بعض نصائح السلف في ذم الدنيا والركون إليها
ثم يختم المؤلف النصيحة ببعض الأخبار عن الصحابة والتابعين والسلف الصالح رحمهم الله تعالى فيقول: (قدم سعد بن أبي وقاص على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما يعوده، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟! توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، وترد عليه الحوض، وتلقى أصحابك.
فقال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً فقال: ليكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب -يعني: كالمتاع الذي يصطحبه الراكب المسافر- وحولي هذه الأساودة.
قال: وإنما حوله إجانة وجفنة ومطهرة.
فقال سعد: اعهد إلينا.
فقال: يا سعد! اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند يديك إذا قسمت، وعند حكمك إذا حكمت).
وقال مطرف: كأنّ القلوب ليست منا، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا.
يعني أنّ حالنا عند سماع المواعظ: كأن قلوبنا التي في صدرونا ليست جزءاً من أبداننا بل هي كيان آخر مستقل بعيد لا يحس، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا، أي: يخاطب به غيرنا ولسنا المخاطبين به.
وقال عمرو بن مرة: من طلب الآخرة أضر بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضر بالآخرة، فأضروا بالفاني للباقي.
وقال شعيب بن حرب: من أراد الدنيا فليتهيأ للذل.
وقالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه! مالي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فقال: إن جهنم لا تدعني أنام.
وكان منصور بن المعتمر يصلي على سطح بيته، فلما مات قال غلام لأمه: يا أماه! الجذع الذي كان على سطح آل فلان لست أراه! قالت: يا بني! ليس ذاك بجذع، ذاك منصور قد مات! فقد تعود الغلام أن يراه قائماً مثل الجذع من شدة إطالته للقيام وسكونه وعدم تحركه.
وهنا شيء مهم نستطيع أن نستنبطه من هذا الخبر، وهو أن السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يحققون فعلاً نصيحة النبي عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فقد مكث منصور تلك السنوات الطويلة وهو يقف على السطح يصلي، ويراه هذا الغلام كأنه جذع، فلا الغلام سأل، ولا أمه تكلمت في شأنه فمعنى ذلك أنه لم يكن هناك تدخل في أحوال الناس، ولم يكن أحدهم يتدخل فيما لا يعنيه، فلم يسأل هذا الغلام أمه إلا حين انقطع وجود ذلك الجسم الذي ظنه جذعاً، فأجابته أمه حينئذ، فهذا مما يدل على اجتهاد السلف في عدم الدخول فيما لا يعنيهم، بينما نرى أبناء هذا الزمان يدخل الواحد منهم في كل ما لا يعنيه من أحوال إخوانه أو جيرانه، وهذا مما ينافي قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
وقال سفيان الثوري: إني لأضع يدي على رأسي من الليل إذا سمعت صيحة فأقول: قد جاءنا العذاب.
وذلك من شدة خوفه أن يحل عذاب الله سبحانه وتعالى بالناس.
وكان بعض السلف إذا استيقظ في الصباح يتحسس أعضاءه مخافة أن يكون قد مُسخ! وقال آخر: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع رحمه الله تعالى نظرة، وكنت إذا رأيت وجهه حسبت أن وجهه وجه ثكلى، يعني: وجه امرأة مات ابنها فهي حزينة شديدة الحزن عليه، وهذا من خوفه من الآخرة.
إنّا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاغنم لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل فالدنيا تجري بنا بسرعة أكبر مما نتخيل، والعمر يجري ولا يشعر الإنسان به، فينبغي أن يتفطن الإنسان لهذا.
ومَثَل الإنسان في هذه الدنيا كالشخص الذي يكون في الطائرة وهو جالس ساكن، وهو في الحقيقة متحرك يقطع مسافات بعيدة جداً، فيوشك ذلك الإنسان أن يصل، فكل ما هو آت قريب، والبعيد هو الذي لا يأتي، وهذا يجربه الإنسان، فإنه إذا كان عنده موعد أو اختبار أو أي شيء بعد فترة معينة فما أسرع ما تمر الأيام، وإذا بذلك الموعد قد جاء، وكذلك الموت، وهو أعظم مصيبة، كما قال الشاعر: والموت أعظم حادث مما يمر على الجبلّة فينبغي الاستعداد والتهيؤ لهذا الموعد الذي لا يستطيع أحد أن ينكره.
يقول الحسن: نضحك ولعل الله اطلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئاً.
أي: نضحك ونحن لا ندري هل الله سبحانه وتعالى راضٍ عنا أم ساخط علينا، ونفرح بالأفلام الكوميدية ونضحك ضحكاً متواصلاً لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، وننظر البرامج الفكاهية والنكت والأفلام والمسرحيات والكرة ونضحك، وكأن ليس وراءنا موت، وكأن ليس وراءنا حساب ولا عذاب! وهناك أمر قضاه الله وقدره وأقسم وحلف عليه، فلا بد من أن يقع، فقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71 - 72] ومعنى (نذَر) أي: نترك.
فمعنى ذلك أنهم كلهم يوردون على النار ثم يستقر أهل النار، وينجو المتقون، جعلنا الله وإياكم منهم.
قال الحسن قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار -يشير إلى الآية؟ - قال: نعم.
قال: فهل أتاك أنك صادر عنها -أي: هل عندك ضمان أنك ستخرج منها؟ - قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ فبكى ولم ير ضاحكاً بعد ذلك حتى مات.
وقال محمد بن واسع رحمه الله تعالى: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي.
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: واعجباً لمن يعلم أن الموت مصيره، والقبر مورده، كيف تقر بالدنيا عينه؟! وكيف يطيب فيها عيشه؟! وجاء محمد بن واسع إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى! إن كنت من أهل الجنة فطوبى لك، فقال: ينبغي لنا إذا ذُكرت الجنة أن نخزى.
يعني: لسنا من أهلها، ولسنا نستحقها.
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: لو استطعت ألا أنام لم أنم؛ مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعواناً لفرقتهم ينادون في الدنيا كلها: يا أيها الناس! النار النار.
ويقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً.
أي أنه بلغ في الاجتهاد في طاعة الله سبحانه وتعالى حداً لا مزيد عليه، فما يضيع من وقته لحظة واحدة.
وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد! كيف حالك؟ فتبسم الحسن وقال: تسألني عن حالي؟ ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم، فتعلق كل إنسان منهم بخشبة، على أي حال يكونون؟! فقال الرجل: على حال شديدة.
قال الحسن: حالي أشد من حالهم.
وذلك خشية أن لا يكون من عباد الله المتقين الذين ينجون من عذاب النار.
وبهذا تنتهي هذه النصيحة من هذا الأخ الفاضل، وهي رسالة من غريق، وفي الحقيقة هي موجهة إلى كثير منا ممن يحتاج إلى هذه التذكرة عسى الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لنا جميعاً توبة نصوحاً قبل أن يفوت الأوان.(21/7)
حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة
هناك سؤال يتكرر كثيراً، وهو متعلق بحكم الاعتكاف في المساجد غير المساجد الثلاثة.
فقد اطلعت على رسالة مختصرة جداً للشيخ جاسم الفهيد الدوسري اسمها (دفع الخلاف عن مكان الاعتكاف) يقول فيها بعد المقدمة: وهذه أوراق اقتضى تصنيفها ما أثاره بعض أهل العلم في تعيين محل الاعتكاف، وقد انتصر فيه لقول غريب مخالف لمذاهب جماهير العلماء، وما استقر عليه العمل على مر الأعصار وفي مختلف الأمصار، فقد أفتى -عفا الله عنه- بأنه لا يصح الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى زاده الله تشريفاً وتعظيماً، وقلده في فتياه فئام من الناس، فأنكروا وجالدوا دونما رجوع إلى مذاهب الأئمة السالفين، أو معرفة بحجج الجمهور المخالفين، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول: قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] أي: من قوله سبحانه: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
وقال الموفق ابن قدامة في (المغني): لا يصح الاعتكاف في غير المسجد إذا كان المعتكف رجلاً، لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافاً والأصل في ذلك قول الله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) فخصها بذلك، ولو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحديد المباشرة فيها، فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقاً، ولم ينازع في ذلك إلا محمد بن عمرو بن لبابة المالكي فأجازه في أي مكان، وهذا قول شاذ.
أي أنّ هذا الإمام قال -كما نقل عنه الحافظ في (الفتح) -: إنّ الاعتكاف يكون في أي مكان.
يقول: ولا عبرة بخلافه، فإنه محجوج بالإجماع قبله، ولذا لم يأبه القرطبي -وهو مالكي مثله- بخلافه في تعكير ثبوت الإجماع.(21/8)
صفة المسجد المعتكف فيه
اختلف أهل العلم في صفة المسجد المعتكف فيه على أقوال ستة: الأول: أن الاعتكاف يصح في أي مسجد ولو كان مهجوراً لا تقام فيه الجماعة، وهذا مذهب الأئمة مالك والشافعي وداود، لكن يلزم المعتكف عند داود أن يخرج لكل صلاة إلى المسجد الذي تقام فيه الجماعة، فإن مذهبه وجوب صلاة الجماعة.
فيقول: يجوز أن يعتكف فيه وفاقاً لـ مالك والشافعي، لكن داود يقول: يجب عليه أن يخرج وقت صلاة الجماعة إلى مسجد تقام فيه الجماعة.
واشترط مالك كون المسجد جامعاً إذا كانت الجمعة تتخلل فترة اعتكاف، فالإمام مالك يقول: إذا كانت صلاة الجمعة تتخلل فترة الاعتكاف فيجب على المعتكف أن يكون في مسجد تقام فيه الجمعة.
قال الباجي في (شرح الموطأ): وأما المساجد التي لا تصلى فيها الجمعة فإنما يكره الاعتكاف فيها إذا كان يتصل إلى وقت صلاة الجمعة؛ لأنه يقتضي أحد أمرين ممنوعين: أحدهما: التخلف عن الجمعة.
أي: لو ظل في معتكفه الذي لا تقام فيه صلاة جمعة فسيتخلف عن الجمعة.
الثاني: الخروج من الاعتكاف إلى الجمعة، وذلك يبطل اعتكافه في المشهور من مذهب مالك، فلذلك اشترط الإمام مالك أن يعتكف في مسجد تقام فيه صلاة الجمعة، وقد روى ابن الجهم عن مالك أن الخروج إلى الجمعة لا ينقض الاعتكاف، وبه قال أبو حنيفة، واستحب الشافعي في هذا الحال أن يكون اعتكافه في مسجد جامع، ولو اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة عنده، والمراد بالمسجد غير الجامع: الذي لا تقام فيه الجمعة.
وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان: قال النووي: وبطلان اعتكافه هو المشهور من نصوص الشافعي.
المذهب الثاني: أنه لا يصح إلا في مسجد جامع.
وهو قول الزهري والحكم وحماد وأول قولي عطاء ورواية عن مالك.
واستُدل له بقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً) إلى أن قالت: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قال أبو داود: غير عبد الرحمن لا يقول فيه: السنة.
وجعله من قول عائشة.
وهذا الخبر فيه نظر من وجهين: أحدهما أن عبد الرحمن بن إسحاق المدني صاحب مناكير، وقد تفرد بقوله: (جامع).
الأمر الثاني: أن الخبر فيه إدراج من كلام الزهري، قال الإمام الدارقطني: يقال: إن قوله: (وإن السنة للمعتكف) إلى قوله: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) من كلام الزهري، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم.
المذهب الثالث: أنه لا يصح إلا في مسجد جماعة.
والفرق بين المسجد الجامع ومسجد الجماعة أنّ المسجد الجامع هو المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة، ومسجد الجماعة هو المسجد الذي تقام فيه الصلوات الخمس في جماعة لكن لا تقام فيه صلاة الجمعة، وهو مذهب أبي حنفية وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول الحسن وعروة ورواية عن الزهري.
واحتُج له بخبر عائشة المتقدم، وقد علمت ما فيه من الإدراج.
وبحديث حذيفة مرفوعاً: (كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح)، وهو ضعيف، يقول ابن حزم: هذه سوءة لا يشتغل بها ذو فهم، جويبر أحد الرواة هالك، والضحاك ضعيف، ولم يدرك حذيفة.
قلت: ومع ضعف هذه الأدلة إلاّ أنّ هذا القول هو أعدل الأقوال وأقومها، وخصوصاً عند من يرى وجوب صلاة الجماعة على الأعيان، وهذا هو الأرجح إن شاء الله، أي أن الجماعة فرض عين وليست فرض كفاية.
يقول ابن قدامة: وإنما اشتُرط ذلك -أي: كون المسجد مسجد جماعة- لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما الخروج إليها، فيتكرر ذلك كثيراً مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف؛ إذ هو لزوم المعتكَف والإقامة على طاعة الله سبحانه وتعالى فيه.
المذهب الرابع: أنه لا يصح إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي.
وهذا آخر قولي عطاء، فقد روى عبد الرزاق عنه أنه قال: لا جوار -أي: لا اعتكاف- إلا في مسجد جامع.
ثم قال: لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة.
المذهب الخامس: أنه لا يصح إلا في المسجد النبوي فقط، وهو قول سعيد بن المسيب، فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة -أحسبه- عن ابن المسيب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: ما أظن أن هذا يصح عنه.
لكن روى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي.
وليس (في مسجد النبي)، فإذا قال: مسجد النبي فـ (أل) للعهد، فينصرف إلى مسجد المدينة، وأما على هذه الرواية (مسجد نبي) -بالتنكير- فيشمل المساجد الثلاثة.
المذهب السادس -وهو المقصود بالكلام في هذا الموضوع-: أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
وهو قول حذيفة رضي الله عنه، وقد تفرد حذيفة به، قال الطحاوي في (مشكل الآثار): حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل قال: قال حذيفة لـ عبد الله -يعني ابن مسعود -: الناس عكوف بين دارك ودار أبي موسى ولا تغير، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس)! قال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا أو أخطأت وأصابوا.
هذا الحديث يرويه الطحاوي عن شيخه محمد بن سنان الشرجي، وشيخ الطحاوي هذا قال عنه الذهبي في (الميزان): صاحب مناكير.
فهذه أول علة.
قال حدثنا هشام بن عمار، قال: وهشام في حفظه ضعف، ولما كبر تغير فصار يلقن فيتلقن، فالسند ضعيف.
وأخرجه البيهقي عن شاكر بن محمد بن حسين العلوي عن محمد بن حمدويه بن سهل الغازي عن محمود بن آدم المروزي عن ابن عيينة به.
وأخرجه الذهبي في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة ابن حمدويه من طريق آخر عن العلوي به، وقال: صحيح غريب عال.(21/9)
الجواب عن حديث حذيفة
الجواب عن خبر حذيفة من وجوه: الأول: أنه قد اختُلف في رفعه ووقفه، والصواب وقفه.
يعني أنّ بعضهم رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام وبعضهم وقفه على حذيفة، يقول: والصواب وقفه؛ فقد رواه ثلاثة من الحفاظ عن ابن عيينة به موقوفاً من كلام حذيفة، وهم: عبد الرزاق الصنعاني عند الطبراني في (الكبير)، وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان المخزومي وهو: ثقة، ومحمد بن أبي عمر العدني وهو: صدوق، فتكون رواية ابن آدم التي رفع فيها الحديث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام شاذة؛ لأن هذه الروايات الثلاث من الحفاظ الثقات تقف الحديث على حذيفة، ولم يرفعوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: ومما يؤيد الوقف ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن إبراهيم النخعي قال: جاء حذيفة فذكر الحديث موقوفاً دون أن يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الجواب من الناحية الحديثية.
وأما من جهة النظر فإن ابن مسعود لم يقبل رواية حذيفة، ولو كانت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما تجاسر ابن مسعود على ذلك؛ فإن ابن مسعود كان من أئمة الصحابة وفقهائهم، وقد أفتى بخلاف ذلك، فقد صح عنه من طريق شداد بن الأزمع قال: اعتكف رجل في المسجد في خيمة له، فحصبه الناس -أي: رموه بالحصباء-، قال فأرسله الرجل إلى ابن مسعود، فجاء عبد الله، وطلب الناس، وحسّن ذلك.
أي: أقره على أنه يعتكف في المسجد.
فعلم بذلك أن حذيفة إنما قال ذلك اجتهاداً منه، ولم يكن ابن مسعود ملزماً باجتهاد حذيفة رضي الله تعالى عنه.
وكذلك قول ابن مسعود لـ حذيفة: (لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا) فهذا تصريح منه بخطأ حذيفة ونسيانه رواية الحديث، وأما عمل عامة الصحابة بخلاف ذلك فهو الأصوب، فلعل حذيفة اشتبه عليه حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فإنه قريب منه في اللفظ، لا سيما أن الخطابي قد ذكر في (معالم السنن) أن بعض أهل العلم استنبط من حديث النهي عن شد الرحال أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة.
وهذا لا يصح؛ لأن النهي عن شد الرحال، أو الإخبار بمضاعفة أجر الصلوات في الحرمين لا يوجب تخصيص الاعتكاف بهذه المساجد، وإنما المقصود من الأحاديث بيان فضلها وشرفها وعلو مقامها، وأنها مختصة بشد الرحال، وليس هناك علاقة بين شد الرحال والاعتكاف، ولذلك يقول الشوكاني في (نيل الأوطار): قال عبد الله -يعني: رداً على حذيفة -: فلعلهم أصابوا وأخطأت.
فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك أن عبد الله يخالفه ويجوِّز الاعتكاف في كل مسجد، ولو كان ثم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خالفه ابن مسعود.
وأيضاً في متن الحديث اختلاف وشك، فقد جاء عن ابن عيينة عن جامع عن شقيق قال: قال حذيفة لـ عبد الله بن مسعود: (قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، أو قال: مسجد جماعة)، فهذا اختلاف في لفظ الرواية نفسها.
ورواه الطبراني بسند صحيح -كما قال الحافظ في (الدراية) - عن النخعي، وفيه: قال حذيفة: (أما أنا فقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة).
وأعله الهيثمي والحافظ ابن حجر بالانقطاع.
فهذا الاختلاف مما يوهن الاستدلال بالحديث؛ لأنه جمع أصلين مختلفين في مسألة واحدة، فمرة يقول: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، ومرة أخرى جاء في الرواية: (لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة) فهذا مما يقدح في الاستدلال بهذا الحديث.
يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: قلنا: هذا شك من حذيفة، أو هو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لحفظه الله تعالى علينا ولم يدخل فيه شك، فصح يقيناً أنه عليه السلام لم يقله قط.
وقال الشوكاني في النيل: وأيضاً الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج بأحد شقيه.
وهناك جواب رابع عن الحديث قالوا: إن الحديث منسوخ، قال الطحاوي في (مشكل الآثار): فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه إخبار حذيفة لـ ابن مسعود أنه قد علم ما ذكره له النبي عليه الصلاة والسلام، وترك ابن مسعود إنكار ذلك وجوابه إياه بما أجابه في ذلك من قوله: حفظوا وأصابوا.
أي: قد نسخ ما قد ذكرته من ذلك، فمن خالفه من الصحابة حفظوا أن هذا نسخ ونسيت، وأصابوا فيما قد فعلوه وأنت أخطأت، وكان ظاهر القرآن على ذلك؛ لأن ظاهر القرآن في قوله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) يعمم، فعم المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه في مساجدهم الجامعة، فلازال المسلمون في كل الأعصار يعتكفون في مساجدهم.
الجواب الخامس: أن الحديث -إن صح- محمول على بيان الأفضلية، أي: لا اعتكاف أكمل ولا أفضل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة، فهذا أكمل الأحوال بلا شك، وأكملها على الإطلاق في المسجد الحرام، يليه المسجد النبوي، يليه المسجد الأقصى.
قال الكاساني في (البدائع): فأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم في المسجد الأقصى، ثم في المساجد العظام التي كثر أهلها.
والجواب السادس: أنه لوثبت رفع الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام لما أجمعت الأمة على ترك العمل به، فلم يذكر عن أحد من الأئمة المتقدمين منهم والمتأخرين أنه أخذ بظاهر هذا الحديث سوى راويه حذيفة رضي الله عنه.
فإن قيل: قد أخذ به سعيد بن المسيب وعطاء، ف
الجواب
أن النقل عن سعيد قد اختلف كما تقدم، وأما عطاء فلم يقل بهذا، وإنما قال: لا اعتكاف إلا في المسجد النبوي، أو المسجد الحرام.
ولم يذكر المسجد الأقصى، ولو أخذ بالحديث- أي: حديث حذيفة - لذكر المسجد الأقصى؛ لأنه مذكور فيه.
فعلم أن فتواه إنما هي اجتهاد منه، فقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت: لـ عطاء: فمسجد إيلياء- وهو المسجد الأقصى-.
قال: لا يجاور إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة.
فعلم تفرد حذيفة بذلك.
ولعله قد تحرر لك من عرض الأقوال وتمحيصها أن القول الأحرى بالقبول هو أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد جماعة، وإن كان الاعتكاف تتخلله صلاة الجمعة فالأولى أن يكون في مسجد جامع، خروجاً من خلاف الإمامين مالك والشافعي رحمهما الله تعالى.
وهنا زيادة ذكرها الشيخ سلمان العودة حفظه الله أيضاً في هذا الموضوع، فقد قال: إن الحديث -على القول بصحته- مؤول.
يعني أنّ حديث حذيفة إذا قلنا بصحته فينبغي تأويله، أي: لا اعتكاف كامل إلا في المساجد الثلاثة.
لكنه يجيب هنا بجواب آخر فيقول: قد يكون المراد من هذا الحديث (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) أن يعتكف في مسجد يحتاج إلى سفر للوصول إليه.
يعني: لو أنّ شخصاً نذر أن يعتكف في مسجد لا بد في التوصل إليه من السفر فإنه لا يسافر، إلا أن يكون نذر الاعتكاف في شيء من المساجد الثلاثة.
فلو نذر أحد أن يعتكف مثلاً في مسجد (جواثا) -وهو أول مسجد صليت فيه الجمعة خارج المدينة المنورة، ولا يزال معروفاً في الأحساء اليوم- لو نذر أن يعتكف فيه فإنه لا يجوز له أن يشد الرحل إليه ليعتكف فيه، ولكن يعوض ذلك بأن يعتكف في أحد مساجد بلده، أو إذا كان لا بد من سفر فيسافر إلى أحد المساجد الثلاثة ويعتكف فيه.
يقول: وإذا نذر المرء أن يعتكف في المسجد الحرام فيجب عليه الوفاء بنذره، فيعتكف في المسجد الحرام، أما لو نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- فإنه يجوز له أن يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو في المسجد الحرام؛ لأن المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي، ولو نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجد الأقصى، أو المسجد الحرام، أو المسجد النبوي؛ لأنهما أفضل من المسجد الأقصى.
يقول: فالخلاصة أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لا اعتكاف بنذر يسافر إليه؛ لأن الاعتكاف يصح في كل مسجد، وقد أجمع الأئمة -خاصة الأئمة الأربعة- على صحة الاعتكاف في كل مسجد جامع، ولم يقل بعدم صحة الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أحد من الأئمة المعروفين المتبوعين، لا الأربعة، ولا العشرة، ولا غيرهم، وإنما نقل هذا عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، وواحد أو اثنين من السلف.
هذا ما يتعلق بجواب هذا السؤال الذي يكثر الكلام فيه جداً في رمضان، ومع احترامنا للعلامة الجليل الألباني الذي ذهب إلى هذا المذهب إلاّ أنه ينبغي علينا في طلبنا للعلم وبحثنا أن نحافظ على الارتباط بقافلة علماء المسلمين ولا نشذ عنها، ولا نلعب بغرائب المسائل، وحتى لو اجتهد من اجتهد من الأئمة الفضلاء والعلماء الأجلاء فلا يشذ عن القافلة العامة لعلماء المسلمين منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا، فينبغي أن نجتنب المسائل الشاذة والغريبة والأقوال المهجورة.
فهذا -والله تعالى أعلم- الجواب عن هذا الحديث الذي(21/10)
فتنة الدجال
فتنة المسيح الدجال أعظم فتنة ستقع على الإطلاق في تاريخ البشرية، وفتنته إحدى أشراط الساعة الكبرى، وقد حذر كل نبي أمته هذه الفتنة، وقد وصفه نبي الرحمة لأمته وصفاً شافياً، وحذرهم من فتنته تحذيراً بالغاً، وأمرهم بالتعوذ من شر فتنته في كل صلاة سواء كانت فرضاً أو تطوعاً.(22/1)
شرح حديث: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)
الحمد الله الذي أرشد عقول أوليائه إلى توحيده وهداها، وثبت كلمة الإخلاص في قلوب أحبابه على أمواج الامتحان باسم الله مجراها ومرساها، وأعمى بصائر المنافقين لما أدبرت عن الدين فلم تجبه إذا دعاها، فسبحانه من جبار عظيم لا يماثل ولا يضاهى، فجل رباً وعز ملكاً وتعالى إلهاً، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تتناهى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف مدلولها لما تلاها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بين كلمة التوحيد لفظها ومعناها، وجاهد عليها بلسانه وسنانه حتى أقرها وحمى حماها.
اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه الذين عضوا على سنته بالنواجذ وتمسكوا بعراها، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه -يعني: استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه- فقال بعض القوم: سمع ما قاله فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) يعني: من علامات اقتراب الساعة تضييع الأمانة، فسئل كيف إضاعتها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وهذه هي محنة المسلمين في هذا الزمان، بل ومن قبل أزمان طويلة جداً، وتوسيد الأمر إلى غير أهله ليس فقط في أمور الوظائف والأمور العامة فيتخبط الناس كما فعل عبد الناصر -وأوهم الناس أنها منقبة عظيمة جداً، وأنها من العدل والحرية- حين جعل نصف المقاعد في المجلس النيابي للعمال والفلاحين، ولاشك أن العمال والفلاحين فئة من فئات المسلمين، لكن تدبير أمور المسلمين وتسيير حياتهم ومعاشهم تحتاج إلى ذوي كفاءة وعلم وبصيرة وفقه بالشرع وبأمور الدنيا والسياسة والاقتصاد، فكيف يكون نصف هذه المجالس التي تتخذ القرارات أناساً ليسوا من أهل هذا الأمر؟! هم يتقنون العمل، ويتنقون الزراعة، لكن ليسوا أهلاً لأن يوظفوا في هذه الوظائف، ويتخذوا القرارات المصيرية، فهذا من توسيد الأمر إلى غير أهله، وهذا من أشراط الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (بين يدي الساعة سنوات خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه)، وفي بعض الروايات: (الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة)، فهل هذا يوافق شرع الله تبارك وتعالى أن يعطى نصف المقاعد النيابية لأناس ليسوا أهلاً؟! والديمقراطية خبيثة، ولكن ياليتهم إذ اتبعوها أن يحترموها.
وروى الطحاوي في مشكل الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن يغلب على الدنيا لكع بن لكع) لكع غالباً تكون في التحقير كما قال عمر للجارية التي تقنعت: تتشبهين بالحرائر يا لكاع؟! وهذا يوصف به الشخص اللئيم أو الحقير أو التافه.
قال: (يوشك أن يغلب على الدنيا لكع بن لكع، وأفضل الناس مؤمن بين كريمين) فوضع الرجل المناسب في المكان المناسب هو أحد القواعد الهامة التي لا تصلح حياة البشر بدونها، فلذلك تجد الفترات التي يتولى فيها الحكم أصحاب الكفاءات العالية من أصحاب الصلاح والتقى فترات مضيئة مشرقة في تأريخ الأمة الإسلامية، وأكبر خطأ يفسد نظام الحياة أن يتولى الحكم والولايات والمناصب أقوام غير أكفاء، يقودون الحياة بأهوائهم، ويترك الأخيار القادرون على تسيير الأمور إلى الأمثل والأفضل.
هذا في الوظائف العادية، فما بالك بوظيفة لا يصلح لها أي مخلوق ولا حتى الأنبياء والأولياء والملائكة، وليس من حقهم أن يشاركوا الله فيها، وهي وظيفة التشريع وتحليل الحرام وتحريم الحلال؟! فهذه لا يوجد بشر هو أهل لها، إنما هذا حق خالص لله تبارك وتعالى.(22/2)
من أسباب المصائب التي تحل بالمسلمين إسناد الأمر إلى غير أهله
من نظر في تأريخ الأمة الإسلامية علم أن مرض توسيد الأمر إلى غير أهله الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أحد البلايا الكبار التي أصابت المسلمين إصابات كبيرة حين تولى أمر الأمة وقتها رجال مستبدون لا يطيقون سماع رأي مخالف لما يرونه، ففي الحديث عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم، يتقاحمون في النار كما تقاحم القردة) رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى وصححه الألباني.
بعض الحكام تشغلهم الشهوات والمتع عن رعاية أمور المسلمين، وبعضهم لا يعرف الحق، فإذا به يحمل الناس على ما لا يعرفون، وينشر بينهم البدع والضلالات والمنكرات.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ستكون أمراء تشغلهم أشياء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فاجعلوا صلاتكم معهم تطوعاً) يعني: صلوا الصلاة في أول الوقت، ثم إذا خرجوا إلى الصلاة فصلوا وراءهم وانووا بها النافلة.
وروى مسلم وأبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع لم يبرأ).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، ويحدثون البدع، قال ابن مسعود: فكيف أصنع؟ قال: تسألني -يا ابن أم عبد - كيف تصنع؟! لا طاعة لمن عصى الله).
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن بالخروج على أمثال هؤلاء الحكام الذين كانوا يقيمون الصلاة ولكن يؤخرونها عن مواقيتها لما يترتب على ذلك من الفتن وسفك الدماء، فلا يجوز الخروج عليهم ماداموا آخذين بشريعة الله على وجه العموم، ففي سنن النسائي وصحيح ابن حبان بإسناد صحيح عن عرفجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة -أي: يريد أن يفرق أمة محمد صلى الله عليه وسلم- كائناً من كان فاقتلوه، فإن يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض).
والمقصود أن واقعنا اليوم يشهد باقتراب الساعة، فقد ظهرت هذه العلامة ظهوراً بيناً، فصار يوسد الأمر إلى غير أهله، خاصة في وظيفة التشريع التي لا يمكن أبداً أن يوجد في البشر من يكون أهلاً لها، قال الله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] فهذا مما لا ينبغي إلا لله تبارك وتعالى.
وتوسيد الأمر إلى غير أهله أحد أشراط الساعة، والعلامات الكبار التي تكون قبل قيام الساعة كثيرة، ونقف اليوم عند أعظم فتنه تقع على الإطلاق في تاريخ البشر.(22/3)
فتنة المسيح الدجال(22/4)
الأحاديث في ذكر المسيح الدجال
فتنة المسيح الدجال التي تقع في آخر الزمان وهي إحدى أشراط الساعة الكبرى، وفتنته من أعظم الفتن التي تمر على البشرية في تأريخها، ففي صحيح مسلم عن أبي الدهماء وأبي قتادة قالا: كنا نمر على هشام بن عامر نأتي عمران بن حصين فقال ذات يوم: إنكم لتجاوزوني إلى رجال ما كانوا بأحضر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بحديثه مني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال) وفي رواية: (أمر أكبر من الدجال) يعني: ليس بين خلق آدم عليه السلام إلى قيام الساعة خلق -وفي رواية: أمر- أكبر من الدجال؛ ولذا فإن جميع الأنبياء حذروا أقوامهم من فتنته، ولكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء فقد كان أشد الأنبياء تحذيراً منه، بل أمرنا أمراً حمله كثير من العلماء على الوجوب أن نتعوذ بالله من فتنة الدجال في كل صلاة كما هو معلوم.
روى البخاري في صحيحه في كتاب الفتن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولكنني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور).
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي ألا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوب: كافر).
وفي سنن الترمذي وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: (إني لأنذركموه، وما من نبي ألا أنذره قومه، ولقد أنذر نوح قومه، ولكنني سأقول فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال، وإن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا حذر أمته من الدجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة) ومن أجل ذلك بالغ النبي عليه الصلاة والسلام في التحذير من فتنة المسيح الدجال؛ لأن كل نبي لم يكن خاتماً للأنبياء مثله، فلابد أن يأتي في أمته.(22/5)
سبب تسميته بالمسيح الدجال
قال ابن الأثير رحمه الله: سمي الدجال مسيحاً لأن إحدى عينيه ممسوحة، والمسيح الذي أحد شقي وجهه ممسوح لا عين له ولا حاجب، فهو فعيل بمعنى مفعول، كما تقول: أكيل بمعنى مأكول، وقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وكذلك المسيح الدجال بمعنى ممسوح العين، أما المسيح عليه السلام فسمي مسيحاً من فعيل بمعنى فاعل، يعني: أنه ماسح؛ سمي بذلك لأنه كان يمسح المريض فيبرأ بإذن الله.
وكلمة الدجال معناها الكذاب، وقد سمي دجالاً؛ لأنه يغطي الحق بباطله يقال: دجل البعير بالقطران إذا غطاه بالقطران كنوع من العلاج، ودجل الإناء بالذهب إذا طلاه، وقال ابن دريد: سمي الدجال لأنه يغطي الحق بالكذب، وقيل: لأنه يغطي الأرض.(22/6)
حال المسلمين عند خروج المسيح الدجال
قبل خروج الدجال يكون للمسلمين كما يظهر من الأحاديث شأن عظيم وقوة عظيمة، ويبدو أن خروج الدجال إنما يكون للقضاء على هذه القوة التي يصل إليها المسلمون في ذلك الوقت، حيث يصالح المسلمون الروم، ويغزون جميعاً عدواً مشتركاً فينصرون عليه، ثم تكون الحرب بين المسلمين والصليبيين، ففي سنن أبي داود عن ذي مخبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غلب الصليب.
فيغضب رجل من المسلمين فيدقه -يعني: يقطع عنقه-، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة -وزاد بعضهم:- فيأخذ المسلمون أسلحتهم فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة)، فهذا الحديث يكشف مدى قوة المسلمين في ذلك الوقت، حيث إنهم يغزون وينصرون ويغنمون ويرجعون سالمين، وفيه أنهم متمسكون بدينهم، فذلك الصليبي عندما يرفع الصليب زاعماً أن الانتصار الذي شارك المسلمون في تحقيقه كان للصليب، إذا بمسلم غيور يطير إليه فيدق عنق ذلك الصليبي ويقتله، وتثور تلك العصابة من المسلمين إلى أسلحتهم ويقاتلون الروم على الرغم من قلتهم في ذلك الموقع، فيشهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم شهداء، وأن الله أكرمهم بالشهادة، ثم يقع الغدر من الروم بسبب ذلك، وتقع الملحمة.
وهذه الملحمة معركة كبيرة هائلة تقع بين المسلمين وبين الصليبيين، وسببها هو قتل ذلك النصراني الذي يرفع الصليب ويقول: غلب الصليب، وقد جاءت أحاديث تصف هذه المعركة وهولها، وكيف يكون صبر المسلمين فيها، ثم يكون النصر للمسلمين على أعدائهم، وسيكون في صفوف المسلمين أعداد كبيرة من النصارى الذين أسلموا وحسن إسلامهم.(22/7)
حديث: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق)
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق -وهما موضعان قرب حلب في سورية- فيخرج لهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم -يعني: خلوا بيننا وبين هؤلاء الذين أسلموا منا ودخلوا في دينكم نقاتلهم- فيقول المسلمون: لا والله لا نخل بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فيهزم ثلث الجيش ولا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الله على الثلث الأخير فلا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية -وهذا الفتح يكون فتحاً ثانياً غير الفتح الذي وقع على يد السلطان محمد الفاتح العثماني-، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم؛ فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج الدجال، فبينما هم يعدون للقتال، ويسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم فأمهم) يعني قصدهم، وليس المقصود أنه أمهم في الصلاة؛ لأن الذي يتولى إمامة الصلاة حينئذ هو المهدي عليه السلام، ولا بأس أن نقول عنه: عليه السلام، فهو من أهل البيت، وأنا مقتد في ذلك بالإمام البخاري، فإنه حينما يذكر علياً يقول: عليه السلام، وحينما يذكر فاطمة يقول: عليها السلام، ولا مانع من التسليم على كل الناس فما بالك بأهل البيت؟! إذاً: المقصود من قوله: (فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فأمهم) يعني: توجه إليهم وقصدهم كما في قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]، قال: (فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه المسيح ولم يقترب منه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته).(22/8)
المعركة التي يخرج الدجال بعدها
جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حديث يخبر عن هول تلك المعركة، وعن الفدائية التي تكون في صفوف المسلمين، حتى إن مجموعات من المسلمين يتبايعون على القتال حتى الموت، ويكون القتال ثلاثة أيام متوالية، ويبدو أن أعداد المسلمين في تلك الأيام قليلة، قال عليه الصلاة والسلام: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) والروم هم الغربيون، والمسلمون يكونون قلة؛ ولذا ينتصرون عندما يصلهم المدد من بقية أهل الإسلام، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة ثم قال: بيده هكذا ونحاها نحو الشام فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام ويجمع لهم أهل الإسلام -يعني: للحرب والقتال، وهذا يكون بعد الغدر الذي يحصل بعد قتل من رفع الصليب، ويقع التجهيز للملحمة بين الفريقين- قلت: الروم تعني؟ قال: نعم، ويكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة -يعني: مجموعة من المسلمين الفدائيين في أول يوم ينذرون أنفسهم لله، ويبذلون أنفسهم لقتال الروم إما أن يموتوا وإما أن يرجعوا غالبين- فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء -يعني: يرجع الروم ويرجع المسلمون، وكل غير غالب- وتفنى الشرطة -يعني: يستشهدون-، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت -مجموعة ثانية فدائية للموت في سبيل الله- لا ترجع إلا غالبة -يعني: إما أن ترجع غالبة وإما أن تموت- فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام -يعني: أتاهم المدد من بلاد المسلمين- فيجعل الله الدبرة عليهم، فيقتلون مقتلة -إما قال: لا يرى مثلها، وإما قال: لم ير مثلها- حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فلا يخلفهم حتى يخر ميتاً -يعني: من شدة رائحة الجثث يموت الطائر الذي يمر بهم-، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلم يبق منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقسم؟! فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك فجاءهم الصريخ -المنادي-: إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم -أي: يرمونه-، فيبعثون عشرة فوارس طليعة يستطلعون الأمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أسماءهم وأسماء أبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ) رواه مسلم في صحيحه.
وفتح القسطنطينية المذكور في حديث الملحمة فسره حديث رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها) هذا الحديث ما حدد اسم هذه المدينة، لكن وصفها بأن جانباً منها في البر، وجانباً منها في البحر، فعامة العلماء يقولون: المقصود بها القسطنطينية وهي الآن اسطنبول، لكن بعض العلماء المعاصرين رأى أن هذه المدينة قد تكون مدينة البندقية (فينيسيا) في إيطاليا، فإن انطباق هذا الوصف عليها أكثر من انطباقه على القسطنطينية (اسطنبول)؛ لأن البندقية هي المدينة التي تتخللها المياه، وجانب منها فعلاً في البر، وجزء كبير من بيوتها مبني في داخل البحر، فمن رأى اسطنبول ورأى البندقية يدرك أن البندقية أقرب إلى الوصف المذكور في هذا الحديث من القسطنطينية.
وفي هذا الحديث قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق) بعض العلماء قال: المحفوظ هو: (من بني إسماعيل)، وليس هناك إشكال سواء كانوا من بني إسماعيل أو من بني إسحاق، لكن هذه الرواية الثابتة فيها أنهم سبعون ألفاً من بني إسحاق، فلا يبعد أن يكون هذا دليلاً على دخول عدد كبير جداً من الغربيين في دين الإسلام في ذلك الزمان، فيسلمون ويكونون في جيوش المسلمين، بحيث إنهم يغزون هذه المدينة، وهذا ليس بمستبعد، حتى أن محمد الفاتح العثماني ليس من بني إسماعيل، فهو تركي غير عربي، ومع ذلك هو الذي فتح القسطنطينية الفتح الأول، وكان أغلب الجيش العثماني من غير العرب، بل ما حمى الإسلام جيش مثل الجيش التركي الذي يسمى الآن في كتب التاريخ بالاستعمار العثماني أو الاحتلال التركي! وهذا من فعل أعداء المسلمين في تزييف التاريخ، ونفي أمجاد المسلمين، حتى يقضوا حتى على بقايا الشعور بالولاء أو المحبة أو الاعتزاز بذلك الماضي المجيد، فالآن تسمم عقول أولادنا في المدارس بوصف العثمانيين بأنهم المحتلون الأتراك، ويبغضونهم إلى الشباب بكل وسيلة ممكنة! يقول: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم) يعني: يفتحون هذه المدينة بالتهليل وبالتكبير فإذا قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر سقط أحد جانبيها، قال ثور - أحد رواة الحديث-: لا أعلمه إلا قال: (يسقط أحد جانبيها الذي في البحر، فيقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون).(22/9)
قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد
قبل خروج المسيح الدجال يبتلى الناس بلاء شديداً، فتمنع السماء القطر، وتحبس الأرض النبات، ففي سنن ابن ماجة وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها، ثم يأمر الله السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء، فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله -يعني: تهلك جميع الدواب، والظلف: للبقرة والشاة والظبي وشبهها بمنزلة القدم لنا- قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال صلى الله عليه وسلم: التهليل والتكبير والتحميد، ويجزئ ذلك عليهم مجزأة الطعام).(22/10)
صفات الدجال وعلاماته
من أبرز صفات الدجال وأبرز علامات دجله أنه يدعي الربوبية، ويأتي من الأعمال الخوارق ما يروج به باطله، حتى إن الرجل يأتيه ظاناً أن أمره لن يخفى عليه، وأن باطله لن يروج عليه؛ فعندما يرى ما عنده من مخاريق يتبعه! والحقيقة أن هذه عادة الفتن دائماً، فالإنسان إذا تساهل وعرض نفسه للفتن فمهما كان واثقاً من نفسه فإنه ربما وهن وضعف وانهزم أمامها، فالبطل ليس الذي يتعرض للفتن ثم يثبت، لكن البطل هو الذي لا يعرض نفسه أصلاً للفتن، ولا يعرض نفسه للامتحان؛ لأنه قد ينجح وقد يفشل، أما إذا لم يتعرض فإن السلامة لا يعدلها شيء.
في فتنة المسيح الدجال يأتيه الرجل وهو واثق من نفسه، ويقطع يقيناً بأن هذا دجال كاذب مبطل، ثم إذا أتاه ورأى وعاين ما معه من المخاريق والخوارق والأمور العجيبة ينهار ويؤمن بـ الدجال والعياذ بالله، ويكفر بالله تبارك وتعالى.
فـ الدجال أشد فتنة سوف تقع على ظهر هذه الأرض، ويقدره الله -بإذنه الكوني القدري- على بعض الخوارق فتنة وامتحاناً وتمحيصاً للناس ليميز الله الخبيث من الطيب.
الكثير من المسلمين في هذا الزمان قد يفتنون ببعض الناس لمجرد إتيانهم ببعض الأمور الخارقة للعادة أو حتى غير الخارقة للعادة لكنها تثير الإعجاب، فلا يزنون هذا الشخص وأفكاره ومنهجه بميزان الكتاب والسنة، وإنما بهذه الأشياء، يسمعون مثلاً عن ساحر أو مستعين بالجن يخترق سور الصين الذي يسمونه بالعظيم، ويمر من خلاله فيجدونه انتقل إلى الجهة الأخرى -وهذا يحصل بمخاريق وحيل- فيفتنون بذلك.
وعندما خرج علينا دجال هذا العصر الخميني ببعض المواقف التي بعد عهد الناس بأمثالها من رؤساء المسلمين من قرون عديدة؛ انبهروا وفتنوا به، ورفعوا الشعار المفضل عندهم دائماً: سوف نمشي وراءك ونتبعك، ويتمحلون الأدلة لأجل تزييف هذا الباطل، ولا يزنون الأمر بالميزان الشرعي، ما عقيدة هذا الرجل؟ ما حقيقة منهجه؟ ما موقفه الحقيقي من الإسلام؟ فينخدعون بمثل هذه الأشياء وهي ليست من الخوارق، فقيسوا ما أتى به هؤلاء الناس بالنسبة إلى ما سوف يأتي به الدجال، فـ الدجال معه من الخوارق ما هو أعظم وأشد من هذه الأمور التي تبهركم، فهو الدجال الأكبر، فلا تغتر بأي رجل صوفي أو مخرف أو ضال أو مبتدع أو ساحر أو كاهن أو حتى رجل ظاهره الصلاح لكن يخالف منهجه الكتاب والسنة.
صدر كتاب حديثاً اسمه الحرب العالمية الثالثة بين الإسلام والغرب، ومؤلفه إما سني مغفل وإما شيعي خبيث يستر اسمه بالاسم المستعار الذي وضعه على غلاف الكتاب، فالكتاب فيه دجل وكذب وافتراء وتزيين للباطل، ومنذ الصفحة الأولى تكتشف أن هذا رجل شيعي أو مغفل ممن ينتسب إلى السنة اسماً وهو لا يفقه حقيقة دينه، فكل الكتاب عبارة عن تمجيد للخميني، وأن الخميني حفيد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن الرسول تنبأ بـ الخميني، وأن بعد الخميني سيأتي رجل يملك سنتين، وبعد ذلك سيخرج المهدي.
فالشاهد أننا نعاني بين وقت وآخر من فتن يفتن بها بعض الناس، بل عامة المسلمين إذا حضروا جنازة مبتدع أو ضال يقولون مثلاً: الجنازة كانت خفيفة تجري أو حصل له كذا من الخوارق، وقد تحصل خوارق، ولكن الخوارق في حد ذاتها ليست دليلاً على الصلاح، فلا تغتر برجل ولو رأيته يطير في الهواء أو يمشي على الماء حتى تزنه بميزان الكتاب والسنة، فإن رأيته مستقيماً ورأيت منه الخارقة، ولم تر فيها ما يعارض الكتاب والسنة؛ فلا بأس أن تكون كرامة، لكن إن كان هناك مجرد حصول خوارق مثل خوارق الهنود الهنادكة وغيرهم فما أكثر من يقدر على فعل أشياء من هذه الخوارق! أحد الإخوة حدثني أنه في صباه ذهب إلى الملاهي التي كانت موجودة في محطة الرملة، وهذا الأخ جلس في مكان بعيد بحيث لا يقع تحت تأثير سحر عيون الناس الذين يشاهدون، فأتى الساحر بامرأة نومها تنويماً مغناطيسياً، ثم أظهرها أنها نائمة في الهواء معلقة، فالتقط صاحبنا صورة فوتوغرافية فجأة لهذه المرأة، فبعد تحميض الصورة ظهر في هذه الصورة رجال يحملونها، لكن الناس لم يكونوا يرون هؤلاء الرجال! فلهم حيل وخوارق معروفة.
ولعلكم سمعتم عن الرجل الأمريكي الذي يفعل مثل هذه الأشياء الغريبة، وقال: إنه سيأتي مصر ويخترق الهرم الأكبر، فهذه الأشياء لا تهز الإنسان الذي عنده إيمان ويقين، فإن الدجال سيفعل أضعاف ما يفعل هؤلاء، ويقدره الله -بإذنه الكوني القدري- على خوارق تذهب الألباب، وتطير العقول، ولا يثبت إلا من ثبته الله، فلابد أن نستصحب هذا الأمر دائماً أمام من يحتج بأن عادة خارقة حصلت للشيخ الفلاني، حتى القساوسة يفعلون هذه الأشياء، مثل ما يصنعونه بين وقت وآخر في كنيسة الزيتون في القاهرة، ويفرح النصارى لذلك، وهذه حرفة يستخدمونها منذ عهد قديم للدجل والتلبيس على أتباعهم، ولتثبيت أقدامهم على دينهم المهزوز والمهزول والمحرف، والمؤمن لو أتاه جميع أهل الأرض بألف خارقة مما فيها تزيين دين النصارى فهو يعلم أنهم كاذبون قطعاً، فهؤلاء كذابون، لكن يعملون حيلاً يتقنونها من أجل خداع الناس، وربما استعانوا بالسحر أو الجن أو غير ذلك من الحيل كحيل الحاوي الظريف ليفتنوا الناس عن دينهم، فأنت على عقيدة التوحيد لا تهتز لخوارق العادات؛ لأن الخارقة في حد ذاتها ليست دليلاً من دلائل الصلاح أو التقوى، فهذا هو الدرس المستفاد مما يكون مع الدجال من الخوارق، وإذا قست أحوال هؤلاء بأحوال الدجال فسوف تجد أن الدجال أقدر منهم على ذلك بإقدار الله إياه فتنة وابتلاء للعباد، فليحذر الإنسان أن ينخدع بهذه الأشياء، ولا يحيد أبداً عن ميزانه الدقيق لكل الأمور.
الدجال يأتي بأعمال خارقة يروج بها باطله، حتى إن الرجل يأتيه ظاناً أن أمره لن يخفى عليه، وأن باطله لن يروج عليه، فعندما يرى ما عنده من مخاريق يتبعه، ففي سنن أبي داود عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع ب الدجال فلينأ عنه) يعني: إن سمع أنه في بلد فليهرب إلى بلد أبعد، وإذا لم يستطع فليصعد إلى الجبال، وليختبئ في الجبال، ولا يدفعك الفضول فتقول: أنا عندي إيمان وعندي يقين، فسوف أذهب لأراه، فإني لا أشك أنه دجال، فقد نصح النبي عليه الصلاة والسلام أمته بهذه النصيحة العظمى: (من سمع بـ الدجال فلينأ عنه)، وهذه هي طريقة المؤمن في الفرار من الفتن، لا يتعرض لها، وأي فتنة إذا وجد المسلم له سبيلاً ليسلم منها فليسلكه، سواء فتنة مجالسة أهل البدع والضلال، أو الجلوس أمام الظالمين والفاسقين والنظر إلى صورهم، فهذا يحدث تأثيراً في القلب، ويضعف القلب، والنظر إلى الفساق في الأجهزة المعروفة له تأثير سيء على القلب، فيمرضه، ويضعف الإيمان واليقين فيه.
قال عليه الصلاة والسلام: (من سمع بـ الدجال فلينأ عنه، فوالله! إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات).
من نظر في أمر الدجال نظر معتبر علم يقيناً أنه مبطل، وأن صفات الربوبية غير متحققة فيه، فهو بشر مسكين عاجز على الرغم مما يجري على يديه، يأكل ويشرب وينام ويبول ويتغوط، ومن كانت هذه حاله كيف يكون إلهاً معبوداً ورباً للكائنات؟! ومع وضوح ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا كثيراً عن صفاته وأحواله كي يعرفه المؤمنون الذين يخرج في عصرهم، وكي يستطيعوا مواجهته، ولا يغتروا بباطله، وكل هذه الصفات تبطل مذهب الضالين المبتدعين الذين يكذبون بأحاديث الدجال، مع أنها متواترة، ويحاولون الهروب منها، كان المعتزلة في الماضي حين لا تعجبهم بعض الأحاديث يؤولونها ويحرفون معانيها، والآن اجترأ المبتدعون أكثر، فما أهون عليهم أن يكذبوا بالأحاديث رأساً! أما المبتدعون الأوائل فما كانوا يقوون على التكذيب، وإنما كانوا يؤولون ويحرفون المعاني.(22/11)
طول الدجال ولونه وصورته وشعره
في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى الدجال في منامه، ثم وصفه بأنه رجل جسيم -يعني ضخم الجسم- أحمر -يعني: أنه أبيض مشرب بحمرة- جعد الرأس، أعور العين، كأن عينه عنبة طافية، أقرب الناس به شبهاً ابن قطن من خزاعة).
وفي مسند أحمد وأبي داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تعقلوا، إن المسيح الدجال رجل قصير أفحج أدعج أعور أو جعد أعور مطموس العين، ليست بناتئة ولا حجراء، فإن ألبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربكم) يعني في الدنيا، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، وهذا أول شيء يعرفه المؤمن عن ربه، ولكن ربما لا تصمد بعض القلوب أمام فتنة الدجال إذا قال لهم: هل تصدقون أني ربكم إذا أتيتكم بالآيات الفلانية التي لا يقدر عليها إلا الله؟ فيقولون: نعم، فيفعل أشياء خارقة مثل إحياء الميت وغير ذلك، فيفتنون ويغفلون عن الصفات التي جعلها الله عز وجل في المسيح الدجال مما يدل دلالة ظاهرة على بطلان دعواه، وعلى كذبه ودجله.
يقول عليه الصلاة والسلام: (إن المسيح الدجال رجل قصير أفحج) الأفحج: الذي به فحج، وهو اعوجاج في الساقين أو تباعد في الفخذين، فصفاته الظاهرة كلها عيوب، فكيف يكون إلهاً؟! الله ليس كمثله شيء، ولا يعرف كيف هو إلا هو، ومع ذلك يبين النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأوصاف مع أن حاله ظاهر تماماً، وعلى الأقل إن كان هو الله الذي يمنح الناس الجمال ففاقد الشيء لا يعطيه، فكيف خلق من هو أجمل منه في حين هو ظاهر بهذه العيوب الخلقية، ومنها أنه أفحج الساقين يمشي مشية الأطفال الذين يعانون من لين العظام (الكساح).
وفي صحيح ابن حبان ومسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدجال أعور، هجان أزهر، ورأسه أصلة) الهجان هو الأبيض، والأبيض هو أيضاً معنى الأزهر، وهذا لا ينافي كونه أحمر كما ذكرنا؛ لأن البياض يشرب بحمرة فيوصف أحياناً بهذا ويوصف بهذا، ومنها قولهم في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: الحميراء يعني: البيضاء.
وقوله: (ورأسه أصلة) الأصلة: هي الحية الضخمة العظيمة أو القصيرة، والعرب يشبهون الرأس إذا كان صغير الحجم وكثير الحركة بالحية.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أشبه الناس بـ عبد العزى بن قطن، فإما هلك الهلك) يعني: لو كل هذه الصفات لم تنفع في تنفير الناس من دعوته، وإظهار بطلان أمره، وهلك الناس في اتباعه مع ظهور هذه القبائح في شكله (فإن ربكم ليس بأعور).(22/12)
صفة عيني الدجال
اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال ببيان وصف عينيه؛ لأن الدجال مهما أخفى صفاته فإنه لا يستطيع أن يخفي عينيه، فالعينان ظاهرتان بارزتان يراهما كل أحد، وبهما صفات واضحة لا تخفى، فقد أشارت الأحاديث السابقة إلى عيوب في عينيه، أوضحها أنه أعور، وجاء في بعض الأحاديث أن العين العوراء هي اليمنى، وجاء في أحاديث أخرى أنها اليسرى، وكونها اليمنى أرجح، فأحاديثها مما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم.
وشبه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك العين بالعنبة الطافية، يعني: أنها جاحظة إلى الخارج، وفي حديث آخر: وصف عينه اليمنى بكونها (عوراء جاحظة لا تخفى، كأنها نخاعة في حائط مجفف) يعني: كنخاعة في جدار، فهي ظاهرة القبح.
وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: (أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية)، وفي حديث آخر: (وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخاعة في حائط مجفف، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري).
وهي مع ذلك ممسوحة كما في الحديث الذي رواه مسلم: (الدجال ممسوح العين).
وفي بعض الروايات في مسلم: (العين التي ذهب ضوءها -وهي الممسوحة- عليها غفرة غليظة)، والغفرة جلدة تنبت عند المآقي، وتغطي العين.
وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام العين التي يرى بها فقال: (الدجال عينه خضراء كالزجاجة).
أيضاً: من العلامات التي جعلها الله تبارك وتعالى في الدجال علامة لا يعرفها إلا المؤمنون فقط دون غيرهم ممن طمس الله بصائرهم، هذه العلامة كتابة بين عينيه نصها: ك ف ر، مكتوبة بين عينيه على جبهته، وهذه الكلمة كل مسلم -حتى المسلم الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب- يستطيع أن يقرأها بإقدار الله تبارك وتعالى إياه على ذلك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوب: كافر).
وفي رواية أخرى: (مكتوب بين عينيه: ك ف ر).
وفي حديث أبي أمامة: (مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب).
وفي صحيح مسلم: (مكتوب بين عينيه: كافر يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن) وهذه الكتابة على حقيقتها، ليست رمزاً ولا مجازاً كما يزعم بعض الضالين، ولكنها علامة وكتابة حقيقية من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، يظهرها الله عز وجل لكل مسلم كاتب أو غير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا مانع من ذلك.
أيضاً من صفات الدجال أنه عقيم لا يولد له كما في صحيح مسلم.
إذاً: صفات الدجال صفات بها نقص كبير، فكيف يصح لمثل هذا المخلوق الضعيف المربوب دعوى الربوبية؟! والله لا يرى في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت).
الدجال غير سوي الخلقة، ففيه عيوب لا تخفى منها أنه أعور، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليس بأعور -وأشار بيده إلى عينيه- وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، وإن عينه عنبة طافية).
ومنها أنه أفحج، وهو: تباعد ما بين الساقين أو الفخذين، وقيل: اقتراب صدور القدمين مع تباعد العقبين، وقيل: هو الذي في رجله اعوجاج.
يقول القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله: في اختلاف صفات الدجال بما ذكر من النص بيان أنه لا يدفع النقص عن نفسه كيف كان، وأنه محكوم عليه في نفسه، ولو كان حاكماً لحكم على نفسه بالجمال أو بحسن الصورة.
فالأوصاف التي جاءت في الأحاديث تدل على أنه عاجز عن أن يدفع النقص عن نفسه، فلو كان رباً لأزال النقص الذي في نفسه، فعدم إزالته لعيوبه دليل على أنه مربوب مقهور لا يستطيع أن يتخلص من عيوبه.
والنبي صلى الله عليه وسلم بالغ في بيان كونه أعور؛ لكون العور أثراً محسوساً يدركه العالم والعامي ولو لم يهتد إلى الأدلة العقلية، فمن رآه أعور يشعر بأنه ناقص وأنه مربوب.(22/13)
القدرات الهائلة التي يقدر الله الدجال عليها امتحاناً للعباد
يعطى الدجال الإمكانات الهائلة -التي يقدره الله عز وجل عليها- ابتلاء للعباد وامتحاناً لهم واختباراً، فإنه يعطى أموراً مذهلة تفتن الناس فتنة عظيمة، والخبر ليس كالعيان، قال الله تبارك وتعالى عن أصحاب الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] مع أن الله عز وجل وصف حالهم في الكهف وهم نيام فما ولى فراراً، ثم قال له: لو اطلعت عليهم ورأيتهم بعينيك لوليت منهم فراراً، فدل على أن الخبر ليس كالمعاينة، وموسى عليه السلام أخبره الله بأن قومه اتخذوا العجل من بعده فغضب، لكنه لما عاد إليهم ورآهم يعبدون العجل غضب غضباً شديداً وألقى الألواح التي كتبها الله له بيده كما قال الله: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] فكان انفعاله لما رأى قومه أكبر وأعظم من انفعاله لما سمع خبرهم، فليس المخبر كالمعاين، وكذلك هذه الفتن إذا سمعناها نستفظعها جداً، فمن يراها بعينه سيكون انفعاله وتأثره بها كبيراً إلا من حفظه الله تبارك وتعالى.
الدجال يكون له قدرة على التنقل في أرجاء الأرض بسرعة هائلة، ففي حديث النواس بن سمعان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن إسراع الدجال في الأرض فقال: (كالغيث استدبرته الريح).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيجول في أقطار الأرض، ولا يترك بلداً إلا دخله سوى مكة والمدينة، وأنا أعرف رجلاً ألمانيا أسلم منذ مدة في ألمانيا الغربية، وهو الآن يعيش في مكة ومعه زوجته وهي أيضاً ألمانية، وذلك بسبب هذا الحديث؛ لأن الدجال لا يدخل مكة والمدينة، فلذلك هو يعيش في مكة ولا يخرج منها عملاً بهذا الحديث، وفراراً من هذه الفتنة التي يتوقعها.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة)، وفي بعض الأحاديث: (وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة، لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة) والصلت هو السيف الثقيل اللامع، فالملائكة تحرس مكة والمدينة على كل طرقاتها وأنقابها.
وفي مسند الإمام أحمد: (أن الدجال حينما يعجز عن دخول المدينة يقف على الجبال خارج المدينة ويقول لأتباعه: انظروا إلى قصر أحمد) وهذا إشارة إلى الفخامة والزخارف التي أضيفت إلى المسجد النبوي، والمسجد النبوي في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان مصنوعاً من الجريد والنخيل وسعف النخيل، أما كونه كالقصر، فهذا مما لا يرضاه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد نهى أن تزخرف المساجد؛ لأن الزخرفة تشوش قلوب المصلين.
ومما يفتن الناس بـ الدجال أن الدجال يكون معه ما يشبه نهراً من ماء ونهراً من نار، والحقيقة أنه ليس كما يبدو للناس، فإن الذي يرونه ناراً هو في الحقيقة ماء بارد، والذي يرونه ماء بارداً هو في حقيقته نار، ففي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار).
وفي حديث آخر: (إن معه ماء وناراً، فناره ماء بارد، وماؤه نار، فلا تهلكوا) يعني: لا تفتنوا بهذا الظاهر.
وفي حديث حذيفة في مسلم: (لأنا أعلم بما مع الدجال منه) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم أعرف بما مع الدجال من معرفته هو بنفسه، قال: (لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان، أحدهما رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت الذي يراه ناراً، وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد).
وفي رواية أخرى: (إن الدجال يخرج فإن معه ناراً وماء، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً فإنه ماء عذب طيب)، فالناس لا يدركون ما مع الدجال في الحقيقة، فيخدعون به إلا من عصمه الله، فما يرونه لا يمثل الحقيقة بل يخالفها، ولذلك جاء في بعض الأحاديث: (وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار، التي يقول: إنها الجنة هي النار).(22/14)
من فتن الدجال
الدجال يستعين بالشياطين، والشياطين لا تخدم إلا من يكون في غاية الإفك والضلال والغرق في العبودية لغير الله عز وجل، يقول النبي عليه الصلاة والسلام حاكياً عن فتنة الدجال: (وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني! اتبعه فإنه ربك)، فما أعظم هذه الفتنة، وإن لم يعصم الله تبارك وتعالى الإنسان يفتن بها، فهذه الفتنة العظيمة هي أشد فتنة في تاريخ البشر على الإطلاق.
ومن فتنته التي يمتحن الله بها عباده أن المسيح الدجال يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت في الحال، ويدعو البهائم فتتبعه، ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها المدفونة فتستجيب، ففي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر -يريد أن يكافئهم عندما آمنوا به رباً وإلهاً- والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم -المواشي- أفضل ما كانت دراً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل) يعني: جماعات ذكور النحل، فالكنوز تخرج من الأرض وتنشق عن الأرض وتطير في الهواء تتبعه! ومن فتنته: أنه يقتل فيما يظهر للناس ذلك الشاب المؤمن ثم يدعي أنه أحياه، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً عن الدجال، فكان مما حدثنا أنه قال: (يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل أنقاب المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال -لمن حوله-: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا.
فيقتله ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم)، فيكون أشد بصيرة بأنه الدجال؛ لأن هذا الشاب يعلم بهذا الحديث المشهور، ويعلم أنه الشاب الذي شهد له رسول الله عليه الصلاة والسلام بأنه من خير الناس يومئذ.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه).
وفي رواية أخرى في صحيح مسلم: (يخرج الدجال ويتوجه قبله رجل من المؤمنين، فتلقاه مسالح الدجال، -وهم المراقبون والخفراء الذين يحملون السلاح ويجلسون في مراكز المراقبة- فيقولون له: أين تعمد؟! فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج! فيقولون له: أوما تؤمن بربنا؟! فيقول: ما بربنا خفاء.
فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم أن تقتلوا أحداً دونه؟ فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن يقول: يا أيها الناس! هذا المسيح الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر به الدجال فيشبح -يعني: يمد على بطنه- فيقول: خذوه وشدوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، فيقول: أوما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب.
قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه، ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً -يعني يعود حياً- ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، ثم يقول للناس: يا أيها الناس! إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس -لأن هذا الشاب يعرف هذا الحديث- فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل الله ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً فلا يستطيع إليه سبيلاً، فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.(22/15)
مكان خروج الدجال
يخرج الدجال من المشرق من بلاد فارسية يقال لها: خراسان، ففي الحديث الصحيح عن أبي بكر رضي الله عنه قال: حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الدجال يخرج من أرض بالشرق يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوهم المجان المطرقة).
لكن يظهر أمره للمسلمين عندما يصل إلى مكان بين العراق والشام، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله! فاثبتوا) وهذه وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام عن المدة التي يمكثها الدجال في الأرض فقال: (أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم) يوم كسنة يعني ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، ويوم كشهر أي: ثلاثين يوماً، ويوم كجمعة سبعة أيام، ثم باقي أيامه سبع وثلاثين يوماً، فمجموعها يكون حوالى أربعمائة وتسعة وثلاثين يوماً، فهي أربعون يوماً لكن منها يوم مدته من الفجر إلى أن ينتهي ذلك اليوم سنة كاملة، ولذلك قال الصحابة رضي الله عنهم: (يا رسول الله! فذاك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟! قال: لا، اقدروا له قدره)، وبهذا الحديث يفتي العلماء الناس الذين يعيشون في الأماكن التي لا تكاد تغرب الشمس فيها إلا قليلاً جداً، فالليل تكون مدته عندهم ساعة أو أقل، فيفتونهم أن يقدروا مواقيت البلاد المعتدلة ويصلون بحسبها، وهذه الإجابة من الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: (اقدروا له قدره) تدل على أن هذا الطول طول حقيقي غير مجازي.(22/16)
أتباع الدجال
المسيح الدجال الأعور الكذاب هو الملك الذي ينتظر اليهود خروجه، فهم حينما بعث المسيح عيسى عليه السلام كفروا به وكذبوه وسبوه وسبوا أمه عليهما السلام، ويعتقدون أنه حين يعاد بناء هيكل سليمان الثالث في القدس سيخرج لهم المسيح حتى يحكم العالم من أورشليم القدس، فحينما يخرج المسيح الدجال يقولون: هذا هو المسيح الذي كنا ننتظره، فيكون اليهود أول أتباعه، يقول عليه الصلاة والسلام: (أكثر أتباع الدجال اليهود والنساء)، فالنساء في عقولهن شيء من الخفة، وفي بعض الأحاديث أن الرجال حينما يرون افتتان النساء بـ المسيح الدجال يربطونهن ويوثقونهن بالحبال في البيوت؛ حتى لا يخرجن فينظرن إلى الدجال فيؤمن به.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة) الطيالسة جمع طيلسان، وهو ثوب يلبس على الكتف يحيط بالبدن خال من التفصيل.
ذكر أبو نعيم أن إحدى القرى التابعة لمدينة أصبهان كانت تدعى اليهودية، وكانت تخص سكنى اليهود، ولم تزل كذلك حتى مصرها أيوب بن زياد في زمن المهدي بن المنصور العباسي، فسكنها المسلمون وبقيت لليهود منها قطعة.
والدجال عند اليهود اسمه المسيح بن داود، وهم يزعمون أنه يخرج آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر، وتكون معه الأنهار، وهم يزعمون أنه آية من آيات الله، ويرد إليهم الملك في وقته، وقد كذبوا في زعمهم هذا، بل هو مسيح الضلالة الكذاب، أما مسيح الهدى عيسى بن مريم فإنه يقتل الدجال مسيح الضلالة كما يقتل أتباعه من اليهود، والمسلمون والنصارى ينتظرون نزول المسيح عيسى للمرة الثانية، واليهود ينتظرون مجيء المسيح للمرة الأولى، والنصارى يزعمون أنه يعود بصفته ابن الله، وثالث ثلاثة والعياذ بالله! فضلت النصارى كاليهود في هذا، أما أهل الحق فيعتقدون أن المسيح عيسى ينزل داعية إلى دين الإسلام، ومتبعاً لسنة خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وحاكماً بالقرآن والسنة، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويحكم الناس بكتاب الله تبارك وتعالى.(22/17)
لا يدخل الدجال مكة والمدينة
الله حفظ مكة والمدينة من الدجال والطاعون، ووكل حفظهما إلى ملائكته، يقول صلى الله عليه وسلم: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل المدينة رعب المسيح، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان).
وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى إذا جاء دبر أحد تلقته الملائكة فضربت وجهه قبل الشام، هناك يهلك، هناك يهلك) يعني: نهايته في الشام.
وأيضاً جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة حافين تحرسها، فينزل بالسبخة -وهي الأرض الرملية التي لا تنبت بسبب الملوحة التي فيها- على أطراف المدينة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات يخرج إليه منها كل كافر ومنافق) فالمدينة تهتز وترجف حتى تغربل أهلها وتطرد الكافرين والمنافقين عنها، وتخرجهم إلى المسيح الدجال.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه المسيح وظهر عليه إلا مكة والمدينة لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة حتى ينزل عند الضريب الأحمر عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى فيها منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فتنفي الخبيث منها كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص، قيل: فأين العرب يومئذ؟! قال: هم يومئذ قليل).(22/18)
الناجون من فتنة الدجال
الأحاديث التي وردت في الفتن غالباً ما تقترن بطريق العصمة والنجاة منها كما في فتنة المسيح الدجال، وهذا مما يستفاد من مدارستها، والمسلمون قبل خروج الدجال تكون لهم قوة كبيرة، ويخوضون حروباً هائلة يخرجون منها منتصرين، فيأتي الدجال ليقضي على قوة المسلمين التي تكون قد هدمت أقوى دولة في ذلك الوقت وهم الروم، ويكون المؤمنون قد استعادوا القسطنطينية وفتحوها، ويصرخ الشيطان بهم أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيتركون الغنائم ويعودون إلى ديارهم، ثم يخرج الدجال فلا يضع المسلمون سلاحهم، ولذلك فإن عيسى عندما ينزل يجد المسلمين يعدون العدة للقتال وهم يسوون الصفوف، ولاشك أن على كل مسلم حي في ذلك الوقت أن ينضم إلى القوة الإسلامية الحاملة لراية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وأن يثبت على الحق مهما اشتد البلاء، وهذا ما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحدثنا عن خروج الدجال حيث يقول: (إنه خارج خلة بين الشام والعراق -يعني: طريق بين حدود البلدين- فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله! فاثبتوا).
فليس هناك طريق للنجاة غير الثبات.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أي مسلم أن يأتي إلى الدجال مهما كان واثقاً من نفسه؛ فإن معه من الشبهات ما يزلزل بها الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: (من سمع بـ الدجال فلينأ عنه، فوالله! إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات)، ولا بأس على الذين لا يطيقون مقاومته أن يفروا من طريقه، وهذا ما يفعله كثير من الناس في ذلك الزمان، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليفرن الناس من الدجال في الجبال) فإذا اضطر المؤمن إلى مواجهته فعليه أن يقوم بالأمر ويصدع بالحق ويحسن الحجاج، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) يعني: لا تقلقوا فأنا أتولى حجاجه، وأبطل باطله، وجاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام حدثهم يوماً عن الدجال فخفض فيه ورفع حتى ظن الصحابة أنه في طائفة النخل من كثرة ما رفع صوته صلى الله عليه وسلم واحتد وغضب، فهو مشفق على الأمة من هذه الفتنة العظيمة، والصحابة من شدة تصوير النبي عليه الصلاة والسلام لفتنته ظنوا أنه مختبئ لهم في طائفة النخل القريبة.
يقول عليه الصلاة والسلام: (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم) انظر إلى شفقته عليه الصلاة والسلام بأمته قال: (والله خليفتي على كل مسلم).
وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم ما يكشف حقيقة الدجال، فهو جسم مرئي يأكل ويشرب، والله لا يرى في الدنيا، والله منزه عن الطعام والشراب، وهذا الدجال أعور كما في الحديث: (إنه شاب قطط عينه طافية أشبه الناس به عبد العزى بن قطن)، ومن كان كذلك فإن دعواه الألوهية والربوبية كذب وافتراء بلاشك.(22/19)
أسباب النجاة من فتنة الدجال
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من أدركه أن يقرأ عليه فواتح سورة الكهف فقال: (من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)؛ فلذلك يستحب حفظ العشر الآيات الأول على الأقل من سورة الكهف حتى إذا ابتلي الإنسان بفتنة الدجال فإذا قرأها عليه يعصمه الله من فتنته، يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فناره جنة، وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف).
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة: (من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)، وجاء في بعضها: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف)، وفي بعضها: (من آخر سورة الكهف)، فلماذا قراءة فواتح سورة الكهف أو خواتمها بالذات تكون أماناً من المسيح الدجال؟ قال بعض العلماء: لأن الله أخبر في طليعة هذه السورة أن الله أمن أولئك الفتية من الجبار الطاغية الذي كان يريد إهلاكهم، فناسب أن من قرأ هذه الآيات وحاله كحالهم أن ينجيه الله كما أنجى الفتية أصحاب الكهف، وقيل: لأن في أولها من العجائب والآيات ما تثبت قلب من قرأها بحيث لا يفتن بـ الدجال ولا يستغرب بما جاء به الدجال، ولا يؤثر فيه دجله.
ومما يعصم المسلم من فتنة الدجال أن يلجأ إلى أحد الحرمين الشريفين مكة أو المدينة، فإن الدجال محرم عليه دخولهما، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام كيف سيواجه ذلك الرجل الصالح الدجال، ويصدع في وجهه بالحق كما سبق في الأحاديث.
ومما ينجي العبد من الدجال الالتجاء إلى الله، والاحتماء به منه ومن فتنته، تقول عائشة رضي الله عنها -كما في صحيح البخاري -: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال).
وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ دائماً بعد التشهد من فتنة الدجال فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) حتى إن بعض العلماء يوجب ذلك، وأكثرهم يقول: ليس واجباً، ولكنه مستحب بدليل قوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه)، واستدل من يقول بوجوبه بأنه أمر بذلك (فليستعذ بالله)، وابن حزم رحمه الله يبطل صلاة من لم يتعوذ بالله من هذه الأربع.(22/20)
نهاية المسيح الدجال
نهاية المسيح الدجال تكون على يد المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (فبينما هم -يعني الجيوش الإسلامية- يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم فأمه، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه) فالمسيح يريهم دم الدجال علامة يقينية على هلاكه.
ويقول عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى: (وإمامهم منهم) أي: إمام المسلمين الذين يعدون العدة للقتال في ذلك الوقت رجل صالح منهم، وبينت بعض الروايات أنه المهدي عليه السلام.
جاء في حديث آخر: (فبينا إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له: تقدم فصل فإنها لك أقيمت، فإذا انصرف -يعني: خرج من الصلاة، وبعض العلماء يقول: أي: إذا انصرف إلى بيت المقدس -والمسلمون فيه محصورون قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحون ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وتاج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، فينطلق هارباً فيدركه عند باب لد الشرقي -وهي مدينة معروفة في فسلطين قرب مدينة الرملة- فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به اليهود إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا قال: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي تعال فاقتله)، فكل ما على الأرض يوالي المسلمين من الحجر والشجر إلا شجر الغرقد الذي هو شجر خاص باليهود، وقد حكى الشيخ محمد قطب أن اليهود يأخذون بهذا الحديث، فهم يعلمون أن رسول الله قال حقاً وصدقاً، ولكنهم يجحدون ويحسدون بني إسماعيل أبناء عمومتهم، فكفرهم كفر جحود، وهم الآن يسكثرون جداً في فلسطين من زراعة هذا النوع من الشجر؛ لأنهم يعلمون بهذا المصير الحتمي الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
هذه بعض الأحاديث التي وضحت لنا حقيقة المسيح الدجال، وكيف العصمة والنجاة منه، واستفدنا منها كثير من الفوائد، وأعظمها أسباب النجاة من الفتن، وأن أي شخص مهما أوتي من خوارق العادات فلا يكون ذلك دليلاً على ولايته لله، ولا على أن منهجه هو منهج الحق والصواب؛ لأن المسيح الدجال سوف يقدر على أضعاف ما يقدر عليه هؤلاء مع أنه المسيح الدجال الكذاب الأكبر الأعور الذي كل صفاته وأعماله ناطقة بكذبه وباطله.
نسأل الله تباك وتعالى أن يعصمنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(22/21)
في مواجهة المواجهة
لقد اتحدت قوى الكفر والإلحاد في هذا الزمان في وجه الإسلام وأهله، ويساندهم في ذلك كثير من الرويبضات السفلة ممن أضاع دينه وضميره وعقله، فصار مجنوناً في صورة عاقل، ونذلاً في صورة شريف، وأبله في صورة عاقل، فجعلوا ينخرون في جسد الأمة، ويعملون فيها بمعاولهم الهدامة، فربما أفسدوا في الأمة أكثر مما يفسد فيها العدو الخراجي.(23/1)
سبب تكالب الكفار على الأمة الإسلامية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة, من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أما بعد: فهناك سؤال يتكرر كثيراً, فتعقبه علامة استفهام واحدة، وتعقبه عدة علامات تعجب، وهو: لماذا يتحد العالم كله ضد الإسلام والمسلمين فيما يشبه حرباً عالمية شاملة على كل مستوى وفي كل صعيد؟ ولماذا هذه المذابح في البوسنة وبورما وتايلند وغيرها؟ ولماذا هذه الحملات على كل من يرفع شعار الإسلام ويدعو إليه؟ ولماذا يستثنى المسلمون بالذات حينما يتكلمون عن حقوق الإنسان, وحينما يستنكرون المذابح يقولون: إلا المسلمين، وحينما ينادون بما يسمى بالديمقراطية يقولون: إلا المسلمين؟ لماذا هذه القفزة الهائلة التي قفزها العلمانيون أعداء الله وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين أساءوا لدينه وأساءوا لسنته، فقد كانوا من قبل يستخفون بعلمانيتهم, وإذا بهم اليوم يجاهرون وبلا أدنى استحياء؟ كل هذه الأسئلة وعشرات أمثالها جوابها عبارة واحدة وهي: أنهم يكرهون الإسلام ويخافون منه.
والسؤال المنطقي الذي يفرض نفسه هو: لماذا هذا الحقد على الإسلام؟ ولماذا هذا الخوف من الإسلام؟ إنّ الذين يخافون الإسلام هم الكفار سواء الغربيون منهم أو الشرقيون, والمنافقون عباد الأهواء والشهوات، الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نراهم وكما نحس بهم في زماننا هذا: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).
وبين الفريقين: الأول الكافر، والثاني المنافق الزنديق صلات أكيدة، وروابط وطيدة وعلاقات وثيقة، كتلك التي تكون بين التاجر والسمسار, أساسها الربح المتبادل للطرفين، أو كتلك العلاقات الوطيدة والحميمة التي تقوم بين الحمار وراكبه, وأساسها السخرة والاحتقار, فالعالم الكافر بكل أبعاده وإمكاناته ودوله يريد علواً في الأرض وفساداً، ويردد مقولة أعداء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر, وهي مقولة فرعون: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78] , ويردد شعار ألمانيا, ذلك الشعار النازي الذي يزعمون أنهم يستنكرونه على هتلر وأمثاله، وهو: ألمانيا فوق الجميع, وهم في الحقيقة يرفعون هذا الشعار ليكون الكفر بأشكاله وألوانه فوق الجميع، فهذا الصراع هو صراع من أجل العلو في الأرض والإفساد فيها كما قال الله تبارك وتعالى.
فيرفع هذا الشعار على أيدي أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من الملاحدة مع تغيير ألفاظه، وجمع العالم كله في نفس الوقت لتحقيق معناه ومضمونه, فإنهم لما فشلوا في مقاومة الإسلام عسكرياً لجئوا إلى عدة أساليب, فلجئوا إلى إضعاف قوة البلاد الإسلامية, ولجئوا إلى تدمير طاقات البلاد الإسلامية, فتقوم الدنيا وتقعد إذا قيل إن باكستان عندها أسلحة نووية، ويطالبونها بالتفتيش، ويقاطعونها من كل مكان وغير ذلك من الإجراءات المعروفة، أما حينما يكون عند اليهود في فلسطين ترسانة من الأسلحة النووية فلا حرج ولا ضير؛ لأن القاعدة كما ذكرنا: إلا المسلمين، فعمدوا إلى تمزيق الأمم الإسلامية إلى دويلات وشعوب، بحيث لا تجتمع اثنتان منهما على هدف واحد له قيمة, يقول المستر ميرن براون: إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً, أما إذا بقوا متفرقين, فإنهم حينئذ بلا وزن ولا تأثير، فيجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين؛ ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
ومما فعلوه أيضاً: قهر الشعوب الإسلامية وإذلالها على أيدي حكام طغاة, يقول نك، وهو خبير أمريكي لشئون باكستان: إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية، فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها.
ومن ذلك أيضاً إشغال هذه الأمة بالأهداف الحقيرة حتى لا تنتبه إلى الهدف الأكبر الذي عبر عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه لما سأله قائد الفرس: ماذا جاء بكم؟ فقال: إنّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه, لكننا بدلنا هذا الهدف، وبدلنا هذه البطولات، وصار شغلنا الشاغل إما أفكار عفنة خبيثة جاهلية: كالقومية والوطنية والاشتراكية والناصرية، والكتب البيضاء والخضراء والصفراء والحمراء، أو الاشتغال بالفن والرياضة والكرة والتمثيل وغير ذلك من السفاهات، فانصرفت الأمة عن هدفها الأعظم، وصارت البطولة ما نراه في ساحات الملاعب، وساحات الفن والأفلام والمسرحيات فقط، وصار أصحابها هم الأبطال، وصارت هذه هي القيم والمثل التي ينبغي أن نذب عنها, وقد كان للشعوب الإسلامية حظ وافر من هذه المؤامرات, وقد عبر عن ذلك المنصر المشهور صموئيل زويمر مخاطباً إخوانه التبشيرين المنصرين في أحد المؤتمرات قائلاً: إن مهمة التبشير التي ندبتْكم ديانتكم المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في إدخال المسلمين إلى المسيحية؛ فإن هذا شرف لا يستحقونه، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من إسلامه ليصبح مخلوقاً لا صلة له تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها, وبعملكم هذا تكونون طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية, ولقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سعيتم إليه، وهو إخراج المسلم من الإسلام, إننا نريد أن تعدوا جيلاً مطابقاً لما أراده له الاستعمار, جيلاً لا يهتم لعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، وتصبح الشهوات هدفه في الحياة, إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإن جمع المال فللشهوات، وإن تبوء المراتب ففي سبيل الشهوات, ويذود بكل شيء في سبيل الشهوات, أيها المبشرون! إنكم إن فعلتم ذلك تمّت مهمتكم على أكمل الوجوه.
لقد تعلموا دروساً كثيرة جداً من التاريخ، وأدركوا أن مخططاتهم وعلوهم في الأرض لا يمكن أن ينجح أبداً إلا في حالة غيبة الإسلام، ففي الحروب الصليبية جاءت جيوشهم الجرارة الكثيرة فتصدى لهم الإسلام، ودحرهم، وأذلهم، وكسر أعناقهم، وذلك في شخص صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى, وفي الغزو التتاري تصدى لهم الإسلام في شخص قطز والظاهر بيبرس، ثم حصلت أكبر معجزة ولم يحصل لها مثيل في التاريخ، وهي أن الإسلام المغزو غزا قلوب التتار، وتحولت هذه الأمة العظيمة القاهرة الغازية إلى عباد لله سبحانه وتعالى، وأسلموا دينهم لله، وقد رأوا ذلك في الهند, ورأوه في أفغانستان أيضاً، وليس هذا مع بوش فقط مؤخراً، بل وقع ذلك من قبل مع الإنكليز, فرأوه في ثورة الجزائر ضد الفرنسيين, ورأوه في فلسطين, ورأوه في مصر على ضفاف القناة، فتأكدت لديهم هذه الحقيقة، وهي أن العلو في الأرض الذي يسعون إليه, والسيطرة على العالم, والفوقية على عباد الله، مرهونة كلها بغيبة الإسلام وجنوده.
لهذا فهم يخافون الإسلام؛ لأنه قادر على أن يصنع أمة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] , قادر على أن يصنع أمة قوية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] , قادر على أن يصنع أمة مجاهدة: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق) , أمة يحب رجالها الموت في سبيل الله أكثر مما يحب هؤلاء الكفار الحياة, وحرصهم على الموت أشد من حرص أولئك على الحياة، ويرددون قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52].
الإسلام قادر على أن يصنع أمة مؤهلة للقيادة، ولا ترضى بدون منصب الأستاذية للعالم كله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] , قادر على أن يصنع أمة لا توالي أعداء الله، ولا تنخدع بألاعيبهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
ويخاف الكفار من الإسلام؛ لأنه يربي شعوباً محصنة ضد مؤامراتهم وسماتهم الشهوانية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، قادر على أن يصنع أمة لا تخشى الناس، ولا تخاف الموت، ولا تخاف انقطاع الرزق, يقول تعالى: {أَيْ(23/2)
سبب خوف المنافقين والعلمانيين من هذا الدين
إذاً: فلا نعجب من هؤلاء الكفار شرقيين كانوا أم غربيين, فهم أعداء الإسلام، وهذا ديدنهم، وهذه سنتهم, ولكن العجب الذي لا ينقضي هو من هؤلاء الذين يخافون الإسلام ويكرهونه، ويحقدون عليه مع أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويتسمون بأسمائنا, فإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72] , وإذا رأوا بذرة الإيمان تنمو وتترعرع في شباب المسلمين انقبضوا وتجمعوا لاقتلاعها, وإذا رفع الموحدون لا إله إلا الله رفع أولئك شعارات الوطنية والقومية والوحدة والحرية وغير ذلك من الشعارات.
إن عجبنا يزول إذا فهمنا طبيعة العلاقة بين الفريق الأول: الكفار، والفريق الثاني: المنافقين الزنادقة, إنها صفقة تمت بين الاستعمار وبين أنفار، والمعقود عليه هم المسلمون، وتنفيذ العقد مرهون بالقدرة على التسليم، والإسلام يحرض المعقود عليه على الانعتاق من قبضة السمسار، فكيف لا يخاف السماسرة من الإسلام! فهؤلاء المنافقون هم السمسار، وهم التجار المنتفعون من غياب الإسلام: صحافيون شعراء فنانون مؤلفون مخرجون لا يطيقون الإسلام, كيف لا يخافونه وهو يعظم ما حقروه, ويحقر ما عظموه؟! وكيف لا يخافونه وهو يرفع ما وضعوه، ويضع ما رفعوه؟! من أجل ذلك صارت جميع وسائل التأثير مسخرة لهؤلاء الكارهين لما أنزل الله, حتى إن الناظر من بُعد لكأنه يرى أن مصر انقلبت برجالها ونسائها إلى فنانين وراقصين وممثلين، وكأن كل ما فيها هو الإلحاد والزندقة، وبيع الأعراض، والطعن في الدين، والكفر برب العالمين، فكأن هذه هي صورة مصر؛ وذلك من كثرة استيلاء هؤلاء الزنادقة على مواقع التأثير, وكأن الغرب يستعجلهم ويقول لهم: هيا سلموا المبيع, نريد شعوباً هذه مواصفاتها, نريد شعوباًَ لا تتحرك ولا تنفعل حتى وإن قُطّعت إرباً إرباً.
فقد تربت طائفة من أبناء المسلمين على مائدة الإعلام الذي يديَّث المجتمع، ويخنزر الأخلاق, فكانت حصيلة ذلك ظهور طائفة أخرى لبسوا لباس الثقافة أو ألبسوا لباس الثقافة والعلم، ولا يعرفون عن الإسلام إلا الشبهات التي لقنوها، وزرع في قلوب أصحاب الشهوات منهم الخوفَ والحقدَ على الإسلام.
وحتى نكون صرحاء جداً في تناول ظهور وحقيقة هذا الموقف الذي نعيشه, فنقول: ليس هذا في مصر فقط ولكن في كل بقاع العالم بلا استثناء, فهم يحاولون أن يتسللوا إلينا ويغزونا عبر دين جديد، وهو غير دين الإسلام، وهذه هي الحقيقة بلا مواربة ولا خداع, فيجب أن تكشف هذه الحقيقة للناظرين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، وهذا الدين الجديد اسمه العلمانية أو اللادينية, فهم يبشرون به، ويخدمونه، ويضحون في سبيله.
فالعلمانية دين كأي دين باطل يطلق عليه لفظ الدين، أي: منهج حياة, يقول تعالى في خطاب الكافرين: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6]، ويقول تعالى في حق العزيز: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] , فهذا دين مغاير ومخالف تماماً لدين الإسلام في أصوله فضلاً عن فروعه، وهو معادٍ للإسلام على طول الخط, ولا يمكن أبداًً أن تلتقي العلمانية بالإسلام, فهناك أوجه افتراق عظيمة جداً بين الدينين: الدين السماوي الحق وهو دين الإسلام، وهذا الدين الأرضي المصنوع وهو دين العلمانية, فنبيّن هذه الفروق إن شاء الله تبارك وتعالى, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
فتجدهم يسمون الكفر إسلاماً، ويسمون عدواً لله ولرسوله وللإسلام بالداعية الإسلامية الكبير، والمفكر الإسلامي المستنير، فبماذا يستنير؟ الاستنارة عندهم غير مأخوذة من قوله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1]، ولا من قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، ولكن لا يكون الإنسان عندهم مستنيراً حتى يتبنى أركان وأسس ومبادئ دينهم العلماني كما سنبينها.(23/3)
الأمور التي تخالف فيها العلمانية دين الإسلام
إذاً: فلا نعجب من هؤلاء الكفار شرقيين كانوا أم غربيين, فهم أعداء الإسلام، وهذا ديدنهم، وهذه سنتهم, ولكن العجب الذي لا ينقضي هو من هؤلاء الذين يخافون الإسلام ويكرهونه، ويحقدون عليه مع أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويتسمون بأسمائنا, فإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72] , وإذا رأوا بذرة الإيمان تنمو وتترعرع في شباب المسلمين انقبضوا وتجمعوا لاقتلاعها, وإذا رفع الموحدون لا إله إلا الله رفع أولئك شعارات الوطنية والقومية والوحدة والحرية وغير ذلك من الشعارات.
إن عجبنا يزول إذا فهمنا طبيعة العلاقة بين الفريق الأول: الكفار، والفريق الثاني: المنافقين الزنادقة, إنها صفقة تمت بين الاستعمار وبين أنفار، والمعقود عليه هم المسلمون، وتنفيذ العقد مرهون بالقدرة على التسليم، والإسلام يحرض المعقود عليه على الانعتاق من قبضة السمسار، فكيف لا يخاف السماسرة من الإسلام! فهؤلاء المنافقون هم السمسار، وهم التجار المنتفعون من غياب الإسلام: صحافيون شعراء فنانون مؤلفون مخرجون لا يطيقون الإسلام, كيف لا يخافونه وهو يعظم ما حقروه, ويحقر ما عظموه؟! وكيف لا يخافونه وهو يرفع ما وضعوه، ويضع ما رفعوه؟! من أجل ذلك صارت جميع وسائل التأثير مسخرة لهؤلاء الكارهين لما أنزل الله, حتى إن الناظر من بُعد لكأنه يرى أن مصر انقلبت برجالها ونسائها إلى فنانين وراقصين وممثلين، وكأن كل ما فيها هو الإلحاد والزندقة، وبيع الأعراض، والطعن في الدين، والكفر برب العالمين، فكأن هذه هي صورة مصر؛ وذلك من كثرة استيلاء هؤلاء الزنادقة على مواقع التأثير, وكأن الغرب يستعجلهم ويقول لهم: هيا سلموا المبيع, نريد شعوباً هذه مواصفاتها, نريد شعوباًَ لا تتحرك ولا تنفعل حتى وإن قُطّعت إرباً إرباً.
فقد تربت طائفة من أبناء المسلمين على مائدة الإعلام الذي يديَّث المجتمع، ويخنزر الأخلاق, فكانت حصيلة ذلك ظهور طائفة أخرى لبسوا لباس الثقافة أو ألبسوا لباس الثقافة والعلم، ولا يعرفون عن الإسلام إلا الشبهات التي لقنوها، وزرع في قلوب أصحاب الشهوات منهم الخوفَ والحقدَ على الإسلام.
وحتى نكون صرحاء جداً في تناول ظهور وحقيقة هذا الموقف الذي نعيشه, فنقول: ليس هذا في مصر فقط ولكن في كل بقاع العالم بلا استثناء, فهم يحاولون أن يتسللوا إلينا ويغزونا عبر دين جديد، وهو غير دين الإسلام، وهذه هي الحقيقة بلا مواربة ولا خداع, فيجب أن تكشف هذه الحقيقة للناظرين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، وهذا الدين الجديد اسمه العلمانية أو اللادينية, فهم يبشرون به، ويخدمونه، ويضحون في سبيله.
فالعلمانية دين كأي دين باطل يطلق عليه لفظ الدين، أي: منهج حياة, يقول تعالى في خطاب الكافرين: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6]، ويقول تعالى في حق العزيز: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] , فهذا دين مغاير ومخالف تماماً لدين الإسلام في أصوله فضلاً عن فروعه، وهو معادٍ للإسلام على طول الخط, ولا يمكن أبداًً أن تلتقي العلمانية بالإسلام, فهناك أوجه افتراق عظيمة جداً بين الدينين: الدين السماوي الحق وهو دين الإسلام، وهذا الدين الأرضي المصنوع وهو دين العلمانية, فنبيّن هذه الفروق إن شاء الله تبارك وتعالى, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
فتجدهم يسمون الكفر إسلاماً، ويسمون عدواً لله ولرسوله وللإسلام بالداعية الإسلامية الكبير، والمفكر الإسلامي المستنير، فبماذا يستنير؟ الاستنارة عندهم غير مأخوذة من قوله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1]، ولا من قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، ولكن لا يكون الإنسان عندهم مستنيراً حتى يتبنى أركان وأسس ومبادئ دينهم العلماني كما سنبينها.(23/4)
إنكار العلمانية لما هو معلوم من الدين بالضرورة
العلمانيون يحاولون أن يوهموا الناس أنه لا تعارض بين الدينين, فيمكن أن تبقى بالاسم الإسلامي لكن يفرغ من مضمونه ومن محتواه, ويقولون للناس: اعتزوا بالإسلام؛ لكن كتراث، وبشرط أن تؤمنوا ببعض الكتاب وتكفروا ببعض, وبشرط أن تبتغوا بين ذلك سبيلاً.
وبعض من فرضوا مفاهيمهم بالحديد والنار تطوع لهم أنفسهم أن يصفوا مخالفيهم من عباد الله، ومن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وجنود الإسلام بالتطرف والرجعية والجمود وغيرها من الأوصاف البشعة, والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فحياة المسلم كلها إسلام, وهذا الإسلام يحكم المسلم في كل أحواله، فالمسلم الذي يقبل دين العلمانية مهما زعم أن علمانيته معتدلة أو متساهلة فإنه يقف في جبهة معارضة للإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يصدق عليه وصف العلماني حتى ينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام, فلابد للعلماني أن ينكر تحريم الربا, وأن ينكر تحريم الزنا، ولابد أن يقف ضد إقامة حدود الله سبحانه وتعالى في الأرض، وضد تطبيق شريعته, ولابد أن ينكر فرضية الزكاة, ومبدأ تحكيم الشريعة من أساسه.
ولذلك -كما قال علماء المسلمين- تجري على العلماني بعد إقامة الحجة عليه واستتابته كل أحكام المرتدين؛ فتسحب منه الجنسية الإسلامية، ويفرق بينه وبين زوجه وولده, وتجري عليه أحكام المرتدين في الحياة وبعد الموت.(23/5)
العلمانية لا تقبل الإسلام أصلاً للولاء والبراء
الإسلام يرفض دين العلماني، لأنه أيضاً لا يقبل التعايش مع الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى, وقد يقبل ويسمح له ببعض النوافذ كما يتعامل مع السموم والمخدرات، فيصبح شيئاً مباحاً في المجتمع كأي شيء من الأشياء التي تباح في بعض الحالات؛ فتقبل العلمانية الدين بشرط أن يكون عقيدة نائمة محبوسة بين جدران القفص الصدري للإنسان، وبين جدران المساجد، لكن لا يصطبغ بها المجتمع، ولا يكون لها سلطان عليه، وإن اعترفت العلمانية لله سبحانه وتعالى بالخلق فإنها لا تعترف له بالأمر، والله تعالى يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
ولا تقبل العلمانية هذه العقيدة الكامنة في النفس، والنائمة في الضمير, كأساس للانتماء والولاء والبراء، والحب والبغض, والاحتكام إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل تقبلها عبادة ونسكاًَ, على أن تكون أمراً موكولاً إلى الأفراد, لا أن ترعاه الدولة، وتحاسب الناس عليه, وتقبله أخلاقاً وآداباً، ولكن فيما لا يمس التيار العام المقلد للغرب.(23/6)
محاربة العلمانية لتحكيم شرع الله
إن أعدى أعداء العلمانية, والشيء الذي تحاربه بكل بطش وقوة وصراحة هو تطبيق الشريعة الإسلامية, سواء كان ذلك في الأحوال الشخصية، أو في المجتمع، أو في الدولة, فالعلمانية تتبنى الذميم الدعي، وتنفي نسب الابن الأصيل، وقد تؤمن ببعض الكتاب وذلك فيما يوافق هواها، وتكفر ببعض وذلك فيما خالف هواها، ولذلك فإن العلاقة الحتمية هي أنها تناصب الإسلام العداء، وأن يناصبها الإسلام العداء؛ لأنها تنازعه سلطانه الشرعي في قيادة سفينة المجتمع، وتوجيه دفته وفقاً لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا وقع هذا المجتمع في حكم الجاهلية, فهذا هو أساس العلمانية: الفصل بين الدين وبين الحياة, وتحويل الدين إلى شيء مباح, فمن أراد أن يتدين فليتدين، لكن لا يكون ذلك إلّا في حدود نفسه, وفي نطاق المسجد، وأما نُظُم الحياة فلابد أن يعزل الإسلام عنها، ولذلك عبر عنها بعض العلماء بأنها أقصر الطرق الموصلة إلى الكفر.
إنّ الإسلام يعدّ الشرك في الحكم كالشرك في العبادة, يقول تبارك وتعالى في الحكم: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وفي قراءة: (ولا تشرك في حكمه أحداً) , وفي العبادة قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فهذا شرك وهذا شرك, ويقول ًتبارك وتعالى أيضاً: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137] يعني: لما أطاعوهم في قتل الأولاد، واستحلوا ذلك، وقال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].(23/7)
العلمانية تكره ما أنزل الله
والعلمانيون أولى الناس في هذا الزمان أن يدخلوا في وصف الكارهين لما أنزل الله، ولو سألتهم وقلت لهم: هل أنتم مستعدون أن تطيعوا الله ورسوله؟ وهل تقبلون تحكيم القرآن؟ وهل تعتزون بتاريخنا وتراثنا؟ وهل تحترمون أسلافنا من الصحابة ومن بعدهم؟ فإنك ستجد جوابهم في كل هذه الأسئلة كأخبث ما أنت سامع: بغض للصحابة, والتشنيع بالكذب والافتراء على أعلام الصحابة وأعلام الإسلام, والتزييف للتاريخ الإسلامي, وكذلك إقصاء شريعة الإسلام كما بينا.
إنّ العلمانيين ينطبق عليهم قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]، فتحنى أنوفهم إذا سمعوا من يدعوهم إلى الله، وإلى دين الإسلام.
ويتحقق فيهم قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:6 - 8]، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:25 - 26]، فإذا كان هذا في حق من قال سنطيعكم في بعض الأمر، فما بالك بمن يقول سنطيعكم في كل الأمر!(23/8)
تصادم العلمانية مع القرآن
ذكرنا سابقاً أنّ العلمانية ترفع ما وضعه الله، وتقرب من أقصاه الله تبارك وتعالى، وهي باعتبار معناها: الدنيوية، أو اللادينية، أو رد الدين وتحكيمه في الحياة فإنها تتصادم كثيراً مع القرآن، فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، والعلمانية تحطم مبدأ الولاء والبراء, فتقول بحرية العقيدة: اشرك بالله، سب الله، اشتم الله، سب أنبياء الله، فهذه حرية شخصية في دين العلمانيين.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) والعلمانية تقول بحرية العقيدة, وهي ردة عن دين الإسلام, والله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] والعلمانية تقول: كل إنسان حر، فإذا شاء أن يرتكب المعاصي فله ذلك، ولا يتدخل الدين في خصائص الناس.
إنّ جوهر العلمانية الاهتمام بالحياة الدنيا, وإهمال الحياة الآخرة تماماً, فأصل معنى العلمانية: الدنيوية, فالدنيا التي يحقرها الله سبحانه وتعالى ويذمها في القرآن ترفعها العلمانية، وإذا تمادحوا فإنهم يتمادحون بالحضارة بالعمارات بالمباني الشاهقة بزينة الدنيا بالمتاع بالطعام بالشهوات، فهذا هو الذي يفتخرون به فقط, بينما يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة، ثم راح وتركها)، ويقول الله في الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَاةُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، ويقول عليه الصلاة والسلام (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة, ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).
أما العلمانية فالدنيا عندهم هي الوطن، وهي القرار، وليست مجرد قنطرة نعبرها إلى الآخرة, لذلك فإنهم ينطبق عليهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]، وهم الذين قال فيهم الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، وهم الذين قال فيهم: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83]، وهم الذين قال فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] أي نعم.(23/9)
عدم إنكار العلمانية على من تحلل من الدين واعتمادهم على رابطة الدم والعنصر
إنّ العلمانيين والقائلين بالحرية الدينية وحقوق الإنسان لا ينكرون على الناس إذا لم يؤمنوا بالله، ولا برسله، ولا باليوم الآخر, وترفض العلمانية أيضاً اتخاذ العقيدة أساساً للولاء والبراء، فيقدمون رابطة الدم والعنصر والتراب والطين على رابطة العقيدة.
وأما المسلم في دار الإسلام فإنه لا يكتفي بأن تكون عقيدته أمراً هيناً، أو أمر مباحاً، بل إنّ عقيدته هي روح الحياة, وهي جوهر الوجود, وهي محور التربية والثقافة والإعلام والتشريع, ففي الإسلام يستقبل الطفل الحياة بالتوحيد, وذلك بأن يؤذن في أذنه ليكون أول ما يطرق سمعه ذكر الله، والأذان إلى الصلاة، وهذا مع أنه يولد على فطرة الإسلام، ثم يودع الحياة بالتوحيد، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).
وفيما بين المولد والموت فإنه يعيش بالتوحيد وللتوحيد التزاماً ودعوة وجهاداً، فهذه هي الحرية الحقيقية.
والعلمانية ترفض نزول المسلمين على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فتريد العلمانية أن تصبغ المجتمع بهذه العقيدة، وأن تسمح للإسلام في بعض الأركان والزوايا حتى يتنفس من خلالها، بشرط أن تؤمن ببعض الكتاب وأن تكفر ببعض كما ذكرنا سابقاً, لذا فإنّ الإسلام لا يقبل أن يكون في قلب داره وعز سلطانه شيء مخير فيه, فلا غبار على من آمن به، ولا حرج على من تركه, فالدين لله، والوطن للجميع بزعمهم، ونحن نقول كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189]، وهذه القسمة لا نعرفها، فكل ما على الأرض، وكل من على الأرض ملك لله تبارك وتعالى.
إنّ المسلم في الواقع العلماني يعاني من التناقض بين عقيدته وبين هذا الواقع, فعقيدته تشرَّق وواقعه يغرَّب، وعقيدته تحرم والعلمانية تبيح, وعقيدته تلزم والعلمانية تعارض.(23/10)
موقف العلمانية من العبادة
وأما العبادة، فهي جزء من الحرية الدينية، وليست هي المهمة الأولى للإنسان في نظر العلمانية، والله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ولا تقيم العلمانية نظامها التربوي والإعلامي على أساس غرس هذا المعنى، في حين أن الإسلام يَعدّ مجرد الإعراض عنه كفراً به، ومعاداة له, فمجرد الإعراض عن الدين يعتبر طعناً فيه، وتولياً عنه.
وكذلك الحياة الاجتماعية والاقتصادية لا تنظم في النظام العلماني طبقاً لمواعيد الصلاة وغيرها من العبادات، ولا توضع هذه الأمور في الاعتبار, والعلمانية تفرق بين السلوك الشخصي وبين السلوك الاجتماعي، فيمكن أن يكون القائد أو الحاكم أو الوزير ملحداً خبيثاً مجرماً، وهذا لا يقدح فيه، ولا يقدح في عدالته.
والعلمانية لا ترى المجاهرة بترك العبادات مدعاة للمساءلة، كترك الصلاة أو الصيام أو الزكاة وغير ذلك، فالمهم هو أن يؤدي المرء الضرائب كاملة للدولة، وأما الزكاة فلو شاء أعرض عنها ولا ملامة عليه.
وفي مجال الأخلاق تتبع العلمانية المجتمع والفكر الغربي شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، سواء في علاقة الرجل بالمرأة أو في غير ذلك من الأشياء المعروفة.
فعلى هذا الأساس نقول: إن الشريعة هي العدو الأول للعلمانيين؛ لأنها هي التي تنقل الإسلام من عالم النظرية والمثال إلى دنيا الواقع والتنفيذ، يقول عثمان رضي الله تعالى عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ويتجلى العداء السافر للعلمانية حينما يعارض الإسلام خصائص الحضارة الغربية كتحريم الربا والزنا والسكر، وكتحديد الجزاء على الجرائم بالجلد والقطع ونحوه.
فنلاحظ في هؤلاء العلمانيين أنهم ينظرون إلى الإسلام على أنه عقيدة غريبة خارجة عن ذواتهم, ولا يشعرون بأي حرارة غيرة على الإسلام، ولا يقفون إلا موقف الأعداء، فتجدهم في أي صراع بين الإسلام وأعداء الإسلام ينضمون بلا تفسير إلى أعداء الإسلام، وتجدهم يفصلون الدين عن الدولة كي يسهل عليهم ضربه، وذلك بعد أن يحصروه في ركن ضيق، حتى يستسلم تماماً للعلمانية.(23/11)
رمي العلمانيين للدعاة إلى الله بكل قبيحة
يجب علينا أن نحاسب العلمانية ونزنها من حيث حقيقتها وواقعها الفعلي, لا من حيث ما تزعمه العلمانية من عدم عداء للدين، فإن العلمانيين يتسترون وراء ادعاء الإسلام، فهم يعرفون جيداً أنهم لو أظهروا الإلحاد والطعن في دين الإسلام، سيرجمون بالحجارة، فلابد من التستر وراء الأساليب الخادعة, لذلك نلاحظ من هؤلاء العلمانيين مغالطات كثيرة جداً، منها: أنهم يشنعون على أولياء الله، وعلى الدعاة إلى دين الله سبحانه وتعالى بأنهم يريدون أن يعودوا بنا إلى العصور الوسطى المظلمة!! فنقول لهم: أي قرون مظلمة؟! إن هذه القرون مظلمة عند أسيادكم في الغرب، وذلك حينما أذلت النصرانية الشعوب الأوروبية سواء بالإقطاع، أو بمحاكم التفتيش، أو بصكوك الغفران وبيع أماكن في الجنة، أو بالظلم والقهر، أو بالعقيدة الوثنية الشركية التي قدمتها لهم، أو بمقاومة الفطرة، أو بتحريم الطيبات، أو بالاستبداد الكنسي الذي كان يذل الجميع حتى الملوك, فمن أجل ذلك كرهوا الدين، ومن أجل ذلك كانت هذه العصور عصوراً مظلمة، وكل عصور أوروبا مظلمة؛ لأنها بعيدة عن منهج الله تبارك وتعالى ودينه، فالعصور المظلمة ليست عندنا، وإنما هي عند أسيادكم في أوروبا، فهم الذين كانوا في تلك العصور المظلمة لا يعرفون الاستحمام ولا التنظف, بينما كانت الدولة والحضارة الإسلامية هي القوة الأولى في العالم كله, وكانوا يوفدون أبناءهم إلى بلاد المسلمين، وإلى حواضر الإسلام؛ كي يتنوروا، ويتنظفوا، ويتعلموا كيف تكون الحضارة، وكيف يكون التقدم.
ومن ذلك أيضاً أن العلمانيين يقولون عن الدعاة إلى الله: يريدون أن يعيدونا إلى محاكم التفتيش! فنقول لهم: رمتني بدائها وانسلت، هل أقام المسلمون في يوم من الأيام محاكم للتفتيش؟ وهل عرف المسلمون أي نوع من أنواع القهر والإذلال للشعوب؟ وما الذي يحصل الآن في البوسنة والهرسك؟! وهنا نتذكر كلمة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وذلك أن الفرس في إحدى المعارك مثلوا بالقتلى من المسلمين, فقطعوا الجثث ومثلوا بها، فلما رأى المسلمون ذلك حلف بعضهم لئن أمكنهم الله من الفرس ليفعلن مثلها، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فغضب أشد الغضب وقال رضي الله تعالى عنه: متى كان لنا في الفرس أسوة! فالمسلمون لما حكموا العالم وكانت لهم الغلبة كانوا أكرم خلق الله سبحانه وتعالى، وكانوا أرحم الناس بالناس، ثم بعد هذا ترموننا بدائكم؟! من الذي يقيم محاكم التفتيش؟ ومن الذي يقيم المحاكم العسكرية الظالمة في كل بلاد العالم الإسلامي؟ ابحثوا عن محاكم التفتيش في تاريخكم القديم والحديث, وابحثوا عنها في عهود قريبة وبعيدة، وابحثوا عنها في عهد عبد الناصر وغيره من الطواغيت والجبابرة, ففي عهد عبد الناصر بلغ الطغيان والإرهاب والتخويف مبلغاً عظيماً، إلى حد أن تيتو في يوم من الأيام أتى ليزور مصر, فكان من عادتهم أن يحبسوا كل دعاة الإسلام فترة زيارته، خوفاً عليه, وكان الرعب قد ملأ قلوب الناس، حتى إن أحد الخطباء -من شدة الرعب والتخويف والإرهاب والبطش- خطب جمعة في أحد المساجد في أثناء زيارة تيتو، فكان يدعو في الخطبة ويقول: اللهم أهلك الكفرة والمشركين إلا تيتو!! وبلغ القهر إلى حد أن شكوى قدمت في تاجر في إحدى محافظات الصعيد، فوقف أمام الضابط ترتعد فرائصه, وكان مسلماً بالاسم, وأقسم للضابط، وأما نحن فيوم أن سدنا العالم لم تعرف البشرية إلا الرحمة والتسامح والسمو والأخلاق, فمحاكم التفتيش ليست في تراثنا, وليست في ماضينا، ولكنها في ماضيكم وحاضركم أنتم، والجميع يعرف ذلك.(23/12)
اختفاء روح الإيمان من كتابات العلمانيين
ومن خصائص العلمانيين أنها تختفي من كتاباتهم روح الورع والإيمان والإجلال لرسل الله، وبخاصة رسولنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم, فتشعر في كتاباتهم بعدم الإيمان بهذا الإسلام، بل وتشعر فيها باحتقار لهذا الدين, فيتكلمون عليه وكأنه عقيدة بدوية بشرية الأصل، وكأنه لم ينزل من السماء, فهذا الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين يقول في يوم من أيام العهد الناصري المظلم: لابد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيدة عن اللف والدوران، وإن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيماً خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير, أما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل، ومن باب تنظيم حياة كانت في مجتمع بدائي إلى حد كبير، ومن ثَم فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا.
ومن غلو هؤلاء عدم تعظيمهم لله ولا لرسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام, فهذا مدير جماعة أسيوط الذي عُيَّن فيها قبل إنشائها وإسلامها، فكان يخطب في حضور عبد الناصر، فقال له: إن كان عيسى المسيح قد أحيا ميتاً أو اثنين أو ثلاثة فقد أحييت يا سيادة الرئيس مائة مليون عربي, وإذا كان موسى عليه السلام قد ضرب البحر بعصاه فشق فيه طريقاًَ يبساً، فقد صنعت بالسد العالي أكثر مما صنع موسى.
وفوراً رقي وزيراً للثقافة.
وكذلك مصطفى القياتي كان مدرساً بالأزهر في ثورة تسع عشرة, وكان يقول: إن سعداً أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام, وإن سعداً أتى بما لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسول الوطنية.
وهذا الرجل نفسه في إحدى المظاهرات في داخل الأزهر وضع الصليب في المحراب، وخطب فدعا الناس لصلاة ركعتين للصليب ولله بزعمه, فهذه هي العلمانية، وهذه جذورها.
من أجل ذلك فنحن لا نستغرب إذا وجدنا العلمانيين يصرخون إذا حوكم من يسفه أو يشتم الأنبياء كهذا الخبيث المجرم الذي لم نسمع اسمه، ولم نتعرف عليه إلا في صفحات الحوادث, وفي صفحات المجرمين، فهذا علاء حامد ألف كتاب (مسافة في عقل الرجل)، وسخر فيه من الإسلام، وسخر فيه من النبي عليه الصلاة والسلام، فيتصارخ العلمانيون ويتنادون دفاعاً عن حرية الرأي: يا لحرية الرأي! يا لحرية الكلمة! يا لحرية العقيدة! وحينما يطعنون في أنبياء الله، وفي كتبه، وفي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حرج في هذا، وهذه حرية, فهل يقوى العلمانيون على أن يوجهوا عشر معشار هذا الطعن إلى رئيس جمهورية، أو ملك دولة، أو إلى وزير؟ إنهم لا يجرءون على ذلك، وكما يقول الشاعر: يساق للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار(23/13)
نماذج من مواقف العلمانيين من هذا الدين
وهذه نماذج أخرى -وإن كانت متناثرة- من مواقف العلمانيين, فهؤلاء هم حواريو العلمانية وأنبياؤها والمبشرون بها؛ كي نعرف أعداءنا، ونقف منهم الموقف الذي يستحقونه, فهذا جميل معلوف، وأنا أسميه المعلوف يقول: إن الأجانب يحتقروننا بحق، ونحن نكرههم بلا حق, وإن خلاص الشرق يتوقف على تفرد الشرقيين بكل معنى الكلمة, فلا عهدة شرعية تربطنا بإسلامنا, ويجب أن نكون أبناء اليوم لا بقايا الأمس، ثم يقول: أجد بلاء الشرق كله من الأديان, والمصيبة في الشرقيين من الأنبياء.
وهذا سلامة موسى ونقول للذين يعيدون نشر كتبه النتنة الآن في سلسلة المواجهة: من تواجهون؟! تواجهون الله؟! وقد أثبتوا أنهم ليس عندهم من يصلح أن يكتب أي كلام موضوعي، فعكفوا على إعادة هذا التراث العفن الذي افتضح وبدت سوءته للناظرين منذ عشرات السنين؛ يقول سلامة موسى -وهو نصراني ملحد قد جمع بين السوءتين-: إن الرابطة الدينية وقاحة, فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعةً تربطنا.
وهذا يوسف إدريس الكاتب الماركسي اليساري الذي أعطاه طه حسين صك الشهرة؛ لأنه من أصحاب الأفكار الإباحية، فهو يدعو إلى نبذ التراث العربي كله، وإلى إلقائه في البحر، أو إحراقه, ويصف تراثنا بأنه سخيف، وأنه ليس فيه شيء للقراءة، ويقول: يجب أن تحرق كتب التراث كلها.
وقال رجل دمشق في عقب الإحداث سنة خمس وستين، وذلك بعدما دخلت الدبابات مسجد بني أمية تفتك بالمصلين والموحدين، واستشهد من المصلين مئات المسلمين، وأغلق الجامع أياماً؛ لإزالة ما علق بأستاره ومحرابه من جثث المصلين، ودماء الراكعين الساجدين، وذلك لا لشيء إلا لأنهم طالبوا بتحكيم شرع الله في ظل هذا الحكم البعثي العلماني الملحد, وفي نفس ذلك اليوم قال رجل دمشق في بيان رسمي: إننا لن نسمح لمن كانوا يعيشون في هذه البلاد قبل ألف وأربعمائة سنة أن يفرضوا علينا نظمهم القديمة، ولا أن يضعوا لنا أسس حياة إسلامية نعيشها في هذا العصر المتطور.
وهذا أحد دعاة العلمانية والعروبة في نفس الوقت يقول: العروبة نفسها دين عندنا نحن القوميين العرب.
فهم يسمونه ديناً، ونحن لم نأتِ بهذا الكلام من عندنا، فالعلمانية دين، والقومية دين, وقد ذكرت من قبل أن بعض الأفاضل حكى عن بعض المنظمات العلمانية الفلسطينية أنهم كانوا حين يقوم ليأذن بالصلاة يقفون صفاً واحداً، ويشوشون عليه، ويسخرون منه، وينشدون بصوت يشوش على الأذان فيقولون: إن تسل عني فهذي قيمي أنا ماركسي يوناني أممي ويقول شاعرهم: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني ويقول هذا الداعية: العروبة نفسها دين عندنا نحن القوميين العرب؛ لأنها وجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية في هذه الحياة الدنيا, ولئن كان لكل عصر نبوة، فإن القومية العربية هي النبوة في هذا العصر في مجتمعنا العربي.
ويقول أحد هؤلاء أيضاً: نحن نريد بدارسة التاريخ أن نميز بين العروبة والإسلام في وجهتنا, وإن اعتزازنا بالتراث، وإعطاءنا القيم منزلتها لا يعني اتخاذ الإسلام رابطة سياسية، أو إقامة الكيان على أساسه.
ويقول أحد هؤلاء وهو المسمى أدونيس في رسالته للدكتوراه (الثابت والمتحول) إذا كان التغيير يفترض هدماً للبنية القديمة التقليدية، فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي، وإنما يجب أن يكون بآلة من داخله, فإن هدم الأصل يجب أن يمارس بالأصل ذاته.
يعني تحريف معاني الإسلام.
وأطروحة الدكتواره هذه قدّمت إلى الجامعة الأمريكية التي يشنع فيها على الإسلام، وقد أشرف على الرسالة الأب لويس نويا اليسوعي، وشارك في مناقشاتها الدكتور أنطوان غطاس كرم، ورشح صاحبها من دوائر الاستشراق الأوروبي المعاصر لأجل نيل جائزة عالمية شهيرة؛ بوصفه شاعراً ومفكراً إسلامياً ثائراً.
وهذا زكي نجيب محمود، وهو مشهور باحتقاره لتراثنا الإسلامي، يقول: لم يكن ثم أثر للحياة الثقافية، أو العلمية، أو الفكرية في قرون الإسلام الأولى، بل ولا الأخيرة, فلم يكن العالم في العهود السابقة يبلغ من علمه حداً يجاوز إحسانه للقراءة والكتابة.
يعني: أنّ ابن كثير وابن تيمية والبخاري ومسلماً وكل الأئمة الأعلام أقصى ما حصلوه من العلم معرفتهم للقراءة والكتابة فقط، وليس عندهم أي شيء من العلم والفكر غير القراءة والكتابة!(23/14)
محاولة العلمانيين بعث تراث أسلافهم من المنحرفين
إنّ هذه المحاولة يائسة من هؤلاء اليائسين, فقد أيسوا من محاولة البطش والتخويف والإرهاب؛ لأنها لم تأت بأي ثمرة، بل زادت الصحوة الإسلامية، فلجئوا إلى آخر ما في جعبتهم وهي الكتابة، فعجزوا عن الكتابة، وما وجدوا أحداً يصلح للكتابة, فقالوا: نلجأ إلى القدامى, نلجأ إلى مؤسسي حركة التنوير, والمستنير عندهم هو الذي يستنير ويستضيء بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلأن الباطل دائماً أعمى لا يرى، وأصم لا يسمع، وأحمق لا يعقل, فقد حاول هؤلاء العلمانيون كما قلنا مواجهة الإسلام بالكتابة، فلم يستطيعوا إلا السب والشتم والتشنيع والاستعداء والبذاءة والتطاول, ونظرة واحدة في كتبهم تجعلك ترى ما في جعبة القوم من هذه البذاءات.
فلما شعروا بعجزهم عن أن يجادلوا بأنفسهم أرادوا أن يتطفلوا على مائدة الأولين منهم، فراحوا ينفخون الروح في هذا التراث المشئوم؛ عسى أن يجدي في محاولاتهم اليائسة في إطفاء نور الله عز وجل {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] , فقاموا بإعادة طبع عشرات الكتب، وبسعر زهيد جداً: بخمسة وعشرين قرشاً، أي: ربع جنيه، ككتب طه حسين، وسلامة موسى، وزكي نجيب محفوظ، وقاسم أمين، والطهطاوي، وأعادوا نشر هذا التراث العفن النتن الذي فاحت ريحه الخبيثة، وانكشف عواره.
وهذا من غبائهم وإساءتهم إلى أنفسهم, فهم اليوم يخاطبون جيلاً غير الجيل الأول الذي خوطب من خلال هذه الكتب، فأرادوا أن يحتموا بتلك الأسماء اللامعة: طه حسين , سلامة موسى , ولا يدرون أن الشباب الآن عنده وعي، وعنده بصيرة، وأنه قد عرف عدوه وعدو دينه، وعرف من هو طه حسين، فبعدما كان الجيل الماضي ينظر إلى طه حسين على أنه كاتب إسلامي فقد فهم الناس الآن أن طه حسين زنديق ملحد, وأنه طاعن في كتاب الله، ومكذب له, وعدو لهذه الأمة، وعدو للغة العربية، فقد كان ينطلي على الجيل الأول أنه عميد اللغة العربية, وأما الآن فقد انتشر الوعي، فمن الغباء أن يخاطبونا بمثل هذه البضاعة الكاسدة البائرة.
