى لدعاء قلب مكلوم، ونفس حزينة، فوضت أمرها إلى بارئها فقالت "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، لكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة"
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة و السلام على من لا نبي بعده.
أيها المسلمون:
تأتي هذه الذكرى في أيام اشتد فيها الكرب، ودارت فيها رحى الحرب العسكرية والنفسية، لانتزاع المسجد الأقصى من أرض المسلمين، إلى حد انتقال المعارك من شارع إلى شارع، تحصد فيها آلاف الأطفال والنساء بلا وازع ولا رحمة.
أيها المسلمون:
إن قضية المسجد الأقصى ليست قضية فلسطينية ولا هي قضية عربية، وإنما هي قضية إسلامية، والأمة الإسلامية التي يزيد عددها عن ألف مليون مسلم، تخفى رأسها في الرمال كأن الأمر لا يعنيها، وتكتفي أمام ضراوة المعارك بكلمات الاحتجاج والشجب والإدانة، والدعوة الى الاجتماعات، وعقد المؤتمرات، وكل هذا لا يغني من الحق شيئاً.
ولقد استمرأ العدو الغاشم كل هذه الأساليب، فأسرف في القتل، واستمر في بغيه وطغيانه، والناس ينظرون.
أيها المسلمون:(228/2)
إن الحق لا يسترد إلا بالقوة، ولا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يوقف الشر عند حده إلا الجهاد في سبيل الله الذي فرضه الله علينا إذا احتل شبر من أرض المسلمين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38، 39].
( 6 )
إخوانكم – أيها المسلمون يحاربون العدو الغاشم بالحجارة، فيرد عليهم بالصواريخ والقنابل، وبالدبابات والطائرات، وبالأسلحة التي تحرمها القوانين الدولية، فعلى الأمة الإسلامية أن تجمع أمرها، وتعي ما يراد لها من مؤامرات مدبرة أصبحت لا تخفي على أحد، وأن يكون لها موقف تاريخي حازم يرد كيد العدو إلى نحره، ويوقف العدوان عند حده، ويرد إلى المسجد الأقصى حريته، وإلى الأمة الإسلامية كرامتها.
اللهم عليك بأعدائنا وأعدائك.. اللهم انصرنا عليهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر.. اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.. اللهم أجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناُ سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.. اللهم احفظ صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين وأرحم شهداءنا وفك قيد أسرانا وجميع أسرى المسلمين.. واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت اقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.. اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(228/3)
اطبع هذه الصحفة
أثر المخدرات والمسكرات في تخريب العقل
وقد تفضل الله على الإنسان فأمده وزوده بالعقل، القوة الكبرى في هذا الكون، ليتمكن من القيام بأعباء الرسالة التي كرمه الله بها، وهي خلافة الله في الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] والخلافة تتطلب القوة التي يمكنها اكتشاف سنن الله تعالى في الكون، وذلك يتحقق عن طريق العقل الذي اختص الله به الإنسان، والذي بواسطته يتمكن من التعلم والتفكر والاكتشاف، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 31، 32].
العقل نعمة الله الكبرى على بني آدم، وهو نعمة عظيمة لا تقف أمام فاعليته حدود، فالدماغ الإنساني يتكون من عشرين ملياراً من الخلايا العصبية، وكل خلية ترتبط بألف وحدة ارتباطاً وثيقاً مع بقية الخلايا، مما يجعل الدماغ والعقل الإنساني أكبر قوة في الكون.
أثر المخدرات والمسكرات في تخريب العقل
الحمد لله الذي أمر الإنسان بفعل الخيرات، وعمل الطاعات، ونهاه عن ارتكاب المعاصي واقتراف الموبقات واجتراح السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفرح بتوبة التائبين وعودة العصاة والمذنبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المستغفرين، ورائد التائبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن دعا بدعوته، واستن بسنته، وسلك طريقه إلى يوم الدين.
أيها المسلمون:(229/1)
كرم الله الإنسان وفضله على كثير من خلقه ورزقه الطيبات: قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء 70].
أيها المسلمون:
وقد تفضل الله على الإنسان فأمده وزوده بالعقل، القوة الكبرى في هذا الكون، ليتمكن من القيام بأعباء الرسالة التي كرمه الله بها، وهي خلافة الله في الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] والخلافة تتطلب القوة التي يمكنها اكتشاف سنن الله تعالى في الكون، وذلك يتحقق عن طريق العقل الذي اختص الله به الإنسان، والذي بواسطته يتمكن من التعلم والتفكر والاكتشاف، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 31، 32].
العقل نعمة الله الكبرى على بني آدم، وهو نعمة عظيمة لا تقف أمام فاعليته حدود، فالدماغ الإنساني يتكون من عشرين ملياراً من الخلايا العصبية، وكل خلية ترتبط بألف وحدة ارتباطاً وثيقاً مع بقية الخلايا، مما يجعل الدماغ والعقل الإنساني أكبر قوة في الكون.
( 2 )
أيها المسلمون:(229/2)
هذه النعمة الكبرى التي زود الله بها الإنسان، والتي علينا أن نتعامل بها مع الكون وتسخيره وننتفع بما فيه من خيرات، هذه النعمة العظمى تتعرض للدمار والهلاك بالمخدرات والمسكرات، غوائل العقل ومدمرات خلايا المخ، ومغيبات الوعي والفكر، ومهلكات النعمة الكبرى، ومغيبات الخلايا العصبية في الدماغ، فترتد من أحسن تقويم كما أراد الله تعالى للإنسان، إلى أسفل سافلين، حيث الانتكاس بالإنسان إلى درجات من الدونية بعد التكريم والحسن، وذلك بقتل الإنسان لعقله وتدميره لخلايا مخه.
أيها المسلمون:
المخدرات والمسكرات تغيب العقل وتذهب كرامة الإنسان، وتلغي ميزته على غيره من المخلوقات، فيرتكب الموبقات ويجترح السيئات، ويعجز عن تدبير أمر دينه ودنياه، ويمسي في حالة مزرية وهيئة قبيحة، يكره أن يراه الناس عليها، لأن بقايا الاعتزاز بالكرامة الآدمية والفطرة البشرية لها جذور في أصل الخلقة تجعل المتناول لهذه السموم يأبى على نفسه أن ينتزع كلياً من الدائرة الإنسانية، فإذا أفاق من غيبوبته وصحا من سكره، عزم على عدم العودة إلى الخبائث المخدرة والمسكرة، المدمرة للكرامة، والمهلكة للعقل والمضيعة للوجدان، لكنه لا يلبث أن يعود إليها بتأثير الإدمان وتمكنه من السيطرة على جهاز المناعة والمقاومة في الإنسان، روى جابر رضي الله عنه: أن رجلاً قدم من جيشان [وجيشان من اليمن]، فسأل رسول الله (صلي الله عليه وسلم) عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال النبي (صلي الله عليه وسلم) "أو مسكر هو؟ قال نعم، قال رسول الله (صلي اله عليه وسلم): "كل مسكر حرام، إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: "عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار" (رواه مسلم).(229/3)
والمخدرات والمسكرات فوق أنها تذهب العقل وتضيع الكرامة وتضر الإنسان في جسده كله، فإنها تؤذي أهله ومجتمعه، وتعطل إنتاجه وتؤخر اقتصاده، وتقتل فيه كل خير وكل جميل يقول تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29].
( 3 )
أيها المسلمون :
إن مواجهة المخدرات والمسكرات مسئولية فردية أولاً، فالإنسان مأمور بفعل الخيرات وتناول الطيبات، ومنهي عن الاقتراب من المهلكات والمحرمات، وعليه أن يزجر نفسه إذا سولت له الاقتراب منها، ويحاول أن يخرج من رجسها إذا وقع فيها، ليفوز في الدارين: الدنيا والآخرة، وذلك بتقوى الله تعالى، والابتعاد عن محارمه، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] وبعد مسئولية الإنسان عن نفسه تأتي مسئولية المجتمع وواجبه الذي فرضه الله عليه، بالعمل على وقاية الأفراد من هذه الأدواء القاتلة المميتة، وذلك بالتربية والتوعية وإعداد الفرد إعداداً إيمانياً ليكون القوي في بدنه ونفسه وإرادته، يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" (رواه مسلم) وتلك مسئولية الأسرة من الآباء والأمهات ثم المدرسة والمسجد، وأجهزة الإعلام والتوجيه، وجمعيات الخير، والأصدقاء والرفقاء الصالحين الطيبين، إنها مسئولية المجتمع كله، للوقاية من هذا الداء الوبيل، والسم المهلك، والهاوية التي لا نهاية لها ولا قرار، فإذا سقط الفرد في أحابيل الشيطان، ومكر الهوى، وخديعة النفس، فواجب المجتمع أن يأخذ بيده، ويصبر عليه، ويقف معه للإنقاذ وهي مسئولية جماعية، إن لم نقم بها فإن الإثم علينا جميعاً وتندرج هذه المسئولية نحو هؤلاء الضعفاء الذين غلبهم الشيطان، حسب قرب الإنسان من الضحية، وتقدير مسئوليته في المجتمع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول(229/4)
الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته فكلكم راع ومسئول عن رعيته" (متفق عليه).
وتأكيداً لعظم المسئولية وضخامة البلوى، نعود فنؤكد أن المخدرات والمسكرات تقتل في الإنسان العقل العظيم الذي هو أعز وأثمن وأغلى ما في الوجود، وتدمير خلايا عقل واحد جريمة كبرى، فالذي يقتل عقله فكأنما قتل العقول كلها يقول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32].
فليحذر الذي يغتال عقله بالمخدرات أو المسكرات، لأنه بهذا يقتل ويبيد ويهلك نعمة الله الكبرى على الإنسان.
( 4 )
ورجاء إلى من يهمه الأمر في هذا البلد الطيب، من آباء وأمهات، وأزواج وزوجات ومربين وإعلاميين، والمسئولين في الدولة، والجمعيات الخيرية والأهلية، أن يبذلوا المزيد من الجهد للوقوف في وجه الغول القاتل للإنسان فإنقاذ نفس إنقاذ للإنسانية، يقول مجاهد في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة (مختصر تفسير ابن كثير)، فطوبى للتائبين الناجين من المخدرات والمسكرات حاصدة الروح والعقل والبدن، وطوبى لمن عاون وأسهم في الإنقاذ بالكلمة، أو المال، أو الوقت أو أي جهد كان في سبيل إنقاذ الإنسان، والله يجزي ويثيب الصالحين من عباده المؤمنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(229/5)
اطبع هذه الصحفة
الإصلاح بين الناس يصون المجتمع
يقول الله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114].
الإصلاح بين الناس هو فرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللذين فرضهما الله على المسلمين لأن خيرهما يعم الدين والدنيا، ويعود على الفرد والمجتمع، ولأنه مبعث الأمن والاستقرار، ومنبع الألفة والمحبة، ومصدر الطمأنينة والهدوء، وآية الاتحاد والارتباط، ودليل الأخوة الصادقة والإيمان الصحيح قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] ولو أننا تأملنا في تصرفات الإنسان لوجدناه مدنيا بطبعه، اجتماعياً بفطرته يحب الرقي والتقدم، ويعشق المدنية الجادة والحضارة البناءة، ويشتهي الأنس والاختلاط، ولذلك أودع الله فيه من الغرائز والميول ما يحبب إليه من النظم والتقاليد والفضائل والآداب، ما يجعله عضواً نافعاً وصالحاً في جسم أمة ناهضة، ولبنة قوية في بناء مجتمع سعيد، فأمره بالحلم والتسامح، والعفو والصفح، والشجاعة والصبر، والصدق والوفاء، والتضحية والإيثار. ينشر هذه القيم بين أهله، إلا أننا لو نظرنا إلى بعض الناس لوجدنا فيهم نزعات من الشر والظلم، منهم من هو ظالم لغيره بطبيعته ومنهم من هو غادر بطبعه، ومن هو أناني من يحب نفسه وحريص يقدم مصلحته على مصلحة غيره، ولو كان في ذلك إضرار لسواه، لا يهمه خسران أخيه إذا ما ربح وهذه الطبائع
الإصلاح بين الناس يصون المجتمع(230/1)
الحمد لله الذي أمر المسلمين بالإصلاح والتوفيق بين الناس ليحسم بينهم النزاع ويزيل من بينهم الخلاف، وذلك هدى الله يهدي به من يشاء، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره شكر من امتثل أوامره وتعاليمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجزل للمصلحين الأجر والثواب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المصلحين اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واستن بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
يقول الله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114].(230/2)
الإصلاح بين الناس هو فرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللذين فرضهما الله على المسلمين لأن خيرهما يعم الدين والدنيا، ويعود على الفرد والمجتمع، ولأنه مبعث الأمن والاستقرار، ومنبع الألفة والمحبة، ومصدر الطمأنينة والهدوء، وآية الاتحاد والارتباط، ودليل الأخوة الصادقة والإيمان الصحيح قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] ولو أننا تأملنا في تصرفات الإنسان لوجدناه مدنيا بطبعه، اجتماعياً بفطرته يحب الرقي والتقدم، ويعشق المدنية الجادة والحضارة البناءة، ويشتهي الأنس والاختلاط، ولذلك أودع الله فيه من الغرائز والميول ما يحبب إليه من النظم والتقاليد والفضائل والآداب، ما يجعله عضواً نافعاً وصالحاً في جسم أمة ناهضة، ولبنة قوية في بناء مجتمع سعيد، فأمره بالحلم والتسامح، والعفو والصفح، والشجاعة والصبر، والصدق والوفاء، والتضحية والإيثار. ينشر هذه القيم بين أهله، إلا أننا لو نظرنا إلى بعض الناس لوجدنا فيهم نزعات من الشر والظلم، منهم من هو ظالم لغيره بطبيعته ومنهم من هو غادر بطبعه، ومن هو أناني من يحب نفسه وحريص يقدم مصلحته على مصلحة غيره، ولو كان في ذلك إضرار لسواه، لا يهمه خسران أخيه إذا ما ربح وهذه الطبائع
( 2 )
الوحشية تكمن في نفوس بعض الناس كمون النار في الحجارة، يسترها الضعف ويخفيها العجز ويكبتها العرف ويفلسفها العقل ويلطفها الدين ويخفيها القانون، ولولا ذلك ما كان الإنسان إنساناً، فلولا أن العقل قيده والمجتمع أخجله، والدين هذبه والقانون أرهبه، لولا هذه القوى مجتمعة ومتفرقة لعاش القوي من بني الإنسان على لحوم الضعفاء ودمائهم كما تعيش الأسود والذئاب.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم(230/3)
من أجل ذلك بعث الله إليه أنبياءه ورسله، وأنزل عليه كتبه وصحفه وأكثر في الأرض من المصطفين الأخيار وندبهم إلى القيام بهذا العمل الجميل وأمرهم بنشر السلام والوئام بين الناس، وبث الإصلاح والتوفيق بين الطبقات، حتى لا تتعارض المصالح ولا تتضارب الأهواء لكي يعيش الفقير بجوار الغني والضعيف بجانب القوي، وحتى يقتل الشر في مهده ويموت في مكانه ويقتلع من جذوره، قبل أن يستفحل الداء ويعز الدواء، وحتى يبقى المجتمع الإنساني قوي الأركان متماسك البنيان، لا يصدع وحدته شقاق ولا خلاف كما أراد له خالقه وبارئه مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
فالإصلاح بين الناس مهمة عظيمة وواجب ديني مقدس لا يقوم به إلا أولئك الذين شرفت نفوسهم وصفت أرواحهم، وتضاعف إيمانهم وكمل يقينهم، أذواقهم سليمة، وطباعهم مستقيمة، وضمائرهم حية، وشعورهم نبيل يكرهون الشر، ويمقتون الخلاف عند غيرهم من الطوائف ويسعون لإبطال عمل الشيطان، ويجدون في إحباط كيد الخائنين، ويعملون على إطفاء الفتن وإزالة الشرور، وحقن الدماء وصيانة الأنفس، وحفظ الأموال، وتأليف القلوب، فهم كالماء الذي يطفئ النار قبل أن يستفحل شرها، أو كالنور الذي يبدد الظلام قبل أن يعم، لذلك أجزل الله لهم الأجر والعطاء، لا سيما إذا كان ذلك خالصاً لوجهه تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} ولو أننا راجعنا الوقائع وتصفحنا الحوادث لوجدنا ذلك كله يرجع إلى إهمال الصلح بين الناس، ولا أكون متجنياً على الحق إذا قلت أن جميع المشاكل الاجتماعية ترجع في جملتها إلى إهمال ذلك المبدأ القويم، فما اشتدت الفتن ولا اشتعلت الحروب، ولا أريقت الدماء، ولا أزهقت
( 3 )(230/4)
النفوس ، ولا بددت الأموال، ولا قطعت الأرحام، ولا خربت البيوت، ولا قوضت الأسر، ولا شرد الأطفال، ولا مزقت الجماعات إلا لأن الناس قد أهملوا الصلح والتوفيق وتركوا الشر ينتشر حتى عم القريب والغريب وقضى على الأخضر واليابس، وأهلك النفوس والأموال.
وهذه النتائج السيئة وهذه العواقب الوخيمة هي التي نظر إليها الدين عندما أمرنا بالإصلاح بين الناس {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] ولكن من الناس في هذه الأيام من فسدت ضمائرهم وخبثت نياتهم تراهم يحبون الشر ويعملون على نشره بين الناس، ومن أجل ذلك يتركون المتخاصمين في غضبهم حتى يستفحل الشر ويشتد الخصام وتتسع هوة الخلاف إلى ما هو أشد منه والناس في أثناء ذلك كله وقوف يتفرجون يتتبعون الحوادث ويلتقطون الأخبار، بل قد يلهبون نار العداوة ويؤججون أوار الفتنة، فلا يزالون كذلك حتى يقهر القوي الضعيف أو يقهرهما الشر معاً ويأتي على جميع ما يملكون وقد كان يكفي لإزالة ذلك كله كلمة و احدة من نبيل مصلح ولكن الأمر كما قال الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ}[النساء: 128] على أن الخلاف ما تمكن في أمة إلا كان نذير انحلالها، وسبب عذابها ومهبط بلائها، لأنه يفرق كلمتها ويفكك صفوفها ويشتت شملها ويجعلها لقمة سائغة للأعداء والحاقدين قال:(صلي الله عليه وسلم) "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" [رواه البخاري ومسلم] معنى تعدل بينهما "تصلح بينهما بالعدل وفي رواية في الصحيحين قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "فإن لم يفعل(230/5)
فليمسك عن الشر فإنه له صدقة" وهذا يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئاً من الشر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، سبحانه من استجار به أجاره، ومن استغاث به أغاثه، ومن توكل عليه كفاه، ومن اهتدى به هداه إلى صراط مستقيم.. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله.. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة المؤمنون:
يعتري المسلمين بين الحين والحين أزمات وملمات، لا يصرفها عنهم إلا الله سبحانه وتعالى، فلا ملجأ ولا منجي إلا إليه، فهو القادر على كل شىء
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(230/6)
اطبع هذه الصحفة
الوقف الإسلامي نبع الخير للأحياء والأموات
الوقف من شرائع الإسلام، دعا إليه، وجعله قربة من القرب، التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، ثبت بالسنة النبوية الشريفة.. والأصل فيها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي).
وللإنسان أجل محدود، كما أن للأمم أجلاً محدوداً، قال تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] وبهذا الأجل تنتهي مهمة الإنسان على الأرض، وتطوي صحيفته، التي يلقى بها وجه الله تعالى، فلا يضاف إلى صحيفته شئ إلا ما ورد عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، والمقصود بالصدقة الجارية الوقف ويضاف ثواب هذه الثلاثة إلى صحيفته، لأنها من عمل يده، ولأنه كان السبب في اكتسابها، فيدوم ثوابها مدة دوامها.
وأخرج ابن ماجه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره، أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً اجراه، أو صدقة أخرجها من ماله وصحته وحياته تلحقه من بعد موته" [فقه السنة].
الوقف الإسلامي نبع الخير للأحياء والأموات(231/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا… من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في ملكه، ولا معقب له في حكمه، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.. اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 69، 70].
أيها الإخوة المسلمون:
الوقف من شرائع الإسلام، دعا إليه، وجعله قربة من القرب، التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، ثبت بالسنة النبوية الشريفة.. والأصل فيها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي).
وللإنسان أجل محدود، كما أن للأمم أجلاً محدوداً، قال تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] وبهذا الأجل تنتهي مهمة الإنسان على الأرض، وتطوي صحيفته، التي يلقى بها وجه الله تعالى، فلا يضاف إلى صحيفته شئ إلا ما ورد عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، والمقصود بالصدقة الجارية الوقف ويضاف ثواب هذه الثلاثة إلى صحيفته، لأنها من عمل يده، ولأنه كان السبب في اكتسابها، فيدوم ثوابها مدة دوامها.(231/2)
وأخرج ابن ماجه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره، أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً اجراه، أو صدقة أخرجها من ماله وصحته وحياته تلحقه من بعد موته" [فقه السنة].
( 2)
هذه كلها تجري كالنهر الجاري، لا يتوقف ولا ينقطع ثوابها، قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي (صلي الله عليه وسلم) ذو مقدرة إلا وقف. وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقفه، واشتهر ذلك منهم، فلم ينكره أحد، فكان إجماعاً.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: "يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال له رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر، إنها لا تباع ولا توهب ولا تورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول" قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم، لا نعلم أحداً من المتقدمين منهم في ذلك خلافاً.
وهذا عثمان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "من حفر بئر رومة فله الجنة، قال: فحفرتها" (رواه البخاري والترمذي والنسائي) وفي رواية للبغوي أنها كانت لرجل من بني غفار عين، يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي(صلي الله عليه وسلم): تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتي النبي (صلي الله عليه وسلم) فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ قال: نعم قال: قد جعلتها للمسلمين [فقه السنة](231/3)
بل كان الصحابة رضوان الله عليهم يتخيرون أفضل أموالهم، ويوقفونه على المسلمين.. هذا أبو طلحة فيما رواه أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
قام أبو طلحة إلى رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، وإنها صدقة، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "بخ بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه".
(رواه البخاري ومسلم والترمذي)
( 3 )
أيها الاخوة المسلمون:
لم يكن في العصور السابقة للأمة الإسلامية وزارة للصحة ترعى شئون المرضى، ولا وزارة للأوقاف تعني بشئون المساجد، ولا وزارة للتربية تهتم بالتربية والتعليم، ولا وزارة للشئون الاجتماعية ترعى حاجات المسلمين وآلامهم، فكان أهل الخير يتسابقون في فعل الخيرات وعمل الطاعات، ويتبارون في وقف أموالهم، ابتغاء وجه الله، ويمدون جسور الخير بين عمل الدنيا وثواب الآخرة.
فمنهم من كان ينشئ المساجد، ومنهم من كان يقيم المستشفيات، ومنهم من كان يبني دوراً للضيافة وأبناء السبيل، ومنهم من وقف ماله أو بعض ماله على طلاب العلم.. وبهذه الأوقاف ازدهرت العلوم والمعارف، وقامت النهضات المباركة وتحول كثير من المساجد إلى جامعات، في شرق العالم الإسلامي وغربه.
أيها المسلمون:(231/4)
من فضل الله على هذا الوطن المعطاء أن أفاض على أهله بالنعم الوفيرة وأغدق عليهم من الأرزاق ما جعل مستواهم المادي من أعلى مستويات العالم، كما أن من فضل الله عز وجل أن هيأت لهم وزارة الأوقاف صناديق وقفية، تغطي جميع المشاريع، فأنشأت صندوقاً للقرآن الكريم وحفظه وطباعة مصاحفه، وأجرت على طلابه جوائز مادية كبيرة، استجابة لقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): " خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
كما أنشأت صندوقاً لرعاية المساجد، والمحافظة عليها، وتجديد القديم منها، وإقامة مساجد جديدة أملاً في أن يكون الواقف منهم من أهل هذا الحديث الشريف: "من بنى لله مسجداً، يبتغي به وجه الله، بني الله له مثله في الجنة" (متفق عليه) وأنشأت أيضاً صندوقاً لرعاية المعاقين وذوي الحاجات، وغير ذلك من الصناديق الوقفية التي ترضى الله ورسوله.
لقد يسرت وزارة الأوقاف أمور الوقف لكل راغب في المال الرابح على حد قول الرسول (صلي الله عليه وسلم) لأبي طلحة، وذلك باشتراكات زهيدة، تزيد أرصدتهم في الدار الآخرة، وتذهب من مخاوفهم وهمومهم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، سبحانه من استجار به أجاره، ومن استغاث به أغاثه، ومن توكل عليه كفاه، ومن اهتدى به هداه إلى صراط مستقيم.. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له… ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله… اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة المؤمنون:(231/5)
يعتري المسلمين بين الحين والحين أزمات وملمات، لا يصرفها عنهم إلا الله سبحانه وتعالى، فلا ملجأ ولا منجي منه إلا إليه، فهو القادر على كل شئ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].
ونحن في هذه الأيام التي انقطع فيها المطر، واشتد فيها الجدب، في أشد الحاجة إلى أن نقف بين يدي المولى عز وجل خاشعين ضارعين سائلين إياه أن يمن علينا بفضله وإحسانه، وأن يغيثنا بعطائه… فلا حياة للأرض إلا بالماء الذي ينزل من السماء، قال سبحانه {وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].
وعلى ما يخرج من الأرض تتوقف حياة الإنسان والحيوان والنبات، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 33, 35].
فاللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً غدقاً مجللاً، سحاً عاماً، طبقاً دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق، اللهم إن بالبلاد والعباد من اللأواء والجهد مالا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً.(231/6)
اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً، سخاء رخاء، وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين، وأرحم شهداءنا وشهداء المسلمين، وفك قيد أسرانا وأسرى المسلمين، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، وأقم الصلاة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(231/7)
اطبع هذه الصحفة
الزواج والحكمة من مشروعيتة
لقد رغب الإسلام في الزواج، ودعا إليه القرآن الكريم بصور متعددة، فتارة يذكره على أنه من سنن الأنبياء وهدى المرسلين الذين يجب علينا أن نقتدي بهداهم، فيقول جل شأنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] وتارة يذكره في معرض الامتنان فيقول {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72] وأحياناً يتحدث عن كونه آية من آيات الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
وقد يتردد المرء في قبول الزواج فيحجم هرباً من تحمل أعبائه، والاضطلاع بتكاليفه، فيلفت الإسلام نظره إلى أن الله سيجعل الزواج سبيله إلى الغنى، وأنه سبحانه سيمده بالقوة التي تجعله قادراً على التغلب على أسباب الفقر، قال سبحانه: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32].
الزواج والحكمة من مشروعيتة
الحمد لله الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً.. وأشهد أن لا إله إ لا الله وحده لا شريك له، جعل الزواج سنة ماضية في العالمين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله حث على الزواج ونفر من العزوبة، اللهم صل وسلم وبارك على هذا النبي الأمي الكريم، وارض اللهم عن آله وصحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(232/1)
اتقوا الله - عباد الله – {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3]
أما بعد:
معشر المسلمين:
لقد رغب الإسلام في الزواج، ودعا إليه القرآن الكريم بصور متعددة، فتارة يذكره على أنه من سنن الأنبياء وهدى المرسلين الذين يجب علينا أن نقتدي بهداهم، فيقول جل شأنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] وتارة يذكره في معرض الامتنان فيقول {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72] وأحياناً يتحدث عن كونه آية من آيات الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
وقد يتردد المرء في قبول الزواج فيحجم هرباً من تحمل أعبائه، والاضطلاع بتكاليفه، فيلفت الإسلام نظره إلى أن الله سيجعل الزواج سبيله إلى الغنى، وأنه سبحانه سيمده بالقوة التي تجعله قادراً على التغلب على أسباب الفقر، قال سبحانه: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32].
( 2 )
والمرأة خير كنز يضاف إلى رصيد الرجل… فقد روى مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" إن الزوجة الصالحة فيض من السعادة يغمر البيت، ويملؤه سروراً وبهجة وإشراقاً.(232/2)
وقد يخيل للإنسان في لحظة من لحظات يقظته الروحية أن يتبتل وينقطع عن كل شأن من شئون الدنيا، فيقوم الليل، ويصوم النهار، ويعتزل النساء، ويسير في طريق الرهبانية المنافية لطبيعة الإنسان، فيعلمه الإسلام أن ذلك مناف لفطرته، ومغاير لدينه، وأن سيد الأنبياء – وهو أخشى الناس وأتقاهم له – كان يصوم ويفطر ويقوم وينام، ويتزوج النساء وأن من حاول الخروج عن هديه فليس له شرف الانتساب إليه روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي(صلي الله عليه وسلم) يسألون عن عبادة النبي (صلي الله عليه وسلم) فلما أخبروا– كأنهم تقالوها – فقالوا: وأين نحن من النبي (صلي الله عليه وسلم)، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبداً فجاء رسول الله (صلي الله عيه وسلم) فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟… أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، و أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
أيها المسلمون:
لقد رغب الإسلام في الزواج على هذا النحو وحبب فيه لما يترتب عليه من آثار نافعة تعود على الفرد وعلى الأمة جميعاً، فبالزواج يهدأ القلب، وتسكن النفس، ويهنأ العيش ويستقيم الفتيان والفتيات.. بالزواج تتكون الأسرة ويوجد النسل، ويتحقق الإنجاب ويوجد البنون والبنات، وتكون لك الذرية الصالحة التي ينفعك الله بها في الحياة، ويرحمك الله بها بعد الممات قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (رواه مسلم)(232/3)
دخل الأحنف بن قيس على معاوية – وولده يزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجاباً به – فقال: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟… فعلم ما أراد، فقال يا أمير المؤمنين: هم عماد ظهورنا، وثمار قلوبنا، وقرة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف لما بعدنا، فكن لهم أرضاً ذليلة، وسماء ظليلة إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوك فأعتبهم، لا تمنعهم رفدك فيملوا قربك، ويكرهوا حياتك، ويستبطئوا وفاتك فقال: "لله درك يا أبا بحر هم كما وصفت".
( 3 )
إن غزيرة الأبوة والأمومة تنمو وتتكامل في ظلال الطفولة، وتنمي مشاعر العطف والود والحنان، وهي فضائل لا تكمل الإنسانية بدونها، كما أن الشعور بتبعية الزواج ورعاية الأولاد يبعث على النشاط وبذل الوسع، فينطلق إلى العمل والقيام بواجبه فيكثر الاستغلال وأسباب الاستثمار مما يزيد في تنمية الثروة وكثرة الإنتاج، كذلك أيها الإ خوة من ثمرات الزواج الناجح الترابط بين الأسر، وتقوية أواصر المحبة بين العائلات وتوكيد الصلات الاجتماعية، وهو مما يباركه الإسلام ويسانده، فإن المجتمع المترابط المتحاب هو المجتمع القوي السعيد.
أيها الإخوة المسلمون:
مما سبق ندرك أن الزواج ضرورة لا غنى عنها، وأنه لا يمنع منه إلا العجز أو الفجور كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن الرهبانية ليست من الإسلام في شئ، وأن الأعراض عن الزواج يفوت على الإنسان كثيراً من المنافع والمزيا، وبذلك تندفع الجماعة المسلمة إلى العمل على تهيئة أسبابه وتيسير وسائله حتى ينعم بها الرجال والنساء على السواء.
ولكن على العكس من ذلك خرج كثير من الناس عن سماحة الإسلام وسمو تعاليمه، فعقدوا الزواج، ووضعوا العقبات في طريقه، وخلفوا بذلك التعقيد أزمة تعرض بسببها الرجال والنساء لآلام العزوبة وتباريحها، والاستجابة إلى العلاقات الطائشة والصلات الخليعة.(232/4)
لقد فضل كثير من الشباب حياة العزوبة على الحياة الزوجية لأسباب كثيرة منها: ما وصل إليه حال النساء في زماننا من التبرج الفاضح والأخلاق السيئة، والعادات الفاسدة، حتى أصبح الشاب لا يثق في بنت يتخذها زوجاً له، لأنه يخشى من فساد خلقها، أو يشك في اعوجاج سلوكها، ولذلك أمر الإسلام بالحشمة، ونهى عن السفور، ودعا إلى العفاف وحث على الحجاب، قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} النور: 30، 31].
فواجب علينا معشر المسلمين أن نتبع تعاليم ديننا، وأن نعنى بتربية بناتنا وفتياتنا فإن في ذلك صلاح الأمة فضلاً عن صلاح الأسرة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59].
( 4 )
أيها الإخوة المسلمون:(232/5)
ومن أسباب إحجام الشباب عن الزواج أيضاً المغالاة في المهور، والإسراف في نفقات الأعراس، والتبذير في الأثاث وظهور كل من الطرفين أمام الآخر بمظهر أرقى من مظهره، وأعلى من مستواه، ولو كان في ذلك التكلف والإسراف، ولو أدى ذلك إلى الأقساط والديون التي تثقل كاهل الأسرة الجديدة لقد نهى الله تعالى عن الإسراف والتبذير فقال عز شأنه {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] كما قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الإسراء: 29].
ولقد أمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه بالتيسير في المهور، وجعل يسر المهر من علامات اليمن والبركة قال (صلي الله عليه وسلم): "إن أعظم النساء بركة أيسرهن مهراً" وقال(صلي الله عليه وسلم) لأحد أصحابه وقد أراد الزواج فلم يجد شيئاً يدفعه: "التمس ولو خاتماً من حديد، فلما لم يجد حتى ذلك الخاتم الحديد قال له: هل معك شئ من القرآن؟ قال نعم سورة كذا وسورة كذا، قال: تقرأهن عن ظهر قلبك؟ قال نعم، قال: أذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن" (متفق عليه)
فاتقوا الله عباد الله، ويسروا مهور بناتكم، ولا تتكلفوا في أي عمل من أعمالكم، وإذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته وأخلاقه فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، ولا بأس أن يكون مع الدين والخلق المال أو الجمال أو المنصب والجاه، أما المال بلا خلق فقد يكون سبب شقاء صاحبه والمال ظل زائل وعارية مستردة، وأما المنصب فإنه لا يدوم ولو دام لأحد ما وصل إلى صاحبه، ولله در القائل:
إن المناصب لا تدوم لأهلها إن كنت تنكر ذا فأين الأول
فاصنع من الفعل الجميل مكارماً فإذا عزلت فإنها لا تعزل
قال رجل لبعض الصالحين: إن عندي بنتاَ، وقد خطبها مني جماعة، فأيهم أزواجها؟(232/6)
قال: أكثرهم تقوى، قال لماذا؟ قال لأنه إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(232/7)
اطبع هذه الصحفة
مرحباً بشهر الخير والعطاء
إن لله تعالى في الدهر أوقاتاً مباركة ينزل على عباده فيها النفحات، ويعمهم بالرحمات، ومن هذه الأوقات المباركة شهر رمضان الذي هو موسم للطاعات، وأعمال البر والخيرات، والبعد عن المنكرات، فهو شهر فضله الله على سائر الشهور، وأعلى قدره على مر الدهور، بما من فيه على خلقه من نزول كتابه الحكيم لهداية الإنسانية فيتحقق بالعمل به كل خير، قال تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة: 185].
شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار، شهر يزكي فيه المسلمون أرواحهم بطاعة الرحمن، وجوارحهم من العصيان ويحفظون السنتهم من بذي الكلام، فالمؤمن ليس بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بدئ، ويصونون فروجهم عن الحرام فتتآلف قلوبهم، ويطهر مجتمعهم من المنكرات، كل هذا صوناً لصيامهم من النقصان، ورغبة في الأجر من الله الكريم المتعال.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): قال تعالى: كل عمل ابن آدم له الا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحدا أو قاتله فليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم
مرحباً بشهر الخير والعطاء
الحمد لله الذي فتح أبواب الجنان لمن صام رمضان، ومنحه القبول والرضوان، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جعل الصيام وقاية للأبدان من النيران، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أكثر من تلاوة القرآن وذكر المنان، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل البر والإحسان رضي الله عنهم أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله:(233/1)
إن لله تعالى في الدهر أوقاتاً مباركة ينزل على عباده فيها النفحات، ويعمهم بالرحمات، ومن هذه الأوقات المباركة شهر رمضان الذي هو موسم للطاعات، وأعمال البر والخيرات، والبعد عن المنكرات، فهو شهر فضله الله على سائر الشهور، وأعلى قدره على مر الدهور، بما من فيه على خلقه من نزول كتابه الحكيم لهداية الإنسانية فيتحقق بالعمل به كل خير، قال تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة: 185].
شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار، شهر يزكي فيه المسلمون أرواحهم بطاعة الرحمن، وجوارحهم من العصيان ويحفظون السنتهم من بذي الكلام، فالمؤمن ليس بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بدئ، ويصونون فروجهم عن الحرام فتتآلف قلوبهم، ويطهر مجتمعهم من المنكرات، كل هذا صوناً لصيامهم من النقصان، ورغبة في الأجر من الله الكريم المتعال.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): قال تعالى: كل عمل ابن آدم له الا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحدا أو قاتله فليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم
( 2 )
أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربه فرح بصومه، وفي رواية لمسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي" وقال(صلي الله عليه وسلم): "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (متفق عليه).
وقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
عباد الله:(233/2)
كونوا ممن يقومون ليله ركعاً وسجداً، لا يهجعون فيه إلا قليلاً، يذكرون ربهم تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً، كي تظفروا بما أعده الله للقائمين في الليل قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * {س} تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15, 17] وقال (صلي الله عليه وسلم) "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" [متفق عليه].
إن المسلمين يستقبلون هذا الشهر الكريم بالشكر لربهم عرفاناً وثناء وتمجيداً، فيعكفون على تلاوة القرآن ليلاً ونهاراً احتفاء بنزوله في هذا الشهر، ويرطبون ألسنتهم بذكر الله غذاء لأرواحهم، وطمعاً في أن يكونوا من أهل القرآن، وأن يفوزوا بالأجر من الله تعالى وبشفاعة القرآن لهم فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشراب والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان (رواه أحمد والترمذي والحاكم).
عباد الله:
إن المسلم يتلقى في رمضان درس التراحم والمواساة مشاركة لإخوانه في الشعور والوجدان، فيشعر بأنه منهم وهم منه، فيشد من أزر الضعيف ويواسي الفقير، ويعطف على اليتيم بما أعطاه الله من مال، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يضاعف من جوده وسخائه في هذا الشهر حدث عنه ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان000" الحديث (متفق عليه).
( 3 )(233/3)
كما أن المؤمن يحذر من عقوبة البخل والشح وأن يكون ممن قال الله فيهم: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:41, 44].
لذا يتنافس مع المتسابقين إلى فعل الخيرات، وإيتاء الزكوات، والإحسان بالصدقات على البؤساء من المسلمين والمسلمات، شكراً لله على النعماء، لينال محبة الله تعالى، فإنه سبحانه سخي يحب الأسخياء، رحيم يحب الرحماء،قال (صلي الله عليهه وسلم): "الراحمون يرحمهم الرحمن* ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (رواه أبو داود والترمذي) وقال جل شأنه:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].
أيها المسلمون:
إن شهر رمضان مدرسة يتدرب فيه المسلم على الصبر عند المكاره، والثبات على الحق، وقوة الإرادة، والعزيمة الصادقة على تحقيق الخير له ولوطنه وللمسلمين والإنسانية جمعاء، ومن ثم يظفر بالنعيم المقيم، قال سبحانه {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
أن المسلم الكيس هو الذي يحسن استقبال هذا الشهر بنفس مطمئنة، وقلب تقي نقي، منشرح مسرور، لأنه يجني منه ثمرات طيبة تغذي روحه فتعرج روحه إلى أعلى عليين، فتسمو عن دنايا الأقوال والأفعال، لأنه راقب ربه فصام عن الطعام وهو يشعر بحرارة الجوع، وحرارة العطش، وحصن نفسه من بطش شهوة الفرج، ونأى عن الشيطان فلا سبيل له عليه، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين} [سورة الحجر: 42].
وقال (صلي الله عليه وسلم) "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين
(رواه الشيخان).
عباد الله:(233/4)
اجتهدوا في العبادة في هذا الشهر واحسنوا استقباله، بالمحافظة على الصلوات المفروضة مع الجماعات، والمداومة على صلاة التراويح وقيام الليل بالمساجد، والإقبال على حلق العلم والبعد عن السمر والسهر بما يلهي عن ذكر الله، وعليكم بصلة الأرحام بالبر والنفقات والزيارات، والإحسان إلى الفقراء والمساكين بالصدقات، والمحافظة على حدود الله، والمداومة على الطاعات والتوبة والإنابة من الذنوب والسيئات، والإخلاص في الصيام والقيام وسائر العبادات، وأكثروا من تلاوة القرآن بين الجماعات وفي الخلوات حتى تكونوا جديرين بقبول الأعمال والدعوات ومن أهل التقوى والطاعات. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً.. وأشهد أن لا إله إ لا الله وحده لا شريك له، جعل الزواج سنة ماضية في العالمين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله حث على الزواج ونفر من العزوبة، اللهم صل وسلم
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(233/5)
اطبع هذه الصحفة
مراقبة الله حماية من كل سوء
من أسماء الله تعالى الرقيب، فهو الرقيب لعباده، حفيظ عليهم ويعلم أحوالهم، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، يقول الله تعالى: {إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء: 1] ويقول سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الاحزاب 52].
والمؤمن يجب عليه أن يراقب الله تعالى فيلاحظ نفسه في أعمالها وأقوالها، ليقيمها على الصراط السوي، حيث أن إهمال ملاحظة النفس يؤدي إلى الطغيان والفساد، كذلك يجب عليه أن يعلم بأن الله محيط بكل شئ مطلع على الضمائر، رقيب على السرائر، قائم على كل نفس بما كسبت، يقول ابن القيم رحمه الله "المراقبة دوام علم العبد باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين.
وفي كتاب الله المجيد آيات تشير إلى هذه المراقبة، وتدعو إليها وتأمر بها، فيقول سبحانه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] ويقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. فأجعل أخي المسلم مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل
مراقبة الله حماية من كل سوء
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، و نستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فياأيها المسلمون:(234/1)
من أسماء الله تعالى الرقيب، فهو الرقيب لعباده، حفيظ عليهم ويعلم أحوالهم، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، يقول الله تعالى: {إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء: 1] ويقول سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الاحزاب 52].
والمؤمن يجب عليه أن يراقب الله تعالى فيلاحظ نفسه في أعمالها وأقوالها، ليقيمها على الصراط السوي، حيث أن إهمال ملاحظة النفس يؤدي إلى الطغيان والفساد، كذلك يجب عليه أن يعلم بأن الله محيط بكل شئ مطلع على الضمائر، رقيب على السرائر، قائم على كل نفس بما كسبت، يقول ابن القيم رحمه الله "المراقبة دوام علم العبد باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين.
وفي كتاب الله المجيد آيات تشير إلى هذه المراقبة، وتدعو إليها وتأمر بها، فيقول سبحانه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] ويقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. فأجعل أخي المسلم مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل
( 2 )
شكرك لمن لا تنقطع نعمه عليك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه [بتصرف من كتاب موسوعة أخلاق القرآن].(234/2)
إن الذين يتحلون بفضيلة المراقبة هم خيار العباد من العقلاء، وصفوة الناس من الأتقياء، وأرباب البصائر الذين يعلمون أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذرة من الخطرات واللحظات {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7, 8] فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره خف يوم القيامة حسابه وحضر له عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في ساحة القيامة وقفاته، وقادته إلى العقاب سيئاته. [المصدر السابق].
أيها المسلمون:
إن صفة المراقبة لله تعالى لا تتجلى في صاحبها في يوم وليلة، بل هي تنمو وتزدهر بطول المجاهرة، وتكرار المحاولة، وقوة العزيمة في حمل النفس على ما يزكيها ويطهرها وهذا يقتضي أن المسلم إذا هم بأن يعمل عملاً يتأكد أولاً من الدافع الذي يدفعه إلى هذا العمل: أيعمله لوجه الله؟ أم يعمله لشهوته وهواه؟ ثم يتأكد من توافر الإخلاص في أدائه.
أيها المسلمون:
إذا تحققت عند المسلم فضيلة المراقبة حرص على أداء حقوق الله وحقوق العباد بإتقان وإحسان، وما أحوج المجتمع إلى هذه الفضيلة لأن انعدامها في نفس الإنسان يجعله شبيهاً بالحيوان، يرتع ليتمتع، ويجمع لينتفع، ويسطو على حقوق غيره، وينتهك حرمات سواه، ويسئ استخدام حقوق نفسه، وبذلك تفشو الرذائل، وتقل الفضائل، ويتعامل الناس بشرعة الغاب دون ارعواء أو حساب، أما لو كان الإنسان مراقباً لربه لكان أميناً على الأعراض لا يدنو منها، بل يعتصم بإيمان وبرهان من ربه ووازع من دينه ويقول {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] ويقول: {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]
( 3 )(234/3)
كذلك المراقبة تجعل الإنسان أميناً على الأموال التي بين يديه، فقد يستطيع أن يسرق منها أو يختلس، ولكن صوتاً من الأعماق ينهاه لأنه دائماً يراقب مولاه، والمراقبة كذلك هي التي تجعل الإنسان يؤدي عمله على خير ما يكون الأداء، لأنه لا يرائي في عمله كبيراً ولا رئيساً، ولكن يراقب ربه، ويتذكر قول نبيه (صلي الله عليه وسلم) "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" (رواه البيهقي بسند حسن).
أيها المسلمون:
من فضل الله العميم على من اتصف بصفة المراقبة أنه إذا صدق في مراقبة الله جل جلاله في باطنه وخواطره عصمه الله من الإثم والانحراف، ومن كل سوء ومعصية في جوارحه وظاهره، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: إن مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه في حركاته وعلانيته وهذا الحفظ الإلهي يجعل العبد المؤمن في حال الرضى والأمن والاطمئنان". ومن أعظم ثمرات المراقبة أنها تجعل المؤمن مشتغلاً بحاضره ليملأه بأفضل ما تملأ به الأوقات، فينطلق إلى فعل الخيرات، وإلى المسارعة في الطاعات، وإلى التسابق في تقديم الباقيات الصالحات إلى الوقوف عند أوامر الله، وعدم تجاوز حدوده، لأنه لما عظم الآمر الناهي وهو الله تعالى عظم أوامره ونواهيه فاستحق ما أعده الله لعباده في دار كرامته من النعيم المقيم، والدرجات العلى، والرزق الواسع الكريم، يقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2, 4] وروى مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما سئل صلوات الله وسلامه عليه: ما(234/4)
الإحسان؟فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ولله در القائل:
إذا خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقبوه في السر والعلن في كل زمان ومكان ففي ذلك عصمة لكم من كل سيئة ووقاية من كل معصية، ودافع إلى فعل الخير وعمل الصالحات ومحاسبة النفس قبل يوم الحساب، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم وصلوا الذي بينكم وبين
( 4 )
ربكم فهو من ورائكم محيط، لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يغفل ولا ينام وتدبروا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
أيها المسلمون:(234/5)
إن من يراقب الله تعالى ويخشاه، ويعلم علم اليقين أن الله يراه، ويعلم ما توسوس به نفسه، ويعلم أنه تعالى أقرب إليه من حبل الوريد عليه أن يحاسب نفسه على كل صغيرة وكبيرة، وعلى كل قول أو فعل خشية أن يكون قد حاد عن الطريق القويم، وحينئذ يستقيم أمره، ويصلح حاله، وإذا توفرت هذه الصفة وهي مراقبة الله عند كل فرد نتج عن ذلك استقامة المجتمع وصلاحه فحين يراقب المسئول ربه فإنه لا يظلم ولا يطغي، ولا تتجه نفسه إلى الشر والبطش والله تعالى يقول: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وحين يراقب المحكوم ربه ويعبده كأنه يراه، فإنه يؤدي عمله بإخلاص وإجتهاد، لا يخدع ولا يغش ولا يتكاسل ولا يتشاغل عن الإنتاج وزيادته وتحسينه، ولا يبغي الفتنة ولا الفساد في الأرض، ولا يستغل مال الدولة، ولا يطمع في ما ليس له، كذلك الزوج الذي يراقب الله يعطي زوجته حقها ويعاشرها بالمعروف، والزوجة التي تراقب الله تطيع زوجها في غير معصية الله وتقدم له السكن والسعادة، وكذلك الوالد والولد والصديق والجار والصغير والكبير كل منهم إذا راقب الله واتقاه فإنه يأتمر بأمره ويعاشر الناس بالمعروف ويعاملهم بما يحب أن يعاملوه، روى الإمام الترمذي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(234/6)
اطبع هذه الصحفة
الحج سبيل إلى التعارف والتآلف
الحمد لله رب العالمين ، رب السموات والأرض ، ورب البيت العتيق ، الذي جعله مثابة للناس وأمناً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، عهد إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام " أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود " ، وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين ، بعثه الله للأمة يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، وجاهد في الله حق جهاده ، وأقام في الدنيا دين الإسلام ، وشريعة الرحمن ، وأسعد الإنسان بالهداية الربانية ، والشريعة الإلهية ، وأنار الكون بنور الله .
صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه أجمعين ، ومن دعا بدعوته ، واستن بسنته ، وسلك طريقه إلى يوم الدين .
الإخوة المسلمون :
لن تستطيع شبكة العلاقات الاجتماعية وحدها أن تؤدي دورها في الترابط والتماسك بين الأفراد ، ما لم تدعمها وتغذيها منظومة من القيم الإنسانية تبعث فيها الحياة والنشاط والقوة ، وتزيد من فاعلية المجتمع وحيويته ، وتصعد به في مراقي التقدم والتحضر ، فالعلاقة بين الأزواج ، وبين الأبناء ، وبين الجيران ، وبين البائع والمشتري ، وبين العمال وأصحاب العمل ، وبين الأسر ، وبين الحاكم والمحكوم ، كانت ستبقى خامدة بلا فاعلية ، ورسما بلا روح ، وهيكلا بلا حياة إن هي تجردت من هذه القيم .
وقد غذت الثقافة الإسلامية شبكة علاقات المجتمع المسلم بقيم فاعلة ، جعلت منه مجتمع القوة والترابط والتماسك ، وأقامته على أساس الأخوة في الله . قال تعالى : }إنما المؤمنون إخوة {
[ الحجرات : 49 ] وقال r: " المسلم أخو المسلم .."[ متفق عليه ] وزودته بالكثير من القيم الفاعلة كالحب والتسامح والتعاون ، والتناصح والبر والإيثار ، وجعلت ركيزة تلك المنظومة من القيم العظيمة قيمة الرحمة ،
( 2 )(235/1)
قالr: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " [ متفق عليه ] .
وقد أبقت هذه المنظومة من القيم على ترابط وتماسك المجتمع المسلم عبر التاريخ ، حتى في عصور الانحطاط ، وتراجع النهضة ، وجمود المجتمع ، وتوقف العلم والفكر ، وظل المسلمون رغم التخلف في مجالات العلوم متماسكين اجتماعياً ، ولم يحدث لهم التفكك الذي حدث في مجتمعات أخرى في فترات تأخرها وتخلفها . " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعلموا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " [ العصر ] .
ولم تكن منظومة القيم التي جاء بها الإسلام لبناء شبكة العلاقات الاجتماعية ، مجرد توجيهات وإرشادات ، لا تجد طريقها العملي الذي يحملها لتغذية العلاقات بين الأفراد ، وإنما أوجد الإسلام السبل والأدوات والقنوات والأوعية العملية ، التي تيسر لهذه القيم العمل والتفاعل لبناء المجتمع وتماسكه وترابطه . " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " [ متفق عليه ] .
الإخوة المسلمون :
وكانت العبادات القنوات والأدوات والأوعية التي حملت منظومة القيم الإسلامية من الأخوة والحب والتسامح والتعاطف والرحمة بين المسلمين ، فالصلاة تجمع بينهم في المسجد خمس مرات في اليوم ، لتغذي وتقوي وتشد من فاعلية تلك القيم} .إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر{ العنكبوت:45 ]
والصيام تهذيب للنفس وتقويم وتأديب لها ، وإحياء للمشاعر الإنسانية وارتقاء بها ، وصولاً إلى تقوى الله. } يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون{ [ البقرة 183 ] .
والزكاة تطهير وتزكية للإنسان ، ترقى بمشاعره وتدفعه إلى البر والعطاء .}خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها { [ التوبة : 90 ](235/2)
ثم كان الحج الرحلة المباركة ، وقد شرعه الله تعالى ليتم به نعمته على هذه الأمة ، وليكون قناة وأداة وسبيلاً تسير فيه وتحيا منظومة القيم ، من حب وتعاون وأخوة وتآلف .
وفي الحج منافع متعددة ، فهو موسم ومؤتمر ، موسم تجارة وموسم عبادة ، وهو مؤتمر للتعارف والتنسيق والتعاون والتشاور ، وتختلف منافع الحج وأدواتها باختلاف الأجيال ، فكل جيل حسب
ظروفه ، وظروف عصره ، وحاجاته وتجاربه .
( 3 )
قال تعالى : } وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات { [ الحج : 27ـ 28 ]
الإخوة المسلمون :
لن تتم منافع المسلمين من الحج في العصر الحاضر ، وتؤتي الثمار التي تحقق للمسلمين التعارف كما يجب أن يكون ، والتآلف الذي ينفع أقطارهم وشعوبهم ، ما لم يعمل المسلمون على الاستفادة من هذا الموسم العظيم ، فيكون التعارف على مستوى الأمة والعصر ، ويكون التآلف على مستوى المصالح التجارية والصناعية والثقافية والعلمية الملائمة للعصر الذي نعيش فيه .
والتعارف يا عباد الله بين الأفراد والجماعات والأمم أصل من أصول العمران والمدنية ، وأساس من أسس التقدم والتحضر ، دعا الله الناس إليه وحثهم عليه . } يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا { [ الحجرات : 13 ] وتعارف المسلمين في هذا الموسم العظيم ييسر لهم المعلومات عن الشعوب والأقطار ، ويهيىء للمسلم فرصة التفاعل مع إخوانه المسلمين ، ويمكن من عمل الخير ، والتسابق إليه . استجابة لقول الله تعالى:} فاستبقوا الخيرات {[البقرة 148 وقول الرسول r: " بادروا بالأعمال الصالحة " [ رواه مسلم ] .(235/3)
فإذا رجع المسلم من أداء الفريضة ، وقد تعرف على إخوانه المسلمين ، وتعرف على إمكاناتهم التجارية والصناعية والعلمية ، فقد رجع وقد حقق ما أراد الله تعالى من الرحلة المباركة ، وإن كان قد جاهد وسعى ليكون التعارف على مستوى العصر ، وبادر مع إخوان له لإقامة المراكز والمؤسسات والجمعيات ، التي يكون هدفها التعريف بالعالم الإسلامي ، كان من المبادرين بالعمل الصالح استجابة لقول الرسول r: " بادروا بالأعمال الصالحة ، فستكون فتن كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع دينه بعرض من الدنيا "
[ رواه مسلم ] . نسأل الله النجاة من هذه الفتن ، وندعوه أن يوفقنا لنكون من المبادرين إلى ما ينفع المسلمين .
الإخوة المسلمون :
إن تعارف المسلمين في الحج مقدمة ومدخل إلى تآلفهم ، وتآلف الأفراد يثمر الصداقة والمصاهرة ، وتلك ولا شك تقوية لروابط المجتمع المسلم .
( 4 )
} وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم { [ الأنفال : 63 ] وتآلف الشعوب والأقطار يؤدي إلى التعاون والتآزر والتكامل ، في ميادين العلوم والصناعة والتجارة على مستوى العصر ، ونحن في عصر التكتلات بين الأمم والشعوب لتحقيق المصالح ، وتأمين المنافع ، وحماية الأوطان .
ولن يتمكن قطر واحد ، أو شعب واحد في أي بقعة من بقاع الأرض اليوم من التقدم والارتقاء والنهضة ، إذا عاش وحيداً لا ينتمي إلى تكتل اقتصادي وتجاري وعلمي وسياسي ، والعالم من حولنا شاهد على ذلك ، حيث التجمعات والتكتلات تجمع بين أقطار وأمم وشعوب تكفل لهم الرقي والغنى والثروة والسيادة ، والمسلمون وحدهم بلا تجمع وبلا تكتل في جميع الميادين ، مع أن الله تعالى حثنا على ذلك التعاون.} وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان { [ المائدة : 2 ]
الإخوة المسلمون :(235/4)
إن الإخلاص والإقبال على الله في هذه الأيام المباركة ، وفي الأماكن المقدسة يضيء أفئدة المؤمنين ، و ينعش قلوب الحجيج للإكثار من العمل الصالح ، وفعل الخير ، ومن أفضل أعمال الخير وصالحها . السعي للتعارف والتآلف والارتقاء بأمر المسلمين ، والأخذ بيد الأمة إلى النجاح والفلاح ، والسير بها في طريق النهضة والتقدم والتحضر ، وهجر الأنانية والأثرة وحب الذات ، وترجيح المصلحة العامة على المصالح الذاتية . } إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم {
[ الرعد : 11 ] ، فلنقبل على الله تعالى في الأيام الطيبة وفي الموسم العظيم المبارك ، ولنعمل جاهدين على تغيير واقع المسلمين ، ليسيروا في طريق النهضة ، ويحققو هدفاً من الأهداف التى أرادها الله تعالى للمسلمين بتشريع فريضة الحج ، قال r: " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " [ متفق عليه ] .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(235/5)
اطبع هذه الصحفة
الزكاة والجهود الخيرية جديران بالقضاء علي الفقر والأحقاد
إن الإسلام يقوم على ركائز قوية، ترسخ العقيدة الصحيحة في نفس المسلم، وتغرس فيه حب العبادة لله تعالى، وتنمي فيه روح الألفة والمحبة لإخوانه المسلمين، ومن بين تلك الأسس التي يقوم عليها الإسلام فريضة الزكاة قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" [متفق عليه]
إن فريضة الزكاة لون من ألوان التكافل الاجتماعي بين المسلمين، ومصدر من مصادر الدخل للدولة المسلمة، ومورد من موارد الاقتصاد الإسلامي في المجتمع قال جل شأنه {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم*وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} [التوبة: 71, 72].
الزكاة والجهود الخيرية جديران بالقضاء علي الفقر والأحقاد
الحمد لله المتفضل على عباده بنعم لا تعد ولا تحصى، نحمده ونشكره، ونتوب إليه وتستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي أعظم المثوبة لمن أعطى واتقى وصدق بالحسنى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أجود أهل الورى، وصاحب اليد العليا، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل البر والتقوى.