فهذه الأصنام التي يعيدون الطواف حولها بالمباخر والتعظيم قد حطمت، حطمها العلماء والدعاة، وانكشفت سوآتها للناظرين، فلو كان هؤلاء عقلاء لما بعثوا هذا التراث, ولو كانوا يعترفون بالجميل لأساتذتهم لما آذوهم في قبورهم, فنحن نجزم ونقطع ونحلف بالله عز وجل أن كل هؤلاء الذين كتبوا في معاداة الله ومعاداة رسول الله عليه الصلاة والسلام، نادمون أشد الندم على كل حرف خطّوه وكتبوه، وأنهم إن كانوا ماتوا على هذا الضلال والكفر فإنهم يتمنون أن يعودوا، وأن يعطيهم الله سبحانه وتعالى الفرصة من جديد؛ كي يكونوا أشد الناس تطرفاً في معاداة هذه العلمانية، وكي يجاهدوا كل من يطعن في دين الله سبحانه وتعالى.
فأنتم الآن تسيئون إليهم في قبورهم، وهم يرجونكم -إن كان لهم أن يتكلموا- ويتوسلون إليكم أن تكفوا عن مضاعفة سيئاتهم بإحياء هذه الكتب, فهذه حقيقة لا نشك فيها: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] لكن حيث لا ينفع اليقين، ولو ردوا لتبرءوا من هذه الكتب، ولنصروا الإسلام بكل جوارحهم حتى وإن قيل عنهم: متطرفون، أو متشددون، أو رجعيون.
فلو أعيد طه حسين إلى الحياة -والله أعلم بمصيره عند ربه- لكان من أشد الناس دعوة إلى الله، ومن أشدهم تضحية في سبيل الله تبارك وتعالى, فإن كنتم تحبونهم فكفوا عنهم، ولا تنشروا مساوءهم, وابحثوا لعلكم تجدون لهم حسنات فتكلموا بها وانشروها؛ لكن القوم عندهم هواية البحث في القمامة، والبحث في الخبائث؛ ليستخرجوا أسوأ ما فيها، وينشروها على الناس, فالسعيد من إذا مات ماتت سيئاته وتوقفت، أما أن يبقى في قبره وأذاه على وجه الأرض فنسأل الله السلامة، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، (ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
وهذا أحد كتاب رسائل المواجهة، تلك المواجهة الدنيئة الحمقاء، فأحد هؤلاء المجرمين كتب كتاباً، وفعل ما فعلته اليهود, فسمى الرسالة (التنوير في مواجهة الإظلام) فتشبه باليهود حين قيل لهم: قولوا حطة، فقالوا: حنطة, فهذا بدلاً من أن يقول: الإسلام، قال: الإظلام, ومعروف أنهم دائماًَ يستعملون كلمة الظلام للتعبير عن الإسلام، فيقولون: الجماعات الإظلامية، أو الجماعات الظلامية، ويعنون الجماعات الإسلامية، ولما ألفوا رواية عن طه حسين سموها: قاهر الظلام، أي: قاهر الإسلام، وكذلك هنا (التنوير في مواجهة الإظلام)، فالله المستعان، والأمر كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30].
وهذا كاتب من كتابهم يتكلم عن القصص الفني في القرآن، فيصف قصص القرآن الكريم بأنها خرافة, بل زعم أن القرآن نفسه لا ينفي أنه يحوي الأساطير, وهذا الباحث دافع عنه بعض المستشرقين، ومنهم بعض الآباء الدانماركيون الذين وصفوا بحثه بأنه البحث الوحيد الذي يمثل الاستنارة الحقيقية في الفكر الإسلامي الحديث, وهنا نقول: هل سمعتم عن رجل علماني -مهما بلغت أفكاره- غضب عليه الكفار في الشرق أو الغرب أو الداخل أو الخارج؟ كلا, بل تنشرح صدورهم لأعداء الدين، فهم إخوانهم الذين يساندونهم ويمدونهم بالعون، وهم الذين يحرضونهم على معاداة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(23/15)
بعض النماذج من تلك الكتب التي طبعوها
وهنا أذكر بعض النماذج، وأقتصر فقط على شخصيتين من هذه الشخصيات, الأولى منهما: سلامة موسى، وقد بعث له جزء من هذا التراث، وذلك أيضاً في سلسلة المواجهة للإسلام، والصد عن سبيل الله تبارك وتعالى, وأنا أقتطف بعض عباراته حتى نعرف من هو سلامة موسى؟ ومن هم رواد التنوير؟ وما هو التنوير الذي يريدون أن نتنور به؟ يقول سلامة موسى في تلخيص هدفه من دعوته: إنه يجب علينا أن نخرج من آسيا، وأن نلتحق بأوروبا.
ويقول: إني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما ازدادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها, هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهرة، فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب, فنريد من التعليم أن يكون تعليماً أوروبياً لا سلطان للدين عليه، ولا دخول له فيه, ويريد من الحكومة أن تكون ديمقراطية برلمانية كما هي في أوروبا، وأن يعاقب كل من يحاول أن يجعلها مثل حكومة هارون الرشيد، أو المأمون، أو أورستقراطية دينية, ويريد أن يبطل شريعة الإسلام في تعدد الزوجات، وفي الطلاق، بحيث يعاقب بالسجن كل من يتزوج أكثر من امرأة، ويمنع الطلاق إلا بحكم المحكمة, ويريد أن يقتلع من أدبنا -كما يقول- كل طابع شرقي مما يسميه هو: آثار العبودية والذل والتوكل على الآلهة.
فنقول له: إنّ التوكل على الآلهة أمر موجود عندكم هناك في الكنيسة, وشركة القبانية، أما أن تخاطب أمة الإسلام وتقول: نريد أن نقتلع جذور التوكل على الآلهة, فليس عندنا آلهة، وإنما الله إله واحد.
ويقول أيضاً وهو يمتدح العصر الإسماعيلي بعدما امتدح عصر نابليون، وما جره على مصر من البركات، ثم يتكلم عن الإسماعيلي فيقول: الذي رأى بنافذ بصيرته أنه لابد لنا من أن نتفرنج، ونقطع الصلة بيننا وبين آسيا، -المقصود بآسيا هو الإسلام الذي جاء من آسيا- فأنشأ الإسماعيلي مجلساً نيابياً, وأسس مجلس وزراء، ثم جعلنا نلبس الملابس الأوروبية، ووزع بين أعيان البلاد فتيات من الشركة؛ لكي يتحسن اللون ويقارب البشرة الأوروبية.
فهذا بغض للذات، واحتقار للنفس, وهذا شيء عجيب! ثم يقول: قد آن الأوان كي نعتاد عادات الأوروبيين، ونلبس لباسهم، ونأكل طعامهم، ونصطنع أساليبهم في الحكومة والعائلة والاجتماع والصناعة والزراعة.
ويقول أيضاً: إن الرابطة الشرقية -والمقصود بها الإسلام- سخافة, فمالنا ولهذه الرابطة الشرقية، وأية مصلحة تربطنا بأهل جاوة؟ -يعني: في أندونيسيا- وماذا ننتفع بهم؟ وماذا هم ينتفعون منا؟ إننا في حاجة إلى رابطة غربية، كأن نؤلف جمعية مصرية يكون أعضاؤها من السويسريين، والإنجليز، والنرويجيين وغيرهم, فنقعد معهم، ونستفيد منهم إلى أن يقول: فمثل هؤلاء الناس العباقرة والأذكياء نستطيع أن نؤلف رابطة معهم، ولكن ما الفائدة من تأليف رابطة مع الهندي أو الجاوي -يقصد: الهندي أو الجاوي المسلم-؟ ويقول أيضاً: نحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان.
ويقول أيضاً: وقد كان مصطفى كامل -لجهله بروح الزمن- يخبرنا نحن المصريين عن الإسلام في الصين تحت عنوان: أخبار العالم الإسلامي.
أي: أنه يسخر من المسلمين في الصين، ومن أخبار العالم الإسلامي في الصين.
ويقول أيضاً: إن اصطناع القبعة أكثر ما يقرب بيننا وبين الأجانب، ويجعلنا أمة واحدة.
ويقول أيضاً: لسنا نحب أن نخرج على العالم المتمدن بلباس خاص يجعلنا في مركز من الشذوذ، ويجلب إلينا الأنظار, فيعمد السائحون إلى تصويرنا كأننا أمة غريبة عن الأمم التي جاءوا منها.
ويقول: إن الأجانب يحتقروننا بحق، ونحن نكرههم بلا حق.
ويقول: إنني أطلب من الأدب شيئاً جديداً مغذياً غير الكلام عن العرب بلغة العرب، وشبابنا أيضاً يوشك أن يلبس القبعة؛ لأنه يجد هواناً من الشذوذ من العالم المتمدن، وهو أيضاً قد أبصر أننا إذا أخلصنا النية مع الإنجليز فقد نتفق معهم إذا ضمنا لهم مصالحهم، وهم في الوقت نفسه إذا أخلصوا النية لنا فإننا نقضي على مراكز الرجعية في مصر، وننتهي منها، فلنول وجهنا شطر أوروبا.
ويقول أيضاً في تعبير خطير جداً -وهو من أنبياء العلمانية ورسلها- يقول: وها نحن أولاء نجد أنفسنا الآن مترددين بين الشرق والغرب, فلنا حكومة منظمة على الأساليب الأوروبية، ولكن في وسط الحكومة أجسام شرقية، مثل وزارة الأوقاف، والمحاكم الشرعية، وهي تؤخر تقدم البلاد, ولنا جامعة تبعث بيننا ثقافة العالم المتمدن، ولكن كلية جامعة الأزهر تقف إلى جانبها، وتبث بيننا ثقافة القرون المظلمة, ولنا أفندية قد تخرجوا، لهم بيوت نظيفة، ويقرءون كتباً سليمة، ولكن إلى جانبهم شيوخ لا يزالون يلبسون الجبب والقسطاطين، ولا يتورعون من التوضؤ على قوارع الطرق في الأرياف، ولا يزالون يسمون الأقباط واليهود كفاراً كما كان يسميهم عمر بن الخطاب قبل ألف وثلاثمائة سنة.
وهو أيضاً ناقم على الشيوخ الذين يعلّمون اللغة العربية, وينادي بأن يسلََّم أمر تعليمها إلى الأفندية، حيث يقول: ولكن تعليم العربية في مصر لا يزال في أيدي الشيوخ الذين ينقعون أدمغتهم نقعاً في الثقافة العربية -أي ثقافة القرون المظلمة- فلا رجاء لنا بإصلاح التعليم حتى نمنع هؤلاء الشيوخ منه، ونسلمه للأفندية الذين ساروا شوطاً بعيداً في الثقافة الحديثة.
ويقول أيضاً: إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة، لأنها تقوم على أصل كاذب؛ فإن الرابطة الدينية وقاحة، فإننا -أبناء القرن العشرين- أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا.
فهل هذه هي مواجهة الإرهاب؟ وهل هذه هي مواجهة التطرف؟ إنّ هذا تطرف إلى أبعد ما يكون، وقد سبق أن تكلمنا قبلُ وقلنا: إن المتطرف هو كل من لم يكن مسلَّماً لأهل السنة والجماعة, فهذا هو تعريف التطرف, فالتطرف هو الانحراف عن الوسط يميناً أو يساراًَ، ففي داخل الدائرة الإسلامية: كل من ليس سلفياً من أهل السنة والجماعة، وانتمى لفرقة من الفرق الضالة النارية الاثنتين وسبعين فرقة، فهذا متطرف انحرف عن الوسط في الإسلام، وهو منهج أهل السنة والجماعة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام, فهذه درجة من درجات التطرف, وأشد وأخطر تطرفاً من يخرج عن الدائرة بالكلية كالعلمانيين، فهم متطرفون, فكل يهودي متطرف, وكل نصراني متطرف, وكل من ليس على ملة الإسلام فهو متطرف في نظرنا؛ لأننا نحن الأمة الوسط، ونحن الميزان، ونحن المقياس، وهم يقلبون الأصل، فيجعلون واقع المجتمعات الآن هو الوسط، وهو الاعتدال، وكل من انحرف عنه فهو المتطرف, فنقول لهم: لكم دينكم ولنا دين, فهذا دينكم، وأما ديننا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهذه هي مقاييسه، وهذه هي موازينه.(23/16)
إطلالة سريعة على أقوال طه حسين الشنيعة
وقبل أن ننهي الكلام، فإننا نطل إطلالة على واحد من هؤلاء الذين نشروا له كتاباً في سلسلة المواجهة، وهذه السلسلة الدنيئة في أربعة أجزاء, وتباع كما ذكرت لكم بسعر باكيت بسكوت أو أقل، وهو بلا شك أكثر فائدة منه, وهو كتاب طه حسين، ويعتبرون هذا رائداً من رواد التنوير والعلمانية والتقدم.
وطه حسين له مواقف مخزية جداً من هذا الدين، سواء من خلال كتابه الذي نشروه (مستقبل الثقافة في مصر)، أو من خلال غيره من مواقفه المعادية لله ولرسوله, فهؤلاء هم أنبياء العلمانية، ورسلها، وحواريوها، ودعاتها, فهل هذه مواجهة للتطرف أم دعوة للتطرف؟ إنّ هذا استفزاز وإثارة.
يقول طه حسين: للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً, ولكن ورود هذين الاثنين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة.
ويقول الخبيث أيضاً: إن القرآن المكي يمتاز بالهروب من المناقشة، والخلو من المنطق، والعياذ بالله! ويقول أيضاً: ظهر تناقض كبير بين نصوص الكتب الدينية وبين ما وصل إليه العلم.
ويقول: إن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها, وإن الدين حين يقول بوجود الله، ونبوة الأنبياء، يثبت أمرين لا يعترف بهما العلم.
ويقول: إن الفرعونية متأصلة في نفوس المسلمين، وستبقى كذلك، بل يجب أن تبقى وتقوى، والمصري فرعوني قبل أن يكون عربياً, ولا يُطلب من مصر أن تتخلى عن فرعونيتها، وإلا كان معنى ذلك: اهدمي يا مصر أبا الهول والأهرام! وانسي نفسك واتبعينا! فلا تطلبوا من مصر أكثر مما تستطيع أن تعطي, فمصر لن تدخل في وحدة عربية, سواء كانت العاصمة القاهرة، أم دمشق، أم بغداد، وأؤكَّد قول أحد الطلبة القائل: لو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه! ويقول أيضاً: لم أكن في اللجنة التي وضعت الدستور القديم، ولم أكن بين الذين وضعوا الدستور الجديد, ولم يستشرني أولئك وهؤلاء في هذا النص الذي اشتمل عليه الدستوران جميعاً, والذي يعلن أن للدولة المصرية ديناً رسمياً هو الإسلام، ولو استشارني أولئك أو هؤلاء لطلبت منهم أن يتدبروا، وأن يتفكروا قبل أن يضعوا هذا النص في الدستور.
وكان طه حسين يدعو طلابه في كلية الآداب إلى اقتحام القرآن في جرأة، ونقده بوصفه كتاباً أدبياً, فيقولون: وفي هذا حُسْن، وهذا كذا, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراًَ.
ويقول: ليس القرآن إلا كتاباً ككل الكتب الخاضعة للنقد، فيجب أن يجري عليه ما يجري عليها إلى آخر كلامه.
ويقول: يجب عليكم أن تصرفوا النظر نهائياً عن قداسته التي تتصورونها, وأن تعتبروه كتاباً عادياً، فتقولوا فيه كلمتكم, ويجب أن يختص كل واحد منكم بنقد شيء من هذا الكتاب, ويبين ما يأخذه عليه.
فهذا هو عميد الأدب العربي، والصواب أن يقال عنه: عميل الفكر الغربي! وحملته أيضاً على الصحابة معروفة في كتابه (الشيخان) وغيره، وهو يدرس الآن للطلبة في الثانوية العامة وفيه الطعن والتشكيك والنيل من عظماء الإسلام والمسلمين, وقد اجتهد في إعادة طبع رسائل إخوان الصفا، وترجمة القصص الفرنسية الإباحية الماجنة, وهو يدعو أيضاً في كتابه هذا (مستقبل الثقافة بمصر) إلى أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أنداداً, فنأخذ بالحضارة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب.
وقد استقدم طه حسين المستشرقين إلى الجامعة المصرية؛ كي يطعنوا في القرآن والسنة، ومواقفه مخزية إلى حد بعيد جداً، لكن أكتفي بهذا القدر من ذكر ضلالاته، ولو استقصينا جميع الكتب التي أعادوا طبعها، والتي وصلت الآن إلى أكثر من ثلاثين كتيباً؛ لو استقصينا النماذج من كلام دعاة العلمانية المخالفين لدين الإسلام، لانقضى الليل كله ونحن لم ننته من هذا بعد.(23/17)
تحذير وإنذار للعلمانيين وأفراخهم
فهذه بعض النماذج لهذه الحملة على دين الله تبارك وتعالى، فنقول لهؤلاء أصحاب المواجهة: أتدرون أنكم تواجهون الله تعالى؟! هل لكم قِبَل وطاقة بحرب الله، وحرب رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! فمن الذي تواجهونه؟! وبماذا تواجهونه؟! نحن نعيش في زمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أحلام ذوي المروءة، ولا أخلاق الجاهلية, ففي الجاهلية كانت هناك بعض الأخلاق, وكان عندهم مبادئ وقيم, وكانوا يعرفون شرف الخصومة، أما هؤلاء فلا يعرفون رائحة الشرف, بل تجد فيهم القهر والكذب والدجل، واستفرغوا كل الوسع في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى تحت ستار هذه العلمانية المزعومة.
فنقول: إننا ندرك تمام الإدراك أن الوعد الإلهي الذي تحقق من قبل في المشركين والمنافقين، سوف يتصل بتحقق مماثل في علمانيي عصرنا {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15] فهذا الوعد سوف يتحقق حتماً, ولو زالت أجيال وأجيال فإنّ النصر والتمكين في النهاية للإسلام قطعاً.
فهذه البقعة من الأرض التي نعيش عليها قد عاش عليها من قبل ملايين البشر, فأين هم الآن؟ إنّا لا نعرفهم, ولا نحس منهم من أحد، ولا نسمع لهم ركزاً, فقد أهلكهم الله سبحانه وتعالى, وفي هذا الزمان لو قتّل الشباب المسلم, وحوربت الدعوة في كل مكان, فهل سيبلغون في حربهم ما بلغ الأولون في حربهم لهذا الدين؟ إنّ الدين هو دين الله سبحانه وتعالى، فأنتم تحاربون الله, فنسأل العلمانيين كي يكفوا عن التستر وراء الدين، ونقول لهم: قولوها صراحة: هل تؤمنون بالله؟ وهل تؤمنون برسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وهل تعظمون القرآن؟ وهل تقبلون التحاكم إلى شرع الله عز وجل؟ قولوا: لكم دينكم ولنا دين, لا تلبسوا على الناس, فهل تقبلون التحاكم الذي أمر الله به في قوله {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]؟ لا يمكن أن تقبل العلمانية ذلك, وأي علماني يخرج من دين العلمانية إلى دين الإسلام فلابد أن يعلن كفره بهذه المبادئ الهدامة التي تتصادم مع ألف باء العقيدة الإسلامية, ولا يمكن أن تبقى علمانياً مسلماً في آن واحد, فكونوا صرحاء، ولا داعي لهذه المناورات, ولا داعي للخداع، ولا داعي للتظاهر بأنكم تواجهون ما تسمونه تطرفاً أو إرهاباً, قولوا: نحن نواجه الإسلام, واكشفوا القناع عن وجوهكم، وقولوا: إنكم تكرهون الله, وإنكم تبغضون رسول الله، ونحن نبشركم بما بشر به الله عز وجل من سبقكم إلى هذا الشنآن، فقال سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3].
فسيقطع الله دابرهم, وهذه سنة من سنن الله, فكل من شنأ رسول الله وأبغضه، أو أبغض سنته، فلابد أن يقطع الله سبحانه وتعالى أثره ويمحوه.
ويقول تبارك وتعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21].
وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(23/18)
المؤامرة على التعليم
لقد ظهرت في بعض البلاد الإسلامية مشاريع تسمى بتطوير التعليم، وهي في الحقيقة مؤامرة على التعليم، وتضليل تحت مسمى التطوير، والعجب أن يقوم بهذا أناس من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، فلا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.(24/1)
دعوة لإنقاذ التعليم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد بين الله تبارك وتعالى أحد مقاصد هذه البعثة وهذه الرسالة في قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
فأحد المقاصد الأساسية التي من أجلها يبعث الله عز وجل رسله، وينزل آياته، هي: أن تستبين سبيل المجرمين، حتى لا يختلط الحق بالباطل، ولا الهدى بالضلال، ولا الغي بالرشاد.
فمن هذا المنطلق نختار هذه القضية لنناقشها اليوم، وهي قضية قد تناولها كتاب صدر حديثاً اسمه: التطوير بين الحقيقة والتضليل أو دعوة لإنقاذ التعليم، للمؤلفين: الدكتور جمال عبد الهادي والأستاذ علي أحمد لبن، فجمعا في هذا الكتاب مادة عظيمة تلفت أنظار المسلمين إلى هذا الخطر الداهم الذي يطل برأسه في هذه الأيام، ولا شك أن مناهج التعليم هي عبارة عن عملية صياغة عقول هذه الأمة، وأي تخريب في مناهج التعليم فهو اغتيال لهوية المسلم وأبنائه والأجيال القادمة.
وقد بعث المأمون إلى بعض من طال حبسه في السجن، وقال لهم: ما أشد ما مر عليكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فاتنا من تربية أولادنا.
والمناهج الدراسية تصوغ عقول الأولاد وشخصياتهم أقوى مما يفعل الأبوان بالنسبة لظروف الحياة في هذا الزمان، ولا يكون تأثيرهما على الأولاد مساوياً لما يحدث من التأثير في المدارس من خلال هذه المناهج.
كان المصريون القدماء -وهم أجدادنا الذين نبرأ إلى الله منهم ومن كفرهم وشركهم- حيارى في التعبير عن هويتهم، فاخترعوا ما أسموه: أبا الهول، جسم حيوان يدل على القوة والبطش، ورأس إنسان يدل على العقل والذكاء، فلابد للمجتمع من قوة العلم والقوة الحسية أو المادية.
الآن نجد أن الصورة تنعكس، نرى بشراً أجسامهم في صورة بشر، لكن عقولهم خنزيرية، عقول تبرأ هذه الأمة منها، وهم الذين ينفثون سمومهم خلال هذه المناهج، وهذه القضية ليست قضية ثانوية، بل هي قضية كل بيت مسلم، فالمناهج تقوم بصياغة عقول أبناء المسلمين، وكل مسلم يعتز بولائه وانتمائه إلى هذا الدين وإلى هذه الأمة وإلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم يهمه أمر المناهج، فإنه ما من أسرة إلا ولها أبناء وإخوة يذهبون ليتشربوا هذه السموم التي توضع في مناهج التعليم.
هذه الفتنة خطيرة جداً، وتدرك آثارها على مدى سنوات، وليس في خلال ساعات، ودور المسلم لا يقتصر على الحسبلة والحوقلة، وضرب إحدى اليدين على الأخرى، والتواصي بالدعاء على فاتح الشرور الذي فتح هذه الفتنة في اغتيال عقول شباب المسلمين وأبناء المسلمين، فلابد من التحذير من هذه الفتنة.
أعظم ما كان يهتم به نابليون حينما غزا مصر محاولة تغيير العقيلة المصرية التي صاغها الإسلام وصاغها القرآن والسنة، فأتى بمطبعة لأنه من خلالها يستطيع أن ينفث سموم أفكاره الغربية.
كذلك الإنجليز حينما أتوا كان أهم وظيفة يؤدونها هي هدم التعليم، وذلك القسيس الكاهن الذي استجلب من بريطانيا لكي يخطط لهدم التعليم الإسلامي، ومخططه والمنهج الذي رسمه مسبقاً لمناهج التعليم في مصر ما زال مستمراً إلى الآن.
وليس المقام مقام كلام تاريخي نفصل فيه محاولات اغتيال العقلية المسلمة التي تنشأ من خلال هذه المناهج، لكن ندخل مباشرة في الموضوع، ونحاول أن نلخص بعض المعالم الرئيسية في هذا الكتاب.
يقول المؤلفان في بداية الكتاب: يتساءل المرء عن الأسباب والدوافع التي حدت بوزارة التعليم والأزهر إلى إدخال تغييرات على المناهج والمقررات تحت مسمى التطوير! وبهذه السرعة ودون روية! وأتساءل أيضاً عن القواعد والأسس التي تحكم هذا التطوير، وكل تغيير أو تطوير لابد أن تكون له دوافع وأسباب ينطلق منها، وأيضاً أهداف يسعى إليها! ونحن لسنا ضد التطوير، ولكننا نريده تطويراً حقيقياً ينطلق من عقيدة الأمة التي حددها الدستور -كذا قالا، ونحن نقول: التي حددها لنا رب العالمين ربنا تبارك وتعالى، ولا يضيرنا أن يوافق الدستور على هذا أو يخالفه- ثم ذكرا في الباب الأول اقتران الغزو العسكري بالغزو الفكري الذي يهدف إلى تخريب الشخصية الإسلامية عبر التعليم المنهجي والتثقيف العام، وبينا أنه رغم خروج الإنجليز من مصر لكن ظلت سياستهم التعليمية هي السائدة، ولم تتغير عن طريقها، ولم تحد أبداً، ثم يتكلم الكتاب عن حقيقة التطوير الحالي، والأصابع الخفية التي تقف وراءه.(24/2)
أخطار ما يسمى بتطوير التعليم
الأسباب التي دعت إلى الريبة في هذا التطوير، والأدلة ظاهرة على اتهام الأصابع الخفية وراء هذا التطوير، وبيان ذلك فيما يلي: أولاً: سعي هذا التطوير إلى طمس عقيدة الأمة، وتزوير هويتها، وتغريب تقاليدها خلسة ومن خلف ظهر الجميع.
ثانياً: عدم صدور التطوير عن المتخصصين الشرعيين، بل صدوره عن جهات غامضة مجهولة تستمد نفوذها من الوزير مباشرة أو رئيس الوزراء المسئول عن الأزهر؛ وذلك بشكل فجائي، تليها خطوات جريئة بدون روية أو استطلاع أو تجريب أو استشارة مدرسي المواد والموجهين لهم أو المؤلفين أو الطلاب أو أولياء الأمور أو غيرهم.
ثالثاً: العزوف عن برامج التطوير الحقيقية والمأمونة والتي تنبع من حاجات الأمة وتقاليدها.
نفصل في الأمر الأول، وهو سعي التطوير إلى طمس عقيدة الأمة خلسة ومن خلف ظهر الجميع.
قام التطوير بإدخال موضوعات تغريبية مع حذف عبارات وموضوعات إسلامية، بل وحذف كتب إسلامية بكاملها، كالتاريخ الإسلامي في المرحلة الابتدائية.
وهذا بدون علم المؤلفين، أو مشورة المتخصصين، أو استطلاع رأي المعلمين أو غيرهم، فمن يا ترى هو الفاعل؟! رئيس لجنة التعليم بمجلس الشعب المدعو صوفي أبو طالب بعد أن ترك منصبه صرح لبعض الجرائد: أنه لم يشترك في وضع كتب التاريخ المقررة على تلاميذ المرحلة الإعدادية أو الثانوية، ربما أراد أن يبرأ نفسه من هذه الجريمة، وقال: إن وزارة التعليم كتبت اسمه في هذه الكتب بدعوى أنه شارك في وضعها، وأكد أنه سيلجأ إلى القضاء لتبرئته مما نسب إليه، وأشار بأن مناهج التاريخ شوهت التاريخ الإسلامي وزيفته، حيث وصفت بعض الصحابة بأنهم مشيعو الفتنة رغم أنهم من المبشرين بالجنة، وطالب بضرورة إعادة كتاب التاريخ الإسلامي، وتنقية المناهج المقررة من الأخطاء التي تشوه عقول الطلاب في المرحلتين الإعدادية والثانوية.
فيتبرأ صوفي أبو طالب من التحريف الذي أدخل على الكتب الدراسية التي شارك هو في تأليفها، كما أعلن بأن حذف موضوع: دور العرب والمسلمين في الحضارة الأوروبية -يعني: تأثير الحضارة الإسلامية على النهضة الغربية- تم بدون علمه رغم أنه مشارك في تأليفه!!(24/3)
نماذج من المؤامرة على التعليم بحذف ما يخدم الدين
الأزهر ألغى مواد التفسير والحديث، وألغت وزارة التربية الآيات القرآنية التي تحث على الجهاد، وتوجب الحكم بما أنزل الله، وحذفت كثيراً من موضوعات كتب القراءة والتربية الإسلامية، ووضعت مكانها موضوعات تشجع على التعامل مع البنوك الربوية، وتروج لفكرة تنظيم النسل وغير ذلك كما سنبين إن شاء الله.
ألغيت قصة عمرو بن العاص رضي الله عنه في الصف الثالث الإعدادي واستبدلت بـ غادة رشيد.
أيضاً قررت حياة طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد مكان عبقرية عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي ذر الغفاري.
بالنسبة للتربية الإسلامية في الجامعة: أقر فيها قصة (دانويل) والأمثلة كثيرة جداً، فتاريخ مصر الإسلامية ألغي ووضع مكانه تاريخ وطني مصر، فيخاطب التلاميذ ويقول لهم: آباؤك الفراعنة أجدادك الفراعنة وهكذا.
أيضاً في المرحلة الإعدادية ألغيت معالم التاريخ الإسلامي ووضع مكانه مصر والوطن العربي.
وفي المرحلة الثانوية ألغي تاريخ الدول الإسلامية إلى التاريخ الإسلامي والوسيط، والمقصود بالوسيط: دراسة تاريخ أوروبا في العصور الوسطى.
وهكذا ألغي تاريخ صلاح الدين.
فكل ما يربط الطالب بدينه حذف، وقرر بدله موضوعات عن الرقص والغناء والقمار وقيم الحياة الغربية.
أيضاً مادة الفلسفة كان فيها تعليق إسلامي على ما في الفلسفة من شطط، فألغي هذا التعليق، وتركت الفلسفة هكذا تخرب عقيدة النشء.
وهكذا أشياء كثيرة لا نطيل بذكرها.
ويعلل المنشور الذي جاء فيه ذكر أسباب تطوير التعليم بقوله: إن دراسة هذه الموضوعات تثير قطاعاً عاماً في المجتمع.
يشير إلى هؤلاء الذين يستعملون من أجل التنازل عن عقيدة الأمة وهويتها الإسلامية.
ألغي اسم فلسطين من جميع الخرائط الجغرافية والتاريخية! وألغيت كتب التفسير والحديث من الأزهر لإخلاء الأمة معنوياً قبل تصفيتها جسدياً، كما تم مضاعفة المقررات الدراسية في التعليم العام والأزهر؛ وذلك لأجل تضخيم الجانب النظري على الجانب التطبيقي، بحيث الزيادة تصل إلى نسبة (100%) يقول: والعجيب والمدهش حقاً أن مديري المناطق الأزهرية عندما أثاروا هذه القضية في مؤتمرهم مع شيخ الأزهر يوم: 27/ ربيع الثاني/ 1410هـ قيل لهم: هذه المسألة غير قابلة للمناقشة! حتى قضية إلغاء مادتي الحديث والتفسير من الأزهر! فلابد من القطع بأن هذا التطوير أمر مريب جداً، وقد ذكر المؤلفان بعض الأمثلة مما فعله التطوير في التعليم العام والأزهر، ومما قالا: تم رفع آيات قرآنية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبار الرسل والأنبياء، والأناشيد الإسلامية، وأخبار الصحابة والتابعين من كتب القراءة المقررة على الصفوف الخمسة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي بوزارة التربية والأزهر، وكل ذلك بحجة التيسير على التلاميذ في حين أن ما تم حذفه لا يتفق مع تلك الحجة، فمثلاً: كتاب القراءة للصف الأول للتعليم العام والأزهري حُذف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) بحجة التيسير على الطلاب؛ لأن هذا الحديث صعب! وكأنه كتب باللغة الهيلوغرافية التي لا يعرفها الأطفال ولا المدرسون، ولكنهم خافوا من هذه الفائدة العظيمة التي تشوق الأطفال إلى تعلم كتاب الله عز وجل، وتحببهم في كلام الله، وتدفعهم إلى الانتظام في مصاف الأخيار: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
فأي صعوبة في هذا الحديث؟! وإذا سلمنا جدلاً بأن هذا الحديث صعب بالنسبة لهذه المرحلة فلماذا لا يقرر على مرحلة أعلى منها؟! لكنه حذف نهائياً.
كتاب القراءة للصف الثاني في التعليم العام والأزهري الابتدائي فيه موضوع بعنوان: (أهلاً وسهلاً)، حذفت منه عبارة (السلام عليكم)، وكان في الأصل: (إذا مررت بجماعة أقول لهم: السلام عليكم) فحل محلها: (إذا مررت بجماعة ألقي عليهم التحية)! لماذا هذا الحذف؟! أليس (السلام عليكم) تحية الإسلام التي ألقتها الملائكة على آدم عليه السلام، وقال له رب العالمين: هذه تحيتك وتحية ذريتك: (السلام عليك ورحمة الله)؟! كيف تم لهذه الثلة الذليلة القليلة أن تلغي هذه الشعيرة الإسلامية الظاهرة حتى لا يعلم أطفالنا آداب إسلامهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟! أيضاً: موضوع الأصدقاء السعداء في الصف الثاني الابتدائي عام وأزهري، كان فيه: (الخصام لا يحبه الله ولا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، حذفت منه عبارة: (لا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكأنه صعب على التلاميذ أن يعلموا أن الخصام لا يحبه رسول الله عليه الصلاة والسلام! كان الأولى بدل أن تحذف (ولا يحبه رسول الله) أن يضاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث).
يوجد موضوع في الصف الثالث الابتدائي العام والأزهري يسمى: (النظافة من الإيمان)، حذفت منه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: (النظافة من الإيمان)، وحديث: (وتسوكوا فإن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)، وحديث: (بركة الطعام الوضوء قبله وبعده)، والحديث الأول لا يصح، والثالث ضعيف، ولكن بغض النظر عن هذا، فلماذا حذفت وهي تحث على آداب ما أحوجنا وأحوج أبنائنا إلى التحلي بها؟! موضوع: طبيب الأسنان، حذفت منه عبارة: (سوف ألتزم بنصائح معلمنا في استعمال السواك مع كل صلاة)، كان يتعلم منها الأطفال هذا الأدب، لكن حذفت لأن فيها الصلاة وفيها السواك! أيضاً موضوع: الشمس، حذفت العبارة التي تذكر بأوقات الصلاة، وكأن الصلاة عورة ينبغي لهم أن يخفوها ولا يظهروها!! موضوع: العطور، حذفت منه الفقرة التالية: (وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتطيب حين نذهب إلى المسجد للصلاة؛ لأن ذلك يجعل رائحة المسجد طيبة؛ ولهذا فإن معظم المصلين يوم الجمعة يتطيبون بالروائح العطرة أسوة بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ حذفت هذه الفقرة لأنها صعبة على عقول التلاميذ!! موضوع في الصف الرابع من بالتعليم الابتدائي والأزهري يسمى: شجاعة مصرية، يتكلم عن حرب العاشر من رمضان مع اليهود، حذفت منه العبارة الآتية من التدريبات: (احتلال العدو المحتل وهم اليهود للأراضي المصرية لا أرضى به إلى آخره)، حذفت هذه العبارة لأنها تشير إلى أن اليهود أعداء.
أيضاً موضوع: وطني العربي، حذفت منه عبارة: (ويرتبط العرب بالتاريخ واللغة والدين)؛ لأنها صعبة على عقول التلاميذ، فهم لا يريدون أن يعلم التلاميذ أن هناك رابطة اسمها رابطة الدين.
الأناشيد المحذوفة كثيرة، حذف نشيد: (الله ربي) في الصف الثاني من التعليم الابتدائي العام والأزهري، وهو: إن سألتم عن إلهي فهو رحمن رحيم أو سألتم عن نبيي فهو إنسان عظيم أو سألتم عن كتابي فهو قرآن كريم أو سألتم عن عدوي فهو شيطان رجيم حذفت هذه الأنشودة لأنها صعبة على عقول التلاميذ! أيضاً حذف نشيد دعاء: يا إلهي يا إلهي! يا مجيب الدعوات اجعل اليوم سعيداً وكثير البركات وأعني في دروسي وأداء الواجبات واحمني واحم بلادي من شرور الحادثات حذف هذا أيضاً! أيضاً: حذف نشيد: الصلاة في الصف الثالث من التعليم الابتدائي؛ لأنه يبدو لهم وكأنه كتب باللغة اللاتينية أو الهيلوغرافية وما يستطيع التلاميذ أن يفهموه، وهذا النشيد هو: بني توضأ وقم للصلاة وصل لربك تكسب رضاه إذا رضي الله عن مسلم نال السعادة طول الحياة بني توضأ وقم للفلاح ففي طاعة الله سر النجاح بني توضأ بماء طهور فماء الوضوء لوجهك نور إذا رضي الله عن مسلم أتاه الهناء ونال السرور فحذف هذا؛ لأنه صعب على عقول التلاميذ!! وحذف أيضاً نشيد: (رباه) وهو مليء وحافل بالمعاني الجميلة، وكذلك حذف من نشيد (الفتاة المصرية)، هذه الأبيات وهو في الصف الرابع من التعليم العام: يا فتاة ارفعي العلم وانشريه على الأمم وأعدي له فتى يجمع السيف والقلم هيئيه لعالم من كفاح ومن همم واطبعيه شجاعة واطمعيه من الكرم بنت مصر لا ترى في الجهالات والظلم حذف هذا حتى لا يكون للمرأة أو الفتاة أو البنت رسالة موضوعية هادفة تهدف إلى تنشئة الجيل المسلم.
أيضاً: حذف نشيد التسبيحة، وهو كلمات فيها ذكر لله عز وجل للشاعر محمود حسن إسماعيل، يقول فيه: لك الملك والحمد أنت النصير وأنت الأمان لمن يستجير وأنت لمن قال يا رب نور ترد السكينة للحائرين وتسكب للروح نور اليقين وتمحو الأسى من ظلام الصدور إلهي وما لي دعاءٌ سواك ولا لي مع الليل إلا ضياك ولا عون للروح إلا لمداك إذا رفرفت كنت سر الدعاء إلى آخره، حذف هذا النشيد لأنه صعب على عقول التلاميذ! الموضوعات الإسلامية والتربوية الأخرى حذفت بكاملها من التعليم العام والأزهري، وهي تحوي نصوصاً قرآنية وأحاديث نبوية، وموضوعات تربوية إسلامية، كلها مما يحض على فعل الخير، وترهب الطلاب من فعل الشر مثل موضوع في الصف الثاني الابتدائي بعنوان: (البطل الصغير) يحث على الجهاد دفاعاً عن الإسلام، ومن عباراته قول قائد الجيش: (إن جيشاً فيه مثل هذا الغلام لا يمكن أن يهزم، ولابد أن ينتصر بإذن الله)، فحذف هذا الموضوع؛ لأنه صعب على عقول التلاميذ! حذف موضوع: (فاعل خير) يحض الطلاب على إماطة الأذى عن الطريق.
موضوع: (الولد الشجاع)، يحكي قصة عبد الله بن الزبير، وكيف فر أقرانه من الصبية حينما قدم عمر فصمد هو، وسأله عمر: لماذا لم تفر مثلهم؟ فقال: ليس الطريق ضيقاً فأوسع لك.
وهو كنموذج لشجاعة عبد الله بن الزبير، فحذف هذا.
موضوعات كثيرة في الصف الثالث الابتدائي حذفت، منها موضوع: (الكعبة المشرفة)، وهو موضوع يعرف الطلاب ببيت الله العتيق، وقبلتهم التي يتوجهون إليها في الصلاة، ويطوفون حولها في الحج والعمرة، حذف من المنهج؛ لأنه صعب على عقول الطلاب!! وحذف موضوع: (العفو عند(24/4)
نماذج من المؤامرة على التعليم بإدخال ما يطعن في الدين
أما الموضوعات التي أضيفت فمنها: للصف الخامس الابتدائي موضوع: (التاجر والعفريت) مقتبس من قصص، (ألف ليلة وليلة)، ومعروف أن هذه الروايات تهدف إلى إفساد الشاب، وحضه على التحلل والمجون والفساد والاختلاط والاستغراق في الغناء وغير ذلك.
وحرص مؤلف هذا الموضوع على تدعيم ارتباط الطلاب بهذه القصص عن طريق تكليفهم في نهاية الموضوع بقراءة كتاب: (ألف ليلة وليلة) من مكتبة المدرسة، وتلخيص مضمونه، وإذاعتها إلى غيرهم من التلاميذ! موضوع بعنوان: (نجيب محفوظ -لا حفظه الله- وجائزة نوبل) للصف الأول الإعدادي، لا يحتوي إلا على دعاية لعدو الله نجيب محفوظ وقصصه المنافية للإسلام وعقائده، ومن الخبث أنها جاءت أسئلة عن الموضوع تدعم هذا الاتجاه، يقول السؤال للتلميذ: اكتب قائمة بقصص نجيب محفوظ وعلقها على مكتبتك، ومنها: (أولاد حارتنا)، فهذه تثبت بدل قصة عمر بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل وعلي بن أبي طالب وغيرهم من الشرفاء العظماء.
أيضاً: حتى يشجع الولد أن يجلس ويخالط النساء، يذكر نجيب محفوظ أنه كان يجلس مع والدته ويستمع إلى الحكايات التي تروى في مجالس النساء، فيأتي السؤال للتلميذ ليكمل الفراغ: تأثر نجيب محفوظ بالحكايات التي كانت تروى في مجالس؛ ليكتب التلميذ في الفراغ كلمة (النساء)؛ ليلفت نظره إلى الاستقراب من هذا النبع!! أضيف موضوع لـ نجيب محفوظ مقرر على ثالث إعدادي بعنوان: (أنا ابن حضارتين، يذكر فيه أن أخناتون كان نبياً، وأنه أول من هدى المصريين إلى الله تعالى، وأنه اخترع عقيدة التوحيد، وأنه وحد بعزمه جميع الآلهة في إله واحد هو: (آتون) أي: الشمس.
ونسي إبراهيم عليه السلام ويوسف حينما كانا في مصر من قبل.
قصة لـ نجيب محفوظ في الصف الأول الإعدادي بعنوان: (العجوز والأرض) يكرر فيها الدعاية لـ نجيب محفوظ فتقرر روايات وأفكار هذا الخبيث نجيب محفوظ، وتحذف مواقف عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين وغيرهم.
قصيدة لـ نزار قباني بعنوان: (عند الجدار) وهذه أخيراً بضغط الشرفاء من المسلمين استطاعوا أن يحذفوها، لكن أين هذه من هذا الركام الهائل من هذه المؤامرة الخطيرة؟! وهي عبارة عن قصة غرام يبن طفل وطفلة، ويحكي كيف أن الطفل وقع في محبة هذه الطفلة، ويحكي هذا الماجن القذر نزار قباني ما يستحي الإنسان أن يتلفظ به.
فيذكر أول نظرة بينه وبين هذه الطفلة أن هذا الطفل الصغير يقول: ليلتها عدت إلى فراشي، فطار قلبي، واستحال نومي، واحترقت مخدتي بناري، وأقبلت على الدموع أمي تقول: يا شقي! كيف تغشى زاوية الجدار دون علمي؟! وهذه قصة لمن هم في بداية البلوغ، تخيل كيف يشرب الأطفال مثل هذه المفاهيم؟! أما الشارح الخبيث فيشرح هذه الأبيات ويقول: وفي المساء حين ينتهي اللقاء ويدخل الطفل في فراشه يعتصره الألم لفراقها، وتسيل من عينيه دموع الحب البريء حرة غزيرة تكاد تحرق مخدته، وحين أبصرت أمه هذه الدموع أشفقت عليه وتألمت لحاله، فقد أحست أن نيران الحب قد أدركته.
هذا ما يتعلمه الأطفال في أول إعدادي، فهذا هو التطوير، تطوير فتح الشرور للتعليم، هذه سهلة على عقول الأولاد! سهل أن تدركها وتكتسبها العقول وتحشى في عقول أبناء المسلمين! أيضاً: قصيدة أضيفت للمنهج في الصف الأول إعدادي للدكتور أحمد هيكل يمدح فيها طه حسين أعمى البصر والبصيرة، وهي قصيدة طويلة يقول له: أنت أدركت كل سر خفي بذكاء الإلهام قبل العيان وكأنه إله! فهذه هي البدائل! فبدل عمر بن الخطاب وصلاح الدين وعبد الله بن الزبير وعلي بن أبي طالب نأتي بـ نجيب محفوظ ونزار قباني وطه حسين وغيرهم! أيضاً: موضوع (شم النسيم) أضيف وسمي: (عيد شم النسيم).
موضوع: (تحية إلى الأزهر) لـ أحمد شوقي في الصف الأول الإعدادي يقول في هذا الشعر: قم في فم الدنيا وحي الأزهر وانثر على سمع الزمان الجوهر واذكره بعد المسجدين معظماً لمساجد الله الثلاثة مكبرا هو يتكلم عن الأزهر ويقول: واذكره بعد المسجدين معظماً لمساجد الله الثلاثة مكبرا وفي الشرح يقول الشارح: إن المسجدين هما: المسجد الحرام والمسجد النبوي، أما ثالث المساجد فهو الأزهر، وفي الحديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام والأزهر!! مسجد الأزهر بني في عهد الدولة الفاطمية الشيعية، وهذا يقول: إن المسجدين هما: المسجد الحرام والمسجد النبوي، أما الثالث فهو الأزهر! فأين المسجد الأقصى إذاً؟! يقول المؤلفان في نهاية هذا العرض الموجز: فيا أمتنا! ويا شبابنا! ويا أيها المسئولون الذين حملتكم الأمة مسئولية تربية الأجيال وفق شريعة الله! هل هذا هو التطوير الحديث؟ إغفال الآيات من كتاب الله، والأحاديث النبوية، وجوانب من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم، يغتال كل ما يحض على الالتزام الديني والخلقي، ويضع بدلاً منها موضوعات أخرى مثل موضوع: (نجيب محفوظ وجائزة نوبل)، وقصة (العفريت) من (ألف ليلة وليلة)، وقصيدة نزار قباني، وشباب الأمة اليوم يعانون من أزمات نفسية قاتلة دفعتهم إلى فساد خلقي ذميم بدت صوره في شيوع المخدرات.
الشيء الوحيد الذي غلبنا فيه العالم كله ما عدا أمريكا هو المخدرات، فمصر ثاني دولة في العالم في شيوع المخدرات!! قالا: بدت صوره في شيوع المخدرات، وتفشي المجون، والعدوان على الحرمات، والاستهانة بالقيم، وفقدان الإحساس بالمسئولية، إذا كان ذلك كذلك فما هي مناهج التعليم التي تعالج هذه الأحوال عند الشباب؟! هذا هو التطوير!(24/5)
أمثلة على حذف مواضيع دينية من المنهج
المنهاج الجديد حذفوا (22) موضوعاً من الموضوعات الإسلامية الضرورية، وأتوا بديلاً منها خمسة موضوعات، فيكون الباقي 17 موضوعاً، وليست قضية حشو، وإنما المقصود منها: التخطيط ضد الإسلام، واغتيال عقلية الأولاد المسلمين.
فهذه الإحصائية بالنسبة للصف الثالث الابتدائي، أما بالنسبة للصف الثاني الابتدائي فقد استبعد ثمانية موضوعات إسلامية ليست حشواً، ولكنها ذات أهمية قصوى للناشئة، فالتطوير متحيز ضد المواضيع الإسلامية.
في بعض الكتب حذفت عبارة: (الإسلام وحسن الخلق) وتغيرت إلى (الأمانة من حسن الخلق)، وكلمة: (أنا مسلم) تحولت إلى: (أنا متدين)، هل هذا تطوير؟! حذفت آيات القرآن كلها بلا استثناء، حذفت أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقوق الوالدين، والإنفاق في سبيل الله.
موضوع: (الفلاح الأمين) حذف منه الخبيث الذي كان ينقش بالملقاط في هذه المناهج عبارة: (خرج من الماء وهو يحمد الله ويشكر فضله عليه)، لماذا حذفت هذه العبارة؟! فلاح خرج من الماء وهو يشكر الله ويحمده، ما فيها حتى تحذف؟! فيها ذكر الله {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر:45].
أيضاً: في موضوع: (بور سعيد) بدل عبارة: (المعتدون من الإنجليز والفرنسيين واليهود) صارت: (المعتدون من الإنجليز والفرنسيين والإسرائيليين) بدل كلمة (اليهود)؛ لأن هذه فيها رائحة الدين.
أيضاً: حذف التدريب الذي يكلف التلميذ بكتابة الحديث الشريف بخط النسخ وتعليقه في جدار الفصل.
أيضاً بالنسبة للتعليم الأزهري حذف -تحت اسم التطوير في التعليم الأزهري- التاريخ الإسلامي كلية من التعليم الإسلامي بنسبة (100%)، ألغي تماماً تعليم التاريخ الإسلامي بالأزهر، وأصبح يدرس بدلاً منه تاريخ الفراعنة بدل التاريخ الإسلامي، حتى في الأزهر!! كما ألغي التاريخ الإسلامي من التعليم الإعدادي بنسبة: (75%)، وأصبح يدرس بدلاً منه تاريخ الوثنيات القديمة للوطن العربي، وهم لا يقولون: الوثنيات.
أما التعليم الثانوي فقد حذف قدر كبير من كتاب التاريخ الإسلامي بعد أن أدمج فيه التاريخ الوسيط لأوروبا، حتى أن شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه صارت تدرس في سبعة أسطر فقط، وعثمان بن عفان في خمسة أسطر، حتى هذه الأسطر القليلة قد زيفت وحرفت وشوهت أشد ما يكون التحريف والتشويه.
وبالنسبة للتعليم الابتدائي الأزهري في مادة التاريخ الإسلامي، ألغت وزارة التعليم والأزهر كتاب: (صور من تاريخ مصر الإسلامية) للصف الخامس الابتدائي، ويشتمل على التاريخ الإسلامي من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصر المماليك، وقرر بدلاً منه تاريخ الفراعنة واسمه: (وطني مصر) للصف الرابع الابتدائي، ويعاد تدريسه أيضاً في الفصل الأول الثانوي، واستبدل الغلاف الذي كان يحمل كلمة: (الله أكبر) ومعه صورة القرآن الكريم، استبدل بهذه الصورة: وطني مصر، عليها صورة الفراعنة!! هل يمكن أن يكون الذي عمل هذه الجرائم مسلم أو شم رائحة الإسلام؟! ألغي من التعليم الإعدادي العام والأزهري كتاب: (معالم التاريخ الإسلامي) للصف الثاني الإعدادي، وهو يشتمل على التاريخ الإسلامي من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصر المماليك، وقرروا بدلاً منه: (مصر والوطن العربي)، ويشتمل على الوثنيات القديمة التي سماها المؤلفون بالحضارات، وهي وثنيات ليست إلا قليلاً من الحجارة، وعرضوها في الفصل السابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر، أي: خمسة فصول، أما التاريخ الإسلامي فعرض بشكل موجز ومخل في الفصل الثاني عشر والثالث عشر فقط، علماً بأن تاريخ الحضارات القديمة يدرس أيضاً للصف الأول الثانوي، والذي يطلع على الفهرس يدرك أن المؤلفين قد تجاهلوا ذكر اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما تجاهلوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم حتى في عنوان الدرس الخاص به!! أما المدارس الثانوية العامة والأزهرية فقد ألغي كتاب التاريخ الإسلامي للدول الإسلامية والعربية وحضارتها للصف الثاني الثانوي، وقرروا بدلاً منه كتاب: معالم التاريخ الإسلامي والوسيط يعني: تاريخ أوروبا في القرون الوسطى بعد أن اختصر التاريخ الإسلامي اختصاراً مخلاً.(24/6)
تحسين صورة اليهود في المناهج
أيضاً هناك بعض اللقطات تبين تشويه وتحريف وتزوير التاريخ الإسلامي، حذف اسم (فلسطين) من جميع الخرائط الجغرافية والتاريخية، مثل خريطة سيناء في كتاب (وطني مصر).
أغفل ذكر جميع أنبياء العرب: هود وصالح وإسماعيل وشعيب؛ وذلك جرياً على سياسة المستشرقين المعادين لكل ما هو عربي وإسلامي، فأي نبي عربي يلغى اسمه، لكن يبقى أنبياء بني إسرائيل، ونحن بحمد الله سبحانه وتعالى -عافانا الله من التعصب للعروبة وهذه الأشياء، لكن أقصد كشف هوية الذي خطط لهذا المنهج، وعرض تاريخ بعض الأنبياء في خمس صفحات، في حين عرض التاريخ الوثني القديم في خمسة وثلاثين صفحة في الصف الأول الإعدادي، وكأن وزارة التربية والتعليم تريد أن تجعل مساحة التاريخ الوثني في ذهن أبنائنا سبعة أضعاف تاريخ الرسل والأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام! وفيه أيضاً الطعن في أنبياء الله مثل قوله عن نبي الله سليمان بأنه كان مسرفاً، وهذا موجود في الصف الأول الثانوي.
وكذا الادعاء بأن أخناتون هو أول من نادى بالتوحيد.
أيضاً: الزعم بأن أول دين توحيدي هو الديانة اليهودية، لا يقولون: دين الإسلام أرسل به جميع الأنبياء، لكن يقولون: الدين اليهودي هو أول ديانة توحيدية ظهرت في هذه المنطقة.
فأين رسالة نوح عليه السلام ومن جاء بعده من الأنبياء والرسل، وهل اليهودية رسالة توحيدية، والله عز وجل يقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، وقال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64].
أيضاً: مذكور في كتب التاريخ أن مكة كانت مركزاً للوثنية الأولى، في حين أن مكة كانت المركز الإسلامي الأول ففيها البيت الأول الذي بناه إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96]، والله عز وجل أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا هذا البيت بإذن الله، فهي مركز التوحيد في العالم كله، وأول مكان بني ليعبد فيه الله، فأول بيت اتخذ لعبادة الله وحده لا شريك له هو هذا البيت العتيق البيت الحرام، فكيف تكون مكة مركز الوثنيات وهي البؤرة التي شع منها التوحيد على أرجاء الأرض؟! عرض كتاب التاريخ الوصايا العشر لليهود على أنها نصوص حضارية، فهل اليهود قتلة الأنبياء هم المدافعون حقاً عن الله تعالى كما يذكر هذا الكتاب؟ وهل الله يحتاج إلى من يدافع عنه؟ وكيف يورد المؤلف نصوصاً من التوراة المحرفة في صفحتين في حين لم يورد من القرآن الكريم نصاً واحداً؟! فالتوراة أعز على المؤلف من القرآن الكريم!! إذاً: من هذه الأصابع الخفية التي هي وراء هذه المؤامرة الخطيرة جداً على مستقبل الأجيال القادمة، وهذا كله حتى يرضى عنا اليهود، وما أدري أين علماء الأزهر! كيف يدرسون الشباب صفحتين من التوراة المزورة ويلغى نص القرآن الكريم تماماً! الله المستعان.(24/7)
تفريغ السيرة النبوية من مضمونها التربوي في المناهج المطورة
تم تفريغ سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من مضمونها التربوي، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم محمد كما يعرفها كتاب (مصر والوطن العربي): مناسبة سيرة الرسول لإقامة الزينات، وتوزيع الحلوى، وتعطيل المدارس والشركات والمصالح الحكومية! هذه هي سيرة الرسول، وذكرى الرسول، وأنا أنقل نص العبارات التي في الكتاب صفحة: (87 - 88 - 165) قال: مناسبة لإقامة الزينات، وتوزيع الحلوى، وتعطيل المدارس والشركات والمصالح الحكومية!! ولا يذكرون السيرة كمنهج تربوي وكتاريخ يعكس سيرة خير من وطئ الحصا عليه الصلاة والسلام عملاً بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
ذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عقيدة وعبادة وشريعة وجهاداً ومعاملات وفروض لا وجود لها في هذا الكتاب.
أيضاً: الخبثاء تجاهلوا ذكر اسم النبي عليه الصلاة والسلام تماماً في الكتاب، أخزاهم الله! يقول: تجاهل مؤلف الكتاب اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم في فهرس الكتاب صفحة: (240)، بل وفي عنوان الدرس أيضاً!! أيضاً: -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يزعمون في هذه الكتب التي يدرسها أولادنا أن المدينة المنورة مدينة يهودية، وماذا يريد اليهود أكثر من هذا؟! أورد كتاب مصر والوطن العربي خريطة مكتوب عليها: يثرب مدينة يهودية، وهذا أمر خطير في كتاب يصدر في مصر من وزارة التعليم، وتربي أبناء الأمة على التسليم لليهود بأن لهم حقاً مزعوماً في المدينة المنورة! هذا الكتاب لعله صدر من إسرائيل، ولعل وزارة التربية والتعليم في إسرائيل أخطأت فصارت توزع الكتاب على الطلبة عندنا؛ لأن اليهود لا يحلمون بأكثر من هذا.
أيضاً: من هذه الظواهر تفسير غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم تفسيراً مادياً ماركسياً، فعند أسباب غزوة بدر يقول مؤلف كتاب (مصر والوطن العربي): خرج بعض المسلمين لاعتراض قافلة أبي سفيان انتقاماً لأنفسهم.
ويتجاهل السبب الأصلي الذي ذكره القرآن الكريم في قوله عز وجل: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، ما هو الهدف من الخروج؟ هو قوله عز وجل: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:7 - 8].
هل نصدق تفسير التاريخ أم رب العالمين؟! أيضاً يصور كتاب التاريخ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه معتد على اليهود، لا سيما يهود خيبر، فيبين قصة إجلاء الرسول عليه السلام ليهود خيبر دون أن يذكر السبب الذي أدى إلى إجلائهم، وهو خيانتهم للرسول عليه الصلاة والسلام، فكان الواجب على من كتب هذه الصفحات أن يذكر الأسباب التي دعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال اليهود، وهي أنهم نقضوا العهود والمواثيق، وتآمروا على المسلمين وعلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وتجاهل المؤلف أن اليهود قد كشفوا عورة امرأة مسلمة رغماً عنها في سوق بني قينقاع، هذا إذا صح الحديث، وقتلوا أحد المسلمين.
تجاهل المؤلف أن اليهود حاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في بني النضير، وأنهم دسوا له السم ولأصحابه في خيبر، ومات بعض من أكل من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ألبوا القبائل العربية لمهاجمة الدولة الإسلامية للقضاء على دين الله تبارك وتعالى الذي رضيه لهم: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
تجاهل كل هذه الأسباب التي أدت إلى إجلائهم وطردهم من خيبر.
وفي الكتاب التطاول وسوء الأدب مع الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم لاسيما في موضوع الفتنة.
وهذا الكلام ليس بجديد؛ لأننا كلنا تقريباً حفظناه في هذه المناهج الخبيثة منذ الصغر، مثل الكلام على مكانة ابن عمر ومعاوية وعائشة رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وتزوير حقائق التاريخ.(24/8)
تشويه تاريخ المسلمين وتمجيد تاريخ الوثنيين في المناهج المطورة
أيضاً: حينما حللوا نصر المسلمين في معركة من معارك القادسية على الفرس لا يقولون مثلاً: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، لكنهم يقولون: إن السبب هو أن المعركة كانت في الصحراء، والعرب كان لهم خبرة في القتال في الصحراء فقط، فهذا هو سبب النصر، وليس النصر في قوة العقيدة، ولا في المدد الإلهي من عند الله تبارك وتعالى!! أيضاً: في صفحة: (206) من كتاب التاريخ يقوم الفتوحات تقويماً ماركسياً مادياً، فالسبب وراء الفتوحات الإسلامية ليس نشر عقيدة التوحيد في ربوع العالمين، بل السبب هو: البحث عن الثروة والأرض والموقع، فهذه هي أسباب خروج المسلمين وتضحيتهم بأموالهم ودمائهم في سبيل الله، انتشروا في الأرض حتى يبحثوا عن الثروة والأرض والموقع، لا لكي تكون كلمة الله هي العليا، ولا لكي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، هذا لا وجود له على الإطلاق في كتاب: مصر والوطن العربي.
أيضاً: الكتاب دائماً يستعمل عبارة انتصار العرب العرب العرب، ولا يذكر كلمة المسلمين.
أيضاً: تشويه الخلافة الإسلامية، والتشكيك فيها وفي قادتها، كالقول: بأن نظام الحكم قبل الإسلام عند عرب الجاهلية أفضل من نظام الحكم عند الأمويين؛ لأن النظام الجاهلي كان يعتمد على الشورى، فانظر كيف يقترب إلى الطعن في الخلفاء المسلمين من هذا المسلك! أيضاً: يستعرض المؤلف حياة المجون والخلاعة عند الوثنيين القدماء المصريين، وكأنه يزينها ويدعو لها، فيصف الرقص وصناعة التماثيل بأنها فن رفيع ومحترم، كما عرض المؤلف لصنوف الرقص والخلاعة، وأغاني الحب والغزل، وألعاب الحرب وحياة الخمر والشراب الذي يقدمه الغلمان والفتيات على نغمات الموسيقى، ومشاهدة الراقصات أو الرقصات التي كان المؤلف يقول: إن المصري القديم كان يشارك فيها بكل جوارحه سواء كان غنياً أو فقيراً، كما عرض أنواع اللباس والزينة، والتكحل، وطلاء الشفاه، والعطور، وشرب الجعة وغير ذلك، وأضاف بأن كثيراً من الرجال كانوا يلبسون الأساور والقلائد، ولم يكتف المؤلف بذلك، بل عرض من الصور ما يؤيد أقواله، ويزين تلك السلوكيات لدى الطلاب والطالبات.
أما الفلسفة فباختصار شديد أيضاً: نزعوا التعليقات التي يقولون عنها: شبه إسلامية.
على مواد الفلسفة، وأبقوا الفلسفة كما هي حتى تشكك وتخرب عقيدة الشباب! ألغيت أيضاً الدراسات إسلامية بالنسبة للقسم الأدبي.
كتاب التربية الوطنية للصف الثاني من التعليم الابتدائي العام والأزهري حذف منه موضوع: أثر الحضارة العربية الإسلامية في الحضارة الأوروبية، في حين بقي موضوع أثر الحضارة الأوروبية في المجتمع المصري الحديث! حذف هذا الموضوع: أثر الحضارة العربية الإسلامية في الحضارة الأوروبية الذي يعترف به مفكروا الغرب، ويقرون بأن الفضل يرجع إلى العرب فيما هم فيه من نهضة حين استلبوا مقومات هذه النهضة من الدولة الإسلامية في الأندلس وغيرها.
وهذا الكتاب يدرس تحت مادة الدعوة والمجتمع الإسلامي.
حذف من موضوع التآخي بين مصر والسودان عبارة: (إن العلاقة العضوية بين مصر والسودان هي وحدة العقيدة والتاريخ) فحذفت عبارة: (وحدة العقيدة والتاريخ).
أيضاً: حذفت عبارة: (كان تاريخ الأمة العربية متشابهاً ومشتركاً منذ بداية انتشار الإسلام وحتى الحرب العالمية الثانية)، حذفت هذه العبارة؛ لأن فيها تذكيراً بالخلافة العثمانية الضائعة.
حذف من صفحة (100) صورة الكعبة المشرفة، وتحتها عبارة: (الإسلام هو الذي يمثل القوة الروحية بالنسبة للقومية العربية)، وحذفت أيضاً هذه العبارة، وكأن العرب لهم قيمة بدون الإسلام! حذفت أيضاً عبارة: (إن قيام الخلافة الأموية بالأندلس، والخلافة الفاطمية بمصر بجوار الخلافة العباسية أدى إلى انهيار الخلافة الإسلامية، وتفتيت العالم الإسلامي، وتحويله إلى دويلات صغيرة) حذف كل هذا حتى لا يعرف الطلاب شيئاً اسمه الخلافة.
حذفت عبارة: (قامت الدول الأوروبية والأمريكية بزرع جسم غريب داخل الوطن العربي وهو إسرائيل).
شيخ الأزهر يدرس هذه المادة تحت عنوان: (الدعوة والمجتمع الإسلامي)، كان يوجد فيها عبارة: (من الأعمال المحرمة: الرقص في الموالد وخروج النساء خلف الجنائز) فحذفت عبارة: (المحرمة) وبقيت: (الرقص في الموالد وخروج النساء خلف الجنائز).
أما منهج اللغات الأجنبية فالكلام الذي فيها لا أستطيع أن أقرأه؛ لأنه كلام خارج عن الشرع والآداب إلى أبعد الحدود، فما أستطيع أن أنقل العبارات الموجودة في الكتب التي تدرس على البنات والصبيان في مراحل التعليم المختلفة.(24/9)
إفساد العقائد والأخلاق بالقصص الباطلة في المناهج المطورة
أيضاً: في مناهج التعليم العام قصة غادة رشيد التي جعلوها بدل قصة عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهي قصة تاريخية مطعمة بقصص الحب والغرام، للصف الثالث الإعدادي، وباختصار شديد القصة تدور أحداثها في أيام الغزو الفرنسي لمصر، وكيف أن هذه البنت أحبها القائد الفرنسي إلى آخر هذا الكلام، والقصة محشوة بالإلحاد في صفات الله، وفي القدر، وفي العقيدة، ففيها مثلاً: (سمعت قهقهة القدر وهي تجلجل في شماتة وسخرية)، وتقول أيضاً: (لا يا زوجي الباسل إن شيئاً في الأرض أو في السماء لن يحول بيني وبينك)، وفيها شخص يتحدث عن أهمية اللهو والمرح؛ لأنه يريح النفس من عناء العمل، فيرد عليه شخص آخر ويقول له: وأين هنا السبيل إلى اللهو في مدينة نصفها مساجد، ونصفها في الرهبان والراهبات في الصوامع! وهذا تنفير للنشء من المساجد وعبادة الله تبارك وتعالى، وادعاء أن الدين يحرمهم من الترويح عن النفس.
وفي القصة تشويه للمجاهد سليمان الحلبي، وأنه كان حائر العينين، رث الثياب، عصبي المزاج، يكثر من هز رأسه في حزن واضطراب إلى آخره، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أيضاً: فيه وصف الفتاة العصرية بوصف سيء جداً، وبذيء لا تصح حكايته.
أيضاً: قصة أحلام شهرزاد لـ طه حسين مقررة على الصف الأول الثانوي، وهي تحتوي على كثير من التعبيرات الخرافية التي تتنافى مع التوحيد، ولا أستطيع قراءة كل هذا الكلام القذر، ولكن من هذه العبارات يقول طه حسين: حتى إذا بلغها -يعني: هذه المحبوبة المعشوقة- جثا أمامها -يعني: ركع- غاضاً بصره إلى الأرض، رافعاً يديه إلى السماء كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال! كيف يتقرب مؤمن إلى التمثال؟! هل هذا هو الإيمان؟! هذا كلام عدو الله طه حسين: حتى إذا بلغها جثا أمامها، غاضاً بصره إلى الأرض، رافعاً يديه إلى السماء كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال، وهي تضع يدها على رأسه كأنها تبارك عليه! هكذا يريدون أن تكون تربية أولادنا.
كذلك في مناهج الإنجليزي كلام سيء لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة الترجمة؛ لأنه كلام يخدش الحياء جداً.
أيضاً: تشويه قصة خديجة بنت خويلد، والكلام عنها بطريقة سيئة جداً، فالكتاب يذم المرأة المتزوجة التي تحسن التبعل، وتقر في البيت، وتكون سكناً لزوجها، وتحسن تربية أولادها، ويصفها أنها مخلوق استبد به الرجال، وأرادوا له أن يكون ضعيفاً سجيناً في أيديهم، يأكل ويلد كما تأكل الحيوانات وتلد، ويجعل هذا هو الدور الذي يريده الإسلام من المرأة المسلمة، وهذا غير صحيح، فالإسلام يريد من المرأة أ، تربي لنا مثل صلاح الدين من جديد الذي حذفتم سيرته، وسيرة عمر بن عبد العزيز وعمر بن الخطاب، هذه هي وظيفة المرأة المسلمة.
ويعرضون في كتب اللغة الإنجليزية بالذات صورة المرأة المنحلة الغارقة في المحرمات والرقص والخمور من خلال فصول تدريس اللغة الإنجليزية، هذه هي المرأة التي يريدونها بدل المرأة التي تقر في البيت، وتحسن خدمة زوجها، وتربية أولادها.
أيضاً: كلام في منتهى سوء الأدب مع الرسول عليه الصلاة والسلام في قصة خديجة، وسأذكرها لكم، فحكاية الكفر ليست بكفر، يصف هذا القذر خديجة رضي الله عنها في عشرين جملة ذاكراً صفاتها الجسدية، يقول: فوقف وحياها -يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم -وحين رأت محمداً تذكرت ذلك الحلم، وأحست -أعوذ بالله- أنها أمام فتى داهية -أستغفر الله- تمالكت شعورها إلى آخر هذا الكفر، لا يوجد احترام لأم المؤمنين رضي الله عنها.
أيضاً: عبارة أخرى: جئت أهنئك بسلامة العودة، وتقول له: ألا تحس الوحشة يا محمد؟! إلى آخر هذا الكلام، يكذبون على رسول الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).(24/10)
تمجيد الفراعنة في المناهج المطورة
كان يدرس كتاب للصف الأول الثانوي من تأليف الدكتور عبد الله شحاته ألغي وتقرر بدلاً منه كتاب من تأليف الدكتور عبد المنعم النمر، ومن معالم هذا الكتاب إلغاء الآيات التي تتحدث عن فرعون وطغيانه.
كتاب التاريخ الجديد الذي هو كتاب: (وطني مصري) للصف الرابع الابتدائي يصف فرعون بأنه كان محبوباً عند الناس إلى درجة العبادة، وأن هذا الحب ممتد عبر التاريخ إلى يومنا هذا.
وحينما يتحدث عن مينا قال: حزن المصريون على مينا، وظلوا يعبدونه مئات السنين، وما زالوا يعظمونه حتى اليوم، فيطلق بعضهم اسمه على أبنائه؛ لما قدمه لمصر من أعمال جليلة كتوحيد القطرين.(24/11)
نماذج من التضليل فيما يسمى بالتطوير
ألغيت السورة التي توجب تطبيق الشريعة، وتسمى سورة الشريعة، وفيها قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، فقد كانت مقررة فألغيت.
أيضاً: ألغي الحديث النبوي الذي يحث على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ويبين أنه ذروة سنام الإسلام، وأن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر؛ لأنها تتعارض مع مناهج اللغة الإنجليزية الجديدة التي يتعلمها الأولاد، والتي تحض الشباب والفتيات على الرقص، ولعب القمار، والخمر، والحب والغرام، وغير ذلك من أنواع الانحراف التي هدف إليها التطبيع مع أعداء الله اليهود، وهم منطقيون في ذلك، كيف يكون جهاد في سبيل الله، وكلمة حق عند سلطان جائر، والمناهج تحتوي على الحث على الخمور والبيرة والميسر والسياحة؟! وحذفت عبارات تبين أن الخمر يفسد العقل والدين، وأن الله حرم علينا الزنا، والربا، وعقوق الوالدين، وشرب الخمر؛ لأن هذا تطرف! أيضاً: حذف حكم الشرع في وجوب حجاب المرأة في صفحة مائة وعشرة؛ لأن كتاب اللغة يتضمن الدعوة إلى السفور والتبرج والفواحش، وقرن بصور فتيات كاسيات عاريات من الفتيات الإنكليزيات أو غيرهن، وهي صور ملونة، وفي أحسن وأفخم طباعة؛ فلذلك حذف موضوع بيان أن الحجاب واجب على المرأة المسلمة.
حذفت الشخصيات الإسلامية كـ عائشة وأبي حنيفة، وتقرر مكانها الشيخ شلتوت والشيخ عبد الحليم محمود والسيد البدوي، يقول في الكلام على السيد البدوي: في بغداد أرواح آل البيت رضوان الله عليهم وأرواح أولياء الله على اختلاف درجاتهم، فهذا ضريح معروف الكرخي، وضريح كذا وكذا هذا هو البديل، وهذا هو التطوير! ويقول: في طنطا أخذ البدوي ينظم الدعوة من فوق السطح، لقد كان السطح معهداً وجامعة للدعوة، وجامعة السطح جامعة عالمية، والذين حملوا لواء الدعوة في ربوع مصر وأرجائها كانوا من جامعة السطح! وكأن هذه الكلمة مأخوذة من كلمة سطوحي، قال: وأيضاً: من أصحاب السطح الشيخ علي الكندراوي والشيخ عويس المصري، وكان السطح معهداً وجامعة وندوة، وقد تم للسيد البدوي رضي الله عنه تحقيق كل ذلك من فوق السطح!! هذا هو السطح في حقيقة الأمر وواقعه، فيغيروا اسم جامعة طنطا بجامعة السطح! وبيان حال السيد البدوي ليس محله الآن.
وفي موضوع تنظيم الأسرة لم يذكروا حديث: (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)، لكن الذي يرضي السيد الأمريكي العبارة الجديدة التي وضعوها وهي: (إن تنظيم الأسرة معناه تقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تمكن الوالدين من القيام برعاية الأبناء رعاية كاملة، وهذا حلال، والدليل على أن هذا حلال أننا نعيش عصر التنافس بالاختراع والابتكار لزيادة الإنتاج لا عصر زيادة الأفراد)! والله! ما يقض مضاجعهم إلا كثرة عدد المسلمين.
أيضاً: في منهج التربية الإسلامية الموسيقى والغناء، داخلان ضمن مادة التربية فيقول المؤلف: ليس هناك من يضيق بالوسط الفني اللطيف، وقال أيضاً: إن شحنات العواطف التي تدفعها الألحان وأصوات الموسيقى في كياننا وأعصابنا رياضة نفسية، وتربية عقلية، ويستشهد بحديث (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)!! وفي كتب اللغة الإنجليزية عملوا نموذج اختبارات صفحة مائة وثلاثة وأربعين، فيها الكلام على السنجر يعني: المغني أو المغنية، وكتبوا أسئلة باللغة الإنجليزية: أخبرنا عن اسمه أو اسمها من المغنيين أو المغنيات، ويذكر الاسم والسن، وهل هو متزوج أو عزب؟ والمقصود المغني أو المغنية الذي أنت تحبه.
السؤال الثاني عن المستوى الثقافي، ونوع الأغنيات، وسلوكه، وتعليمه.
السؤال الثالث: لماذا تحبه أو تحبها؟ ويجعلون بين قوسين اختار مثلاً: السلوك أو القوة الشخصية وهكذا وهذا خطر؛ لأن عقول الأطفال سوف تستسيغ مثل هذه السموم، كيف ندرس الأطفال أسماء المغنيين والمغنيات، وأحوالهم الشخصية؟ وماذا يأكلون؟ وما هو سر إعجابك بها أو به؟ والطفل سيختار مغنية! والبنت ستختار مغنياً! أيضاً: إلغاء الآيات التي تؤكد على تطبيق الشريعة، وحذف الشروح التي تؤكد أن تطبيق الشريعة واجب وفريضة كقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:18 - 19].
لو حذفوها فهل ستذهب من قلوب المؤمنين؟ كلا، هي تنادي عليهم بالويل والثبور: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).
حذف عنوان: (وجوب الحكم بما أنزل الله) وحذفت منه الآيات التي فيها الحكم بما أنزل الله، مثل قوله تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
حذفت سورة الفتح التي تنبه بأن عاقبة المنافقين البوار والهلاك؛ لأنهم لم يستجيبوا لأوامر الله وشرعه.
حذف موضوع: مصادر الشريعة: القرآن والسنة والاجتهاد.
حذف مراحل تدوين السنة، وكتب الحديث المشهورة، وشروط الاجتهاد، وأشهر المجتهدين.(24/12)
تحليل الربا في المناهج التعليمية
تحول درس الربا في الكتاب الجديد إلى إعلان دعائي للبنوك الربوية تحت عنوان: (التعامل مع البنوك ضرورة قومية) ولم يذكر دليلاً من كتاب أو سنة أو أقوال الفقهاء إلا فتوى للشيخ شلتوت كان قد رجع عنها وتاب منها وهو على فراش الموت كما حدث بذلك غير واحد، منهم الدكتور عبد الودود شلبي، وسمعت الشيخ عيسى عبده رحمه الله يقول: إن الشيخ شلتوت تبرأ وندم وتاب من هذه الفتوى في تحليل التعامل مع البنوك الربوية.
أيضاً: هذا الموضوع بدلاً من أن يتحدث عن الربا وأحكامه صار يدافع عنه، وقال: إن الحرام هو ربا الأفراد كما يقول مفتي البنوك، والأدلة التي أحل بها الربا هي قوله: البنوك هيئات منظمة لما يكون بين الأفراد، ويقول: ولو ألغينا البنوك فما البديل؟ هذا يعطى لعقول الشباب، وفيه تجاهل البدائل الإسلامية الكثيرة في باب البيوع، ويقول: إن البنوك شيء دعت إليه ضرورة العصر، ويقول: إن تحديد الربح سمة عامة لبنوك العالم، فكل بنوك العالم تفعل هذا، وأما الادخار القومي فهو إجباري إلى آخر هذا التدليس والخيانة.
أيضاً: معاملات أخرى غير مشروعة أغفلها الكتاب الجديد كانت موجودة في الكتاب القديم.
أيضاً: موضوع الرشوة حذف منه الحديث الشريف: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما)، ألغي هذا لأنه صعب! نعم هو صعب على جيوبهم، وألغي الشرح الذي كان فيه عبارة: (الرشوة حرام تحت أي مسمى هدية هبة عمولة سمسرة) كما حذف الحديث النبوي: (كل ما نبت من حرام فالنار أولى به).
موضوع البركة في الصدق حذف منه حديث: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).
أيضاً: حذفت الأنشطة المصاحبة التي كانت تهدف إلى أهداف تربوية عالية.
حذف موضوع: الرسول هو المثل الأعلى في الحياة الاجتماعية.(24/13)
التوجه العام لما يسمى بتطوير التعليم
إن المطلع على الموضوعات التي حذفت في كتاب التربية الإسلامية، وكتب التفسير والحديث، حتى من مناهج الأزهر يدرك أن هناك توجهاً عاماً يهدف إلى حذف المفاهيم الآتية: 1 - إن الإسلام نظام حياة شامل، وصالح لكل زمان ومكان.
2 - وجوب تطبيق الشريعة.
3 - وجوب الجهاد في سبيل الله.
4 - وجوب تحريم الربا تحريماً قاطعاً.
5 - وجوب تحريم الخمر تحريماً قاطعاً.
أيضاً: تعدى هذا إلى حرمان مادة التربية الإسلامية من مدرسها الطبيعي، بينما مادة التربية الفنية أو الموسيقى لا يُدرِّسها إلا المتخصصون، ويفرض لها معاهد وكليات لتخريج هؤلاء المتخصصين، يقول: والأدهى من ذلك أن التطوير الأخير قام بتحويل دور المعلمين والمعلمات إلى كليات نوعية تقتصر على تخريج المتخصصين في التربية الفنية والموسيقى دون التربية الإسلامية أي: أن تطوير هذا الدور لم يضف شيئاً جديداً أكثر من إضعاف تخصص التربية الإسلامية، وجعل التعليم فيه مختلطاً، وبذلك وضعت بذرة الفساد والإفساد في هذا الحصن المنيع.
والأكثر غرابة من هذا أن وزارة التربية أصرت على تطوير يتشدد في تعيين خريجي كليات الشريعة وأصول الدين لتدريس مادتهم التربية الإسلامية، ويكلف تدرسيها غيرهم من مدرسي اللغة العربية، أما المتخصصون فيتركون ليعانوا البطالة! أيضاً: الإصرار على حرمان طلبة الجامعات والمعاهد من دراسة الثقافة الإسلامية!(24/14)
مآسي تطوير منهج الأزهر
أول تطوير لمنهج الأزهر كان في سنة: (1961) في النكبة الأولى التي نكب بها الأزهر في عهد عبد الناصر، أما التطوير الحديث في عهد فاتح الشرور هذا فهو أعظم خاصة بالمعاهد الثانوية القسم العلمي، فقد أدمجت مادة التفسير مع مادة الحديث، وخفضت حصصهما من أربع إلى اثنتين للصف الأول والثاني، ومن ثلاث إلى اثنتين للصف الثالث والرابع.
وخفضت حصة الفقه من ثلاث إلى اثنتين.
خفضت حصص النحو والصرف من ثلاث إلى اثنتين، ألغي من القسم العلمي ثلث المواد الشرعية واللغة العربية وأضيفت حصصهما إلى الرياضة والعلوم واللغة الإنجليزية.
ألغيت مادة الحديث من الصف الأول الثانوي.
تجريد مادة الدعوة والمجتمع الإسلامي عن منهجها.
ألغيت حصة التجويد، وألغيت مادة التفسير والحديث، وهكذا أشياء لا تقل ضراوة عن الذي مضى.
ومن ذلك حذف الموضوعات التي تحث على الجهاد في سبيل الله، وتنوه بعاقبة المجاهدين وصفاتهم، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] إلى آخر الآية.
أيضاً: نفس الخطط نفذوها في المعاهد الابتدائية، ومعاهد المعلمين، ومعاهد القراءات الأزهرية، فقد ألغيت مواد التفسير والحديث والمجتمع الإسلامي والعروض، وخفضت حصص التجويد والفقه إلى آخره.
هذه بعض الملامح العامة، والموضوع يحتمل أكثر من ذلك، ولكن نكفي بهذا الاستعراض العابر لهذا الكتاب المهم جداً.
ويجب على الإخوة أن يهتموا بتنبيه الآباء، ومراعاة أولادهم، وبث الأشياء المضادة لهذه السموم؛ حتى يبرأ الأبناء من هذا الخطر الداهم الذي يدبر من وراء الستار، ونسأل الله عز وجل أن يكفينا والمسلمين جميعاً شرورهم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(24/15)
مفاتيح الرزق
مفاتيح الرزق المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة، فيها يستغني المسلم عن طلب الرزق بالمعصية، وفي هذه المادة ذكر عشرة أسباب لذلك، وهي مفصلة بأدلتها الواضحة.(25/1)
ضَمِن الله الرزق لكل مخلوق حتى يأتيه أجله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، رواه أبو نعيم في الحلية، وحسنه الألباني.
فهذا الحديث يدل على أن المرء يرزق رغم أنفه، وإذا كتب الله سبحانه وتعالى له الرزق فلن يفوته ولن يضيع عليه ما دام قد ضمنه الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد ضمن لنا الرزق حين قال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، ثم لم يكتف بالضمان حتى أقسم على ذلك فقال عز وجل: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] قال: الحسن البصري رحمه الله تعالى: لعن الله أقواماً أقسم لهم ربهم فلم يصدقوه.
والموضوع الذي نتعرض له اليوم هو استعراض لرسالة مباركة نافعة من تصنيف الدكتور فضل إلهي كما سبق أن درسنا له أيضاً رسالة أخرى في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرسالة هي (مفاتيح الرزق في ضوء الكتاب والسنة)، جمع فيها كثيراً من الأسباب التي هي أسباب حقيقية لاستجلاب الرزق والبركة فيه.
لقد ضمن الله سبحانه وتعالى الرزق وسبق به قلم المقادير، إلا أن كثيراً من المسلمين يشتغلون بهذا المضمون على حساب غير المضمون، فالرزق مضمون، وأما النجاة في الآخرة ودخول الجنة فليست مضمونة؛ لأنها متوقفة على سعي العبد، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فنعجب أن كثيراً من الناس إذا طلب منه بأن يكف عن اللهث وراء الدنيا التي تشغله عن الطاعة وعن العبادة؛ فإنه يتحدث عن الرزق والكسب، وضرورة أن يسعى الإنسان في طلب رزقه، مع أن الرزق مضمون، والنجاة في الآخرة غير مضمونة، بل النجاة متوقفة على الاجتهاد في العمل الصالح.
وبعض الناس يرون أن تمسكهم بدينهم قد ينقص من أرزاقهم، بل إن بعض الملتزمين الذين يحافظون على الفرائض الإسلامية ربما يظنون أيضاً أنه لا بد أن يغضوا الطرف عن بعض الأحكام الإسلامية من أجل المحافظة على الرخاء المالي، فينسون أو يتناسون أن الله سبحانه وتعالى حينما شرع دينه فإنما يريد إرشاد العباد إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة، وليس في الآخرة فقط، فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، فالله سبحانه وتعالى لم يتركنا نتخبط في الظلام ونبقى في حيرة من أمرنا عندما نسعى إلى طلب المعيشة، بل شرعت أسباب الرزق وبينت، ولو فهمتها الأمة ووعتها وتمسكت بها وأحسنت استخدامها ليسر الله سبحانه وتعالى لها الرزق، والله هو الرزاق ذو القوة المتين.(25/2)
أسباب سعة الرزق والبركة فيه(25/3)
الاستغفار والتوبة
ونحن لن نتكلم عن الأسباب المادية الأخرى؛ لأنه يستوي في العمل بها المؤمن والكافر والبر والفاجر، بل فتنة الناس إلا ما رحم الله هي في انشغالهم بطلب الدنيا إلى حد يلهيهم عن الآخرة، فنحن لن نتكلم عن الأسباب الطبيعية؛ لأن الناس ليسوا محتاجين إلى من يحثهم على هذه الأسباب، وهي معلومة للجميع، ويحرص عليها الجميع، لكننا سنقف عند الأسباب الحقيقية القلبية والدينية التي يجهلها أكثر الناس، بل لا يعتقدون تأثيرها في باب طلب الرزق، فنحن هنا نثبت السبب أولاً ثم نذكر الأدلة على أنه مفتاح من مفاتيح الزرق.
يبدأ المصنف بعد المقدمة في ذكر أول أسباب الرزق، فمن أراد أن يستجلب الرزق الحلال المبارك فأول ما يستنزل به ذلك الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى: فالاستغفار والتوبة من أسباب الرزق، وليس المراد مجرد الاستغفار والتوبة باللسان كتوبة الكذابين، لكن الاستغفار والتوبة لا بد أن يكونا من القلب، وينعكس أثرهما بعد ذلك على الجوارح.
يقول الراغب الأصفهاني: التوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزم على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل فرائض التوبة.
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله -لا تتعلق بحق آدمي- فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية وألا يتمادى على الذنب، يعني: فمن لم يترك المعصية فأين التوبة وحاله يكذب مقاله؟! الثاني: أن يندم على فعلها.
الثالث: أن يعزم -يعني: في المستقبل- على ألا يعود إليها.
فإذا فقد أحد هذه الثلاثة الشروط لم تصح هذه التوبة.
وإذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فيضاف إلى هذه الشروط شرط رابع، وهو أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كان مالاً رده إليه، وإن كانت مظلمة ونحوها مكنه من القصاص أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحلها منه.
أما الاستغفار فهو طلب المغفرة بالمقال والفعال، يقول تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]، فلم يؤمروا بأن يسألوه ذلك باللسان فقط، بل بالقول وبالقلب، قيل: الاستغفار باللسان من دون الفعال من فعل الكذابين، فاستغفار الكذاب أن يستغفر بلسانه وهو متماد في معصية الله تبارك وتعالى.
الأدلة على أن الاستغفار والتوبة من الأسباب التي يستنزل بها رزق الله سبحانه وتعالى كثيرة منها: قوله عز وجل حاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12]، وهذه الأفعال كلها واقعة في جواب الأمر: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، والمعنى: إن استغفرتم ربكم يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهاراً.
فلابد أولاً أن يتحقق الاستغفار، (استغفروا ربكم) أي: اسألوه العفو والمغفرة، (إنه كان غفاراً)، فسوف يقبل توبتكم ويغفر لكم (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)، أي: ينزل عليكم المطر يتبع بعضه بعضاً، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ)، أي: يكثر لكم أموالكم وأولادكم، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)، أي: بساتين وأنهاراً.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: في هذه الآية والتي في هود، وهي قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:52] دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: إذا تبتم إلى الله تعالى واستغفرتموه وأطعتموه كثّر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأخرج لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين: أي: أعطاكم الأموال والبنين والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمر، وخللها بالأنهار الجارية بينها.
وقد تنفس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما جاء في هذه الآيات حينما صلى بالمسلمين صلاة الاستسقاء، فقد روى مصرف عن الشعبي أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له: ما سمعناك استسقيت! -يعني: ما قلت: اللهم اسقنا، وهي صلاة استسقاء، فلماذا اقتصرت على الاستغفار؟ - فقال: طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر).
المجاديح: أنواء معينة من النجوم كانوا يعتقدون أنها من الأنواء الدالة على المطر، فهو هنا يخاطبهم بما يعرفون، لا أنه يعتقد أن الأمطار تكون بالأنواء.
ثم قرأ عمر رضي الله تعالى عنه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:10 - 11] إلى آخر الآيات.
كذلك أمر الحسن البصري رحمه الله تعالى بالاستغفار كل من جاء إليه شاكياً الجدب أو الفقر أو قلة النسل أو جفاف البستان، قال الربيع بن صبيح: شكا رجل إلى الحسن القحط والجفاف، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله! قال: فقلنا له في ذلك.
يعني: سألوه ما سر هذا؟! لماذا لا تنصح هؤلاء إلا بالاستغفار مع تنوع حاجاتهم؟! قال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أنواعاً من البلاء فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12].
ومثل هذه الآيات قوله تبارك وتعالى حينما قص علينا دعوة هود عليه السلام قومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52] فأمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير ما مضى من الذنوب، والتوبة عما يستقبلون، فمن اتصف بهاتين الصفتين يسر الله سبحانه وتعالى له رزقه، وسهل أمره، وحفظ فعله، ولهذا قال: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52].
ومثلها أيضاً قوله تبارك وتعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3]، (يمتعكم متاعاً حسناً)، أي: يتفضل عليكم بسعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم.
وقد رتب الله هذا الجزاء على الاستغفار والتوبة.
ومما يدل أيضاً على كون الاستغفار والتوبة من مفاتيح الرزق: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكثر الاستغفار، وفي رواية: من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء وحسنه بعضهم.
(من أكثر الاستغفار): من غلب عليه كثرة طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى عند صدور معصية أو ظهور بلية.
أو: (لزم الاستغفار): داوم عليه فإنه في كل وقت محتاج إليه، ولذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) يعني في الآخرة، وكأنه عليه السلام لم يقل: طوبى لمن استغفر كثيراً؛ لأنه يشترط في الاستغفار حتى ينفع الإنسان أن يكون مخلصاً، ولا يثبت في الصحيفة إلا الاستغفار الذي صدر عن إخلاص وعن صدق وعن توافق بين القول والعمل، فلذلك قيده بأن يجد ذلك في صحيفته، وليس بمجرد صدور الاستغفار عنه، فقوله هنا: (من أكثر الاستغفار أو من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً)، أي: جعل له من كل غم يغمه خلاصاً، (ومن كل ضيق مخرجاً)، أي: من كل شدة ومحنة طريقاً واسعاً يخرجه إلى سعة وفسحة، (ورزقه من حيث لا يحتسب) يعني: رزقاً حلالاً طيباً من حيث لا يظن ولا يرجو ولا يخطر بباله.(25/4)
التقوى
تقوى الله عز وجل من الأسباب التي يستنزل بها رزق الله سبحانه وتعالى، وقد كثرت تعاريف العلماء للتقوى، قال الراغب الأصفهاني: التقوى حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات.
وعرف الإمام النووي تقوى الله بقوله: امتثال أمره ونهيه، فهي الوقاية من سخطه وعذابه سبحانه وتعالى، وذلك بأن يفعل الإنسان أفعالاً تكون وقاية وحائلة بينه وبين النار.
أما الجرجاني فعرفها بقوله: الاحتراز بطاعة الله تعالى عن عقوبته، وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك.
فمن لم يحفظ نفسه عما يؤثمه فليس بمستقيم، فمن شاهد بعينيه ما حرمه الله تعالى فمعنى ذلك أنه أزال الحجاب بينه وبين النار، واستحق عذاب الله؛ لأنه لم يتق الله، ولم يكف عينه عن ارتكاب الذنب الذي يسخط الله، فمن ارتكب المعصية فقد أزاح هذا الحجاب واقتحم بنفسه النار.
وهكذا من سمع بأذنيه ما يغضب الله تعالى، أو بطش بيديه فيما لا يرضى الله تعالى، أو مشى إلى ما يمقت الله تعالى، فهذا لم يعصم نفسه من الإثم ولم يتق الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين، قال الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، حتى الأنبياء أمروا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1].
أما كون التقوى من أسباب الرزق فدليل ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2 - 3].
فنريد أن نرسخ هذه المفاهيم في قلوبنا، فالناس الذين يهجمون على الحرام خشية أن يفوتهم الزرق أو يتعاطون الحرام خشية قلة المال، لم يعلموا أن الحرام ليس في الحقيقة سبباً من أسباب سعة الرزق، بل هو فتنة وبلاء.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، فمن أراد المخرج فليتق الله، وبالتالي ليسأل عن الطاعات والمحرمات والشبهات، فإذا اتقى الله سبحانه وتعالى وصدق في التقوى فإن الله وعده وعداً لا يخلف أن يجعلَ له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب، فإذا ادعى أنه اتقى الله ولم يجعل له مخرجاً فنقول له: راجع نفسك فإنك لم تتق الله حق تقاته، فعد إلى نفسك وصحح التوبة؛ فإن الله لا يخلف الميعاد.
وقوله تعالى: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] أي: ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] يعني: من حيث لا يؤمل ولا يرجو.
ومن الأدلة قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، أي: لو أنهم اتقوا لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب.
والبركات جمع بركة، والبركة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والخير الإلهي الذي يجعله الله سبحانه وتعالى في الشيء يبقى فيه فلا يمحق ولا يذهب عنه، فيستفاد من كلمة البركة أن الله سبحانه وتعالى يعطيهم بسبب الإيمان والتقوى الخير المستمر الذي لا شر فيه ولا تبعة، وأحسن الأحوال أن يثبت النعيم الذي يرزقه الله سبحانه وتعالى العبد، ثم لا يجعل عليه تبعة في الآخرة، ولا يحاسبه عليه.
وقال تبارك وتعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] ولم يقل: بركة، فيدل على تعدد هذه البركات باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة، وبركات السماء بالمطر، وبركات الأرض بالنبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة؛ لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ومنهما تحصل جميع المنافع والخيرات لخلق الله تعالى.
ومن الآيات التي تدل على أن التقوى من أسباب استنزال الرزق قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66]، فيخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم لو عملوا بالتوراة والإنجيل، وعملوا أيضاً بالقرآن الكريم؛ لأكثر الله تعالى بذلك الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض، ولأسبغ عليهم نعم الدنيا إسباغاً.
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، يعني: لو استقاموا على الطريقة التي يرضاها الله لكافأهم على ذلك بأن يسقيهم ماءً غدقاً.
إذاً: التقوى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ومن شكر نعمة الله عز وجل بطاعته، فقد تكفل الله له بالزيادة، كما قال الله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
فمن يرغب في سعة الرزق ورغد العيش فليحفظ نفسه عما يؤثم، وليمتثل أوامر الله تعالى، وليجتنب نواهيه.(25/5)
التوكل على الله
ومن أسباب الرزق: التوكل على الله سبحانه وتعالى.
قال الغزالي: التوكل هو اعتماد القلب على الله سبحانه وتعالى الذي يفوض المؤمن إليه أمره.
وقال: المناوي: التوكل إظهار العجز والاعتماد على المتوكل عليه.
فتظهر العجز والضعف لله سبحانه وتعالى، وتعتمد عليه وحده عز وجل، فتؤمن بأنه لا فاعل في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، ونفع وضر، وفقر وغنى، ومرض وصحة، وموت وحياة، وكل ما يطلق عليه اسم الوجود فهو من الله سبحانه وتعالى.
ومن الأدلة على كون التوكل سبباً من أسباب إدرار الرزق ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
والطير جمع طائر يذكر ويؤنث.
(تغدو): تذهب أول النهار.
(خماصاً) جمع خميص، يعني جياعاً.
(وتروح): ترجع آخر النهار وقد امتلأت حواصلها (بطاناً): جمع بطين وهو عظيم البطن، والمراد شباعاً، فما بين ذلك تسعى والله سبحانه وتعالى هو الذي يتكفل برزقها.
ففي هذا الحديث يبين الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن المتوكل على الله حق التوكل مرزوق كما ترزق الطير؛ لأنه توكل على الحي الذي لا يموت، وأن من توكل على الله فهو حسبه، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: فهو كافيه، فإذا توكلت واعتمدت على الله وحده، فإنه يكفيك، ولن تحتاج إلى وكيل غيره، فهو عز وجل يتولى كل أمرك، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3].
ومن المقرر والمعلوم أن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يستلزم ترك الكسب، كما يعتقد الجاهلون بحقيقة التوكل، وقد يستدل بعضهم بهذا الحديث، والحديث فيه ما يرد عليهم؛ لأن الرسول عليه السلام لما ضرب لنا هذا المثل، فينبغي أن نأخذ بكل أركانه، فقوله: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، دليل على أنها تغدو وتروح، فعندها حركة وسعي مع التوكل على الله سبحانه وتعالى، فكذلك على الإنسان أن يسعى إلى الرزق احتراماً للشرع؛ لأن الشرع أمر بفعل الأسباب، لكن لا يتعلق بالأسباب بل بخالق الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه هو الرازق في الحقيقة.
فنحن نأخذ بالأسباب لأن الله أمرنا بالأخذ بالأسباب.
قال العلماء: ترك الأسباب قدح في الشرع، والتعلق بالأسباب قدح في التوحيد.
فنحن نأخذ بالأسباب لكن لا نعلق قلوبنا بالأسباب؛ لأنها مخلوقة، وإنما يجب أن تتعلق القلوب بالله عز وجل، فالطيور تخرج وتروح وتسعى وتتوكل على الله سبحانه وتعالى، فالله يكفيها أمرها مع أنها لا تعقل ولا تعي ولا تخطط ولا تفهم ولا تدبر، وإنما الله عز وجل هو الذي يرزقها.
يقول الإمام أحمد: ليس في الحديث ما يدل على ترك الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، وإنما أراد لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير بيده، لم ينطلقوا إلا غانمين سالمين كالطير.
وقد سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي! فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي).
والأخذ بالأسباب أمر مشهور ومعروف في الشريعة، ومواطنه في القرآن الكريم كثيرة جداً منها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25]، كان يمكن أنها بمجرد أن ترفع رأسها يسقط الرطب بقدرة الله، لكن هذا إشارة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع التعلق بخالق الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى.
وقال سبحانه عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]، فموسى عليه السلام أخذ بأسباب النجاة من فرعون، فإنه لما علم أنهم يتآمرون على قتله خرج منها خائفاً يترقب.
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسباب في رحلة الهجرة، وهي مواقف مشهورة لا نحتاج إلى ذكرها.
والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يتجرون ويعملون في نخيلهم.
قال الإمام أبو حامد: قد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، أو كلحمة على وضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكل، فيكف يُنالُ مقامٌ من مقامات الدين بمحظور من محظورات الدين؟! يعني أن التوكل محمود في الشريعة، وترك الأسباب محرم في الشريعة، فهؤلاء الذين يتركون الأسباب ويزعمون أن ذلك من التوكل آثمون، وهل يوصل إلى مقام من المقامات المحمودة في الدين بوسيلة محرمة؟! لا يمكن أن تكون الوسيلة إلى الواجب أو المستحب محرمة، فالوسائل والأسباب تأخذ حكم المقاصد، ليس عندنا مبدأ: الغاية تبرر الوسيلة، بل لا بد أن تكون الوسيلة مشروعة والغاية مشروعة كذلك.
وقال القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة في الظاهر فلا تنافي التوكل في القلب؛ لأن التوكل عبادة قلبية مثل التوبة والإخلاص والإنابة واليقين.
وكل هذه العبادات تؤدى بالقلب، فالتوكل عبادة محلها القلب، أما الحركة في الظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب بعدما يعتقد العبد أن الرزق من قبل الله تعالى، فإن تعثر شيء فبتقديره، وإن تيسر شيء فبتيسيره، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل فقال له: اعقلها وتوكل)، أما أن تترك الناقة مطلقة دون أن تربطها بخطام ولا زمام ثم تقول: أتوكل على الله؛ فهذا ليس بتوكل، وهكذا لا ينبغي لمن جاء المسجد ومعه متاع أن يتركه عند الباب ويقول: أتوكل على الله! خاصة وقد كثر الخونة الذين يخونون المصلين أثناء الصلاة، ويسرقون منهم المتاع، فهل خولك المسجد سيشفع لك إذا استحمقت وفرطت في الأسباب؟ لا، بل اعقلها وتوكل، ولا تتركها للصوص في الطريق ثم تقول: أتوكل، فخذ بالأسباب وتوكل.
بعضهم قد يترك السيارة مفتوحة ثم يسرق منها شيء، فهذا لم يعقل الناقة، بل تركها مفتوحة، وكان عليه أن يأخذ بالأسباب، ولا يتعلق بها، وهذا من التوكل على الله سبحانه وتعالى.
وفي رواية عند الإمام القضاعي أن عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أقيد راحلتي وأتوكل على الله أو أرسلها وأتوكل؟ قال: قيدها وتوكل).
إذاً: التوكل لا يقتضي ترك التكسب، بل يكد الإنسان ويجد ويسعى في طلب العيش، لكنه لا يعتمد على كده وجده وسعيه، بل يعتقد أن الأمر كله لله، وأن الرزق من الله سبحانه وتعالى وحده.(25/6)
التفرغ لطاعة الله
ومن أسباب الرزق التفرغ لطاعة الله سبحانه وتعالى: وليس المقصود من التفرغ لطاعة الله عز وجل أن يترك السعي لكسب العيش، ويمكث في المسجد ليل نهار، وإنما المقصود أن يظل قلبه موصولاً بالله سبحانه وتعالى في كل أحواله دون انقطاع، فالمؤمن لا يعرف: ساعة لربك وساعة لشيطانك وساعة لقلبك المريض؛ كما هو حال بعض الناس، حيث يصلي في المسجد ثم يرتكب المعاصي والمحرمات خارج المسجد، ويقول: ساعة لقلبك وساعة لربك، {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22] لأن قلب المؤمن موصولٌ بالله عز وجل في كل أحواله، لا يقطع هذه الصلة أبداً، سئل بعض السلف: هل القلب يسجد؟ قال: يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها أبداً، أي: إذا تاب وأناب ثبت على الخضوع لله سبحانه وتعالى، ولا يزول عن صفة السجود، فيظل ساجداً دائماً، فقلب المؤمن في كل أحواله يكون موصولاً بالله عز وجل، حتى وهو يلهو اللهو المباح أو يعمل في الدنيا.
فمعنى التفرغ لطاعة الله سبحانه وتعالى: أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله عز وجل يراه.
والدليل على كون التفرغ لعبادة الله عز وجل من مفاتيح الرزق ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك).
(يا ابن آدم تفرغ لعبادتي) أي: بالغ في تفريغ قلبك لعبادتي.
(أملأ صدرك غنى) أي: أملأ قلبك الذي في صدرك غنى؛ لأن الغنى غنى النفس كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أعلى درجات الغنى، يقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإن الغنى العالي عن الشيء لا به واستغناؤك عن الشيء هو عين الغنى، وليس الغنى بما تملكه في يديك من عرض الدنيا، وإنما الغنى غنى النفس وغنى القلب.
وقوله: (وأسد فقرك) أي: أسد باب حاجتك إلى الناس، (وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك) ذكر اليدين لأن الإنسان يزاول الاكتساب دائماً باليدين، وأغلب التصرفات تكون باليدين.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد عني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً).(25/7)
المتابعة بين الحج والعمرة
ومن أسباب الرزق: المتابعة بين الحج والعمرة: ومعنى المتابعة أن يجعل أحدهما تابعاً للآخر وواقعاً عقبه، أي: إذا حججتم فاعتمروا وإذا اعتمرتم فحجوا، هذا معنى التتابع بين الحج وبين العمرة.
الإنسان الذي لا يلتفت إلى هذه الأسباب إيمانه ضعيف أو ناقص؛ لأن الذي يخبرنا بهذه الحقائق هو الوحي المعصوم، سواء في القرآن الكريم أم على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه من بركات الوحي، فإن عقولنا لا تستقل لتوصلنا إليها، بل بعض هذه الأسباب قد يستغربها بعض الناس، فإنفاق المال في الحج والعمرة ينفي الفقر، هكذا يخبر الصادق صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والذي يخرج من ماله ويتصدق فقد فعل سبباً من أسباب سعة الرزق؛ لأنه هكذا أخبر من لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة).
الكير هو كير الحداد الذي ينفخ به النار، والظاهر أن المراد هنا نفخ النار.
وخبث الحديد والذهب والفضة هو الشوائب التي تكون في الحديد والذهب والفضة.
والحجة المبرورة هي التي وفيت أحكامها، فوقع الحج موافقاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، هذا معنى الحج المبرور.
فهنا يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من ثمرات المتابعة بين الحج والعمرة نفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، ولذلك ترجم الإمام ابن حبان لهذا الحديث فقال: ذكر نفي الحج والعمرة الذنوب والفقر عن المسلمين بهما.
وقال الإمام الطيبي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنهما ينفيان الفقر والذنوب): إزالته للفقر كزيادة الصدقة للمال، أي: كما أن الصدقة تزيد المال ولا تنقصه، بل حلف النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك حينما قال: (ما نقصت صدقة من مال)، فكذلك النفقة التي تنفقها في الحج والعمرة تنفي عنك الفقر.
وروى الإمام النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد).(25/8)
صلة الرحم
ومن أسباب استنزال رزق الله سبحانه وتعالى صلة الرحم: وقد كان السلف يحافظون على صلة الرحم، فيكافئون على ذلك بأن تنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا، وما تجد أهل بيت يتواصلون فيحتاجون.
وصلة الرحم لا تنحصر في صلتهم بالمال، بل مفهومها أوسع من ذلك، فإنها تكون بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والقول الجامع في معنى صلة الرحم: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة.
والإسلام لا يمنع صلة الأرحام حتى مع الكافرين، فمن كان له أقارب كفار فإنه يؤمر بالإحسان إليهم، كما دل على ذلك قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
وسبب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما جاءتها أمها المشركة ترغب في صلتها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك).
وهذه الصلة لا تعني مودة الكافر أو مداهنته؛ لأن الله تعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، فلا يجتمع في قلب رجل الإيمان مع مودة أعداء الله؛ وذلك لأن من أحب أحداً امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، فلا يمكن حب المؤمنين مع حب أعداء الله عز وجل.
والإمام مالك استدل بهذه الآية الكريمة على معاداة المبتدعة وترك مجالستهم، وقال الإمام القرطبي معلقاً على ذلك: وفي معنى أهل البدع جميع أهل الظلم والعدوان.
يعني أنهم يستحقون المقاطعة أيضاً.
وقال ابن كثير: أي لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين.
فالإنسان يصل رحمه ولو كانوا كافرين أو عصاة، مع دعوتهم إلى الإنابة وإلى الطاعة بقدر استطاعته، ويبذل كل جهده في ذلك، فإن أصروا على ما هم عليه بعد النصيحة فمقاطعة أحدهم في الله هي صلته، بشرط بذل الجهد في نصحهم ثم إعلامهم بأنهم إن أصروا على ما هم عليه فإنه سيقاطعهم بسبب ذلك، ولا بد أن يعلمهم أن سبب المقاطعة ما هم عليه من محاربة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يكف عن صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب عسى أن يعودوا إلى الطريقة المثلى.(25/9)
الإنفاق في سبيل الله
ومن هذه الأسباب أيضاً: الإنفاق في سبيل الله تبارك وتعالى: فهذا أحد مفاتيح الرزق التي يستنزل بها رزق الله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، فالإنفاق المرغب فيه في الدين كالإنفاق على الفقراء، والإنفاق لنصرة دين الله عز وجل، والإنفاق في الطاعات وعلى العيال والضيوف.
والأدلة على كون النفقة في سبيل الله عز وجل من أسباب استنزال رزق الله عز وجل كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] يعني: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث، ولا يقتصر على الثواب في الآخرة، لكن يخلفه عليكم أيضاً في الدنيا، فالنفقة إذاً سبب لاستنزال الرزق.
ذبحت إحدى زوجات النبي عليه الصلاة والسلام شاة، (فسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة فقالت: ذهبت كلها وبقي الذراع لك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل بقيت كلها وذهب هذا الذراع) أي أن الذي تنفقه في سبيل الله باق لك، ومدخر ثوابه عند الله سبحانه وتعالى كما قال الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (ثلاث أقسم عليهن أو أحلف عليهن: -وذكر- ما نقصت صدقة من مال)، فالصدقة سبب للبركة فيما بقي من مال، ويخلف الله على الإنسان بدلها في الدنيا بجانب الأجر الذي يبقى له في الآخرة، {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39].
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
الله عز وجل ملكٌ مليكٌ عليٌّ غنيٌّ، فإذا قال: أنفق وعلي بدله، فبحكم الوعد يوجب على نفسه أن يعطي هذا البدل، وقد وعد الله فقال: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] ووعد الله حق، فإذا كنت تتعامل مع غني من البشر، فقال لك مثلاً: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وأنت تعرف من خلقه أنه لا يخلف الميعاد، وأنه يفي بوعده، فإنك يكون على ثقة من أنه سوف يفي بما وعدبه من هذا الضمان، فهل تفعل ذلك ثقة بوعده سبحانه، ولله عز وجل المثل الأعلى؟! فمن أنفق فقد أتى بما هو سبب في حصول البدل، لأنه قد أتى بالشرط، والله عز وجل اشترط على نفسه فقال: (أنفق أنفق عليك)، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)، فهذا وعد بالإخلاف وبالتعويض وبالبدل، فمن أتى بالشرط أتاه البدل.
ومن بخل فالزوال لازم للمال، ولم يأت يما يستحق عليه البدل.
فقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] يحقق معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
التاجر إذا علم أن مالاً من أمواله معرض للهلاك فإنه يبيعه نسيئة ولو على الفقراء، فلو افترضنا تاجراً يبيع فواكه أو خضروات، وهذا التاجر يحتاج إلى الربح الذي يجنيه من وراء هذه التجارة، وهو يشترط في البيع أن يكون حالاً، أي: لابد أن تدفع المال نقداًًً، ويرفض أن يبيع نسيئة، لكن إذا لم يشتر منه أحد، وكادت البضاعة تتلف، فإنه سيبيعها نسيئة إلى أجل، لأنه خير بين أن تتلف البضاعة وبين أن يبيعها نسيئة، فالعاقل يختار أن يبيعها نسيئة، ويقول: هذا أولى من أن أرميها في القمامة، وعندما يبيعها نسيئة سيحصل على المال ولو بعد حين، فإن لم يبع حتى يهلك نسب إلى الخطأ، ثم إن حصل على كفيل مليء ولم يبع له نسب إلى الجنون.
يعني أن هذا الرجل يريد أن يشتري منه إلى أجل، ولو لم يشتر البضاعة فسوف تهلك، وأتى رجل آخر مليء وقال للتاجر: أنا ضامن وكفيل على المشتري أنه إذا لم يسدد لك فأنا أسدد لك ثمن هذه البضاعة، وهذا الكفيل أو هذا الضامن غني ووفي، وفي الحديث: (من أحيل على مليء فليتبع)، فإذا حصل على كفيل مليء ولم يبع فينسب هذا الرجل إلى الجنون.
ثم إن كل واحد منا يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون، فإن الله سبحانه وتعالى يتكفل بالخلف وبأنه سيعوض من أنفق في سبيل الله، ومع هذا نجد عامة الناس يسلكون مسلك ذلك الذي يوصف بالجنون، وشتان بين ضامن مليء من البشر وبين الله سبحانه وتعالى الذي هو رب العرش، والذي هو غني عن العباد، الرزاق ذو القوة المتين.
لماذا لا تثق في وعد الله سبحانه وتعالى وهو يخبرك في القرآن أنه سوف يخلف عليك، وأنت مع ذلك تصر على أن تتلف بضاعتك وتزول دون أن تثاب فيها، وبدون أن تنال عليها أي أجر أو ثمن؟ كل واحد منا يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون، فإن أموالنا كلها في معرض الزوال المحقق، فالإنفاق على الأهل والولد إقراض، وقد حصل الضامن المليء وهو الله العليم، فقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، ثم رهن عند كل واحد إما أرضاً أو بستاناً أو طاحونة أو حماماً أو أي متاع، فالله سبحانه وتعالى أعطاك المبلغ الذي تأخذ منه رزقك، هذا المبلغ سواء كان سيارة أو آلة أو مصنعاً أو متجراً أو غيره وكأنه يقول: إذا كنت غير واثق من ضماني الذي أضمنه لك بأني سأخلف عليك فضع هذا الرهن أمام عينيك حتى تكون مطمئناً للضمان.
كل الحرف التي عند أي واحد منا ما هي إلا من فضل الله سبحانه وتعالى، فهل هذا ملك لنا أم ملك لله؟ نحن لا نملك شيئاً على الإطلاق، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، ويقول: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فالمال الذي بأيدينا في الحقيقة ليس مالنا إنما هو عارية عندنا، وهو ملك لله سبحانه وتعالى، فمع الضمان يأمرك سبحانه وتعالى أن تنفق، ويعطيك رهناً حتى تكون أكثر اطمئناناً، ويكون معك هذا المصدر من مصادر الرزق.
الإنسان لا بد أن يكون له صنعة أو جهة يحصل له منها مال، وذلك ملك لله، وهو في يد الإنسان بحكم العارية، فكأنه مرهون بما تكفل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التام، ومع هذا لا ينفق، ويترك ماله يتلف من غير أن يكون مأجوراً أو مشكوراً.
هذا وقد أكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وعده لمن ينفق بالخلف عليه بثلاث مؤكدات: الأول: صيغة الشرط {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، الثاني: جعل جملة الجواب اسمية (فهو يخلفه)، الثالث: تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي فقال: (فهو يخلفه) ولم يقل: فسأخلفه لك.
فوعد الله سبحانه وتعالى يقع حتى لو لم يقترن بهذه المؤكدات، فكيف وقد أكد بكل هذه المؤكدات.
ومن الأدلة على أن النفقة سبب من أسباب الرزق قوله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
(يعدكم) بمعنى: يخوفكم، يقول لك: إياك أن تنفق وإلا افتقرت.
(وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) أي: بالبخل، (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) على هذه المعاصي (وفضلاً) أي: في الرزق، وقال ابن عطية: المغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيها والنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له.
يعني أن الشيطان عندما يقول لك: لا تنفق فسوف تفتقر، ليس مخلصاً لك في النصيحة ولا يريد لك الخير؛ لأنه عدو مبين، ولا حل مع الشيطان إلا أن تتخذه عدواً {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، هو عدو لا تصلح معه المداهنة ولا الإحسان ولا التلطف، لا يوجد مخرج في التعامل مع الشيطان إلا أن تعامله على أنه عدو مبين، فلا تثق بأي وعد من وعوده، وحينما يقول لك: لا تنفق وإلا ستفتقر فلا تثق بخبره، فإنه ليس مشفقاً عليك ولا ناصحاً لك، وأما الله سبحانه وتعالى فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه، إما في الدنيا وإما في الدنيا والآخرة.
جاء في صحيح مسلم أن الله تبارك وتعالى قال: (يا ابن آدم! أنفق أنفق عليك)، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنه قال: (إن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها أخذها منهم ووضعها في غيرهم)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالبخيل الذي يعطيه الله سبحانه وتعالى من ماله ثم لا ينفق على نفسه وعلى أهله وأولاده وعلى الفقراء والمساكين، ويريد أن يحافظ عليه، فهو فقير، قال ابن القيم: البخيل فقير لا يؤجر على فقره، والفقير أفضل منه؛ لأن الفقير يؤجر على الفقر، أما هذا فهو فقير لكنه لا يؤجر على فقره، يقول الشاعر في وصف البخلاء: خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا فما رزقوا فلاح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا وفي الحديث: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما، اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، أي: تلفاً لماله حساً أو معنى، إما يضيع المال أو تمحق البركة منه أو يسلط على نفقته فيما لا يعود عليه بالنفع، أو في أشياء مما يغضب الله سبحانه و(25/10)
الإنفاق على أهل الخير لا سيما طلبة العلم الشرعي
ومن أسباب استدرار واستنزال الرزق من الله سبحانه وتعالى ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: ليطلب العلم- والآخر يحترف -يعني: يكتسب الرزق لهما- فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك ترزق به).
كأنه يقول: لعلك مرزوق ببركته، لا أنك مرزوق بجهدك، فلا تمنن عليه بصنعتك؛ لأنه متفرغ في سبيل الله، فكثير من أهل الخير لا يقدرون على التكسب بسبب التفرغ للعلم ونحو ذلك، فمن كان ينفق عليهم يأتيه الرزق لا ليأخذه وحده، بل حتى يعطي الآخرين، ويتصدق منه على إخوانه المستحقين، فهو عبارة عن وكيل موزع يعطيه الله الرزق حتى يعطي، فإذا منع الصدقة عليهم ليدخر المال لأجل أولاده مثلاً، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
(إن لله أقوماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم).(25/11)
الإحسان إلى الفقراء والضعفاء
ومن مفاتيح الرزق الإحسان إلى الفقراء: فقد روى الإمام البخاري عن مصعب بن سعد رضي الله عنه قال: (رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلاً على من دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) يعني: هل ينصركم الله ويرزقكم إلا لأجل الضعفاء.
فالضعفاء هم أصحاب المنة وليس الذين يتصدقون عليهم ويعطونهم، فمن أراد أن ينصره الله على أعدائه وأن يوفر له الرزق؛ فليكرم الضعفاء وليحسن إليهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من أراد أن يرضيه فليرض الفقراء والمساكين، فقال في الحديث: (ابغوني في ضعفائكم -أي: من أراد أن يرضيني ويحسن إلي فليحسن إلى الضعفاء- ابغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).(25/12)
الدعاء والزواج
ومن الأسباب التي تؤدي إلى استنزال رزق الله تبارك وتعالى الدعاء، وهو سبب عظيم من أسباب جلب الرزق.
وكذلك الزواج، قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (حق على الله تعالى عون من نكح التماس العفاف عما حرم الله) أو كما قال، وقوله: (ثلاثة حق على الله عونهم: وذكر الناكح يريد العفاف).(25/13)
الهجرة في سبيل الله
ومن أسباب سعة الرزق الهجرة في سبيل الله عز وجل: والهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان كمن هاجر من مكة إلى المدينة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء:100] يعني: إذا هاجر من بلد إلى بلد يجد في هذه الأرض التي هاجر إليها من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته، وذلك أن من ترك بلده وذهب إلى بلدة أخرى واستقر أمره فيها، وصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته فخجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك، وقوله: (وَسَعَةً)، يعني: سعة في الرزق، أو سعة من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى، وقال مالك: السعة سعة البلاد.
وقد شهد العالم بصدق هذا الوعد ولا يزال يشهد، وما أمر المهاجرين إلى المدينة المنورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاف على من له أدنى صلة بالتاريخ الإسلامي، فإنهم لما تركوا البيوت والأموال والمتاع للهجرة في سبيل الله تعالى عوضهم الله تعالى عنها أن أعطاهم مفاتيح الشام وفارس واليمن، وملكهم قصور الشام الحمراء، وقصر المدائن الأبيض، وفتح لهم أبواب صنعاء، وسخر لهم خزائن قيصر وكسرى.
فخلاصة تفسير هذه الآية كما قاله الرازي: كأنه قيل: يا أيها الإنسان! إن قلت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفاً من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر؛ فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة العظيمة في مهاجرتك ما يكون سبباً لرغم أنوف أعدائك فيكون سبباً لسعة عيشك.
فالحركة والسعي في الأرض لطلب الرزق الحلال ليس فيه حرج، وقد وعد الله من هاجر في سبيل الله سبحانه وتعالى بالرزق والإخلاف، لكن لا تكون هذه الهجرة محرمة، كالهجرة التي انعكس اتجاهها الآن، فبدلاً من أن تكون الهجرة من بلاد الكفر إلى دار الإسلام صارت الهجرة الآن من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار! فمن الذي يأمر بالهجرة إلى دار الكفار الله أم الشيطان؟ الشيطان، والذي يهاجر إلى بلد الكفار فإنه يطيع أمر الشيطان، ويعصي أمر الرحمن سبحانه وتعالى، إلا من كان معذوراً في حالات استثنائية، لكن أكثر الناس يريدون بذلك صلاح الدنيا فقط، فيعطون الدنيا هناك لكن لا يبارك لهم فيها، ويكون الرزق مشوباً بالشبهات أو المحرمات.
التفكير في السفر إلى بلاد الكفار تفكير مهلك، والذي يأمر بالهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفر ابتغاء سعة الدنيا هو الشيطان، وهذا لا يجوز إلا لمن كان معذوراً، فإن الله سبحانه وتعالى يأمر من هم في بلاد الكفار أن يغادروها إلى بلاد المسلمين، فالمهاجر إن عانى في دنياه، لكن يسلم له دينه، أما هناك فمن يستطيع أن يزعم أن هناك سلامة في الدين؟ بل هي فتنة الدين، وضياع وانحراف عن هدي الإسلام كما هو معلوم.