أما بعد:
فيا معشر المسلمين:(236/1)
إن الإسلام يقوم على ركائز قوية، ترسخ العقيدة الصحيحة في نفس المسلم، وتغرس فيه حب العبادة لله تعالى، وتنمي فيه روح الألفة والمحبة لإخوانه المسلمين، ومن بين تلك الأسس التي يقوم عليها الإسلام فريضة الزكاة قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" [متفق عليه]
إن فريضة الزكاة لون من ألوان التكافل الاجتماعي بين المسلمين، ومصدر من مصادر الدخل للدولة المسلمة، ومورد من موارد الاقتصاد الإسلامي في المجتمع قال جل شأنه {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم*وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} [التوبة: 71, 72].
( 2 )
لقد شرعت الزكاة لمعالجة الفقر ورعاية البؤساء، والأخذ بأيديهم من حياة الجوع والحرمان إلى حياة كريمة بعيدة عن الضنك والضيم حيث فرض الله على الأغنياء كفالة اليتامى ورعاية الأرامل،ومساعدة المساكين، ومد يد العون إلى ذوي الحاجات الخاصة الذين تفيض أعينهم حزناً الا يجدوا ما ينفقونه في حاجاتهم الضرورية قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].
وقال جل شأنه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}
[الذاريات: 15, 19].(236/2)
إن من أهداف الزكاة حماية المجتمع من التصدع والتفكك، ووقايته من الأمراض الخبيثة التي يصاب بها الأغنياء وهي الشح والجشع والبخل، وتطهير قلوب الفقراء من أسقام الحقد، والغل، والحسد، ولتزكية المال وتنميته بالبركة، ولتسرى روح المحبة والمودة والإخاء في أفئدة المسلمين أغنياء وفقراء، حتى يصير المجتمع كالجسد الواحد، ولذلك أمر الله رسوله (صلي الله عليه وسلم) بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] وقال (صلي الله عليه وسلم): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (متفق عليه)
أيها المسلمون:
إن الزكاة حق مقرر في جميع الأموال التي يملكها المسلم ويستثمرها من عروض التجارة وغيرها، محدد مقدارها بربع العشر أي 5 ,2 % في الأموال التي تمكث عند صاحبها عاماً هجرياً، وكانت فائضة عن حوائجه الأصلية كما حدد الشرع الحكيم مقدار زكاة الثروة الزراعية والحيوانية، وإذا أدى كل من وجبت عليه الزكاة حق المساكين والفقراء وجد مجتمع ترفرف عليه أعلام النصر والرخاء والخير قال يحيى بن سعيد: "بعثني الخليفة عمر بن عبد العزيز لجمع زكاة أفريقيا، فجبيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر ابن عبد العزيز الناس بالزكاة، فاشتريت بها رقابا – أي عبيداً – فأعتقتهم".
لقد حدد الله تعالى مصارف الزكاة وأهلها المستحقين لها بمقتضى علم وحكمة وعدل ورحمة فشملت جميع الطوائف الفقيرة والبائسة والمستضعفة، وكفلت لهم ما يغنيهم عن ذل السؤال، وعن الحاجة.
( 3 )(236/3)
كما تنفق الزكاة في الجهاد، وفي الدعوة إلى الإسلام، وفي وجوه الخير والبر قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [ التوبة: 60].
معشر المسلمين:
إن شهر رمضان شهر الجود والعطاء، ويظهر هذا جلياً في أداء المسلمين زكاة فطرهم يغنون بها إخوانهم الفقراء عن الطواف على الناس يؤدونها رمزاً للمودة والتراحم وتأسياً برسول الله (صلي الله عليه وسلم) لأنه كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان… [الحديث متفق عليه].
كما يحرصون على توزيعها بأنفسهم أو بمن يوكلونه عنهم امتثالاً بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله (صلي الله عليه وسلم) زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات [رواه أبو داود].
عباد الله:
شرع الإسلام ما يحقق للمسلمين العزة والرخاء، والمجد والتقدم، فشرع بجانب الزكاة الكفارات والوقف، وحض على الصدقات فهي أهم أبواب الخير التي حققت للأمة كثيراً من أهدافها النبيلة.(236/4)
ولقد فطن السلف الصالح على ذلك فبادروا إلى الأعمال الصالحات، والتبرع بالصدقات فأنشأوا دور العبادات والتعليم التي يشع منها نور الهداية والعلم إلى سائر الأمصار وشيدوا الحصون لحماية الثغور والبلاد، وأقاموا ملاجئ للعجزة واليتامى وذوي الحاجات الخاصة لإيوائهم، وبنوا المستشفيات لرعاية المرضى ووفروا للفقراء واليتامى الغذاء والكساء ابتغاء مرضات الله تعالى، إن التاريخ الإسلامي ذكر لنا صوراً مشرقة من سخاء السلف الصالح من الصحابة التابعين ومن تبعهم بإحسان الذين أنفقوا أموالهم وتصدقوا بأرضهم: يبقى أصلها وينفق ريعها في وجوه الخير الكثيرة {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} [المؤمنون: 61].
فهذا عثمان بن عفان أوقف بئر رومة للمسلمين يشربون ماءها مجاناً وقال سمعت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يقول: "من حفر بئر رومة فله الجنة قال فحفرتها (رواه البخاري والترمذي والنسائي).
( 4 )
كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بأرض له بخيبر على الفقراء والقربى وفي الرقاب
(عتق العبيد) وفي سبيل الله، وابن السبيل والضيف فهم بهذا الصنيع الطيب أنشأوا حضارة رائعة، ومجتمعاً متماسكاً، قوي الأركان، يشد أفراده بعضهم أزر بعض كالبنيان المرصوص كما قال الله عنهم {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء} [الفتح: 29].
أيها المسلمون:(236/5)
إن من بوادر الخير أن نرى الخيرين من أهل الكويت والمقيمين بها يتسابقون إلى العمل التطوعي، ومساعدة الفقراء والبؤساء بداخل الكويت وخارجها حتى وصلت المساعدات إلى أقصى بلاد العالم بالشرق والغرب عن طريق اللجان الخيرية التي لم تألوا جهداً في سبيل ذلك طامعين في الأجر من الله قال جل شأنه {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [ البقرة: 261]
إنهم يقدمون الخير للناس مستبشرين بما قاله المصطفى (صلي الله عليه وسلم): من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ويربيها له كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل" [متفق عليه]
إن أهل الكويت يتبارون في تقديم يد العون للمحتاجين، لأنهم يعلمون أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأن الشح طريق الهلاك والدمار فصانوا أنفسهم وأهليهم بهذا الصنيع الطيب قال جل شأنه {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وفي الحديث أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفا" [متفق عليه]
فاتقوا الله عباد الله وأخرجوا زكاة أموالكم وتصدقوا بما ملكت أيديكم في وجوه الخير وبادروا إلى العمل التطوعي في خدمة الإسلام والمسلمين يبارك الله لكم فيما من الله عليكم من خير، ويحفظكم من كل مكروه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(236/6)
اطبع هذه الصحفة
تحروا ليلة القدر
إذا كان الله عز وجل قد كرم رسوله في شهر رجب فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السموات وإلى سدرة المنتهى، حيث أوحى إليه ما أوحى، وإذا كان قد كرمه في النصف من شهر شعبان، فحول القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، استجابة لرغبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا كان هذا وذلك، فقد خص رمضان وهو آخر الشهور الثلاثة، بأن جعل ليلة القدر إحدى لياليه، وبارك فيها فأنزل فيها القرآن، وقرر أنها خير من ألف شهر، وكان هذا أيضاً تكريماً لرسوله، حيث خصه وأمته بهذه الليلة المباركة، لينالوا بعبادة الله فيها فوق عبادة ألف شهر ليست فيها ليلة القدر.
تحروا ليلة القدر
الحمد لله رب العالمين، من على الأمة الإسلامية بليلة القدر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اختار ليلة القدر من بين ليالي رمضان، فأنزل فيها القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أمرنا بالإكثار من الطاعة والعبادة في ليلة القدر
أما بعد:
فيا عباد الله:
يقول الله في محكم التنزيل {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر]
أيها المسلمون:(237/1)
لقد اختار الله شهر رمضان دون ماعداه من الشهور، فخصه بما لم يخص به غيره، فجعله أفضل شهور العام، وجعل أيامه أكرم الأيام، ولياليه أفضل الليالي، أجزل فيه العطاء للمحسنين، وضاعف الثواب للطائعين، ولقد بين رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فضل أوقات معينة منها شهر رمضان عموماً، وليلة القدر خصوصاً، لأسباب صرح بها، ومنافع دعا إلى إكتسابها، ليتسابق المسلمون إلى الخير، ويتعرضوا لما فيها من رحمة الله وفضله.
( 2 )
وإذا كان الله عز وجل قد كرم رسوله في شهر رجب فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السموات وإلى سدرة المنتهى، حيث أوحى إليه ما أوحى، وإذا كان قد كرمه في النصف من شهر شعبان، فحول القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، استجابة لرغبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا كان هذا وذلك، فقد خص رمضان وهو آخر الشهور الثلاثة، بأن جعل ليلة القدر إحدى لياليه، وبارك فيها فأنزل فيها القرآن، وقرر أنها خير من ألف شهر، وكان هذا أيضاً تكريماً لرسوله، حيث خصه وأمته بهذه الليلة المباركة، لينالوا بعبادة الله فيها فوق عبادة ألف شهر ليست فيها ليلة القدر.
أيها المسلمون:(237/2)
ليلة القدر هي ليلة الشرف والعزة والكرامة، لأن الله تعالى أعلى فيها منزلة نبيه، وشرفه، وكرمه بالرسالة، فهي ليلة ميلاد النبوة، ولقد أعلى الله من قدر هذه الليلة لنزول القرآن فيها، والمشهور أنها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، وأنها خاصة بالأمة المحمدية وأنها باقية إلى يوم القيامة، من أجل هذا كانت ليلة القدر أفضل ليالي السنة، وقيل هي ليلة التقدير، قال قتادة: تقضي فيها الأمور، وتقدر فيها الآجال والأرزاق.. وقيل سميت ليلة القدر، لأنه أنزل فيها كتاب ذو قدر، إلى رسول ذي قدر، إلى أمة ذات قدر، على يد ملك ذي قدر وقيل لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً، وثواباً جزيلاً، فقد ورد في حديث فضائل رمضان قول النبي (صلي الله عليه وسلم): فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" (أخرجه أحمد والنسائي) قال رب العزة جل وعلا: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وفي هذا إعادة إلى شرفها مما لا يحيط به علم العلماء، وإنما يعلمه علام الغيوب الذي خلق العوالم وأنشأها من العدم ثم أوضح مقدار فضلها فقال" ليلة القدر خير من ألف شهر" لأن ليلة سطع فيها نور الهدى، وتكون فاتحة التشريع الجديد، الذي أنزل لخير البشر، ويكون فيها وضع الحجر الأساسي لهذا الدين الذي هو آخر الأديان الصالح لهم في كل زمان ومكان والعمل في هذه الليلة من الصلاة والتلاوة والذكر، لهي خير من العمل في الف شهر في غيرها، ويفهم من هذا أن العبادة في ليلة القدر، تعدل عبادة العمر كله تقريباً لأن الألف شهر تساوي أربعة وثمانين عاماً، وقال: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * تنزل فيها الملائكة المكرمون، وعلى رأسهم جبريل مسلمين ومحيين حتى تضيق الأرض على سعتها، وقال: سلام هي حتى مطلع الفجر قال مجاهد هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يفعل فيها سوءاً ويعمل فيها أذى، فيا سعادة من نال بركتها وحظي بخيرها.
( 3 )
أيها الإخوة المؤمنون:(237/3)
إنها منحة الله العلي القدير إلى عباده المؤمنين الصائمين الخاشعين ومن فضل الله تعالى على المسلمين أن من أقامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
أيها الإخوة المؤمنون:
لما كانت ليلة القدر تقع في العشر الأواخر من رمضان كان النبي (صلي الله عليه وسلم) يعتكف فيها أملاً في موافقة ليلة القدر.. عن عائشة رضي الله عنها قالت.. كان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (متفق عليه) يجاور: أي يعتكف، وعنها قالت: كان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل كله، وأيقظ أهله، وشد المئزر" (رواه البخاري ومسلم). والمراد جد واجتهد في العبادة زيادة على عادته في غير رمضان، وأحيا الليل بالصلاة والاستغفار والعبادة، وأيقظ أهله للصلاة بالليل، ليشاركنه في الخير، ويقاسمنه في التقرب إلى الله، ويستحب الإكثار من الدعاء في ليلة القدر عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" [رواه الترمذي] وقال حديث صحيح.
أيها المسلمون:
تسابقوا إلى إحياء ليلة القدر بالاستغفار والصلاة والعبادة، فطوبى لمن قام ليلها وصام نهارها، وجاهد في سبيل الله، أو أصلح بين اثنين، أو أعان مسلماً، أو أغاث ملهوفاً.
أيها المسلمون:
إن هذه الليلة مباركة لنزول القرآن فيها، وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك، تشاركهم فيها الملائكة بما يشعر بعظمتها، ويشعر بفضل الإنسان وقد استخلفه الله في الأرض.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (رواه البخار ي) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.(237/4)
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(237/5)
اطبع هذه الصحفة
القرآن حجة لك أو عليك
لو ذهبنا نعدد فضل القرآن وما أعده الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه وعملوا بما فيه لضاق بنا الوقت والمقام، ولكن كما يقولون: "ما لا يدرك كله لا يترك جله" فنقول: لا بد أولاً أن يستشعر المؤمن أن القرآن كلام الله رب العالمين، جعل الله في قلوب عباده من القوة ما يجعلهم يستطيعون تدبره والاعتبار به، وتذكر ما فيه من طاعته وعبادته، وأداء حقوقه وفرائضه، ولولا ذلك لضعفت القلوب وناءت بحمله وهو يقول وقوله الحق: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]. فأين قوة القلوب من قوة الجبال؟ ولكن الله تعالى رزق عباده من القوة على حمله ما شاء أن يرزقهم فضلاً منه ورحمة. روى البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي (صلي الله عليه وسلم) "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" (وروى مسلم) عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "قال (صلي الله عليه وسلم): "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر"
القرآن حجة لك أو عليك
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود: 1]، سبحانه أنزل القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، حفظه الله تعالى من التحريف والتغيير فقال وقوله الحق {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل القرآن في ليلة مباركة تحفه ملائكة الرحمن وتحيط به تباشير السلام.(238/1)
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة وصدع بأمر مولاه، وحفظ القرآن كما أنزله الله أيده ربه بالمعجزة الخالدة وأعلى بكتابه العزيز بين الأنام ذكره {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد:
فيا أمة الإسلام والقرآن:
يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
( 2 )
أيها المسلمون:(238/2)
لو ذهبنا نعدد فضل القرآن وما أعده الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه وعملوا بما فيه لضاق بنا الوقت والمقام، ولكن كما يقولون: "ما لا يدرك كله لا يترك جله" فنقول: لا بد أولاً أن يستشعر المؤمن أن القرآن كلام الله رب العالمين، جعل الله في قلوب عباده من القوة ما يجعلهم يستطيعون تدبره والاعتبار به، وتذكر ما فيه من طاعته وعبادته، وأداء حقوقه وفرائضه، ولولا ذلك لضعفت القلوب وناءت بحمله وهو يقول وقوله الحق: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]. فأين قوة القلوب من قوة الجبال؟ ولكن الله تعالى رزق عباده من القوة على حمله ما شاء أن يرزقهم فضلاً منه ورحمة. روى البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي (صلي الله عليه وسلم) "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" (وروى مسلم) عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "قال (صلي الله عليه وسلم): "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر" وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله (صي الله عليه وسلم)يقول:(238/3)
"ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قلت يا رسول الله: ما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى: فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الأراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرأناً عجباً، من علم علمه سبق ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
فيا إخوة الإٍسلام:
هذا هو القرآن الكريم أمامكم وبين أيديكم وفي كل مكان عليكم بالعيش معه في رمضان شهر القرآن وفي غيره من الشهور والأزمان، تدبروا آياته وتخلقوا بأخلاقه واقتدوا بمن نزل عليه القرآن وهو رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، الذي أقام حدوده ونفذ تعاليمه حتى صار كأنه قرآناً يمشي على الأرض، فعندما سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي (صلي الله عليه وسلم) قالت: كان خلقه القرآن، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): يقول الرب تبارك وتعالى: "من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" (رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب)
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول (صلي الله عليه وسلم): "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران".
( 3 )
أيها المسلمون:
حق على من قرأ كتاب الله أن يزدجر بنواهيه ويتذكر ما شرعه الله فيه، ويخشى الله ويراقبه، فإنه قد حمل رسالة الرسل وأصبح يوم القيامة شهيداً على المخالفين من أهل الملل.(238/4)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].
ألا فاعلموا أن الحجة مؤكدة على من تعلم القرآن وأغفله ولم يعمل به، ومن أوتي علم القرآن فلم ينتفع به ولم يرتدع عن نواهيه وارتكب القبيح من المآثم والجرائم كان القرآن حجة عليه وخصماً له، قال رسول الله: والقرآن حجة لك أو عليك" (رواه مسلم)
فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته ويتدبر حقائق عباراته، ويتفهم ما فيه من عجائب، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقال الله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
جعلنا الله وإياكم ممن يتلوه حق تلاوته ويتدبره حق تدبره، ولا يلتمس الهدى في غيره وجمع لنا به خيري الدنيا والآخرة فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
لقد خص الله تعالى رسوله بتفصيل المجمل منه، تفسير المشكل، وتحقيق المحتمل بالإضافة إلى تبليغ الرسالة قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
( 4 )
أيها المسلمون:
إن القرآن حجة لمن عمل به، يحاج عنه يوم القيامة، ويشفع له، فعن أبي إمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: "أقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" (رواه مسلم)(238/5)
وروى مسلم أيضاً عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله (صلب الله عليه وسلم) يقول: "يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما". فمن تعلم القرآن وعمل به وتدبر آياته فقد ارتقى بنفسه وارتفع عن الدنايا وأعتق نفسه من النار،وأصبح من خير الناس قال: (صلي الله عليه وسلم) "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" [رواه البخاري]، وأما من لم يلق له بالاً فلم يتدبر آياته ولم يتعلم أحكامه، ولم يأتمر بأوامره وينزجر عن نواهيه فقد
أهلك نفسه وأشقاها فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" (رواه مسلم)
فاتقوا الله عباد الله وعليكم بتلاوة القرآن مع تدبر آياته والعمل بأحكامه روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال: رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: عن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "يقال لصاحب القرآن: أقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح).
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(238/6)
اطبع هذه الصحفة
خطبة عيد الفطر المبارك
لكل أمة من الأمم أعياد تعتز بها، و تحرص عليها، وتعد لها الأيام والليالي.. أعياد ترجع إلى مبدأ نشأتها، أو إلى أيام من تاريخها، وتحتفل بموعدها في كل عام، حتى لا تنسى، وتهتم بها اهتماماً بليغاً، فتعلق الرايات، وتنثر الزينات، وتصل الليل بالنهار في فرحة عامة، وسعادة غامرة.. وكلها تتعلق بأمور دنيوية، ربما يختلط فيها الحق بالباطل، ويلتبس فيها الهدى بالضلال، وربما ينتشر فيها الفساد، وتعم الجرائم، وتنتهك الحرمات.
أما أعيادنا الإسلامية فما أبعدها عن المهازل والرذائل، وما أكرمها على الإنسان المسلم.. عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله (صلي الله عليه وسلم) المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "قد أبدلكم الله بهما خيراً: يوم الأضحى ويوم الفطر" (أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح سبل السلام ج2 )
خطبة عيد الفطر المبارك
(تسع تكبيرات)
الله أكبر، له الفضل كله، وله الثناء كله، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].. الله أكبر جل جلاله، وعز سلطانه، وفاض على الكون خيره.. الله أكبر، منزه عن كل نقص، مبرأ من كل عيب {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].
أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة المؤمنون:
لله الخلق والأمر فرض عليهم الصيام في رمضان لحكمة، وحرمه عليهم في العيد لحكمة، فسبحان من أحل الحلال وحرم الحرام، فطوبى لمن أدركته نعمة الله بالاستجابة والإنابة، فغفر له, ورغم أنف من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له.
أيها الإخوة المؤمنون:(239/1)
لكل أمة من الأمم أعياد تعتز بها، و تحرص عليها، وتعد لها الأيام والليالي.. أعياد ترجع إلى مبدأ نشأتها، أو إلى أيام من تاريخها، وتحتفل بموعدها في كل عام، حتى لا تنسى، وتهتم بها اهتماماً بليغاً، فتعلق الرايات، وتنثر الزينات، وتصل الليل بالنهار في فرحة عامة، وسعادة غامرة.. وكلها تتعلق بأمور دنيوية، ربما يختلط فيها الحق بالباطل، ويلتبس فيها الهدى بالضلال، وربما ينتشر فيها الفساد، وتعم الجرائم، وتنتهك الحرمات.
أما أعيادنا الإسلامية فما أبعدها عن المهازل والرذائل، وما أكرمها على الإنسان المسلم.. عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله (صلي الله عليه وسلم) المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "قد أبدلكم الله بهما خيراً: يوم الأضحى ويوم الفطر" (أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح سبل السلام ج2 )
( 2 )
والجاهلية معروف أمرها، بين شرك وفساد، وخمر وميسر، وعرى وفضائح، وسوء وفحشاء وحسبك اعترافهم بأنهم كانوا في جاهلية، جاهلية القلب والنفس، جاهلية العقل والبطن، جاهلية الغصب والنهب، جاهلية في كل شئ..(239/2)
أعيادنا الإسلامية تنحصر في يومين في العام لا ثالث لهما، وترتبط بركنين من أركان الإسلام: عيد الفطر يرتبط بصيام شهر رمضان، وعيد الأضحى يرتبط بفريضة الحج.. أعياد روحية تأتي عقب صفاء النفس بالحرمان، وطهارة الصدر بالإيمان، وقوة الإرادة بالمراقبة، وقيام الليل بالتهجد، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[السجدة: 16] وتلين جوارحهم بالتلاوة والذكر، والطواف والسعي، كلها استجابة لأمر الله، وإجابة لدعوة الخليل ابراهيم عليه السلام: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]
فعيدنا -أيها المسلمون– عيد الفضائل، عيد المكارم، عيد الحصاد، يوم الجائزة، على عظيم ما قدمتم، وكريم ما أديتم، وصدق ما فعلتم، وقوة صبركم وأمانتكم، و الله أعلم بالسرائر، وأدرى بالضمائر، والذي لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
فحقت لمن صام رمضان فرحتان، فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه.. والإسلام لا يحرم الفرح ولا المرح إذا كانا في غير إسفاف، ولا يحرم اللهو واللعب إذا كانا بأمر مباح، ولا يحرم على الإنسان أمراً فيه سعادته إذا كانت سعادته في غير معصية، بل في الأعياد ذكر وشكر لله على النعمة التي وفقه الله إلى أدائها، وعلى الصبر الذي أعانه الله عليه، وعلى جهاد النفس والشيطان اللذين أقدره الله تعالى على الانتصار عليهما.
( 3 )
أيها الإخوة المؤمنون:(239/3)
إننا نعيش أياماً صعبة في صراعنا مع العدو الغادر، ننام ونصحو على مناظر دامية، تنخلع لها القلوب من الأسى، وتتحجر لها العيون من البكاء، وتتمزق لها الأكباد من الألم، ترى ما ذنب إخواننا في فلسطين، ذنبهم أنهم يدافعون عن أنفسهم ووطنهم، ذنبهم أنهم يدافعون عن المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وعن عقيدة كل مسلم في أنحاء العالم، لأن المقدسات ليست لهم وحدهم، وإنما هي للمسلمين جميعاً، فيها قبور أنبيائهم، ومسرى رسولهم، والمسجد الذي تشد إليه الرحال إلى أن تقوم الساعة.
والمدافعون عن المسجد الأقصى لا يملكون مالاً ولا عتاداً، ولا ما يوازي ما عند العدو من آلات الحرب والدمار.. وكل ما يملكون أحجار يقتلعونها بأظفارهم، ويرمونها بأناملهم، كل حجر يقابله من العدو الغادر رصاصة، وكل رمية يقابلها رمية بقنبلة، وكل مظاهرة سلمية تمزقها صواريخ عاتية، وكل مأوى يلجأ إليه الأطفال الصغار يهدمه العدو على رؤسهم بلا وازع ولا ضمير.
ألا يستحق هؤلاء منا أن نقف معهم؟ ألا يستحق هؤلاء منا أن نجاهد معهم بأموالنا إن لم يسعفنا الحظ أن نجاهد معهم بأنفسنا.. إن الجهاد بالمال صنو الجهاد بالنفس، بل قدمه الله في معظم آيات الجهاد.
فجاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم، أداء لفريضة مقدسة، وشكراً لله على نعمته الكبرى في دحر عدونا، ودفاعاً عن مقدساتنا.
اللهم نصرك الذي وعدتنا، اللهم ألف بين قلوبنا، اللهم أنزل السكينة علينا، اللهم إن خذلتنا فلن تعبد في الأرض، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
بقية خطبة عيد الفطر
أيها الإخوة المؤمنون:
لقد عودنا صاحب السمو أمير البلاد، وقائد نهضتنا، أن يوجه إلى شعبه كلمة بمناسبة العشر الأواخر من رمضان، وقد سلط سموه حفظه الله الضوء هذا العام على مستقبل البلاد، و ما تحتاج إليه من جهود تحقق كل الأماني.(239/4)
وقال أعزه الله: إن قضيتنا في الوجود هي الكويت وأجيالها، وما دون ذلك زائل.. وحذرنا من الذين يتربصون بنا الدوائر قائلاً: لنصد الطامعين المتربصين بنا، هؤلاء لا يسلطون علينا جيوشهم وحدها، بل يسعون لإغراقنا في الأمراض الاجتماعية.. وحمد الله على أن رصيدنا من الخريجين كبير وأننا لا نشكو من قلة التخصصات بل على الشباب أن يعمل بكفاية وإصرار.. فإن العالم في هذا العصر يشهد تسابقاً لإثبات الذات، فعلينا أن نثبت أننا أهل خير وتقدم، وأن نحافظ على نعم الله علينا، وأن نحافظ على وحدتنا، وأن نحصن أنفسنا بآداب ديننا.
ألا ما أعظمه من توجيه، وما أعظمها من نصيحة، فاتقوا الله أيها المسلمون في دينكم وفي وطنكم وفي مستقبل أيامكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
( 4 )
الخطبة الثانية:
(سبع تكبيرات)
الله أكبر ما دامت السموات والأرض * الله أكبر ما تعاقب الليل والنهار * الله أكبر ما عز المسلمون بسلطانك وذل المشركون بقهرك.. الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، ولك الحمد حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة المؤمنون :
إننا في يوم عيد، نسأل الله تعالى أن يعيده علينا بحال أحسن من هذا الحال، وأن يعيده علينا باليمن والإقبال، والعزة والكرامة، والنصر والتأييد، وأن نعيش بين أهلينا وأولادنا مطمئنين، لا يفرقنا ظلم ظالم، ولا يغير علينا عدو فاجر، وأن تظل كلمة الله هي العليا.
أيها الإخوة المؤمنون :(239/5)
العيد عيد التسامح والتصافح، عيد المودة والرحمة، عيد التكامل والتكافل، عيد التشاور والتزاور.. فمدوا أيديكم بالصفح والمصافحة وأصلحوا ذات بينكم، وأحسنوا إلى من أحسن إليكم وإلى من أساء اليكم من بينكم، وانظروا بعين الرحمة إلى من انطفأت الابتسامة من ثغورهم ومن غابت النضارة من وجوههم، ومن ابتلاهم الله في أنفسهم بفقر مدقع، أو يتم موجع، أو مرض مؤلم، أو حاجة من حوائج الدنيا، ولا تنسوا زكاة فطركم، واعلموا أن الله ذا أحب قوماً ابتلاهم، ولن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا.
اللهم تقبل صلاتنا وصيامنا واحفظ صاحب السمو أميرنا وسمو ولي عهده المحبوب وارحم شهداءنا وشهداء الأمة الإسلامية، وفك قيد أسرانا وأسرى الأمة الإسلامية، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(239/6)
اطبع هذه الصحفة
بين حلاوة الطاعة ومرارة المعصية
سعادة المرء فى طاعة الله وشقاؤه في معصيته، فرسالة الإنسان فى الحياة أن يعرف الله ولا ينكره، ويشكره ولا يكفره قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 ,58]
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
سبحانه يخاطب الخلق جميعاً: إنسهم وجنهم، مسلمهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، بل الكون كله من خلق الله، خلقه لهذه الغاية النبيلة فهو مسخر لها، قائم بأمرها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41]
هذا الكون كله: بره وبحره، وسهله وجبله، وأرضه وسماؤه. يذكر الله ولا ينساه فما بال الإنسان الذي كرمه الله بالعقل وأكرمه بالرسل وشرفه بالكتب وسخر له الكائنات وهداه إلى أسرار ما حوله، وأعطاه كل ما سأل هذا الإنسان ينسى ويجهل، ويقرب ويبعد، ويقبل ويدبر، عن الله رب العالمين.
بين حلاوة الطاعة ومرارة المعصية
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، سبحانه أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله الهدى والتقى والعفاف والغنى.. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.. وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك اللهم صل وسلم، وبارك وأنعم، على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(240/1)
اتقوا الله عباد الله فى السر والعلن {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128]
أيها الإخوة المؤمنون:
سعادة المرء فى طاعة الله وشقاؤه في معصيته، فرسالة الإنسان فى الحياة أن يعرف الله ولا ينكره، ويشكره ولا يكفره قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 ,58]
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
سبحانه يخاطب الخلق جميعاً: إنسهم وجنهم، مسلمهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، بل الكون كله من خلق الله، خلقه لهذه الغاية النبيلة فهو مسخر لها، قائم بأمرها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41]
هذا الكون كله: بره وبحره، وسهله وجبله، وأرضه وسماؤه. يذكر الله ولا ينساه فما بال الإنسان الذي كرمه الله بالعقل وأكرمه بالرسل وشرفه بالكتب وسخر له الكائنات وهداه إلى أسرار ما حوله، وأعطاه كل ما سأل هذا الإنسان ينسى ويجهل، ويقرب ويبعد، ويقبل ويدبر، عن الله رب العالمين.
( 2 )
أيها الإخوة المؤمنون:
العبادة ليست وقفاً على شعائر دينية تنتهي بأدائها، ولكن العبادة المطلوبة هى العبادة بمعناها الواسع الذي يشمل كل جوانب الحياة فطلب العلم فريضة، وطلب الرزق عبادة، والوصول إلى الله عن طريق البحث والاكتشاف عبادة، والعمل لرفعة الوطن عبادة، وأداء الحقوق والواجبات عبادة، والقيام بحاجات النفس والأهل والولد عبادة، مادامت فى حدود الحلال.(240/2)
من هنا يقول صاحب الظلال عليه رحمة الله فى تفسيره لقول الحق تبارك وتعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}
قال: حقيقة العبادة تتمثل إذن فى أمرين رئيسيين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية فى النفس، وأن ليس وراء ذلك من شئ.
الثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة فى الضمير، وكل حركة فى الجوارح وكل حركة فى الحياة... ثم يقول: وبهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض وعمارة الأرض كالجهاد فى سبيل الله، والجهاد فى سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضا بقدر الله، كلها عبادة، وكلها تحقيق للوظيفة الأولي التي خلق الله الجن والإنس لها.
أيها الإخوة المؤمنون:
لقد مضى شهر رمضان إلى ربه، تاركاً بصمات الخير والرضا النفسي على من صام نهاره وقام ليله وكف عن الحرام جوارحه، ونرجو أن نكون قد خرجنا بنصيب وافر من الحسنات والمكارم وأن يكون رصيدنا من الخير تثقل به الموازين يوم القيامة.. لقد ذقنا فيه حلاوة الطاعة وجمال القرب من الله وأنوار الهداية من كتابه الذي أنزل فيه، وسهرنا الليل قياماً لا يرانا أحد وقضينا النهار صياماً من أجل الله لا من اجل غيره.
( 3 )
فلا يجوز أن تضيع كل هذه المكاسب من أيدينا بعد أن وفقنا الله إليها.. ولا يجوز أن نضل عن الطريق بعد أن هدانا الله إليه.. ولا يجوز أن نبدد هذه الثروة من أيدينا بعد أن وصلنا الليل بالنهار فى تحصيلها.. ولا يجوز أن نعود إلى المعصية بعد أن ذقنا حلاوة الطاعة.(240/3)
فكثير من الناس يظن أنه كان في سجن ثم خرج منه، و عليه أن يعوض ما فات.. وكثير من الناس يظن أنه غفر له ما تقدم من ذنبه، وعليه أن يبدأ من جديد في إعطاء النفوس هواها من حلال أو حرام، وأن أمامه عاماً كاملاً يفعل فيه ما يشاء إلى أن يعود إليه رمضان، ولكن هل ذاق هذا الإنسان حلاوة العبادة؟ وهل ضمن هذا الإنسان أن يعيش إلى غد؟ هل ضمن أن يموت على الإسلام؟ ألا يخشى أن يأتيه الأجل وهو في معصيته؟ ورسول الله (صلي الله عليه وسلم) يقول: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" (رواه البخاري).
أوصيك –يا أخي المسلم– بأن تحافظ على ما قدمت من أعمال وقربات تبتغي بها وجه الله، لا تضيعها عبثاً، ولا تفرط فيها أبداً، فالأعمال توزن يوم القيامة بميزان الذرة التي لا ترى بالعين المجردة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزلة: 7، 8]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(240/4)
اطبع هذه الصحفة
إتقوا الله في أسفاركم
للسفر أحكامه وآدابه، وكذلك له دواعيه وأسبابه.. فمن الناس من يسافر لطلب العلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة" [رواه مسلم].. ومنهم من يسافر لطلب الرزق، قال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ومنهم من يسافر للاطلاع على أحوال الأمم، ومواطن العظات والعبر، وأسباب التقدم والتخلف، أو القوة والضعف.
إتقوا الله في أسفاركم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 1، 2].
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، القائم على كل نفس بما كسبت. { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.(241/1)
اللهم صل وسلم وبارك، واجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، وارض اللهم عن أصحابه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فيأيها الإخوة المسلمون:
للسفر أحكامه وآدابه، وكذلك له دواعيه وأسبابه.. فمن الناس من يسافر لطلب العلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة" [رواه مسلم].. ومنهم من يسافر لطلب الرزق، قال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ومنهم من يسافر للاطلاع على أحوال الأمم، ومواطن العظات والعبر، وأسباب التقدم والتخلف، أو القوة والضعف.
( 2)
قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21]
ومنهم من يسافر للراحة والاستجمام، والتخفف من أعباء الحياة، ومشاغل الدنيا، وتراكمات الهموم.
والإسلام يرحب بكل هذه الدواعي، ويحث عليها، ولا يجد فيها بأساً: فطلب العلم فريضة، وطلب الرزق عبادة، والتفكر في ملكوت السموات والأرض طاعة، وطلب الاستجمام فيما لا يغضب الله مشروع.(241/2)
أما إذا كان الغرض من السفر هو معصية الله، فهو مرفوض شرعاً وعقلاً وذمة، فمن الناس من يسافر لارتكاب المنكرات وعمل السيئات، وقضاء الوقت في الاعتداء على الأعراض وتناول المسكرات والمخدرات، وعلى موائد القمار، وهروب المرء من نفسه التي بين جنبيه، ومن معارفه الذين يظنون به الخير، ويحيطونه بالتجلة والاحترام، ومن وطنه الذي يعلق عليه الآمال... هؤلاء هم الغافلون، والذين يسقطون من العيون يوماً بعد يوم، ولا بد أن ينكشف أمرهم، ويفضحهم الله على رؤوس الأشهاد. .. ومهما بالغوا في الاستتار، وأمعنوا في الاستهتار، وتظاهروا بالعفة والفضيلة فليعلموا أنه إذا خفى على الناس سرهم فهو لا يخفى على من يعلم السر وأخفى، ومهما غاب أحدهم أو حضر، أقام أم ارتحل، يبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فإنه لن يستطيع أن يغيب عن عينه سبحانه، ولا يستطيع أن يعزب عن علمه.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].(241/3)
واعلم ـأخي المسلمـ أنك محسوب على دينك، رضيت أم أبيت، معدود على وطنك، قبلت أو رفضت.. وأنك مهما لبست ثياباً غير ثيابك، أو رطنت بلغة غير لغتك ـ فإنك لن تستطيع أن تخرج من إهابك، ولا أن يصدق الناس وهمك، فإذا أحسنت ، فسيقول الناس عن الإسلام إنه دين الحق، وستكون سبباً في نشر دعوته، وإقبال الناس عليه - وسيقول الناس عن وطنك: إنه وطن العفة والفضيلة وإذا أسأت ـ والعياذ بالله ـفلن يقول الناس: إن المسلمين هم الذين انحرفوا عن الطريق، ولكنهم سينسبون الإساءة إلى الإسلام، والإسلام برىء من كل ما يسىء {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103، 104].
( 3)
إن أعداء الإسلام كثيرون، يتلمسون لنا المثالب، ويجدون في البحث عن العثرات، ويخلطون الأوراق بين مبادىء الإسلام وعمل المسلمين... فكن رحيماً بدينك، وفياً لوطنك، واقفاً عند حدود ربك، مرابطاً على ثغر من ثغور الإسلام، حتى لا يؤتى الإسلام من قبلك.. وكن صورة مضيئة لأهل بلدك، ليفهم الناس أنك من بلاد الخير والسماحة والحضارة.. كن خير داعية لدينك، وخير سفير لبلدك.. واتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في أسفاركم.
فالسفر بوتقة، تظهر المعادن الأصيلة من المعادن المزيفة، وفيه يظهر الناس على حقيقتهم، مهما بالغوا في التمثيل، ومهما وضعوا على وجوههم من أقنعة: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17].
أيها الإخوة المسلمون:(241/4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل الرجوع إلى أهله"[متفق عليه] ومعناه يمنعه كمال هذه الأمور. فهو جزء من العذاب لما فيه من المتاعب والمشاق، والمخاوف والأخطار، وأكل الخشن، وقلة الماء والزاد. ولما فيه من فراق الأحبة، ولما فيه من ذل الغربة. وصدق القائل:
وإن غتراب المرء من غير خلة ** ولا همة يسمو بها لعجيب
وحسب الفتى ذلاً وإن أدرك العلا ** ونال الثريا أن يقال غريب
من أجل ذلك كله خفف الشرع الحنيف كثيراً من أحكامه على المسافر، إذا كان سفره في غير معصية، مراعاة لظروفه، وتخفيفاً عليه، وتشجيعاً لدواعيه، فرخص في قصر الصلاة الرباعية، كما رخص في جمع الصلاة. قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101] ولما أمن الناس سأل عمر رضى الله عنه رسول الله (صلي الله عليه وسلم) عن القصر فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" [رواه مسلم وأبو داود].
( 4 )
كما رخص فيه الفطر من الصيام ، قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] كما أباح التيمم عند فقد الماء، قال سبحانه: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6].(241/5)
وكما جعل الله الأرض ذلولاً للإنسان، يضرب فيها بالفأس فلا تغضب، ويشقها بالمحراث فلا تثور، ويلقى فيها الحب فلا تبخل، قال تعالى: { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبسى: 27, 32]
كذلك سخر سبحانه وتعالى وسائل السفر، فمن الذي يستطيع أن يطيق الخيل إذا جمحت، والطائرات إذا انحرفت، والسيارات إذا تمردت؟ لا أحد الا الله، ولذلك وجب أن نذكر الله عز وجل ونشكره، ونقول دعاء السفر الذي علمنا إياه رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "الله أكبر، الله أكبر، الله اكبر. سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقبلون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر وسوء المنقلب: في المال والأهل" وإذا رجع قالهن وزاد فيهن" آيبون تائبون، عابدون، لربنا حامدون" [رواه مسلم].
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(241/6)
اطبع هذه الصحفة
غياب رب الأسرة من أهم أسباب تعاطي المخدرات
الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع، وهي الركيزة الأساسية التي يقوم عليها فإذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت ضاع المجتمع وانهار، وكانت نهايته الإخفاق والهلاك.
لذا اهتم الإسلام بالأسرة وسن لها الأحكام التي تكفل لها الاستقرار والحياة الطيبة، فأوجب على الوالدين رعاية ما وهبهم الله من بنين وبنات، فهم زينة الحياة الدنيا، وثمرة الحياة، وقرة العين، ورخاء الشعوب، ومجد الأمة، قال تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72]
وجعل جل شأنه من دعاء الصالحين قوله في طلب الذرية {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74]
أن الأبناء نعمة تستوجب من الآباء والأمهات شكر الله عز وجل عليها، وهذا إنما يكون بتقدير مدى المسئولية المنوطة بهم نحوهم والقيام برعايتهم خير قيام فهم مسئولون عنهم يوم القيامة، إن أحسنوا إليهم كانت لهم المثوبة، وإن أساؤوا وإليهم كانت عليهم العقوبة، قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم):
"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته" [رواه البخاري].
غياب رب الأسرة من أهم أسباب تعاطي المخدرات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب السموات، ورب الأرض، رب العالمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا معشر المسلمين:(242/1)
الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع، وهي الركيزة الأساسية التي يقوم عليها فإذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت ضاع المجتمع وانهار، وكانت نهايته الإخفاق والهلاك.
لذا اهتم الإسلام بالأسرة وسن لها الأحكام التي تكفل لها الاستقرار والحياة الطيبة، فأوجب على الوالدين رعاية ما وهبهم الله من بنين وبنات، فهم زينة الحياة الدنيا، وثمرة الحياة، وقرة العين، ورخاء الشعوب، ومجد الأمة، قال تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72]
وجعل جل شأنه من دعاء الصالحين قوله في طلب الذرية {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74]
أن الأبناء نعمة تستوجب من الآباء والأمهات شكر الله عز وجل عليها، وهذا إنما يكون بتقدير مدى المسئولية المنوطة بهم نحوهم والقيام برعايتهم خير قيام فهم مسئولون عنهم يوم القيامة، إن أحسنوا إليهم كانت لهم المثوبة، وإن أساؤوا وإليهم كانت عليهم العقوبة، قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم):
"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته" [رواه البخاري].
( 2 )
أيها الإخوة المسلمون:
إن من حق الأبناء علينا أن نقوم بتربيتهم تربية حسنة قوامها الدين والأخلاق الفاضلة فإن أحسنا تنشئتهم سعدنا وسعدوا وكانوا بركة لوالديهم وللأهل والوطن قال (صلي الله عليه وسلم): "الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم" [رواه ابن ماجة](242/2)
وقال (صلي الله عليه وسلم): " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" [رواه أحمد وأبو داود، وقال (صلي الله عليه وسلم): "ما نحل والد ولداً من نحل أفضل من أدب حسن" [رواه الترمذي]
وعلى الآباء والأمهات أن يكونوا قدوة صالحة لأولادهم، فبهم يقتدون، وعلى ما يشاهدونه منهم يقتبسون، قال الرسول (صلي الله عليه وسلم): "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" [رواه مسلم].
قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا **** على ما كان عوده أبوه
وينبغي أن يعلم إن اندراج الشباب والشابات نحو الانحراف والفسوق والعصيان إذا وجد فإنما يوجد من أبوين هم القدوة الفاسدة لأولادهم.
قال الشاعر:
وهل يرجى لأطفال كمال **** إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
أيها الأخوة المسلمون:
إن ما يصيب أبناءنا سلوك غير سوى، وانحراف عن الجادة، بفعل المنكرات وتعاطي المخدرات، وشرب المسكرات إنما يرجع في معظم أحواله إلى غياب الأب عن البيت، وتسليم قيادة البيت إلى الأم، فهي التي تتولى تربية الأبناء، والاعتماد على الأم وحدها في رعاية الأولاد لا يؤدي إلى نتائج طيبة في التربية، بل على العكس؟ لأنها تحكم على الأمور من جانب العاطفة غالباً لا من جانب العقل، فقد تستصغر الذنب الكبير، وقد تخفي عن الابن ما يفعله الابن من فعل قبيح خشية معاقبته، ومن ثم يتمادى الولد في فعل المنكر، لعدم وجود الرادع له على ما ارتكب من قبح، فإنه لا يخشى من بطش أمه.
قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً **** فليقس أحياناً على من يرحم
( 3 )
أيها الاخوة المسلمون:(242/3)
إن واقعنا المعاصر يشكو من تمادى انحراف بعض الشباب في الفساد وذلك يرجع غالباً إلى هجر الأب منزل الأسرة طلباً للثروة أو للسمر واللهو مع الأصحاب، وتفويض الأم في رعاية الأبناء، وتقوم الأم بدورها بتسليم قيادة البيت إلى الخادمة حيث تقضي معظم وقتها في العمل أو زيارة الأقارب والصديقات ومن ثم لا يهاب الولد من الخادمة فيفعل ما بدا له وينساق إلى مسالك الشيطان والهوى فيضل ويغوى، لأنه لا يجد أباً يحاسبه، ولا أماً تراقبه فينشأ جيل قد تربى على ضعف الأخلاق، وقبيح الصفات بسببه تربية الخادمة له وانصراف الوالدين عن تأديبه ورعايته.
قال أحمد شوقي:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من **** هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له **** أماً تخلت أو أباً مشغولاً
عباد الله:
أن ترك الأبناء والبنات دون مراقبة الأبوين ورعايتهما لهم يجعلهم لقمة سائغة لقرناء السوء، فيليتقطونهم، ويقذفون بهم إلى مهاوي الشيطان.
أيها المسلمون:
إن الأمة لا تتقدم إلا بسواعد أبنائها وبعلمهم واستقامتهم على الخلق السوي والاجتهاد في خدمة الوطن، فهل لو ترك الأبناء دون متابعة ومراقبة يؤدون واجباتهم نحو مجتمعهم، ويقدرون المسئولية؟ كاملاً.
فيا أيها الآباء والأمهات أفيقوا، فإن كنتم مشغولين بجمع الثروات أليس أبناؤكم وبناتكم ثروة؟ تابعوا أولادكم وراقبوهم في البيت وخارجه وتعرفوا على أصدقائهم وضيوفهم قرناء السوء قال (صلي الله عليه وسلم): "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [رواه أبو داود] واحذروا الغفلة عنهم، وتركهم للخادمة قال (صلي الله عليه وسلم): "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت" [رواه أبو داود].
ولا تتركوا أيها الآباء بيوتكم حتى لا يضيع أبناؤكم وبناتكم، وحذروا نساءكم من عاقبة الخروج من البيت كثيراً ورعاية الخادمة لهم، فإن غياب الآباء والأمهات عن منزل الأسرة مفسدة أي مفسدة.
( 4 )(242/4)
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]
قال الإمام الغزالي: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نقية، فإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وصيانته بأن يعلمه أبواه ويراقباه" [القيم الإسلامية في الأسرة والمجتمع]
بارك الله لي ولكم في الذرية، وأنبتهم نباتاً حسناً، وتقبلهم قبولاً حسناً وهدانا الله جميعاً سواء السبيل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(242/5)
اطبع هذه الصحفة
الجهاد ذروة سنام الإسلام
إن الجهاد في سبيل الله من افضل القربات ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون، وتنافس فيه المتنافسون، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين وقمع الكافرين والمنافقين، وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين.
وقد ورد في فضله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة ما يحفز الهمم العالية، ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل، والصدق في جهاد أعداء رب العالمين.
قال تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله عباده المؤمنين بأن ينفروا إلى الجهاد خفافاً وثقالاً أي شيباً وشباباً وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ويخبرهم عز وجل بأن ذلك خير لهم في الدنيا والآخرة، ثم يبين سبحانه حال المنافقين وتثاقلهم على الجهاد وسوء نيتهم، وأن ذلك هلاك لهم بقوله { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42]
الجهاد ذروة سنام الإسلام
الحمد لله الذي أمر بالجهاد في سبيله، ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه الكريم {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47](243/1)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله، أفضل المجاهدين، وأصدق المناضلين، وخير عباد الله أجمعين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الكرام، الذين باعوا أنفسهم لله وجاهدوا في سبيله، حتى أظهر بهم الدين، وأعز بهم المؤمنين، وأذل بهم الكافرين، رضي الله عنهم وأكرم مثواهم، وجعلنا من أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون:
إن الجهاد في سبيل الله من افضل القربات ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون، وتنافس فيه المتنافسون، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين وقمع الكافرين والمنافقين، وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين.
وقد ورد في فضله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة ما يحفز الهمم العالية، ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل، والصدق في جهاد أعداء رب العالمين.
قال تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله عباده المؤمنين بأن ينفروا إلى الجهاد خفافاً وثقالاً أي شيباً وشباباً وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ويخبرهم عز وجل بأن ذلك خير لهم في الدنيا والآخرة، ثم يبين سبحانه حال المنافقين وتثاقلهم على الجهاد وسوء نيتهم، وأن ذلك هلاك لهم بقوله { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42]
( 2 )(243/2)
ثم يعاتب نبيه عتاباً لطيفاً على أذنه لمن طلب التخلف عن الجهاد بقوله {عفا الله عنك لم أذنت لهم} ويبين عز وجل أن في عدم الإذن لهم تبييناً للصادقين وفضيحة للكاذبين، ثم يذكر عز وجل أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يستأذن في ترك الجهاد بغير عذر شرعي لأن أيمانه الصادق يمنعه من ذلك ويحفزه إلى المبادرة إلى الجهاد، ثم يذكر سبحانه أن الذي يستأذن في ترك الجهاد هو الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر وفي ذلك أعظم حث على الجهاد في سبيل الله.
أيها الإخوة المؤمنون:
يقول رب العزة جل وعلا في فضل المجاهدين: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]
في هذه الآية الكريمة ترغيب عظيم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وبيان أن المؤمن قد باع نفسه وماله لله عز وجل، وأنه سبحانه قد تقبل هذا البيع وجعل ثمنه الجنة، وأنهم يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم ذكر سبحانه أنه وعدهم بذلك في أشرف كتبه وأعظمها، التوراة، والإنجيل، والقرآن، ثم يبين سبحانه أنه لا أحد أوفى بعهده من الله ليطمئن المؤمنون إلى وعد ربهم ويبذلوا السلعة التي اشتراها منهم، وهي نفوسهم وأموالهم في سبيله سبحانه عن إخلاص وصدق وطيب نفس، حتى يستوفوا أجرهم كاملاً في الدنيا والآخرة، ثم يأمر سبحانه المؤمنين أن يستبشروا بهذا البيع لما فيه من الفوز العظيم، والعاقبة الحميدة والنصر للحق والتأييد لأهله.
أيها الإخوة المؤمنون:(243/3)
إن الله سبحانه لم يعط ثواب الجهاد لأية عبادة من العبادات، لأنه ابتلاء في جوهر الحياة وامتحان في صميم الوجود، فالجهاد أكرم العبادات منزلة، وأرفعها مكانة، وأكثرها بذلاً وتضحية وأخلدها ذكراً وثناءً.
سئل النبي (صلي الله عليه وسلم) أي العمل أفضل؟ قال: "أيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله" قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" [متفق عليه].
( 3 )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي، فهو ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه، بما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل"، ثم أغزو فأقتل، (رواه مسلم) "ويقول النبي rرأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد" [رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد]
أيها الإخوة المؤمنون:
إذا كان الإسلام قد رغب في الجهاد وجعل جزاءه الجنة فإنه يحذر من ترك الجهاد وعاقبته الوخيمة: "يقول النبي (صلي الله عليه وسلم): "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه مات على شعبة من النفاق" (رواه مسلم) وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة" [رواه أبو داود].
أيها الإخوة المؤمنون:(243/4)
إن الناظر إلى تاريخ الإسلام الأغر يجد المسلمين دائماً هم المنصورون وحتى إلى عهد قريب، فإن النصر كان دائماً للإسلام وأهله، وذلك لعدم تركهم الجهاد في سبيل الله. أما الآن وقد غاب الجهاد ذل المسلمون واحتلت أراضيهم، والسؤال الآن هل يعود للإسلام مجده الأول، وتاريخه العظيم؟والجواب نعم. إن عدنا إلى فريضة الجهاد وإن المسلم مطالب بالجهاد بالنفس والدفاع عن مقدسات الإسلام مطالب عن المسجد الأقصى الجريح الذي يئن من ظلم وغدر اليهود أبناء القردة والخنازير، فإن لم تتمكن أخي المسلم من الجهاد بالنفس فأنت مطالب بالجهاد بالمال، لأن الجهاد بالمال صنو الجهاد بالنفس، بل كلاهما مكمل للآخر.
يقول النبي (صلي الله عليه وسلم) "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، و رضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (رواه أحمد وأبو داود)
أيها الإخوة المؤمنون:
( 4 )
لا سبيل إلى إستعادة المسلمين لمقدساتهم، ومجدهم السالف واستحقاقهم النصر على عدوهم إلا بالرجوع إلى دينهم والاستقامة عليه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتحكيم شرع الله
سبحانه في أموره كلها، واتحاد كلمتهم على الحق وتعاونهم على البر والتقوى كما قال الإمام مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها "قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله" (متفق عليه).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(243/5)
اطبع هذه الصحفة
خطورة السحر والشعوذة علي الأمة
لقد حذرنا الإسلام كل التحذير من الوقوع في أحابيل السحرة والمشعوذين، وجعل السحر من أكبر الكبائر، ومن أشد الجرائم التي تعود على صاحبها بالوبال والهلاك وتلي الشرك بالله مباشرة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "اجتنبوا السبع الموبيقات، قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" [رواه البخاري ومسلم].
بل اعتبر التصديق به والاعتقاد بتأثيره بذاته كفراً صريحاً. روت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: “من أتى عرافاً فسأله عن شئ - وفي لفظ أحمد - فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" [رواه مسلم] وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه العلامة الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "من أتى عرافاً أو كاهناً، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"
قال البغوي: العراف هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن العراف اسم للكاهن والمنجم ونحوهما ممن يتكلم بمعرفة الأمور بهذه الطرق.
خطورة السحر والشعوذة علي الأمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما خفي وما ظهر، وما غاب وما استتر، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26، 27](244/1)
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق المصدوق، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد: اللهم صل وسلم، وبارك وأنعم، على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اتقوا الله – عباد الله – {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4]
أيها الإخوة المؤمنون:
في هذا العصر، عصر الحضارة الإسلامية، والحقائق العلمية، عصر النور والاكتشافات، يلجأ كثير من الناس إلى العرافين والكهان، لمعرفة ما خفي علمه عليهم، من الأمور الماضية والمستقبلة، ومعرفة الأسرار التي لا يعلم سرها إلا الله عز وجل.
ولو كان الأمر مقصوراً على الأميين والجهال لهان الخطب، ولكن بكل أسف سقط في هذه الهاوية كثير من المتعلمين والمثقفين.. بل أكثر من ذلك يلجأ الكثير من الناس إلى هؤلاء العرافين لعلاج الأمراض المستعصية التي أفنى العلماء والأطباء أعمارهم في البحث عنها وطرق علاجها.
وأصبح الحديث عن السحر والسحرة حديث الناس في الصحف والمجلات والمنتديات، ويعلن عنها بكل الوسائل، وتوضع لها مساحات واسعة في جميع الأجهزة.
( 2 )
أيها الإخوة المؤمنون:
لقد حذرنا الإسلام كل التحذير من الوقوع في أحابيل السحرة والمشعوذين، وجعل السحر من أكبر الكبائر، ومن أشد الجرائم التي تعود على صاحبها بالوبال والهلاك وتلي الشرك بالله مباشرة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "اجتنبوا السبع الموبيقات، قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" [رواه البخاري ومسلم].(244/2)
بل اعتبر التصديق به والاعتقاد بتأثيره بذاته كفراً صريحاً. روت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: “من أتى عرافاً فسأله عن شئ - وفي لفظ أحمد - فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" [رواه مسلم] وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه العلامة الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "من أتى عرافاً أو كاهناً، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"
قال البغوي: العراف هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن العراف اسم للكاهن والمنجم ونحوهما ممن يتكلم بمعرفة الأمور بهذه الطرق.
وكان اليهود يعتقدون أن سلطان سليمان عليه السلام على الجن وتسخيره لهم ولغيرهم إنما بسبب عمله بالسحر، لا بسبب المعجزة الخارقة التي أيده الله بها، فبرأه الله من السحر فقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]
وقد دلت هذه الآية على أن السحر كفر، والاعتقاد به كفر، لأن السحر اتفاق بين الساحر والشيطان، على أن يقوم الساحر بفعل الكفر والشرك وكل ما هو محرم، في مقابل أن يساعده الشيطان، وكلما ازداد الساحر كفراً وعبادة كلما ازداد له الشيطان طاعة [خطب الشيخ محمد حسان] وقد اختلف الفقهاء: هل للسحر حقيقة. قال الإمام القرطبي: ومذهب أهل السنة والجماعة أن السحر ثابت وله حقيقة، مستدلين بقول الله تعالى {يعلمون الناس السحر}، وبقوله {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} وبقوله في سورة الفلق {ومن شر النفاثات في العقد} أما سحرة فرعون فقد كان سحرهم قائماً على التمويه والخداع، لقول الله
( 3 )(244/3)
تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه 66] ولقوله {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} [الاعراف: 116]
ومع أن السحر حقيقة في مذهب الجمهور فإنه لا يؤثر بذاته، وإنما بإرادة الله وقضائه، لا بأمره لأن الله لا يأمر بالفحشاء، ويرى الإمام مالك رحمه الله أن الساحر إذا سحر بقول الكفر يقتل ولا يستتاب ولا تقبل له توبة.
إيها الإخوة المؤمنون:
تتجلى الوقاية من السحر ومن الجن في إخلاص العبودية لله، والتوكل عليه وحده فهذا عمر رضي الله عنه لقوة إيمانه كان الشيطان يهابه، قال (صلي الله عليه وسلم) "أيه ياابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك" [رواه البخاري ومسلم]
كما يتجلي في ذكر الله عز وجل فهو الحصن الحصين الذي يتحصن به المسلم. قال رسول (صلي الله عليه وسلم) في حديث الحارث الأشعري: "وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى أتي على حصن حصين أحرز نفسه منه، وكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله" [رواه الترمذي] وصححه الألباني وكذلك بقراءة سورة البقرة لقول رسول الله (صلس الله عليه وسلم): "لا تجعلو بيوتكم مقابر، إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" [رواه مسلم]
أيها الإخوة المؤمنون:
كل يوم نسمع عن أناس من الدجالين والمشعوذين، احترفوا علم الغيب واكتشاف المجهول، ولهم بطانات يعملون لحسابهم، ويؤكدون للناس أنهم رأوا بأعينهم مرضى بأشد أنواع المرض شفوا على أيديهم، والله يشهد أنهم لكاذبون.