خلاصة الكلام: ذكر المؤلف في هذا الكتيب المبارك عشرة أسباب مما يستنزل به رزق الله سبحانه وتعالى، وهي: الاستغفار والتوبة بالمقال والفعال، التقوى، التوكل، التفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى، والمتابعة بين الحج والعمرة، وصلة الرحم، والإنفاق في سبيل الله تعالى، والإنفاق على أهل الخير سيما طلبة العلم الشرعي، والإحسان إلى الضعفاء، والمهاجرة في سبيل الله عز وجل، وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان، ابتغاء مرضاة الله تعالى وفق ما شرعه الله عز وجل.
ثم يقول المؤلف في نهاية البحث: وأوصي إخواني المسلمين في أرجاء المعمورة بالتمسك بتلك الأسباب لنيل الرزق، فإن الخير كله في التمسك بما شرع الخالق عز وجل، والشر كله في الإعراض عنه.
هذا؛ وما عند الله لا ينال بمعصيته، وإنما ينال بطاعته، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، ويقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:125 - 126].
وصلى الله تعالى على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وبارك وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(25/14)
حكم إسبال الثياب
إسبال الإزار من المخالفات الظاهرة التي تدعو للكبر، وهو من كبائر الذنوب، وقد جاء النص صريحاً بتحريمه مطلقاً، ولكنه يكون بقصد الكبر والخيلاء أشد تحريماً.(26/1)
وصايا ونصائح نبوية مهمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(26/2)
تعظيم الصحابة لحق الرسول في الأمر والنهي
عن أبي جُرَيّ جابر بن سُليم رضي الله عنه قال: (أتيت المدينة، فرأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله، قلت: عليك السلام يا رسول الله -مرتين- قال: لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك.
قلت: أنت رسول الله؟ فقال: أنا رسول الله الذي إن أصابك ضرّ فدعوتَه كشف عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوتَه أنبَتَها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضّلتْ راحلتك فدعوتَه رَدَّها عليك.
قلت: اعهد إلي، قال: لا تسبّنّ أحداً.
فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة، قال: ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك؛ إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه؛ فإنما وبال ذلك عليه).
هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
أبو جُرَيّ بضم الجيم وفتح الراء وتشديد الياء، هو جابر بن سُليم بالتصغير.
قوله: (أتيت المدينة فرأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه) أي: يرجعون إلى رأيه ويعملون بما يأمرهم به، ويجتنبون ما نهاهم عنه، وهذا كان حال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، بل كانوا أشد الناس طاعة وامتثالاً لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان القادم أو الرائي إذا رأى الصحابة رضي الله عنهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجب وينبهر عندما يراهم يلتفّون حوله صلى الله عليه وسلم ثم يصدرون عن رأيه امتثالاً له.
وقد شبّه المنصرفين عنه بعد توجههم إليه للسؤال عن مصالحهم ومعاشهم ومعادهم بالإبل الواردة إذا صدرت عن المنهل، فعبر بقوله: (يصدر الناس عن رأيه) وأصل الصدور: أن الناس إذا كان معهم الجمال مثلاً، وأرادوا أن يسقوها، فيسمى التوجه نحو البئر الذي يستسقى منه الورود، أما الصدور فيكون بعد الري وبعد زوال الظمأ، تقول: صدرت صدوراً، بمعنى الانصراف بعد الري.
فعبّر عن ري الصحابة رضي الله عنهم وتشبعهم وامتثالهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الإبل الواردة إذا وردت الماء لتشرب وترتوي ثم تنطلق عنه، فهكذا كانوا ينهلون من نمير سنّته صلى الله عليه وسلم، ويُذهبون ظمأهم بمجالسته والأخذ عنه.
قوله: (لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه) أي: عملوا به، وهذه صفة كاشفة توضح المقصود من قوله: (يصدر الناس عن رأيه) أي: لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه.(26/3)
من آداب السلام
قوله: (قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله، قلت: عليك السلام يا رسول الله! عليك السلام يا رسول الله!) قالها مرتين، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه في المرة الأولى فلم يجبه، أو أنه سمعه وامتنع عن جوابه تأديباً له؛ لأنه سلّم بطريقة غير صحيحة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقل: عليك السلام) وهذا النهي نهي تنزيه، أي: لا تبدأ التحية بكلمة: عليك السلام؛ فإن (عليك السلام تحية الميت)؛ لأن هذه كانت تحية الميت وكانت عادتهم في زمان الجاهلية، حيث لم يكن لهم وعي بالأمور الشرعية التي يحبها الله.
وقال بعض العلماء: أراد أنه ليس مما يُحيّا به الأحياء، وأنه شُرع له أن يحيي صاحبه، وشرع له أن يجيبه، وقد جاءت في الشريعة صيغة معينة لابتداء السلام وصيغة أخرى لرد السلام، فصيغة ابتداء السلام أن تبدأ بكلمة: السلام عليك، ويأتيك
الجواب
عليك السلام، فوضْعُ الجواب في موضع الابتداء غير موافق للآداب الشرعية في ابتداء السلام، فلذلك قال له: (لا تقل: عليك السلام، (عليك السلام) تحية الميت).
فلا يحسن أن لما وُضع للجواب أن يوضع موضع التحية التي يبتدأ بها، فهذه تحية الميت عند الجاهلية كما كانوا يقولون: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما فكانوا في الجاهلية يحيون الميت بقولهم: عليك السلام، فيمكن أن تبدأ في تحية الميت بقولك: عليك السلام، وإن كان قد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ تحية الأموات بالسلام، فكان يقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) فكان يبدأ أولاً بالسلام، يوضح هذا كلام بعض العلماء: أنه لم يرد بهذا الحديث أنه ينبغي أن يُحيّا الميت بهذه الصيغة -أي: عليك السلام- إذ قد سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأموات بقوله: (السلام عليكم)، وإنما أراد به أن هذا تحية تصلح أن يُحيّا بها الميت لا الحي، فهي يمكن أن تقولها للميت؛ لأن الميت لن يرد عليك، أما حينما تحيي الحي فتقول: عليك السلام، فهذا لمعنيين: المعنى الأول: أن (عليك السلام) شرعت لجواب التحية، ومن حق المسلم أن يحّيي صاحبه بما شرع له من التحية، فيجيب صاحبه بما شُرع له من الجواب، فإذا قلت في الابتداء: عليك السلام، فقد جعلت الجواب مكان الابتداء بالتحية، وهذا للحي، أما في حق الميت فإن الغرض من التسليم عليه أن تشمله بركة السلام، والجواب غير منتظر في هذه الحالة، فأنت لا تنتظر من الميت أن يقول: وعليك السلام، فإذا بدأته بعليك السلام، فهذا يناسب هذا المقام ولا يعترض؛ لأن (عليك السلام) يقولها الحي جواباً للسلام عليك، فيجوز أن يسلم الإنسان على الميت بكلتا الصيغتين.
المعنى الآخر: أن من فوائد السلام أن المسلم يُسمع الذي يسلم عليه لفظ السلام أولاً، وهذا يحدث نوعاً من الاستئناس والألفة حينما تبدأ بالسلام عليك، أما حينما تقول: عليك السلام، ربما توجس السامع هل سوف تلعنه؟ هل ستدعو عليه؟ هل سوف تسبه؟ فربما أحدثت وحشة، أما حينما تبدأه بالسلام عليك، فقد بدأت بما يُطمئنه وهو لفظ السلام، فيحصل الأمن من قلبه، فأمر الشرع بالمسارعة إلى إيناس الأخ المسلم بتقديم السلام، وهذا المعنى غير مطلوب في الميت، فساغ للمسلم أن يفتتح من الكلمتين بأيتهما شاء.
وقيل: إن عُرف العرب أنهم إذا سلموا على قبر قالوا: عليك السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (عليك السلام تحية الميت) على وصف أعراف العرب وعادتهم، لا أنه ينبغي أن يُسلّم على الأموات بهذه الصيغة، خاصة وأن الذي ثبت في السنة: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) إلى آخره.
وبعض العلماء قالوا: إن (عليك السلام) هنا هي جواب النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه في مقام الرد، فقال: (عليك السلام)، ثم قال: (تحية الميت) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هي تحية الميت، ثم قال له: (قل: السلام عليك) يعني: إذا سلمت، فإن الأفضل أن تبدأ بلفظ السلام.(26/4)
إخلاص الدعاء لله
قوله: (قلت: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله)، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (أنا رسول الله الذي إن أصابك ضر)، ولفظ (الذي) يعود إلى الله سبحانه وتعالى، وقوله: (ضُر) أو (ضَر) يجوز بالضم وبالفتح، (فدعوتَه) أي: دعوت الله سبحانه وتعالى الذي أرسلني.
(أو أتيتني لأدعو لك) بالشفاعة أو بوسيلة الدعاء كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64] فإما دعوت الله بنفسك أو بوسيلتي بأن أدعو أنا لك.
قوله: (كشفه) أي: أزال الله ذلك الضر عنك.
قوله: (وإن أصابك عام سنة) السنة: هي القحط، إذ لا مطر فيها، والجدباء التي لا تنبت الأرض فيها شيئاً، وقوله: (أنبتها لك) أي: صورها ذات نبات لك.
قوله: (وإذا كنت بأرضٍ قفر أو فلاة) وفي رواية أخرى بالإضافة: (وإذا كنت بأرضِ قفر أو فلاة) يعني: فلاة أو صحراء خالية من الماء والشجر، وقوله: (أو فلاة) وهي المفازة المهلكة البعيدة عن العمران، وتكون محفوفة بالمخاطر.
قوله: (فضلت راحلتك) أي: فحادت ومالت عن الطريق، أو غابت عنك، وهو الأظهر، لقوله: (فدعوتَه ردها عليك) بأن غابت عنك فدعوته ردها عليك بعد أن غابت عنك وافتقدتها.(26/5)
النهي عن اللعن والسب وفاحش القول
قوله: (قلت: اعهد إلي)، يعني: أوصني، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60].
(قال: لا تسبّنّ أحداً) أي: لا تشتمه، وإنما عهد صلى الله عليه وسلم إليه بعدم السب؛ لعلمه أن الغالب على حاله أنه كان يسب الناس، فنهاه عن هذه الخصلة.
قال: (فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة) أي: بعد ذلك العهد الذي أخذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم من لسانه الإنسان والحيوان سدّاً للباب، وإن كان يجوز سب إنسان مخصوص علم كفره كفرعون أو أبي لهب وغيرهما، فإنه لا ضرر في سب الكافر، ومع جواز السبّ في حق الكافر فالأفضل الاشتغال بذكر الرحمن حتى عن لعن الشيطان، فإن خطور ما سوى الله في الخاطر نقصان، فلا تشغل قلبك بغير ذكر الله، فالسب لا يستحب، وغاية السب أو اللعن أنه جائز في أحوال معينة ولأشخاص معينين، تقول مثلاً: لعنة الله على الظالمين لعنة الله على الكافرين لعن الله من فعل كذا، كما كان يقول ذلك صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن أفعال مخصوصة، وفي الحديث: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فالمسلم -وإن لَعَن- ينبغي له أن يقلّ من اللعن، ولا يكون ديدنه وعادته السب واللعن؛ حتى لا يتعود لسانه ذلك، وربما جرّه كثرة ذلك إلى أن يوقعه في غير موقعه، فسدّاً للذريعة ينبغي للمسلم أن يمسك عن اللعن، كما وصف بعضُ الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كان لا يذم أحداً ولا يعيبه حتى لو كان مستحقاً لذلك).(26/6)
النهي عن احتقار المعروف وأعمال الخير
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تحقرن شيئاً من المعروف) أي: من الأعمال الصالحة، أو من أفعال الخير والبر والصلة، ولو كان قليلاً أو صغيراً، فلا تحتقر أي شيء من المعروف ما دام داخلاً تحت اسم المعروف الذي أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن دقّ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون في امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه، حتى في أدق الأمور؛ امتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: التزموا جميع شرائع الإسلام.(26/7)
فضل البشاشة وحسن الخُلق
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وأن تكلم أخاك) أي: وكلم أخاك تكليماً، (وأنت منبسط إليه وجهك) أي: باشّ الوجه في وجه أخيك، فالابتسام أو التبسم في وجه أخيك صدقة تتصدق بها، ويأجرك الله سبحانه وتعالى عليها، فالمعنى: أن تتواضع لأخيك، وتطيب الكلام؛ حتى يفرح قلبه بحسن خلقك.
قوله: (إن ذلك) أي: الكلام مع انبساط الوجه (من المعروف) يعني: من المعروف الذي لا ينبغي أن تحقره أو تنكره، فلا ينبغي أن تتركه وتقول: هذا أمر يسير، بل هو باب من أبواب المعروف الذي نهيت عن احتقاره أو التفريط فيه.(26/8)
النهي عن الإسبال والخيلاء
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وارفع إزارك إلى نصف الساق) أي: ليكن سروالك وقميصك قصيرين، (فإن أبيت فإلى الكعبين) أي: فإن أبيت رفع الإزار إلى نصف الساق فارفعه إلى الكعبين ولا تتجاوزهما.
ثم قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً هذا الحكم: (وإياك وإسبال الإزار) يعني: اجتنب إسبال الإزار، أي: أن ينزل ثوبك عن الكعبين، وهما العظمان الناتئان في أعلى القدم، (فإنها) أي: هذه الفعلة أو هذه الخصلة وهي: الإسبال وإرسال الثوب وإرخائه (من المخيلة) أي: من الكبر والعجب، (وإن الله لا يحب المخيلة).(26/9)
فضل مقابلة السيئة بالحسنة
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإن امرؤ شتمك) أي: سبك أو لعنك، (وعيرك بما يعلم فيك) أي: لامك بما يعلم من عيبك سواء كان العيب فيك أم ليس فيك، لكنه ظلمك بأن سبك بشيء هو فيك أو ليس فيك، (فلا تعيره بما تعلم فيه) يعني: لا تقابل عمله بمثله، فإن الذي ظلمك لا يجوز لك أن تظلمه، والذي يخذفك لا يجوز لك أن تخذفه؛ مراعاة لحرمات الله سبحانه وتعالى، ولا يستفزّنك فعله وظلمه إياك بأن تنتهك حرمته وتكشف ستره، وتعيره بما تعلم فيه، فضلاً عما لا تعلم، فإن كان الذي تعلمه عنه نهيت أن تعيره به، فمن باب أولى ألا تعيره بما لا تعلمه فيه.
قوله: (فإنما وبال ذلك) أي: إثم ما ذكر من الشتم والتعيير، (عليه) أي: على ذلك المرء، ولا يضرك شيء، وفي بعض روايات هذا الحديث: (فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه).(26/10)
أهمية طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره
يقول الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه في تعظيم حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أغرّ عليه للنبوة خاتمٌ من الله مشهود يلوح ويشهدُ وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمهِ إذا قال في الخمس المؤذنُ أشهدُ وشقّ له من اسمه ليجلّه خذو العرش محمود وهذا محمدُ نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ من الرُّسْل والأوثان في الأرض تُعبدُ فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً يلوح كما لاح الصقيلُ المهنّدُ وأنذرنا ناراً وذكّر جَنّةً وعلّمنا الإسلام فاللهَ نَحمدُ تعاليتَ ربّ الناس عن قول من دعا سواك إلهاً أنت أعلى وأمجدُ لك الخلق والنعماءُ والأمرُ كُله فإياك نستهدي وإياك نعبدُ لقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، والردّ إلى الله هو الرجوع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه في حياته، والرجوع إلى حديثه وسنته بعد مماته صلى الله عليه وسلم.
وقال الله عز وجل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي: عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] قال الإمام أحمد: الفتنة: الكفر، وقال الله عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
فانظر كيف يُقسِمُ الله سبحانه وتعالى بقوله: (فَلا وَرَبِّكَ) أي: ورب محمد عليه الصلاة والسلام، ((لا يُؤْمِنُونَ)) ينفي عنهم الإيمان إلى غاية هي: ((حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)).
إذاً: يكونون مؤمنين إذا امتثلوا الأمور التالية: أولاً: التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ).
ثانياً: (ثم لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) فَنَفَى الإيمان عمن يجد في صدره حرجاً من شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.
ثالثاً: ((وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) وهذا يعني كمال الانقياد والإذعان والرضا -أي: رضا القلب واعتزازه- بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآيات كثيرة في هذا المعنى.
أما الأحاديث التي توجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء فيما جاءت السنة مبينة لما ورد في القرآن كالصلاة والزكاة وغيرها، أو فيما استقلت به السنة من الأحكام، والتي تكذبها طائفة القرآنيين الضالة التي تكذب بالسنة ولا تثبت حُجّيتها.
ومن الأحاديث الدالة على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وآله سلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) رواه البخاري.
وأيضاً ما رواه أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وَعَظَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مُودّع فأوصنا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمرّ عليكم عبد حبشي، فإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) قال الترمذي: حديث صحيح.
وأيضاً ما رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يُحرّم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا وإني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل هذا القرآن أو أكثر).(26/11)
نماذج من تعظيم الصحابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد طبّق الصحابة رضي الله تعالى عنهم هذه الآيات والأحاديث أحسن تطبيق وأجمله، فكانوا ينقادون لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمتثلون تكاليفه يرضى وطيب نفس.(26/12)
تحري عمر وابن عمر اقتفاء السنة
أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، حينئذٍ أخذها من هؤلاء.
وأخرج الشيخان من طريق ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر رضي الله عنه خرج إلى الشام، فلما جاء سرغ -وهي قرية على طريق الشام عند وادي تبوك- بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً) فرجع عمر من سرغ لمّا بلغه حديث عبد الرحمن بن عوف.
وأخرج الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا النساء بالليل من المساجد، فقال بعض بني عبد الله بن عمر: والله لا ندعهن يتخذنه دَغَلاً) والدَّغَل: المكان الذي فيه شجر كثير ملتف، فيكمن فيه من أراد أن يتخفّى من الناس، فهذا ابن عبد الله بن عمر قال: والله لا ندعهن يتخذنه دغلاً! فضرب ابن عمر صدر ابنه حينما اعترض ولم يتأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أُحدّثك عن رسول صلى الله عليه وسلم وتقول ما تقول؟! قال الشافعي: ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحداً أُخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبل خبره، وانتهى إليه، وأثبت أن ذلك سنّة.
وأخرج الشيخان عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يُقبّل الحجر -يعني: الحجر الأسود- ويقول: أَعلمُ أنك حجر ما تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبّلك ما قَبّلتك.
وقال خالد بن أسيد لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنك تجد صلاة الحذر وصلاة الخوف في القرآن ولا تجد صلاة السفر في القرآن؟ فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: (يا ابن أخي إن الله عز وجل بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، وإنما نفعل كما رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم).(26/13)
شدة تأدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وحبهم له
وقد ثبت عن الصحابة نماذج تدعو إلى الإعجاب في شدة تحرّيهم وطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا عروة بن مسعود وقد بعثته قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية كي يجري بعض المفاوضات، فلما رجع إلى قريش قال لهم وهو يصف الصحابة رضوان الله عليهم: أي قومي! والله لقد وفدتُ على الملوك، ووقفتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-؛ والله إن يتنخّم نخامة -يعني: ما تنخم الرسول صلى الله عليه وسلم نخامة- إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده -أي: حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وإذا أمرهم ابتدروا أمره-أي: تسابقوا في تنفيذ أمره- وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -أي: على الماء الذي يتوضأ منه تبركاً به- وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون إليه النظر تعظيماً له.
وهذا من الأدب ألا تُحدّ النظر إلى كبار السن أو العلماء أو أهل الفضل.
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد إسلامه: إنه لم يكن شخص أبغض إلي منه صلى الله عليه وسلم فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إلي منه ولا أجل في عيني منه، ولو سُئلت أن أصفه لكم لما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم.
أي: أنه كان يستحي من النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمه فلا يحد النظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك نماذج أخرى أيضاً مما ينبغي أن نستحضره في هذا الزمان الذي هو زمان غربة الإسلام بين الناس، وغربة أهل الطاعة بين السواد الأعظم من الناس.(26/14)
مبادرة الصحابة في امتثال ما أُمروا به واجتناب ما نهوا عنه
وحينما نزل تحريم الخمر مر أحد الصحابة على جماعة من المسلمين قد وضعوا الخمر في إناء وهم يشربون، فوقف عليهم وقرأ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] فالصحابة قالوا: انتهينا انتهينا، فيقول الرجل: وكان بعضهم قد ملأ كأسه وقربه إلى فمه فلما قُرئت عليهم الآية سكبوه، ولا يوجد فيهم أحد قال: أقتنع أولاً ثم بعد ذلك أُنفّذ، كما يتشدق بعض السفهاء في هذا الزمان، فيقول: أقنعني أولاً! نقول له: يكفي أن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الزهري رحمه الله تعالى: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
فقانون العبودية أن نقول: سمعنا وأطعنا.
والآن ترى امرأة تتبرج وتتهتّك، وتطيع الشيطان فيما يأمرها به من محاربة الرحمن سبحانه وتعالى، فإذا أمرتها بالحجاب قالت لك: أقنعوني أولاً! نقول لها: هل سألتِ الشيطان هذا السؤال حينما أمركِ بالتبرج والتهتك؟! لماذا لا يقال: أقنعني إلا في طاعة الله سبحانه؟! فهذا من تلبيس إبليس.
ومن هذه النماذج ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها حيث قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل؛ لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شَقَقْن مُرُوطهن فاختمرن بها.
أي: غطّين بها رءوسهن ووجوههن.
وعن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة رضي الله عنها، فذكرنا نساء قريش وفضلهن -أي: أخذن يمدحن نساء قريش ويذكرن فضائلهن- فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل؛ لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] فانقلب رجالهن إليهن -أي: رجع الرجال إلى البيوت- يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها -أي: في هذه السورة- ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به -أي: فتحجبت به تطبيقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه- فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رءوسهن الغربان -جمع غراب- وإنما شُبّهن بالغربان؛ لأن الغربان سُود، أي: أنّهنّ كُنّ يلبسن أكسية سُود.
وجاء ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فلما دخل من باب المسجد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجلسوا) فلما سمع هذه الكلمة جلس في مكانه على باب المسجد، وهو لا يدري هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبه هو أم غيره؟ لكنه جلس عند سماع الأمر فوراً، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (تعال يا عبد الله بن مسعود) فحينئذٍ قام ودخل المسجد.
وهذا علي رضي الله تعالى عنه: حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية لجهاد اليهود في خيبر، قال له: (امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي رضي الله تعالى عنه شيئاً) أي: مشى مسافة قصيرة، ثم توقف؛ لأنه تذكر سؤالاً مهماً: (فصرخ بصوته) أي: رفع صوته؛ حتى يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من سماعه؛ لأنه لم يلتفت إليه، بل وجهه إلى الجهة الأخرى: (فلم يلتفت وصرخ بصوته: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟) أي: ما هي الغاية من هذا القتال؟ فمع أنه أراد أن يقول هذا السؤال المهم، إلا أنه لم يلتفت تنفيذاً لأمره صلى الله عليه وسلم في قوله: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) فتحرى عدم الالتفات، وظل مكانه متوجهاً ناحية العدو، ولم يلتفت امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان الغرض من سؤاله الاستفسار عن أمور تمس الحاجة إليها في إنجاز مهمته هذه.
كذلك لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بهجر الثلاثة المخلفين بعد غزوة تبوك، وأتى رسول من ملك الروم وجعل يسأل: من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ فجعلوا يشيرون إليه ولم يتكلموا؛ تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم كلامهم؛ لأنه كان قد نهى عن كلامهم، فرفضوا أن يتكلموا ويجيبوا الرسول الرومي بألسنتهم؛ حتى لا يقعوا في مخالفة الأمر بالمقاطعة، وهذا من أعظم التوقير لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(26/15)
مبادرة الصحابة إلى الاقتداء بأفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم
وقال مجاهد: كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسئل: لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت.
وبلغ أيضاً من حسن اقتدائهم به صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك دون يعلموا لذلك سبباً، ودون أن يسألوه عن علّته وحكمته؛ لأن المسارعة مزية من مزايا المحبة، فمن أحب أحداً أطاعه في كل ما يأمر به واقتدى به، وهذا قد يحدث في الخير وفي الشر كما ترون كثيراً من الناس يحبون بعض الفُسّاق من الممثلين أو غيرهم، فإذا غير أحدهم في هيئته بأي نوع من التغيير، تجد كل من يحبونه يقتدون به في هذا الأمر؛ لأن هذا يدل على أثر المحبة في هؤلاء الفسقة حتى لو فعلوا بأنفسهم ما فعلوا من تغيير الهيئات، بل حتى لو تشبهوا في فعلهم بالحشرات، كما يسمون بعض الفرق الحشرية البيكز والفوب! ومعنى الفوب: الكلب! والبيكز: الخنافس! فتجد من يقتدون بهم حتى في هذه التفاهات وهذه السخافات حباً في هؤلاء المفسدين في الأرض! فكذلك إذا أحب المؤمنون رسولهم صلى الله عليه وسلم -وهم أولى بذلك- فلا ينبغي لومهم ولا عذلهم ولا عتابهم على طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا أثر من آثار المحبة، فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه تلقائياً يقتدي به حتى في الأمور التي لا تكون واجبة عليه، أو حتى في الأمور العادية التي ليست سُنّة مؤكدة.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتم من ذهب، ثم نبذه النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: رماه- وقال: (إني لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتمهم) ولم يحتج الأمر إلى سؤال ولا أخذ أو ردّ، بل فعل ففعلوا، وترَكَ فتركوا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه) أي: نزعه من يد الرجل ورماه في الأرض، (وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟ فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
فانظر إلى شدة الاقتداء والتورع، مع أن هذا الرجل قد أبيح له أن يبيعه وينتفع بثمنه، لكنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزعه من يده وطرحه في الأرض أبى أن يأخذ شيئاً قد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه وهو يصلي) وقد كان يصلي في النعلين (فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك) وهم في الصلاة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يخلع نعليه (ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما قَذَراً) فتأمل المبادرة في الاقتداء.
ولما قُدّم إليه لحم الضبّ فلم يأكله، توقف خالد بن الوليد عن الأكل وقال له: أحرام هو؟ قال: (لا، ولكني أعافه).
حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في قوم لا يعرفون الضبّ، فهو يعافه من ناحية الطبع؛ لأنه لم يتعوّد عليه.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون! ففي ذلك المجتمع كانت الأشياء تؤخذ بتلقائية؛ لأن هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام واجبنا طاعته والاقتداء به، وإتيان ما أتاه وترك ما تركه.(26/16)
الوسطية هي في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والفتنة والتطرف في مخالفته
قال الزبير بن بكار: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أُحرِم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة هذه؟! إنما هي أميال أزيدها؟! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أما سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
وبعض الناس قد ينهجون منهج الزهد والتزهيد في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع وضوح هذه الطريق التي كان عليها الصحابة، من شدة تعظيم أمره صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، بل ليس هذا فحسب! فقضية مثل هذه القضية التي نشير إليها، وهي قضية جر الثياب، سواء القميص الذي يوصف الآن بأنه قميص قصير، لكن أصل كلمة (القميص) كما قال تعالى: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف:25] يقصد به: الثوب أو الإزار -وهو غير منتشر الآن هنا- أو السراويل أو نحو هذه الأشياء.
فبعض الناس ليسوا فقط يجرّون الثياب إهمالاًَ لهدي النبي صلى الله عليه وسلم أو تهاوناً بسنّته فحسب، بل أيضاً يضحكون ويتغامزون ويتفكّهون إذا رأوا مسلماً يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويقصر ثيابه، فتصير كأنها نكتة أو شيء يُذكر للضحك وللفكاهة؛ لأن فلاناً يعتقد أن الدين هو أن يلبس الثياب القصيرة ويحمل السواك! ومن الناس أيضاً من يسمي التمسك بهذه الشعائر الإسلامية تطرفاً! فنقول: الأمر في الحقيقة ليس تطرفاً ولا تزمتاً ولا شيئاً من هذه المصطلحات الشيطانية! ولكن ينبغي إبدال كلمة (التطرف) بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]، فهو ليس تطرفاً، ولكنه اعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو احتماء وتمسك بحبل الله المتين، واسم (الاعتصام) ليس تطرفاً، بل معنى التطرف: الأخذ بأطراف الأمور في أقصى اليمين أو في أقصى اليسار، أي: بالإفراط أو التفريط، هذا هو التطرف، أما هذه الأمة في ظل هذه الشريعة فهي الأمة الوسط.
فالأصل والميزان الذي توزن به الأشياء هو أن كل ما وافق كتاب الله وسنة رسوله فهو الوسط وهو الحق وهو العدل، أما الانحراف عنهما يميناً أو يساراً بالإفراط أو التفريط بالتقصير أو بالغلو؛ فهذا هو التطرف وهو الهلاك، وأما التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الاعتصام بحبل الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنّتي)، فهذا تمسك بدين الله، وتعظيم لحرمات الله، وتوقير لشعائر الله، واعتصام بحبل الله، ولا يجوز أبداً أن يوصف بالتطرف.
ومصطلح التطرف هم يقولونه على أساس أن ما عليه المجتمع الآن من ضياع وفساد وانحلال -في نظرهم- هو الوسط وهو العدل! فكل من انحرف عنه فهو متطرف، فعري المرأة وتبرجها وتهتكها واختلاطها بالأجانب، والفسق المعروف في المجتمع على الشواطئ وفي النوادي، وغير هذه الأشياء، هذا عندهم هو الوسط والاعتدال! بمعنى أن تعيش كما يعيش أهل زمانك وأن تهلك معهم! أما إذا تمسكت بدينك فأنت متطرف!! إذا امتنعت من مصافحة النساء فأنت متطرف!! إذا فعلت الأشياء التي يُحبها الله فأنت متطرف!! أما الذي يشرب الخمر فلا يوصف بالتطرف!! أما الذي يفعل ما حرم الله جهاراً فهذا غير متطرف!! كذلك مصطلح (الإرهاب) أو (الإرهابيين)، والإرهاب يكون لأعداء الله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] وليس المسلمون يرهبون بعضهم بعضاً.
وأيضاً مصطلح (الهوس الديني)! وهذا شيء غير جديد؛ لأن الأنبياء قد رُمُوا بالجنون، كما قال الشاعر: قيل إن الله ذو ولدٍ قيل إن الرسول قد كَهَنا لم يسلم الله والرسول معه من كلام الورى فكيف أنا؟ فلم يسلم الله سبحانه وتعالى مِن سبّ المشركين حينما زعموا أنه ذو ولد! أو أنه ثالث ثلاثة! أو أن له بنات وهن الملائكة! ولم يسلم الرسل كذلك: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فهذا شأن الكفار والمعرضين عن شرع الله سبحانه وتعالى، فشأنهم أن يتطاولوا على أهل الحق بهذه المسميات الشيطانية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فالحق منحصر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج عنهما بحال من الأحوال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]، فكل من أحيا سنة، أو تمسك بها، وإن خالف كل الناس فهو معتصم بكتاب الله معتصم بحبل الله، وهذا اعتصام وتمسك ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما بينّا من قبل أن المحبة تورث المتابعة، فالمتابعة أثر من آثار المحبة، وهذا شيء طبيعي وموجود حتى بين هؤلاء الفسقة وبين من يسمونهم الجماهير، حتى أنهم يقولون: معبود الجماهير! وهي فعلاً عبادة، فغاية المحبة لا تكون إلا بتمام الانقياد والمذلة والخنوع لهذا الذي يحبونه.
فإذا كان هؤلاء حريصين على الاقتداء بآلهتهم الباطلة؛ فنحن أولى بأن نعبد الله سبحانه وتعالى على الطريقة التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم ما حدث منذ زمن قريب لأخينا مدحت وردة حينما تمسك بشيء من الشرع في قضية ستر العورة بارتداء الشورت الطويل، حيث ثار عليه القوم وأخذوا ينالون منه، ولو قال لهم: إنه موضة من الموضات، لقالوا: لا بأس به، لكن أن ينسب هذا إلى الإسلام فهذا الذي يستحق أن يحارب! فلما نسب للإسلام عادوه، أما لو كان مثل لاعبي الكرة في أوروبا أو في غيرها، وفعل ما فعل لرحبوا به واقتدوا به وقلدوه تقليد القردة! أما حينما يمتثل الإنسان أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يُقبل هذا منه أبداً بزعمهم.
وأذكر أن بعض الكُتّاب قد كتب في بعض الجرائد قائلاً: منذ سنوات ظهرت موضة أمريكية لبنطلون شورت ينزل تحت الركبة بقليل، وقد كان اسمه (برمودا) مثل مثلث (برمودا) التي كان جنود أمريكا يلبسون فيها هذا الشورت أثناء الحرب، وقد صار هذا البنطلون موضة في الستينات، وكان أولاد الأغنياء يتباهون به، وينظرون نظرات إشفاق إلى الذين يرتدون الشورت العادي، وكان ثمنه غالياً للغاية، ورغم ذلك كان موضع قبول عند أولاد الأغنياء، كما كان حلم الطبقة الوسطى.
ثم يقول: إذا جاء شاب مصري ولبس هذا البنطلون بدافع الورع، وقال: إن هذا زي يليق بي كمسلم، إن وقع هذا قال الناس: ما هذه السخافة؟! يعني: أنه إن جاءت هذه الألبسة من عند الكفار فإنهم يقتدون بها وينظرون إليها أنها المثل الأعلى، لكن عندما نتمسك نحن بديننا فإننا نلقى هذه الأذية من القوم.(26/17)
مسائل متفرقة في إسبال الثياب(26/18)
حكم إسبال الثياب للرجال
إن موضوع طول الإزار أو طول الثياب يحتاج إلى بيانٍ شافٍ لعلنا نأتي على شيء من هذا البيان فيما يلي: إن تكرار كلمة (الإزار) في كثير من الأحاديث النبوية سببه أن ملابس الصحابة في ذلك الزمان كان أغلبها هو الإزار، لكن أصبح لبس الإزار اليوم قليلاً جداً، ومع هذا فالإزار والقميص لهما نفس الحكم؛ لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص) فحكمهما واحد.
وعن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي -واسمها رهم - تحدث عن عمها -وهو عبيد بن خالد المحاربي - قال: (بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي، يقول: ارفع إزارك)، أي: ارفع إزارك عن الأرض، حيث كان يجر إزاره وثيابه، (ارفع إزارك؛ فإنه أتقى)، وفي رواية أخرى: (فإنه أنقى)، أي: أنقى لهذا الثوب، (فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنما هي بردة ملحاء)، وهو كساء مخطط فيه بياض وسواد، والمعنى أنها بردة مبتذلة أو ثوب مبتذل ليس فيه زينة، فجرّها لا يؤدي إلى الخيلاء، (قال: أما لك فيّ أُسوة؟! فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وسلم).
وعن سلمة بن الأكوع قال: كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت إزرة صاحبي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
إزرة: اسم هيئة على وزن فِعْلة.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله)، فمن خشيته لله سبحانه وتعالى أنه كان يتواضع ويقصر إزاره.
وهناك حد أدنى لثياب المسلم قد حَدّهُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليّ إزار يتقعقع) أي: كالإزار الجديد، والتقعقع: هو تحريك الشيء اليابس الصلب بصوت، (فقال: من هذا؟ قلت: عبد الله بن عمر، قال: إن كنت عبد الله) أي: العبد المتواضع لله والذليل لله (فارفع إزارك) ولم يسأله: هل أنت فعلته للخيلاء فيحرم؟ أم فعلته بغير خيلاء فيجوز؟ لكن الأمر مطلق كما نلاحظه في أغلب الروايات، قال: (فرفعته، قال: زِدْ، فرفعته حتى بلغ نصف الساق).
فهذا ابن عمر الذي هو من أفاضل الصحابة ومن أتقاهم رضي الله عنهم، لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إرخائه لإزاره، بل أمره أن يرفعه، مما يدل على أن هذا الأدب ليس مقصوداً به النهي عن الخيلاء، ولو رأى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يطيلون ثيابهم في هذا الزمان لأنكر عليهم من باب أولى.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً قال: (مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعتُه، ثم قال: زد، فزدتُ، فما زلت أتحرّاها بعد)، أي: أتحرّى الحدّ الذي حدّهُ النبي صلى الله عليه وسلم، (فقال بعض القوم: إلى أين؟ قال: أنصاف الساقين) يعني: إلى أنصاف الساقين.
وكما سبق في حديث أبي جُريّ جابر بن سُليم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين).
إذاً: نصف الساق موضع استحباب، أما المباح والجائز فإلى الكعبين، وهما العظمان الناتئتان في أسفل الساق وأعلى القدم.
ثم قال: (وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخِيْلة، وإن الله لا يحب المخِيْلة)، فوضح النبي عليه الصلاة والسلام أن أصل الإسبال هو من المخيلة، كما في قوله: (وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة) أي: نوع من أنواع المخيلة، والمخيلة قد تكون في خُلُق الإنسان، أو التكبر في مشيته، أو في أي شيء من تصرفاته، ومن هذه التصرفات: إسبال الإزار، فإسبال الإزار هو أحد أعراض مرض المخيلة والكبر والبَطَر.
وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عن الإزار فقال: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، قالها ثلاث مرات)، وقال: (من جرّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي أو كاحلي، فقال: هذا موضع الإزار، فإن أبَيْت فهذا، ثم أنزل، فقال: فإن أبيت فهذا، ثم طأطأ قبضة أخرى، وقال: فإن أبيت فهذا، حتى وصل إلى الكعبين، فقال: فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين).
فالمسلم لو أن عنده يقين بهذا التهديد وهذا الوعيد وكان الثوب تحت الكعبين لَشَعَر بالنار تلسعه في عقبه، إذا كان فعلاً يؤمن بهذا الوعيد أن هذا الموضع الذي يغطى بالثوب بعد الكعبين فهو في النار.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإزار إلى نصف الساق، فلما رأى شدة ذلك على المسلمين قال: إلى الكعبين، لا خير فيما أسفل من ذلك).
فهذه الأحاديث كلها تصرح تصريحاً ظاهراً بأن المسلم يجب عليه أن يرتدي ثياباً لا تزيد في طولها على الكعبين، ويستحب له أن يجعلها إلى أنصاف الساقين، وعاقبة من خالف هذا الأمر هي ما جاء في الأحاديث السابقة، وكذلك في الأحاديث الآتية، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)، وكما ذكرنا أن أغلب لباس الصحابة كان الإزار، فلذلك تكثر كلمة (الإزار) في الأحاديث، وتأتي أحياناً ألفاظ عامة كـ (الثوب) فتعمّ سائر أنواع اللباس على القول الراجح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المؤمن إلى عضلة ساقيه، ثم إلى نصف ساقيه، ثم إلى كعبيه، فما كان أسفل من ذلك ففي النار)، يعني: ما زاد من الكعبين فهو في النار.
قوله: (فهو في النار) معناه: أن ما دون الكعبين من قدم صاحبه فهو في النار؛ عقوبة له على فعله، فالمكان الذي يغطى في أسفل الكعبين بالإزار أو نحوه يكون عقابه في النار جزاء لهذا العمل.(26/19)
حكم إسبال الثياب للنساء
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً) أما بالنسبة للرجل فإن هناك حد واجب يحرم تجاوزه، وحد مستحب، فالمستحب: أن يكون الثوب إلى نصف الساق، أما المباح فهو إلى حد الكعبين، وما زاد عن الكعبين يحرم أن يغطى بالثياب، كما في الحديث: (لا حق للإزار في الكعبين) أما ما فوق الكعبين فهو جائز.
(فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن) أي: تنكشف أقدامهن إذا لزمن هذا الحد، (قال: فيرخينه ذراعاً) أي: ابتداء من الكعبين تقيس المرأة ذراعاً فترخيه، وهذا هو الجائز لهن (لا تزيد عليه).
فإذاً: من الخيلاء بالنسبة للمرأة أن تزيد في طول ثوبها على الذراع بعد الكعبين.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم تجرّ المرأة من ذيلها؟ قال: شبراً، قلت: إذاً تنكشف القدمان! قلت: ذراعاً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ذراعاً لا تزيد عليه).
فالنبي عليه الصلاة والسلام أذن لهن أن يزدن شبراً بعد الكعبين، ولما قالت له: (إذاً تنكشف القدمان!) أذن لهن في الإرخاء ذراعاً، ولا تزيد على الذراع، فكانت أوامره صلى الله عليه وسلم تتوجه إلى الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا إذا سمعوا شيئاً بادروا إلى تطبيقه وامتثاله.
فرأت أم سلمة رضي الله عنها أنها لا تستطيع أن تطبق هذا الأمر إلا إذا كشفت عن قدميها، وأم سلمة تعلم يقيناً أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف عن قدميها، وتعلم أن النساء لا يجوز لهن أن يقصّرن ثيابهن بحيث تنكشف سوقهن أو أقدامهن، فكأنها خشيت من حصول هذا الأمر، فتأدبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسألته فقالت: كيف يصنع النساء بذيولهن؟ ولنتأمل مدى حرص المرأة المسلمة على الستر، وهذا نستفيده من هذا الحديث، فلما أذن لهن أن يرخين شبراً، قالت: (إذاً تنكشف أقدامهن)، فإنا لله وإنا إليه راجعون، كم في هذا الزمان من النساء اللاتي هانت عليهن أنفسهن وهن ينتسبن إلى الإسلام، فتجد الرجل يجرجر ثيابه أو قميصه أو سرواله، وتجد النساء قد حسرن هذه الثياب وكلما زاد انحسار الثوب زاد وصفها بالتقدم والتطور وعدم الرجعية والتخلف! الآن يتغطى الرجال وتنكشف النساء! انعكست الأحكام كما انعكست كثير من أحوالنا، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى وجز الشوارب فنجد الرجال يطلقون الشوارب ويحلقون اللحى! كذلك نجد النساء يكشفن عوراتهن، والرجال يتسترون ويبالغون حتى يؤدي الأمر إلى مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسبال، وهذا الطول في الثياب أصلاً من شأن النساء.
فهكذا كان الحياء في المؤمنات، ترى الرسول عليه السلام في حديث الخطبة يقول للخاطب: (فإن استطعت أن ترى منها ما يدعوك إلى نكاحها فافعل)، فقوله: (إن استطعت) تدل أن هذا أمر شاق؛ لأن المرأة المسلمة لا تجود بما لا يكشفه لكل من شاء، بل هي تبالغ في التستر وفي حفظ نفسها وصيانة عوراتها، كما في الحديث: (المرأة عورة)، فيلزم ستر كل ما يطلق عليه اسم العورة، وفي الحديث: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان).
أيضاً: حينما نتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه يراها)، حيث إن النساء مع بعضهن البعض يكشفن على الأقل ثياب المهنة التي يلبسنها في البيت، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة ترى المرأة وهي غير محجبة فتذهب إلى زوجها أو قريبها فتصفها له كأنه يراها، فإن هذا من الذنوب العظيمة، ونحن الآن في هذا الزمان لا نحتاج إلى هذه الواسطة؛ فقد هانت المرأة على نفسها، وصارت رخيصة ومهينة، فهي التي تتطوع بعرض نفسها على كل من شاء من نصراني أو يهودي أو كافر أو فاجر، ولا تبالي بمن رآها، ولا تحتاج لامرأة واسطة تراها ثم تنعتها لزوجها، بل هي التي عرضت نفسها، وهانت لكل من شاء أن يراها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، فنهى المرأة أن تضرب برجلها ليسمع الناس صوت الخلاخيل في رجلها فيعلمون أنها تلبس الخلاخيل، فإذا كان هذا النهي في هذه الزينة الخفية في الأرجل فكيف الفتنة فيما تعرضه المرأة من وجهها أو سائر عوراتها؟! والله سبحانه وتعالى يقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، قال المفسرون: (خَائِنَةَ الأَعْيُنِ): أن يكون الرجل في بيت الرجل، فإذا مرّت المرأة، فإن فطن له الحاضرون والجالسون معه غَضّ بصره وتخشّع، فإذا غفلوا عنه نظر إلى من يمر من النساء.
فهذه هي خائنة الأعين، فأين التحرز من خائنة الأعين في زماننا؟ كأن لم يبق لها وجود، فأصبح الرجل يجوز بنسائه وهُن يخالطن الرجال ويجالسنهم، وتحدث المصائب التي لا تخفى على الكثيرين.
ونعرف من الحديث السابق كيف كانت المرأة المسلمة عزيزة في نفسها، وكيف كانت غيرتها على نفسها، فلم تكن كالبضاعة أو كالسلعة التي تعرض للناظرين.
فـ أم سلمة انزعجت لما سمعت هذا الحكم، وهي تعلم يقيناً أن القدم من المرأة عورة، ولا يجوز كشف القدم، فلما سمعت نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن الإسبال قالت: (كيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً، قال: إذاً تنكشف القدمان! فقال: يرخين ذراعاً ولا يزدن عليه) فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على أن قدم المرأة عورة.
يقول الإمام أحمد: كل شيء منها عورة -أي: المرأة- حتى ظفرها.
ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه).
فليتق الله سبحانه وتعالى أناس يسخرون من المؤمنات الصالحات التقيّات، فيتقدم هؤلاء الناس بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويسخرون من المؤمنة التي تتحرى هذا الحد الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشهور عن هؤلاء السفهاء أنهم يقولون في حق المرأة التي تسدل ثيابها: هذه تكنس الشارع بثيابها!! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] هذا استهزاء وتنكب وتحقير لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا جاءتهم الموضات من أوروبا وسَنَّها لهم الفساق والفاسقات من بيوت الأزياء أو الممثلات أو أهل الفن فإنهم يقتدون بأولئك ويتناقلون هذه النظم في الثياب بمنتهى الانشراح، أما إذا أتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخذلهم الشيطان، وينطق من أفواههم بهذه الكلمات الفظيعة، بأن يقول: هذه تكنس الشوارع! وهذا الكلام من التقدم بين يدي الله ورسوله، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فينتفي اختيار الإنسان إذا أتى أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم كما كان انقياد الصحابة رضي الله عنهم لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: والحاصل أن للرجال حالين -أي: فيما يجوز لهم-: الأول: حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار إلى نصف الساق.
الثاني: حال جواز وهو إلى الكعبين.
ونزيد حالة أخرى وهي حالة تحريمه، وذلك إذا نزل عن الكعبين.
وكذلك للنساء حالان: الأول: حال استحباب وهو الزيادة على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر.
الثاني: حال جواز بقدر الذراع.
تقدم الكلام في طول الإزار أو الثوب، وتحريم الزيادة على الكعبين خاص بالرجال فقط، أما طول الثياب بالنسبة للنساء فقد حدّ له النبي صلى الله عليه وسلم حداً محدودا ًزائداً على حد ثياب الرجال.(26/20)
ما جاء في الكبر والخيلاء من الوعيد الشديد
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال) هذا الحكم أقسم عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الناس قد يقصر فهمه، ويضعف يقينه بهذه الأشياء، وإذا بذل من ماله صدقة ربما ظن أنها تنقص هذا المال، فيحلف النبي صلى الله عليه وسلم بقول: (ثلاث أُقسم عليهن: ما نقصت صدقة من مال)، فلا يمكن أبداً أن الصدقة تنقص المال.
ثم يقول: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، مع أن الناس يتصورون أن العفو مذلة ومهانة، لكن يحلف النبي صلى الله عليه وسلم على عكس ذلك فيقول: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً).
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)، فكلما زدت في مراتب التذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى والتواضع لعباده رفعك الله، والناس الذين لا يستقون مفاهيمهم من الوحي الشريف لا يستطيعون أن يتصوروا هذا، فيظنون أن التواضع مذلة، لكن الواقع أنه كلما زاد العبد في تواضعه وخضوعه رفعه الله سبحانه وتعالى.
والنصوص التي تحذر من الإسبال، وتأمر بالتواضع، وتنهى عن الكبر، ليس معناها -كما يفهم بعض الناس- أن المسلم مطلوب منه أن يظهر بمظهر قذر أو مهين! بل إن الشرع قد حث على النظافة وعلى الاهتمام بالمظهر، لكن بالحد المعقول الذي لا يؤدي إلى المخيلة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له شعر فليكرمه)، أي: من كان له شعر طويل فليكرمه بالدهون بالتنظيف بالطيب بالتسريح ونحوه.
وحث أيضاً على نظافة البدن، كما هو معروف في غسل الجمعة واستعمال الطيب والسواك، ونحو هذه الأشياء.
أما في الثياب ففي الحديث: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً رث الثياب، فقال له: هل لك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال أعطاني الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: فإذا آتاك الله مالاً فليُر أثر نعمة الله عليك وكرامته)، إذاً: تحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى، وأظهر هذه النعمة بأن تحسن ثيابك.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يتبختر في حلة قد أعجبته جُمّته -أي: شعره- وبرداه إذ خسف الله به، فهو يتجلجل، أو قال: يهوي فيها إلى يوم القيامة)، ونحن نؤمن بهذا الحديث؛ لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رواه البخاري ومسلم.
قوله: (فهو يتجلجل فيها)، أي: بسبب هذا الكبر حتى الآن إلى يوم القيامة لا زال يتجلجل، فكأن له شقاً في الأرض يتجلجل -أي: يندفع بشدة واضطراب- في هذا الشق إلى يوم القيامة؛ لأنه كان معجباً بجمته وقد أسبل إزاره.
والكبر له مظاهر شتى، وليس مَن قصر ثيابه يكون قد برئ من الكبر، فالكبر له أبواب كثيرة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: يُستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمّر ثوبه.
قد سبق ذكر الأحاديث في تحريم الإسبال مطلقاً، لكن من فعل ذلك متعمداً، وقاصداً المخيلة والتكبر والتجبر، فهناك أحاديث كثيرة تبين مضاعفة هذا الوعيد.(26/21)
تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لحرمة الإسبال
لنتأمل كيفية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر؛ لأن مثل هذه المسائل والأمور إذا طرقت بعض الناس فإنهم يهيجون ويصخبون ويموجون، ويقولون: الإسلام ضائع وأنتم تتكلمون في إسبال الإزار! هل تقصير الإزار هو الذي سوف يحرر فلسطين؟! إسبال الإزار سيفعل كذا؟! وهذا من كلام متفيهقة هذا الزمان!! عن
الشريد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلاً من ثقيف)، أي: رأى رجلاً من ثقيف يمشي، فتبعه (حتى هرول في أثره) يريد أن يلحقه ويدركه، فهرول وجرى في أثر هذا الرجل طالباً إياه (حتى أخذ ثوبه) فلما أدركه أخذ ثوبه حتى يوقفه ويكلمه، فقال: (ارفع إزارك، فكشف الرجل عن ركبتيه)، أي: ليبين له سبب إسباله لإزاره، (فقال: يا رسول الله! إني أحنف، وتصطكّ ركبتاي)، وهذا شيء من خلقة الله سبحانه وتعالى في هذا الرجل، فكأنه بإسباله لإزاره يستر ذلك الأمر؛ لأن ركبتيه كانت تصطدم بعضهما في بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله عز وجل حسن) يعني: ما يضرك من ذلك؛ فإن أي صفة من خلق الله سبحانه وتعالى فهي تكون على أحسن ما يكون، وهذا مفهوم من المفاهيم الضرورية جداً، ويجب أن نتيقن هذا الأمر، فإن كل خلق الله سبحانه وتعالى بأي هيئة فهو حسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88]، وقال عز وجل: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64]، وقال سبحانه وتعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8]، وقال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، وقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70].
ثم يتفاوت الناس بعد ذلك فيما يمنح الله هذا من صفات الجمال أو من الصفات الأخرى، فهذا رزق الله سبحانه وتعالى، وهذا خلق الله مع أنه قد يتفاوت، لكن الأصل أن كل ما يخلقه الله سبحانه وتعالى حسن.
فلا يعيب الإنسان خلقاً من خلق الله، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي كان يستحي أن تظهر رجلاه وبهما حنف: (كل خلق الله عز وجل حسن)، قال الشريد: فلم يُرَ ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات؛ امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهو قد كان أطال الإزار؛ لأن ساقيه كانتا نحيفتين، وتصطدمان ببعضهما، فظن أن من العار إظهارهما! فإذا كان هذا عذر هذا الرجل فما بالك بمن ليس له مثل هذا العذر؟! وعن عمرو بن فلان الأنصاري قال: (بينما هو يمشي قد أسبل إزاره، إذ لحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصيته)، وهذا من الاستنكار والحزن على هذا الأمر، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بناصية نفسه، (وهو يقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك)، يقصد التواضع لله سبحانه وتعالى؛ لأنه رأى هذا الإسبال تكبر ومخيلة، فأراد أن يتواضع، وهذا كان خُلُقه عليه الصلاة والسلام، حتى إنه لما جاء مكة فاتحاً دخلها مطأطئاً رأسه راكباً على ناقته تواضعاً لله سبحانه وتعالى في بداية هذا الفتح المبين، كذلك لمّا رأى هذا الرجل وقد أسبل إزاره علم أن هذا خُلُق المتكبرين، وخلق الاختيال والبطر، فلذلك أقبل وأسرع حتى لحق عمراً ووضع يده على ناصيته وهو يقول: (اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك) يعني: أنا عبد متوغل في صفة العبودية، فأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، وكلنا عبيدٌ لك، يعني: يقصد التواضع والتذلل بين يدي لله سبحانه وتعالى، والتبرؤ من هذا الفعل الذي هو من المخيلة.
ففهم عمرو أنه يقصد استنكار ما هو عليه من الإسبال، قال عمرو: (قلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين) يعني: دقيق الساقين ورفيعهما، (فقال: يا عمرو! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه) وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو، أي: قاس تحت الركبة مسافة أربع أصابع، فقال: (يا عمرو! هذا موضع الإزار) ثم رفعها ووضعها تحت الثانية، فقال: (يا عمرو! هذا موضع الإزار)، فهذا الحديث كالذي قبله، يصعب أن نحمله على الخيلاء؛ لأنه جاء هذا الحديث والذي قبله في صحابيين لم يقصدا الخيلاء، ولكن ذكرا علةً معينة لتغطية ساقيهما، ومع ذلك لم يعذرهما النبي صلى الله عليه وسلم، فهذان الصحابيان كانا بعيدين عن المخيلة، وكان لهما عذر، فلم يعذرهما النبي عليه الصلاة والسلام، وأمرهما برفع الإزار.
وهناك أحاديث كثيرة في ذم إسبال الثياب، وذم الإسبال يستثنى منه بعض الحالات، مثل النساء كما سيأتي إن شاء الله في الأحاديث، ويستثنى أيضاً من به جرح في الكعبين، فقد يؤذيه الذباب أو شيء من الحشرات، فيجوز له أن يغطي الجرح حتى يشفى منه، فقد أباح العلماء بعض هذا.(26/22)
الإسبال من كبائر الذنوب
عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)، وعلى هذا: فإن الإسبال من كبائر الذنوب، وليس من الصغائر، قال: (فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات)، أي: كرّر هذا الوعيد ثلاث مرات، فحينئذٍ قال أبو ذر: (خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل إزاره، والمنّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).
قوله: (المسبل إزاره) أي: إسبال الإزار تحت الكعبين.
وقوله: (والمنّان) أي: الذي يعطي الناس ثم يمنّ عليهم كما قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]، فالمنان يتبع عمله الصالح بالمن على الناس وأذيّتهم.
وقوله: (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) أي: الذي يحلف اليمين الغموس ليروّج سلعته، كمن يقول: والله إني خسرت كذا، أو والله إني اشتريتها بكذا.
وهو يعرف أنه كاذب، فيروّج السلعة بالحلف الكاذب، فهذا يمين غموس؛ لأنه يغمسه في النار كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة) أي: أنه يكسب مالاً من وراء ذلك، ولكن تنزع منه البركة، ووعيده في الآخرة إذا كان كاذباً كما ورد في حديث أبي ذر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لا ينظر إلى مسبل الإزار).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى المسبل يوم القيامة).(26/23)
ما جاء في الإٍسبال في الصلاة
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام).
وأغلب الناس الذين يُخاطَبون في مثل هذا الأمر يعلّلون فعلهم هذا بأنهم لا يقصدون الخيلاء، والحقيقة أن جميع الذين يتتبعون الموضة إنما يقصدون عمداً الخيلاء، وكذا الذين يطيلون ثيابهم بهيئة معينة إنما يقصدون بذلك الخيلاء.
وبالنسبة للحديث السابق: (من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام) فهذا الوعيد أتى خاصة في الإسبال في الصلاة، وهذا لا يعني أن الإسبال خارج الصلاة ليس فيه وعيد، بل الوعيد متحقق كما في حديث أبي ذر وغيره.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي وقد أسبل إزاره، فانصرف من صلاته وقال: (اذهب فتوضأ) فذهب فتوضأ، وأتى فصلى، فقال له: (اذهب فتوضأ) ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ علم الرجل أنه فعل شيئاً كبيراً، فقال له: (إنك كنت تصلي وأنت مسبل إزارك) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، وأراد بهذا أن ينبهه؛ لأنه ارتكب شيئاً غير صحيح وهو إسبال الإزار في الصلاة.
وهناك أمر منتشر بين كثير من الشباب، والدافع له غير معروف حتى الآن، وربما فعل أحدهم ذلك فقلّده العشرات، وتلقاه جيل عن جيل، وهو أن البعض يلبس بنطلوناً طويلاً، أي: سروالاً قد أسبله، فإذا أراد الصلاة شمّر هذا البنطلون من أسفل؛ حتى يخرج من الوعيد الوارد في هذا الحديث، ويصلي وهو غير مسبل لسرواله، ونقول لهذا: إنما تخدع نفسك لسببين: أولاً: هذا التصرف فيه كثير من المغالطات؛ لأنك منهيّ عن الإسبال، سواء داخل الصلاة أو خارج الصلاة، فالأصل أن البنطلون أو السروال يكون إلى الكعبين على أقصى مسافة مباحة، وما عدا ذلك فهو غير جائز؛ لأنه من المخيلة.
ثانياً: أنك بهذا الفعل كالمستجير من الرمضاء بالنار! تريد أن تفرّ من الوعيد في حق الذي يصلي وهو مسبل إزاره فتقع في مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشمير في الصلاة، حتى أنه في الحديث: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد شمر كُمّ ثوبه وهو يصلي، فأتاه فبسط هذا الثوب وحله).
ونهى عن الكف في الصلاة، وهو الضم والتشمير.
فأنت تقع في مخالفة بتشمير طرف البنطلون أو الكُم.(26/24)
الهيئة المثالية للمسلم هي اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه
ينبغي للمسلم أن يمشي بثيابه على الهيئة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يتعزى بقول الفضيل بن عياض: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلّة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
وهذا يبين معنى الغربة، وأن من الغربة أن تعيش بين أناس يسخرون منك أو يضحكون أو يتفكهون بعملك الذي أنت فيه متبع لسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد جاء في حديث حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بعضلة ساقه، وقال: (هذا موضع الإزار، فإن أبيت فهذا)، وطأطأ قبضة أخرى، ثم قال له: (لا حق للإزار في الكعبين) فلو كان النهي فقط إذا قصد به الخيلاء فلماذا حدد له؟ ولماذا قال له بعد ذلك: (لا حق للإزار في الكعبين)؟! فلو كان المقصود تحريم الإسبال بخيلاء فقط لأباح له أن يطيل، ولكن القصد: إن كنت تفعله خيلاء فلا تفعله، وإن كنت لا تفعله خيلاء فاتركه.
فتحديده لطول الإزار حيث أمسك قبضة الساق وحدّد له الطول، لابد أنه لحكمة وهي أن هذا النهي عام، سواء كان الإسبال لقصد الخيلاء أو بغير خيلاء.
أيضاً في قوله لـ عبد الله بن عمر: (إن كنت عبد الله فارفع إزارك)، فاشترط في عبوديته لله أن يرفع إزاره، ففهم ابن عمر ماذا كان يريد منه النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان لا يرضى لأحد أن يلبس الثياب التي تزيد في طولها على الكعبين.(26/25)
اهتمام الصحابة بالأمر برفع الإزار وعدم إسباله
عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقلت: أأدخل؟ فعرف صوتي، فقال: أي بني إذا أتيت إلى قوم (فقل: السلام عليكم، فإذا ردوا عليك فقل: أأدخل، ثم رأى ابنه وقد انجر إزاره، فقال: ارفع إزارك فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جر ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه)، ولم يسأله عن نيته في إسباله، فدلّ هذا على أن جرّ الإزار في ذاته هو من الخيلاء، حتى لو لم يقصد صاحبه ذلك.
وعن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، ورأى رجلاً يجر إزاره وكان أبو هريرة في ذلك الوقت أميراً على البحرين، فعندما رأى هذا الرجل يجر إزاره -جعل أبو هريرة يضرب الأرض برجله وهو يقول: جاء الأمير جاء الأمير.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه فيه شيء من المزاح الصادق، فكأنه يريد أن يقول: أنا الأمير هنا، فاستمع لما يقول لك الأمير، وليس بقصد التكبر والفخر، بل كان عرف أبي هريرة أن يمزح المزاح اللطيف، فجعل أبو هريرة يضرب الأرض وهو يقول: جاء الأمير جاء الأمير، يعني: نفسه، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى من يجر إزاره بطراً)، أي: تكبراً وطغياناً.
وعن عمرو بن ميمون أنه حكى قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وفي آخر القصة قال: دخل شاب على عمر رضي الله عنه، فلما أدبر الشاب إذا إزاره يمس الأرض، قال عمر: ردّوا علي الغلام -مع أن عمر يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة- فردوه عليه، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك.
قوله: (أبقى لثوبك) أي: أنه يتلف عندما يحتك بالأرض كثيراً، وقوله: (أنقى) أي: أنظف؛ فإنه إذا لم يُسبل لا تصيبه الأقذار أو النجاسات، وقوله: (وأتقى لربك) لأن الله يحرم هذا الإسبال.
فتأمل كيف أن عمر رضي الله عنه وهو في أعظم اللحظات لحظة الاحتضار ومفارقة الدنيا إلى الآخرة، ومع ذلك لم يتهاون في هذا الأمر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى أعرابياً يصلي وقد أسبل، فقال: المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام، ولم يقيّد.
يقول القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجُرُّه خيلاء؛ لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله لفظاً أن يخالفه إذ صار حكمه أن يقول: لا أمتثله؛ لأن تلك العلة ليست فيّ؛ فإنه دعوى غير مُسلّمة، بل إطالة ذيله دالة على كبره.
والحقيقة أن الإنسان لو قصّر ثيابه فإنه يشعر بالتواضع فعلاً، وإذا أطالها في الغالب فإنها تكون سبباً وعلامة من علامات التكبر، لكن التواضع عند تقصير الثياب أمر يُحسّه الإنسان من نفسه إذا فعل ذلك.(26/26)
إسبال الإزار عمداً من الخيلاء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء)، وهنا كلمة الثوب يقصد بها أيّ ثوب سواء كان سروالاً أو إزاراً أو غيره (لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقّي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لست تصنع ذلك خيلاء) وهذا الحديث نحن سوف نتكلم عليه إن شاء الله فيما يلي بالتفصيل؛ لأن بعض الناس يأخذون منه أن الإنسان يجوز له أن يطول ثيابه ما لم يقصد بذلك الخيلاء، لكن أين هم من أبي بكر؟ أبو بكر ما كان يقصد ذلك عمداً؛ لأن الثوب أصلاً قصير، كان يضم الإزار بحيث إنه يكون قصيراً، لكن بسبب نحافة أبي بكر كان يسترخي فيتعاهده، ومع ذلك فكلما استرخى كلما رفعه، فهو حريص على عدم جرّ الثوب لكنه يسترخي منه أصلاً من غير قصد.
فهذا فرق بين فعل أبي بكر وبين من يتعمد أن يصنع ثوبه طويلاً، ويقول للخياط مثلاً: اصنعه لي إلى الطول الفلاني، وأبو بكر حريص على تقصير الثوب لكنه يسترخي، ثم هو يتعاهده ويحرص على رفعه حتى ينسدل، فواساه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنك لست تصنع ذلك خيلاء).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يجلجل في الأرض إلى يوم القيامة) وحتى اليوم هذا فإن الرجل لا زال يعاقب بهذا الذنب، سبحان الله هذا أمر عظيم! وقوله: (فهو يتجلجل فيها) أي: كأنه شُقّ له شق في الأرض فهو يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع، والعياذ بالله، حتى يومنا هذا وإلى يوم القيامة؛ لتكبره.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يتبختر يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يتبختر في حلة معجب بجمته)، يعني: بشعره وقد أطاله، (إذ خسف الله به فهو يتجلجل، أو قال: يهوي فيها إلى يوم القيامة).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء).
كل هذه الأحاديث تدل على أن من تعمد الخيلاء فوعيده أشد ممن لم يتعمد.
وعن هبيب بن مغفل الغفاري: أنه رأى محمداً القرشي قام يجر إزاره، فنظر إليه هبيب وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من وطئه خيلاء وطئه في النار)، ووطء الثوب يكون لمن ثوبه طويل يجرجر وهو يمشي، فإنه لطول الثياب يُداس بالرجل.
هذه الأحاديث وإن كان في بعضها ذكر الإسبال، لكن المقصود الإسبال وما هو فوق الإسبال من التكبر والإعجاب بالنفس، ولا تعارض بينها وبين ما سبق في أحاديث الإسبال، لكن هذه فيها أن الوعيد زائد؛ لأنه بقصد الخيلاء، وأنه يقصد التكبر والتبختر؛ لأن أهل النار ليسوا متساوين في العذاب، فالنار دركات كما إن الجنة درجات.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أغنيت عن عمك -يقصد أبا طالب - فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار).
فهذا يدل على أن النار دركات حسب الذنب الذي قد يوقع فيها، لكنّ أصل الوعيد موجود، مع اختلاف أنواع العذاب.
فالخلاصة: أن جر الإزار إن كان بغير قصد الخيلاء فله عذاب معين، وإن كان بقصد الخيلاء فإن العقوبة أدهى وأمر، والعذاب قد جاء به الوعيد للفريقين، نسأل الله العافية والسلامة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(26/27)
وقفة صادقة
إن للتلفاز والفيديو والبث المباشر مخاطر عظيمة جداً، ومن أعظم هذه المخاطر قطع الطريق على التائبين إلى الله، ومن مخاطرها زرع روح الجريمة في نفوس الناس خاصة الشباب، ومن مخاطرها تفكك المجتمعات والأسر.
فعلى المسلمين أن يدركوا مخاطر هذه الآلات، وأن يسعوا جاهدين في إزالة هذه المخاطر، وذلك بالتحذير منها ومن مساوئها.(27/1)
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم! صل وسلم على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات للناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر).
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، ونسبه ابن حجر إلى صحيح ابن خزيمة، وصححه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه للمسند.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه من طريق آخر: (أظلكم -يعني: أشرف عليكم وقرب منكم- شهركم هذا، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره -يعني إثمه وعقوبته- وشقاءه من قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة للعبادة من النفقة، ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه المنافق).
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والبيهقي والطبراني في الأوسط وابن خزيمة في صحيحه، وسكت عنه المنذري، وأورده الهيثمي في المجمع، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن رمانة ولم أجد من ترجمه.
ولن نطيل في شرح هذا الحديث، لكننا نريد أن نخلص منه بعبارة، هي أن هذا الشهر العظيم الذي اقتربنا منه غنم يغتنمه كلا الفريقين، يغتنمه المؤمن ويغتنمه الفاجر والمنافق.
قال العلماء في شرح اغتنام المنافق والفاجر لشهر رمضان: إن المنافق يستغل انقطاع المسلمين للعبادة في تتبع عوراتهم أو محاولة أذيتهم؛ لأنهم يكونون مشغولين بالعبادة، معتكفين في المساجد، أو مشغولين بالقيام وغير ذلك من الطاعات، فيستغل المنافقون أو الفاجرون هذه الغفلة من المؤمنين بسبب انشغالهم بالعبادة في سرقتهم أو تتبع عوراتهم، كما يحصل منهم في هذا الزمان حينما يستغلون غفلة المصلين أثناء السجود والركوع فيسرقون الأحذية أو أمتعة الناس أو غير ذلك.
والحقيقة أن هذا المعنى الذي أشار إليه هذا الحديث وفسره به العلماء فيما مضى يتضاءل جداً أمام كيفية اغتنام الفاجرين لهذا الشهر الكريم في قطع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، فقطاع الطريق لا يقتصرون على قطع الطريق ليستولوا على الأموال وعلى المتاع، بل الأضر والأسوأ والأقبح الذين يقطعون طريق التائبين إلى الله سبحانه وتعالى الذين يمضون إلى الله فيتعرض لهم قطاع الطريق لكي يحرموهم هذه الفرصة العظيمة التي هي شهر رمضان المبارك.(27/2)
التحذير من قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى
إن حديثنا سيكون حول توعية المسلمين بأخطر قاطع طريق، وهو الذي يقطع الطريق على المسلمين الذين يتوبون إلى الله عز وجل ويريدون أن يرحلوا إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ويهاجروا إلى الله ورسوله.
ونحن حينما نجتهد في أن نبين حكم الشرع في مثل هذه الفتن المتلاطمة وهذه القضايا الخطيرة، وحينما نقدم على حكم الشرع الشريف فإننا على ثقة وعلم أنه يريد بنا الخير ويريد رحمتنا، مصداقاً لقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
فلذلك لا نتصور -كما يريد أعداؤنا أن نتصوره- أن حكم الشرع تضييق وحجر وتحجير وتعنت وتطرف إلى آخر هذه المصطلحات، لكننا نثق بأن حكم الله سبحانه وتعالى هو الخير لنا في الدنيا وفي الآخرة، ونستحضر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، فأخذ يذبهن بيده، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي).
فما أصدق هذا الحديث في تصويره حقيقة موقفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه منا، وحرصه علينا وهو الرءوف الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم! فالجنادب والفراش والدواب التي تطير تتصور أنها في مكان مظلم، وحينما ترى النار تتخيل أنها كوة تستطيع أن تخرج منها إلى الضياء وإلى النور، فتقتحم هذه الأضواء بشدة وهي لا تدرك أن في ذلك حتفها وهلاكها وإحراقها.
كذلك هؤلاء العصاة الذين لا ينصتون لتحذيرات الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يخاف ويشفق على هؤلاء العصاة فيذبهم ويدفعهم عن أن ينجذبوا نحو النار ونحو الشهوات التي حفت بها النيران، وهم لا يتفكرون ولا يلمحون عواقب هذه المعاصي.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يحاول غاية جهده أن يصرفنا عن الهلكة، وإذا هلك واحد منا فبسبب أنه تفلت من يده صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار) الحجزة هي مقعد الإزار أو السراويل في وسط الجسم، فهو يمسك المرء حتى لا يقع في النار.
قوله: (وأنتم تفلتون من يدي) أي: أنا أحاول إنقاذكم ولكنكم تصرون على أن تجتذبكم هذه المهلكات.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله تبارك وتعالى فيقول: (وأسألك العزيمة على الرشد) يعني: أسألك أن ترزقني الإرادة الصادقة والجازمة على أن أختار طريق الرشاد وأتجنب طريق المهالك.
فمن منن الله على العبد أن يرزقه العزيمة على الرشد، فعلى المسلم أن ينوي المسلم الاستعداد لهذا الشهر الكريم، وأن ينوي أن يعمره بطاعة الله سبحانه وتعالى، ويعزم على أن يرشد أمره في هذا الموسم الذي هو أعظم مواسم الخيرات على الإطلاق في السنة كلها.
فإذا كان قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى يستعدون لرمضان بالفوازير والمسلسلات والأفلام والسهرات الرمضانية وغير ذلك من هذه السفاهات، حتى طلاب الدنيا من التجار وغيرهم يستعدون بطريقتهم الخاصة لاستقبال رمضان، فلا ينبغي أن يقصر عباد الرحمن وأولياء الله عز وجل عن أمثال هؤلاء في الاستعداد لاغتنام هذه الفرصة العظيمة إلى أقصى حد ممكن، ولما كانت القاعدة أن درء المضار مقدم على جلب المنافع، وأن الدفع أسهل من الرفع فمن أجل ذلك نستعد لرمضان ابتداء.
لكننا نقدم التحذير من هذا العدو قاطع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، الذي أصاب أغلب الديار شؤمه، ونقدم لذلك بهذه المقدمة فنقول: إن الأرض إذا مادت تحت أقدام الناس بالزلازل فإنه يصيب الناس الهلع والفزع والخوف والجزع، فلا تجد واحداً من هؤلاء الذين تموج بهم الأرض يستطيع أن يحدد موقفه ولا مصيره؛ لأن الجميع يكونون مأخوذين بدهشة المفاجأة، فلا يوجد لأحد فرصة أن يسأل غيره عما يفعل، بل لا يخطر في بال أحد أصلاً أن يسأل غيره.
إن العين التي تستطيع أن تسجل هذه الحركة بصدق وبموضوعية يجب أن تكون خارجة عن تأثير هذا المجال، ولا يستطيع أن يصف حال هؤلاء الناس إلا شخص واحد فقط، هو المتحرر من تأثيرهم، بحيث يراهم من بعيد دون أن يتعرض لنفس المؤثر، فهذا هو الذي يستطيع أن يعطينا تصويراً صادقاً ويصف حال هؤلاء الناس حينما تميد بهم الأرض، فيجب أن يكون في وضع معزول تماماً عن تأثيرهم.
ويبدو أن هناك عقلاً وضع وصنع قصة جحا حينما كان يقطع الغصن وهو جالس على فرع الشجرة من الجهة الخارجية، وظل يقطع هذا الغصن، وهذه القصة تعطينا صورة فقدان الوعي الذي يصاحب مثل هذه الحركة ومثل هذا التصرف، فـ جحا يقف على طرف غصن يعمل هو في قطعه من الجهة الخارجية دون أن ينتبه إلى حتمية السقوط الذي سيصير إليه، فمر به رجل ونبهه إلى هذا المصير قائلاً: احذر! فأنت بعد قليل سوف تسقط إذا تماديت في عملك.
فإذا به يلاقي هذا المصير الذي تنبأ به هذا الرجل، وبعدما سقط أخذ يعدو خلف هذا الرجل يسأله: كيف عرفت أنني سأقع؟! فأي إنسان خارج عن التأثير يستطيع أن يرى الصورة بصدق، وهذه الصورة تمثل بصدق واقع المسلمين اليوم الذين وقعوا تحت طائلة الأسر (التلفزيوني) الفتاك، والذين سقطوا ضحية إدمان الفيديو الفتان في اندفاعهم المحموم وراء أئمة الفتنة والضلال، فهذا واقع لا يتاح التخلص منه إلا للإنسان الذي استطاع أن يعزل نفسه عن مؤثراته ضمن حصانة من الفكر المزود بمقاييس الطوارئ.
يرى المؤمن هذا الواقع الذي تعيشه هذه الأسر الأسيرة التي قد ألقت بزمامها إلى التيار يقذف بها حيث اتجه وسار، دون أن تفكر في المقاومة، وأصبحت كل الطاقات المجنونة موجهة للاندفاع الأعمى وراء هذا التيار، كحالة الدفع في محرك السيارة لا عمل لها إلا الدفع، تدفع وتدفع وتدفع، لكن هذا الاندفاع إذا استمر بلا ضابط ولا زمام فإنه يقود إلى الهاوية، فالناس صاروا كالريشة في مهب الرياح، فهم كالغثاء عند نزول الكوارث، ولا رأي لخواصهم فيما يراد منهم ولا لعوامهم فيما يراد بهم.(27/3)
خطورة اقتناء جهاز التلفاز وتهافت المسلمين على ذلك
للأسف الشديد أن هذه المحنة التي تشيع فينا لا توجد سلطة في أي دولة في العالم مهما بلغ جبروتها وطغيانها تجبر الناس على أن يقتنوا جهازها، فالظلم يقع من الناس لأنفسهم لا ممن يرعاهم فحسب، وكثير من الناس ينسبون ما يحصل بنا في هذه الأيام من الكوارث والبلايا إلى الشؤم من شخص معين أو من عهد معين، والحقيقة أنه لا شؤم ولا طيرة، ولكن الفتنة ليست من هؤلاء الظالمين فحسب، ولكن الأمر كما يقول تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] أي: كذلك نولي بعض الظالمين على بعض.
وعبر السلف عن ذلك بقولهم: أعمالكم عمالكم.
إذاً: الكوارث تترى بين وقت وآخر، والنذر تتوالى، والعقوبات مطردة كلها بلايا وكوارث، فما السبب فيها؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
فهذا كله من شؤم معاصينا وتفريطنا.
ثم إن هناك من يعترضون على من يقولون: هذه الكوارث بسبب المعاصي فيقولون: أين هي المعاصي؟! أليس يحصل في اليابان وفي غيرها كوارث لأنهم كفرة ومشركون، فهم أولى بأن تحصل عندهم زلازل.
ولا نقول كما قال الشاعر الفاطمي: ما زلزلت مصر لظلم ألم بها لكنها رقصت من عدلكم طربا لكن في نفس الوقت -أيضاً- لا نقول بنظرة الشؤم، وإن كان شؤم معاصينا يعمنا أجمعين، كما قال عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
يقول الشاعر: فبذنوبنا دامت بليتنا والله يكشفها إذا تبنا.
فالمؤلم أن الناس ليسو في حالة غفلة فقط، بل في حالة رغبة محمومة وأكيدة، بحيث إنهم يتصورون إنَّ هذه الوسائل كالماء والهواء، وإذا سمع الواحد منهم عن رجل قد طهر بيته من دنس هذا الجهاز يقول: كيف يعيش؟! كيف يطيق الحياة؟! هل يمكن أن يعيش إنسان بدون هذا القوت الضروري الذي صار عندهم كالماء والهواء؟! إن قصتنا مع هذا الجهاز تشبه الفريق الذي أراد أن يحدث خرقاً في السفينة كي لا يزعج من فوقه إذا أراد أن يأتي بالماء من أعلى، فلو تركوه هلكوا أجمعين، ولو أخذوا على يديه نجوا أجمعين، فهذا هو غرضنا من تناول هذه الفتنة الفتاكة والفتانة.
ولا شك أن أخطر أنواع العقوبة هي عقوبة الاستدراج التي يسلطها الله سبحانه وتعالى على العباد، ومن الاستدراج أن يسلط عليهم الغفلة، قال عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] وقال سبحانه: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] لأن هذا الذي نسي نفسه لم يسع في فكاكها، ولم يسع في خلاصها، بل يرى أنه إذا استطاع أن يعيش حياته بالطول وبالعرض دون أن يضع في حسبانه مصيره الذي ينتظره في الآخرة فإن ذلك شطارة ومكسب حققه.
فالحقيقة أن بداية النجاة هي الشعور بالخوف تماماً، كالإنسان الذي يمس قدَمَه دبوس أو نار أو شيء ملتهب، فإذا كانت الأعصاب سليمة وعنده إحساس فبسرعة يبعد أعضاء جسمه عن هذا الخطر الذي يؤذيه، أما إذا فقد الإحساس كمريض السكر -مثلاً- الذي وصل به الحد إلى فقد الإحساس في قدمه فما أسهل أن تؤذى قدمه بهذه الأشياء وهو لا يشعر، وقد لا يفيق إلا بعد فوات الأوان.
فهذا فيما يتعلق بمظاهر هذا الإدمان الذي وصلنا إليه.(27/4)
موقف العلمانيين من خطر التلفاز
هذه القضية تتناول بطرق شتى، فنحن نسمع ونقرأ في كثير من المباحث هذه الأيام ومن قبل هذه الأيام، في بلادنا وفي غير بلادنا أن كثيراً من الناس يشتكون من التلفاز وأثره على الأخلاق وغير ذلك، لكن أغلب هؤلاء الذين يتباكون من التلفاز ومشاكله في بعض البلاد التي مازال فيها ما يسمى بالوطنية يتباكون على الوطنية والقيم الوطنية، وأحياناً يتباكون على اللغة القومية، وبعضهم يحذر من خطورة الاستهلاك الاقتصادي، وهذا في الحقيقة تناول علماني لهذه القضية الخطيرة، فهو يركز على مخاطرها على الدنيا دون أن يعطيها حجمها الحقيقي وهو خطرها على الدين، فبدل أن تكون القضية قضية حلال وحرام، وصلاح وفساد، وكفر وإيمان، وولاء وبراء، تصير القضية عندهم اللغة والقومية، والتقاليد القومية والوطنية، والهوية القومية، وغير ذلك من الاعتبارات التي تظهر التناول العلماني للقضية.(27/5)
موقف المسلمين من خطر التلفاز وغيره من وسائل الإعلام
ومما يؤسف له -أيضاً- أننا وصلنا إلى زمان أصبحنا فيه في تعاملنا مع هذه السهام المحرقة التي نرمى بها بين وقت وآخر مجرد مدافعين، وكان الأولى وقد سخر الله سبحانه وتعالى هذه الأجهزة الخطيرة مثل الفيديو أو التلفاز أو الكمبيوتر أو الشبكة الدولية (الإنترنت) وغير ذلك من هذه الطاقات العظيمة جداً، كان الواجب الأصلي على المسلمين أن يسعوا إلى إيجاد البث الإسلامي الذي يحمل هداية الإسلام إلى البشرية الظامئة إلى نور الهداية المحمدية.
كان هذا هو الموقع اللائق بهذه الأمة، أن تكون هي التي توجه وهي التي تستثمر مثل هذه الطاقات العظيمة، وبما أننا لم نغزوا فقد غزينا في عقر دارنا بالبث المباشر بكل أنواعه، فالمؤسف في القضية أننا نحن -المسلمين- مضطرون إزاء كثافة الحملة على الإسلام وعلى قيم ومفاهيم الإسلام لأن نقف أمام هذه الأجهزة التي لا نملك إلا مجرد الدفاع السلبي نحوها، كالناظرين الذين يقبعون في هامش الحياة عالة على الأمم، فنقتصر على الدفاع لأننا فقدنا زمام المبادرة.(27/6)
مخاطر التلفاز
إن بعض الناس غابت عنهم مخاطر هذا الجهاز ومساوئه، وبعضهم اعترفوا بالسلبيات، لكن نظروا إليها بمنظار مصغر عن حقيقتها فحقروها، فمن أجل ذلك كانت هذه الوقفة الصادقة مع النفس، نراجعها ونقلب أبصارنا وبصائرنا في محاسن هذا الجهاز وفي مساوئه؛ لأننا إذا فعلنا سنقرر بالفعل أن للفيديو والتلفاز وغيرهما نفعاً ما، ولكننا فوراً نتذكر قوله تعالى في شقيقيهما الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فهذه المنافع المزعومة ضخمت وأريد لها الظهور فروج لها، وأخفيت المثالب على خطورتها وكثرتها فلا تكاد تذكر.
فهذا الموضوع سنتناوله إن شاء الله ولن نفصل فيه، بل نحاول أن لا نضيع الوقت في ذكر المزايا؛ لأن المزايا يدركها كل الناس، ويتعاملون مع الجهاز تعاملا ًمباشراً، فليس الجهاز في حاجة إلى زيادة تلميع أو ترغيب، إنما هدفنا كشف ما فيه من المخاطر، لعل الله سبحانه وتعالى ينبه الغافلين، ومن باب قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
ثم إن من يريد أن يعالج مثل هذا الداء ينبغي عليه أن يقابل العلة بما يضادها لا بما يزيدها، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد قال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] فإنه بين في آية أخرى أن الذكرى إنما تنفع المؤمنين.
فأول ما نذكر به المؤمنين آية من كتاب ربنا العظيم لو فقهت معناها قلوبنا لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية الله، وإذا استيقظت ضمائرنا فلعل قشعريرة الرهبة تسري في أوصالنا ورعشة الهيبة تهز أعماقنا، إنها قول ربنا جل وعز: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] هذا هو أول ما نصدر به هذه التذكرة وهذه الذكرى، فإذا تخيلت أن نعمة السمع ونعمة البصر ونعمة القلب سوف تسأل عنها أمام الله سبحانه وتعالى فيم استعملتها فما جوابك؟! ومعلوم أن شكر النعم يكون بثلاثة أشياء: بالاعتراف بها باطناً، وبالتحدث بها ظاهراً، وبتسليطها في طاعة ومرضاة مسديها والمنعم بها الله سبحانه وتعالى، هذا هو شكر النعمة.
وإذا سألنا أنفسنا عن كل الذين يعصون الله سبحانه وتعالى من العصاة والفاسقين فما هي الآلات التي يستعملونها في المعصية؟! ما هي إلا نعم الله سبحانه وتعالى، فأعظم بحلم الله عز وجل! يعطينا هذه النعم ثم نحاربه بها ولا يعجل لنا العقوبة.
تخيل لو كان عندك عامل أو خادم كلما أمرته بشيء عصاك، ويستعمل ما أنعمت عليه في أذيتك وفي محاربتك ومبارزتك بالمخالفة، فماذا ستفعل به؟ هل تطيق أن تتحمله أو أنك ستطرده من العمل فوراً؟! تأمل هذا الكم من العصاة، وهذا الكم من المسرفين على أنفسهم، وتأمل -أيضاً- حلم الله سبحانه وتعالى الذي لا يعاجلهم العقوبة عسى أن يتوبوا وعسى أن يستعتبوا، والله سبحانه وتعالى قد ذكر هذا المعنى فقال عز وجل في الحديث القدسي: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما الذي يقول: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما الذي يقول: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) فهذا نسب النعمة إلى غير معطيها، وكذلك قال الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] يعني: نحن نرزقكم النعم ونفيض عليكم الرزق والعطايا، ثم أنتم تجعلون شكر هذا الرزق أنكم تكذبون رسولي عليه الصلاة والسلام إذ أرسلته إليكم.
وقد عبر بعض الشعراء عن هذا المعنى بقوله: أنالك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه إذاً: نتأمل هذا الجهاز التي يستعمل فيه أساساً نعمة السمع والبصر والفؤاد، فإذا نظرنا إلى واقع المسلمين فستجد أنهم ينظرون إلى هذه المناظر المنحرفة المخزية.
فنقول للواحد منهم: لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام طرق بابك وأنت جالس أمام الفيلم أو أمام المسرحية أو الأغنية هل سيفرح بك وبانتمائك لأمته، أم أنك تشعر بالعار وبالخزي وتحاول أن تستر المصيبة التي تجهر بها ولا تبالي بها؟! ألا يقدر الله سبحانه وتعالى على أن يخطف أبصار هؤلاء الذين ينظرون إلى ما حرم الله ويرتكبون معصية زنا العين كما قال عليه الصلاة والسلام؟! هل يأمنون نزول عذاب الله سبحانه وتعالى بهم بياتاً أو هم قائلون في حال غفلتهم؟! نعود إلى الآية الكريمة (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) فما ألصق هذه الآية بموضوعنا؛ لأن النعمة التي تستعمل في التعامل مع هذا الجهاز هي السمع والبصر.
وفي الحقيقة أن التلفاز هو أخطر جهاز إعلامي؛ لأنه يخاطب العين والأذن والقلب، يخاطب بالصوت وبالصورة وبالحركة، وبعض الناس يقولون: الإنسان يحصل على المعلومات عن طريق النظر بنسبة (90%) وعن طريق السمع بنسبة (8%) وأيضاً العين تجذبها الحركة أكثر من أن يجذبها أي شيء آخر.
فهذا الجهاز هو أخطر أجهزة الإعلام وأخطر أجهزة الثقافة والتربية من حيث التأثير؛ لأنه ليس مجرد أفكار معنوية يقرؤها الإنسان في كتاب أو يسمعها من مذياع، بل هو واقع حي يعيش أمام هذا المشاهد، ولذلك فإن تأثير هذه الأشياء لا يقتصر على الأفكار النظرية كما هو تأثير المؤلفات، وإنما ينطبع بصورة أشد على سلوكنا ومظاهرنا؛ فإن أفكاره تترسخ في النفوس أكثر؛ لأنها تظهر حقيقة معاشة وليست مجرد خواطر نقرؤها.
وعن طريق التلفزيون دخلت السينما إلى بيوتنا، وقد كان الناس يتكلفون في الخروج إلى السينما، أما الآن فقد انتقلت إلى داخل البيوت، ونقلت إلينا الشواطئ والحانات والخمارات ومجالس الفسوق والكفر والعصيان عن طريق التلفاز.
يقول بعض الباحثين في كتاب (الناس على دين إذاعاتهم): كان الناس قديماً على دين ملوكهم، كانوا يلتقون بهم في الأسواق وفي الأعياد وفي المساجد، كانوا يحتكون بهم ويتطلعون إليهم كقدوة فيتأثرون بهم، ولكن في العصر الحديث تنازع السيطرة على الناس زعماء الأحزاب وقادة الرأي من الكتاب والساسة والجرائد اليومية، ثم جاءت الإذاعة فتسللت إلى الناس كوسوسة الشيطان، واستحوذت على الآذان، والتفوا حولها، وما لبث أن جاء التلفزيون فاستولى على أفراد الأسرة، فضعف تأثير الأب، بل صار التلفزيون هو الأم المؤثرة في الأسرة، وأصبح الناس على دين هذه الأم.
لقد تولى بالفعل التلفزيون أمور التربية وشئونها، ولم ينتزع زمام الأسرة من الأبوين فحسب، بل انتزعه من المدرسة، وجاء بعده ما سانده وساعده على أداء مهمته وهو الفيديو، وهو ابنه البار الذي -بلا شك- يصعب التحكم فيه؛ لأنه يعتبر وسيلة غير موجهة أو غير متحكم فيها؛ لأن طابعه الدكتاتوري أشد من طابع التلفزيون؛ لأن مادته تأتي في الخفاء سراً دون رقابة، ثم إنه لا يرتبط بنوعية معينة من البرامج، أو مواعيد محددة من الساعات، ولا يبقى رقيب على الشخص بعد الله سبحانه وتعالى إلا الوازع الإيماني في قلبه إن وجد.
ثم بعد ذلك يأتي البث المباشر وما يتلوه من قفزات، فجعلت بالفعل قنوات التلفاز في العالم كله عند أطراف أصابع الإنسان العادي، حتى إنه لا يتكلف أن يقوم من الفراش كي يشغل الجهاز، وإنما يتحكم به على بعد وهو جالس يطوف العالم كله، وهذا هو الخطر الحقيقي، لقد انعقدت ألويته فوق رءوسنا يبغي إخراجنا من ملتنا وتعبيدنا لغير الله سبحانه وتعالى، أو استذلالنا واستعبادنا لنمشي في موكب الرذيلة مع القافلة إلى الهاوية.(27/7)
سبب تسابق الغربيين على نقل البث المباشر إلى ديار المسلمين
لماذا يتسابق على رءوسنا أو على عقولنا هؤلاء الغربيون حينما يتصدقون علينا وعلى البلاد الإسلامية بمنحة البث المباشر وتدعيم أجهزة البث المباشر؟! هل هذا لوجه الله؟! وهل يريدون بنا خيراً؟! لا، وإنما يعرفون أن هذا أخطر بكثير من الغزو العسكري بلا شك.
إن المقصود من ذلك كله هو تدمير شباب الأمة، وشغلهم بالشهوات والمفاسد والأفكار المسمومة.
إن شعوب الغرب معروف ما عندها من الوعي السياسي، فإذا كانت الحكومات تدفع الملايين من أجل تدعيم البث المباشر وتقديمه ليصل إلى بيوت المسلمين، فهل كان رعاياها الذين يعلمون أن هذه الميزانية تقتطع من الضرائب التي تؤخذ منهم سيسكتون أن يسكتوا لو كان في ذلك نوع من الإحسان إلى المسلمين؟! لا، لكن عرفوا أن هذه لها أشد التأثير في إضعاف المسلمين.(27/8)
الانفصام بين ديانة بعض المسلمين وواقع أعمالهم
إن من المسلمين من يرحب بالبث المباشر وسرعة إدخاله بحيث يصل إلى كل بيت دون حاجة إلى الأطباق المعروفة فرحين ومهللين ويقولون: نحن سننفتح على العالم وكذا وكذا.
وهذا يذكرني بقول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:24 - 25].
هناك شبه كثيرة عند هؤلاء الذين يرحبون بهذه النيران التي لا تبقي على أخضر ولا على يابس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فنحن لا نعجب إذا رأينا في زماننا قوماً حرموا من نعمة الهداية، فمنهم من أشرب في قلبه حب عبادة الأبقار، والتفاني في سبيل الانتصار لها بالروح والدم، حتى إن غاندي ظل يقارن بين أمه وبين البقرة التي يعبدها من دون الله سبحانه وتعالى ففضلها على أمه! وليس بعد الكفر ذنب.
فالناس وصلوا إلى هذا المستوى من الانحطاط الفكري والعقائدي والشرك بحيث عبدوا البقر.
وحكى بعض الناس أنه رأى معابد من الرخام الأبيض في بلاد شرق آسيا في منتهى الفخامة يعبد فيها الفئران، وحكى بعض الإخوة أنه رأى بعض الناس في مناطق من شرق آسيا من شدة تعظيمهم للفئران أن أحدهم يأكل والفأر يصعد على رأسه وعلى كتفه ولا يستطيع أن يؤذيه؛ لأن هذا إلهه في نظره.
فهل نعجب حينما نرى أمثال هؤلاء الناس في الشرق أو إخوانهم في الغرب ممن انتكسوا وارتكسوا وصاروا في مستوى أقل من البهائم والعجماوات في أخلاقهم وعقائدهم وأفكارهم؟! هل نعجب من أن هؤلاء يقعون بالمرة في حمأة التلفزيون والفيديو وهذه الرذائل؟! هذا لا يستغرب؛ لأن الشيء من معدنه لا يستغرب، فهؤلاء أولى الناس بهذه المهالك وهذه المآسي.
لكن العجب الذي لا ينقضي منه العجب أن نرى مسلمين حنفاء موحدين يشربون في قلوبهم حب التلفزيون والفيديو! تجد المسلم يجلس ويرى هذه المناظر القبيحة أمام بناته وأمام زوجته وأمام أبنائه ولا يتحرك ولا يبالي، وصار الشيء كأنه أمر عادي جداً، لا إحساس ولا غيرة ولا حياء، فكيف يستوي المسلم الذي يؤمن بالآخرة ويخشى حساب الله سبحانه وتعالى في الآخرة مع هؤلاء الملاحدة؟! إذاً: نحن لا نستغرب أن يقع من هؤلاء الكفار في الشرق أو في الغرب أو في الشمال أو في الجنوب مثل هذا الإسفاف وهذا الانحلال، هذا لا يستغرب؛ لأن هذا ثمرة خبيثة من ثمار عقائدهم الفاسدة وانحرافهم عن منهج الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك خصهم بنفي الإيمان بالآخرة؛ لأن الأيمان بالآخرة ينعكس في سلوك الإنسان، أما هؤلاء فلا نستغرب من أفعالهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة.
والحقيقة أن مما يتألم منه المسلم الحق أشد الألم ويشعر بالخزي ويشعر بالهوان ما يتكرر على أسماعنا بين وقت وآخر أن أختاً أسلمت، وقالت: أريد أن أهاجر إلى بلاد المسلمين حيث العلم وحيث الشريعة وحيث الالتزام بالدين، ثم يأتي أمثالها ويصدمون بالواقع الذي نحن عليه، فمنهم كما حكى لي ذلك بنفسه الأخ يوسف إسلام المغني الشهير الذي كان يسمى قبل إسلامه كات ستيفن وهو مطرب إنجليزي مشهور، حكى لي أنه أتى إلى مصر ليفزع إلى بلاد المسلمين ويجد البيئة الإسلامية والأحلام التي يتخيلها، فبمجرد أن نزل القاهرة ورأى الفساد في الشوارع، ورأى الانحلال والبعد عن الدين فزع إلى بريطانيا وقال: إن ديني في بريطانيا أقوى من تواجدي هنا.
لأنه يحاصر نفسه مع طائفة من إخوانه المتدينين الذين ما زالت عندهم طاعة الله أقوى من هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام انتساباً اسمياً أو جغرافياً.(27/9)
أسباب عدم الإحساس بخطر المعاصي والذنوب
لماذا نحن لا نحس بذلك الإحساس؟! لأنه حصل تعايش سلمي بيننا وبين المعاصي، حصل المصطلح السياسي الجديد الذي يسمى التطبيع، ليس التطبيع مع الخنازير والقردة، بل التطبيع مع قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.
صارت عادة طبيعية أن يجلس الأب والبنات والأولاد أمام التلفزيون ليعطيهم دروساً خصوصية في كل أنواع الفساد، يصحب الأولاد إلى أماكن الإدمان، يصحبهم إلى عصابات السرقة والقتل والفساد الخلقي، فهل هذا هو الواقع الذي نعيشه الآن أم أننا نكذب ونفتري؟ فنحن لا نحس بخطورة الحد الذي وصلنا إليه مثل جحا الذي كان يقطع فرع الشجرة ولا يحس أنه سيسقط، ويستغرب من شخص يقول له: سوف تسقط بعد حين.
فنحتاج إلى أن نتحرر من سلطان هذا المجال كي نحسن الحكم على هذه الفتنة.
ألا تنظر إلى الخشوع والرهبة والصمت عند من يشاهد المباريات، ولو أن طفلاً صغيراً أو واحداً من الحاضرين صرخ بصوت عال لأسكته الجميع، ألا تنظر إليهم خاشعين وهم ينتظرون ضربة جزاء، ويدعون الله: يا رب يا رب يا رب! وكأنهم على وشك أن يفتحوا القدس وأن يحرروا فلسطين؟! إنه مرض نفسي أن يصل الأمر إلى أن يعتقد أن البطولة هي في الرقص والغناء والكرة، وأن الهدف هو أن نغلب الجزائر أو نغلب دولة كذا وكذا، وصارت المصائب هي انهزام مصر في الكرة أمام دولة أخرى، وتماسيح النيل أو فراعنة مصر لابد أن يفوزوا، وإذا رأيت حال القوم فكأنهم في معبد يتهجدون ويتبتلون، وكأن قلوبهم لا تنشغل بشيء أبداً، يستغرق هذا عقولهم وقلوبهم وفكرهم، حتى لا يحس الإنسان بالجوع ولا بالعطش، وربما لا يحس بألم، ولا يحس بمن يسلم عليه، فضلاً عن أن يذكر ربه وصلاته وعبادته، وتبقى هذه المشاهد الأثيمة يختزنها في ذاكرته، ثم إن الشيطان يستدعي ما اختزنه الإنسان في ذاكرته من تلك الصور التي رآها حتى تعرض له في الصلاة، وفي مرضه، وفي مشيه، وفي كلامه، بل ربما تعرض له عند موته ويكون عليها سوء خاتمته -والعياذ بالله- وهو في وقت أحوج ما يكون إلى ذكر ربه سبحانه وتعالى، فالشيطان بهذا يريد أن يصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟! كما أن سماع المكاء والتصدية والأغاني والموسيقى وغيرها من الأشياء لا تقرب إلى الله ولا تزيد الإيمان، بل العكس هو الصحيح، فلو سألنا أي إنسان وكان صادقاً: إذا جلست أمام الفيلم أو المسرحية فهل يزيد الإيمان أم ينقص فما نظن أنه سوف يخالف في الإجابة التي نقطع بها جميعاً، وهي: زين لنا سوء أعمالنا، وكيف نفكر في أن نتوب منها؟! نحن نستحسنها ونستمتع بها، ولا نتصور الحياة بدونها.
مع أنه يتصور الحياة أحياناً بدون صلاة، وبدون صيام، وبدون حجاب، ولا يقلق ولا يشعر بأنه مرتكب كبيرة، لكن لا يتصور أن يعيش بدون هذه الأجهزة، فنحن لم ننته عن المنكر ولم ننه عنه، بل فعلنا المنكر وتواصينا به ونظرنا إليه على أنه عنصر ضروري لحياتنا لا نتصور الحياة بدونه.
بل قد يقتطع بعض الناس من قوت أولادهم الضروري حتى يقتنوا الفيديو أو التلفاز، ففي بعض المساكن العشوائية في الإسكندرية التي تبنى من الطوب ونحوه لكون البيوت تهدمت ولا يجد أصحابها أموالاً يصلحونها، اجتمع سكان هذه المناطق العشوائية وضربوا فيما بينهم حصصاً معينة على كل واحد مقيم واشتروا ما يسمى بالدش، وهذه سفاهة ما بعدها سفاهة.
فنحن في الحقيقة لم نسكت عن إنكار المنكر فحسب، بل أحببنا المنكر، ونحن راغبون فيه، حبب إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ولذلك لما قيل لبعض السلف: ما بال أهل الأهواء شديدي المحبة لأهوائهم؟ قال: ألم تر إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93].
يعني أن عبادة العجل وحب العجل جرى في أبدانهم كما يجري الدم في العروق، كذلك حب أهل هذه الأهواء للأهواء، ونتذكر هنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فإيما قلب أشربها -يعني: أحبها ورضي بها- نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء) فإذا أنكرت هذه الفتنة وقلت: اللهم! إن هذا منكر لا يرضيك ونهيت عنه، أو فعلت غير ذلك من المواقف الإيمانية فحينئذ ينكت في قلبك هذا النور الأبيض، أما من أحب المنكر ورضيه فحينئذ ينكت في قلبه نكتة سوداء.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً تمايز القلوب إلى معسكرين: (حتى تصير القلوب إلى قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض) رواه مسلم.(27/10)
دور التلفاز في انحراف الأحداث والأطفال
هناك طبيب يدعى تسيفن بانا في جامعة كولومبيا غير مسلم، يقول: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.
يعني: عندما يدخل الإنسان السجن مع المجرمين فإنه يرتقي إلى جامعة الإجرام؛ لأنه هناك يتعلم كل شيء، لكن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.
فمن أخطر مخاطر التلفاز أنه يشيع الفاحشة، وينفث روح الجريمة، ويقلب القيم رأساً على عقب، فاللصوصية بطولة تثير الإعجاب، والغدر سياسة، والخيانة فطانة، والعنف هو الوسيلة المثلى والأقل تكلفة لتحقيق المآرب، وعقوق الآباء تحرر، وبر الوالدين ظلم، وطاعة الزوج رق واستعباد، والنشوز حق، والعفة كبت، والدياثة فن راق وذوق رفيع، وهي أسرع وسيلة للإثراء، ولا ريب أن موالاة عرض الجرائم والإلحاح في ذلك يوماً بعد يوم هو من أخطر ما يدرب القلوب على التهوين من شأنها وقبول الانحراف والتعايش معه والتدرج والانخراط في سلك أهله، وصارت هذه الفضائح مألوفة عند الإنسان، فهو عندما يسمع عن جرائم الذي قتل أباه والذي قتل أمه، كل ذلك يجعله يتجرأ على هذه الجرائم.
وهذا الدكتور السعدي فرهود حكى في حوار له مع إحدى الجرائد يقول: أظنكم سمعتم أو قرأتم أن شخصاً يملك منزلاً اتفق مع مقاول على أن ينسف السلم، وفعلاً أرسل المقاول ابنه بفتيل من الديناميت ووضعه على السلم، واختار وقتاً مناسباً وهو وقت انشغال الناس بمشاهدة مباراة كرة القدم، وانفجر الفتيل، لكنه لم يهدم إلا حجرة واحدة، فمن أين عرف المقاول هذه الطريقة؟! عرفها من أحد الأفلام في السينما التي عرضت في التلفزيون.
وهكذا فإن كثيراً من الأفلام الأجنبية تعلم أحدث وسائل ارتكاب الجريمة.
انتهى كلام الدكتور فرهود.
وقد توصلت الدراسات التحليلية إلى أن التلفاز بما يعرضه من أفلام سينمائية تحتوي على مناظر إجرامية أو انحلالية قد يؤدي إلى انحراف كثير من الناس عن طريق ما تخلقه هذه الأفلام من خيالات يعيشها من يشاهدها، كما تبين من مجموعة ذكور منحرفين تناولتهم تلك الدراسة أن أحد الأفلام التي عرضها التلفاز قد أثار فيهم الرغبة في حمل السلاح، وعلمهم كيفية ارتكاب السرقات وتضليل الشرطة، وشجعهم على المخاطرة بارتكاب الجرائم.
ويحكي الدكتور عبد العزيز كامل ما يدلل به على أثر مشاهدة العنف والجريمة التي يعرضها التلفاز على الشباب، ويذكر مشهداً تكرر في أكثر من فيلم، حينما يهاجم أحد الشباب زميلاً له في مشرب أو مقهى، فيمسك بيده زجاجة فارغة ويضرب قاعدتها فتنكسر تاركة وراءها أطرافاً مسننة كل منها كأنها خنجر، ويهاجم بها خصمه في رقبته أو وجهه.
ويحكي مشهداً واقعياً آخر رآه، يقول: كان هناك جمع من الطلبة يلعبون بالكرة في فناء قريب أراه من نافذة مسكني، واختلفوا، فإذا بشاب منهم هو أقواهم قد تقمصته روح التمثيل، فرفع كتفيه وأحنى رأسه قليلاً إلى الأمام وباعد مرفقيه، وأمسك زجاجة وكسرها على سور قريب، ولكن الكسر لم يكن فنياً، فإذا هي تنكسر في يده، واندفع الدم منها، واندفع الشاب يصرخ بشدة طالباً النجدة، هو يريد أن يقلد المشهد الذي رآه، وسارع زملاؤه إلى رفع يده وحمله إلى أقرب مستوصف طبي، وتحول مشهد التمثيل إلى حقيقة دامية.
حتى المرأة لم تسلم من وسوسة أُستاذ الإجرام (التلفاز) الذي أفسد فطرتها وشوه هويتها، فرأينا بعضهن ممن كانت بالأمس جنساً لطيفاً فصارت اليوم بعد أن تخرجت من مدرسة الجريمة وحشاً عنيفاً وخطراً مخيفاً.
رأت فتاة في الخامسة عشرة من عمرها في برنامج تلفزيوني قاتلاً يقص فرامل السيارة فقلدته، وحاولت قص فرامل سيارة أبويها لتقتلهما، واكتشف الأبوان الأمر قدراً؛ لأن الفتاة أخطأت فقطعت سلكاً آخر أضاء إشارة إنذار حمراء، ولم يعرفا من الذي حاول قتلهما، فجربت الفتاة خطة أخرى، إذ ألقت صفيحة من البنزين على السيارة في (الكراج) فانفجرت، وانتبه الأبوان في آخر لحظة فأسرعا يفتشان (المرقاب) أو (الكراج) في البيت خوفاً على ابنتهما، وكادا يختنقان لكثافة الدخان، واكتشفا أن الفاعل ابنتهما، وعندما سئلت الفتاة عن السبب قالت: أبواي يضغطان عليّ كثيراً للمذاكرة، وأخي أخفق في الدراسة، وهما يريدان مني تعويض إخفاقه، فنظرت إلى التلفزيون فتعلمت منه الجريمة.
وعقب عرض مسرحية تسمى (ريا وسكينة) تكررت حوادث تخدير الضحايا وسرقة ما معهم من مصوغات ذهبية، ومن ذلك ما وقع لامرأة ضريرة من دمياط استدرجتها امرأتان إلى بورسعيد، فوضعتا كمية من المخدر في كوب ليمون تشربه، ثم استولتا على ست (غوايش) ذهبية قيمتها ألف جنيه، وبعد غيبوبة ثلاثة أيام في المستشفى العام ببورسعيد أدلت المجني عليها ببعض المعلومات، حيث تمكن رجال الأمن من القبض على المرأتين، وتبين أنهما تحضران إلى بورسعيد لصيد الضحايا، وقد اعترفت المرأتان بقيامهما بسرقات سابقة مماثلة، وقد تعلمت المرأتان هذا الأسلوب بعد مشاهدتهما مسرحية (ريا وسكينة).
أما تأثيره على النشء فمعروف، وأتذكر أثناء الحملة على الحجاب والنقاب أنه كانت بعض الجرائد تأتي بصور طفلات صغيرات محجبات، ثم تتكلم عن اغتيال براءة الطفولة، أي أن البنت الصغيرة حين تتحجب فهذا اغتيال لبراءة الطفولة، فلنتأمل من الذي يغتال براءة الطفولة ويسلب فطرتها؟! إننا نعلم تأثير هذا الجهاز على هذه البراءة واغتيالها، وانتزاعه من الأبوين زمام التربية، فأخذت القيم التي تبثها الأسرة تذوى وتضمحل وتضمر لتحل محلها قيم تلفزيونية مشتقة من الأفلام والمسرحيات والتمثيليات، فشاع التحرر من القيود الأخلاقية، وظهر التمرد على الكبار، وانتشر ازدراء المعلمين واحتقار المدرسين والسخرية منهم، وصارت الاستقامة والطهارة أمراً يثير الضحك والاستهزاء والاستخفاف، وتشبع الأطفال بالروح الإجرامية والميول العدوانية.
وهنا نستدل بشاهد من أهلها، فهذا قاض فرنسي يعمل في ميدان الأحداث يقول: لا يخالجني أي تردد في أن لبعض الأفلام -خاصة الأفلام البوليسية المثيرة- معظم الأثر الضار على غالبية حالات الأحداث المنحرفين، وأننا لهذا لسنا بحاجة إلى البحث عن أسباب عميقة وراء السلوك الإجرامي عند هؤلاء الأطفال أو المراهقين.
يعني أنَّ السبب معروف.
وفي تجربة عملية عرض فيلم عنيف على مجموعة من الأطفال، ثم قدمت لهم دمى تشبه تلك التي عرضت في الفيلم، فعاملوها كما عاملها الممثلون فمزقوها إرباً إرباً.
ومعروف أن الاختبارات النفسية أحياناً تؤدى عن طريق اللعب أو الدمى.
وفي مرة أخرى قدمت هذه الدمى لأطفال لم يشاهدوا الفيلم فلم يعاملوها بعنف.
وهذا الأستاذ مروان كجك له كتاب رائع اسمه (الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفاز) استفدت كثيراً منه في هذا الموضوع، يقول: ما أكثر ما نرى ونسمع بين الحين والآخر أو نقرأ عن أطفال دفعتهم موحيات البرامج التلفزيونية إلى سلوك شائن مخيف، أو حملتهم على ارتكاب جريمة ظنوها ألعوبة من تلك الألعاب التي تظهر على الشاشة، وهي ليست في حقيقتها سوى دروس وتوجيهات تبذر الشر أو توقظه في نفوس هؤلاء الأطفال البرآء من قصد الجريمة، غير أن هذا لا يمنع أن يصبح ذلك أسلوباً وطريقاً لديهم يشبون عليه، بل قد يشيبون وهم يحملون قيمه بين جوانحهم وتؤكده فعالهم.
ويذكر شارلز آر رايس أن أجهزة معينة تشجع المسلك الشيطاني للأطفال الذين يقلدون أفعال الشخصيات الروائية، ويذكر عادة لتعزيز هذا الاتهام حادث الطفل الذي شنق نفسه وسط كتبه الفكاهية، بنفس الطريقة التي وردت في الرواية، مقلداً سلوك الشخصية.
كذلك تذكر حادثة أخرى، وهي أن طفلاً أصيب أو قتل وهو يحاول أن يطير في الفضاء كما يفعل سوبر مان في الأفلام الكرتونية (الكتاب الفكاهي).
إذاً: هذا يذكرنا بما حدث منذ سنوات حينما قدم التلفاز شخصية بطل خارق غير طبيعي، فقام أحد الأطفال فطار من شرفة منزله في مصر محاولاً تقليد هذا البطل العجيب فأودى بحياته.
ويذكر الباحثون المتخصصون أمثلة أخرجها الواقع لا التخمين لتأييد هذه الحقيقة، وهؤلاء الباحثون ينقلون كثيراً جداً عن كتاب (أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون) مترجم للعربية لمؤلف يدعى جوري مندر كان له وظيفة عالمية مرموقة في أمريكا، ويحذر أشد التحذير من التلفاز.
من هذه الوقائع أنه كثر في حي معين في إحدى المدن حوادث إصابة الأطفال بجروح وكسور في مؤخرة الرأس، وحولت حالات متتابعة إلى المستشفى القريب، واسترعى هذا نظر الجهاز الطبي فيها، فأجرى بحثاً عاجلاً لمعرفة السبب، فظهر أن فيلماً معيناً شاهده الأطفال وتأثروا به، وفيه مشهد شاب قوي الجسم تعود أن ينتصر على زملائه بأن يطرح أحدهم أرضاً ثم يضرب مؤخرة الرأس في حافة رصيف فقام هؤلاء الأطفال يقلدون هذا المشهد.
وفي واشنطن قام أحد الصغار بسحب وقود سيارة جارهم وصبه عليه وهو نائم، ثم أشعل الثقاب ورماه على الجار الذي أخذ يركض والنار تلتهمه، وعمر هذا المجرم الصغير ست سنوات.
وفي (بوسطن) رسب طفل عمره تسع سنوات في معظم مواد الدراسة، فاقترح على والده أن يرسل صندوقاً من الحلوى المسمومة إلى المدرسة، وعندما استوضحه والده عن ذلك قال: إنه أخذ الفكرة من برنامج تلفزيوني.
وفي فرنسا أطلق طفل عمره خمس سنوات رصاصة على جار له عمره سبع سنوات، وأصابه إصابة خطيرة بعد أن رفض الأخير أن يعطيه قطعة من اللبان، وذكر في أقواله للشرطة أنه تعلم كيف يحشو بندقية والده عن طريق مشاهدة الأفلام في التلفزيون.
والحقيقة أن الأمثلة كثيرة جداً، سواء في بلادنا أو في غيرها، وليس هدفنا أن نفصل، لكن كلها تحوم حول هذا.
فمجموعة من الأطفال في مدرسة يرون جريمة ترتكب بطريقة معينة فيعتبرون ذلك نموذجاً مثالياً ويطبقونه في المدرسة.
وهنا قصة، وهي أن مدرسة أبي بكر الإعدادية بحلوان تعرضت خلال الليل لتسلل من عدة أشخاص، وقاموا بأعمال تخريبية، إذ حطموا الدواليب والخزائن التي تضم أوراق ومستندات تلاميذ المدرسة، وكذلك أتلفوا في الأوراق والكتب والملفات والشهادات، وتركوا ورقة صغيرة كتبوا عليها عبارة صبيانية تقول: البرادع(27/11)
دور التلفاز في تخريب الأسر وتفككها ووسائله في ذلك
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول: مازلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا.
فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئاً.
ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله -يعني: حتى طلق امرأته- قال: فيقربه ويدنيه ويقول: نعم أنت) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أفسد امرأة على زوجها فليس منا).
وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) (خبب) أي: أفسد الزوجة على زوجها.
أما تطبيق هذا الكلام على التلفاز وتوأمه الفيديو في تمزيق الحياة الزوجية فله وسائل متعددة: الوسيلة الأولى: أنه قد يدفع الزوجة دفعاً إلى أن تقارن بين بيتها المتواضع وبين تلك القصور الفارهة والبيوت الواسعة والفرش الوثيرة والثروات النفيسة والملابس الفخمة، وما أدراك ما الملابس عند أولئك النساء! ثم توازن بين مستواها المعيشي المحدود وبين ما تراه على شاشة التلفاز من خدم وحشم وما لذ وطاب من ألوان الطعام والشراب، فتتأفف من حالها، وتزدري نعمة الله عليها، ثم تجحد فضل زوجها عليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه).
وقال صلى الله عليه وسلم للنساء يوماً: (إياكن وكفر المنعمين.
فقالت أسماء بنت زيد رضي الله عنها: يا رسول الله! وما كفر المنعمين؟ فقال: لعل إحداكن تطول أيمتها من أبويها -يعني: تبقى بدون زوج مدة طويلة عند أبويها- ثم يرزقها الله زوجاً ويرزقها منه ولداً، فتغضب الغضبة فتكفر، فتقول: ما رأيت منك خيراً قط) وهذا هو كفران العشير الذي تُوعدن عليه بالنار، فقد يدفعها ما تراه إلى أن تطالبه بما هو فوق طاقته فترهقه من أمره عسراً.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب ما تكلف امرأة الغني).
وتنسى المسكينة التي تتعرض لهذا الإغراء التلفزيوني، فيحصل نوع من التقمص أو الاندماج مع الشيء الذي تراه، بحيث تصدق في الحقيقة، وهي لا تتفطن إلى أن هذا عبارة عن خيال لا ظل له من الحقيقة، فما هو إلا تمثيل، وما هذه الفخامة والأبهة إلا صالات يستأجرها المنتجون لتصوير الأفلام والمسلسلات فيها، وليست بيوتاً حقيقية، وما هي إلا أثاثات استأجروها من محلات الأثاث أو الملابس وكذا.
الوسيلة الثانية في إفساد ما بين الرجل وامرأته: أن الرجل إذا رأى النساء كلهن محجبات مستورات ولم ير في التلفزيون ولا في الشارع ولا في العمل النسوة المتفرغات للتبرج بهذه الصورة الشنيعة فلاشك أنه سيقنع بزوجته ويرضى بما كتب الله له، فإذا كان يتطلع باستمرار إلى من هي أجمل فهذا -بلا شك- يزهده في امرأته ويجعله لا يغض البصر عما حرم الله إن لم يكن عنده خوف وورع من الله سبحانه وتعالى.
الوسيلة الثالثة من وسائل الإفساد بين الرجل وامرأته: إبراز الزوجة التلفزيونية في صورة هي غاية في الرقة واللطف في معاملة زوجها، وكذلك إبراز هذا الزوج التلفزيوني في صورة العاشق الموله بزوجته التلفزيونية، المتزلف لديها بكل ما يرضيها، فتنبعث مشاعر التألم والحسرة في قلب الزوج المشاهد، وهو يرى زوجته منهمكة في خدمة البيت والأولاد، وتثور مشاعر الحرمان في قلب الزوجة المشاهدة وهي ترى زوجها المكافح منهمكاً في السعي وراء الرزق الحلال، مطحوناً في أتون مسئوليته نحو بيته وأولاده، وقد شغل حتى عن نفسه، وينسى الاثنان أن الأمر لا يعدو أن يكون تمثيلاً خيالياً، وأن هؤلاء الممثلين والممثلات متفرغون لمهنة التمثيل، ومحترفون لهذا النوع من التزوير، وأنهم في الحقيقة وفي الأعم الأغلب لا يعرفون حياة الأسرة ولا قيمها، وإنما يتقنون تمثيلها فقط، ولا يخفى على أحد أن هذا الذي يسمى بالوسط الفني يعتبر أكثر طبقات المجتمع شقاء وتفككاً وتعرضاً للأمراض النفسية والجسمية، فضحكات أهله صناعة، وبسماتهم أوامر من المخرجين، وأزياؤهم ملك لشركات الإنتاج.
الوسيلة الرابعة من وسائل إفساد ما بين المرء وزوجه: أن برامج التلفاز والفيديو يقوم بأدائها رجال ونساء، وهم بواسطة ما يسمى بالمكياج يبدون في أشد مظاهر الفتنة، ولابد للمشاهد الرجل من أن يتأثر بدرجة ما بالمذيعة أو الممثلة أو المطربة، ولابد للمرأة التي تشاهد الفيديو أو التلفزيون من التأثر بدرجة ما بنفس الطريقة، ومن أراد أن ينفي هذا الأمر فإنما هو مكابر مغالط، أو أنه غير سوي جسدياً أو نفسياً أو عقلياً، ومثل هؤلاء لا يعول عليهم ولا يعتد بآرائهم.
يقول بعض الفضلاء في صيف إحدى السنوات: عندما كنت أقيم في إحدى المدن كان يزورنا أحد الأصدقاء لمشاهدة التلفزيون وهو متزوج وله أولاد، وفي إحدى المرات كان يرنو إلى المذيعة التي كانت تختم البرامج، فحدق فيها طويلاً واتجه إلينا قائلاً: بالله عليكم أهذه -يعني: زوجته- امرأة؟! فهذا أثر طبيعي لا افتراء فيه، وهذا واقع.
وقد حكى الشيخ محمد الزمزمي في كتابه: (المرأة العصرية) أن امرأة لما خرجت من السينما قالت لمن معها من النساء: كيف يمكنني أن أرجع إلى ذلك الوجه الكئيب -تقصد زوجها- بعد رؤية هذه الوجوه التي نراها في شاشة السينما؟! إلى غير ذلك من الكلام الذي ذكرته.(27/12)
حكم مشاهدة الفيديو والتلفاز
نستطيع أن نجزم على أساس ما سبق بأن العلاقة بين المشاهدين وبين الفيديو والتلفاز هي علاقة آثمة في كثير من صورها، ولا ينفي هذا إلا مكابر أو مغالط، هي علاقة معصية وعلاقة ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم بزنا العين، وإن كل مشاهد شجاع يستطيع أن يكون صريحاً مع نفسه ويعترف بهذه الحقيقة، وإنه يعلم أنه -على أقل تقدير- سيقع في خائنة الأعين بالنظر إلى ما حرم الله النظر إليه، وما تخفي صدورهم أكبر.
فأين هؤلاء من قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] إلى قوله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية؟! أين هم من مجتمع الصحابة الأبرار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟! مجتمع الطهارة والنقاء والعفة، مجتمع لم يكن للرجال فيه سبيل إلى النظر إلى النساء إلا بنظرة الفجأة.