لا ندري إلى متى سنظل أمة من البسطاء والسذج ينطلي علينا الكذب والدجل مع اعتقادنا بأنه لا يعلم الغيب إلا الله.(244/4)
لقد التبس الحق بالباطل، ولم يعد يعلم كثير من عامة الناس الصادق من الكاذب، ومن يتقي الله ومن يبيع الوهم للناس، ومن يتظاهر بالورع، ومن يأكل أموال الناس بالباطل، ويضع في حسابه الملايين من أموال السحت. وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(244/5)
اطبع هذه الصحفة
النفاق وأثرة في تخريب العقيدة
يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 145، 146]
أي أنهم في أسفل النار يوم القيامة، جزاء لهم على كفرهم الغليظ، في توابيت من نار مغلقة عليهم، فالنار دركات، كما أن الجنة درجات.. والنفاق نوعان: عقائدي وعملي، والاعتقادي هو الذي يخلد صاحبه في النار، لأن صاحبه يتظاهر بالإسلام ويضمر الكفر، ويخالف قوله فعله كما يخالف سره علانيته… ولم يكن للنفاق وجود في مكة، ولكنه ظهر في المدينة وفيمن حولها من الأعراب،
النفاق وأثرة في تخريب العقيدة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، قال في محكم كتابه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9] وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً رسول الله، قال في حديثه الشريف "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم)، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بهديه واتبع سنته إلى يوم أن نلقى الله.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل كما أمرنا جل شانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
أيها الإخوة المؤمنون:(245/1)
يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 145، 146]
أي أنهم في أسفل النار يوم القيامة، جزاء لهم على كفرهم الغليظ، في توابيت من نار مغلقة عليهم، فالنار دركات، كما أن الجنة درجات.. والنفاق نوعان: عقائدي وعملي، والاعتقادي هو الذي يخلد صاحبه في النار، لأن صاحبه يتظاهر بالإسلام ويضمر الكفر، ويخالف قوله فعله كما يخالف سره علانيته… ولم يكن للنفاق وجود في مكة، ولكنه ظهر في المدينة وفيمن حولها من الأعراب،
( 2 )
على يد عبدالله بن أبي بن سلول، الذي كان سيداً في قومه وكانوا قد عزموا بأن يملكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فدخل الحقد قلبه، وذهبت آماله أدراج الرياح وتظاهر بالدخول في الإسلام، ودخل معه من دخل ممن هم على طريقته.
ومنذ ذلك الوقت وهم يكيدون للإسلام ويتآمرون عليه، ويتربصون به الدوائر. يصلون مع المسلمين ويصومون، ولكن قلوبهم مع أعداء الإسلام. إنما فعلوا ذلك لأنهم أعجز من أن يواجهوا الحق بالعداوة، وأضعف من أن يظهروا على حقيقتهم، فكشف الله أسرارهم. وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] وأنزل الله في حقهم سورة بأكملها أسماها سورة المنافقين.(245/2)
وهم على مدار التاريخ وراء كل فتنة حدثت بالمسلمين. ورأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول هو الذي انسحب بثلث الجيش يوم أحد وقال: "علام نقتل أنفسنا: وأتباعه هم الذين كانوا في غزوة تبوك يوهنون القوي ويثبطون العزائم، وينفثون سمومهم،: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} فيرد الله عليهم ويقول { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] ويقول بعضهم أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.
قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66].
وفي عودة المسلمين من غزوة بني المصطلق يقول رأس النفاق: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم قال: هذا ما فعلتموه بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أمولكم أما والله لئن أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم… وهم الذين كانوا وراء حديث الإفك، وهم الذي اتخذوا مسجداً ضراراً.
ولعلك تسأل لماذا لم يستأصل الرسول شأفتهم، ويخلص المسلمين من مآمراتهم؟ ويأتي الجواب على لسان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فيما ثبت في الصحيحين حين قال لعمر "أكره أن يتحدث العرب بأن محمدا يقتل أصحابه" ومعنى ذلك أنني أخشى أن ينفر كثير من الأعراب من الدخول في الإسلام وهم لا يعلمون الحكمة في قتلهم ومن ناحية أخرى أنهم كانوا يصلون ويصومون ويظهرون تعاليم الإسلام ورسول الله(صلي الله عليه وسلم) يقول: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويأتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله" [متفق عليه]
( 3 )(245/3)
أما النفاق العملي - أيها الأخوة المؤمنون - فقد بين الرسول (صلي الله عليه وسلم) آياته فقال فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: "آية المنافق ثلاث" إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان، وزاد عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما في رواية" وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر" [رواه البخاري ومسلم].
أيها الإخوة المؤمنون:
وهؤلاء في زماننا كثيرون، ولم يصلوا بعد إلى حد الكفر والعياذ بالله ولكن صفات المنافقين تنطبق عليهم: والكذب خصلة ذميمة حذرنا منها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وحثنا على الصدق فقال عليه الصلاة والسلام إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً. وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" [رواه البخاري].
ومن صفاتهم خلف الوعد ونقض العهد، وخيانة الأمانة، والفجور عند الخصومة، فهم لا عهد لهم ولا إيمان، ولا رأي لهم ولا أمان:(245/4)
أما المؤمن فهو صادق مع نفسه، صادق مع ربه، صادق مع الناس.. وصف الله تعالى أهل الإيمان بقوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 23، 24] وهو دليل القوة، وسمة الثقة بالنفس والطمأنينة، وأهل الصدق يحبهم الناس ويثقون بهم ويأتمنونهم في سائر معاملاتهم… بل هو كذلك من صفات الأنبياء والرسل عليهم السلام.. فرسول الله (صلي الله عليه وسلم) كان يلقب في مكة قبل الرسالة بالصادق الأمين ويقول الله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} [مريم:41] ويقول {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} [مريم: 55، 56]
( 4 )
وهذه الصفات التي ذكرها رسولنا (صلي الله عليه وسلم) وحذرنا منها لا تليق بالمسلم، الذي رباه الإسلام على الإيمان والإخلاص، والشجاعة والخلق الطيب.
ليتنا نربي أولادنا على ما يريده الإسلام منا، وننأى بهم عن خصال المنافقين الذين هم سبب البلاء في كل عصر، والذين يندسون في صفوفنا ليفرقوها، ويتلقفون أسرارنا لينقلوها إلى أعدائنا، والذين ظاهرهم معنا، وسيوفهم علينا، ويعيشون بيننا كما تعيش الجراثيم الفتاكة، التي تبحث في الجسم عن نقطة ضعف تنطلق منها إلى القضاء عليه… وقانا الله شرهم، وردنا إلى ديننا رداً جميلاً. إنه نعم المولى ونعم النصير أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(245/5)
(5 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً رسول الله الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله حق تقاته واسعوا في مرضاته واعلموا أن من في الدنيا ضيف وأن ما في يده عارية، وأن الضيف مرتحل، والعارية مردودة فاعملوا لما بعد الموت {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7, 8].
وأكثروا من ذكر الله عز وجل ومن الصلاة والسلام على رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وارض اللهم عن آل بيت رسول الله والصحابة والتابعين، وعن العلماء والعاملين وارض عنا جميعا وعن عبادك الصالحين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين واهزم أعداء الإسلام وأعداء المسلمين واحفظ بعينك التي لا تنام صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين ووفقه لما فيه خير الإسلام والمسلمين واغفر لنا جميعاً وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك ياربنا سميع قريب مجيب الدعوات اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته ولا عيبا إلا سترته ولا مريضا إلا شفيته ولا هما ولا غما إلا فرجته ولا ميتا إلا رحمته ولا عدوا إلا أهلكته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين.(245/6)
اللهم انصر المجاهدين في فلسطين وفي كل مكان، اللهم اهزم اليهود وأعوانهم اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم، واهزمهم وانصرنا عليهم، اللهم ارحم شهداءنا وشهداء المسلمين، واجعل لأسرانا
من عسرهم يسرا ومن ضيقهم فرجا، وردهم إلينا سالمين غانمين واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
وأقم الصلاة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(245/7)
اطبع هذه الصحفة
لئن شكرتم لأزيدنكم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .. وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة .. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك ، سيدنا محمد ، الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقالت عائشة رضي الله عنها : لم تصنع هذا يا رسول الله ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال:أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً"[رواه البخاري ] .. وارض اللهم عن آله الطاهرين ، وأصحابه الغر الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. } يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً { [ النساء : 1 ]
أيها الإخوة المؤمنون :
يقول الله تعالى : } الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار { [ إبراهيم : 32ـ 34 ]
هذا الاستعراض الرائع لنعم الله تعالى في الكون الفسيح الرحب ، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ، والتي نراها بأعيننا ، وتجرى عليها حياتنا ، سخرها الله للإنسان ، ليستفيد منها وينعم ، وتتوقف حياته عليها ويسلم ، ولا يستطيع العيش بدونها :
السماء والأرض ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، والبحار والأنهار ، والماء والثمار ، وجميع
( 2)
النعم التي تحيط به .. كلها نعم خلقها الله للإنسان ، وسخرها له وحده ، وجعلها في خدمته ، وتتكرر كلمة [ لكم ] خمس مرات ، يقرن الله بها كل نعمة .(246/1)
كلها خاضعة للإنسان كإنسان ، يستوي في الانتفاع بها المسلم والكافر ، والبر والفاجر ، ومن يعبد الله ومن يعبد غيره ... بل الإنسان نفسه نعمة : بصره نعمة ، وسمعه نعمة ، وقلبه نعمة ، وما يعلمه في نفسه وما لا يعلمه نعمة . يقول الله عز وجل : } والله اخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون { [ النحل : 78 ] . وقال عز وجل : } ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة { [ لقمان : 20 ] .. وكل واحدة من هذه النعم تستوجب الشكر عليها ، والقيام بحقها ، والمحافظة عليها ، واستعمالها فيما خلقت له .
يقول الإمام ابن قيم الجوزية : الشكر هو نصف الإيمان ، فالإيمان نصفان : نصف شكر ونصف صبر ، وقد أمر الله به ، ونهى عن ضده ، وأثنى على أهله بأحسن الجزاء ، وجعله سبباً للمزيد من فضله ، وحارساً وحافظاً لنعمه ، وأخبر أن أهله المنتفعون بآياته ، واشتق لهم اسماً من أسمائه ، فإنه سبحانه هو الشكور ، وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره ، بل يعيد الشاكر مشكوراً ، وهو غاية الرب من عبده ، وأهله هم القليل من عباده ، قال تعالى : } واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون { [ النحل / 114 ] وقال : } واشكروا لي ولا تكفرون { [ البقرة : 152 ]
وقال عن نوح عليه السلام : انه كان عبداً شكوراً { [ الإسراء : 3 ]، وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام : } إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه {
[ النحل : 120 : 121 ] .
أيها الإخوة المؤمنون :
يقول الله تعالى : } لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد { [ إبراهيم : 7 ](246/2)
فمن أراد أن يزيد الله في نعمه فليشكر الله : فمن شكر الله على ما رزقه وسع عليه في رزقه ، ومن شكر الله على صحته زاد الله في صحته ، ومن شكره على توفيقه للطاعة وفقه الله لكل طاعة .. أما من كفر النعمة وجحدها ، فلم يقم بواجب حقها فإن عذاب الله شديد ، بحرمانه منها ، وسلبه إياها في الدنيا والآخرة ، وعذابه له بعذاب لا قبل له به .
( 3)
والشكر هو الاعتراف بالنعمة والقيام بحقها . فمن أراد أن يشكر الله على نعمة البصر فليغض بصره عن الحرام ، ومن أراد أن يشكر الله على نعمة السمع فليكف سمعه عما يغضب الله ، ومن أراد أن يشكر الله على نعمة العافية فليصن جوفه عن أكل أموال الناس بالباطل ومن هنا نعى الله على أناس أكلوا خيره وعبدوا غيره ، وتقلبوا في فضله وشكروا سواه ، فقال سبحانه : } إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون{ [ غافر : 61 ] وقال سبحانه : } وقليل من عبادي الشكور { [ سبأ : 13 ] وقال سبحانه : } ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون { [ الآعراف : 10 ] .
مع أن الإنسان إذا شكر الله فسيعود جزاء شكره إليه ، ولا يضيع عند الله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . قال تعالى : } ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم { [ النمل : 40 ] غنى عن عباده وعن شكرهم ، وقال سبحانه : } إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد { [ إبراهيم : 8 ] وقال في الحديث القدسي : " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا ادخل البحر " [ رواه مسلم ]
أيها الإخوة المؤمنون : ـ(246/3)
في مثل هذا اليوم والذي بعده تمر بنا ذكريات ندية عاطرة ليومين عظيمين من أيام التاريخ يوم الاستقلال ويوم التحرير ، حينما أخذت فلول الظلم والطغيان تجر أذيال الخيبة والانكسار .. يومان أشرقت فيهما شمس الحرية ، وعاد الحق فيهما إلى نصابه .
اننا لا نريد أن ننكأ الجراح ، ولا أن نستعيد المأساة التي قاساها شعب الكويت بصورها الحزينة الكئيبة ، على يد جار سوء ، لم يرع عهداً ولا ذمة ، بل عض اليد التي امتدت إليه بسخاء وكرم ، وتنكر لجميع المواثيق والأعراف الدولية ، والآداب الإسلامية الرحيمة .
وحسبنا الله ونعم الوكيل . ثم وقوف العالم كله وقفة رجل واحد إلى جانبنا ، ينبذ الظلم ، ويرفض العدوان ، ويرد الغاصب المحتل إلى حجمه الطبيعي ، ممقوتاً مدحوراً ، معزولاً عن بقية دول
( 4 )
العالم ، يتجرع مرارة الذل وآلام الحرمان .. اللهم لا شماتة .. وصدق رسول الله r حين قال : " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إن أخذه أليم شديد " [ متفق عليه ] .
أيها الإخوة المؤمنون : ـ
ألا ما أحلى النصر ، وما أعظمه ، إنه نعمة من نعم الله تعالى لا تعادلها نعمة فالحمد لله .
الحمد لله الذي أعاد الوطن إلى أصحابه .. الحمد لله الذي رد الحق إلي نصابه .. الحمد لله الذي رد إلينا كرامتنا،وأعاد الينا حقوقنا . الحمد لله على نعمة الأمن والأمان .. الحمد لله الذي أذل عدونا .. الحمد لله الذي أعاد الكويت إلى مكانها على خريطة العالم .. الحمد لله ، نحمده ونشكره على نعمه.(246/4)
والشكر ليس بالكلام ، ولكن بالعمل : فلنرحم كل ضعيف ، ولننصر كل مظلوم ، ولنعط كل محروم ، ولنكرم كل غريب ، ولنصن أنفسنا من الزهو والغرور ، والكبر والخيلاء .. لقد ابتليتم فصبرتم ، وأعطيتم فشكرتم ، وكنتم ضعفاء فقواكم الله ، وكنتم مظلومين فنصركم الله ، } واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ، تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون { [ الآنفال : 26 ] .
هكذا أمرنا الله تبارك وتعالى . أن نقابل نعمة النصر بالتسبيح والتحميد والشكر ، فقال عز وجل : } إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كانا تواباً { [ سورة النصر ] .
وهكذا علمنا رسولنا r، فعندما فتح الله عليه مكة دخلها بتواضع وذكر ورحمة . فقد ذكر ابن اسحق في السيرة أن رسول الله r لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته ، وقد وضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى لقد كادت لحيته r تمس واسطة الرحل ـ و هكذا يكون الشكر على النعمة كما قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام .
} هذا من فضل ربي ، ليبلوني أ أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم { [ النمل / 40 ] .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(246/5)
اطبع هذه الصحفة
قد فرض الله عليكم الحج فحجوا
اتقوا الله واعلموا أن الله تبارك وتعالى أمر بحج بيته الحرام وجعل حجه ركناً من أركان الإٍسلام ورغب فيه ووعد عليه الفضل العظيم والثواب الكريم ممن قصده مخلصاً لربه ملبياً لدعوة إبراهيم عليه السلام الذي نادى في الناس امتثالاً لأمر الله له بقوله سبحانه {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 27, 28]
ومن حكمة الله تبارك وتعالى أن جعل الحج بواد غير ذي زرع ليكون القصد فيه للنسك والعبادة وإقامة شعائر الله وتعظيم حرماته لا لهدف آخر وما تزال دعوة الله تتحقق منذ إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت العتيق، وتتوق إلى رؤيته والطواف به: الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة التي تنقله، والفقير المعدوم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم عليه السلام منذ آلاف الأعوام، ومن يؤمئذ أصبح البيت العتيق كعبة يطاف حولها ومثابة للناس وأمناً.
قد فرض الله عليكم الحج فحجوا
الحمد لله…. الحمد لله، فرض الحج على المسلمين وجعله ركناً من أركان الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداَ عبده ورسوله الذي حج البيت واعتمر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأطهار الأبرار الذين اقتدوا برسول الله في الطاعات وتأسوا به في جميع العبادات وفعل الخيرات، فرضى الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين –
اما بعد:(247/1)
فيا عباد الله:
اتقوا الله واعلموا أن الله تبارك وتعالى أمر بحج بيته الحرام وجعل حجه ركناً من أركان الإٍسلام ورغب فيه ووعد عليه الفضل العظيم والثواب الكريم ممن قصده مخلصاً لربه ملبياً لدعوة إبراهيم عليه السلام الذي نادى في الناس امتثالاً لأمر الله له بقوله سبحانه {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 27, 28]
ومن حكمة الله تبارك وتعالى أن جعل الحج بواد غير ذي زرع ليكون القصد فيه للنسك والعبادة وإقامة شعائر الله وتعظيم حرماته لا لهدف آخر وما تزال دعوة الله تتحقق منذ إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت العتيق، وتتوق إلى رؤيته والطواف به: الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة التي تنقله، والفقير المعدوم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم عليه السلام منذ آلاف الأعوام، ومن يؤمئذ أصبح البيت العتيق كعبة يطاف حولها ومثابة للناس وأمناً.
( 2)
أيها الأخوة المؤمنون:
لما جاء الإٍسلام احتضن هذا البيت العتيق وجعل حجه قاعدة من قواعد الدين وفريضة من فرائض الإسلام، فرضه الله على كل مسلم ومسلمة مرة واحدة في العمر ممن استطاع اليه سبيلاً قال تعالى {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97](247/2)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقال: "يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟: فسكت حتى قالها ثلاثاً: فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه" (رواه مسلم)
ومن هنا أصبح الحج واجباً وفرضاً لازماً فمن تركه مع الاستطاعة كان فاسقاً ومن أعرض عنه مع المقدرة كان منافقاً ومن جحد وجوبه أو أنكر فريضته كان كافراً.
إخوة الإسلام:
الحج موسم عبادة تصفو فيه الأرواح وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة، وهو مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام كما قال سبحانه: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} [الحج: 78].
كما يرون بأعينهم الكعبة التي يتوجهون إليها جميعاً ويلتقون عليها جميعاً ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها، راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حيناً، قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين، التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد راية العقيدة والتوحيد.
( 3 )
وفوق ذلك فإن الحج مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادل المنافع، فيه يتلاقى المسلمون مجردين من الألقاب والطبقية، فلا أنساب بينهم ولا أنساب، بل الكل عبيد لله اجتمعوا على طاعة الله مجردين من المخيط ومن كل سمة إلا سمة الإسلام، فلا تمايز بين فرد وفرد ولا(247/3)
بين قبيلة وأخرى، فالإسلام لا يعرف طبقة ولا نسباً وبذلك تتحقق الوحدة الإسلامية في أجمل صورها وأبهى معانيها، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]
إخوة الإسلام:
إن الناظر إلى أرض الحرم في موسم الحج يرى عجباً، يرى موكباً من مواكب الله وقافلة من قوافل الإيمان وجيشاً من جيوش الحق وجنداً من جنود اليقين هديرهم تكبير، وهتافهم تسبيح، ونداؤهم تلبية، ودعاؤهم تهليل، ومشيهم عبادة، وسفرهم هجرة إلى الله ورسوله، وغايتهم مغفرة من الله ورضوان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم" (رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما) الترغيب والترهيب ج 2 ص 167
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر الأسود ويقول: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" (رواه الجماعة )
وفي السعي بين الصفا والمروة يتذكر الحجاج ما كان من أمر هاجر أم اسماعيل وهي تهرول بينهما وقد أضناها العطش وهدها الجهد وهي تبحث عن الماء إشفاقاً وحدباً على طفلها الرضيع وبعد سبعة أشواط ترى النبع يتدفق بين يدي رضيعها الوضاء وإذا هي زمزم ينبوع الرحمة وطعام الطعم وشفاء السقم.(247/4)
عن مجاهد قال: ماء زمزم لما شرب له إن شربته تستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل عليه السلام وسقيا الله لإسماعيل عليه السلام (أخرجه عبدالرازق 9124) وفي خلال الوقوف بعرفات نرى الموكب الإلهي والركب يضم الأعداد الهائلة والجموع الغفيرة متجردين من ملابسهم اللهم إلا من إزار ورداء أبيضين يتساوى فيهما الغني والفقير ليتذكروا جميعاً ذلك الكفن الأبيض الذي يلفهم عند وداعهم الأخير وكأن لسان حالهم يقول: لقد جئنا إلى الدنيا عراة وسوف نخرج منها كذلك، كما يذكرهم الزحام
( 4 )
الكبير وما يعانونه من شدة الموقف بيوم الحشر وما فيه من أهوال: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]
ويوم عرفة يوم نور ويوم رحمة، ويوم عطاء وبركة، يوم يباهى الله به ملائكة السماء، فتبتسم الآفاق وتشرق الأكوان، ويعم الغفران فيندحر الشيطان.
عن طلحة بن عبدالله بن كريز رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "ما رؤى الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا بما يرى فيه من تنزل الرحمات وتجاوز الله عن الذنوب العظام" (رواه مالك والبيهقي وهو مرسل)
والحجاج حين يرمون الجمرات إنما يعلنون الحرب على إبليس وجنوده ويعلنون مقاطعته وعصيانه لما يغريهم به من فساد وضلال وكفر وإلحاد والله تبارك وتعالى يدخر لهم ثواب عملهم هذا ليوم النشور وأما رميك الجمرات، فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وفي نحر الهدى والفداء رمز للتضحية بالدم وبأغلى ما يملك الإنسان إيثاراً لما عند الله وجهاداً في سبيله وفي ذلك ما فيه من الثواب العظيم والأجر الكريم.(247/5)
وهكذا يعود الحجاج إلى بلادهم بعد أداء فريضة الحج، مزودين بخير زاد، ومتوجين بتاج العزة والكرامة، ومطهرين من الخطايا والآثام يمنحون الحياة الخير والرجاء وينشرون فيها البر والسلام
فيا من وسع الله عليكم في أرزاقكم وعافاكم في أبدانكم وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة بادروا بأداء هذه الفريضة فريضة الحج وحجوا قبل أن لا تحجوا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال: رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" (رواه أحمد بإسناد جيد 1/314 ).
فاتقوا الله أيها المسلمون واتخذوا من مناسك الحج مناهج تهتدوا بها في شئون الحياة وأسألوا الله الكريم رب العرش العظيم أن يكتب لنا ولكم حجاً مبرور ويمتعنا بزيارة بيته الحرام ومدينة رسوله عليه الصلاة والسلام.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "وقف النبي (صلي الله عليه وسلم) بعرفات وقد كادت الشمس أن تؤوب فقال: يا بلال أنصت إلى الناس: فقام بلال: فقال: أيها الناس أنصتوا لرسول الله (صلي الله عليه وسلم) فأنصت الناس فقال (صلي الله عليه وسلم): "معشر الناس أتاني جبريل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال: "إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر الحرام وضمن عنهم التبعات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله هذا لنا خاصة؟: قال (صلي الله عليه وسلم): "هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب" (رواه بن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدى عن أنس الترغيب 2/203) .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأسألوا الله تعالى من فضله.
( 5 )
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونسعينه، ونتوكل عليه ونستزيده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.(247/6)
وأشهد أن لا إله إلا الله، السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير – اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين – أما بعد: فلقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله أنه كان يندد بأولئك الذي يسر الله لهم في معاشهم وعافاهم في أبدانهم ثم لم يحجوا: فيقول: لقد هممت أن أكتب إلى الأمصار بضرب الجزية على من لم يحج ممن يستطيع إليه سبيلاً.
وكان سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول : لو علمت رجلاً من المسلمين غنياً وجب عليه الحج ثم مات قبل أن يحج ما صليت عليه – أي صلاة الجنازة.
عباد الله:
إن الحج فيه من الفوائد والمنافع العظيمة التي لا تخطر ببال كثير من الناس فالحج يطهر المسلم من الذنوب ويغسله من الآثام، فيعود إلى بلده كيوم ولدته أمه، يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة.. وتجرد المسلم من ثيابه عند الإحرام ولبسه ثياب إحرامه وكشفه رأسه والتضرع إلى الله في تلك المشاعر العظيمة والمواقف الكريمة مظهر من مظاهر العبودية لرب العباد.
والمسلم الصادق في عقيدته القوى في دينه هو الذي يتعرض لنفحات ربه لعله يصادف قبولاً ويفوز فوزاً عظيماً… ربنا لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ظالماً إلا أخذته وأهلكته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا، ولنا صلاح إلا قضيتها بمنك.
اللهم إنا نسألك أن تؤيد بنصرك الإسلام والمسلمين، اللهم احفظ بعينك التي لا تنام صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين وأن توفقهم لما فيه صلاح الدنيا والدين، وأن تشد أزرهم ببطانة صالحة تعينهم على الخير، وتنصح لهم بالمعروف وتشير عليهم بما يصلح أمر المسلمين، وتأخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يارب العالمين.(247/7)
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لأسرانا من عسرهم يسراً، ومن ضيقهم فرجا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
وأقم الصلاة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(247/8)
اطبع هذه الصحفة
الفرق بين التوكل والتواكل
إن من كمال الإيمان بالله أن يسلم المؤمن أمره لله سبحانه، ويتوكل عليه في كل شأن من شئونه.
ولقد أثنى الله سبحانه على المتوكلين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]
وجعل الله سبحانه التوكل عليه دليلاً على الإيمان به فقال سبحانه: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] وقال سبحانه: {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]
والتوكل هو قطع علائق القلب بغير الله سبحانه.
قال الإمام أحمد رحمه الله: التوكل: هو تفويض الأمر إلى الله جل ثناؤه، والثقة به وحده.
وقال سعيد بن جبير: "التوكل على الله عز وجل جماع الإيمان".
ولا شك أن المؤمن حينما يتوكل على ربه ويفوض الأمر إليه يشعر بأنه يأوي إلى ركن شديد، فلا يخشى أحداً، ولا يخاف أحداً من خلق الله قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174]
الفرق بين التوكل والتواكل
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.(248/1)
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من توكل عليه كفاه، ومن استعان به أرشده وأغناه… وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أمره ربه بالتوكل عليه فقال عز وجل {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المسلمون:
إن من كمال الإيمان بالله أن يسلم المؤمن أمره لله سبحانه، ويتوكل عليه في كل شأن من شئونه.
ولقد أثنى الله سبحانه على المتوكلين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]
وجعل الله سبحانه التوكل عليه دليلاً على الإيمان به فقال سبحانه: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] وقال سبحانه: {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]
والتوكل هو قطع علائق القلب بغير الله سبحانه.
قال الإمام أحمد رحمه الله: التوكل: هو تفويض الأمر إلى الله جل ثناؤه، والثقة به وحده.
وقال سعيد بن جبير: "التوكل على الله عز وجل جماع الإيمان".
ولا شك أن المؤمن حينما يتوكل على ربه ويفوض الأمر إليه يشعر بأنه يأوي إلى ركن شديد، فلا يخشى أحداً، ولا يخاف أحداً من خلق الله قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174](248/2)
وكان من هدى النبي (صلي الله عليه وسلم) قوله: إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: "اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك لا ملجأ، ولا منجي منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة. (رواه البخاري ومسلم)
وها هو مؤمن آل فرعون حينما قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} فكان الجزاء
{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 44، 45]
لا تدبر لك أمراً *** فأولوا التدبير هلكى
سلم الأمر تجدنا *** نحن أولى بك منكا
وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلاً ؟
قال: إذا رضي بالله وكيلاً.
( 2 )
إخوة الإسلام:
علينا أن نوقن أن المؤمن إذا التجأ إلى الله بصدق وتضرع وإخلاص كان الله عز وجل منه قريباً مجيباً قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3]
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار وقالها محمد (صلي الله عليه وسلم) حين قالوا له:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]
فانظر أخي المسلم إلى عاقبة أمرهما: تجد أن الله عز وجل قال في حق إبراهيم عليه السلام: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]
وقال في حق النبي وأصحابه.(248/3)
{فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]
عباد الله:
إن التوكل على الله سبب من الأسباب التي تستجلب الرزق.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطانا" (رواه أحمد والترمذي)
( 3 )
ولذلك كان السلف الصالح يشعرون بالرضى والاطمئنان، لأنهم وكلوا أمورهم لله سبحانه وتعالى: قال عامر بن قيس رحمه الله ثلاث آيات من كتاب الله عز وجل اكتفيت بهن عن جميع الخلائق.. الآية الأولى – قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]
الآية الثانية: قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]
الآية الثالثة : قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6]
قيل لحاتم الأصم: ما سر زهدك في الدنيا؟ فقال:
علمت أن رزقي لا يأكله غيري فلست أهتم به.
وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فاشتغلت به.
وعلمت أن الموت يأتينا بغتة فاستعددت له.
وعلمت أن الله مطلع علي فاستحييت منه..
أيها الإخوة المسلمون:(248/4)
كما علينا أن هناك فرقاً بين التوكل والتواكل. فالتوكل هو الأخذ بالأسباب والاجتهاد فيها ثم تفويض الأمر لله بعد ذلك، أما التواكل فهو ترك الأخذ بالأسباب وإهمالها بدعوى التوكل على الله وقد أخطأ كثيرون حينما تركوا الأخذ بالأسباب وعولوا عجزهم على التوكل وتذرعوا به فضيعوا الحقوق والواجبات لأنفسهم وعيالهم، والنبي (صلي الله عيه وسلم) يقول: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت" (رواه أبو داود)
وقد حثنا النبي (صلي الله عليه وسلم) على الأخذ بالأسباب، يدل على ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: "قال رجل يا رسول الله: أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي (صلي الله عليه وسلم): "اعقلها وتوكل " وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي ناساً من أرض اليمن تركوا العمل بالأسباب فقال لهم من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون. قال: بل أنتم؟ المتكلون، إنما المتوكل من يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله عز وجل.
( 4 )
وكان عمر رضي الله عنه يقول: يا معشر القراء ارفعو روء سكم ما أوضح الطريق، فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا كلاً على المسلمين "أي اسعوا في طلب الرزق ولا تمدوا أيديكم إلى أحد".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة : 197 ]
فلا يجوز للمسلم أن يترك الأخذ بالأسباب بدعوى التوكل على الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
( 5 )
الخطبة الثانية:(248/5)
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله، نحمده سبحانه وتعالى ونشكره، ونتوب إليه جل شأنه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير إلى يوم القيامة.
عباد الله:
أوصيكم بتقوى الله في السر والعلن ،وأحذركم ونفسي من الفواحش والذنوب ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تدع لنا في يومنا هذا ولا في جمعنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا عيباً إلا سترته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا شاباً إلا أصلحته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ظالماً إلا أهلكته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضى، ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يارب العالمين.
اللهم احفظ صاحب السمو أمير البلاد، وسمو ولي عهده الأمين، ووفقهما لخير البلاد والعباد.
اللهم ارحم شهداءنا وشهداء المسلمين وفك أسرانا وأسرى المسلمين عاجلاً غير آجل يارب العالمين.
عباد الله:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
وأقم الصلاة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(248/6)
اطبع هذه الصحفة
خطبة عيد الأضحي المبارك
هذا يوم العيد الأكبر، يوم ذكر وتكبير وتهليل، يوم فرح وسرور، يوم بذل وعطاء، وتضحية وفداء، يوم تآلف وتعاون، وإخاء وصفاء، يوم إتمام النعمة وإكمال الدين.
فما أجمل هذا اليوم وما أعظمه، إنه يوقظ القلوب ويحرك فينا دوافع الخير، حتى تكون صلتنا بالله متصلة وطاعتنا له مستمرة.
والعيد كلمة محببة للنفس تملأ القلوب فرحاً وغبطة، وذلك لما ترمز إليه من كثرة عطايا الله على عباده المؤمنين ومن العود إلى الفرح والسرور، ولما يجب أن تكون عليه النفوس من ود وصفاء، وما يجب أن يتعوده المسلمون من سلام ووئام وأمن واستقرار.
ولئن كانت الأمم الأخرى تحتفل بأعظم أيامها، وتتخذ لها عيداً، فأعيادنا ترتبط بأعز الذكريات وأعظمها في تاريخ الأمة..
خطبة عيد الأضحي المبارك
الله أكبر (تسعاً)
الله أكبر ما غمر عباده بالفضل والنعم والآلاء وخصهم بمزيد من الخير والعطاء، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد..،
الله أكبر ما تجرد الحجاج من الثياب عند الإحرام ورفعوا أصواتهم ملبين الكبير المتعال ودخلوا البيت الحرام راجين عفو الرحيم الرحمن، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد..، الله أكبر ما أفاض الحجاج من عرفات وحفهم الله بلطفه ومحا عنهم السيئات وباهى بهم ربهم ملائكته، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا..، سبحانك اللهم خلقت الخلق بقدرتك وغمرتهم بفضلك وإحسانك، فنحمدك على عظيم نعمك، ونشكرك على كريم عطاياك، ونشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، رضيت لنا الإسلام دينا، فأتممت علينا النعمة، وأضأت لنا الطريق، وأكملت لنا الدين، ونشهد أن سيدنا محمداً عبدك ورسولك، ختمت به النبيين، وزينته بالخلق العظيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا جماعة المسلمين:(249/1)
هذا يوم العيد الأكبر، يوم ذكر وتكبير وتهليل، يوم فرح وسرور، يوم بذل وعطاء، وتضحية وفداء، يوم تآلف وتعاون، وإخاء وصفاء، يوم إتمام النعمة وإكمال الدين.
فما أجمل هذا اليوم وما أعظمه، إنه يوقظ القلوب ويحرك فينا دوافع الخير، حتى تكون صلتنا بالله متصلة وطاعتنا له مستمرة.
والعيد كلمة محببة للنفس تملأ القلوب فرحاً وغبطة، وذلك لما ترمز إليه من كثرة عطايا الله على عباده المؤمنين ومن العود إلى الفرح والسرور، ولما يجب أن تكون عليه النفوس من ود وصفاء، وما يجب أن يتعوده المسلمون من سلام ووئام وأمن واستقرار.
ولئن كانت الأمم الأخرى تحتفل بأعظم أيامها، وتتخذ لها عيداً، فأعيادنا ترتبط بأعز الذكريات وأعظمها في تاريخ الأمة..
( 2 )
ترتبط بفريضتين عظيمتين من أهم أركان الإسلام، وهي بهذا تدفعنا إلى شكر الله وحسن طاعته، وتغرس فينا كل الفضائل والأخلاق الكريمة.
أيها المسلمون:
إن عيدنا الأكبر يذكرنا بإخواننا الحجاج في مهابط الوحي وأماكن النور، يذكرنا بهم وهم يطوفون بالبيت الحرام متجردين من كل زينة الدنيا، ليؤكدوا تجردهم لله في كل عباداتهم ومعاملاتهم، عملاً بقول الله تعالى في سورة الأنعام (162) {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} نذكرهم ونذكر معهم هذه الصورة الإيمانية الحقة في زيهم الواحد، ودعائهم الواحد، وتوجههم إلى قبلة واحدة، فنستشعر معهم مبدأ المساواة والتعاون الصادق، والمحبة التي لا تعرف القطيعة أبداً.(249/2)
ويوم العيد يذكرنا بالإيمان العميق، والإخلاص الكامل، والطاعة المطلقة، والتضحية التي لا تعرف التردد لأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فقد أراه الله في المنام إنه يذبح ابنه الوحيد وفلذة كبده، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام لم يرزق الولد إلا بعد أن كبرت سنه وانحنى ظهره وكان كثيراً ما يتطلع إلى ذرية تنشأ في طاعة الله وتعينه على مصاعب الحياة، لكن الله أراد أن يختبره في هذا الولد وكان الامتحان قاسياً ومريراً، فقد يمتحن الإنسان في ماله أو صحته أو رزقه، وكل هذا قد يعوض أما أن يمتحن في ذبح ولده وبيده فذلك هو البلاء المبين لا يطيقه إلا الأقوياء المحسنون وكان إبراهيم حقاً هو العظيم الممتحن.
فاجتمع إبراهيم بأسرته، وعرض الأمر على الأم فقال إن الله أمرني – والأمر كله لله- أمرني أن أذبح ابني إسماعيل وقد استجبت ورضيت، فلم تجزع الأم ولم تتردد، بل تجلى الإيمان في قلبها وقالت: نعم ما أمرك الله، طاعة الرحمن فوق المال والولد والأرواح والأبدان، ثم عرض الأمر على إسماعيل فقال إسماعيل الابن البار المطيع: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.. وهنا يصور القرآن الكريم هذه القصة أبلغ تصوير.. فيقول الله تعالى في سورة الصافات {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 102 ,110]
( 3 )(249/3)
وهكذا صارت الأضحية سنة أبينا إبراهيم عليه السلام.. وليست الأضحية مجرد دم يراق، إنما هي رمز لكل تضحية لله مهما كان الثمن غالياً وعزيزاً. وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه والترمذي والحاكم يقول النبي (صلي الله عليه وسلم) "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً وفي الحديث الذي رواه الحاكم.. قيل لرسول (صلي الله عليه وسلم) ما هذه الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم عليه السلام، قالوا فما لنا فيها؟ قال بكل شعرة من صوف حسنة".
أيها المسلمون:
فلنتذكر في هذا اليوم إخلاص إبراهيم لربه، وطاعة إسماعيل لوالده، وطاعة الزوجة لزوجها، وإحسان الأسرة كلها، وليكن لنا ذلك درساً عملياً نترسم خطاه – وعلى الآباء أن يكونوا قدوة للأبناء، وعلى الأبناء أن يعلموا أن رضا الآباء من رضا الله، وأن غضبهما من غضب الله، وأن الله طالب الأبناء ببر الآباء في حياتهم وبعد مماتهم.. قال تعالى: في سورة الإسراء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء: 23].
وأنتن - معشر النساء - يجب أن تكن مثالاً للطهر والعفاف، والحرص على طاعة الزوج ورعاية شئونه وتربية الأولاد وتنشئتهم على الفضائل كلها ولا تخرجن إلا محتشمات وبإذن الزوج ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وفي الحديث الذي رواه مسلم "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها لناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذاوكذا"(249/4)
فاتقوا الله عباد الله وحققوا معنى العيد في قلوبكم وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الله أكبر [سبعاً] الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا جماعة المسلمين:
في الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذاهو أن نصلي ثم ننحر من فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن فعل غير ذلك فهو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شئ".
من هذا الحديث أيها الإخوة يتبين لنا وقت ذبح الأضحية، وهو بعد صلاة العيد، فطيبوا بالأضحية نفساً، وانتهزوا فرصة العيد للمودة والمحبة والإخاء، ورعاية اليتامى والمساكين، وإشاعة البشر والمحبة بين الناس، فالعيد فرحة وسرور، ولا تتم الفرحة إلا بعودة الأسرى وعودة المسجد الأقصى إلى المسلمين.
فاللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، وأهلك أعداءك أعداء الدين، اللهم ارحم شهداءنا، وشهداء المسلمين، وفك قيد أسرانا وأسرى المسلمين، وانصر المجاهدين في فلسطين، وفي كل مكان يار ب العالمين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأيد ولاة الأمور لما فيه خير البلاد والعباد يارب العالمين، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، وانصرهم على أعدائهم يارب العالمين، اللهم احفظ صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين اللهم احفظهم من كل سوء وأجر الخير على أيديهما يا أكرم الاكرمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات إنك سميع قريب مجيب الدعوات يارب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وتقبل الله طاعتكم.
---(249/5)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(249/6)
اطبع هذه الصحفة
دعائم القوة في الإسلام
أرسل الله رسوله محمداً (صلي الله عليه وسلم) بالهدى ودين الحق، فأرسى به قواعد هذا الدين على مبادئ قوية. أولها الإيمان بالله رب العالمين. فلا يتجه الإنسان بعبادته إلى مخلوقات لا تضر ولا تنفع، إنما الولاء لله رب العالمين. {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]
إن الإيمان بالله قوة هائلة فى نفوس المسلمين، أقدرتهم على مواجهة الصعاب، دون خوف أو مهابة أو شك أو ارتياب {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات 15] .
يقول الأستاذ. سيد قطب رحمه الله فى ظلال القرآن: فى تفسير هذه الآية: الإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور، والذي ينبثق فيه الجهاد بالمال والنفس فى سبيل الله.
دعائم القوة في الإسلام
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]، سبحانه سبحانه أكمل لنا الدين، وأتم علينا نعمته، وأمرنا أن نحرص على ديننا أشد من حرصنا على الحياة، وأن نكافح فى سبيل حفظه، والتمكين له في الأرض {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
وأشهد أن لا إله إلا الله، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعانا إلى اتخاذ أسباب القوة والإيمان بالله والاعتصام بحبله المتين.(250/1)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد،وعلى آله وصحبه الذين كانوا مثلاً عليا فى الإيمان والعلم والعمل، فأعزهم الله فى الدنيا والآخرة، ورضى عنهم أجمعين... ((أما بعد))
فيا أيها الأخوة المؤمنون:
يقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [سورة آل عمران:103]
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): ((المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شئ فلا تقل: لو إني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. (رواه مسلم)
( 2 )
أيها المسلمون:
أرسل الله رسوله محمداً (صلي الله عليه وسلم) بالهدى ودين الحق، فأرسى به قواعد هذا الدين على مبادئ قوية. أولها الإيمان بالله رب العالمين. فلا يتجه الإنسان بعبادته إلى مخلوقات لا تضر ولا تنفع، إنما الولاء لله رب العالمين. {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]
إن الإيمان بالله قوة هائلة فى نفوس المسلمين، أقدرتهم على مواجهة الصعاب، دون خوف أو مهابة أو شك أو ارتياب {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات 15] .
يقول الأستاذ. سيد قطب رحمه الله فى ظلال القرآن: فى تفسير هذه الآية: الإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور، والذي ينبثق فيه الجهاد بالمال والنفس فى سبيل الله.(250/2)
فالقلب متى تذوق حلاوة الإيمان والاطمئان إليه وثبت عليه فانه لا يد أن يتدفع لتحقيق حقيقته فى خارج القلب فى واقع الحياة في دنيا الناس. (بتصرف يسير)
لقد انطلق أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فى مناكب الأرض متحصنين بإيمانهم لم يتركوا سهلاً ولا جبلاً ولا واديا إلا اقتحموه وأجروا الخير في جنباته.
كانوا كما قال الشاعر:
ما وجهوا عزمهم يوما إلى بلد * يفيض بالكفر إلا فاض إيماناً
أيها المسلمون:
( 3 )
إن الحقيقة الكبرى فى قوة المسلمين هي إيمانهم بالله، وتبرز منه حقيقة أخرى لابد وأن نعيها جيداً ونحن نخوض معركة الحياة ويؤكد الإسلام توفيرها لكل فرد من أفراد المسلمين هذه الحقيقة هي ((العلم)).
العلم الذي يبدأ مع الإنسان من المهد إلى اللحد، العلم الذي يبحث فى صنع الله، وقواميس كونه، ويبحث في الأرض وما يخرج منها. وفى السماء وما يدور فيها، العلم الذي يبحث فى تاريخ السابقين وسير الأولين كيف عاشوا وكيف بادوا؟ العلم الذي يوفر للبشرية على الأرض، الرخاء والصحة والقوة، العلم الذي يكون عوناً للإنسانية أيام السلم، وعدة لها أيام الحروب.
العلم بالله وبكتابه وآياته المحكمة. هذا العلم كان عتاد أسلافنا فسبقوا به العالم فى مضمار التقدم والحضارة، وخلفوا للإنسانية تراثاً مجيداً من المعرفة، أخذته أوربا فصنعوا من علومنا حضارتهم وحققت به انتصارات رهيبة فى ميدان الذرة والفلك والفضاء.
فيا أمة الإسلام:
لقد مضى من الزمن ما يجعلنا نعى الدرس ونعد لمستقبلنا ما لدينا من وسائل وإمكانات مادية وبشرية تجعل حياة المسلمين عزيزة كريمة، تسود العالم بالحق والخير، والعدل والمساواة ويتحقق لها رضوان الله فى الدنيا والآخرة.....
{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحج: 40]
إن هذا الدين صنع بالأمس أبطالاً وربى رجالاً، وأقام حضارة. وأحيا أمة وانه ليهيب بنا اليوم(250/3)
أن نعود إليه وننهل من ورده. ونتلمس وسائل النصر في تعاليمه ويؤمئذ نصبح وليس على ظهر الأرض من هو أحق منا بالحياة، بفضل الله وبفضل هذا الدين العظيم.
فابنوا المصانع وأقيموا المعامل، وامضوا على بركة الله بما تملكون من مصادر للقوة والثروة والسلاح الذي تحاربون به عدو الله وعدوكم { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]
أيها المسلمون:
لقد اتجه الإسلام بتشريعاته إلى بناء مجتمع سليم أساسه الإيمان بالله، وعماده الترابط والقوة والتضافر وتحقيق الأمجاد الرفيعة. وعلى الشباب الذين آمنوا بربهم وبحقهم في الحياة أن يدركوا المسئولية، وبسواعدهم تقوم المشروعات. وبقوتهم يضربون المثل والقيم الخلاقية ويرتفع شأن الأمة فى العالمين، فإيمان الشباب قوة فعالة تحقق الأهداف التى يعجز عن الوصول إليها الضعاف المهازيل، وتنشر في ربوع الأمة النور والطهر والخير والسلام، وترفعها إلى أعلى درجات المجد والخلود..
( 4 )
هذه نتائج مرتقبة لشبابنا المؤمن بربه المستقيم على جادته الذين تعهدوا أنفسهم بالرعاية والعناية، وكانوا مثلا عليا فى التحلي بمكارم الأخلاق، وفى التضحية وإنكار الذات، فبهم تتحقق السعادة للأمة والعزة والسيادة والتوفيق. قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلامِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [سورة الأحزاب: 23](250/4)
فاتقوا الله أيها المسلمون وتفهموا مبادئ دينكم، وأهداف عقيدتكم، وسيروا على درب أسلافكم من الإيمان بالله وحده، وتأكيد هذا الأيمان بالتوكل على الله والاعتماد عليه، ثم الاعتماد على أنفسكم، والحذر الحذر من كيد الأعداء والمنافقين وإرجاف المرجفين لتسعدوا فى دنياكم، وتكتبوا لأنفسكم العزة في آخرتكم، وحتى يكون المجتمع الإسلامي قوياً عزيزاً فى دنيا الناس.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الآيات 10, 13 سورة الصف]
بارك الله لى ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(250/5)
اطبع هذه الصحفة
نعم للإنتاج لا للإستهلاك
فإن الله تعالى جعل هذه الحياة الدنيا دار كد وعمل، وبين لنا في محكم كتابه العزيز، أنه إنما خلقنا وأعطانا فرصة العيش في هذه الحياة ليختبرنا أينا أحسن عملاً..
قال تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] والعمل لا يكون حسناً حتى يكون صواباً، ولا يكون صواباً حتى يكون طاعة لله – عز وجل – واتباعاً لرسوله – (صلي الله عليه وسلم) والعمل الصالح – أيها الإخوة – واحد من أربعة، جعلها الله معياراً لمدى نجاح الإنسان وفلاحه، فعلى قدر ما يأخذ الإنسان المؤمن منها يكون ربحه وفوزه، وبقدر ما ينتقص منها ينتقص من فوزه وفلاحه، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر]
نعم للإنتاج لا للإستهلاك
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق الوعد الأمين.
اللهم صل وسلم وبارك عليه و على آله وصحبه أجمعين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1](251/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن الله تعالى جعل هذه الحياة الدنيا دار كد وعمل، وبين لنا في محكم كتابه العزيز، أنه إنما خلقنا وأعطانا فرصة العيش في هذه الحياة ليختبرنا أينا أحسن عملاً..
قال تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] والعمل لا يكون حسناً حتى يكون صواباً، ولا يكون صواباً حتى يكون طاعة لله – عز وجل – واتباعاً لرسوله – (صلي الله عليه وسلم) والعمل الصالح – أيها الإخوة – واحد من أربعة، جعلها الله معياراً لمدى نجاح الإنسان وفلاحه، فعلى قدر ما يأخذ الإنسان المؤمن منها يكون ربحه وفوزه، وبقدر ما ينتقص منها ينتقص من فوزه وفلاحه، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر]
( 2 )
إن فلاح الإنسان منوط بقدر ما يحقق من هذه الأمور الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
والقرآن الكريم يدعو للعمل الصالح، ويحض عليه حضاً، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]
ويدعو لمزاولة العمل والكد على المعيشة في جنبات الأرض، فيقول سبحانه {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وهذه الدعوة إلى العمل الصالح في دين الله موجهة للجميع، وحتى للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(251/2)
روى البخاري عن المقدام أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" وروى مسلم بسنده عن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال:
"كان زكريا – عليه السلام – نجاراً".
والعمل الصالح شريف مهما كانت درجته، ونبي الإسلام – محمد (صلي الله عليه وسلم) دعا للعمل الشريف، وعدم احتقاره مهما كان يبدو ضعيفاً – روى الشيخان بسندهما – من طريق أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): (لأن يأخذ أحدكم حبله،ثم يغدو، فيحتطب، فيبيع، فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس".
( 3 )
أيها الإخوة:
إن المسلمين قادرون على أن يحتفظوا بشخصيتهم قادرون على أن يكون لهم مكان تحت الشمس، قادرون على أن يكونوا أمة قوية كما أراد الله لهم: {أمة وسطا} [البقرة: 143]
قادرون على ان يأخذوا بأسباب التقدم والرقي والنهوض، وأن يكونوا أمة منتجة، وعندهم من الطاقات والإمكانات ما يغني.
عندهم الكثرة العددية… الألف مليون، والكثرة نعمة كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] هذه الكثرة تستطيع أن تفعل الكثير، لو وجدت من يوظفها ومن يفجر ما فيها من إمكانات.
والمسلمون يملكون القوة المادية، عندنا الثروات المذخورة في باطن الأرض، وعندنا الثروات المنشورة على ظاهرها، عندنا الرصيد النقدي، عندنا الموقع الجغرافي، عندنا من كل ذلك الشئ الكثير ونملك قبل ذلك كله القوة الروحية، نحن نملك الوثيقة السماوية، المنزلة من السماء إلى الأرض، التي لم يعترها تحريف ولا تبديل، نملك القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(251/3)
نحن نملك تراثاً عريقاً ممتداً إلى أربعة عشر قرناً من الزمان… نحن نملك من القوى والإمكانات ما هو جدير بأن يجعلنا في المقدمة وفي الطليعة، ولكننا لا نستغل طاقاتنا، حتى تحولنا من أمة منتجة إلى أمة مستهلكة، وهذا من أخطر عيوب الأمة الإسلامية أنها تضع كل همها في الاستهلاك.
وعلينا جميعاً أن نحارب السرف والترف في المجتمع بالتشريع والتوجيه، توفيراً للطاقات المادية والبشرية التي تذهب هدراً من جراء التسابق المجنون في الاستهلاك واقتناء الكماليات بل المحرمات، وحفاظاً على المجتمع من التفسخ والانحلال، الذي ينذر به الترف كل من غرق فيه، ووقاية للأمة من الحقد الطبقي.
علينا : -
أولاً: أن نتحرر من العبودية لأهواء النفس التي لا تشبع، والتي تجعل كل همنا الجري وراء ما يضرنا ولا ينفعنا، والتي لن نموت إذا استغنينا عنها، فهي بحق أشياء يصدق عليها أنها (لا تسمن ولا تغني من جوع) أشياء لا تنفعها، بل كثيراً ما تضرها.
ثانياً: أن تضع خطة – على أساس علمي وإحصائي – لزيادة ثروة الأمة وتنمية إنتاجها كماً ونوعاً، والاستفادة من التكامل الاقتصادي بين البلدان الإسلامية، للعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما بينها، واتخاذ الوسائل الفعالة مادية ومعنوية، لدفع عجلة التنمية، وتنظيف المجتمع من كل الآفات النفسية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية، التي تعطل طاقات الأمة وتحطم منجزاتها وتعوق مسيرتها نحو التقدم.
أيها الإخوة:
أما في جانب الكفاية وزيادة الإنتاج، فلم تزل بلادنا معتمدة أكبر الاعتماد على الاستيراد في آلات الإنتاج، ووسائل النقل، ومعظم مصنوعات الحضارة، ولم نستطع حتى الآن إقامة صناعات ثقيلة – مدنية كانت أو حربية – بحيث نستغني عن الاستيراد من غيرنا، ومد اليد إلى الأقوياء، والتأرجح بين المعسكرات الدولية المتنافسة، بغية تأمين السلاح، والدفاع عن الحمى، والذود عن العرض والأرض.
( 4 )(251/4)
ما زالت بلادنا – أيها الإخوة – عالة على غيرها في التسلح، وفي الصناعة والتكنولوجيا، كل ما صنعناه أننا نستورد منتجات الحضارة ولكن لا نصنعها، واستيراد المنتجات الحضارية لا يصنع حضارة.
حتى الزراعة – أيها الإخوة – الزراعة التي كانت حرفة أجدادنا من آلاف السنين، والتي اشتهرت بها بلادنا، حتى حاول الاستعمار في وقت ما إفهامنا أننا لا نحسن غيرها، ولا نملك طاقات لشئ سواها – حتى هذه الزراعة لم نرق بها إلى المستوى اللازم لنا واللائق بنا، كماً ونوعاً، وما زلنا نستورد القمح من خارج أرضنا وإلا هلكنا جوعاً، وهكذا نعتمد على الأجانب في كل شئ، حتى في جلب الطعام الذي به عيشنا، والسلاح الذي نصون به حياتنا.
أيها الإخوة:
إننا لا بد أن نصوغ حياتنا إسلامياً، لتحقيق استقلال ذاتي حقيقي لأمتنا يردها إلى حضارتها الأًصيلة المتوازنة، ويعيد إليها شخصيتها المستقلة المتميزة ويجعلها رأساً في الحياة، لا ذيلاً لشرق أو غرب، ولنرقى بالمجتمع من التخلف إلى التقدم، ومن الاعتماد على الغير إلى الاكتفاء بالذات، ومن استيراد مصنوعات الحضارة إلى تصديرها، ومن شراء السلاح إلى صناعته، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف المرسلين، سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة الكرام المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحذركم ونفسي معصية الله، كما أوصيكم أن تكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله (صلي الله عليه وسلم).
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وارض اللهم عن أصحاب رسول الله، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الإخوة المؤمنون:(251/5)
بعد غد تحتفل دولة الكويت بيومين كريمين من أيامها المباركة: يوم الاستقلال، ويوم التحرير، استعادت بهما الدولة كل معاني العزة والكرامة.. وعاد إليها صفاؤها وبهاؤها، وأشرقت الفرحة في جميع نواحيها.
كما عمت الفرحة جميع الدول الشقيقة والصديقة، التي كان لها قصب السبق في الوقوف إلى جانبها، حتى عاد الحق إلى نصابه، ورجع العدو الغادر إلى بلده مذموماً مخذولاً مدحوراً، مطروداً من أهل الأرض والسماء.
وإننا لنهنئ دولتنا الحبيبة بهذا النصر المؤزر من عند الله {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[آل عمران: 126] ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ دولة الكويت من كل سوء، وأن يديم عليها نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والخير والرخاء.
اللهم اجعل هذا البلد آمناَ مطمئناً، سخاء رخاء، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظ صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين، وارحم شهداءنا وشهداء المسلمين وفك قيد أسرانا وأسرى المسلمين، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
وأقم الصلاة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(251/6)
اطبع هذه الصحفة
دروس مستفادة من من خطبة حجة الوداع
يوم عرفة يوم عظيم يذكرنا بموقف من أروع المواقف فى تاريخ الإسلام، ذلك الموقف هو موقف الرسول (صلي الله عليه وسلم) فى حجة الوداع حيث جموع المسلمين زاخرة والرسول يخطب فيهم خطبته العظيمة التي بين فيها أصول الإسلام وقرر فيها قواعد الدين. وقضى على عادات الجاهلية، ووضع قوانين الأخلاق، وأرسى دعائم الاجتماع، ونحن نستفيد من هذه الخطبة دروساً عظيمة نسعد بها فى حياتنا وآخرتنا منها.
حرمة الدماء والأموال من قوله (صلي الله عليه وسلم) "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا فى بلدكم هذا" اللهم بلغت؟ ((متفق عليه)).
إن الإسلام قرر حق الحياة لكل إنسان وهو حق مقدس وله أن يتمتع بهذا الحق، لا يحل انتهاك حرمته ولا استباحة حماه.
قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33]
والحق الذي تزهق به النفوس هو ما فسره الرسول (صلي الله عليه وسلم) فيما رواه عبدالله بن مسعود رضى الله عنه "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث" الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" ((رواه البخاري ومسلم)) إن الطبيعة البشرية تحرم سفك الدماء وتحرص كل الحرص على سلامة الأرواح والأبدان، لأن الحياة منحة الله للإنسان، لا يملك أحد انتزاعها منه إلا الله عز وجل.
دروس مستفادة من من خطبة حجة الوداع
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العلي القدير، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله البشير النذير، r وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون:(252/1)
يوم عرفة يوم عظيم يذكرنا بموقف من أروع المواقف فى تاريخ الإسلام، ذلك الموقف هو موقف الرسول (صلي الله عليه وسلم) فى حجة الوداع حيث جموع المسلمين زاخرة والرسول يخطب فيهم خطبته العظيمة التي بين فيها أصول الإسلام وقرر فيها قواعد الدين. وقضى على عادات الجاهلية، ووضع قوانين الأخلاق، وأرسى دعائم الاجتماع، ونحن نستفيد من هذه الخطبة دروساً عظيمة نسعد بها فى حياتنا وآخرتنا منها.