عن جرير رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري)، فأين نظر الفجأة من نظرة العمد؟! وأين رؤية الوجه من رؤية ما عداه مما حرم الله كشفه؟! وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها).
فعلى المرأة أن تجلس مع أختها بثياب المهنة التي تجلس بها في البيت؛ حتى لا تخرج هذه الأخت إلى زوجها أو أخيها وتصف هذه المرأة وتقول: شعرها كذا وجهها كذا وشكلها كذا.
فمن شدة الوصف كأنه ينظر إليها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(27/13)
الموت خاتمتك أيها الإنسان
الموت كأس سيشرب منه كل الناس، فمن الناس من يشرب شربة هنيئة، ومنهم من يشرب شربة فيها من الغصص والمرارة ما الله به عليم، ولكل من الحالتين أسباب، فمن صلح عمله، وصدق في إيمانه أحسن الله خاتمته، وشرب تلك الشربة الهنيئة، ومن كان على غير ذلك لم تحسن خاتمته، ووجد تلك الغصص والمرارات.(28/1)
علامات حسن الخاتمة
الحمد لله الذي قهر بالموت رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصّر به آمال القياصرة؛ حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم في الحافرة، فنقلوا من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل، فانظر هل وجدوا من الموت حصناً وعزاً؟ وهل اتخذوا من دونه حجاباً وحرزاً؟ وانظر هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً؟ فسبحان من انفرد بالقهر واستأثر باستحقاق البقاء، وأذل ضعاف الخلق بما كتب عليهم من الفناء، ثم جعل الموت مخلصاً للأتقياء وموعداً في حقهم للقاء، وجعل القبر سجناً للأشقياء وحبساً ضيقاً عليهم إلى يوم الفصل والقضاء، فله الإنعام بالنعم المتظاهرة، وله الانتقام بالنقم القاهرة، وله الشكر في السماوات والأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة على محمد ذي المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(28/2)
النطق بالتوحيد عند الموت
عن الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال العبد: لا إله إلا الله، والله أكبر قال الله عز وجل: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، وأنا أكبر، وإذا قال العبد: لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله لا شريك له، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي، من رزقهن عند موته لم تمسه النار) أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى في مسنده وعبد بن حميد في المنتخب، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الألباني: إسناده صحيح.
وفي رواية أخرى زيادة: (ومن قال في مرضه -يعني: ذلك كله- ثم مات لم يدخل النار) وإسناده جيد.
هذا الحديث ينبئ أن الإنسان إذا وفق إلى النطق بهؤلاء الكلمات عند حضور الموت وعند انقضاء الأجل، فإن هذه عصمة له من النار، فهذه إحدى علامات حسن الخاتمة، فعلى الإنسان أن يحفظ هذه الأذكار ليختم به حياته، أو إذا شاهد رجلاً يحتضر وقد قارب الموت، فليلقنه هؤلاء الكلمات؛ طمعاً في هذا الثواب العظيم والفضل الجزيل.
(من رزقهن عند موته لم تمسه النار) أي: من وفق إليها عند موته لم تمسه النار.
فما من شك أن هذا العلم مما يحتاج إليه في أشد الأوقات صعوبة على الإنسان، وهذه اللحظة لا يوجد إنسان على وجه الأرض ينكر أنه لن تأتيه هذه اللحظة آجلاً أو عاجلاً.
إنك ميت وابن ميتٍ وذو نسبٍ في الهالكين عريق فكلٌ منا كما مات آباؤه وأجداده سوف تأتيه هذه اللحظة، فليستعد لها بما ينجيه من الأهوال التي بعدها، وأول ذلك أن يحفظ هذه الكلمات ويحفظها من يحبهم ومن يلوذون به، لعلهم ينجون بذلك، وجماع هذا الذكر أن يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده، لا إله إلا الله لا شريك له، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والتوفيق إلى النطق بهذه الكلمات عند الموت من علامات حسن الخاتمة.
ويقودنا الكلام في هذا الأمر إلى علامات أخرى مما يستأنس ويستدل بها على حسن خاتمة الإنسان، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض هذه العلامات في جملة من الأحاديث الصحيحة، وأعظم هذه العلامات أن يوفق إلى النطق بهذه الأذكار.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله الله دخل الجنة)، وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: (رأى عمر طلحة بن عبيد الله ثقيلاً، فقال: مالك يا أبا فلان! لعلك ساءتك ابنة عمك يا أبا فلان؟! -يعني: هل زوجتك ضايقتك فأنت ثقيل من أجل هذا؟ - قال: لا، وأثنى على أبي بكر، ثم قال: فإني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ما منعني أن أسأله عنه إلا القدرة عليه حتى مات، سمعته يقول: إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه، ونفس الله عنه كربته، فقال عمر: إني لأعلم ما هي.
قال: وما هي؟ قال: تعلم كلمة أعظم من كلمة أمر بها عمه عند الموت: لا إله إلا الله، قال طلحة: صدقت! هي والله هي).
أخرجه الإمام أحمد وإسناده صحيح.
فمن أعظم علامات حسن الخاتمة أن يوفق الإنسان للنطق بكلمة لا إله إلا الله؛ بحيث تكون آخر كلامه، والعلماء مختلفون هل يتمها فيقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟ والأقرب إلى الأحاديث أن يقتصر على شهادة التوحيد، فيكون آخر كلامه: لا إله إلا الله.
فمن حضر إنساناً يحتضر فعليه أن يلقنه إياها بلطف، فإذا حصل منه بعد أن نطق بكلمة التوحيد كلاماً آخر، فعليه أن يوجهه إلى تكرارها؛ حتى تكون آخر كلامه.
عرق جبين الإنسان عند الموت إحدى علامات حسن خاتمته؛ لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: أنه كان بخراسان وعاد أخاً له وهو مريض، فوجده للموت، فإذا هو يعرق جبينه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (موت المؤمن بعرق الجبين)، فهذه علامة موت المؤمن، وهي أيضاً من علامات حسن الخاتمة.(28/3)
الموت برشح الجبين
عرق جبين الإنسان عند الموت إحدى علامات حسن خاتمته؛ لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنه كان بخراسان وعاد أخاً له وهو مريض، فوجده للموت، فإذا هو يعرق جبينه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (موت المؤمن بعرق الجبين)، فهذه من علامات حسن الخاتمة.(28/4)
الموت يوم الجمعة أو ليلتها
العلامة الثالثة: الموت ليلة الجمعة أو نهارها: لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر).(28/5)
الاستشهاد في ساحة القتال
العلامة الرابعة: الاستشهاد في ساحة القتال: قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
وفي ذلك أحاديث منها قوله صلى الله عليه وآله سلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، وهذه كلها للشهيد.
ومن أجل ذلك وجدنا المجاهدين في جميع الأعصار يتسابقون إلى الموت في سبيل الله تبارك وتعالى؛ لأن هذا أكثر ما يضمن به الإنسان غفران ذنوبه، ويؤمن أنه سوف ينتقل إلى الجنان وإلى النعيم في جوار الرحمن تبارك وتعالى، وأعظم ما يفزع أعداء المسلمين أن تستيقظ فيهم حاسة الجهاد، وينادى فيهم بالجهاد المقدس في سبيل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى، حتى اليهود في هذا الزمان وفي هذه الأوضاع التي نعيشها اليوم، أخوف ما يخافون أن يعود النداء الديني أو الجهاد الديني المقدس، فهذا هو الذي يهابونه، أما العلمانيون، أما الفلسطينيون الذين يريدون أن يحرروا الأرض، ويقيمون الدولة العلمانية، وينالون المآرب؛ فهؤلاء لا يساوون عند اليهود جناح بعوضة، لكن أخوف ما يخافه اليهود -مع الضعف الذي عليه المسلمون الآن- أن يعود المسلمون إلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فهم يعلمون أن ذلك كائن، كما نعلم ذلك نحن أيضاً.
لما رفعت راية الجهاد نقية من الشوائب في أفغانستان، هرع آلاف الشباب من جميع أقطار الأرض يلبون ذلك النداء ويبذلون دماءهم، حتى كان بعض الإخوة -رحمهم الله- إذا نزلوا في المطار في باكستان يمزقون جوازات السفر، إمعاناً في إشهاد الله أنهم لا يريدون العودة من حيث أتوا، وإنما يريدون أن يذهبوا إلى الجنة من خلال الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فكان ما كان من إعادة لنماذج السلف الصالح رضي الله عنهم في البذل والتضحية في سبيل هذا الدين.
فانظر كيف يكون الأمر لو كان هذا الجهاد في القدس أو في سبيل تحرير المسجد الأقصى، أو استعادة فلسطين المسروقة المبيعة، فما من شك أن اليهود لهم حق في أن يخافوا من عودة النداء للجهاد الإسلامي في سبيل الله تبارك وتعالى، وما من شك أن هذا كائن لا محالة، ونجزم بذلك تماماً كما نجزم بأن الشمس ستشرق غداً من المشرق.
الشاهد أن الذي يدفع المسلم إلى الجهاد، وخوض ساحات القتال في سبيل الله؛ هو الطمع في الثواب، واليقين بأن ما عند الله خير وأبقى.
من لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الأسباب والموت واحد ويعلم أيضاً أنه لن يموت إلا بأجل قد كتبه الله وقدره، كما يقول الشاعر: أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أو يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر وكما قال أبو بكر رضي الله عنه ناصحاً خالداً رضي الله عنه: احرص على الموت توهب لك الحياة.
وقال خالد رضي الله تعالى عنه وهو يحتضر: ما من موضع في بدني إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على سريري كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء.
والسر الذي لا يفقهه أعداء الإسلام، أن المسلم إذا قتل عدواً من أعداء الله أو قتله عدو الله؛ فإن له الثواب الجزيل عند الله تبارك وتعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه) ربما تقاعس الإنسان عن الجهاد في سبيل الله خشية أن يلقى الله فيؤاخذه الله بذنوبه، فمهما كانت ذنوبه إذا أقبل على الشهادة في سبيل الله، فالشهادة ضمان وتأمين أن تغفر جميع ذنوبه بأول دفعة تخرج من دمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاءٌ للخطايا).
(ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه).
وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟! قال صلى الله عليه وسلم: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة).
فمن أجل فتنته وامتحانه واقتنائه لأسمى الجهاد، فإن الجزاء من جنس العمل، فإن الله يقيه الفتنة إذا نزل في قبره بخلاف كل مؤمن، فإن كل مؤمن يفتن في قبره، ويضيق عليه حتى تختلف أضلاعه -أي: ضلوع الصدر تتشابك من شدة الضغط-، فهذه الضغطة لا ينجو منها أحد، ولو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ، ولنجا منها هذا الصبي كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
أيضاً ترجى هذه الشهادة لمن سألها مخلصاً من قلبه ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه).
فالعبرة بالصدق وبالنية، فمن طلب الله عز وجل الشهادة وكان صادقاً وجازماً بأنه إذا رفعت راية الجهاد في سبيل الله، فإنه لن يتقاعس وسيقدم على بذل روحه ومهجته، فإن الله يكافئه بهذه النية، فيبلغه منازل الشهداء وإن مات على فراشه.(28/6)
الموت في الغزو
من علامات حسن الخاتمة: الموت غازياً في سبيل الله: يقول صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل.
قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد) أخرجه مسلم.(28/7)
الموت بالطاعون
ومن هذه العلامات: الموت بالطاعون: فعن حفصة بنت سيرين قالت: قال لي أنس بن مالك رضي الله عنه: بم مات يحيى بن أبي عمرة؟ قلت: بالطاعون.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون شهادة لكل مسلم) أخرجه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها: (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد) أخرجه البخاري وغيره.(28/8)
الموت بداء البطن
ومنها أيضاً: الموت بداء البطن: وفيه حديثان: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن مات في البطن فهو شهيد) والظاهر أنه التهاب بالبرتوريا أو نحو هذا.
الثاني: عن عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره) فقال الآخر: بلى، وفي رواية: صدقت.(28/9)
الموت بالغرق أو النفاس
أما العلامتان الثامنة والتاسعة فالموت بالغرق والهدم: لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله) متفق عليه.
ومن هذه العلامات أيضاً: موت المرأة في نفاسها: أي: بسبب ولدها؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد عبد الله بن رواحة قال: فما تحوز له عن فراشه، فقال: أتدري من شهداء أمتي؟ قالوا: قتل المسلم شهادة.
قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة).
(المرأة يقتلها ولدها جمعاء) يعني: تموت في أثناء الوضع، فيخرج الولد وتموت أثناء ذلك فهذه شهيدة، ولها أجر الشهداء في سبيل الله، وتكافأ يوم القيامة بأن ولدها هذا يجرها بسرره إلى الجنة، وسرره هو الحبل السري.(28/10)
الموت بالحرق وذات الجنب
العلامتان الحادية عشرة والثانية عشرة: الموت بالحرق وذات الجنب: وفيها أحاديث أشهرها حديث جابر بن عتيك مرفوعاً: (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة).(28/11)
الموت دفاعاً عن المال أو الدين أو النفس
أيضاً من هذه العلامات وهي الثالثة عشرة: الموت في سبيل الدفاع عن المال المراد غصبه: مثل إنسان يهجم عليك يريد أن يغتصب مالك، فأنت تدفع هذا الصائل، فلو قتلت في حالة الدفاع؛ فأنت شهيد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد).
وفي رواية: (من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد) أخرجه الشيخان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك.
قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله.
قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد.
قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) أخرجه مسلم.
العلامتان الرابعة عشرة والخامسة عشرة: الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس: يقول صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد).(28/12)
الموت في الرباط
العلامة السادسة عشرة: الموت مرابطاً في سبيل الله: والرباط أن يذهب إلى ثغر من ثغور المسلمين التي تواجه الأعداء، ويقف حارساً لهذه الثغور، فهذا هو الرباط، قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان) رواه مسلم والنسائي وغيرهما.
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ميت على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله؛ فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر).(28/13)
الموت على عمل صالح
العلامة السابعة عشرة: الموت على عمل صالح: أي: أن يموت الإنسان على عمل من الأعمال الصالحة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة).
هذه هي العلامات التي يمكن حصرها، ولعل غيرها كثير؛ لكن هذا ما أمكن حصره كما جمعها الشيخ الألباني -حفظه الله- في كتابه: (أحكام الجنائز وبدعها).
وإذا كان الإنسان لا يضمن متى يأتيه أجله، فعليه أن يكون مستعداً بالأعمال الصالحة والنوايا الصالحة، حتى إذا ما جاءه الأجل كان مستعداً للقاء الله تبارك وتعالى.(28/14)
أسباب سوء الخاتمة
ذكر الدكتور عمر الأشقر -حفظه الله- في كتابه (القيامة الصغرى) فصلاً جيداً يناقش فيه سوء الخاتمة، وهناك حكايات عظيمة جداً في هذا الباب، والعبرة فيما سنحكيه -إن شاء الله- بصدق الراوي، وهذه الأشياء لا بأس بحكايتها، وإنما العمدة أن يكون الراوي صادقاً وحاكياً بصدق، وهذا لا يبعد وقوعه، وأن يكشف الله تبارك وتعالى بعض هذه العلامات، فإن في ذلك عبرة ونذيراً من النذر التي تقوم بها الحجة على من بلغته.
قبل أن نستعرض بعض هذه الوقائع نذكر أسباب سوء الخاتمة كما ذكرها الدكتور عمر الأشقر يقول: بعض الذين يظهرون الإسلام ويعملون به يختم لهم -والعياذ بالله- بخاتمة سيئة، وقد تبدو تلك الخاتمة من بعض من حضرهم الموت، وقد تحدث الشيخ صديق حسن خان رحمه الله عن سوء الخاتمة فقال: ولها أسباب يجب على المؤمن أن يحترز عنها.
منها الفساد في الاعتقاد.(28/15)
فساد الاعتقاد
من أعظم أسباب سوء الخاتمة: منها الفساد في الاعتقاد، يعني: أن تكون عقيدة الرجل فاسدة والعياذ بالله، حتى لو كان رجلاً صالحاً مجتهداً في الزهد والعبادة والورع لكن عنده فساد في العقيدة، فهذا من أعظم الأسباب التي تجلب له سوء الخاتمة.
فإن كان له فساد في اعتقاده مع كونه قاطعاً به متيقناً به غير ظانٍ أنه أخطأ فيه، فقد ينكشف له في حال سكرات الموت بطلان ما اعتقده من الاعتقادات، وحينئذ يهتز ذلك الاعتقاد في تصوره حينما ينكشف له، فإن كان عنده اعتقادات أخرى صائبة ربما اهتزت هي أيضاً ووقع في الريبة والعياذ بالله.
وما من شك أن الريبة تنافي الإيمان كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، فإذا دخل الإيمان شك ولو للحظة وقبض الإنسان عليه ضاع كل هذا الإيمان، فيكون بطلان بعض اعتقاداته سبباً لزوال بقية اعتقاداته الصائبة، وخروج روحه في هذه الحالة قبل أن يتدارك ويعود إلى أصل الإيمان خاتمة سوء؛ لأنه يخرج من الدنيا بغير إيمان.
فالعقيدة الفاسدة تنكشف لصاحبها عند الموت كما يشهد بذلك قوله تبارك وتعالى في حق المسيح عليه السلام: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] على أحد التفسيرين، فإذا كان الضمير يعود إلى أهل الكتاب فيكون معناها: قبل أن يموت أي إنسان من أهل الكتاب فإنه ينكشف له بطلان اعتقاده، فإن كان نصرانياً يعبد المسيح فإنه قبل أن يموت وتخرج روحه تنكشف له الحقيقة، ويظهر له بطلان ما كان عليه من العقيدة عند موته.
والتفسير الآخر أن (الهاء) في قوله: (قبل موته) تعود إلى المسيح عليه السلام، فيكون المعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته حين ينزل من السماء في آخر الزمان، وحينئذ لا يقبل المسيح إلا الإسلام، فيضع الجزية، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب؛ كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم.
وقد سبق أن بينا في مناسبات أخرى أن الشيطان يحضر المؤمن عند الموت، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت)، فيأتي الشيطان ويكون ملبساً له ما هو عليه، ويحرص على أن يختم له بسوء ما دام فيه نفس، وما دام فيه روح، وقد حكي في ترجمة الإمام أحمد أنه عند احتضاره رضي الله عنه كان يقول: لا بعد، لا بعد، فأغمي عليه ثم أفاق فقال له ابنه: يا أبت! إنك قلت كذا وكذا فما سبب ذلك؟ فقال الإمام رحمه الله: ذاك شيطان عبر لي في جانب الحجرة يعد أنامله ويقول: يا أحمد! فتني -يعني: فاتني أن أضلك وأنت حي- فكان يجيب الإمام ويقول: لا بعد.
يعني: ليس بعد ما دام فيّ نفس وروح، فأنا قابل لأن أبتلى بك، وهذا من فقهه ووعيه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يقول الله تبارك وتعالى في هؤلاء الذين يصابون بفساد العقيدة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104].
فكل من اعتقد شيئاً على خلاف ما هو عليه، فهو واقع في هذا الخطر، ولا ينفعه الزهد والصلاح، وإنما ينفعه الاعتقاد الصحيح المطابق لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن العقائد الدينية لا يعتد بها إلا إذا كانت مأخوذة من الكتاب والسنة.(28/16)
الإصرار على المعاصي
السبب الثاني: الإصرار على المعاصي: فإن من أصر عليها يحصل في قلبه إلفها، وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يذكره عند موته، فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، والذي يغلب على القلب هو مقياس لحظ الإنسان من الخير أو غيره، كما قال الشاعر: أآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت عند هبوبي يتحدث عن غلبة ذكر محبوبه له في حالتي النوم واليقظة! والإنسان إذا مات فآخر ما يفكر فيه هو أحب شيء إليه، وأكثر شيء كان يشغل باله وعقله، سواء كانت تشغله التجارة، أو يشغله المال، أو تشغله الدنيا، أو تشغله النساء، وهكذا فأكبر ما يلتصق بقلبك ويعمر قلبك هو الذي يشغلك في هاتين الحالتين: حالة اليقظة، وبداية النوم.
والمؤمن إذا أراد أن يختبر إيمانه فلينظر ما هو الشيء الذي يسبق إلى قلبه، فأحب شيء إليك هو الذي يقفز إلى ذهنك في هذه اللحظة، إن كان هو ذكر الله فإنك تستيقظ لذكر الله، لقيام الليل، لصلاة الفجر، للدعاء، أو للعمل والوظيفة، لملاقاة الأصدقاء والأحباب، وهكذا فما يغلب على قلبك يظهر في هاتين اللحظتين.
وكذلك يظهر ما تحبه عند الموت، فيغلب على قلبك ما عودت هذا القلب أن يدخله وأن يعمره، فمن اعتاد على المعاصي وألف المعاصي والأغاني والتلفزيون والفيديو والممثلين والرياضة والكرة ونحوها ظهر ذلك عند الموت، حتى رأينا من يرتبط بالموسيقى والغناء إلى آخر لحظة، ويقول: ادفنوني وضعوا معي العود الذي طالما صددت به عن سبيل الله، ويدفن معه العود الذي كان يعزف به في حياته سنوات كثيرة! فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر، يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، وإن كان ميله إلى المعاصي أكثر، يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر المعاصي، فربما تغلب عليه حين نزول الموت به شهوة ومعصية من المعاصي، ويتقيد قلبه بها، وتصير حجاباً بينه وبين ربه وسبباً لشقاوته في آخر حياته، وقد جاء في الأثر: المعاصي بريد الكفر.
والذي لم يرتكب ذنباً أصلاً أو ارتكب وتاب فهو بعيد عن هذا الخطر، وأما الذي ارتكب ذنوباً كثيرة حتى كانت أكثر من طاعاته ولم يتب منها، بل كان مصراً عليها، فهذا الخطر في حقه عظيم جداً؛ إذ قد يكون غلبة الإلف بها سبباً لأن يتمثل في قلبه صورتها، ويقع منه ميل إليها، وتقبض روحه عليها، فتكون سبباً لسوء خاتمته.
ينتقل إلى الدار الآخرة وهو عظيم الحسرة على متاع الدنيا الذي سيفارقه، فيستحسر لفراق خلانه وأصدقائه ومحبوباته من أعراض الدنيا.
ويعرف ذلك بمثال: وهو أن الإنسان يرى في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره، حتى إن الذي قضى عمره في العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء، والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة والخياط، إذ لا يحضر في حال النوم إلا ما حصل له مناسبة مع قلبه لطول الإلف.
والموت وإن كان فوق النوم، ولكن سكراته وما يتقدمه من الغشي قريب من النوم، فطول الإلف بالمعاصي يقتضي تذكرها عند الموت وعودها في القلب وتمثلها فيه وميل النفس إليها، وإن قبض روحه في تلك الحالة يختم له بالسوء.
قال الذهبي في الكبائر: قال مجاهد: ما من ميت يموت إلا مُثِّل له جلساؤه الذين كان يجالسهم، فاحتضر رجل ممن كان يلعب بالشطرنج فقيل له: قل: لا إله إلا الله.
فقال: شاهك -يبدو أن هذه عبارات يستعملها لاعبو الشطرنج- ثم مات، فغلب على لسانه ما كان يعتاده حال حياته في اللعب، فقال عوض كلمة التوحيد: شاهك.
وإنسان آخر كان يجالس شراب الخمر حين حضره الموت جاءه إنسان يلقنه الشهادة - يقول له: قل: لا إله إلا الله- فقال له: اشرب واسقني، ثم مات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فبعض الناس يتصور أن النطق بكلمة الشهادة (لا إله إلا الله) سهل عند الموت، كلا، لقد جاء في الحديث: (من رزقهن) فهذا رزق وهذا توفيق، ولن تكون الحركة إرادية كما هي الآن، حركة اللسان الآن إرادية إن أردت أن تتكلم تكلمت، وإن أردت أن تسكت ملكت لسانك، لكن في تلك اللحظة لا سلطان لك على لسانك، وإنما الموفق من وفقه الله، والسعيد من أسعده الله تبارك وتعالى، فوفقه وأجرى لسانه بهذه الكلمة الشريفة أن ينطق بـ (لا إله إلا الله).
الإنسان إذا أصابه مرض شديد أو ثقيل أحياناً يريد أن يذكر الله فلا يستطيع من شدة الإعياء ومن شدة المرض الذي يصيبه، فلا يقوى على ذلك، فكيف عند معاناة سكرات الموت التي قال فيها أحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) ويضع يده في الماء ثم يضعها على جبهته ويقول: (اللهم أعني على سكرات الموت) فكيف يفعل من هو دون سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم؟ فهذا ليس في طاقة الإنسان، فبعض الناس تسوف له نفسه ويقول: حينها سأقول: لا إله إلا الله وأدخل الجنة! يمنيه الشيطان ويغره!(28/17)
كلام ابن القيم عن آفات المعاصي
ألف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، وهذا الكتاب مما ينبغي أن يهتم به الإخوة اهتماماً شديداً جداً، فهو من الكتب الأساسية في نصيحة المسلمين للفرار من الذنوب والمعاصي إلى الله تبارك وتعالى.
وقد ألفه رحمه الله جواباً على سؤال وجه إليه يقول فيه السائل: ما تقول السادة العلماء وأئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل ابتلي ببلية علم أنها إن استمرت به أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق فما يزداد إلا توقداً وشدة، فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟! رحم الله من أعان مبتلى! (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى! وإن الإنسان ليغبط هذا الرجل الذي سأل هذا السؤال؛ لأنه بهذا السؤال سن سنة حسنة، وبسبب سؤاله ألف الإمام ابن القيم هذا الكتاب المبارك النافع المفيد؛ فننتفع به إلى ما شاء الله تبارك وتعالى، فننصح الإخوة جميعاً أن يهتموا جداً بهذا الكتاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي).
ومن فطنة هذا السائل أنه لم يحدد داءً معيناً، فمكن ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله أن يوسع الجواب ويتكلم في كل احتمال من أمراض القلب أو الجوارح التي يعاني منها هذا السائل فجاء الجواب مفيداً، ويسمى هذا الكتاب أيضاً: (الداء والدواء).
يذكر ابن القيم رحمه الله من آفات المعاصي أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه.
ثم قال رحمه الله: هذا وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك؛ حتى قيل لبعضهم ممن كان يسرف على نفسه بالمعاصي ولا يتوب حتى حضره الموت: قل: لا إله إلا الله.
فقال: آه، آه، لا أستطيع أن أقولها.
سبحان الله! ينطق لسانه بكل هذه الجملة ولا يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله؛ يحال بينه وبينها! كما قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] وبعض الناس يفهم أن المراد من الطعام والشراب والشهوات، بل المقصود حيل بينهم وبين ما يشتهون من التوبة والرجوع إلى الدنيا والاستدراك.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، قال: شاه رخ غلبتك -وهذه من أحجار الشطرنج-؛ لأنه كان في حياته مفتوناً بلعبة الشطرنج، ثم قضى ومات.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب ثم قضى.
وقصة هذا الرجل أنه أراد سوءاً بامرأة قالت له: كيف الطريق إلى حمام منجاب؟ فدلها على مكان، ثم دخلت هذا المكان فأغلق عليها الباب، ففطنت المرأة لما يريده، فخدعته وقالت له: دعني أتهيأ وأحضر أشياء وأعود إليك، ففرت منه المرأة وسلمت من أذاه، فكان يهيم في الطرقات وينشد هذا الشعر متحسراً على أنه تركها تخدعه وتفر منه، فكان يمشي في الطرقات ويقول: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب فأجابه بعض الشعراء: هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب الشاهد أنه عند احتضاره كان يقال له: قل: لا إله إلا الله، فكان يردد هذا البيت.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله.
فجعل يهذي بالغناء؛ لأن الغناء والموسيقى غلبت على حياته- وكان يقول: تاتا تنتنا، حتى قضى.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله.
فكان يجيب: ما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ركبتها؟! ثم قضى ولم يقلها والعياذ بالله.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله.
فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة؟! ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك: فقال: هو كافر بما تقول.
وقيل لآخر ذلك: فقال: كلما أردت أن أقولها لساني يمسك عنها! والعياذ بالله.
يقول ابن القيم: أخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته، فجعل يقول: لله فلس لله فلس؛ حتى قضى.
وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده، وجعلوا يلقنونه: لا إله إلا الله.
وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشترىً جيد، هذه كذا حتى قضى.
يقول: سبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عبراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من معاصي الله، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وعطل لسانه عن ذكره، وجوارحه عن طاعته؛ فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع، وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته؛ فإن ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة، فمن ترى يسلم من ذلك؟! فهناك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطاً، فمن كان قلبه غافلاً عن الله، متبعاً لهواه، أسيراً لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصيته؛ فبعيد أن يوفقه الله للخاتمة الحسنى، ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين، وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعاً بالأمان: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم:39 - 40] كما قيل: يا آمناً من قبيح الفعل يصنعه هل أتاك توقيع أم أنت تملكه جمعت شيئين أمناً واتباع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكه والمحسنون على درب المخاوف قد ساروا وذلك درب لست تسلكه فرطت في الزرع وقت البذر من سفه فكيف عند حصاد الناس تدركه هذا وأعجب شيء منك زهدك في دار البقاء بعيش سوف تتركه من السفيه إذاً بالله أنت أم ال مغبون في البيع غبناً سوف تدركه(28/18)
العدول عن الاستقامة
يذكر الشيخ صديق حسن خان من أسباب سوء الخاتمة: العدول عن الاستقامة: فإن من كان مستقيماً في ابتدائه ثم تغير عن حاله وخرج مما كان عليه في ابتدائه، يكون ذلك سبباً لسوء خاتمته، فمن سلك الطريق ثم أعرض فالإعراض بعد الإقبال من علامات الخذلان والعياذ بالله تبارك وتعالى، لكن الإنسان لا ييئس من روح الله، ما دام الإنسان يرى أن حسناته تسره وسيئاته تسوءه، فما زال في قلبه حياة، كما في الحديث: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن).
فما دام الإنسان يشعر بعدم الرضا عن نفسه، وتسوءه السيئة إذا ارتكبها، وتسره وتفرحه الحسنة إذا فعلها، فهذا إنسان فيه أمل، وفيه مطمع أن يعود إلى الاستقامة؛ بل إلى أعظم مما كان، فلا يقنط الإنسان من رحمة الله ومن روح الله تبارك وتعالى.
لكن الإعراض بعد الإقبال أمر ليس بالهين، فإنه يبتلى بموت القلب في هذه الحالة؛ لأنه إذا أعرض عن الله فإلى أين يتجه؟! كان ماشياً على طريق الله؛ يكره التلفزيون، ويكره الموسيقى، ويكره الأغاني، ويكره كل ما يشغله عن الله، ثم يحيد عن هذا الطريق بعد ذلك، أئلى خيرٍ من الله؟ هل وجد في أصحاب الرياضة والكرة والشطرنج واللهو واللعب أفضل مما وجده في الكتاب وفي السنة وفي سير الصالحين؟! إبليس كان في ابتدائه رئيس الملائكة ومعلمهم وأشدهم اجتهاداً في العبادة، ثم لما أمر بالسجود لآدم أبى واستكبر وكان من الكافرين! وبلعام بن باعوراء آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان من الغاوين.
وبرصيصا العابد الذي قال له الشيطان: اكفر.
فلما كفر قال: إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فالشيطان أغراه على الكفر، فلما كفر تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب، ولم ينفعه ذلك كما قال تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:17].(28/19)
ضعف الإيمان
ومن أسباب سوء الخاتمة: ضعف الإيمان.
فإن كان في إيمانه ضعف فإنه ضعف حب الله تعالى فيه، ويقوي حب الدنيا في قلبه ويستولي عليه، بحيث لا يبقى فيه موضع لحب الله تعالى، إلا من حيث حديث النفس بحيث لا يظهر له أثره في مخالفة النفس، ولا يؤثر في الكف عن المعاصي، ولا في الحث على الطاعات، فينهمك في الشهوات وارتكاب السيئات، فتتراكم ظلمات الذنوب على القلب، فلا تزال تطفئ ما فيه من نور الإيمان مع ضعفه، فإذا جاءت سكرات الموت يزداد حب الله ضعفاً في قلبه، لما يرى أنه يفارق الدنيا وهي محبوبة له، وحبه إياها غالب عليه، لا يريد تركها ويتألم من فراقها، ويرى ذلك من الله تعالى، فيُخشى أن يحصل في باطنه بغض لله تعالى بدل الحب! فهو يكره أن يفارق الدنيا، والإنسان يكره مفارقة محبوبه، فإذا أقبل على الله وهو لا يحب الله، ففي هذه الحالة يغلب عليه ما أحبه من الدنيا، فيخشى عليه أنه إذا أيقن بلقاء الله يبغض الله، وفي الحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه).
فإذا خرجت روحه في هذه الحالة الخطرة فقد ختم له بالسوء، وهلك هلاكاً مؤبداً.
والسبب في هذا هو حب الدنيا والركون إليها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تبارك وتعالى، فإذا خرجت روحه في تلك الحالة يكون قلبه ملتفتاً إلى الدنيا، ووجهه مصروفاً إليها، ويحصل بينه وبين ربه حجاب.
حكي أن سليمان بن عبد الملك لما دخل المدينة حاجاً قال: هل بها رجل أدرك عدة من الصحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم.
فأرسلوا إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت؟ قال: إنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة؛ فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب.
قال: صدقت.
ثم قال: ليت شعري ما لنا عند الله تعالى؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله.
قال: فأين أجده؟ قال: في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]، قال: فأين رحمة الله؟ قال: {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
قال: يا ليت شعري كيف العرض على الله غداً؟ قال: أما المحسن فكالغائب الذي يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه -أي: كالعبد الهارب عندما يقدم على مولاه-، فبكى سليمان حتى علا صوته واشتد بكاؤه، ثم قال: أوصني.
قال: إياك أن يراك الله تعالى حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك.(28/20)
حكايات من سوء الخاتمة
نذكر بعض الحوادث التي حُكيت ممن حضر بعض الناس عند موتهم.
يقول الشيخ أبو عبد الله بن عبد الله السعيدان في كتابه (تذكرة الإخوان بخاتمة الإنسان): اعلم أن سوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا وما علم به والحمد لله، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقد أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه؛ حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة والعياذ بالله.
أو يكون ممن كان مستقيماً ثم تغير عن حاله فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته وشؤم عاقبته.
وقد خذل خلق كثير عند الموت، فمنهم من أتاه الخذلان من أول مرضه فلم يستدرك قبيحاً مضى، وربما أضاف إليه جوراً في وصيته، ومنهم من فاجأه الخذلان في ساعة اشتداد الأمر، فمنهم من كفر، ومنهم من اعترض وتسخط، نعوذ بالله من الخذلان! ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت، مثل البدعة والنفاق والكبر، ونحو ذلك من الصفات المذمومة.
وسوء الخاتمة على رتبتين: إحداهما أعظم: وهي أن يغلب على القلب شك أو جحود عند سكرات الموت وأهواله، فيقتضي ذلك العذاب الدائم.
الثانية دونها: وهي أن يتسخط الأقدار، أو يتكلم بالاعتراض، أو يجور في وصيته، أو يموت مصراً على ذنب من الذنوب، وسأذكر لك بعض الحوادث الدالة على سوء الخاتمة لعل النفس تعتبر بحال من مضى من مصارع القوم، فإن في ذلك عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(28/21)
قصة تعذيب من أدخل التلفزيون على أهله
ونحن سنذكر بعض القصص، ونذكركم قبل ذلك بقصة فيها زجر لكثير من الذين يتساهلون في الجلوس عاكفين كالعباد الخاشعين المتبتلين أمام هذا الصنم الذي ملأ البيوت (التلفزيون) وشقيقه (الفيديو) الذي ينتشر الآن في بيوت المسلمين، وفتن الناس به فتنة شديدة.
وهذه قصة يحكيها بعض الشيوخ في كتاب (قصص التائبين) يقول: شيخ كبير في السن كان سبباً في هداية أسرة كاملة كانت غافلة لاهية تقضي معظم وقتها أمام شاشة التلفاز، لمشاهدة الصور المحرمة ومسلسلات الحب والغرام والهيام، فما هي تفاصيل القصة؟ هذه القصة ذكرها الشيخ صالح المالك في موعظة له في المسجد نقلاً عن رجل كان من الحاضرين، وأشار إلى أن هذا هو الشخص الذي حكى لي هذه القصة.
يقول: في يوم من أيام شهر رمضان المبارك كنت نائماً في المسجد بعد صلاة الظهر، فرأيت فيما يرى النائم رجلاً أعرفه من أقاربي قد مات، ولم أكن أعلم أن في بيته تلفازاً، فجاءني فضربني بقدمه ضربة كدت أصرع من ضربته وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي وقل لهم: أخرجوا التلفاز من بيتي.
قال الشيخ: وكنت أرى هذا التلفاز في بيته وكأنه كلب أسود -والعياذ بالله-، فاستيقظت من نومي مذعوراً، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم وعدت إلى نومي، فجاءني في المنام مرة ثانية وضربني ضربة أقوى من الأولى، وقال لي: قم واذهب إلى أهلي وقل لهم: أخرجوا التلفاز من بيتي لا يعذبونني به، قال: فاستيقظت مرة ثانية وهممت أن أقوم، ولكني تثاقلت وعدت إلى نومي، فجاءني في المرة الثالثة وضربني في هذه المرة ضربة أعظم من الضربتين الأوليين وقال لي: يا فلان! قم واذهب إلى أهلي، وقل لهم: خلصوني مما أنا فيه، خلصك الله! قال: فاستيقظت من نومي وعلمت أن الأمر حقيقة، فلما صليت التراويح من ذلك اليوم ذهبت إلى بيت صاحبي -وهو قريب لي- فلما دخلت إذا بأهله وأولاده قد اجتمعوا على التلفاز ينظرون إليه وكأن على رءوسهم الطير -ينظرون إلى هذا الإله الجديد الصنم- فجلست، فلما رأوني قالوا مستغربين: ما الذي جاء بك في هذا الوقت، فليس هذا من عادتك؟! قال: فقلت لهم: جئت لأسألكم سؤالاً: لو جاءكم مخبر فأخبركم أن أباكم يعذب في قبره، هل ترضون بذلك؟! قالوا: لا، بل ندفع كل ما نملك مقابل نجاة أبينا من العذاب.
قال: فأخبرتهم بما رأيته في المنام من حال أبيهم، فانفجروا جميعاً بالبكاء، وقام كبيرهم إلى ذلك الجهاز (التلفاز) وكسره تكسيراً أمام الجميع معلناً التوبة، ولكن القصة لم تنته بعد! قال الشيخ: فرأيته بعد ذلك في النوم فقال لي: خلصك الله كما خلصتني! فهذه عبرة لمن يعتبر.
الإنسان لو أتى ببترول أو بنزين وسكبه على أولاده وأحرقهم، أهون من أن يجلسهم أمام أفسق الفساق الذي يعلمهم فنون الفساد، ويفسد عقائدهم، ويقطع عليهم الطريق إلى الله تبارك وتعالى.
الحقيقة نحن نتمنى اليوم الذي نرى فيه جميع المسلمين يخرجون ويكومون هذا الجهاز ويكسرونه على أكوام القمامة، فهذا هو المكان الوحيد اللائق به، ويطهرون بيوتهم من هذا الصنم الجديد الذي يفسد عليهم دينهم، ويفسد عليهم دنياهم.(28/22)
من علامات سوء الخاتمة في عهد السلف
أما ما وقع من علامات سوء الخاتمة في عهد السلف الصالح، فكثير من العلماء يذكرون أن الله سبحانه وتعالى إذا شاء أن يطلع بعض عبيده على شيء من هذا، فإن هذا يقع بالفعل.
يقول شيخ الإسلام: قد سمع غير واحد أصوات المعذبين في قبورهم، وقد شوهد من يخرج من قبره وهو يعذب.
وقال ابن رجب رحمه الله: قد أطلع الله من شاء من عباده على كثير مما ورد في هذه الأحاديث، حتى سمعوه وشاهدوه عياناًً.
أما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا.
قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك.
فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار.
قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار.
فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر.
قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر.
قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال.
قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال).
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس فسمع صوتاً فقال: يهود تعذب في قبورها).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهباً أو فضة، إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد له يقال له: مدعم، أهداه له أحد بني الضباب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئاً له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً! فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك - أو شراكان - من نار).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب قال: فرفعوه قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً).
وعن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت هذه الريح لموت منافق! فلما قدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات).(28/23)
من علامات سوء الخاتمة بعد العهد النبوي
أما ما وقع في غير زمن النبي صلى الله عليه وسلم من علامات تدل على سوء الخاتمة فهي كثيرة، فبعضهم يظهر عليه ذلك عند اشتداد المرض، فيظهر عليه التسخط والاعتراض على قضاء الله والعياذ بالله.
ومنهم من يظهر عليه عند احتضاره بحيث يتلفظ بكلام يغضب الله تعالى أو يحال بينه وبين كلمة التوحيد، وربما يظهر بعض ذلك عند تغسيله كالتغير في اللون ونحو ذلك.
ومنهم من تظهر هذه العلامات عند إنزاله ودخوله في القبر، والبعض الآخر بعد دفنه في القبر، كما حصل لهذا المنبوذ الذي نبذته الأرض، فأبت أن يستقر فيها، نعوذ بالله من ذلك كله.
يقول الشيخ: حدثني أبو عبد الرحمن اليماني -رجل صالح أحسبه كذلك والله حسيبه- وهو جار لي، أنه لقن رجلاً ساعة الاحتضار شهادة أن لا إله إلا الله، فكان الرجل يحرك رأسه يميناً وشمالاً وهو لا يتكلم وكأنه يقول لي: لا، لن أقولها! يقول: وحدث ذلك لي مرتين.
قال ابن أبي الدنيا رضي الله عنه: حدثنا ابن أحمد الفقيه قال: نزل الموت برجل كان عندنا فقيل له: استغفر الله.
فقال: ما أريد.
فقيل له: قل: لا إله إلا الله.
فقال: ما أقول؟ ثم مات.
يقول: وسمعت أن رجلاً كان كثير الصوم والتعبد اشتد به الألم فافتتن، فسمعته يقول: لقد قلبني في أنواع البلاء، فلو أعطاني الفردوس ما وفى بما يجري علي، ثم صار يقول: وأي شيء في هذا الابتلاء من المعنى؟! إن كان موتاً فيجوز، أما هذا التعذيب فأي شيء المقصود به؟! والعياذ بالله.
وسمعت شخصاً آخر يقول وقد اشتد به الألم -وأنا أستغفر الله من نقله-: ربي يظلمني! وهذه حالة من لم ينعم الله عليه بالتوفيق والثبات.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: ولقد رأيت بعض الحساب وهو في غاية المرض يعقد بأصابعه ويحسب!(28/24)
كلام ابن القيم في سوء الخاتمة
قال ابن القيم رحمه الله: أخبرني رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت، وكان تاجراً يبيع القماش، قال: فجعل يقول: هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص يساوي كذا وكذا، حتى مات.
والحكايات في هذا كثيرة جداً كما يقول الإمام ابن القيم، فمن كان مشغولاً بالله وبذكره ومحبته في حال حياته وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله، ومن كان مشغولاً بغيره في حال حياته وصحته فيعسر عليه اشتغاله بالله وحضوره معه عند الموت؛ ما لم تدركه عناية من ربه.
ولأجل هذا كان جديراً بالعاقل أن يلزم قلبه ولسانه ذكر الله حيثما كان لأجل تلك اللحظة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا)، إذا عودت قلبك الذكر فإنك توفق وتسهل عليك هذه الكلمة في أحوج لحظة أنت محتاج إليها فيها.
وأنا أعرف بعض الناس كان يواظب على الذكر حتى وهو نائم، فكان يسمع صوته وهو يذكر الله سبحانه وتعالى، فمن أدمن الذكر غلب عليه الذكر، وكان قريباً من الله تبارك وتعالى، فإذا فاتته كلمة لا إله إلا الله في تلك اللحظة أو ختم له بالسوء شقي شقاوة الأبد، فنسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
قال موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:29 - 35].
ولولا أن الذكر محتاج لمعونة لما قال عليه الصلاة والسلام: (أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك).
أما ما ظهر عند التغسيل فكثير أيضاً، يقول الشيخ القحطاني في محاضرة له: إن بعض الأموات عندما كنت أغسلهم كان بعضهم تنقلب بشرته إلى السواد، وبعضهم يقبض يده اليمنى، وبعضهم يدخل يده في فرجه، وبعضهم يشم رائحة الإحراق تخرج من فرجه، وبعضهم تسمع كأن أسياخاً من نار قد أدخلت في فرجه، ولقد جيء بميت فلما ابتدأنا بتغسيله؛ انقلب لونه كأنه فحمة سوداء، وكان قبل ذلك أبيض البشرة، فخرجت من مكان التغسيل وأنا خائف، فوجدت رجلاً واقفاً فقلت: هذا الميت لكم؟ قال: نعم.
قلت: أنت أبوه؟ قال: نعم.
قلت: ما شأن هذا الرجل؟ قال: هذا الرجل كان لا يصلي.
فقلت له: خذ ميتك فاغسله.
ولقد حدثني عدد ممن يغسلون الموتى من مناطق مختلفة عن بعض ما شاهدوه أثناء التغسيل من هذه العلامات.
وإذا حضر الإنسان ميتاً ورأى شيئاً من هذه العلامات فينبغي ألا ينشرها إذا كانت علامات سيئة؛ بل ينبغي عليه أن يستر على ذلك الميت، ويمكن أن يحكي ذلك دون أن يعين شخصاً أو يفهم الناس من المقصود، لذلك يستحبون أن يقوم بالتغسيل رجل صالح فقيه؛ لأنه إذا رأى خيراً نشره وإذا رأى شراً ستره.
فليس معنى ما نحكيه من هذه الأشياء أنه إذا حضر أحدنا تغسيل شخص يخرج ويقول: رأيت كذا وكذا من علامات السوء، إذا رأى شراً يستره، وإذا رأى خيراً ينشره، أما إذا حكى في بعض المجالس للتذكير دون أن يعين وبدون أن يفهم منه من هو ذلك الشخص؛ فلا بأس بذلك للعبرة.(28/25)
من حكايات الشيخ القحطاني عن سوء الخاتمة
يقول الشيخ القحطاني: إن الرجل الذي يموت على الخير يبدو وكأنه نائم، أما من مات على خلاف ذلك فيظهر عليه الفزع وخوف الموت مع تغير في وجهه، وبعضهم يخرج منه مثل الزفت الأسود، وبعضهم مثل ماء الحناء، وبعضهم يخرج من فمه روائح كريهة مع أن الجثة لا تزال طرية! يقول: وغسلت رجلاً وكان لونه مصفراً، وفي أثناء التغسيل أخذ لونه يتغير إلى السواد من رأسه إلى وسطه، فلما انتهيت من التغسيل إذا به قد أصبح كالفحمة السوداء! وميت آخر كان وجهه أثناء التغسيل متوجهاً نحو كتفه الأيسر، فكلما أرجعته نحو الكتف الأيمن عاد إلى الجهة اليسرى، حتى لما وضعته في قبره ووجهته نحو القبلة، انصرف وجهه عنها إلى أعلى.
وحدثني مغسل آخر أنه غسل رجلاً وكان لونه مصفراً، فلما فرغ من التغسيل اسود وجه ذلك الرجل، فقلت له: أسود مثل لحيتي؟! قال: أسود كالفحم! قال: ثم صار يخرج من عينه دم أحمر، وكأنه يبكي الدم والعياذ بالله! قال: وهذا كان معي -وأشار إلى صاحبه- فقلت له: أرأيت ذلك؟ قال: نعم.
قلت: هل تغير لون جسمه؟ قال: لا، وجهه فقط.
وحدثني مغسل آخر فقال: دخلت ذات مرة على بعض الإخوان وهم يغسلون ميتاً، فرأيت وجهه مسوداً كأنه قرص محترق، وجسمه أصفر، ومنظره مخيف، ثم جاء بعض أهله لينظروا إليه، فلما رأوه على تلك الصورة فروا هاربين خوفاً منه! أما ما ظهر عند الإنزال في القبر فحدثني أحد المغسلين فقال: غسلت عدداً كبيراً من الموتى لسنين طويلة، وأذكر أني وجهت أكثر من مائة ميت نحو القبلة، ولكنهم كلهم صرفت وجوههم عن القبلة.
وحدثني مغسل آخر قال: عندما وضعت أحد الموتى في قبره ووجهته نحو القبلة، رأيت وجهه قد تحول إلى أسفل وأدخل أنفه في التراب، ثم وجهته إلى القبلة ووضعت تحت رأسه تراباً ولكنه عاد وأدخل أنفه في التراب، ثم وضعت رملاً أكثر في هذه المرة؛ حتى لا يعود ولكنه عاد وأدخل أنفه في التراب، ولم أزل معه حتى تكرر الأمر خمس مرات، فلما يئست منه تركته وأغلقت القبر.
وقال الشيخ القحطاني: خرجت ذات يوم من المقبرة بعد صلاة العصر وكنا قد قبرنا رجلاً، وكان الطين عالقاً في يدي فأردت أن أغسلها، إذ جاءت جنازة وكانوا في حدود الخمسين رجلاً فقال أحدهم: بالله عليك ساعدنا في قبر هذا الرجل، فوالله لا نحسن الدفن، فسللت الرجل من جهة الرجلين وكان ثقيلاً فأعانني عليه بعضهم فوضعته في القبر، وتركت لبنة أضعها تحت رأسه، وحللت الأربطة فنظرت فإذا برأس هذا الميت قد تحول عياذاً بالله من القبلة هكذا، -فحول الشيخ رأسه- فقمت برد هذا الميت إلى القبلة، وأخرجت اللبنة الثانية ولكني في هذه المرة وجدت عينيه قد فتحتا، وأنفه وفمه يصبان الدم الأحمر القاني، فداخلني الخوف والوجل حتى لم تستطع رجلاي أن تحملاني داخل القبر، وقد رأى معي اثنان أو ثلاثة هذا المشهد الغريب الخطير، ثم أعطوني اللبنة الثالثة، فوجدت أنه تحول في المرة الثالثة فتركته وهربت من القبر نهائياً، فقام الذين كانوا معي وتولوا عملية الدفن فردموه بالتراب ولم يغلقوا اللحد من شدة الخوف، ثم صرت أرى هذا الميت في المنام سبعاً أو ثمان مرات حتى سكن الله قلبي إلخ.
قال: وميت آخر أنزلته في قبره، فكانت تخرج رائحة الدخان والتعميرة -الشيشة- وكأن شخصاً قد أشعل دخاناً أو تعميرة في القبر، وكل من كان معي كان يشم هذه الرائحة تخرج من ذلك الكفن، وقد تحول عن القبلة بجسمه كله!(28/26)
حكايات أخرى في سوء الخاتمة
قال ابن أبي الدنيا: حدثني رجل أنه ماتت له ابنة فأنزلها القبر، فذهب يصلح لبنة فإذا هي قد حولت عن القبلة، قال: فاغتممت لذلك غماً شديداً، فرأيتها في النوم فقالت: عامة من حولي من أهل القبور محولون عن القبلة قال: كأنها تريد الذين ماتوا على الكبائر.
وحكى القرطبي حادثة فقال: أخبرني صاحبنا الفقيه العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد القصري رحمه الله أنه توفي بعض الولاة فحفر له، فلما فرغوا من الحفر وأرادوا أن يدخلوا الميت القبر إذا بحية سوداء داخل القبر، فهابوا أن يدخلوه فيه، فحفروا له قبراً آخر، فلما أرادوا أن يدخلوه إذا بتلك الحية فيه، فحفروا له قبراً آخر فإذا بتلك الحية، فلم يزالوا يحفرون له نحواً من ثلاثين قبراً وإذا بتلك الحية تتعرض لهم في القبر الذي يريدون أن يدفنوه فيه، فلما أعياهم ذلك، سألوا ما يصنعون؟ فقيل لهم: ادفنوه معها.
نسأل الله السلامة والستر في الدنيا والآخرة! أما ما ظهر من علامات بعد الدفن فقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى: حدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرزيز الحراني أنه خرج من داره بعد العصر بآمد إلى بستان، قال: فلما كان قبل غروب الشمس توسطت القبور، فإذا بقبر منها وهو جمرة نار مثل كوز الزجاج والميت في وسطه، فجعلت أمسح عيني وأقول: أنائم أنا أم يقظان؟! ثم التفت إلى سور المدينة وقلت: والله ما أنا بنائم، ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد فسألت عن صاحب القبر، فإذا به مكاس قد توفي ذلك اليوم.
المكاس هو: الذي يأخذ الضرائب أو قاطع الطريق.
وقال أبو محمد عبد الحق: حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان وكان من أهل العلم والعمل رحمه الله أنهم دفنوا ميتاً بقريتهم في شرق إشبيلية، فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون ودابة ترعى قريباً منهم، فإذا الدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع، ثم ولت فارة، كذلك فعلت مرة بعد أخرى، قال أبو الحكم رحمه الله: فذكرت عذاب القبر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليعذبون عذاباً تسمعه البهائم) والله عز وجل أعلم بما كان من أمر ذلك الميت! يقول: وحدثني رجل فقال: مات رجل في بلادنا اسمه محمد يزعم أنه مسلم، ولكنه كان لا يصلي ويتعامل بالربا، وأكثر من تبع جنازته من اليهود، فلما دفنوه وابتعدوا عن القبر مسافة عشرة أمتار تقريباً إذا بانفجار يحدث داخل القبر، ثم خرجت نار تتأجج من القبر فقلت له: هل شاهدت ذلك؟ قال: لا، ولكني لما سمعت بالذي حدث ذهبت إلى الذين حضروا المشهد فسألتهم عن ذلك، فكلهم حدثوني بهذا.
وحدثني أحد المغسلين فقال: دفنا ميتاً ذات مرة بعد صلاة العشاء، فلما نمت إذا برجل يأتيني في المنام ويصرخ في وجهي ويقول: قم أدرك الميت الذي دفنته فإنهم يسحبونه من القبر، فقمت فزعاً من نومي، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، ثم قمت وصليت ما كتب الله لي ثم عدت إلى فراشي، فعاد مرة أخرى، فقمت فزعاً ولم أستطع بعدها أن أنام، فلما أصبحت ذهبت إلى المقبرة ووقفت على قبر ذلك الميت، فإذا أثر سحب فوق القبر من رأس الميت إلى خارج القبر مسافة خمسة أمتار، والقبر على حاله لا يظهر عليه آثار حفر ولا غيره! نعوذ بالله من سوء الخاتمة، ونسأله سبحانه الستر في الدنيا والآخرة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(28/27)
ضوابط التبديع
إن كثيراً من طلبة العلم قد أطلقوا لألسنتهم العنان في تصنيف الناس وتبديعهم وتفسيقهم، وهذا يدل على عدم فقههم لأحكام الشرع، ودلالات النصوص، وضوابط التبديع والتفسيق التي وضعها أهل العلم، ولذا كانت الحاجة ماسة إلى بيان ضوابط التبديع والتفسيق والتكفير؛ فقد كثر الزلل في هذه المسائل.(29/1)
الحديث عن البدعة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن هذه العبارة التي نرددها دوماً في خطبة الحاجة وهي قولنا: (أصدق الحديث أو أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) هي عبارة مقصودة، ولا تقال عبثاً، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صدر الأمور والحاجات المهمة.
يجب أن يكون شعار كل مسلم (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، وينبغي أن يرفع هذا الشعار، وأن يشاع الاستدلال بهذا الشعار، ويدرأ به في نحر كل من يتجاسر على مخالفة هديه أو استحسان البدع التي تخالف هديه صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى جعل النجاة في كلمة مكونة من شقين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا ينجو إنسان إلا إذا حقق هاتين الكلمتين.
فالأولى: تشمل توحيد الله سبحانه وتعالى، وهو توحيد المعبود.
والثانية: توحيد الطريق الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى.
لا إله إلا الله يعني: لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى وحده، لا إله حق إلا الله، فإذا قال إنسان: أنا أريد أن أعبد الله وحده، لكن كيف أعبده؟ كيف أعرف الذي يرضيه والذي يسخطه حتى أتجنبه؟ فلا ينبغي أن ننظر فقط إلى قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، بل وننظر إلى آيات أخرى كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وغير ذلك من الآيات التي تحتم على المسلم ألا يعبد إلا الله من خلال ما شرع، ولا يعبده بالبدع.
فهذان التوحيدان لا نجاة إلا بهما: توحيد المعبود، وتوحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فمنذ أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سدت جميع الطرق المؤدية إلى الجنة إلا طريقاً واحداً على رأسه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد أفتى العلماء بكفر من زعم أن هناك طريقاً إلى الجنة مخالفاً لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته الشريفة، فمن ادعى أن هناك طريقاً إلى النجاة وإلى الجنة يخالف طريق النبي عليه الصلاة والسلام فإنه قد خرج من ملة الإسلام، وكما يقدح الشرك في توحيد العبادة كذلك يقدح الابتداع في توحيد الاتباع، وكما ينافي التوحيد أعمال الشرك -وهي عبادة غير الله أو صرف شيء من العبادة لغير الله- كذلك ينافي ويضاد شهادة أن محمداً رسول الله الأخذ بالبدع وتقديمها على السنن.
نبدأ هذا البحث ببعض المقدمات اليسيرة التي تتعلق بالبدع؛ لأنه لابد من تمهيد للموضوع الأساسي الذي هو ضوابط التبديع؛ لأنه يحصل خلط في هذا الباب كما يحصل خلط في قضايا التكفير نتيجة عدم إحكام ضوابط التكفير، فكما أن هناك ضوابط للتكفير فكذلك التبديع له ضوابط، ولابد أن نلم بها حتى لا يحصل منا شطط وخروج عن المنهج.(29/2)
تعريف البدعة لغة
البدعة من الناحية اللغوية: أصل مادتها بدع، ويعبر بها عن الاختراع على غير مثال ومنه قوله تبارك وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] يعني: خالقهما على غير مثال سابق لهما، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] يعني: لست أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل، فلست بدعاً من الرسل.
ويقال: ابتدع فلان بدعة، يعني: ابتدع واخترع طريقة لم يسبقه إليها أحد، وتقول: هذا شيء بديع أو أمر بديع، إذا كنت تستحسنه وتريد أن تقول: إنه لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله أو ما يشبهه.
أما البدعة في المعنى الشرعي فهي: طريقة في الدين مخترعة تنافي الشرعية، ويقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.
وعندما توصف البدعة بالمعنى اللغوي لابد من التفريق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، فالبدعة بالمعنى اللغوي لا تذم على الإطلاق؛ لأنها تشمل كل ما يخترع على غير مثال سابق، فاختراع أي جهاز مثلاً فإنه يعتبر بدعة، لكن هل هي البدعة المذمومة شرعاً؟ كلا، بل قد تكون واجبة في بعض الأحيان، حسب كونها وسيلة تؤدي إلى مقصود، وإذا كان المقصود مباحاً فهي مباحة، وإذا كان واجباً فهي واجبة، وهذا فيما يتعلق بالبدعة اللغوية.(29/3)
تعريف البدعة شرعاً
البدع الشرعية كلها مذمومة، وهي التي سنناقشها، وليس كلامنا الآن في البدعة من حيث المعنى اللغوي.
والبدعة كما عرفها الشاطبي في الاعتصام: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.
والطريقة والطريق والسنن كلها بمعنى واحد: وهو ما رسم للسلوك عليه.
قوله: (في الدين) الدين: هو ما شرعه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والمعاملات.
والطرائق في الدين نوعان: هناك طريقة لها أصل في الدين، وطريقة ليس لها أصل في الدين، فالطريقة التي لها أصل في الدين ليست مخترعة، فمثلاً العلوم الخادمة للعلوم الشرعية مثل علم النحو والصرف مفردات اللغة أصول الفقه مصطلح الحديث، كل هذه طرق جيدة في الدين، السلف لم يدرسوا هذه العلوم بهذه الطريقة المدرسية التي ندرسها الآن، أو التي وجدت بعدهم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة؛ لأن لها أصلاً في الدين.
فأصل هذه العلوم موجود في الشرع وإن لم توجد في الصدر الأول بنفس الكيفية؛ لأن الصحابة من سليقتهم كانوا فصحاء بلغاء، ولا يمكن أن يلحن الواحد منهم، فلما وقع اللحن وضعت هذه العلوم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، فهي عبارة عن تسهيل وتخفيف وتيسير لطلبة العلم.
أما النوع الثاني من الطرائق في الدين فهو: طريقة في الدين لا أصل لها، وهي طريقة في الدين مخترعة.
فقولنا: (مخترعة) احترازاً من الطريق التي لها أصل في الدين.
فهي طريقة ابتدعت على غير مثال سابق من الشرع، فهذا معنى مخترعة.
(تضاهي الشرعية): يعني: أنها تشبه الطريقة الشرعية، فمن المعلوم أن الباطل لا يقبل إلا إذا كان فيه شيء من الحق، فلو أن المبتدع أو المضل أخرج الباطل باطلاً محضاً لا يخالطه حق، فإنه يسهل كشفه ولا ينتفع به أحد، لكن لابد للمبطل أن يخلط الباطل بشيء من الحق حتى تروج بضاعته على الناس، فلذلك عندما نقول: إن البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية بمعنى: أنها تشبه الطريقة الشرعية لكنها في الحقيقة ليست شرعية، فهي مجرد مشابهة، لكن في الحقيقة ليست طريقة شرعية، بل هي تتصادم مع الطريقة الشرعية من أوجه شتى.
فالبدعة فيها وضع حدود خاصة للتعبدات، مثل رجل يريد أن يعبد الله فينذر أن يصوم، ويظل مع صومه قائماً ضاحياً في الشمس لا يستظل، فوضع كل هذه الكيفيات المخترعة للتعبد بدعة في الدين، ومثل الإنسان الذي يتعبد بالاقتصار على نوع معين من الملبس أو المأكل، فهذه أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك.
كذلك التزام كيفية معينة من ذكر أو عدد معين أو صفة معينة والمحافظة عليها فهذه أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، وهكذا فالمبتدع دائماً يخلط البدعة بشيء من الحق، حتى يموه على الناس، ويسهل إضلالهم بها.
قوله: (تضاهي الشرعية) أي: أنها طرائق تضاهي الشرعية كما حصل من كفار قريش عندما كانوا يبتدعون في الدين أشياء يزيدونها على ملة إبراهيم عليه السلام ينطبق عليها معنى البدعة، فمثلاً عندما كانوا يعبدون مع الله سبحانه الآلهة الباطلة، كانوا يستدلون على هذه العبادة بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
كذلك أيضاً كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهذا الفعل سماه الله تعالى فاحشة في قوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، فهذا فيه مضاهاة للطريقة الشرعية.
كذلك كان المتشددون من قريش في الجاهلية يرفضون الخروج إلى عرفات، ويصورون عدم خروجهم إلى عرفات بأنهم يعظمون الحرم، ويقولون: نحن لا نخرج من الحرم تعظيماً للحرم، ويرفضون الخروج إلى عرفات، فهذا أيضاً من بدعهم.
كذلك من هذه الطرق المبتدعة في الدين ما يدعيه الصوفية من أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه، وهذا من الطرق المبتدعة في الدين.
قوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى)، هذه من أركان تعريف البدعة، فالمبتدع ينظر إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فيظن أن المقصود هو العبادة، لكنه يغفل عن حقيقة أخرى غير استحقاق الله وحده للعبادة، وهي أنه كما نوحد الله بالعبادة كذلك يجب أن نوحد رسوله بالاتباع والاقتداء، فلا نقتدي بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنعبد الله بما شرع، ولا نعبده بالبدع؛ لأننا إذا تقربنا إلى الله بغير ما شرعه على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أننا نتهم الشرع بالنقص، وأن الرسول ما استوفى وسعه في نصيحتنا، وأنه كانت هناك أشياء تقربنا إلى الجنة وتباعدنا من النار؛ وهو عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- قد كتمها ولم يدلنا عليها! فهذا اتهام للشرع بالنقصان.
قوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى) معنى ذلك: أن البدع لا تدخل في العادات؛ لأن الفارق بين العادة والعبادة هو النية، فإذا انضاف إليها نية التقرب إلى الله كانت بدعة.
مثلاً: إذا كان إنسان لا يأكل اللحم؛ لأنه لا يعجبه أو يؤذيه من الناحية الصحية أو لا يحبه بطبعه فليس عليه الحرج ما دام في نطاق العادات، أما إذا امتنع رجل آخر من اللحم تعبداً، ويقول: أتقرب إلى الله بترك اللحم، فهذا هو الذي يدخل في حد البدعة، والفرق بينهما النية، ولذلك قال الشاطبي في التعريف: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.(29/4)
ذم السلف للبدع والتحذير منها
الأدلة على ذم البدعة والتحذير منها كثيرة متواترة سواء في القرآن أو في سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما القرآن فإن أكثر الأدلة الآمرة بطاعة الرسول صلى عليه وسلم مقرونة بطاعة الله سبحانه وتعالى.
أما في السنة فالأحاديث مشهورة، ويكفي قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، فلا يقبل أبداً من أي شخص أن يأتي ببدعة وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، (فكل) صيغة عموم، وفي الحديث الآخر: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وهذا أيضاً صيغة عموم، فكل البدع باطلة مردودة على صاحبها، فلا يليق أن يأتي من يدعي الإسلام ويسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة)، ثم يقول: لا، ليست كل محدثة بدعة، ولا كل بدعة ضلالة، بل منها ما هو حسن! ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: من ابتدع بدعة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة عليه الصلاة والسلام.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة عبادة.
وقال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما يسعهم.
وعن أيوب السختياني قال: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي.
وعنه أيضاً قال: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة.
لماذا؟ لأن الإنسان يتعصب لأول شيخ علّمه، ولأول كتاب قرأه.
فمن علامات السعادة والتوفيق أن الحدث -وهو الشاب الصغير- إذا تاب وأناب، أن يكون ذلك ابتداء على عالم سني حتى يقتصر على الطريق السوي، ولا يضيع عمره في التجول بين الطوائف المختلفة، فإن من علامات السعادة: أنه منذ البداية وضع قدمه على الطريق الصحيح، ولا يضيع بضاعة العمر بالتجول في الفرق الضالة.
وقال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها.
وقال الجنيد بن محمد رحمه الله تعالى: الطريق إلى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لسنته، كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وعن معمر قال: كان طاوس جالساً وعنده ابنه، فجاء رجل من المعتزلة فتكلم في شيء -بدأ يتكلم في بدعته- فأدخل طاوس أصبعيه في أذنيه وقال: يا بني! أدخل أصبعك في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئاً؛ فإن هذا القلب ضعيف.
فلا ينبغي أبداً للإنسان أن يعرض نفسه لبلاء لا يطيقه، فإن كنت غير راسخ في العلم فلا تسمح لمبتدع أن يحادثك أو يعرض عليك بدعته، فلعله أن يشوش عليك ولا تملك دفعاً لها، وإذا ملكت لسانك لم تملك قلبك فإنه قد يتأثر بهذه البدع والضلالات خاصة، وإذا كان لديك لسان وجدل فليست البطولة أن تصغي إلى مبتدع ضال، بل البطولة ألا تعرض نفسك أصلاً لهذه الفتنة.
فهذا طاوس لم يسمع لهذا المبتدع، وقال: إن هذا القلب ضعيف، وما زال يقول: أي بني! اثبت، أي بني! اثبت حتى قام الرجل المعتزلي.
وعن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه فقال ابن سيرين: إما أن تقوم وإما أن أقوم.
وعن سلمان بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء لـ أيوب -هكذا كانوا يسمون أهل البدعة، ما كانوا يسمونهم بالعقلانيين ولا غير ذلك من المسميات الموجودة الآن، لكن كانوا يسمونهم أهل الأهواء قال - لـ أيوب السختياني: أكلمك بكلمة قال: لا، ولا نصف كلمة! وعن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً.
وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تحادثوهم، فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم أو ينكسوا عليكم ما كنتم تعرفون.
وعن سفيان الثوري قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، يعني: يرجع منها.
وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي داود وكنت في جنازته حتى وضع عند باب الصفا فصف الناس، وجاء الثوري فقال الناس: جاء الثوري، فجاء حتى خرق الصفوف والناس ينظرون إليه، فتجاوز الجنازة ولم يصل عليها؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء.
وعن سفيان بن عيينة قال: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه -لابد أن المبتدع يشعر بنوع من المذلة- قال: وهو في كتاب الله -يعني: الدليل على هذا في كتاب الله- قالوا: وأين هو في كتاب الله؟! قال: أما سمعتم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:152]؟! قالوا: يا أبا محمد! هذه لأصحاب العجل خاصة! قال: كلا، اتلوا ما بعدها: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152] أي: الكذابين المبتدعين، فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة.
وعن حسان قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة.
وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة.
وعن سعيد قال: مرض سفيان الثوري فبكى في مرضه بكاءً شديداً، فقيل له: ما يبكيك؟ أتجزع من الموت؟ قال: لا، ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه.
وعن الفضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه.
وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه.
وعنه قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فكن في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له: المريسي وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكراً أي: حمداً لله الذي أماته! وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، يعني: أتاكم من الدين ما يكفيكم قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3].
وقال أيضاً: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع! وعليكم بالعتيق، يعني: القديم.
وعنه قال: أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول.
وعن عمر قال: يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين.
وعنه قال: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تبارك وتعالى.
وعن محمد بن مسلم قال: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة.
وقال إبراهيم النخعي: ما أعطاكم الله خيراً أخبئ عنهم، وهم أصحاب رسوله وخيرته من خلقه -يعني: لا يمكن أن يصطفيكم بخير يكون قد حجبه عن الصحابة- فكل خير هم كانوا أولى به، فلا تحسنوا الظن بأنفسكم أنكم أفضل ناصحاً، فهم أصحاب النبي وخيرته من خلقه، أفضل أولياء الله، فلا يمكن أن يكون هناك خير منعوا منه وحزتم أنتم بما ابتدعتم في الدين.
وروي أن رجلاً قال لـ مالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة، قال: وأي فتنة في زيادة الخير؟! قال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقال الأوزاعي: بلغني أن من ابتدع بدعة خلاه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء لكي يصطاد به.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: قف حيث وقف القوم - أي: السلف- فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشفها كانوا الأقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، وقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم فحسر، وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم.
وقال محمد بن عبد الرحمن لرجل تكلم ببدعته ودعا الناس إليها: هذه البدعة التي تدعو إليها، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أم لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها، قال: فشيء لا يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟! قال الرجل: فإني أقول قد علموها، قال: أفوسعهم ألا يتكلموا بها ولا يدعوا الناس إليها أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال: فشيء(29/5)
أقسام البدع
تكلمنا في حد البدعة، وفي التنفير منها، وفي ذكر النصوص في ذمها، فما هي الضوابط التي تحكم مسألة الحكم على أحد بالبدعة، وكيفية معاملته وغير ذلك؟ فالبدعة تنقسم باعتبارات إلى أقسام عدة: بدعة فعلية وبدعة تركية، بدعة كلية وبدعة جزئية، بدعة عادية وبدعة عبادية، بدعة حقيقية وبدعة إضافية.(29/6)
البدعة الفعلية والتركية
البدعة الفعلية والتركية: مبنية على أساس الفعل والترك، فالإنسان قد يترك أشياء أباحها الله له، لكنه يتركها تعبداً كما يفعل الذين ينقطعون للعبادة ويستدلون بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، فيتركون بعض المباحات تديناً، فهذه من البدع التركية.(29/7)
البدعة العملية والاعتقادية
قسم آخر للبدع: بدع عملية وبدع اعتقادية، والعملية هي التي تكون متعلقة بالعمل، والعمل متعلق بالجوارح، فمثلاً الطواف حول الأضرحة بدعة عملية؛ لأنها متعلقة بالجوارح، والذكر أمام الجنازة بدعة عملية، وغير ذلك من أنواع البدع كالتوسل وغيره من الأشياء المخترعة.
والبدعة العملية تكون متعلقة بالنية كمن يصلي ركعتين بنية طول العمر أو يصلي صلاة يسمونها مؤنس القبر أو صلاة بر الوالدين وغير ذلك من الصلوات المخترعة التي {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف:71]، ومثلها صلاة الأيام: صلاة يوم السبت، صلاة يوم الأحد، وهذه كلها موجودة، وهي من البدع العملية.
أما البدع الاعتقادية فهي: تكون باعتقاد الشيء على خلاف المعروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا على سبيل المعاندة، ولكن بسبب شبهة، كما يمسح الشيعة -مثلاً- على الرجلين، فلو رأيت شيعياً يتوضأ فستجد أنه إذا وصل إلى القدمين فإنه لا يغسلهما بالماء، وهو لا يلبس جورباً، فيمسح القدم ولا يغسلها! فهذه بدعة اعتقادية، فهو يعتقد أن هذا هو هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وعنده شبهة في ذلك، ومع هذا ينكرون المسح على الخفين بشدة؛ ولذلك العلماء ينصون على هذه المسألة في متون العقيدة؛ لأنها متواترة ومقطوع بصحتها عن النبي عليه السلام، فلذلك أدخلوها في مسائل العقيدة، كما في متن العقيدة الطحاوية: ونرى المسح على الخفين في الحضر والسفر.
ومن البدع الاعتقادية: بدعة المشبهة والمجسمة والقدرية وغيرهم من فرق الضلال.
وهناك بدع متنوعة باعتبار الأزمنة والأمكنة والإحرام، كالموالد والأعياد والمواسم والجنائز والأضرحة والضيافة والعبادة والمعاشرة والعادات.(29/8)
البدعة الحقيقية والإضافية
هناك قسم آخر للبدع، وهو أخطر أنواع البدع، وهو سبب المشاكل عموماً بين الناس في باب البدع، وهو قسم البدع الحقيقية والبدع الإضافية، وهذا قسم مهم جداً، فقضيتنا هي موضوع ضوابط التسمية في البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية.
فالبدعة الحقيقية: هي ما كان الابتداء فيها من جميع وجوهها ليس له أصل، يعني: إذا نظرت للعمل من أي زاوية لا ترى له أصلاً في الشرع، فهو بدعة حقيقة بمعنى أن الابتداع فيها من جميع وجوهها، فهي بدعة محضة ليس فيها جهة تنطبق بها في السنة، وهي التي لم يدل عليها دليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أو استدلال، ولذلك سميت بدعة حقيقة؛ لأنها مخترعة على غير مثال سابق، وهي بعيدة عن الشرع، خارجة عنه من كل وصف.
من أمثلة البدع الحقيقية: بدعة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالرهبانية، وترك التزوج مع وجود الأمور الداعية إليه، وعدم المانع الشرعي منه كرهبانية النصارى، والله عز وجل يقول: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] وهذا استثناء منقطع، والمعنى: لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
ومن هذه البدع: تعذيب النفس بألوان العذاب الشنيع والتمثيل الفضيع، كما يحصل من الهنود في الإحراق بالنار وغير ذلك، وكما يفعله الشيعة الروافض يوم عاشوراء من تعذيب أنفسهم، وإدخال أسياخ الحديد في أجسادهم، وشق أيديهم وصدورهم ورءوسهم حتى تخرج الدماء، فهذه أيضاً من البدع الحقيقية التي لا يمكن أبداً أن تندمج في الدين، ولا يمكن أبداً أن يباح للإنسان أن يعذب نفسه بهذه الطريقة التي يفعلها الشيعة يوم عاشوراء من خدش الرءوس والوجوه، ولطم الخدود، والنياح لقتل الحسين رضي الله تعالى عنه، فيقيمون هذه المآتم زاعمين أن ذلك يقربهم إلى الله سبحانه تعالى! ومن البدع الحقيقية: تحكيم العقل في أخبار القرآن والسنة كما هو معروف في التيارات الاعتزالية.
ومن البدع الحقيقية: الطواف حول الأضرحة، والوقوف على غير عرفة، وإقامة الهياكل على القبور، وتعليق الشموع والمصابيح حول الأضرحة، فهذه كلها لا يمكن أبداً من أي جهة أن تندمج بالشرع أو تكون لها شبهة من أدلة الشرع، بل هي بدعة محضة لا يمكن أن يكون لها أصل في الدين، فهذه البدعة الحقيقية.
أما البدعة الإضافية فهي على خلاف ذلك، فالبدعة الإضافية لها شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من هذه الجهة بدعة، والأخرى: ليس لها متعلق في الأدلة إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، فالبدعة الإضافية هي باعتبار من الاعتبارات سنة، وباعتبار آخر بدعة، فهي غير خالصة لأحد الطرفين، ولذلك نسميها البدعة الإضافية يعني: حسب ما تضاف إليه، فهي سنة بالنسبة لإحدى الجهتين، وبدعة بالنسبة للجهة الأخرى، فسنة من هذه الزاوية لأنها مستندة إلى دليل، وبدعة لأنها من الزاوية الأخرى ليست مستندة إلى دليل شرعي ولا إلى حتى شبهة، بل غير مستندة إلى دليل أصلاً، وهذا النوع هو مجال النزاع بين أغلب المتكلمين والمؤلفين في السنن والبدع، ولها أمثلة كثيرة كصلاة الرغائب، وصلاة الليل في النصف من شعبان، وصلاة حفظ الإيمان، وصلاة بر الوالدين، وصلاة مؤنس القبر، وصلاة ليلة يوم عاشوراء، فهذا كله لم يثبت أبداً في السنة بوجه من الوجوه، فلماذا نقول: إنه بدعة إضافية؟ لأنه تشيبه شائبتان، فالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالنوافل ثابت في الشرع، يقول عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) فمن هذه الناحية هم يقولون: نحن نصلي ولا نعبث، ومن جهة أخرى: هذا لم يكن ثابتاً في السنة فهو بدعة من جهة، وسنة من جهة أخرى.
كذلك بدعة التلحين والتطريب والتغني في الأذان، فهذه بدعة إضافية؛ لأن الأذان في حد ذاته هو سنة مشروعة معروفة، أما باعتبار ما عرض له من التبطيء في كلمات وتلحينها، وإخراجها عن أوضاعها العربية من أجل المحافظة على توقيع الألحان؛ فهي بدعة قبيحة، وهذا لا يحتاج إليه لا في الأذان ولا في قراءة القرآن، فالأذان من حيث كونه أذاناً ليس بدعة، بل هو مشروع، أما من حيث ما أضيف إليه من كيفية فهذا بدعة إضافية.
ومن البدع الإضافية القراءة الصمدية مائة ألف مرة، يقرءون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] مائة ألف مرة، ويسمونها: العتاقة الكبرى، أي: أن من قرأها لنفسه أو لغيره يعتق من النار، فهذه بدعة إضافية؛ لأن قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ذكر مشروع معروف كقوله صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن)، وقوله: (من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة)، لكن من حيث تسميتها عتاقة وتركيب هذه الفوائد عليها وتشريعها للناس؛ فهي بدعة ليس لها أصل في الدين.
ومن البدع الإضافية: النداء بالأذان لصلاة العيدين أو صلاة الكسوف، فإنه لم يثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أذان لصلاة العيدين وصلاة الكسوف، فالأذان من حيث هو أذان يكون مشروعاً، لكن من حيث جعله لصلاة العيدين أو صلاة الكسوف فهو بدعة من هذه الناحية.
كذلك ختم الصلاة بالطريقة الموجودة الآن، وهي أن المصلين يختمون الصلاة بطريقة معينة كما هو المعروف في بعض المساجد، فهذه الأذكار التي تقال في هذا الموطن في حد ذاتها سنة، لكن البدعة طرأت عليها من حيث الكيفية والألفاظ المبتدعة التي يخترعونها.(29/9)
البدعة الكلية والجزئية
وهناك تقسيم آخر للبدعة وهو: البدعة الكلية والبدعة الجزئية.
فالبدعة الكلية: هي البدعة التي يكون الخلل الناشئ عنها كلياً في الشريعة، وتتعدى محلها، وتنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، كأن تكون البدعة عبارة عن قانون أو قاعدة نتحاكم إليها، فبالتالي يترتب على هذا التحاكم كثير جداً من المخالفات.
ومن البدع الكلية: بدعة إنكار الأخبار النبوية مطلقاً، والإقرار بالقرآن الكريم فقط، وهؤلاء يقال لهم: قرآنيون، فهل هذه البدعة متعلقة بمخالفة في قضية واحدة أم أنها قاعدة كلية نتحاكم إليها؟ بل هي قاعدة يتحكم بها في الشرع، وتلغى بها سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذه بدعة كلية.
ومنها: بدعة عدم الأخذ بأخبار الآحاد، فهي بدعة كلية يترتب عليها مئات المخالفات الشرعية، بسبب إنكار الأحاديث النبوية.
ومنها: بدعة إنكار القسم الثالث من السنة، وهو الذي يستقل بتشريع لم يرد في القرآن، فهذه بدعة كلية وليست جزئية، ووجه كون هذه البدعة كلية أنها تشمل ما لا حصر له من فروع الشريعة، ولأن عامة التكاليف مبني عليها.
فالأمر يرد على المكلف إما من الكتاب وإما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قلنا: إن كان وارداً في السنة فأكثر السنة آحاد، والأحاديث المتواترة قليلة جداً، وكذلك أحكام السنة التي وردت في القرآن قليلة، وأكثرها زائدة على ما في القرآن.
فهذا هو الابتداع بعينه أن يتخذ الشخص مثل هذه القواعد الكلية، ويضل بها في مئات الأحكام الشرعية.
ومن البدع الكلية: بدعة الخوارج في قولهم: لا حكم إلا لله، وهذه العبارة دليلهم في رفض التحكيم، بناءً على أن اللفظ عام لم يلحقه التخصيص، وهم قد أعرضوا عن قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]، وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95]، فلم يراعوا أن العام هنا يكون مخصوصاً.
أما البدعة الجزئية: فهي البدعة التي يكون ضررها جزئياً في بعض الفروع دون بعض، ولا تتعدى محلها، ولا تنتظم غيرها حتى تكون بدعة كلية.
ومن البدع الجزئية بدعة التغني بالقرآن، وبدعة التلحين في الأذان، فهذه بدعة جزئية؛ لأن ضررها جزئي في موضوع الأذان فقط، ولا تتعدى محلها، ولا تدخل مثلاً في الصلاة، ولا تنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، فمن هنا كانت جزئية.
ومنها: الامتناع عن تناول ما أحل الله من الطعام أو الشراب، فهذه بدعة جزئية.(29/10)
البدع في العادات
هناك بدع في العادات وبدع غير عادية، فيمكن أن تدخل البدع العادية في الأمور العادية مثل الثياب والأكل والشرب والمشي والنوم، فهذه الأمور عادية لا يدخلها الابتداع من جهة كونها عادية، وإنما يدخلها الابتداع من الجهة التعددية، كأن يخالف الوجه المشروع فيها، ويتقرب إلى الله تبارك وتعالى بذلك، كأن يتقرب إنسان إلى الله بترك نوع معين من الملابس أو الطعام أو غير ذلك من الأشياء.(29/11)
أهم ضوابط التبديع
البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وبالتالي ينعكس هذا في الحكم على المبتدع نفسه، فبلا شك أن المبتدع بدعة عقائدية أخطر من المبتدع بدعة عملية في الغالب، وكذلك المبتدع بدعة كلية أشد انحرافاً من المبتدع بدعة جزئية، والبدع الحقيقة أخطر من البدعة الإضافية.
إذاً: ينبغي أن نعرف أن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وإنما هي تتفاوت في خطورتها حسب ما تؤدي إليه، فهذا أهم ضابط في التبديع، وهو معرفة أقسام البدع.(29/12)
لا يجوز التبديع في المسائل الفقهية السائغة
القضايا التي يختلف فيها العلماء -لاسيما القضايا الفقهية- خلافاً سائغاً لا يجوز الحكم على المخالف فيها بالابتداع، كأن يقع بعض أفاضل العلماء من أئمة الخير والهدى في هذا الزمان في زلة، كمن قال عن وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع: هذه بدعة وضلالة! فهذه المسألة لا يجوز أن تندرج في ميزان البدعة على الإطلاق، والخلاف فيها خلاف سائغ، والأمر أهون من ذلك بكثير، فهذه لا تدخل بأي حال في حد البدعة أبداً؛ لأن الخلاف سائغ، والحديث محتمل في تفسيره، فالخلاف الفقهي السائغ لا يمكن أبداً أن تطلق على مخالفك فيه وصف البدعة.
والخلاف على ثلاثة أنواع: هناك خلاف مذموم، وخلاف ممدوح، وخلاف سائغ.
النوع الأول: الخلاف المذموم، وهو خلاف أهل الأهواء لأهل العلم، وخروجهم عن هدي أهل العلم والسنة، كمخالفتهم لأصول العقيدة أو ما علم من الدين بالضرورة، فهذا خلاف مذموم.
النوع الثاني: خلاف ممدوح، وهو خلاف أهل العلم لأهل الأهواء، وهذا خلاف ممدوح.
النوع الثالث: الخلاف السائغ، وهو خلاف أهل العلم لأهل العلم بالشروط التي سنذكرها إن شاء الله.(29/13)
ضوابط الخلاف السائغ(29/14)
خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق
أول ضابط من ضوابط الخلاف السائغ: خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فالعالم قد يراجع المسألة وهو يريد الحق، لكن خفي عليه الدليل الواضح الذي يحسم المسألة، فهذا خلاف سائغ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا كانت المسألة نصاً خفي على بعض المجتهدين، وتعذر عليهم علمه، ولو علم به أحدهم لوجب عليه اتباعه، ولكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر، وهو منسوخ أو مخصوص، وهو لم يعلم بالدليل المخصص أو الناسخ أو لم يصح عنده.
وهذا أغلب خلاف الأئمة رحمهم الله تعالى: الإمام الشافعي والإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة وغيرهم، فلا يظن بواحد منهم أنه يتعمد مخالفة الدليل.
بعض الإخوة السلفيين في قرية، وكان بينهم وبين إمامهم خلاف قوي وقع بقدر الله سبحانه وتعالى، وفي أثناء الحوار اتضح أن الإخوة السلفيين هناك لا يريدون أبداً أن يصلوا خلف الإمام الحنفي، ويضيع أحدهم صلاة الجماعة ولا يصلي خلف إمام مذهبه حنفي! فلما تناقشنا معهم قال: لأن الحنفي يرد سنة الرسول عليه السلام! فهل يظن بمسلم أن يرد سنة الرسول عليه السلام؟! فهذا الضابط مهم جداً، فإن العلماء قطعاً يريدون الحق، نعم قد يخالف الحق، لكن هو لا يقصد ذلك ولا يتعمده أبداً.
فالشاهد أن أول الضوابط: خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فهو يقصد الحق وقد يخالف الحق لا عن عمد، لكن عن عذر كخفاء هذا الدليل، أو عدم ظهوره إياه، أو عدم صحته عنده أو تأويله إياه.(29/15)
التيسير في المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ
الضابط الثاني: ما كان من المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ، وقل من يسلم منها حتى من كبراء الأمة، فإنه يسهل فيها، فهناك مسائل دقيقة في تفاصيل القضايا الفقهية، ولا يمكن أبداً أن تتفق الأمة كلها في مثل هذه الدقائق، وقل من يسلم من الخطأ في مثل هذه الفروع حتى من كبراء الأمة.
قال شيخ الإسلام: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة.
لأنه ما من أحد من كبراء الأمة إلا ويختلف مع أخيه من العلماء في بعض الفروع الدقيقة جداً، وهذه معروفة لمن درس الفروع الفقهية، وقرأ الموسوعات الفقهية، فإنه يرى شدة الخلاف بين العلماء في هذه المسائل الدقيقة.(29/16)
عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع
الضابط الثالث: عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع.
حتى يكون الخلاف سائغاً يجب ألا يخالف نصاً شرعياً صريحاً واضحاً، ولا إجماعاً متيقناً معلوماً، فإذا كانت المسألة نصاً أو إجماعاً فأي خروج عن النص أو الإجماع يعتبر خلافاً غير سائغ، فإذا اجتهد الفقيه في مسألة، وبذل فيها وسعه، فإن خالف غيره من العلماء سواء كانوا سابقين أو معاصرين فالخلاف يكون سائغاً ما لم يكن فيها نص أو إجماع.
وهذا الضابط مهم جداً، فمثلاً قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، {اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] التعبير بكلمة (تحريم) نص في المسألة، ولا يمكن أن يناقش هذا هل هو حرام أم مكروه، فالنص واضح وجلي في أعلى درجات الوضوح في دلالة الألفاظ: (حرمت) (أحل لكم).
فلا يقبل أبداً مخالفة ما جاء فيه نص التحريم، بخلاف الأدلة التي الظاهر منها هو التحريم، وغير ذلك من الدلالات التي هي أقل وضوحاً من النص، ومثل النص الإجماع، فإن الأمة معصومة أن تجتمع على ضلالة، والإجماع يدخل فيه ما علم من الدين بالضرورة.
فإن اجتهد الفقيه في مسألة ليس فيها نص ولا إجماع، وبذل فيها وسعه، ولم يترتب عليها مخالفة لإخوانه من العلماء المعاصرين أو السابقين أو اللاحقين؛ فخلافه داخل في دائرة الخلاف السائغ.(29/17)
لا يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والاجتهاد
الضابط الرابع: لا يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والاجتهاد والفقه في الدين.
لا يمكن أن يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والبصيرة والاجتهاد في الدين، ولا يفتح باب الاجتهاد على الإطلاق لكل شخص من عوام الناس أو طالب علم، فيقول أحدهم: أنا اجتهدت في هذه المسألة، ورأيت فيها بخلاف كلام هذا الإمام، ويعتبر أن هذا الخلاف سائغ! الخلاف السائغ هو الذي يصدر عن أهل العلم وأئمة الاجتهاد والفقه في الدين.
والخلاف السائغ هو خلاف الأئمة وأهل العلم، ويمكن أن يكون الإمام مجتهداً، ويقصر في الاجتهاد، فلابد أن يبلغ الفقيه وسعه في فهم حكم الشرع، فلو أن إماماً من الأئمة المجتهدين أفتى دون أن يبذل وسعه، فهذا غير سائغ؛ لأن ضابط الاجتهاد: أن يبذل العالم أقصى وسعه في تحري الحق وقصده، فإن خالف ففي الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر).
لكن إذا لم يجتهد وأفتى بدون بذل الوسع فلا يدخل تحت هذا الحديث، والآن كل من هب ودب يستدل بهذا الحديث على آرائه واجتهاداته، ويظن أنه مأجور حتى لو أتى الأمر من غير بابه ولم يكن مجتهداً، بل حتى ولا طالب علم ولا مجتهد في العلم، ومع ذلك يقول: أقول، ومذهبنا الذي نرجحه! وغير ذلك من العبارات الرنانة، وهؤلاء لا عبرة بكلامهم على الإطلاق، فإنه لا يكون الخلاف سائغاً إلا إذا كان صادراً من أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين.
ذكر شيخ الإسلام أنواع المجتهدين فقال: بخلاف الذين أفتوا المشجوج في البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال)، فأنكر عليهم اجتهادهم.
فهم اجتهدوا عن غير أهلية، فليس عندهم مؤهلات للاجتهاد، ولذلك أنكر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يقل كما قال في الحديث الآخر: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر)، وإنما قال: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال)، فإن هؤلاء أخطئوا بغير اجتهاد إذ لم يكونوا من أهل العلم.(29/18)
أن يبذل الفقيه أقصى وسعه في الوصول إلى الحق
الضابط الخامس: أن يبذل الفقيه أقصى وسعه وغاية جهده في الوصول إلى الحق، فإذا قصر ذم بتقصيره، ومن التقصير عدم طلب الدليل من الكتاب والسنة.(29/19)
عدم البغي
الضابط السادس: لا يكون الخلاف سائغاً إذا صحبه بغي؛ لأن الإنسان إذا كان يبغي على مخالفه فالبغي يعارض قصد الحق، وقد ذكرنا الضابط الأول من ضوابط الخلاف السائغ، وهو خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق.
فالشخص الذي يريد أن يبغي على مناظره أو على مخالفه يستدل بأدلة للانتصار لرأيه أو مذهبه، فالبغي يتنافى مع قصد الحق، فقاصد الحق لابد أن يكون متجرداً عن الهوى، ولابد أن يقصد الحق، فإذا كان في بحثه أو في أسلوبه بغي فإن البغي يعارض قصد الحق الذي هو من ضوابط الخلاف السائغ، يقول تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19].
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والبغي إما تضييع للحق وإما تعد للحد، فهو إما ترك واجب وإما فعل محرم، فعلم أن موجب التفرق هو ذلك.
أي: الذي يحدث التفرق هو البغي، وما هو البغي؟ له صورتان: إما تضييع للحق أي: بترك الواجب، أو تعد للحق بفعل الحرام، والبغي يوجب التفرق بين الناس، فلا يكون الخلاف سائغاً مع البغي، فالبغي يعارض قصد الحق الذي هو من لوازم الخلاف السائغ.(29/20)
لا يكون الخلاف سائغاً مع ظهور الأدلة
الضابط السابع: الخلاف لا يكون سائغاً مع ظهور الأدلة.
فلابد أن يكون اجتهاد العلماء واختلافهم في المسائل الفرعية التي لم يدل دليل قطعي على حسمها؛ لأن الدليل الظاهر يحسم مادة الخلاف، فإذا كان الخلاف سائغاً قبل ظهور الدليل فإنه لا يكون كذلك بعد ظهوره؛ وليس هناك تعارض بين هذا وبين الضوابط السابقة؛ لأن العالم معذور في مخالفته للحق -هو يقصد الحق لكن خالفه- ما لم يأته الدليل الصحيح الصريح الذي يحسم الخلاف، فإذا أتى الدليل فهو معذور قبل ذلك، أما إذا ظهر الحق فلم يعد لا يعود الخلاف سائغاً في حقه.
ولذلك كان الشافعي رحمه الله تعالى يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، فالدليل الظاهر هو يحسم مادة الخلاف، فإذا كان الخلاف سائغاً قبل ظهور الدليل فإنه لا يكون كذلك بعد ظهوره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت شدته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم إلى قول عالم، وقال: ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف شخص الحق لا يجوز له تقليد أحد في سنته.
فهذه هي ضوابط الخلاف السائغ، وأهمية هذه الضوابط أن الخلاف السائغ لا يتم على أساسه تبديع للمخالف.(29/21)
مراتب البدع
تتفاوت مراتب البدع، فالبدعة التي تخالف السنن قد تكون في أمور دقيقة، وقد تكون في أمور جلية وعظيمة، ومن ثم يتفاوت أصحاب البدع قرباً وبعداً عن السنة، فأحياناً يرجع الخلاف بينهم إلى النزاع في الألفاظ والأسماء، ويرجعه البعض الآخر إلى النزاع في المعاني والحقائق، فهناك بدعة لا يكفر أصحابها اتفاقاً، وهناك بدعة يكفر أصحابها اتفاقاً، وهناك بدعة مختلف في تكفير أصحابها، فيوجد تفاوت في مراتب البدع.(29/22)
بدعة لا يكفر أصحابها
البدعة التي لا يكفر أصحابها اتفاقاً مثل بدعة المرجئة أو بدعة الشيعة المفضلة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أما المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلظة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة، ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيراً من مقالتهم.
إذاً: من البدع التي لا يكفر أصحابها اتفاقاً المرجئة والشيعة المفضلة الذين يفضلون علياً على الشيخين.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أما المرجئة فلا تختلف نصوصه -أي نصوص الإمام أحمد - أنه لا يكفرهم، فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكثير من كلامهم يعود النزاع فيه إلى نزاع في الألفاظ والأسماء، ولهذا يسمى الكلام في مسائلهم باب الأسماء.
يعني: في كتب العقيدة يقولون: باب الأسماء، ويشيرون إلى مخالفة المرجئة لأهل السنة في بعض الأسماء، مثل الاختلاف في كلمة (التصديق)، ما المقصود بالتصديق؟ هل هو التصديق الانقيادي أم هو مجرد المعرفة؟ إلى غير ذلك من التفاصيل، فهذا نزاع فقهي، لكنه يتعلق بأصل الدين، ولذلك سمي المنازع فيه مبتدعاً وإن كان لا يكفر.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً: كذلك الشيعة المفضلين لـ علي على أبي بكر، لا يختلف قول الإمام أحمد في أنهم لا يكفرون، فإن ذلك قول طائفة من الفقهاء أيضاً، وإن كانوا يبدعون.
وقال أيضاً: السلف والأئمة لم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء.(29/23)
بدعة لا خلاف في تكفير أصحابها
القسم الثاني: بدع لا خلاف في تكفير أصحابها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: المحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية -وهم المعطلة لصفات الرحمن- الذين ينفون صفات الله سبحانه وتعالى جميعاً، فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع، فنفي الصفات بهذه الطريقة التي يسلكها الجهمية يئول إلى نفي وجود الله سبحانه وتعالى، ففيه جحود الرب وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، يعني: كلام الجهمية أشد عنده من كلام اليهود الذين يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، أو الذين يقولون: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، أو الذين يقولون: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، أو {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17].
قال غير واحد من الأئمة: إنهم -أي: الجهمية- أكفر من اليهود والنصارى، ولهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإن الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته.
وفي هذا الزمان هناك بدع كثيرة جداً ينبغي أيضاً ألا نختلف في تكفير أصحابها، مثل بدعة العلمانية، فهي أخطر البدع الموجودة في هذا الزمان على الإطلاق، وبدعة العلمانية تعني فصل الدين عن الحياة، وعزله في جدران المساجد، وإبدال كل حدود الله فيما يتعلق ببناء المجتمع على أساس الكتاب والسنة.
فهذه بلا شك بدعة مكفرة، ومن يعتقد هذا بعد أن تقوم عليه الحجة يكون خارجاً من ملة الإسلام، فمن يعتقد فصل الدين عن الحياة، لتكون الحياة بالطريقة التي يعتقدها العالم الغربي الجديد، فهو كافر، ولا يمكن أن يجمع بين الإسلام وبين العلمانية، فالعلمانية تشرق والإسلام يغرب، العلمانية تبيح الربا والفواحش، وتبطل قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبطل إقامة حدود الله وغير ذلك من المضادة الصريحة والمعاندة الواضحة لدين الله سبحانه وتعالى.
فالعلمانية من البدع المكفرة.
أما البدع المختلف في تكفير أصحابها فمثل بدعة القدرية الذين يقرون بصفة العلم، والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج.
فهناك عن الإمام أحمد روايتان في تكفير هؤلاء، مع أنه وارد عن الإمام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المثبتين للعلم والخوارج، مع أنه قال: ما أعلم قولاً شراً من الخوارج.
والجهمية عند كثير من السلف ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها الأمة، لكن لا نستطيع أن نغادر هذا الضابط وهو تقسيم البدعة إلى بدعة مكفرة بالاتفاق، وبدعة غير مكفرة بالاتفاق، وبدعة مختلف في تكفير صاحبها، حتى نضيف ضابطاً آخر ومهماً جداً وهو: التفريق بين كفر النوع وكفر العين.
يعني: كفر النوع لا يستلزم كفر العين، البدعة نفسها تكون كفراً لكن لا يكون الشخص المتلبس بها كافراً، فهذه قاعدة سبق أن سردناها بالتفصيل في بحث الكفر والإيمان لكن نشير إليه.
فإن أهل السنة والجماعة يفرقون بين الحكم المطلق على أصحاب البدع بالمعصية أو الفسق أو الكفر وبين الحكم على شخص معين ممن ثبت إسلامه بيقين، فالشخص إذا ثبت إسلامه بيقين لا يمكن أن تنفى عنه صفة الإسلام إلا بيقين.
فمن صدر عنه إحدى هذه البدع لا يمكن الحكم عليه، لا نقول عليه: كافر أو فاسق أو عاص إلا بتوفر شروط، وانتفاء موانع، فلا يحكمون عليه بذلك حتى يبين له مخالفة قوله للسنة؛ وذلك بإقامة الحجة، وإزالة الشبهة، كمن يفرقون بين نصوص الوعيد المطلقة وبين استحقاق شخص بعينه هذا الوعيد في أحكام الآخرة؛ لأن موضوع التكفير موضوع مرتبط بباب الوعيد؛ لأن التكفير نوع من الوعيد، بل أي فعل يترتب عليه أنه وعيد قد يكون أقل من الكفر، لأن الكفر أشد الأفعال وعيداً.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إني من أعظم الناس ناهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية.
لأن بعض الناس يعتبرونها بطولة أن يكفر شخصاً بعينه أو يبدعه، وليست بطولة يقول صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك لسانك) لا تتكلم إلا بعلم وحجة، لكن تكلم بكلام عام في المواعظ، ودروس العلم، والخطب، وغير ذلك من مقامات الدعوة والترغيب والترهيب، تنفر من البدع بالنصوص الشرعية العامة.
لكن أن تكفر الشخص بعينه فهذا لا ينبغي أن تحكم عليه بكفر أو بتفسيق أو ابتداع حتى تستوفي شروطاً معينة، وهذا من خصائص القضاء الشرعي، ولا تنازع الأمر أهله، نريد أن نقول: إن موضوع الحكم على كفر النوع هذا لا يكون على المنابر أو في الدروس والخطب، وبأن الأمر يمكن في مثل هذه المحافل أن يتكلم عنه بصفة عامة تنفيراً من البدع ووصف الكفر بأنه كفر وهذا لا حرج على الإطلاق فيه.
لكن في مقام التأصيل والتقعيد والتنظير ومحاكمة الناس ليست المسألة عبثاً ولا هوى، وإنما ينبغي التحقق والتحري والتدقيق والتثبت، فمن هنا نقبل في الحقيقة هذه الكلمة التي قالها المودودي رحمه الله في كتابه: (نحن دعاة لا قضاة) فالإنسان عليه أن يدعو، لكن القضاء الشرعي والحكم على الناس بأعيانهم هذه ليست وظيفة الدعاة، وهذه الأحكام يترتب عليها أمور عملية، إذا حكمت عليه بالردة يترتب عليه أنه يجب أن يقتل ويفرق بينه وبين زوجته وغيرها من الأحكام الشرعية المعروفة.
فالقضية يجب أن نفرق بين وظيفة الداعية وبين وظيفة القاضي الشرعي، وقد بايع النبي عليه السلام الصحابة على ألا ننازع الأمر أهله.
يقول شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.
إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق يعني: لا تعارض بين العلماء الذين يقولون مثلاً: حكمي في الشخص الذي يقول: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض أنه كافر! كما قال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض فقد كفر.
وقال: حكمي في هؤلاء أن يقتلوا وأن يلقوا يعني: لا يدفنوا لا مع المسلمين، ولا مع اليهود والنصارى، بل يلقون على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل الإسلام ولا أهل الكتاب أو كما قال، فهذا الكلام في كفر النوع.
أما كفر العين في الشخص نفسه فلا يحكم عليه بذلك حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع.
يقول شيخ الإسلام: إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، الإطلاق أن تقول: من قال كذا فله مثلاً عذاب كذا، لكن تعيين أن هذا الشخص بعينه ملعون أو أنه كافر وأنه من أصحاب النار! هذا لا يجوز إلا بنص من وحي، أبداً حتى الكافر الموجود الآن كلينتون، أو بوش أو أي أحد من الكفار، فهذا لا تقول هو في النار؛ لأن الخواتيم مغيبة، والأعمال بالخواتيم، نعم هو في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر، لكن لا تقل: هو بعينه من أهل النار؛ لأنك لا تدري بخاتمته، وهذا افتئات على حدود الله سبحانه وتعالى وحرماته، لكن تقول: إن مات على الكفر فهو في النار.
يقول شيخ الإسلام: لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، هذه مطلقة في الذي يأكل مال اليتيم، لكن لما تأتي تحاسب شخصاً باسمه: فلان أكل مال اليتيم، هل تستطيع أن تقول: إنه في النار؟ لا تستطيع أن تقول ذلك، لماذا؟ سيأتي الجواب.
كذلك سائر ما ورد من النصوص: من فعل كذا فله كذا مثلاً: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) وغير ذلك، فإن هذه مطلقة عادة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال: كذا فهو كذا، تماماً كما لو قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر.
هذا هو الحكم من حيث الإطلاق في كلام ابن تيمية، لكن الشخص المعين فقد يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة مثل هذا الشخص الذي قال هذا الفعل سواء كان كفراً أم دون الكفر، فيمكن أن يلغى حكم استحقاقه لهذا الوعيد؛ لأنه ربما يكون تاب: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
فإذاً: الحكم باستحقاقه للوعيد قد يلغى بتوبة يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ولا يطلع عليها إلا الله، فيمكن أن يلغى بحسنات ماحية، هو ارتكب هذه المعصية لكن في الجهة الأخرى عمل بعض الحسنات التي محت عنه هذا الوعيد، ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بمصائب مكفرة يبتليه الله سبحانه وتعالى بمصائب تكفر عنه ما استحقه من الوعيد، ويمكن إن لم يكن هذا ولا هذا ولا ذاك أن يلتغي حكم الوعيد بشفاعة مقبولة يشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام، أو تشفع فيه الملائكة أو يشفع فيه قريب له شهيد، أو يشفع فيه أحد من إخوانه المؤمنين يقول صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)(29/24)
البدعة المختلف في تكفير أصحابها
القسم الثالث: البدع المختلف في تكفير أصحابها مثل بدعة القدرية الذين يقرون بصفة العلم، والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية غير الغلاة والخوارج، فهناك عن الإمام أحمد روايتان في تكفير هؤلاء، وقد ورد عن الإمام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المثبتين للعلم والخوارج، مع أنه قال: لا أعلم قولاً شراً من الخوارج.
والجهمية عند كثير من السلف ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها الأمة.(29/25)
التفريق بين كفر النوع وكفر العين
كفر النوع لا يستلزم كفر العين، فالبدعة نفسها تكون كفراً لكن لا يكون الشخص المتلبس بها كافراً، فأهل السنة والجماعة يفرقون بين الحكم المطلق على أصحاب البدع بالمعصية أو الفسق أو الكفر وبين الحكم على شخص معين ممن ثبت إسلامه بيقين، فالشخص إذا ثبت إسلامه بيقين لا يمكن أن تنفى عنه صفة الإسلام إلا بيقين.
فمن صدر عنه إحدى هذه البدع لا يمكن الحكم عليه بأن نقول له: كافر أو فاسق أو عاص إلا بتوافر شروط، وانتفاء موانع، فلا يحكمون عليه بذلك حتى يبين له مخالفة قوله للسنة؛ وذلك بإقامة الحجة، وإزالة الشبهة، كما يفرقون بين نصوص الوعيد المطلقة وبين استحقاق شخص بعينه هذا الوعيد في أحكام الآخرة؛ لأن التكفير نوع من الوعيد، وأي فعل يترتب عليه وعيد فقد يكون أقل من الكفر، لأن الكفر أشد الأفعال وعيداً.
والآن بعض الناس يعتبرونها بطولة أن يكفروا شخصاً بعينه أو يبدعونه! يقول صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك لسانك) فلا تتكلم إلا بعلم وحجة، لكن تكلم بكلام عام في المواعظ، ودروس العلم، والخطب، وغير ذلك من مقامات الدعوة والترغيب والترهيب، فتنفر من البدع بالنصوص الشرعية العامة، لكن أن تكفر الشخص بعينه فهذا لا ينبغي أن تحكم عليه بكفر أو بتفسيق أو ابتداع حتى تستوفي شروطاً معينة، وهذا من خصائص القضاء الشرعي، ولا تنازع الأمر أهله.
وفي المنابر أو الدروس والخطب ونحوها من المحافل يتكلم عن الكفر أو البدعة بصفة عامة تنفيراً من الكفر والبدع، ويوصف الكفر بأنه كفر، والبدعة بأنها بدعة، ولا حرج على هذا الإطلاق.
لكن في مقام التأصيل والتقعيد والتنظير ومحاكمة الناس فليست المسألة عبثاً ولا هوى، وإنما ينبغي التحقق والتحري والتدقيق والتثبت، فمن هنا نقبل في الحقيقة هذه الكلمة التي قالها المودودي رحمه الله في كتابه: (نحن دعاة لا قضاة)، فالإنسان عليه أن يدعو، لكن القضاء الشرعي والحكم على الناس بأعيانهم هذه ليست وظيفة الدعاة، وهذه الأحكام يترتب عليها أمور عملية، فإذا حكمت عليه بالردة فيترتب عليه أنه يجب أن يقتل، ويفرق بينه وبين زوجته، وغير ذلك من الأحكام الشرعية المعروفة.
فيجب أن نفرق بين وظيفة الداعية وبين وظيفة القاضي الشرعي، وقد بايع النبي عليه السلام الصحابة على ألا ننازع الأمر أهله.
يقول شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.
إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق يعني: لا تعارض بين العلماء الذين يقولون مثلاً: حكمي في الشخص الذي يقول: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض أنه كافر! كما قال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض فقد كفر.
وقال: حكمي في هؤلاء أن يقتلوا وأن يلقوا يعني: لا يدفنوا لا مع المسلمين، ولا مع اليهود والنصارى، بل يلقون على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل الإسلام ولا أهل الكتاب أو كما قال، فهذا الكلام في كفر النوع.
أما كفر العين في الشخص نفسه فلا يحكم عليه بذلك حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع.
يقول شيخ الإسلام: إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، الإطلاق أن تقول: من قال كذا فله مثلاً عذاب كذا، لكن تعيين أن هذا الشخص بعينه ملعون أو أنه كافر وأنه من أصحاب النار! هذا لا يجوز إلا بنص من وحي، أبداً حتى الكافر الموجود الآن كلينتون، أو بوش أو أي أحد من الكفار، فهذا لا تقول هو في النار؛ لأن الخواتيم مغيبة، والأعمال بالخواتيم، نعم هو في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر، لكن لا تقل: هو بعينه من أهل النار؛ لأنك لا تدري بخاتمته، وهذا افتئات على حدود الله سبحانه وتعالى وحرماته، لكن تقول: إن مات على الكفر فهو في النار.
يقول شيخ الإسلام: لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، هذه مطلقة في الذي يأكل مال اليتيم، لكن لما تأتي تحاسب شخصاً باسمه: فلان أكل مال اليتيم، هل تستطيع أن تقول: إنه في النار؟ لا تستطيع أن تقول ذلك، لماذا؟ سيأتي الجواب.
كذلك سائر ما ورد من النصوص: من فعل كذا فله كذا مثلاً: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) وغير ذلك، فإن هذه مطلقة عادة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال: كذا فهو كذا، تماماً كما لو قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر.
هذا هو الحكم من حيث الإطلاق في كلام ابن تيمية، لكن الشخص المعين فقد يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة مثل هذا الشخص الذي قال هذا الفعل سواء كان كفراً أم دون الكفر، فيمكن أن يلغى حكم استحقاقه لهذا الوعيد؛ لأنه ربما يكون تاب: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
فإذاً: الحكم باستحقاقه للوعيد قد يلغى بتوبة يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ولا يطلع عليها إلا الله، فيمكن أن يلغى بحسنات ماحية، هو ارتكب هذه المعصية لكن في الجهة الأخرى عمل بعض الحسنات التي محت عنه هذا الوعيد، ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بمصائب مكفرة يبتليه الله سبحانه وتعالى بمصائب تكفر عنه ما استحقه من الوعيد، ويمكن إن لم يكن هذا ولا هذا ولا ذاك أن يلتغي حكم الوعيد بشفاعة مقبولة يشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام، أو تشفع فيه الملائكة أو يشفع فيه قريب له شهيد، أو يشفع فيه أحد من إخوانه المؤمنين يقول صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة) تعرفون أنواع الشفاعة في الآخرة.
فيمكن أن يلتغي الوعيد بسبب شفاعة مقبولة، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن قال القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فيمكن شخص أسلم مثلاً في أمريكا أو كندا أو في أي مكان من الأرض، وأتى إلى بلاد المسلمين وهو يقول لك: لا توجد حاجة اسمها صلاة، الدين ليس فيه صلاة، لا يوجد في الدين شيء اسمه الصيام! يمكن مثلاً ينكر تحريم الخمر الذي هو معلوم من الدين بالضرورة لكن هنا توجد شبهة، فهذا القول بحد ذاته كفر أم ليس بكفر؟ كون شخص يقول: الخمر حلال، أو الفواحش حلال، أو السرقة حلال، أو ينكر الصلاة، أو يجحد الصيام، أو يجحد الحج، قطعاً هذا قوله كفر وتكذيب لما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن هذا الرجل قد يكون صدر منه بسبب أنه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في مكان بعيد عن أهل الإسلام، لا يعرف هذه الأشياء المعلومة من الدين بالضرورة، فمثل هذا لا يكفر حتى ولو كان قوله كفراً، هو قوله كفر أم ليس بكفر؟ كفر لكن هل يكفر؟ لا ينبغي أبداً أن يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة على يد إمام عالم، وهو مقتنع بأنه عالم.
إمام عالم يملك الحجة يستطيع أن يدفع عنه جميع الشبهات حتى لا يبقى له ما يدفع الحق أبداً، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، يردد كلام بعض الجهلة الذين ينكرون السنة النبوية كلها أو بعضها أو أقساماً منها، فهو يردد ما قاله هؤلاء الضلال المبتدعون وهو لا يتعلم، رد ما قاله الرسول ولكنه مخدوع بتضليل أهل البدع، فربما يكون لم يسمع النصوص أو سمع ولم تثبت عنده في اعتقاده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً.
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في نفس هذا الموضوع: وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولاً مطلقاً كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه.
ومثاله: من قال: إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً في مناسبة أخرى: إن المقالة تكون كفراً كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، هذا كله كفر، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب وكذا لا يكفر به جاحده كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يكفر بجحد شيء مما أنزل الله على رسوله إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع.
يعني: يقول: كلام الجهمية كفر، لكن الجمهية ليسوا كفاراً، وأغلب مقالاتهم هي من هذا النوع.
فلذلك وجب التفريق بين كفر النوع وكفر العين، وهذه هي وظيفة القاضي الشرعي أو العالم أو الإمام الذي يستطيع فعلاً إقامة الحجة ومحاسبة الناس والحكم تبعاً لذلك بكفره.
يقول: ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب تبارك وتعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله، وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب(29/26)
كلام شيخ الإسلام في التفريق بين كفر النوع وكفر المعين
يقول شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.
ولا تعارض بين هذا وبين قول بعض العلماء: حكمي في الشخص الذي يقول: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض أنه كافر.
وقال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض فقد كفر.
وقال بعضهم: حكمي في هؤلاء أن يقتلوا ويلقوا، ولا يدفنوا مع المسلمين، ولا مع اليهود والنصارى، بل يلقون على مزبلة لئلا يتأذى بريحهم أهل الإسلام ولا أهل الكتاب؛ فهذا الكلام في كفر النوع، أما كفر العين -وهو الشخص نفسه- فلا يحكم عليه بذلك حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع.
يقول شيخ الإسلام: ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين.
والإطلاق مثل أن تقول: من قال كذا فله عذاب كذا، لكن تعيين أن هذا الشخص بعينه ملعون أو كافر أو من أصحاب النار فهذا لا يجوز إلا بنص من الوحي، حتى الكافر الموجود الآن مثل كلينتون أو بوش أو أي كافر لا تقول: هو في النار؛ لأن الخواتيم مغيبة، والأعمال بالخواتيم، نعم هو في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر، لكن لا تقل: هو بعينه من أهل النار؛ لأنك لا تدري ما خاتمته، وهذا افتئات على حدود الله سبحانه وتعالى وحرماته، لكن تقول: إن مات على الكفر فهو في النار.
يقول شيخ الإسلام: لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
فهذه الآية مطلقة في الذي يأكل مال اليتيم، لكن عندما تتكلم عن رجل أكل مال اليتيم، هل تستطيع أن تقول: إنه في النار؟ لا تستطيع أن تقول ذلك.
كذلك سائر ما ورد من النصوص: من فعل كذا فله كذا، مثل: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) وغير ذلك، فإن هذه مطلقة عادة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال: كذا فهو كذا، مثل قول بعضهم: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر.
قد يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة سواء كان هذا الفعل كفراً أم دون الكفر، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
إذاً: الحكم باستحقاقه للوعيد قد يلغى بتوبة يتوبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يطلع عليها إلا الله.
ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بحسنات ماحية، فهو ارتكب هذه المعصية لكن في الجهة الأخرى عمل بعض الحسنات التي محت عنه هذا الوعيد.
ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بمصائب مكفرة يبتليه الله سبحانه وتعالى بها تكفر عنه ما استحقه من الوعيد.
وإن لم يكن فعل هذا ولا هذا ولا ذاك فيمكن أن يلغي حكم الوعيد بشفاعة مقبولة من النبي عليه الصلاة والسلام أو الملائكة أو قريب له شهيد أو أحد من إخوانه المؤمنين، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، والشفاعة في الآخرة أنواع.
ويشترط في التكفير أن يقول القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كان جاهلاً لا يكفر، كشخص أسلم -مثلاً- في أمريكا أو كندا أو في أي مكان من الأرض، وأتى إلى بلاد المسلمين وهو يقول: الدين ليس فيه صلاة، ولا يوجد في الدين شيء اسمه الصيام أو ينكر تحريم الخمر أو أي شيء معلوم من الدين بالضرورة، فهذا القول بحد ذاته كفر، لكن هذا الرجل قد يكون صدر منه هذا بسبب أنه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في مكان بعيد عن أهل الإسلام، ولا يعرف هذه الأشياء المعلومة من الدين بالضرورة، فمثل هذا لا يكفر حتى ولو كان قوله كفراً، ولا ينبغي أن يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة على يد إمام عالم، وهو مقتنع بأنه عالم، فيأتي إمام عالم يملك الحجة، ويستطيع أن يدفع عنه جميع الشبهات، حتى لا يبقى له ما يدفع الحق أبداً، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، فتراه يردد كلام بعض الجهلة الذين ينكرون السنة النبوية كلها أو بعضها أو أقساماً منها، فهو يردد ما قاله هؤلاء الضلال المبتدعون وهو مخدوع بتضليل أهل البدع، فربما يكون لم يسمع بالنصوص أو سمع بعضها ولم تثبت عنده في اعتقاده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في نفس هذا الموضوع: وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولاً مطلقاً كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، وليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه.
مثاله: من قال: إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً: إن المقالة تكون كفراً كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب؛ فلا يكفر كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يكفر بجحد شيء مما أنزل الله على رسوله إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع.
يعني: كلام الجهمية كفر، ولكن الجهمية ليسوا كفاراً، وأغلب مقالاتهم هي من هذا النوع.
إذاً: يجب التفريق بين كفر النوع وكفر العين، وهذه هي وظيفة القاضي الشرعي أو العالم أو الإمام الذي يستطيع فعلاً إقامة الحجة ومحاسبة الناس والحكم عليهم.
يقول: ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما الرب تبارك وتعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله، وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جداً مشهورة وإنما يردونها بالتحريف.
الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع، يعني: يلزم من مذهبهم جحد وجود الله، وتعطيل الصانع سبحانه وتعالى، وإن كان منهم من يرى أن هذا لا يلزم، فيقول: هذا لا ألتزمه، ويؤمن بوجود الله، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر إنكار الله.
الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها، وأهل الفطر السليمة كلها.
فمثلاً: فوقية الله سبحانه وتعالى، هذه الصفة متفق عليها عند كل أهل الملل، فأنا كنت أتكلم مع رجل كافر علماني، فكان وهو يتكلم بكلام يقول: الله ويشير إلى أعلى، وهو أصلاً لم يتدين بأي دين، وكان يتكلم اللاتينية.
فصفة الفوقية مفطور عليها كل أهل الملل، فاليهود والنصارى والمسلمون متفقون على مثل هذه الصفات، والجهمية يخالفون حتى الأشياء التي يتفق عليها أهل الفطر.
ويقول شيخ الإسلام: وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك.
يعني: من ثبت إسلامه بيقين لم يزل عنه وصف الإسلام بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة، فالناس إما مؤمن وإما كافر، وليس هناك مرتبة بين المرتبتين أو منزلة بين منزلتين أو ما يسمونه الآن بالتوقف، الناس إما مؤمن أو كافر، حتى المنافق في الدنيا تجري عليه أحكام الإسلام وإن كان في الحقيقة زنديقاً كافراً، فالمسلم قد يريد بشيء من أفعال الكفر، وقد يعذر بهذه الأعذار كجهل أو تأويل أو إكراه أو غير ذلك، فلا يحكم بكفره، ولا نتوقف فيه، لكن نستصحب الأصل الذي ثبت لنا يقيناً، وهو أنه من أهل الإسلام، فلا يزول عنه ذلك الوصف بالشك، بل يزول بيقين مثله.
وقال شيخ الإسلام: وسبب هذا التنازع -يعني: تنازع أهل السنة في تكفير الجهمية بأعيانهم- تعارض الأدلة، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً.
يعني: القول قول كافر، لكن حال الرجل يجيب علينا: لست بكافر، فتعارض الدليلان.
وهذا مثل من يأخذ بعموم الوعيد في القرآن والسنة، وهم أيضاً أخذوا بعموم كلام الأئمة، مثل قولهم: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر.