حرمة الدماء والأموال من قوله (صلي الله عليه وسلم) "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا فى بلدكم هذا" اللهم بلغت؟ ((متفق عليه)).
إن الإسلام قرر حق الحياة لكل إنسان وهو حق مقدس وله أن يتمتع بهذا الحق، لا يحل انتهاك حرمته ولا استباحة حماه.
قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33]
والحق الذي تزهق به النفوس هو ما فسره الرسول (صلي الله عليه وسلم) فيما رواه عبدالله بن مسعود رضى الله عنه "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث" الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" ((رواه البخاري ومسلم)) إن الطبيعة البشرية تحرم سفك الدماء وتحرص كل الحرص على سلامة الأرواح والأبدان، لأن الحياة منحة الله للإنسان، لا يملك أحد انتزاعها منه إلا الله عز وجل.
( 2 )
ومن حرص الإسلام على حماية النفوس من القتل أنه هدد من يستحلها بأشد عقوبة يقول الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء 93] وقال (صلي الله عليه وسلم) "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق"
(رواه ابن ماجة بسند حسن)(252/2)
وكما قرر الإسلام حرمة الدماء قرر ثانيا حرمة المال. فالمال مال الله والإنسان خليفة الله فى هذا المال، والمال اذا جمع عن طريق مشروع وأنفق منه صاحبه بالاعتدال كان ما بقى فى يد صاحبه مصوناً تحميه الدولة، وعلى المجتمع أن يحترم ملكيته لهذا المال، فلا يحل لأحد أن يعتدي عليه، ولا يحل لأحد أن يأخذ منه إلا عن طيب نفس صاحبه، لذلك شدد الإسلام فى عقوبة السرقة، كي لا يجرؤ أحد أن يمد يده إلى مال الآخرين، وبهذا تحفظ الأموال وتصان يقول تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]
فالإسلام احترم المال من حيث أنه عصب الحياة واحترم ملكية الأفراد له.
ونستفيد ثالثا: حرمة الربا يقول النبي (صلي الله عليه وسلم) فى هذه الخطبة: (ألا إن كل ربا موضوع...) فهو يقطع المعروف ويزيل المواساة، ويمحو الإحسان، وتتسلط الطبقة الغنية على الطبقة الفقيرة، فيمتلئ جو المجتمع بالشحناء والبغضاء، ويشيع العدوان بين الناس هذا فى الدنيا وفى الآخرة، فإن المرابين يسكونون على الصورة التي ذكرها الله فى القرآن قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 27]
والرسول (صلي الله عليه وسلم) يقول: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه" (رواه أبو داود وأحمد والترمذي))
الربا تجارة الكسول وبضاعة الخامل، وشر مستطير فى الدنيا والآخرة، فهو يهدم القيم، ويحطم الأخلاق، ويدمر الاقتصاد، ويربك الأمة، ويثقل كاهلها بالديون، وفوق ذلك فهو يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وينتزع الرحمة من القلوب.(252/3)
وهو من الكبائر، وأحد السبع الموبقات، لذلك أعلن الله الحرب على المرابين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278, 279]
( 3 )
وقرر رابعاً: كيف يكون الحفاظ على الأسرة، فالرسول (صلي الله عليه وسلم) فى خطبة حجة الوداع رسم الآداب المشتركة بين الزوجين، وحدد حقوق كل منهما على الآخر وصدق الله إذ يقول {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وصور الصلة بينهما بقوله {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]
وسمى العقد المبرم بينهما ميثاقاً غليظاً قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21]
فالزوجة سكن للزوج وحرث له، وهى شريكة حياته، وربة بيته، وأم أولاده، ومهوى فؤاده، وموضع سره ونجواه، وهى أهم أركان الأسرة وهى مسئولة معه عن الأسرة وجاء في حديث الرسول (صلي الله عليه وسلم) "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع فى مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" ((متفق عليه))
ونستفيد خامساً من خطبة النبي (صلي الله عليه وسلم) فى يوم عرفة فى حجة الوداع مبدأ تبنى الإسلام للمساواة بين الناس حيث قال: "إن ربكم واحد، وإن إباكم واحد وكلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم" فالإسلام رسالة عالية جاءت لخير الأمم والشعوب جميعاً لا فرق بين عربى وأعجمي قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1](252/4)
دعا إلى القضاء على الفوارق الجنسية والعنصرية، وأعلن الأخوة الإسلامية قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
فالإسلام يقرر المساواة بين البشر، فهم سواسية كأسنان المشط، لا تفاضل بينهم إلإ على أساس التقوى والعمل الصالح، وما يقدم كل منهم لربه ولنفسه ووطنه ومجتمعه الإنساني..
فالإسلام دين المساواة، والمجتمع الذي يقوم أفراده على قدم المساواة هو مجتمع يشع منه الاطمئنان والأمان، والمحبة والتعاون على البر والتقوى، أما إذا انعدمت المساواة فى مجتمع نتج عنه الصراع وظهرت الطبقية، وتزعزعت الثقة بين الناس.
لقد بلغت المساواة ذروتها فى عهد رسول الله (صلي الله عليه وسلم) حتى قال الرسول عليه الصلاة والسلام (سلمان منا أهل البيت).
( 4 )
ونستفيد سادساً:
أن نعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقد نهى عن التفرق والتنازع والاختلاف وحذر من الفتن والانقسام إلى شيع وأحزاب، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران]
وقال سبحانه {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] الإسلام يدعوكم إلى الوحدة، ويحرم عليكم الخلاف والفرقة.(252/5)
هذه بعض الدروس المستفادة من خطبة الرسول (صلي الله عليه وسلم) فى حجة الوداع فى يوم عرفة، وعلينا أن نستجيب عملاً لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] وعملا بقول رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى، فقيل ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" (رواه البخاري).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
( 5 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد فى الله حق جهاده، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد فيا عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأحذركم ونفسي من مخالفة أوامره، وابتهلوا إليه بالدعاء وجددوا العهد مع الله عز وجل لتكونوا من المقبولين، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم وفقنا إلى طاعتك وجنبنا معاصيك، اللهم يسر أمورنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم اشف مرضانا، اللهم ارحم موتانا، اللهم أهلك أعداءنا، اللهم أصلح أحوالنا، اللهم طهر قلوبنا، اللهم قو إيماننا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، انك سميع قريب مجيب الدعوات يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتذكرون.
اذكروا الله العظيم يذكركم، واستغفروه يغفر لكم.
وأقم الصلاة.
---(252/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(252/7)
اطبع هذه الصحفة
المخدرات تهدم الطاقة الإنتاجية في المجتمع
لقد أحل الله الطيبات للإنسان، لما فيها من نفع وفائدة تساعده على أداء وظيفته في الحياة، ألا وهي الخلافة في الأرض، وحرم عليه كل ضار به في جسمه وعقله كالمخدرات التي تهدم الطاقة الإنتاجية، كما أن الله سبحانه و تعالى كرمه على سائر المخلوقات قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]
نعم أيها المسلمون أن المخدرات آفة هدم لطاقة الإنسان، لإنها تسلبه العقل الذي سما به على الكائنات، والذي يفكر به فيبدع وينتج ويبتكر لنفع البشرية .
ولا شك أيها المسلم أن العقل نعمة عظيمة يجب الحفاظ عليه، وعدم الاعتداء عليه بتعاطي هذه السموم، التي هي مفتاح كل شر، كما أنها تجلب عليه مصائب نفسية واجتماعية، يمتد آثارها إلى المجتمع، فتصيبه في اقتصاده وثرواته وشبابه وشيوخه، ورجاله ونسائه، كما أن هذه المضار خطيرة وجسيمة ومحرمة فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله (صلي الله عليه وسلم) عن كل مسكر ومفتر" [رواه أحمد وأبو داود].
المخدرات تهدم الطاقة الإنتاجية في المجتمع
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.. سبحانه {خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4]، وهداه إلى طريق الإيمان، وأنقذه من الشرور والآثام.
أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أجزل العطاء للأنام، ومن عليهم بنعم باقية على الدوام.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، والهادي إلى صراط الله المستقيم.. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بهدى وإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيأيها المسلمون:(253/1)
لقد أحل الله الطيبات للإنسان، لما فيها من نفع وفائدة تساعده على أداء وظيفته في الحياة، ألا وهي الخلافة في الأرض، وحرم عليه كل ضار به في جسمه وعقله كالمخدرات التي تهدم الطاقة الإنتاجية، كما أن الله سبحانه و تعالى كرمه على سائر المخلوقات قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]
نعم أيها المسلمون أن المخدرات آفة هدم لطاقة الإنسان، لإنها تسلبه العقل الذي سما به على الكائنات، والذي يفكر به فيبدع وينتج ويبتكر لنفع البشرية .
ولا شك أيها المسلم أن العقل نعمة عظيمة يجب الحفاظ عليه، وعدم الاعتداء عليه بتعاطي هذه السموم، التي هي مفتاح كل شر، كما أنها تجلب عليه مصائب نفسية واجتماعية، يمتد آثارها إلى المجتمع، فتصيبه في اقتصاده وثرواته وشبابه وشيوخه، ورجاله ونسائه، كما أن هذه المضار خطيرة وجسيمة ومحرمة فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله (صلي الله عليه وسلم) عن كل مسكر ومفتر" [رواه أحمد وأبو داود].
( 2 )
أيها المسلمون:
إن من يتعاطى المخدرات غالباً ما يكون عمره قصيراً، حيث يزحف عليه المرض في شبابه،ويدركه العجز في كهولته، وهو معرض لأمراض فتاكة تفتك بأعضاء بدنه، فيصاب بتصلب الشرايين وأمراض القلب، كما يعتري أجهزة الجسم عطب يعطلها عن أداء مهامها، فيصاب الإنسان في حيويته ونشاطه، وهذا مما يؤثر على عمله وعلى إنتاجه، بل هي أكبر وسيلة لهدم طاقته الإنتاجية في المجتمع.
أيها الإخوة المسلمون :
إن المتعاطي للمخدرات عضو غير فعال في المجتمع وغير منتج، بل يشكل عبئاً جسيماً على المجتمع فيصاب بالخمول والكسل والأمراض النفسية، من قلق واكتئاب نفسي مزمن، وفقد للذاكرة، وهذا يكلف المجتمع تكاليف مالية باهظة لمعالجته.(253/2)
ويصبح عبئاً على أسرهم حيث يزحف الفقر على ذويهم وأهليهم، لعدم الكسب من عائلهم المدمن، فيشرد الأولاد، ويرتكبون الجرائم من أجل لقمة يتناولونها، كما يؤدي إلى الانحراف وأرتكاب الجرائم.
( 3 )
أيها المسلمون :
لقد زحفت المخدرات على البشرية بأنواع جديدة ونماذج خطيرة حملت في داخلها السم الزعاف ففيها تهديد للصحة، وتهديد لاقتصاديات المجتمع، وتهديد للأسرة، وتهديد لكيان الفرد، وفيها التهلكة السريعة، التي لا علاج لها ولا مخرج منها، إلا بالقضاء عليها، وبأن تولى جميع أجهزة الإعلام من مدارس ومساجد وصحف وغيرها اهتمامها بترسيخ مبادئ الدين الإسلامي قي الأبناء منذ نعومة أظفارهم. حتى يشبوا وهم متحصنون ضد التيارات الفاسدة والمهلكات من الفواحش، والآفات الضارة كالخمر والمخدرات من حشيش وأفيون وهروين وغيرها، فالدين الإسلامي هو صمام آمان للشباب وغيرهم من الانحراف يقول: "الرسول (صلي الله عليه وسلم) كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" [رواه البخاري].
إن تنشئة الفرد وتكوين المجتمعات والأمم تحتاج إلى جهد مضن يستغرق مالاً ووقتاً أكثر من إنشاء الأبنية والمصانع، هذا الجهد يحتاج إلى رجال على قدر المسئولية.
وإن الأمة بحاجة إلى أبنائها، فهم وسيلة البناء والتقدم والرقي، وما تقدمت أمة إلا بسواعد أبنائها وبجهدهم، وما تعرف الأمة إلا بقدر طاقاتها على الإنتاج والعمل، وإن أخطر ما تصاب به الأمم هو الركون إلى العجز والكسل، وبالإسلام نرد كيد الأعداء إلى نحورهم.
وأولادنا هم عماد ظهورنا، وثمار قلوبنا، وقرة أعيننا، ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة، بل هم الثروة البشرية للوطن، فيجب أن نكون لهم عوناً على الاستقامة بالتربية الصحيحة.(253/3)
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 71].
وقال رسول الله: (صلي الله عليه وسلم) "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس"الصحة والفراغ" [رواه البخاري]
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
( 4 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وتعالى ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيقول الله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"
اللهم صل وسلم على خير خلقك، سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطاهرين، وصحابته أجمعين، واحشرنا اللهم في زمرتهم أجمعين.
كما أوصيكم عباد الله بتقوى الله في السر والعلن، وأحذركم وإياي من الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
ربنا لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاَ إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا صلاح إلا قضيتها بمنك وكرمك يارب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم أيدهم بنصرك يارب العالمين، اللهم وفق ولاة أمورنا لما فيه خير البلاد والعباد يا رب العالمين واكلأ بعنايتك صاحب السمو أمير البلاد وولي عهده الأمين، اللهم ارحم شهداءنا أجمعين، واجعل لأسرانا من عسرهم يسرا، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاء وسائر بلاد المسلمين.(253/4)
وأقم الصلاة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(253/5)
اطبع هذه الصحفة
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
يقول الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139, 141]
نزلت هذه الآيات عقب غزوة أحد، التي كانت ابتلاء قاسياً للمسلمين، نتيجة للهزيمة التي وقعت بهم بعد نصر كبير لهم على المشركين، الذين ولوا الأدبار، وساحت فلولهم فى كل اتجاه. قال ابن عباس رضى الله عنهما: ما نصر رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فى موطن نصره يوم أحد، فأنكر ذلك عليه فقال: بينى وبينكم كتاب الله.
إن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] ولولا مخالفة الرماة للرسول (صلي الله عيه وسلم) وتركهم مواقعهم الحصينة لما اختلت صفوف الجيش الإسلامي، ولا تفرق جمعهم ولما أصيب الرسول (صلي الله عليه وسلم) بإصابات بالغة.. فكان هذا درساً من الله تعالى للمسلمين في جميع معاركهم على مدار التاريخ بارتباط النصر بأسبابه، وعدم التعجيل بجمع حطام الدنيا، الذي لم يكن هدفاً من أهداف الدعوة الإسلامية.
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين(254/1)
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى سبحانه {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 13, 16] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأمر أمره، والقضاء قضاؤه، والخلق عباده {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 82, 83]
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.. فصلوات ربى وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
أيها الإخوة المؤمنون:
يقول الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139, 141]
نزلت هذه الآيات عقب غزوة أحد، التي كانت ابتلاء قاسياً للمسلمين، نتيجة للهزيمة التي وقعت بهم بعد نصر كبير لهم على المشركين، الذين ولوا الأدبار، وساحت فلولهم فى كل اتجاه. قال ابن عباس رضى الله عنهما: ما نصر رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فى موطن نصره يوم أحد، فأنكر ذلك عليه فقال: بينى وبينكم كتاب الله.(254/2)
إن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] ولولا مخالفة الرماة للرسول (صلي الله عيه وسلم) وتركهم مواقعهم الحصينة لما اختلت صفوف الجيش الإسلامي، ولا تفرق جمعهم ولما أصيب الرسول (صلي الله عليه وسلم) بإصابات بالغة.. فكان هذا درساً من الله تعالى للمسلمين في جميع معاركهم على مدار التاريخ بارتباط النصر بأسبابه، وعدم التعجيل بجمع حطام الدنيا، الذي لم يكن هدفاً من أهداف الدعوة الإسلامية.
( 2 )
أيها الإخوة المؤمنون:
إن الأيام دول، يوم لهم ويوم عليهم، ويوم يسوء ويوم يسر، والحياة لا تتوقف، وكذلك الدول تعتريها الأحداث بين الشدة والرخاء، والعسر واليسر، والنصر والهزيمة، ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]
تلك سنة الله فى خلقه فى كشف معادن النفوس، وطبائع القلوب، وتمييز المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، والمخلص من المنافق. ولن تجد لسنة الله تبديلا.
أيها الإخوة المؤمنون:
إن من أشد أمراض الأمم أن تركن إلى الضعف، الذي ينخر فى عظامها، ويجمد حركتها، ويجعلها والعياذ بالله كأنها مصابة بالشلل مع أن الله وعدها ووعده الحق. بقوله تعالى: {وأنتم الأعلون} فالضعف يؤدى إلى العجز، والعجز يؤدى إلى الاستسلام.(254/3)
وكما أن الضعف يضر بالمستقبل، فكذلك الحزن لا يغير الماضي، سواء كان ذلك بالنسبة للفرد، أو الجماعة، أو الأمة. والأمران لا يليقان بالمسلم، ويقفان حجر عثرة دون التقدم والنهوض والعافية.. فكم من إنسان فتكت به الأمراض من كل جانب لما أصابه من حزن، وكم من أمة تأخرت فى كل نواحيها، وقهرها غيرها نتيجة للضعف.
عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لأبى طلحة: التمس لنا غلاما من غلمانكم يخدمنى، فخرج أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله rكلما نزل، فكنت أسمعه يقول: "اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال"، فلم أزل أخدمه حتى أقبلنا من خيبر (رواه البخاري) وغلبة الرجال يكون لشدة تسلطهم كاستيلاء الرعاع. قال الكرماني: هذا الدعاء من جوامع الكلم… فالهم يكون فى أمر متوقع ، والحزن يكون فيما وقع، فالهم للمستقبل والحزن مع الماضي. والعجز: القصور عن فعل الشيء وهو ضد القدرة… والكسل… التثاقل عن فعل الشيء مع وجود القدرة… وضلع الدين… ثقله والذي يميل بصاحبه عن الاستواء… وغلبة الرجال… شدة تسلطهم بغير حق.
قال الإمام بن القيم: كل اثنين منهما قرينان، فالهم والحزن قرينان، إذ المكروه الوارد على القلب إن كان من مستقبل يتوقعه أحدث الهم، أو من ماضي أحدث الحزن، والعجز والكسل قرينان فإن تخلف العبد عن أسباب الخير إن كان لعدم قدرته فالعجز، أو لعدم إرادته فالكسل، والجبن والبخل قرينان، فإن عدم النفع إن كان ببدنه فالجبن، أو بماله فالبخل. وضلع الدين وقهر الرجال قرينان فإن استعلاء الغير عليه إن كان بحق فضلع الدين، أو بباطل فقهر الرجال. (فيض القدير ح2)
( 3 )
أيها الإخوة المؤمنون:(254/4)
لو علم كل إنسان أن المقادير بيد الله، وأن كل ما يحدث فى الكون قد سبق فى علم الله تقديره ومحسوب حسابه قبل خلق الأرض وقبل خلق الإنسان... لو علم ذلك وآمن به إيماناً صادقاً لما اشتد به الحزن اشتداداً يخرجه عن استوائه، ولما ألم به الأسى إلى حد الجزع، ولعلم أن ما سبق به العلم واقع لا محالة، رضي الإنسان أم لم يرض، وإذن لاطمأن قلبه، وامتلأ بقضاء الله رضا وسكينة
قال (صلي الله عليه وسلم): ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك،وأن ما أخطاك لم يكن ليصيبك)) [رواه الترمذي] وقال الله سبحانه وتعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22, 23]
( 4 )
أيها الأخوة المؤمنون:
كم تمر بالأفراد أزمات، تؤرق ليلهم، وتشغل بالهم.. وكم تمر بالدول تقلبات ومطامع ممن لا يرعون ذمة ولاحقا، فى كل هذه الأمور لا ينفع فيها الحزن، ولا يفيد معها الجزع، بل عليها أن تتحامل على جراحها، وتعمل بكل ما لديها من إيمان، فتنهض من جديد وتسترد ما ضاع منها،(254/5)
قدوتنا فى ذلك رسولنا (صلي الله عليه وسلم)، وصحابته الأبطال، الذين نصروا الله فنصرهم، وخلد ذكرهم، قال عز وجل: { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 171, 174]
بارك الله لى ولكم فى القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(254/6)
اطبع هذه الصحفة
من وصايا لقمان
الإسلام دين نظم حياة المسلم الخاصة والعامة، وشملت تعاليم هذا الدين محاسن الآداب ومكارم الأخلاق التي تنظم حياة المجتمع الإسلامي، وتكفل له السعادة والتحاب والترابط، ومن هذه الآداب الإسلامية الرفيعة، حق الطريق وآدابه، التي يتأدب بها المسلم ويسلكها، وبتحققها يرقى المجتمع الإسلامي في ظل هذه التعاليم فالطريق ملك لكل الناس، والجميع لهم حق الانتفاع به، ولذلك حذر الإسلام من كل ما يؤذي المار بالطريق، أو يضايقه من الذين يتخذون مجالس على الطريق، فإنها توقع في أمور ممنوعة شرعاً.
وقد ذكر النبي (صلي الله عليه وسلم) الآداب المتعلقة بذلك، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا يا رسول الله: مالنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها، فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): فإن أبيتم إلا المجلس فاعطوا الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (رواه البخاري ومسلم) وزاد أبو داود في روايته "وإرشاد ابن السبيل وتشميت العاطس إذا حمد الله" وزاد البزار في روايته "والإعانة على الحمل" كما زاد الطبراني في روايته "وأعينوا المظلوم واذكروا الله كثيراً".
من وصايا لقمان
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]
وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، اللهم صل وسلم على هذا النبي وعلى آله وصحابته الغر الميامين.
أما بعد:
فيا عباد الله:(255/1)
الإسلام دين نظم حياة المسلم الخاصة والعامة، وشملت تعاليم هذا الدين محاسن الآداب ومكارم الأخلاق التي تنظم حياة المجتمع الإسلامي، وتكفل له السعادة والتحاب والترابط، ومن هذه الآداب الإسلامية الرفيعة، حق الطريق وآدابه، التي يتأدب بها المسلم ويسلكها، وبتحققها يرقى المجتمع الإسلامي في ظل هذه التعاليم فالطريق ملك لكل الناس، والجميع لهم حق الانتفاع به، ولذلك حذر الإسلام من كل ما يؤذي المار بالطريق، أو يضايقه من الذين يتخذون مجالس على الطريق، فإنها توقع في أمور ممنوعة شرعاً.
وقد ذكر النبي (صلي الله عليه وسلم) الآداب المتعلقة بذلك، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا يا رسول الله: مالنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها، فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): فإن أبيتم إلا المجلس فاعطوا الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (رواه البخاري ومسلم) وزاد أبو داود في روايته "وإرشاد ابن السبيل وتشميت العاطس إذا حمد الله" وزاد البزار في روايته "والإعانة على الحمل" كما زاد الطبراني في روايته "وأعينوا المظلوم واذكروا الله كثيراً".
(2 )
أيها الإخوة:(255/2)
في هذه الأحاديث يتبين لنا حرص الإسلام على مراعاة شئون الآخرين وإحساسهم، وكرامتهم وراحتهم، فلم يرض الإسلام أن يطلق الجالس في الطريق نظره، فيحرج من يمر بالطريق من النساء خاصة، ويضيق عليهن أو يؤذي المارة بأي نوع من أنواع الإيذاء المادي أو المعنوي، ومن ثم حث الإسلام ورغب في إزالة الأذى عن الطريق، وجعله من أعمال الطاعات والقربات، التي تدخل صاحبها الجنة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال: والله لأ نحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأدخل الجنة"،(رواه مسلم) وعن أبي برزة رضي الله عنه قال، قلت يا نبي الله علمني شيئاً أنتفع به قال "اعزل الأذى عن طريق المسلمين" رواه مسلم "وأيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره فشكر الله له، فغفر له" (رواه البخاري ومسلم والترمذي والموطأ).
عباد الله:
ومما يتعلق أيضاً بحق الطريق في الإسلام آداب المشي فمن ذلك أن يكون المسلم في مشيته متواضعاً متسامحاً يقول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان: 63]
فعباد الرحمن المؤمنون حقاً، الواصلون إلى مقام العبودية وشرفها يمشون هوناً: أي بسكينة ووقار وتواضع، فلا خيلاء ولا كبر، ولا تعال ولا افتخار على الناس، يتحملون أذى الغير ويتساهلون في معاملتهم مع الآخرين. والله عز وجل يوجه عباده المؤمنين إلى هذا الخلق الكريم والأدب الرفيع في مشيهم، فيقول سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 37, 38].(255/3)
ففي هذه الآية الكريمة تهكم بالمتكبرين في مشيتهم، فالله تعالى يقول لهذا المتكبر مهما دققت الأرض بقدميك لتنبه الناس إلى عظمتك الفارغة، فلن تستطيع خرق الأرض بقدميك، ومهما رفعت رأسك اختيالاً وعجباً فلن يبلغ طولك طول الجبال، بل أنت بجانبها ضعيف عاجز مغرور، وعاقبتك وخيمة ونهايتك سيئة، مختومة بالحسرة والعذاب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" (متفق عليه)
( 3 )
عباد الله:
ويدخل في هذا المجال أيضاً ما يفعله بعض الناس من إزعاج الآخرين بآلات التنبيه بصوت مرتفع بغير حاجة إلى ذلك، يفعلون ذلك من أبواق السيارات دون حياء ولا مراعاة لشعور الآخرين.
ومن الكبر والخيلاء والخروج عن آداب الإسلام المتعلقة بحق الطريق الإسراع بالسيارة. ومخالفة قواعد المرور. التي وضعت لتحفظ على الناس أرواحهم، وما أكثر الحوادث التي تقع كل يوم وكل ليلة بسبب ذلك. فلا حول ولا قوة إلا بالله. وليعلم كل مسلم أن هذه المركبة من نعم الله تعالى التي يجب شكرها، ومن الشكر ألا تؤذي بها الناس، والا تفسد بها في الأرض. وإذا كان الإسلام حذر المسلم من أن يمشي بين الناس وهو يحمل سلاحا من أي نوع كان بطريقة مخيفة. لأن له تأثيراً على نفوس الناس بالإزعاج والإخافة. فكيف بمن يلحق الأذى بالناس، أو كيف بمن يزهق أرواحهم بسيارته.
عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "إذا مر أحدكم في مسجدنا، أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك على نصالها بكفه أن تصيب أحدا من المسلمين بشئ. أو فليقبض على نصالها"
(رواه ابن ماجة وصححه الألباني).
عباد الله:
تلك هي آداب الإسلام وتعاليم ديننا الحنيف فلنحرص عليها ولنتمسك بها، ففيها السعادة و الرقي والأمن والسلامة.
عباد الله:(255/4)
اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، واستغفروه يغفر لكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
( 4)
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله وحده، نحمده ونستهديه ونستغفره، من يهده الله تعالى فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المتقين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد: -
عباد الله:
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، هذا واعلموا أن الله تعالى قد صلى على نبيه في كتابه الكريم وأمركم بذلك فقال: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك ورسولك محمد (صلي الله عليه وسلم) اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.
اللهم ارحم موتانا واشف مرضانا، وأهلك أعداءنا.(255/5)
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء رغدا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق أمير البلاد لما تحب وترضى. اللهم اجعل له بطانة خير ترشده إلى الخير وتحثه عليه، وجنبه بطانة السوء يا رب العالمين، اللهم فك قيد أسرانا وأسرى المسلمين أجمعين. اللهم فرج كربهم وردهم إلى أهليهم وذويهم سالمين آمنين. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم أيدهم بنصرك، وأنزل عليهم مدداً من السماء واقذف الرعب في قلوب أعدائهم. اللهم اهد شباب المسلمين إلى صراطك المستقيم، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة: أبى بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(255/6)
اطبع هذه الصحفة
أساليب الوقاية من المخدرات
الإيمان المكين، والخلق الكريم، والعمل الصالح، والذود عن الوطن وحراسته، فضلاً عن التماسك والتلاحم، كل ذلك وما يؤدي إليه مقوم من مقومات صرح الأمة، وعامل حيوي في نهضتها وبقائها قوية، لا يعتريها ضعف ولا وهن. وكل وطني صادق أو مقيم، يستوحي من دينه وقيمه، ومبادئه، ما يحفزه إلى العطاء لأمته، وبناء صرحها وحراسة أمجادها، وأي تسبب في تقويض صرح الأمة الشامخ وتوهين بنيانها والنيل من كيانها فهو استهانة بالأمة، وبخس لقدرها، ونكران لجميلها. وبما أن المخدرات لها المجال الكبير في هذا الدرك فإن المسلم القويم الذي يسمع ويطيع ربه ويستجيب لله وللرسول لا يقدم على هذا العمل، لأنه عصيان لله ومخالفة لأمره، وكذلك المواطن الصالح لا يشرب ولا يتعاطى هذه المخدرات، كيلا ينفصم عن أمته، وهو الذي ينتمي إليها بكل الولاء والحب والتقدير.
ولا غرو فالمخدرات تقوض أخلاق الأمة، وتمزق اجتماعها، وتهز اقتصادها، وتؤدي بكيان أجيالها وتدمرها، وإن كثيراً من مدمني الهيروين والكوكايين يتعرضون للإصابة باكتئاب نفسي، والميل نحو الانتحار أو أن يتعرضوا لموت مفاجئ نتيجة الإصابة بنزيف في المخ.
أساليب الوقاية من المخدرات
الحمد لله الذي توج الإنسان بأفضل وسائل التفكير والإدراك، وأحل له من الطيبات ما يحفظ عليه حياته، ويقيم أوده، ويجعله صحيحاً معافى، عزيزاً كريماً، كما حرم عليه كل خبيث ضار بجسمه أو عقله، يفقده توازنه أو يحطم شخصيته، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل في محكم كتابه الكريم {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاًوَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70](/1)
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه القائل في الحديث الصحيح "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، صلى الله و سلم وبارك علي نبينا وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :
فيا أيها المسلمون:
الإيمان المكين، والخلق الكريم، والعمل الصالح، والذود عن الوطن وحراسته، فضلاً عن التماسك والتلاحم، كل ذلك وما يؤدي إليه مقوم من مقومات صرح الأمة، وعامل حيوي في نهضتها وبقائها قوية، لا يعتريها ضعف ولا وهن. وكل وطني صادق أو مقيم، يستوحي من دينه وقيمه، ومبادئه، ما يحفزه إلى العطاء لأمته، وبناء صرحها وحراسة أمجادها، وأي تسبب في تقويض صرح الأمة الشامخ وتوهين بنيانها والنيل من كيانها فهو استهانة بالأمة، وبخس لقدرها، ونكران لجميلها. وبما أن المخدرات لها المجال الكبير في هذا الدرك فإن المسلم القويم الذي يسمع ويطيع ربه ويستجيب لله وللرسول لا يقدم على هذا العمل، لأنه عصيان لله ومخالفة لأمره، وكذلك المواطن الصالح لا يشرب ولا يتعاطى هذه المخدرات، كيلا ينفصم عن أمته، وهو الذي ينتمي إليها بكل الولاء والحب والتقدير.
ولا غرو فالمخدرات تقوض أخلاق الأمة، وتمزق اجتماعها، وتهز اقتصادها، وتؤدي بكيان أجيالها وتدمرها، وإن كثيراً من مدمني الهيروين والكوكايين يتعرضون للإصابة باكتئاب نفسي، والميل نحو الانتحار أو أن يتعرضوا لموت مفاجئ نتيجة الإصابة بنزيف في المخ.
( 2 )
فيا أخي الشاب:
احذر أن تقع في شباك هذا الأخطبوط واحذر أن تتعاطى أي نوع من أنواع المخدرات فإن الله تعالى قال: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195](/2)
ويا أخي المواطن: كن قدوة لمن ترعى، واتق الله في نفسك وفيمن حولك، فإنك إذا أضعت القدوة أضعت من خلفك، وسوف تعاني منهم في حياتك جزاء ما أسأت إليهم ويا إخواني كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، قال تعالى: { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9]
أيها الإخوة المؤمنون:
ومن أجل البعد بالمسلم عن الدنايا وعن ارتكاب الخطايا كان إرشاد الرسول (صلي الله عليه وسلم) للمسلمين في اختيار المجالس والجليس في قوله (صلي الله عليه وسلم) "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك (أي يعطيك) وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة – ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة"(رواه البخاري ومسلم) فالجليس الصالح يهديك ويرشدك ويدلك على الخير، وترى منه المحامد والمحاسن، وكله منافع مثمرة
أما الجليس الشرير فقد شبهه الرسول صلوات الله وسلامه عليه بنافخ الكير، يضر ويؤذي، ويعدي بالأخلاق الرديئة، ويجلب السيرة المذمومة، وهو باعث الفساد والضلال ومحرك كل فتنة.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن قرناء السوء وحذر منهم وأخبر أن مجالستهم سوء في الدنيا وعاقبتها ندامة في الدنيا والآخرة قال تعالى{وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً} [النساء: 38]
وقال الله تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]
( 3 )
وإذا كان الجليس يقتدي ويهتدي بجليسه، فإن في جلوس الإنسان التقي عن المآثم والشبهات في مجالس الإفك والشرب وتعاطي المخدرات ما يؤذيه ويرديه في الدنيا بالمهانة، وانتزاع المهابة عند عارفيه من أقاربه وأصدقائه.(/3)
من هنا كان على الإنسان أن ينأى عن مجالس الشرب المحرم خمراً سائلاً أو مخدرات مطعومة أو مشروبة أو مشمومة فإنها مجالس الفسق والفساد، وإضاعة الصحة والمال، وعاقبتها الندم في الدنيا والآخرة قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]
بل إن مصاحبة هؤلاء المارقين على الدين الذين يتعاطون هذه المهلكات إثم كبير، لأن الله قد غضب عليهم وعلى مجالسهم.
أيها الإخوة المؤمنون:
إن العلاج الإيماني لهو خير وقاية لمعالجة مشاكل الإدمان، وتستطيع المؤسسات الدينية مكافحة المخدرات وحماية الشباب من أخطارها، كما أن للمسجد أثراً كبيراً في توعية الناس وتوجيههم نحو أفضل السبل للوقاية من المخدرات والمسكرات، وكذلك للأسرة دور كبير في حماية أبنائها، وهذا يستلزم أن يكون الأبوان قدوة حسنة وأسوة طيبة لأبنائهما، وهو جانب من جوانب علاج المشكلة بالنسبة للأسرة.
أما الجانب الآخر فهو على الأبناء لكي يتم التفاعل بين أطراف الأسرة وذلك بالانصياع للأوامر والانقياد للتوجيه والإرشادات، وإن مما يجب التنبيه إليه أنه ما ظهرت وانتشرت هذه الظاهرة بين الشباب إلا بكثرة غيبة الأم والأب عن أبنائهما، وانشغالهما عنهم بالعمل تارة، وبالخروج من البيت وعدم الاهتمام بأولادهما تارة أخرى، والأولاد في سن المراهقة يحتاجون للرعاية والرقابة وإلى الأم التي تفضل العمل بالبيت ورعاية الأبناء.
ثانياً غياب الوعي الديني – وعدم اختيار ما تعرضه وسائل الإعلام من حملات لعلاج هذه الظاهرة في الإذاعة أو التلفاز يجب أن يوضع كل ذلك موضع الاعتبار، لذلك يجب تحسين المادة التي تعرض بحيث يكون هدفها العلاج الصحيح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24](/4)
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/5)
اطبع هذه الصحفة
من غشنا فليس منا
الحمد لله ، القائم على كل نفس بما كسبت ، ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره .
أحمده ـ سبحانه وتعالى ـ وأشكره ، وأتوب إليه ـ جل شأنه ـ وأستغفره ، وأستعينه وأستهديه ، وأعوذ به من فتنة القول كما أعوذ به من فتنة العمل ، وأسأله ـ تبارك وتعالى ـ مخافة منه تحجزني عن معاصيه، حتى أعمل بطاعته عملاً أستحق به رضاه ، وحتى أناصحه بالتوبة خشية له ، وأنصح له بالحق حباً فيه ، وأتوكل عليه في الأمور كلها ثقة به .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته أجمعين ، والتابعين لهم بخير وإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
} يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون *الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون { [ البقرة :21/22]
ويقول النبي r، وهو يبين لأمته الطريق المستقيم الذي يوصل العبد إلى الجنة ويبلغه مرضاة ربه " إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى : } يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم { وقال تعالى : } يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون { ـ ثم ذكر الرجل ، يطيل السفر أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء يارب يارب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذى بالحرام ، فأني يستجاب لذلك " [ رواه مسلم ](/1)
هذا بيان للناس أن يتخيروا لمطعمهم ومشربهم وملبسهم وما ينفقون على أهليهم مما أحل الله ، فإن لحما نبت من حرام فالنار أولى به ـ فأطب مطعمك أخي المسلم ، وتخير الطريق الذي
(2 )
تكسب منه قوتك وقوت عيالك وأهلك ، وإياك والطمع والشره ، فإنك لن تأخذ من الله عز وجل مالا يريد ، ولن تكرهه على أن يعطيك ما تتمنى ، ولكن العبد اذا سقط من عيني الله تركه يتقمم الدنيا ويأكل الجيف ، فإذا أحبه وكان أثيرا عنده حماه الدنيا ووقاه الحرام .
أما الطيب الحلال الذي أمر به الله ، فذلك الذي لا غش فيه ولا خديعة ، فلا تشارط أحداً على عمل يحب منك أن تصنعه له على شريطة معينة .. ثم تخدعه وتوارى وتخفى عنه ما يكره أن يراه .. إن أكلت المال من هذا الطريق أكلت الحرام والخبيث ولم تأكل طيباً .
وإن كنت موظفاً فاحرص كل الحرص على أن تؤدي العمل كما عهد به إليك كأنه عملك الخاص بك ، وعامل الناس بما تحب أن تعامل به ، فإن أهملت وضيعت حقوق الناس أو سوفت أو شرطت على إنجاز عملك رشوة سحتاً حراماً ، فإن أجرك وما تأخذه لا يطيب لك ـ وكيف يطيب ذلك السحت الحرام؟ .(/2)
انظر إلى نفسك حينما تعلم أنك مراقب في عملك من صاحب عمل أو مدير أو وزير ، ماذا تعمل ؟ تجد وتفرغ من عملك وتنكب عليه .. سبحان الله ! أتخشى الناس ؟ فالله أحق أن تخشاه ، تجعل لله أنداداً.. بل تجعلهم فوق الله .. فإنك لا تخافه لاتخشاه ، ولكنك تخاف الناس ، فهم في قلبك أعظم قدراً ، وأملك لنفعك وضرك من ربك في نفسك المريضة وعقلك الضعيف .. ضاع إيمانك قبل أن يضيع ثوابك في عملك ـ ولو راقبت الله لاتقيته ولم تأكل إلا طيبا .. فلا تبايع الناس ولا تشاريهم إلا وأنت مراقب لربك ، فلا تبخس الناس أشياءهم ولا تخسر الميزان .. فإن حبة تنقص من كيل أو قطرة من ميزان . لمن يفعلها الويل والعذاب .أما سمعت الله يقول :}ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم*يوم يقوم الناس لرب العالمين {[ المطففين 1:6 ]
سبحان الله ! أيجعل الله الويل والثبور لمن ينقص المكيال حبة ، ثم أنت تأكل المكيال كله ! ما يفعل الناس بصلاتك وصيامك ؟ إنما جعل الله صلاتك وصيامك وسيلة ليهذب بها نفسك ،
وسبيلاً إلى خشية ربك ، فإن نفعتك صلاتك وصيامك في معاملتك مع الناس فنعم المرء المسلم المفلح أنت ! وإلا فإن صلاتك وصيامك إن لم يعودا عليك بالخير وتهذيب النفس ومراقبة الحي القيوم،فلن تنفعك غداً شيئاً، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً،
و" من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"[ رواه الشيخان ]
( 3 )
مر النبي rبرجل يبيع طعاماً ، فأدخل يده فيه فأصابت يده بللاً فقال : ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال : أصابته السماء يريد ـ المطر ـ يا رسول الله . فقال r: فهلا وضعته فوق الطعام بحيث يراه الناس ؟ من غشنا فليس منا " [ رواه مسلم ] .
أيها المسلمون : ـ(/3)
إن الغش مرده إلى الخيانة التى تملك على الخائن نفسه ، فتدفعه إلى ظلم الناس بتخسيرهم إذا اشترى وإذا باع ـ وللأمانة المنزلة الأولى في المعاملات التجارية ، إذ أمر القرآن الكريم بإقامة الوزن بالقسط ، دون طغيان أو خسران ، لما لذلك من أثر عميق في العلائق الإنسانية ، ووحدة المجتمع وسعادته واستقامة الأمور فيه .
وليس الغش في التجارة بقاصر على نقص وزن أو كيل أو مقياس ، وإنما يتعداه إلى بخس الناس من جهة النوع ، فهناك السلعة الجيدة ، والسلعة المتوسطة الجودة ، والسلعة الرديئة ، ولا بد للبائع ان يكون أميناً فينصح للمشترين " والدين النصيحة " رواه البخاري ـ وبخاصة لأنه يتقاضى الثمن الذي يريد ، فإن رسول الله r يقول : " لا يحل لامرىء مسلم يبيع سلعة يعلم أن بها داء إلا أخبر به " [ رواه البخاري ]
وقد اتسع مجال الغش في عصرنا الحاضر ، بقدر ما اتسع نطاق التسويق وذلك للرغبة المحمومة في الربح الحرام ، والثراء العاجل ، وضعف الوازع الديني الذي يقمع الرغائب الدنيئة ، بالقناعة والرضا ، والخوف من عذاب الآخرة .
ومن الغش الذي حرم الله ، تلك الإعلانات التي تقدم بعناية ، لتغري بمعلومات كاذبة خاطئة ، في كل وسائل الإعلان والإعلام ، في التلفاز والمذياع والصحف والمجلات وغيرها ،
والذين يقدمونها درسوا وسائل التأثير النفسي على الناس ، ثم انطلقوا يسرقون أموال الناس بالباطل من كل سبيل .
وقد تنعكس الآية فيحاول المشتري خداع البائع ، استغلالاً لجهله بالأسعار أو يساومه ابتغاء غمطه حقه ، ومن المؤسف أن المساومة في البيع والشراء عادة تشيع في مجتمعاتنا ، حتى لقد أصبحت جزءاً من طابعه العام .
( 4 )(/4)
والمساومة هي أخذ ورد بين الطرفين في تحديد ثمن السلعة ، ومناقشة ترتفع بالثمن فوق معدله ، أو تنخفض به دون مستواه ، وهي مماحكة وإضاعة وقت واستهلاك تفكير ، وربما تؤدي في النهاية إلى احتكاك فشجار فخصومة ، وكثيراً ما يكون ربح المساوم في بيعه ، أو المساوم في شرائه أقل مما يقتصده لو سار على سنة الاعتدال ، في مطعمه ومشربه وملبسه ولم يك من المسرفين .
وليست المساومة والتشدد في البيع والشراء أثراً للفقر ، بقدر ما هي أثر للجشع والأنانية والغش المتبادل ، وهي نمط من تلوث النفوس ، كقذارة البدن والثياب ، التي يدعى صاحبها أن الفقر وقلة ذات اليد من ورائها ، ولكن الحقيقة تشير إلى يسر النظافة لمن أراد ، وكذلك خلق القناعة في الإنسان ، ولذلك يدعو الإسلام إلى علاج هذا الداء بالسماحة في البيع والشراء ، لأنها وسيلة إلى توثيق العلاقات بين الناس ، وإشاعة الراحة النفسية والاطمئنان ، ولا يمزق هذه العلاقات مثل القلق والتذمر والتربص من البائعين والمشترين على السواء .. يقول الصادق المصدوق r : " رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع ، سمحاً إذا اشترى ، سمحاً إذا قضى ، سمحاً إذا اقتضى " [ رواه البخاري ]
إن هذه السماحة التي أدب المسلمين بها رسول الله r وقاية من اندفاع المتعاملين نحو المنفعة المادية الطاغية على العلاقات الأخوية الإنسانية ، ومن ثم ينحدرون في التعامل إلى الغش والخداع والكذب والتحايل والضرر بأكل أموال الناس بالباطل .(/5)
كثير من الناس حين يمتحنه الله فيقدر عليه رزقه ويطول عليه الانتظار .. انتظار الفرج واليسر ، يتقحم المعاصي ولا يصبر على قضاء الله والنبي r ينهي الناس ان يغرهم الشيطان ، وأن يركبوا رءوسهم فيتعجلوا المقدور ، فلكل أجل كتاب فيقول " أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب ، فإن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على طلبه بمعصية الله ، فإن فضل الله لا ينال بمعصيته : [ رواه الحاكم وأبو نعيم ]
عباد الله اتقوا الله وأحسنوا الطعمة يبارك الله لكم في أنفسكم وأهليكم ، فإن لم تفعلوا فلا خير عندئذ في والد ولا ولد .
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
وعد الله للمسلمين بالاستخلاف والتمكين
لا أمن للمسلمين بعيداً عن الشريعة الإلهية التي جاءنا بها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) خير البرية، ومنقذ البشرية.
إن قدرنا أن ننعم في هذه الحياة بالأمن والأمان متى استقمنا على شريعة الله، وأن نحرمه ونفقده متى انحرف بنا المسار عن الله ومنهجه، وسنة الله في عباده أن الحياة لا تطيب لهم إذا فقدوا فيها الأمان، ولذلك فإننا نرى أن البشر يفرون من البلاد التي يفقد الأمن فيها إلى الديار التي تتمتع به تاركين أرضهم وديارهم وأموالهم وأوطانهم.
قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]
وعد الله للمسلمين بالاستخلاف والتمكين
الحمد لله، أجزل العطاء لعباده المؤمنين المخلصين، الذين أخلصوا دينهم لله.. وأشهد أن لا إله إلا الله، ولي المتقين، ونصير المجاهدين الصابرين، وأشهد أن محمداً رسول الله صفوة الخلق أجمعين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
لا أمن للمسلمين بعيداً عن الشريعة الإلهية التي جاءنا بها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) خير البرية، ومنقذ البشرية.(/1)
إن قدرنا أن ننعم في هذه الحياة بالأمن والأمان متى استقمنا على شريعة الله، وأن نحرمه ونفقده متى انحرف بنا المسار عن الله ومنهجه، وسنة الله في عباده أن الحياة لا تطيب لهم إذا فقدوا فيها الأمان، ولذلك فإننا نرى أن البشر يفرون من البلاد التي يفقد الأمن فيها إلى الديار التي تتمتع به تاركين أرضهم وديارهم وأموالهم وأوطانهم.
قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]
أيها المسلمون:
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه: سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد ويخضع لهم العباد، وأن يبدلهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى فله الحمد والمنة.
( 2 )
فإنه (صلي الله عليه وسلم) فتح الله عليه في حياته مكة، وخيبر، والبحرين، وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام ثم لما لقي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ربه واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق، فلم شعث ما وهي بعده (صلي الله عليه وسلم) وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس، ففتحوا طرفاً منها، وذلك بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه.(/2)
وبعث جيشاَ آخر قاده أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ومن أتبعه من الأمراء إلى أرض الشام وجيشاَ بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش من بلاد الشام بصري ودمشق وما حولها من بلاد حوران، ومن على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق ابا بكر الصديق رضي الله عنه أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعده قياماً تاماً، لم يدر الفلك بعد أبي بكر على مثله، في قوة سيرته، وكمال عدله، وتم في أيامه رضي الله عنه فتح البلاد الشامية بكاملها وديار مصر إلى آخرها وأكثر أقليم فارس، وكسر كسرى وأهانة غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده من بلاد الشام، وانحدر إلى القسطنطينية وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وصدق الله ورسوله، {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22]
أيها المسلمون:
ثم لما كانت خلافة عثمان امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سبتة، مما يلي البحر المحيط، و من ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك بفضل من الله عز وجل.
ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "إن الله ذوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، ويبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" (رواه أحمد وأبو داود)
( 3 )
أيها المسلمون:(/3)
روى الإمام أحمد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): (بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة في الدين والنصر وليمكنن في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب وأما قول الله تعالى: {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} [الآية] فقد تحقق ما قاله رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لعدي بن حاتم حين وفد عليه، أتعرف الحيرة؟ قال: لم أعرفها ولكن قد سمعت بها! قال: فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز "قلت: كسرى بن هرمز!؟، - قال نعم كسرى بن هرمز، "وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد" ( رواه البخاري ).
ولقد حدث هذا بالفعل في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز (أخرج البخاري ومسلم) من حديث قتادة عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال "بينما أنا رديف النبي (صلي الله عليه وسلم) على حمار – ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل – قال: يا معاذ: قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل: قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال أنس: ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل – قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك – قال: "هل تدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم.. قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً: قال (أي أنس) ثم سار ساعة ثم قال: "يا معاذ بن جبل": قلت: لبيك يارسول الله وسعديك قال: فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟" – قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال "فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم".
أيها المسلمون:(/4)
استمعوا معي إلى قول الله تبارك وتعالى: (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) أي فمن خرج عن طاعته بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه – وكفى بذلك ذنباً عظيماً، فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي (صلي الله عليه وسلم) بأوامر الله عز وجل، وأطوعهم لله كان نصيرهم، بحسبهم.
( 4 )
أيها الإخوة المؤمنون:
هذا وعد الله تعالى للمؤمنين، الذين يعملون الصالحات، وقد صدق وعده، وملك المسلمون مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا سادة الدنيا وقادة العالم، ووعد الله لا زال قائماً لم يتخلف ولن يتخلف، ولكن المسلمين هم الذين تخلفوا، وبعدوا كل البعد عن دائرة الضوء في كتاب ربهم وسنة نبيهم، حتى طمع فيهم عدوهم، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وهم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل، وكما قال الإمام على رضي الله عنه: ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم أغزوهم قبل أن يغزوكم فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا.
وها هم أبناؤنا في فلسطين، وفي غير فلسطين، تهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، وتنطلق الصواريخ إلى صدورهم من البر والجو، ونحن نستغيث بالعباد، لا برب العباد.
فمتى نفيق من غفلتنا، وننهض من كبوتنا، ونسترد كرامتنا؟ حتى يتحقق لنا النصر والهيبة إذا وعينا الدرس جيداً، وعدنا إلى ربنا صدقاً وعدلاً، وغيرنا ما بأنفسنا استجابة لقول الحق تبارك وتعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]
بارك الله لكم في القرآن الكريم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على من لا نبي بعده سيدنا محمد (صلي الله عليه وسلم) و على آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين
أما بعد:(/5)
ورد في سبب نزول هذه الآية الكريمة {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذي من قبلهم}
أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) مكث بمكة عشر سنين بعد ما أوحى إليه، خائفاً هو وأصحابه، يدعون إلى الله سراً وجهراً، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة – وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح، فقال رجل يا رسول الله أما يأتي علينا يوم، نأمن فيه ونضع السلاح، فقال عليه الصلاة والسلام لا تلبثوا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منك محتبياً ليس عليه حديه، ونزلت هذه الآية,.
وأظهر الله نبيه صلى الله عليه و سلم على جزيرة العرب، فوضوعوا السلاح وأمنوا.
أيها المسلمون:
إننا إذا أردنا لأنفسنا ولأهلينا ولأمتنا الخير والبر والسعادة الدائمة في الدنيا والأخوة والصبر على أعدائنا والتمكين لنا في الأرض والوفاء لنا بوعد الله أن نلتزم لله بالوفاء والصدق والاخلاص له بالدعاء، في السر والعلن.
والله تعالى أسأل أن رزقنا الأمن والأمان والسلامة والإسلام إنه ولي ذلك والقادر عليه، نعم المولى ونعم النصير، وبالإجابة جدير.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويحكم فيه بطاعتك ورضاك، اللهم وأدم صلواتك وتسليماتك على حبيبك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اللهم ارحم شهداءنا الأبرار وفك قيد اسرانا وأجعل لهم من عسرهم يسرا. اللهم احفظ بعينك التي لا تنام صاحب السمو أمير البلاد وولي عهده الأمين وأن توفقهما لما فيه صلاح الدنيا والدين وأن تشد أزرهم ببطانة صالحة تعينهم على الخير وتأخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يارب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، واجعل البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث. وقوموا إلى صلاتكم يرحمنا ويرحمكم الله.
---(/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/7)
اطبع هذه الصحفة
من كان في قلبة ذرة من كبر
اعلموا - وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه - أن الإسلام حض على التحلي بالصفات الحميدة وحذر من الصفات الذميمة، لأنها تولد العداوة والبغضاء، ومنها الكبر، وهو التعالي على الناس ومن الخصال الذميمة المحرمة، وهو مرض عضال، وداء وبيل يؤدي إلى الفرقة والعداوة، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل من صلات، لذلك نجد أن الإسلام حمل حملة صارمة على الكبر والمتكبرين، فتارة يخبرنا القرآن الكريم بأن الله تعالى يبغض المختال المعرض عن الناس كبراً وأنفه،
قال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] وتارة أخرى يخبرنا بأن المتكبر في مشيته المتباهي بمكانته المصعر للناس خده لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا. قال تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37].
من كان في قلبة ذرة من كبر
الحمد لله، يحب من عباده المتواضعين، ويكره من خلقه المتكبرين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً رسول الله، مظهر التواضع ومنبع الكمال، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الذين هداهم الله، فكانوا قادة متواضعين، وأئمة هداة مرشدين.
أما بعد:
أوصيكم وإياي - عباد الله - بتقوى الله ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي من عصيانه ومخالفة أمره قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102]
أيها الإخوة المسلمون:(/1)
اعلموا - وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه - أن الإسلام حض على التحلي بالصفات الحميدة وحذر من الصفات الذميمة، لأنها تولد العداوة والبغضاء، ومنها الكبر، وهو التعالي على الناس ومن الخصال الذميمة المحرمة، وهو مرض عضال، وداء وبيل يؤدي إلى الفرقة والعداوة، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل من صلات، لذلك نجد أن الإسلام حمل حملة صارمة على الكبر والمتكبرين، فتارة يخبرنا القرآن الكريم بأن الله تعالى يبغض المختال المعرض عن الناس كبراً وأنفه،
قال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] وتارة أخرى يخبرنا بأن المتكبر في مشيته المتباهي بمكانته المصعر للناس خده لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا. قال تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37].
( 2 )
ويحدثنا عن عاقبة المتكبر بأنه عرضة لأن يطبع الله على قلبه ويومها يحرم الهداية فلا يهتدي أبداً.
قال تعالى: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
وأكبر ما يجازى به المتكبرون أن يصرفهم الله تعالى عن فهم آياته القائمة في الآفاق وفي أنفسهم قال تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} [الأعراف: 146].
وكذلك حمل الرسول (صلي الله عليه وسلم) على التكبر وأهله حملة زاجرة فقال في الحديث الذي رواه الترمذي "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبارين" أي في قوائمهم وسجلهم، والمراد أنه يكون منهم ويحشر معهم ، ويصيبه من العذاب الأليم ما يصيبهم.(/2)
ويقول في الحديث الذي رواه مسلم "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" وهذا على سبيل التهديد والوعيد وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم أيضاً قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "قال الله عز وجل "العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما فقد عذبته".
أيها المتكبر علام التكبر وإلى متى هذا الغرور؟ وإلى متى التمادي والتعالي في الإعجاب بالنفس والحسب والنسب وحب الظهور؟ ألم تعلم أن التعالي بالحب والنسب من أمور الجاهلية التي حاربها الإسلام، وقضى على هذه العصبية التي أورثت الأحقاد وأثارت الفتن وأشعلت الحروب زمناً طويلاً ؟؟.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي ترفع بأنفها النتن" (رواه أبو دواد والترمذي بسند صحيح).
وعبيه الجاهلية: الكبر والتعاظم، والجعلان "دويبة صغيرة توجد في مزارع البقر وتجمع الروث.
وإذا كان الإسلام قد نهى وشدد النكير على الكبر والمتكبرين فقد أمرنا بالتواضع ولين الجانب مع إخواننا المؤمنين قال تعالى: آمرا رسوله(صلي الله عليه وسلم) {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
[سورة الشعراء: 215]
( 3 )
فالتواضع خلق إسلامي جميل وهو صفة من صفات عباد الله المؤمنين، وهو حلية الأنبياء والمرسلين، به تصلح القلوب وتطهر، وينال صاحبه عفو الله ورحمته ونعمته، ومن تحلى به من المسلمين عامل إخوانه برفق ولين فلا يغلظ في قول، ولا يقسو في معاملة، ويزيد رفعة عند الله والناس.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" رواه مسلم .(/3)
والتواضع من الآداب التي اتصف بها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وكان من أسباب محبة الناس له وجمعهم عليه، يقول الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159]
ولقد ضرب رسول الله (صلي الله عليه وسلم) المثل الأعلى في التواضع بعمله وقوله وتصرفاته، فهذا النبي العظيم الذي وصفه القرآن الكريم بأنه رؤوف رحيم، هذا النبي كان يسلم على الصغار، فعن أنس رضي الله عنه" أنه مر على صبيان، فسلم عليهم، وقال: كان النبي (صلي الله عليه وسلم) يفعله (متفق عليه).
ومن أمثلة تواضعه (صلي الله عليه وسلم) أنه كان يصغى للأمة فلا ينصرف عنها حتى تنصرف عنه، فعن أنس رضي الله عنه قالت: "إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي (صلي الله عليه وسلم) فتنطلق به حيث شاءت" (رواه البخاري).
ومن كمال تواضعه (صلي الله عليه وسلم) أنه كان إذا دخل بيته يكون في خدمة أهله يحلب الشاه، ويرقع الثوب ويخصف النعل، فعن الأسود بن يزيد قال: سئلت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي (صلي الله عليه وسلم) يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله يعني في خدمة أهله – فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة"
فاتقوا الله – عباد الله – واحذروا الكبر فإنه ليس من صفاتكم وأنتم العبيد الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة بل هو من صفات الإله العظيم صاحب الحول والطول، والقوة والمنعة والسلطان، خالق الأرض والسموات العلا {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الاعراف: 54].
( 4 )
اتقوا الله وتجملوا بخلق التواضع فإنه نعم الخلق العظيم، وهذبوا أخلاقكم، ونظفوا قلوبكم، وحسنوا أعمالكم، وإلا فستندمون يوم لا ينفع الندم.(/4)
قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو اقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ متكبر" (رواه الشيخان).
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل – إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، فقال النبي (صلي الله عليه وسلم): إن الله جميل يحب الجمال "الكبر بطر الحق وغمط الناس" (رواه مسلم والترمذي)
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد" (رواه مسلم وأبو داود).
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/5)
اطبع هذه الصحفة
الإيمان والعمل الصالح قرينان
لقد كانت اليهود والنصارى يقولون: [نحن أبناء الله وأحباؤه] وكانوا يقولون: [لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة] وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار.
فجاء النص القرآني يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده، ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد، هو إسلام الوجه لله – مع الإحسان – واتباع ملة ابراهيم وهي الإسلام – ابراهيم الذي اتخذه الله خليلاً (تفسير الظلال) هذا هو النص القرآني – يقول تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرلَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراًاً} [النساء: 123، 124]
الإيمان والعمل الصالح قرينان
الحمد لله الذي لا يضيع أجر المؤمنين العاملين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، قرن الإيمان بالعمل في كتابه الكريم.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خير من أسلم وجهه لله رب العالمين اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الذين ملئوا دنياهم بعمل الصالحات، فكان جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين
أما بعد:
لقد كانت اليهود والنصارى يقولون: [نحن أبناء الله وأحباؤه] وكانوا يقولون: [لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة] وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار.(/1)
فجاء النص القرآني يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده، ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد، هو إسلام الوجه لله – مع الإحسان – واتباع ملة ابراهيم وهي الإسلام – ابراهيم الذي اتخذه الله خليلاً (تفسير الظلال) هذا هو النص القرآني – يقول تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرلَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراًاً} [النساء: 123، 124]
إخوة الإسلام:
الإيمان سر من الأسرار الخفية التي يودعها الله قلب من يشاء من عباده المخلصين والإيمان الحق هو في الحقيقة نور من الله يضئ جوانب النفوس وسعادة تغمر القلوب، ويقظة تحيى الضمير،
( 2)
وشعور بالطمأنينة والركون إلى جانب الله، ولن يكون الإيمان مثمراً إلا إذا كان انطلاقاً إلى عمل جاد لصالح الفرد والأمة، ووقوفاً مع الله تعالى بإخلاص وصدق وتجرد ومن ثم نقول:
إن الإيمان من غير عمل شجرة بلا ثمر، دمية لا حياة فيها ولا حركة.
إبليس كان يعلم أن الله ربه ، وأنه لا إله إلا هو، وأن مصيره إليه يوم يبعثون، ولكنه لما كلف بالعمل حين صدر إليه الأمر الإلهي بالسجود لآدم تمرد وأبى واستكبر واعترض وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76] {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء 61]
فلم تنفعه معرفته بالله، ولم ينفعه علمه بأن البعث والمصير إلى الله.(/2)
لأن الإيمان الذي لا يستلزم الخضوع لرب العالمين لا قيمة له، ولأن المعرفة التي لا يصاحبها العمل لا وزن لها، وكان جزاؤه كما قال الله {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34، 35]
إخوة الإسلام:
إن الإيمان من غير عمل لا يفيد كذلك العمل من غير إيمان بالله لا ينفع، كبناء على غير أساس، على شفا جرف هار وكسراب بقيعة، وكهشيم تذروه الرياح، قال الله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18].
ويؤكد ذلك سبحانه فيقول {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 103، 104، 105]
أيها المسلمون:
إن الذي يقرأ القرآن بعين البصيرة لابعين البصر يدرك أن الايمان يذكر فى القرآن مقروناً بالعمل قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف 30]
( 3 )
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]
ويقول جل وعلا {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر](/3)
ويقول (صلي الله عليه وسلم): "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (رواه البخاري) وقال الحسن: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن بما وقر بالصدور وصدقته الأعمال) وقد أكد الله ذلك بقوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2, 4]
فبادروا بالأعمال الصالحة، وعيشوا لآخرتكم قبل دنياكم وفكروا بعاقبة أمركم وفى منتهاكم واعلموا أن الدنيا كسفينة تتقاذفها أمواج الحياة فترفعها تارة وتخفضها أخرى، ولا عاصم منها إلا من رحم الله، ولا يرحم الله إلا من امتثل أمره، واتبع هداه، فاتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، واذكرو وتذكروا قول الله {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
بارك الله لي ولكم في القرآن ا لكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/4)
اطبع هذه الصحفة
الحب في الله حقيقته وأثرة
إن الإسلام يسعى إلى إقامة مجتمع الجسد الواحد ، مجتمع المحبة والمودة ، وذلك لدعم أواصر الجماعة ، وتقوية الروابط بين المسلمين وفي سبيل ذلك حث الإسلام المسلمين على " الحب في الله " ورغبهم فيه .
ومعنى الحب في الله : أن يكون هذا الحب بالتزام المحب لمنهج الله ، فهو يحب الصالحين لصلاحهم ، وطاعتهم لربهم ، لا لقرابة أو نسب أو منافع مادية .
وحقيقة الحب في الله : ألا يزيد بالبر ، ولا ينقص بالجفاء .
يقول ابن عباس رضي الله عنهما : (( من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك … ))
( رواه ابن جرير )
وأبغض في الله : أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته لأجل ما فعلوه مما يسخط الله ، وإن كانوا أقرب الناس إليه كما قال تعالى :} لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم {.
الحب في الله حقيقته وأثرة
الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، وعلى كل من اقتفى أثره ، واستمسك بسنته ، وسار على طريقته ، وانتهج نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد :
فيا إخوة الإسلام :
إن الإسلام يسعى إلى إقامة مجتمع الجسد الواحد ، مجتمع المحبة والمودة ، وذلك لدعم أواصر الجماعة ، وتقوية الروابط بين المسلمين وفي سبيل ذلك حث الإسلام المسلمين على " الحب في الله " ورغبهم فيه .(/1)
ومعنى الحب في الله : أن يكون هذا الحب بالتزام المحب لمنهج الله ، فهو يحب الصالحين لصلاحهم ، وطاعتهم لربهم ، لا لقرابة أو نسب أو منافع مادية .
وحقيقة الحب في الله : ألا يزيد بالبر ، ولا ينقص بالجفاء .
يقول ابن عباس رضي الله عنهما : (( من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك … ))
( رواه ابن جرير )
وأبغض في الله : أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته لأجل ما فعلوه مما يسخط الله ، وإن كانوا أقرب الناس إليه كما قال تعالى :} لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم {..
( 2 )
ووالى في الله : فإن من أحب الله تعالى أحب فيه ، ووالى أولياءه ، وعادى أهل معصيته وأبغضهم،وجاهد أعداءه ، ونصر أنصاره ، وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها ، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه ، فلا يصح الحب في الله إلا لمن قوى بالإيمان يقينه واطمأنت به نفسه ، وانشرح له صدره ، وخالط لحمه ودمه .
فالحب في الله ثمرة من ثمار حب الله .
واعلم أيها المسلم : أن كل محبة لغير الله تكون وبالاً على صاحبها يوم القيامة قال الله تعالى :
} الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين {[ الزخرف : 67 ]
أي كل صداقة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة ، إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه .
ويتحسر يوم القيامة من يتخذ في الدنيا خليلاً يضله عن سبيل الله فيقول : } ياويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ، ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني{ [ الفرقان 28- 29 ]
إخوة الإسلام :
واعلموا أن الحب في الله والبغض في الله متلازمان ويسيران على خطين متوازيين .
فإن من أحب الصالحين لله **** لا بد وأن يبغض العاصين لله .(/2)
ومن أحب المؤمنين الموحدين **** لا بد وأن يبغض الكافرين المشركين
لذا قرن الرسول rبينهما في كثير من أحاديثه يقول r: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله " ( صحيح رواه الطبراني ) ويقول r إن أحب الأعمال الى الله تعالى الحب في الله والبغض في الله " ( رواه أحمد ) وفي حديث أبي أمامة مرفوعاً" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنح لله فقد استكمل الإيمان ( رواه أبو داود )
كما قال r " لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله ، فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان " ( رواه أحمد )
إخوة الإسلام :
إن الحب في الله يحقق مبدأ الترابط الجماعي الخالص بين المؤمنين وهو الترابط النقي من شوائب المصالح الشخصية والأهواء النفسية والشهوات المادية ، إذ هو حب لله خالص لوجهه .
( 3 )
لذا حرص الإسلام على كل ما من شأنه أن يقوي الحب في الله بين المسلمين فطلب النبي r ممن يحب أخاً له في الله أن يعلمه بذلك .
يقول r إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه " رواه الترمذي بإسناد صحيح ، كما رغب النبي في الهدية لما لها من أثر طيب في توثيق عرى المودة فقال r " تهادوا تحابوا " رواه ابو يعلي بإسناد حسن ( صحيح الجامع )
كذلك بين r طريق المحبة الذي هو طريق الجنة فقال r : " والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولن تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم "
( رواه مسلم ) .
إخوة الإسلام :
وللحب في الله آثاره الطيبة بالنسبة للفرد والمجتمع على السواء فمجتمع تسود أفراده المحبة والمودة هو مجتمع ترفرف عليه السعادة من كل جانب وتشيع فيه البهجة والسرور ، لأنه مجتمع خال من الحقد والغش والحسد كل فرد فيه يحب لأخيه ما يحب لنفسه .
كذلك يصبح هذا المجتمع مجتمع الأمن والأمان ، يأمن الإنسان فيه على نفسه وماله وعرضه ، فيعيش هادئ النفس قرين العين .(/3)
هذا بالنسبة للمجتمع … أما بالنسبة لك أنت أيها المسلم المحب في الله ، فإن الله يجود عليك من كرمه وإحسانه في الدنيا والآخرة .
فمن ثمار الحب في الله أن الله تعالى يكافئهم على ذلك بمحبة من عنده فيكونون من أحباب الله كما تحابوا فيه ، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r " أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى ، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكاً فلما أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخا لي في هذه القرية قال : هل لك عليه من نعمة تربها ؟ قال :لا ، غير أني أحببته في الله ، قال : فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه .
وإذا أحب الله عبداً أحبه أهل السماء ووضع له القبول في الأرض .
ومن ثمار الحب في الله : أن الله يجعل للمتحابين فيه منابر من نور – يوم القيامة – يغبطون عليها يقول الله تعالى في الحديث القدسي : " المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء"
( رواه الترمذي بإسناد صحيح )
( 4 )
ومن ثمار الحب في الله :
أن الله يظل المتحابين فيه في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله .
فكما في الحديث الذي رواه البخاري أن رسول الله r قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وذكر منهم – ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه " ( رواه البخاري )
ومن ثمرات المحبة في الله : أن يلحق المقصرون بالسابقين ويكونوا معهم في مراتبهم العلية يوم القيامة روى البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : " جاء رجل إلى رسول الله r فقال : يا رسول الله ، كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( المرء مع من أحب )) .
أخوة الإسلام :
وليس الحب مجرد تعبير باللسان وإنما هو إخلاص وعمل .(/4)
فمن لوازم الحب في الله أن يبذل المحب النصيحة لمن يحبه ، لأن المحب يريد لمحبوبه كل خير ، ولا يعلم المؤمن خيراً إلا أرشد من يحبه إليه ، وقدم له النصيحة الطيبة .
ولقد ضرب الرسول r بنفسه المثل في الحب في الله وتقديم النصح لمن يحبه ، فها هو r يقول لمعاذ ابن جبل : " والله إني لأحبك " ثم يوصيه وصية نافعة فيقول : " لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " ( رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح )
هذا هو الحب الصادق الخالص ، وهذه علامته ، فحرى بنا أن نتحلى بهذا الخلق " الحب في الله " وأن نقتدي بالرسول r وصحبه الكرام .
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم **** إن التشبه بالرجال فلاح
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/5)
اطبع هذه الصحفة
صور من حياة الرسول
إن رسول الله rقد كمل خلقاً وخلقاً حتى وسعت أخلاقه الناس جميعاً ، فألف القلوب حتى امتلأت بمحبته وتفانى الجميع في التأسي به والاقتداء بهديه والسير على نهجه مع أهل بيته أو مع الناس أحمعين ، ولقد وصف هند بن أبي هالة جانباً من أخلاقه فقال : ( كان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب ولا فحاش، ولا عتاب ولا مداح ( الشفا للقاضي عياض والشمائل للترمذي ) ….. ولا عجب فقد أثنى الله تعالى على أخلاقه في القرآن فقال } وإنك لعلى خلق عظيم { [ القلم : 4 ] وقال : } لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم { [ التوبة : 128 ] وقال : } وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين { [ الأنبياء : 107 ]
ولقد كان حسن الخلق في رسول الله فطرة وسجية طبعت نفسه عليها ، ولم يكن تكلفاً مصطنعاً ، أو انفعالاً طارئاً تحكمه الأحداث ، يتأثر بها ويتغير بتغيرها، ففي كرمه كان أجود بالخير من الريح المرسلة في عسره كما في يسره ، وفي عفوه كان يعفو عند المقدرة ، فلم يدع على المشركين يوم ثقيف ويوم أحد كما عفا يوم الفتح فقال : "اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
صور من حياة الرسول
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له القائل } لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً { [ الأحزاب : 21 ] ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، والسراج المنير ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين له إلى يوم الدين .
أما بعد :
فيا عباد الله :(/1)
إن رسول الله rقد كمل خلقاً وخلقاً حتى وسعت أخلاقه الناس جميعاً ، فألف القلوب حتى امتلأت بمحبته وتفانى الجميع في التأسي به والاقتداء بهديه والسير على نهجه مع أهل بيته أو مع الناس أحمعين ، ولقد وصف هند بن أبي هالة جانباً من أخلاقه فقال : ( كان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب ولا فحاش، ولا عتاب ولا مداح ( الشفا للقاضي عياض والشمائل للترمذي ) ….. ولا عجب فقد أثنى الله تعالى على أخلاقه في القرآن فقال } وإنك لعلى خلق عظيم { [ القلم : 4 ] وقال : } لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم { [ التوبة : 128 ] وقال : } وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين { [ الأنبياء : 107 ]
ولقد كان حسن الخلق في رسول الله فطرة وسجية طبعت نفسه عليها ، ولم يكن تكلفاً مصطنعاً ، أو انفعالاً طارئاً تحكمه الأحداث ، يتأثر بها ويتغير بتغيرها، ففي كرمه كان أجود بالخير من الريح المرسلة في عسره كما في يسره ، وفي عفوه كان يعفو عند المقدرة ، فلم يدع على المشركين يوم ثقيف ويوم أحد كما عفا يوم الفتح فقال : "اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
( 2 )
وصدق من قال عنه }لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم {[ التوبة:128 ]وعن الحسن قال: سئلت عائشة عن خلق رسول الله rفقالت:
" كان خلقه القرآن " ( رواه أحمد ) .
أيها الإخوة المؤمنون :
لقد تجلت هذه الأخلاق السامية في رسول الله داخل بيته في تعامله مع أزواجه ، هذا الجانب من حياته نحن اليوم في أمس الحاجة إلى تطبيقه والالتزام به ، ليعود البيت المسلم واحة للمودة والرحمة ويصبح مرة أخرى البيئة الصالحة التي تنشئ الأجيال المؤمنة ، والتي ترفع لواء الدين وتعلي شأن الأمة وتحفظ ميراث الآباء والأجداد ، ولنعلم أن الأخلاق الفاضلة إن لم تؤت ثمارها داخل البيت فلن تثمر خارجه .(/2)
ولقد بلغنا رسول الله r عن الله تعالى قوله : } وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً { [ النساء : 19 ] والمعاشرة بالمعروف ليست ضعفاً في الرجل ، ولا تنازلاً عن قوامته، ولكنها حكمة في إدارة البيت ، وسعة صدر في معالجة مشكلات الحياة اليومية ، وشفقة ورحمة على الزوج والولد ، ومودة ولطف في معاملتهم بعيداً عن الجفاء والأذى مما يقوي الرابطة ويوثق العلاقة الزوجية ، ورسولنا r خير مثال يحتذى ..لقد كان في بيته يرعى شئون نفسه ، ويصنع حاجته بيده ، ويشارك أهل بيته شئونهن .
لقد كان r على هيبته ووقاره وعلو قدره ومكانته جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله ويتلطف بهم ويضاحك نساءه حتى بلغ في تلطفه بهن والتودد إليهن أن سابق إحداهن تقول عائشة: سابقني رسول الله r فسبقته على رجلي ، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال : " هذه بتلك السبقة " ( رواه أحمد وأبو داود )
بل كان في المناسبات يسمح لهن بشئ من اللهو المباح دفعاً للملل والسآمة عن النفس ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : " دخل على رسول الله وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال : " مزمارة الشيطان عند النبي، فأقبل عليه النبي فقال دعهما ، فلما غفل غمزتهما فخرجتا ، وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب فإما سألت النبي وإما قال : " تشتهين تنظرين " فقلت : نعم فأقامني وراءه ،
( 3 )
خدي على خده ، وهو يقول:"دونكم يا بني أرفده "حتى إذا مللت قال حسبك ؟ قلت : نعم قال فاذهبي" ( رواه البخاري )
أيها المسلمون :(/3)
لو نظرنا في معاملته r للأبناء والأحفاد فسنجده أعظم الناس بالولد رحمة ورقة وشفقة وحنوا ، ففي زحام شواغله بأمور الأمة وتدبير شئونها ، ورغم هموم الدعوة وثقلها نجده rيذهب إلى ولده إبراهيم في بيت مرضعته ليحمله ويضمه ، ويشمه ويقبله ، حتى يتعلم الآباء كيف تكون الرحمة بالأبناء حتى يشبوا رحماء فعن أنس قال : " كان النبي r أرحم الناس بالعيال ، وكان له ابن مسترضع في ناحية المدينة وكان ظئره قيناً ، وكنا نأتيه وقد دخن البيت بإذخر فيقبله ويشمه "
( رواه البخاري )
وقد كان حفيده الحسن يدخل عليه في مجلسه مع الرجال فيدنيه ويقبله ، تعليماً للكبير وتربية للصغير ، فعن أبي هريرة : " أن النبي r قبل الحسن فقال له الأقرع بن حابس إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً فقال r من لا يرحم لا يرحم " ( متفق عليه )
بل أكثر من ذلك لقد قطع الخطبة يوم الجمعة ونزل ليحمل حفيديه ، لما رآهما يتعثران وهما يمشيان في المسجد رحمة وشفقة .. فعن بريدة قال : ( كان رسول الله يخطبنا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال : صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة ،نظرت هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " ( رواه الخمسة )(/4)
بل كان حفيده يأتيه وهو يؤم المسلمين في الصلاة فيلعب على ظهره وهو ساجد فيطيل السجود حتى يفرغ الصبي وينتهي ، فعن عبدالله بن شداد عن أبيه قال : "خرج علينا رسول الله rفي إحدى صلاة العشى " الظهر أو العصر ، وهو حامل الحسن أو الحسين فتقدم النبي فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى ، فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها قال : إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله وهو ساجد فرجعت في سجودي ، فلما قضى رسول الله الصلاة قال الناس يا رسول الله : إنك سجدت بين ظهري الصلاة سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك ؟ قال : كل ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته " ( رواه أحمد والنسائي والحاكم ) .
( 4 )
ويحمل أمامة ابنة ابنته زينب فيضعها على عاتقه وهو يصلي فإذا ركع وضعها بين يديه وإذا قام من سجوده أعادها على رقبته ( كما رواه أحمد والنسائي عن أبي قتادة ) إنها دروس للآباء حتى لا تلهيهم أمور الحياة وشواغلها عن رعاية الأولاد والوفاء بحقهم في العطف والشفقة والرحمة وحسن الرعاية ،
أما عن معاملته r لخدمه فقد تعامل رسول الله مع الخدم على أنهم بشر ، لهم شعورهم وحسهم الإنساني ، وإذا كانت أقدارهم قد جعلتهم خدماً فإن ذلك لا يعني أنهم فقدوا إنسانيتهم ، أو تجردوا منها والقاعدة التي بلغها عن الله تعالى هي }يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم {الحجرات:13
وهكذا يعلم البشرية كيف تكون حقوق الإنسان : عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي r قال :
" هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم " ( رواه البخاري ومسلم )(/5)
بل تزداد الصورة إشراقاً ونحن نتأمل ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه إذ يقول : " خدمت رسول الله r عشر سنين فما قال لي أف قط ولا قال لي لشئ فعلته لم فعلته ولا لشىء لم أفعله ألا فعلته ؟ وكان رسول الله r أحسن الناس خلقاً ، ولا مسست خزا ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله ، ولا شممت مسكاً ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله "
( البخاري ومسلم )
هذا هو هدى رسولنا الأسوة الحسنة لمن كان يريد سعادة الدنيا والدرجات العلي في الآخرة وما أحوج أمة الإسلام اليوم لأن تتخلق بأخلاقه وتتأسى بأفعاله ، لتقيم بيوتاً عامرة بالإيمان ، رباطها المودة والرحمة وغرسها جيل مؤمن ينشر الخير ويقيم صرح السعادة للأمة وللبشرية كلها ..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
حسن العشرة يؤدي إلي سعادة الأسرة
إن العلاقة الزوجية علاقة عميقة الجذور ، بعيدة الآماد ، فهي أشبه ما تكون بصلة المرء بنفسه لقوله تعالى : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ( [ البقرة : 187 ]
وإن مما يساعد على المحافظة على العلاقة الزوجية المعاشرة بالمعروف ، وهذا لن يتحقق إلا بمعرفة كل طرف ما له وما عليه من الحقوق والواجبات لقوله تعالى ) ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف (
[ البقرة : 228 ] ولقوله تعالى ) وعاشروهن بالمعروف ( [ النساء : 19 ] ولقوله " ألا إن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ، فحقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن " ( رواه ابن ماجة والترمذي بسند صحيح ( ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس معاشرة لأزواجه ، وأحسن الناس رفقاً بهن وتسامحاً معهن ، وقد كان يبدو من بعضهن أحياناً ما يبدو من أي امرأة أخرى فما يغضب ولا يؤاخذ ولكن يعفو ويصفح ، يؤكد ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكمل المؤمنين أيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم " ولقوله أيضاً : " استوصوا بالنساء خيراً " ( متفق عليه )
فليعرف كل منا حق زوجته ، وفي المقابل ينبغي على الزوجة أن تعرف حق زوجها ويلتزمان بالقيام به لتدوم المحبة والسعادة ، وتقوى الروابط الأسرية .
فإذا كنا مطالبين بحسن معاملة الأجانب فإن أقرب الناس ألينا أحق بذلك وأولى مثل الوالدين والولد والزوجة ، ولو أنك مازحت زوجتك تبتغي إدخال السرور عليها لوجه الله لكان ذلك حسنة توضع في ميزان حسناتك يوم القيامة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد ابن أبي وقاص " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك " ( متفق عليه )(/1)
حسن العشرة يؤدي إلي سعادة الأسرة
الحمد لله رب العالمين ، خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهرا، وجعل في العلاقة الزوجة مودة ورحمة وبراً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد : -
فإن الزواج من أسمى نعم الله على عباده ، وسنة من سنن الإسلام ، لما فيه من معان نفسية واجتماعية ودينية ، فهو عماد الأسرة الثابتة التي تلتقي الحقوق والواجبات فيها بتقديس ديني يشعر فيه الشخص بأن الزواج رابطة مقدسة ، تعلو وتسمو بها إنسانيته وهو العماد الأول للأسرة التي هي الوحدة الأولى لبناء المجتمع ، فإن كانت قوية كان المجتمع قويا، وهو الراحة الحقيقية للرجل والمرأة على السواء وفي ذلك يقول تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )[ الروم : 21 ] .
وإن الأسرة لن تكون قوية ومتماسكة إلا من خلال الاختيار على أساس الدين ، فالرجل الذي يحافظ على الالتزام بتعاليم الإسلام ومبادئه حري به أن يبحث عن امرأة ذات دين ، وهذا أدعى وأرجى لحياة زوجية كريمة ، تقوم على الألفة والمحبة ، لقوله تعالى : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) [ النور: 32 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( فاظفر بذات الدين تربت يداك ) . ( متفق عليه )
الإخوة المسلمون :
إن العلاقة الزوجية علاقة عميقة الجذور ، بعيدة الآماد ، فهي أشبه ما تكون بصلة المرء بنفسه لقوله تعالى : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ( [ البقرة : 187 ]
وإن مما يساعد على المحافظة على العلاقة الزوجية المعاشرة بالمعروف ، وهذا لن يتحقق إلا بمعرفة كل طرف ما له وما عليه من الحقوق والواجبات لقوله تعالى ) ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ((/2)
[ البقرة : 228 ] ولقوله تعالى ) وعاشروهن بالمعروف ( [ النساء : 19 ] ولقوله " ألا إن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ، فحقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن " ( رواه ابن ماجة والترمذي بسند صحيح ( ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس معاشرة لأزواجه ، وأحسن الناس رفقاً بهن وتسامحاً معهن ، وقد كان يبدو من بعضهن أحياناً ما يبدو من أي امرأة أخرى فما يغضب ولا يؤاخذ ولكن يعفو ويصفح ، يؤكد ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكمل المؤمنين أيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم " ولقوله أيضاً : " استوصوا بالنساء خيراً " ( متفق عليه )
فليعرف كل منا حق زوجته ، وفي المقابل ينبغي على الزوجة أن تعرف حق زوجها ويلتزمان بالقيام به لتدوم المحبة والسعادة ، وتقوى الروابط الأسرية .
فإذا كنا مطالبين بحسن معاملة الأجانب فإن أقرب الناس ألينا أحق بذلك وأولى مثل الوالدين والولد والزوجة ، ولو أنك مازحت زوجتك تبتغي إدخال السرور عليها لوجه الله لكان ذلك حسنة توضع في ميزان حسناتك يوم القيامة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد ابن أبي وقاص " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك " ( متفق عليه )
الإخوة المسلمون :
إن المعاملة الحسنة بين الزوجين سبب لسعادتهما ولحصول المودة والرحمة بينهما وحصول الذرية الصالحة منهما ، مما يكون له أكبر الأثر في التواصل والتراحم .(/3)
وفي ظل هذه المعاملة الكريمة ترفرف على البيت رايات السعادة ويشعر المرء براحة البال من خلال الزوجة الصالحة التي تعينه على أمر دينه وتقوم بتربية أولاده تربية إيمانية ، الأمر الذي يؤدي إلى حلول البركة في المال والولد ) من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) [ الطلاق 2-3]
فإن استقرار الحياة الزوجية غاية من الغايات التي يحرص عليها الإسلام ، وعقد الزواج إنما يعقد للدوام والتأبيد ليتسنى للزوجين أن يجعلا من البيت مهداً يأويان إليه ، وينعمان في ظلاله ، وليتمكنا من تنشئة أولادهما تنشئة كريمة .
وإذا كانت العلاقة الزوجية موثقة فإنه لا ينبغي الإخلال بها ولا التهوين من شانها ، نظراً لأهميتها يقول تعالى : (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ) [ النساء : 21 ]
أيها المسلمون :
إن العلاقة الزوجية قد يطرأ عليها بعض المشاكل والتي من الممكن أن تحل في سهولة ويسر ، ولكن هذه المشاكل تزداد تعقيداً نظراً لضعف الوازع الديني ، وعدم التحلي بالأخلاق الفاضلة .
فكم من زوج لا يحسن معاملة زوجته فتراه جامداً مستبداً برأيه ، معتقداً أن الحق له في كل ما يفعل ، ولا يسمع منه إلا البذيء من الكلام إضافة لضربه لزوجته ضرباً مبرحاً على مرأى ومسمع من الأولاد والجيران .(/4)
وكم من زوجة ساء خلقها فلا تطيع زوجها إذا أمر ، ولا تحسن الحديث معه وربما تتبادل معه السباب ، الأمر الذي يؤدي إلى التفكك الأسري وضياع الاولاد ، وإذا حدث شقاق بين الزوجين فليعالج كما أمر الله ، ورسوله لا كما يحكم الهوى ويأمر الشيطان ، والقرآن الكريم قد عالج هذا الموضوع معالجة حكيمة على النحو الآتي : - إذا كان الشقاق من المرأة فعلى الرجل أن يعظها ويذكرها بواجبها نحوه ، وإن يخوفها من عذاب الله فإن استجابت وإلا يهجرها في المضجع فإن لم يفد ذلك ضربها ضرباً غير مبرح ولا يضرب الوجه لقوله تعالى : ) واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ([ النساء : 34 ]
ولقوله صلى الله عليه وسلم : " ولا تضرب الوجه ولا تهجر إلا في البيت " ( رواه أبو داود ) ، وإذا كان الشقاق من الرجل او منهما معاً فإن الشرع يأمر ببعث حكم من أهل الرجل وحكم من أهل المرأة يلتقيان فيحاولان الإصلاح فإن لم يفد ذلك فلا مانع من الطلاق لقوله تعالى : ) وإن أمرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً ) [ النساء : 128 ] ولقوله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ) [ النساء : 25 ] وإذا كان الطلاق هو آخر الحلول بالنسبة للشقاق بين الزوجين فيقول الحق سبحانه وتعالى : ( وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته وكان الله واسعاً حكيماً) [النساء130 ]
والزوجة التي تطلب الطلاق من غير سبب ولا مقتض حرام علبها رائحة الجنة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ) رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذى
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم .
---(/5)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
رمضان شهر القرآن
إن الله تعالى قد خص أمة الإسلام بفضائل متنوعة ، منها اصطفاء هذه الأمة لتكون كما قال جل وعلا: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ( [ آل عمران : 110 ] ومنها أنه اختصنا بصيام رمضان الذي هو أفضل شهور السنة والذي سيطل علينا بأنواره وبركاته بعد أيام ، نسأله جل وعلا أن يبلغنا رمضان وأن يهل هلاله على الأمة الإسلامية باليمن والبركات والسلامة والإسلام والتوفيق إلى ما يحب ويرضى ، ومنها أن اختار لنا أفضل الشرائع وأفضل الرسل وأفضل الكتب بل وأعد لنا بإذنه أفضل المنازل من الجنة ) نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ( [ يوسف 56 ]
عباد الله :
هذا والعمل الصالح في شهر رمضان كثير ومتنوع ومضاعف الأجر والثواب حتى قال رسولنا صلى الله عليه وسلم " عمرة في رمضان تعدل حجة معي " ( صحيح الجامع 4098 )
رمضان شهر القرآن
الحمد لله رب العالمين ، نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً وقال في شأنه : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) أحمده وأشكره وأستعين به وأستغفره وأسأله جل شأنه أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، وأصلي وأسلم على خير خلقه وإمام أنبيائه وسيد أصفيائه سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين بإحسان .
أما بعد :
فيا أيها المسلمون :(/1)
إن الله تعالى قد خص أمة الإسلام بفضائل متنوعة ، منها اصطفاء هذه الأمة لتكون كما قال جل وعلا: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ( [ آل عمران : 110 ] ومنها أنه اختصنا بصيام رمضان الذي هو أفضل شهور السنة والذي سيطل علينا بأنواره وبركاته بعد أيام ، نسأله جل وعلا أن يبلغنا رمضان وأن يهل هلاله على الأمة الإسلامية باليمن والبركات والسلامة والإسلام والتوفيق إلى ما يحب ويرضى ، ومنها أن اختار لنا أفضل الشرائع وأفضل الرسل وأفضل الكتب بل وأعد لنا بإذنه أفضل المنازل من الجنة ) نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ( [ يوسف 56 ]
عباد الله :
هذا والعمل الصالح في شهر رمضان كثير ومتنوع ومضاعف الأجر والثواب حتى قال رسولنا صلى الله عليه وسلم " عمرة في رمضان تعدل حجة معي " ( صحيح الجامع 4098 )
افترض الله علينا صيام الشهر وسن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه ، فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، كما أن لله فيه عتقاء من النار وذلك كل ليلة ، يكثر الناس فيه من الكرم والجود وتكثر دواعي الخير وتقل دواعي الشر وتسلسل فيه مردة الجن والشياطين ، من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر فيه غفر له ما تقدم من ذنبه ، صحت بذلك الآثار عن النبي المختار عليه الصلاة والسلام ، فاللهم بلغنا رمضان وامنحنا فيه التوفيق والغفران .
عباد الله :
يقول الله جل وعلا : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) [ البقرة : 185 ](/2)
دل ذلك على أن من أهم خصائص شهر رمضان أنه نزل فيه القرآن بل إن شهر رمضان هو شهر القرآن ، لذا فإن من أقرب القربات وأعظم الصالحات أن يستثمر المسلم وقته بالقرآن في شهره ، مع مراعاة تلاوته حق التلاوة والقيام به بين يدي الله عز وجل ، فيجعل كل منا ورداً من القرآن يقرؤه يومياً بما لا يقل عن جزء من الثلاثين ليتسنى له ختام القرآن ولو مرة في هذا الشهر مع مراعاة آداب تلاوته قال تعالى:( ورتل القرآن ترتيلاً ) [ المزمل : 4 ] وقال جل وعلا: ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [ محمد : 24 ]
فيقرأ القرآن يرتله ، ولا بد من حضور القلب عند تلاوته والخشوع بين يدي من تناجيه بكلامه سبحانه " ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) [ ق : 37 ]
ويستحب عند التلاوة أن يكون المسلم على أكمل حالات الطهارة مستقبلاً القبلة
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن يمد به صوته ، ويقف على رؤوس الآي ، عن حذيفة رضي
الله عنه قال : " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم
مضى : فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ …. " الحديث ( رواه مسلم وأحمد )
وقد كان السلف رضي الله عنهم يقرؤون القرآن فيتأثرون به أيما تأثر سواء فيما يحصل في الصدور من النور وانشراح الصدور أو من ذرف العبرات من خشية الله أو في واقعهم العملي ، يقرؤون القرآن فيصدقون خبره ويرغبون في وعده ويرهبون من وعيده ويمتثلون أومره ويجتنبون زواجره ولا يتخطون حدوده لذلك نفعهم الله بالقرآن ورفعهم به فعلينا أن نكون مثلهم ونتشبه بهم لأن التشبه بالكرام فلاح .
عباد الله :(/3)
هذا رسولنا الكريم عليه الصلاة وأزكى التسليم يطلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن الذي عليه أنزل لكونه صلوات ربي وسلامه عليه يحب أن يسمعه من غيره فيقرأ ابن مسعود من سورة النساء إلى قوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) [ النساء: 41 ] فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له حسبك الآن يا ابن مسعود ، يقول ابن مسعود فنظرت فإذا بعيني رسول الله تذرفان !
فهلا جلسنا في المساجد واجتمعنا على كتاب الله قراءة ومدارسة مع البكاء أو التباكي أمام آيات الله المعجزة لفظاً ومعنى وأحكاماً وتأثيراً،قال تعالى: ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم،ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ، ومن يضلل الله فما له من هاد ) [ الزمر : 23 ]
وقال جل ذكره : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) [ الحشر : 21 ]
أوصيكم ونفسي عباد الله بالقرآن في شهر القرآن تلاوة وتدبراً ومدارسة وحفظاً ومراجعة وعملاً وعلماً وتعليماً لعل الله أن يجعله حجة لنا لا علينا .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ، يقول في حق كتابه العزيز ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) [ المائدة : 15 ،16 ] والصلاة السلام على نبينا محمد ، كان إذا قرأ القرآن يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من شدة بكائه ، ورضي الله عن صحابته الأطهار ، خير من تدبروا القرآن وقاموا به بين يدي الرحمن .
عباد الله :(/4)
إن في سير الصالحين ما يحدونا إلى الاجتهاد في تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته والعمل به والنصح له والتأثر به ، فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان إذا قرأ القرآن لا يكاد يسمع صوته من البكاء ، وعمر رضي الله عنه وعثمان وغيرهم كان لهم مع القرآن شأن ، فمنهم من كان يختم القرآن كل ليلة أو كل ثلاث ليال فعلينا أن نكون على الأثر لعل الله تعالى أن يمن علينا كما من عليهم بكرامة الدنيا والآخرة ، ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا منه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبد ذلك الفوز العظيم ) [ التوبة : 100]
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم وأنفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم واجعله لقلوبنا نوراً ولقبورنا ضياء ، وإلى الجنة قائداً ، ومن النار مخلصاً ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ، اللهم آمنا في أوطاننا ووفق أئمتنا وولاة أمورنا لما فيه صلاح العباد والبلاد واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين .
اللهم احفظ سمو أمير البلاد المفدى وولي عهده الأمين ، وسلم أسرنا وردهم سالمين . .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/5)
اطبع هذه الصحفة
أثر العبادات في الحماية من المعاصي
فإنا نحمد الله الذي أكرمنا بشهر رمضان شهر الصيام والقيام والجود والإحسان والغفران ، قال تعالى: ) شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) [ البقرة : 185 ]
أوصيكم ونفسي عباد الله باغتنام الشهر بفعل الصالحات وأن نهيئ أنفسنا لما فيه من النفحات والبركات تحصيلاً للأجر والتقوى ومغفرة لسالف ذنوبنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " ( متفق عليه )
أثر العبادات في الحماية من المعاصي
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى يقول جل شأنه : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) [ الأنعام : 125 ]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،( تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً ) [ الإسراء : 44]
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فأخرج الله بدعوته الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين واجزه اللهم عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته
أما بعد : -
فإنا نحمد الله الذي أكرمنا بشهر رمضان شهر الصيام والقيام والجود والإحسان والغفران ، قال تعالى: ) شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) [ البقرة : 185 ](/1)
أوصيكم ونفسي عباد الله باغتنام الشهر بفعل الصالحات وأن نهيئ أنفسنا لما فيه من النفحات والبركات تحصيلاً للأجر والتقوى ومغفرة لسالف ذنوبنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " ( متفق عليه )
عباد الله :
لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته قال سبحانه ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ]
ولم يقهر الله الخلق على العبادة ، وإنما تركها لإرادة العبد ليستحق الطائع الثواب ، وينال العاصي أشد العقاب قال سبحانه : ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )[ الكهف : 29 ] والعبادة حق الله على عباده قال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) [ النساء : 36 ]
بل إن العبادة هي المهمة الأساسية التي خلق الله الناس لها وعلى الإنسان أن يجاهد نفسه حتى تألف العبادة وتحبها،ولا تجد مشقة في أدائها، والعبادة تطهير للمسلم وتقرب إلى الله عز وجل وإبعاد للشيطان الذي توعد بني آدم جميعاً بأن يغويهم ويضلهم فقال ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) [ ص 82،83 ] .
والمتتبع للعبادات التي أمرنا الله عز وجل بها يجد أنها تنفع المسلم مادياً وروحياً ولا عجب في ذلك فقد خلق الله الإنسان من المادة والروح قال سبحانه : ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )[ ص : 71 ، 72 ]
والصلاة يسبقها الوضوء وهو طهارة مادية وروحية وهو لازم للصلاة وتلاوة القرآن والطواف حول الكعبة المشرفة والمكث في المسجد وقد بين الله عز وجل الغرض من الوضوء بقوله سبحانه : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) [ المائدة : 6 ](/2)
ثم إن الصلاة تطهر المسلم من الذنوب وتغسله من المعاصي فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما وهي تجعل المسلم في طاعة دائمة لله عز وجل وتصرفه عن الغفلة والمعصية قال سبحانه ( اتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر( [العنكبوت : 45 ]
والله سبحانه وتعالى يأمرنا بالصلاة في كثير من آيات القرآن الكريم والمتتبع لهذه الآيات يجد أن الصلاة تذكر في مجال القرب من الله عز وجل .
كما تأتي علاجاً لهوى النفس وانشغالها بخير الدنيا وجزعها عند نزول الشر فيكون المداوم على صلاته تأتياً بحمد الله على النعمة ولا يغتر بها فينسى فضل الله عليه ولا ييأس من رحمة الله إذا مسه ما يكره ولكن يصبر ويأمل فرج الله وعفوه يقول تعالى (إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعاً *وإذا مسه الخير منوعاً*إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون) [ المعارج:23:19]
والصلاة تذهب الخطايا وتمحو السيئات فيقول سبحانه : (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) [ هود : 114 ] ولهذا يجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بمثابة الماء الذي يغسل ما على الجسم .
يروي البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شئ ؟ قالوا لا يبقى من درنه شئ قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا “
ومن شرف الصلاة أن فرضها الله عز وجل ليلة الإسراء والمعراج والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام القرب من رب العزة عز وجل إشارة إلى إن الصلاة ترفع المصلى إلى مقام القرب والرفعة عند ربه عز وجل
ومن العبادات التي فرضها الله عز وجل علينا الزكاة وهي أحد أركان الإسلام وقد جعلها الله عز وجل طهارة للمال ولصاحبه قال سبحانه : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) [ التوبة : 103 ] .(/3)
والإسلام دين الإخاء والتكافل لهذا جعل الله في أموال الأغنياء حقاً للفقراء تقضي منه حاجاتهم ويحفظ الله النعمة على صاحبها بالزكاة ويدفع عنك بسبب الزكاة آفات المال فيحفظ الله المال من التلف أو الضياع أو ذهاب البركة وإذا لم تؤد الزكاة وأكلها الأغنياء ضاع المال ولم يكسب أصحابه إلا الحسرة والندم كما حدث لأصحاب الجنة في سورة القلم .
قال تعالى : (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين *ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم * فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون * قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون * قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلومون * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين * عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون) [ القلم : 32:17 ]
ومن العبادات الصيام وهو يحقق التقوى ويجعل المؤمن يحسن مراقبة الله عز وجل إلا لا يعلم بحال الصائم إلا الله سبحانه قال سبحانه وتعالى ) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( [ البقرة : 183 ] ولهذا كان جزاء الصائم متروكاً لله سبحانه فهو ليس مثل غيره من الطاعات فكل الطاعات الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فيتولى الله عز وجل
جزاء الصائم وتقدير ثوابه فعن أبي هريره رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا اجزي به والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم * والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحها إذا أفطر فرح وإذا لقى ربه فرح بصومه " ( متفق عليه واللفظ للبخاري )(/4)
والصيام يقوي الإرادة ويعلم المسلم مراقبة الله عز وجل فلا يفعل إلا ما يرضي ربه والصائم عف اللسان ، يتحرى الحلال الطيب من الطعام والشراب ولا يمتد بصره إلى ما حرم الله عز وجل ، ولا يسمع إلا ما يباح سماعه من الوعظ والذكر والكلام الطيب الذي لا غيبة فيه ولا نميمة فيترفع الصائم عند النقائض والذنوب لهذا يغفر الله عز وجل له فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من صام رمضان إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " ( متفق عليه البخاري 1901 )
ومن العبادات التي فرضها الله عز وجل الحج وهو أيضاً من أركان الإسلام وهو فريضة على القادر عليه قال سبحانه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً)[ آل عمران : 97 ] والحاج يترفع عن النقائص ويخرج عن أهله وماله وبلده لا يبتغي إلا مرضاة ربه عز وجل
يقول الله تعالى : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) [ البقرة : 197 ] والحاج يرجع من حجه وقد غفر الله له كل ذنوبه فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " ( البخاري : 1521 )
فالعبادات كلها طهارة للمسلم وعون له على طاعة ربه عز وجل ورفع لدرجته عند ربه وحماية له من الزلل والخطأ وتحقيق لصد إيمانه بربه سبحانه وتعالى وحماية من الشيطان ومن هو النفس
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا .
التائب من الذنب كمن لا ذنب له أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله ربه رحمة للعالمين فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين .
أما بعد :(/5)
فأوصيكم أيها الاخوة المؤمنون بتقوى الله في السر والعلن وأحذركم وإياي من الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأسأل الله أن يصلح أحوالنا وأن يقوي إيماننا وأن يوفقنا لحسن طاعته .
اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا ديناً إلا قضيته ولا مريضاً إلا شفيته ولا ميتاً إلا رحمته ولا ضالاً إلا هديته ولا ظالماً لعبادك إلا أخذته وأهلكته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا ولنا صلاح إلا قضيتها لنا يا أرحم الراحمين يا رب العالمين ، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام وتنصر المسلمين اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين .
اللهم احفظ بعينك التي لا تنام صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين ، اللهم ارحم شهداءنا وفك قيد أسرانا وأسرى المسلمين، واسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
عطاء الله للصائمين
إن شهر رمضان المبارك هو شهر الجود والإحسان ، ومدارسة القرآن ، فهو شهر خير وبركة ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " ( رواه البخاري ومسلم )
فهذا الشهر يزاد فيه رزق المؤمن ، وتكثر الخيرات ، وترتفع الدرجات وتفتح فيه ابواب السماء وأبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتصفد الشياطين فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين " ( رواه البخاري ومسلم ) .
عطاء الله للصائمين
الحمد لله المتصف بصفات الكمال ، المنعوت بنعوت الجلال ، الذي علم ما كان وما يكون وما هو كائن في الحال والمآل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله تحبب إلى عباده بنعمه وآلائه ، وابتدأهم سبحانه وتعالى بإحسانه العميم وعطائه العظيم ، فله سبحانه الحمد والشكر ، والنعمة والفضل ، والخلق والأمر ، والثناء الجميل ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الطيب الروح والجسد ، سيد ولد آدم ، وأفضل من صام وقام وركع وسجد ، صلى الله وسلم وبارك عليه كلما ذكره الذاكرون ، وغفل عن ذكره الغافلون
أما بعد : -
أيها المسلمون :
إن شهر رمضان المبارك هو شهر الجود والإحسان ، ومدارسة القرآن ، فهو شهر خير وبركة ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " ( رواه البخاري ومسلم )(/1)
فهذا الشهر يزاد فيه رزق المؤمن ، وتكثر الخيرات ، وترتفع الدرجات وتفتح فيه ابواب السماء وأبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتصفد الشياطين فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين " ( رواه البخاري ومسلم ) .
أيها الإخوة المؤمنون :
إن من أبرز الآثار التي يتركها الصوم بالصائم ازدياد تعلقه بالخير ، وشغفه بالعبادة ، وتلاوة القرآن ، هذا الشهر العظيم تصفو فيه النفوس إلى بارئها وتكون الروح خير ميدان للتنافس على
نفحات الفضل الإلهي .
أجل إن الله تعالى شرع لنا الصيام لنجني ثمرته العظيمة وهي التقوى التي تنير للمؤمن طريق حياته ، فلا يضل ولا يشقى ، كما نجني إلى جانب التقوى كثيراً من المنافع الدينية ، والاجتماعية ، والصحية ، والنفسية ، والخلقية ، والاقتصادية .
أخي المسلم :
اعلم علم اليقين أن الله يتولى جزاء الصائمين ، فالله وحده يتولى الجزاء ، وإضافة الجزاء على الصيام إلى نفسه الكريمة تنبيه على عظم أجر الصيام وأنه يضاعف عليه الثواب أعظم من سائر الأعمال وكل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لله وحده ، وهو الذي يجزي به .
والصيام وقاية للنفس من الشهوات والشرور والآثام ، وللصائم فرحتان : فرحة بعد أن ينتهي يوم الصيام ويفطر ، وفرحة أكبر بعد أن ينتهي العمر ويلقى ربه الكريم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل : "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ، فإنه لي وأنا أجزي به " ( رواه البخاري ومسلم )
أخي المسلم :
إن جوهر الصيام الحقيقي ليتم عطاء الله للصائمين ، هو الإمساك عن الرذائل والقبائح ، والتحلي بالأخلاق الحميدة والعمل الطيب الصالح ، والصوم مدرسة للنفس وصحة للبدن ، يتلقى الصائم فيه دروساً عملية في الصبر وقوة الإرادة .
إخوة الإيمان :(/2)
إن ليلة واحدة في هذا الشهر الكريم خير من ألف شهر ألا وهي ليلة القدر التي نزل فيها أعظم الكتب على أفضل الرسل قال تعالى : ( إنا أنزلنه في اليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر ) [ القدر : 1-3 ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه " أتاكم رمضان شهر مبارك ، فرض الله عز وجل عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب السماء ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ،
وتغل فيه مردة الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها ، فقد حرم " ( رواه النسائي ) .
إنه شهر رمضان الذي جعل الله تعالى صيامه أحد أركان الإسلام حيث يقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام * كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )
[ البقرة : 183 ]
لقد شرع الله الصيام في شهر رمضان تكريماً لأمة الإسلام وتمييزاً لها عن غيرها من الأمم .
إخوة الإسلام :
كثيراً ما تتغلب مادية الإنسان على روحانيته لالتصاقه بالأرض ، واشتغاله بمطالب بدنه ن فكان لا بد من إتاحة الفرصة للروح تتلذذ فيها بمشارفة العالم العلوي .
إخوة الإيمان :(/3)
للصائمين باب لا يدخل منه غيرهم ، وهذا الباب الكريم ، باب الريان ، أحد أبواب الجنة خاص للصائمين وحدهم ، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال : أين الصائمون ؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد"( رواه البخاري ومسلم ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة " فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما علي من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعي أحد من تلك الأبواب كلها ؟قال نعم وأرجو أن تكون منهم " ( رواه البخاري )
واعلم أخي المسلم أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك : عن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفس محمد بيده،لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه " (رواه البخاري ومسلم ) أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على فضله وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشانه ، وأشهد أن محمداً رسول الله الهادي إلى رضوانه ، اللهم صل وسلم وبارك على الرسول البشير النذير،وعلى صحابته الكرام وزوجاته الطاهرات ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان .
أما بعد :
فيا أيها الإخوة المؤمنون :(/4)
اتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى ، واعلموا أن تقوى الله سبب الأمن في الدنيا والنجاة في الآخرة ، يقول الله تعالى ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) [ يونس 64:62 ]
عباد الله :
لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة ، وجاد بخيرات وفيرة ، أعطانا العقل وميزنا به عن الحيوان ، وأرسل الرسل هداة للحق وخالص الإيمان .
ألا وإنكم في أوان تمحى فيه الذنوب ، وزمان تستر فيه العيوب ، شهر جاءت بفضله الأخبار ، فاغتننموا رحمكم الله وإياي في شهركم هذا صالح الأعمال ، وحاسبوا أنفسكم في جميع الأحوال ، وراقبوا الله تعالى في الأقوال والأفعال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " ( رواه الإمام البخاري ومسلم )
إخوة الإيمان :
إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته،فسبق قوم ففازوا ، وتخلف أقوام فخابوا ، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون ، وخاب فيه المبطلون ، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
عباد الله :
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر بأن من أجل الصالحات وأقرب القربات إلى رب البريات كثرة البر والجود والصدقات وإيتاء الزكاة اقتداء بنبي الرحمات حيث كان في هذا الشهر الكريم أجود الناس ، أجود بالخير من الريح المرسلة ، فاحرصوا إخوة الإسلام على فعل الواجبات من اقام الصلوات وإيتاء الزكوات قال تعالى( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها( [التوبة :103 ] خاصة وأن هناك من المسلمين فقراء ويتامى يحتاجون إلى صدقاتكم من واجبات ومستحبات والله يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والدعوات .(/5)
اللهم با من نعمة لا تحصى ، وأمره لا يعصى ، ونوره لا يطفأ ، ولطفه لا يخفى يا من عم العباد فضله ونعماؤه ، ووسع البرية جوده وعطاؤه اغفر لوالدينا وذوي أرحامنا ومحبينا ومعلمينا الأحياء منهم والأموات ، اللهم إنا نسألك خير من هذا الشهر وفتحه ونصره وبركته ورزقه ونوره وطهوره وهداه ، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين ، واحفظ بحفظك سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع قريب مجيب الدعوات . عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .
وأقم الصلاة .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
وأذن في الناس بالحج
الحمد لله الذي مَنَّ علينا بالإسلام، وفرض الصلاة والزكاة والصيام، والحج إلى بيت الله الحرام، نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب الحج على عباده تزكية لهم من الأوزار والآثام، وسبيلاً إلى القرار في دار السلام.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من حج واعتمر، فلبى وكبر، وطاف وصلى عند المقام. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: عباد الله
فإن الله جلت حكمته شرع ديناً قويماً، يهدي به من اتبعه صراطاً مستقيماً، وفرض عبادات دينية تهذب أخلاق من أداها، وتسمو بروحه إلى مقام السكينة والطمأنينة، وحث سبحانه على القيام بهذه الشعائر، لما لها من الآثار الطيبة على المسلمين.
وإن من أعظم شعائر الإسلام الحج، فرضه الله على عباده لمقاصد سامية، وحكم عالية.
قال الله تعالى: {وأَذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} [الحج: 27، 28]
معشر المسلمين:
إن الحج رحلة روحية يتحقق فيها أكبر مؤتمر إسلامي يشد كيان المسلمين، ويدعم وحدتهم، يتعارفون على اختلاف شعوبهم وأوطانهم، ويتبادلون المنافع، ويتسابقون إلى الخيرات، ويتعرفون على أحوال بلادهم، وينظرون في أحوالهم، فتقوى روابط الأخوة.
(2)
قال تعالى: {ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13].
عباد الله:(/1)
إن ما يهدف إليه الحج طهارة المسلم من المعاصي والذنوب، وإقباله على فعل الطاعات، والمسارعة إلى الخيرات، والفوز برضا الله عز وجل؛ لذا يبادر الحاج إلى التوبة النصوح بالإقلاع عن الموبقات، والندم على فعل السيئات، والعزيمة الصادقة على الاستقامة على الطريق القويم، ورد المظالم إلى أهلها، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا ينفع فيه دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه" [رواه البخاري وأحمد]
كما يسارع الحاج إلى الإخلاص في العبادة لله، والتجرد من الرياء وأعراض الدنيا.
يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" [رواه مسلم].
أيها الإخوة المسلمون :
إن المسلمين في الصلوات الخمس يتجهون في قبلتهم إلى البيت العتيق حين يصبحون وحين يمسون، وعندما تهل عليهم أشهر الحج تهفو نفوسهم إلى زيارته فيشد من استطاع منهم الرحال إليها وقد تزودوا بزاد حلال ــ لأن الله لا يقبل إلا طيباًـ وبزاد التقوى فإن خير الزاد التقوى، فينعم بالصلاة عندها، لأنها جامعة بين المسلمين، ورمز لوحدتهم، كلما تضرعوا إلى ربهم وصلوا لخالقهم تتنزل عليهم الرحمات، وتفيض عليهم البركات، فيشعرون بالسكينة والأمن، قال تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 96-97]
(3)
أيها المسلمون:(/2)
إن من أهم الدروس المستفادة من الحج ثقة المسلم في ربه، مع السعي إلى ما يقصد متوكلاً على خالقه، طامعاً في جوده وعطائه، راضياً بقضائه، يقتبس هذا الدرس من سعيه بين الصفا والمروة تالياً قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] يتأسى في ذلك بالسيدة هاجر التي سعت بينهما بحثاً عن الماء لإرواء طفلها الظامئ إسماعيل عليه السلام، فأكرمها الله بماء زمزم وأكثر من ذلك لثقتها بالله تعالى.
وقالت لزوجها إبراهيم عليه السلام "إذن، الله لا يضيعنا". ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) "ماء زمزم لما شرب له" [رواه أحمد وابن ماجه]. وقال جل شأنه: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} [إبراهيم: 37].
معشر المسلمين:
إن الحج مدرسة للتربية الروحية والخلقية والسلوكية، يتدرب فيها الحاج على الطاعة، ومكارم الأخلاق، فيروض نفسه على العبادة، ويغرس فيها روح الإيثار فيقدم مصلحة الجماعة على مصلحته، ينأى بنفسه عن الأنانية، فيحب إخوانه، ويتجنب إيذاءهم وخاصة وقت الزحام، ويعفو عن زلاتهم، ويهجر الجدال والشحناء والبغضاء، ويبتعد عن البذاء والفحش وسفاسف الأخلاق، يلين لهم الكلام ويفشي السلام ويطعم الطعام، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" [رواه البخاري وأحمد عن أبي هريرة].
ويقول (صلى الله عليه وسلم): "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" [متفق عليه].
(4)
ويقول جل شأنه: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب} [سورة البقرة: 197](/3)
أيها الإخوة المسلمون:
إن مما يتعلمه الحاج من هذه الشعيرة الزهد في الدنيا، فعندما يدخل في النسك يخلع ما يرتديه من ملابس الدنيا، ويلبس لبس الآخرة [ملابس الإحرام]، فيذكره بلقاء ربه عندما يفارق الدنيا، ويلتحق بالآخرة، ومن ثم يهجر الفخر والكبر والاستعلاء، ويترك زينة الحياة الدنيا ويزهد فيها لأنه يخشى يوم الحساب. قال: (صلى الله عليه وسلم) "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس" [رواه ابن ماجه وإسناده حسن].
أيها الإخوة المسلمون:
إن من مقاصد الحج تذكر نشأة الإسلام، دين التوحيد والفطرة في أقدم معابده، وإحياء لشعائر إبراهيم عليه السلام التي طمستها وشوهتها الجاهلية ثم جاء المصطفى استجابة لدعوة أبينا إبراهيم فطهر هذه الأماكن من الوثنية، قال تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: 125].
وقال سبحانه: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} [البقرة: 129]
ولا تزال هذه الأماكن المقدسة دار التوحيد يشع منها نور الإسلام إلى سائر الأقطار مع الحجيج الذين أتوا إليها فأعلنوا التوحيد وهم يؤدون هذه الشعيرة [لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك] فيزدادو إيماناً مع إيمانهم، ويقيناً مع يقينهم.
(5)
الإخوة المسلمون:(/4)
إن زيارة الحاج لأماكن الإسلام الأولى تذكره بانتصارات الإسلام وجهاد المسلمين مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبذلهم النفس والنفيس، فتشتعل فيه روح الجهاد من أجل إعلاء كلمة الإسلام ونصرة المستضعفين من المسلمين، والذود عن حياض الإسلام وصيانة المقدسات من الشرك والمشركين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال حج مبرور" [متفق عليه].
كما تنبعث روح الفداء والتضحية في نفس الحاج وهو ينحر هديه في منى تأسياً بإبراهيم عليه السلام الذي ابتلاه ربه بأن يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، فأسلم إسماعيل روحه امتثالاً لأمر الله ففداه ربه بذبح عظيم، قال تعالى {فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم} [الصافات: 103 ـ 107].
معشر المسلمين:
إن مما يهدف إليه الحج إبراز مبدأ المساواة بين الناس، وتظهر واضحة في أبهى صورها في يوم عرفة والحجاج يلبسون ملابس الإحرام يتضرعون إلى ربهم بالدعاء، وتصيح أصواتهم بالتلبية والذكر والثناء، يبكون على ما ارتكبوا من الذنوب والأخطاء يرجون رحمة ربهم ويخشون عذابه، فيُنزل عليهم فيوضات رحمته وعفوه ومغفرته، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) "وما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً أو أمة من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة. فيقول: ماذا أراد هؤلاء" [رواه مسلم والنسائي عن عائشة].