ويقول: كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل ما قاله، فمن قال كذا فهو كافر، فهذه صفة عامة، لكن هذا اللفظ لا يشمل كل من قاله، فليس كل من قال بالقول يكون كافراً بعينه، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق معين.
لأن التكفير المطلق لا يستلزم تكفيراً معيناً إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، ويبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه.
يعني: أن الإمام أحمد مع أنه كان يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، كيف كان موقفه الفعلي من الخلفاء العباسيين المعتزلة؟ كان يرى إمامتهم، ولم يخرج عليهم، وكان يصلي خلفهم، وكان ينادي الخليفة بأمير المؤمنين.
والإما(29/27)
محطات شطحات
إن التمسك بالسنة نجاة من الزيغ والانحراف، فهي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، وهي نور يستضاء به في الظلمات، ويستنار به في المدلهمات، لذا لما تمسك بها السلف الصالح نجو من الفتن والأهواء، وكانوا على المحجة البيضاء، وصاروا نبراساً يستضيء به من بعدهم، وقدوة يقتدي بها السائرون والسالكون إلى الله.
بينما نجد فئاماً من الناس أعرضوا عن السنة ولم يرفعوا بها رأساً، فلم يرتفعوا لا في علم ولا في عمل، بل انحطوا في درك الأهواء والفتن، والاختلافات والمحن، فصاروا شرّ سلف، وأشأم قدوة، ولا يذكرون إلّا بالسوء والقبيح.(30/1)
قواعد وفوائد بين يدي الموضوع
الحمد لله رب العالمين، الذي لا يهدي كيد الخائنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قاصم ظهر الماكرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمعين، اللهم! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي مرحلة الغربة التالية التي تنبأ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)، وفي حال انفتاح ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (ستأتي على الناس سنوات خداعات: يصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه -وفي رواية: السفيه، وفي رواية: الفويسق- يتكلم في أمر العامة).
وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
ففي هذا الحديث الشريف بيان مصدر ضلال الناس، وأن الضلال لا يأتي من قبل العلماء كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: ما خان أمين قط، ولكن اؤتمن غير أمين فخان، وكذلك هنا نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكن استفتي من لا علم عنده فأضل الناس.
وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم).
وفي هذا الحال الذي نعيشه من تداعي حملات الغزو الفكري الداخلي والخارجي علينا من كل حدب وصوب، وغير ذلك مما يعيشه المسلمون في قالب أزمة فكرية غثائية حادة أفقدتهم توازنهم إلا من عصم الله، وزلزلت كيانهم، وشوهت أفكارهم، كلّ بقدر ما عَلَّ من أسبابها ونَهَل، فصار الدَّخَل، وسار الدخن، وضعفت البصيرة، ووجد أهل الأهواء والبدع مجالاً فسيحاً لنشر إفكهم، ونثر بدعهم، حتى أصبحت في كف كل لاقط، فاستشرت في الآفاق، وامتدت من دعاتها الأعناق، وعاثوا في الأرض الفساد، وتجارت الأهواء بأقوام بعد أقوام، إلى غير ذلك من الويلات التي يتقلب المسلمون في حرارتها، ويتجرعون مرارتها.
وفي غمار ذلك كله تجسدت الأدلة المادية التي قامت في ساحة المعاصرة على ما ذرّ قرنه من الخوض في شريعة الله بالباطل، وما تولد عن ذلك من فتن تغلي مراجلها؛ لذهاب العلماء، وقعود المتأهلين عن التحمل والبلاغ، وتولي ألسنتهم وأقلامهم يوم الزحف على كرامته: فبقى الذين إذا يقولوا يكذبوا ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا وهانحن نرى بين الحين والآخر سرباً من المبتدعة يحاولون اقتحام بقايا العقبة؛ لتكفيف الأمنية الدينية، وزيادة غربة الإسلام بين أهله، ولو كانت دعوات القوم حبيسة الأوراق، رهينة الأدراج لهان الأمر، ولكان من الخطأ الرد عليها، وتنبيه المسلمين إليها؛ لأنه سيكون حينئذ إشهاراً لفكرة ماتت في مهدها، ولفتاً لأنظار المسلمين لينظروا في زيفها، ولكن: لكل ساقطة في الحي لاقطة وكل كاسدة يوماً لها سوق وهذا بجانب أن هذه الآراء الضالة والإلحادية تنشر على نطاق واسع، ويفتح لها صفحات في الجرائد ووسائل الإعلام، فهذا يحتِّم أن يُحكم عليها الحكم الشرعي اللائق بها.(30/2)
فائدة الرد على أهل البدع والضلالات
كما أن في الرد على هذا الباطل إبطالاً لهذه الضلالات التي شاعت وانتشرت، ففيه أيضاً خير للباهت المتّبع نفسه؛ لأنه يحتمل أن يعود إلى رشده، ويرجع عن غيه إذا كان أُتي من قبل داء الجهل، وأما إذا كان أُتي من قبل داء الهوى، فقد قال الله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]، خاصة أننا بصدد الرد على مقالة هذا الذي أنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآخرة، فمن مصلحته أن يرجع ويتوب، فقد صح عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: (من كذّب بالشفاعة فليس له منها نصيب).
وإن أصرّ على هذا الضلال فإن الرد يعود عليه بالفائدة؛ لأن في هذا الرد تقليلاً من عدد المتورطين المضلَّلين بجهله وفتنته، وإلا فقد قال الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً)، فنحن لا نتعرض لهذه الواقعة بالذات، فالوقائع كثيرة جداً لا تكاد تنحصر، ومن ذلك مقالة أطلعني عليها أحد الإخوة نشرت منذ فترة من شخص يعتزّ بفرعون، ويعز عليه أن القرآن الكريم يحكم بكفر فرعون، فإذا به يلتقط كلاماً من هنا وهناك لبعض الملاحدة الزنادقة كـ ابن عربي الصوفي المارق، فيعقد محاكمة ويجعل ابن عربي هو المحامي الذي يدافع فيها عن فرعون، ويقول: إن فرعون جدي، وأنا رجل مصري قبطي، فكيف يكون جدي في النار؟ وكيف يذم القرآن جدي بهذه الطريقة؟ فمن هذا المنطلق، ومن هذه النعرة والحمية الجاهلية النكراء يعقد محاورة أو محاكمة في صفحة كاملة في جريدة شبه رسمية، ويدافع فيها عن فرعون، ويقول: إن فرعون مات مؤمناً إلى آخر ضلالاته، فهذا يريد أن يقضي على معنى تكفير فرعون، وقام اليهود -من ناحية أخرى- بالمطالبة في فلسطين بحذف الآيات التي تتعرض لبني إسرائيل بالذم، وهكذا نتلقى الصفعات، وكل من أراد أن يطعن فليطعن، فكل من أراد أن يحذف فليحذف إلى غير ذلك مما تعلمون.
فنحن نريد أن نجعل هذا الموقف درساً وعبرة؛ لأن الضُّلّال لا ينحصرون، والظلمات كثيرة كما أخبر الله تعالى، ودائماً ما تأتي الظلمات في القرآن بصيغة الجمع، وأما النور فيأتي مفرداً، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، فعلينا أن ننشغل وأن نتعلم هذا النور؛ كي يكفينا شر هذه الظلمات، فقضيتنا ليست أن نتعرض لهذا الكاتب بالتفصيل، ولا لـ أحمد صبحي منصور، ولا لـ رشاد خليفة، ولا للسيد صالح أبي بكر، ولا لـ أبي رية، ولا لغيرهم من هؤلاء المارقين الذين يطعنون الإسلام في الصميم، بل سنحاول أن نعمم العبرة؛ حتى نستطيع أن نتعامل مع ظاهرة العدوان على دين الله سبحانه وتعالى بهذه الأقلام المسمومة التي تنفث سمومها بين الحين والآخر.(30/3)
حكم الرد على أهل البدع والضلالات
فإن قيل: إنه يسعنا ما وسع السالف الصالح من أنهم لم يناظروا أهل البدع، وإنما هجروهم وقاطعوهم، وهذه بعض الآثار: فعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه؛ لا يلقيها في قلوبهم.
وعن أيوب السختياني قال: لست ترد عليهم بشيء أشد من السكوت، وقال الخواص: إذا جاءكم مجادل بغير حق فتصدقوا عليه بالسكوت؛ فإنه يخمد هيجان نفسه، وعن عبد الله بن السري قال: ليست السنة عندنا أن يرد على أهل الأهواء، ولكن السنة عندنا ألا نكلم أحداً منهم، وكتب رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى يستأذنه في أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد على أهل البدع، وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم ويحتج عليهم، فكتب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتاباً فيه: الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم: أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبّسون عليك وهم لا يرجعون، فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم.
فنقول: إنّ الحق والصدق أن هذا هو مسلك السلف رحمهم الله تعالى في التعامل مع أهل البدع، فقد كانوا يهجرونهم، وينابذونهم، ونقول: نعم يسعنا ما وسع السلف رحمهم الله تعالى إن كانت ظروفنا مثل ظروفهم، لكن إن ابتلينا بما عافاهم الله تعالى منه فلا شك أن الموقف يختلف، فقد غاب السلطان الشرعي الذي كان يضرب على أيدي المبتدعة ويحجر عليهم، وقعد كثير من أهل العلم عن التصدي للمبتدع الذي أذاع بدعته على نطاق واسع، وتحقق حصول الضرر من نشاط هؤلاء الناس على العوام وبعض الخواص، ومع ذلك فلنا أسوة في أهل العلم في كل زمان ممن تصدوا لأهل البدع بالرد والتفنيد.
فهذا الإمام مسلم رحمه الله تعالى يقول في مقدمة صحيحة: وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتقسيمها، بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحاً لكان رأياً متيناً، ومذهباً صحيحاً، إذ الإعراض عن القول المطَّرح أحرى لإماتته، وإخماد ذكر قائله، وأجدر ألا يكون ذلك تنبيهاً للجهال عليه، غير أنا لما تخوفنا شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله، ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله.
وأنكر الإمام أحمد على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض، فقال الإمام أحمد: نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فلا يؤمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه.
إن الطائفة الوحيدة التي تتصدى لأهل البدع هم أهل العلم المختصون، وأما طالب العلم القليل البضاعة فضلاً عن العوام الذين لا يدركون حقائق هذه الأشياء فلا شك أن دخولهم في مثل هذا دخول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استشرفت للفتن استشرفت لك) أي: إذا نظرت إلى الفتن بعين واحدة فإنها ستهجم عليك، وترحب بك، وتدخلك في بطنها، وهنا أذكر نصيحة لعموم الإخوة جميعاً وهي: أن من سمع شيئاً في وسائل الإعلام فيه طعن، أو تكذيب، أو بعض الشبهات، فالواجب عليه أن يخمده ما استطاع ولا يذيعه أو ينشره، إلا إذا أُذيع ونُشر رغماً عنا، ففي هذه الحالة يتعيّن الجواب العام، لكن لا نشغل أنفسنا بالرد على كل من ألقى حجَراً؛ لأننا سنكون بذلك قد أذعنا هذه البدع ونشرناها، وعممنا ضررها.
قال الغزالي معلقاً على كلام الإمام أحمد: وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، وأما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية.
ولا شك أن الحجْر على أهل البدع ممن يعيثون في الأرض فساداً هو أولى من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان، فإن المبتدع إذا زجر وهجر بات كالثعلب في جحره، وأما تركه يحديث ببدعته وضلاله فهذا فيه تزكية له، وتغرير بالعامة، إذ العامي مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً.(30/4)
نوع الاختلاف الموجود عند أهل السنة والجماعة
ولا شك أن الخلافات في مثل هذه الأشياء هي من سنة الله عز وجل التي مضت في خلقه، فما من الناس إلا راد ومردود عليه، ومحق ومبطل، والله تعالى يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، والمقصود بهذا الاستثناء هم أهل الإسلام، وأهل السنة والجماعة على الخصوص، فإن أهل السنة والجماعة لا يختلفون اختلافاً يضرهم، فقد يختلفون في بعض الأمور لكنه اختلاف لا يضرهم، كالخلاف الاجتهادي في قضايا الفروع، وأما في الإيمان وقضايا الأصول والعقيدة فهم فرقة واحدة، وأما في الفقه والفروع فالأمر أيسر، فهم مذاهب شتى تصل إلى سبعة أو ثمانية أو أكثر من ذلك من المذاهب الفقهية، إذاً: فأهل السنة لا يختلفون في الأصول ولا يختلفون في الفروع اختلافاً يضرهم، وإنما يختلفون اختلافاً سائغاً.
وهنا نذكر قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهو يناقش تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وقد جعل يورد عليه إيراداً بعد إيراد، فيناقشه ويدلي بالشبه، وكلما أجابه بشيء أورد عليه شبهة أخرى، فعلّق شيخ الإسلام على أسلوب تلميذه الإمام ابن القيم معلماً ومرشداً، فقال: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة يتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وأما إذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليه فإنه سيصير مقراً للشبهات، أو كما قال شيخ الإسلام.
يقول ابن القيم: فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل.(30/5)
ذم التعالم
ونصدَّر أيضاً الكلام في هذه القضية بالكلام في ذم التعالم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ} [الأنعام:144] أي: لا أحد أظلم، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [الأنعام:144]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)، فالتعالم الكاذب هو عتبة الدخول إلى جريمة القول على الله بغير علم، وهذه الجريمة محرمة لذاتها تحريماً أبدياً في جميع الشرائع، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وهو مما حذّرناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير حين قال: (يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحار، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرءون القرآن، ويقولون: من أقرأ منا، من أعلم منا، من أفقه منا، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هل في أولئك من خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أولئك منكم -أي: من هذه الأمة- وأولئك هم وقود النار)، وجاء في الحديث الآخر الذي في البخاري أن النبي عليه السلام قال في فتن آخر الزمان قال: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها) فلما قال له حذيفة: صفهم لنا، جلهم لنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وهذا هو الواقع الذي نلمسه الآن، فالذين يطعنون في الإسلام هم من جلدتنا، وممن يتكلم بألسنتنا ولغتنا.
وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال: (اللهم! هل بلغت ثلاث مرات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه -وكان آوه، أي: كثير الدعاء- فقال: اللهم نعم! وحرضت وجاهدت ونصحت، فقال عليه الصلاة والسلام: ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، ولتخاضن البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن، فيتعلمونه ويقرءونه ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير؟ قالوا: يا رسول الله! من أولئك؟ قال: أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة أياماً ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل).
ويقول بعض الفضلاء من المتأخرين: وجدت جميع العلوم في ازدياد إلا علم الدين، فعلمت أنه المقصود في الحديث.
قلت: صدق، فهاهو العلم في زماننا قد استدبر، وهاهو البغاث بأرضنا قد استنسر: قد أعوز الماء الطهور وما بقي غير التيمم لو يطيب صعيدا وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك رحمه الله أنه قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك، أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، لكن اسُتفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وَلَبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السرّاق.
أي: أنه أحق بأن يحبس ويسجن من اللصوص.
وقال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله: كذبت، لم أحل كذا ولم أحرمه، وقال القاسم بن محمد: لئن يعيش الرجل جاهلاً خير له من أن يقول على الله ما لا يعلم.
وقال ابن حزم رحمه الله: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، فهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يصلحون.
وهذه الكلمة ينبغي أن تكتب بخط عريض في كل مكان؛ حتى لا تغيب عن الناس.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب.
وفي كتب الحنفية: أن أبا حنفية رحمه الله كان يرى الحجْر على المفتي المتلاعب، ويسمونه المفتي الماجن، فيمنعه الإمام من الإفتاء.
وقال ابن الجوزي: يلزم ولي الأمر أن يمنع هؤلاء من الإفتاء كما فعل بنو أمية، وقال: إذا تعين على ولي الأمر منع من لا يحسن التطبيب ومداواة المرضى، فكيف بمن لم يعلم الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟! وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عادة، قال ابن القيم: ومَن أقرهم مِن ولاة الأمور فهو آثم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أنه ينبغي أن يكون على المفتين محتسب، فقال رحمه الله تعالى: يكون على الكذابين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتيا محتسب!! وقال بعض المصنفين: والانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل به أحد ينبئان عن خلل في العقل.
وقال زفر بن الهذيل ما معناه: إني لا أناظر أحداً حتى يسكت، بل أناظره حتى يذل، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقول بما لم يقل به أحد، قال: وأرى من الواجب الديني أن أوصيه -أي: الشخص الذي يرد عليه- أن يترك الكتابة في الفقه والحديث؛ لأنه استبان من كتاباته ما يقضي عليه قضاء لا مرد له أنهما ليسا من صناعته، والعاقل يترك ما لا يحسنه، وقد قال الشاعر العربي: خلق الله للحروب رجالاًً ورجالاً لقصعة وثريد والغلط فيهما غلط في صميم الدين، والطيش فيهما هلاك في الدنيا والآخرة.
وقال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: ليس ما لا يُعرف من العلم، إنما العلم ما عرف، وتواطأت عليه الألسن، وقال إبراهيم بن أبي عبلة: من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً.
وقال الشاطبي رحمه الله: قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة.
وأما الآن؛ فباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه لكل من هب ودب، وهذه مشكلة عظيمة، ويعطون أنفسهم هذا الحق فيقولون: فتح باب الاجتهاد إلى آخره، فنقول: نعم إن باب الاجتهاد مفتوح، ولكن من الذي يجتهد؟ فلو كان هناك رجل أمي جاهل ليس عنده أي علم فوقف في السوق وجعل يقول: أنت تُعدم، وأنت تسجن خمسة وعشرين عاماً، وأنت تجلد أربعين جلدة، وأنت كذا، فماذا يقول عنه الناس؟ لاشك أنهم سيعرضون عنه، فكلامه ليس له أي تأثير، بل هو لغو فارغ كلغو العصافير؛ لأن هذا الرجل ليس ممن يجتهد، ولا ممن يصدر الأحكام، فكلامه لا وزن له.(30/6)
معرفة قدر الناس قبل الكلام فيهم
ذكرنا سابقاً أنه يجب على الإنسان قبل أن ينتقد شخصاً أن يعرف قدره، فهذا عمر يقول: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه، وهذا يكون من الجانبين، أي: أن تعرف قدر نفسك، وأن تعرف قدر من تتكلم فيه، فنحن نعرف قدر العلماء الأفاضل، وندرس سيرتهم قبل أن نتكلم عنهم، فإن معرفة قدر الرجل الذي تتكلم عنه له تأثير في أسلوب كلامك معه، وحسن ظنك به، فالماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، وأما إذا كان غالب القلتين خبث، وفيهما القليل من الماء الطاهر فإن الأمر ينعكس.
إذاً: فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه ولم يناطح العلماء الجبال، وإذا كان هو دجاجة تمشي على الأرض فلا يناطح النسور في عنان السماء.
إن هذا الأمر في غاية الأهمية، فعلينا أن نعرف أقدار العلماء وسيرهم وحياتهم؛ كيلا نبخسهم حقهم، وعلينا أن نستصحب الأصل؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم استصحب الأصل مع الناقة البهيمة، وذلك حينما قال الصحابة: (خلأت القصواء، فقال: خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) فدافع عن عرض الناقة، وقال: (وليس لها ذلك بخلق)، فكيف بعالم جليل من علماء المسلمين؟! أننصت إلى من يرجف بالإشاعات والأكاذيب والتضليل ولا نستصحب هذا الأصل؟! حتى وإن أخطأ فهذا مغمور في بحر علمه وفضله، فيجب علينا أن ننصف في حكمنا على الناس، وفي الجانب الآخر أن نعرف هذا الذي يتكلم وينعق كالغراب الناعق، ويشذ عن أهل السنة والجماعة، ويأتي بهذه الأفكار الضالة المضلة أن نعرف ما هو حظه من العلم؟ ونحتاج أن نعرف ترجمته وحياته وعلمه؛ لنعطيه حجمه الذي يستحقه.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة.
وقال شكيب أرسلان: ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين: العلم الناقص، فهو أشد خطراً من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشداً عالماً أطاعه، ولم يتفلسف عليه، وأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري، ولا يقتنع أنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلاؤكم بنصف مجنون، وأقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلاؤكم بشبه عالم.(30/7)
الاجتهاد الممدوح والاجتهاد المذموم
وننهي هذه المقدمة -وإن طالت لكنها مهمة- ببيان المقصود من هذا الحديث المظلوم الذي يتعلق به كل من أراد أن يطعن في الإسلام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)، فهذا الحديث وارد في شأن القاضي، وألحق به المفتي بجامع أن كل واحد منهما مأمور بأن يصدر عن حكم شرعي، ولذلك يعذر كلاهما في الخطأ، فالمفتي إذا كان من أهل العلم ممن اجتمعت فيهم شرائط الفتيا، وبذَل وسعه للوصول إلى الحق، ثم أفتى بما غلب على ظنه أنه الحق بمقتضى الأدلة فأخطأ فلا إثم عليه في هذا الخطأ؛ لدخوله في القاعدة الذهبية التي دل عليها قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]، ولدخوله في هذا الحديث الشريف المشار إليه، فأجر اجتهاده باقٍ محفوظ لا يبطل بخطئه، فله أجران إن أصاب، وأجر إن أخطأ.
وأما إذا بلغ العالم مرتبة الاجتهاد وقصر في بذل الوسع، فأفتى وتكلم بدون أن يُعمِل هذه الإمكانيات التي عنده، ولم يبذل غاية وسعه للوصول إلى الحكم الشرعي في هذه المسألة، فلا ينطبق عليه هذا الحديث، بل إذا أخطأ فإنه يكون آثماً؛ لأن الحديث يقول: (إذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فلابد من أن يجتهد ويبذل وسعه، وبعد الاجتهاد وبذل الوسع: إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد على اجتهاده، وخطؤه مغفور له؛ لأن الشرع يأمره بأن يفتي؛ لوجوب الإفتاء، وقد فعل ما أمر به، فاستحق بذلك الأجر على العمل الذي قام به، لكن لا يكون أجره كأجر المصيب، فالمصيب دل على الحق، وهذا المخطئ لم يدل عليه.
وأما إذا أفتى من ليس أهلاً للفتيا فأخطأ فإنه لا يكون معذوراً بذلك، إذاً: من أفتى وليس أهلاً للفتيا فأخطأ، أو كان أهلاً للفتيا لكنه لم يبذل جهده لإحقاق الحق فأخطأ، فإنه لا يكون معذوراً بذلك، بل يكون آثماً؛ لأنه أضل عن سبيل الله، وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، وفي الحديث: (حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالماً بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالماً فلا، واستدل بحديث: (القضاة ثلاثة)، وفي هذا الحديث يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة، وقاضيان في النار، فأما الذي في الجنة فقاضٍ قضى بالحق فهو في الجنة، وأما القاضيان اللذان في النار: فقاضٍ قضى بغير حق فهو في النار) أي: أنه تعمد الإضلال والظلم والجور فهو في النار.
والنوع الثاني من القاضيين اللذين يدخلان النار: (وقاض قضى وهو لا يعلم فهو في النار) أي: أنه قضى وهو ليس أهلاً للقضاء فيكون آثماً ولو أصاب؛ لأن هذا ليس من تخصصه.
قال الخطابي رحمه الله: إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعاً لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لا يلزم من ردّ حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم.
وينبغي أن تكون الردود على الضلالات بعلم، وبما يليق بحال المردود عليه، فمثلاً لما حصلت ضجة حول نجيب محفوظ في روايته (أولاد حارتنا) وما فيها من الإلحاد والكفر بالله، وبالأنبياء، وبالإسلام، نجد بعض الشيوخ أو الناس يفتي ويقول: إن الأستاذ الفاضل أو الأديب الكبير العالمي نجيب محفوظ له وجهة نظر في هذا، ولكن إلى آخر هذا الأسلوب المتميع، فكل واحد منهم يريد أن يكون جنتل مان، فيترخصون في التلفظ بطريقة فظيعة جداً، نعم أن الحِلْم حسن لكنه في مثل هذا الموضع جهالة، فأسلوب الترفق بهؤلاء المجرمين الصادين عن سبيل الله، والطاعنين في دينه غير صحيح، فأقل شيء أن تُظهر حقيقته، وأن يكشف ويفضح جهله للناظرين؛ كي لا يلبَّس على الناس، وأما أن نقول: الأستاذ الكبير، والأديب العالمي فلان الفلاني، الذي يقول كذا، وهو له وجهة نظر في هذا، فهذا غير صحيح، ونفس هذا الأمر حصل في موضوع الشفاعة، فأحد الشخصيات الدينية البارزة يقول في مقدمة مقاله: وبعض الكتاب يرون -انطلاقاً من اجتهاد شخصي، ورؤية خاصة قد تكون صواباً وقد لا تكون- أنه لا شفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في العصابة المذنبين من أمته يوم القيامة إلى آخره، فهذا أسلوب في غاية الرقة، مع أن هذا المنكر للشفاعة لا يستحق هذا التلطف، ثم كيف يقال: قد تكون صواباً وقد لا تكون وهو يكذب بالأحاديث المتواترة في الشفاعة، والآيات القرآنية التي أساء فهمها ذلك الجاهل بجهله، وهذا القاصر بقصوره حتى يرد هذا الرد؟!! ونجد أن الشيخ نفسه في آخر الكلام يقول: وعلى أية حال فالمعروف أن فرقة المعتزلة تعطي العقل أحياناً أكثر من حجمه، أقول: هم دائماً يعطون العقل فوق حجمه وليس أحياناً.
ويقول أيضاً: ولو صح أن هذه الفرقة أنكرت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أقول: لا يصح أن نقول هذا في المعتزلة؛ لأن هذا من أصول المعتزلة والخوارج الواضحة المعروفة.
قوله: فنحن نخالفهم في ذلك مخالفة تامة، ونرى أنه لا يصح الاستشهاد برأي مرجوح وترك الرأي الراجح، أقول: القضية ليست راجحاً ومرجوحاً، فالراجح والمرجوح في قضايا الفقه، وأما هنا فحق وباطل، بل ولا نقول: صواب وخطأ، وإنما هو حق وباطل، هكذا الأمر في قضايا العقيدة، وأما قضايا الفقه والفروع فهي التي نقول فيها: خطأ وصواب، وراجح ومرجوح.(30/8)
من أراد الله به خيراً قيض له رجلاً من أهل السنة من أول أمره
والآن سنتعرف على هذا الشخص الذي تكلم بهذا الكلام، والمفروض علينا ألّا ننشغل بالكلام على أحد، لكن سنحاول إن شاء الله تعالى أن ننصفه؛ لأن هذا في الأصل مأخوذ من هذا العنوان الذي سميته: (محطات شطحات)، فهي محطات في حياة هذا الكاتب والأديب تثبت لنا أن الشطحات هي سمة من سمات شخصيته، وعلامة من علامات توجهه؛ لنأخذ العبرة، ولندرك أن هذه الشطحة ربما تكون خفيفة بالنسبة لغيرها من الشطحات التي وقف فيها في محطات الشطحات، فهو لم يستطع إلى اليوم أن يتحرر من أمواج الشطط التي طالما رمت به بعيداً عن شاطئ الأمان.
وليؤخذ من ذلك عبرة مهمة، بل هي في غاية الأهمية، وهي: أن فساد الانتهاء من فساد الابتداء، فمثلاً إذا أردت أن تسافر فوقفت على تقاطع طرق، وكل طريق يؤدي إلى اتجاه مغاير تماماً للآخر، فلابد أن تحسن اختيار الطريق الذي تقصده في بداية الأمر، وكذلك لابد أن يهتم الإنسان بنقطة البداية في طلبه للعلم؛ لأن الإنسان يتعصب لأول شيخ تعلم على يديه، ويتعصب لأول كتاب قرأه وهكذا.
فمن أراد الله به خيراً قيض له رجلاً من أهل السنة؛ كي يأخذ بيديه، ويوفر عليه ضياع العمر في الحيرة والتلون والشطحات، وإذا عرفنا قدر هذا الرجل فإنا نردد قول العلماء: إذا سكت من لا يعلم قل الخلاف، فمشكلتنا أن كل من أراد أن يتكلم فإنه يتكلم، ولا يوجد أي حجر على الكلام.
والشخص الذي سنتكلم عنه هو الدكتور مصطفى محمود.(30/9)
مصطفى محمود وبعض شطحاته
اسمه: مصطفى كمال بن محمود حسين، وهو مشهور بـ مصطفى محمود، وقد ولد في 27/ 12/1921م في شبين الكوم، ثم انتقل بعد أيام من ميلاده إلى طنطا، حيث فتح عينيه على مقام البدوي تحج إليه الوفود، وتساق إليه النذور، ويرى التمائم والزيارات وغيرها من البلايا، وفي سن الثالثة عشرة -وهي سن المراهقة- اتصل بمؤلفات: شبلي شميل وإسماعيل مظهر وسلامة موسى، وسن المراهقة هي سن تموج دائماً بالاضطرابات إلا من رحم الله، وهنا محطة فساد الابتلاء، ففي هذه السن الحديثة اتصل بمؤلفات هؤلاء الضالين، ولو ذهبنا نتكلم على كل واحد منهم على حدة لطال بنا الموضوع جداً، فـ شبلي شميل معروف بضلاله وانحرافه، وخاصة أنه هو وسلامة موسى كانا ممن تحمسا جداً لفكرة النشوء والارتقاء.(30/10)
مصطفى محمود ونظرية داروين
وقد فُتن مصطفى محمود من بداية المراهقة المبكرة بنظرية داروين، وتبنى هذه النظرية، وبدأت مرحلة الرفض في حياته، وعمّقتها نزاعات التمرد عند المراهق وأقرانه الذين كانوا يشاركونه في معاناة تجربته العنيفة، وقد عانى من الشك الحاد في النبوات والرسالات الإلهية، وكان هذا رد فعل للمظاهر الشاذة التي رآها من زوار ضريح البدوي وغيره في طنطا، فظن أن الدين ليس إلا هذه الخزعبلات، ولم يستطع أن يفرق بين الأصيل والدخيل.
ثم غلبت عليه ثورة داخلية فرحل إلى إحدى مدن المغرب سنة 1948م يلاحق رجال التصوف؛ بحثاً عن الحقيقة كما يقول، فالتمس الري من كئوس أصحاب الطرق وشطحاتهم، وتخرج من كلية الطب سنة 1952م، وتخصص بعد ذلك في الأمراض الصدرية، ثم تفرغ للأدب والفكر، وأول دواسير مؤلفاته مجموعة قصصية تسمى: (أكل عيش) وذلك في سنة 1954م، وتلاها سنة 1955م كتاب (الله والإنسان)، وفيه محاولة التشكيك في كبرى اليقينيات، والتشكيك في الرسالة والرسل، وعكس هذا الكتاب الصراع الذي كان يطحنه بين قراءته غير الناضجة وشواذ بيئة طنطا التي أفسدت تصوراته عن حقيقة الدين، وضميره وبقايا إيمانه القليل من جهة ثالثة، كذلك عانى الصراع النفسي بين التشكك في القرآن نفسه وبين الاطمئنان إليه، وقد دفع ثمن تلك الشطحات، فنهض الأزهر بواجبه وصودرت معظم نسخ الكتاب، وقُدَّم مصطفى محمود إلى محكمة أمن الدولة، ولكنه نجا من هذه المحاكمة حيث كان القضاة متصوفين، وكان محاميه متفلسفاً، فرافع بأن الكتاب يسجل بداية المتصوف لا تهجمات ملحد، فاكتُفي بمصادرة الكتاب، والكف عن ملاحقة مؤلفه.
وألف كتابه (إبليس) سنة 1958م، وحاول أن يفسر قصة إبليس على طريقة فاضل عباس المهداوي، الذي أعلن في إحدى محاكماته أنه لا وجود لذات اسمها إبليس، وإنما هو رمز للنزغات الشريرة في النفس البشرية، ثم حكم المؤلف نفسه على هذا الكتاب فيما بعد بأنه هو وكتاب (الله والإنسان) كانا تعبيراً عن ذروة الشك، ومتعاطفين مع الفكر المادي الذي كفر به فيما بعد، وقال مصطفى محمود: صودر الأول وهو كتاب (الله والإنسان) ولم يطبع ثانية، فصادرت أنا الثاني (إبليس)، فلا أسمح بإعادة طبعه، ولقد اعتاد الكاتب أن يخلط أو أن يخبط ويشوش ويضطرب ببعض كتاباته المرفوضة التي تترك في القلوب الهشة جراحاً ليس من اليسير تضميدها، وإن رفع عقيرته بإنكارها فيما بعد، أو بتراجعه عنها، فإنه يتوب من بعضها في حين يبقى كثير من الناس تؤذيهم وتجرحهم هذه الكتب، فنخلص من هذه المحطة إلى أن مصطفى محمود ليس مصدراً آمناً لتلقي الحق، فهو كـ أبي حامد الغزالي تماماً.
وهكذا نجد أن من فسد ابتداؤه بأن فتح عينيه على الضلالات والفلسفات وأهل الكلام والتصوف والبدع فإنه يتلون: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل وهكذا كانت سيرة الجويني والرازي والغزالي وكثير من المعاصرين، وعلى أي الأحوال فالأمر كما قال بعض السلف: إن هذا الأمر دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فالاضطراب والتشويش والحيرة سمة من سمات هذه الشخصية: ولن يستقيم الظل والعود أعوج ثم تولى هو محاكمة كتابه (إبليس)، أو كتاب (الله والإنسان)، فقطع بأنه عمل متهور لا يرضى عنه قلبه ولا عقله، ثم أكبّ على الفلسفة قديمها وحديثها، وعلم النفس بنظرياته، ونظريات فرويد على الخصوص، ثم انتهى إلى أن الفلسفة لا تعدو كونها حجَراً يُلقى في بحيرة مجهولة فيضاعف عكرتها، ولا يرجع منها بصيد.
ثم انتقد الفرويدية والماركسية؛ لأنهما يحشران الإنسان في حظيرة البهائم، ويجريان عليه كل الأحكام التي تخص الحيوان، وانتهى إلى أن العلم المادي ليس في مقدوره تقديم أجوبة مقنعة على أسئلة النفس حول الدين، فذهب ينشد الهدى من خلال مباحث الأديان، فراح يبحث عنه في الوثنيات الهندية، مروراً بالديانات ذات الأصل السماوي، إلى النحل المعاصرة: البادية، والبهائية، والقاديانية، وانتهت هذه السياحة برسو زورقه الحائر على شاطئ القرآن البليغ.
وإذا نظرنا أين تعلم؟ وعلى يد من تعلم؟ ولمن قرأ؟ فسنستخلص أنه ليس من أهل العلم، وبالتالي فكلامه ككلام الذي يقف في السوق ويقول: أنت تقدم، وأنت تسجن خمسة وعشرين عاماً، وأنت تسجن ثلاثة أشهر إلى آخره، فهذا كلام في الهواء، فما كان ينبغي لنا أن ننشغل بالرد عليه بهذه الطريقة.
فبدأ اعتناءه بالقرآن والتفسير، وتأثر بـ سيد قطب رحمه الله في كتابه (في ظلال القرآن)، و (الظلال) فيه كثير من الأخطاء الشديدة، وليس هذا موضوعنا الآن، وكذلك تأثر بـ ابن كثير في تفسيره، وقرأ (الإحياء) و (المنقذ من الضلال) وأنا لا أسميه أبداً: (إحياء علوم الدين)؛ لأن بعض العلماء سموه: (إماتة علوم الدين) فسنسميه: (الإحياء) اختصاراً، وهذا حديث له موضع آخر، وكتاب (المضنون به على غير أهله)، وكل هذه الكتب للغزالي، وكذلك حِكَم ابن عطاء الله السكندري، فانتهى إلى أن التصوف هو البحر الذي تصب فيه سائر الجداول، ولا شك أن هذا كلام صحيح، فالتصوف هو البحر الذي تصب فيه كل المصارف والجداول، ويتسع للجيف واللآلئ، ويجمع بين الغثاء والجواهر.
ولا يحسن التمييز بين الجيف واللآلئ، ولا بين الغثاء والجواهر إلا الحذاق من أهل الفرقان، والقادرون على الغوص إلى الأعماق.
إنّ علاج هذه الحيرة موجود في منهج أهل الحديث، وعقيدة أهل السنة والجماعة، لكنه حرم من تراث علماء السنة وبخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلاميذ مدرسته العدول المجددين الذين طهر الله بهم الدين من تحريفات الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.(30/11)
ربطه القرآن بالنظريات العلمية الحديثة
هناك محطة أخرى من محطات حياته وهي محطة كتابه: (القرآن محاولة لفهم عصري)، وغالباً ما تثير كتبه صجة، وهناك كتاب اسمه: (شطحات مصطفى محمود في كتابه: القرآن محاولة لفهم عصري)، وهذا الكتاب اتسم بالجرأة على ربط المضمون القرآني بأفكار وتصورات قابلة للتبديل والتعديل، فحاول أن يربط القرآن بنظريات علمية حديثه ما زالت في حيّز النظريات ولم تصل إلى رتبة الحقائق، فإذا رُبط القرآن بها وثبت بعد ذلك أن هذه النظريات كانت خاطئة فإننا نعرض القرآن للتشكيك.
وهذا منهج ليس بجديد، فقد سبق نظيره في مدرسة محمد عبده وغيره من المبهورين بالاكتشافات الغربية، وأبشع ما يكون هذا المنهج في كتاب (الجواهر) لـ طنطاوي زهري.
فهؤلاء طرقوا ظواهر القرآن إلى تأويلات مهزوزة لم تعط فيها الكلمة الأخيرة، ولقد صفق لهذا الكتاب بعض الحاقدين على علماء الإسلام الذين وقفوا لمؤلفه بالمرصاد، وكان في هذا الكتاب يتحكم في الغيب الذي لا تبلغه العقول، ولم يوجد لأئمة التفسير فيه قول يؤنسه في هذه الوحشة التي شذ بها.(30/12)
من شطحاته زعمه أن الجنة والنار ألوان من ضرب المثال
ومن شطحاته: قطعه في هذا الكتاب بأن كل ما جاء عن الجنة والجحيم فما هو إلّا ألوان من ضرب المثال، وألوان من الرمز، أي: أن نعيم الجنة وعذاب النار ما هو إلّا رمز، وليس له حقيقة، فهوجم كعادته، ورد عليه العلماء، ثم خفف هذه الدعوة وتراجع عنها فيما بعد في كتابه (حوار مع صديقي الملحد)، وما أدري كيف يكون صديقه وهو ملحد؟! وكيف يوالي هذا الملحد؟! فيقول في هذا الكتاب: ولا يجب أن يفهم من هذا الكلام أننا ننكر العذاب الحسي ونقول بالعذاب المعنوي.
وعلى أي الأحوال: فلعله تراجع، وهذا شيء جيد.
ويقول الشيخ محمد المجذوب في كتابه (علماء ومفكرون عرفتهم) -وقد طبع هذا الكتاب سنة 1977م-: إنه -أي: مصطفى محمود - أحياناً ليلقي بالرأي الشخصي كأنه تقرير في قضية قد فرغ منها، دون أن يكون له سند من قول مأثور، أو قياس على نظير، وأقل ما يقال في هذا: إنه ضرب من التفسير بالرأي -يعني: الرأي المذموم- الذي أجمع علماء القرآن على أنه أخطر ما يعامل به كتاب الله عز وجل.(30/13)
ومن شطحاته زعمه أن هناك آدمين اثنين
ومن تخبطه وتخمينه: القول بآدمين اثنين، أي: أن هناك اثنين آدم وليس واحداً، وهذه أخذها من طريقة أبي العلاء المعري الذي سبقه إلى مثل هذا التخليط بقوله: وما آدم في مذهب العقل واحد ولكنه عند العقول أوادم وقد اعترف مصطفى محمود يوماً بأن الشكوك التي أحاطت به إنما كان مردها إلى غواش حالت بين بصيرته وبين الرؤية الصحيحة، واعترف بأن للنقص العلمي أثره في التمكين لهذه العوارض.
ويقول في كتاب (حوار مع صديقي الملحد) في (ص31) بعد أن تحدث عن أهل النار وموجبات عذابهم بكلام رائع، ثم ما يلبث أن يشطح فيقرر قول ابن عربي من إن هؤلاء سيتعودون على النار، فتصبح بيئتهم الملائمة، ثم يقول: إن التعذيب في الآخرة ليس تجبراً من الله على عباده، وإنما هو تطهير وتقويم ورحمة! فأين هذا من قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [آل عمران:88]، وقول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، فلفظة ((كُلَّمَا)) تدل على أن هذا العذاب متجدد ومستمر إلى الأبد، فأين التطهير؟ وأين التقويم؟ إنما يكون التطهير والتقويم في الدنيا حيث تنفع التوبة.
ويذكر الله تبارك وتعالى عن أهل النار أنهم يدعونه فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيزجرهم الله قائلاً: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
وقد تأثر بهذه الفكرة -أعني: أنهم سيتعودون على النار وتصبح بيئتهم الملائمة- بالشاعر محمد إقبال في كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام)، فإن إقبالاً ابتدع في هذا الكتاب من عجائب التفاسير للجنة والنار ما لا أصل له، وليس له مستند من قرآن ولا حديث، كقوله عن النار: إنها تجربة للتقويم قد تجعل النفس المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله.
أقول: لا، ليست نفحات، بل هي لفحات.
فالجنة والنار في تفسير محمد إقبال الفلسفي حالتان لا مكانان، فالنار -بزعمه- هي: إدراك أليم؛ لإخفاق الإنسان، وأما الجنة فهي: سعادة الفوز على قوى الانحلال.
ولو لاحظ مصطفى محمود أن إقبالاً كان مزدوج الشخصية لما قلده؛ لأن إقبالاً كان في شعره منتظم الخطى في الطريق السوي، حتى إذا عمد إلى التفلسف اضطربت به الخطى، وشط بعيداً عن المنطلق الإسلامي.(30/14)
قصوره الكبير في العلم الشرعي
ومن شطحات مصطفى محمود في حواره مع صديقه الملحد: أنه ينقل عن شخص اسمه محمد بن عبد الجبار أن الله يقول له في حديث قدسي: (كيف تيأس مني وفي قلبك سفيري ومتحدثي؟!) فهو لا يعرف معنى الحديث القدسي، وإنسان يصل قصوره في العلم إلى أنه لا يعرف معنى الحديث القدسي أمره عجيب!! ويحكي عن واحد من هؤلاء أنه قال: إن الله خاطبه في حديث قدسي!! وهل هناك وحي لغير النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسمى حديثاً قدسياً؟! ويستدل أيضاً في (ص94) بما يدعي أنه حديث قدسي: (عبدي أطعني أجعلك ربانياً تقول للشيء: كن فيكون)، ويستدل على صحة هذا اللغو البارد بالخوارق التي أجراها الله على يد المسيح عليه السلام، ويتقبل أيضاً ادعاءات الصوفية دون أي مناقشة، فيقبل تفسيرهم للكرسي بأنه قلب المؤمن، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] يقول: الكرسي هو قلب المؤمن، والعرش هو العقل، وفي تفسير قوله تعالى: {اخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12] أنّ نعلي موسى هما: النفس والجسد، وما إلى ذلك من غرائب فهمه الذي يسميه فهماً عصرياً، فقد أنزل القرآن بلسان عربي مبين، لا بطلاسم المشعوذين والمضللين، ولا شك أن تفسير القرآن هذا نوع من السفارة بين الله وبين خلقه؛ لأن المفسر يقول للناس: إن الله يريد بقوله كذا: كذا وكذا، فإذا أخطأ في هذه السفارة فهو من الكذب على الله سبحانه وتعالى.(30/15)
بعض دعاواه في تقسيم الزكاة والصدقات
ويقول أيضاً: وللفقير نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقاً من: 2.
5% إلى 90% جبراً واختياراً.
فنقول: أنواع المزكيات ومقاديرها معروفة، وليس فيها ما يخرج منه 90%، وربما يقصد التطوع، فمن الممكن أن يتطوع بـ90%، لكن كان ينبغي عليه أن يسوقه بغير تحديد؛ لأن الصديق تبرع بكل ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمتطوع يجوز له أن يتبرع بكل ماله، وأما تحديده بـ90% فمن أين جاء به؟!(30/16)
جرأته في التكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم
ومما يكشف عن حظه من العلم أنه يصف القرآن العظيم في (ص125) فيقول: إن القرآن العظيم أتى على يد رجل بدوي، في أمة متخلفة بعيدة عن نور الحضارات.
وهذا الأسلوب في الكلام عن النبي عليه الصلاة والسلام فيه سوء أدب مع النبي عليه السلام، وفيه منافاة لقوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9]، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بدوياً على الإطلاق؛ لأن البدو هم القبائل الرحل الذين ليس لهم قرار ولا استيطان، وأما الذين يقيمون في مكان ما فهؤلاء حضر وليسوا بدواً، والسر في ذم البدو والأعراب في القرآن الكريم: أنهم يتنقلون؛ بحثاً عن المراعي والأمطار، ولا يقيمون على الإطلاق في مكان، ولا يتخذون لهم وطناً، وذلك يؤدي إلى أن يشيع فيهم الجهل إلا من رحم الله، وقد كانت مكة في مقدمة مدن الحضارة في زمن البعث، وكانت عاصمة التجارة في جزيرة العرب، ولذا سماها الله سبحانه وتعالى (أم القرى)، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدا فقد جفا)، أي: من تحول إلى البداوة فإنه يجفو وتكون فيه غلظة في أخلاقه، فأين البداوة ممن قال الله سبحانه وتعالى في حقه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وقال في حقه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(30/17)
شطحاته في عبادة الله تعالى
ويقول أيضاً في (ص94): ونحن لا نعبده -أي: الله تعالى- بأمر تكليف، ولكنا نعبده لأننا عرفنا جماله وجلاله.
وهذه من شطحات الصوفية كما هو معروف، وهذا يعني أن العبادة ليست تكليفاً! مع أن الله تعالى يقول: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]، فهل الأوامر والنواهي في القرآن الكريم والسنة المطهرة ليست تكليفاً؟!! {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فهذا تكليف للرسول نفسه!!!(30/18)
فتحه باب الزيادة في الدين
ويقول أيضاً: وكل شيء في ديننا يقبل التطوير ما عدا جوهر العقيدة، وصلب الشريعة، وما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر والاجتهاد والإضافة والتطوير على مصراعيه لكل من هب ودب، وهذا ضلال مبين، كيف يكون الدين مفتوحاً للإضافة وهو لا يقبل الزيادة على الإطلاق؟! فإن الزيادة فيه بدع وضلال، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، ويقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ويقول الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهل ما أكمله الله تعالى يقبل الزيادة والإضافة كما يزعم هذا الإنسان؟! وإنما تكون الإضافة في الإسلام في مجال الاجتهاد فقط، أي: في مجال اجتهاد الفقهاء المتخصصين فيما يجدّ ويستحدث من الأمور التي تحتاج للاجتهاد حسب الأصول والقواعد والضوابط.(30/19)
ومن شطحاته في القرآن حساب الأحرف في كل سورة
ومن شطحاته قضية الحروف والأعداد: فموضوع الرقم تسعة عشر والإعجاز العددي الذي ابتدعه مسيلمة الإسلام رشاد خليفة فجاء ببلاء مبين ابتدعه وضل به، وعملية ربط الحروف المقطعة في أوائل السور بمواطن ورودها في السورة، ومعروف أن هذا الرجل ادعى النبوة، فهذه من شطحاته التي انبهر بها مصطفى محمود.(30/20)
طعنه وأمثاله في السنة وإثارة الشبه حولها
إن هؤلاء الذين يفتحون لأنفسهم باب الاجتهاد رحباً فسيحاً واسعاً يحلو لهم الطعن في السنة؛ لأن السنة تزعجهم دائماً، وكذلك أيضاً يحرص أعداء الإسلام حرصاً شديداً جداً على القضاء على السنة، وكل من أراد أن يطعن في الدين من الخلف لا يجد أسهل من طريق الطعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتراهم يشغبون ببعض الشبهات مثل قولهم: إن هذه الأحاديث ما هي إلّا كلام أناس، وتراهم يتكلمون على الإمام البخاري رحمه الله تعالى بطريقة مضحكة تدل على جهلهم الكبير، وهذا الرجل نفسه كما في مقالة له سنقرؤها فيما بعد إن شاء الله يتكلم عن البخاري وكأنه كان بائع فجل، فيتكلم عن البخاري بكلام ليس فيه توقير لأئمة الإسلام وعلماء المسلمين، ولجهله أيضاً يقول: إن البخاري قد دون هذه الأحاديث بعد الثلاثمائة سنة أو في القرن الثالث، فأين كانت السنة قبل ذلك؟ فهذا الغبي الجاهل الذي يتكلم بمثل هذا الكلام ليس له أن يتكلم في الدين على الإطلاق، فالكتابة كانت وسيلة لحفظ السنة، وكذلك القرآن لم يكن مدوناً ولا مجموعاً في عهد الرسول عليه السلام، ثم جمع في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه، فهل معنى ذلك أن هذه الفترة لم يكن فيها قرآن؟! فوسائل حفظ العلم كثيرة ومتعددة، وأقواها عند العرب حفظ الصدور؛ بسبب قوة حافظتهم وذاكرتهم، ثم انضم إلى ذلك الحفظ بالكتابة والتدوين، فهذا الكلام الذي قاله جهل فاحش يبطل الثقة تماماً بأي كلام له علاقة بالدين.(30/21)
شبهة والجواب عنها
ومن شبهاتهم: قولهم: دعونا من الأحاديث، وأريحونا من قولكم في الأحاديث: ضعيف وموضوع، ولا داعي إلى أن نلجأ إلى الأحاديث ونحتج بها!!
و
الجواب
أن الأحاديث تختلط على الجاهل، وأما العالم الصيرفي الناقد الخبير المحدث فلا تختلط عليه، وإنما تختلط على من لا علم له ممن أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام في حديث البيعة بقوله: (وألا ننازع الأمر أهله)، فأهل العلم بالحديث والمختصين هم الذين يتكلمون في ذلك، وأما من عداهم فعليهم أن يمتثلوا قول الحافظ العراقي رحمه الله تعالى في شأن علم الحديث: فاعنى به ولا تخذ بالظن ولا تقلد غير أهل الفن وهذا غير التقليد المذموم، وهو من باب قبول خبر العدل، فإذا أخبرك العدل بأن هذا الحديث حسن فهو حسن، وهذا الحكم لم يخرج سبهللاً، وإنما هو نتيجة دراسة، وتحرٍّ، وجمع للطرق، ونظر في رجال الإسناد إلى آخر، فهذه الجهود الجبارة لم تعرف لها البشرية نظيراً على الإطلاق.
يقول العلامة محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى: وقد يقول قائل: إذا كان المؤلف -وهو الخطيب البغدادي - بتلك المنزلة العالية في المعرفة بصحيح الحديث ومطروحه، فما بالنا نرى كتابه هذا (اقتضاء العلم العمل) وغيره من كتبه قد شحنها بالأحاديث الواهية؟
و
الجواب
إن القاعدة عند علماء الحديث: أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده فقد برأت عهدته منه، ولا مسئولية عليه في روايته مادام أنه قد قرن معه الوسيلة التي تمكن العالم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحاً أو غير صحيح؛ ألا وهي الإسناد، نعم كان الأولى بهم أن يتبعوا كل حديث ببيان درجته من الصحة أو الضعف، ولكن الواقع يشهد أن ذلك غير ممكن بالنسبة إلى كل واحد منهم وفي جميع أحاديثه على كثرتها؛ لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، لكن أذكر منها أهمها وهو: أن كثيراً من الأحاديث لا تظهر صحتها أو ضعفها إلا بجمع الطرق والأسانيد، فإن ذلك مما يساعد على معرفة علل الحديث، وما يصح من الأحاديث بغيره، ولو أن المحدثين كلهم انصرفوا إلى التحقيق وتمييز الصحيح من الضعيف لما استطاعوا -والله أعلم- أن يحفظوا لنا هذه الثروة الضخمة من الحديث والأسانيد، ولذلك انصبت همم جمهورهم على مجرد الرواية إلا فيما شاء الله، وانصرف الآخرون إلى النقد والتحقيق مع الحفظ والرواية وقليل ما هم: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].
فلذلك ينبغي ألا يحكم على حديث ما بأنه ضعيف بمجرد الإطلاع على سند واحد، لكن يجوز أن تقول: ضعيف بهذا السند، ولا تقول ضعيف مطلقاً إلا بعد أن تتحرى جميع الطرق وتدرسها؛ لأنه ربما يكون في هذه الطرق ما يقويه.(30/22)
شبهة أخرى والرد عليها وبيان جهود المحدثين في حفظ السنة
ومن شبههم: أنهم يتعللون بوجود الأحاديث الموضوعة بسبب النزاعات السياسية، وما وضعه الزنادقة، ووجود الإسرائيليات وغير ذلك مما دخل في الدين، فاختلط الحق بالباطل.
فنقول: هناك أحاديث كثيرة بهذا الوصف لا ننكرها وبعض الناس تضيق عقولهم عن فهم هذا الأمر فيقولون: قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولم يقل هذا في السنة، فنقول: إن الذكر يشمل القرآن والسنة، وهذا الحفظ له أسباب، وهناك حكم وراء عدم وجود السنة خالية من الضعيف كالقرآن الكريم، والحكمة: أن هذا يفتح أبواباً من التعبد والجهاد والرحلة في طلب العلم والتحديث، وهذه كلها تدخل تحت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وكما قلنا: إن هذه الأمور لا تختلط إلا على الجاهل الذي ينازع الأمر أهله، لكن إذا رجع إلى العلماء فإنه يسهل جداً الحكم على هذه الأحاديث.
جاء عن حماد بن زيد أنه قال: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف حديث، وجيء إلى هارون الرشيد بزنديق فأمر بقتله -وهارون الرشيد رحمه الله تعالى يستحق أن تُدرس سيرته بمنتهى الدقة؛ حتى تصحح الصورة المشوهة التي وضعها له أعداء الإسلام؛ ليبغضوا في الخلافة الإسلامية، فقد كانت سيرته عطرة، وفيها أشياء كثيرة جداً ينبغي أن نعلمها؛ لنصحح صورته المشوهة، ومن ذلك غيرته الشديدة على السنة- فقال له: يا أمير المؤمنين! أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم: أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم منها حرفاً؟! فقال له الرشيد: أين أنت يا زنديق! من عبد الله بن المبارك، وأبي إسحاق الفزاري ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً.
فالناقد البصير الذي عنده خبرة هو الذي يستطيع أن يميز الزائف من الصحيح.
وقد اختلطت الأحاديث فعلاً في مرحلة من المراحل صحيحها بضعيفها، فقام العلماء ووقفوا منها الموقف الإسلامي الصحيح، فلم يقبلوا الأحاديث كلها؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لحرفوا دين الله ففيها المكذوب، ولم يتركوها كلها؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لضيعوا دين الله ففيها الصحيح، ولكنهم شمروا عن ساعد الجد، وصرفوا في سبيل ذلك كل أوقاتهم، فتتبعوا أحوال الرواة؛ لأن ذلك يساعد في عملية النقد وتمييز الطيب من الخبيث، ودونوا في ذلك المدونات، وأحصوا فيها أحوال كل راو من حيث ولادته، وبأي بلد ولد، وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والحفظ؟ ومتى شرع في الطلب؟ ومتى سمع؟ وكيف سمع؟ ومع من سمع؟ وهل رحل؟ وإلى أين رحل؟ وذكروا شيوخه الذين يحدث عنهم وبلدانهم ووفياتهم، ووضعوا قواعد لنص المتن أحكموها؛ حتى يتبين لهم الحديث الصحيح من الضعيف، وهكذا استطاع هؤلاء العلماء أن ينفوا عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المكذوب الموضوع، وبذلك تحقق وعد الله بحفظ هذه الشريعة، وحمايتها من كل ما أصاب غيرها من عوامل التحريف والبطلان، حتى نُقل عن مارجليوث، وهو مستشرق يهودي خبيث، وكان شديد الحقد على الإسلام، لكنه لم يستطع أن يكتم هذه العبارة التي قال فيها: ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم، وما زالوا في جد واجتهاد حتى استطاعوا أن يصلوا إلى قواعد نقدية راقية، بها يميزون الخبيث من الطيب من الحديث، وكانت هذه القواعد أرقى ما يمكن أن يصل إليها عقل بشري في تحقيق نسبة الأقوال إلى أصحابها.
فقد شهد بذلك القريب والبعيد، والصديق والعدو، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
وقيل لـ عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة، فقال: يعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالذكر هنا يشمل القرآن والسنة، والذي تعهد بحفظ القرآن هو الذي تعهد أيضاً بحفظ السنة.
ومر الإمام أحمد على نفر من أصحاب الحديث وهم يعرضون كتاباً له فقال: ما أحسب هؤلاء إلا ممن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة).
قال ابن حبان: ومن أحق بهذا التأويل من قوم فارقوا الأهل والأوطان، وقنعوا بالكسر والأطمار في طلب السنن والآثار، يزورون البراري والقفار، ولا يبالون بالبؤس والإقتار، متبعين لآثار السلف الماضين، وسالكين نهج محجة الصالحين، برد الكذب عن رسول رب العالمين، ونبذ الزور عنه حتى وضح للمسلمين المنار، وتبين لهم الصحيح من الموضوع والزور من الأخبار.(30/23)
كلام السلف في حجية السنة، والغيرة عليها
لن نطيل الكلام في موضوع حجية السنة؛ لأننا قد وفينا هذا الموضوع حقه تماماً قريباً، ولكني هنا أجتزئ بعض النصوص التي تكفينا في هذا المقام.
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا وجيئونا بكتاب الله! فقال عمران: إنك أحمق، أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرة؟ أتجد في كتاب الله الصيام مفسراً؟ إن القرآن أحكم ذلك، والسنة تفسره.
وقد سبق أن قلنا في محاضرة (حجية السنة): إنّ ما عُلَّق على شرطين فلا يتم بأحدهما، والعصمة من الضلال عُلَّقت على التمسك بأمرين: الكتاب والسنة، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، فمن زعم أو زيّن له الشيطان أنه عندما يقول: إنه يعتز بالقرآن، وأنه يعظم القرآن، أنه بذلك يدافع عن الإسلام، فهو في ضلال مبين، كما قال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعك من هذا وأجبني عن القرآن، فاعلم أنه ضال، فهذه علامة الضلال، فمن يكذَّب بالسنة فلا بد أن يأخذ هذا الصفة مباشرة وهي: الحكم بضلاله؛ لأن الأمان من الضلال لا يتحقق إلا بالقرآن والسنة، وسنضيف ضابط الضابط عما قريب، فيكون القرآن والسنة بفهم السلف الصالح.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لـ علي رضي الله عنه لما طلب منه أن يخرج لمناظرة الخوارج: يا أمير المؤمنين! فأنا أعلم بكتاب الله منهم؛ ففي بيوتنا نزل، فقال له علي: صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، فتقول ويقولون، أي: لا تجادلهم بالقرآن؛ لأن القرآن ذو وجوه، فبعض الآيات مجملة، فتحتاج إلى أن تشرح وتفصل بالسنة، أو بآيات أخرى، ولذلك قال بعض العلماء: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل لذلك: فعامة أهل البدع يحتجون بالقرآن على بدعهم، لكنهم ينحرفون في فهم القرآن الكريم، فهم لا ينكرون القرآن؛ لأن من أنكر القرآن فقد كفر، لكنهم يؤولون ويفسدون الآيات، فبعض الآيات تكون طيعة، أي: مجملة أو عامة، فالمفروض أن تبين أو تخصص، فهم يستدلون بهذه المجملات أو العمومات فيقعون في الضلال، لذلك لما قال ابن عباس لـ علي: أنه سيخرج إلى الخوارج كي يناظرهم بالقرآن، قال: صدقت، لكن القرآن حمال ذو وجوه، فتقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فخرج إليهم فحاجهم بالسنن، فلم يبق بأيديهم حجة.
وعن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن حسين أنه سأل عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر، فقال ابن عمر: يا ابن أخي! إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، وإنما نفعل كما رأيناه يفعل.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: ولو أن امرأً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلى ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم الصلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال.
انتهى كلام الإمام ابن حزم.
وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، فسئلوا فأفتوا برأيهم، فضلوا وأضلوا، فإياكم وإياهم.
وقال رضي الله عنه: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله.
لذلك فهم يريدون القضاء على السنة؛ حتى يستريحوا من هذه المعارضة والمساومة.
وعن أيوب السختياني: أن رجلاً قال لـ مطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف: إنا والله! ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أيوب قال: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا عن القرآن فاعلم أنه ضال.
ومما يناسب موضوعنا أيضاً ما أخرجه البيهقي في (المدخل) من طريق شديد بن أبي فضالة المكي أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد! إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاًََ، ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم فيه: في كل أربعين شاة شاة، وفي كل كذا من الإبل كذا، وفي كل كذا درهماً كذا، قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال: وفي القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، أوجدتم فيه فطوفوا سبعاً؟ واركعوا ركعتين خلف المقام؟ أوجدتم في القرآن لا ذنب ولا جنب ولا صغار في الإسلام؟ أوما سمعتم الله قال في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، قال عمران: لقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم.
وأخرج الدارمي عن سعيد بن جبير أنه حدث يوماً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: في كتاب الله ما يخالف هذا، فقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك.
فإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فلزم من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة، ويتعهد ببقائها.
وقد حدّث أبو معاوية يوماً هارون الرشيد أمير المؤمنين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى، وهو حديث القدر المعروف، فقال عمّ الرشيد معلّقاً: أين التقيا يا أبا معاوية؟! ألست تقول: حج آدم موسى، وتناظر آدم مع موسى؟ فاعترض على الحديث وقال: أين التقيا يا أبا معاوية؟! فغضب الرشيد من ذلك غضباً شديداً وقال: أتعترض على الحديث؟! عليَّ بالنِّطع والسيف، أي: أنه سيضرب عنقه، فأُحضر ذلك، فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه، وأقسم ألا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا؟ فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منه، وأنه يستغفر الله ويتوب إليه منها، فأطلقه.(30/24)
العصمة من الضلال منوطة باتباع القرآن والسنة على فهم السلف
سبق أن ذكرنا أن العصمة من الضلال منوطة باتباع القرآن والسنة: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)، فالعصمة من الضلال لابد فيها من القرآن والسنة معاً، وليس هذا فحسب، بل لا بد أن يكون ذلك بفهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم، وقد ناقشت هذا بالتفصيل في محاضرة (السلفية لماذا؟)، وقلنا: إن أهل السنة والجماعة هم الميزان، ولن نستطيع أن نفصل ذلك الآن، لكن نذكركم ببعض العناوين، فقد ذكرنا أن الانتماء إلى أهل السنة والجماعة ليس مسألة اختياريه كما تختار في الفاكهة والألوان والطعام والشراب، بل هي مسألة ليس فيها اختيار، ففرض لازم على كل إنسان أن ينتمي إلى منهج أهل السنة والجماعة، فالسلفية منهج ملزم على كل مسلم، وهي تقوم على الكتاب والسنة بفهم الصحابة وتابعيهم بإحسان.
وقلنا: بفهم الصحابة والتابعين لنسدّ باب انحراف أهل البدع الذين انحرفوا في فهم كتاب الله، فالكتاب والسنة يستطيع كل أحد أن يفهمها فهماً، وأن يفسرهما تفسيراً، وأن يؤلهما تأويلاً يوافق هواه وبالعكس، فلا بد من سدّ الطريق على أهل الباطل بقولنا: الكتاب والسنة بفهم السلف؛ لأن السلف الصالح معهم حق كل فرقة، وهم برآء من ضلال كل فرقة، وقد زكاهم الله سبحانه وتعالى فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115]، وخير أمة أخرجت للناس هم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وقد زكى الله إيمان الصحابة وقطع بصحته، واشترط في نجاة من بعدهم من الفتن والاختلاف أن يكون إيمانه مثل إيمانهم، فقال الله عز وجل في القرآن الكريم: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137]، فكلمة (مثل) هي السلفية، {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137]، فالهداية محصورة في الإيمان بمثل ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ((بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ)) أيها الصحابة! ((فَقَدِ اهْتَدَوا))، ومفهوم الآية أن من انحرف عن مثل ما كان عليه الصحابة فقد ضل ضلالاً مبيناً.
ولذلك قلنا: إن معرفة ما كان عليه النبي عليه السلام إما أن تكون بالمعاينة والمعاصرة، وإما أن تكون بالإسناد، فالرواية تنقل إلينا بالأسانيد، لذلك فالإسناد هو شريان الحياة في منهج أهل السنة والجماعة، وقلنا: إن اتباع السلف هو المنهج الذي يعصم من الحيرة والتلون، فالذي يتمسك بمنهج أهل السلف فإنه في الغالب -إلا ما شاء الله- لا يرجع مرة ثانية، بل إنه يمشي إلى أن يصل -إن شاء الله- إلى النجاة في الآخرة، ولا يكون من الفرق النارية، وإنما يكون من الفرقة الناجية بإذن الله تبارك وتعالى، فهذا المنهج يتميز بالبصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وهو يعصم من الحيرة والتلون، ولذلك لا نكاد نجد واحداً فقه المنهج السلفي واتبعه على بصيرة ثم تراجع وانتكس عنه، وذلك مصداق لقول هرقل لـ أبي سفيان لما سأله: هل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، ثم قال له بعد ذلك: وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت ألّا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فهذه هي دعوة الفطرة والبصيرة والاتباع والدليل والإنصاف والعدل والتوحيد إلى آخر هذه المحاسن المعروفة، لذلك: من يمشي على هذا المنهج السلفي فإنه يمشي في اتجاه واحد، ولا يرجع عنه في الغالب إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، في حين أن من بدأ بغير المنهج السلفي فإنه يتلون، وقد رأينا ذلك بأعيننا في الفرق الضالة التي كانت موجودة إلى عهد قريب، فقد كانت تحصل فيهم انشطارات داخلية، فالفرقة تنقسم إلى فرق، والفرق تنقسم إلى فرق وهكذا إلى ما لا حصر له ولا عدد، وقد وجدنا في ذلك نماذج كثيرة جداً كما هو معروف من حال أبي حامد الغزالي، فإنا إذا درسنا مراحل حياته لوجدنا كيف يكون التلون سمة بارزة لمن انحرف عن منهج السلف، وحرم مما كان عليه السلف، فقد ظل الغزالي ينتقل من منهج الفلاسفة إلى منهج أهل الكلام، وإلى منهج الباطنية، وإلى منهج الصوفية إلى آخره، وللأسف الشديد فإنه لم يكتشف الحقيقة إلا في آخر حياته رحمه الله تعالى، فمات وصحيح البخاري على صدره، وكأنه يريد أن يقول: هاأنذا حتى هذه اللحظة الأخيرة أريد أن أكفر عن انشغالي عن منهج أهل السنة والجماعة.
وكذلك كان حال الرازي والجويني وكثير من علماء الكلام، فإنهم ندموا عند الموت على خوضهم في علم الكلام.(30/25)
إثبات الشفاعة في الآخرة
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]: ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة.
وسنلاحظ في كلام مصطفى محمود أنه -للأسف الشديد- بسبب قصوره وعدم علمه كيف أنه ضرب آيات الله بعضها ببعض دون أن يتطرق إلى خبر العلماء الحكماء في الجمع بين الآيات، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج وبعض الصحابة يحتج بآيات في القدر، والبعض الآخر يرد بآيات أخرى مخالفة لها في الظاهر غضب غضباً شديداً، واحمر وجهه حتى كأنما فقيء في وجهه حبّ الرمان، وقال: (بهذا هلكت الأمم من قبلكم؛ أنهم ضربوا كتاب الله بعضه ببعض) إلى آخر الحديث.
فهذا المنهج الثقيل -أعني: ضرب الآيات بعضها ببعض- منهج يدل على عدم الفقه والعلم، ويدل على عدم إتقان علم الجمع بين الأدلة عند التعارض.
يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)): ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة، ولكنه بيّن في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار.
إذاً فهناك نوعان من الشفاعة المنفية: النوع الأول: الشفاعة للكفار.
والنوع الثاني: الشفاعة بغير إذن الله ورضاه، فهذه لا يمكن أن تحصل، وأما الشفاعة للمؤمنين بإذنه سبحانه فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقد قال عز وجل: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، إذاً: فالكفار ليسوا ممن رضي الله عنهم، لذلك فإنهم يحرمون من الشفاعة.
وقال تبارك وتعالى مقرراً لقول الكافرين: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]، وقال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وغير ذلك من الأدلة، فهذا في حق الكفار، والشفاعة بدون إذنه منفية أيضاً، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، فيأتي هذا الرجل بقصوره ويقول: نحن نقول في الصلاة عن الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وأنتم تجعلوا الرسول عليه الصلاة والسلام هو مالك يوم الدين؛ لأنه يشفع للناس!! وهذا شيء غريب جداً، فنحن نقول: إنّ الشفاعة المثبتة لا تكون إلا بإذن الله، ولا تكون إلا عمن يرضى عنه الله، فكيف تزعم بعد ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح مالكاً ليوم الدين!! فما هذا الجهل المطبق؟!! وهو لم يتراجع عن هذا، بل أصر وعاند وكابر، وقد أخطأ بعض الإخوة حين فهموا منه أنه تراجع، فإنه لم يتراجع كما سنبين، وادعاء شفعاء عند الله من كفار، أو بغير إذنه من أنواع الكفر به جل وعلا كما صرح به في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18].
يقول الشنقيطي: وهذا الذي قررنا من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعاً مطلقاً يستثنى منها شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فهذه الصور التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة لا تتناقض مع قوله تعالى: ((وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ))؛ لأن هذه الشفاعة ليست في إخراجهم من النار، وإنما في نقلهم من موضع إلى موضع منها.
إذاً: فالشفاعة الثابتة في الشرع هي التي يجتمع فيها شرطان: إذن الله للشافع، والرضى عن المشفوع له، ولا يرضى الله عن الكافر كما قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، فالكافر لم يتوفر فيه هذا الشرط، والشفاعة لا تكون إلا من بعد إذن الله عز وجل، سواء في ذلك شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة من دونه، وذلك الإذن يتعلق بالشافع والمشفوع فيه، فلا يَشفع إلا من أذن له في الشفاعة، ولا يُشفع إلا فيمن أذن الله أن يشفع فيه، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ))، وهذا في الكفار.(30/26)
أنواع الشفاعة
وأما أنواع الشفاعة: فالشفاعة العظمى هي شفاعته صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل لأهل الموقف؛ لفصل القضاء بينهم، وهي خاصة به صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل له، ووعده إياه، كما قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وجاء في الحديث: (من قال حين يسمع النداء وفيه: حلت له شفاعتي يوم القيامة)، وأحاديث الشفاعة متواترة تواتراً معنوياً، وسنتجاوز ذكر هذه الأحاديث اختصاراً؛ فأنتم على علم بها إن شاء الله تعالى.
وهناك شفاعة في إخراج العصاة الموحدين من النار، وقد أنكر هذه الشفاعة الخوارج والمعتزلة، وقد جاء في بعض الأحاديث: (ثم أشفع، فيحدّ لي حد فأخرجهم فأدخلهم الجنة)، فشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هنا بحد وعدد معين بإذن الله تبارك وتعالى، وهناك أنواع أخرى من الشفاعة أعتقد -إن شاء الله- أنكم على علم بها؛ لأن كتب العقيدة كلها تهتم بهذه المسألة وتذكر أدلتها بالتفصيل.
لـ مصطفى محمود مقالتان: المقالة الأولى بتاريخ (1/ 5/1999م)، وعنوانها: ((وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)).
وطريقته فيها هي نفس طريقة الضُلّال الذين يريدون أن يطيروا بجناح واحد وهو جناح القرآن، ولا يلتفتون إلى الجناح الآخر وهو السنة، فيقعون على أم رءوسهم.(30/27)
جهله بالسنة وكتبها وعلمائها
يقول في هذه المقالة: ويقول الله لمحمد عليه الصلاة والسلام في سورة الزمر: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19]، فيقول: هذا استفهام إنكاري.
فنقول له: هل ينقذ النبي صلى الله عليه وسلم من في النار بإرادته أم بإذن الله؟ ثم أيضاً قد أثبت الله الشفاعة في القرآن، ومن ذلك قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وأحاديث الشفاعة تقول: (إنه يستأذن ربه) إلى آخر الحديث كما هو معلوم.
وهذا الرجل -كعادة أهل الأهواء- يكتب ماله ويسكت عما هو عليه، فأتى بالآيات التي تؤيد مذهبه الضال فقط، مع أنه يقول: أنا أتبع القرآن فقط ولا أتبع السنة، فنقول له: إنّ القرآن نفسه يرد عليك؛ لأن هناك آيات -كما ذكرنا- تنفي الشفاعة، وهناك آيات أخرى تثبت الشفاعة بالشرطين السابقين، فالقرآن يثبت الشفاعة، وهو لا يستطيع أن يتخلص من هذا المخرج، وهو لا يحسن فهم كلام الله سبحانه وتعالى.
يقول: وهذه الثوابت القرآنية، يعني: قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]-وهذه الآية في الكفار، وهم ليس لهم شفاعة- فيقول: أهل النار في سورة المؤمنون {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:107 - 108]، ويقول في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، يقول: هذه الثوابت القرآنية تتناقض تماماً مع مرويات الأحاديث النبوية في كتب السيرة.
فهنا يسمي كتب الحديث بكتب السيرة!! فهو لا يعرف عنوان هذا العلم!! مع أن الفرق شاسع بين كتب السيرة وبين كتب علم الحديث التي من ضمنها كتاب السيرة، فهذا يدل على أنه لا يفقه حتى عناوين العلوم الشرعية.
يقول: وهذه الثوابت القرآنية تتناقض تماماً مع مرويات الأحاديث النبوية في كتب السيرة من إخراجه مَن يشاء من أمته من النار، ومما يؤكد أن هذه الأحاديث موضوعة ولا أساس لها من الصحة، ولا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا يقول الشبعان وهو متكئ على أريكته: (بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرمه الله).
ثم يأتي بآيات من القرآن الكريم هي في حق الكفار أيضاً، ولا نطيل بذكر كلامه، ثم يقول: إذاً فالشفاعة ينفرد الله بها وحده، وعلينا أن نفهم الشفاعة في هذه الحدود، والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي تولى رب العالمين حفظه بنفسه من أي تحريف فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولم يقل لنا رب العالمين: إنه حفظ البخاري أو غيره من كتب السيرة، يقول: وما يقوله البخاري مناقض للقرآن لا يلزمنا في شيء، وسيسأل عنه البخاري يوم الحساب، ولا نسأل نحن عنه.
أقول: هذا الرجل مسكين في العلم، وهل هذا كلام البخاري؟!! لقد قام البخاري بجمع الأحاديث، واشترط شروطاً في غاية الدقة لصحة الحديث، وهذه الأحاديث مروية بالأسانيد التي تميزت به هذه الأمة.
ويقول: ولم يكن البخاري هو الوحيد الذي خاض في موضوع السيرة النبوية، لكن كتّاب السيرة كثيرون، وقد تناقضوا واختلفوا مع بعضهم البعض، وامتلأت كتب السيرة بالموضوع والمدسوس من الأحاديث، والعجيب والمنكر من الإسرائيليات، وقرأنا في أكثر من كتاب من كتب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودي! وهذا كذب وافتراء لا يعقل إلى آخر الكلام.
وهذا قصور في عقله وفهمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع اليهود، وهو مشرع للأمة، وفعله هذا فيه تشريع، ويؤخذ منه جواز مثل هذا التعامل والرهن مع اليهود، وهذا الحديث صحيح ليس فيه أي إشكال.
ويقول: إذا كان ربنا يقول: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] ألا يعطيه ما يستغني به عن اليهود؟! فهو يفهم بعقله القاصر أن المراد بالإعطاء في هذه الآية أن يعطيه الفلوس والأموال، ولم يدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم زهد في الدنيا ورفضها، فقد خيره الله بين أن يحول له جبال مكة ذهباً، وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يطمح إلى أن يعطى الأموال.
ثم يقول: والعمدة المعتمد في جميع أمور الملة هو القرآن المجيد، نتمسك به، ونحتكم إليه في كل صغيرة وكبيرة.
فنقول له: هذه اللافتة تصل بها نفسك؛ لأنك من أهل البدع والضلال، فمن قال هذا فهو ضال كما بينا، (لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)، فقطعاً أنت ضال ما دمت تقول هذه العبارة، وأنت من الفرقة الضالة التي أخبر النبي عليه السلام عن ظهورها فقال: (ألا يوشك شبعان متكئ على أريكته) أي: أنه لم يرحل، ولم يسافر، ولم يجع، ولم يجب القفار والصحراء ليحقق الحديث، ثم يزعم أنه يكتفي بالقرآن! فإذا حدثت الرجل بحديث فقال: دعك من هذا وأجبني عن القرآن، فهذا ضال.
يقول: ونحتكم إليه -أي: القرآن- في كل صغيرة وكبيرة، وما تناقض في كتب السيرة مع القرآن لا نأخذ به؛ فالذين كتبوا السيرة بشر مثلنا يخطئون ويصيبون.
أقول: هذا الرجل مسكين، فهو يظن أنهم كتبوا من تلقاء أنفسهم، فهو لا يعرف ما هي الأسانيد، ولا ما هي الأحاديث، ولا من هو البخاري، ولا ما هي السيرة، فهو مغرق في الجهل، فكيف يتكلم في الدين بهذه الطريقة؟! ويقول: أما القرآن فهو الكتاب المحفوظ من رب العالمين، وهو الكتاب الوحيد الموثق بين كل ما تبقى من الكتب المقدسة.
ومن ثم يستدل على أنه ليس هناك شيء اسمه سنة، فالقرآن فقط هو المأخوذ به، فيقول: ألم يقل ربنا تبارك وتعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام في سورة آل عمران: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، ففهم هذا المسكين من قوله تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) أنه لا يوجد تشريع اسمه سنة، وإنما التشريع هو في القرآن فقط!! فلم يعرف سبب نزول الآية، وأنها كانت في القنوت على بعض الناس إلى آخر القصة المعروفة.
ثم يقول: فكيف نقلب الأمر ونجعل من النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر يوم القيامة، والمنفرد بالشفاعة من دون الله؟! أقول: هل يوجد أحد من أهل السنة والجماعة -ولو من عوامهم- قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يتفرد يوم القيامة بالشفاعة من دون الله؟! وأين الآيات التي تشترط أن يرضى الله عمن يشفع فيه، وأن يأذن لمن يشاء أن يشفع؟! فهذا كله كذب وافتراء وتدليس لا يقبل.
يقول: فكيف نقبل الأمر ونجعل من النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر يوم القيامة، والمنفرد بالشفاعة من دون الله، وهو الذي قال له معاتباً: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) إلى آخر كلامه.(30/28)
إصراره على إنكار الشفاعة في الآخرة
أما المقالة الثانية فعنوانها: (الردود الغاضبة والعاتبة)، وقد كانت في (15/مايو)، يقول فيها: الردود الغاضبة والعاتبة على موضوع الشفاعة بالمئات، وأنا لم أفهم سبباً واحداً لهذا الغضب، فالله -بكرمه وحلمه- فتح لنا باب التوبة؛ حتى نتوب عن ذنوبنا، ونتطهر من أوزارنا، وجعل هذه التوبة مفتوحة إلى النفس الأخير، فلا يغلق بابها إلى ساعة الحشرجة، وهذه التوبة تجبُّ كل الذنوب، واقرءوا معي سورة البروج إلى آخر كلامه.
فقد بدأ يوهم القارئ بأنه يتوب عن هذه المقالة، مع أنه لا يريد أن يقول ذلك، بل هو يريد أن يقول: إن باب التوبة مفتوح، لكن باب الشفاعة مغلق، فهو معاند ومصر على ما قاله، ثم يقول: وهل يريد الغاضبون والعاتبون أن يفعلوا ما يشاءون من الذنوب والخطايا، وأن يسترسلوا في ذنوبهم وآثامهم وشرورهم إلى آخر العمر ثم يموتوا دون توبة، ويلفظوا أنفاسهم دون ندم، ثم يريدوا ساعة البعث أن يستخدموا رسولهم ليشفع لهم، فإذا قلنا لهم: ضيعتم فرصتكم الوحيدة في التوبة في حياتكم ضجوا واحتجوا ورمونا بالجهل، وجاءوا بعشرات الأحاديث لعشرات من الرواة يقولون هذا، وذاك من عجيب القول، ولا سلطان عندنا في مثل هذه الأمور الغيبية إلى لكلمة القرآن، ثم يقول: إني لا أرى مكاناً للاختلاف، ولا موضعاً للاشتباك، وإنما كل منا يعمل بإيمانه، وكل فريق يعمل على شاكلته، فالموضوع لا يصلح فيه الجدل، فهو موضوع غيبي يتناول الآخرة، والآخرة لله وحده يفعل فيها ما يريد؛ فهي شأنه.
فنقول: المشكلة أنك تكذب خبر رسول الله عليه السلام الذي تواتر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)، فمن أركان الإيمان: (ويؤمنوا بي وبما جئت به).
ويقول أيضاً: والقرآن لا يفتح باباً إلّا ويسده.
أقول: هو لا يريد أن يرمي القرآن بالتناقض والعياذ بالله، لكنه يريد: أن هناك آيات تفتح باب الشفاعة، لكن لا تلبث أن تأتي آيات وتسد هذا الباب، وهذا كلام المسكين القاصر في فهم الآيات.
يقول: والقرآن لا يفتح باباً إلّا وسده, فهو يقول: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، لكن لا يلبث أن يقول في موضع آخر: قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، ولذلك عاد فأغلق الباب فجعله مقصوراً على أهل الرضا، أي: المرضي عنهم، ويستدل بالآية: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4]، فقوله: ((مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ)) أي: من دون الله، ((وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)).
فنقول له: إن الشفاعة التي تحصل إنما تكون بإذن الله، فتنسب إلى الذي أذن وهو: الله سبحانه وتعالى، فهذا عيسى عليه السلام لما كان يخلق من الطين كهيئة الطير قال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49]، فكل مرة كان يذكر هذا القيد: ((بِإِذْنِ اللَّهِ))، فهذا ليس من فعل عيسى، ولكنه فعل الله.
ثم يقول أيضاً: وهل خرج قادة الإسلام الأوائل وأبطاله إلا من هذه المشكاة: (مشكاة القرآن)، وما كان عن يمينهم كتب سيرة، ولا رواة سيرة، ولكنهم كانوا يشهدون السيرة بأعينهم من معينها الحي، من النبي نفسه الذي كان يخرج معهم في غزواتهم.
أي: أنه يحصر كل السنة في السيرة، وهذا شيء عجيب، ويقول: والآن قد ترقّى بنا الزمن، وأصبحنا نقرأ عن وعن وعن إلى آخر العنعنات التي لا يعلم بها إلا الله، واختلف أهل هذه العنعنات، والقرآن بين أيدينا لا اختلاف فيه، فآياته المحكمة كالسيف تقطعنا عن أي شك إلى آخره.
ثم يقول: وأضعف الإيمان أن نتدبر آيات القرآن الكريم ولا نغلق باب الاجتهاد في فهمها أبداً، فكل كتاب يؤخذ منه ويرد إلا هذا الكتاب، فهو خزينة العلم كله، وما أضر الإسلام والمسلمين إلا إغلاقهم باب الاجتهاد في دينهم، وتحويلهم لمرويات السيرة والأحاديث إلى مسلمات ومقدسات ومحظورات لا تمس ولا تناقش كأنها مومياوات محنطة.
أي: أنه يصف أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كأنها مومياوات محنطة، ثم انظروا إلى هذا الذي يطعن في البخاري والأئمة، انظروا إلى ثقافته الضحلة أين ستصل به، فإنه يقول: وما حثني على الكتابة في موضوع الشفاعة إلا حديث رسولنا العظيم الذي قال فيه: (من يترك العمل ويتكل على الشفاعة يورد نفسه المهالك، ويحرم من رحمة الله)، فمن أين -أيها الوضاع! - أتيت بهذا الحديث؟! فهذا شيء غريب، فتراه يرفع هذا الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر السند، ولا من أخرجه، ولم يسمع أحد بهذا الحديث في أي كتاب من الكتب التي تكلمت عن الشفاعة، فإذا كان هذا حظه من الجهل بالسنة فكيف يتجاسر على أن يسجل على نفسه هذه المقولة المحدثة؟! ويقول أيضاً: موضوع الشفاعة غيبي، ومكانها وزمانها يوم القيامة، ولا يستطيع أحد أن يدعي الإحاطة بما سيجري في هذا اليوم، ولا نملك بعد استعراض القرآن والسنة إلّا الاجتهاد في الفهم، واحتمال الخطأ وارد.
وسبق في أثناء الكلام ذكر من الذي له حق الاجتهاد في فهم النص، أو في الاجتهاد الفقهي المعروف.
ولا شك أن موضوع الشفاعة غيبي، وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر، لكن ربنا سبحانه وتعالى قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:177]، ومعنى الإيمان بالله واليوم والآخر أن تصدق بالأخبار التي وردت بشأن اليوم الآخر ومنها أخبار الشفاعة، (حتى يؤمنوا بي وبما جئت به)، فتؤمن بما أخبر به النبي عليه السلام ولا تكذبه، وقد قال الإمام أحمد: من كذب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة، فهذا موضوع غيبي والغيب أتانا من طريق الوحي، سواء كان القرآن أو السنة؛ لأن السنة وحي كما بينا ذلك بالتفصيل من قبل، فمعنى كونه موضوعاً غيبياً أنه ليس للعقل ولا للاجتهاد فيه مجال، وإنما هو خبر، وواجبنا أن نصدق هذا الخبر ونسلم به، قال الإمام الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، فنقول: سمعنا وأطعنا، فهذا هو واجب المؤمن.
ثم يقول في نهاية الكلام: نكتفي بما قلناه، ونختم الموضوع مؤثرين الإيمان على الجدل، والتفويض على تبادل التهم، فبحور العلم بلا شاطئ، وأعماقها بلا أغوار.
والله وحده الهادي، ونسأله المغفرة.
فنقول له: فعلاً إن بحور العلم بلا شاطئ، وأعماقها بلا أغوار، ومن سار في بحر الشبهات كما سرت أنت دون أن يتمسك بطوق النجاة، أو رام النجاة في غير سفينة أهل السنة والجماعة فلن يسلم من الغرق، فإن السنة هي سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك! أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(30/29)
اختصام أهل النار
ما أحسن أن يطيع الإنسان ربه ومولاه! فيعيش في الدنيا سعيداً مطمئناً ملكاً، ويفوز في الآخرة بجنات النعيم.
وما أسوأ أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا معرضاً عن دين الله وشرعه، فيعيش في تيه وضياع وضلال وتعاسة، ثم يدخل قبره حاملاً ذنوباً كالجبال، فكيف ينجو من الفتَّان في القبر! ثم يصلى جهنم، فيخاصم ويجادل أسياده وأتباعه، بل ويخاصم أعضاءه وجسده، وذلك هو الخسران المبين.(31/1)
بين يدي الموضوع
الحمد لله الذي ليس سواه واجب الوجود، الذي وعد الذين سعدوا بدوام النعيم في جنات الخلود، وتوعد الذين شقوا بالأبدية في النار ذات الوقود، وأخبرهم أنه يبدلهم جلوداً ليذوقوا العذاب كلما نضجت منهم الجلود.
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تدافع عن قائلها إذا كانت الأعضاء هي الشهود، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب المقام المحمود، في يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الركع السجود، وعلى أصحابه الداعين إلى التوحيد، الساعين للنصح للقريب والبعيد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيلقى العبد ربه، فيقول الله: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقال: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول له مثل ذلك، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: آمنت بك، وبكتابك، وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك؟ فيفكر في نفسه: من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه بعمله ما كان؛ وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه).
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، والترمذي وابن مردويه والبيهقي.
قول أبي هريرة رضي الله عنه: (قالوا) يعني: قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟) إنما قيدوا الرؤية بيوم القيامة للإجماع على أنه تعالى لا يُرى في الدنيا؛ لأن الذات الباقية لا ترى بالعين الفانية، وهذا الاستفهام للاستعلام والاستخبار، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟) يعني: إذا اجتمعتم وأردتم أن تنظروا إلى الشمس هل يحصل لكم تزاحم وتنازع يتضرر به بعضكم من بعض من شدة الزحام حتى تتمكنوا من رؤية هذه الشمس ليست دونها سحابة؟ بل الرؤية تكون واضحة، فيستطيع الإنسان في أي مكان أن يراها دون زحام أو ضرر.
و (الظهيرة): هي نصف النهار.
وقوله: (ليست في سحابة) يعني: ليست في غيم تحجبها عنكم، وهذا الاستفهام للتقرير، والمقصود منه حمل المخاطب على الإقرار؛ لأنهم لا يضارون في ذلك، لذلك قالوا: لا، (قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا) أي: أنكم لا تضارون.
ولفظ: (تضارون) بتشديد الراء، وهناك لفظ آخر: (تضارون) بالراء المخففة، وهذا مشتق من الضير، أي: تكون الرؤية جلية لا تقبل مراء ولا مرية، أي: هل إذا اجتمعتم ونظرتم إلى الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكذلك القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، هل يخالف بعضكم بعضاً في رؤيتهما، ويكذب بعضكم بعضاً في ذلك؟ فكما لا يشك في رؤية الشمس والقمر في هاتين الحالتين، فكذلك لا يشك يوم القيامة في رؤية الله سبحانه وتعالى.
والمقصود من هذا الحديث: تشبيه الرؤية بالرؤية، ووجه الشبه: الوضوح التام الكامل في الجلاء والظهور الذي لا نزاع فيه، وليس المقصود تشبيه المرئي بالمرئي، أي: ليس المقصود منه تشبيه الشمس أو القمر بالله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لكن المقصود: أن رؤية الله في الآخرة تكون مثل رؤية الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، ومثل رؤية القمر في ليلة البدر ليس دونه سحاب في الوضوح، فوجه الشبه: الوضوح والجلاء وعدم الخفاء.
وفي لفظ آخر: (هل تضامون) بتشديد الميم، أي: هل ينضم بعضكم إلى بعض في طلب رؤية القمر لإشكاله وخفائه؟ فإن الناس عند استطلاع الهلال مثلاً ينضم بعضهم إلى بعض؛ لاستشكال رؤية الهلال كما في بداية مولده، فلذلك يجتمعون حتى ينضم بعضهم إلى بعض طلباً لرؤيته، فالمقصود: أنكم حينما تريدون رؤية القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب -أي: أن السماء صافية- فإنكم لا تحتاجون إلى أن ينضم بعضكم إلى بعض حتى تستوثقوا من هذه الرؤية، وكذلك الشمس في وسط النهار، أو أن المقصود: لا يضمّكم شيء يحول دون رؤيته كبناء أو سقف، أي: هل هناك شيء يحول بينكم وبين رؤية الشمس في الظهيرة، أو القمر في ليلة البدر؟
الجواب
لا.
فهذا على رواية: تضامون بتشديد الميم، أما على رواية تخفيف الميم فإنها تكون من الضيم، أي: لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم ولا يراه البعض، بل أنتم تشتركون في ذلك كلكم، فكل هذه الألفاظ المقصود منها تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح والجلاء وعدم الخفاء.
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد أن استقررهم على هذا الأمر: (فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما) يعني: في هذه الهيئة، وكان الظاهر أن يقال: لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما، ولكنه أخرج مخرج قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب فهو هنا يمدح قوماً مدحاً في صورة الذم، فهو من المدح الذي ظاهرة الذم، لكنه في الحقيقة مدح عظيم، أي: أنه ليس في هؤلاء الناس غير عيب واحد، وهو: أن سيوفهم بهن فلول أي: أنها مثلمة من صراع الكتائب، فهو يريد أن يصفهم بالشجاعة، لكن بصورة غير مباشرة، أي: أنه لا عيب فيهم، كذلك قوله هنا: (فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما) المقصود: كما أنكم لا تضارون في رؤية أحدهما فكذلك لا تضارون في رؤية الرب سبحانه وتعالى.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيلقى العبد ربه فيقول الله له: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟) قول الله تعالى: (ألم أكرمك) يعني: ألم أفضلك على سائر الحيوانات.
(وأسودك) أي: جعلتك رأساً لقومك.
(وأزوجك) يعني: امرأة من جنسك، وأمكنك منها، وجعلت بينك وبينها مودة ورحمة، وألفة وسكينة.
(وأسخر لك الخيل والإبل) يعني: أذللها لك، وخص الخيل والإبل بالذكر؛ لأنهما أصعب الحيوانات.
(وأذرك ترأس) يعني: وأدعك تكون رئيساً على قومك.
(وتربع) قال بعض العلماء: معناه: تأخذ رباعهم، والرباع: هي ربع الغنيمة، فقد كان ملوك الجاهلية يأخذونه لأنفسهم، وقيل: تركتك مستريحاً لا تحتاج إلى مشقة وتعب، وذلك من قولهم: اربع على نفسك، أي: ارفق بها، (فيقول: بلى أي رب!) أي: فيقول العبد بعد ذكر كل هذه النعم: قد أنعمت علي بهذه النعم كلها.
والمقصود أنه يقول بعد كل واحدة منها: بلى يا رب! أو بعد ذكر كل النعم.
فيقول: (أفظننت أنك ملاقي؟ يعني: أفعلمت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني) أي: أتركك من رحمتي، فنسيان الله له أن يتركه سبحانه وتعالى من رحمته.
قوله: (كما نسيتني) يعني: كما تركت في الدنيا طاعتي.(31/2)
المشاكلة في اللغة العربية مع أمثلة لها
المشاكلة باب من أبواب البلاغة، فمن أساليب العرب المشاكلة بين الألفاظ، فيوضع لفظ لغير معناه الموضوع له؛ مشاكلة للفظ آخر مقترن به في الكلام مثل قول الشاعر: قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً أي: أنهم عرضوا عليه أن يقترح عليهم شيئاً من طعام يجيدون له الطبخ، فأجابهم قائلاً: قلت: اطبخوا لي جبة وقميصاً، والمقصود: خيطوا لي؛ لأن الجبة والقميص لا يطبخان، لكن لما حصل الاقتران في اللفظ ذكر الطبخ في نفس السياق، وهذا نوع من المشاكلة، فاستعمل الكلمة في غير معناها، فاستعمل هنا كلمة (اطبخوا) مكان كلمة (خيطوا)؛ لوجود المشاكلة في النظم.
ومثال ذلك أيضاً قول جرير: هذه الأرامل قد قضَّيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر وهذا على القول بأن الأرامل في اللغة العربية لا تطلق إلا على الإناث، فالرجل لا يسمى أرمل، فهنا أيضاً استعمل المشاكلة بناء على أن الأرمل لا تطلق إلا على النساء.
وقد وجدت المشاكلة في كثير من آيات القرآن وفي كثير من الأحاديث كالحديث السابق: (إني أنساك كما نسيتني) فهذا من باب المشاكلة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، فقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] هذا عدوان في الحقيقة، لكن هل مقابلة العدوان بمثله يسمى عدواناًَ؟ هو ليس بعدوان في حقيقة الأمر، بل هو انتصار أو عقوبة عاجلة، لكن سماها سبحانه وتعالى اعتداء، فقال: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فسمي عدواناً على سبيل المشاكلة.
وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وفي الحقيقة أن السيئة التي يفعلها الإنسان على وجه المقابلة هي من العدل، ومن الانتصار من الظالم، لكن لأجل اقترانهما في النص، جرت هذه المشاكلة دون أن يقصد أنها سيئة، فمعاملة الظالم بما يستحقه هي في الحقيقة حسنة وليست سيئة.
ومن ذلك أيضاً: قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فهل العقوبة بمثل ما عوقبتم به يسمى عقوبة؟ لا، فإذا بدأ الإنسان بأذيتك فلك أن تعاقبه بمثل ما أساء إليك، فسمى هذه الإساءة عقوبة من باب المشاكلة أيضاً.
ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] يعني: بمثل ما أسيء إليه ابتداء وليس مقابلة، وهو أيضاً من باب المشاكلة.
والمقصود: أن قوله سبحانه وتعالى حينما يسأل العبد: (أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني) هو من المشاكلة، والمقصود: إني أنساك، أي: أتركك من رحمتي كما نسيتني، يعني: كما نسيتني في الدنيا من طاعتي، ثم يلقى رجلاً ثانياً فيقول له مثل ذلك، يعني: من سؤال الله سبحان وتعالى له، ويجيب الثاني بنفس هذا الجواب، ثم يلقى شخصاً ثالثاً من الناس فيقول له مثل ذلك، فيقول: (آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع) يعني: يمدح نفسه بما استطاع من الخير، فيقول الرب سبحانه وتعالى: (ألا نبعث شاهدنا عليك؟) فأنت تدعي هذه الدعوة وتنكر {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: ما كنا نعمل من سوء، ويحلفون على ذلك، فيقول الله سبحانه وتعالى له: (ألا نبعث شاهدنا عليك؟) فيفكر هذا العبد الكذاب في نفسه، ويقول: من الذي يشهد علي؟ (فيختم على فيه) أي: على فمه (ويقال لفخذه: أنطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ما كان)، وقوله: وعظامه أي: العظام المتعلقة بالفخذ.
قوله: (وذلك ليعذر من نفسه) ليعذر أي: من الإعذار، والمعنى: يزيل الله عذره من قبل نفسه؛ لكثرة ذنوبه، وشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر يتحجج به بعد شهادة أعضائه.
قوله: (وذلك المنافق) يعني: ذلك الرجل الثالث الذي يقول: صمت، وصليت، وتصدقت وكذا، لا يقول كما قال الأول والثاني عندما سأل الله كل واحد منهما (أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا)، أما هذا المنافق فيدعي ويزعم أنه صام، وصلى، وأطاع الله سبحانه وتعالى، فهذا يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه).(31/3)
مخاصمة الكافر لأعضائه
هناك حديث يبين حواراً يجري بين العبد وبين ربه يوم القيامة، كان موضع عجب واستغراب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أضحك هذا الموقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، قال: هل تدرون ممّ أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً! فعنكن كنت أناضل).
قوله: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً مع أصحابه رضي الله عنهم فضحك) وفيه إيماء إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يضحك إلا لأمر غريب، أو لحكم عجيب، فلهذا الحكم العجيب ضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: (فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب! ألم تجرني من الظلم؟)، يعني: ألم تؤمّنّي من الظلم في قولك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] وكما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي)، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي فيها أن الله لا يظلم شيئاً.
(فيقول العبد: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ يقول: بلى) يعني: بلى أجرتك من الظلم، (فيقول: فإني لا أجيز على نفسي) يعني: لا أقبل ولا أجيز شهادة أحد علي، بل لا أقبل إلا شهادة نفسي.
فيقول: (فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني) أي: من جسمي، وهنا يومئ هذا العبد الظالم إلى أن الملائكة تنبئوا علينا الفساد قبل الإيجاد، فيقول من أجل ذلك: لا أقبل شهادة الملائكة علي؛ بناءً على أن الملائكة قالوا عنا قبل أن نوجد في هذا الوجود: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فمن أجل ذلك يزعم هذا الظالم أنه لا يقبل إلا شاهداًَ من نفسه، ولا يقبل شهادة الكرام الكاتبين، فيعطيه الله تعالى ما طلبه وأراده، فيقول له: (كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً) أي: سوف أجعلك تشهد على نفسك، ثم زاد الله سبحانه وتعالى هذه الشهادة تأكيداً وتقريراً فقال: (وبالكرام الكاتبين شهوداً) يعني: الكاتبين لصحائف عملك شهوداً.
وهذا يدل على أن الظالمين سوف يزعمون بعض الدعاوى، ويتكلمون في بداية الأمر كما جاء في قوله تعالى: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: ما كنا ندعو من دونك من شيء، وكقولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل:28]، فيتبرءون مما كانوا يعملون، وآخر يقول: قد صمت، وصليت، وتصدقت، وفعلت كذا وكذا فحينما يطلبون الشهادة من أنفسهم على أنفسهم يختم على أفواههم، ويحول الله سبحانه وتعالى دون فم العبد ودون الكلام.
قال بعض العلماء: إنه يختم على فيه لكن يخلق الله تعالى في لسانه إرادة ونطقاً، بحيث ينطق اللسان والفم مطبق، وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى.
وبعضهم يقول: إن بعض الذنوب يختم بسببها على فم الإنسان وتنطق أركانه وأعضاؤه كما يأتي إن شاء الله فيما شاكلها من الآيات.
قوله: (ثم يختم على فيه، فيقال لأركانه -يعني: لأعضائه وجوارحه-: انطقي، قال: فتنطق بأعماله) يعني: كل عضو ينطق بالعمل الذي باشر العبد به هذا العمل بهذه الأعضاء والأركان.
قال: (ثم يخلى بينه وبين الكلام) يعني: يترك، وتعاد إليه القدرة على الكلام، فيُرفع الختم عن فيه حتى يتكلم، وشهادة الألسنة ثابتة كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، والمقصود كلام يأتي على خرق العادة، وليس كلاماً بإرادة الإنسان كما في كلامه الطبيعي، وحينما تعاد إليه القدرة على النطق ويرفع الختم من على فيه يقول: (بعداً لكن وسحقاً) أي: هلاكاً لكن أيتها الأعضاء! (فعنكن كنت أناضل) أي: من أجل خلاصكن من العذاب كنت أناضل، أي: أجادل وأخاصم وأدافع، وأصل المناضلة المراماة بالسهام، والمراد بالمناضلة هنا أي: المحاجة بالكلام، وأما جواب الأعضاء فمحذوف، وتقديره دل عليه قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:21 - 23]، فكان هذا جواباً لهذه الأعضاء كما دلت عليه آيات سورة فصلت.
وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور:23]، وكذلك الحديث الذي فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات) وذكر منها: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، بأن المراد بذلك: الأنفس، فتعم الرجال والنساء، فقذف المحصنات الغافلات المؤمنات يعني: قذف الأنفس المحصنات الغافلات المؤمنات، سواء كانت هذه النفوس المحصنات من المؤمنين أو من المؤمنات، من الرجال أو من النساء، وهذا يدل على أن القذف كبيرة في حق الرجال والنساء، لكنه يكون أشد في حق النساء.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في حق هؤلاء الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات أنهم لعنوا في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم، ثم قال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، فذكر أن الألسنة أنفسها تشهد، والجمع بين ذلك وبين الختم على الأفواه أنه يختم على الفم، فينطق اللسان بقدرة الله سبحانه وتعالى والفم مختوم عليه، فيشهد بما عمله.
وسياق الآيات في سورة النور في الإنكار على من افترى حديث الإفك، فمن أجل ذلك كان مناسباً أن تنطق ألسنتهم التي باشرت وتداولت حديث الإفك، وخاضت فيه.
وقد بين سبحانه وتعالى في سورة (يس) أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه غير اللسان، كقوله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
وقال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:19 - 21] إلى آخر الآيات.
ومن الآيات المتعلقة بهذا الحدث العظيم قوله سبحانه وتعالى في أحداث يوم القيامة والحساب: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] فيتمنون أن يستووا بالأرض فيكونون تراباً مثلها.
قوله: (لو تسوى بهم الأرض) يعني: بأن يكونوا تراباً مثل تراب الأرض، ويشهد لذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] يتمنى أن يكون تراباً.
قوله: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) بين الله سبحانه وتعالى أن عدم الكتم المذكور هنا إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم، فعدم الكتمان ليس بإرادتهم، وليس كلاماً عادياً منهم، لكن المقصود به ما أتى في سورة (يس)، وسورة (النور)، وسورة (فصلت) من أن أعضاءهم تنطق وتعترف بكل فعل وذنب اقترفوه في الدنيا، (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) أي: رغماً عنهم، وذلك بقدرة يخلقها الله سبحانه وتعالى في أعضائهم، فتصرح وتفشي، ويفتضح أمرهم على رءوس الخلائق، وبين يدي الله سبحانه وتعالى.
فالمقصود: أن عدم الكتم المذكور هنا إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ما عملوا وذلك عند الختم على أفواههم، فحينئذ يتكلمون بقدرة الله، وتنطق جوارحهم، ولا يكتمون الله حديثاً، فهم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وقالوا: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)، (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، أو يقول المنافق: صمت، وصليت، وتصدقت، وفعلت وفعلت، فحينئذ يختم الله على أفواههم، وتنطق جوارحهم، يقول سبحانه وتعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، فلا يتنافى قول الله سبحانه وتعالى: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) مع قوله عز وجل حاكياً عن المشركين أنهم يقولون: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) هذا في بداية الحساب، أعني: حلفهم وتبرئهم من أفعالهم، وكذلك قولهم: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)، وقولهم: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر:74]، فهذا يكون أولاً، وحينئذ يختم الله على أفواههم ثم لا يكتمون الله حديثاً، وهذا على الوجه الذي(31/4)
خطر إشاعة الفواحش ونشرها
وهنا ننبه على أمر من الأمور المهمة جداً وهو: أن عدم الستر في حكاية الفواحش والحوادث يدخل في الوعيد الوارد في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فمحبة إشاعة الفاحشة ونشرها وحكايتها أمر خطير، فتجد كثيراً من الناس حتى من الملتزمين بدينهم وللأسف يقعون في هذا الأمر، فإذا سمع أي نوع من الحوادث سواء كان قتلاً، أو من الفواحش كالزنا وشرب الخمر أو أي نوع من الحوادث التي تجري، ليحكيها ويقول: حدث كذا وكذا، وفلان فعل كذا وكذا، فهذا يدخل في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ)، فالإنسان إذا سمع بشيء من هذه الأشياء فلا ينشره، ولا يحكيه أبداًَ، بل يصبر؛ حتى لا تتعود القلوب على سماع المنكرات، وبالتالي يموت استقباح هذه المنكرات، واستقباح تنفيذها.
فلا شك أن الصحف والمجلات التي تسخِّر صفحات طويلة وعريضة للكلام في هذه الأمور، وإشاعة الفاحشة بين الناس، أنها واقعة في الكبائر التي حرمها الله سبحانه وتعالى، فتراهم يحكون وينشرون هذه الفواحش: فلان فعل، وفلان فعل، وفلانة قتلت زوجها، وأشياء أخرى تؤذي مشاعر أي إنسان ولو كان غير مسلم، فلا شك أن هذا من إشاعة الفاحشة، فالمسلم لا يحكي هذه الحوادث أبداً، ومتى شعر أن مسلماً ارتكب ذنباً فإنه يستر عليه؛ فالله سبحانه وتعالى ستير يحب الستر.
وبعض الناس يظنون أن إشاعة هذه الأمور من إنكار المنكر، بل هذا من إشاعة الفاحشة، وهتك ستر المسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، فهذا التنبيه من باب شيء يذكر بالشيء، وقد خرجنا عن موضوعنا الأصلي.(31/5)
مقت الكافر لنفسه في النار
إن ما يقع من المخاصمة بين العبد وبين جوارحه يمثل ذورة الخصام الذي يقع يوم القيامة، وقد ورد في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64]، فمخاصمة الإنسان بينه وبين نفسه، ومخاصمته ومناظرته مع أعضائه وجوارحه تعد قمة التخاصم الذي يجري لأهل النار يوم القيامة.
هناك تخاصم آخر يقع من أهل النار يوم القيامة، فحينما يعاين أعداء الله الكفرة ما أعد لهم من العذاب، وما هم فيه من الأهوال، فإنهم يمقتون أنفسهم -أي: يكرهون أنفسهم- كما أنهم يمقتون أحبابهم وخلانهم في الحياة الدنيا، بل كل محبة لم تقم على أساس من الإيمان فإنها تنقلب في ذلك الوقت إلى عداء، قال الله سبحانه وتعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وقال أيضاً: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25]، فعندئذ {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، وحينئذ يخاصم أهل النار بعضهم بعضاً، ويحاج بعضهم بعضاً، فيقع كثير من التخاصم والتجادل بين أهل النار، فيخاصم العابدون المعبودين، ويخاصم الأتباع السادة المتبوعين، ويخاصم الضعفاء المتكبرين، ويخاصم الإنسان قرينه، ويخاصم الكافر أعضاءه، بل تخاصم الروح البدن، ويمقتون أنفسهم، ويمقتون أنصارهم.(31/6)
مخاصمة العابدين للمعبودين
أول صورة نذكرها من صور المخاصمة: مخاصمة العابدين للمعبودين، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:91 - 99]، فيخاطبون آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، معترفين بضلالهم إذ كانوا يعبدونها، ويسوون بينها وبين الخالق سبحانه وتعالى، وقد خاب وخسر كل من يرفع المخلوق إلى رتبة الخالق، وكل من عبد من دون الله سبحانه وتعالى آلهة فقد سوى بين الخالق والمخلوق، وكل من اتخذ إلهاً من الآلهة الباطلة دون الله فقد عدل بين الله وبين خلقه في هذه العبادة، وهذا هو عين الظلم العظيم، كما حكى الله عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: {وإذ قال لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فهذه المناظرة والمخاصمة التي تحصل بين العابدين والمعبودين هي في حق الآلهة الباطلة كالأوثان أو الشياطين أو نحوها من الآلهة الباطلة، وأما الصالحون الأخيار الذين عُبدوا وهم لا يعلمون فكما قال الله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:116 - 117]، ولم يعبد المسيح ولا عزير ولا الأولياء والصالحون فقط، بل قد عُبد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يرضى بهذا الكفر وهذا الشرك، فكثير من المسلمين أشركوا وعبدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى ليدلنا على الطريق إلى الله، فعبده بعض الناس الذين ينتسبون إلى الإسلام بالمدح المحذور، والإطراء المنهي عنه، كما يقول بعضهم في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا مدح لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من عبد بغير رضاه كالملائكة، والصالحين، والأنبياء فإنهم يتبرءون من عابديهم، ويكذّبون زعم هؤلاء العابدين، ويبينون افتراءهم، فالملائكة لم تقبل هذه العبادة، ولم ترض بها، والذين طلبوا هذه العبادة هم الجن؛ كي يضلوا البشر ويوبقوهم، فهؤلاء الضالون عابدون للجن لا للملائكة كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]، وعيسى بن مريم عليه السلام -كما بينا آنفاً- يتبرأ من كل من عبده واتخذه إلهاً من دون الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل عن جميع هؤلاء: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [النحل:86 - 87].
وقال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:28 - 30].(31/7)
تجادل وتخاصم الأتباع مع قادة الضلال من المفكرين وأصحاب المبادئ المناقضة لدين الإسلام
وفي النار يتخاطب الأتباع مع قادة الضلال من أصحاب الفكر، والنظريات، والفلسفات الضالة، وأصحاب كل مبدأ يناقض دين الإسلام، فيتخاصم هؤلاء الأتباع والمتبوعين من أهل المدارس الفكرية التي فرحوا بها، واغتروا بمسالكها، فكانوا في غفلة عن دين الإسلام، وهذه الأشياء التي اغتروا بها -كالفلسفة- تهدم دين الإسلام وتناقضه، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:19 - 28]، أي: من باب القوة {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:29 - 35]، فكانوا إذا دعوا إلى عبادة الله وحدة، وإلى التمسك بدينه وحده، والإعراض عما خالفه من الأديان والفلسفات والنظريات والمبادئ الهدامة لدين الله، فإنهم يستكبرون عن الانقياد لطاعة الله سبحانه وتعالى، ويفرح بعضهم ببعض، ويظنون أنهم على شيء.
فتحصل الملاومة، والعتاب الشديد، والندم بين أهل النار في عرصات القيامة، فالأتباع يقولون لقادة الضلال: أنتم الذين كنتم تزينون لنا هذا الباطل، وأنتم الذين كنتم تؤزوننا إلى مخالفة الحق، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، فكل من حرف الناس عن نور الوحي وعن دين الإسلام إلى هذه الظلمات فهو طاغوت؛ لأنه طغى وتجبر وزاد عن حده بأن رفع نفسه إلى مقام الألوهية، ونازع الله سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته، إلا أن القادة ورجال الفكر والزعماء يرفضون هذا حينما يقول لهم الأتباع: أنتم الذين أضللتمونا، أنتم الذين أغويتمونا، أنتم الذين قلتم لنا: {ما أريكم إلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فحينئذ يرد عليهم هؤلاء الزعماء قائلين: بل أنتم تتحملون نتيجة أعمالكم؛ لأنكم اخترتم الكفر، ولم يكن لنا من سلطان عليكم، فطغيانكم واستكباركم هو الذي أوصلكم إلى هذه النهاية.(31/8)
تخاصم الضعفاء مع ساداتهم من الملوك والأمراء وغيرهم
ومن التخاصم الذي يقع بين أهل النار يوم القيامة: تخاصم الضعفاء مع السادة من الملوك والأمراء وشيوخ العشائر والقبائل الذين كانوا يتسلطون على العباد، وكان الضعفاء يشدون من أزرهم، وكلما وجدت واحداً من أعوان هؤلاء الظالمين وأنكرت عليه فإنه يقول لك: أنا عبد مأمور، يعني: أنه مجبر على هذا النوع من الظلم، وما يستحيي من هذه الكلمة! الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال له السجان يوماً: هل أنا من أعوان الظلمة؟ قال: لا، بل أنت من الظلمة! فتجد كل إنسان يرتكب نوعاً من الظلم يقول: أنا عبد مأمور، فيعترف بهذه العبودية لهؤلاء المعبودين، ويظن أن هذا مبرر، وأن هذا يسوغ له ظلمه للناس، وإعراضه عن الحق، فهؤلاء هم الضعفاء، وأما القادة والزعماء وأصحاب الرتب فكل هؤلاء هم السادة المستكبرون الذين يتسلطون على العباد، ولولا أن هؤلاء الضعفاء يشدون أزرهم لما كان لهم أن يتمكنوا من ظلم العباد كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، فهؤلاء الضعفاء يعينونهم على باطلهم بالنفس والمال، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، ثم نجد أن المستضعفين كثرة، وأن الطواغيت قلة، فمن الذي طيّع هذه الكثرة للقلة؟! لقد طيّعها ضعف الروح، وسكون الهمة، وقلة النخوة، فهذا الاستذلال لا يحدث إلا من قابلية، كما يقول الشيخ ناجي بن ناجي رحمه الله حينما كان يتكلم على ظاهرة الاستعمار في البلاد الإسلامية، فقال: ليست المشكلة في الاستعمار، ولكن المشكلة في القابلية للاستعمار، وذلك بأن توجد في الإنسان قابلية للتذلل والاستعباد، فهذه القابلية هي التي يعتمد عليها هؤلاء الطغاة؛ فمن هنا يقولون لهم يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم:21]، فيظنون أن هذا يغني عنهم يوم القيامة من عذاب الله من شيء، أي: نحن اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأسود الأليم فهل تنفعوننا الآن بشيء؟ فيرد الذين استكبروا: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21].
وقال الله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22].
وفي موضع آخر يذكر الله سبحانه وتعالى تخاطب السادة المتكبرين مع المستضعفين فيقول: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47 - 48].
ويقول الله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12]، وما أكثر الذين يصنعون مثل هذا الصنيع في هذا الزمان، فترى أحدهم يقول مثلاً للمرأة المنتقبة: اخلعي الحجاب والذنب علي، افعل كذا وأنا أتحمل الإثم! فهذا نفس ما حكاه الله عن هؤلاء الهالكين: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:12 - 13].
ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:31 - 33]، فالأتباع والضعفاء يتهمون السادة والزعماء قائلين لهم: أنتم الذين حُلتم بيننا وبين الإيمان، فلولاكم لكنا من الذين اتبعوا ما أنزل الله إلينا، ولكن المستكبرين يرفضون هذه التهمة، ويقولون: بل أنتم المجرمون، فكل ما في الأمر أننا دعوناكم فاستجبتم لنا، ولم يكن لنا عليكم من سلطان، فتقول الشعوب المستضعفة الضالة: بل إن مكركم بنا في الليل والنهار هو الذي أضلنا وحرفنا عن جادة الصواب، فالمؤامرات والمؤتمرات ووسائل الإعلام في مختلف العصور هي التي تصور الحق باطلاً والباطل حقاً، وكذلك أيضاً ما كان يلقيه الزعماء من شبهات ومزاعم ضالة، كل ذلك أضلنا وجعلنا نكفر بالله تعالى، ونشرك به، والحق أن الجميع خاطئون، وأنهم غير معذورين في ضلالهم وكفرهم.
وأما عند دخول النار فيصف الله سبحانه وتعالى هذا التخاصم أيضاً قائلاً: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:55 - 64]، فهؤلاء الذين كان يرحب بعضهم ببعض في دار الدنيا، ويوقر بعضهم بعضاً، يتحول ويتغير حالهم في ذلك اليوم، فيقول بعضهم لبعض: لا مرحباً بكم، ويتمنى كل فريق على الله أن يزيد هؤلاء الذين كانوا يحبونهم في الدنيا من العذاب والآلام، فيدعو كل فريق على الآخر: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص:61]، إن هذا التخاصم بين أهل النار حق كائن لا شك فيه، فهذا قول الله سبحانه وتعالى، وهذا حكمه سبحانه وتعالى.(31/9)
تخاصم الكافر مع قرينه من الجن
ومن التخاصم الذي يقع بين أهل النار: الخصام بين الكافر وبين قرينه من الجن، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:23 - 29].(31/10)
تخاصم الروح مع البدن
قد ذكرنا أن هذا التخاصم يبلغ ذروته، فيتخاصم الإنسان مع أعضائه، ويكون هو شهيداً على نفسه.
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هناك تخاصماً يكون بين الروح والبدن، فيقول ابن عباس: يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت، وأنت سولت، فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما، فيقول لهما: إن مثلكما -يعني: الروح والجسد- كمثل رجل مقعد بصير -أي: لا يستطيع المشي؛ لأنه مقعد، لكنه بصير يرى-، وآخر ضرير -يعني: لا يرى، لكنه يستطيع أن يمشي- دخلا بستاناً، فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثماراً ولكن لا أَصِل إليها، فقال له الضرير: اركبني فتناولها، فركبه فتناولها، فأيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما، فيقول لهما الملَك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما.
فالمقصود أن الجسد للروح كالمطية، فهي تركبه.(31/11)
مقت أصحاب النار لأنفسهم
أخيراً: في ذلك الموقف يمقت أصحاب النار أنفسهم، ويكرهونها، ويبغضونها، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، ويمقتون أيضاً كل الذين كانوا لهم أنصاراً وخلاناً في الدنيا، بل يدعون عليهم، ويطلبون لهم المزيد من العذاب: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:66 - 68]، ولشدة حنقهم على من أضلهم يسألون الله أن يريهم هؤلاء الذين أضلوهم؛ ليدوسوهم بأقدامهم، فهؤلاء الذين كانوا يرفعونهم فوق الرءوس، ويفدونهم بالروح والدم، يوم القيامة يدعون الله سبحانه وتعالى أن يحضر لهم هؤلاء حتى يدوسوا على رءوسهم بأقدامهم، يقول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]، فعندما يدخلون النار ترتفع أصواتهم، ويلعن بعضهم بعضاً، ثم يتمنى بعضهم لبعض مزيداً من العذاب {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
هذه الآيات تبين التخاصم الذي وصفه الله بقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64]، وقمة الخصام يكون بين الإنسان وبين أعضائه كما ورد في سورة يس في قوله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، وقد بينا صوراً أخرى من هذا الخصام كخصام العابدين والمعبودين، وخصام الأتباع للسادة المتبوعين، وخصام الضعفاء للمتكبرين، وخصام الإنسان لقرينه، وخصام الكافر لأعضائه، بل وخصام الروح والبدن، وكيف أنه ينتهي بهم الأمر إلى أنهم يمقتون أنفسهم، ويمقتون أنصارهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(31/12)
المرأة مجاهدة صابرة
لقد كانت المرأة قبل الإسلام لا قيمة لها، فلما جاء الإسلام رفع من شأنها ومكانتها، وبرزت في مجالات شتى في العلم والجهاد والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن المتصفح للتاريخ الإسلامي ليجد نماذج من النساء المجاهدات الصابرات اللاتي بذلن الغالي والنفيس في سبيل الله، بل بلغ ببعضهن الحال إلى أن سبقن الرجال في بعض المواقف، ومن هؤلاء النساء الأفذاذ سمية أم عمار، وأم عُمارة، وأم سُليم، وغيرهن كثير.(32/1)
انبهار المرأة وتأثرها بتكريم الإسلام لها
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد انبهرت المرأة المسلمة بتكريم الله تبارك وتعالى لها في الكتاب وفي السنة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رفع ذكر المرأة ومكانتها في الإسلام إلى أبعد مما يطمح خيالها ويصبو أملها، وقد ساق الله عز وجل لها من آي الذكر الحكيم ما بهر سناه بصرها، وملكت محجته نفسها، واستقادت بلاغته وحسن مساقه قلبها، وأنصفت المرأة بما وصف به الله رحمته وعزته وناره وجنته وما أعد للصابرات والمحسنات من جزيل الأجر ورفيع المنزلة.