(6)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، سبحانه أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، فله الحمد حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه.(/5)
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ودعا إلى الله على بصيرة وهدانا الصراط المستقيم. أما بعد:
فإن الله تعالى حينما خلق هذا الكون جعله مسخراً للإنسان " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه" [الجاثية: 13].
وهذا التسخير يبدو في النعم السابغة التي ننعم بها دون حَول منَّا ولا قوة، فالماء والهواء والطير والحيوان وما تنبت الأرض وما يتنزل من السماء كله لمنفعة الإنسان، وصدق الله إذ يقول: "وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار" [إبراهيم: 34].
هذه المخلوقات وتلك النعم هي البيئة الصالحة لحياة الإنسان وسلامته وسعادته، ولذلك نهانا الله تعالى عن الإفساد في الأرض. بقوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56].
ويؤكد الرسول الكريم هذا المعنى في العديد من أحاديثه الشريفة، ويحث على التعمير واستنبات الزرع وتكثير الثمر لمنفعة الإنسان والحيوان في قوله.
"لا يغرس المسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه طير ولا دابة ولا شيء إلا كانت له به صدقة" [رواه البخاري].
ففي هذا الحديث الشريف توجيه نبوي حكيم لتعمير الأرض، واستنبات الزرع وبذل الخير لجميع الكائنات الحية، وهو أقصى ما نطمح إليه من تعمير البيئة والمحافظة عليها.
( 7 )
أوصيكم ـ عباد الله ـ بتقوى الله العظيم في السر والعلن، وأحذركم وإياي من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ربنا لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ظالماً إلا أخذته وأهلكته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا، ولنا صلاح إلا قضيتها بمَنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين، يارب العالمين، واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.(/6)
اللهم إنا نسألك أن تؤيد الإسلام والمسلمين، اللهم احفظ بعينك التي لا تنام صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين، وأن توفقهم لما فيه صلاح الدنيا والدين، وأن تشد أزرهم ببطانة صالحة تعينهم على الخير، وتنصح لهم بالمعروف، وتشير عليهم بما يصلح أمر المسلمين، وتأخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يارب العالمين.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار واجعل لأسرانا من عسرهم يسراً، ومن ضيقهم فرجاً، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/7)
اطبع هذه الصحفة
هدي النبي صلي الله عليه وسلم في العشر الآواخر من شهر رمضان
اتقوا الله واعلموا أنكم تستقبلون عشراً مباركة ، هي العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم ، إنها العشر التي اختصها الله بالفضائل والأجور الكثيرة ، والخيرات الوفيرة ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العمل فيها أكثر من غيرها ، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها " وفي الصحيحين عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله "لما في هذه العشر من أنواع العبادات ، من صلاة ، وقراءة قرآن ، وذكر ، بالتسبيح والتهليل، والاستغفار والصدقة وغير ذلك ، وفي هذين الحديثين وما جاء بمعناهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفرغ للعبادة في هذه العشر ، فينبغي لك أيها المسلم أن تتفرغ فيها من أعمال الدنيا ، أو تخفف منها ، وتشتغل بالعبادة اقتداءاً بنبيك صلى الله عليه وسلم وطلباً للأجر وغفران الذنوب .
من هنا يستحب للمسلم الاجتهاد في قيام الليل ، وتطويل الصلاة ، والقيام فيها والركوع والسجود وإيقاظ الأهل والأولاد ، ليشاركوا المسلمين في إظهار هذه الشعيرة ، وليشتركوا في الأجر والثواب ويتربوا على العبادة وتعظيم هذه المناسبات الدينية .
هدي النبي صلي الله عليه وسلم في العشر الآواخر من شهر رمضان(/1)
الحمد لله الذي أتاح لعباده أوقات الفضائل ، ومواسم العبادة ، ليتزودوا فيها من الأعمال الصالحة ، ويتوبوا إلى ربهم من الأعمال السيئة ، وليضاعف لهم الأجور ، ويعرضهم فيها لنفحات جوده ، وينزل عليهم فيها من رحمته وإحسانه ، أحمده على جليل نعمه ، وأشكره على جزيل إحسانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، شرع فيسر ، ورحم وغفر ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، كان يأمرنا باغتنام مواسم الفضائل ويحث على اغتنامها ويحذرنا من إضاعتها نصحاً للأمة وحرصاً على جلب الخير لها ودفع الشر عنها ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بهديه وساروا على سنته وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد : -
فيا أيها المسلمون :
اتقوا الله المتصف بصفات الكمال ، المنعوت بنعوت الجلال ، الذي علم ما كان وما يكون وما هو كائن في الحال والمآل ، سبحانه من ، إله تحبب إلى عباده بنعمه وآلائه ، وابتدأهم سبحانه وتعالى بإحسانه العميم وعطائه العظيم ، فله سبحانه الحمد والشكر ، والنعمة والفضل ، والخلق والأمر ، والثناء الجميل .
أما بعد : -
فيأيها المسلمون :
اتقوا الله واعلموا أنكم تستقبلون عشراً مباركة ، هي العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم ، إنها العشر التي اختصها الله بالفضائل والأجور الكثيرة ، والخيرات الوفيرة ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العمل فيها أكثر من غيرها ، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها " وفي الصحيحين عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله "(/2)
لما في هذه العشر من أنواع العبادات ، من صلاة ، وقراءة قرآن ، وذكر ، بالتسبيح والتهليل، والاستغفار والصدقة وغير ذلك ، وفي هذين الحديثين وما جاء بمعناهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفرغ للعبادة في هذه العشر ، فينبغي لك أيها المسلم أن تتفرغ فيها من أعمال الدنيا ، أو تخفف منها ، وتشتغل بالعبادة اقتداءاً بنبيك صلى الله عليه وسلم وطلباً للأجر وغفران الذنوب .
من هنا يستحب للمسلم الاجتهاد في قيام الليل ، وتطويل الصلاة ، والقيام فيها والركوع والسجود وإيقاظ الأهل والأولاد ، ليشاركوا المسلمين في إظهار هذه الشعيرة ، وليشتركوا في الأجر والثواب ويتربوا على العبادة وتعظيم هذه المناسبات الدينية .
وهذا أمر يغفل عنه الكثير من الناس ، حيث يتركون أولادهم يلعبون في الشوارع ، ويسهرون في مزاولة أمور تضرهم في دينهم ودنياهم .
وإنه لمن الحرمان الكبير ، والخسارة الفادحة ، أن ترى كثيراً من المسلمين تمر بهم هذه الليالي العظيمة ، وهم وأهلوهم وأولادهم في غفلة معرضون ، فيمضون هذه الأوقات الثيمنة فيما لا ينفعهم ، يسهرون معظم الليل في اللهو الباطل ، فإذا جاء وقت القيام والتهجد ناموا ، وفوتوا على أنفسهم خيراً كثيراً ، ربما لا يدركونه بعد عامهم هذا ، وحملوا أنفسهم وأهليهم وأولادهم أوزاراً ثقيلة لم يفكروا في سوء عاقبتها .
ومن فضائل هذه العشر المباركة :(/3)
قيام الليل قد يقول قائل : إن هذا القيام نافلة وأنا يكفيني المحافظة على الفرائض ، والجواب عن ذلك : أن المحافظة على الفرائض فيها خير كثير ولا يسأل المسلم إلا عنها ، ولكن ما الذي يدريك أنك أديت الفرائض بالوفاء والتمام ، فأنت بحاجة إلى النوافل لتعويض ما في الفرائض من نقص ، وعن يوم القيامة يروى أبو داود وغيره " قال الرب سبحانه : " انظروا في صلاة عبدي ، أتمها أم نقصها ، فأن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئاً قال : انظروا إلى عبدي هل لعبدي من تطوع ، فإن كان له تطوع قال ل: أتموا لعبدي فريضته ، ثم تأخذ الأعمال على ذاكم .
والله سبحانه فرض الفرائض ، وعلم من عباده أن منهم من سيقصرون في إتمامها وإكمالها ، فشرع لهم النوافل ليجبر هذا التقصير رحمة بهم ، ثم لو فرضنا أنك وفيت الفرائض حقها فأنت مأمور بالاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر )[ الأحزاب : 21 ]
أيها المسلمون :
ومن فضائل هذه العشر إنها يرجى فيها مصادفة ليلة القدر ، التي قال الله تعالى فيها (ليلة القدر خير من ألف شهر ) [ القدر : 3 ] قال النخعي : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها ، وألف شهر يا عباد الله ثلاثة وثمانون عاماً وأربعة أشهر فالعمل في هذه الليلة لمن وفقه الله خير من العمل في ثلاثة وثمانين عاماً وأربعة أشهر وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه "(/4)
وقوله : إيماناً : يعني إيماناً بالله وبما أعد فيها من الثواب للقائمين فيها واحتساباً للأجر وطلباً للثواب، وهذه الليلة إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان على الراجح ، وقد أخفى الله سبحانه علمها عن العباد رحمة بهم ليجتهدوا في طلبها في تلك الليالي الفاضلة ، بالصلاة والذكر والدعاء ، فيزدادوا قرباً من الله تعالى ، وأخفاها أيضاً اختباراً للعباد ليتبين بذلك من كان جاداً في طلبها ، حريصاً عليها ، ممن كان متكاسلاً أو متهاوناً ، فمن حرص على شئ جد في طلبه .
ومن سنن هذه العشر : الاعتكاف وهو اللبث والبقاء في المساجد مدة هذه الأيام المباركة ، للتفرغ لطاعة الله عز وجل ، وهو من السنن الثابتة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله قال تعالى ( وأنتم عاكفون في المساجد ) [ البقرة : 187 ]
وقد أخرج البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قوله في نهاية حديثه الطويل " … من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها " فينبغي لمن يتمكن من إحياء هذه الليلة ان يبادر إليها لما فيها من الأجر العظيم وتدريب النفس على الطاعة .
فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره ، وقطع على نفسه كل شاغل يشغله عنه ، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه ، فما بقى له سوى الله وما يرضيه عنه ، كما كان دواد الطائي يقول في ليله : همك عطل على الهموم ، وخالف بيني وبين السهاد ، وشوقي إلى النظر إليك ، أوثق من اللذات ، وحال بيني وبين الشهوات .
فمعنى الاعتكاف وحقيقته / قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق ، وكما قويت المعرفة بالله والمحبة له والاستجابة أو رثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى اتكالية على كل حال .
أيها المسلمون :(/5)
إن من الصفات في تلك الأيام الفاضلة الاجتهاد في ختم القرآن الكريم اقتداءاً بالنبي الكريم عليه الصلاة والتسليم ، كما قال ذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ورواه عنه ابن كثير في تفسيره أنه قال : تستحب قراءة القرآن الكريم في هذا الشهر ولو مرة واحدة وهي سنة جبريل مع الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعارضه القرآن في كل سنة من رمضان حتى إذا كانت السنة الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم عارضه فيها جبريل القرآن مرتين .
أيها المسلمون :
اعلموا رحمني الله وإياكم أن الأعمال تضاعف في هذه العشر ومنها الصدقة على عباد الله المحتاجين ولذلك أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، فيدارسه القرآن وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة " ( متفق عليه ) .
لو أن الذين آمنوا بعظيم اجر الصدقة في رمضان وكبير مثوبتها كما جاء على لسان نبيهم يحرصون على أداء صدقتهم وزكاة فطرهم على المحتاجين والفقراء لكانوا بذلك يقدمون لأنفسهم خيراً ويقيمون لتعاليم نبيهم وزناً ، كأمة حية ، تعلم فتعمل ، وتجني نتائج أعمالها صلاحاً وسلاماً وطهراً .
وفقنا الله وإياكم إلى طاعته واتباع سنة نبيه ومنهجه ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد .
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بين لأمته طريق النجاة ، وحذرها من طريق الغي والهلاك ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين ،
أما بعد :
فيا أيها الأخوة المسلمون :(/6)
انتهزوا هذه الفرصة واجتهدوا ، فإن ما تريدونه وما تطلبونه من إدراك ليلة القدر ما زال أمامكم فلا تضيعوها ، فهي في أوتار تلك العشر ، فهنيئاً لمن وفق لإدراكها وقيامها ، ودعا ربه فيها قائلاً : " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا " .
اللهم اعف عنا وعن المسلمين ، وارحمنا وارحم المسلمين وتقبل صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا الصالحات ، واحفظ سمو أمير البلاد وولي عهده الأمين وانصر الإسلام وأعز المسلمين وفك قيد أسرانا وأسرى المسلمين ، وارحم شهداءنا الأبرار ، وامنحنا العفو والغفران والعتق من النيران والفوز بليلة القدر يا رحمن .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/7)
اطبع هذه الصحفة
صلة الرحم مرضاة للرب وقوة للمجتمع
لا شك أن الإسلام يرغبنا في العمل الصالح الذي يعود على الفرد والمجتمع بالخير والفضل الكثير ولصلة الأرحام فضل عظيم وبركة في الدنيا وثواب في الآخرة " روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " ومعنى ينسأ له في أثره أي يبارك له في أجله وعمره فالحديث أفاد أن صلة الرحم تورث سعة الرزق ، ورغد العيش ، والبركة في العمر ، وحفظ الصحة والذكر الحسن بعد الموت ، والذرية الصالحة ، والتوفيق لطاعة الله ، والشعور بالسعادة وطمأنينة القلب
صلة الرحم مرضاة للرب وقوة للمجتمع
الحمد لله الملك القدوس السلام ، الذي أمر بصلة الأرحام ، وجعلها من خصال أهل التقى والإسلام ، الذين وعدهم بالجنة دار السلام … والصلاة والسلام على محمد خير الأنام وأوصلهم لرحمه وعلى آله وأصحابه الطيبين الكرام ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .. وبعد فيا عباد الله :
يقول الله تعالى : ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [ آل عمران / 102 ]
وقال تعالى : ( يأيها الذين آمنوا أتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ) [ الأحزاب : 70 ]
إخوة الإيمان والإسلام .. أمرنا الله سبحانه وتعالى بصلة الأرحام ، هذه الصلة التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض ومعلوم أن الإسلام يحث على الترابط والتراحم والتكاتف قال تعالى : ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) [ النساء : 1 ]
ويقول تعالى : (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين )[ الأحزاب : 6 ]
يقول ابن عباس رضي الله عنهما : اتقوا الله بفعل طاعته وترك معصيته ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن صلوها وبروها ( تفسير الطبري - النساء ) .(/1)
وصلة الأرحام صفة من أجل صفات أهل الإيمان ، يقول الله عز وجل : ( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) [ الرعد : 21 ] أي يصلون ما أمرهم الله به من صلة الأرحام ومودتهم وبذل المعروف لهم .
إخوة الإيمان والإسلام :
اعلموا أن صلة الرحم من دعائم الإسلام ومن أسس الإيمان ، وأن العلماء متفقون على أن صلة الرحم واجبة لأن الله أمرنا بها وأن القطيعة حرام ومن كبائر الذنوب وصلة الرحم هي التودد إلى الأقارب ، ومعاونة المحتاج منهم بالمال والجاه ، وعيادة مرضاهم وتخفيف الآلام عنهم ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم ، وإظهار البشر والسرور بلقائهم ، وحمايتهم ودفع الأذى عنهم ، والأرحام هم أقارب الإنسان من جهة أبيه وأمه .
عباد الله :
وقد جاءت السنة المطهرة بالحث على صلة الرحم والتحذير من القطيعة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" خلق الله عز وجل الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم وقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ، قالت بلى يارب قال فذلك لك " ثما قال : أقرأوا إن شئتم : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) " ( متفق عليه ) وروى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يدخل الجنة قاطع " قال سفيان يعني قاطع رحم .
إخوة الإيمان والإسلام :(/2)
لا شك أن الإسلام يرغبنا في العمل الصالح الذي يعود على الفرد والمجتمع بالخير والفضل الكثير ولصلة الأرحام فضل عظيم وبركة في الدنيا وثواب في الآخرة " روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " ومعنى ينسأ له في أثره أي يبارك له في أجله وعمره فالحديث أفاد أن صلة الرحم تورث سعة الرزق ، ورغد العيش ، والبركة في العمر ، وحفظ الصحة والذكر الحسن بعد الموت ، والذرية الصالحة ، والتوفيق لطاعة الله ، والشعور بالسعادة وطمأنينة القلب .
أيها الأخوة :
إن الإسلام دين التراحم والأخوة ، والعطف والمودة والإحسان ، وإن أقارب الإنسان وأرحامه هم أجنحته وقوته وأنصاره ، ولن يكونوا كذلك إلا إذا وصلهم ببره وإحسانه وهم إن عزوا فهو بهم عزيز ، وإن هانوا لحقه الهوان ، فالقريب قطعة من قريبه ، وجزء منه ومنسوب إليه رضي أم كره ، والإساءة إلى الأقارب مرده خبث النية ، وسوء الطوية ، وقلة الدين ، وضعف الإيمان .
واعلموا - عباد الله - أن خير الأقارب من يقابل الجفاء بالمودة ، والإساءة بالإحسان ، والقطع بالوصل فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأحسن إليهم ويسيئون إلى ،وأحلم عليهم ويجهلون علي ، فقال: " إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك " ( رواه مسلم ) ، ومعنى تسفهم المل أي كأنما تطعمهم الرماد الحار ، وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم .
إخوة الإيمان والإسلام :
والكبر من أسباب قطيعة الرحم ، وهو صفة ذميمة وغير محبوبة ، ومن الأسباب أيضاً الحسد وهو تمنى زوال النعمة عن الغير ، والرجل يحسد أخاه وابن عمه وقريبه أكثر مما يحسد الأجانب ، فهل ننتظر من إنسان يحسد أهله أن يصلهم ؟(/3)
ومن أسباب قطيعة الرحم : الأنانية وهي حب الإنسان لنفسه ، فيريد أن يكون متميزاً عن غيره ، والإنسان لم يخلق لنفسه بل لا بد أن يتعاون مع غيره – والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ( متفق عليه )
أيها الإخوة :
لا خلاف في أن صلة الرحم واجبة ، وقطيعتها كبيرة من الكبائر فقد توعد الله تعالى قاطع الرحم بشر وعيد ، ووصفه بالمفسد الفاسق ،قال تعالى : (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولم سوء الدار)[ الرعد:25 ]
وقال تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) [ محمد : 22 / 23 ]
فاتقوا الله عباد الله وصلوا أرحامكم ولا تقطعوها ، تنالوا رضا ربكم ، وتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/4)
اطبع هذه الصحفة
خطبة عيد الفطر المبارك
إن هذا اليوم هو يوم الفرحة الأولى لكل صائم صام إيماناً واحتساباً ، والتي أخبر عنها رسول الله بقوله :"للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقى ربه فرح بصومه "
( من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة )
وفرحة المسلمين بيوم العيد لها معان عميقة ينبغي أن نتدبرها ، فخروج المسلم اليوم في أحسن حلة وأبهى زينة ، وبشر ظاهر وسرور غامر ، ليس عادة موروثة ، ولا أمراً مستحدثاً ، إنما هو من شعائر الدين ، وطاعة رب العالمين ، واتباع سنة خير المرسلين ، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم الذي سن لنا ذلك .
ليعلم الجميع أن ديننا رحمة لم يصطدم بفطرة الإنسان ، بل جاء بما يلائمها ، ويسمو بها في سبيل الرشد والهداية ، بعيداً عن الضلال والغواية .
فللإنسان ميل فطري إلى أن يكون له أيام مشهودة ينتظر قدومها ، ويحتفل بموعدها ، ولذلك كان الناس يحتفلون قبل الإسلام بأيام لهم عظموها في قلوبهم ، يجتمعون لها ويتزينون بزينتها .
فعن أنس رضي الله عنه قال : " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال :
" قد أبدلكم الله بهما خيراً يوم الفطر ويوم الأضحى " ( رواه أبو داود والنسائي )
خطبة عيد الفطر المبارك
الله أكبر، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله اكبر ، الله أكبر بقدرته صور البشر ، وسخر الشمس والقمر ، وسجد له النجم والشجر ، وأحاط علماً بما خفى وما ظهر ..
الله أكبر بأمره صمنا ، وبإذنه أفطرنا ، ومن فضله زكينا وتصدقنا ، وله وحده سجدنا وصلينا ، وعليه توكلنا ، سبحانه لا نحصى ثناء عليه ، هو كما أثنى على نفسه ، فله الحمد ، نحمده ونشكره ، ونتوب إليه ونستغفره .(/1)
ونشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ، أكمل الله ببعثته الدين ، وأتم النعمة ، ورضي لنا الإسلام ديناً ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
أيها الإخوة المؤمنون :
إن هذا اليوم هو يوم الفرحة الأولى لكل صائم صام إيماناً واحتساباً ، والتي أخبر عنها رسول الله بقوله :"للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقى ربه فرح بصومه "
( من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة )
وفرحة المسلمين بيوم العيد لها معان عميقة ينبغي أن نتدبرها ، فخروج المسلم اليوم في أحسن حلة وأبهى زينة ، وبشر ظاهر وسرور غامر ، ليس عادة موروثة ، ولا أمراً مستحدثاً ، إنما هو من شعائر الدين ، وطاعة رب العالمين ، واتباع سنة خير المرسلين ، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم الذي سن لنا ذلك .
ليعلم الجميع أن ديننا رحمة لم يصطدم بفطرة الإنسان ، بل جاء بما يلائمها ، ويسمو بها في سبيل الرشد والهداية ، بعيداً عن الضلال والغواية .
فللإنسان ميل فطري إلى أن يكون له أيام مشهودة ينتظر قدومها ، ويحتفل بموعدها ، ولذلك كان الناس يحتفلون قبل الإسلام بأيام لهم عظموها في قلوبهم ، يجتمعون لها ويتزينون بزينتها .
فعن أنس رضي الله عنه قال : " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال :
" قد أبدلكم الله بهما خيراً يوم الفطر ويوم الأضحى " ( رواه أبو داود والنسائي )
أخي المسلم :
تأمل معي قول نبينا صلى الله عليه وسلم ( أبدلكم الله بهما خيراً ) أن الله تعالى هو الذي اختار لهذه الأمة أيامها الخالدة ، لذلك فإن زينة المسلم اليوم ليست من زينة الجاهلية ، واحتفاله ليس تشبهاً بأحد غيره ، وإنما هو إظهار لربانية الأمة في أيامها ومناسباتها وسلوكها ، كما هي ربانية في عبادتها .(/2)
تأمل معي أخي المسلم في اجتماع المسلمين في مصلاهم اليوم ، في كل مكان على أرض الله: اليوم واحد ، والنداء واحد ، والتوجه واحد ، إن هذا يدل على أن هذه الأمة أبى الله إلا أن تكون أمة واحدة أمرت بالصوم فصامت جميعاً ، وأمرت بالفطر فأفطرت جميعاً ، وفي يوم عيدها احتفلت جميعاً ، إلى جانب كل شعائر الإسلام التي ربطتها برباط التوحيد والتوحد ، شهد بذلك ربها تعالى بقوله : (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) [ المؤمنون : 52 ] ما أحوج الأمة إلى أن تعي هذا لدرس اليوم ، وقد تداعت عليها الأمم كما تداعت الأكلة إلى قصعتها ، وعددها كثير ، ورباطها متين ، وما عليها إلا أن تأخذ به بأسباب القوة حتى تعود إلى مكانتها بين الأمم .
أيها المسلمون :
لقد تسابق الجميع في الخيرات في رمضان ، عمرت المساجد بالمصلين ، الذاكرين التالين لكتاب رب العالمين ، كما عمرت القلوب بالرحمة ، فبسطت الأيدي بالعطاء للفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والمعوزين ، فأيقن كل محتاج أنه لا يمكن أن يضيع في رحاب الإسلام ، لأنه عضو
في أمة كالجسد الواحد ، كما قال رسولنا الكريم " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " ( متفق عليه )
وهاهو رمضان قد مضى فماذا نحن فاعلون ؟ لنجعل من العيد استمراراً للخير والبر والطاعة ، شكراً لله وتقرباً إليه ، ونصرة لإخواننا الذين يعانون الويلات على أيدي أعداء الإسلام ، تهدم بيوتهم ، وتحرق مزارعم ، ويقتل ويعتقل شبابهم ، و الله سائلنا عنهم ، ولهم علينا حق النصر والعون والمساعدة ..
فرسولنا صلى الله عليه وسلم يقول " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه " ( متفق عليه )
أعانني الله وإياكم على طاعته وحسن عبادته .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية:(/3)
الله أكبر ، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ، الله أكبر .. الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، ونصلي ونسلم على خير خلق الله ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أيها الإخوة المسلمون :
لنجعل من هذا اليوم العظيم عيداً للتواد والتراحم ، والعفو والتسامح ، والإخاء والمحبة والعطاء والبذل ، لنعد المريض ، ولنواس المصاب ، ولنمسح دمعة اليتيم ، ولنعط الفقير والمسكين ولنصل الرحم وإن قطعت ، ولنحسن إلى الجار وإن أساء " (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) [ فصلت : 34 ] ولنعمل على أن تظل صلتنا بالقرآن ممدودة ، تلاوة وفهماً وتطبيقاً ، فهو حبل الله المتين ، من اعتصم به لا يضل ولا يشقى .
ولتظل ليالينا حية بالقيام ، ومساجدنا عامرة بالركع السجود ( الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) [ النور : 37 ]
ولنعمل على أن تكون جائزتنا في عيدنا هي دخولنا فيمن قال الله عنهم (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد : 21: 25]
فنحقق الفرحة الثانية يوم لقاء ربنا ، مصداقاً لقول نبينا ، فندخل الجنة من باب الريان ، وينادي علينا (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية)[ الحاقة : 24 ](/4)
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وزكاتنا، وأعنا على ما يرضيك عنا ، ووفق ولاة أمورنا واحفظ بلادنا ، ووحد أمتنا ، واقهر عدونا وانصرديننا ، واحفظ صاحب السمو أميرنا وولي عهده الأمين ، وارحم شهداءنا وفك قيد أسرانا ، واجعلنا وأزواجنا وذرياتنا وأهلينا من عتقائك من النار ، واجعل هذا البد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين ، واجمع شمل المسلمين ، وألف بين قلوبهم . أنك ربنا على كل شئ قدير ، وأنت نعم المولى ونعم النصير . سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/5)
اطبع هذه الصحفة
وحدة الصف الداخلي
لا يخفى علينا ما يدور حولنا من أحداث جسام ، ولا يغيب عنا ما يقع في بلد مجاور لنا من حرب ليست أخطارها عنا ببعيد وإن الواجب يحتم علينا الآن أن تتضافر جهودنا ، وتتحد قلوبنا ، ونتكاتف سواعدنا لحماية بلدنا ووطننا من أي خطر متوقع ، وأي ضرر ينتظر .
وذلك بأن نكون صفاً واحداً ، وجسداً واحداً ، متعاونين على البر والتقوى ، متناهين عن الإثم والعدوان ، نابذين العداء والبغضاء ، حتى نفوت على العدو فرصته ، في زرع بذور التفرق ، وجذور التنازع والشقاق ، قال الله تعالى } ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين { [ الأنفال : 46 ] وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أن الله يرضى لكم ثلاث ويكره لكم ثلاث ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله عليكم ويكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال "
وحدة الصف الداخلي
الحمد لله رب العالمين ، ألف بين قلوب عباده المؤمنين فجعلهم إخوة متحابين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أمرنا أن نعتصم بحبل الله أجمعين ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين الذي آخى بين الأنصار والمهاجرين فصاروا إخوة في الدين .
أما بعد : -
فيا إخوة الإسلام :
لا يخفى علينا ما يدور حولنا من أحداث جسام ، ولا يغيب عنا ما يقع في بلد مجاور لنا من حرب ليست أخطارها عنا ببعيد وإن الواجب يحتم علينا الآن أن تتضافر جهودنا ، وتتحد قلوبنا ، ونتكاتف سواعدنا لحماية بلدنا ووطننا من أي خطر متوقع ، وأي ضرر ينتظر .(/1)
وذلك بأن نكون صفاً واحداً ، وجسداً واحداً ، متعاونين على البر والتقوى ، متناهين عن الإثم والعدوان ، نابذين العداء والبغضاء ، حتى نفوت على العدو فرصته ، في زرع بذور التفرق ، وجذور التنازع والشقاق ، قال الله تعالى } ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين { [ الأنفال : 46 ] وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أن الله يرضى لكم ثلاث ويكره لكم ثلاث ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله عليكم ويكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال "
( 2 )
إخوة الإسلام :
إن رابطة العقيدة والدين رابطة عظمى ، وعروة وثقى ، لها مقتضياتها وواجباتها ، وتكاليفها وحقوقها الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رابطة تنكسر تحتها شوكة أهل البغي والعدوان ، وتندحر أمامها قوى الظلم والطغيان ، يقول تبارك وتعالى } والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم { [ التوبة : 71 ] ويقول صلى الله عليه وسلم : " المؤمن مرآة المؤمن ، والمؤمن أخو المؤمن ، يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه " ( أبو داود )
أيها المسلمون :(/2)
إن المجتمع المسلم على اختلاف أجناسه وألوانه بنيان واحد وجسد واحد ، يسعد بسعادة بعضه ، ويتألم لألمه ومرضه ، يجمع أفراده دين واحد هو الإسلام ، وكتاب واحد هو القرآن ، ونبي واحد هو سيد الأنام نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام يقول صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تخفروا الله في ذمته " ( البخاري ) ويقول صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " ( مسلم )
إخوة الإسلام :
إن مجتمعنا ووطننا له علينا حقوق كثيرة ، فنحن نعيش فوق أرضه وتحت سماءه ، نرتوي من ماءه ، وننعم بخيراته ، فأمنه أمننا وخيره خيرنا ، فلنحرص على كل ذرة رمل من أرضه وترابه أن تمس بسوء فضلاً عن مرافقه العامة ، ومنشآته الهامة .
ولنحذر من ضعاف النفوس الذين يبثون الإشاعات المغرضة ، والأخبار الكاذبة ليوهنوا عزمنا ، ويفرقوا شملنا ، ويشقوا صفنا ، ليمهدوا الطريق لعدو الله وعدونا .
ولنحذر من المأجورين والمستهترين الذين يريدون أن يحققوا في مثل هذه الظروف - مصالح شخصية ومنافع غير شرعية على حساب الوطن والدين ، ولنحذر من الطابور الخامس الذي يعمل صالح الأعداء المجرمين ، فيثيروا خلافات مذهبية ، أو قومية ، ويتمنون لو صارت حرباً أهلية ، بدلاً من أن تكون متعاونين متيقظين لأي محاولة مساس بوطننا الطيب الأمين .
( 3 )
إخوة الإسلام :(/3)
إن اعداء الأمة قديماً وحديثاً يحرصون كل الحرص على بث الفرقة بين المسلمين وعلى تمزيق الصف الداخلي وتشتيته ، حتى يسهل عليهم تحقيق مآاربهم الخبيثة ، فهم لذلك يثيرون النعرات القومية ، والخلافات المذهبية والعصبيات القبلية ، وغير ذلك من الوسائل التي تؤدي إلى تفريق شمل الأمة وتحويلها إلى طوائف متنافرة ، وأحزاب متناحرة ( كل حزب بما لديهم فرحون ] فيصبح الوطن لقمة مستساغة لأعداءه فيلتهموه كله او ينهبوا خيراته .
وقديماً كان اليهود يبثون الفرقة ويثيرون النعرات بين الأوس والخزرج قبل الإسلام حتى نشبت بينهم حروب طاحنة ، وهم أبناء البلد الواحد ,(/4)
فلما ألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، وجمع شملهم بالإيمان ، فأصبحوا بنعمته إخواناً ، اغتاظ اليهود ، وغلت مراجل الحقد في قلوبهم ، وخططوا للوقيعة بينهم ، فلقد مر رجل من اليهود على جماعة من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، فبعث رجلاً معه ، وأمره أن يجلس بينهم ، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم " بعثات " ففعل ، حتى حميت نفوس القوم ، وغضب بعضهم على بعض ، وطلبوا السلاح ، وتنادوا للحرب وتواعدوا للقاء والنزال ، وكادت تحدث حرباً بين الإخوة المتحابين لا يعرف مداها إلا الله ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ، ويقول " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلام ، وفي ذلك أنزل الله قوله : } يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم{ [آل عمران 100،101 ]ثم أمرهم سبحانه وتعالى أن يعتصموا بحبل الله جميعاً وألا يتفرقوا ، وأن يكونوا جسداً وقلباً واحداً أمام محاولات أعداءهم لتفريق جمعهم وتشتيت شملهم فقال سبحانه : " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً .
( 4 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله أولاً ، حمداً كثيراً متوالياً وصلى الله على خير الورى ، النبي المصطفى والرسول المجتبى ، قدوة الأنام نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين بإحسان
أما بعد : -
فيا أيها الأخوة الكرام :
اوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن والقول والعمل ففيها الفرج والمخرج قال تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شئ قدراً} [ الطلاق ](/5)
هذا وأحذركم ونفسي عباد الله من الاستماع إلى مروجي الإشاعات أو إشاعة ما من شأنه زعزعة المجتمع وأفراده ، كما أوصيكم ونفس بالالتفاف حول علمائنا ومشايخنا والرجوع إليهم ومشاورتهم في كل ما يستجد حفاظاً على وحدة الصف وقطعاً للطريق على مروجي الإشاعات ومفرقي الجماعات قال جل وعلا : {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف إذا عوابه ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعهم الشيطان إلا قليلاً} [ النساء ]
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وصد عنا كيد الكائدين ومكر الماكرين وحسد الحاسدين وقاتل الكفرة أعداء الدين ، واحفظ بحفظ سمو أمير البلاد المفدى وسمو ولي عهده الأمين ، وفك قيد أسرانا والمسلمين ، وارحم شهداءنا الأبرار وأجمع على الحق شمل المسلمين آمين .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
كيف نعيد لهذة الأمة مجدها
لقد كتب الله عز وجل لهذه الأمة الخالدة البقاء والتمكين لا محالة ، كيف لا يكون ذلك وهي خير الأمم ، وذلك بشهادة الله عز وجل لها ، قال جل شأنه : " كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران 110 ] ، وقد اصطفاها لتكون لها القيادة والسيادة لهذه الدنيا ، غير أنه سبحانه ، ربط ذلك بشروط إن أتت به كتب لها النصر والتمكين والعز والمجد إلى يوم الدين .
ذلك أن النصر والمجد الذي شرف الله تعالى به هذه الأمة ، واختارها من دون الأمم الأخرى لتقود العالم اجمع ، مشروط بإتيانها مقومات ومؤهلات لتؤهلها لذلك .
والله جل شأنه اختارها لعلمه بقدرتها على الإتيان بهذه المقومات .
وهو كذلك - أعني سعيها لتوفير هذه المقومات- تكليف عليها … لأنها مسؤولية عظيمة ومهمة جسيمة تحتاج إلى بذل وعطاء وتضحية بسخاء .. لكي تؤدي هذه الأمة ما أسند إليها من تلك المهمة
كيف نعيد لهذة الأمة مجدها
الحمد لله الذي أجزل الفضل والإنعام للمتقين ، ووعد بالتمكين لحزبه الموحدين ، وبلغهم بنصر دينه ذروة المجد في الأولين والآخرين ، وعامل عباده بالإحسان على الإحسان ـ وأكرمهم على فعل الصالح الكثير من الرضوان ، فله الحمد حتى يرضى ، وله الحمد إذا رضي ، وله الحمد بعد الرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ما من خير إلا أوصى أمته به وحثهم عليه ، ولا شر إلا حذرهم منه ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
وبعد :
فيا أيها المسلمون : -(/1)
لقد كتب الله عز وجل لهذه الأمة الخالدة البقاء والتمكين لا محالة ، كيف لا يكون ذلك وهي خير الأمم ، وذلك بشهادة الله عز وجل لها ، قال جل شأنه : " كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران 110 ] ، وقد اصطفاها لتكون لها القيادة والسيادة لهذه الدنيا ، غير أنه سبحانه ، ربط ذلك بشروط إن أتت به كتب لها النصر والتمكين والعز والمجد إلى يوم الدين .
ذلك أن النصر والمجد الذي شرف الله تعالى به هذه الأمة ، واختارها من دون الأمم الأخرى لتقود العالم اجمع ، مشروط بإتيانها مقومات ومؤهلات لتؤهلها لذلك .
والله جل شأنه اختارها لعلمه بقدرتها على الإتيان بهذه المقومات .
وهو كذلك - أعني سعيها لتوفير هذه المقومات- تكليف عليها … لأنها مسؤولية عظيمة ومهمة جسيمة تحتاج إلى بذل وعطاء وتضحية بسخاء .. لكي تؤدي هذه الأمة ما أسند إليها من تلك المهمة
( 2 )
فهذا هو الشرف الذي حظيتم به أنتم أيها المؤمنون الموحدون من دون سائر الناس وتلك هي المسؤولية التي ترتبت على ذلك التشريف .
والتاريخ شاهد صدق على أن هذه الأمة ، تختزن في كيانها ، كل مقومات المجد والنصر وقيادة البشرية للهدى ، وليرجع الواحد منا بذاكرته عبر التاريخ ، ثم لينظر ويتأمل فيما فعله آباؤنا وأجدانا في سابق العصور وما قدموا لهذه الدنيا على مر الدهور .
لقد أخرجوا الناس من ظلمات الكفر والشرك إلى نور التوحيد ، نشروا دين الله وفتحوا البلاد وقلوب العباد .
أخضعوا الدنيا لحكم الله وشريعته ومنهاجه الحق ، فدحروا بذلك ظلمات الجاهلية ، وشيعة الشيطان ، وقدموا دماءهم رخيصة في سبيل نشر دين الله في أنحاء المعمورة ، ثم نشروا العدل بين الناس قبل أن يدخلوا بلادهم ، فرحبت بهم تلك البلاد المفتوحة ، ودخلت في دينهم حباً فيه .
ورفعوا راية العلم ، فجاوزا كل الأمم في علومهم ، حتى تعلمت كل الحضارات منهم ، وأصبحت تنهل من هذه الأمة المجيدة كل المعارف النافعة .(/2)
وهكذا تقدمت هذه الأمة على كل الأمم في كل مجالات الحياة .
ولله در القائل :
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع *** اسمك فوق هامات النجوم فخارا
لم نخشى طاغوتاً يحاربنا ولو *** نصب المنايا حولنا أسواراً
ورؤسنا يارب فوق أكفنا *** نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي *** خلق الوجود وقدر الأقدارا
كنا نرى الأصنام من ذهب *** فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها *** ذهباً وصاغ الحلي والدينارا
هذا والله تاريخنا الوضاء ، الذي حملنا به ميراث الأنبياء فأوصله أجدادنا أنحاء الأرض كلها ، وعلو به إلى عنان السماء .
وفي هذا أعظم دليل ، وأصدق شهيد ، أن هذه الأمة قادرة في كل حين أن تعيد هذا المجد من جديد ، غير أنه لا بد لها أن تحقق ما يلي : -
1) الإخلاص لله تعالى ، وابتغاء الآخرة وأن تكون الدنيا في عيونهم أهون من أن يضحوا من أجلها ، وأحقر من أن يعيشوا لها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : منبهاً هذه الأمة إلى ضرورة توفر هذا
( 3 )
الشرط لحصول التمكين ( بشر هذه الأمة بالثناء والرفعة والدين والتمكين في البلاد ، والنصر ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، فليس له في الآخرة من نصيب ) [ صحيح الجامع 2825 ]
2) الاعتصام بكتاب الله وأتباع هداه ، كما قال تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " [ آل عمران : 103 ] وقال:"ثم جعلناك على شريعة من الأمر فأتبعها ولا تتبع أهواء اللذين لا يعلمون " [ الجاثية : 18 ]
وقال تعالى : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لايشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ النور : 55 ](/3)
3) أعداد العدة والأخذ بأسباب القوة : قال تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " [ الأنفال : 60 ]
وأسباب القوة نوعان :
أحدهما : معنوية وتشمل المعرفة ، والحزم والجد .
والثاني : مادية وهي الاستحواذ على جميع القوى المادية اللازمة للتفوق ، بما فيها السلاح الذي يكافئ أو يقارب ما لدى غيرها من الأمم ، وذلك أن أمة لا تملك سلاحاً تدفع به عن نفسها بيدها ، ستصبح لا محالة مستعبدة لغيرها ، والأمة المستعبدة ، أمة ميتة لا حراك بها ، مسلوبة الكيان والهوية ، لا سبيل لها إلى العز ما لم تتحرر من العبودية .
4) الوحدة في نظام واحد ، قائم على التكافل والتعاون ،والالتزام ، والأمانة ، والطاعة ، وتحمل المسئولية ، كما قال تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " [ آل عمران : 103 ] وقال " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " [ الأنفال : 46 ]
فمتى أتت هذه الأمة بهذه الأسباب ، فلتنتظر نصراً مؤزراً ، ومجداً مظفراً ، ولتستعد لقيادة العالم كله
إلى الهدى والرشاد ـ وتقمع الشرك والظلم والفساد . نسأل الله أن يوفقنا إلى ما فيه الخير البلاد والعباد .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
( 4 )
( الخطبة الثانية )
الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ،
( 5 )
وبعد :
فيا أيها المسلمون :(/4)
إن الذين يتهمون دين الله بأنه هو السبب في تخلف المسلمين ، ما هم إلا أبواق لأعداء هذه الأمة العظيمة ، يرددون بلا عقل ، ما يلقى إليهم من زخارف القول ، وهذا ما يبتغيه الذين وصفهم الله تعالى بقوله ( لا يألونكم خبالا ) [ آل عمران : 118 ] ، من أعداء الأمة ، أي لا يقصرون في إيصال الضرر والشر إليكم .
فهم الذين يشيعون بين المسلمين أن تمسكنا بديننا سبب لتأخرنا وأننا لو تركنا هذا الدين أو فرطنا فيه - ونعوذ بالله من ذلك - فإننا سوف نتقدم ونلحق بركب الحضارة ، ولكن المسلم الحق المعتز بدينه يعلم أن الحقيقة هي عكس ما يقولون تماماً ، ذلك أنهم لما تهاونوا في أمر دينهم ، ونظموا حياتهم وفق أهوائهم تأخروا بعد أن كانوا قادة وسادة .
وأن المتأمل لحال المسلمين اليوم يرى أن أمم الكفر قد تداعت علينا من كل حدب وصوب ، يقتلون ويدمرون ، ويحرقون ويغتصبون ، ويفعلون كل ما يستطيعون ليبيدوا أهل هذا الدين تماماً ، كما وصف لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ، ففي سنن أبي داود من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، قيل يا رسول الله : فمن قلة يومئذ ؟ قال : لا ، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت ) [ صحيح الجامع ]
ولكن مع هذا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم ، يستبيح بيضتهم ولو اجتمع من(/5)
بأقطارها ، أو قال : من بين أقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً ") [ صحيح مسلم ] وهذا الحديث _ وغيره كثير _ يخبرنا فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة خلقت ليكون لها البقاء وتكون لها السيادة والريادة ، ولكن علينا العمل والسعي لذلك ، وأول ما نعمله هو التوبة النصوح والعودة إلى الله ، وسيأتي النصر من عند الله إن سعينا لتوفير أسبابه ، وهذا وعد الله والله لا يخلف الميعاد .
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، اللهم احفظ بعينك التي لا تنام صاحب السمو أمير البلاد ولي عهده الأمين ، ووفقهما لما فيه صلاح الدنيا والدين ، اللهم ارحم شهدائنا الأبرار واجعل لأسرانا وأسرى المسلمين من عسرهم يسراً ومن ضيقهم فرجا ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً ، سخاء رخاءً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين .
عباد الله :
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " [ النحل : 9 ]
وأقم الصلاة .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
احذروا الشائعات
منذ خلق ا لله الخليقة والصراع بين الحق والباطل على أشده ، وإذا كانت الحروب والأزمات تستهدف الإنسان من حيث جسده وبنيانه ، فإن هناك حرباً أشد فتكاً ، لأنها تستهدف الإنسان من حيث عقله وفكره وكيانه ، إنها حرب الإشاعات .
فالإشاعات من أخطر الحروب المعنوية ، والأوبئة النفسية ، بل من أشد الأسلحة تخريباً وتدميراً .
لذا لما جاء الإسلام اتخذ موقفاً حاسماً وحازماً من الإشاعات وأصحابها ، لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية ، على تماسك المجتمع المسلم ، وتلاحم أبنائه ، كما أن الشائعات ، منافية للأخلاق النبيلة والسجايا الكريمة التي حثت عليها الشريعة الغراء ، من الاجتماع والمحبة والمودة والإخاء ، وهل الشائعات إلا نسف لتلك القيم ، ومعول هدم لهذه المثل ؟!
كما حث الإسلام على التثبت والتبين في نقل الأخبار ، يقول سبحانه وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " - ( وفي قراءة - " فتثبتوا ) أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " ( الحجرات : 6 )
واخبر الله سبحانه أن الإنسان مسئول أمام الله عز وجل ، ومحاسب عن كل صغيرة وكبيرة ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" [ ق : 18 ] وقال سبحانه " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً " [ الإسراء : 36 ]
احذروا الشائعات
الحمد لله رب العالمين : أما بعد :
فيا أخوة الإسلام : أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فقد قال جل في علاه ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ) [ النساء : 131 ] يقول طلق بن حبيب رحمه الله : اتقوا الفتن بالتقوى [ البيهقي في الزهد ]
عباد الله :(/1)
منذ خلق ا لله الخليقة والصراع بين الحق والباطل على أشده ، وإذا كانت الحروب والأزمات تستهدف الإنسان من حيث جسده وبنيانه ، فإن هناك حرباً أشد فتكاً ، لأنها تستهدف الإنسان من حيث عقله وفكره وكيانه ، إنها حرب الإشاعات .
فالإشاعات من أخطر الحروب المعنوية ، والأوبئة النفسية ، بل من أشد الأسلحة تخريباً وتدميراً .
لذا لما جاء الإسلام اتخذ موقفاً حاسماً وحازماً من الإشاعات وأصحابها ، لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية ، على تماسك المجتمع المسلم ، وتلاحم أبنائه ، كما أن الشائعات ، منافية للأخلاق النبيلة والسجايا الكريمة التي حثت عليها الشريعة الغراء ، من الاجتماع والمحبة والمودة والإخاء ، وهل الشائعات إلا نسف لتلك القيم ، ومعول هدم لهذه المثل ؟!
كما حث الإسلام على التثبت والتبين في نقل الأخبار ، يقول سبحانه وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " - ( وفي قراءة - " فتثبتوا ) أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " ( الحجرات : 6 )
واخبر الله سبحانه أن الإنسان مسئول أمام الله عز وجل ، ومحاسب عن كل صغيرة وكبيرة ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" [ ق : 18 ] وقال سبحانه " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً " [ الإسراء : 36 ]
( 2 )
إخوة الإسلام :
إن الشائعات مبنية على سواء الظن بالمسلمين ، والله عز وجل يقول : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " [ الحجرات : 12 ]
وقال صلى الله عليه وسلم :" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " ( متفق عليه )(/2)
كما نهى الإسلام اتباعه أن يطلقوا الكلام على عواهنه ، ويلغوا عقولهم عند كل شائعة ، أو ينساقوا وراء كل ناعق ، ويصدقوا قول كل دعى مارق ، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم : " كفى كذباً بالمرء أن يحدث بكل ما سمع " مسلم " وفي رواية ( كفى بالمرء إثماً ) فليس كل ما يسمع يقال ، ولا كل ما يقال يصدق ، ولا ينبغي للمسلم أن يلغي عقله ، ويتحول إلى ببغاء ، فيردد كل ما يسمع دون تفكير أو روية .
إخوتي الكرام :
إن الكلمة شأنها عظيم وخطرها جسيم ، ومن أخطر الكلمات الشائعات الكاذبة المغرضة .
فكم دمرت الشائعات من دول ومجتمعات ، وحطمت من أمم وحضارات ، وكم أشعلت نار الفتنة بين الأصفياء ، وكم نالت من علماء وعظماء ، بل لرب شائعة أثارت فتناً وبلايا وحروباً ورزايا ، وأذكت نار حروب عالمية ، وأججت أوار معارك دولية ، وإن الحرب أولها كلام ، ورب كلمة سوء ماتت في مهدها ، ورب مقالة شر أشعلت فتناً ، لأن حاقداً أو مغرضاً ضخمها ونفخ فيها .
ومروج الشائعة - يا عباد الله - لئيم الطمع ، دنئ الهمة ، مريض النفس ، منحرف التفكير ، عديم المرؤة ، ضعيف الديانة ، يتقاطر خسة ودناءة ،ساع في الأرض بالفساد ، سعادته في هلاك البلاد والعباد ، إنه عضو مسموم ، يتلون كالحرباء ، جمع بين سوء النية وخبث الطوبة وهو وأمثاله سبب النزيف الدائم في جسد الأمة الإسلامية .
( 3 )
إخوة الإسلام :
إن تاريخ الشائعات الأسود تاريخ قديم ، يروجها ضعاف النفوس والمغرضون ، ومع ظهور الإسلام وانتشاره ، ظهرت الشائعات من خصومه وأعدائه - لا سيما اليهود ، قتلة الأنبياء ونقضة العهود ، الذين لم يسلم من شائعاتهم حتى الأنبياء ، فقد تعرضوا لحملة من الافتراءات ، فهذا المسيح عليه السلام تشكك الشائعات فيه وفي أمه ، الصديقة العفيفة ، الطاهرة البريئة ، قال تعالى : " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً " [ النساء : 156 ]
كذلك - إخوة الإسلام : -(/3)
فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يسلم من الشائعات في دعوته، أو في شخصه ، أو في عرضه ، وأهل بيته ، فقد رميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها، فرمى بالسحر والجنون والكهانة وتفنن الكفار والمنفقون في اختلاق الاتهامات الباطلة ضد دعوته .
ولعل من اشهرها قصة الإفك المبين ، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات ، وهي تتناول بيت النبوة الطاهر ، وتتعرض لعرض أكرم الخلق على الله ، وعرض الصديق والصديقة الطاهرة العفيفة .. حتى تدخل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الشنيعة ، ويرسم المنهج للمسلمين عبر العصور ، لما يجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين " [ النور : 12 ] إلى قوله سبحانه : " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين " [ النور : 16،17 ]
وهكذا إخوة الإسلام يحاول أصحاب الإشاعات الكاذبة المغرضة ، أن يهزوا ثقة الرعية في ولي أمرهم ، وحاكمهم وأميرهم ، ببث الإشاعات الكاذبة حول بيته الطاهر العفيف .
بل قد تكون الإشاعة قبل معركة حاسمة من المعارك التي تخوضها الأمة ضد أعداءها ، فيبث المرجفون الإشاعات المغرضة ، والأخبار الكاذبة ، إما ليهولوا من قوة العدو في عدده وعدته ، لتخذيل المسلمين وتوهين قواهم ، وإما لبث الفرقة وشق الصف ، وإثارة النعرات القومية ، أو العصيات المذهبية فحذرنا الله من هؤلاء وهؤلاء ، فقال سبحانه : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " [ آل عمران 173،174] وقال سبحانه : " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " [ آل عمران : 103 ]
( 4 )
إخوة الإسلام :(/4)
بل قد تكون الإشاعة في قلب المعركة وأثناء المواجهة مع العدو في ميدان القتال ، حتى توهن العزائم ، وتضعف الهمم ، وتنهار معنويات الجنود أو يفروا من حول قائدهم .
وهذا ما حدث في غزوة أحد ، فبعد أن انقلب نصر المسلمين إلى هزيمة قاسية وحدث في صفوف المسلمين ارتباك شديد ، إذ بصائح يصيح : إن محمداً قد قتل ، فانهارت الروح المعنوية ،وتوقف بعض الجند عن القتال … ولا شك أن إشاعة كهذه ، تعتبر الغاية في قوتها وأثرها ، لكن ننظر إلى موقف هذا الصحابي الجليل ، كيف قابل هذه الإشاعة بالعمل الصالح المفيد ، إنه أنس بن النضر ، الذي مر بأولئك الذين توقفوا عن القتال ، فقال : ما تنتظرون ؟ فقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ( يعني المسلمين ) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ( يعني المشركين ) ، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ ، فقال : أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس : واها لريح الجنة يا سعد ، إني أجده دون أحد ثم مضى ، فقاتل القوم حتى قتل ، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه ( أي أصابع يده ) ، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم " ( متفق عليه ) .
وفي ذلك نزل قول الله تعالى : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن ما أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين [ آل عمران : 144]
وهكذا يكون المؤمن الصادق ، لا يلتفت للإشاعات ، ولا إلى التثبيطات ، ولو كانت حقيقة إخوة الإسلام :(/5)
ما أكثر الشائعات في هذا العصر ، وما أسهل انتشارها ، وما ذاك إلا لكثرة وسائل الاتصالات التي جعلت العالم قرية صغيرة ، وإن الإشاعات التي يروجها الأعداء لهي صورة من صور الإرهاب النفسي والتحطم المعنوي ، بل إنها الغام معنوية ، وقنابل نفسية ، ورصاصات طائشة تصيب أصحابها في مقتل ، وتفعل ما لا يفعله ألف مدفع ، من إثارة القلق والرعب وزرع بذور الفتنة الطائفية ، وإثارة البلبلة بين الناس ، لا سيما في أوقات الأزمات .
وتزداد خطورة الشائعات حينما تجد من يرددونها كالببغاوات دون أن يدركوا أنهم ادوات يستخدمون لصالح أعداؤهم وهم لا يشعرون .
فيا أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) اعلموا أن الشائعات جريمة ضد أمن المجتمع ووحدته ، وصاحبه مجرم في دينه ومجتمعه وأمته ، مثير للاضطرابات والفوضى في الأمة .
عباد الله :
ومن هنا ندرك خطورة هذه الحرب - حرب الإشاعات - ضد دين الأمة وأمتها ومجتمعها ، مما يتطلب ضرورة التصدي لها ، وأهمية مكافحتها ، حتى لا تقضي على تماسك المجتمع وتلاحم أفراده .
( 5 )
وصدق الله العظيم :" يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " [ الحجرات : 60 ]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
( 6 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين أما بعد :-
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن دينكم الحنيف رسم المنهج الصحيح لمواجهة أخطار الشائعات ، وأقام الضمانات الواقية التي تحول دون غرق السفينة أو تغيير مسارها الصحيح .(/6)
وان من أولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الثبت في الأمور وطلب البراهين الواقعية ، وبذلك يسد الطريق أمام مروجي الشائعات .
كما أن الأمة مطالبة - كل في مجاله - بالقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة المدمرة كما أن على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في المحافظة على سلامة المجتمع من شرور الشائعات وأخطارها ، بدءاً بالوعي وتقوية الوازع الإيماني وتبيين الحقائق ونشرها ، وعدم التساهل في نقل الكلام ، لاسيما في أوقات الأزمات .
فاعتصموا بحبل الله المتين ، وسيروا على صراطه المستقيم ، واستمسكوا بشرعه القويم ، ثقوا في الله ربكم أولاً ، ثم ثقوا بقيادتكم الحكيمة ، وسياستها الرشيدة ولنكن جميعاً صفاً واحداً ، قلباً وقالباً خلف قيادتنا ولا نلتفت لإشاعات المغرضين ، ولا إرجاف المرجفين ، وبإيمان صادق ، وروح معنوية عالية ، بعيداً عن الإنهزامية كما قال سبحانه : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " [ آل عمران : 173- 175 ] .
الدعاء
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/7)
اطبع هذه الصحفة
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً
يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب … " ( الطلاق : 2-3 )
نزلت هذه الآية الكريمة في عوف بن مالك أسر المشركون ابناً له يسمى " سالماً " فأتى عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة ، وقال : إن العدو أسر ابني ، وجزعت الأم ، فما تأمرني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتق الله واصبر وآمرك وإياها أن تكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقالت : نعم ما أمرنا به ، فجعلا يقولان ، فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وإبلهم وكانت كثيرة ، وجاء بها إلى المدينة فقال أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم : أيحل لي أن آكل مما أتى به ؟ فقال : نعم ونزلت الآية يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم : " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " ( رواه أحمد من حديث أبي ذر - ابن كثير ج 4 ص 379 "
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونتوب إليه ونستغفره ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، قال في محكم كتابه وهو أصدق القائلين : " واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين " [ البقرة : 194 ] وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً رسول الله ، قال في حديثه الشريف لمعاذ رضي الله عنه " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ،وخالق الناس بخلق حسن " ( رواه أحمد والترمذي " 97حديث للجامع "
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ،وعلى آله وأصحابه، ومن تمسك بهديه واتبع سنته إلى يوم أن نلقى الله .
أما بعد :
فيا أيها المسلمون :(/1)
يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب … " ( الطلاق : 2-3 )
نزلت هذه الآية الكريمة في عوف بن مالك أسر المشركون ابناً له يسمى " سالماً " فأتى عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة ، وقال : إن العدو أسر ابني ، وجزعت الأم ، فما تأمرني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتق الله واصبر وآمرك وإياها أن تكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقالت : نعم ما أمرنا به ، فجعلا يقولان ، فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وإبلهم وكانت كثيرة ، وجاء بها إلى المدينة فقال أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم : أيحل لي أن آكل مما أتى به ؟ فقال : نعم ونزلت الآية يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم : " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " ( رواه أحمد من حديث أبي ذر - ابن كثير ج 4 ص 379 "
( 2 )
حقاً أيها المسلمون :
إن التقوى وصية الله للأولين والآخرين ، قال تعالى : " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله " ( النساء : 131 )، ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ففي حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد قال :" أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل شئ " ( السلسلة الصحيحة 555 )
وسئل علي رضي الله عنه عن التقوى فقال : "هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل "، وروى الشيخان من حديث النعمان بن بشير رضي ا لله عنهما : " .. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه " ( متفق عليه )(/2)
وقال عمر بن عبدالعزيز " ليس التقوى بصيام النهار ولا قيام الليل والتخليط بعد ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله " .
( 3 )
أيها المسلمون :
وإن نظرة واحدة في القرآن الكريم ترينا مبلغ عنايته بالتقوى ، فلقد ذكرها في مواضع متعددة وعلق عليها الخير الكثير والثواب الجزيل ، وسعادة الدنيا والآخرة، ومن ذلك قوله سبحانه : " وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين"(النحل 30-31 )
وإن التقوى صفة الأولياء المقربين فكل من كان تقياً كان لله ولياً قال تعالى : " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم"[يونس62-64 ]
والتقوى تدفع كيد الأعداء قال تعالى:" وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً " [ آل عمران : 120 ]
والتقوى خير زاد يحمله المسافر إلى دار القرار نجد ذلك في قوله جل وعلا :
" وتزودا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب " [ البقرة : 197 ]
والتقوى سبب النجاة من شدائد الدنيا والآخرة " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ) [ الزمر : 61 ] فلا يحصل ما يسوء هم ، ولا يحزنون على ما خلفوا في الدنيا فقد عوضهم الله خيراً منه .
والتقوى طريق إلى الدرجات العالية في جنات النعيم ، يقول سبحانه وتعالى :
" إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر " [ القمر : 54-55 ]
فأوصيكم أيها المسلمون ونفسي بتقوى الله عز وجل فإنها خير زاد ، وبها تنكشف الكرب وتتحقق الآمال ، قال تعالى : " إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " [ يوسف : 90 ] ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة معلومة(/3)
فاتقوا الله أيها المسلمون "واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" [ آل عمران 200 ]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " ( صحيح الجامع 97 - أحمد )
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
( 4 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا رسول الله المبعوث رحمة للعالمين ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمداً وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فيا أيها المسلمون :
اتقوا الله حق تقاته ، واسعوا في مرضاته ، وأيقنوا من الدنيا بالفناء ، ومن الآخرة بالبقاء واعملوا لما بعد الموت ، " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " [ الزلزلة 7-8 ]، وأكثروا من ذكر الله عز وجل ، ومن الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته ، ولا عيباً إلا سترته ، ولا مريضاً إلا شفيته ، ولا ديناً إلا أديته ، ولا هماً ولا غماً إلا فرجته ، ولا ميتاً إلا رحمته ، ولا عدواً إلا أهلكته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين ، اللهم انصر الإسلام والمسلمين واهزم أعداء الإسلام وأعداء المسلمين واحفظ بحفظك سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً ، سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين .
عباد الله :
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " [النحل : 90 ]
اذكروا الله العظيم يذكركم واستغفروه يغفر لكم .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/4)
اطبع هذه الصحفة
الثبات في الأزمات
فإن الابتلاء سنة كونية لا تتخلف ، ماضية لا تتوقف ، شاملة ، تجرى على المؤمنين والكافرين ، على العصاة والمتقين ، قال الله تعالى : " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" ( العنكبوت:1-3 )
وتكون هذه الفتنة بالخير تارة ، وبالشر تارة أخرى ، وبالفقر تارة ، وبالغنى تارة أخرى قال الله تعالى:"ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " [ الأنبياء : 35 ] وقال تعالى : " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهنن .. " ( الفجر : 15-17 ) والابتلاء قد يكون نعمة إذا أورث الأوبة والرجوع إلى الله .
قال الله تعالى : " وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون "
( الأعراف : 94 ) وما المصائب والأزمات التي قد تلم بالمسلمين إلى صورة من صور هذا الابتلاء ليس فيها دليل على انحراف النهج أو تنكب قصد السبيل ، بل إن أكثر الناس بلاء هم الأنبياء والصديقون ، ولعل مصداق ذلك ما نعلم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطاهرين ،
فلقد نالهم من البلاء والأذى الحسي والمعنوي ما تحقق به وعد الله : " ولنبلونكم بشئ من والخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات " ( البقرة : 155 ) وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه " كان الرجل قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه ، فيشق باثنتين ما يصده ذلك عن دينه ( أبو داود )
الثبات في الأزمات(/1)
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وبصر من العمى وارشد من الغي ، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، ، ما ترك من خير إلا دلنا عليه ، ولا شر إلا حذرنا منه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد :
فإن الابتلاء سنة كونية لا تتخلف ، ماضية لا تتوقف ، شاملة ، تجرى على المؤمنين والكافرين ، على العصاة والمتقين ، قال الله تعالى : " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" ( العنكبوت:1-3 )
وتكون هذه الفتنة بالخير تارة ، وبالشر تارة أخرى ، وبالفقر تارة ، وبالغنى تارة أخرى قال الله تعالى:"ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " [ الأنبياء : 35 ] وقال تعالى : " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهنن .. " ( الفجر : 15-17 ) والابتلاء قد يكون نعمة إذا أورث الأوبة والرجوع إلى الله .
قال الله تعالى : " وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون "
( الأعراف : 94 ) وما المصائب والأزمات التي قد تلم بالمسلمين إلى صورة من صور هذا الابتلاء ليس فيها دليل على انحراف النهج أو تنكب قصد السبيل ، بل إن أكثر الناس بلاء هم الأنبياء والصديقون ، ولعل مصداق ذلك ما نعلم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطاهرين ،(/2)
فلقد نالهم من البلاء والأذى الحسي والمعنوي ما تحقق به وعد الله : " ولنبلونكم بشئ من والخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات " ( البقرة : 155 ) وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه " كان الرجل قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه ، فيشق باثنتين ما يصده ذلك عن دينه ( أبو داود )
( 2 )
عباد الله :
إن من حكمة الله سبحانه وتعالى في الابتلاء أن يتمايز الناس " ليميز الله الخبيث من الطيب "
( الأنفال : 37 ) " فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكذبين " ( العنكبوت : 3 )(/3)
وهكذا تنفذ سنة الله في كل محنة أو أزمة تمر بالمسلمين ، فيخرج منها المؤمنون أصلب عوداً ، وأقوى قلوباً، وأكثر إيماناً وطمأنينة ، وينتكس المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، ليس معنى ذلك أن المؤمنين لا يساورهم خوف أو لا يشعرون بضيق ، فهم بشر ، ولكنه الصبر والثبات ، أما المنافقون الذين لم تكن قلوبهم قد أشربت ماء اليقين والثقة بالله ، فما ينتظرون الا لحظة الأزمة ، أو ساعة الضيق ، لتنكشف حقائقهم وتتعرى أمام النور ، فيعلنونها صريحة تفوح منها رائحة الغدر والشك في وعد الله : ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غررواً ) استمع إلى هذا المقطع من سورة الأحزاب وهو يصور محنة المسلمين في تلك الغزوة ، وموقف المنافقين ( … إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ( الأحزاب :10-12) وها هم أولاء يهرعون إلى الفرار لائذين بأعذار واهية رغبة بأنفسهم عن رسول الله والمؤمنين : ( ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً " ( الأحزاب : 13 ) يالسوء الموقف ووصمة العار ! يسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة الضيق ، ويفرحون بتخلفهم عنه : ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله .. ( التوبة : 81 )
لقد هبطوا إلى المستنقع الآسن ، وتخلفوا عن موكب الإيمان ، وأنى لهم أن يكتفوا بذلك لقد طفقوا يزرعون الخوف وينشرون الأرجيف لتثبيط نفوس المؤمنين.
( وإذ قالت طائفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا " ( الأحزاب : 13 )(/4)
قد أكل الذعر قلوبهم فتهيأت لقبول الفتنة والصدود عن سبيل الله ، ضاربين عرض الحائط ببيعتهم مع الله ورسوله ( ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيراً ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولاً ) [ الأحزاب : 14-15 ]
وفي الوجه المقابل من الصورة يقف المؤمنون في شموخ " ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً " ( الأحزاب : 22 )
( 3 )
أيها الإخوة المؤمنون :
إننا بحاجة - ونحن نعيش على إيقاع الأزمة - هذه الأيام أن نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى ونتأسى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبتلك العصبة الطاهرة من أصحابه الكرام الذين كانوا جسداً واحداً ، وصفاً كالبنيان المرصوص ، وأن نحذر من أولئك المرجفين والمخذلين الذين يتعمدون إشاعة الأخبار الكاذبة والأراجيف المغرضة ، محاولين بذلك أن يزعزعوا أمننا ، وأن ينشروا الخوف في صفوفنا ، ويفرقوا كلمتنا في هذا الظرف الدقيق فيجب أن نفضح كيدهم وألا يجدوا أذنا صاغية لما يروجون ، ولا شخصاً يتعاطى مع بضاعتهم الكاسدة بإذن الله تعالى ، ليرجع كيدهم في نحورهم ، فيرتطموا بصخرة اليأس من التأثير في هذا الجسم الموحد الآمن بإذن الله
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
( 4 )
الخطبة الثانية:(/5)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد : فإن من صفات المؤمنين الصادقين أنهم يثبتون عندما تعصف الفتن في كل اتجاه ، وتذهب بالناس كل مذهب ، لأنهم يأوون إلى ركن شديد من الإيمان والثقة بالله .. حينما كان المؤمنون محاصرين في المدينة لا يستطيع أحدهم أن يخرج لقضاء حاجته أثناء غزوة الأحزاب ، وكانوا يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة لا تؤثر فيها المعاول فاشتكوا الى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأخذ المعول فقال بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلثها وقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة ، ثم ضرب الثانية ، فقطع الثلث الآخر ، فقال الله أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس والله أني لأ بصر قصر المدائن أبيض ، ثم ضرب الثالثة ، وقال : بسم الله ، فقطع بقية الحجر فقال الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة " ( أخرجه أحمد والنسائي بإسناد حسن ) ، وقد كان المسلمون في أشد الثقة بوعد الله ورسوله ،، وهكذا المؤمنون في كل زمان ومكان كلما أطبق الظلام ، كلما تطلعوا إلى النصر الموعود ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا " ( يوسف : 110 )
يحدثنا القرآن في سورة يوسف عن صورة من صورة الأمل المشرق والثقة بالله : كان نبي الله يعقوب عليه السلام قد أذن لأبنائه أن يصطحبوا معهم أخاهم شقيق يوسف إلى مصر ليمتاروا بعد ما أخذ عليهم العهد " قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله ما نقول وكيل " ( يوسف 66 )(/6)
فماذا حصل ؟ لقد جاءوا وتركوه بعدما أخذه الملك جزاء الصواع الذي وجد في رحله ، وامتنع كبيرهم أن يقدم على أبيه لما تذكر ذلك الميثاق ! فماذا كان موقف يعقوب أمام هذه الابتلاءات المتلاحقة ؟ لقد انبعث عنده الأمل والرجاء في أن يأتي أبناؤه جميعاً بمن فيهم يوسف الذي افتقد منذ زمان ،( قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً.."(يوسف : 83 )
( 5 )
أيها الإخوة المؤمنون :
إن أهم أسباب الثبات في المحن - بعد الإيمان بالله قوة الصبر والتوكل على الله وكثرة الرجوع والتضرع إليه قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين "
( البقرة : 153 ) وقال تعالى : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " ( الطلاق: 3 ) وقد سجل القرآن ذلك الموقف الخالد للمؤمنين " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ( آل عمران : 173 ) وإن نتيجة الثبات المحققة هي النصر والفرج ( واعلم بأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ) [ أخرجه الإمام أحمد ] .
قال يحيى بن يحيى الليثي حدثني مالك عن زيد بن أسلم ، قال كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر جموعاً من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد فإنه مهما ينزل بمؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجاً ، وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " ( أخرجه مالك في الموطأ )(/7)
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً - سخاء رخاء ، وسائر بلاد المسلمين اللهم اجعل هذا البلد واحة أمن وأمان ، اللهم انصرنا على أعدائنا ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ، اللهم يا منزل الكتاب ويا مجرى السحاب اهزمهم وانصرنا عليهم ، اللهم اجعل الدائرة تدور عليهم وانصر المجاهدين في كل مكان واحفظ صاحب السمو أمير البلاد وولي عهده الأمين ورد إلينا أسرانا وارحم شهداءنا .
إنك على كل شئ قدير .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/8)
اطبع هذه الصحفة
اليقين والتوكل
في هذه الظروف التي مرت بها البلاد ، وأمام هذه التحديات التي واجهتها الدولة ، يجب على المسلم أن يشكر الله تعالى على نعمة الفرج وأن يزداد إيمانه بالله قوة ، ويقينه في وعد الله رسوخاً لأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ، هكذا علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة ، وفي كلماته التي علمها لابن عمه العباس رضي الله عنهما في قوله : احفظ الله يحفظك " قال ابن القيم : اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وتنافس المتنافسون ، وإليه شمر العاملون وقال عليه رحمة الله :" إذا تزوج الصبر باليقين ولد بهما حصول الإمامة في الدين"
فاليقين هو الاعتقاد الجازم الثابت المستقر في القلب المطابق للواقع وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه " اليقين هو الإيمان كله"ولما عدد الله صفات المتقين في أول سورة البقرة قصر سبحانه الهداية والفلاح على المؤمنين الموقنين فقال " آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"[البقرة:1-5 ]
ولعمق اليقين في القلوب ، وقوة تأثيره على صاحبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية " الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله"
واليقين يصل بك إلى درجة الإحسان ، كما جاء في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ( متفق عليه )
اليقين والتوكل(/1)
إن الحمد لله ، نحمده ونستعين به ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وخليله ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين .
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ،وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " [ آل عمران : 102]
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " [ النساء : 1]
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ] [ الأحزاب : 70،71 ]
( 2 )
أيها الإخوة المسلمون :(/2)
في هذه الظروف التي مرت بها البلاد ، وأمام هذه التحديات التي واجهتها الدولة ، يجب على المسلم أن يشكر الله تعالى على نعمة الفرج وأن يزداد إيمانه بالله قوة ، ويقينه في وعد الله رسوخاً لأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ، هكذا علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة ، وفي كلماته التي علمها لابن عمه العباس رضي الله عنهما في قوله : احفظ الله يحفظك " قال ابن القيم : اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وتنافس المتنافسون ، وإليه شمر العاملون وقال عليه رحمة الله :" إذا تزوج الصبر باليقين ولد بهما حصول الإمامة في الدين"
فاليقين هو الاعتقاد الجازم الثابت المستقر في القلب المطابق للواقع وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه " اليقين هو الإيمان كله"ولما عدد الله صفات المتقين في أول سورة البقرة قصر سبحانه الهداية والفلاح على المؤمنين الموقنين فقال " آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"[البقرة:1-5 ]
ولعمق اليقين في القلوب ، وقوة تأثيره على صاحبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية " الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله"
واليقين يصل بك إلى درجة الإحسان ، كما جاء في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ( متفق عليه )
وباليقين والصبر تنال الإمامة في الدين قال شيخ الإسلام " إنما تنال الامامة في الدين بالصبر واليقين " ثم تلا قوله تعالى " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون"[السجدة :24 ](/3)
ولماذا لا يوقن العبد بوعد الله وهو القائل سبحانه :"والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيدخلهم جنت تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وعد الله حقاً ومن أصدق من الله قيلا"[النساء :122]
وهو القائل جل شأنه : " ومن أصدق من الله حديثاً " [ النساء : 87 ]
قال سبحانه " ألا أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " [ يونس : 55 ] وقال عز وجل : " وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون " [ الروم : 6 ]
قال أحد السلف لإخوانه لقد رأيت الجنة والنار عياناً فعجبوا له فقال لا تعجبوا لقد رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورؤيتي لهما بعينه صلى الله عليه وسلم أكثر عندي من رؤيتي لها بعيني ، فإن عيني قد تزيغ أو تطغى ، وعيناه صلى الله عليه وسلم قال فيهما رب العزة " ما زاغ البصر وما طغى "
وكان أحد السلف يقول أنا أعلم متى يذكرني ربي، فقالوا له أخاص ذلك بك ؟ قال بل هو للناس جميعاً ، أو ما قرأتم قوله تعالى " فاذكروني أذكركم " [ البقرة : 152 ] فهو على يقين من أنه إذا ذكر الله ذكره الله سبحانه .
( 3 )
وتأمل موقف أم موسى عليه السلام لما أوحى الله إليها أن تلقى ولدها في الماء ما ترددت ولا تقاعست بل نفذت أمر الله سبحانه لما سكن في قلبها من يقين بوعد الله سبحانه حين قال لها " وأوحينا إلى أم موسى ان أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافى ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " [ القصص:7]
وهذا شأن المؤمن متوكل على الله موقن بوعده سبحانه .(/4)
وما الذي يجعل عمير بن الحمام يلقى تمرات كن في يده ويندفع نحو المعركة يوم بدر وهو يقول إنها لحياة طويلة إذا انتظرت حتى آكل هذه التمرات " إنه ما فعل ذلك إلا بعد أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول ما من عبد يقاتل هؤلاء القوم اليوم صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر فيقتل إلا كان من أهل الجنة فقال عمير بخ بخ يا رسول الله قال ما حملك على قول بخ بخ يا عمير ؟ فقال يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنت من أهلها فطار إلى المعركة فرحاً موقناً بوعد رسول الله ، يضحي بنفسه إرضاء لله ورسوله وطمعاً في جنة عرضها السموات والأرض .
الجود بالمال جود في تكرمه ** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وهذا اليقين القوي هو الذي يجعل أنس بن النضر يوم أحد يقول لسعد بن معاذ : واهاً لريح الجنة والله أني لأجد ريحها من دون أحد " وأخذ يقاتل حتى قتل وقد وجد في أرض المعركة وبه بضع وثمانون ضربة ، وما عرفته إلا أخته ببنانه من كثرة ما به من جراح " ( متفق عليه )
وقوة اليقين والتوكل على الله لها أثر عظيم في سلوك العبد المؤمن ، فإنه يحيا مطمئن القلب هادئ النفس ، قرير العين ، فهو متوكل على ربه ، موقن بوعده راض بحكمه
ولذلك لما سئل الحسن البصري عليه رحمة الله ما زهدك في الدنيا يا أمام ؟ قال أربعة أشياء ، علمت إن رزقي لا يأخذه غيري فأطمأن قلبي ، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشغلت به وحدي ، وعلمت أن الله مطلع على فاستمييت أن يراني على معصية ، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي ، فهكذا يفعل اليقين بأهله .
( 4 )(/5)
قدم سليمان بن عبدالملك مكة حاجاً ، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وجد سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ناحية من المسجد يقرأ القرآن ، فلما انتهى الخليفة ، من طوافه اقترب منه وألقى عليه السلام فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، أمير المؤمنين . فمال عليه الخليفة وقال له : يا أبا عمر سلني حاجة أقضها لك ، فسكت سالم حتى كررها الخليفة ، فقال سالم يا أمير المؤمنين أستحيي أن أكون في بيت الله وأسأل غيره ، فتركه الخليفة وانتظره حتى خرج من المسجد ، فلما خرج من المسجد قال له ها نحن قد خرجنا من بيت الله يا أبا عمر فسلني حاجة أقضيها لك - فقال يا أمير المؤمنين من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة ؟ قال بل من أمر الدنيا ، فإن الآخرة لا يملكها إلا الله . فقال يا أمير المؤمنين أنا لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل الدنيا من لا يملكها - فقال الخليفة - زادنا الله بكم يقينا آل الخطاب .
أيها الإخوة المسلمون :
ونحن وقد حقق الله لنا الفرج، وقد حقق الله لنا وعده، يجب أن يتعمق اليقين في قلوبنا وأن نجتهد في العبادة والطاعة .
قال تعالى : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين " [ العنكبوت : 69] وقال : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره " [ الطلاق : 3 ]
وقال ابن القيم عليه رحمة الله ( دم على طاعة الله حتى يجعل الله لك في قلبك عيناً ترى بها الغيب شهادة )
وقال ابن عطاء " على قدر ما بهم من التقوى أدركوا من اليقين " جاء في الحديث القدسي : " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه " ( رواه البخاري )
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
( 5 )
الخطبة الثانية:(/6)
الحمد لله كثيراً كما أمر ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وخليله ، الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة والسراج المنير ، إلى يوم القيامة . أما بعد :
فإن العبد إن أحسن التوكل على ربه ، وأيقن بوعده وسلم الأمر إليه كفاه الله أمر الدنيا والآخرة ، كما قال صلى الله عليه وسلم :" من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه "( حديث حسن ، تخريج الترغيب والترهيب ) ( الألباني )
قال تعالى : " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدراً " [ الطلاق : 3 ]
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين "
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا إمامة في الدين ، وقوة في اليقين ، وحسن التوكل عليه ، إنه حسبنا ونعم الوكيل .
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً - سخاء رخاء ، وسائر بلاد المسلمين اللهم اجعل هذا البلد واحة أمن وأمان ، اللهم انصرنا على أعدائنا ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ، اللهم يا منزل الكتاب ويا مجري السحاب اهزمهم وانصرنا عليهم ، اللهم اجعل الدائرة تدور عليهم وانصر المجاهدين في كل مكان واحفظ صاحب السمو أمير البلاد وولي عهده الأمين ورد إلينا أسرانا وارحم شهداءنا واغفر للمسلمين والمسلمات .
إنك على كل شئ قدير .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/7)
اطبع هذه الصحفة
خطر الشائعات
إن الشائعات من أخطر الحروب المعنوية ، والأوبئة النفسية ، لأنها تستهدف عمق الإنسان وعطاءه ، وقيمه ونماءه ، بل هي من أشد الأسلحة تدميراً ، وأعظمها وقعاً وتأثيراً ، وهي ظاهرة اجتماعية عالمية ، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية ، وهي جديرة بالتشخيص والعلاج ، وحرية بالاهتمام والتصدي لاستئصالها ، والتحذير منها ، والتعاون للقضاء على أسبابها ودوافعها ،
حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة ، التي هي عماد نجاح الأفراد ، وأساس أمن المجتمعات واستقرارها .
إن الذي يطالع التاريخ الإنساني ، يجد أن الشائعات وجدت حيث وجد الإنسان بل إنها عاشت وتكاثرت في ربوع كل الحضارات ..
ولما جاء الإسلام ، اتخذ موقفاً حازماً من الشائعات وأصحابها لأن نشرها وبثها بين افراد المجتمع له آثار سلبية على تماسك المجتمع المسلم ، وتلاحم أبنائه .
بل لقد عد الإسلام ذلك سلوكاً سيئاً ، منافياً للأخلاق النبيلة ، والطبائع والسجايا الكريمة ، والمثل العليا ، التي جاءت بها شريعتنا الغراء وحثت عليها ، من الاجتماع والمحبة ، والإخاء والمودة ، والتعاون والتراحم .
خطر الشائعات
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : -
فيا أيها الإخوة المسلمون :(/1)
إن الشائعات من أخطر الحروب المعنوية ، والأوبئة النفسية ، لأنها تستهدف عمق الإنسان وعطاءه ، وقيمه ونماءه ، بل هي من أشد الأسلحة تدميراً ، وأعظمها وقعاً وتأثيراً ، وهي ظاهرة اجتماعية عالمية ، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية ، وهي جديرة بالتشخيص والعلاج ، وحرية بالاهتمام والتصدي لاستئصالها ، والتحذير منها ، والتعاون للقضاء على أسبابها ودوافعها ،
حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة ، التي هي عماد نجاح الأفراد ، وأساس أمن المجتمعات واستقرارها .
إن الذي يطالع التاريخ الإنساني ، يجد أن الشائعات وجدت حيث وجد الإنسان بل إنها عاشت وتكاثرت في ربوع كل الحضارات ..
ولما جاء الإسلام ، اتخذ موقفاً حازماً من الشائعات وأصحابها لأن نشرها وبثها بين افراد المجتمع له آثار سلبية على تماسك المجتمع المسلم ، وتلاحم أبنائه .
بل لقد عد الإسلام ذلك سلوكاً سيئاً ، منافياً للأخلاق النبيلة ، والطبائع والسجايا الكريمة ، والمثل العليا ، التي جاءت بها شريعتنا الغراء وحثت عليها ، من الاجتماع والمحبة ، والإخاء والمودة ، والتعاون والتراحم .
( 2 )(/2)
كما حذر الإسلام من الغيبة والنميمة ، والوقيعة في الأعراض ، والكذب والبهتان ، وقالة السوء بين الناس ، وهل الشائعة إلا كذلك ؟ وأمر بحفظ اللسان ، وبين خطورة الكلمة فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الإنسان مسئول أمام الله عز وجل ، ومحاسب عن كل صغير وجليل : " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " .. وحرم الله القذف والإفك وتوعد مروجي الإشاعات بالعذاب الأليم ، فقال تعالى : " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون " . وقال سبحانه وتعالى : " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ، ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً " .
وحث الإسلام على التثبت والتبين في نقل الأخبار يقول سبحانه : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين .. " وفي قراءة أخرى فتثبتوا .. - والشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين ،والله عز وجل يقول : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " .
وقد أخرج الشيخان في صحيحهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " .
كما نهى الإسلام أتباعه عن أن يطلقوا الكلام على عواهنه ، ويلغوا عقولهم عند كل شائعة ، أو ينساقوا وراء كل ناعق ، ويصدقوا كل دعي مارق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه ( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع )(/3)
وسداً لباب الفساد أمام الوشاة المغرضين ، ونقلة الشائعات المتربصين ومنعاً لرواج الشائعات والبلاغات الكاذبة ، الكيدية المجهولة ،والأخبار الملفقة المكذوبة على الأبرياء الغافلين يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في الأدب المفرد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها : ( ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : المشاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبراء العنت ) .
( 3 )
أيها المسلمون :
كم حدثت من جناية على الأبرياء الذين لهم كفاءة في أعمالهم بسبب إشاعة أطلقها دعى مأفون ، ذو لسان شرير ، وقلم أجير ، في سوء نية وخبث طوية ، ومنذ فجر التاريخ والشائعات تنشب مخالبها لاسيما في أهل الإسلام ، يروجها ضعاف النفوس ، والمغرضون من أعداء الديانة ويتولى كبرها أعداء الإسلام من اليهود قتلة الأنبياء ونقضة العهود بغية هدم صرح الدعوة الإسلامية ، والنيل من أصحابها ، والتشكيك فيها حتى أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، لم يسلموا من شائعاتهم " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً " وعظ الله المؤمنين أن لا يؤذوا محمداً صلى الله عليه وسلم .(/4)
والسيرة العطرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم نموذج حي ، لتاريخ الشائعة ،والموقف السليم منها ، فقد رميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها ، فرميى بالسحر والكذب والكهانة ، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة ، والاتهامات الباطلة ضد دعوته صلى الله عليه وسلم ولعل من أشهرها قصة الإفك المبين ، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الإشاعات ،وهي تتناول بيت النبوة الطاهر ، وتتعرض لعرض أكرم الخلق على الله صلى الله عليه وسلم ، وعرض الصديق والصديقة ،وقد شغلت هذه الشائعة المسلمين شهراً كاملاً بالمدينة ، وتولى كبرها المنافقون ، ولولا العناية الإلهية لعصفت بالمجتمع الإسلامي الناشئ في المدينة ، حتى تدخل الوحي ، ليضع حداً لها ، ويرسم للمسلمين على مر العصور ، المنهج الواجب اتباعه عند حلول الشائعة المغرضة يقول الحق سبحانه في سورة النور: ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ، وقالوا هذا إفك مبين ، لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ، ورحمته في الدنيا والآخرة ، لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم " تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : فمكثت شهراً لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ) حتى برأها الله من فوق سبع سموات رضي الله عنها وأرضاها .
( 4 )
أيها المسلمون :
ومن الشائعات التي عصفت بالمجتمع المسلم ، استغلال الكفار والمنافقين لموت النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أخذوا يشنون الحرب النفسية ضد المسلمين عن طريق الشائعات المغرضة ، زاعمين أن الإسلام قد انتهى ولن تقوم له قائمة بعد موته صلى الله عليه وسلم ، حتى أثر ذلك على بعض(/5)
الصحابة رضي الله عنهم واضطرب الناس ، حتى هيأ الله الصديق أبا بكر رضي الله عنه فحسم الموقف ، وذكر الأمة بقول الحق سبحانه : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً ، وسيجزي الله الشاكرين )
يا أتباع النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشائعات جريمة ضد أمن المجتمع ، وصاحبها مجرم في حق دينه وأمته ، يثير الاضطراب والبلبلة والفوضى في الأمة ، فهو شر من مروجي المخدرات ، لأن كلاً منهما يستهدف الإنسان ، فكم للشائعات من آثار سلبية على الرأي العام ، وصناع القرار في العالم
ومن المؤلم حقاً ، أن يتلقى المسلم الإشاعات المغرضة وكأنها حقائق مسلمة ، فيجلس أحدهم ساعات طويلة أمام أجهزة الإعلام ، أو أمام الانترنت ، عبر المواقع المشبوهة ، فيشوه سمعه وبصره بالشائعات الباطلة ، مما تتحرج النفوس المؤمنة من مطالعته أو البوح به ، فيصبح من حيث لا يدري ، أداة في أيدي اللوبي الصهيوني العالمي، ضد أمن أمة الإسلام .
وإنه ليخشى على من أدمن النظر إلى هذه القنوات المشبوهة ، أن يخسر دينه ودنياه ، ويلتبس عليه الحق بالباطل ، فينحرف عن سبيل أهل الإيمان ، ويظن ظن السوء بالعلماء والفضلاء ، لمجرد سماع الوشايات المغرضة ، والشائعات الملفقة .. قال الإمام الذهبي رحمه الله : ( لو أن كل عالم تركنا قوله لمجرد خطأ وقع فيه ، أو كلام الناس فيه ، ما سلم معنا أحد ، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة )
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، وبهدى سيد المرسلين ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان حليماً غفوراً .
( 5 )
الخطبة الثانية:(/6)
الحمد لله مبدع الكائنات ، وبارئ النسمات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، جزيل العطايا والهبات ، وواهب الخيرات والبركات ، أمر بالصدق وأحب الصادقين ، وحرم الأكاذيب والشائعات ولعن الكاذبين ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله أفضل البريات ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه ، أولى الفضل والمكرمات ، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن دينكم الإسلامي الحنيف رسم المنهج الصحيح لمواجهة أخطار الشائعات ، حتى يقوم المجتمع المسلم على بناء قوى متماسك يواجه الفتن والعواصف العاتية ، والأمة مطالبة بالتصدي لهذه الظاهرة المدمرة للمحافظة علي أمن المجتمع واستقراره .
وعلى البيت والمسجد ، والأسرة والمدرسة ، ووسائل الإعلام ، دور كبير في الوعي وتقوية الوازع الديني ، ونشر الحقائق وتبيينها وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء ، وخاصة في أوقات الأزمات ، وعدم التهويل أو الإثارة والمبالغة ، في التحليلات المشبوهة .
أيها الإخوة :
ومن أولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من الله ، والتثبت في الأمور ، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذناً لكل ناعق ، بل عليه التثبت والتحقق ، ليسد الطريق أمام الأدعياء ، الذين يعملون خلف الستور .
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان بمنه وكرمه .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا .. اللهم إنا نعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق .. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يسمع .. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا .(/7)
اللهم آمنا في أوطاننا - اللهم اجعل بلدنا واحة أمن وأمان . اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً ، سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين ، واجعل الدائرة تدور على من ظلمنا وبغي علينا ، يا ارحم الراحمين .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/8)
اطبع هذه الصحفة
في رسول الله أسوة حسنة
ما أحوجنا في هذه الآونة إلى أن نكون جبهة واحدة وصفاً قوياً متماسكاً .. !! وكم يعوزنا من روح معنوية عالية تواجه المصاعب ولا تكترث بالأراجيف !
ما هي الطاقة التي تزودنا بسلاح ماض يمنحنا النصر ويحبونا المجد ؟!
هذه التساؤلات كلها .. نجد لها الأجوبة الكافية والأدوية الشافية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فتعالوا بنا نستطلع هذه السيرة العطرة لنجد بغيتنا في موطن ما من المواطن الكثيرة التي حفلت بالكثير من الدروس والعبر ..
في رسول الله أسوة حسنة
اللهم لك الحمد كله ، لا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، اللهم صل على رسولك وعبدك محمد الذي أرسلته بالهدى ودين الحق وارض عن صحابته الأطهار الذين آزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وعلى من تبعهم على سنن الهدى إلى يوم الدين .
" يا أيها الناس اتقو ربكم واخشوا يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً * إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور " [ لقمان : 33 ]
أما بعد :
أيها السادة :
لا ريب أننا نمر بظروف دقيقة ، ومراحل حاسمة ، تتطلب منا أن نحسن التصرف ونسدد الأداء ، حتى نكون على قدر المسؤولية التي أناطها الله تعالى بنا .
وإذ أردنا النجاة في الآخرة والثناء الجميل في الدنيا ، فلا مناص عن شرع الله .. ! ولا بديل عما ارتضاه لنا من أسوة تتمثل في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
يا جند الإسلام :
ما أحوجنا في هذه الآونة إلى أن نكون جبهة واحدة وصفاً قوياً متماسكاً .. !! وكم يعوزنا من روح معنوية عالية تواجه المصاعب ولا تكترث بالأراجيف !
ما هي الطاقة التي تزودنا بسلاح ماض يمنحنا النصر ويحبونا المجد ؟!(/1)
هذه التساؤلات كلها .. نجد لها الأجوبة الكافية والأدوية الشافية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فتعالوا بنا نستطلع هذه السيرة العطرة لنجد بغيتنا في موطن ما من المواطن الكثيرة التي حفلت بالكثير من الدروس والعبر ..
( 2 )
إخوة الإسلام :
في غزوة الخندق تعلم المسلمون أن يكونوا يداً واحدة .
في البرد والجوع كانوا يداً واحدة .
الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يعملون جميعاً في حفر خندق يحيط بالمدينة ويحميها من خطر محدق .. خطر المشركين من كفار قريش وأحلافهم من الأعراب الذين اجتمعوا في ألوف يريدون استئصال شأفة الإسلام .
لقد كان عملاً فريداً ، واختراعاً مذهلاً .
تكلل بالنجاح وحقق الغاية من خلال تضافر الجهود واستنهاض الهمم ..
وهكذا يريدنا الله تعالى : " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص " [ الصف : 4 ] ليس في الحرب فقط ، وإنما هي قاعدة أساسية راسخة : " إنما المؤمنون إخوة " [ الحجرات : 15 ] بل هي تربية عملية على الوحدة والتجمع ..
وما صلاة الجماعة والجمعة ، وما صيام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في وقت واحد ،ولا تجمع من يشهد أن لاإله إلا الله في صعيد واحد في الجمع .. إلا تطبيقات عملية لهذا الشعار العظيم .
لقد أراد الله تعالى لنا الوحدة ، لأنها الضمين لبقاء هذه الأمة وعزتها " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " [ آل عمران 103 ]
ونهانا عن الفرقة لأنها تؤدي إلى الهلاك " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " [ الأنفال : 46 ]
- وأعطانا العبرة بالأمم السابقة التي هلكت بالفرقة " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " [ آل عمران : 104 ]
- فما أحرانا أن نكون إخوة حقاً وقد أمنا بالله الذي بين لنا أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " [ التوبة : 71 ](/2)
- ولا يمكن أن نكون كذلك إذا كان في قلوبنا حقد وحسد وعداوة وبغضاء وكيف يمكن أن يكون ذلك و( المسلم أخو المسلم ) [ رواه مسلم ]
( 3 )
أيها الإخوة المؤمنون :
إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر .. بل معركة أعصاب !!
فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدون على الأصابع ، مع تلك الحقيقة فهي من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام .
فقد أمسى المسلمون وأصبحوا فإذا هم كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليلاً أو نهاراً .. وفي هذه الآونة العصيبة !!
جاءت الأخبار أن بني قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانضموا إلى الأحزاب التي تحدق بالمدينة .
فلما اشتد البلاء .. نافق كثير من الناس وتكلموا بكلام قبيح .. ووقع ثقل المقاومة على أصحاب الايمان الراسخ والنجدة الرائعة . وهكذا تتفاوت طبائع الناس تفاوتاً كبيراً لدى الأزمات العضوض .. وهذا ما يحاول العدو استغلاله .. بل إنه يحاول خلق الأحواء التي تخدم معركته بإثارة الفزع .. الذي إذا مس بعضاً من الناس طاش لبه فولى الأدبار ، وكلما هاجه طلب الحياة وحب البقاء أوغل في الفرار .. وهذه هي النتيجة التي تسعى إليها الحرب النفسية . لقد نعى القرآن الكريم على هذا الصنف الجزوع فقال : " قل من ذا الذي يعصمكم من الله أن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة " [ الأحزاب : 17 ] الحذر .. الحذر !! من الشائعات فهي سلاح خطير فتاك ينتشر بين الناس كسريان النار في الهشيم وينسى المتحدث بها قول الله تعالى " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " [ ق 18 ] ويغيب عن إدراكه ما أمرنا به الله تعالى من التثبت عند سماع نبأ ما " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة " [ الحجرات : 6 ] ولا يفطن إلى أن العدو قد يكون مختلقاً ذلك لحاجة في نفسه ولغرض يرمي إليه من فت في عضد المسلمين وتقويض لجمعهم .(/3)
خاصة وأن هذه الحرب النفسية علم قائم بذاته له أسس وأركان وأهداف .. فيكون الناقل لهذه الشائعات خادماً لأهداف الأعداء الذين يريدون النيل من سيادة الوطن واستغلال مقدراته .
فلنتسلح بالتفاؤل وإحسان الظن وعدم اقتفاء ما ليس لنا به علم .
" إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً " [ الإسراء : 26 ]
( 4 )
يا أتباع الحق :
أخرج البخاري عن سليمان بن صرد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد النتيجة الباهرة في غزوة الأحزاب [ الآن نغزوهم ولا يغزوننا ) [ البخاري ]
إنها عبارة مليئة بالثقة بالله تعالى .
لقد رجعت الطمأنينة إلى النفوس وظهرت صلابة المسلمين في مواجهة الأزمات المرهقة .. فكيف تم ذلك ؟ . لقد أفرغ المسلمون جهدهم في الدفاع عن رسالتهم ومدينتهم بحفر الخندق الذي لم يعرف العرب له سابقا .. واستعملوا الخدعة بين المشركين واليهود ..
وأغروا بعض القبائل التى أقبلت يحدوها السلب والنهب ببعض ثمار المدينة ..
ثم جاء المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه : هل من شيء نقوله ؟ فقد بلغت القلوب الحناجر .. قال نعم .
(( اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا )) . رواه أحمد .
إن الله لا يقبل الدعاء من متواكل كسول ..
وما يستمع لشئ استماعه لهتاف مجتهد : أن يبارك له في سعيه .
أو دعاء صابر : أن يحسن له العاقبة
وما أحسن أن يتجرد الإنسان من حوله وقوته ويظهر افتقاره إلى الله " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد " [ فاطر : 16 ]
" ادعوا ربكم تضرعاً وخفية " [ الأعراف : 55 ]
فإن الدعاء كذلك ..
مع اغتنام أوقات الإجابة ، وقبل ذلك الأخذ بالأسباب .. مظنة كشف الكرب وتفريج الهم .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن سلمان " لا يرد القضاء إلا الدعاء " [الترمذي ]
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
( 5 )
الخطبة الثانية:(/4)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم وأحذركم وبال مخالفة أمره .
عباد الله :
إن معنى التوكل : التفويض والتسليم لأمر الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب وإن عائذ الله منيع ، فهو القائل جل شأنه " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " [ الطلاق : 3 ]
كذلك أمرنا الله تعالى بالصبر والمصابرة والصلاة . " يا أيها الذين أمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " [ آل عمران : 200 ] " استعينوا بالصبر والصلاة " [ البقرة ]
هذا في علاقتنا مع الرب جل في علاه
أما فيما بيننا ..
فما أحوجنا إلى الأخلاق الفاضلة التي شكلت أساساً قوياً للرعيل الأول .. فقد بلغ من حبهم بعضهم أن كانوا موضع ثناء من الله تعالى " والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم " [ الحشر : 9 ]
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا
اللهم صل على عبدك وحبيبك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم إنا نسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول .
اللهم إنا نسألك العون يوم الحيلة ، والأمن يوم الخوف .
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك .
اللهم أجعل هذا البلد أمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين .
اللهم واحفظ سمو أمير البلاد وولي عهده الأمين وارزقهم البطانة الصالحة .
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات .
والحمد لله رب العالمين .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/5)
اطبع هذه الصحفة
إن مع العسر يسر
فقد جعل الله تعالى الدنيا دار تعب ونصب ، وبلاء وعناء وعمل ، وحياة الإنسان فيها تتقلب بين العسر واليسر ، والضيق والسعة ، والشدة والفرج ، والغنى والفقر ، وذلك لتتم قضية ابتلاء أهل الإيمان قال تعالى :" أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" [العنكبوت : 2-3 ]
وقد بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أن البلاء قرين الإيمان ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء " ( حديث صحيح )
المؤمن الحق الصادق يرضى بقضاء الله ، ويصبر على ما يحل به من عسر وضيق وشدة ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمن في السراء والضراء فقال : "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له "( رواه مسلم ) فالمؤمن يتلقى النعمة بالشكر ، ويتلقى البلاء بالصبر ، فهو على خير في كل حال .
إن مع العسر يسر
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة وكشف الله به الغمة ، وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين ، فاللهم صل على سيدنا محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
أما بعد:(/1)
فقد جعل الله تعالى الدنيا دار تعب ونصب ، وبلاء وعناء وعمل ، وحياة الإنسان فيها تتقلب بين العسر واليسر ، والضيق والسعة ، والشدة والفرج ، والغنى والفقر ، وذلك لتتم قضية ابتلاء أهل الإيمان قال تعالى :" أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" [العنكبوت : 2-3 ]
وقد بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أن البلاء قرين الإيمان ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء " ( حديث صحيح )
المؤمن الحق الصادق يرضى بقضاء الله ، ويصبر على ما يحل به من عسر وضيق وشدة ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمن في السراء والضراء فقال : "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له "( رواه مسلم ) فالمؤمن يتلقى النعمة بالشكر ، ويتلقى البلاء بالصبر ، فهو على خير في كل حال .
( 2 )
أيها المسلمون :
إذا نزل بكم ضيق أو عسر ، فلا تكثروا الشكوى ، وتطهروا الضيق والضجر ، وعليكم بدواء الأزمات والملمات الذي وصفه الله في كتابه الكريم حيث قال سبحانه ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين "[ البقرة : 45 ] والتزام المؤمن بالصبر يجلب له معية الله بنصره وتأييده يقول تعالى " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين " [ البقرة : 153]
وكان هدف النبي صلى الله عليه وسلم في النوازل والأزمات أن يقف بين يدي الله يستمد منه العون والصبر وكشف ما نزل به وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى " ( رواه أحمد وأبو داود )(/2)
وإذا سلك المؤمن ذلك السبيل حال عسره أفاض الله تعالى عليه من خزائنه رحمة ولطفاً وبركة تهون عليه ما هو فيه من عسر وضيق حتى يزيل الله سبحانه ما نزل بعبده يقول تعالى : "ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " [ البقرة : 155-157]
أيها المسلمون :
لا ينسى المؤمن أن يكثر من ذكر الله تعالى حال عسره لا سيما الاستغفار فهو سبب لسعة الرزق وكثرة الأبناء ومغفرة رب الأرض والسماء قال تعالى حكاية عن النبي نوح عليه السلام : " فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً " [ نوح : 10:12]
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار دواء لتفريج الكربات وزوال الهموم وضيق الرزق فقال صلى الله عليه وسلم : من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب " ( سنن ابي داود وابن ماجه )
( 3 )
أيها المسلمون :
اعلموا أنه إذا نزل العسر بأحدكم فإن اليسر يرافقه فإن الله تعالى قال مؤكداً ذلك : " فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً " قال الحسن رضي الله عنه : " كانوا يقولون لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين " ومعنى هذا أن العسر معرف في الحالين فهو مفرد واليسر منكر فتعدد ، ولهذا قال : لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين ، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله :
صبراُ جميلاً ما أقرب الفرجا من راقب الله في الأمور نجا
من صدق الله لم ينله أذى ومن رجاه يكون حيث رجا
وقال آخر : ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
أيها المسلمون :(/3)
في هذه الآية خير عظيم ،إذ فيها البشارة لأهل الإيمان بأن للكرب نهاية مهما طال أمره ، وأن الظلمة تحمل في أحشائها الفجر المنتظر ، وقد بثت هذه الآية الأمل في نفوس الصحابة - رضوان الله عليهم - حيث رأوا في تكرارها توكيداً لموعد الله - عز وجل - بتحسن الأحوال ، فقال عبدالله ابن مسعود : لو كان العسر في حجر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه .
ولقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد ضاق به الأمر في بادئ دعوته لكن ذلك لم يثنه عن عزمه ، بل صبر وصابر متوكلاً على ربه سبحانه ، حتى قيض الله له أنصاراً أشربت قلوبهم بهم حبه ، وملئت نفوسهم بالرغبة الصادقة في الدفاع عنه وعن دينه ، ورأوا أن لا حياة لهم إلا بهدم أركان الشرك والوثنية ، فاشتروا ما عند الله من جزيل الثواب بأرواحهم وأموالهم وأزواجهم ، ثم كان منهم تقويض دعائم الأكاسرة ، وإبادة جيوش القياصرة .
فعلى المسلم أن يكون عظيم الثقة بربه ، متفائلاً بالنصر والتمكين ، مستبشراً بالفرج بعد الشدة ، وباليسر بعد العسر ، وألا يجعل للهزيمة النفسية في قلبه موضعاً ، فالله معه ، ومن كان الله معه ، فمعه القوة التي لا تغلب ، ومعه المنعة والحفظ والرزق والتوفيق والسداد .
ونحمد الله أن بدل عسرنا يسراً ، وأن جعل لنا من ضيقنا فرجاً وأقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه .
( 4 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ، " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الرحمة المهداة ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه وأزواجه والتابعين لهم بإحسان . أما بعد :
فإن المؤمن يجب أن يكون حسن الظن بالله تعالى ، حتى يكون الله تعالى عند ظنه كما قال الله تعالى في الحديث القدسي : " أنا عند ظن عبدي بي " .(/4)
وليكن المؤمن عظيم الأمل والرجاء في ربه أن يزيل عنه ما نزل به من ضيق وعسر ، ولا يكن من القانطين ، فان القنوط ليس من أخلاق المؤمنين ، قال تعالى : " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " [ يوسف : 87 ]
واعلموا أيها الإخوة : أن الله أمركم بالصلاة على نبيه في محكم تنزيله فصلوا عليه وسلموا تسليما في هذا اليوم المبارك فإن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشراً .
وإني داع فأمنوا :
اللهم صل على عبدك وحبيبك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا .
اللهم إنا نسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول .
اللهم اجعلنا هداة مهتدين ، غير ضالين ولا مضلين .
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً ، سخاء رخاء ، وسائر بلاد المسلمين .
اللهم احفظ سمو أمير البلاد وولي عهده الأمين ، وارزقهم البطانة الصالحة .
اللهم ارحم شهداءنا ، وفك قيد أسرانا ، واغفر للمؤمنين أجمعين .
والحمد لله رب العالمين .
وأقم الصلاة .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/5)
اطبع هذه الصحفة
أسرانا والأمل
فإن الله سبحانه وتعالى أقام نظام العالم على سر عجيب ، جعله يسرى في كل جزء وفي كل ذرة من ذرات الوجود ، ذلك السر هو الحياة .. الحياة الموسومة بالحركة ، والنشاط ، والتغيير، والتدفق ، المفعمة بالأمل العذب ، حيث يستظل الناس من لفح الواقع ، ويتطلعون إلى ألق المستقبل ، فيرون في الظلمة أول بشائر النور ، وفي الليل مقدمة الإصباح ويقرأون من رسوم الجدب معاني الخصب القادم، فإذا بالأرض الميتة بعد ما ذوت أزهارها ، وغاضت ينابيعها ، وتحولت قاعاً صفصفاً ومواتاً لا حياة فيه ،تعود جنات خضرا ومروجاً حية تملأ النفوس بالبهجة والحياة، قال الله تعالى : " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً "( الزمر : 21 ) هكذا تنبثق الحياة من قلب الموات ويولد الأمل من رحم القنوط " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد " ( الشورى : 28 )
أسرانا والأمل
الحمد لله فالق الحب ، والنوى ومخرج الحي من الميت ، فالق الإصباح وجاعل الليل سكناً خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً ، فإذا هو حياة تنبثق من العدم ، وانطلاق يولد من رحم السكون ، وعالم يتموج من نفس واحدة ، هيأ له أسباب الحياة ، ووسائل الهناء فأمنه من الفقر بالغنى ومن المرض بالعافية ، ومن القلة بالكثرة ، ومن الحزن بالفرح ، ومن هم المستقبل بإشراقة الأمل ، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
إخوة الإيمان :(/1)
فإن الله سبحانه وتعالى أقام نظام العالم على سر عجيب ، جعله يسرى في كل جزء وفي كل ذرة من ذرات الوجود ، ذلك السر هو الحياة .. الحياة الموسومة بالحركة ، والنشاط ، والتغيير، والتدفق ، المفعمة بالأمل العذب ، حيث يستظل الناس من لفح الواقع ، ويتطلعون إلى ألق المستقبل ، فيرون في الظلمة أول بشائر النور ، وفي الليل مقدمة الإصباح ويقرأون من رسوم الجدب معاني الخصب القادم، فإذا بالأرض الميتة بعد ما ذوت أزهارها ، وغاضت ينابيعها ، وتحولت قاعاً صفصفاً ومواتاً لا حياة فيه ،تعود جنات خضرا ومروجاً حية تملأ النفوس بالبهجة والحياة، قال الله تعالى : " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً "( الزمر : 21 ) هكذا تنبثق الحياة من قلب الموات ويولد الأمل من رحم القنوط " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد " ( الشورى : 28 )
لقد غاب الغيث وانقطع المطر ووقف العباد عاجزين عن سبب الحياة الأول : الماء " وأدركهم اليأس والقنوط ثم ينزل الله الغيث ويسعفهم بالمطر ، فتحيا الأرض ، ويخضر اليابس، وبنبت البذر ، ويترعرع النبات ، ويلطف الجو ، وتنطلق الحياة ، ويدب النشاط وتنفرج الأسارير، وتتفتح القلوب ، وينبض الأمل ، ويفيض الرجاء ، وما بين القنوط والرحمة إلا لحظات " حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا " ( يوسف : 110 )
ما أحوجنا إلى هذا الأمل الغامر المتدفق ونحن نعيش لحظات إنسانية صعبة حنيناً إلى أبنائنا المفقودين وإشفاقاً على إخواننا المأسورين لقد بعدت الشقة ، وطال العهد ، ولكن شعاع الأمل والثقة يجب أن يظل ساطعاً ، يبدد ظلمات اليأس والقنوط .
( 2 )
أيها الإخوة المسلمون :(/2)
لقد كان غزو الكويت من قبل النظام العراقي الهالك جريمة كبرى ، يندى لها جبين التاريخ ، لا يقرها شرع ولا قانون ولا مبدأ ولا عرف إنساني ، إنما هو منطق البربرية الغوغاء ومسلك الهمجية الرعناء . إذ كيف تقوم شرذمة طاغية بالتعدي على حرمة دولة لها كيانها المستقل وحكومتها ومؤسساتها … ضاربة عرض الحائط بأواصر الدين ، والنسب ، واللغة ، والتاريخ ، التي تربط الشعبين ، والأنكى من ذلك أن يقوم أزلام تلك الطغمة البائدة - بعد القتل والتنكيل والسرقة والتدمير - باختطاف أشخاص أبرياء من بيوتهم ومن الشوارع ، ومن المساجد ، لا ناقة لهم في الحرب ولا جمل ، وان ما دينوا به هو وجودهم على هذه الأرض الطيبة بحكم المواطنة أو الوفادة اختطفتهم الأيدي الآثمة لتجعلهم ورقة يتفاوضون بها وسلعة يقايضون مقابلها ، غير عابئين بقيمة الإنسان وكرامته عند الله وسموه عن الأغراض المادية ( ولقد كرمنا بني آدم ) [ الإسراء : 70 ] متناسين أن هؤلاء إنما هم آباء أو أبناء أو إخوة أو أزواج لهم من يحتاجهم وينتظرهم ويحبهم ، ويذرف الدمع مدراراً لتأخر العهد بهم بعد أن كلمت المشاعر ونزفت القلوب حسرة وألماً عليهم وودوا لو يفتدونهم بكل غال وثمين حتى تكتحل أعينهم برؤيتهم .
( 3 )
أيها الإخوة :
لقد عمل رجالات الكويت الشرفاء أقصى ما يستطيعون من أجل هذه القضية وإبرازها للعالم دون كلل أو ملل خلال تلك الفترة الماضية التي كان خلالها أبواق النظام الساقط إلى غير رجعة يصرون أن لا وجود للأسرى لديهم ، والآن بعد أن سقطت الأقنعة وكشف الزيف وذهبت الشعارات الرنانة والإدعاءات الكاذبة أدراج الرياح مع من حملها ، وقد أصبحنا في ظل حقبة تاريخية جديدة يحق لنا أن نفتح صفحة جديدة من الأمل في عودة الأسرى سالمين غانمين إن شاء الله .
أيها الإخوة الكرام :(/3)
بعد ما بذلناه من جهود في هذه القصة الخطيرة يجب ألا نقف عند حدو الجهد الشري الذي هو معرض للنقص والقصور فعليكم إذن أن تلجأوا إلى الله وتتوكلوا عليه " ومن يتوكل على الله فهو حسبه "
( الطلاق : 3 ) ولا تنسوا التقوى وامتثال الأوامر واجتناب النواهي ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً " ( الطلاق : 2 ) وتسلحوا بالدعاء والتضرع إلى الله سبحانه " لا يرد القضاء إلا الدعاء " ( الترمذي ) وداوموا على الاستغفار فهو مفتاح النعم " فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدراراً " ( نوح : 10 - 11 ) " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ( الأنفال : 33 ) ( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً " ( أبو داود ) وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فهي كنز من كنوز الجنة ومن دعاء يونس عليه السلام عندما كان في بطن الحوت " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت
من الظالمين " ( الأنبياء : 87 ) وانظرو إلى عظم النتيجة " " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " ( الصافات : 143: 144 )
ولا تملوا من إبراز هذه القضية ، والعمل عليها ، وإيجاد شتى السبل لإنهائها ولكم في سيرة رسولكم أسوة حسنة ، فقد عرض نفسه على القبائل وهاجر إلى الطائف ثم إلى المدينة وخاض الحروب حتى أظهر الله تعالى دينه وجاء الحق وزهق الباطل " ويمكرون ويمكر الله"(الأنفال : 30 )
وإياكم - يا إخوتي واليأس والقنوط " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون "
( يوسف : 87 ) وتطلعوا دائماً إلى أمل مزهر وغد مشرق
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل(/4)
ولنتوسل إلى الباري عز وجل بصالح الأعمال والقربات " يا يها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " ( المائدة : 35 ) وكلكم تعرفون قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فسدت صخرة عليهم فالتجأوا إلى الله بصالح أعمالهم ففرج عنهم . وكم يناسب حالنا اليوم حال يعقوب عليه السلام عندما تعرض ابنه الأثير إلى نفسه يوسف عليه السلام إلى الغدر فما كانت شكواه إلا إلى الله حتى جمع الله بينهما بعد سنين متطاولة .
أسال الله أن يجمعنا بأسرانا قريباً غير بعيد عاجلاً غير آجل إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العزيز الحكيم .
أقول هذا القول وأستغفر الله .
( 4 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الدر الغرر .
عباد الله : اتقوا الله العظيم حق تقواه وراقبوه مراقبة من لم يعلم أنه يراه .
أيها المؤمنون :
لتكن عقيدتكم مستوحاة من قول الله عز وجل "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير " ( يونس : 107 ) ولا تنسوا في هذا اليوم الأزهر وفي بقية الأيام الصلاة على نبيكم قرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم فاللهم صل وسلم وبارك عليه وإني داع فأمنوا .
اللهم يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم يا بديع السموات والأرضين اللهم إنا نسألك فرجا قريبا لإخواننا المأسورين - اللهم ردهم إلينا سالمين غانمين غير خزايا ولا محرومين
اللهم استر عوراتهم وأمن روعا تهم وهيئ لهم ملائكة تحوطهم بعنايتك
اللهم ألهم أهاليهم الصبر والسلوان وأقر أعينهم برؤيتهم قريبا غير بعيد
اللهم هذا ذلنا ظاهر بين يديك وحالنا لا يخفى عليك ولا يسعنا إلا رحمتك ولطفك
اللهم إنا ندعوك دعاء الخائفين المضطرين يا أكرم من سئل ويا أجود من أعطى ويا أرأف من ملك .
رب إني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين .(/5)
رب إني مغلوب فانتصر ، يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع علينا أسرانا ، ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئا لنا من أمرنا رشدا ، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين -اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا دعاءً إلا استجبته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا تفضلت علينا بقضائها يا قاضي الحاجات يا سامع الأصوات يا مجيب الدعوات ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء والأموات إنك سميع الدعاء -اللهم احفظ سمو أمير البلاد وولي عهده الأمين ووفقهم لما يرضيك والحمد لله رب العالمين . وأقم الصلاة .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
المؤمن بين الشكر والصبر
إن العبد كائناً من كان دائم التقلب بين هذه الأحوال الثلاث وهي عنوان سعادته: فنعم من الله تعالى وقيدها الشكر ، وبلايا وفرضها الصبر ، وذنوب تجب التوبة منها والإقلاع عنها ، وكل منا إذا تأمل حاله وجد نفسه متقلباً في هذه الأمور ، ففيما يتعلق بالنعم التي يجب علينا شكرها ، فإنا لا نحصى لها عداً ، ولا نوفي لها شكراً ، يقول الله جل ذكره : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار " ( إبراهيم :34 ) فمن الذي وهبنا نعمة الحياة وعافانا في الأبدان والأديان والأهل والأوطان ، ؟ ! إنه الله ولا أحد غير الله ، " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف "( قريش : 3-4 )
ومن اجل هذه النعم ما من الله علينا به من نعمة الأمن في الوطن بعد أن أزاح العدو الذي كان يهدد أمننا ، فله الحمد على ما من به من نعمة في الأبدان وأمن في الأوطان .
كما يستطيع المؤمن أن يرى أنه مغمور بنعم الله عليه خاصة إذا أدرك أنه كان عدماً فأوجده الله ووهبه نعمة الحياة بعد أن شق فيه السمع والبصر ومنحه العقل وقواه ، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ، فله الحمد وله الشكر وله الثناء الحسن .
المؤمن بين الشكر والصبر(/1)
إن الحمد الله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ( آل عمران : 102 ) " يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة،وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " ( النساء : 1 ) " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً " ( الأحزاب : 70، 71 )
أما بعد :
فيا أيها المسلمون :
إن العبد كائناً من كان دائم التقلب بين هذه الأحوال الثلاث وهي عنوان سعادته: فنعم من الله تعالى وقيدها الشكر ، وبلايا وفرضها الصبر ، وذنوب تجب التوبة منها والإقلاع عنها ، وكل منا إذا تأمل حاله وجد نفسه متقلباً في هذه الأمور ، ففيما يتعلق بالنعم التي يجب علينا شكرها ، فإنا لا نحصى لها عداً ، ولا نوفي لها شكراً ، يقول الله جل ذكره : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار " ( إبراهيم :34 ) فمن الذي وهبنا نعمة الحياة وعافانا في الأبدان والأديان والأهل والأوطان ، ؟ ! إنه الله ولا أحد غير الله ، " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف "( قريش : 3-4 )
ومن اجل هذه النعم ما من الله علينا به من نعمة الأمن في الوطن بعد أن أزاح العدو الذي كان يهدد أمننا ، فله الحمد على ما من به من نعمة في الأبدان وأمن في الأوطان .(/2)
كما يستطيع المؤمن أن يرى أنه مغمور بنعم الله عليه خاصة إذا أدرك أنه كان عدماً فأوجده الله ووهبه نعمة الحياة بعد أن شق فيه السمع والبصر ومنحه العقل وقواه ، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ، فله الحمد وله الشكر وله الثناء الحسن .