كيف انبهرت المرأة بهذا التكريم لها الذي جاء في الكتاب والسنة؟! لقد أثار ذلك عاطفتها، وأصاب وجدانها، وأنار بصيرتها، فكان حقاً لذلك أن يصيب حبة قلبها، ويجول في مجال دمها، ويتأسد بين أحناء ضلوعها، فكيف انبهر النساء بهذا الإسلام وبهذا الدين وبهذا التوحيد؟! ثم ماذا كان المقابل الذي بذلته المرأة في سبيل هذا التكريم؟! لقد كان أول قلب خفق بالإسلام وبهذا الدين حينما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتألق بنوره قلب امرأة من نساء العرب، إنها خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
ما كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها امرأة من سواء النساء، بل لقد هُيئ لها من جلال الحكمة وبعد الرأي إلى زكاء الحسب وذكاء القلب ما عز على الأكثرين من الرجال، فلم تأخذ الدين مشايعة، ولم تتلقه مجاملة، بل أخذته عن تأثر به وظمأ إليه، فتأثرت أم المؤمنين خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها بهذا الدين تأثراً نفذ إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يبعث الغبطة والسكينة عند تدافع النوب واشتداد الخطوب، ثم أعقبها جمهور النساء، فتأثرن بهذا الدين تأثراً هان وراءه كل شيء.
فعن عبد الله بن جعفر قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن عليها الثناء).
وكما جاء في الحديث: (إن حسن العهد من الإيمان).
وتقول عائشة أيضاً: (كان عليه الصلاة والسلام وفياً أشد الوفاء لـ خديجة، خاصة بعد موتها رضي الله عنها، فكان يحسن عليها الثناء، فذكرها يوماً من الأيام فاحتملتني الغيرة -أي: أخذتها الغيرة- من خديجة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أخلف الله لك خيراً منها.
فغضب صلى الله عليه وسلم حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أخلف الله لي خيراً منها؛ لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء.
فقلت بيني وبين نفسي: لا أذكرها بسوء أبداً،) ويكفي خديجة رضي الله تعالى عنها أن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشرها ببيت في الجنة، حيث يقول: (بشر خديجة بنت خويلد ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب).
فبشرت بالجنة رضي الله عنها في حياتها.
إذاً: فأول قلب تلقى هذه الدعوة بالتصديق والإيمان واليقين هو قلب امرأة، وهي خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها.(32/2)
نماذج من النساء اللاتي صبرن على التعذيب والقتل في سبيل الله
وكذلك أول من سبق إلى هذا الدين بعد خديجة رضي الله عنها طوائف من نساء العرب اللائي استهن بما أصابهن في سبيل الله من ظلم وذل وآلام، لقد كان لقريش انبساط بالأذى على من آمن من أولئك الضعاف، حتى لقد تجاوزوا به حد التعذيب والإيلام إلى التأنق في التمثيل.
ومن أولئك النساء اللواتي استعذبن العذاب في سبيل عقيدتهن وإيمانهن سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، كانت سابعة سبعة في الإسلام، فكما كان أول قلب خفق بالإسلام هو قلب أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها فقد كان أول دم أريق في سبيل الله هو دم سمية بنت خياط رضي الله عنها، فهي أول شهيد في الإسلام، وقد كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة والتهبت الرمضاء خرجوا بـ سمية مع عمار ابنها وزوجها ياسر إلى الصحراء وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال الملتهبة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بـ عمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة).
حتى إن عماراً -وهو رجل- أخذ بالرخصة، حيث أجرى على لسانه كلمة الكفر عند الإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد عذره الله وأمثاله بقوله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
أما أمه سمية وهي امرأة فإنها لم تترخص بهذه الرخصة، وإنما صبرت على العذاب في سبيل الله، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان، ثم إن الخبيث النذل أبو جهل بن هشام أنفذ حربته في موضع العفة منها فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيدة في الإسلام.
قال الحافظ ابن حجر: أخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد قال: (أول شهيد في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة، ولما قتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: قتل الله قاتل أمك).
وغير سمية كثيرات احتملن فوق ما احتمل الرجال، فمن المؤمنات الأوائل من كانت تلقى ثم تحمى لها مكاوي الحديد ثم توضع بين أعطاف جلدها، ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها، وقد عذب بهذا العذاب زنيرة جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هو وجماعة من قريش يتولون تعذيبها كما ذكرنا، ولما ذهب بصرها من لعب الأطفال بعينها قال المشركون: ما أزال بصرها إلا اللات والعزى.
فقالت لهم: والله ما هو كذلك، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من الله، والله قادر على أن يرد علي بصري.
قيل: فرد الله عليها بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد).
فبدل أن يعتقدوا أن هذه الكرامة من الله لهذه المرأة الصالحة قالوا -والعياذ بالله-: هذا من سحر محمد.
وقد قام أبو بكر رضي الله عنه بشرائها ثم أعتقها، فهي من الذين اشتراهم وأعتقهم أبو بكر رضي الله عنه، فقد كان أعتق سبعة ممن كانوا يعذبون في الله في بداية الإسلام، منهم: بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة، وجارية بني مؤمل، والنهدية وابنتها.
وأم عبيس من هؤلاء المؤمنات اللاتي كان المشركون يعذبونهن، فقد كانوا يجعلونها تشرب كمية كبيرة من العسل، ثم يوثقونها بالأغلال ثم يلقونها بين الرمال ولها حر يذيب اللحم ويصهر العظم، حتى تموت من العطش ويقتلها الظمأ، وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك بنت جابر بن حكيم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم.
قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء لا موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعموني ولا يسقوني، فنزلوا منزلاً، فكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه ثم عاد، ففي المرة الثانية تناولت بيدي، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلاً ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلاً ثم رفع، فصنع ذلك مراراً حتى رويت، ثم صببت سائره على جسدي وثيابي من شدة الحر، فلما استيقظوا فإذا هم بأثر الماء ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: فككت الوثاق والقيود وأخذت سقاءنا فشربت منه! فقلت: لا والله ما فعلت ذلك، ولكن كان من الأمر كذا وكذا.
فقالوا: لأن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا من ساعتهم) وهذا -أيضاً- كرامة من الله عز وجل لهذه المرأة الصالحة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يسلم يتولى تعذيب جارية مسلمة لبني مؤمل، فلا يزال يضربها بالسياط حتى إذا مل وتعب من كثرة الضرب قال لها: إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالاً.
فتقول له: كذلك فعل الله بك.
أي: بل الله هو الذي يصرفك عني.
وهذه أم كلثوم بنت عقبة -وعقبة أبوها هو سيد من سادات قريش- هي الوحيدة التي آمنت في بيتها أول الإسلام، وفارقت خدرها ومستقر أمنها تحت جنح الليل، خرجت وحدها فريدة شريدة تطوي بها قدماها ثنايا الجبال وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها ودار هجرتها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعقبتها بعد ذلك أمها.
وهذه أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها حينما أتاها أبوها أبو سفيان ولم يكن قد أسلم بعد، فدخل عليها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنية! ما أدري: أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟! فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم.(32/3)
نماذج من مواقف النساء الأوائل في الصبر على المصائب والجهاد ودفع المنكر
تأثرت المرأة كذلك بأدب الإسلام، وخرجت عما احتكم به في الجاهلية من العادات النافرة والتقليد الذميم، ومعلوم جزع النساء عند المصائب وما يصدر منهن فيها -خاصة في أيام الجاهلية- من العويل والنواح والصراخ ونحو ذلك لمدة طويلة تصل إلى سنة وأكثر، فجاء الإسلام وتأثرت المرأة بهداية الإسلام واعتصمت بالصبر، وغير الإسلام هذه العادات الجاهلية التي كانت مستقرة في النساء.(32/4)
موقف الخنساء من المصائب في الجاهلية والإسلام
إذا تأملنا قصة الخنساء رضي الله تبارك وتعالى عنها، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها وتصدع قلبها واضطراب حشاها على أخيها صخر لوجدنا عجباً، ومعلومة مراثيها لأخيها صخر، لكن عندما صارت مؤمنة استحال كل ذلك الجزع والفزع من قضاء الله إلى صبر صاغه الإيمان وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا، فهاهم أبناؤها وهم أشطار كبدها ونياط قلبها خرجوا إلى وقعة القادسية، وكانوا أربعة أبناء، فكان مما أوصتهم به قولها: (يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم وما غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، اصبروا وصابرو ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها وجللت ناراً على أرواقها فيمموا وطيسها - الوطيس هو المعركة أو الضرب فيها- وجالدوا رئيسها -أي: أصلها- عند احتدام خميسه تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة).
فلما كشرت الحرب عن أنيابها تدافعوا إليها وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً في إثر واحد، ولما وافتها النعاة بخبر أبنائها الأربعة لم تزد على أن قالت: (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).
فانظر كيف غير الإسلام والإيمان سلوكها، من هذه المراثي التي ملأت بها الدنيا لأخيها صخر في الجاهلية إلى هذه الكلمة العظيمة التي قالتها في الإسلام.(32/5)
موقف معاذة العدوية من مقتل زوجها وولدها في الجهاد
عن حماد بن سلمة قال: حكى ثابت البناني أن صلة بن أشيم -وكان رجلاً من الصالحين- كان في مغزى، وكان معه ابن له، أي: كانا يجاهدان في سبيل الله.
فقال: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك.
فحمل ابنه على الأعداء فقاتل حتى قتل، ثم تقدم صلة بن أشيم نفسه فقتل رضي الله عنه، فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية -وهي من النساء الصالحات- فقالت لهن: إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
وقالت أم الأسود بنت يزيد العدوية -وكانت معاذة قد أرضعتها-: قالت لي معاذة لما قتل أبو الصهباء وقتل ولدها: والله -يا بنية- ما محبتي لبقائي في الدنيا لرغيد عيش ولا لروح نسيم، ولكن والله أحب البقاء لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل، لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.
فهي رحمها الله تتمنى أن يطول عمرها حتى تستكثر الأعمال التي تبلغ بها درجتي ولدها وزوجها الشهيدين.(32/6)
موقف أم سليم من موت ابنها وصبرها على ذلك
وهذه أم سليم الرميصاء أو الغميصاء من الصالحات العظيمات اللائي لهن شأن عظيم جداً، وكانت من السابقات إلى الإسلام؛ لأنها أسلمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فبايعته حين مقدمه إلى المدينة، وكان إسلامها مراغمة لزوجها مالك بن النضر، وكان ولدها أنس بن مالك يومئذ طفلاً رضيعاً، فكانت تقول له: قل: لا إله إلا الله.
قل: أشهد أن محمداً رسول الله.
فجعل ينطق بذلك أول ما ينطق، فكان ذلك مما يثير الغضب في نفس مالك أبيه، فيقول لها: لا تفسدي عليّ ولدي.
فتقول: إني لا أفسده.
ثم إنه خرج عنها إلى الشام، وهنالك لقي عدواً له فقتله عدوه، فلما بلغها قتله وكانت شابة حدثة وكثر خطابها قالت: لا جرم لا أفطم أنساً حتى يدع ثديي، ولا أتزوج حتى يجلس في المجالس ويأمرني.
فوفت بعهدها وبرت، وكان ولدها أنس بن مالك يعرف لها تلك المنة ويقول: جزى الله أمي عني خيراً لقد أحسنت ولايتي.
حتى إذا شب أنس تقدم لخطبتها أبو طلحة زيد بن سهل وكان مشركاً فأبت، ثم قالت له يوماً: أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبة تأتي بها النجار فينجرها لك هل يضرك؟ هل ينفعك؟ وأكثرت من عتبه، فوقع في قلبه الذي قالت، فأتاها فقال: لقد وقع في قلبي الذي قلت.
وآمن بين يديها فقالت: إني أتزوجك ولا أريد منك صداقاً غير الإسلام.
قال ثابت: فما سمعت من امرأة قط كانت أكرم مهراً من أم سليم لقد كان مهرها الإسلام.
نعم لقد كان أكرم وأشرف وأغلى مهر في الدنيا؛ لأنها تزوجته على أن يدخل في دين الإسلام.
حدث أنس بن مالك عن أمه أم سليم بنت ملحان الأنصارية زوج أبي طلحة زيد بن سهل قال: (مرض أخ لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه.
فرجع من المسجد وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان.
وقدمت له عشاءه فتعشى هو وأصحابه الذي قدموا معه، ثم أتما ليلتهما على أحسن حال، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة! ألم تر إلى آل فلان استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طُلبت منهم شق عليهم! قال: ما أنصفوا.
قالت: فإن ابنك فلاناً كان عارية من الله فقبضه إليه.
فاسترجع وحمد الله وقال: والله ما أدعك تغلبينني على الصبر.
حتى إذا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حضر عنده اشتكى له كيف أنها تصنعت له حتى وقع عليها وابنه ميت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكما في غابر ليلتكما) فحملت منه تلك الليلة عبد الله بن أبي طلحة، ولم يكن في الأنصار شاب أفضل منه، ولم يمت عبد الله بن أبي طلحة حتى رزق عشرة من البنين كلهم حفظ القرآن وأبلى -أي: جاهد في سبيل الله تبارك وتعالى- واستشهد عبد الله بن أبي طلحة في الجهاد بفارس.(32/7)
موقف نفيسة بنت الحسن من ظلم الولاة ومناصحتهم
من مواقف النساء المسلمات -أيضاً- في الصبر والجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وقع من السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أقامت بمصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق، وقيل: مع أبيها الحسن الذي عين والياً على مصر من قبل أبي جعفر المنصور وفي ذات يوم هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون، فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا: في الغد.
فكتبت رقعة ووقفت بها في طريقه وقالت: يا أحمد بن طولون.
فلما رآها عرفها فترجل عن فرسه، وأخذ منها الرقعة وقرأها، وكانت قد كتبت له في هذه الرقعة: ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم فعسفتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة، لا سيما في قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] فرجع عن ظلمه لوقته.(32/8)
موقف أم عقيل حين عزيت بموت ولدها عقيل
وحكى -أيضاً- الإمام أبو الفرج بن الجوزي قال: قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم ضالون عن الطريق أتيناكم فأنسنا بكم.
فقالت: يا هؤلاء! ولوا وجوهكم عني حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل.
ففعلنا، فألقت لنا مسحاً -أي: فراشاً- فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني.
ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها، إلى أن رأت شخصاً قادماً من بعيد، فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني وأما الراكب فليس بابني.
فوقف الراكب عليها فقال: يا أم عقيل! أعظم الله أجرك في عقيل.
قالت: ويحك مات ابني؟! قال: نعم.
قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم.
تعني: انزل حتى تؤدي حق الضيافة لهؤلاء القوم.
ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت -أي: لبست مثل العمامة على رأسها- فقالت: يا هؤلاء! هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً؟ قلت: نعم.
قالت: اقرأ علي من كتاب الله آيات أتعزى بها.
قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
قالت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا.
قالت: السلام عليكم.
ثم صفت قدميها وصلت ركعات، ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلاً -تقول ذلك ثلاث مرات- اللهم! إني فعلت ما أمرتني به فأنجز لي ما وعدتني.(32/9)
موقف امرأة عبد الله بن الفرج حين مات زوجها عبد الله
لما مات عبد الله بن الفرج لم تعلم زوجته إخوانه بموته، وكان إخوانه جالسين بالباب ينتظرون الدخول عليه في علته، فلما مات لم تجزع، بل صبرت صبراً عظيماً، حيث قامت وغسلته وكفنته في كساء كان له، ونزعت فرد باب من أبواب بيته وشدته بشريط، ثم قالت لإخوانه: قد مات وقد فرغت من تجهيزه، فدخلوا فاحتملوه إلى قبره، وأغلقت الباب خلفهم.(32/10)
موقف صفية بنت عبد المطلب وصبرها على أخيها حمزة
نذكر صبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم والدة الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وشقيقة حمزة، وأمها هالة بنت وهب خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في أحداث أحد عن بعض الرواة قوله: (خرجت صفية يوم أحد في طليعة النسوة اللواتي خرجن في خدمة المجاهدين ومداواة الجرحى، ولما انهزم المسلمون بعد أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات، سواء أكان النصر أم كان غير ذلك، وانفض أكثر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق حوله سوى القلائل من أصحابه قامت صفية رضي الله عنها وبيدها رمح تضرب به في وجوه الفارين من الأعداء المشركين، وتقول لهم: انهزمتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفق عليها، فقال لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بشقيقها حمزة وقد مثل به، فلقيها الزبير فقال: يا أم! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي.
فقالت صفية: ولم؟! فقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله عز وجل قليل، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى.
وعاد الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال: خل سبيلها، فأتت صفية حمزة فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن).(32/11)
موقف صفية بنت عبد المطلب وشجاعتها يوم الخندق
صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم هي أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين، فإنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخندق جعل نساءه في حصن يقال له: فارع.
فجاء إنسان من اليهود فرقى الحصن حتى أطل على النساء، فقالت صفية بنت عبد المطلب: فقمت إليه فضربته حتى قطعت رأسه، فأخذت رأسه فرميت به عليهم.
حتى توقع الرعب في اليهود.
وفي رواية أخرى: فأخذت عموداً فنزلت إليه حتى فتحت الباب قليلاً قليلاً فحملت عليه بالعمود فقتلته.
فانظر إلى شجاعتها.(32/12)
موقف نساء الأنصار من قتلى أحد وتفضيلهن سلامة النبي صلى الله عليه وسلم
في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد إلى المدينة خرج الناس من المدينة للاستفسار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ذويهم الذين اشتركوا معه في معركة أحد، وكان من بينهم امرأة من بني دينار قتل يوم أحد أبوها وزوجها وأخوها وابنها، فلما نعوا إليها لم تكترث كثيراً، وإنما كانت قلقة على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنساها هذا القلق كل أحد، فكانوا يقولون لها: قتل أبوك.
فتقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويقولون لها: قتل ابنك.
فتقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويقولون: قتل أخوك.
فتقول: ما فعل رسول الله؟ ويقولون: قتل زوجك.
فتقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون لها: خيراً يا أم فلان، فهو بحمد الله كما تحبين.
فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
فلما رأته سالماً قالت: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله.
أي: قليلة وحقيرة في جانب سلامته صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: أن الدينارية هذه جاءت إلى مصارع القوم في المعركة، فمرت بأبيها وابنها وأخيها وزوجها وهم صرعى، وكلما مرت على واحد منهم سألت وقالت: من هذا؟ قيل لها: هذا أبوك هذا ابنك هذا زوجك هذا أخوك.
فلم تكترث، بل صارت تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: هو أمامك.
حتى جاءته، وأخذته بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب.
أي: إذا سلمت فما أبالي بما يصيبني بعد ذلك.
رضي الله تبارك وتعالى عنها.
(وقبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت أم سعد بن معاذ سيد الأنصار رضي الله عنه تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه، وسعد آخذ بلجامها، فقال سعد: يا رسول الله! أمي.
فقال: مرحباً بها، فوقف لها، فلما دنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عزاها بابنها عمرو بن معاذ؛ لأنه استشهد في غزوة أحد وله اثنتان وثلاثون سنة، فقالت: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتريت المصيبة.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل من قتل بأحد وقال لـ أم سعد: يا أم سعد! أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً، فقالت: رضينا يا رسول الله ومن يبكي عليهم بعد هذا؟! ثم قالت: يا رسول الله! ادع لمن خلفوا منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم! أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا).(32/13)
موقف نسيبة بنت كعب في غزوة أحد وما بعدها
وهذه نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله تبارك وتعالى عنها، -وكنيتها أم عمارة - الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية النجارية المازنية المدنية، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكائين.
يقول: الحافظ الذهبي في ترجمتها في سير أعلام النبلاء: شهدت أم عمارة ليلة العقبة وأحداً والحديبية ويوم حنين ويوم اليمامة.
وجاهدت وفعلت الأفاعيل، قطعت يدها في الجهاد رضي الله تبارك وتعالى عنها، شهدت أحداً مع زوجها غزية بن عمرو ومع ولديها، خرجت يوم أحد تسقي الظمأى وتسقي الجرحى، وكانت غرة الحرب وطلعتها للمسلمين، ثم أشاحت بوجهها عنهم فتناوشتهم سيوف المشركين تنهل من نحورهم وتطعن في ظهورهم، فانكشفوا وولوا مدبرين إلا عشرة أو نحوهم وقفوا يدرءون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحولون دون الوصول إليه، هنالك جاء دور نسيبة، فانتضت سيفها واحتملت قوسها، وذهبت تصول وتجول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنزع عن القوس، وتضرب بالسيف، وحولها من الغر المذاويد علي وأبو بكر وعمر وسعد وطلحة والزبير وعباس وولداها وزوجها، فكانت من أظهر القوم أثراً وأعظمهم موقفاً، كانت لا ترى الخطر يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون سداده وملء لهوته، حتى قال: عليه الصلاة والسلام (ما التفت يمينا ًولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني).
وكان ضمرة بن سعيد المازني يحدث عن جدته -وكانت قد شهدت أحداً- أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لمقام نسيبة بنت كعب خير من مقام فلان وفلان).
وكانت تراها يومئذ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً، وكانت تقول: (إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة -تعني أن هذا الكافر ضربها على عنقها ضربة ظلت جرحاً تتداوى منه سنة كاملة- ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى حمراء الأسد.
فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم) رضي الله عنها ورحمها.
تقول أم عمارة: رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بقي إلا في نفير ما يتمون عشرة، أنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً ومعه ترس، فقال: ألق ترسك إلى من يقاتل.
فألقاه فأخذته، فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم إن شاء الله.
تقول: غلبنا من كانوا يركبون الخيول من الكفار، لكن لو كانوا يقاتلوننا على الأرض كما نفعل نحن لأصبناهم إن شاء الله.
فتعتذر عن شدة القتال بأن الكفار كانوا أصحاب خيل.
ثم تقول: فيقبل رجل على فرس فيضربني، وترست له فلم يصنع شيئاً وولى، فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا ابن أم عمارة! أمك أمك، لما وقع ذلك الرجل من الفرس، قالت: فعاونني عليه أي أن ابنها عاونها على ذلك الكافر، تقول: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب)، وشعوب اسم من أسماء الموت كالمنية، أي: أوردته موارد الموت والهلكة.
يقول عبد الله بن زيد: (جرحت يومئذ جرحاً، وجعل الدم لا يرقأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعصب جرحك.
فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقوها، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلم واقف، وبعدما ربطت جرحي قالت: انهض بني فضارب القوم.
وجعل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟! فأقبل الذي جرح ابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ضارب ابنك.
قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى رأيت نواجذه، وقال: استقدت يا أم عمارة -يعني: أخذت القود والقصاص من ضارب ولدك- تقول: ثم أقبلنا نعله بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أظفرك) ويقول عبد الله بن زيد بن عاصم أيضاً: (شهدت أحداً، فلما تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دنوت منه أنا وأمي نذب عنه، فقال: ابن أم عمارة! قلت: نعم.
قال: ارم فرميت بين يديه رجلاً بحجر وهو على فرس، فأصبت عين الفرس، فاضطرب الفرس فوقع هو وصاحبه، فجعلت أعلوه بالحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، ونظر إلى جرح أمي على عاتقها فقال: أمك أمك، اعصب جرحها، اللهم! اجعلهم رفقائي في الجنة.
فبعدما سمع هذا الدعاء قال: قلت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا).
وكان لأم عمارة ولدان: أحدهما: عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الذي حكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قتل يوم الحرة، والثاني: حبيب بن زيد بن عاصم الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام رسولاً إلى مسيلمة الكذاب، فكان مسيلمة يقول له: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول له: لا أسمع.
فيقول: وما تقول في محمد؟ يقول: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقطع جسده عضواً عضواً ليرتد عن دينه، لكنه لم يرتد حتى مات تحت العذاب وهو ثابت على دينه.
وبلغها مقتله فاحتسبته عند الله، وأقسمت أن تقاتل مسيلمة حتى يقتل أو تقتل، فذهبت إلى اليمامة واشتركت في الموقعة التي قتل فيها مسيلمة، وأبلت بلاءً حسناً حتى قطعت يدها، ثم عادت من المعركة بيد واحدة، واستمر جرحها ينزف دماً حتى أدركتها الوفاة رضي الله تبارك وتعالى عنها.(32/14)
موقف أم إبراهيم في دفع ولدها للجهاد والاستشهاد
وحديث النساء المجاهدات يطول جداً، لكن نقتصر نختم بهذه القصة التي رواها صاحب (فكاهة الأذواق من مشارع الأشواق في فضائل الجهاد).
يقول: كان بالبصرة نساء عابدات، وكان منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فانتدب الناس للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد أحد الأئمة البصريين في الناس خطيباً، فحضهم على الجهاد، وكانت أم إبراهيم هذه حاضرة مجلسه، وتمادى عبد الواحد في كلامه مرغباً الناس في الجهاد، ثم ذكر الحور العين وذكر ما قيل فيهن، وكان مما قال في وصف حوراء: غادة ذات دلال ومرح يجد الناعت فيها ما اقترح خلقت من كل شيء حسن طيب فالليث فيها مطرح زانها الله بوجه جمعت فيه أوصاف غريبات الملح وبعين كحلها من غنجها وبخد مسكه فيه رشح ناعم يجري على صفحته نضرة الملك ولألاء الفرح أترى خاطبها يسمعها إذ تدير الكأس طوراً والقدح في رياض مونق نرجسها كلما هبت له الريح نفح وهي تدعوه بود صادق ملئ القلب به حتى طفح يا حبيباً لست أهوى غيره بالخواتيم يتم المفتتح لا تكونن كمن جد إلى منتهى حاجته ثم جمح لا فما يخطب مثلي من سها إنما يخطب مثلي من ألح فماج الناس بعضهم في بعض واضطرب المجلس، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس، وقالت لـ عبد الواحد: يا أبا عبيد! ألست تعرف ولدي إبراهيم ورؤساء أهل البصرة يخطبونه على بناتهم وأنا أضن به عليهن؟ فقد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فكرر ما ذكرت من حسنها وجمالها.
فأخذ عبد الواحد في وصف حوراء ثم أنشد: تولد نور النور من نور وجهها فمازج طيب الطيب من خالص العطر فلو وطأت بالنعل منها على الحصى لأعشبت الأقطار من غير ما قطر ولو شئت عقد الخصر منها عقدته فغصن من الريحان ذي ورق خضر ولو تفلت في البحر شهد رضابها لطاب لأهل البر شرب من البحر يكاد اختلاس اللحظ يجرح خدها بجارح وهم القلب من خارج الستر فاضطرب الناس أكثر، ووثبت أم إبراهيم وقالت لـ عبد الواحد: يا أبا عبيد! قد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فهل لك أن تزوجه منها هذه الساعة وتأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار، ويخرج معك في هذه الغزوة فلعل الله يرزقه الشهادة، فيكون شفيعاً لي ولأبيه في يوم القيامة؟ فقال لها عبد الواحد: لأن فعلت لتفوزن أنت وولدك وأبو ولدك فوزاً عظيماً.
ثم نادت ولدها: يا إبراهيم، فوثب من وسط الناس وقال لها: لبيك يا أماه قالت: أي بني! أرضيت بهذه الجارية زوجة ببذل مهجتك في سبيله وترك العود في الذنوب؟ فقال الفتى: إي والله -يا أماه- رضيت أي رضا.
فقالت: اللهم! إني أشهدك أني زوجت ولدي هذا من هذه الجارية ببذل مهجته في سبيل الله وترك العود في الذنوب، فتقبله مني يا أرحم الراحمين.
ثم انصرفت فجاءت بعشرة آلاف دينار وقالت: يا أبا عبيد! هذا مهر الجارية تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله تعالى.
وانصرفت فابتاعت لولدها فرساً جيداً، واستجادت له سلاحاً، فلما خرج معه عبد الواحد خرج إبراهيم يعدو إلى الجهاد، والقراء حوله يقرءون: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
قال: فلما أرادت فراق ولدها دفعت إليه كفناً وحنوطاً.
-والحنوط: الطيب الذي مع الكفن- وقالت له: يا بني! إذا أردت لقاء العدو فتكفن بهذا الكفن وتحنط بهذا الحنوط، وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمته إلى صدرها وقبلته بين عينيه، وقالت له: يا بني! لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة.
قال عبد الواحد: فلما بلغنا بلاد العدو ونودي في النفير وبرز الناس للقتال برز إبراهيم في المقدمة، فقتل من العدو خلقاً كثيراً، ثم اجتمعوا عليه فقتل.
قال عبد الواحد: فلما أردنا الرجوع إلى البصرة قلت لأصحابي: لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها حتى ألقاها بحسن العزاء؛ لئلا تجزع فيذهب أجرها.
قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقوننا، وخرجت أم إبراهيم فيمن خرج.
قال عبد الواحد: فلما نظرت إلي قالت يا أبا عبيد! هل قبلت مني هديتي فأهنأ أم ردت علي فأعزى؟ فقلت لها: قد قبلت هديتك، إن إبراهيم حي مع الأحياء يرزق.
قال: فخرت ساجدة لله شكراً وقالت: الحمد لله الذي لم يخيب ظني وتقبل نسكي مني.
وانصرفت، فلما كان من الغد أتت إلى مسجد عبد الواحد فنادت: السلام عليك يا أبا عبيد! بشراك، فقلت: لا زلت مبشرة بالخير.
فقالت له: رأيت البارحة ولدي إبراهيم في روضة حسناء وعليه قبة خضراء وهو على سرير من اللؤلؤ وعلى رأسه تاج وإكليل وهو يقول: يا أماه! أبشري فقد قبل المهر وزفت العروس.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(32/15)
أهمية الوقت
إن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان نعمة الفراغ، وكثير من الناس مغبون في هذه النعمة التي لا يمكن أن تستوعب وصفها الأقلام والكتب؛ ولذلك أقسم الله بأجزاء من الوقت في غير ما آية من القرآن الكريم.
فالعاقل من عرف شرف زمانه، وانقضاء أيامه، فدفعه ذلك إلى استغلال وقته بأحسن ما يمكن من الأعمال، وأفضل ما يستطيعه من الطاعات والقربات.(33/1)
قيمة الوقت في حياة المسلم
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فأعظم ما يؤثر في الإنسان بيئته، ولا يرتفع تأثير البيئة عن الإنسان إلا بعامل أقوى، وهو عامل (العقيدة) أو (الدين)، فأقوى ما يؤثر في الإنسان الوسط أو الجو الفكري أو البيئة التي يعيش فيها.
فالبيئة إن شاع فيها النظام التزم الجميع بالنظام، وإن شاعت فيها الفوضى فالأمر كذلك، والعامل الأقوى من تأثير البيئة، وهو العامل الوحيد الذي يلغي تأثير البيئة ويسيطر على الإنسان: هو عامل العقيدة، فالعقيدة هي التي تقضي على التأثيرات المنحرفة لهذه البيئة.
هذه المنطقة التي تضم الأمة الوسط -وهي الأمة الإسلامية- شرقاً وغرباً، يذكر المؤرخون أنها عُرفت بالفوضى والتخلف والجهل، ولم يرتفع شأنها، ولم يكن لها ذكر إلا بتأثير العامل الأقوى من البيئة وهو عامل العقيدة، حينما أنزل الله عز وجل هذا الكتاب الذي قال فيه سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10].
فالقرآن فيه الرفعة، وفيه الفوز، وفيه القوة، وفيه الكرامة، فلم يزل وصف التخلف والمذلة والفوضى والهمجية عن الأمة التي تعيش في هذه المنطقة إلا حينما بزغ فيها فجر العقيدة والتوحيد، فكانت خير أمة أخرجت للناس.
فهذه سنة الله سبحانه وتعالى في هذه الأمة خاصة، فإنها إذا تخلت عن العقيدة عادت إلى التأثير الأصلي للبيئة، وهو تأثير الفوضى والهمجية والتخلف، ولا يرتفع عنها هذا الوصف إلا بالعودة إلى الإسلام، وليس لها عز في غيره، كما قال عمر رضي الله عنه: إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العز في غيره أذلنا الله.
فإذا ابتغت هذه الأمة النهوض والإصلاح في أي منهج خلاف منهج الإسلام، فاحكم عليه مسبقاً بأنه فاشل، وإلى ضياع، وإلى خراب، وإلى فساد.
فنقدم هذه المقدمة بين يدي هذا البحث، والوقت من الأمور المهمة، إذ إن قيمة الوقت عظيمة، وينبغي معرفة حقيقة الوقت، وخطورته في حياة المسلم، هذه القيمة لو عرفناها حق معرفتها، وقدرناها حق قدرها؛ لاحتجنا إلى أن ترضعها الأمهات مع لبن الأطفال؛ حتى يتشربها الجيل، وتؤسس الأمة على هذا المفهوم الخطير الذي إذا انحرفت فيه كان الخسران، وكان الضياع للأمة، كما نرى الآن في الإحصائيات الأخيرة أن المدة التي يستغلها العامل المسلم في الإنتاج: سبع وعشرون دقيقة في اليوم أي: أقل من نصف ساعة!! فطالما استمرت هذه الأمة بعيدة عن الإسلام فلا يمكن أن تنهض، وهذه العقيدة لا تزعزع ولا تتقلب، وهذه كلها سنن من الله سبحانه وتعالى.
كل منا يمر برحلة على هذه الأرض، يقطع رحلة لابد له منها، هذه الرحلة بدايتها لحظة الميلاد، ونهايتها ساعة الموت ومغادرة هذه الدار إلى الدار الآخرة.
هذا الوقت ما بين ساعة الميلاد وساعة الموت هو العمر هو الزمن هو الدهر هو الوقت الذي خصه الله عز وجل بخصائص وصفات ليست في غيره من الأشياء.(33/2)
خصائص الوقت(33/3)
الوقت من أنفس النعم التي أنعم الله بها على الإنسان
من أراد أن يعرف خطر الوقت وقيمته، فليتخيل رجلاً عاش ستين سنة مثلاً في معاصٍ، وفي فواحش، وفي كبائر، وفي كفر والعياذ بالله! ثم تاب في اللمحة الأخيرة قبل أن تأتيه الغرغرة، ثم قبض من ساعته بعد التوبة النصوح، فإنه بهذه اللحظات القليلة القصيرة التي تاب فيها يغفر له الله ما قد سلف: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، فانظر إلى شرف الوقت وخطورة الوقت! لحظات تاب فيها إنسان فهدمت كل علاقة له بماضيه الطويل في الكفر والفسوق والعصيان.
وهذا يدل على أنه من التقصير في حق الوقت أن نقول: الوقت من ذهب، لماذا؟ لأن الوقت أغلى من الذهب الوقت هو الحياة هو أنفاسك: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] العد: عدد الأنفاس التي قدر لك أنك ستتنفسها من هذا الهواء، فآخر هذا العدد خروج روحك وانقطاع نفسك، وهذا هو العدد الذي يعد لكل منا، وهو مكتوب لكل إنسان بقدره.
فأول خصائص الوقت: أنه أنفس نعمة وأعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على الإنسان، فتراه أرخص ما يكون عند الجهال، وتراه أغلى ما يكون عند العلماء والعقلاء.
وقيمة الوقت قضية تحتاج إلى أن ترضع للأطفال مع لبن الأمهات إذا أردنا الإصلاح فعلاً وأردنا التربية الصحيحة.
هناك لحظتان مما يجسد قيمة الوقت وخطورته: اللحظة الأولى: لحظة الاحتضار حينما يحتضر الإنسان وتخرج روحه ويقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] حينئذ ما من إنسان يأتيه ملك الموت إلا ويود لو أنه يمهل ولو قليلاً حتى يتزود من العمل الصالح، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
اللحظة الثانية التي تتجلى فيها قيمة الوقت وخطورته: حينما يأوي أهل الجنة إلى منازلهم، ويأوي أهل النار إلى منازلهم، ويرتفع صراخ أهل النار: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107].
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: (يا ابن آدم! إنما أنت أيام) أي: لست جسداً قوياً، ولست مالاً، لكنك تساوي أيام، أي: تساوي زمناً وأوقاتاً، ولم يقل: إنما أنت سنوات؛ إشارة إلى قصر العمر، وأنه سرعان ما يمر: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قليلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114].
(يا ابن آدم! إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك) كل يوم ينقص منك، ويقل حظك من الدنيا، ومن هنا فلنا أن نرثي لحال هؤلاء القوم الذين يحتفلون كلما مرت بهم سنة بما يسمى بدعة عيد الميلاد، لا يمكن لمؤمن يؤمن بالقضاء والقدر أن يسمي عيد الميلاد عيداً فضلاً عن أن يحتفل به بالطريقة المعهودة المشابهة لطريقة المشركين؛ لأن المؤمن يصدق بأنه حينما كان جنيناً في بطن أمه، وبعد أن مر عليه في بطن أمه عشرون ومائة يوم يأتيه الملك، فيؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب: هل هو ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟ فيكتب الأجل لكل نفس لها أجل مقدور عند الله سبحانه وتعالى منذ الأزل.
فكل إنسان له كمية من الأيام، وكمية من العمر، وعدد محدود من الأنفاس، فكل زفير وشهيق معدود، وكل إنسان له رزق مقسوم من هذه الحياة، وكلما امتد العمر كلما نقصت هذه الكمية التي أحصاها الله سبحانه وتعالى من الأنفاس، ولا ندري نحن بحقيقتها.
فأنت بتقدم السنوات تزداد اقتراباً من القبر، وفي الحقيقة عمرك ينقص وليس يزيد؛ لأنك تؤمن بالقدر، وتصدق خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما مضى يوم كلما ذهب بعض منك، وكلما نقص عمرك كلما زاد اقترابك من حفرتك.
ولكي ندرك قيمة الوقت، علينا أن نتأمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في يوم الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئاً من أمر الدنيا أو الآخرة إلا أعطاه إياه)، والقول الراجح الذي يدل عليه الحديث أنها آخر ساعة بعد صلاة العصر، وهي ساعة قصيرة قبل غروب الشمس يوم الجمعة.
من يستطيع أن يعيد لحظات من هذا اليوم الذي انصرم؟ ما ولى لا يمكن أن يعود، وهذا يؤكد خطورة الوقت، وأهمية المحافظة على الوقت.
سمعنا كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى الذي عاصر كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال فيه بعض السلف: ذلك الرجل الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء! مع أنه من التابعين، لكنه آتاه الله الحكمة، قيل: إن سبب ذلك أنه رضع من أم سلمة رضي الله تعالى عنها؛ فكلامه يشبه كلام الأنبياء، حتى إن كثيراً من الناس يحفظون عبارات يظنونها أحاديث وما هي إلا عبارات نطق بها الحسن البصري رحمه الله تعالى.
قال الحسن: أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه! كانوا يبخلون بالوقت أكثر مما يبخلون بالدرهم والدينار؛ لأن العمر إذا ضاع فات ولن يعوض، والدرهم إذا ارتحل يوماً يمكن أن تعوضه في يوم آخر.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يداً ولم أقتبس علماً فما ذاك من عمري فهذا اليوم الذي لم أجد فيه قرباً من الله، ولم أصنع يداً أو معروفاً، ولم أكتسب فيه علماً جديداً، فلا يحتسب ذلك اليوم من عمري!! وكان الوزير ابن هبيرة -وهو شيخ الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى- يقول: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيعُ إذاً: أول خصيصة من خصائص الوقت: أنه من أعظم النعم التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على الإنسان؛ لأن الوقت هو الحياة.(33/4)
الوقت ما مضى منه لا يعود
يقول الحسن البصري: ما من يوم ينشق فجره إلا ينادي: يا ابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة.
ومما ينبغي التنبه له: أن مجرد اشتغالك بالندم على وقت ضيعته من قبل، يعتبر تفويتاً للحظة الحاضرة التي أنت فيها، فلا ينبغي أصلاً أن تنشغل بالندم على وقت فات، بل عمِّر هذا الوقت بالأعمال الصالحة، والتزود للمعاد.
قال الإمام الهروي في ذكر أنواع الغيرة: منها: الغيرة على وقت فات، فيتذكر وقتاً ضاع منه في اللهو في العبث في الإفراط؛ فيضيع لحظته الحاضرة في التندم والتأسف على اللحظة الفائتة، فهذه غيرة قاتلة، فإن الوقت سريع التقدم -أي: سريع الانقضاء- أبي الجانب، بطيء الرجوع.
فمن فاته وقت لا يمكنه استدراكه البتة؛ لأن الوقت الآتي لن يجيء بدون واجبات، فكلما أتى وقت جاء معه عمله الخاص، فإذا فاتتك اللحظة الماضية فلا سبيل إلى تداركها، كما جاء في المسند مرفوعاً -وإن كان الحديث ضعيفاً-: (من أفطر يوماً من رمضان متعمداً من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر وإن صامه).
ومما ثبت في نفس هذا المعنى قول أبي بكر رضي الله عنه لـ عمر رضي الله عنه حين استخلفه: إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، ولله حق في الليل لا يقبله في النهار.
وقال عمر رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.
بعض الناس يقول: نحن نقتل الوقت! هو في الحقيقة يقتل نفسه هو ينتحر انتحاراً بطيئاً دون أن يشعر! يقول بعض الشعراء: وما المرء إلا راكب ظهر عمره على سفر يفنيه باليوم والشهر يبيت ويضحي كل يوم وليلة بعيداً عن الدنيا قريباً من القبر(33/5)
من خصائص الوقت: سرعة انقضائه
يقول بعض الشعراء: مرت سنين بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيامُ ثم انثنت أيام هجرٍ بعدها فكأنها من طولها أعوامُ ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلامُ! فما دام الموت نهاية كل حي، فمهما طال عمر الإنسان فهو قصير، فإن البعيد ما ليس بآتٍ، لكن كل ما هو آتٍ فهو قريب، يقول بعضهم: وإذا كان آخر العمر موتاً فسواء قصيره والطويلُ ومما يروى في الآثار: أن نوحاً عليه السلام أتاه ملك الموت، فقال له: يا أطول الأنبياء عمراً -عاش ألف سنة- كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر!! يقول الله عز وجل -مشيراً إلى سرعة انقضاء الوقت-: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46]، كل عمر الدنيا هذا كأنه عشية أو ضحاها!! ويقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45].
فالمقصود: أن هذه الخصائص المهمة للوقت لابد من تذكرها، وعدم الالتفات إلى قول البعض بأنهم يقتلون الوقت، وما هو إلا انتحار بطيء كما ذكرنا.
وأيضاً: لابد أن ننتبه إلى أنه لا يوجد شيء اسمه فراغ؛ لأن الفراغ لا يبقى فراغاً، لكنه لابد أن يملأ بخير أو بشر، ويوضح هذا قول الحسن البصري: نفسك إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل.
فإذا كان هناك إنسان فارغ فلابد أن ينشغل، فإن لم يبادر ويشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل.
قال بعض السلف: الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غلمة، أي: يحرك الشهوات.
وقال بعضهم: إن الشباب والفراغ والجِدَة مفسدة للمرء أي مفسدة فهذه معادلة، ومعنى الجدة أي: توافر المال ويسر الحال، فهذه الأمور الثلاثة تساوي: مفسدة للمرء أي مفسدة.
وقال آخر: لقد هاج الفراغ عليه شغلاً وأسباب الفراغ من البلاءِ أي: تسبب له في أن تعلق قلبه بالشهوات وأحلام اليقظة!(33/6)
الوقت في القرآن والسنة(33/7)
الوقت في القرآن الكريم
نقف مع بعض النصوص التي تبين قيمة الزمن، من القرآن ومن السنة: يقول الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:12]، وقال عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33]، وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12]، وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] (خِلْفة) أي: يخلف أحدهما الآخر، فمن فاته عمل في أحدهما حاول أن يتداركه في الآخر، هذا هو المقصود من كلمة: (خلفة) أي: يخلف الليل النهار، ويخلف النهار الليل، بحيث من فاته عمل الليل حاول أن يتداركه ويعوضه في النهار، وهكذا.
أيضاً: معلوم أن الله سبحانه وتعالى إذا أقسم بشيء من خلقه، فإنما يقسم سبحانه به ليلفت نظر الخلق إلى أهمية هذا الشيء، وينبههم على منفعته وآثاره، فأقسم الله سبحانه وتعالى بأزمان وبأوقات معينة؛ ليدل على شرف هذا الزمان؛ لأنه آية من آيات الله، ونعمة من نعم الله على الإنسان، قال سبحانه وتعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، فأقسم الله بالفجر وليال عشر، وهذه أزمنة وأوقات.
وقال سبحانه وتعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2].
وقال عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2].
وأقسم سبحانه وتعالى بما هو أعم من ذلك، وهو العصر (الزمن والدهر)، فقال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فالمقصود بالعصر هنا: الدهر أو الزمن؛ وذلك لشرفه وقيمته، فالله سبحانه وتعالى يقسم بالعصر؛ لأنه لا شيء أنفس من العمر، وفي تخصيص القَسَم بالعصر إشارة إلى أن الإنسان يضيف المكاره والموارد إليه، وبعض الناس حينما يسبون الدهر يقولون: يا خيبة الدهر! يا ويل الدهر! فالله سبحانه وتعالى يقسم به ليبين أن العيب فيكم، ويحل بكم العقاب بسبب أعمالكم أنتم، وليس للدهر شأن في ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر).
فالمقصود: أن الله أقسم بالدهر؛ ليبين شرفه ومكانته، وأنه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى وآياته، فمن ذم الدهر فلتفريطه في جنب الله، وليس لأن الدهر هو السبب في ذلك.
يقول الإمام الرازي في هذه الآية: إن الدهر مشتمل على الأعاجيب؛ لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، فلو ضيعت ألف سنة، ثم تبت في اللمحة الأخيرة من العمر لكنت في الجنة أبد الآباد! فعلمت حينئذ أن أشرف الأشياء حياتك في هذه اللمحة، فكان الدهر والزمان من أعظم النعم.
جاء في الحديث الصحيح: أن مشركاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وشهد الشهادتين، ثم لم يلبث أن نودي للجهاد، فخرج في الغزوة فقتل فدخل الجنة، فهذا رجل امتد عمره في الشرك والكفر، فأتى تائباً وأسلم، وشهد الشهادتين، ولم يُصلّ حيث لم يأت عليه وقت صلاة؛ لأنه أسلم منذ لحظات، فبمجرد أن أسلم خرج للجهاد، فقتل في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً).
فهذا العصر وهذا الزمن بمضيه ينتقص العمر، فإن لم يكن في مقابله انتقاص العمر كسب وأعمال صالحة، صار ذلك النقصان هو عين الخسران!! ولذلك قال سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، فالأصل أن كل بني آدم خاسرون، واستثنى هؤلاء الطائفة المهدية: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
وهناك آيات أخر تؤكد هذا المعنى، ومنها قول الله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} [فاطر:37]، وذلك حينما يتمنى أهل النار الخروج كما قال الله عنهم: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيجيبهم الله بأنه امتن عليهم بنعمة العمر ونعمة الوقت، ولكنكم ضيعتموها: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]، وقال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، لكنه يقين لا يفيد، ولات حين مندم.
وقال عز وجل: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:52]، كيف إذا أتاهم الموت يطلبون الإيمان، ويقولون: آمنا؟! فهم كحال الشخص الذي يتناول شيئاً من مكان بعيد، فهل يقع في يده وهو بعيد عنه؟! كذلك هُم بعيدون من التوبة، وبعيدون من الإيمان في مثل هذا الموقف، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] ليس المقصود: ما يشتهون من الشهوات، والأطعمة، والأشربة، والأنكحة، ونحو هذه الأشياء!! لكن المقصود أنه في حالة احتضار الكفار حيل بينهم وبين ما يشتهون من التوبة، ومن الرجوع ليستدركوا ما فاتهم.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54]، فالدنيا دار امتحان، والآخرة دار ظهور نتائج، فالإنسان في هذه الدار في حالة امتحان، وكل إنسان آتاه الله سبحانه العقل، وفطره على الإسلام، وقد أقام الله في السماوات والأرض آيات وبراهين واضحة على وحدانيته سبحانه وتعالى، وأرسل الله الرسل، وضمن للعباد ألا يعذبهم حتى يأتيهم الرسل، فجاء الرسل: {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، ومع ذلك غرتهم الحياة الدنيا، وفرحوا بما عندهم من العلم، فهم {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظريّ جوّاظ، صخّاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)، وهذا حال أكثر الناس في هذا الزمن، قد اغتروا بما لديهم من قوة، ومن علم، ومن بيوت، ومن أموال، ونسوا هذه الحقيقة، ونسوا ما ينتظرهم من الحساب، وهؤلاء أنفسهم سوف يصطرخون إن لم يتوبوا ويقولون: (ربنا أخرجنا)، ويقولون: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:102]، فيجابون: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
ومن شرف الوقت أن السعداء -أهل الجنة- يقطفون ثمرة الوقت، ثم يقال لهم في الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]، وتأملوا كلمة: (الأيام) فهي الوقت والزمان الذي تعيشون أنتم فيه الآن.
أما الأشقياء فيقال لهم في النار: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75].
من أجل ذلك أمر الله المؤمنين بالتنافس في هذا المضمار، والمسابقة والمسارعة في الخيرات؛ لأن الإنسان يجري والموت يجري وراءه، ولابد أن يدركه كما في الحديث: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من أجله لأدركه رزقه كما يدركه الموت).
فأجلك يعدو خلفك، وسيلحقك في موعد محدد، لا يفرق بين جنين في بطن أمه، ولا يفرق بين صبي لم تكتب عليه خطيئة، ولا بين شيخ وشاب، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين مسلم وكافر، ولا بين صالح وطالح: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11].
فمن أجل ذلك، ومن أجل خطورة الوقت، كان التعبير دقيقاً في هذه الآيات التي نتلوها، قال الله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، انظر كلمة: الاستباق: (فاستبقوا الخيرات) أي: ابذلوا أقصى ما في وسعكم لتحصيل ما أمكنكم من الخيرات.
ويقول الله عز وجل في مدح الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90].
ويقول عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50].
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وليس المقصود الجري، إنما المقصود: المسارعة إلى الأعمال الصالحة، أما في الأمور المضمونة كالرزق، فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]، وأما في أمور الآخرة فقال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، وقال سبحانه وتعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأ(33/8)
الوقت في السنة النبوية
الأدلة من السنة كثيرة على أهمية الوقت، ومنها ما رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء) أهل الجنة في النعيم، والسلامة من التنغيص والآلام والنكد، فما هو الشيء الوحيد الذين يتحسرون عليه؟ يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء، إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -أي: نخلة صغيرة- فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل) هل هناك دليل يدل على عظمة الوقت أكثر من هذا؟ حتى لو أذن الله بخراب الدنيا وقيام الساعة، وبدأ إسرافيل بالنفخ في الصور ليقضي على كل مظاهر الحياة في الكون، فمع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يقوم بحق الوقت الحاضر، ويعيش اللحظة الذي هو فيها، ويقطع النظر عن الماضي، فلا يفوت وقته الحاضر بالتندم والتحسر على الماضي، ويقطع نظره أيضاً عن المستقبل، حتى لو كان هذا المستقبل لحظة، أو جزءاً يسيراً جداً من اللحظة يوشك بعده أن تقوم الساعة وينفخ في الصور.
وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غداً، فقال له عمر: أعزم عليك لتغرسنها -يعني: أحلف عليك لابد أن تحرث الأرض وتزرعها-، يقول: فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي.
ويحكون عن كسرى فارس أنه خرج يوماً يصطاد، فوجد شيخاً كبيراً يغرس شجر الزيتون -وشجر الزيتون يثمر بعد ما يقارب ثلاثين سنة-، فوقف عليه وقال له: يا هذا! أنت شيخ هرم، والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة، فلم تغرسه؟ فقال: أيها الملك! زرع لنا من قبلنا فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا ليأكلوا! فحتى لو كنت أنت لم تحصد هذه الثمرة، فكما حصدت ثمرة من غرس من قبلك، فاغرس لمن بعدك.
وقصة عمر رضي الله عنه في قصته مع خزيمة بن ثابت رضي الله عنه تبين لنا خطورة الزمن والوقت.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة) أي: لا ينطلق من بين يدي الله سبحانه وتعالى إلا بعد الحساب، إذ لابد لكل إنسان أن يحاسب، ويسأل أسئلة إجبارية وليست اختيارية: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به).
فتأمل! أربعة أسئلة إجبارية، منها سؤالان في مادة الوقت في مادة الزمن: (عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) مع أن الشباب يدخل في العمر! لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم الشباب؛ لما له من قيمة متميزة، باعتباره سن الحيوية، وسن القوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة.
فالشباب هو سنّ الثبات، وسنّ العمل، وسن التحصيل، بعكس ما يفهم بعض السفهاء في هذا الزمان، فيقول: تمتع بشبابك! أنت ما زلت في مقتبل العمر! وإذا أردت أن تمنع نفسك من اللهو، والفسق، والمعاصي المنتشرة قال لك: أنت ما زلت شاباً! ويقال للمرأة: تحجبي، فتقول: أنا ما زلت صغيرة! ما زلت شابة! حتى أكبر! مع أن المرأة العجوز لا تشتهى، ولا يسمع في الغالب أنها تفتن أحداً، فكأنهم قلبوا معنى الآية، وهذا من تلبيسات الشيطان على الناس.
وبعض الناس يقول: ساعة لقلبك، وساعة لربك! فعندهم: ساعة لربك أي: نعبد ربنا، ونصلي، ونفعل ما علينا!! وساعة لقلبك، أي: يعصي الله فيها! فكأنها نوع من المعادلة، فيقسمون الوقت ساعة لربهم، وساعة لشيطانهم! فمن تلبيس الشيطان على الناس أن يظن بعضهم أن فترة الشباب فترة العبث واللهو، وبعدما يعجز يتوب!! يقول بعض الشعراء: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما صنع المشيبُ عبر بـ: (ليت) التي فيها تمني المستحيل؛ لأن (كل داء أنزله الله له دواء إلا الهرم) أي: الشيخوخة، فلا يعود الشباب أبداً، فهذه أعظم فرص التحصيل، وهي فرصة الشباب، وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شباباً؟ {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83] يعني: ذرية من الشباب، وأصحاب الكهف كانوا من الشباب: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف:10]، وتقول حفصة بنت سيرين رحمها الله: يا معشر الشباب! خذوا من أنفسكم وأنتم شباب؛ فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.
الطفل لا يعمل، والعجوز لا يقوى على ما يقوى عليه الشباب.
ومن الأحاديث التي تبين قيمة الوقت: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، والغبن: أن يشتري الإنسان السلعة بأضعاف الثمن، أو يبيع بدون ثمن المثل، فالإنسان إما بائع أو مشتري، فإذا اشترى شيئاً بأضعاف ثمنه الحقيقي فقد غبن، وإذا باع شيئاً بأقل من سعر المثل فقد غبن، أي: في الحالتين تحصل خسارة.
فهاتان نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، إذ إن رأس مال الإنسان في هذه الدنيا أمران: الصحة، والفراغ -الوقت-، فالصحة ضيف عابر يعقبها السقم، والفراغ يعقبه الشغل، فمن جمع الله له هاتين النعمتين فوضعهما في موضعهما فهو المغبوط على هذا، وإلا فهو المغبون مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) أي: أدرك هذه الغنيمة، ولا تدعها تهرب منك؛ فإنها ضيف عابر ينزل عليك ثم سرعان ما يخلفه غيره: (شبابك قبل هرمك)، فاغتنم شبابك؛ لأنه وقت الطاعات، ووقت تحصيل الأعمال، (اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة) رواه البخاري، الإعذار: إزالة العذر، والمعنى: أن هذا الشخص لم يبق له عذر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمهله، أنت كلما نمت واستيقظت هذه نعمة؛ لذلك كان عليه الصلاة والسلام أول ما يستيقظ يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ويقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافني في جسدي، وأذن لي بذكره)، فهذه الروح تخرج عند النوم، لأن النوم أخو الموت، وهو الموتة الصغرى، فتخرج هذه الروح من البدن بكيفية معينة الله يعلمها، فأنت في حالة النوم ميت، فالنوم شقيق الموت، فإذا خرجت روحك فمن يعيدها إليك؟ الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الله يمن عليك كل يوم بأن يرد إليك روحك ليمهلك، ويستعتبك، ويعطيك فرصة، فمن أعظم النعم أنك ترى نفسك في الصباح ما زلت حياً، فهذه فرصة جديدة تفتح لك الأبواب: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار)، فنعم الله سبحانه وتعالى لا تنفد، ونعمه على العباد لا تنقطع، ولا تعد ولا تحصى، فهذه من أعظم النعم عليك؛ لأنه كان من الممكن أن يأخذ روحك، وما أكثر ما نسمع عن إنسان نام فلم يقم!! تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر فكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري فهذا الحديث مما يبين خطورة الوقت؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا أمهل الإنسان، ومد له في عمره حتى بلغه ستين سنة، فليس له عذر عند الله، ولم يبق له أي موضع اعتذار إذا تمادى في المعاصي، (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة).
ولعل هذه هي الحكمة من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك) (أعمار أمتي) أي: أغلب هذه الأمة أعمارها تكون بين الستين والسبعين، (وأقلهم من يجوز ذلك)، فهذه من منن الله على هذه الأمة أن يمهل لهم، ويمد لهم في الأجل حتى يتوبوا.
ومما يبين قيمة الوقت أيضاً من السنة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مر مع الصحابة رضي الله عنهم على قبر، فوقف، وقال لهم: ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدهما هذا في عمله، أحب إليه من بقية دنياكم)، (ركعتان خفيفتان مما تحقرون) تصلي ركعتين وتقول: هذه طاعة يسيرة (مما تحقرون وتنفلون) أي: نافلة وسنة، (يزيدهما هذا الرجل في عمله) أي: يتمنى لو يخرج إلى الدنيا فقط ليصلي ركعتين، ويعاد في القبر، يتمنى أن ينتهز هذا الزمن اليسير -خمس أو ثلاث دقائق- ليصلي ركعتين، وهذا أحب إليه من بقية دنياكم.
ولما بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده من الجريد وسعف النخل، قيل له: (يا رسول الله! هلا اتخذت لبناً؟ -أي: هلا بنيت المسجد من الطوب؟ - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عريش كعريش موسى، ثمام وخشبات، والأمر أعجل من ذلك)!! وقال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) (أدلج) يعني: مشى بالليل، كان الناس من قبل يسافرون على الدواب والجمال والخيول ونحوها، فكان إذا خاف الإنسان ألا يصل إلى البلدة التي يسافر إليها في الموعد، فلا ينام بالليل، ويظل يدلج، أي: يسير في الليل.
فيقول النبي عليه الصلاة وا(33/9)
أسباب ضياع الوقت(33/10)
فضول المجالسة والمخالطة
فضول المجالسة والمخالطة، مثل ما يسمى بجلسات الدردشة، والآن التجارة يكاد يحتكرها النصارى، فكثير من المسلمين اليوم يقضون وقت فراغهم في أكل اللب الأصفر والأبيض والأحمر والحمص وهذه الأشياء التي تسمى تسالي، لا داعي للب وللحمص، هذه الأشياء عدوة الذكر، عدوة العلم، أنا ما أقول: إنها حرام، لكننا نستسهلها لأننا نعيش في فراغ، ولو أن الإنسان قرأ في جلوسه آية من القرآن لكان خيراً له، فالحرف الواحد بعشر حسنات.
إذاً: هذا عمى في البصيرة، وقلة تفكر، ومن كان هذا حاله فإنه لا يفقه ولا يعقل، إذ كيف يضيع الساعات الطوال في سهرات أمام التلفزيون، ويقول لك: نقتل الوقت؟! وكذلك: الولائم الدعوات السياحة السفر كل هذه الأشياء يقتلون بها الوقت!! وما يقتلون إلا أنفسهم وما يشعرون! فضول المجالس مما يفسد الوقت، قال بعض السلف: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب.
كيف كان احترام السلف للوقت؟ سنعجب إذا ذكرنا نماذج من ذلك، فلقد أصبحنا غرباء عنها تماماً.
كان بعض العلماء إذا خرج إلى الخلاء أعطى ولده الكتاب، ويقول له: اقرأ علي.
فيتعلم حتى في أثناء جلوسه في الخلاء؛ لأنه يحرم عليه أن يذكر الله وهو في الخلاء، فيجعل ولده يقرأ له حتى لا يضيع هذا الوقت!! الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا خرج من الخلاء: (غفرانك)، ماذا قال العلماء في تفسيرها؟ قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم تمنعه هذه الحالة من الاستغفار، وتمنعه من ذكر الله سبحانه وتعالى، وقد كان يداوم على الذكر في كل آناء الليل وأطراف النهار، فلما انقطع لسانه عن الذكر في هذه الحالة عدّ هذا من التقصير في جنب الله، فجبرها حينما خرج بقوله: (غفرانك) أي: اغفر لي هذا الانقطاع عن ذكرك في هذه اللحظات! فمن فضول المخالطة أن تعتكف في مجالس الدردشة على اللهو، والعبث، والفسق، والغيبة، والنميمة، وكل هذا الباطل الذي يقضي على الفراغ، وينبغي للمسلم ألا يكون عنده شيء اسمه: فراغ؛ لأنك إن لم تشغل نفسك بالحق ستشغلك نفسك بالباطل.
يقول بعض السلف: شتان بين أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين أقوام أحياء تموت القلوب برؤيتهم.
فهناك قوم موتى قد دفنوا في التراب: من الصحابة من العلماء من السلف رضي الله عنهم، إذا ذُكروا تحيا القلوب بذكرهم وهم أموات!! وقوم أحياء تموت القلوب بمخالطتهم.
ففضول المخالطة والهمجية في تضييع الوقت في مجالس الدردشة، والتسلية، والفكاهات، والنوادر، والمسرحيات، وغيرها؛ كل هذه الأشياء -حتى لو افترضنا أن فيها أشياء مباحة- من الخسران، فما بالك إذا انضم إليها الفساد، والفسق، والعصيان؟!(33/11)
فضول الكلام
فضول الكلام من أعظم ما يضيع الوقت، فإذا كانت الحاجة تنتهي بشيء يسير من الكلام، فلا داعي لإطالة الكلام، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).(33/12)
فضول الطعام
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فالمؤمن يأكل من أجل أن يعيش، أما الكافر فيعيش ليأكل! ولو اطلعت على الكتب المتخصصة في كيفية صناعة الأطعمة، سترى الذين يعيشون للدنيا، عالمون بأمر الدنيا، جاهلون بأمر الآخرة: {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، تجد كل همه في الشهوات، والطعام في ذاته مجرد شهوة من الشهوات، فيعيش ليتنعم، ويعتبر التأنق في الطعام لذة من اللذات، فهمه أن ينظر إلى منظر الطعام، وهو مرتب بطريقة معينة بألوان معينة، وكأنه يعيش من أجل أن يأكل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد:12]، كما تأكل الأنعام لتسمن {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] لتأكل أجسادهم.(33/13)
الانشغال بالمفضول عن الفاضل
لابد من معرفة مراتب الأعمال، فهناك أعمال لها مراتب، فهناك فاضل، وهناك مفضول هناك فرض، وهناك نفل، فمن التضييع والخسران أن الإنسان يشتغل بالعمل المفضول عما هو أفضل منه من الأعمال الصالحة، فهذا يحتاج لفقه دقيق في تحديد وظيفة الوقت.
يقول الله عز وجل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، كلمة: (أحسنه) إشارة إلى هذا المعنى، وهو تقديم الفاضل على المفضول من الأعمال.
يقول بعضهم: وإذا طلبت العلم فاعلم أنه حمل فأبصر أي شيء تحملُ وإذا علمت بأنه متفاضل فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل ومما ورد في السنة من بيان قيمة الوقت وخطورته حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعاً يتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته؛ فقال: ذكرت شيئاً من تبر عندنا -أي: قطع من الذهب من مال الصدقة- فكرهت أن يحبسني فأمر بقسمته)، يعني: خشيت أن يشغلني الفكر فيه عن الإقبال على الله عز وجل، فانظر كيف تعجل النبي صلى الله عليه وسلم إبراء ذمته من هذا المال؟! وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)، وهذه أيضاً مبادرة، خشية حضور الأجل، وانقطاع العمر.(33/14)
التسويف
التسويف من آفات الوقت، وثمنه فادح، وهنا قاعدة: الأصل أن العمل المؤجل ضائع! فهذه قاعدة في أي مسلك يسلكه الإنسان، فالعمل المؤجل ضائع في الأصل، فالعاقل لا يؤجل العمل مطلقاً إلا عند الضرورة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(33/15)
صفة الجنة والنار
لقد أمر الله الناس بالإيمان، ووعدهم على ذلك بالجنة، وحذرهم من الكفر والعصيان، وتوعدهم إن خالفوا شرعه بالنار، وقد جاءت في الكتاب والسنة نصوص كثيرة تصف النار وما أُعد لأهلها من عذاب وأهوال؛ حتى يفزع الناس منها إلى الطاعة، كما جاءت نصوص كثيرة في وصف الجنة وما أعد الله لأهلها؛ حتى يدفع بالناس إلى المسارعة في الخيرات.(34/1)
الإيمان بالجنة والنار وما يتعلق بهما
الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا سدى، وإنما خلق كلاً منا لإحدى الدارين، ويستقر في أحد المستقرين، إما في جنة عرضها السماوات والأرض، وإما في نار أعدت للكافرين.
التفكر في المستقبل دائماً يشغل بني آدم في فترة تواجدهم المحدودة في هذه الحياة الدنيا، لكن المؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: (كيس فطن)، ومن كياسة المؤمن وفطانته أنه دائماً ينظر إلى المستقبل الحقيقي والنهاية الأبدية في جنة الرضوان، فهذا هو هدف المؤمن وهذا هو مستقبله، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان الستة حينما سأله جبريل عليه السلام: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى).
فأحد أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، واليوم الآخر يشمل الإيمان به عدة أمور لابد أن تجتمع في قلب كل مؤمن حتى يصح أن يوصف بأنه مؤمن بالله واليوم الآخر، فإن اليوم الآخر من الغيب الذي مدح المؤمنون بالإيمان به، ولا يمكن الإيمان بهذه الغيبيات إلا أن تكون صحيحة، ولا تكون صحيحة إلا بنسبتها إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فيدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالقيامة الصغرى في حق كل إنسان وهي الموت، فمن مات قامت قيامته، وكذلك التصديق بأشراط الساعة، وبعلامات القيامة الكبرى والصغرى، فمن العلامات الكبرى خروج المسيح الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وخروج المهدي ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من المغرب إلى آخر العلامات المعروفة.
ثم تأتي نفخة الصعق ونفخة الفزع حيث تنتهي بها الحياة على وجه هذه الأرض، ثم يكون بعد ذلك ما شاء الله أن يكون، ثم تنفخ نفخة البعث والنشور، وتبدأ مرحلة أخرى من الإيمان باليوم الآخر، هذه المرحلة هي الإيمان بالقيامة الكبرى، وتفاصيل ما يحدث من حشر الأجساد والميزان والمرور على الصراط والشفاعة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والورود على الحوض لأتباعه ومحبي سنته إلى آخر التفاصيل التي تقع في يوم القيامة الكبرى.
ثم ينتهي يوم القيامة الكبرى بانتقال الناس إلى أحد الدارين، فأما الذين سبقت لهم من الله سبحانه وتعالى الحسنى فأولئك يبعدون عن النار {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، وأما الآخرون فيساقون إلى الجحيم والعياذ بالله.
وحتى يصح أن نكون مؤمنين بالجنة والنار لابد أن نعرف تفاصيل الحياة في الجنة والنار كما أخبر بها الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.(34/2)
أوصاف النار
النار هي الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للكافرين، وهي عذاب الله وسجنه الذي يسجن فيه المجرمين، وهي الخزي الأكبر والخسران العظيم، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63]، والنار فيها ما يعجز اللسان عن وصفه من الآلام مع الخلود الدائم بلا نهاية والعياذ بالله، يقول سبحانه وتعالى حاكياً عن حال عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65 - 66].
ويقول سبحانه وتعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص:55 - 56].(34/3)
الجنة والنار مخلوقتان
الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وليس كما يعتقد بعض الضالين المبتدعين أنهما تخلقان وتوجدان يوم القيامة، فمن أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: الاعتقاد بأنهما موجودتان فعلاً الآن، لظواهر كثير من الآيات والأحاديث، مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] يعني: فرغ من إعدادها وفرغ من خلقها، وحديث المعراج فيه ما يكشف هذا المعنى.
وقال سبحانه وتعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، فكلمة (أُعِدَّتْ) ظاهرها أنها مخلوقة وموجودة الآن.(34/4)
خزنة جهنم
خزنة جهنم هم الملائكة الذين يحرسونها، أي: يقفون على أبوابها، ويتولون تعذيب أهلها، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فهؤلاء الملائكة الغلاظ الشداد هم خزنة جهنم.
ويقول سبحانه وتعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:26 - 31].
فخزنة النار هم الملائكة الذين يتولون تعذيب أهلها، وقد اغتر المشركون وظنوا أنه يمكنهم مدافعة هؤلاء الملائكة، فكان هذا الخبر في القرآن فتنة وامتحاناً لهؤلاء الكافرين، فإنه حينما أخبرهم الله سبحانه وتعالى أن النار عليها تسعة عشر ملكاً قالوا: كل واحد منا يتولى قهر ملك من هؤلاء الملائكة، ولا يعلمون أن ملكاً واحداً من ملائكة الله سبحانه وتعالى لا يمكن البشر كلهم مقاومته ومدافعته.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] وفي هذه الآية إثبات أن هناك خزنة لجهنم وهم هؤلاء الملائكة.
{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ومالك عليه السلام هو كبير الملائكة الذين يتولون أمر جهنم والعياذ بالله.(34/5)
سعة جهنم
النار واسعة بعيد قعرها، مترامية أطرافها، والدليل على ذلك أن عدد داخليها لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى، ومع أنهم بهذا العدد الهائل فإن خلق الواحد منهم يتعاظم ويكبر كبراً شديداً حتى يكون ضرسه مثل الجبل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد)، وجبل أحد طوله حوالى ستة آلاف متر! والمسافة بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام بسرعة الجواد، ومع هذا فإن جهنم تتسع لكل هذا العدد من البشر ومن الجن الذين سوف يعذبون فيها وهم بهذه الضخامة في الجثث وفي الحجم، بل يبقى فيها مكان لغيرهم، والدليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول: قط قط بعزتك وكرمك) متفق عليه.
ومما يبين سعة جهنم وعظم خلقها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً مع أصحابه رضوان الله تعالى عليهم فسمعوا وجبة، أي: سمعوا صدى صوت اصطدام جسم شديد فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار إلى الآن) رواه مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو أن حجراً مثل سبع خلفات ألقي من شفير جهنم هوى فيها سبعين خريفاً لا يبلغ قعرها) يعني: يمكث أكثر من سبعين سنة حتى ينتهي إلى قعرها.
ومن الأدلة على عظم خلق جهنم وكبرها -والعياذ بالله تعالى منها- كثرة الملائكة الموكلون بها، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23]، كيف يجاء بجهنم؟ بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك) رواه مسلم في صحيحه.
ومن الأدلة على عظم خلق جهنم: أن الشمس والقمر -وهما مخلوقان عظيمان- يكونان كطبقين في جهنم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة)، هذا وحجم الشمس مثل حجم الأرض مليون مرة، فمع ذلك تكون الشمس والقمر ثورين مكورين في النار يوم القيامة.(34/6)
دركات جهنم
دركات جهنم كثيرة، وقد عدد الله سبحانه وتعالى كثيراً من أسمائها حتى ينبهنا إلى تعداد صفاتها، فمن أسمائها: جهنم ولظى والحطمة والسعير وسقر والجحيم والهاوية، فالنار ليست درجة واحدة، بل هي دركات تذهب سفلاً، كلما نزل في النار سفلاً اشتد عذابها وازداد حرها والعياذ بالله سبحانه وتعالى، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132] يعني: أهل الجنة درجات وأهل النار دركات، ويقول سبحانه وتعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:162 - 163]، فدرجات الجنة تذهب علواً، ودرجات النار تذهب سفلاً.(34/7)
أبواب جهنم
النار لها سبعة أبواب، قال سبحانه وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، ويقول سبحانه وتعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72]، ويقول عز وجل: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] يعني: مغلقة.
والشاهد من هذه الآيات: أن جهنم لها أبواب تغلق وتؤصد وتقفل على أصحابها حتى يحبسوا فيها.
ويقول سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:1 - 9].
وهذه الأبواب تغلق في شهر رمضان، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل رمضان صفدت الشياطين، وفتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار).(34/8)
وقود جهنم
وقود النار الناس والحجارة، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ويقول عز وجل: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، والناس المقصود بهم هنا المشركون الكافرون.
أيضاً: توقد النار بالآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى في الدنيا، يقول الله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99].(34/9)
شدة حر جهنم وعظم دخانها وشررها
من صفات النار شدة حرها وعظم دخانها وشررها، يقول سبحانه وتعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:41 - 44].
فالناس في الدنيا إذا أرادوا أن يتمتعوا بالجو الطيب فغالب عناصر هذه المتعة هي الماء والهواء والظل، فحال أهل النار على الضد من هذا تماماً، فالماء عندهم هو الحميم، وهو الماء الذي اشتد حره، ووصل إلى أقصى الغليان.
أما هواؤهم فهو السموم، وهي الريح الحارة الشديدة.
أما ظلهم فمن يحموم، أي: قطع من الدخان لها ظل، ودخان النار وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله عز وجل: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:30 - 33].
أي أن الدخان الذي يتصاعد من جهنم دخان ضخم جداً يعلو حتى ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
وهذه النار شررها عظيمة، يقول تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] يعني كالحصون الضخمة، أو كالإبل السود: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:8 - 11].
ويقول عز وجل: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:26 - 30].(34/10)
شدة لهيب جهنم وازدياد عذابها مع الوقت
بين النبي صلى الله عليه وسلم شدة لهيب جهنم أعاذنا الله وإياكم منها بمنه وكرمه.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، أي أن نار جهنم ضعف نار الأرض التي نراها الآن سبعين مرة، (فضج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وقالوا: يا رسول الله! والله إن كانت لكافية، فقال صلى الله عليه وسلم: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها) متفق عليه.
ومن صفات نار جنهم أنها لا تخبو مع طول الزمان، فأي نار تشتعل فإنها بعد وقت تنطفئ أو تخف إلا نار جهنم، فإنها بمرور الزمان يزداد لهيبها وشرها، يقول سبحانه وتعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30]، فالعذاب في حالة ازدياد مستمر بمرور الزمن، وتأملوا كلمة (ذوقوا) أي أنه عذاب له طعم! ويقول عز وجل: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97].
ويقول سبحانه وتعالى: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86].
وقال عليه الصلاة والسلام في بيان مواقيت الصلاة: (ثم صلوا فإن الصلاة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصروا عن الصلاة فإنه حينئذ تسعر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلوا).
والشاهد: أن النار كل يوم يزاد في سعيرها ولهيبها.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم) فهذا الحر الذي نلقاه في الدنيا هو نفس من أنفاس جهنم فقط! ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير:12] يعني: أوقدت وأحميت.(34/11)
النار تسمع وتبصر وتتكلم
النار خلق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى يعلم تفاصيله الله سبحانه وتعالى {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقد أخبرنا الله عز وجل أن النار مخلوقة تبصر وتتكلم وتشتكي: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87].
فالنار حينما ترى أهلها قد أقبلوا عليها من مكان بعيد تطلق الأصوات المرعبة التي تدل على شدة حنقها وغيظها على هؤلاء المجرمين الذين أشركوا بالله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:12 - 14].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يخرج يوم القيامة عنق من النار له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) رواه الإمام أحمد والترمذي، فيخرج هذا العنق من النار حتى يعذب هؤلاء الثلاثة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع! ورأيت أكثر أهلها النساء) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت النار فإذا امرأة تخمشها هرة)، وفي الحديث الآخر: (عذبت امرأة في هرة حسبتها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) فلذلك تعذب هذه المرأة بسبب هذه القطة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها) وهذا يدل على أن النار تشتكي وتتكلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)؛ لأن النار فيها كل ما يتخيله الإنسان من الضيق والظلام والحر الشديد والزحام وغير ذلك، فالحر الشديد يحرق، والبرد الشديد يحرق، فالزمهرير تعذيب بالبرد الشديد، فأشد ما تجدون من الحر في وقت الحر هو مجرد نفس فقط يخرج من جهنم حتى تتنفس قليلاً؛ لأنه أكل بعضها بعضاً من شدة الحر، وأشد ما تجدون من البرد القارس هو نفس من أنفاس جهنم والعياذ بالله!(34/12)
النار خالدة لا تفنى أبداً
النار خالدة لا تبيد أبداً بإجماع أهل السنة، بل هي باقية وأهلها خالدون فيها، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين الذين ماتوا بدون توبة من ذنوبهم وكبائرهم، فهؤلاء يبقون في النار مدة يعذبون، لكن لا يخلدون فيها، إنما يخلد فيها الكفرة والمشركون.
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99].
وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:74 - 77].
ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم يصيح: يا أهل النار خلود ولا موت، ويا أهل الجنة! خلود ولا موت).
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم، ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان يوم القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح، فيوقف بين الجنة والنار فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار).
والنار دار إقامة لهؤلاء الذين يعذبون فيها، فهي مثوى ومأوى ومقيل، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151].
ويقول عز وجل: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68]، ويقول سبحانه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].(34/13)
أوصاف تتعلق بالنار وما يوجب دخولها(34/14)
دعاة جهنم
هناك دعاة يدعون إلى النار كما قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار} [القصص:41]، وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، وقال عز وجل: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21]، وقال سبحانه وتعالى عن الشيطان: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وقال في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]، وقال مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41].
فكل من دعا إلى الشرك أو صد عن سبيل الله أو زين معاصي الله سبحانه وتعالى للمؤمنين فهو من الدعاة إلى جهنم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة لما سأله عن الشر الذي يكون في آخر الزمان، قال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، فهؤلاء كأنهم واقفون على أبواب جهنم ينادون الناس إليها، قال حذيفة: (يا رسول الله! صفهم لنا جلهم لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، فتجد الرجل يحمل اسم الإسلام ويكون ألد الأعداء للإسلام، وأشد المحاربين لدين الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم! فكل أصحاب المبادئ الضالة والمذاهب المنحرفة والأحزاب الشيطانية من دعاة جهنم والعياذ بالله!(34/15)
الجرائم الموجبة لدخول جهنم
جرائم الداخلين في جهنم كثيرة منها: فمنها الكفر والشرك، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:70 - 72].
ومن أسباب العذاب في جهنم: عدم القيام بالتكاليف الشرعية، يقول سبحانه وتعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:42 - 47].
ومما يئول بالناس إلى هذا العذاب الأليم: طاعة الزعماء والكبراء في معصية الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25].
ومن أسباب الخلود في جهنم: النفاق، يقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]، ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].
والكبر من الأسباب التي تئول بصاحبها إلى النار، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:36]، وفي الحديث: (اشتكت النار إلى الله سبحانه وتعالى فقالت: يدخلني الجبارون والمتكبرون، فرد الله سبحانه وتعالى عليها وقال: أنت عذابي أعذب بك من أشاء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر).
ومما يدخل النار: الكفر والحسد والكذب والخيانة والظلم والفواحش والغدر، وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين، والجبن عن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، والبخل والرياء، واليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله عز وجل، والجزع عند المصائب، والاستهزاء بآيات الله وأحكامه، وكتمان العلم، والقتل والربا والزنا، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات إلى آخر الكبائر والذنوب المعروفة.(34/16)
تعيين الداخلين جهنم
هناك أشخاص معينون نحكم عليهم بأسمائهم بأنهم في النار، وهم الذين دل الوحي في القرآن أو في السنة على أنهم سيدخلون النار خالدين فيها، أما من عدا هؤلاء من الكافرين فنحكم عليهم في الظاهر بالكفر، أما أنهم الآن في النار أم ليسوا في النار؟ فلا يجوز أن ندعي ما ليس لنا به علم، لأن الأعمال بالخواتيم والخواتيم مغيبة، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] فاشترط عدم التوبة، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [محمد:34]، فالشرط أن يموت الإنسان على الكفر حتى يستحق النيران، ولا يجوز أن نحكم على فلان باسمه أنه الآن في جهنم حتى لو مات في الظاهر على الكفر؛ لأننا لا ندري كيف كانت الخاتمة، والخواتيم مغيبة.
كذلك في حق المؤمنين نحن نرجو لهم الجنة ونخاف على العاصين منهم، لكننا لا نقطع لأحد منهم بجنة ولا نار إلا من نص الوحي على أنه من أهل الجنة كالعشرة المبشرين بالجنة، ومهما بلغ المؤمن من الأعمال الصالحة والتقوى والاستقامة فلا يجوز أن نقطع له بالجنة، لأن خاتمته إلى الله، وإنما الأعمال بالخواتيم.
فمن هؤلاء الذين أخبرنا لله سبحانه وتعالى أنهم في النار فرعون، يقول سبحانه وتعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98].
ومنهم امرأة نوح وامرأة لوط، يقول عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10].
وأبو لهب نص الوحي على أنه من أهل النار: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5].
وعمرو بن لحي الخزاعي الذي كان أول من سيب السوائب في الجاهلية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يجر أمعاءه في النار) والعياذ بالله.
كذلك قاتل عمار بن ياسر وسالبه في النار كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك أيضاً كفرة الجن يدخلون النار، يقول عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:68 - 69].
وقال سبحانه وتعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25]، وقال عز وجل: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:94 - 95].(34/17)
رءوس الذنوب التي تدخل النار
أما رءوس الذنوب التي تدخل أصحابها النار من غير المشركين، بل من الموحدين كثيرة، فأولها من انحرف عن عقيدة أهل السنة والجماعة، فمن حاد عن عقيدة ومفاهيم أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية، وانحرف عن منهج السلف الصالح لاسيما بالذات في مسائل العقيدة والاتباع؛ فإنه يكون في النار كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وهي من كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة الدين المهديين.
ومن ذلك أيضاً: عدم الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] إلى آخر الآيات.
ومن ذلك أيضاً الكبر، يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار).
ومن ذلك قتل النفس: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار).
ومن ذلك آكل الربا قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
وأيضاً المصورون: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً عند الله المصورون)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فيعذبه الله بها في جهنم).
والميل إلى الظالمين وموالاة الظالمين والكافرين: يقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة -المتبرجات-، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (العنوهن فإنهن ملعونات).
ومن الذنوب التي توجب النار: طلب العلم رياء وسمعة، وكذلك الصدقة رياء وسمعة، وكذلك الجهاد رياء وسمعة.
ومنها أيضاً: الشرب في أواني الذهب والفضة: يقول عليه والصلاة والسلام: (إن الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) والعياذ بالله.
أيضاً مما يوجب النار: الانتحار: وهو إن الإنسان يقتل نفسه، يقول صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً).(34/18)
كثرة أهل النار
النار واسعة جداً، ومما يدل على ذلك كثرة عدد أهلها، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]، ويقول الله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط) استجاب له عدد قليل من الناس (ورأيت النبي ومعه الرجل، ورأيت النبي ومعه الرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد).
إذاً: الإنسان مسئول أن يبلغ دعوة الحق، لكنه غير مسئول أن يستجيب له الناس، فبعض الأنبياء أتوا إلى قومهم ولم يؤمن بهم إلا واحد أو اثنان، وهناك أنبياء لم يستجب لدعوتهم أحد! وقال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً كثرة أهل النار حينما كان جالساً مع أصحابه: (إن الله سبحانه وتعالى ينادي آدم يوم القيامة فيقول: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول آدم: وما بعث النار يا رب؟ فيقول الله سبحانه وتعالى: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين! يقول عليه الصلاة والسلام: فذاك حين يشيب الصغير {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] فضج الصحابة رضوان الله عليهم وشق ذلك عليهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فقالوا: الحمد لله والله أكبر، قال: والذي نفسي بيده! إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، فقالوا: الحمد لله والله أكبر، فقال صلى الله عليه وسلم: ما مثلكم في الأمم إلا كمثل الشعرة البيضاء في مسك -جلد- الثور الأسود أو كالرقمة -الحلقة- في ذراع الحمار).
ما سبب كثرة أهل النار يوم القيامة؟ أهل النار أنواع، فمنهم قوم كفروا بالرسل وكذبوا المرسلين.
وقوم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وهم المنافقون.
وهناك قوم أظهروا الإيمان وأبطنوا الإيمان، ولكنهم تلبسوا ببعض البدع الضالة التي أخرجتهم من الفرقة الناجية.
وهناك أقوام ممن سلموا من الكفر وسلموا من النفاق وسلموا من البدع، لكنهم وقعوا في الشهوات والكبائر، فهؤلاء أيضاً يستحقون النار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت النار بالشهوات) يعني: أحاطت بها الشهوات، فتتزين الشهوات للإنسان فيتبعها فتلقيه في جهنم والعياذ بالله! وأكثر أهل النار النساء، قال صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) يعني: تكفر المرأة إحسان الزوج إليها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحسن إلى إحداهن الدهر، فإذا ما رأت منك شراً قالت: ما رأيت منك خيراً قط!)، إذا رأت منك شيئاً تكرهه تنسى كل الإحسان السابق وتذكر هذه السيئة الواحدة.(34/19)
عظم خلق أهل النار
خلْق أهل النار يعظم حتى إن ضرس الكافر يكون مثل جبل أحد، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (وغلظ جلده مسيرة ثلاث).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة) أي: المكان الذي يجلس عليه في جهنم والعياذ بالله سبحانه وتعالى.
وفي بعض الروايات: (عرض جلده سبعون ذراعاً)، والحكمة من هذا التضخيم أن يزداد عذابه، ويزداد إحساسه بالآلام، يقول سبحانه وتعالى: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
أما طعامهم فقد قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] وهو شوك {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7].
ويقول عز وجل: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، ويقول عز وجل: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم؛ فكيف بمن يكون طعامه).
وثيابهم تكون أيضاً من النار، فنعوذ بالله من النار.(34/20)
الأعمال التي تتقى بها النار
ما هي الأعمال التي تتقي بها النار؟ أعظم ما يتقى به عذاب النار هو الإيمان والعمل الصالح، وهذا هو الذي توسل به المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
ومن ذلك الصيام: يقول صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) يعني: وقاية تقي العبد من النيران.
ومنه الذكر: فالباقيات الصالحات هي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، يقول عليه الصلاة والسلام: (خذوا جنتكم من النار؛ قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات -يعني: إلى الأمام- ومعقبات -من الخلف- ومجنبات - تحميك من الجانبين - وهن الباقيات الصالحات).
أيضاً مما ينجي من النار محبة الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18] فالمحب لا يعذب حبيبه.
ومما ينجي من عذاب الله البكاء من خشية الله سبحانه وتعالى: يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً).
ومما ينجي من النار الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى والاستجارة من عذاب النار: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ولا استجار مسلم من النار ثلاثاً إلا قالت النار: اللهم أجره مني).
فنسأل الله العظيم الكريم أن يجيرنا وإياكم من عذاب النار.(34/21)
أوصاف الجنة
الجنة هي دار نعيم كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكر صفوه كدر، يقول سبحانه وتعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها).
ويقول سبحانه وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] هذا هو الفوز العظيم والفوز المبين.
ويقول عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (يخلص المؤمنون من النار -بعدما يمرون على الصراط- فيحبسون على قنطرة بين الجنة وبين النار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده! لأحدهم أهدى لمنزله في الجنة منه لمنزله كان في الدنيا) رواه البخاري.
يعني إذا دخل أهل الجنة الجنة يسرع كل منهم إلى مكانه في الجنة ويعرفه أعظم مما كان يعرف بلده بعد أن يرجع من السفر في الدنيا، وهذا يدخل في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، ويدخل في قوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] على أحد التفسيرين لقوله: ((عَرَّفَهَا))، قيل: هي هذه الهداية، وقيل: هي من العرف، وهو الرائحة الطيبة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (أستفتح باب الجنة فيقال لي: من؟ فأقول: محمد، فيقال: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من يقرع باب الجنة).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة) يعني: نحن آخر الأمم ونحن أول الأمم دخولاً الجنة.
وقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر رضي الله عنه: (يا أبا بكر! إنك أول من يدخل الجنة من أمتي) أي: بعد الأنبياء.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك -أي: عرقهم-، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن) الإنسان لو تصور أنه يرى النخاع الذي داخل العظام من وراء البشرة ربما استقبح هذا الأمر، فيريد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يوجه نظرنا إلى أن هذا يكون من غاية الحسن فقال: (يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن) يعني: من الجمال البارع الذي عليه الحور العين.
يقول عليه الصلاة والسلام: (لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً) فاللهم اجعلنا منها! ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين خريفاً)، حتى الأغنياء الذين سيدخلون الجنة لا يدخلون مع الفقراء؛ لأنهم يحبسون حتى يحاسبوا، فالمدة الزمنية بين دخول الفقراء والأغنياء الجنة أربعون خريفاً، فما أعظم السلامة التي لا يعدلها شيء.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد، وعتيق متعفف، وعبد أحسن عبادة ربه ونصح مواليه).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يخرج من النار من كان يقول: لا إله إلا الله، فتعرفهم الملائكة)، كيف تعرف الملائكة الذين كانوا يقولون: لا إله إلا الله؟ تعرفهم الملائكة بأثر السجود؛ لأنه لا يتصور أن يقول المرء: لا إله إلا الله ويكون تاركاً للصلاة، وفي الأثر: (لا خير في دين لا ركوع فيه).
وفي الحديث: (يخرج من النار من كان يقول: لا إله إلا الله، تعرفهم الملائكة) أي: تبحث في داخل النار عن أثر السجود في الوجه، وليس أثر السجود هو هذه العلامة التي قد تظهر بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون كما قال بعض السلف؛ لكن المقصود سمت الخشوع والتواضع الذي يكون في وجوه أهل الصلاة وأهل التوحيد.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من يقول: لا إله إلا الله فتعرفهم الملائكة بأثر السجود، تأتيهم الملائكة وقد امتحشوا -تفحموا من النار-، ثم يصب عليهم ماء الحياة؛ فينبتون كما تنبت الحبة حميل السيل، ويدخلون الجنة).
وهل يوجد ناس دخلوا الجنة قبل يوم القيامة؟ نعم، دخل الجنة آدم كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن، ودخل الجنة الفقراء كما في الحديث: (اطلعت في الجنة فرأيت أهلها الفقراء)، ودخل الجنة الشهداء: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، ومن مات عرض عليه مقعده من الجنة ومقعده من النار بالغداة والعشي.(34/22)
خلود الجنة وخلود أهلها وجزاؤهم
الجنة خالدة، وأهلها خالدون، لا يرحلون عنها أبداً، ولا يملون منها، وفي الدنيا لو أن الإنسان سكن أعظم قصر على وجه الأرض فلابد أن يصيبه الملل! أما الجنة فأهلها خالدون فيها لا يبغون عنها حولاً، فلا يملون أبداً كما يأتي الملل في هذه الحياة الدنيا، يقول عليه الصلاة والسلام: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)، فالجنة نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبد في حبرة ونضرة، في دور عالية كريمة بهية، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20].
ويقول عز وجل في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
فمن حبس نفسه في الدنيا عن الشهوات وعن المعاصي عوضه الله سبحانه وتعالى في الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)، الكافر مطلق في الدنيا، يرتع في الشهوات والأهواء مثل البهائم، ولا يبالي بيوم القيامة، بينما يعيش المؤمن في الدنيا مثل السجين؛ قبل أن يشرب يبحث عن المشروب أحلال هو أم حرام؟ فيعوضه الله في الجنة، والجزاء من جنس العمل.
فمن شرب الخمر في الدنيا حرم منها في الآخرة، والحرير والذهب لا يلبسهما الرجل المؤمن في الدنيا؛ فيعوضه الله سبحانه وتعالى في الجنة، فيلبس المؤمن في الجنة الحلل والحرير والذهب والفضة وما هو أعظم من ذلك.
كذلك من يصبر عن النظر إلى الأجنبيات وإلى ما يحرم النظر إليه، يعقبه الله سبحانه وتعالى في الجنة بالزواج من الحور العين.
والذي يصون أذنه عن سماع الموسيقى والأغاني ومعازف الشيطان، يرزقه الله سبحانه وتعالى بالحور العين اللاتي يغنين له أحسن ما يكون من الغناء، وكما قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (ولا أذن سمعت)، فيعوضه الله بذلك لأنه حبس نفسه عما حرم الله في الدنيا، والجزاء من جنس العمل.
هؤلاء الذين يعبدون الله ويخفون عبادتهم في الليل كما يقول سبحانه وتعالى: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ))، كأن بينه وبين الفراش خصام، فتتجافى جنبه عنه ويهجره ابتغاء مرضات الله {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، فما ثوابهم؟ الجزاء من جنس العمل، كما أخفوا عبادتهم في جوف الليل أخفى الله لهم الثواب فقال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].(34/23)
أبواب الجنة ودرجاتها
الجنة لها ثمانية أبواب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (في الجنة ثمانية أبواب، منها باب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وإنه لكظيظ) يعني: من شدة الزحام عليه.
والجنة درجات كما أن النار دركات، يقول سبحانه وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75].
ويقول عز وجل: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21].
ويقول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، لكن القوي درجاته عند الله أعلى.
ويقول سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً} [الحديد:10].
ويقول: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
ويقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، ومع ذلك قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62]، وكل هذه الآيات تدل على تفاوت أهل الجنة في الدرجات.
أعلى منزلة في الجنة هي الوسيلة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو).
ومن الذين ينزلون الدرجات العلى: الشهداء الذين يقاتلون في الصفوف الأولى، والساعي على الأرملة والمسكين، وكافل اليتيم، بل دعاء الأبناء لآبائهم بعد الموت يرفع آباءهم ويرفع درجاتهم، فإن المؤمن يرفع في درجته، فيقول: بم رفعت درجتي؟ فيقال له: بدعاء ابنك لك في الدنيا.(34/24)
أنهار الجنة وترابها وأشجارها وظلالها
تراب الجنة هو الزعفران وأنهارها كثيرها، ومنها: نهر الكوثر، وقال الله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15].
أيضاً فيها الظلال، وفيها العيون، ومنها عين الكافور وعين التسنيم وعين السلسبيل.
وفيها القصور {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف:12]، {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً بنى الله له بيتاً في الجنة)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من قرأ ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة).
أيضاً في الجنة أشجار مثل العنب والنخيل والرمان والسدر والطلح، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها!) يمشي في ظلها مائة عام ولا تكفي المائة العام ليقطع مسافتها، وذلك قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي، فقال لي: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها غراس، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر).(34/25)
أعمال أهل الجنة
أعمال أهل الجنة هي الصبر على مشقة التكاليف؛ لأن أصل التكاليف الشرعية هي أن تؤمر بشيء فيه مشقة على نفسك، لكن هذه المشقة تدخل في طاقتك، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
فأن تستقيم على دين الله سبحانه وتعالى من التوحيد والعبادات هذا هو أعظم طريق يوصلك إلى الجنة، لكن بعض الناس يريدون ديناً يوافق أهواءهم، ويقولون: الدين يسر، ويقولون: (الرسول عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، وهذا صحيح؛ لكن تكملة الحديث: (ما لم يكن إثماً) أي: ما لم يكن هذا الشيء حراماً، فالتخيير إنما يكون في مجالات التطوع وفي الأشياء الاختيارية، أما الواجبات فلا تختار: هل تصلي أم لا، هل تحجب بناتك أم لا، هل تحج أم لا، هل تزكي أم لا! فلابد من مشقة حتى تمتحن، لكنها مشقة تدخل في طاقتك البشرية، فطريق الجنة شاق كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
أيضاً أهل الجنة يرثون نصيب أهل النار من الجنة، فلكل إنسان منا مقعد في الجنة ومقعد في النار، فبعدما يدخل في القبر ويسأل ويمتحن يفتح له باب إلى النار ويقال له: هذا مقعدك من النار لو مت على غير الإسلام، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويقال: هذا مقعدك من الجنة، ويأتيه من روح الجنة وطيبها ونعيمها إلى يوم القيامة.
والكافر كان له مقعد في الجنة، لكنه لم يؤمن فأخذ مقعده في النار، ومقعده في الجنة يرثه المؤمنون، وهذا تصديق قوله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11].
فالمؤمنون يرثون مقاعد الكافرين الذين ماتوا على غير التوحيد.(34/26)
من أوصاف الجنة وأهلها
أكثر أهل الجنة الضعفاء والفقراء والمساكين، ولابد أن نؤمن أن الجنة ليست ثمناً للعمل الصالح، فالعمل الصالح سبب فقط في دخول الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، فالمؤمن يدخل الجنة بفضل الله ورحمته لا بعمله، لكن العمل سبب في دخول الجنة ولابد منه.
أيضاً نساء الجنة وصفهن الله سبحانه وتعالى بأنهن حور مقصورات الخيام، وفي آيات أخرى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، فيمدح الله سبحانه وتعالى الحور العين بصفتين: صفة العفة وصفة الجمال؛ لأن هذا أعظم ما يكون، فصفة العفة في قوله: {مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] تقصر طرفها وعينيها على زوجها فقط، ولا تنظر إلى غيره.
وأفضل النعيم الذي يؤتاه أهل الجنة هو رؤية الرب سبحانه وتعالى حين يتجلى لهم في الآخرة، فهذا هو الهدف الأعظم والأسمى من دخول الجنة، وذلك حين يكشف الحجاب ويتجلى لهم الرحمن سبحانه وتعالى، فلا يلتفتون حينئذ لأي شيء من نعيم الجنة ما داموا يتمتعون بالنظر إلى وجه الرب سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
وآخر ما يختتم به دعاء المؤمنين في الجنة: الحمد لله رب العالمين، فهذه الأمة أمة الحمد، ونبيها محمد صلى الله عليه وسلم هو أحمد، وهو حامل لواء الحمد يوم القيامة، وافتتح الله كتابه بالحمد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ويختتم دعاء المؤمنين بالحمد: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]، وأمته الحمادون صلى الله عليه وآله وسلم.(34/27)
الجمع بين الخوف والرجاء
الإنسان لابد أن يجمع بين الترغيب وبين الترهيب، يجمع بين الآيات التي تخوفه من عذاب الله سبحانه وتعالى مثل قوله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31]، وكذلك يتذكر الإنسان آيات الرجاء والطمع في رحمة الله سبحانه وتعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل).
فالخوف من النار والخوف من الله سبحانه وتعالى المقصود منه حث النفس على العمل، كالدابة حينما تضربها وتخوفها فإنها تسعى وتكد، كذلك الإنسان إذا تذكر عذاب الله وبطش الله سبحانه وتعالى وانتقامه كان ذلك حافزاً له على العمل، لكن لا ينبغي أن يزداد هذا الخوف حتى ينقلب إلى يأس وقنوط من رحمة الله.
فمن رحمة الله بنا أنه يسد علينا جميع الأبواب إلا باب التوبة، يقول العلماء: تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه، فالمبادرة إلى التوبة وإلى الأعمال الصالحة واجبة، فما دام في الإنسان قدرة على أن يعمل ويسعى، وما دامت روحه تتردد فلا يأمن مكر الله ولا ييأس من روح الله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
كذلك يحتاج الإنسان إلى نصوص الرجاء إذا زاد عليه الخوف وخشي أن يقع في القنوط، فعليه أن يروح قلبه بنصوص الرجاء في القرآن والسنة.
وإذا حضر الإنسان مسلماً يحتضر فهل يخوفه ويقول: أنت كنت تفعل كذا، أنت كنت مقصراً في كذا، إنك سترى ربنا وسيفعل بك كذا وكذا؟ لا يجوز هذا، ولا ينبغي تخويفه وهو في هذه الحال؛ لأن هذا التخويف قد ينقلب إلى اليأس والقنوط، بل السنة إذا حضرت مسلماً يحتضر أن تلقنه لا إله إلا الله حتى يكون آخر كلامه، وأن تذكره بأعماله الصالحة، فتقول: أنت كنت تحافظ على صلاة الجماعة، أنت كنت تذكر الله، أنت كنت تجتنب محارم الله سبحانه وتعالى، وتذكره بأعماله الصالحة من أجل أن تعينه على حسن الظن؛ لأن العبد إذا ظن بالله خيراً يعطيه الله خيراً، وإلا فلا.(34/28)
اختلاف العلماء في أرجى آية في القرآن
ما هي أعظم آية رجاء ينبغي أن نستحضرها من الآيات التي تطمعنا في رحمة الله، وتفتح قلوبنا لأبواب الرجاء في الله سبحانه وتعالى؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: فبعضهم قال: أرجى آية في القرآن هي آية الدين.
قد تستغربون كيف تكون آية الدين هي أعظم آية رجاء في القرآن! قال بعض العلماء: إنها أرجى آية في القرآن للعصاة؛ لأن هذه الآية تبين كيف احتاط الله سبحانه وتعالى لحفظ مال المسلم حتى لو كان دريهمات قليلة، فمع أن الدنيا بكل ما فيها من كنوز وأموال لا تزن عند الله جناح بعوضة، لكن الله سبحانه وتعالى شرع ما يحفظ حق المؤمن، فحفظ مصلحة المؤمن ورحم حاجاته في الدنيا بهذه الآية التي هي أطول آية في القرآن.
فالله سبحانه وتعالى أرحم بعبده المؤمن في الآخرة منه به في الدنيا، وإذا كان لمصلحته في الدنيا أنزل أطول آية في القرآن، فكيف يكون أملنا في رحمة الله سبحانه وتعالى في مصالح الآخرة؟ وقال بعض العلماء: أرجى آية هي قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:53 - 56] إلى آخر الآيات.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أرجى آية في القرآن قوله سبحانه وتعالى في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فيخبر الله سبحانه وتعالى أن ذنوب المؤمن بين حالتين: إما ذنوب يعاقب بها في الدنيا: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ))، فما عاقب الله عليه العبد في الدنيا فهو أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة، فالذنب الذي عوقبت عليه في الدنيا فلن تعاقب عليه مرة ثانية في الآخرة، والذنب الآخر يعفو الله عن كثير منه، فما عفا الله عنه فهو أكرم من أن يعذب عليه في الآخرة.
وقال بعض العلماء: أرجى آية في القرآن قوله سبحانه وتعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] قالوا: لن يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد من أمته في النار، ونظمها بعضهم في بيتين فقال: ولقد قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء وقال بعضهم: إن أرجى آية في القرآن قوله سبحانه وتعالى في سورة النور: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] هذه الآية نزلت في مسطح لما وقع في حديث الإفك في حق عائشة رضي الله تعالى عنها، فعاقبه أبو بكر بأن منع عنه العطاء الذي كان يعطيه إياه، وهو قريب له؛ فنزلت هذه الآية تعاتب أبا بكر: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، فرغم وقوع مسطح في كبيرة القذف إلا أن ذلك لم يحبط جهاده السابق، فقال الله: ((وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، فأثبت له صفة الهجرة في سبيل الله، وهذا دليل على أن المؤمن لا يكفر بالذنب كما يظن الخوارج.
وقال بعض العلماء: إن أرجى آية في القرآن هي قول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
فهنا أخبر الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء الذين أورثهم الكتاب مصطفون، أي: مختارون أراد الله بهم خيراً، وفسمهم إلى ثلاثة أقسام: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ))، ثم ذكر ذكر بعد ذلك ثواب هؤلاء الثلاثة فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:33] فلذلك قال بعض العلماء: حق هذه الواو أن تكتب بماء العين، لأن هذه الواو تعود على الثلاث الطوائف: ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)).
والرجاء في رحمة الله سبحانه وتعالى من الأمور التي أمرنا بها، لكن الرجاء لابد أن يستتبع العمل، أما الرجاء الذي لا يستتبع عملاً فهذا غرور كما قال الله: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]، فالرجاء يطلق عليه رجاء إذا اقترن به عمل وإلا فهو أماني وأحلام.
يقول الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا! لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، لم يصفهم برجاء إلا بعد العمل الصالح، فأنت تعمل ثم تطمع في رحمة الله، أما أن تفرط في طاعة الله ثم ترجو رحمة الله فهذا من تلبيس إبليس ومن تزيين الشيطان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأن يعيذنا جميعاً من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(34/29)
الأسئلة(34/30)
التوفيق بين مغفرة الذنوب جميعاً وعدم مغفرة الشرك في الآيات
السؤال
يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] والشرك أعظم الذنوب، فكيف نوفق بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]؟
الجواب
لابد أن نفهم هذه الآية في ضوء تلك الآية، فنجمع القرآن ولا نضرب آيات الله بعضها ببعض، فالمقصود أن الله يغفر كل الذنوب إلا ذنب الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فقوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) يعني: ما سوى الشرك، أو يغفر الشرك إن تاب المشرك، والدليل قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما كان قبله)، فالآية تعم كل الذنوب ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) لمن تاب منها، فباب التوبة مفتوح حتى للمشركين والمنافقين واليهود والنصارى، فإنهم إن تابوا تقبل الله سبحانه وتعالى توبتهم، فلا تعارض بين الآيات حتى نتكلف التوفيق.(34/31)
معنى حديث: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار)
السؤال
ما معنى حديث: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار)؟
الجواب
من الكبائر أن تتجاوز ثياب المؤمن الكعبين، وهما العظمان الناتئان في جانبي القدم، فلا يجوز ذلك، وهذا الحديث يدل أن كل مسبل يكون في النار أو ما جاوز الكعبين من إزاره فهو في النار فقط، وعلى كل حال فهذا الوعيد يفيد أن هذا الفعل من الكبائر، وصاحبه مستحق للعقوبة.(34/32)
مستمع الغيبة والمغتاب مشتركان في الإثم
مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ماعز - فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات يقول: أتيت امرأة حراماً، وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر الحديث إلى أن قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني) ومعروف أنه إذا بلغ الحد الإمام فلا رجوع فيه، وهنا
السؤال
من أتى ذنباً يستوجب حداً في مثل هذا الزمان الذي لا تقام فيه الحدود إلا نادراً في بعض البلاد، هل يعمل مثل ماعز.
الجواب
لا، حتى لو كان في مجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم -الذين هم خير أمة أخرجت للناس-، فلو كانت الحدود تقام فليس على كل من فعل ذنباً أن يذهب إلى الخليفة ويعترف عنده ليقام عليه الحد، بل الواجب عليه أن يستر نفسه حتى في ظل الدولة الإسلامية التي تقيم الحدود، وهو يكافأ إن ستر على نفسه في الدنيا أن يستر الله في الآخرة، فيقرره الله بذنوبه يوم القيامة فيقول له: أتذكر كذا؟ أتذكر كذا؟ فإذا ظن أنه هالك لا محالة، يقول الله سبحانه وتعالى له: (فأنا أسترها عليك اليوم كما سترتها عليك في الدنيا)، فإن الله سبحانه وتعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، ومن أعظم ما يحبه أن يستر العبد على نفسه وعلى إخوانه.
فإذا ابتلي الإنسان بشيء من هذه المعاصي أو القبائح فينبغي أن يستر على نفسه ولا يحدث بذلك أحداً، وقد جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، والمجاهرون هم الذين يأتي أحدهم الذنب بالليل فإذا أصبح يهتك ستر الله عليه ويقول: قد فعلت كيت، ويحكي للناس ما فعل، فهذا يعاقب بأن الله لا يغفر له ولا يعافيه؛ لأنه ضاد الله فيما يحبه، فالله ستير يحب الستر، وفي الحديث: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، فينبغي الاهتمام بهذا الأمر، حتى ولو في ظل دولة الخلافة الإسلامية، فالعاصي غير مطالب بأن يذهب للإمام ويهتك ستر نفسه، لكنه مطالب طلباً أكيداً أن يستر على نفسه، ويرجو رحمة الله وعفوه، وإن جهر بذلك وفضح نفسه فإنه يعاقب، فإذا بلغت توبته إلى هذا الحد، وحرص على أن يطهره الله، وبلغ الإمام ذنبه؛ فلا رجوع في الحد، لذلك لما اعترف ماعز بالزنا أراد النبي عليه السلام أن يدفع عنه ذلك فقال له: (لعلك فعلت كذا أو كذا)، بما هو أخف من الفاحشة، فأقر وصرح تصريحاً لا لبس فيه بأنه أتى بالفعل هذا الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكلب! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجيفة حمار شائل برجله -والشائل: هو كل ما ارتفع، والارتفاع ينشأ من التعفن والغازات في داخل أمعاء الحمار فتتراكم فترفع الرجلين، فالعضلات تتصلب، والغازات تدفعه من شدة التعفن- فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: ها نحن يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: يا رسول الله! غفر الله لك، من يأكل من هذا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة) وقوله: (أشد) بصيغة أفعل التفضيل، فما وجه هذه التفضيل؟ معناه أن الذنب الذي ارتكبتماه بغيبة هذا المسلم الذي أقيم عليه الحد وطهر منه أشد عند الله سبحانه وتعالى من أكل جيفة الحمار المتعفن؛ لأن من يأكل جيفة الحمار لا يكون قد آذى مسلماً، لكن من وقع في الغيبة فقد آذى مسلماً، وانتهك عرضه، وانشغلت ذمته بحقوق العباد، فهذا خير ممن يأكلون لحوم البشر! وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كلا من جيفة هذا الحمار) فخاطب المتكلم وجليسه، وقال: (ما نلتما)، استعمل صيغة المثنى، مع أن الذي اغتاب كان واحداً، لكن الآخر استمع وأقر ولم ينكر عليه، فهذا نذير خطر؛ وما أكثر ما يجلس الإنسان في مجالس آكلي لحوم البشر! وهذه بلية موجودة حتى في أهل الدين والطاعة، كيف تجلس في مجالس الغيبة وتسكت وتقر، إما أن تزيل المنكر وتنكر على هذا المتكلم وإما أن تترك المكان وتفارقه، وإن كنت لا تقوى على هذين الأمرين فاتق مخالطة الناس ما استطعت، فإن من أكثر المخالطة لا يكاد يسلم في هذا الزمان من الوقوع في الغيبة.
والمغتاب لو أنه في كل مجلس يجد من يزجره أو يهجره ويترك المجلس؛ لانتبه وأحس بجريمته، فإن كان لا يستحي من الله فقد يخشى هجرة الناس إياه، فلو أنه في كل مجلس وجد من يزجره لتوقف عن الغيبة وانتهى عنها، لكن نحن نساعده بالسكوت والإقرار إن لم يكن بالمشاركة والمؤازرة.
إذاً: هذا الحديث دليل على أن الذي يسمع المنكر ويسكت ويقر كمرتكب الجريمة، وكلاهما سواء في الوزر؛ ولذلك قال: (كلا) وقال: (ما نلتما من عرض أخيكما) فنسب الوزر إليهما جميعاً.
ومثله قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14] هل عقر الناقة كل القبيلة أم واحد؟ هو واحد، لكن الباقون كانوا مقرين وموافقين، فنسب الفعل إليهم أجمعين.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كانت العرب يخدم بعضهم بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم نوم بيتكم -يعني: أن نومه يشبه نوم البيت لا نوم السفر، يريد بذلك أن يعيبه بكثرة النوم، يعني: أنه ينبغي له في حالة السفر أن ينام نوماً خفيفاً ويكمل الرحلة- فلما تأخر عن إعداد الطعام لهما، قال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم -يعني: يوافق- نوم بيتكم، فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك -يعني: يطلبان منك الإدام، وهو ما يؤكل مع الخبز- فلما ذهب الرجل الخادم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، فقال الرسول رداً عليه: إنهما قد ائتدما، فلما رجع وأخبرهما فزع أبو بكر وعمر وجاءا مسرعين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟! قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه بين أنيابكما)، وفي رواية: (والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه من ثناياكما، قالا: فاستغفر لنا، قال: هو فليستغفر لكما) يعني: صاحب الحق هو الذي يطلب عفوه، ويستغفر لكما.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قد ائتدما)، وقوله أيضاً: (بين أنيابكما)، وقوله: (هو فليستغفر لكما)، كل هذا يدل على أنهما سواء في الوزر، مع أن الذي تكلم واحد، والآخر لم ينكر عليه.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنساناً يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخش ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: اسكت وهو يشتهي بقلبه استمرارها -ويحب أن يزود الكلام ليتشفى، خاصة إذا كان بينه وبينه عداوة، ويقول ذلك نفاقاً؛ لا يخرجه عن الإثم، ولابد من كراهته بقلبه، يعني: لو كان يشتهي الزيادة، فمعنى ذلك أن قلبه يحب المعصية، ومعلوم أن إنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، لا يعذر فيه أحد أبداً، لكن الإنكار باللسان وباليد أحياناً لا يستطيعه الإنسان، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، ثم سكت بعده؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، لكن قال: (وذلك أضعف الإيمان)، فلابد أن يكره المسلم الإثم بقلبه، ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة وعجز عن الإنكار أو أنكر فلم يسمع منه ولم يمكنه المفارقة بطريق؛ حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة، وفي هذه الحالة طريقه: أن يذكر الله تعالى بلسانه أو بقلبه، ويفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرون في الغيبة وجب عليه المفارقة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
وعن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمولى له: نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه(34/33)
عدم تخليد آكل الربا في النار
السؤال
قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، هل آكل الربا يخلد في النار؟
الجواب
نحن إذا رجعنا إلى الآيات التي قبلها نفهم ما المقصود من قوله: (وَمَنْ عَادَ)، أي: من عاد إلى استحلال الربا؛ لأن استحلال الحرام والحكم على الحرام بأنه حلال كفر.
أي أن الشخص الذي يشرب الخمر ولا يستحلها أخف من الشخص الذي لا يشربها، ولكن يقول: هي حلال، فاعتقاد أن الخمر حلال كفر؛ لأنه معارضة لحكم الله سبحانه وتعالى، لكن الشخص الذي يعتقد أنها حرام ويخالف الأمر نتيجة الهوى والشهوة فهذا ارتكب ذنباً وكبيرة، لكن دون كبيرة الكفر.
فأكل الربا من السبع الموبقات، ومن أشد الذنوب المهلكة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:278 - 280]، والآية الأخرى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، فقوله سبحانه وتعالى: ((وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)) يعود إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فمن قال: إن الربا حلال مثل البيع، وزعم أنه حلال، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.(34/34)
حكم حلق اللحية
السؤال
عدم حلق اللحية سنة مؤكدة! ولكن صدرت فتوى بأن حلقها ليس فيه إثم؟
الجواب
هذا زمن العجائب! من قال: إن عدم حلق اللحية سنة مؤكدة؟! إعفاء اللحية سنة واجبة، لأن كلمة السنة تأتي لعدة معان، نذكر منها معنيين: فالسنة تأتي بمعنى الطريقة، سواء كانت مرضية أو غير مرضية، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تكون سنة بمعنى الشيء الذي أنت مخير بين فعله وتركه، فإذا فعلته أثبت، وإذا تركته لم تعاقب مثل ركعتي الفجر وسنة الظهر القبلية وسنة المغرب وصيام الخميس والإثنين؛ فهذه كلها سنن بمعنى أنها مستحبة أو مندوبة.
والمندوب هو الشيء الذي يطلب منك، لكن تؤمر به أمراً غير جازم، وتثاب إذا فعلته ولا تعاقب إذا لم تفعله؛ هذا معنى السنة المندوبة.
وهناك سنة واجبة بأن تقول مثلاً: الحج سنة المسلمين، وتقول في الزكاة: هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: طريقته، لكن ليس معناه أن الحج أو الصلاة على سبيل الندب والاستحباب.
فإذا قلنا: صلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمقصود أنها طريقة رسول الله، أما من حيث الأحكام التكليفية الخمسة فهي واجبة وفريضة.
فكذلك إذا قلت: اللحية سنة، أي: هي طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تكون واجبة، وأما أن تكون مستحبة، وإما أن تكون أفعالاً جبلية طبيعية فطرية؛ فاللحية لا شك أنها واجبة، ولم يقل بأنها عادة إلا بعض المحدثين في هذا الزمان، والمفروض أننا نتكلم على الخلاف الذي يعتد به، وذلك عندما كان الأئمة متوافرين يملئون الأقطار، فهؤلاء إذا اختلفوا فهناك قيمة لاختلافهم، أما نحن الآن في المسجد مائة شخص أو أكثر، فإذا اختلفنا ما قيمة اختلافنا؟! يقولون هذا غير جائز عندنا فمن أنتم حتى يكون لكم عند من نحن حتى نختلف؟! من هم شيوخ هذا الزمان حتى يخالفوا الأئمة الأربعة أو الصحابة والتابعين وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام؟ إذا كان الأئمة الأربعة قد حذرونا من أن نتبع أقوالهم إذا خالفت أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بمن يأتي بعدهم؟ المقصود أن حلق اللحية حرام، وأن إعفاء اللحية واجب وفريضة، فيأثم من يحلقها بدون عذر كالتداوي مثلاً، فالأدلة على هذا الحكم واضحة، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)، وقد ورد الأمر بإعفاء اللحية في خمس صور: (أعفوا اللحى) (وفروا اللحى) (أرخوا اللحى) (أرجوا اللحى) (أوفوا اللحى).
فهذه الروايات معناها كلها أن تترك على حالتها، فمن من الصحابة حلق لحيته؟ نريد واحداً فقط من الصحابة أو من الأئمة حلق لحيته! الأنبياء أنفسهم كانوا يعفون لحاهم، والدليل من القرآن قول الله سبحانه وتعالى في حق هارون عليه السلام: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94].
إذاً: كانت له لحية بحيث يمسكها موسى عليه السلام، فكان من سنة الأنبياء أنهم يعفون اللحى، ورسولنا عليه الصلاة والسلام أمرنا بأن نتبع هؤلاء الأنبياء، ومنهم موسى وهارون، فبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى طائفة عظيمة من الأنبياء ومنهم موسى وهارون في سورة الأنعام قال في آخر الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بالأنبياء، وهؤلاء الأنبياء -كما جاء في قصة موسى وهارون- كان لهم لحى، ثم أمرنا نحن بالاقتداء بنبينا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
أيضاً: حلق اللحية تشبه بالنساء؛ لأن الله ميز الرجل عن المرأة بعدة خصال: منها أن الرجل ينبت في لحيته شعر فلا ينبغي أن يزيله؛ لأن الشرع لم يأذن له في ذلك، لكن أذن له في إزالة غيره، فكأن الإنسان يتهم الله سبحانه وتعالى في حكمته حيث ميز الرجل عن المرأة باللحية، كأنه يصيح من اللحية ويقول: الله خلق هذه اللحية في وجهي عبثاً وبدون فائدة؛ فلذلك فهو يحلقها.
الله عز وجل خلقها لأنها من كمال الرجولة وكمال الفحولة وبها يتميز الرجال عن النساء.
أيضاً فيها مخالفة للمشركين: (خالفوا المجوس) (خالفوا المشركين).
كذلك حلقها فيه تغيير لخلق الله، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الذي يأمر بتغيير خلق الله هو إبليس، حكى الله عن إبليس أنه قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، ولا يجوز تغيير خلق الله إلا بإذن من الشرع، مثل قص الأظافر، فقصها من خصال الفطرة التي أمرنا بها، فلذلك نغير خلق الله بتصريح من الله سبحانه وتعالى، وكذلك في الاستحداد أو نتف الإبط، لكن أين التصريح بحلق اللحى؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عشر من الفطرة: -وذكر منها- إعفاء اللحى)، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] ومن هذه الكلمات إعفاء اللحى.
أيضاً: اللحية نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان، فهي تعطي الإنسان الوقار والهيبة، وتعينه على حفظ دينه في هذا المجتمع الفاسد.
وكان الصحابة يقولون: (كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الظهر، قيل: كيف كنتم تعرفون قراءته؟ قالوا: باضطراب لحيته) يرونه من خلفه وهو يقرأ؛ لأن لحيته تتحرك وهو يقرأ القرآن في نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، كذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة ما عرفوا حلق اللحى، والمسلمون ما عرفوا حلق اللحى إلا بعدما احتكوا بالأوروبيين، وأرادوا أن يتشبهوا بالإنجليز.
ما عرفنا حلق اللحى إلا لما أردنا تقليد الكفار تقليداً أعمى، فهي ليست من سنن المسلمين، فيحرم حلق اللحى باتفاق المذاهب الأربعة، ومن ادعى خلاف ذلك فليأت بالدليل(34/35)
تعريف الجلالة
السؤال
ما هي الجلالة؟
الجواب
الجلالة هي الدابة التي يغلب على طعامها النجاسة، فإن كان أغلب أكلها النجاسة فعليك أن تعزلها فترة حتى يطيب لحمها ثم تذبحها، فإن كانت نسبة النجاسة قليلة فليست بجلالة، والله أعلم.(34/36)
السلفيون هم أهل السنة والجماعة
السؤال
هل السلفيون هم أهل السنة والجماعة، وما حكم من يطلق هذا الاسم تعصباً على غيرهم؟
الجواب
السلفيون هم أهل السنة والجماعة ولا يستطيع أحد أن ينازعنا في هذا الاسم، لأن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية الذين جاء وصفهم في هذا الحديث: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي الجماعة)، وهم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على إمام، وكذلك إجماع المؤمنين، وأي معنى من معاني الجماعة لابد أن نلتزمه.
فأهل السنة والجماعة اسم لا يختلف عليه، وإذا ادعيناه لأنفسنا فنحن نملك السند الذي يثبت استحقاقنا لهذا الوصف، وهو أن عقيدتنا عقيدة أهل السنة والجماعة التي تميزت عن أهل البدع والافتراق، فأهل السنة والجماعة هم من كان منهجهم منهج الصحابة، وسلوكهم في فهم الإسلام سلوك الصحابة.