( 2 )
عباد الله :
مر رجل على رجل من الصالحين كان قعيداً أعمى فسمعه يقول : " الحمد لله الذي عافاني ما ابتلي به كثيراً من خلقه وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً فسأله عما قال وهو قعيد أعمى المشلول الاطراف ، فقال له ذلك الرجل الصالح عندما سأله أي شئ عوفيت منه وابتلى به غيرك ؟! ، قال : ألم يؤتني الله قلباً شاكراً ، ولساناً ذاكراً ، وجسداً على البلاء صابراً " فهذا مثال للصابر الشاكر وإن شئت فقل هذا موفق سعيد .
( 3 )
عباد الله :
والشكر يحافظ على النعمة الموجودة ، ويأتي بالنعمة المفقودة " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " ( إبراهيم : 7 ) كما أن للشكر آلات وأدوات ، فشكر القلب ، وشكر اللسان ، وشكر الجوارح ، أما شكر القلب فبالاعتراف بأن صاحب النعمة ومسديها هو الله تعالى ، وأما شكر اللسان فبالتحدث بها ظاهراً ، وأما شكر الجوارح فبالتصرف فيها حسب أوامر صاحبها ومسديها وهو الله جل وعلا " اعملوا آل داود شكراً ، وقليل من عبادي الشكور " ( سبأ : 13 )
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
هذا في حال النعمة ووجوب شكرها .
أما عن البلايا والتي فرضها الصبر ، فإن الله جعل الابتلاء سنة كونية لم يسلم منها نبي ولا ولي ، يقول تعالى : " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون *ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " العنكبوت : 2،3 )(/3)
وإن من أشد ما ابتلينا به مصابنا في أسرى الكويت لدى النظام البائد ، هؤلاء الأسرى الذين هم أبناؤنا وفلذات أكبادنا ، ماذا جنوا حتى يختطفهم الطاغية الهالك ليحرموا من نعمة الأمن وعبق الحرية ؟! إنها مصيبة المصائب ، وقضية القضايا ، ولن ننعم براحة حتى تحل قضيتهم بإذن الله ، كما أن أولياء الأمور – جزاهم الله خيراً – ما برحوا يصدرون هذه القضية فوق كل قضية ، ويحدونا الأمل في الفرج القريب بإذن الله جل وعلا .
والله سبحانه وتعالى يبتلي عبده لا ليهلكه وإنما يبتليه ليختبر عبوديته ، ويبتليه ليرفع درجته ، ويبتليه ليغفر له ذنبه ، لذا في الحديث :" إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً ، فحمدني وصبر خرج من رقدته هذه من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، ويقول الله للحفظة : إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته ، فأجروا له من الأجر ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح " السلسلة الصحيحة ج )
عباد الله :
يتعين على من ابتلى ببلية أن يعالج ذلك بالصبر ، فإن الصبر يهون المصيبة ، ويكتب له الأجر على ذلك " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " ( الزمر : 10 )
يروي عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ما ابتلاني الله ببلية ، إلا رأيت لله على فيها أربع نعم : أنها لم تكن في ديني ، وأنها لم تكن أكبر منها ، وأن الله رزقني الصبر عليها ، وأن الله ادخر لي الأجر بها "
فأنظر إلى هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه كيف يرى العطية في البلية فهنيئاً له ، وليكن ذلك المثال قدوة لنا في التعامل مع الأقدار المؤلمة .
والصبر إنما يكون بالقلب واللسان والجوارح كذلك ، فصبر القلب يجب عن التضجر بالمقدور ، وصبر اللسان بعدم الشكوى ، وصبر الجوارح بعدم المعصية كلطم الوجه وشق الصدر ، .
لا تشكون إلى العباد فإنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم(/4)
تبقى الثالثة وهي الذنوب التي تجب التوبة منها والإقلاع عنها ، وكلنا ذاك الرجل ، فأينا لم يجهل !؟ وأينا الذي لم يعص قط ؟!
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما
" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ، إنه هو الغفور الرحيم " ( الزمر : 53 ) فمن تاب إلى الله عز وجل تاب الله عليه ، ويعجب ربنا جل وعلا من العبد بذنب الذنب ثم يتوب ، يعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب .
" وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون "
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
( 4 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فإن من علامات سعادة العبد ، شكر النعم ، والصبر على النعم ، والتوبة من سائر الذنوب ، وإن من الأمور التي يتفطر لها ضمير كل مسلم ويتألم لها ونحن أمة الجسد الواحد ، قضية أسرانا ، والتي تزيد مع الأيام قلوبنا شوقاً إليهم ، ولهفة عليهم ، ولا شك أن هذا ابتلاء يعقبه الفرج إن شاء الله ، وهذا ما ننتظره في الأيام المقبلة ، فأبشروا وأملوا في الله ما يسركم، فإن فرج الله قريب
اللهم يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم يا بديع السموات والأرضين اللهم إنا نسألك فرجا قريبا لإخواننا المأسورين - اللهم ردهم إلينا سالمين غانمين غير خزايا ولا محرومين
اللهم استر عوراتهم وأمن روعا تهم وهيئ لهم ملائكة تحوطهم بعنايتك
اللهم ألهم ذويهم الصبر والسلوان ، وأقر أعينهم برؤيتهم قريبا غير بعيد
اللهم هذا ذلنا ظاهر بين يديك وحالنا لا يخفى عليك ، ولا يسعنا إلا رحمتك ولطفك
اللهم إنا ندعوك دعاء الخائفين المضطرين ، يا أكرم من سئل ، ويا أجود من أعطى ، ويا أرأف من ملك .(/5)
اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع علينا أسرانا ، ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئا لنا من أمرنا رشدا ، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين -اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا دعاءً إلا استجبته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا تفضلت علينا بقضائها يا قاضي الحاجات يا سامع الأصوات يا مجيب الدعوات ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء والأموات إنك سميع الدعاء -اللهم احفظ سمو أمير البلاد وولي عهده الأمين ووفقهم لما يرضيك والحمد لله رب العالمين .
وأقم الصلاة .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
علو الهمة
فإن الهمة طليعة الأعمال ومقدمتها ، قال أحد الصالحين " همتك فاحفظها ، فإن الهمة مقدمة الأشياء ، فمن صلحت همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال " .
والهم : هو عقد القلب على فعل شئ قبل أن يفعل من خير أو شر . والهمة مولودة مع الآدمي، و إنما تقصر بعض الهمم بسبب عجز أو كسل ، وهي عمل قلبي ، وكما أن الطائر يطير بجناحه،كذلك يطير المؤمن بهمته فيحلق في آفاق المعالي ، ويحقق لأمته الآمال الكبار ، وإن همة المؤمن أبلغ من عمله ،وبها يصل إلى معالى الأمور وأكرم المنازل ، قال تعالى : " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " ( النحل : 97 ) وقال صلى الله عليه وسلم : " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " ( مسلم )
وهكذا عاش المؤمنون الأولون ، علواً في الهمة وسموا في القصد وتضحية في سبيل العلم والعمل فكانوا الأمثلة الرائعة والمنارات السامقة في تاريخنا المشرف .
علو الهمة
إن الحمد الله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم وبارك على خير خلقك ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
عباد الله :
أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته ، وأحذركم ونفسي من عصيانه ومخالفة أمره ، حيث أمرنا في كتابه الكريم فقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ( آل عمران : 102 )
أما بعد :
فإن الهمة طليعة الأعمال ومقدمتها ، قال أحد الصالحين " همتك فاحفظها ، فإن الهمة مقدمة الأشياء ، فمن صلحت همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال " .(/1)
والهم : هو عقد القلب على فعل شئ قبل أن يفعل من خير أو شر . والهمة مولودة مع الآدمي، و إنما تقصر بعض الهمم بسبب عجز أو كسل ، وهي عمل قلبي ، وكما أن الطائر يطير بجناحه،كذلك يطير المؤمن بهمته فيحلق في آفاق المعالي ، ويحقق لأمته الآمال الكبار ، وإن همة المؤمن أبلغ من عمله ،وبها يصل إلى معالى الأمور وأكرم المنازل ، قال تعالى : " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " ( النحل : 97 ) وقال صلى الله عليه وسلم : " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " ( مسلم )
وهكذا عاش المؤمنون الأولون ، علواً في الهمة وسموا في القصد وتضحية في سبيل العلم والعمل فكانوا الأمثلة الرائعة والمنارات السامقة في تاريخنا المشرف .
( 2 )
أيها الاخوة المؤمنون :
لقد كان حال السلف في طلب العلم ونشره والتصنيف فيه حالاً عجيباً استثمروا فيه أوقاتهم وأفنوا شبابهم ، فحصلوا ما يدهش العقول ويبهر الألباب ويستنهض الهمم ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : " كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك " ( البخاري )(/2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير فقال : عجباً لك يا ابن عباس ، أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من فيهم ؟ قال : فتركته وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتى بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفى الريح علي من التراب ، فيخرج فيراني فيقول : يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ؟ هلا أرسلت إلي فآتيك ؟ فأقول : لا أنا أحق أن أتيك فأسأله عن الحديث ، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني فيقول : " هذا الفتى كان أعقل منى " قيل لبعض السلف : بم أدركت العلم ؟ قال : بالمصباح والجلوس إلى الصباح .
لقد فقه سلفنا الصالح عن الله أمره ، وتدبروا في حقيقة الدنيا ومصيرها ، فاستوحشوا من فتنتها وتجافت جنوبهم عن مضاجعها ، وتناءت قلوبهم عن مطامعها ، وارتفعت همتهم عن السفاسف ، فلا تراهم إلا صوامين قوامين باكين ولهين . قيل لنافع ما كان ابن عمر يصنع في منزله ؟ قال : الوضوء لكل صلاة والمصحف فيما بينهما . وقيل لعامر بن عبدالله " كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر ؟ قال : هل هو إلا أني صرفت طعام النهار إلى الليل ونوم الليل إلى النهار ؟ وعن موسى بن اسماعيل قال : ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً قط ، كان مشغولاً بنفسه : إما أن يحدث ، وإما أن يقرأ ، وإما أن يسبح ، وأما أن يصلي ، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال - قال تعالى : - " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " ( المجادلة : 11 )
( 3 )
علم الرعيل الأول أن الجنة تحت ظلال السيوف فشمروا للجهاد عن ساق الاجتهاد ، وجهزوا الجيوش والسرايا ، وبذلوا في سبيل الله العطايا ، وأقرضوا الأموال لمن يضاعفها(/3)
ويزكيها وباعوا الحياة الفانية بالحياة الباقية ، ونشروا أعلام الإسلام في الآفاق . لقد كان إمامهم الأوحد ورائدهم الأول خير من وطئ الحصى ، رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد كان صلى الله عليه وسلم أعلى البرية همة على الإطلاق ، وكان أشجع الناس ، وأقواهم قلباً ،وأثبتهم جناناً ، وقد حضر المواقف الصعبة المشهودة حين فر الأبطال عنه ، وهو صامد لا يبرح ، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح ، عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس ، وكان أجود الناس ، وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق الناس ، قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً ، وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى ، وفي عنقه السيف ، وهو يقول " لم تراعوا لم تراعوا " ( متفق عليه ) .
وعن شداد بن الهاد رضي الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ثم قال أهاجر معك ، فأوصى به النبي بعض أصحابه ، فلما كانت غزاة غنم النبي شيئاً فقسم وقسم له ، فأعطى أصحابه ، فأقسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قال : قسم قسمته لك قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأموت ، فأدخل الجنة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إن تصدق الله يصدقك " فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو ، فأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل ، قد أصابه سهم حيث أشار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أهو هو ؟ قالوا : نعم قال صلى الله عليه وسلم " صدق الله فصدقه " ثم كفنه النبي صلى الله عليه
( 4 )
وسلم في جبته وصلى عليه (الحاكم والنسائي صحيح الجامع 1415 ) قال تعالى : " ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً "(الإسراء:19 )(/4)
إن من أسباب انحطاط الهمم : العجز والكسل والفتور والوهن .والوهن كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم " حب الدنيا وكراهية الموت " أما حب الدنيا فرأس كل خطيئة وهو أصل التثاقل إلى الأرض ، وسبب إيثار الشهوات والانغماس في الترف والتنافس على دار
الغرور وأما كراهية الموت فثمرة حب الدنيا والحرص على متاعها مع تخريب الآخرة فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب ، إن حب الدنيا وكراهية الموت صنوان لا يفترقان . وإن الهمة العالية لا تسكن القلب الجبان .
فاتقوا الله أيها المؤمنون وكونوا من أصحاب الهمم العالية . فإن علو الهمة من صفات أهل الإيمان . قال تعالى : " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ( التوبة : 105 ) وقال سبحانه : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " ( آل عمران : 173، 174 )
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين .
( 5 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد النبيين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
عباد الله :
إن أطفال اليوم هم رجال المستقبل ، فمن ثم ينبغي أن يصرف الهم الأكبر إلى تهيئتهم ، وتربيتهم على علو الهمة وطلب المعالي ليكونوا مؤتمنين على مستقبل أمة الإسلام وإلا فما أفدح الخسائر التي تتكبدها الأمة إذا هي أهملت تربية أبنائها ، وأول قلعة يتحصن بها الطفل هي الأسرة فهي أقوى مؤسسة تربوية على الإطلاق يرعاها الوالدان بصفة خاصة .(/5)
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله : والصبي أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة ، وأن عود الشر وأهمل شقى وهلك ، وصيانته بأن يؤدبه والده ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق . عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " ابن حبان )
اللهم يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم يا بديع السموات والأرضين اللهم إنا نسألك فرجا قريبا لإخواننا المأسورين - اللهم ردهم إلينا سالمين غانمين غير خزايا ولا محرومين
اللهم استر عوراتهم وآمن روعا تهم وهيئ لهم من همهم فرحاً ، ومن ضيقهم مخرجاً .
اللهم الهم أهاليهم الصبر والسلوان وأقر أعينهم برؤيتهم قريبا غير بعيد .
اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع علينا أسرانا ، ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئا لنا من أمرنا رشدا ، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين -اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا دعاءً إلا استجبته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا تفضلت علينا بقضائها يا قاضي الحاجات ، يا سامع الأصوات يا مجيب الدعوات ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع مجيب الدعاء -اللهم احفظ سمو أمير البلاد وولي عهده الأمين ووفقهم لما يرضيك والحمد لله رب العالمين .
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
بالتزام الشرع تستقيم الحياة
إن العواطف الجياشة ليست هي شرع الله ، ولا يشفع لهذه العواطف أن تكون عواطف دينية مريدة للخير إذا هي ضلت طريقه، فكم من مريد للخير لم يصبه ،كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ، وإن ما شهدناه في الأيام الماضية من أفعال تمليها العواطف المتلفعة بالدين من تفجير وقتل على أرض المملكة العربية السعودية أرض الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومأرز الإسلام اعتداء على ناس أمنتهم وسمحت لهم بالوجود على أرضها لمصلحة الدولة والشعب - زادها ما جاء بعدها من اعتداء وقع على أرض المملكة المغربية - أمور مخالفة للشرع مجافية للصواب بحساب الشرع والمصلحة .
أما أنها مخالفة للشرع ، فلأنها تستهدف أرواحاً محرماً قتلها في دين الله ، فأولئك المستهدفون في هذه الدول ، إما معاهدون تربط بينهم عهود واتفاقيات مع المسلمين تقضي بعدم الاعتداء ، ووضع السلاح بين الطرفين ، وهذا يصون دماءهم ويحرم قتلهم ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء " أبو داود والترمذي " وقال الله تعالى " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق " ( الأنفال : 72 )
بالتزام الشرع تستقيم الحياة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أرسله الله لينقذ البشرية من ظلمة التيه وليل الضياع ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته ومن اقتفى سبيله إلى يوم الدين . أما بعد :(/1)
فإن الله سبحانه وتعالى قد أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة سمحة خالدة قوامها الرحمة والرفق والعدل والإنصاف قال تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "الأنبياء 107 أنزلها لمصلحة العباد في الأولى والآخرة ، فجعل من أهم مقاصدها : المحافظة على الدين ، والنفس، والعقل ، والنسل ،والمال ، كي تستقيم حياة البشر ، ويطمئن الناس على مصالحهم فيجدوا الفرصة لإنفاذ المقصد الأول للخلق " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون " ( الذاريات :56) فكان صلاح الحياة مرتبطاً بالتزام منهج الله ، وكانت كلما انحرفت عن هذا المنهج لغرض نفس ، أو إملاء هوى ، أو فساد ضمير، كلما سقطت في أوحال المشاكل وغرقت في مستنقعات الضياع " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى "( طه :124 )
وإنه لا خلاص للبشرية مما هي فيه إلا بشرع الله ومنهج الله ، كما أراده الله سبحانه وكما يفهمه العلماء الراسخون في ضوء معيار اللغة ، ومقاصد الشرع ، وقواعد الاستنباط المأخوذة من منهاج السلف الصالح رضي الله عنهم لا كما يتأوله الجاهلون ، أو ينتحله المبطلون ، أو يجنح إليه الغالون .
أيها الإخوة الكرام :
إن العواطف الجياشة ليست هي شرع الله ، ولا يشفع لهذه العواطف أن تكون عواطف دينية مريدة للخير إذا هي ضلت طريقه، فكم من مريد للخير لم يصبه ،كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ، وإن ما شهدناه في الأيام الماضية من أفعال تمليها العواطف المتلفعة بالدين من تفجير وقتل على أرض المملكة العربية السعودية أرض الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومأرز الإسلام اعتداء على ناس أمنتهم وسمحت لهم بالوجود على أرضها لمصلحة الدولة والشعب - زادها ما جاء بعدها من اعتداء وقع على أرض المملكة المغربية - أمور مخالفة للشرع مجافية للصواب بحساب الشرع والمصلحة .(/2)
أما أنها مخالفة للشرع ، فلأنها تستهدف أرواحاً محرماً قتلها في دين الله ، فأولئك المستهدفون في هذه الدول ، إما معاهدون تربط بينهم عهود واتفاقيات مع المسلمين تقضي بعدم الاعتداء ، ووضع السلاح بين الطرفين ، وهذا يصون دماءهم ويحرم قتلهم ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء " أبو داود والترمذي " وقال الله تعالى " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق " ( الأنفال : 72 )
أي فإن استنصركم أولئك المؤمنون على قوم بينكم وبينهم ميثاق يضع الحرب بينكم وبينهم فلا تنصروهم !
وإما أن يكون أولئك من المستأمنين الذين أجيز لهم دخول إحدى الدول الإسلامية ، وهم بهذا الإذن سواء أكان إقامة أو زيارة يعتبرون مستأمنين ، وقد قال الله تعالى : " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " ( التوبة:6 )
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً " البخاري ومسلم " وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أمن رجلاً على نفسه فقتله فأنا برئ من القاتل ، وفي لفظ ( أعطي لواء غدر " ( أحمد وابن ماجه .. صحيح )
وهكذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين يد واحدة إذا أمن أي شخص منهم - كبيراً أو صغيراً ذكراً أو أنثى - أحداً اعتبر ذلك بمثابة بطاقة أمان من المجتمع يحميها قانون السماء قبل قانون الأرض ، وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد على من أخفر بذمة مسلم .
أيها الناس :(/3)
إن الله سبحانه وتعالى حرم الغدر وأوجب الوفاء بالعهد ، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوفاء : أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال ما منعني أن أشهد بدراً إلا أنني خرجت أنا وأبي حسيل ، فأخذنا كفار قريش قالوا إنكم تريدون محمداً فقلنا ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر ، فقال انصرفا ، نفي لهم بعهدهم ، ونستعين الله عليهم .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رد أبا جندل بن سهيل إلى المشركين وقال " إنا قد عاهدنا القوم فلا نغدر "
عباد الله :
إن هذه الشريعة الحكيمة المباركة قائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد فمتى كان الإقدام على أمر جائز يترتب عليه ضرر أكبر كان محرماً شرعاً ، قال الإمام الشاطبي : وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهي عنه والتوسل بها إليه ، وهو أصل مقطوع به على الجملة ، قد اعتبره السلف الصالح فلا بد من اعتباره .
وقد قال الله تعالى : " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم "
( الأنعام : 108 )
قال الإمام القرطبي : فنهى الله سبحانه المؤمنين أن يسبوا أوثانهم لأنه علم أنهم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفراً ، قال ابن عباس : قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهي محمداً
وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن نسب إلهه فنزلت الآية .. ثم قال : وحكمها باق في هذه الأمة على كل حال فمتى كان الكافر في منعة ، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى(/4)
الله عليه وسلم أو الله عز وجل فلا يحل لمسلم ان يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك لأنه بمنزلة البعث على المعصية ، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع ، وهكذا ندرك أن هذه التصرفات التي أشرنا إليها مدانة بالشرع من زاوية المبدأ والمصلحة لما يترتب عليها من مفاسد في حق الإسلام والمسلمين .
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد .. عباد الله :
فإن المرء مطالب بالدوران مع الشرع لا مع العاطفة والهوى فإن الشرع هو معيار سلامة التصرف واستقامة المسير حتى وإن رأيت أن في ذلك غبناً للإسلام وإظهاراً لضعف يأباه الشرع ( في نظرك ) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه . " أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد رأيتني أرد أمر النبي صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهاداَ فو الله ما آلو عن الحق ، وذلك يوم أبى جندل ( أبو يعلي والطبراني )
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وأوهن كيد الكافرين وانصرنا عليهم أجمعين .
اللهم فك أسرانا ، اللهم هيئ لهم من كل ضيق فرجاً ، ومن كل عسراً يسراً ، اللهم حطهم بعنايتك واكلأهم بعينك التي لا تنام ، اللهم ردهم إلى أهليهم سالمين غانمين غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم متع أهلهم بالنظر إليهم أحياء سالمين ، اللهم كن لهم ولياَ ونصيراً ، اللهم قد إليهم من يخلصهم من ورطة الأسر يا أرحم الراحمين ، يا من أخرجت يونس من بطن الحوت أخرجهم مما هم فيه ، يا سامع الدعاء يا مجيب المضطرين ، قد جفت الدموع وتمزقت القلوب وفاض الأسى ، مات الوالد، وشب الولد ،وشابت الزوجة ، اللهم فأقر هذه العيون بالنظر إليهم .
اللهم لا ترد دعاءنا ، فأيدينا ممتدة إليك ضارعة ، وما لنا سواك من نصير .
اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة ولا حول ولا قوة إلا بالله .(/5)
اللهم احفظ سمو أمير البلاد وولي عهده الأمين .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
الرشوة سحت وتضييع للأمانة
اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم وأعمالكم وأموالكم وما تأكلون وما تدخرون ، يقول جل ذكره : " يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين " [ ا لبقرة : 168 ]
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد : " أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة " ويقول صلى الله عليه وسلم : " ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ،وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " ( البخاري 4/355 رقم 2072 تبين من ذلك أن الكسب الحلال شرف عال ، وعز منيف ، ومن مأثور حكم لقمان : " يا بني استغن بالكسب الحلال عن الفقر ، فإنه ما افتقر أحد قط ، إلا أصابه ثلاث خصال : رقة في دينه ، وضعف في عقله ،وذهاب مروءته " .
الرشوة سحت وتضييع للأمانة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " [ آل عمران : 102 ] " يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " [ النساء : 1 ] " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً"[الأحزاب:70 ]
أما بعد : -
فيا أيها المسلمون : -
اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم وأعمالكم وأموالكم وما تأكلون وما تدخرون ، يقول جل ذكره : " يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين " [ ا لبقرة : 168 ](/1)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد : " أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة " ويقول صلى الله عليه وسلم : " ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ،وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " ( البخاري 4/355 رقم 2072 تبين من ذلك أن الكسب الحلال شرف عال ، وعز منيف ، ومن مأثور حكم لقمان : " يا بني استغن بالكسب الحلال عن الفقر ، فإنه ما افتقر أحد قط ، إلا أصابه ثلاث خصال : رقة في دينه ، وضعف في عقله ،وذهاب مروءته " .
( 2 )
أيها الإخوة :
إن في الكسب الحلال صلاح الأموال والأحوال وسلامة الدين ، وصون العرض والكرامة وجمال الوجه ، ومقام العز ، وإن من أسمى غايات رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " [ الأعراف : 157 ]
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أكل طيباً وعمل في سنة ،وأمن الناس بوائقه دخل الجنة " ( رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ،وحسن خليقة ،وعفة طعمة " ( رواه أحمد والحاكم )
أيها المسلمون :(/2)
في الوقت ذاته نجد الإسلام يشدد في تحريم أكل المال بالباطل والكسب المحرم يقول الله تعالى : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتاكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون " [ البقرة : 188 ] ، وقد ابتليت المجتمعات المعاصرة بألوان شتى من طرق الكسب المحرم تحت مسميات براقة وخداعة : هدية ، إكرامية ، محاباة .. إلى غير ذلك ، وإن من أكثر أسباب الكسب الحرام انتشار الرشوة في بعض الأوساط – عياذاً بالله – إن من أشر ما تصاب به أمة من الأمم أن تمتد أيدي فئات من عمالها سواء من العامة أو أصحاب المسئوليات فيها إلى تناول ما ليس بحق ، فنجد صاحب الحق لا ينال حقه إلا إذا قدم مالاً رشوة، وذا الظلامة فيهم لا ترفع مظلمته إلا إذا دفع رشوة ،وقد عاب الله على الأمم السابقة أكلهم السحت فقال جل وعلا : " سماعون للكذب أكالون للسحت " المائدة : 42 " ولا شك أن الرشوة من السحت .
ثم انظروا – رحمني الله وإياكم – إلى هؤلاء الذين يتعاطون السحت ولا يخافون أن يسحتهم الله بعذاب ، كيف أنهم وقعوا في هذا الإثم فندد الله بهم وفضح أمرهم ، ثم بين إثم المقصر ممن لم ينكر عليهم ذلك فقال جل ذكره : " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ، لبئس ما كانوا يصنعون " [ المائدة : 63 ]
( 3 )
عباد الله :
إن الرشوة تدل على تساقط القيم وفساد القلوب وانطماس البصائر،ومحبة الباطل ، وكراهية الحق ، إنها تذهب الكرامة وتعرض للفضيحة في الدنيا والآخرة ، وهي هضم للحقوق ، وتؤدي إلى دفن الجد ، وذهاب الغيرة على المصالح العامة ، وتضييع الأمانة وعدم تقدير المخلصين من أبناء الأمة . إن الرشوة خيانة عند جميع أهل الأرض وهي في دين الله أعظم إثماً لهذا قال صلى الله عليه وسلم : " لعنة الله على الراشي والمرتشي " ( رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني .
عباد الله :(/3)
إن الرشوة تخفى الجرائم وتستر القبائح ، وتزيف الحقائق ، بالرشوة يفلت المجرم ، ويدان البرئ ، وبها يفسد ميزان العدل الذي قامت به السموات والأرض ، وقام عليه عمران المجتمع ، إن الرشوة هي المعول الهدام للدين والفضيلة والخلق ، ومن مفاسدها : طمس الحق ، والسكوت على الباطل ، وتقديم المتأخر ، وتأخير المتقدم ، ورفع الخامل ، وحرمان الكفء ، وتغيير الشروط ، والإخلال بالمواصفات ، والتلاعب بالمواعيد ، وضياع الحقوق ، وأكل أموال الناس بالباطل وزراعة السيئ من الأخلاق ، وتضييع للأمانة ، وإغضاب الرب ، والاستسلام للمطامع وقد تؤدي إلى ما هو أشد من ذلك ، وكله حرام حرمه الله تعالى إلى يوم القيامة .
عباد الله :
أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : " استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي إلى ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال : ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول : هذا أهدى إلى ، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي له أم لا ؟ والذي نفسى بيده لا يأتي بشئ إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيراً له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاه تيعر ، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ، ألا هل بلغت " ثلاثاً " ) ( متفق عليه واللفظ للبخاري )
أليس هذا نصاً في تحريم الرشوة ؟ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم " لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه " ( رواه الترمذي ) صحيح الجامع .
يقول يوسف بن أسباط : إن الرجل إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه انظروا من أين مطعمه ؟، فإن كان من مطعم سوء ،قال دعوه يتعب نفسه ويجتهد فقد كفاكم نفسه .
( 4 )
أيها المسلمون :(/4)
إن ناساً – مع الأسف – يبيعون ضمائرهم بدنانير معدودة ويدخلون المال الحرام على أنفسهم وأهليهم ، واعجباً لهم ! أيخشى أحدهم على نفسه من أكل بعض الحلال مخافة المرض في الدنيا ولا يخشى على نفسه أكل الحرام الذي يرديه في نار جهنم !
وقد روى أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي قول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة رضي الله عنه : يا كعب من عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم أو دم نبت من سحت ، النار أولى به ، يا كعب الناس غاديان ، فغاد في فكاك نفسه فمعتقها أوغاد فموبقها " .
ألا فليتق الله هؤلاء المقصرون المتواطئون على إضاعة الأمانة الراشي والمرتشي والرائش ، كيف ينتظر منهم خير أو بركة أو إنتاج ؟ فليتقوا الله ربهم ، وليأخذوا بأمر ربهم ويستمسكوا بتوجيهات نبيهم ففي ذلك ما يطهر قلوبهم ويحفظ حقوقهم ويملأ بالرضا نفوسهم وبالإيمان قلوبهم وإن الله تعالى ليمحو السيئ بالحسن،"وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون"[ النور:31 ]
أيها المسلمون :
إن السكوت على مثل هذا المنكر – تعاطى الرشوة - جريمة كبرى ومشاركة لفاعليها ، فينبغي علينا أن نأخذ على أيدي هؤلاء – لا بارك الله فيهم – لأنهم يشوهون جمال مجتمعاتنا ويقوضون صفاء عيشنا ، ويذهبون طمأنينة مسيرتنا وسلامة أمتنا بما يتقاضونه ويتعاطونه من رشوة محرمة ، يقول تعالى : " وقالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ، قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون " [ الأعراف : 164 ]
أيها الإخوة :
إن أقسى ما يعاقب به من يأكل الحرام أن يحال بينه وبين رحمة ربه ، فيطرد من رحمته : " لعن الله الراشي والمرتشي " ، ثم لا يستجيب الله دعاءه ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك ، وبطاعتك عن معصيتك ، ولا تقطع عنا فضلك ، ولا تكشف عنا سترك .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
( 5 )
الخطبة الثانية:(/5)
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فيا عباد الله:
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتركون بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام ، فكيف بنا نجد اليوم من يعمد إلى الحرام فيأكله ؟
علينا أن نراجع ما كان عليه سلفنا الصالح من الورع وترك الشبهات لنقتدي بهم فهم مصابيح الهدى بهم يهتدى ويقتدى ، هذا أبو بكر الصديق يتحرى الحلال ويبتعد عن الحرام والشبهة حتى ولو جاء عن طريق لا يعلمه ؟ : يجيئه غلام بشئ فيأكله ، فيقول الغلام : أتدري ما هو ؟ تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة ولكنني خدعته ، فلقيني فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت ، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شئ في بطنه ، وفي رواية قال : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ، اللهم إني اعتذر إليك مما حملت العروق ، وخالط الأمعاء "
( أخرجه البخاري ) .
( 6 )
ولقد كانت المرأة الصالحة تقول لزوجها : " اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا من حلال فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار " فأين مثل هذه الزوجة الصالحة ؟
عن الحسن البصري قال : " ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام " وقال أبو الدرداء : " تمام التقوى أن يتقى العبد ربه حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً ، حجاباً بينه وبين الحرام " . فطوبي لمن أكل طيباً وعمل في سنة ، طوبى لمن حسن تعامله ، وعف في طعمته ، وحفظ الأمانة ، وصدق في الحديث ، وأمن الناس بوائقه .(/6)
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم والأموات ، اللهم ارزقنا الحلال الكثير الطيب ، وباعد بيننا وبين الحرام كمابا عدت بين المشرق والمغرب ، اللهم فرج كرب المسلمين في كل مكان وانصر المجاهدين في سبيلك ، ووفق المخلصين من أبنائنا إلى ما تحب وترضى ، وخذ بنواصيهم إلى البر والتقوى وأحيي موات القلوب وأصلح فسادها ، ورد الشاردين وفك فيد الأسرى وأرجعهم إلى أهليهم سالمين آمنين معافين ، وأرحم شهداءنا الأبرار اللهم فك قيد أسرانا ، اللهم فك قيدهم ، وعجل فرجهم وفرج كربهم ، واشف صدورنا بعودتهم سالمين غانمين ، اللهم غياث المستغيثين أغثهم ، اللهم جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمعنا بهم على خير ما تحب وترضى ، اللهم يا من رددت يوسف إلى يعقوب بعد طول فراق رد علينا أسرانا ، اللهم أقرر عيوننا بفرجهم القريب ، اللهم إن ليلهم قد طال فأرنا فجرهم وعجل فرجهم وأزح الغموض الذي يكتنف غيابهم ويحول دون عودتهم ، اللهم إنهم عبادك ليس لهم من رب سواك اللهم رقق القلوب القاسية عليهم .
يا أرحم الراحمين ، اللهم ارحم شهداءنا الأبرار وتقبلهم في الصالحين ، واخلفهم في أهليهم وذويهم يارب العالمين ، اللهم وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وفرج كرب المسلمين في كل مكان ، اللهم احفظ سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين ، واجعل بلدنا هذا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين .
اتقوا الله عباد الله وأقم الصلاة .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/7)
اطبع هذه الصحفة
وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
إن الإيمان بالله عز وجل ، والإيمان بالإسلام وبرسول الإسلام أساس كل خير ، فمن فقد هذا الإيمان فقد في الحقيقة كل خير ، وكان من الخاسرين . ولا يكفي لكي يكون المرء مؤمناً أن يدعي ذلك بلسانه فقط ، وقلبه مملوء بحب الدنيا ، لا يعرف عن الآخرة شيئاً ، مصر على الغي ، مشغول بتحقيق المطامع ولو من غير الطريق المشروع .
لقد تعلمنا من أسس ديننا ومن منهج نبينا صلى الله عليه وسلم في التربية ، وتعلمنا من أحداث أمتنا على مدار التاريخ ،أن ما يعيد للأمة عزها وقوتها هو عودتها إلى الله ،وتحقيقها صدق العبودية له ،وتطبيقها شرعه في كل الأمور ،وتربيتها على الإيمان بكل جوانبه ومعانيه .
قال تعالى : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " [ آل عمران : 139- 141 ] في هذه الآيات بيان فضل هذه الأمة لأن الله سبحانه وتعالى خاطبهم بما خطاب به أنبياءه فقد قال لموسى عليه السلام : ( إنك أنت الأعلى ) وقال لهذه الأمة : ( وأنتم الأعلون ) ، وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى فهو سبحانه العلي ، وقال للمؤمنين : " وأنتم الأعلون ) أي عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده والمشركون يسجدون لشئ من خلقه ، ومنهجكم أعلى فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ، ودوركم في الحياة أعلى فأنتم الهداة لهذه البشرية كلها وهم ضالون عن الطريق .
هذه هي معاني الكرامة والعزة التي تغرسها العقيدة في قلب المؤمن باعتباره إنساناً ،ولكنه بوصفه مؤمناً يشعر بمعان اعمق ، ويسمو به إيمانه إلى سماء عالية لا يسعى إليها على قدم ولا يطار على جناح .(/1)
وهو بوصفه عضواً في أمة الإيمان يشعر بكرامة أكبر ، قال تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " [ آل عمران : 110 ] وقال تعالى : "وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " [ البقرة : 143 ] ، وقال سبحانه : " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج : 78 ] ، وقال تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " [ النساء :141 ]
وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
الحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور ، سبحانه وتعالى ، أخرج عباده من الظلمات إلى النور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الملك الغفور ، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله ، وضح لنا طريق الإيمان فشرح به الصدور ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، الذين لم تغرهم الحياة الدنيا ولم يغرهم بالله الغرور .
أما بعد :
فأوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثكم على طاعة الله ،واستفتح بالذي هو خير ..
( 2 )
إخوة الإيمان :
إن الإيمان بالله عز وجل ، والإيمان بالإسلام وبرسول الإسلام أساس كل خير ، فمن فقد هذا الإيمان فقد في الحقيقة كل خير ، وكان من الخاسرين . ولا يكفي لكي يكون المرء مؤمناً أن يدعي ذلك بلسانه فقط ، وقلبه مملوء بحب الدنيا ، لا يعرف عن الآخرة شيئاً ، مصر على الغي ، مشغول بتحقيق المطامع ولو من غير الطريق المشروع .
لقد تعلمنا من أسس ديننا ومن منهج نبينا صلى الله عليه وسلم في التربية ، وتعلمنا من أحداث أمتنا على مدار التاريخ ،أن ما يعيد للأمة عزها وقوتها هو عودتها إلى الله ،وتحقيقها صدق العبودية له ،وتطبيقها شرعه في كل الأمور ،وتربيتها على الإيمان بكل جوانبه ومعانيه .(/2)
قال تعالى : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " [ آل عمران : 139- 141 ] في هذه الآيات بيان فضل هذه الأمة لأن الله سبحانه وتعالى خاطبهم بما خطاب به أنبياءه فقد قال لموسى عليه السلام : ( إنك أنت الأعلى ) وقال لهذه الأمة : ( وأنتم الأعلون ) ، وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى فهو سبحانه العلي ، وقال للمؤمنين : " وأنتم الأعلون ) أي عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده والمشركون يسجدون لشئ من خلقه ، ومنهجكم أعلى فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ، ودوركم في الحياة أعلى فأنتم الهداة لهذه البشرية كلها وهم ضالون عن الطريق .
هذه هي معاني الكرامة والعزة التي تغرسها العقيدة في قلب المؤمن باعتباره إنساناً ،ولكنه بوصفه مؤمناً يشعر بمعان اعمق ، ويسمو به إيمانه إلى سماء عالية لا يسعى إليها على قدم ولا يطار على جناح .
وهو بوصفه عضواً في أمة الإيمان يشعر بكرامة أكبر ، قال تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " [ آل عمران : 110 ] وقال تعالى : "وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " [ البقرة : 143 ] ، وقال سبحانه : " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج : 78 ] ، وقال تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " [ النساء :141 ]
يشعر المؤمن بالعزة التي سجلها الله في كتابه للمؤمنين مقرونة بعزة الله ورسوله " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لايعلمون " [ المنافقون : 8 ](/3)
ويشعر بأنه في ولاية الله البر الكريم ، ولاية المعونة والنصرة ، والرعاية والهداية " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " [ محمد : 11 ] ، " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"[ البقرة : 257 ]
ويشعر المؤمن إنه في معية الله الذي يمده بنصره الذي لا يقهر ، قال تعالى : " وأن الله مع المؤمنين " [ الأنفال : 19 ] ، وقال تعالى / " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين " [ الروم : 47 ]
( 3)
وقال تعالى : " ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ، كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين "
[ يونس : 103 ]
ويشعر المؤمن أنه في حماية الله القوي القدير ، يرد عن صدره سهام المعتدين : " إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور " [ الحج : 38 ]
والقرآن يجعل المؤمنين مقياساً لصلاح الأعمال أو فسادها ، فحكمهم عند الله معتبر ، قال تعالى " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " [ التوبة : 105 ]
لا عجب بعد هذا إذا رأينا عبداً أسود كبلال بن رباح يتيه على السادة المتكبرين فخراً ، ويرفع رأسه عالياً ، فقد صار بالإيمان أرفع عند الله ذكراً وأسمى مقاماً ، ينظر إلى أمية بن خلف وأبي جهل بن هشام وغيرهما من زعماء قريش نظرة البصير للأعمى ، قال تعالى : " أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " [ الأنعام : 122 ] ، وقال تعالى : " أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم " [ الملك : 22 ] .(/4)
ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا أعرابياً مثل ربعي بن عامر حين باشرت قلبه عقيدة الإسلام ، وأضاءت فكرة آيات القرآن ، يقف أمام رستم قائد قواد الفرس ، غير مكترث له ولا عابئ به وبما حوله من خدم وحشم ، وما يتوهج بجواره من فضة وذهب ، حتى إذا سأله رستم : من أنتم ؟ إجابه الأعرابي في عزة مؤمنة إجابة خلدها التاريخ وقال : نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام إن الذين رزقوا نعمة الإيمان يسخرون من الأحداث وإن برقت ورعدت ، ويبتسمون للحياة وإن هي كشرت عن نابها ، ويستحيل الألم عندهم إلى نعمة تستحق الشكر على حين هو عند غيرهم مصيبة تستوجب الصراخ والشكوى ، كأنما عندهم غدر روحية مهمتها أن تفرز مادة معينة تتحول بها كوارث الحياة إلى نعم .
( 4 )
ألا ترى إلى خبيب بن عدي وقد صلبه المشركون وأحاطوا به يظهرون الشماتة فيه يحسبون أنه ستنهار أعصابه أو تضطرب نفسه ، ولكنه ينظر إليهم في يقين وينشد قائلاً . ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله ،وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
وفي جو غزوة الأحزاب الرهيب كان موقف المؤمنين هو موقف السكينة والطمأنينة الذي سجله الله لهم في كتابه : ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً " [ الأحزاب : 22 ]
ما الذي وهب هؤلاء المجاهدين السكينة ؟ إنه الإيمان وحده .
أيها المؤمنون :(/5)
الآن وبعد أن قربت منا الأخطار واتضحت بشكل أكبر أمام أعيننا نرى أن الحاجة للعودة إلى الله، والاستيقاظ من الغفلة أصبحت أكبر وأكبر وأن طريق النصر والنجاة وقت المخاطر يستلزم صحوة سريعة قوية يبدأ بها كل فرد في الأمة بأن يعمل على تغيير نفسه، ثم يهب مسارعاً للواجب الكبير الذي نسيه أكثر المسلمين الآن ألا وهو واجب الدعوة إلى الله وإصلاح الغير .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
الزهد
إن حديثنا اليوم عن الزهد، وقد عرفه أبو العباس الأندلسي- رحمه الله - بأنه: "حبس النفس عن الملذات، وإمساكها عن فضول الشهوات، ومخالفة دواعي الهوى، وترك مالا يغني من الأشياء"، وقد قيل: إن الله تعالى أوحى إلى داود - عليه السلام - يا داود: إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي وحب غيري، يا داود: إن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك، فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب واحد، يا داود: من أحبني يتهجد بين يدي إذا نام البطالون، ويذكرني في خلواته إذا غفل عن ذكري الغافلون وحاصل ذلك يا عباد الله، أن محب الدنيا مذموم عند الله، والزاهد فيها محبوب له تعالى، ومحبتها الممنوعة، هي إيثارها لنيل الشهوات واللذات، لأن ذلك يشغل عن الله تعالى، أما محبتها لفعل الخير، والتقرب إلى الله تعالى فهو محمود.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 11 رجب الموافق 27/8/ 2004م
الزهد
الحمد لله الذي جعل الدنيا للآخرة طريقاً، وجعل الخلق فيها إما شاكراً وإما كفوراً، أحمده بجميع محا مده حمداً كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها ليوم كان شره مستطيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله وصيةً جامعة، وموعظةً لأولي الألباب موقظة نافعة، وأحثكم على اغتنامها فإن الأوقات سيوف قاطعة، والمنايا سهام في كل آونة واقعة.
إن لله عباداً فطنا * تركوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا * أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا * صالح الأعمال فيها سفنا
عباد الله:(/1)
إن حديثنا اليوم عن الزهد، وقد عرفه أبو العباس الأندلسي- رحمه الله - بأنه: "حبس النفس عن الملذات، وإمساكها عن فضول الشهوات، ومخالفة دواعي الهوى، وترك مالا يغني من الأشياء"، وقد قيل: إن الله تعالى أوحى إلى داود - عليه السلام - يا داود: إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي وحب غيري، يا داود: إن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك، فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب واحد، يا داود: من أحبني يتهجد بين يدي إذا نام البطالون، ويذكرني في خلواته إذا غفل عن ذكري الغافلون وحاصل ذلك يا عباد الله، أن محب الدنيا مذموم عند الله، والزاهد فيها محبوب له تعالى، ومحبتها الممنوعة، هي إيثارها لنيل الشهوات واللذات، لأن ذلك يشغل عن الله تعالى، أما محبتها لفعل الخير، والتقرب إلى الله تعالى فهو محمود.
وخير من اتصف بهذا، هم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فهو منهجهم في الحياة الدنيا، حيث تركوا ملذاتها، وعملوا للآخرة، فكانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وكذلك الصحابة وغيرهم كثير، شهد لهم التاريخ على مر العصور، روى الترمذي بسند حسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: "عرض عليّ ربي، ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا رب ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً أو قال ثلاثاً أو نحو هذا فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك" وروى ابن ماجة وغيره عن أبى العباس سهل بن سعد الساعدى - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله و أحبني الناس، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" حديث حسن ، قال أعرابي لأهل البصرة: من سيدكم؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بم سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
كن زاهداً فيما حوت أيدي الورى * تضحي إلى كل الأنام حبيبا(/2)
ولتعلموا - أيها المسلمون - أنه ليس من الزهد تحريم ما أحل الله، أو الانصراف عن الطيبات التي أحلها الله، ولا الامتناع عن التجارة والزراعة والصناعة التي فيها معايش الناس، وإنما الزهد يا عبد الله هو أن لا تنصرف إلى ملذات الدنيا وشهواتها، بحيث تنسيك ذكر الله وشكره، وتمنعك من التوجه بالأعمال الصالحة والمسارعة فيها، قال تعالى: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" [آل عمران: 133]، فالدنيا هي مطية المؤمن إلى الآخرة وفيها اختباره، قال سبحانه: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" [القصص: 77].
أخرج البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل أي لا تركن إلى الدنيا ولا تطمئن فيها، لأنك على جناح سفر منها إلى وطن إقامتك وهو الآخرة، كالغريب لا يستقر في دار الغربة، ولا يسكن إليها، بل لا يزال مشتاقاً إلى وطنه عازماً على السفر إليه.
أرى طالب الدنيا وإن طال عمره * ونال من الدنيا سروراً وأنعما
كبان بنى بنيانه فأقامه * فلما استوى ما قد بناه تهدما(/3)
قال الفضيل - رحمه الله - "جعل الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا"، وكان بعض السلف يقول: "الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة فيها تكثر الهم والحزن" فيا عبد الله إياك ثم إياك والاغترار بالدنيا، ونسيان الآخرة، فعليك أن ترضى بما قسم الله لك، وبصورتك التي ركبك الله فيها، وبوضعك الأسري، ودخلك المادي، لتكون بعدها أغنى الناس، بل إن بعض المربين الزهاد، يذهبون إلى أبعد من ذلك فيقولون لك: "ارض بأقل مما أنت فيه، وبدون ما أنت عليه" وإليك الأنبياء الكرام - عليهم الصلاة والسلام - كل منهم رعى الغنم، فقد كان داود حداداً، وزكريا نجاراً، وإدريس خياطاً، وهم صفوة الناس وخير البشر، وهذا الأعمش محدث الدنيا، كان من الموالي، ضعيف البصر، فقير ذات اليد، ممزق الثياب، رث الهيئة والمنزل، وأيضاً الأحنف بن قيس حليم العرب قاطبة، كان نحيف الجسم، أحدب الظهر، أحنى الساقين، وغيرهم كثير ممن بخسوا حظوظهم الدنيوية.
فعن زيد بن ثابت - رضى الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهى راغمة" رواه ابن ماجه وغيره بإسناد جيد
بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من البيان، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(/4)
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وأيقنوا من الدنيا بالفناء، ومن الآخرة بالبقاء.
أيها المسلمون:
علينا الحذر من استعباد الدينار والدرهم، فإنهما أهلكا كثيراً من الناس، أخرج البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض" فعبد الدينار والدرهم، هو من استعبدته الدنيا بملذاتها وشهواتها فكان أسيراً لها.
ويذكر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتي بمال فوضع في المسجد فخرج إليه يتصفحه، وينظر إليه، ثم هملت عيناه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين ما يبكيك؟ فوالله إن هذا لمن مواطن الشكر، قال عمر: "إن هذا والله ما أعطيه قوم يوماً إلا ألقي بينهم العداوة والبغضاء" وقيل: لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: صف لنا الدنيا، قال: أطيل أم أقصر؟ قالوا: بل أقصر، قال: "حلالها حساب، وحرامها عذاب، وهذا عمر بن عبد العزيز، يضرب بزهده المثل، مع أن خزائن الأموال تحت يده.
هي الدنيا تقول بملء فيها * حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني إبتسام * فقولي مضحك والفعل مبك(/5)
واعلموا أن للزهد ثمرات كثيرة : فمنها الحرص على لقاء الله تعالى، وعدم التعلق والتحسر على الدنيا، ومنها حفظ المسلم من فتنة الرئاسة والجاه، ومن فتنة المرائي والمسموعات، التي تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وحفظه من فتنة النساء، والتعلق بالحرام، وإبعاده عن الشبهات التي تؤدي إليه، ونذكر هنا ما أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير -رضى الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
فيا أيها المسلمون:
اقتدوا بسيرة نبيكم تهتدوا، واسلكوا سبيل خياركم تفلحوا، واعلموا أن الدنيا غدّارة مكّارة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما يما ثله من الطاعة.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم حسن أخلاقنا ويسر أرزاقنا، وخذ إلى الخير بنواصينا، اللهم فرج كرب المسلمين في كل مكان، وأصلح ذات بينهم، اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، وارزقنا شكر نعمتك، وحسن عبادتك، اللهم احفظ سمو أمير البلاد، وسمو ولي عهده الأمين، واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئناً، سخاء وسائر بلاد المسلمين.
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/6)
اطبع هذه الصحفة
الوسطية في الإسلام
إن الله سبحانه وتعالى قد أقام هذا الشرع الحكيم على مجموعة من الخصائص ميزتة عن غيره من الأديان والنحل ومنحته -بإذن الله- الاستمرار والصلاحية لكل زمان ومكان، وجعلته وحده القادر على حل مشاكل الناس والتنقيب عن مصالحهم الدينية والدنيوية، وذلك لأنه دين الله المنزل لمصلحة العباد في الأولى والآخرة المخلد إلى منتهى الزمان، وهو سبحانه أعلم بمصالح الخلق، قال الله عز وجل: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14).
ألا وإن من أهم هذه الخصائص التي امتاز بها هذا الدين عن بقية الأديان والنظم: سمة الوسطية والاعتدال، التي كان لها الدور البارز في إحلال هذه الأمة محلها الأسمى في قيادة البشرية والشهادة عليها، يقول الحق جل وعلا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة 143).
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 18 رجب 1425هـ الموافق 3 / 9 / 2004م
الوسطية في الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران 102)(/1)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب : 70-71).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون:
إن الله سبحانه وتعالى قد أقام هذا الشرع الحكيم على مجموعة من الخصائص ميزتة عن غيره من الأديان والنحل ومنحته -بإذن الله- الاستمرار والصلاحية لكل زمان ومكان، وجعلته وحده القادر على حل مشاكل الناس والتنقيب عن مصالحهم الدينية والدنيوية، وذلك لأنه دين الله المنزل لمصلحة العباد في الأولى والآخرة المخلد إلى منتهى الزمان، وهو سبحانه أعلم بمصالح الخلق، قال الله عز وجل: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14).(/2)
ألا وإن من أهم هذه الخصائص التي امتاز بها هذا الدين عن بقية الأديان والنظم: سمة الوسطية والاعتدال، التي كان لها الدور البارز في إحلال هذه الأمة محلها الأسمى في قيادة البشرية والشهادة عليها، يقول الحق جل وعلا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة 143).
إخوة الإيمان:
إذا كانت تلك هي منزلة الوسطية في كتاب الله، وقد بدت السبب الأسمى في بلوغ هذه الأمة لتلك المنزلة السامقة، منزلة الشهادة على الناس، وقيادة الأمم، فما هي الوسطية؟ وما معناها في كتاب الله؟
إن الوسطية –عباد الله– وكما قال المفسرون لا تخرج عن معنيين مشهورين يؤديان معنى واحداً أولهما: (وسطاً) أي خياراً عدولاً ومن ذلك قول الشاعر القديم:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم *** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وهو قول جمهور المفسرين ورجحه ابن جرير وابن كثير رحمهما الله.
والثاني: أنهم وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وجاء هذا في سياق الامتنان على هذه الأمة.(/3)
والوسطية -عبادالله– منهج سلف هذه الأمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم"، ويقول الإمام الشاطبي –رحمه الله–: "إن الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط العدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، فإذا نظرت إلى كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط والاعتدال، ورأيت التوسط فيها لائحا، ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه" ويقول العلامة ابن القيم: "فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين.
معاشر المسلمين:
ووسطية الإسلام جلية بارزة في مظاهر شتى من هذا الدين، بل في كل تشريعات وأحكام الإسلام، فهي تتجلى بوضوح في عقيدة الإسلام، فقد جاء وسطاً بين الملل، فلا إلحاد ولا وثنية، بل عبودية لمن يستحق العبودية وحده وهو الله عز وجل، وفي العبادات وسط بين من يلغون العبادات والشعائر أصلا ومن ينقطعون لها (لا رهبانية في الإسلام)، والإسلام وسط في موازنته بين البعد الروحي والبعد الطيني للإنسان، فينظر إليه الإسلام على أساس أنه مخلوق مزدوج الطبيعة يقوم كيانه على قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله، قال تعالى: {قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ} (ص:71).(/4)
فهو بعنصره الطيني قادر على أن يسعى في الأرض وأن يعمرها، وعلى أن يكتشف ما أودع الله فيها من كنوز، ونعم، وعلى أن يسخر قواها لمنفعة نفسه ومنفعة البشرية، وهو بعنصره الروحي مهيأ للتحليق في أفق أعلى والتطلع إلى عالم أرقى والسعي إلى حياة هي خير وأبقى، وبهذا يسخر المسلم المادة ولا تسخره، ويستخدم ما على الأرض من ثروات دون أن تستخدمه، ودون أن تستعبده، وهذا ما يؤكده البيان الإلهي {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15).
ومن المجالات المهمة -عباد الله– التي تبرز فيها وسطية الإسلام ما يتعلق بالتشريع والتحليل والتحريم، ومناهج النظر والاستدلال، فقد توسطت الشريعة في هذه المجالات بين اليهود الذين حرم عليهم كثير من الطيبات وقوم استحلوا حتى المحرمات، والحكم والتحليل والتحريم حق الله سبحانه {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (الأنعام: 57)
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: 54)
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32).(/5)
وفي منهج النظر والاستنباط وازن الإسلام بين مصادر التلقي والمعرفة، ووافق بين صحيح المنقول، وصريح المعقول، وعالم الغيب، والشهادة، وإعمال النصوص ورعاية المقاصد، ووازن بين تحقيق المصالح، ودرء المفاسد.
أيها المسلمون:
وفي مجال الإنفاق تتحقق الوسطية في قول الله عز وجل {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67).
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (هو الحسنة بين سيئتين) والمراد أن الإسراف سيئة، والتقتير سيئة، والحسنة ما بين ذلك، فخير الأمور أوسطها.
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم
عباد الله:(/6)
إن وسطية الإسلام سمة شاملة جامعة، لكل قضايا الدنيا والآخرة، وهي معلم من معالم إعجازه، وصلاحه، لكل زمان ومكان، وهذه الوسطية تضاعف مسئولية الأمة ودورها العالمي، فهي أمة الوسطية والشهادة على الناس {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143) شهادة تصان فيها الحقوق، وتحقق العدالة، وتحفظ الكرامة، ويبسط السلام، وتبنى الحضارة المعاصرة، بعد أن شقي العالم بألوان الصراعات وأنهكت البشرية بأنواع من الصدامات، وتقاذفت الإنسانية أمواج من الأنظمة والأهواء، ومزقت كياناتها في رحلة مهلكة من الضياع، وهوة سحيقة من الفناء، وذلك بسبب ألوان من الصلف والتطرف والأحادية في الرأي، والشطط في الرؤى والمواقف. ولئن آل حال العالم إلى ما نراه اليوم من تسلط وصراع حضاري خطير، فإن الأمل –بعد الله– في أمة الوسطية والاعتدال أن تكبو من عثرتها، وتفيق من غفلتها، وتجمع شتاتها، وتصلح ما أفسده بعض أبنائها من منهج الوسطية والاعتدال، فإنه ضمان الأمان، وطريق السلام بإذن الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:(/7)
فأوصيكم بتقوى الله وطاعته، وأحذركم من معصيته ومخالفته، قال تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} (النساء: 131).
إخوة الإيمان:
إذا أردنا أن نضرب أمثلة رائعة للوسطية والاعتدال فما علينا إلا أن نرفع أبصارنا إلى الأسوة الكاملة والقدوة المطلقة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف كانت الوسطية في أرقى صورها، وأسمى تجلياتها، تنعكس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام -من بعده- رضي الله عنهم.
ومن أروع الأمثلة لما نتحدث عنه: ما جاء في الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه– قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم-، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها (رأوها قليلة)! وقالوا أين نحن من النبي –صلى الله عليه وسلم–؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم– فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.(/8)
وهذه قصة سلمان مع أبي الدرداء، التي أخرجها البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة وهب بن عبدالله –رضي الله عنه– قال: آخى النبي –صلى الله عليه وسلم- بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة (غير معتنية بمظهرها) فقال ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجه في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال له: نم فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعاً، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم–: صدق سلمان.
وهكذا تتجلى الوسطية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: اقتصاداً في العبادة وعدلا في توزيع الحقوق، ومجافاة لطرفي الإفراط والتفريط ، وإيغالا في الدين برفق.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم ارزقنا الاستقامة على منهج النبي صلى الله عليه وسلم من غير إفراط ولا تفريط، اللهم انصر دينك وأعز جندك وخذ بنواصي البشرية إلى الهداية والتوفيق، اللهم تقبل شهداءنا الأبرار، واحفظ اللهم سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين.
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(/9)