والألقاب إذا لم يخش منها تلبيس الحقائق على الناس فلا بأس بها، بدليل أن الإسلام يعرف الألقاب ويعرف الصفات، هناك لقب المهاجرين ولقب الأنصار، وهناك سيف الله المسلول خالد بن الوليد لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وهناك الصديق أبو بكر، وهناك الفاروق عمر، وهناك ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
المقصود أن الألقاب عرفت في الإسلام، وأشرف هذه الألقاب كما نعلم المهاجرون والأنصار، فمدح الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الوصف في القرآن قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، والسابق هو: الذي سلف وتقدم، فهؤلاء هم السلف، والذي ينتسب إليهم ويمشي على طريقتهم هو السلفي، فهذا معنى كلمة (السابقون).
وقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:56]، سَلَفًا: أي: متقدمين عليهم هذا معنى السالف.
فالسلفية ليس معناها الرجوع إلى الوراء كما يزعم أعداء الإسلام بأنها رجعية ورجوع إلى الوراء، بل السلفية هي ارتفاع ورقي إلى مستوى السلف حيث شكلوا النموذج الأعلى لفهم الإسلام وتصديقه والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
وإذا استعملت كلمة المهاجرين والأنصار استعمالاً جاهلياً عصبياً فحينئذ تسمى جاهلية، رغم أن اللقب شريف، لكن إن استعمل في غير موضعه فقد نبذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار -ضربه على مؤخرته- فصاح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب، فقال: ما بال دعوى الجاهلية! دعوها فإنها منتنة) فسمى التنادي باللقب الشريف في غير موضعه دعوى الجاهلية؟ والرسول عليه الصلاة والسلام قال في حديث آخر في خطبة الوداع: (كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين).
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) وهذه دعوة جاهلية تفرق المسلمين.
أيضاً: أمر بترك التنادي بهذه الألقاب فقال: (دعوها)، وعلل الحكم بقوله: (فإنها منتنة) يعني: خبيثة، وجاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل أنه يحرم عليهم الخبائث، ومن الخبائث التنادي بالعصبية، كأن يقال: هذا مصري، وهذا يمني، أو هذا سوداني، وهذا ليبي، وهذا عراقي.
كل هذه العصبيات جاهلية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إنما الناس رجلان: رجل تقي وفاجر شقي؛ كلكم لآدم وآدم خلق من التراب).
فالإسلام يحارب هذه العصبيات التي تفرق المسلمين، فإن كانت العبارة موهمة أو استعملها بعض الناس استعمالاً سيئاً فهو مخطئ.(34/37)
سبب نشأة تسميات الفرق الإسلامية
السؤال
ما السبب في نشأة هذه التسميات للفرق الإسلامية مع أنه كان يكفي اسم الإسلام؟
الجواب
بسبب انتشار البدع والضلالات والفرق التي عادت من جديد تحت أسماء مستعارة، فهناك خوارج في هذا الزمان، لكن تحت اسم جديد وهو التكفير والهجرة، هناك مرجئة تحت أسماء أخرى، هناك معتزلة قدرية، هناك جهمية، وهناك كثير من الضلالات موجودة، لكن تحت أسماء حديثة، والحقيقة واحدة.
فإذا قلنا: إن الإسلام يكفي فبأي اسم نميز أنفسنا عن هذه الضلالات لنقوم بالإسلام كما فهمه الصحابة الذين تربوا على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما تلقته الأمة وفهمته وطبقته وجاهدت في سبيله حتى اجتمعت على إمامة أئمتها العدول؛ كالإمام أحمد والإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي، وكـ البخاري وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد، وكأئمة السنن والمسانيد والصحاح؛ كل هؤلاء اتفقت الأمة على أنهم أئمة وعدول، والأمة حينما تتفق على شيء وتجتمع فإنها معصومة من الضلالة.
فالأمة اجتمعت على إمامة هؤلاء القوم، فنتلقى عنهم ديننا، وهو دين له سند وله نسب، فهو دين أتى لنا بعقيدة مسندة وليست مخترعة.
بعض الناس ينسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه مؤسس المذهب السلفي، فنقول: السلفية ليست مذهباً؛ لأنها هي الإسلام الصحيح، هي الفهم القويم للإسلام كما تلقاه السلف وكما فهموه وكما طبقوه.
شيخ الإسلام كان له دور أساسي وهو أنه أزال الغبار عن هذه الدعوة، فـ شيخ الإسلام جدد شباب الدعوة السلفية، ولكن الذي أسس الدعوة السلفية هو الله سبحانه وتعالى، بدأ تأسيسها في شهر رمضان في غار حراء في الليلة التي نزل فيها الوحي، وبدأ تأسيسها بكلمة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وانتهت بـ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} [المائدة:3]، فإذا فهمنا حقيقة هذه الكلمة علمنا أنه لا ينجو إلا من كان سلفياً.
ولذلك تجد كل جماعة تريد أن تنسب إلى هذا الاسم، كل شخص يقول: نحن نتبع السلف، نحن نقتدي بالسلف، ولكن ينطبق عليهم قول بعض الشعراء: والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء لذلك كانت السلفية هي الترسانة التي حفظت تراث الأمة من التحريف، وتصدت لكل صور الانحراف وبالذات الانحراف في العقيدة.
علماء السلفيين في كل عصر من العصور يذبون عن هذه العقيدة، ويبذلون حياتهم من أجلها، فالإمام أحمد بن حنبل عذب حوالى سبع عشرة سنة من أجل مسألة واحدة فقط في العقيدة، ولم يفت بما يوافق أهواء الناس ليذب عن هذه العقيدة.
فالسلفيون أعظم الناس اهتماماً بأعظم ركن في الإسلام وهو العقيدة والتوحيد، ثم اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أبرأ الناس من البدع، وأشدهم تمسكاً وعلماً ومعرفة بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم منتشرون الآن في أقطار الأرض شرقها وغربها، معروفون بهذه العلامات البارزة: 1 - محبتهم للسلف.
2 - احترامهم للصحابة.
3 - تقديم قول النبي عليه الصلاة والسلام على قول غيره من البشر كائناً من كان: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم لا غير.
4 - احترامهم للآداب الشرعية.
5 - عدم استهزائهم بسنن النبي صلى الله عليه وسلم أو التهوين من شأنها.
6 - الإلمام بما يجد من مشكلات العصر وصدور فتاوى اجتهادية من كثير من العلماء السلفيين لحل هذه المشكلات والإفتاء فيها.
7 - الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى في كل عصر ومصر، ويكفي أن الدعوة الوحيدة التي استطاعت أن تقيم دولة منذ انحطاط قوة الخلافة الإسلامية هي الدعوة الوهابية التي قامت على المفاهيم السلفية وعقيدة التوحيد واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كانت كلمة (وهابية) مصطلحاً محدثاً ولكننا نقول: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير بن عطية الخطفي المجامع فالسلف هم أفضل الأمة على الإطلاق بنص القرآن، ومن ادعى اتباعه لهم أو الانتساب إليهم، فعليه أن يأتي بالدليل من الاهتمام بالتوحيد الذي هو مفتاح دعوة الرسل، وهو ركن الدين الأصيل؛ والاهتمام بالسنة والبراءة من البدع والبراءة من الشركيات بشتى صورها، والاهتمام بتزكية النفس طبقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا طبقاً لخزعبلات المبتدعين من الصوفية أو المترهبنين أو غيرهم من أهل البدع.
فهذا هو الطريق الواضح، وهو طريق ثابت، وكل من تحرى الوصول إلى الحق في هذا الطريق فإنه يستطيع أن يصل بلا أدنى مشقة.(34/38)
وفاة الرسول وتفسير سورة النصر
بعد أن أكمل الله هذا الدين بالنصر والفتح وانتشار الإسلام أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بلزوم التسبيح والاستغفار، فكان آخر ما نزل عليه عليه الصلاة والسلام سورة النصر، وفيها الأمر له بالتسبيح والاستغفار؛ حتى تقتدي به أمته، فعوضاً عن أن يُتبعوا انتصاراتهم بالغناء والرقص فإنهم يختمونها بالتسبيح والاستغفار، فالنعم لابد تشكر بالطاعة لا بالمعصية.(35/1)
بيان أعظم مصيبة أصيبت بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب).
هذا الحديث رواه ابن سعد والترمذي مرسلاً، ورواه أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً، وله شواهد، منها: عند ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، ورجا أن يخلفه الله فيهم، فقال: يا أيها الناس! أيما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي).
وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكنه يعد شاهداً من شواهد الحديث الأول.
فقوله: (يا أيها الناس أيما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري) قاله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
فمقتضى هذا المعنى أن المصاب بموت النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم مصيبة مرت على المسلمين؛ لأن بموته انقطع الوحي والرسالة، فيرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإنسان إذا أصيب في أي شيء من فقد عزيز عليه بموت أو غيره فإنه يتعزى بالمصاب الأكبر الذي أصاب الأمة، ألا وهو موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: (فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي).
ومن شواهده -أيضاً-: ما رواه ابن المبارك في الزهد عن القاسم بن محمد مرسلاً: (ليعز المسلمون في مصائبهم المصيبة بي)، وذلك لأنها -كما ذكرنا- أعظم المصائب، وقال بعضهم: اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والحديث يرشد إلى أسلوب من أساليب التعزي والصبر عند حلول المصائب، فلا بد من أن يتفطن المؤمن؛ لأن الصبر صبران: صبر محمود وصبر مذموم، وليس كل صبر محموداً، لكن هناك صبر محمود وهناك صبر مذموم، فالصبر المحمود هو الصبر على قدر الله عز وجل عند حلول أي شيء من الكوارث أو المصائب القدرية، فهذا هو الذي ينبغي الصبر عليه، ويكون ذلك بحبس اللسان عن الشكوى، وحبس القلب عن التسخط المحذور، وحبس الجوارح عن الوقوع في المعاصي كلطم الوجه وشق الجيوب وهذه الأشياء.
أما الصبر المذموم فهو الصبر الذي يدفع الإنسان إلى السكوت على محارم الله، وعدم الغيرة على حرمات المسلمين إذا انتهكت، فهذا ليس صبراً محموداً، ولكنه من الصبر المذموم الذي لا يرضاه الله عز وجل.(35/2)
وقفة مع سورة النصر ووجه تعلقها بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم
السورة التي نقف عندها -إن شاء الله- هي سورة النصر، وهي سورة مدنية آيها ثلاث، ولها عدة أسماء، فهي تسمى سورة النصر، وتسمى سورة (إذا جاء (، وتسمى سورة التوديع.
وهذه السورة يقال: إنها آخر سورة نزلت.
كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى البيهقي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة: (إنه قد نعيت إلي نفسي) يعني أن الله عز وجل يخبره بأنه قد اقترب أجله صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول بعض الصحابة: (فكان بعد نزول هذه السورة يفعل فعل مودع، وامتثل أمر الله عز وجل: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، فما كان يصلي بعد نزول هذه السورة صلاة إلا دعا فيها في الركوع والسجود: سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، اللهم! اغفر لي.
يتأول القرآن).
فهذه السورة -كما ذكرنا- كانت توطئةً وإرهاصاً بين يدي ذلك المصاب الجلل، وهو أول قاصمة أصيبت بها الأمة الإسلامية، وهي موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وسنعيد تذكر الأيام الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما أن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد حجة الوداع حتى أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو الروم، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لإمرة هذا الغزو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان أسامة رضي الله عنه شاباً حدثاً، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إلى موضع مقتل أبيه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وأن يوطِئ الخيل أرض البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وذلك مع بدء شكواه ومرضه الذي توفي فيه، فانتهز المنافقون هذه الفرصة وقالوا: أمرّ النبي صلى الله عليه وسلم حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار.
فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الذي أثاره المنافقون والمرجفون عصب رأسه الشريف وخرج إلى الناس وخطب فيهم قائلاً: (إن تطعنوا في إمارة أسامة بن زيد فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأام الله إن كان لخليقاً بها -يعني أن أباه زيد بن حارثة كان خليقاً بالإمارة- وايم الله إن هذا لها لخليق -يعني: أن أسامة بن زيد رضي الله عنه جدير بالإمارة- وايم الله إن كان لأحبهم إلي من بعده، فأوصيكم به فإنه من صالحيكم)، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرين والأنصار، وخرج أسامة بن زيد بالجيش إلى ظاهر المدينة فعسكر بالجرف، وهو مكان قريب من المدينة، فلما تجهز المسلمون للخروج لغزو الروم اشتدت برسول الله صلى الله عليه وسلم علته التي قبضه الله فيها، فأقام الجيش هناك ينتظر ما الله قاض في هذا الأمر.(35/3)
أحداث في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم
وكان بدء شكواه ما رواه ابن إسحاق وابن سعد عن أبي مويهبة -وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقفنا عليهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنأ لكم، لا أصبحتم فيما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن مثل قطع الليل المظلم يتبع آخرها أولاها، الآخرة شر من الأولى، ثم أقبل عليّ، فقال: إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها فخيرت بين أن أمتلك مفاتيح خزائن الأرض والخلود في هذه الأرض والجنة وبين لقاء ربي والجنة.
فقلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا وتخلد فيها ثم الجنة! قال: لا -والله- يا أبا مويهبة، قد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف).
فابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبض فيه، وكان أول وجعه صداعاً شديداً في رأسه، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من البقيع استقبلته وهي تقول: وارأساه -كانت رضي الله عنها تشتكي رأسها- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا -والله- يا عائشة وارأساه)، وكان بدء مرضه ذلك في أواخر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، وكانت عائشة رضي الله عنها ترقيه خلال ذلك بمعوذات من القرآن.
روى البخاري ومسلم عن عروة رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها أخبرته (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات) وهذا دليل من أدلة مشروعية الرقية.
والفرق بين الرقية والدعاء أن الرقية يكون فيها نفث في اليد ونفح على الجسد، تقول رضي الله عنها: (فكان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه لم يطق صلى الله عليه وسلم ذلك، فطفقت أنفث على نفسه بالمعوذات وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، فشعرت نساؤه صلى الله عليه وسلم برغبته في أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها لما يعلمن من محبته لها وارتياحه إليها، فأذنَّ له في ذلك، فخرج إلى بيتها من عند ميمونة يتوكأ على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وفي بيت عائشة رضي الله عنها اشتد به وجعه، وكان قد شعر بقلق أصحابه وحزنهم عليه فقال: (أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس) وهذا يشبه الكمادات بالماء البارد حتى تخف الحمى فيستطيع أن ينهض إلى الناس ويعهد إليهم ويوصيهم، قالت عائشة رضي الله عنها: (فأجلسناه في مخضب ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن: قد فعلتن.
ثم خرج صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه فجلس على المنبر، فكان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: عبد خيره الله بين أن يأتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنه علم ما يقصده النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وناداه قائلاً: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر، ثم قال: أيها الناس! إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام) لأن مرتبة الخلة لا تنبغي إلا لله سبحانه وتعالى، ولأن الخلة أعلى درجات المحبة، كما قال: الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني وبها تمنى الخليل خليلاً أي: بلغت المحبة إلى حيث تبلغ الروح في جسد الإنسان، فهذه المرتبة من المحبة لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى، ولو كانت جائزة لكان أولى الناس بها أبا بكر رضي الله عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) والخوخة هي باب صغير بين البيتين، فأمر بسد كل باب يؤدي إلى المسجد ما عدا الباب الذي يؤدي إلى بيت أبي بكر، ثم قال: (وإني فرط لكم -يعني: أنا أسبقكم إلى الله سبحانه وتعالى- وأنا شهيد عليكم، وإني -والله- لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني -والله- ما أخاف أن تشركوا من بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها)، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ثم اشتد به وجعه وثقل عليه مرضه، تقول عائشة رضي الله عنها: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، وهذا رواه البخاري ومسلم واللفظ لـ مسلم.
قوله: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) هذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة أبي بكر، وأنه أولى الصحابة بالإمامة، ثم تلا ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض قال لرجال كانوا في البيت: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا كتاباً يكتب لكم، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا) رواه البخاري.
إذاً: الخلاف والمجادلة يرفعان البركة دائماً، فلما رآهم اختلفوا أمرهم بأن يقوموا وأن ينصرفوا، وكذلك لما تخاصم رجلان وقد علم من الوحي بتعيين ليلة القدر، فلما تخاصم هذان الرجلان رفع علم ليلة القدر، فبسبب الجدل والاختلاف والتنازع ترفع البركة وتمحق.(35/4)
شدة مرضه صلى الله عليه وسلم وصبره على ذلك
كان عليه الصلاة والسلام بين يديه ركوة فيها ماءٍ، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) فمن السنة إذا احتضر الميت أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأن يقول مثل ما يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) فيجعل آخر كلامه (لا إله إلا الله).
وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا رأت منه ذلك قالت: (وا كرب أباه)، فيقول لها صلى الله عليه وسلم: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم)، قالت عائشة رضي الله عنها: (إن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، فقد دخل عليّ عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم.
فناولته فاشتد عليه، فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم.
قالت: فلينته) أي: لينته بريقها.
(فكان بين يديه ركوة، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ثم رفع يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى.
حتى قبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم).(35/5)
شدة مرضه صلى الله عليه وسلم وصبره على ذلك
كان عليه الصلاة والسلام بين يديه ركوة فيها ماءٍ، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) فمن السنة إذا احتضر الميت أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأن يقول مثل ما يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) فيجعل آخر كلامه (لا إله إلا الله).
وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا رأت منه ذلك قالت: (وا كرب أباه)، فيقول لها صلى الله عليه وسلم: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم)، قالت عائشة رضي الله عنها: (إن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، فقد دخل عليّ عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم.
فناولته فاشتد عليه، فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم.
قالت: فلينته) أي: لينته بريقها.
(فكان بين يديه ركوة، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ثم رفع يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى.
حتى قبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم).(35/6)
وصاياه صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته في مرض موته
كان النبي صلى الله عليه وسلم أثناء ذلك يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم وآلمه المرض كشفها عن وجهه صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات الأخيرة من حياته يقول: (لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فكانت هي الوصية الأخيرة للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في بعض الروايات عن عائشة رضي الله عنها: (يحذر ما صنعوا) تعني: يحذر هذه الأمة من أن تصنع مثل صنيع اليهود والنصارى، فعجباً لغربة الإسلام وإعراض المسلمين عن هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، واقتحامهم وانتهاكهم الحرمات! وذلك باستحلال هذا الفعل القبيح وهو إدخال القبور في المساجد.
ثم بعد ذلك اقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر إلى حكم الله سبحانه وتعالى الذي أجراه على عباده كلهم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
دخل فجر يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة، وبينما الناس في المسجد يصلون خلف أبي بكر رضي الله عنه إذا بالستر المضروب على حجرة عائشة قد كشف، وبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبه إلى الصف، فقد ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يصلي، ولكن كان يلقي عليهم هذه النظرة الأخيرة ليطمئن على أصحابه، فهمَّ المسلمون حينئذ أن يفتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار بيده أن: أتموا صلاتكم.
ثم دخل الحجرة وأرخى الستر، وانصرف الناس من صلاتهم وهم يحسبون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه، ولكن تبين أنها كانت نظرة وداع منه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فقد عاد صلى الله عليه وسلم فاضطجع إلى حجر عائشة رضي الله عنها وأسندت رضي الله عنها رأسه إلى صدرها، وجعلت تتغشاه سكرة الموت.
وفي بعض الأحاديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام نطق بوصيتين في آخر لحظة من حياته حيث قال: (الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم) فكانت هذه وصيته الأخيرة لأصحابه وأمته صلى الله عليه وسلم.(35/7)
أمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بالصلاة بالناس في مرض وفاته
ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق الخروج إلى الصلاة مع الناس، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف -تعني: رجل رقيق القلب- وأنه إذا قام مقامك لم يكد يسمع الناس من شدة بكائه، فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس) فـ عائشة رضي الله عنها، خشيت أن يتشاءم الناس من أبيها، فتعللت بشيء ليس هو العلة التي في نفسها، فمن أجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس) فكان أبو بكر هو الذي يصلي بالناس بعد ذلك، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وقد شعر بخفة فأتى وأبو بكر قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر لما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك في الصلاة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه، واستبشر الناس خيراً لخروجه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ولكن البرحاء اشتدت عليه، وكان ذلك آخر مرة يصلي فيها مع الناس.(35/8)
موقف أبي بكر والصحابة من وفاته صلى الله عليه وسلم
لقد انتشر خبر وفاته صلى الله عليه وسلم في الناس، وأقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرس من عوالي المدينة، فقد كان له منزل في ذلك المكان، ذهب وهو على أمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد شفي من مرضه، فأتى فدخل المسجد ولم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم مغطى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: (بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها) ثم خرج رضي الله عنه وعمر يكلم الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، وهنا يظهر مقام أبي بكر وثباته وصموده أمام هذه المحنة الشديدة، وهكذا ينبغي أن يكون المسلمون على بصيرة وعلى فطنة في تلقي مثل هذه المصائب الكبيرة.
أقبل أبو بكر يقول له: على رسلك يا عمر، أنصت.
ولكنه استمر في كلامه، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس فأقبلوا إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد: أيها الناس! من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144]، فكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فتلقاها منه الناس كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا وأخذ يتلوها، قال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت -أي: كأنه قطعت ساقاه- لا تحملني رجلاي، فأهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.
هكذا توفي النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة وستين عاماً من العمر، قضى أربعين منها قبل البعثة، وثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله في مكة، وعشر سنين قضاها في المدينة بعد الهجرة، وكانت وفاته في أول العام الحادي عشر للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
روى البخاري عن عمرو بن الحارث قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة، إلا بلغته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة)، فهذه قصة وداع النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الدنيا وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
فهذه السورة كما ذكرنا تسمى سورة التوديع التي جاء فيها نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(35/9)
تفسير قوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح
يقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] يأتي في الآية النصر والفتح، مع أن كلاً منهما مرتبط بالآخر، فمع كل نصر فتح ومع كل فتح نصر، فجاء النصر مضافاً إلى الله تعالى، والفتح جاء مطلقاً.
وقد اتفقوا على نزول هذه السورة بعد فتح مكة، ومعلوم أنه سبق فتح مكة عدة فتوحات، منها فتح خيبر، ومنها صلح الحديبية، قال عز وجل عن صلح الحديبية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] وقال الله عز وجل: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27].
والنصر يكون في معارك القتال، ويكون بالحجة والبيان، فيكون بكف العدو كما في سورة الأحزاب، يقول الله عز وجل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، وكما قال عز وجل في شأن اليهود: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:26 - 27].
إن النصر من عند الله العزيز الحكيم، ولقد علم المسلمون ذلك كما جاء في قوله تعالى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] فجاءهم
الجواب
{ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
فدائماً النصر يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، فقال سبحانه وتعالى عنهم: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] ثم قال: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وقال عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1].
وقال صلى الله عليه وسلم (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وقد قال الله عز وجل لموسى ولأخيه هارون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فهذا -أيضاً- من نصر المعية، وكذلك الفتح يكون بانتشار دين الإسلام، وكما نعلم أن أعظم الفتوح في الإسلام فتحان: فتح الحديبية، وفتح مكة، ففتح الحديبية كان تمهيداً للثاني، والثاني كان قضاءً على دولة الشرك في الجزيرة.(35/10)
تفسير قوله تعالى: ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً
يقول الله عز وجل: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2] هذا القول من الله سبحانه وتعالى يدل على إرادة العموم، فقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1] عام لكل نصر وفي كل فتح، بدليل العطف بقوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2]، فكان الناس يأتون من كل جهة حتى اليمن أقبلت لتدخل في دين الله، فهذا يدل على أن الدعوة قد بلغت كمالها وأن الرسالة قد بلغت وأن الأمانة قد أديت، لذلك استنبط ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من الصحابة استنبطوا من هذه الآية أن فيها إشارة إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رسالتك قد تمت، وأديت ما عليك، فتهيأ للقاء ربك.
ويدل لهذا المعنى في السورة قوله سبحانه وتعالى قبل ذلك بحوالي ثلاثة أشهر في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] أي: كمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله عز وجل لنا الإسلام ديناً، فلذلك بكى عمر رضي الله عنه حينما نزلت هذه الآية، وعلم ذلك لأنه ما من شيء يبلغ الكمال إلا ويئول إلى النقصان.
قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] الفتح قيل: المراد به هنا فتح مكة، وقيل: فتح المدائن والبلاد كلها، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً واحداً، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجاً.
فهم يعلمون أن من شأن مكة أن لا يسلط الله عز وجل عليها أي كافر أو كذاب، كما فعل الله عز وجل مع أبرهة الحبشي، حيث قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5].
ثم يقول رحمه الله: فلم تمض سنتان حتى استوثقت جزيرة العرب إيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام، فلله الحمد والمنة.
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: كنا بماء ممر للناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما فتح الله عليه مكة بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فأسلم قوم عمرو بن سلمة بعد ما وقع ما كانوا ينتظرونه من دخول الناس في دين الإسلام.
وقيل أيضاً: إن الفتح عامٌّ في فتوح البلاد كلها، وتقدمت الإشارة إلى فتوحات قبل مكة.(35/11)
الفتوحات الإسلامية مصداق للنبوة
لقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من هذه الفتوحات، ووقع منها الكثير بفضل الله سبحانه وتعالى، وما لم يقع فسيقع مصداقاً لكلامه عليه الصلاة والسلام، من هذه الفتوحات التي أخبر بها الوحي فتح خيبر وفتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، سواء من اليمن أو من غيرها، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح بلاد العرب، أخبر بفتح مصر، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال: ذمة وصهراً)، رواه مسلم.
وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه).
أما قوله: (منعت) فله معنيان: أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم سيسلمون ويسقط ما عليهم بإسلامهم، فصاروا بإسلامهم مانعين ما كان عليهم من الوظائف، واستدل على هذا بقوله: (وعدتم من حيث بدأتم) لأنهم في علم الله وفي قضائه وقدره أنهم سيسلمون، فعادوا من حيث بدءوا.
الثاني: أنهم يرجعون عن الطاعة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (كيف أنتم إذا لم تجدوا ديناراً ولا درهماً؟! فقيل: وكيف ترى ذلك كائناً؟! قال: إذاً والذي نفسي بيده عن قول الصادق المصدوق أنه قال: تهتك حرمة الله وذمة رسوله، فيصب الله على قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم) رواه البخاري.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) أي أنه لا تقوم الساعة حتى يعم دين الإسلام الأرض كلها.
وعن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح العراق فيأتي قوم يبسون ويتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
والمقصود من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بفتح اليمن والشام والعراق، وما فتحت هذه البلاد إلا من بعده صلى الله عليه وسلم إلا اليمن، ويؤيد هذا ما ذكره ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: الله أكبر، الله أكبر جاء نصر الله والفتح، جاء أهل اليمن، قيل: يا رسول الله! وما أهل اليمن؟ قال: قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية).
وبعد فتح مكة جاءت الوفود التي دخلت في دين الله أفواجاً العام التاسع من الهجرة، وجاء وفد اليمن، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عماله إلى اليمن بعد فتح مكة، وقدم عليه علي رضي الله عنه من اليمن في العام العاشر في موسم الحج، ففتحت اليمن بعد فتح مكة في حياته صلى الله عليه وسلم.
فهذا كله يؤيد أن الفتح هنا عام في كل فتح، وليس فقط فتح مكة، وهذا يؤخذ بدلالة الإيماء وبدلالة الإشارة.
وقوله: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) فيه وعد بفتوحات كثيرة لمناطق شاسعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر -كما في سورة الحج- أن الناس يأتون للحج من كل فج عميق، فقال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28].
فهذا يدل على أن الناس سوف يأتون إلى الحج من أماكن بعيدة، وهذا الإتيان إلى الحج يدل على أن الإسلام قد انتشر في تلك البلدان البعيدة.(35/12)
تفسير قوله تعالى: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توباً(35/13)
المعنى الإشاري المضمن في سورة النصر
وهذه السورة يؤخذ منها قوة دلالة الإشارة والإيماء، كما جاء في قصة ابن عباس مع عمر رضي الله عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر: إنه ممن قد علمتم) أي: ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم! فقه في الدين وعلمه التأويل)، فظهرت استجابة الله لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام في العلم الزاخر الذي جمعه هذا الحبر رضي الله تعالى عنه.
يقول ابن عباس: (فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذٍ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقال: فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، فقال عمر: وأنا لا أعرف فيها إلا كما قلت) أي أنه صلى الله عليه وسلم جاء لأداء مهمة وقد تمت بمجيء النصر والفتح والدخول في دين الله أفواجاً، وعليه يكون قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة، فليستعد لملاقاة ربه ليلقى جزاء عمله.
فهذا مأخذ واستنباط وفهم وفقه دقيق لهذه الآية.
فاللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(35/14)
الذكر الفاضل
ونقول للذين يداومون على ذكر الله سبحانه وتعالى: لقد كان أكثر ما يداوم النبي عليه الصلاة والسلام عليه هو الاستغفار مطلقاً مع ما ورد عنه في أذكار الصباح والمساء، فقد ورد الترغيب فيه، وورد في السنة العملية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستغفار، كان لا يجلس مجلساً إلا يقول فيه: (رب اغفر لي وتب علي؛ إنك أنت التواب الغفور) وفي بعض الأحاديث: (فإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة).
فإذاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على الاستغفار ويأمر به ويرغب فيه مع ورود الاستغفار -أيضاً- في أذكار الصباح والمساء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم! أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، وهذا الدعاء له فضيلة.
إذاً: علينا أن نهتم بمراتب الأعمال في تقديم الفاضل على المفضول، فمثلاً: قبل الانصراف من الصلاة قبل التسليم وردت أحاديث كثيرة تقال قبل التسليم، من أهمها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو التعوذ من أربع: (اللهم! إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال)، فهذا أمر به فتقدمه على غيره.
كذلك سيد الاستغفار، فإنه يقال في المساء وفي الصباح، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة هذا الدعاء بقوله: (فمن قاله حين يصبح ثم مات من يومه دخل الجنة، ومن قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة)، إذاً هذا أولى من غيره من الأعمال؛ لأنه قد يقول الإنسان هذا الدعاء فيكون بذلك قد ضمن الله عز وجل له الجنة بنص حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
فعلى الإنسان المسلم أن يعرف فضائل الأدعية حتى يقدم بعضها على بعض، فمثل هذا الدعاء جدير بأن تحافظ عليه وأن لا تفرط فيه خشية أن يكون هذا آخر يوم أو آخر ليلة في حياتك، فتختمها بالاستغفار، كما أُمر صلى الله عليه وسلم أن يختم يومه أو يختم عمره بالاستغفار: {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
وفيه رد على ممن يواظب على الذكر بلفظ المفرد، فيقول: الله، الله، الله مثلاً آلاف المرات، أو يقول: يا رحمان، يا رحمان، يا رحمان، يا لطيف، يا حي يا قيوم بدون أن يأتي بجملة ذات معنى واضح، فهذا -أيضاً- مما يعده بعض المحققين من البدع؛ لأنه لم يرد به نص صريح ولا صحيح، ولأن الخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع، وأي خير أعظم مما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وأمره به، فالتزم به وامتثل ذلك، فكان يكثر أن يقول: (سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، اللهم! اغفر لي)، وذلك لأنه توفي بعد ذلك بمدة يسيرة، فأراد أن يختم حياته بالاستغفار وبهذا الدعاء العظيم، وتأمل فعل الإمام البخاري رحمه الله تعالى كيف أنه ختم جامعه الصحيح الذي يعد أصح الكتب بعد القرآن ختمه بقوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فآخر عبارة في صحيح البخاري: (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من ضن بالمال أن ينفقه وبالليل أن يكابده فعليه بسبحان الله وبحمده) أي: إذا كنت عاجزاً عن النفقة في سبيل الله نتيجة فقر أو بخل فهناك البديل يعوضك عن الأجر الذي تناله من الصدقة أو من قيام الليل، ألا وهو التسبيح والتحميد.(35/15)
الاستغفار ودوره في أعمال العبد
ثم قال عز وجل: (وَاسْتَغْفِرْهُ) قال البعض: إذا كان الاستغفار على الذنب فيكون الاستغفار في حق النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في الحسنات ورفعة في الدرجات؛ لأن الأنبياء معصومون عن الوقوع في المعاصي، فمثل هذه الآيات كثيرة في القرآن، فإنما تحمل على أن الاستغفار في ذاته عبادة يتعبد بها، وإن لم تقع معصية أصلاً.
والبعض قال: إن هذا من باب (حسنات الأبرار سيئات المقربين) أو من باب شعور الأنبياء بالتقصير في حق الله سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك ينسب إليهم الذنب.
أو أن التوبة هي دعوة الأنبياء والرسل، فهذا آدم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى عنه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، ويقول نوح عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] ويقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128] فيكون هذا تعليماً منه صلى الله عليه وسلم لأمته حتى يستغفروه سبحانه وتعالى، وقيل: هو رفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة).
إذاً التوبة هي دعوة الأنبياء، فتكون -أيضاً- من باب الاستكثار من الخير والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
وجاء عند جميع المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم منذ نزلت هذه السورة لم يكن يدع أبداً قول: (سبحانك -اللهم- وبحمدك) تقول عائشة رضي الله عنها: يتأول القرآن.
حيث روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] إلا يقول فيها: سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، اللهم! اغفر لي.
يتأول القرآن) وفيه عنها أيضاً: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، اللهم! اغفر لي.
يتأول القرآن).
قال الحافظ ابن حجر: معنى (يتأول القرآن) يجعل ما أمر به من التهليل والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: كأنه أخذه من قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور، كان إذا سلم من الصلاة يقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله)، وإذا خرج من الخلاء كان يقول: (غفرانك)، وورد الأمر بالاستغفار -أيضاً- عند انقضاء المناسك في قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199].
إذاً: الاستغفار دائماً يكون في خواتيم الأمور ليجبر ما كان فيها من نقص أو مداخلة رياء.
فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نتأسى به في ذلك.
وأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في خاتمة حياته في سورة التوديع التي نعي فيها إليه نفسه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم مع التسبيح فيه امتثال للأمر،، ومن باب الاحتراز من المعاصي، فيكون أمره بذلك مع عصمته أمراً لأمته، وأن الاستغفار من التواضع، وهو مع ذلك عبادة في نفسه.(35/16)
دلالات الأمر بالتسبيح
قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] قوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزه ربه سبحانه وتعالى عن أن يترك الحق ويدعه للباطل فيهزمه، فمن سوء الظن بالله سبحانه وتعالى أن يُظَنَّ بالله تعالى أنه يترك المسلمين دائماً في حال ضعف وانهزام، ويترك الباطل دائماً في حال علو واستكبار في الأرض، لكن كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فالأيام دواليك، يوم لك ويوم عليك، فهذه سنة الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] فهي ابتلاءات وقعت للمرسلين والأنبياء، ووقعت للعلماء ووقعت للصالحين، فلا بد من أن تدور الأيام دورتها، فلا يفرح أهل الباطل ولا ييأسن أهل الحق، فكلمة الله ظاهرة ولا شك في ذلك؛ لأن من وقع في مثل هذا الظن فإنه يدخل في قوله تعالى في سورة الفتح: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6] فكون المسلم يعتقد بالله أن يترك الله أولياءه ويخذل دينه ويعلي عليه كلمة الكفر والكفار والمشركين هو من سوء الظن بالله سبحانه وتعالى، بل لا بد من أن يتحقق -كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم- النصر للمؤمنين والعاقبة للمتقين.
وتنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين فإنما لينتقم منهم وينصر المؤمنين، فلن يضيع أجر العاملين، ولن يفلح عمل المفسدين، وهو البصير سبحانه بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين.
فقد قرن الله سبحانه وتعالى التسبيح بالحمد كثيراً.
قوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) هذا له ارتباط بأول السورة؛ لأن أول السورة فيه دلالة على كمال مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) يعني: لقد اكتملت رسالتك، وأديت أمانتك، وأتى نصر الله للمؤمنين ولدين الله سبحانه وتعالى، وجاء الفتح العام على المسلمين لبلاد الله، إما بالفعل وإما بالوعد الصادق، وهذه نعمة تستوجب الشكر والثناء والحمد لله سبحانه وتعالى، فلذلك قال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فكان التسبيح مقترناً بالحمد في مقابل ذلك.
قوله: (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي أنه سبحانه وتعالى المتفضل بهذه النعم، كما جاء في سورة الضحى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، وقال في سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]، وقال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3] فترتبط وتقترن الربوبية بالإنعام؛ لأن الرب هو الذي يربي وينعم على مربوبه.(35/17)
حكم تارك الصلاة
اتفق العلماء على تكفير من جحد وجوب الصلاة وإن أداها، واختلفوا في تكفير من تركها تهاوناً وتكاسلاً مع اعتقاده فرضيتها، ولكل أدلته الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.(36/1)
تارك الصلاة بين التكفير وعدمه
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
أيها الأخ المسلم! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فوالذي نفسي بيده فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له عليه في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا ويجاهدون معنا فأدخلتهم النار! قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم.
فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجون منها بشراً كثيراً، فيقولون: ربنا! قد أخرجنا من أمرتنا.
قال: ثم يعودون فيتكلمون فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان.
فيخرجون خلقاً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا.
ثم يقول: ارجعوا، فمن كان في قلبه وزن نصف دينار فأخرجوه.
فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها ممن أمرتنا.
حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة.
فيخرجون خلقاً كثيراً، قال أبو سعيد رضي الله عنه: فمن لم يصدق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]: قال: فيقولون: ربنا! قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير.
قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين، قال: فيقبض قبضة من النار -أو قال: قبضتين- ناساً لم يعملوا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له: الحياة، فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، قال: فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ وفي أعناقهم الخاتم -وفي رواية: الخواتم- مكتوب عليها: (عتقاء الله)، قال: فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فما تمنيتم ورأيتم من شيء فهو لكم ومثله معه.
فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه! قال: فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين.
قال: فيقول: فإن لكم عندي أفضل منه.
فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟ قال: فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً) هذا الحديث أصله في الصحيحين، وهو في رواية خارج الصحيحين صحيح على شرط الشيخين، قد رواه عبد الرزاق وعنه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة في التوحيد، والمروزي في (تعظيم قدر الصلاة).
وهذا الحديث يعد من أقوى الحجج التي يستدل بها من لا يكفر تارك الصلاة، ولا يخرجه من الملة بالكلية بترك الصلاة كصلاة واحدة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة.(36/2)
الأحكام الدنيوية والأخروية المترتبة على ترك الصلاة
يكثر الكلام في وعيد ترك الصلاة وخطورة التقصير في الصلاة وبيان أهميتها، وسنتعرض لزاوية أخرى من البحث تليق بطلبة العلم؛ إذ إنهم يضعون الكلام في مواضعه، ولا يغترون بأمثال هذه القضايا الخلافية، وظننا بهم أنهم لن يقعوا فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا تخبرهم بها لئلا يتكلوا) فإذا كان الخطاب مع طلبة علم فلا بأس به؛ لأنهم يفهمون الكلام ويضعونه في مواضعه، بل لابد من توضيح هذه الأحكام، خاصة أن الكلام فيها يترتب عليه الكثير من الأحكام الخطيرة.
فمثلاً إذا قلنا بقول بعض العلماء، وهو الحكم بكفر تارك الصلاة وخروجه من الملة بالكلية فمعنى ذلك أنه يكون مرتداً لا حظ له في الإسلام، فهذه ليست كلمة تقال وحسب، لكن وراءها عواقب خطيرة جداً، سواء في أحكام الدنيا أو في أحكام الآخرة، فمن أحكام الدنيا سقوط ولايته، فلا يجوز أن يولى أي ولاية، فلا يولي الولاية العظمى، ولا يولى الولاية في النكاح، فلا يصلح لأن يزوج بناته؛ لأنه غير مسلم فلا يؤتمن عليهن، ولا يولى على القاصرين من أولاده وغيرهم.
ومنها -أيضاً-: أنه يسقط إرثه من أقاربه؛ لأن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر، كما جاء في الحديث المتفق عليه.
ومنها أنه يحرم عليه دخول مكة، فلا يجوز له أن يمكن من دخول الحرمين الشريفين؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].
ومنها: تحريم ما ذكاه، فإذا ذكى شيئاً من بهيمة الأنعام -الإبل أو البقر أو الغنم- أو ذكى دجاجة وحكمنا بكفره فلا يحل أكل ما ذكاه، لأنه مثل الميتة ولأن من شروط الذكاة الشرعية أن يكون المذكي مسلماً أو كتابياً.
فذبيحة الكتابي اليهودي أو النصراني تحل بشرطها، لكن لا تحل ذبيحة هذا المرتد.
ومن ذلك أنه تحرم الصلاة عليه بعد موته، ولا يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة.
وكذلك تحريم نكاحه المرأة المسلمة، إذا قلنا بالكفر فلا يجوز أبداً لكافر أن يتزوج مسلمة كما هو معلوم.
وأما الأحكام الأخروية فمنها أن الملائكة توبخه وتقرعه، بل تضرب وجهه ودبره إذا توفته، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال:50 - 51].
ومنها أنه يحشر مع الكفرة والمشركين، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23].
ومنها الخلود في النار أبد الآبدين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} [الأحزاب:64 - 66] فهذه بعض الإشارات إلى ما يترتب على الحكم بتكفير تارك الصلاة.
فهذا الموضوع ليس موضوعاً نظرياً، بل يترتب عليه أحكام، ونحن نواجه هذه المشاكل في حياتنا العملية، وفي الأسئلة الموجهة لنا، فلابد من أن نكون على بصيرة من حقيقة الخلاف في هذا الأمر.(36/3)
مؤلفات في حكم تارك الصلاة
يفرح طالب العلم إذا وجد في مثل هذا الموضوع كلاماً فيه من الشيوخ أو طلاب العلم أو الباحثين؛ فإن ذلك -بلا شك- لا يخلو من فوائد عظيمة جداً تثري البحث العلمي.
ويتوافر لدينا بعض المصنفات المستقلة في هذا الباب، أشهرها على الإطلاق هو كتاب للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو كتاب الصلاة وحكم تاركها، وسياق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها، فهذا هو أول مرجع وأشهره.
وتوجد رسالة للشيخ محمد بن صالح العثيمين اسمها (حكم تارك الصلاة) وأيضاً صدر كتاب بعنوان (فتح من العزيز الغفار لإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار) وقد وجهت إلى مؤلف هذا الكتاب نصيحة بتغيير اسم الكتاب، فلبى النصيحة وغير اسم الكتاب إلى اسم آخر، ويعد هذا الكتاب من أوفى البحوث في هذه القضية؛ لأنه جمع أدلة الفريقين بالتفصيل، وتتبع أدلة مخالفيه، ويعتبر من أقوى البحوث التي تناولت هذه القضية وأوسعها، ويكفي كتاب (فتح من العزيز الغفار) فضلاً أن الشيخ الألباني مدحه، والشيخ الألباني معروف بأنه عزيز المدح، وصعب جداً أن يمدح أحداً، فالشيخ ناصر قد أطلق قلمه في مدح هذا الكتاب والثناء عليه بما لم يظفر به غيره من المصنفين في هذا الزمان، فهذه -بلا شك- شهادة لها قيمتها ولها وزنها من العلامة الألباني.
وكالعادة ما سلم الأمر من أخذ ورد، فبمجرد أن ألف الشيخ عطاء كتاب (فتح من العزيز الغفار) قام بالرد عليه أخ يدعى ممدوح جابر عبد السلام، فألف كتاباً حول مسألة حكم تارك الصلاة وسماه: (الرد العلمي على كتاب فتح من العزيز الغفار لإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار)، ثم عاد الشيخ عطاء وألف من جديد كتاباً سماه: (فيض من رب الناس بإبطال رد ممدوح بن جابر من الأساس).
وما زلنا ننتظر المزيد من الردود، وعلى أي الأحوال نحن المستفيدون من هذه المساجلات العلمية، لكن نبرأ من الأساليب الغليظة من بعض المؤلفين في الرد على البعض الآخر في مثل هذه القضايا الاجتهادية.
ونحن إنما نبحث عن الخلاصة، وننتفع بكلام هذا وكلام ذاك، ولكن لا ننصت ولا نلتفت إلى شدة بعضهم على بعض، أو ما يقع من تجاوزات، فهذا لا يعنينا في شيء، فذكر هذه البحوث يُفيد في تفصيل هذه القضية.
والكلام كثير جداً، لكن سنحاول إن شاء الله تعالى أن نمر مروراً سريعاً بقدر المستطاع على هذا البحث إن شاء الله تعالى.(36/4)
أدلة من لا يكفر تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً
وقبل معرفة الأدلة ينبغي أن نعلم أن الخلاف هو في الذي يقر بوجوب الصلاة ويكسل عنها، أما الذي يجحد وجوب الصلاة فهو كافر مرتد وإن كان يصلي الفرض والنفل ويحافظ على الصلاة في الجماعة، ويأتي بظاهرها وباطنها، فمن كان يفعل ذلك ويقول: أنا أفعل هذا وأعتقد أن الصلاة ليست فريضة وليست واجبة، فهو كافر كفراً اعتقادياً؛ لأنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
فالذي لا يقر بوجوب الصلاة لا خلاف في كفره بين العلماء، لكن اختلفوا في الذي يقر بوجوب الصلاة لكنه يكسل عن أدائها، فهذا هو محل الخلاف، أما الشخص الذي يجحد وجوب الصلوات فهو كافر مرتد مشرك حلال الدم والمال، واليهود والنصارى خير من الذي يجحد وجوب الصلاة، حتى ولو كان يصلي.
فكلامنا عن حكم تارك الصلاة الذي يقر بوجوبها ويكسل عنها.
وهنا مجموعة من الأدلة التي استدل بها الذين لا يكفرون تارك الصلاة: الدليل الأول: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: (ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وسهام الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة، ولا يتولى الله عبداً في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوماً إلا جعله الله معهم، والرابعة: لو حلفت عليها رجوت ألا آثم: لا يستر الله عبداً في الدنيا إلا ستر عليه يوم القيامة) رواه الإمام أحمد والحاكم والنسائي وغيرهم، وهو حديث صحيح.
فهذا الحديث يدل على أن من جاء بسهم واحد أياً كان هذا السهم وترك بقية سهام الإسلام كلها فإن حكمه يختلف عن حكم من ترك سهام الإسلام كلها ولم يأت منها بأي سهم.
فوجه الدلالة في هذا الحديث على عدم تكفير تارك الصلاة أنه جعل الصلاة سهماً من أسهم الإسلام، مثل الصيام ومثل الزكاة، ثم صرح بأن من أدى واحدة من هذه الأسهم الثلاثة كان له سهم في الإسلام، ولا يتساوى في الحكم مع من لم يؤد واحداً منها، فهذا يدل على أن من أدى الزكاة فقط -مثلاً- وترك الصوم والصلاة له سهم في الإسلام، وعليه فإن له نصيباً فيه، فلو كان ترك الصلاة مخرجاً من الملة بالكلية لما كان له -أصلاً- نصيب في الإسلام.
فقوله: (لا يجعل الله من له سهم في الإسلام -أي: من هذه الأسهم الثلاثة- كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة) هو الدليل الأول الذي استدلوا به.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق) والصوى علامات من الحجارة توضع على الطريق لتبين مراحل الطريق في السفر، قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فالذي انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراء ظهره) هذا رواه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) وهو حديث صحيح رجاله ثقاة رجال الشيخين.
فوجه الدلالة في هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل هذه منارات وعلامات في الإسلام، أعظمها بلا شك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، ومعلوم أن التوحيد هو شرط في صحة كل شعب الإيمان، إذا فقد التوحيد بطلت كل شعب الإيمان، ولا ينتفع بها صاحبها في الآخرة.
قال: (وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه) فقوله: (فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه) يعم كل ما تقدم ذكره ما عدا شهادة التوحيد؛ لأنها شرط في صحة كل شعب الإيمان، فالذي لا يأتي بالتوحيد لا نقول عنه: إنه ترك سهماً من سهام الإسلام.
بل إنه لا حظ له في الإسلام، لكن المقصود باقي الشعب المذكورة، وهي (أن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان) إلى آخره، يقول (فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن -يعني: جميعاً- فقد نبذ الإسلام وراء ظهره).
الدليل الثالث: عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وحج البيت سهم، والصيام سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له) ووجه الدلالة قريب مما مضى.
الدليل الرابع: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه) هذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والبغوي في (شرح السنة) وفي بعض الروايات: (وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن).
فمعنى ذلك أن من قصر في شيء من هذه الصلوات فإنه يدخل تحت المشيئة، فإن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، وهذا شأن أهل الكبائر وليس شأن المشركين أو الكفار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فإذا كان ترك الصلاة كفراً فإن الله لا يغفره، أما دخوله هنا تحت المشيئة فيدل بنص هذا الحديث على أنه لا يكفر بذلك كفراً يخرجه من ملة الإسلام.
الدليل الخامس: عن عبادة رضي الله عنه مرفوعاً: (خمس صلوات افترضهن الله على عباده، فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئاً لقيه وله عنده عهد يدخله به الجنة، ومن لقيه وقد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لقيه ولا عهد له، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) وهذا -أيضاً- حديث صحيح، ووجه الدلالة واضح وموافق لما مضى.
الدليل السادس: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أدخل رجل قبره فأتاه الملكان فقالا: إنا ضاربوك ضربة.
فقال لهما: علام تضرباني؟! فضرباه ضربة امتلأ قبره منها ناراً، فتركاه حتى أفاق وذهب عنه الرعب، فقال لهما: علام ضربتماني؟ فقالا: إنك صليت صلاة وأنت على غير طهور، ومررت برجل مظلوم ولم تنصره) وهذا رواه الطبراني وهو حديث حسن بطرقه.
الدليل السابع: عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين فقبل منه) وهذا رواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح ورجال إسناده ثقات.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل منه الإسلام مع هذا الشرط، فكونه قبل منه الإسلام مع أنه اشترط أنه لا يصلي غير صلاتين يدل على أنه لا يمكن أن يقبل منه شرطاً لا يدخله في الإسلام، فهذا الحديث يدل -أيضاً- على أنه لم يكفر بذلك.
الدليل الثامن: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (إن أول ما يحاسب به الناس من أعمالهم الصلاة، فيقول ربنا للملائكة وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي هل أتمها أم نقصها.
فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان قد انتقص شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه.
ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم) وهذا حديث صحيح ثبت عن ستة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
الدليل التاسع: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة) وهذا رواه الإمام أحمد، والشاهد هنا قوله عليه الصلاة والسلام: (وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء) فهذا دليل على عدم تكفير المتعمد ترك الصلاة كسلاً.
الدليل العاشر: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة -أي أنه ظل يردد هذه الآية حتى صلى صلاة الفجر- وقال: دعوت لأمتي.
قلت: فماذا أجبت -أو: ماذا رد عليك؟ - قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة.
قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى.
فانطلقت معنقاً قريباً من قذفة بحجر فقال عمر: يا رسول الله! إنك إن تبعث إلى الناس بهذا ينكلوا عن العبادة.
فنادى أن: ارجع فرجع، وتلك الآية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]).
الدليل الحادي عشر: عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى(36/5)
نتيجة أدلة من لا يفكر تارك الصلاة كسلاً
تلك الأدلة تدل على أن ترك الصلاة -بلا شك- من أكبر الكبائر على الإطلاق، لكن ليس هو كفراً أكبر مخرجاً من الملة؛ لأننا لا يمكن أن نسوي بين من آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام إيماناً صادقاً وأيقن أن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول من عند الله حقاً وبين من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم كاليهودي أو النصراني.
فهناك أدلة على عدم تخليد أصحاب الكبائر في النار، وهي تثبت أن تارك الصلاة يعذب بالنار ويستحق ذلك إن شاء الله عز وجل، لكن لا يخلد فيها، ولذلك نجد أن أدلة الفريق الآخر الذي يكفر تارك الصلاة غاية ما فيها أن تارك الصلاة يعذب في النار، لكن يرد عليهم بالقول: فأين الدليل على خلوده؟ فنحن لا نختلف على أنه يدخل النار إذا قدر الله له العذاب.
ومن الأدلة التي تؤيد القاعدة العامة التي تقول: إنه ليس هناك من الأعمال الصالحة ما إذا ضيعه الإنسان يخلد في النار قول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39]، ومنها قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81] وغير ذلك من الأدلة العامة التي تدل على تكفير مرتكب الشرك، أما من ارتكب الكبائر خلا الشرك فإنه لا يكفر إلا إذا استحلها.
ومن ذلك -أيضاً- قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ} [فاطر:32] فقوله: (فمنهم ظالم لنفسه) هم أصحاب الكبائر.
فيدل هذا على عدم كفره؛ لأنه داخل في الذين اصطفاهم الله، وإن كان قد يعذب.
وهناك جملة كبيرة من النصوص التي فيها وصف أفعال معينة بالكفر، والكفر فيها ليس كفراً أكبر، ولكنه كفر دون كفر، والآيات في هذا كثيرة جداً والأحاديث في هذا كثيرة.(36/6)
أدلة من يكفر تارك الصلاة مطلقاً والرد عليها
استدل القائلون بكفر تارك الصلاة بقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فقالوا: اشترط الله تعالى لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط: الأول: أن يتوبوا من الشرك.
الثاني: أن يقيموا الصلاة.
الثالث: أن يؤتوا الزكاة.
أما إذا تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوة لنا، ولا تنتفي أخوة الدين إلا بالشيء الذي يخرج من الملة، بدليل أن بعض المعاصي لم تنتف بها -رغم وقوعها- أخوة الدين، كقوله تبارك وتعالى في القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] إذاً: لا تنتفي أخوة الدين مع وجود القتل الذي هو كبيرة من الكبائر، فدل على أنها ليست كفراً.
وكذلك -أيضاً- قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] وهذا في فئتين متقاتلتين، ومع ذلك بقيت أخوة الإيمان مع وجود القتال.
فالأخوة في الدين لا تنتفي إلا بما يخرج من الملة، وهنا قاعدة، وهي أن ما علق على شرطين لا يتحقق بواحد منهما، وما علق على ثلاثة لا يتحقق باثنين أو واحد منها، وهكذا هنا، قالوا: قال الله تعالى: (فإن تابوا) يعني: من الشرك (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين)، فإن افتقد واحد من هذه الشروط الثلاثة، فإنهم لا يكونون إخوة لكم في الدين.
وأما الفريق الذي لا يكفر تارك الصلاة فقد ردوا على هذا وقالوا: إذا تابوا من الشرك وأقاموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة هل يكونون كفاراً؟ وهل تنقطع أخوة الدين بناء على هذا الكلام؟ قالوا: لا؛ إذ عندنا أدلة تدل على أن تارك الزكاة لا يكفر، وهو أنه ورد في وعيد تارك الزكاة أنه يصور له ماله شجاعاً أقرع إلى آخر الحديث، وفي آخر الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار) فبعد أن يعذب هذا العذاب يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار، فهذا يدل على أن تارك الزكاة لا يكفر لمجرد تركها.
وردوا كذلك على هذا الاستدلال بأن منطوق هذه الأدلة التي ذكرناها آنفاً يدل على أن تارك الصلاة لا يخرج من الملة، وهذا المنطوق يقدم على مفهوم هذه الآية، فالله تعالى يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فمنطوق هذه الآية أن من تاب من الشرك وأقام الصلاة وآتى الزكاة فإنه يكون أخاً لنا في الدين مسلماً، أما المفهوم فهو: أن من ترك هذه الثلاثة أو شيئاً منها فليس أخاً لنا.
فالتعارض هو بين مفهوم الآية ومنطوق النصوص أو الأحاديث التي ذكرناها من قبل التي تدل على عدم كفره، وعند تعارض المنطوق مع المفهوم يقدم المنطوق.
وكما لا يكفر تارك الزكاة تقديماً لمنطوق حديث: (ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار) على مفهوم هذه الآية، فكذلك يقدم منطوق النصوص الدالة على عدم كفر تارك الصلاة على مفهوم هذه الآية.
فتكون كلمة (فإخوانكم في الدين) في شأن الشرك محمولة على أصل الأخوة، أما في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فتحمل على كمال الأخوة في الدين، يعني: ليسوا إخواننا إخوة كاملة، بل ناقصة.
الدليل الثاني: استدلوا بقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:59 - 60] فقالوا: قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) دل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات ليسوا مؤمنين؛ لأن الآية تقول: (إلا من تاب وآمن) فدل ذلك على أن تارك الصلاة غير مؤمن؛ لأن توبته مرتبطة بالإيمان.
والجواب أن قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) معناه: لو تاب وداوم وثبت على إيمانه.
كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] أي: داوموا على إيمانكم.
لأنه خاطبهم بصفة الإيمان.
فيكون معنى قوله: (إلا من تاب وآمن) أي: آمن إيماناً كاملاً بشروعه في الصلاة.
والدليل على إبطال احتمال أن قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) قصد به الدخول في أصل الإيمان وأنه مشرك بتضييعه للصلاة أنه لم يكتف بكلمة (إلا من تاب) لأن التوبة ستشمل الكفر وتشمل المعاصي، لكنه لم يكتف بها ولم يقل: (تاب) فحسب كما قال سبحانه وتعالى في الكافرين: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة:74] ولم يقل: فإن يتوبوا ويؤمنوا.
مع أن الله سبحانه وتعالى ذكر في حق المنافقين أنهم كفروا بعد إسلامهم، فتوبة الكافر هي إيمانه، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لرجل قال له: أقاتل ثم أسلم، أم أسلم ثم أقاتل؟ قال له: (أسلم ثم قاتل)، ولم يقل له: تب وأسلم.
أو: تب وآمن ثم قاتل.
لكنه قال: (أسلم).
وفي حديث معاذ قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم) إلى آخر الحديث، فقال: (فادعهم إلى أن يشهدوا) ولم يقل: إلى أن يتوبوا.
وقال عليه الصلاة والسلام لـ هرقل: (أسلم تسلم)، وقال الله عز وجل حاكياً عن الوالدين يعظان ابنهما: {وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف:17].
فالشاهد من هذا كله أن المقصود من كلمة (آمن) أي: دخل في تمام الإيمان وكماله.
وقد أولنا كلمة (آمن) عن معناها الحقيقي -وهو الدخول في أصل الإيمان- إلى المعنى المجازي -وهو تمام الإيمان وكماله- القرينة، فقوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) أي: إيماناً كاملاً.
والقرينة التي جعلتنا نصرف كلمة (آمن) عن معناها الحقيقي هي الأدلة التي تدل على أن تارك الصلاة كسلاً لا يكفر كفراً مخرجاً من الملة، وليس المقصود بذلك أصل الإيمان، بل كماله.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:35 - 43] فقوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) يفهم منه: أنه لا يليق بحكمة الله أن يجعل المسلمين كالمجرمين، فبين تبارك وتعالى حال هؤلاء المجرمين أنهم يوم القيامة عندما يكشف عن ساق -كما بين ذلك الحديث الصحيح- ويدعون إلى السجود يحال بينهم وبين السجود عقوبة لهم على ترك السجود مع المصلين في دار الدنيا، قال تعالى: (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون) أي: في الدنيا (إلى السجود وهم سالمون) فيمتنعون من الصلاة، فلذلك يؤاخذون بذلك، فيفهم من هذا أنهم يكونون مع الكفار والمنافقين؛ لأن المنافقين ستبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كالطبق الواحد لا يستطيعون السجود، فلو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين.
والجواب على هذا الاستدلال أن الآية لم تتعرض لخلودهم في النار حتى تدل صراحة على كفرهم، وتعجيزهم عن السجود لا يستلزم دخولهم النار؛ لأن هذا في موقف من مواقف يوم القيامة، ولو افترضنا أنه يستلزم دخولهم النار، فهل دخول النار يستلزم الخلود فيها؟ والجواب أنه لا يستلزم الخلود فيها إذا دخلوها.
أما قولهم: لو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين، فجوابه أن هذا غير مسلَّم؛ لأن عدم الإذن لهم بالسجود ربما لأنهم كانوا لا يسجدون لله في الدنيا فعوقبوا بمنعهم من السجود في الآخرة، أو كانوا يسجدون في الدنيا رياء لا لوجه الله، فعوقبوا بحرمان السجود في الآخرة مع المؤمنين.
وأما في الحديث فيقول عليه الصلاة والسلام: (فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له في السجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه) إلى آخر الحديث، والسجود رياء لا يستلزم الخروج من الملة بالكلية.
إذاً: عدم الإذن بالسجود لا يستلزم أن يكون غير المأذون لهم كافرين، ثم إن الآيات لم تذكر أنهم لو دخلوا النار يكون خالدين فيها أو غير خالدين.
الدليل الرابع: استدلوا بقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:38 - 48] فاستدلوا هنا بقوله تعالى: (في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر) قالوا(36/7)
ذم كثرة السؤال
السؤال قضية ترد في حياة المسلم، وقد جعل لها الشرع آداباً كثيرة، حيث كره الإكثار منه فيما لا يعود بفائدة على المسلم وفيما يؤدي إلى التعمق والتكلف ونحو ذلك، كما أرشد الشرع إلى اجتناب المسائل التي يحصل بها ضيق وحرج على المسلمين أو يأتي فيها الجواب بما يسوء السائل، وهناك آداب أخرى ينبغي للمسلم -خاصة طالب العلم- أن يعتنى بها لكي يسلم في دينه.(37/1)
غضب النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة الأسئلة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بسنده في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) في (باب ما يكره من كثرة السؤال) عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم فيه ما دمت في مقامي هذا.
قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء) يعني أن الرسول عليه الصلاة والسلام فتح لهم باب السؤال، وكأنه كان مغضباً من كثرة السؤال، فلذلك قال: ما دمتم تكثرون الأسئلة إذاً فاسألوا، فوالله لا يسألني أحد سؤالاً إلا أجبته عنه.
يقول: (من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامكم هذا.
قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء - خوفاً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: سلوني، سلوني.
قال أنس: فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: النار.
فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة.
قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني، فبرك عمر على ركبتيه - علم عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب من كثرة أسئلتهم- وقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط وأنا أصلي، فلم أر كاليوم في الخير والشر).
وعند مسلم: قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة -وقد كان الناس يطعنون في نسبته إلى أبيه حذافة، فلما فتح الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الفرصة ليجيب عن أي سؤال سأل هذا
السؤال
من أبي يا رسول الله؟ وأراد بذلك أن يحسم هذا الكلام، فلما وقع منه ذلك ورد عليه الصلاة والسلام وقال أبوك: حذافة.
قالت له أمه-: (ما سمعت بابن قط أعق لأمه منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف النساء من أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
هذا الحديث رواه الإمام البخاري في (باب ما يكره من كثرة السؤال)، وذلك في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة)، والحقيقة أن كثرة السؤال وعدم الانشغال بالعمل، وترك الإعراض عن تشقيق الأسئلة وتفريعها والجدل، والسؤال عما لا يعني ظاهرة بلا شك من الأخلاق المضادة تماماً لسلوك السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يحب كثرة السؤال والجدل والمراء والتكلف والتنطع في الأسئلة، وتتبع المغاليق من المسائل، وتتبع سقطات الناس وأغلاطهم كل هذا مما يتنافى مع قول السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
وفي بداية الحديث أحب أنبه على أن ما سنذكره لا نذكره من أجل المتعة الذهنية، أو زيادة المعلومات النظرية، وإنما المقصود أن ينعكس على سلوكنا، وإذا ما انشغلنا بالعلم النافع فلن نحتاج إلى كثرة الأسئلة، إذا انشغلنا بالعلم وبالقرآن الكريم، وبحفظ القرآن، وبذكر الله عز وجل لن نقع في هذا الخلق الذي ذمه السلف الصالح رحمهم الله تعالى أجمعين.
فأنت ترى كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام غضب لما كثرت أسئلة الصحابة، فوقف وقال لهم: (سلوني) أي: ما دمتم تريدون كثرة الأسئلة إذاً سلوني ما شئتم، فأي شيء تسألون عنه سوف أجيبكم عنه ووقع ما وقع كما في الحديث.(37/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)
ونفس هذا المعنى هو الذي علمه الله سبحانه وتعالى الصحابة رضي الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:101 - 102].
فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا) يعني: لا تسألوا نبيكم عليه الصلاة والسلام (عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ) أي: تظهر لكم (تَسُؤْكُمْ) لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يعني: وإن تسألوا عن أشياء نزل بها القرآن مجملة فتطلبوا بيانها تبين لكم حينئذٍ.
هذا أحد الوجوه في تفسير الآية (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يعني: إذا أنزل شيء في القرآن وكان مجملاً وأنتم تطلبون بيانه فهذا ليس منهياً عنه، بل لكم أن تسألوا عن الشيء الذي يوضح ما أجمل في القرآن، فيبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من مواضع الحاجة التي لا حرج في السؤال فيها.
وثم توجيه آخر، وهو جعل (حين) ظرفاً لـ (تبد)، يعني: إن تسألوا عنها تبد لكم حين ينزل القرآن.
وقيل: إن قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يتضمن التهديد والتحذير، أي: ما سألتم عنه في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسؤكم، وربما يأتيكم البيان بما يسؤكم.
فيحمل معنى الآية على: لا تتعرضوا للسؤال عما يسؤكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم؛ لأن زمن الوحي زمن التشريع، كما جاء في سبب نزول هذه الآية حينما نزل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فقال رجل: (أكل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال في الثالثة: أكل عام يا رسول الله؟ قال: لا.
ولو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم أن تحجوا في كل عام).
فلو أن ملايين المسلمين الموجودة في الأرض تريد الحج إلى مكة خاصة، وكان الحج فريضة كفريضة الصلوات الخمس، فكم سيكون في ذلك من المشقة؟ إذاً هذا الرجل فتح باب السؤال، ولو أتى الجواب موافقاً لكان في ذلك تعنت ومشقة وإساءة للمؤمنين.
وقال بعضهم: إنه تبارك وتعالى بين أولاً أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم أساءتهم، ثم بين ثانياً أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فكان حاصل الكلام: إن سألوا عنها أبديت لهم، وإن أبديت لهم ساءتهم، فيلزم من مجموع المقدمتين: أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم، فالمراد بهذه الأشياء ما يشق عليهم ويضمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحو ذلك مما لا خير فيه، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها، كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشبيه لإساءتهم الأدب، واجترائهم على المسألة والمراجعة، وتجاوزهم عما لا يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عز وجل من غير بحث ولا تعرض لكيفيته وأهميته.(37/3)
نموذج من التعنت وكثرة الأسئلة
إذا أتى الأمر الشرعي فامتثله ولا تستتبع حتى لا يأتيك الجواب بما يسوؤك ويثقل عليك، كما حصل مع بني إسرائيل، حين أمروا أن يذبحوا بقرة، فالتنطع في الأسئلة وكثرة مراجعتها خلق إسرائيلي يهودي، خلق المغضوب عليهم، ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة وذبحوها لكانت تجزئهم؛ لأن الأمر كان بأي بقرة، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة:67 - 68] وانظر إلى سوء الأدب مع الله {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68]، اسألوه عن السن، فأتاهم الجواب عن السن: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] وما كفاهم التقيد بقيد السن، بل تنطعوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69] هذا هو بيان (إن تبد لكم تسؤكم) لما في ذلك من التضييق والتشديد.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:69 - 70] فلبركة هذا الاستثناء (وأنا إن شاء الله) أتاهم الجواب الفاصل في النهاية: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] وهذا أيضاً من سوء القول، وكأنه من قبل ما أتى بالحق.
فهذا نموذج من نماذج التنطع والتشدق وتتبع الأسئلة وتقريعها مما يورد هذه المشاق وهذا العنت، فالواجب الاستسلام لأمر الله عز وجل كيفما كان دون السؤال عن الكيفية أو الكمية.
فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:101] معناه: لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يعنيكم من نحو تكاليف شاقة عليكم؛ لأنه إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أوحي إليه فلن تطيقوها، ونحو بعض أمور مستورة إذا سألتم وبرزت سوف يسوءكم الجهر بها.
وقوله تعالى: (عفى الله عنها) يعني: عفا عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن، ولم يوجبها عليكم توسعة عليكم، فأنتم بالسؤال قد تفتحون باب التضييق عليكم.
أو: عفى الله عن بيانها كي لا يسوءكم بيانها.
قال تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:102] (ثم أصبحوا بها) أي: بسببها (كافرين) لأنهم لما أجيبوا بما سألوا عنه لم يمتثلوا هذا الذي وجب عليهم بسبب السؤال، ولم يفعلوه، وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له.(37/4)
ما روي في سبب نزول آية المائدة
هذه الآية روى البخاري في سبب نزولها عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءاً، فيقول رجل: من أبي؟ ويقول رجل تضل ناقته: أين ناقتي؟) كما يعمل هذا بعض المستفتين في هذا الزمان عندما يأتون إلى الشيوخ والعلماء لحل أسئلة المسابقات.
وهذا نوع من الاستخفاف بالأشخاص، وهذا الخلق -كثرة الأسئلة- يحمل هذا المعنى، فكان الرجل تضل ناقته فيأتي يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عنها، فأنزل الله فيهم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101].
وعن أنس رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فنزلت هذه الآية: ((لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)) [المائدة:101]).
وروى البخاري أيضاً في كتاب الفتن عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة - حتى أحرجوه وأضجروه بكثرة المسائلة - فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم المنبر، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم.
فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي) عرف الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غضب من كثرة السؤال.
فلذلك قال: إذا كنتم تفتحون هذا الباب إذاً اسألوا وسأجيبكم حتى لو كان ذلك فيه ما يسوءكم ويؤذيكم.
ومن أجل ذلك أفاق الصحابة وفهموا أنه في حالة غضب شديد على هؤلاء الذي يسلكون هذا المسلك، ولذلك يقول هنا: (فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي) يعني: خوفاً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندماً على ما كان منهم من قبل.
قال: (فأنشأ رجل كان إذا لاحى -يعني: وقع جدال أو عراك بينه وبين شخص- ينسب إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة.
ثم أنشأ عمر فقال رضي الله تعالى عنه: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط؛ إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط) فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
وعن السدي قال: (غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فقام خطيباً فقال: سلوني -إلى أن قال مثل ما مضى من الأحاديث- فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وزاد: وبالقرآن إماماً، فاعف عنا عفا الله عنك.
فلم يزل به حتى رضي صلى الله عليه وسلم).
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمر وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ قال: في النار -بنحو ما مضى- وفيه فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]).(37/5)
أدب لطلبة العلم في ضوء الآية
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (وفي هذه الزيادة على ما في البخاري من قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين أنا؟ قال: في النار) يتضح أن هذه القصة هي سبب نزول قوله تعالى: (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
وكيف ستكون حياة هذا الرجل في الأيام أو الشهور أو السنوات المتبقية من عمره وهو يترقب أنه بعد موته يدخل النار؟ وما مقدار المساءة في مثل هذا الخبر الذي يؤذيه ويسوءه بلاشك؟ فالمساءة هنا جاءت صريحة، بخلافها في حق حذافة فقد جاءت بطريق الجواز، وربما إذا أجاب بأن أباه ليس حذافة تؤذيه بطريق الجواز، أي: لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه؛ وبين أباه الحقيقي لافتضحت أمه كما صرحت بذلك حين عاتبته على هذا السؤال، لكن المساءة هنا جاءت بحكم قاطع أنه في النار.
وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي البختري، عن علي رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] قالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت.
فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت.
قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: لا.
ولو قلت: نعم.
لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]).
وجاء أن بعض الصحابة قالوا: (لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: الحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة.
ونحن -معشر طلاب العلم- وأخص من ينتسبون إلى المنهج السلفي -نحتاج لتحذير متكرر في غاية الجدية في هذا الأمر؛ لأنني ألحظ بعض الإخوة حينما يجلسون إلى الشيوخ أو يراسلونهم بالأسئلة ويتصلون بهم ألحظ كثيراً من هذه الأغراض، فيتصل بأحد العلماء مثلاً، ويسأله سؤالاً ما، ويعد له كميناً حين يوصل جهاز التلفون بجهاز سري، ودون أن يستأذنه يسجل له فتاوى، ثم إذا به يستعمل كلام هذا الشيخ لنصرة طائفته التي ينتمي إليها، أو مهاجمة الشيخ نفسه أو غيره، ويسخر هذا الكلام في مثل هذه الأذية، وهذا -بلاشك- خلق ينافي سلوك السلف؛ لأنه -بلاشك- نوع من خيانة الأمانة، ولابد من استئذانه في مثل هذه الأشياء، وهناك رسالة جديدة أصدرها العلامة الدكتور بكر أبو زيد حفظه الله تعالى، تحدث فيها عن مثل هذا بالتفصيل.
أو ربما يكون السؤال على سبيل الامتحان وطالب العلم لديه غرض، لكنه يخفيه في البداية، ثم يفتح الطريق للكلام بطريقة تشبه الاستدراج إلى الموضوع ليجادله، كلما أدلى بحجة يعارضه بحجة.
وهناك فرق بين الاستفتاء السريع الذي هو سؤال وجواب للإرشاد وبين مقام المناظرة، فالمناظرة لها مجلسها ووضعها وأوضاعها، أما الاستفتاء فأمر آخر، فهذا يحصل كثيراً مع كثير من الشيوخ، وهو أن طالب العلم يسأل متعنتاً لا راغباَ في الاستفهام والسؤال.
وقد أدركت بعض الأخوة في مرة من المرات مع أحد الشيوخ الكبار حفظه الله تعالى، وكأن هذا الطالب سهر الليالي حتى يحفظ مسألة معينة، ثم أتى يجادل بها الشيخ بحيث يستدرجه بأن يفتح له الموضوع، ثم إذا به يجادل ويحرج الشيخ ويحاصره كأنه ملاكم أو مصارع يواجه خصمه، فلا شك أنه يوجد كثير من التعنت وتعمد الإحراج أو الامتحان أحياناً، حتى إن الشيخ -حفظه الله تعالى وبارك في عمره وعمله- رد على الأخ بمنتهى البساطة، وقال: يا أخي! إني لا أحسن هذه المسألة.
وعلم الله أن الشيخ يحسنها من قبل أن يولد هذا الشاب وألف فيها كتباً.
فالشاهد أن مراعاة الأدب عند السؤال واجبة، وأما امتحان السائل فهذا من البدع.
وفي قصة الإمام البخاري في محنته المشهورة أنه أتى رجل وسأله سؤالاً أمام الناس حتى يمتحنه، كي يأخذ الجواب ويشنع على عقيدة البخاري، وهذا ما حصل بالفعل، حتى اضطر البخاري إلى الخروج من بلاده، وحصلت له محنة عظيمة بسبب هذا، فلما سأله على مجمع من الناس وهو يقصد امتحانه واختباره وإيقاعه أجابه على مسألة (اللفظ بالقرآن مخلوق) ثم قال له: وامتحان المسلم بدعة.
فليس من الأدب أنك تسأل المسلم لتمتحنه، أو الشيخ لتمتحنه أو لتظهر أنك أعلم منه في هذه المسألة، فالشخص الذي يتعنت ولا يطلب العلم لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره، ولا يجاب ولا يستحق جواباً، لكن فليتأدب في السؤال، ويتلطف ولا يتعنت، ولا ينوي الامتحان ولا الإحراج، ولا استعمال هذا الكلام لامتحان بعض الشيوخ في بعض الموضوعات، إلى غير ذلك من هذه الأشياء.
يقول الحافظ ابن حجر: (والحاصل أنها -أي: هذه الآية- نزلت لكثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان).
وأما موضوع الامتحان في الاتجاهات الحزبية والانتماء للجماعات والاتجاهات الفكرية فهذه مشهورة وكأنها خلق عادي، وكثير من طلبة العالم يسأل كي يمتحن، لا محتاجاً للإجابة، فلا تمتحن وتقول: سأبحث عن اتجاه هذا الشيخ، أو اتجاه هذا الرجل فمثل هذه الامتحانات الأفضل للمسلم أن يكون سلوكه فيها حسن الظن إلى أقصى مدى، خصوصاً مع العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
يقول ابن حجر: (إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لولم يسأل عنه لكان على الإباحة).
بجانب أن كثرة هذه الأسئلة حجة على صاحبها، كما كان بعض الناس يكثر الأسئلة على عالم معين، فلما أضجره وأكثر عليه من الأسئلة قال له: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا.
قال فما تصنع بازدياد حجة الله عليك.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها.
وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) ورواه أبو داود والترمذي، لكن في سنده كلام.(37/6)
الانعكاسات السلبية على الفرد والمجتمع بكثرة التتبع
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معلقاً على هذه الآية الكريمة بقوله في (إعلام الموقعين): لم ينقطع حكم هذه الآية.
يعني: الأدب أو الحكم المأخوذ من هذه الآية لم يكن مختصاً بهؤلاء الذين نزلت فيهم وإنما هو حكم عام باق.
فيقول ابن القيم رحمه الله: لم ينقطع حكم هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله.
ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا) لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا؟ (لا تسأل) لأن الأصل في الماء الطهارة، فالذي كان يمشي مع عمر سأل صاحب الميزاب عن طهارة ذلك الماء، فقال عمر: (يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا) لأن الذي سقط ماء، والأصل في الماء الطهارة، فإذا كنت تمشي بجانب مستنقع من الماء وهناك سيارة تسير بسرعة قذفت بالماء عليك -مثلاً- فلا تبحث عنه، أنت غير مكلف بهذا، ولكن إذا خالفت هذا الأدب وظللت تسأل وتستتبع فقد يظهر لك ما يسوؤك فتصير ثيابك نجسة مثلاً، لكن أنت متعبد بعلمك الذي هو اصطحاب أصل الطهارة في كل المياه والتراب.
كذلك نلاحظ بعض الناس يريد أن يصلي في البيت -مثلاً- فيحضر السجادة، فهذا يقال له: صل على أي شيء من تراب أو فرش، ودع الوسوسة بهذه الطريقة، فأنت غير مطالب بالتحري في أي مكان في الأرض، بل صل فقط، أما أن تتتبع وتفتش وتقول: لعل ولعل فلا.
فما دمت لم تر دليلاً حسياً على النجاسة أمامك فابن على الأصل ولا تتعنت، هكذا الإسلام في سماحته وسهولة أحكامه ويسره، وفي الحديث؛ (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) فخذ الأمور ببساطة، فإذا زرت أخاك المسلم فقدم لك الطعام فلا تسأل عنه، ولا تقل له: من أين هذا؟ أو تسأل عن اللحم من أين، أو الجزار يصلي أو لا يصلي، فأنت غير مطالب بهذا، والأصل أن المسلم يتقي الله، فتأكل مما قدمه لك، وأنت غير مطالب بتتبع هذا الأمر.
هذا هو الأصل، أما إذا ظهر لك ما ينقلك عن الأصل فهذا شيء يعتبر، لكن لا تفتش عن أشياء قد تضيق عليك حياتك، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زار أحدكم أخاه فأكل أو شرب عنده فلا يسأله) لا تسأله، واستصحب هذا الأصل.
يقول ابن القيم: (وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعله يسوءه إن أبدي له).
وأحياناً بعض الناس لا يقنع بمعاملة العبيد مع العبيد حتى يعامل الناس كأنه رب وهؤلاء العباد عبيد له.
فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أنه لا يطلع على ما في صدور الناس إلا الله سبحانه وتعالى رب الناس، أما بعض الناس فإنه يفتش ويتحرى حتى يستتبع خبايا الأمور ودخائل النفوس، وبالتالي يبدأ يحصر نفسه في محيط من العداوات، ولن تستقيم له الحياة أبداً؛ لأنه يحاول أن يتعامل معهم كرب، والرب هو الذي يطلع على ما في القلوب، فاقبل من الناس ظاهرهم ودع عنك باطنهم.
وكنت منذ سنوات بعيدة جداً سمعت عن قصة أو رواية اسمها (نظارة الحقيقة)، هذه النظارة اخترعها رجل زعم أن من لبسها جعلت كل من يحدثه يكلمه بما في قلبه، فيأتي لرجل يتكلم مع زوجته ويسلط عليه نظارة الحقيقة، وبعد أن يكون معها بغاية اللطف والمجاملة إذا به ينقلب الحوار ويكشف كل الأحقاد التي في نفسه تجاهها، ثم إذا سلطها على الآخر يحصل نفس الشيء وهكذا، فظل الرجل يستعمل هذه النظارة فوجد أن الحياة ستصبح جحيماً لا يطاق بسبب أن الناس ستتعامل على حقيقة ما في بواطنها، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل خبايا النفوس مستورة، فاقبل من الناس ما يظهرون، ولا تفتش عن الخبايا؛ لأنك لو فتشت ستطَّلع على ما يسوؤك ويؤذيك، فعامل الناس على أنك عبد مثلهم لا تعلم ما في صدورهم.
ولو أن الإنسان تتبع، وظل يسأل ويحاور ويفتش ويسأل عن النوايا ويتتبعها، فلو قدر أنها كشفت له فهي -قطعاً- سوف تسوءه، والستر سينكشف، والنفس ستفتضح، ومن ثم نعيش في جو بحر من العداوات والأحقاد، ولا يمكن أبداً أن تستقيم معه حياة، فمن رحمة الله أن تترك الأمور مستورة لا تفتش ولا تنقب.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعله يسوءه إن أبدي له، فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه وتعالى يكره إبداءها ولذلك سكت عنها).
يقول القاسمي معلقاً على كلام ابن القيم: (وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها، ويدل له ما رواه له البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته).
فقوله: (إن من أعظم المسلمين جرماً يعني: عقوبة.
فإذا كان السؤال الذي سأله كان بسببه تحريم شيء كان حلالاً فهذا إنسان يعاقب، وهو من أعظم المسلمين جرماً عند الله سبحانه وتعالى، وهذا يجسد لنا خطورة موضوع تتبع الأسئلة بهذه الطريقة، (إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، ومثل ذلك قد أمن الآن؛ لأن التحريم قد انقطع بانقطاع الوحي.(37/7)
ذم كثرة السؤال في السنة وأقوال السلف
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، فالشيء الذي سكت عنه الشرع لا تبحث عنه ما دام أنه لم يذكر في القرآن ولا في السنة، فالأصل هو استصحاب الأصل الذي هو الإباحة في مثل هذه الأشياء؛ فالحلال بين والحرام بين.
فقوله: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وسكت عن أشياء غير نسيان) ما تركه الله لم يكن عن نسيان، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، فاتركها ولا تتتبعها؛ فإن الله لم يكن لينساها، فكونها لم يحتويها القرآن ولا السنة يدل على أن الأصل فيها هو العفو.
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلفوا) يعني: لا تتنطعوا ولا تتتبعوا ولا تفتشوا وتتعنتوا.
لماذا؟ لأن من وصف الرسول عليه الصلاة والسلام ما جاء في القرآن: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] والحديث رواه الترمذي والحاكم وابن ماجة.
وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع)، وفي رواية مسلم: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع)، وانظر إلى شدة تهيب الصحابة رضي الله عنهم من كثرة الأسئلة، حتى إنهم كانوا ينتظرون مجيء الرجل من البادية ليسأل؛ لأنه لن يعامل مثل الصحابي الذي يعيش ليل نهار مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
والرسول عليه الصلاة والسلام يعذر من جاء من البادية، فمن جاء من أهل البادية وكان عاقلاً فهذا ما كانوا يفرحون به؛ لأنه سيسأل أسئلة تفيدهم، فلذلك كانوا يفرحون.
وهذا الحديث يبين المعنى الذي نقصده بياناً واضحاً جداً، وكيف أن الصحابة وعوا هذا الأدب والتزموه، حتى إنهم كانوا يمنعون أنفسهم من أن يكثروا من الأسئلة، وما يكاد يوجد لهم منفذ إلا أن يأتيه رجل غريب فيعذره الرسول عليه الصلاة والسلام فيسأل، لكن إذا كان الرجل عاقلاً فإنه يسأل أسئلة جيدة موضوعية فيفرحون بذلك لأنهم سيستفيدون حينها.
(فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق)، إلى آخر الحديث.
وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها).
ولـ مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: أقمت بصفة أني رجل وافد غريب، وما أظهرت أني أريد الإقامة؛ لأنه إذا أراد الإقامة وصار من المهاجرين المقيمين فلابد أن يلتزم بهذا الأدب؛ لأنه أدب الصحابة المحيطين بالرسول عليه الصلاة والسلام.
فما أجمع إقامةً وهجرةً سنةً كاملةً؛ لأنه سيظل يعامل معاملة الوافد الغريب، فقد كان يعطي نفسه فرصة الأسئلة ويستفيد من مساءلة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول القاسمي: (ومراده أنه قدم وافداً فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفوداً كانوا أو غيرهم).
وأخرج الإمام أحمد، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم -امتثلوا هذا النهي واتقوا أن يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام- فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء) وهذه رشوة غير محرمة وإن كانت في معنى الرشوة، ولكنها ليست رشوة في الحقيقة، قال: (فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء، وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم) لأنه أعرابي فله أن يسأل، وحتى يحرضوه على أن يسأل أهدوا إليه هذا الرداء كيما يقوم بالسؤال ويستمعوا هم إلى الجواب، وهذا -أيضاً- يعطينا معنى تمكنهم من هذا الأدب الذي أدبهم الله به.
ولـ أبي يعلى عن البراء قال: (إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب -يعني قدومهم- ليسألوا، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها).
وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيحتمل أنه كان قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه فالنهي لا يتناول الأمور التي يحتاج إليها المسلم، وما من شك في أن كل مسلم تعرض له قضايا أو مواقف يحتاج فيها لمعرفة حكم الشرع، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال) فالجهل مرض ودواؤه السؤال، فمن يسأل عن شيء واقع له ثمرة فنعم، أما أن يسأل عن الافتراضات والتفريعات وسائر صور التنطع فهذا غير مأذون به.
والمقصود أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يسألونه -فقط- عن بيان أحكام الدين التي يحتاجون إليها، وهذا ليس داخلاً في هذا النهي، كسؤاله عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219]، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، ويقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] ويقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220] وهكذا، فوجود السؤال عما سبق وغير ذلك مما ورد في القرآن يثبت أنهم سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهة كثرة المسائل عما لم يقع أخذوه بطريقة الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سبباً للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب، وأورد الإمام الدارمي في أوائل مسنده باباً أورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين أقوالاً كثيرة في ذلك.
منها: قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن)، وعن عمر قال: (أحرم عليكم أن تسألوا عما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلاً) أي: نحن نشتغل بالأمور التي يترتب عليها ثمرة، أما الافتراضات والتفريعات التي لا طائل من ورائها ولا فائدة ولا ثمرة فهذا مما نهينا عن أن نسأل عنه.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا وقع؟ فإن قيل: لا قال: دعوه حتى يكون.
فلا تسأل عما لم يقع، فإن وقع فحينئذ تسأل.
وعن أبي سلمة ومعاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق، وإن عجلتم تشتت بكم السبل)، وهذا مرسل، فالأصل أننا نشتغل بالأمور التي يترتب عليها ثمرة، أما الافتراضات والتفريعات التي لا طائل من ورائها ولا فائدة ولا ثمرة فهذا نهينا عن أن نسأل عنه.
ومثل ذلك الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع، وهي مسألة نادرة الوقوع جداً، فيفرغ زماناً كان صرفه في غيرها أولى، ولاسيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.
وأشد من كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحكمة، كمثل السؤال عن وقت الساعة، وهذا سؤال عما لا يعني؛ إذ علمها عند الله سبحانه وتعالى، فالسؤال عن وقت الساعة مما لا يفيد ولا ثمرة من ورائه، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة نقل السائل إلى ما ينفعه، وأعرض عن جواب سؤاله، وانتقل إلى ما يفيد فقال: (وما أعددت لها) إلى آخر الحديث.
كذلك السؤال عن الروح، كما قال الله عز وجل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، كذلك السؤال عن مدة هذه الأمة، إلى غير ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، ولا سبيل إلى التعرف على جواب هذه الأسئلة إلا الوحي، وإذا كان الوحي نهانا عن الخوض فيها فلا مطمع أن نجد جواباً صحيحاً لها، فيجب الإيمان بذلك من غير بحث.
وأشد أنواع هذه الأسئلة النوع الذي توقع كثرة البحث بسببه في الشك والحيرة، قال بعضهم: مثل التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب ب(37/8)
مواضيع عشرة يكره السؤال فيها(37/9)
السؤال عما لا ينفع في الدين
قال الشاطبي: (ويتبين من هذا أن الكراهية السؤال مواضع نذكر منها عشرة مواضع): الموضع الأول: السؤال عما لا ينفع في الدين: كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ فهذا لن يعود عليه بأي فائدة، بجانب أنه لو افترض أن أمه قد قارفت ذنباً في الجاهلية، وأنه كان ثمرة هذا الذنب فأي أذية وأي عقوق يكون قد صدر منه في حق أمه وهي إنما كانت في الجاهلية؟! لكن -والحمد الله- الرسول عليه الصلاة والسلام برأها من ذلك.
فأي فائدة تعود عليه بمثل هذا السؤال؟! إذاً يتحرى الإنسان، وربما يعاقب إذا بحث فيما نهى الشرع عن البحث فيه، فتكون العقوبة بقدر الله أن يصدر ما يسوؤه، كما في حديث: (نهى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يطرق الرجل أهله ليلاً)، فلم يتخونهم أو يتلمس عثراتهم؟ لأنه إذا كان مسافراً أو غائباً يفاجئ زوجته في البيت في وسط الليل وهو يقصد بذلك التجسس عليها، ومن ثم ينشأ عن هذا شك وريبة، فربما إذا خالف الأدب الشرعي في أنه لا يطرق أهله ليلاً ربما يبتلى بأن يظهر له ما يسوؤه، كما حصل لبعض الناس حينما خالفوا هذا الأدب بشؤم مخالفة الأدب النبوي في عدم طرقهم لأهلهم ليلاً فرأوا ما يسوؤهم ويؤذيهم.
إذاً الموضع الأول من مواضع كراهية
السؤال
السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة رضي الله عنه: من أبي؟ وروي أيضاً أن بعض الناس سألوا: ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان.
فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]، فأعرض القرآن الكريم عن إجابة السؤال، وأجاب بما يفيد السائل في دينه؛ لأنه سؤال ليس وراءه فائدة.
وفي قوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون أنه يحرم على من عاد من الحج وأراد أن يدخل البيت أن يدخله من الباب، ولكن يدخله من الخلف من النافذة، فيمنعون المحرم من الدخول من باب البيت، وبعض العلماء يقول: إن المقصود هنا الإشارة إلى انتقاد هذا الذي سأل عن الأهلة بأن الهلال يبدوا دقيقاً ثم يصير بدراً ثم ينقص ثانية.
فقوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) يعني أن المشتغل بهذه المسائل كالذي يأتي البيوت من ظهورها، لكن عليك أن تأتي البيوت من أبوابها بأن تسأل عما يفيدك في دينك لا عما لا يعنيك.(37/10)
السؤال بعد بلوغ الحاجة
قال: (الموضع الثاني: أن يسأل بعدما بلغ من العلم حاجته): فالنص الشرعي قد يكون واضحاً وظاهراً، ثم بعدما يبلغه العلم يبدأ يشق على نفسه، ويسأل بعدما بلغ من العلم حاجته، كالرجل الذي سأل عن الحج: أفي كل عام يا رسول الله؟ مع أن ظاهر قوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] يكفي في امتثاله أن يوقعه الإنسان مرة واحدة في عمره، فظاهره أنه ليس إلى الأبد لإطلاقه، فمثل هذا السؤال يجعل موضعاً من مواضع كراهة السؤال، مع أن ظاهر الآية أنه يكفي أن تحج مرة واحدة، لكنه مصر أن يصرح ويسأل: أفي كل عام؟ حتى قال له: (لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم).
ومن هذا سؤال بني إسرائيل عن البقرة بعد ما قال لهم موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] أيَّ بقرة، ولو ذبحوا أي بقرة لانتهى الأمر ولأدوا ما وجب عليهم، لكنه التنطع والتشدد، وكان يكفيهم النص الشرعي بذبح بقرة، فالسؤال في مثل هذا الموضع هو استجلاب للضيق وللعنت، وهو من التنطع.(37/11)
السؤال في غير وقت الحاجة
قال: (الموضع الثالث: السؤال عن غير احتياج إليه في الوقت).
يعني: أن يسأل وهو غير محتاج إلى جوابه في ذلك الوقت، وليس في زمن الاحتياج إليه، وكأن هذا -والله تعالى أعلم- خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم)، وقوله -أيضاً- عليه الصلاة والسلام: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها).(37/12)
السؤال عن صعاب المسائل وشرارها
قال: (الموضع الرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها).
أما السؤال عن صعاب المسائل وشرارها فكما جاء النهي عن الأغلوطات في حديث معاوية عند أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات) والأغلوطات هي المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها، فيهيج بذلك شر وفتنة، أي: ينصب فخاً لعالم، ويلقي له هذا السؤال كي يصدر منه الجواب، فيحصل بذلك شر وفتنة، وهي جمع أغلوطة.(37/13)
السؤال عن علة الحكم
قال: (الموضع الخامس: أن يسأل عن علة الحكم).
يعني هنا الحكم الشرعي من الأمور التعبدية التي لا يعقل معناها، وهي لها معنى وحكمة وإن لم يطلع على ذلك، كتقبيل الحجر الأسود، وبعض مناسك الحج، أو أي أمر تعبدي كما هو معروف، فيكون الأمر من قبيل التعبد، ثم هو يتنطع ويسأل عن علة هذا الحكم مع أنه من الأمور التعبدية؛ كالسؤال عن علة قضاء الصوم دون الصلاة في حق الحائض والنفساء.
فعن معاذة رضي الله عنها قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: (أحرورية أنت؟!).
أي: أأنت من الخوارج؟! والخوارج يرون أن الحائض تقضي الصلاة كما تقضي الصوم، فلم تقف هذه المرأة عند ما ورد وحُدَّ لها في الشرع، ولذلك جاء جواب عائشة رضي الله عنها أولاً بأن وبختها وقالت: (أحرورية أنت؟!) أي: أأنت تذهبين مذهب الخوارج؟! لأن الخوارج ينسبون إلى حروراء، وهي بلدة أو قرية في العراق خرج منها الخوارج.
ثم قالت عائشة: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) فقولها: (كان يصيبنا ذلك) أي: في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام.(37/14)
بلوغ السؤال حد التكلف والتعمق
قال: (الموضع السادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق).
ويدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، والتكلف هو التنطع في الأسئلة والتعمق، ولما سأل عمر: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ قال صلى الله عليه وسلم: (يا صاحب الحوض! لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا).
وأقوى ما يكون هذا في مسائل الطهارة، خاصة إذا كان الإنسان مبتلى بالوسواس فهذا مما يزيد الوسواس، فيعذب نفسه بيده؛ لأنه يظل يفتش وينقب بهذه الطريقة، ولو أنه أخذ الأمور بيسر وسماحة الإسلام الذي هو دين الفطرة واليسر والتبشير والتيسير ورفع الحرج والجناح لما عذب نفسه بنفسه بهذه الطريقة.(37/15)
ظهور معارضة الكتاب والسنة بالرأي من السؤال
قال: (الموضع السابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي).
هذا من المواضع المذمومة، أن يكون واضحاً من صيغة السؤال أنه يريد أن يعارض القرآن والسنة بعقله وبرأيه وبهواه، ولذلك قال سعيد رضي الله تعالى عنه لما سأله رجل سؤالاً من مثل هذه الأسئلة فقال له: (أعراقي أنت؟!).
لأن العراق اشتهرت بأنها منبع الفتن في كل زمان، أو: أأنت من الخوارج أو من المبتدعين الذين هم بالعراق؟ وقيل لـ مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه: الرجل يكون عالماً بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: (لا.
ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت منه وإلا سكت) فمع أنه مع الحق لكنه لا يماري ولا يجادل، وهذه أيضاً من الأخلاق المذمومة، فالجدل والمماراة والملاحاة من الأخلاق الذميمة عند السلف، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) والمراء: الجدال.
يعني: حتى لو كنت محقاً فالأفضل أن تترك هذا الذي يريد الجدال وتسكت عنه، ويبشرك الرسول عليه الصلاة والسلام ببيت في ربض الجنة وبأنه ضامن لك بما قال، ولا تقل: أخشى أن أكون قد كتمت العلم.
ولكن متى ما بدا لك أن هذا الشخص مجادل تصدق عليه بالسكوت حتى لو كان معك الحق؛ لأنه بجداله حرم نفسه من وصول الحق إليه.
فمتى بدا لك أن الشخص الذي يحادثك يريد الجدل والمماراة فإنك تثاب إذا سكت عنه حتى لو كان معك الحق، وهذه أخلاق السلف، وهذا هو خلق الإسلام.(37/16)
السؤال عن المتشابهات
قال: (الموضع الثامن: السؤال عن المتشابهات).
وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، وفي الحديث: (متى رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، هؤلاء هم الذين حذرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم منهم، الذين يتتبعون المتشابهات، ولعلنا نجد صورة واضحة جداً في العلمانيين والملاحدة من الكفار، هؤلاء الناس هذه مهنتهم وهذه حرفتهم، فهم يتقنون صناعة الشبهات والخوض في الأمور المشتبهة، وعدم رد المتشابه إلى المحكم، فالتمسك بالمتشابه والإعراض عن المحكم مما ينبئ عن وجود هذا المرض والزيغ في القلب، والعياذ بالله عز وجل.
وقد روى يحيى بن يحيى التميمي، وجعفر بن عبد الله وطائفة قالوا: جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد في شيء كما وجد فيه من مقالته.
يعني: ما رأى الإمام مالك غضب من أحد كما غضب من مقالة هذا الرجل.
قال: وعلاه الرحضاء -من شدة غضب الإمام مالك احمر وجهه، والعرق ظل يتصبب من وجهه وجبينه -وأطرق ثم قال: (الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً) وأمر به فأخرج.
فحملوه وطردوه خارج المسجد.
وهنا ملاحظة، وهي أن بعض الإخوة يريد أن يسلك مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الخوض في أمور هي من علم الكلام وما أشبهه نتيجة الولع الشديد بمحبة شيخ الإسلام ابن تيمية ودوره التجديدي في الدفاع عن المنهج السلفي، ولأنه أنفق جزءاً كبيراً من عمره في المنافحة عن أهل السنة والجماعة والرد على أهل البدع، والظروف التي وجد فيها شيخ الإسلام اقتضت كثيراً من التفاصيل، حتى إنه لجأ أحياناً إلى مجادلتهم بنفس أسلحتهم سواء في المنطق أو علم الكلام أو غيره، وهذه حالة خاصة بـ شيخ الإسلام، ولا يطلب من كل مسلم أو طالب علم أن يخوض هذا الخوض في هذه الأمور.
وقد رزقنا الله سبحانه وتعالى السلامة من الشبهات في هذا الباب، فلا تعتبر أنك قصرت في دراسة التوحيد إن لم تخض مثل هذا الخوض، فما دمت في عافية لا تخض في هذه المسائل، إنما شيخ الإسلام وأمثاله من العلماء المجاهدين في سبيل الدفاع عن المنهج السلفي وعقيدة أهل السنة والجماعة لهم وضع خاص، كالشخص الذي يرد على النصارى، وهل نطالب كل المسلمين أن يخوضوا في مثل هذا بهذه التفاصيل؟ هذه تعتبر من الفروض الكفائية، لكن مادمت في عافية من الخوض والتعمق في هذه التفاصيل فهذا أحد الملامح الأساسية للمنهج السلفي، أما شيخ الإسلام فلأنه كان في مرحلة تجديد ودفاع، والبيئة الثقافية أو العلمية في مجتمعهم كانت تحمل هذه الأمراض التي غلبت عليه اضطر إلى مواجهة الأشاعرة والصوفية والفلاسفة والمتكلمين والمناطقة بنفس أسلوبهم، وهذا لا يعني أننا ننتهج نفس الأسلوب إلا إن احتجنا إليه في ظروف مشابهة.
وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني، عن ابن وهب قال: (كنت عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة.
أخرجوه)، لماذا؟ لأن الله سبحانه لا يقال له: كيف.
فـ (كيف) تقال لشيء أنت رأيته من قبل وتصورته، فإذا ذكر أمامك ستتخيله في ذهنك، وسوف تستطيع أن تتصوره، فمن رأى الله سبحانه وتعالى حتى يكيفه؟ والعقل لا يستطيع أن يقيس أو أن يكيف الله، وإذا كنا نعجز بعقولنا عن تكييف مخلوقات الجنة فكيف بالله عز وجل؟ فمن يستطيع أن يكيف الجنة ويعرف قصتها؟ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فمهما اجتهدت أن تتخيل في وصف الجنة فلن تصل إلى الحقيقة؛ فهي أعظم مما تتخيل، فإذا كان هذا مخلوقاً ونحن لا نقوى على تكييفه فكيف بالله جل وعلا؟ ويحكى أن شاباً كان يخوض في هذا الباب، ويقع في مثل تلك الهفوات -والعياذ بالله-، فسأله بعض العلماء عن حديث جبريل الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ورأيت جبريل له ستمائة جناح يسد ما بين المشرق والمغرب) فقال له: أخبرني عن خلق من مخلوقات الله له ستمائة جناح كيف تتخيلها وكيف صورتها؟ فعجز.
فقال: فأنا أضع عنك منها سبعةً وتسعين وخمسمائة فيكون الباقي ثلاثة، فصف لي خلقاً من خلق الله تعالى له ثلاثة أجنحة؟ فعجز، وقال: يا فلان! قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز.
هذه هي الحقيقة، لا يعلم كيف الله إلا الله {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] بينما هو أحاط بكل شيء علماً.(37/17)
السؤال عما شجر بين السلف الصالح
قال: (الموضع التاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح).
أي: الخلاف الذي كان بين الصحابة رضي الله عنهم.
فمن المكروه والمذموم أن يخوض الإنسان فيما كان بينهم من الخلاف، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: (تلك دماء عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا).
وقال آخر وقد سئل عن ذلك في مناسبة أخرى مماثلة: (قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]).
فالمقصود عدم الخوض حتى لو كان بعض الصحابة مخطئين في ذلك؛ لأن شأننا نحن مع هؤلاء السادة الأطهار الأبرار هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] يبين الله عز وجل الذين يستحقون أن يوزع عليهم مال الفيء، وهو المال الذي يتركه المشركون ويهربون إذا رأوا المسلمين من بعيد، أما الغنيمة فهي ما يؤخذ مغالبة عن طريق القتال.
فيقول عز وجل في معرض توزيع مال الفيء لمستحقيه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] وهؤلاء هم المهاجرون.
ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، وهؤلاء هم الأنصار.
ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
ولذلك استنبط الإمام مالك من هذه الآية أن الشيعة الرافضة -قبحهم الله- لا يستحقون شيئاً من مال الفيء؛ لأنهم ليسوا من الطوائف التي ذكرها الله الذين يستحقون مال الفيء، وهم المهاجرون، والأنصار، ومن جاء بعدهم وكان محباً ومستغفراً للمهاجرين والأنصار، فما بالك بمن يلعن المهاجرين والأنصار والعياذ بالله؟! ما بالك بهؤلاء المجرمين الشيعة الذين يكفرون الصحابة ما عدا خمسة أو ثلاثة؟! فهل لهم حظ؟ لا.
فإن هؤلاء قد غاظهم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إن الإمام مالك أخذ تكفيرهم من قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، وقال: كل من وجد في قلبه غيظاً على أصحاب الرسول عليه السلام فهو كافر لهذه الآية.
وموضوع تكفيرهم له تفصيل، لكن الشاهد من الكلام قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] وهي تعني كل مؤمن إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] فمن وجد في قلبه غلاً للذين آمنوا وثبت -ومعلوم أن المؤمنين منهم الصحابة، فهم أفضل أمة، وخير أمة أخرجت للناس- فلا يستحق أن يأخذ من مال الفيء.
إذاً نحن نستغفر لهم فيما اجتهدوا فيه وأخطئوا، ونعتقد أن ما حصل من الصحابة من القتال في موقعه الجمل وصفين إنما هو عن اجتهاد خالص لله عز وجل، يريدون به إحقاق الحق، ولكن هذا أمر قدره الله وقضاه ووقع، وليس لنا أن نخوض في هذا الأمر بالوقوع في أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسألة من شدة أهميتها أصبح كل علماء السلف -تقريباً- يختمون بها عقائدهم ومتون العقيدة بأننا يجب أن نمسك عما شجر بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونترضى عنهم، إلى آخر النصوص المعروفة سواء في الطحاوية أو غيرها، فهم يدرجون هذه القضية في قضايا أصول العقيدة وأصول الإيمان، أي: الترضي عن الصحابة، والإمساك عما شجر بينهم وعدم الخوض فيه، فمن سأل سؤالاً من هذا الباب فقد وقع فيما نُهينا عنه من كثرة السؤال كما بينا.(37/18)
سؤال التعنت وقصد غلبة الخصم
قال: (الموضع العاشر: سؤال التعنت والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام).
وفي القرآن في ذم نحو هذا قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، (ألد الخصام) أي: مجادل.
ومنه قوله تبارك وتعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] وهو الجدل، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
ومناسبة هذا أنهم قالوا: هل ما قتله الله حرام وما قتلتموه أنتم أو ما ذبحتموه أنتم يكون حلالاً؟ انظر إلى التلبيس وإيقاع الشبهات في قلوب المؤمنين! فنزل قوله وتعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
فهذا من الجدل القبيح والمذموم، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) (الألد الخصم) الشخص الشديد الجدل والشديد الخصومة والتعنت، فهذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، ويقاس عليها ما سواها.
وأعيد التذكير برءوس هذه المواضع العشرة، وهي المواضع التي يكره فيها
السؤال
الأول: السؤال عما لا ينفع في الدين، ومثاله قول عبد الله بن حذافة: من أبي؟ وكذلك سؤالهم: ما بال الهلال يبدوا رقيقاً؟ الذي نزل فيه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189].
الموضع الثاني: أن يسأل بعدما بلغ من العلم حاجته، ومثاله سؤال الرجل عن الحج: أكل عام؟ وكذلك سؤال بني إسرائيل عن صفات البقرة.
الموضع الثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، ويدل عليه قوله: (ذروني ما تركتكم)، وقوله: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان).
الموضع الرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كالأغلوطات التي ورد النبي عنها.
الموضع الخامس: أن يسأل عن علة الحكم، وهو من قبيل التعبدات، أو يكون السائل ممن لا يليق به السؤال، كما قالت عائشة للمرأة: (أحرورية أنت؟) لما سألت عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة.
الموضع السادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وقد قال تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، كذلك سؤال صاحب الحوض عن طهارته.
الموضع السابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة في الرأي.
الموضع الثامن: السؤال عن المتشابهات.
الموضع التاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح.
الموضع العاشر: سؤال التعنت والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام.
فهذه جملة من المواضع التي يكره فيها السؤال، ويقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها على درجة واحدة، بل منها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها يكون محل اجتهاد، وعلى جملة منها ما يقع النهي عن الجدال في الدين، كما جاء في الحديث: (إن المراء في القرآن كفر) أي: أن يأتي الناس ويضربون الآيات بعضها ببعض.
وهذا أوضح ما يكون في مسائل القدر، فهذا يأتي بالآيات التي تدل على في مذهبه الضال إذا كان جبريا، والآخر يأتي بآية تعارضه إذا كان قدرياً، ويضرب القرآن بعضه ببعض.
وقد قال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه، والجواب بحسبه.
وبعض المفسرين قالوا: لابد من تقييد النهي في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
فقالوا: إلا لما تدعوا إليه الحاجة؛ لأن الأمر الذي تدعوا إليه الحاجة هو من أمور الدين، وقد أذن الله بالسؤال عنه فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الذي رواه جابر رضي الله عنه فقال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء.
فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده).
قالوا: إنه لابد من تقييد الآية بـ: (لا تسألوا إلا عن الأشياء التي أنتم محتاجون إليها في الدين) وهذا القيد لا داعي لتقديره؛ لأن هناك في الآية قيداً يفيد ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] فمعناها: لكم أن تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تفيدكم وتنفعكم في دينكم.
فمن مفهوم الآية نستغني عن افتراض مثل هذا القيد، فيقال: أما إذا كنتم تسألوا عن أشياء تفيدكم في دينكم ولابد لها من أمر الدين كما يسأل السائل الذي يبحث عن الحق فلا حرج في ذلك.
فما تدعو إليه الحاجة لا تشمله الآية كما يتضح من نظمها الكريم مع ما قيدته السنة في سبب النزول؛ لأنه معروف وواضح سبب النزول، سواء أكان في هذا الرجل الذي قال: من أبي؟ أم من قال: أكل عام؟ أم غير ذلك، فيتضح أن النهي إنما هو عن الأشياء التي تشق عليهم من التكاليف الصعبة، أو الأشياء المستورة التي يفتضحون بجوابها، مما القول فيه فضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفيه المفسدة، والعاقل مطالب بأن يحترز عما ينتج عنه مفسدة.
فتحرج الصحابة رضي الله عنهم عن السؤال معلوم أنه فيما لا ضرورة إليه، وإلا فكتب السنة طافحة بالأحاديث التي تدل على أنهم سألوه كثيراً جداً، وسألوه عن الشيء الذي لابد منه في الدين إما من الضروريات وإما من الحاجيات.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكره فتح باب كثرة المسائل خشية أن تفضي إلى حرج أو مساءة أو تعنت، روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كتب إلى معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال).
وروى أحمد وأبو داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات أو الغلوطات) وهي صعاب المسائل، والآثار في ذلك كثيرة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(37/19)
رحمة النبي للعالمين
تضمن المقطع الأخير من سورة الأنبياء توجيهات للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته أمته، فقد أمره الله تعالى بالدعوة إلى التوحيد، وبيان عاقبة الإعراض عن إجابة هذه الدعوة، وأن يرد أمره إلى الله تعالى فيما شجر بينه وبين قومه، وأن يستعين ربه على ما يصدر منهم من إفك وكذب، كما تضمن المقطع بيان رحمته صلى الله عليه وسلم للعالمين في معرض مقارعته قومه؛ ليعلم الناس أن دعوته صلى الله عليه وسلم إنقاذ لهم من المهالك.(38/1)
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بأمته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها) وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: (إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل ينزعهن ويغلبنه يتقحمن فيها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها).
هذا الحديث من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة التي تجلي صفة الرحمة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الرحمة ملأت قلبه حتى كادت تهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم حزناً وحسرة على هذه الأمة، قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، ففاضت هذه الرحمة وفاضت حتى كادت تقتل صاحبها صلى الله عليه وسلم حزناً لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار.
يقول صلى الله عليه وسلم: (مثلي) وفي بعض الألفاظ (مثلي ومثلكم) أي: مثلي ومثل الناس (كمثل رجل استوقد) أي: أوقد ناراً فاتقدت هذه النار واشتعلت وسرى ضوءها (فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها).
والفراش جمع فراشة، وهي دواب مثل البعوض تطير وتتهافت في السراج وتنجذب ناحية الضوء، فإذا رأت السراج بالليل ظنت أنها في بيت مظلم وأن السراج فوة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فتظل تطلب هذا الضوء وترمي بنفسها إلى هذه الفوة، فإذا ذهبت بعيداً عنها ورأت الظلام ظنت أنها لم تصب تلك الفوة، فتعود إليها إلى أن تحترق بهذه النار التي تحسبها نوراً.
والجنادب، جمع دابة، وهي التي تقع في النار كالفراش والبعوض والجندب حيث ينجذبن إلى النار ويقعن في هذه النار، (وجعل الرجل يحجزهن) أي: يمنعهن عن النار مخافة عليهن (ويغلبنه) فرغماً عنه تصر هذه الدواب على أن تقع في النار وتتقحمها، قال: (فيغلبنه فيقتحمن فيها) أي: فيدخلن في النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذلكم مثلي ومثلكم) أي: ما ذكر من حال الرجل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها صار الفراش والدواب يقتحمن فيها والرجل يمنعهن من ذلك وهن يغلبنه يقتحمن في النار.
ثم زاد هذا الأمر بياناً فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا آخذ بحجزكم عن النار) والحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزار، ومن السراويل هي موضع التّكّة، (وأنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار) أي: أقبلوا إلي عن النار، أقبلوا إلي ولا تنجذبوا ناحية هذه النار، ففي متابعتي السلامة منها (فتغلبوني تقحمون فيها) أو: (تتقحمون فيها) على الروايتين، أي: تدخلون فيها هجوماً عليها من غير روية.
فشبه صلى الله عليه وسلم تساقط العصاة في نار الآخرة بجهلهم عاقبة الشهوات بتهافت الفراش في نار الدنيا بسبب جهلها وعدم تمييزها لما تقصد إليه، فهي تعتقد نفع النار وهي سبب هلاكها، فكذلك أهل الشهوات في شهواتهم الغالبة، يعتقدون أنها نافعة وهي مضرة، والعاقل منهم الذي تحقق له أنها مضرة، لكن كان أسيراً للشهوات، فإنه لا ينفعه علمه بالضرر الذي فيها عن أن يسلك طريق النار فيقتحم فيها اقتحام الفراشة في النار مع علمه بأن فيها هلاكه.
يقول بعض العلماء: إلى الله أشكو طوع نفسي للهوى وإسرافها في غيها وعيوبها إذا سقتها للصالحات تقاعست ودبت على كره إليها دبيبها وتهب نحو الموبقات نشيطة إذا ساوقتها الريح ساقت هبوبها وما هي إلا كالفراشة إنها ترى النار ناراً ثم تصلى لهيبها فهذا الحديث من أجلى ما يبين رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة، كيف أنه يحرص أشد الحرص على إنجاء الناس من النار، وإنما يهلك من هلك رغماً عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.(38/2)
صور من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم
خلق الرحمة وصف الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن في قوله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، هذا الخلق من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وآله وسلم التي تجلت مع كل العالمين، ليس مع المؤمنين فقط، ولكن كان رحمة لجميع الأمم وجميع العالمين، الجن والإنس والدواب والطيور والحيوانات، فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة لهم أجمعين.
لقد آذوه واضطهدوه وهو يقول صلى الله عليه وسلم (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) يتمثل قول نبي سابق قال لقومه كذا.
وهذا ملك الجبال جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما آذاه قومه فقال له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين.
فيجيب صلى الله عليه وسلم قائلاً: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً).
فما كان مقصوده صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يعبد الله فلا يشرك به شيء، ولا يبالي في سبيل ذلك بما أصابه، فإذا وحد معبوده حصل مقصوده، وإذا عبد محبوبه حصل مطلوبه، وإذا ذكر ربه رضي قلبه، وأما نفسه فما يبالي بما أصابه في سبيل ربه، على حد قول القائل: إن كان سركم ما قد بليت به فما لجرح إذا أرضاكم ألم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فجلس إلى الفقراء وذكرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت لأني لم أكن منهم)؛ وذلك من شدة رحمته بالضعفاء صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ذات يوم رجلاً أسود فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله.
قال: أفلا آذنتموني -أي أفلا أعلمتموني بموته حتى أشيعه-؟ فقالوا: إنه كذا وكذا.
فكأنهم حقروا من شأنه، فقال: دلوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه صلى الله عليه وسلم).
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه)، فنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يدخل في الصلاة ينوي أن يطيل فيها، فإذا سمع بكاء الصبي ترك إطالة الصلاة، وما دفعه إلى التجوز في الصلاة إلا الشفقة على أمه، وقد يتبادر إلى الذهن أنه الشفقة على الصبي نفسه وبكائه، لكنه صلى الله عليه وسلم يعلم مدى شدة هذا الأمر على أمه، فيخفف في الصلاة شفقة على أمه، فما أعظم خلقه صلى الله عليه وسلم! وما أبعد كثيراً من المسلمين اليوم عن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم! فحينما يصطحب بعض الناس معه صبية صغاراً إلى المسجد فبحكم صغر سنهم لا أقول: يبكون.
لكنهم يصيحون أو يتحركون أو يفعلون في المسجد أشياء هم فيها معذورون، فبمجرد تسليم الإمام نرى كثيراً من الكبار يصيحون صياحاً أشد من صياح هؤلاء الأطفال، وينتهكون حرمة المسجد، ويشنعون على أبيه، وربما طردوا الأولاد من المسجد، وفعلوا معهم وفعلوا، ولو أن الواحد منهم قُدِّر أن هذا الولد هو ولده ما تأذى منه.
لقد كان الحسن يركب على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ويطيل السجود لأجل ذلك، ويقول بعدما أطال السجود: (إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله) صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما أُسر أبو عزة الشاعر أول مرة استعطف النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلق سراحه بشرط أن لا يقف بعد يوم بدر ضده صلى الله عليه وسلم، وتدور الأيام، ويحضر أبو عزة المعركة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأسره مرة أخرى ويستعطفه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بقتله، وهذا الشيء هو الذي أخذ به القانون الدولي في القرن الأخير، بأن الأسير السابق إذا أسر في معركة مرة ثانية في حربه ضد تلك الدولة فإن من حقها أن تقتله.(38/3)
حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على الرحمة
يقول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عنه أنس رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم.
قالوا: كلنا يرحم.
قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة).
وعن جرير رضي الله عنه مرفوعاً: (من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يغفر لا يغفر له، ومن لا يتب لا يتب الله عليه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وقال للرجل الذي لم يُقبِّل أحداً من أولاده معاتباً له: (أوأملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة؟!).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (في الكبد الحارة أجر) أي: كل حيوان حي لم يؤمر بقتله، ويكون كبده حاراً من شدة العطش نتيجة الحر.
وقد كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان والعيال.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) يعني النساء اللاتي يسبين في الحرب لا يجوز لأحد أن يفرق بين الأم وولدها من السبي.(38/4)
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالحيوانات
الحيوانات ممن شملتهم رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من مثل بالحيوان) أي: من شوهه فمثل به.
وعن معاوية بن قرة عن أبيه: (قال رجل: يا رسول الله! إني لأذبح الشاة فأرحمها -أي: عندما أذبح الشاة أشعر برحمة تجاهها- فقال صلى الله عليه وسلم: والشاة إن رحمتها رحمك الله) فأقره على هذا الشعور بالرحمة.
وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة).
ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وآله وسلم ما صح عن عبد الله بن جعفر قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخل، فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى الجمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفريه فسكن، فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه).
وعن معاذ بن أنس عن أبيه رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (اركبوا هذه الدواب سالمة، وابتدعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي) يعني: اتركوها وخففوا عنها إذا لم تحتاجوا لركوبها، ولا تتخذوها كراسي، بل استعملوها فقط لما سخرت من أجله.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله تعالى إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم).
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه -أي: فقد شحمه ونقص وزنه وهزل حتى التصق ظهره ببطنه- فقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة) (وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فمر ببعير مناخ على باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في هذه البهائم، واركبوها صحاحاً واركبوها سماناً.
كالمتسخط) أي: قال ذلك متسخطاً هذا الفعل الذي فعله صاحب هذه الدابة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا قبل هذا؟! أتريد أن تميتها موتتين؟!) يعني: أفلا حددت شفرتك بعيداً عنها؟! وفي بعض الروايات: (أتريد أن تميتها موتات؟! ألا حددت شفرتك قبل أن تدمعها؟!).
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجة فرأينا حُمَّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش -يعني: جعلت ترفرف بأجنحتها حتى تقترب منهم- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها، ورأى صلى الله عليه وسلم قرية نمل قد أحرقناها فقال: من حرق هذه؟! قلنا: نحن.
قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم -أيضاً- قوله: (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) وخشاش الأرض الحشرات والهوام.
وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب وخرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش -يعني: يلعق التراب من العطش- فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، فقالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر).
وفي بعض الأحاديث -أيضاً-: (بينما كلب يطيف برَكِيَّة قد كاد يقتله العطش -الركية: هي البئر التي طويت- إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فاستقت له به فسقته إياه فغفر الله لها به).(38/5)
الرحمة في حياة السلف الصالح
وردت آثار كثيرة تدل على تخلق الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم والسلف الصالح بهذا الخلق الكريم، فعن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً حد شفرة أمام شاة ليذبحها فضربه عمر بالدرة، وقال: أتعذب الروح؟! ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها؟ وعن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يجر شاة ليذبحها فضربه بالدرة، وقال: سقها -لا أم لك- إلى الموت سوقاً جميلاً.
وعن وهب بن كيسان أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى راعي غنم في مكان قبيح، وقد رأى ابن عمر مكاناً أمثل منه، فقال ابن عمر: ويحك يا راعي! حولها، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل راع مسئول عن رعيته).
وعن معاوية بن قرة قال: كان لـ أبي الدرداء جمل يقال له: دمون.
فكان إذا استعاروه منه قال: لا تحملوا عليه إلا كذا وكذا فإنه لا يطيق أكثر من ذلك.
فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون! لا تخاصمني غداً عند ربي، فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق.
وعن أبي عثمان الثقفي قال: كان لـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه غلام يعمل على بغل له، ويأتيهم بدرهم كل يوم، فجاء يوماً بدرهم ونصف فقال: ما بدا لك، فقال: نفقت السوق.
قال: لا، ولكن اتعبت البغل، أجمه -أي: أرحه- ثلاثة أيام.
فهذه بعض الآثار التي تدل على تخلق المسلمين بخلق الرحمة الذي غرسه فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأتي مزيد بيان لمعنى قوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، عند تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنبياء.(38/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)
قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106].
يخبر تعالى عما قدره وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدارين ووراثة الأرض فيهما، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]، وأخبر تعالى أن هذا الأمر وهذا القضاء السابق مذكور في الكتب الشرعية والقدرية، وهو كائن لا محالة، ولهذا قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] والزبور: هو الكتب التي أنزلت على الأنبياء، فهو اسم جنس لكل ما زبر -أي: كتب- من الكتب التي أنزلت على الأنبياء، وهو -أيضاً- اسم الكتاب الذي أنزل على داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قولع تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) المراد من الذكر هاهنا: أم الكتاب الذي كتب الله فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة، والمعنى أن الله تعالى كتب في التوراة والإنجيل والقرآن وفي الصحف التي أنزلت على الأنبياء جميعاً من بعدما سبقت كتابة ذلك في أم الكتاب في اللوح المحفوظ (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، من كل الأمم المؤمنة بالله تعالى، فإنه تعالى يكفل لهم السعادة والمجد والحكم والفتح، ويوليهم على أمم الأرض بالحق والعدل، وذلك في الدنيا، كما قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] فهذه سنة ماضية، وكون بعض الناس يظنون أن أمر الدين أو أمر الإسلام يكون دائماً في انحسار، وأن هذا الدين يمكن أن يأتي يوم يستأصل ولا يبقى منه باقية هو أقبح الظن بالله تبارك وتعالى، وهذا هو عين ما سماه الله عز وجل في سورة الفتح {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12]، ظننتم أنه يستأصل هذا الدين، ولا يبقى منه شيء، فهذا أسوأ الظن بالله الذي يتنزه الله عز وجل عنه، وإنما الأيام دول، وإنما الله عز وجل يبتلي عباده بعضهم ببعض، كما قال عز وجل: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، فالله عز وجل قادر بكلمة (كن) أن يدمر ما على الأرض من الكفر، لكنه يشاء سبحانه وتعالى أن يبتلي العباد؛ لأن هذه دار الامتحان ودار البلاء، فكم من أمم أقوى من هذه الأمم التي تسيطر على العالم اليوم ضاعت وصارت في خبر (كان) {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98]، كم توالت أمم وقوى على ظهر هذه الأرض ثم اندثروا وكانوا في خبر (كان)، فهذه سنة الله عز وجل، فلابد من أن يمكن الله لدينه، لابد من أن تكون العاقبة في النهاية للتقوى، كما قال الله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، ويقول عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
وإذا تدبرنا آيات الله تبارك وتعالى في السابقين من المجرمين الهالكين لأيقنا بهذه الحقيقة الكونية التي هي كائنة قبل أن تخلق هذه الدنيا، وهي أن العاقبة تكون للتقوى، يقول الله عز وجل: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] هذا في الدنيا، أما في الآخرة فيورثهم أرض الجنة وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم.(38/7)
كلام الشنقيطي في تفسير الآية
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
أظهر الأقوال عندي في هذه الآية الكريمة أن الزبور الذي هو الكتاب يراد به جنس الكتاب، فالزبور هنا لا يراد به خصوص الكتاب الذي نزل على داود عليه السلام، لكن هنا المراد به جنس الكتاب، فيشمل الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل وزبور داود وغير ذلك، والمراد بالذكر أم الكتاب، وعليه فالمعنى: ولقد كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون بعد أن كتبنا ذلك في أم الكتاب، وهذا المعنى واضح لا إشكال فيه.
وقيل: الزبور في الآية زبور داود، والذكر التوراة، وقيل غير ذلك، وأظهرها هو ما ذكرنا واختاره غير واحد.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك -كتاب: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن- أن الآية قد يكون فيها قولان للعلماء، وكلاهما حق يشهد له القرآن، فنذكر الجميع؛ لأنه كله حق داخل في الآية، ومن ذلك هذه الآية الكريمة، فالمراد بالأرض في قوله هنا: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] للعلماء فيه وجهان: الأول: أن هذه الأرض التي يرثها عباد الله الصالحون هي أرض الجنة، يورثها الله يوم القيامة عباده الصالحين، وهذا القول يدل له قوله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] ومعنى إيراث الجنة ورد -أيضاً- في سورة مريم في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40]، وفي قوله عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، ويقول عز وجل: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر:23].
الوجه الثاني في تفسير الأرض: أن المراد بالأرض أرض العدو يورثها الله المؤمنين في الدنيا؛ لا أنها أرض الجنة يورثها الله يوم القيامة لعباده الصالحين.
ونضيف إلى المعنى قوله تبارك وتعالى في سورة المؤمنون: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11] فقد جاء حديث في تفسير هذه الآية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل عبد له مقعد في الجنة ومقعد في النار، فحينما يدخل المؤمنون الجنة يرثون مقاعد الكافرين في الجنة؛ لأن الكافرين يذهب بهم إلى النار، ويرث الكافر مقعد المؤمن في النار.(38/8)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
في هذه الرحمة وجهان: الأول: أنها رحمة للمؤمنين فقط، وأما الأمم النائية عنه صلى الله عليه وسلم فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
الوجه الثاني: أنها رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم، لكنهم لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواء لهذا المرض.
قال الرازي: إنه صلى الله عليه وسلم كان رحمة في الدين والدنيا، أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام.
ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قريناً له، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44]، وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في محاسن التأويل: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، لقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق من الملل ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح، واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات، وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة، وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال الأجيال الطوال حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح، فأحدث بعد ذلك أمراً، وجعل بعد عسر يسراً، فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولت، وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولاً ليعتقهم من أسر الأوثان ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنهم الأصرار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].(38/9)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد)
قال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء:108].
يأمر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يبلغ المشركين ويقول لهم: (إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي: متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له؟ وهذا أسلوب قصر، فيه قصر الوحي في كلمة التوحيد: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، وقصر الوحي على استئثاره تعالى بالوحدانية فيه إشارة إلى أن التوحيد هو الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه، فكل ما عدا (لا إله إلا الله) راجع إلى (لا إله إلا الله)، فكأن كل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام إنما المقصود بها تحقيق كلمة (لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد وكلمة النجاة، وليس معنى ذلك أن الصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات وكل الأحكام لا تدخل في (لا إله إلا الله)، لكن هذا إشارة إلى أن الأصل الأصيل في الدين هو توحيد الله تبارك وتعالى وتحقيق هذا التوحيد، وإذا تأملنا القرآن نجد أن القرآن من أوله إلى آخره كله في التوحيد؛ لأن القرآن إما دعوة إلى التوحيد وتنفير من ضده وهو الشرك، وإما بيان لحال الأنبياء والدعاة الذين دعوا إلى التوحيد، وبيان حال الذين اهتدوا وأسلموا في الدنيا، أو بيان حال القوم الذين أعرضوا، وكيف كانت عاقبة المؤمنين في الدنيا نتيجة التزامهم بالتوحيد وحقوق التوحيد، وكيف كانت عاقبة الكافرين الذين تولوا عن التوحيد وحقوقه، ثم أحوال أهل الجنة الذين استجابوا لدعوة التوحيد، وأحوال أهل النار الذين أعرضوا عن التوحيد، وإما إخبار بأوامر وتكاليف هي حقوق التوحيد، فإذا قلنا: (لا إله إلا الله) فمعناه: لا يستحق أن يعبد إلا الله، فكيف إذاً نعبد الله؟ لقد أتت الشرائع لتبين العبادات، وهي من حقوق التوحيد، كما جاء في الحديث المعروف: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل)، فهذه كلها من حقوق التوحيد.
إذاً: كل الرسالة موضوعها تحقيق (لا إله إلا الله)، فمن أجل ذلك قصر وحصر الله سبحانه وتعالى الوحي في (لا إله إلا الله).(38/10)
تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء)
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [الأنبياء:109] أي: تركوا ما دعوتهم إليه {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم؛ لأن معنى الأذان: الإعلام (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي: أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، وأنا بريء منكم كما أنكم برآء مني، وذلك كقوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]، ومثل قوله تبارك وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] أي: ليكن علمك وعلمهم لنبذ العهود على السواء، وهكذا هاهنا قال عز وجل: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم ببراءتي منكم، وبراءتكم مني لعلمي بذلك.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في نفس هذه الآية: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: أعرضوا وصدوا عما تدعوهم إليه: (فَََقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنتم برآء مني.
واستدل بنفس هذه الآيات التي ذكرنا، وبين أن معنى (آذنتكم) أعلمتكم، ومنه الأذان للصلاة، وقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:3] يعني: إعلام من الله، وقال عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:279] أي: اعلموا.
ومنه قول بعض الشعراء: آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء يعنى: أعلمتنا ببينها، فالمقصود: (فَََقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا، وإن كان بيننا وبينكم أي عهد فقد نقضناه.
إذاً: (آذنتكم) أي: أعلمتكم، ويكون علمي وعلمكم بهذه الحرب سواء {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
فقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] يعني: إن كان بينك وبين قوم عهد وميثاق وخفت منهم الخيانة فأعلمهم أولاً بأن هذا العهد انقضى ولا تغدر؛ فإن الأنبياء لا يغدرون، بل أعلمهم قبل أن تقاتلهم بأنك قد نقضت هذا العهد، فاستويت أنت وهم في العلم بذلك، فليس لفريق عهد ملزم في حق الفريق الآخر.
قال الزجاج: معنى الآية: أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به.
وهذا تفسير آخر، أي: كل الناس سواء في هذا الحق، لم أكتم عن فريق ما أظهر به لفريق، لكنني أعلمتكم جميعاً ما أوحي إلي، ولم أكتم منه شيئاً، وكلكم سواء في العلم بما أوحي إلي، ولم أظهر لأحد شيئاً كتمته عن غيره.(38/11)
تفسير قوله تعالى: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون)
قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَدْرِي} [الأنبياء:109] يعني: ما أدري، فـ (ما) هي النافية {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء:109] يعني: ما توعدون من الفتح عليكم، وإيراث أرضكم غيركم، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم، فـ (مَا تُوعَدُونَ) واقع لا محالة، لكن لا أدري متى هو، فهو واقع لا محالة، لكن لا علم لي بقربه ولا ببعده.(38/12)
تفسير قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون)
قال تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110] أي: إنه يعلم سبحانه وتعالى الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره عباده وما يسرون، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل، يقول تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13]، ويقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:99]، ويقول عز وجل: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]، ويقول عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، ويقول عز وجل: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].(38/13)
تفسير قوله تعالى: (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين)
قال عز وجل: {وَإِنْ أَدْرِي} [الأنبياء:111] يعني: ما أدري {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111] يعني: لعل هذا الإمهال والتأخير اختبار وامتحان لكم، ولعل إمهال هذا الموعد المرتقب وتأخيره فتنة لكم ومتاع إلى حين، وهذا هو الواقع، فإننا نرى الكفار يغترون بإمهال الله تبارك وتعالى إياهم، ويحسبون أن الله إذا أمهلهم فقد يهملهم، لكن الله عز وجل يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وهذا نراه عياناً في مشارق الأرض ومغاربها.
فقوله: (وَإِنْ أَدْرِي) يعني: ما أدري (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ)، أي: تمتيع يمتعكم الله بالدنيا (إلى حين) حتى يأتي القدر المقدور.
وقال ابن جرير: أي: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم، أي: استدراج وابتلاء ومتاع إلى أجل مسمى.(38/14)
تفسير قوله تعالى: (قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون)
قال الله سبحانه: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112]، وفي بعض القراءات: (قل رب احكم بالحق).
فعامة القراء السبعة ما عدا حفصاً عن عاصم يقرءون: (قل رب احكم بالحق) بصيغة الأمر، فقراءة الجمهور تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول ذلك، وقراءة حفص (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) تدل على أنه صلى الله عليه وسلم امتثل الأمر بالفعل.
وما أمره الله أن يقوله هنا قاله نبي الله شعيب عليه السلام كما ذكره الله عنه في قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] (افْتَحْ بَيْنَنَا) أي: احكم بيننا.
فقوله: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق أي: بحكمك الحق.
{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112] أي: الله عز وجل الرحمن المستعان على ما تصفونه بألسنتكم من أنواع الكذب بادعاء الشركاء والأولاد وغير ذلك، كما قال عز وجل: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} [النحل:62]، وقال عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل:116]، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قاله يعقوب عليه السلام لما علم أن أولاده فعلوا بأخيهم يوسف غير ما أخبروه عنه، وأخبروه خبراً كاذباً حيث زعموا أن الذئب أكل يوسف عليه السلام، وعلم أنهم كاذبون في ذلك، فذكر نص هذه العبارة فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] والمستعان هو المطلوب منه العون تبارك وتعالى، فقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق، والله المستعان عليكم على ما تقولون وتفترون من الكذب بجعل الأنداد لله تعالى وعبادتها من دونه عز وجل.
يقول الرازي: قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: (قل رب احكم بالحق) لأنه عليه الصلاة والسلام كان قد بلغ في البيان لهم الغاية.
يعني: استوفى كل ما يستطيع في بيان حقيقة هذا التوحيد، والدعوة إلى هذا الدين، استوفى كل ما أمكن في بيان رسالته، فقد كان قد بلغ في البيان لهم الغاية.
وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه، فهو استفرغ وسعه وجهده في أداء الرسالة وهم بلغوا النهاية وأقصى حد ممكن في أذيته وتكذيبه، فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له (قل رب احكم بالحق)، تسلية له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم، فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق، إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره، وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر قريب، فكل ما هو كائن قريب، فالله عز وجل توعد هؤلاء الكافرين المعرضين بالإهلاك وبالعذاب الأليم، وأخبر أنه يمهل ولا يهمل سبحانه وتعالى، فمن أجل ذلك أمره الله عز وجل أن يقول هذا القول كالاستعجال بالأمر بجهادهم حتى يجعل الله للمسلمين مخرجاً.
هذا آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام فلله الحمد والمنة.(38/15)
فتنة النساء
أشد ما يُخاف على الرجال هي فتنة النساء، وقد جاء الإسلام بمقاصد كلية منها: حفظ الأعراض، وشرع لأجل ذلك التدابير الواقية من الافتتان بالنساء المؤدي إلى هتك العرض، كما شرع سبل الحلال التي تحفظ العرض، وتشبع الرغبة عند الناس.(39/1)
عظم الفتنة بالنساء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً!)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان الذي امتن الله عليه بعصمته من الفتن، وبتثبيته إذا ابتلي بالصبر، فإنه هو السعيد حق السعادة.
وكلمة الفتن تنصرف في أذهاننا إلى فتن آخر الزمان، وما يكون من أشراط الساعة، والفتن منها هذا القسم بلا شك، وقد بدت ولاحت كثير منها، ومنها فتن موجودة مع البشر بحكم كونهم بشراًً، سواء في ذلك فتنة الشهوات، أو فتنة الشبهات، وأشد فتنة من فتن الشهوات هي الفتنة بالنساء، فمن ثم اختصت هذه الفتنة بكثير من التحذير والاحتياط والتنبيه على لسان الشرع الشريف.(39/2)
تحذير الشرع من خطر الفتنة بالنساء
كان الإشفاق من وبال هذه الفتنة أشد ما خامر قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشد ما أشفق منه على أمته، وفي سبيل تحذير هذه الأمة من خطر هذه الفتنة ألقى على السابقين الأولين من المسلمين كلمته خالدة: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).
بين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كيف أن الافتتان بالمرأة قد يؤدي إلى إحباط عمل من أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، ألا وهو الهجرة إلى الله سبحانه, وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأشار القرآن الكريم إلى خطر فتنة المرأة فقال سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] فقدم سبحانه وتعالى على رءوس هذه الفتن كلها فتنة النساء لعراقتهن في هذا الباب؛ ولأن أكثر الرجال إنما دخل عليهم الخلل من قبل هذه الشهوة، ولعله لأجل ذلك أيضاً قدم الله سبحانه وتعالى المرأة على الرجل في قوله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]؛ لأن دواعي الفتنة قد تكون من جانب المرأة إذا تساهلت أكثر منها من جانب الرجل، في حين قدم الرجل في السرقة لأنه هو الحريص على جمع المال؛ لأنه المسئول عن النفقة فقدم سبحانه وتعالى الرجل فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، أما في الزنا فإن الخلل إذا أتى من قبل المرأة تكون الفتنة أشد.
وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن عزيز مصر قوله: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28].
وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتنة المرأة ونصح لأمته في هذا الباب أعظم النصح فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) قال بعض العلماء: المعنى المتبادر من هذا الحديث أنه ما دامت المرأة في خدرها لم يطمع الشيطان فيها لإغواء الناس، فإذا خرجت المرأة من بيتها الذي هو قرارها ومستقرها طمع فيها الشيطان وأطمع فيها الناس؛ لأنها حبائله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (استشرفها الشيطان) أصل الاستشراف وضع الكف فوق الحاجب حينما تريد أن تنظر إلى شيء بعيد.
يقول المنذري: يستشرفها الشيطان أي: ينتصب ويرفع بصره إليها، ويهم بها؛ لأنها قد تعاطت سبباً من أسباب تسلطه عليها، وهو خروجها من بيتها.
وهذا في حق شياطين الجن، فما بالك بشياطين الإنس في هذا العصر الذين هم أضر على المرأة من ألف شيطان جني، حيث إن أغلب هؤلاء الشباب لا مروءة عندهم ولا دين ولا شرف، ويتعرضون للنساء بشكل مفجع وهيئة تدل على خساسة ودناءة وانحطاط، فلا شك أن فتنة هؤلاء الشباب بهذه المرأة إذا خرجت -خاصة إذا كانت متبرجة- شديدة.
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس، فيستشرفها الشيطان فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه، وإن المرأة لتلبس ثيابها فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضاً أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها.
فأعظم أنواع العبادة وأعلى درجات الثواب للمرأة أن تعبد ربها داخل حدود بيتها، كما أمر الله سبحانه وتعالى في القرآن العظيم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].(39/3)
فتنة نساء بني إسرائيل
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
أوغل بنو إسرائيل في المعاصي، وتفنن نساؤهم في فتنة الرجال؛ لذلك حذرنا النبي عليه السلام من هذه الفتنة، وقرن هذه الأمة ببني إسرائيل مباشرة؛ لأنها أكبر الأمم التي سبقتنا، والقرآن يربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبين هذه الأمة وبني إسرائيل.
وعلى أي الأحوال فإن نساء بني إسرائيل أوغلن في المعصية.
ومن مظاهر تفننهن تفنن نساء بني إسرائيل في فتنة الرجال ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: (كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب، وخاتماً من ذهب مغلق مطبق ثم حشته مسكاً، وهو أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين فلم يعرفوها فقالت: بيدها هكذا) يعني جعلت في هذا الخاتم مسكاً ثم جعلت له شيئاً مثل الغطاء فإذا مرت بمجلس رجال وأرادت أن تفتنهم حركت هذا الغطاء حتى تفوح هذه الريح، وفي رواية: (فكانت إذا مرت بالمجلس حركته فتمسح ريحه أو فتنفخ ريحه) فينشر ريحه في الجو لتفتن بهذا الطيب الرجال.
أيضاً هذه المرأة كانت قصيرة، وكانت ستظهر قصيرة إذا مشت مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب، وهو يشبه ما يسمى الآن بالكعب العالي، حتى تبدو طويلة، وهي في الحقيقة قصيرة.(39/4)
حكم صلاة النساء في المساجد إذا خشيت الفتنة
روى عروة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: (كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلاً من خشب يتشرفن للرجال في المسجد، فحرم الله عليهن المساجد وسلطت عليهن الحيضة).
تبين عائشة أن نساء بني إسرائيل كن يصلين في المسجد مع الرجال، فإذا كان للمرأة خليل وتريد أن يعرفها وسط النساء تتخذ رجلين من خشب حتى تتطول لخليلها فيراها، فيتشرفن للرجال في المسجد عن طريق هذه الأحذية العالية، فحرم الله عليهن المساجد، وسلطت عليهن الحيضة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجال والنساء من بني إسرائيل يصلون جميعاً، فكانت المرأة إذا كان لها خليل، تلبس القالِبين أو القالَبين -بالفتح أو الكسر وهو نعل من خشب كالقبقاب -تطول بهما لخليلها؛ فألقى الله عليهن الحيض، فكان ابن مسعود يقول: أخرجوهن من حيث أخرجهن الله.
يعني: إذا سلك النساء المسلمات نفس هذا المسلك، فأخرجوهن من المساجد كما أخرج الله نساء بني إسرائيل من قبل.
وفي لفظ آخر: فأخروهن من حيث أخرهن الله.
يعني: باعدوا بينهن وبين الرجال.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت -فيما روته عنها عمرة بنت عبد الرحمن -: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل، قيل لـ عمرة: أومنعن؟ قالت: نعم.
أي أن نساء بني إسرائيل منعن لما أحدثن الزينة والتبرج داخل المساجد.
والنساء اللائي يحضرن عقود القران وبعض الاحتفالات في المساجد وهن في منتهى التبرج والتهتك؛ لا شك أن لهن نصيباً من مثل هذه الزواجر.
يقول الإمام الكرماني رحمه الله تعالى: فإن قلت: من أين علمت عائشة رضي الله تعالى عنها هذه الملازمة، والحكم بالمنع وعدمه ليس إلا لله تعالى، يعني: كيف تجزم عائشة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لو رأى ما أحدثته النساء من الزينة لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل؟ قلت: مما شاهدت من القواعد الدينية المقتضية لحسم مواد الفساد.
جاء في كتب بني إسرائيل -حتى الكتب التي لا زالت بين أيديهم مع تحريفها- ما يشير إلى وقوع هذا العقاب الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء في الإصحاح الثالث من سفر أشعيا: (إن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن والمباهاة برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والحلق والأساور والبراقع والعصائب).
وفي هذا أن النقاب له أصل في التوراة والإنجيل، وأن النساء كن يتنقبن في الأمم السابقة، بدليل قوله: (والبراقع)، وإن كنا لا نحتاج لكتبهم؛ وإنما هذا كنوع من الشاهد يستأنس به.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع بعض نساء أمته في نفس هذه الكبيرة، وذكرهن بأسوأ مصير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، فيريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن مثل هؤلاء النساء بعيدات عن الجنة حتى لا يجدن ريح الجنة فضلاً عن أن يدخلنها.
وصفة هؤلاء النساء أنهن كاسيات عاريات، وفي العصور السابقة كان العلماء يختلفون في معنى (كاسيات عاريات)، أما في هذا الزمان فأصبحنا لا نحتاج لشرح الحديث مما نراه من تطبيق هذه الأحاديث حتى ممن يزعمن أنهن محجبات وهن عين المتبرجات المتهتكات الكاسيات العاريات.
وقوله: (مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) هي نوع من الإبل لها سنام.(39/5)
تفسير قوله تعالى: (إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم)
قد يقع الافتتان بالمرأة من وجه آخر، وذلك إذا سحرت المرأة لب الرجل وزينت له ترك الواجب أو فعل الحرام، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن).
لهذا يقول بعض الشعراء: إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أَركانا قال الله عز وجل مبيناً هذا النوع الخفي الدقيق من الفتنة بالمرأة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:14 - 15].
قال المفسرون: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق لهم فيقيم ويقعد عن الجهاد، فنزلت الآية منبهة لذلك محذرة من الركون إلى الأزواج والأولاد.
وروي أنها نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد زمان طويل ورأوا الناس قد فقهوا في الدين، هموا أن يعاقبوا أولادهم ونساءهم الذين كانوا يمنعونهم من الهجرة مبكراً.
فكان أحدهم يقول: لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن، فأنزل الله عز وجل: ((وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).
يقول العلماء رحمهم الله: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته -أي أن الأزواج والأولاد في مثل هذه الحالة ليسوا بأعداء على الحقيقة- وإنما كان عدواً لفعله، فإذا فعلت الزوجة والولد فعل العدو كانوا هم العدو، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين طاعة ربه عز وجل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه وآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له: أتجاهد فتقتل نفسك، وتنكح نساؤك، ويقسم مالك؟ فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة).
وقعود الشيطان الوارد في الحديث يكون بوجهين: أحدهما: بالوسوسة.
الثاني: أن يحمله على ما يريد من ذلك الزوجة والولد والصاحب.
فإما أن يوسوس لك الشيطان مباشرة بهذه الأشياء، أو يسلط عليك الزوجة أو الولد فينطق على لسانهم بما يريد من تثبيطك عن طاعة الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25].
وكما أن الرجل يكون له ولده وزوجته عدواً كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً بهذا المعنى بعينه، فإن قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)) يشمل الرجال ويشمل النساء، فالمرأة يمكن أن تفتن الرجل في دينه، وكذلك الرجل يمكن أن يكون عدواً للمرأة يفتنها في دينها بنفس هذا المعنى، فيفعل فعل العدو، فقوله تعالى: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)) يدخل فيه الذكر والأنثى، وهذه الآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد، ومن ذلك أن يبكي الأولاد يريدون جهاز التلفزيون كما أن أولاد الجيران عندهم جهاز تلفزيون، فيأتي ويقول: الأولاد بكوا وضغطوا علي وما استطعت أن أفعل شيئاً، وهذا أحسن من أن يذهبوا بيوت الجيران وينظروا عندهم، وهكذا كأنه سلطان بلا تاج، وكأنه لن يسأل عن هذه الرعية التي يهلكها بنفسه! ومن ذلك السكوت على الزوجة والأولاد إذا قعدوا عن فريضة من فرائض الله كالصلاة والصيام وغيرها، أو ارتكبوا معصية من معاصي الله تبارك وتعالى.
ومن ذلك: إقرار الزوجة والبنات على التبرج والتكشف والسفور والاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، وسماع آلات اللهو، وإقرار النساء على مخالطة المتبرجات، ومماشاتهن في الشوارع والطرقات، ومجالستهن في المجامع والضيافات.
قال العلماء: إن في النساء فتنتين، وفي الأولاد فتنة واحدة.
أما الفتنتان اللتان في النساء: فإحداهما: أن تؤدي إلى قطع الرحم؛ لأن المرأة تأمر زوجها بقطع الأمهات والأخوات، وإذا لم يتفطن لهذه المحاذير فإنه ربما طاوع امرأته حتى أدت هذه المطاوعة إلى أن يقطع رحمه من أمهات أو أخوات إلى آخره.
الفتنة الثانية في الزوجة: أن يبتلى بجمع المال لها من الحلال أو الحرام.
أما الأولاد فالفتنة فيهم واحدة، وهي أنه ابتلي بجمع المال من أجلهم.
فإذا بحث الإنسان عن ذات الدين، سلم له دينه؛ لذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم وشدد في الوصية وقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)؛ لأن المرأة إما أن تكون ستراً من النار، أو تكون هي النار بعينها، أو السبب المؤدي للإنسان إلى النار إذا لم يلتفت لهذه الفتنة.(39/6)
الفرق بين النظام الإسلامي وغيره في جانب حفظ الأعراض
قبل أن نذكر احتياطات الإسلام لحماية المجتمع من فتنة المرأة لا بد من مقدمة مهمة نقول فيها: إن كل مجتمع من المجتمعات له عقيدة، فإنه يحدد أهدافاً له يحققها في هذه الحياة طبقاً لما يعتقد.
هذه الأهداف يحققها عن طريق وسائل ونظم تكون خادمة لأهدافه الأولى الأصيلة، وفي إطار هذه العقيدة، فالإسلام عقيدة الحق بلا شك، وهو يهدف من خلال نظامه الاجتماعي إلى تحقيق هدف معين، وهو صيانة الأعراض وترويض الشهوات وضبطها بضوابط أخلاقية تضمن الطهر والعفاف، وتؤدي إلى سعادة الدنيا وسعادة الأخرى.
إذا تأملت في نظام الإسلام ستجد الأحكام كلها تصب في خمسة روافد أساسية، وهي: حفظ الدين، والعرض، والعقل، والمال، والنفس، فأي حكم شرعي ستجده يحافظ على شيء من هذه الأشياء، فالصلاة مثلاً تتعلق بالدين، والزكاة تتعلق بالدين وتتعلق بالمال، وهكذا، فجميع الأحكام الإسلامية لا بد أن تدخل لخدمة أحد هذه المقاصد أو أكثر من مقصد.
والمحافظة على العرض أحد مقاصد الشريعة العليا التي تشكل رافداً أساسياً من روافد الشريعة، فأحد أهداف المجتمع الإسلامي تحقيق هذا الهدف الأكبر من مقاصد الشريعة العليا الخمسة، ومن أجل صيانة الأعراض تجد مئات من الأحكام تصب في هذا المجرى.
وهناك جملة كبيرة من العقائد تمثل خلفية للنظم الإسلامية، كلها تنبثق عن أننا لم نخلق عبثاً ولن نترك سدى، اعتقادنا في هذه الغيبيات: جنة نار حساب صراط ميزان حشر، فكل هذه الأهوال ستصير بين أيدينا ونوقن بوقوعها، من أجل ذلك فنحن ننضبط فنراعي حق الله، ونراعي حق المجتمع، وحق النفس، فحق الله سبحانه وتعالى مراعى في النظام الاجتماعي الإسلامي، فتارك الصلاة وإن لم يؤذ أحداً فإنه مضيع لحق الله.
فالمقصود أن عقيدة المجتمع التي يتبناها لا بد أن تنعكس على نظامه، بحيث يكون النظام خادماً لهذه العقيدة ومتماشياً مع أسانيدها.
النظام الغربي نظام مادي إلحادي، وقضية الدين عندهم قضية شخصية، وكل إنسان حر في تدينه: يكفر، يعبد الشيطان، يعبد الهوى، يعبد الحجر، يعبد الشجر، فهذا أمر يرجع إليه.
اليابان: من أكبر الدول المتقدمة في العالم، وما زال اليابانيون الذين أوتوا القدرة العجيبة على الاختراع يعبدون صنم بوذا! إذاً: هذا مجتمع عقيدته أن الدنيا هي فرصته الوحيدة في الوجود، وأن الدنيا ليس وراءها آخرة ولا حساب، فبالتالي لا شك أن هذه العقيدة ستنعكس على أهداف المجتمع وعلى وسائله، فأهداف هذا المجتمع الملحد الذي يسقط حق الله، أن يحول الحياة إلى متع ومسرات وملذات وشهوات؛ لأنها فرصته الوحيدة، ثم لا يخشى حساباً من أحد، ولا يعرف حق الله، فمن أجل ذلك تجد هذا المجتمع سلك إلى تحقيق هذه الأهداف وسائل كثيرة، ومن هذه الوسائل: رفع الحجب تماماً بين الرجال وبين النساء، وإشراك المرأة مع الرجل في كافة مجالات الحياة، واستعمال الشهوات والتفنن في تزيينها وتحويلها إلى أوضاع بهيمية كما هو معلوم عن أحوالهم.
ففي أمريكا نسبة الزواج (30 %)، وهي لا تتم إلا بعد معاشرة قد تطول، ثم بعد ذلك قد يقررون الزواج وقد لا يقررون، والمقصود أن هذا انعكاس لعقيدة المجتمع الذي لا يؤمن بالله.
وتعريف الحرية عندهم أنك حر ما لم تضر، ونحن نقول: أنت حر ما لم تضر الآخرين وما لم تعص أوامر الله عز وجل.
وعندهم أن لك أن تعتقد ما شئت من العقائد، لكن هذه العقيدة تظل حبيسة الصدر، ولا يكون لها أي تأثير على واقع المجتمع، فقد يعتقدون أن الله خلق العالم ثم حركه ثم تركه، فلا أوامر ولا نواه، ولا شريعة ولا حساب، ولا عذاب.
إذاً: هذه القضية تنعكس على سلوك المجتمع، ولذلك فهم لا يراعون صيانة العرض، قال بعض الباحثين: إن قواميس الأوروبيين تخلو من كلمة العرض، فلا يعرفون الغيرة والشرف والعرض، بل يعتقدون أن الغيرة على النساء من الأمراض النفسية التي ينبغي أن يتخلص منها الإنسان، أو أنها من العقائد الشرقية المتخلفة! فالمقصود من هذه المقدمة: أن المجتمع لا بد أن تكون له عقيدة، وهذه العقيدة تحدد له أهدافاً، وهذه الأهداف يسلك المجتمع وسائل من أجل تحقيقها.
هدف الإسلام من نظامه الاجتماعي هو صيانة الأعراض، فمن أجل ذلك شرع مجموعة من الضوابط كلها تصب في هذا الرافد، وهو صيانة أعراض الناس وترويض شهواتهم وتصريفها فيما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
ونحن نوقن أنه ليس من الإنصاف أن نسلك سلوك النظام الغربي في هذا الجانب، ثم نحاول الترقيع بأن نصبغ عليه أدلة من الإسلام، ونصوغه بقواعد النظام الاجتماعي في الإسلام، فهذا ليس من الإنصاف، فضلاً عن أنه يخالف الحقيقة، فيأتي أناس لهم هوى في إباحة الاختلاط، فيفتشون في أعماق الكتب، لعلهم يجدون نصاً قابلاً للتأويل أو حديثاً ضعيفاً، أو أي نوع من القصص المنحرفة فيقولون: الإسلام يبيح الاختلاط، ويستدلون بما ليس فيه دلالة، يقول لك: بعض النساء كن يساعدن الرجال في القتال، فيوسعون هذه الرخصة، ويقولون: لا بد من خروج النساء إلى المجتمع!(39/7)
احتياطات الإسلام لصيانة الأعراض
احتياطات الإسلام شرعت من أجل صيانة الأعراض، فما هي هذه الاحتياطات التي شرعها الله سبحانه وتعالى لسد ذرائع الفتنة بالمرأة؟ لا شك أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وهو أعلم به، قال عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ركب في الإنسان شهوة الفرج تركيبا قوياً، وجعل لها عليه سلطاناً شديداً، فإذا ثارت فإنها تكون أشد الشهوات عصياناً، فإن لم يكن عند الإنسان تقوى وورع وخوف من الله، فإنه لا يمنعه من المعصية شيء.
قالت مريم عليها السلام: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]، علمت أن التقوى تحجب صاحبها عن المعصية فأرادت أن تذكره بالتقوى.
والدليل على شدة هذا الميل في الإنسان أنه يحتمل بكل الرضا مشاق وتكاليف الزوجية، وتربية الأولاد والكد والتعب من أجلهم، بحيث صار الإنسان مسوقاً عن طريق هذه الشهوات إلى التناسل وعمارة الدنيا؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
والمرأة من طبعها استهواء الرجل، والسيطرة على مشاعره، وامتلاك حسه ولبه، وفي سبيل إغوائه وتوجيه نظره إليها؛ قد تصنع من ألوان الفتن ما يجر إلى المنكر.
فإذا ترك الناس لدواعي هذه الشهوات فسدت الأعراض وفشت الإباحية، فالله سبحانه وتعالى خلق الرجل والمرأة والشيطان، وقد بين الله أن هدف الشيطان الأساسي في موضوع المرأة أن يوقع العبد في حضيض الفاحشة الكبرى والعياذ بالله والشيطان عنده خبرة بهذه الأحابيل وهذه الأساليب، فيسلك مسالك الاستدراج وإغراء الإنسان بالشهوات عن طريق خطوات بعضها يقود إلى بعض كدرجات السلم، ولذلك عندما يحذرنا الله سبحانه وتعالى من فتنة الشيطان يقول: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]، سماها خطوات؛ لأنه يستدرج الإنسان خطوة خطوة، فإن أول ما يبدأ الشيطان بفتنة الإنسان في هذا الباب بالنظرة، فإذا تسامح الإنسان في النظر فإن النظرة تولد خطرة، وهذه الخطرة -أي: الفكرة- تطرق القلب، فإن دفعها العبد استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فصارت وسوسة، فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت وصارت شهوة، فإن عالجها وإلا صارت إرادة، فإن عاجلها وإلا صارت عزيمة، فإذا وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها واقترن بها الفعل ولا بد.
ودفع مبادئ هذه الفتنة أسهل مما بعد ذلك، فإذا غض المرء بصره كما أمر الله كفي شر هذه الفتنة، لكن إذا اتبع الشيطان فلم ينته واستجاب لهذا الاستدراج فإنه يقع فيما هو أصعب، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، ولهذا لما أراد ربنا سبحانه وتعالى أن ينهى العباد عن فاحشة الزنا لم يقل لهم: ولا تزنوا، ولكنه قال لهم: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فنهى عن مجرد الاقتراب منه، وهذا أبلغ؛ وقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فكيف بمن يتعداها ويتخطاها؟! فنقول: إن من أجل شدة هذه الفتنة على العباد فإن الشريعة الإسلامية جعلت أحد مقاصدها العليا الحفاظ على العرض، فإذا تأملت جميع الأحكام التي تتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة في الإسلام وجدتها كلها تصب في هذا الهدف، وهو الحفاظ على الأعراض، ومنع وقوع فاحشة الزنا والعياذ بالله.
فمن أجل تعظيم حرمات الله، وصيانة الأعراض، والمحافظة على النفس، وتطهير المجتمع من الرذيلة؛ اتخذت الشريعة في مواجهة هذه الفتنة اتجاهين: اتجاه وقائي، واتجاه علاجي.
الاتجاه الوقائي يمنع وقوع الفاحشة عن طريق سد الذرائع التي تؤدي إليها سداً محكماً.
والاتجاه العلاجي عن طريق فتح أبواب التعفف والحصانة على مصارعها، وشق الطرق المعبدة الممهدة التي توصل إلى ما أحل الله سبحانه وتعالى.(39/8)
التدابير الوقائية من الفتنة بالنساء(39/9)
التقوى والورع
أول ما اهتم به الإسلام لمنع فاحشة الزنا وغيرها من الفواحش أن جعل الإيمان وتعمير القلب بمراقبة الله سبحانه وتعالى والخوف منه أعظم رادع عن المعاصي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) فصلاح القلب هو أول أسباب الوقاية من المحرمات.
التربية الإيمانية، التوجيه الواعي، لزوم جماعة المسلمين الصالحين، اجتناب صحبة الفاسقين، ومع أن الشريعة تحثنا على مراقبة الله سبحانه وتعالى، لكن الشريعة لا تكلنا فقط إلى ضمائرنا؛ لأن الضمير يمكن أن يطرأ عليه انحراف، والقلب الحي يمكن أن يطرأ عليه المرض.
فمن أجل ذلك وضعت ضوابط صارمة، فلا يحل للإنسان أن يتعلل مثلاً بطهارة قلبه، ويقول: سأخلو بهذه المرأة وقلبي طاهر، أو سأصافح هذه المرأة وقلبي سليم، هناك ضوابط لا بد من سلوكها وعدم التهاون بها.(39/10)
تحريم الزنا
الإجراء الوقائي الثاني: تحريم فاحشة الزنا، وبيان أنه خراب للدين والدنيا: فقد أجمعت كل الشرائع السماوية على تحريم هذه الفاحشة، واعتبرت هذا الفعل من أكبر الآثام وأعظم الجرائم التي تدنس النفس البشرية، وتحول بينها وبين سعادتها وكمالها، ووضعت له أشنع عقوبة في الحدود الشرعية، وهي الرجم بالحجارة حتى الموت للزاني المحصن، وتوعدت فاعليها بالعقوبات الآجلة والعذاب الأليم في العاجلة، قال الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
ليس هذا فحسب، بل قرن الله سبحانه وتعالى الزنا بأكبر الكبائر فقال عز وجل في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69] إلى آخر الآيات.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الكسوف: (يا أمة محمد! والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) تخيل الأب كيف يغار على عرض ابنته، وكيف يغار الزوج على عرض زوجته، فالله عز وجل أشد غيرة من هذا الرجل على ابنته أو امرأته، فيغضب الله سبحانه وتعالى حين تنتهك حرماته وتعصى أوامره.
ثم قال: (يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ثم رفع يديه فقال: اللهم هل بلغت؟).
ليس هذا فحسب، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان من قلوب هؤلاء الذين استمرءوا الكبائر، وبين انسلاخهم من الدين، يقول صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة) يخرج الإيمان من قلبه، ويبقى بعيداً عنه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)، وقال صلى الله عليه وسلم (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم).
وعن بريدة مرفوعاً: (ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله عز وجل عليهم الموت).
بلغ التنفير من هذه الفاحشة وتبغيضها إلى قلوب المؤمنين أن أم جريج العابد دعت على ابنها حينما أتته في صومعته ونادته ثلاث مرات، وفي كل مرة كان يتنفل بالصلاة ويقول: يا رب! أمي وصلاتي، فيقبل على صلاته، فدعت عليه أمه بعقوبة شديدة، وهي ألا يموت حتى يرى وجوه الزانيات، فكان أن افترت عليه امرأة زانية وادعت أنه هو الذي فعل بها الفاحشة، وكان مظلوماً، فأتى إلى الغلام المولود من الحرام، فغمزه بيده وقال: من أبوك؟ فقال: فلان الراعي، فبرأه الله سبحانه وتعالى، لكن المقصود من هذه القصة: أن مجرد وقوع العين على الذين يقعون في هذه الفاحشة عقوبة كما دعت بها أم هذا العبد الصالح عليه بأن يعاقب بها.
وجعل الله سبحانه وتعالى التعفف من هذه الفاحشة من صفات المؤمنين المصلحين، قال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:1 - 7].
وقصة يوسف دليل على فضيلة العفة وحسن عاقبتها، وفي السنة أحاديث كثيرة صحيحة في هذا المعنى، مثل حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال عليه الصلاة والسلام: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة).
وفي حديث الثلاثة الذين توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم بعدما أطبقت عليهم الصخرة في الغار، توسل كل منهم بصالح عمله، فاستشفع أحدهم ببره بوالديه، والآخر برده أجر العامل الذي تركه عنده فاستثمره له، واستشفع الثالث بأنه كانت له ابنة عم يهواها، فما زال يراودها عن نفسها حتى ألم بها قحط فراودها فخضعت له، فلما تمكن منها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فإذا هو يرتعد من خشية الله، وينصرف عنها ويترك لها المال الذي أعطاها ابتغاء وجه الله، فأزال الله الصخرة عن فم الغار بفضل هذه الأعمال الصالحة.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان فيمن كان قبلكم رجل اسمه الكفل، وكان لا ينزو عن شيء، -وفي رواية: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتى امرأة علم بها حاجة، فأعطاها عطاءً كثيراً -وفي رواية: أعطاها ستين ديناراً-، فلما أرادها على نفسها ارتعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله، فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك، ووالله لا أعصيه أبداً، فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله تعالى قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلى نبي زمانهم بشأنه) هذا الحديث رواه الترمذي في صفة القيامة وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو عند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.(39/11)
عقوبات الزنا في الإسلام
شدد الله سبحانه وتعالى ي عقوبة الزاني الأثيم من الناحية المادية والمعنوية، أما العقوبة المادية فهي العذاب الأليم بالجلد أو الرجم، وأما العقوبة المعنوية فهي ألا يرأف به المؤمنون، ولا يجدوا في قلوبهم أي رحمة له، قال عز وجل {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
وزادت السنة الشريفة بعد هذه العقوبة الحكم بجلد الزاني البكر والزانية البكر مائة جلدة أن يغربا عاماً، وزادت أيضاً الرجم بالحجارة للمحصن، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).
وهنا إشارة يسيرة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (نفي سنة) فإنها عقوبة فيها حكمة عظيمة جداً، وهي: أن من مقتضيات التوبة أن يغير الإنسان البيئة التي كان يعيش فيها، والتي عرف فيها بمزاولة المعصية؛ لأنه ربما كان له في هذه البيئة أصحاب سوء يزينون له المعاصي، فإذا هاجر إلى مكان جديد تمكن من التوبة.
فخص الله سبحانه وتعالى عقوبة هذه الجريمة بثلاث خصائص: أولها: القتل بأشنع القتلات، وحيث شدد العقوبة بالجمع بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.
الأمر الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينهم، بحيث تمنعهم من إقامة الحد.
الأمر الثالث: أنه سبحانه وتعالى أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهم أحد؛ لأن ذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر.
وقد ثبتت أحاديث كثيرة بتعذيب الزناة في قبورهم إلى يوم القيامة، كما جاء في الحديث المشهور في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله سلم.
وهذه الفاحشة لها مراتب، ففعل هذا الأمر بأجنبية لا زوج لها عظيم، وأعظم منه بأجنبية لها زوج، وأقبح منه زوجة الجار، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره).
وزنا الشيخ لكمال عقله أقبح من الشاب، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر).(39/12)
من مفاسد الزنا وشنائعه
من مفاسد هذه الفاحشة وعواقبها الوخيمة: أن يَعْمى القلب، ويُطمَس نوره، والزنا يحقر النفس ويقمعها، ويسقط كرامة الإنسان عند الله وعند خلقه، ويؤثر في نقصان العقل، ويمحق بركة العمر، ويضعف في القلب تعظيم الله، ويوجب الفقر، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس.
ومن مفاسده أيضاً: أنه يشتت القلب ويمرضه، ويجلب الهم، والحزن، والخوف، ويباعد صاحبه من الملك، ويقربه من الشيطان، وليس بعد مفسدة القتل مفسدة أعظم من الزنا، فلهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبد أن امرأة من نسائه قُتِلت لكان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.
وروي أن الجزاء من جنس العمل، فإن الله سبحانه وتعالى قد ينتقم من هذا الزاني بأن يسلط على عرضه من لا يتقي الله فيه، فينال من عرضه كما نال هو من أعراض الناس، يقول بعض الشعراء: يا هاتكاً حُرَم الرجال وتابعاً طرق الفساد فأنت غير مكرَّمِ من يزن في قوم بألفي درهم في أهله يزنى بربع الدرهم إن الزنا دَين إذا استقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم وصف بعض العلماء آثار هذه الفاحشة المدمرة فقال: عاره يهدم البيوت الرفيعة، ويطأطئ الرءوس العالية، ويسود الوجوه البيض، ويصبغ بأسود من القار أنصع العمائم بياضاً، ويخرق الألسنة البليغة، ويبدل أشجع الناس من شجاعتهم جبناً لا يدانيه جبن، ويهوي بأطول الناس أعناقاً وأسماهم مقاماً وأعرقهم عزاً إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة، ليس لها من قرار.
وهو أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما استتر، ونباهة الذكر مهما بعدت، وإنبات ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كان في بيوتهم لفتة احترام.
وهو -أي الزنا- لطخة سوداء إذا لحق التاريخ أسرة غمرت كل صحائفه البيض، وتركت العيون لا ترى منها إلا سواداً حالكاً.
وهو الذنب الظلوم الذي إن كان في قوم لا يقتصر على شين من قارفته من نسائهم، بل يمتد شينه إلى من سواها منهم، فيشينهن جميعاً شيناً يترك لهم من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهن النسوي، وهو العار الذي يطول عمره طولاً، فقاتله الله من ذنب، وقاتل فاعليه! يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رءوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنا فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبياً ليس منهم، فورثهم وليس منهم، ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم.
وأما زنا الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضاً، وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد، ففي هذه الكبيرة خراب الدين والدنيا.(39/13)
منع الزواج ممن عرف بالفاحشة ومنع الاختلاط والبذاءة
اتخذ الشرع نتيجة خطورة هذه المعصية إجراءات كثيرة جداً، منها منع الزواج ممن عرف بالفاحشة ومنع الاختلاط، وأنت إذا فتشت عن أي معصية وقعت من هذا النوع، وجدت أن أسبابها الأولى التي أدت إليها وجود خلل في نظام الأسلاك الشائكة، فالإسلام جعل من الرجال الأجانب والنساء نظام أسلاك شائكة تمنع اختلاط الحابل بالنابل، وتمنع ما يحدث في مثل هذه المجتمعات المتحللة، فإذا بحثت وفتشت فلا بد أن تجد ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة، قد تكون بدأت بنظرة، بمصافحة، بخلوة، بأي شيء من هذه الإغراءات التي سنذكرها، والتي من شأنها أن تمنع وقوع الفاحشة.
ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى حرم البذاء والفحش من القول، لأن الآذان تتعود على سماع الألفاظ القبيحة، فمنعها من الاحتياطات التي يسد بها ذرائع الفاحشة: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148].
وحرم الشرع أن يظن السوء بالمؤمن، وأوجب على المؤمن إذا سمع عن أخيه سوءاً أن يظن به البراءة من الإثم، والطهارة من السوء كما أنه يثق بنفسه أنه طاهر وبريء، كما قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ} [النور:12] يعني: بإخوانهم {خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:12 - 13].
وقد حدث في عهد عمر أنه شهد ثلاثة بالفاحشة شهادة مفصلة، وتلكأ الرابع ولم يضبط الشهادة الشرعية المفروضة، فحد الثلاثة حد القذف، وبعض الناس في هذا الزمان يظنون الخوض في أعراض الناس أمراً سهلاً؛ لأنهم لا يعاقبون عقوبات شرعية، لكن أين يفرون من عقاب الله في الآخرة؟! فبعض الناس يعتبر الخوض في الأعراض بطولة، وبمجرد الظن أو الشك في الناس يشيع الفاحشة في المؤمنين، ويغفل عما ينتظره من العقاب الأليم! إذاً: يجب على أي مسلم إذا أتاه رجل فرمى شخصاً بالفاحشة أن يقول له: هل معك ثلاثة شهداء؟ فإذا لم يأت فلك أن تقول له: إنك من الكاذبين، إن هذا هو الإفك المبين الذي حذرنا منه الله سبحانه وتعالى.(39/14)
خطر إشاعة الفاحشة والإيلاء من النساء
حرم الشرع إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]، فإذا كان مجرد حب إشاعة الفاحشة يترتب عليه هذه العقوبة، فكيف بمن يشيع الفاحشة في المجتمع الإسلامي، ويدفع الناس إليها دفعاً؟! وحظر الشرع على الرجل أن يغيب عن زوجه مدة طويلة، قال عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227].
إذا حلف الرجل ألا يقرب زوجته ترك أربعة أشهر، فإما أن يرجع بعد فترة الإيلاء ويتوب فيغفر الله له، وإما أن يطلق.(39/15)
فرض الحجاب على النساء
من أعظم التدابير الوقائية في أمر هذه الفتنة: فرض الحجاب على النساء، واعتبار قرار المرأة في بيتها هو الأصل الأصيل في دائرة عملها، قال صلى الله عليه وسلم: (والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها) فأصل مقر المرأة هو البيت، وليس كما يحصل في هذه الأزمان، وإنما تخرج محجبة، وتخرج بشروط معروفة، وهذه الشروط لحمايتها وحماية المجتمع من فتنتها.
من ذلك أيضاً: أنه حرم التبرج وإظهار الزينة والتجمل للفت نظر الأجانب، يقول تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].(39/16)
تشريع الاستئذان عند دخول البيوت وغض البصر
من هذه الإجراءات تشريع الاستئذان وعدم دخول البيوت إلا بإذن، فربما وقعت عين خائنة على عورة غافلة فوقع المحرم.
أيضاً من هذه الاحتياطات: الأمر بغض البصر، يقول تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وهنا فعل مقدر محذوف، والتقدير: قل للمؤمنين غضوا يغضوا إلخ، فحذف صيغة الأمر (غضوا) وأتى
الجواب
( يغضوا).
فكأن المؤمنين ليس لهم شأن أمام أوامر الله إلا الامتثال، فأصل الآية: قل للمؤمنين: غضوا يغضوا من أبصارهم، أي: سوف يستجيبون لك إذا قلت لهم ذلك؛ لأن هذا شأن المؤمنين.
وقرن الله سبحانه وتعالى الأمر بغض البصر بالأمر بحفظ الفرج، لأن غض البصر هو السبيل إلى هذا الحفظ، ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، حتى يراقب الإنسان ربه ولا يراقب عين الناس، ولا يقع في خائنة الأعين، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء تمر به، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود لو اطلع على عورتها، وأن لو قدر عليها لزنى بها! وقال الثوري: الرجل يكون في مجلس في القوم يسترق النظر إلى المرأة التي تمر بهم، فإذا رأوه ينظر إليها اتقاهم فلم ينظر، وإن غفلوا نظر.
((وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)) يعني: ما يجد في نفسه من الشهوة، ولا شك أن خائنة الأعين في هذا الزمان تضاءلت، لأن المرأة الآن تخرج في الشارع على أقبح صورة وأبلغ زينة، فلم يبق احتمال وجود خائنة الأعين إلا عند المسلمين الذين تستتر نساؤهم، أما الذين فتنوا بتقليد الكفار فقد عدمت فيهم خائنة الأعين، وحل محلها تسريح النظر في النساء الأجنبيات ومضاحكتهن ومجالستهن، والتحدث معهن في الخلوة وفي غير الخلوة! يقول تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} [غافر:19] يقول سفيان: هي النظرة بعد النظرة فالنظرة الأولى معفو عنها كما في الحديث: (يا علي!، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة).
ويشترط للعفو عن الأولى ألا تكون عمداً، بل تكون نظرة فجأة عفواً بغير قصد، فإذا كان الإنسان ينظر عمداً فلا تحل له الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، فإنما الكلام هنا في نظرة الفجأة التي لا يتعمدها الإنسان.
كذلك يجب على من رأى رجلاً يترصد امرأة أن ينصحه ويرشده إلى غض البصر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر) فهذا إنكار باليد، وهو أبلغ مراتب الإنكار.
وننبه هنا إلى خطأ يقع من بعض الناس حتى المتدينين، وهو التساهل في النظر إلى المخطوبة، فالمخطوبة يجوز لك أن تنظر إليها إذا أردت الخطبة، فإذا لم يكفك النظر مرة طلبت الثانية، ولا يجوز أن يظل الباب مفتوحاً؛ لأنها أجنبية، وإلا أصبحت بنات الناس معارض ومسارح للناظرين، فالخاطب ينظر إليها عند الحاجة، ويتكلم معها عند الحاجة، شأنها شأن أي امرأة أجنبية، لأن الخطبة ما هي إلا وعد بالزواج، لا يترتب عليه أي أثر، فالتساهل في هذا الباب لا شك أنه خلل في نظام الأسلاك الشائكة.(39/17)
تحريم مس الأجنبيات
أيضاً من هذه الإجراءات: تحريم مس الأجنبية ومصافحتها، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له).
وقال عليه الصلاة والسلام: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه).
الشاهد قوله عليه الصلاة والسلام: (واليد زناها البطش) وهو أن يمس بها امرأة أجنبية.
وبعض المتساهلين بمصافحة النساء يقول: الصغيرة مثل أخته، والكبيرة مثل أمه! إذاً: حدود الله تنسى وتمحى، فيتساهل الناس في هذه المعصية، ويحتجون بطهارة القلب وسلامة النية، ويقول بعضهم: إنه لا يتأثر بذلك! فلا شك أن هذا ينادي على نفسه بنقص صفات الرجولة، وهو كذاب في دعواه قطعاً؛ لأن أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا أصافح النساء)، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها) أي: يملك نكاحها، فهل هو أطهر قلباً من رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أيضاً: هناك تنبيه تمس الحاجة إليه فيما يتعلق بالمصافحة وغيرها، وهو أن بعض الناس يتهاونون بمثل هذه الأحكام بزعم أن المرأة تمد يدها فيصافحها، ويقول: أنا استحييت، أو المرأة تقول: أنا استحييت، فيقول: صافحت حتى لا أحرجه أو حتى لا أحرجها، فهذا في الحقيقة ليس بحياء، هذا عجز عن المحافظة على حدود الله، فأنت راعيت حق العبد وضيعت حق الله، وكان ينبغي أن تغار على حدود الله سبحانه وتعالى أكثر من خشيتك أن تغضب هذا العبد.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء ويأمر به، ويحث عليه، ومع ذلك لا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكاً بقوله في الحديث: (إن الله لا يستحيي من الحق).
وهذا هو نهاية الحياء وكماله، وحسنه واعتداله، فإن من فرط عليه الحياء حتى منعه من الحق، فقد ترك الحياء من الخالق واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء، واتصف بالنفاق والرياء، والحياء من الله هو الأصل والأساس، فإن الله أحق أن يستحيا منه، فليحفظ هذا الأصل فإنه نافع.(39/18)
تحريم الخلوة بالأجنبيات
من هذه الإجراءات أيضاً: تحريم الخلوة بالأجنبية، وحقيقة الخلوة أن ينفرد الرجل بامرأة أجنبية عنه في غيبة عن أعين الناس، فهذه من أعظم الذرائع وأقرب الطرق إلى وقوع الفاحشة الكبرى.
وهذه الخلوة كما ذكر القرطبي من الكبائر، ومن أفعال الجاهلية، قال مجاهد في قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] لا تخلو المرأة بالرجال، وقال بعض السلف: لا تخلو برجل غير ذي محرم ولا تسافر إلا مع ذي محرم.
فالخلوة بالأجنبية من أخطر الذرائع التي تؤدي إلى المحرم، فهي من أسباب القرب التي قال عز وجل فيها: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فتجد أن الله سبحانه وتعالى حينما يعالج جريمة القتل، ينهى عن القتل نفسه: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]؛ لأن النفس أصلاً تكره القتل، لكن هذه الفاحشة يعالجها بالحجز عن أسبابها: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32].
فشدد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الخلوة، حتى تسد منافذ الفاحشة، وتجفف منابع الفتنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا لا يخلون رجل بامرأة، إلا كان ثالثهما الشيطان)، فأي إنسان يقول بخلاف قول رسول الله فهو كذاب، ينادي على نفسه بالكذب والفجور والفسوق والعصيان، فما دام الرسول الذي لا ينطق عن الهوى يقول (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) فحتماً يكون ثالثهما الشيطان، وهذا الحديث يعم جميع الرجال حتى الصالحين، ويعم جميع النساء حتى الصالحات والعجائز.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان).
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل على المغيبات)، والمغيبة هي المرأة التي غاب زوجها.
وعنه أيضاً: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان)، وفي حديث آخر: (لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم).
أيضاً قرابة الزوج من الرجال غير الأب لا يحل لهم أن يدخلوا على المرأة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ -الحمو هو قريب الزوج- قال: الحمو الموت) يعني: أنه يفسد حياة الزوجية كما يفسد الموت البدن.
وقد حكى الإجماع على تحريم الخلوة بالأجنبية غير واحد من العلماء منهم النووي وابن حجر، وقال النووي: وكذا لو كان معهما من لا يستحيا منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحوه، فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام.
ويقول الإمام الأبي رحمه الله تعالى: لا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد وإن قل الزمن.
يعني: مثل داخل المكتب، أو المصعد وأي شيء تقع فيه خلوة لا يحل، يقول: لعدم الأمن، لاسيما مع فساد الزمن، والمرأة فتنة إلا فيما جبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب.
يقول بعض الشعراء: لا يأمنن على النساء أخ أخا ما في الرجال على النساء أمين إن الأمين وإن تعفف جهده لا بد أنه بنظرة سيخون فالمقصود: ألا يوكل الأمر إلى الضمائر والثقة، ولا بد من مراعاة حدود الشرع، يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: ائتمنوني على خزائن الذهب والفضة، ولا تأتمنوني على أمة سوداء.
يقول بعض السلف: ولا تدخل على امرأة وإن قلت: أعلمها القرآن.(39/19)
تحريم سفر المرأة بغير محرم
من ذلك أيضاً: أن الشريعة حرمت سفر المرأة بغير محرم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجّة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا.
قال: انطلق فحج مع امرأتك) فأمره أن يترك الجهاد حتى يحج مع امرأته ولا يدعها تسافر بدون محرم.
يقول الإمام النووي: المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كبيرة، وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته، وقلة دينه ومروءته وحيائه.
فالذين يتهاونون بالخلوة والاختلاط ويقولون: إن بناتنا أو أبناءنا تربوا على الفضيلة ورعاية الخلق إلى آخر هذا الكلام، هؤلاء تماماً مثل قوم وضعوا كمية من البارود بجانب نار متوقدة، ثم ادعوا أن الانفجار لن يقع، لأنه مكتوب على البارود تحذير من الاشتعال والاحتراق، فهل يغني هذا التحذير شيئاً؟ فهذا خيال ومغالطة للواقع.(39/20)
تحريم خروج المرأة متعطرة
من هذه الإجراءات: تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة، فما يشمه الرجل من ريح المرأة لا شك أنه من دواعي الفتنة، يقول عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم يجدون ريحها فهي زانية، وكل عين زانية)، فالحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس ألا يحتمل حتى هذا العامل الخفي اللطيف! خرجت امرأة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه متطيبة، فوجد ريحها فعلاها بالدرة، ثم قال: تخرجن متطيبات فيجد الرجل ريحكن، وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تفلات، يعني: غير واضعات هذه الروائح.(39/21)
تحريم الخضوع بالقول
من هذه الإجراءات: تحريم الخضوع بالقول؛ فإن خضوع القول يؤدي إلى بلية المعصية أو بلية العشق، قال بشار الشاعر: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا فربما أوقع صوت المرأة الرجل في هذه الفتنة؛ فلهذا نهيت المرأة عن الخضوع بالقول، لكن تتكلم بجفاء وبقسوة؛ حتى تنفر الرجل الأجنبي منها.
بعض الناس رأى أختاً منتقبة تلبس ثياباً ذات ألوان غامقة بحيث إنها تنفر الذي يراها، فقال: هذا لا يصح هذا منفر! فكان
الجواب
إن المفروض أنها تنفر، فليس المقصود مد جسور المودة بين الرجال والنساء، والكلام إنما يجوز للحاجة بقدر الحاجة: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، فهذا الخطاب وجه لأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن، فكيف بمن دونهن؟! قال عليه الصلاة والسلام: (والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام)، فهذا أيضاً من المحرمات.(39/22)
تحريم الاختلاط
أعظم وسائل الإسلام في تجفيف منابع هذه الفتنة تحريم الاختلاط، والاختلاط هو: اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم له اجتماعاً يؤدي إلى ريبة، أو هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر، أو الإشارة أو الكلام أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد.
أقوى دليل على تحريم الاختلاط قول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وإذا رجعنا إلى كتب التفسير، لننظر ما يذكره المفسرون عن تبرج الجاهلية الأولى، نجد أن الجاهلية الأولى تستحي مما عليه الجاهلية الأخيرة الآن، ففي تفسير الآية يقولون: كانت المرأة تخرج فتمشي بين أيدي الرجال، أو تخرج وقد غطت رأسها وأظهرت نحرها، فهذا هو تبرج الجاهلية الأولى، فماذا نقول عن تبرج الجاهلية الأخرى ولا حول ولا قوة إلا بالله! ويقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} [الأحزاب:53] يعني فتوى، أو طعاماً، أو صدقة {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ثم علل الحكم فقال: {ذَلِكُمْ} يعني: الحجاب، أو السؤال من وراء حجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] ثم يأتي بعض الناس الذين لم يشموا رائحة الفقه، ويقولون: إن هذه خاصة بأمهات المؤمنين.
سبحان الله! إذا كان الخطاب موجهاً لأمهات المؤمنين اللاتي هن محرمات علينا، وموجهاً لجيل الصحابة الذين هم خير أمة أخرجت للناس، وعلل الحكم بأن ذلك الحجاب والكلام من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن، فكيف نقول في رجال ونساء هذا الزمان! يقول النبي عليه الصلاة والسلام (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها).
وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء بالطريق، فقال لهن: (استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق) أي: ليس لكن أن تمشين في حاق الطريق وهو وسط الطريق.
الآن الرجال لكي يتقوا شر النساء يمشون على الرصيف، ويتقون بالجدران! النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق) فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به، أي من شدة الحرص على عدم المخالطة أوقات الخروج من المسجد.
وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد باباً خاصاً بالنساء لا يشاركهن ولا يخالطهن فيه الرجال، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو تركنا هذا الباب للنساء) قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات، وكان عمر بن الخطاب ينهى أن يدخل المسجد من باب النساء.
وقد شرع الرسول عليه الصلاة والسلام للمصلين ألا يخرجوا فور التسليم من الصلاة إذا كان في الصفوف الأخيرة بالمسجد نساء حتى يخرجن.
قال أبو داود: باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة.
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم مكث قليلاً، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال).
وجاءت أم حميد الساعدية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي) أي: المسجد النبوي، ومعروف فضيلة الصلاة في المسجد النبوي.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن).
وقال عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)، وهذا في حالة العبادة والبعد عن الشيطان، فما بالك بما خالف ذلك! كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حذرة، أي تطوف حول الكعبة بالليل حتى لا تخالط الرجال، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين! فقالت: انطلقي أنت، وأبت، وكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن، أي: إذا أراد نساء المؤمنين أن يدخلن الكعبة وقفن على بابها حتى يخرج الرجال، ثم تدخل النساء.
ودخلت على عائشة رضي الله عنها مولاة لها فقالت لها: يا أم المؤمنين! طفت بالبيت سبعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال، ألا كبرت ومررت! ومن أجل ذلك تجد الشرع حث على صلاة الجمعة، ولكن ليست واجبة على النساء، وجعل جهادهن هو الحج المبرور، ولما أرادت فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم سليم، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك).
كل هذه الإجراءات تبين لنا أن روح الشريعة يرفض تماماً انفتاح النساء على الرجال واختلاطهن بهم بهذه الصورة المزرية.(39/23)
صور من الاختلاط يتهاون بها الناس
هناك صور من الاختلاط يتهاون بها الناس لا بد من الالتفات إليها.
أول صور الاختلاط المحرم: اختلاط الإخوة الذكور والإناث بعد التمييز في المضاجع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع كما في الحديث: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) فلا بد من التفريق بين الذكور والإناث حتى لو كانوا أشقاء في المضاجع.
صورة ثانية: اتخاذ الخدم من الرجال، بعض الناس يأتون بخدم في المنزل من الرجال، فيختلطون بالنساء، وقد تحصل بهن الخلوة.
الصورة الثالثة: اتخاذ الخادمات في بعض البيوت، وقد تحصل بهن الخلوة.
الصورة الرابعة: السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة، يقول: هذا خطيبها، فيخلو بها، فيجرهم الاختلاط إلى الخلوة ثم إلى ما لا تحمد عقباه، فيقع العبث بأعراض الناس بحجة التعارف وأن يدرس بعضهم بعضاً.
الصورة الخامسة: استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب أو أصدقاؤه في حال غيابه ومجالستهم، وهذا مما ينافي أحكام الإسلام.
الصورة السادسة: الاختلاط في دور التعليم والمدارس والجامعات والمعاهد والدروس الخصوصية.
الصورة السابعة: الاختلاط في الوظائف والأندية والمواصلات والأسواق والمستشفيات والزيارات بين الجيران.
الصورة الثامنة: الخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد والمكاتب والعيادات عند الطبيب إلى غير ذلك، فلا ينبغي حصول خلوة أبداً، ولا يسمح للرجل بخلوة امرأته برجل حتى في الطريق.
والحاصل أننا ينبغي أن نحذر الخلوة والاختلاط والتبرج، وكل هذه الأشياء والزنا رفيقان لا يفترقان، وصنوان لا ينفصمان أبداً، يقول بعض الشعراء: إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل السباع تطوف باللحمان إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان فالإسلام وضع حصوناً وقلاعاً؛ لأن الإسلام يعرف ما معنى العرض، وما معنى الشرف.(39/24)
حال الغربيين بسبب الاختلاط
هؤلاء الغربيون يعيشون كالبهائم العجماوات، وإذا سبرت أغوارهم وعرفت أحوالهم؛ وجدت الحيوانات أفضل منهم، فليسوا هم أسوتنا، لكن أسوتنا خير أمة أخرجت للناس، فإذا لم نحل بين الرجال والنساء الأجانب بهذه الحصون والقلاع، فلا بد أن تسقط الأعراض أمام هذه الهجمة الشرسة ويقع المحذور، ولا ينفع حينئذ بكاء ولا ندم، والتبعة كل التبعة، واللوم أولاً وأخيراً على ولي البنت الذي ألقى لها الحبل على غاربه، وأرخى لابنته العنان، فيداه أوكتا وفوه نفخ، يقول بعض الشعراء: نعب الغراب بما كرهـ ت ولا إزالة للقدر تبكي وأنت قتلتها فاصبر وإلا فانتحر ويقول الآخر: أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت فاعل فلا يلومن أحد إلا نفسه، كل أب أو ولي يفرط في هذه الواجبات فمسئوليته أمام الله سبحانه وتعالى.
أخيراً نقول: إن جعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية والفضائح المشينة التي تمثل صفعة قوية في وجه كل من يجادل في الحق بعدما تبين، وإن الإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي فشا فيها الاختلاط صارخة بخطر الاختلاط على الدين والدنيا، لخصها العلامة أحمد وثيق باشا العثماني رحمه الله، فقد كان من الأتراك المشهورين، وكان قد سأله بعض عشرائه من رجال السياسة في أوروبا في مجلس إحدى العواصم الأوروبية، فقال له: لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال ويغشين مجامعهم؟ فأجابه في الحال قائلاً: لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن! وكان هذا الجواب كصب ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر.
ولما وقعت فتنة الاختلاط في الجامعة المصرية على يد طه حسين وقعت حوادث يندى لها الجبين، وسئل طه حسين: ما رأيك في الاختلاط والسنة السيئة التي أدخلتها في بلاد المسلمين، وقد حدث منها كذا وكذا، مما يندى الجبين عرقاً من حكايته؟ فكان جوابه: لا بد من ضحايا! لكنه لم يبين بماذا تكون التضحية؟ وفي سبيل ماذا لا بد من ضحايا؟ وهل يوجد شيء أغلى وأثمن من أعراض المسلمين حتى يضحى به في سبيل غيره؟! نستطيع أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها، وهي أنك إذا وقفت على جريمة دنس بها العرض وذبح العفاف وأهدر الشرف، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي نسجت هذه الجريمة وسهلت سبيلها؛ فإنك حتماً ستجد أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة دخل الشيطان، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27 - 28].
فلأن الإنسان ضعيف ولأن الله بنا رحيم، شرع لنا هذه القيود وهذه الضوابط كي تصب في هذا المجرى العظيم، صيانة العرض وحماية المجتمع من هذه الفاحشة.(39/25)
التدابير الإيجابية لصيانة الأعراض
ذكرنا بعض الإجراءات الوقائية التي تسد باب الفتنة، فما هي التدابير التي شرعها الإسلام بهذا الصدد؟(39/26)
الترغيب في النكاح
فتح الإسلام أبواب الحلال على مصارعها، وقضى على أي عقبة تعترض النكاح بكل قوة، فرغب الإسلام في الزواج المشروع وحث عليه، وبين أنه من سنن الهدى، وجادة الإسلام، ونهت الشريعة عن التبتل والرهبانية، وأنها مولود مبتدع في الملة النصرانية، وشدد الله النكير على فعلتها، فليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ولا يحل لأي إنسان أن يستحسن العزوبة بأي عذر، فإنه يقع حينئذ تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن رغب عن سنتي فليس مني).
ومعروف حديث الثلاثة الرهط الذين أتوا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى)، فمن أحد المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية تكثير نسل المسلمين.
فبعض المضلين يستدلون ببعض الحالات الفردية أو بعض الأحاديث الواردة في إباحة العزل على إباحة استئصال النسل المسلم والتآمر عليه، فهناك فرق بين دراسة الحالات الفردية كرخص طبقاً لظروف شخصية لبعض الناس، وبين أن الدولة تتبنى سياسة تنافي وتضاد مقاصد الشريعة الإسلامية، فلا تحل المناداة برفع شعار يتعارض مع المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، وقد ذكرنا أن من مقاصد الشريعة الإسلامية العليا حفظ العرض عن طريق هذه الوسائل التي نذكرها.
فالمقصود: أن الترغيب في النكاح أصل مقطوع به من دين الإسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى).
قال طاوس رحمه الله: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج، أي: لا يحل للواحد أن يقول: أنا اشتغل بالتعبد ويترك الزواج.
وقال لـ إبراهيم بن إبراهيم بن ميسرة: تزوج أو لأقولن لك ما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ أبي الزوائد: لا يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور.
فالتعبد لا يمنع من النكاح، قال المروزي: قال أبو عبد الله -يعني الإمام أحمد بن حنبل -: ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة، ومات عن تسع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح وما عندهم شيء من الفقر، وكان يختار النكاح ويحث عليه، ونهى عن التبتل، فمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو على غير الحق.
وتزوج يعقوب في حزنه وولد له، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبب إلي من دنياكم النساء).
وقال الإمام أحمد: لبكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه خبزاً أفضل من كذا وكذا.
يعني: حتى لو كان فقيراً؛ لأن الله يحب أن يكثر نسل المسلمين الذين يشهدون له بالتوحيد، فما يدريك لعله أن يخرج منهم من ينقذ الله به الأمة! ويقول الإمام أحمد: أنى يلحق المتعبد المتزوج! وعن عثمان بن خليل أن شداد بن أوس قال: زوجوني، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني ألا ألقى الله عزباً.
وقال ابن مسعود: لو لم يبق من أجلي سوى عشرة أيام، أعلم أني أموت بعدهن، ولي طول النكاح فيهن؛ لتزوجت مخافة الفتنة.
ففقهاء الإسلام يقررون أن النكاح سنة مؤكدة، والبعض يقول بالوجوب؛ أخذاً من قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء).
وأرشد الإسلام إلى الصيام كشيء بديل؛ لأنه مما يعين على غض البصر، وفي القرآن إشارة إلى هذا في قوله سبحانه وتعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب:35] ثم عقب بقوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب:35] لأن الصيام يعين على هذا الأمر، يقول بعض العلماء: لو سأل سائل فقال: إني رجل مستطيع النكاح ولا أخاف على نفسي الحرام لو لم أتزوج، وأريد أن أظل عزباً ليكفيني أقل مال وعمل لكسب معيشتي، وسأشغل وقتي كله بالعبادات من صلاة وصوم وذكر وقرآن إلى آخره؛ لقال العلماء لهذا الرجل: الزواج مع أداء العبادات المفروضة والسنن الراتبة أفضل.
ولكي يزيد الإسلام فتح في باب الحلال كتدبير إيجابي لسد باب الفتنة؛ رخص لمن لم يقدر على نكاح الحرائر أن ينكح الإماء، وأمر المسلمين بالتعاون على تزويج عزابهم من نساء ورجال حتى لا يبقى في القرية أو الحي عزب تخشى فتنته، والدليل قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، والأيامى: جمع أيم، وهو من ليس له زوج من رجل أو امرأة، قال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، ثم تلا هذه الآية: ((إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)).
وقال عمر: عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعالى: ((إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))! وقد بين هذا وشرحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حق على الله عون من نكح التماس العفاف عما حرم الله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة حق على الله تعالى عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف).(39/27)
تيسير النكاح
حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تيسير النكاح، فقال عليه الصلاة والسلام: (خير النكاح أيسره) وهذا إرشاد إلى التساهل من جانب الأولياء ومن جانب الأزواج.
وقال عليه الصلاة والسلام: (خير الصداق أيسره).
وأمر الله عز وجل من لم يجد النكاح بالاستعفاف، ولم يفتح أي ثغرة إلى ما حرم الله، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] فأي وسيلة غير هذه التي أحلها الله فهي من العدوان الذي حرمه الله سبحانه وتعالى.
هكذا نظم الإسلام الحياة الاجتماعية تنظيماً دقيقاً، ووضع لنا التشريعات التي تكفل السعادة والاستقامة، وبينا كيف أن الشريعة حينما تحرم شيئاً تحرم كل الأسباب التي تؤدي إليه، حتى تستوقف المرء على مسافة بعيدة قبل أن يفضي إلى حدود الجريمة الأصلية.
لا ترتضي الشريعة الإلهية المحكمة حين تحرم شيئاً من الجرائم أن تشعر الناس أن العقوبة قد شرعت لمجرد التمثيل بهم ومحاسبتهم، بل تشعرهم أنها ناصحة لهم، ومصلحة لمفاسدهم، ومزيلة لمفاتنهم، فتستخدم كل ما يؤثر من التدابير الوقائية الممكنة والتدابير العلاجية التي توصد باب الفتنة، وتعين على اجتناب الموبقات: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27 - 28].
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(39/28)
منكرات التمثيل
التمثيل أمر محدث لم يكن من هدي السلف، والناظر في واقعه يجد أغلبه يحوي أموراً منكرة، كالغيبة بالمحاكاة أو القول، والاستهزاء بالدين وعلمائه، وتشويه تاريخ المسلمين، واختلاط الرجال بالنساء، والنظر إلى العورات، كما أن فيه إهداراً للأموال والأوقات في باطل يعود على المسلم بالضرر في دينه ودنياه.(40/1)
حرمة الغيبة(40/2)
الغيبة بالقول والإشارة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية أنها كذا وكذا -تعني: قصيرة-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته! قالت: وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) رواه أبي داود والترمذي، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني.
قول عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية) أي: يكفيك من عيوبها البدنية أنها قصيرة، ولعلها قالت بلسانها: إنها قصيرة، وأشارت بيدها إلى كونها قصيرة، فأرادت التأكيد بالجمع بين القول والفعل، فقالت بلسانها وحكت أيضاً بيدها أنها قصيرة.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت كلمة) أي: كلمة طويلة عريضة مرة ومنتنة عند أرباب الحواس الكاملة (لو مزجت بماء البحر) أي: لو خلط بها على فرض أن الكلمة كأنها تجسدت وأصبحت سائلاً مائعاً بحيث تختلط بماء البحر، والمزج هو الخلط بين المادتين، فينتقل من المعنى إلى الحس (لمزجته) أي: لغلبت عليه وغيرته.
والمعنى أن هذه الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته، فكيف بأعمال قذرة قد خلطت بها هذه الغيبة؟! وفي هذا الحديث إشارة لطيفة إلى أن هذه الكلمة منك ولو كانت صغيرة وقليلة عندك فهي عند الله كبيرة وكثيرة بحيث لو أن هذه الكلمة مزجت بكل البحار بأجناسها وأصنافها وأنواعها من طولها وعرضها وعمقها لغلبتها ولغيرتها وعكرتها! فهذا من البلاغة في غاية مبلغها، وفي البليغ من الزجر نهاية حده ومنتهاه.(40/3)
الغيبة بالمحاكاة
قالت عائشة رضي الله عنها: (وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا).
فقوله: (ما أحب) يعني: ما أود (أني حكيت إنساناً) أي: فعلت مثل فعل أحد.
يعني: ما أحب أن أتحدث بعيب أحد سواء أكان هذا الحديث قولياً أم فعلياً.
وقولها: (وحكيت له إنساناً) بمعنى: حاكيت.
أي: فعلت مثل فعله.
أي: قلدته فمثلت بشخصه، وفعلت نفس حركته أو مشيته أو كلامه.
يقال: حكاه، وحاكاه.
وأكثر ما تستعمل المحاكاة في القبيح، ولو حملنا قوله: (ما أحب أني حكيت إنساناً) على المعنى الحسن -أي: المحاكاة الحسنة- فيكون هذا إشارة إلى المبالغة، أي: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم زجر في المحاكاة الحسنة وقال: (ما أحب أني حكيت إنساناً) فكيف بالمحاكاة في الأفعال القبيحة؟! قوله: (وأن لي كذا وكذا) هذه جملة حالية، يعني: لا أحب أني أقلد إنساناً، أو أمثل بشخص فلان، أو أقلد حركاته (وأن لي كذا وكذا) أي: ولو أعطيت كذا وكذا من الدنيا.
يعني: حتى لو وزن لي من المال أو من الدنيا الشيء العظيم حتى أقوم بفعل المحاكاة ما أحب ذلك، ولا أقبل ذلك.
قال الإمام النووي رحمه الله: من الغيبة المحرمة المحاكاة، بأن يمشي متعالياً أو مطأطئاً رأسه أو غير ذلك من الهيئات.
فالإنسان لا يقلد شخصاً فيحاكيه في حركاته أو في مشيته.
وقال -أيضاً- رحمه الله تعالى: هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ.
وما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.(40/4)
التمثيل أحكامه وأنواعه
يقودنا الكلام في تفسير قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] إلى بيان معاني الهمز واللمز المقصودين في هذه الآية الكريمة، فالذم حاصل لكل من أتى بهما أو بأحدهما، يعني: ويل لكل هامز لامز يكثر منه الهمز واللمز للآخرين، وفي قراءة: (ويل لكل هُمْزَة لُمْزَة) يعني: الشخص الذي يهمز ويلمز، وهو المفعول، وذلك بأن يأتي بحركات سفيهة أو يمثل أو يفعل نحو هذه الأشياء بحيث يضحك الناس، فهذا المعنى يستفاد من قراءة: (ويل لكل هُمْزَة لُمْزَة) بتسكين الميم، فهي تعني المفعول، أو الشخص الذي يتعرض للناس ليهمزه ويضحكوا منه.
والآية تتناول أحد أنواع التمثيل على هذه القراءة، وهو التشخيص، والمعروف أن الممثلين كانوا معروفين منذ زمن بالحقارة والمذلة والهوان، وكانوا أحقر ناس، حتى كان القضاء الوضعي نفسه يرد شهادة الممثلين، ولا تقبل شهادتهم تفسيقاً لهم؛ لأنهم يتعاطون مهنة قبيحة وحرفة خبيثة، وبعض هؤلاء الممثلين كان يفخر بإنجازات بعض الرؤساء فقال: إن من ضمن إنجازات هذا الرئيس أنه جعل عيداً للفن، وأنه بعد أن كان القضاء يرد شهادتنا أصبحنا الآن الأبطال والقدوة، ويقال لأحدنا: المربي الكبير والأستاذ القدير إلى آخر هذه الألقاب! ومن الأنواع المذمومة من أنواع التمثيل التي تبلغ من القباحة غايتها ما يسمونه الكوميديا أو الضحك أو النكت أو ما شابه هذه الأشياء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له).
فالكلام على هذا النوع من الهمز واللمز يقود إلى بيان وعيد الذي يكذب في حديثه ليضحك به الناس.
والمراد هنا الكلام على سائر أنواع هذا التمثيل، لكن حينما نتكلم في هذا التمثيل فإننا نقصد به المعنى العرفي؛ إذ أصبح علماً على الفسق والفجور الذي نعرفه جميعاً ونعلمه ونسمع به.
إن التمثيل المقصود به النوع الشائع المعروف الذي يتفق على تحريمه العلماء والعقلاء وذوو الفطرة السليمة، ولا يدخل فيه النوع المختلف فيه الذي هو -كما نسميه- التمثيل الأخلاقي الذي يدعو إلى الفضيلة والحث على الجهاد ونحو ذلك، فهذا فيه خلاف شرعاً هل هو محرم لذاته أم لا، أما إن كان التمثيل يحتوي على الفواحش كالتبرج والفساد المعروف فهذا محرم للأدلة الكثيرة في ذلك، لكن التمثيل فيما يهدف إلى إبراز المقاصد الأخلاقية، الذي يعرى عن وجود النساء المتبرجات أو غير المتبرجات، ويدعو إلى الأخلاق والحث على الفضائل هل هو محرم لذاته؟ بعض العلماء يرى أنه محرم لذاته، لكن هذا لا يفيدنا كثيراً، فلا نحتاج إلى أن نتكلم عن التمثيل الأخلاقي بصحة أو خطأ؛ لأننا لسنا نقصده؛ لأنه لا يوجد الآن تمثيل أخلاقي أبداً، وليس هناك أحد يدعي ذلك، بل الذي يبدأ بالأخلاق ينتهي بما نعلم! فهو نادر أو معدوم.
ومن أنواع التمثيل المعروفة ما تجرأ عليه بعض الملاحدة وقاموا بتمثيل بعض الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، بل منهم من وصل به هذا الفجور والفسوق إلى تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا حرام أو كفر، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
وكذلك في هذه الأوضاع المذمومة تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم.
أما التمثيل المعروف الآن بكل ملابساته فيقول أحد العلماء الذين ألفوا في هذا الموضوع: اعلم أنه لا يختلف اثنان ممن يعرف شيئاً عن دين الإسلام أن التمثيل من أعظم المحرمات وأكبر الكبائر، ولا يشك في ذلك إلا من لا يعرف شيئاً عن دين الإسلام، أو كان من المنحلين المارقين الذين يدسون فيه الدسائس لمحو رسومه وإتلاف معالمه والقضاء عليه بتحليل محرماته وإسقاط واجباته، كما هو الواقع من الكثيرين، بل لا يشك عاقل ولا يمتري فاضل في أن التمثيل مناف للمروءة والعقل، منابذ للأخلاق والفضيلة، لا يرضاه ذو نفس شريفة، ولا همة أبية فضلاً عن ذي دين ومروءة، بل لا يرضاه لنفسه إلا دنس الأصل، وضيع النفس، ساقط المروءة، فاقد الشعور بالكرامة، خفيف العقل، قليل الدين أو ذاهبه بالكلية.
وهذا هو المشاهد من الممثلين، فإننا لا نرى في الممثلين ذا أهل وكرامة ودين ومروءة.(40/5)
تنبيهات بين يدي الحديث عن التمثيل(40/6)
مكانة الصحابة رضي الله عنهم وحرمة تصويرهم
نقدم بين يدي الكلام في هذا الموضوع بعض التنبيهات: اتفق العلماء على حرمة تصوير الصحابة رضي الله عنهم، وهناك اعتبارات لابد أن نراعيها قبل الكلام في موضوع التمثيل: الأول: ما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المكانة العليا في الإسلام بحكم معاصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم بواجب نصرته وموالاته، والتفاني في سبيل الله ببذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم رضي الله عنهم، فقد اتفق أهل العلم على أنهم صفوة هذه الأمة وخيارها، وأن الله شرفهم وخصهم بصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم في كتابه الكريم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] إلى آخر الآيات.
وجاءت الأحاديث الصحيحة بتسجيل فضلهم، وأن لهم قدم صدق عند الله، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم) ففي الجيل الثاني قال: (أفيكم من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) يعني أصحاب الصحابة، وفي المرة الثالثة: (أفيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم) فمدار الفضل على هذا الشرف الذي يلحق الصحابة ومن يصحبهم ومن يصحب من يصحبهم.
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) أي: البدانة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شأن بعض أصحابه رضوان الله عليهم: (ذروا لي أصحابي -أي: دعوني وأصحابي- فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) رضي الله عنهم.(40/7)
التمثيل وقضاؤه على الأوقات وشغلها باللهو والعبث
التنبيه الثاني: قبل الكلام في منكرات التمثيل تأتي النظرة العامة إلى مشاهدة التمثيل من أنه حال من أحوال اللهو والتسلية وشغل فراغ الوقت، فمشاهده في الغالب يذهب إلى السينما، أو يجلس أمام الأفلام ونحوها، ولا يريد أن يجلس ليتعظ، بل هو يريد أن يضيع وقته، ويحصل إشباع غرائزه بما يشرح النفس وينسي الهموم وينقل المرء من حال الجد إلى حال العبث والهزل؛ ولذلك يقول قائلهم: كم ساعة تريد أن تجلس فيها لضحك متواصل؟! فهو هروب من الهموم، أو هروب من المسئوليات ولجوء إلى البطالة وإلى العبث، كما يلجأ الإنسان إلى أي شيء قبيح ومنكر مثل الخمور والمسكرات، وكذلك يلجأ طوائف من الناس إلى هذه المسارح والسينما وغيرها، ويقصدون بذلك الترويح على أنفسهم بهذا اللغط والعبث.(40/8)
تردي أخلاق الممثلين
التنبيه الثالث: حال محترفي التمثيل من الناحية السلوكية، لو تأملنا في وضع التمثيل وحال محترفي هذا النوع من الفسق، فسنخرج بنتيجة واحدة هي: أن غالبهم سقط من الناس، ليس للصلاح ولا للتقوى مكان في حياتهم العامة، ولا للأخلاق الإسلامية محل في دائرة أخلاقهم، ولا للقيم النبيلة اعتبار عندهم، فإذا تقمص أحدهم شخصية امرئٍ صالح أو نبيل أو شهم أو عفيف أو جواد فذلك لأجل ما سيتقاضاه ثمناً لهذا الدور، وليس لأنه يعظم هذه المبادئ أو يحترم هذه القيم، لكن هذا الدور يفرض عليه أنه يتمثل برجل طيب أو صادق أو نبيل مقابل الثمن، ثم يعود إلى سيرته الأولى ضاحكاً لاهياً ساخراً معرضاً عن الجوانب المشرقة في حياة هؤلاء النبلاء! بل إن منهم من فلمه المعروض يبين حال فسقة، ولا أعتقد أنهم يقدرون على رفع قضايا سب وشرف إلى المحكمة؛ لأن الفسق معروف عنهم تماماً الآن، بل هم أنفسهم يجهرون به، ولا يحتاج إلى اتهام، بل القضايا التي تنشر لهم بين وقت وآخر تدل على اتهامهم نساء ورجالاً بأقبح أنواع القبائح، نسأل الله العافية.
وإننا لنتذكر كلمة قالها محمد الصباغ -حفظه الله- في بعض المناسبات في رمضان لما كان في مسجد الفتح، فكان يذكر حديث جريج العابد لما أتته أمه وهو يتعبد في صومعته فنادت عليه فقال: صلاتي أو أمي؟ فأقبل على صلاته ولم يجب أمه، وذلك ثلاث مرات، فدعت عليه أمه في المرة الثالثة بأنه لا يموت حتى يرى وجوه المومسات (الزانيات) فهذه الدعوة عقوبة دعت بها عليه أمه، وهي أن تقع عينه على هؤلاء النساء، فهذه عقوبة، فكيف -إذاً- بالمسلم الذي يتعمد النظر إلى الفاسقات! ويسعى إلى النظر إلى الفاسقات! فهذا أمر عظيم بلا شك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ علي: (لك الأولى وليست لك الآخرة) والأولى هي نظر الفجأة، فكيف بالنظر المتعمد؟! فبعضهم يبذل ماله ووقته وعمره ليسعى إلى أماكن الفساد، ويبذل المال والوقت ويسعى إلى الفاسقات حتى يرى صورهن القبيحة، بل ويستلذ بهذه المعاصي ويستحسن ذلك ويفرح! فهذا النوع من الفرح شؤم على صاحبه في الدنيا والآخرة.(40/9)
حرص أرباب التمثيل على المكاسب المادية
التنبيه الرابع: أغراض التمثيل، فلا يختلف اثنان أن الهدف الأول لأرباب المسارح في إقامة التمثيل فيها هو المكاسب المادية، ومكاسبهم المادية لا تحصل إلا بمداعبة غرائز المشاهدين وشهواتهم، فإذا عرفنا أن غالب المشاهدين لا يقصدون من مشاهدتهم التمثيل إلا قضاء فراغ أوقاتهم بما فيه العبث واللهو والتسلية، وفهمنا أن الهدف الأول والأخير من التمثيل الكسب المادي؛ أدركنا أن القائمين على التمثيل سيحرصون على إنماء رصيد مشاهدي مسرحيتهم، بتحقيق رغبة المشاهد في إشباع غرائزه، وعرض ذلك على شاشة التمثيل وخشبات المسارح، ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالأمة، وتحطيم طاقات شبابها، وإفساد أخلاقهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا ضرر ولا ضرار) فالحديث يدل على تحريم كل أنواع الضرر، وأبلغ أنواع الضرر ما يثلم الأعراض ويقصم الأديان ويقضي عليها ويفسدها.(40/10)
التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية ومحاولة تشويه التاريخ الإسلامي
التنبيه الخامس: اعتماد كثير من المؤرخين في مؤلفاتهم التاريخية على التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية، فإن مجموعة من ذوي الميول المنحرفة والأهواء المغرضة قد نفثوا سمومهم في التاريخ الإسلامي، حتى الأفلام التاريخية تجد فيها تشويهاً بشعاً لحقائق التاريخ الإسلامي، فيصورون لنا العهد العباسي أو العهد الأموي بأنه كان عهد في غاية الفساد والانحطاط، وأن هارون الرشيد كان إنساناً ما له شغل غير معاقرة الخمور ومجالسة الندامى والجواري! في حين أن ابن خلدون حينما تكلم على هذا الخليفة المظلوم قال: ما علمنا عليه من سوء، وكان هارون الرشيد يحج سنة ويغزو سنة، وكان على قدر من الصلاح والتقوى والورع والجهاد، وقد أدب أسلاف هؤلاء الذين يشوهون سيرته من أعداء الإسلام من الكفار اليهود والنصارى، فلذلك من الطبيعي أن يحقدوا على الخلفاء ويشوهوا صورتهم في نظر الأجيال، فهو الذي كتب الرسالة المعروفة لـ نقفور وقال له فيها: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم.
وكان نقفور معروفاً بعدائه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان المرتدون من حوله ينشئون له القصائد في سب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يطعن في الإسلام، فقال الرشيد لـ نقفور: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم: قد بلغني كتابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسار إليه بجيوشه وأدبه! فهذا الرجل كان يحج سنة ويغزو سنة، والسنة التي كان لا يحج فيها يرسل ثلاثمائة من المسلمين على نفقته لحج بيت الله.
وصلاح الدين الأيوبي كم شوه تاريخه إلى ما ينقض المفاهيم الإسلامية، والأمثلة كثيرة جداً، فهي عبارة عن نشاطات مغرضة لاستغلالها كوسيلة من وسائل الأعلام في الانحراف بمفاهيم الإسلام والكذب على السلف الصالح.
ومن ذلك أنها تحرف مفاهيم الناس حول بعض القضايا الإسلامية مثل قضايا الطلاق وتعدد الزوجات.
وقد سمعنا عن فلم مُثِّل فيه الرسول عليه السلام للناس، وأظهروا أن الإسلام ثورة كأية ثورة لنصرة الفقراء والضعفاء، وكأي هدف من أهداف الثورات الهمجية في الأرض، وليس لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فيصورون أن الإسلام هدفه جزئي محض، وأنه نوع دعوة من دعوات العدل أو المساواة أو التحرير، ولا يذكرون حقيقة الدين الإسلامي! فإذا ألقينا نظرة على هذه الاعتبارات قبل أن نخوض في منكرات التمثيل، وألقينا نظرة على واقعنا الذي نتألم منه، بل إذا خرجنا خارج مصر نجد أن المصريين يصورون في صورة مخزية جداً نتأسف لها كثيراً، فالإنسان الذي هو خارج مصر يرى المصريين في منتهى الفسق من خلال هؤلاء الفجرة المردة؛ لأنهم يصورون لنا أن هذا هو المجتمع المصري، والمصريون ما زال فيهم الخير، وما زال فيهم الإسلام والمساجد والصلاة، لكنهم يحاولون أن يخدعوا المجتمع بهذه الغاية في الفسق التي ليس بعدها فسق إرضاءً لأسيادهم من الأوروبيين وغيرهم.(40/11)
منكرات التمثيل
نبدأ في سرد بعض منكرات التمثيل امتثالاً لقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]؛ فكم نسمع عن أناس طيبين ومصلين ويفعلون الخيرات ومع ذلك يظنون أن هذا من اللهو المباح، وأن التمثيل ما فيه شيء، وأن فلاناً من الشيوخ أباحه!(40/12)
منافاته للمروءة والعقل السليم
فأول شيء من منكرات التمثيل هو أن التمثيل ينافي المروءة والعقل السليم، فنحن لا نرى في التمثيل أناساً من الفضلاء، لكن نرى الساقطين الذين تسمح لهم نفوسهم الوضيعة بوقوف تلك المواقف السائمة المخزية، وتساعدهم عقليتهم السخيفة على أن ينصبوا أنفسهم ضحكاً للضاحكين وهزأة للساخرين.(40/13)
بدعيته المخالفة لنهج السلف رضوان الله عليهم
الأمر الثاني: مخالفته لنهج السلف، فهو من البدع المحدثة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وهذا ما كان أبداً، فما سمعنا أن أحداً من الخلفاء الراشدين ولا من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من فضلاء المسلمين استباح هذا النوع من التمثيل قبل ذلك، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد كانوا أحرص الناس على نصر الإسلام وخدمته، ولا نتخيل أبداً أن أحد الصحابة أو التابعين يقف يمثل شخصاً آخر مهما كان الهدف، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.(40/14)
التشبه بالكافرين
الأمر الثالث: أنه تشبه بالكفار، وهم الذين ابتدعوه، وفتن بهم غيرهم، فـ رفاعة الطهطاوي لما سافر إلى أوروبا فتن بالوضع الذي في فرنسا، فرجع يقول: إن المسرح والتمثيل ليس من الفسق، بل هو من الفتوة والرجولة! وظل يدافع عن معالم فرنسا، وذلك مصداقٌ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم.
قلنا -أي: قال الصحابة- اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أو: (فمن الناس غيرهم؟!)، فما أتانا هذا الشر إلا لما استعبدنا الأوروبيون، وصدروا إلينا هذا الفساد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقوم فهو منهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) فهذه ليست سنة المسلمين، لكن نشأت في الأوربيين، ثم هي من جملة الملاهي التي غزوا بها بلادنا.(40/15)
كونه من اللهو الباطل
الأمر الرابع: أنه من اللهو الباطل واللعب المذموم شرعاً وعقلاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شيء يلهو به ابن آدم باطل، إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته).
فقوله: (كل شيء يلهو به ابن آدم) يعني: يلهو به ويلعب به (باطل) لا أجر فيه (إلا رميه بقوسه) يعني: يتدرب على الجهاد (أو تأديبه فرسه) أيضاً ليقوى على الجهاد (أو ملاعبته امرأته)؛ لأن هذا يحببه فيها أو يحببها فيه، ويورث المودة والألفة، وجاءت زيادة في بعض الروايات: (وتعليمه السباحة).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة) والشرة هي النشاط والخفة، والإنسان عليه أن يكون حريصاً على أن يأتي بالعمل، فكل عمل يبدأ دائماً بحماس واندفاع وهمة، (إن لكل عمل شرة) وهي الهمة (ولكل شرة فترة) فإذا الإنسان استمر قليلاً يصيبه نوع من الفتور والتراخي، قال: فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك).
وقال الله عز وجل في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، ثم قال عز وجل: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:11]، وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55].
رأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أناساً يلعبون الشطرنج فقال لهم: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟! فكيف -إذاً- بالتماثيل المعبودة الآن، أليست هي معبودة؟ ألا يقولون: هي معبود الجماهير؟! ألا يقولون: هي فاتنة يعنون الممثلة؟ فإذاً الفتنة مقصودة، وتعبيد الناس لغير الله مقصود.
فالله تعالى يقول: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55] فشيمة المسلم أن يعرض عن هذا اللغو وهذا الفساد، ولا يغره كثرة الهالكين.(40/16)
دخول الكذب فيه للإضحاك
الأمر الخامس: في التمثيل المزاح والإضحاك بالكذب المتوعد عليه في الحديث: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له) فيظن أنه بطل، فيضحك الناس، وأحياناً يمثل صوت امرأة، ويتمادى في هذا الفسق وهذا الفجور، وقد يكون الإضحاك بما هو كفر أو حرام، إذ قد يكون الإضحاك بتعبيرات فيها استهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى أو بالصالحين، أو إهانة لشيء من حدود الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء -أي: الجدل0 وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
والممثلون يتكلمون بما يضحك الحاضرين ولو كان محظوراً أو كفراً، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)، وفي لفظ: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً)، وفي لفظ: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها سبعين خريفاً في النار)، وفي رواية البيهقي بلفظ: (إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن الرجل ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدمه).(40/17)
منافاة التمثيل لخلق الحياء
الأمر السادس من منكرات التمثيل: أنه ينافي الحياء ويدل على السفه وقلة العقل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر) فالإنسان أول ما يتجرأ على أن يرتاد هذه الأماكن النجسة مثل المسارح والسينما، وكذلك ما هو داخل البيوت في هذا الوقت وهو أخبث وأشد وأطم، ألا وهو الفيديو أو التلفزيونات، فإذا تجرأ إنسان وجلس أمام هذه المعبودات وأما هذه الأصنام الجديدة فلا شك أنه يبذل حياءه ومروءته ودينه، ويبيع إيمانه بالتدرج، وهؤلاء الممثلون معروفون بنقص العقول وسفاهتها؛ لأنهم يفعلون أفعالاً يأبى الحمقاء أن يفعلوا بأنفسهم مثلها ليضحكوا الناس، فتارة يجعل الممثل نفسه حماراً يمشي على أربع وينهق نهيق الحمير، وتارة يجعل نفسه كلباً يعوي عواء الكلب، ويقلد الكلاب في مشيها وفي حركاتها وجلوسها وأكلها، وتارة يجعل نفسه امرأة حاملاً ذات بطن منتفخة ثم يجلس للولادة، وأخرى يجعل نفسه مجنوناً عاري البدن مقلداً للأحمق في سائر أفعاله، حتى البول على عقبه ونحو ذلك، وأخرى يجعل نفسه سكران مقلداً هيئة السكارى، ثم هو في كل ذلك يفعل بحواجبه ومناخيره وفمه ولسانه وشفتيه أفعالاً مشوهة للخلقة ما رأينا -والله- مجنوناً مطبقاً يأتي بربعها، بل ولا عشرها، ثم مع كل هذا يعدون هذه الخسة والحقارة وصفاقة الوجه والوقاحة من العلوم والفنون، ويسمون الممثل السفيه الجاهل الأحمق الساقط الفاسق الفاجر -بل الملحد الكافر الذي يفسد أخلاق المسلمين ودينهم ودنياهم- يسمونه البطل والأستاذ الكبير والمربي القدير، ونحو ذلك من الألفاظ الجليلة والألقاب السامية، نعوذ بالله من الفجور والجهل! ونستطيع نحن أن ندرك مدى فتنة الناس بهؤلاء الفساق حينما نتأمل جنائزهم أو جنائز بعضهم، فهذه المرأة الفاسقة التي ملأت الدنيا فسقاً بغنائها وفسادها ترى الناس أفواجاً حول جنازتها، ففي ثاني يوم من وفاة أم كلثوم كانت الجرائد حافلة بالتمجيد وما يسمونه بالتأبين، وفيها الصور والأحداث، فقال بعض مشايخنا: ينبغي الاحتفاظ بهذه الجريدة؛ لأنها وثيقة تاريخية لإدانة هذه الأمة، وتصوير لمدى التفريط الذي نحن عليه من تعظيم مَنْ حقه أن يحتقر وأن يوضع وأن ينفى من الأرض، كما قال الله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61]، فهاتان الآيتان في ذم أمثال هؤلاء ونظرائهم في العهد النبوي.(40/18)
إضاعة الأوقات الثمينة
الأمر السابع: هذا التمثيل والجلوس والوقوف أمام هذه الأصنام ما هو إلا تضييع للوقت الثمين النفيس الذي لا يعوض، وقد أوضح الله تعالى مسألة الوقت في سورة العصر، وسورة العصر تصلح لأي مجلس فيه تذكير وأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فهذا الوقت أقسم الله عز وجل به فقال: {وَالْعَصْر * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] كل بني آدم في خسر {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فهذا هو الميزان، الميزان الحساس لنقيس به الأفعال والتصرفات والأشخاص، فهل الذين يجلسون في بيوت التمثيل يعلمون الناس الفسق والفجور {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]؟! كلا، إذاً هم في خسر، والذي يقتدي بهم ويحبهم وينقاد لضلالهم في خسر، قال الله عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال عز وجل: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، وقال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف:102].
فينبغي مجانبتهم والحرص على هذا الوقت الثمين، ويكفي استدلالاً على شرف الوقت -بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً- أن الإنسان لو بذل كل مال الدنيا وكل علم الدنيا وكل طاقات الدنيا، واجتمع كل من في السماوات والأرض ليعيدوا لحظة قد فاتته من أمسه لا يستطيع أبداً، فاليوم والوقت الذي يفوت إما لك وإما عليك، فما هناك طريقة لتداركه إلا أن يتوب الله على الإنسان، فالوقت ثمين، وهو جزء من عمرك، وإذا ذهب الوقت ذهب بعض منك فلا يعود أبداً.(40/19)
منافاته للهدي النبوي في ترك السهر بعد العشاء
الأمر الثامن: من منكرات التمثيل والجلوس إلى أصنامه: السهر والسمر بعد العشاء.
فكما يفرح المؤمنون لخلوتهم بربهم لمناجاته وقراءة القرآن وقيام الليل والتهجد في الأسحار وصلاة العشاء والفجر ونحو هذه الأعمال الصالحات فكذلك أهل اللهو يفضلون الوقت الذي خلق للمناجاة والأعمال الصالحة للهوهم وفسادهم، فتجدهم يسمرون حتى وقت الفجر أحياناً ثم يختم على قلوبهم فلا يصلون! وقد ورد نهي الشارع عن السمر بعد العشاء إلا لحاجة دينية أو دنيوية مباحة لا محرمة، كمؤانسة أهل أو محادثة ضيف أو السهر في طلب العلم ونحو ذلك، ففي الصحيح من حديث أبي برزة: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها)، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا دخل الليل ترسل إلى أمهات المؤمنين وتقول لهن: ألا تُرحْن الكتَّاب؟! والكتاب: جمع كاتب، تعني: الملائكة الذين يكتبون ويحصون الأعمال، وهي تعني أن يشتغلن بالأعمال الصالحة، وكتاب الشمال يكتبون سيئات أصحاب التمثيل والسهرات التي تضيع الدين والدنيا.
وفي حديث الطبراني (نهى عن النوم قبل العشاء والحديث بعده).(40/20)
دخول المنهي عنه كوصل الشعر ونحوه في التمثيل
الأمر التاسع من منكرات هذا الفسق: وصل الشعر والنمص وما يسمونه المكياج، فهذه أشياء لا يمكن أن ينفك عنها التمثيل، وهذا من تغيير خلق الله عز وجل، فيعقدون الشعر تارة في الرأس بلبس ما يسمى الباروكة، وتارة في الوجه، وكل ذلك حرام ملعون صاحبه، ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث أسماء أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي أصابت الحصبة شعرها وإني زوجتها، أفأصله؟ تعني: هل تبيح لي أن أصل لها شعرها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواصلة والمستوصلة).
وفي الصحيحين -أيضاً- عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فمتعص شعر رأسها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك وقالت: إن زوجها أمرني أن أصل شعرها، فقال: (لا؛ إنه قد لعن الواصلات).
وفي الحديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة) فإذا كانت المرأة حالها أصلاً كما يقول الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] يعني أن الطفلة من صغرها تنشأ على حب الزينة لتكملة نقص ظاهرها بهذه الزينة والحلي، وتحرص على الزينة، فإذا كانت ملعونةً إذا وصلت شعرها بشعر غيرها فكيف بالرجل الذي يستعمله لمجرد اللهو واللعب؟!(40/21)
تغيير خلق الله تعالى في التمثيل
الأمر العاشر من منكرات التمثيل: النمص، وهو نتف شعر الحاجب أو الوجه وتحسينه وتلميعه، وهو حرام ملعون فاعله، ففي الحديث: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، ولما لعن ابن مسعود رضي الله عنه فاعلات ذلك قالت امرأة لـ ابن مسعود: كيف تلعنه؟! فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟! ثم تلا عليها قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
والحديث إذا كان فيه: (لعن الله كذا)، فهذا دعاء، فنقول على وجه الخبر: إن الله عز وجل لعن فاعل كذا، والدليل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
والنمص -الذي هو نتف الشعر من الحواجب- منكر شائع في كثير من المسلمات، ولا يلتفتن ولا يأبهن بهذا التهديد باللعن والطرد من رحمة الله عز وجل، وإذا كانت المرأة تلعن على النمص الذي تتجمل به لزوجها فكيف بالرجل أو المرأة إذا فعلا النمص لغرض التمثيل؟!(40/22)
إضاعة المال فيما يعود بالضرر وفساد الأخلاق
الأمر الحادي عشر: في التمثيل تبذير المال وإضاعته في الباطل وما لا يعود على الإنسان بالنفع، بل يعود عليه بالضرر المحقق وإفساد الأعراض والأخلاق، وذهاب المروءة وخسران الدين، وما أكثر الأموال التي تنفق للممثلين في شراء هذه الاحتياجات، والملايين التي تنفق في هذا الفسق! أيضاً الأموال التي يشترى بها جهاز الفيديو أو التلفزيون الذي يشغلهم عن ذكر الله لابد أن العبد سيسأل عنها يوم القيامة، فإنه سيسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: المبذرون هم الذين يتلفون المال في غير الحق.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، فإذا كان الإسراف في النفقة المباحة منهياً عنه مبغوضاً فاعله إلى الله تعالى لقوله عز وجل: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] فماذا يكون حال الإسراف في معصية الله عز وجل؟! ومعلوم أن المال من أغلى الأشياء على الإنسان، فإذا الإنسان بذل الكثير من ماله في هذه المعاصي من مسارح وسينما ونحوها فمعنى ذلك أن حب المعصية متمكن في قلبه، حتى إنه غلب حبه للمال.(40/23)
دخول الغيبة والمحاكاة في التمثيل
من النصوص الواردة المحكية في خصوص التمثيل ما جاء في كتب السير وخرجه جماعة من المصنفين في أخبار الصحابةِ أن الحكم بن أبي العاص الأموي كان يحكي النبي صلى الله عليه وسلم ويمثله في مشيته وحركاته، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فرآه فلعنه ونفاه إلى الطائف، واللعن لا يترتب إلا على كبيرة كما هو مقرر في محله من كتب الفقه والأصول؛ لأن الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم هو من الكفر والردة، والعياذ بالله.
ومن أعمدة التمثيل وأصوله التي لا يقوم إلا بها: الغيبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره) فإذا كان التمثيل يتناول شخصاً بعينه ليمثل به فلا شك أن هذا فيه غيبة، وصاحب الأمر يكرهه، خاصة إذا كان التمثيل بميت، فيمثل به ليس فقط في السينما، بل أمام الناس في المحافل والأعداد الغفيرة، فإذا كان مجرد الإشارة باليد غيبة، فكيف بتمثيل الشخص في ملابسه ومشيته وسيرته وكلامه وصوته وسائر حركاته وسكناته؟! لا شك أن ذلك أفحش من الاغتياب بمجرد اللسان.
والغيبة من الذنوب الكبيرة، وإذا تاب الإنسان منها فإنه لا تتم توبته -في رأي كثير من الفقهاء- إلا بأن يطلب من الشخص الذي اغتابه أن يجعله في حل.(40/24)
التعدي على شرع الله والاستهزاء بالمسلمين
وفي التمثيل الاحتقار والسخرية والاستهزاء بالمسلمين، لذلك ترى الممثلين لا يمثلون من يخافون سطوته، ونحن لعلنا قد تأثرنا بالجو الذي نعيش فيه، وأصابنا شيء من دخن هذه الفتن، أي أننا نعطي هذا الأمر حجمه، ونشعر بخطورة هذا الأمر، فهل هناك أحد عنده مروءة يقبل أن يقف ليمثل أمام الناس حتى لو كان يبيح للناس التمثيل؟ فهل يقبل الشيخ الذي يبيح التمثيل أن يمثل بنفسه؟ وهل يقبل أن يقف ليمثل ويرقص ويغني؟ أنا أعلم حادثة حدثت قبل سنوات في مسجد في الإسكندرية، حصل فيها أن بعض الناس الذين يروجون لمنكر التمثيل مثلوا داخل المسجد، وزعموا أنهم يمثلون قصة أخلاقية من أجل أن يستفيد الناس من التوبة، فقعد شخص يمثل على طاولة في المسجد أنه يسكر ويحتسى الخمر، وجاء آخر يلبس لباساً أسود قبيحاً يمثل صورة الشيطان، ويوسوس لهذا الشخص ويزين له المعصية! فهل هذا يليق بالمسجد وبحرمة المسجد؟ فإذا فتحت هذه الذريعة جرت إلى فساد كبير بلا شك، ولقد انتهى ذلك إلى أن بعض الجماعات فيما مضى في مصر في دمنهور قاموا بتمثيل قصة الذبيح، فأتوا بشخص يمثل جبريل يمسك خروفاً، وآخر لبس فراء خروفٍ، وصوت يقول: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105]، كأنه يمثل صوت الله! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! إذاً: فتح هذا الباب يأتي بشر مستطير، وتجد أن الممثلين لا يمثلون الأحياء المعظمين، فلا يأتون إلى ملك أو رئيس في حياته ليمثلوه؛ لأنه يعتبر هذا نوعاً من التنقص والازدراء له، ويعاقب فاعله، كما قال بعض الشعراء: يقاد للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار فالذي يسب الدين ويطعن في دين الله عز وجل حر لا يعاقب عندهم.
أحد الممثلين الفسقة قام بالظهور في أحد الأفلام -واسمه سيف شرف وليس فيه رائحة الشرف-، قام يمثل دور امرأة منقبة، ولا أعرف ما هو المقصود بهذا؟ فهل مقصودهم أن المرأة المنتقبة تختفي تحت نقابها وهي لصة أو سارقة؟ فهم يضلون الناس، ويمثلون لهم بهذه المعاني البغيضة التي يبغضون للناس بها دين الله عز وجل.
فلا يمثلون الشخص الذين يجلونه أو يخافون سطوته من الملوك أو الرؤساء الأحياء؛ لأن القانون يمنعهم من ذلك، ويفرض عليهم عقوبة صارمة؛ لأنه من الإهانة بهذا المنصب الذي يعظمونه، وإنما يمثلون من الأحياء من يريدون إهانته، أو الملوك الأقدمين الذين لا يمنعهم القانون من تمثيلهم، كملوك بني أمية وبني العباس وملوك الأندلس أو نحوهم، فلا يخفى أن هذا ممنوع في الشرع، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]، وهذه من السخرية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله) رواه مسلم في صحيحه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً! فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس) أي: احتقار الناس.
وفي رواية الحاكم: (ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس) أي: احتقر الناس، فهذا من الاحتقار لهؤلاء الخلفاء، وهؤلاء الملوك المسلمين الذين فتحوا الأرض من مشرقها إلى مغربها، فنقول للممثلين: أنتم ماذا فعلتم للإسلام؟!(40/25)
إهانة التعليم واحتقار العلماء
وفي نفس الوقت الذي يحقرون فيه الشيوخ، ويأتون بالشيوخ -مثلاً- في هيئة منكرة وقبيحة ويسخرون منهم ويهزءون بهم؛ لا يجرؤ أحد منهم أن يمثل دور القسيس أو الحاخام احتراماً للأديان، وديننا نحن ينتهكون حدوده ويسخرون من علمائنا ومن المشايخ! يقول بعض العلماء في هذه المسألة: وإن كان التمثيل بأشخاص غير معينين فتقع المنكرات فيه كثيرة، منها أنهم يمثلون علماء الإسلام ورجال الدين على العموم، فيلبسون ملابسهم وعمائمهم على هيئة منكرة مشوهة، ويلصقون اللحى المصطنعة في حالة مزرية تدل على غاية الاحتقار والاهانة، ويقلدونهم في كلامهم، ويحكونهم في النطق بالقاف، ويأتون بالكلمات المعربة، والحاضرون يضحكون، وفيهم اليهود والنصارى، فيسرون بذلك غاية السرور، ويحتقرون هؤلاء الفجرة المارقين أشد الاحتقار؛ إذ يرونهم يمثلون علماءهم في حين أنهم يجلون أحبارهم غاية الإجلال، فتكون المصيبة بهذا التمثيل أعظم.
فالمقصود من هذا التمثيل إهانة العلم، وإهانة الدين الذي ينتمي إليه العلماء، وليس المقصود الأشخاص والهيئات؛ لأن أكثر العوام يشاركونهم في ذلك اللباس، فالإزراء والإهانة راجعان إلى العلم والدين، وذلك كفر بإجماع العلماء، وقد حكم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بكفر من قال لعمامة العالم: (عميمة) بالتصغير يقصد بها احتقارهم، فلو أن أحداً يتكلم على عمامة أحد الأئمة أو العلماء ويقول: عميمة هذا الرجل، ويقصد بذلك الاحتقار والازدراء والتصغير والاستخفاف والإهانة، فهذا راجع إلى وصف العالم الذي هو حامل علم الشريعة المطهرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).
وتجدهم يخصون من أهل اللحى ذوي الشيبة في الإسلام، فيمثلون الناس الذين شابوا في الإسلام، حتى إنهم يلصقون أحياناً قطعاً من الفراء الأبيض مبالغة في التشويه والإهانة والسخرية، فهي لحى مصطنعة ترمز لذوي الشيبة من المسلمين، وهذا مع كون فاعله ملعوناً -كما في الحديث- فإن فيه اعتداءً وانتهاكاً لحرمة المسلم الذي قد شاب، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله -أي: من تعظيم الله سبحانه وتعالى- إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) فأين هذا الإكرام من هذه المهانة؟! وقال الله عز وجل في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) وهناك ألفاظ أخرى للحديث، منها: (من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) وفي لفظ آخر: (من آذى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة).(40/26)
أذية المسلمين وتتبع عوراتهم
أيضاً من منكرات التمثيل أن فيه أذية للمسلمين وتتبع عوراتهم ونشرها بين الناس بالمحاكاة، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع) أي: مرتفع عال (فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته) فلا شك أن تمثيل المسلمين بهذه الصورة هو من هتك حرمة المسلمين، ففاعله ممن لم يدخل الإيمان في قلبه كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كان الشخص الممثل به من سلف الأمة من الخلفاء والملوك والعلماء والصلحاء ففي التمثيل بهم مساس بحرمتهم، ومخالفة للشريعة الآمرة بالثناء على موتى المسلمين والكف عن مساوئهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) والمقصود: لا تسبوا الأموات الذين ليسوا بكفار ولا فجار بعد موتهم، ولا يدخل فيه الجرح والتعديل، وحكاية أقوال الناس وأفعال الناس الذين طعنوا في دين الله وصدوا عن سبيل الله بقصد هدم أفكارهم المضادة لدين الإسلام، فالمقصود (لا تسبوا الأموات) الذين ليسوا كفاراً ولا فجاراً يصدون عن سبيل الله ويحاربون دين الإسلام (فتؤذوا الأحياء).
ومن هذا الحديث أخذ بعض الفقهاء أن من سوء الأدب أن الإنسان يتكلم في حق أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطيل في ذكر أن والديه صلى الله عليه وسلم كانا مشركين، فمن الأدب عدم إكثار الخوض في مثل هذه القضية؛ لأن هذا مما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساوئهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) فهذا في أي ميت، حتى لو كان مسلماً فاسقاً أو عاصياً أو مفرطاً، فأي ميت له هذه الحرمة في الإسلام، فكيف بأموات السلف الصالح رضي الله عنهم، سيما العلماء والصالحون منهم الذين أمرنا بتعظيمهم واحترامهم والدعاء لهم، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].(40/27)
احتواء التمثيل على الكذب وقول الزور
من أصول التمثيل: الكذب وقول الزور.
يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل:105] فإن قيل: إن هذا الكذب هو مزاح! أي: هو أناس يضحكون على بعضهم، فالممثل يضحك على الناس ويعرف أنهم يعرفون الذي يضحك عليه، فالمسألة خداع وكذب من الطرفين، فالممثل عارف أنه يضحك على الناس، والناس تعرف أنه يضحك عليهم، وهؤلاء يدفعون فلوساً له، ويشجعونه على هذا الكذب وهذا الفجور.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) سواء كان مزاحاً أو كان جداً فإنه يطلق عليه الكذب، وروى أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن عامر قال: (دعتني أمي يوماً -أي: وهو صغير- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: تعال لأعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) حتى مع الطفل الصغير الإنسان يراعي ألا يكذب عليه في وعد أو في غيره، وقد ورد الترغيب في ترك الكذب كما سبق في الحديث: (أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) فهذا من التعبد بالتروك؛ أن تتعبد بترك الكذب ابتغاء هذا الثوب العظيم.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ظهور التمثيل في آخر الزمان وسماه كذباً، فروى الإمام أحمد في المسند برجال الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن) وفي بعض الأحاديث عن أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه وفيها ذكر انتشار الفتن ثم قال: (حتى ينظر المؤمن من حوله من كل الجهات فلا يجد شبراً من الأرض لم تقع فيه هذه الفتنة)، وهذا موجود فعلاً، فلا يجد الإنسان الآن شبراً من الأرض لا يسمع فيه أحياناً صوت الغناء والموسيقى، فهذا تلفزيون من هنا، وهذا جاء بالفيديو من هنا، وهؤلاء يغنون من هنا، وهؤلاء يعملون فرحاً من هنا، فتجد أصوات الغناء ما تركت مكاناً إلا دخلته، فنسأل الله العافية! وفي الحديث الآخر: (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب، وتتقارب الأسواق، ويتقارب الزمان، ويكثر الهرج.
قلت: وما الهرج؟ قال: القتل) فحمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ويكثر الكذب) على الأفلام والمسرحيات وكل هذه الفتن.
ومما يقع بسبب التمثيل أن كل المنكرات إن كانت متعلقة بالممثلين فالذي هو عاكف على هذه الأفلام ومقر لها يشاركهم في الوزر، فمن يجلس أمام هؤلاء الفاسقين فرحاً ومنبسطاً ومستمتعاً ومستلذاً بهذا الفساد وهذا الفجور فهو مشارك لهم في الوزر؛ لأن الواجب أن المنكر تحاربه، فأزله أو زل عنه، أما أنك تجلس مع ناس يشربون خمر وتقول: أنا أنكرت عليهم وأنت قاعد معهم قادر على هجرتهم والانصراف عنهم فأنت وهم في الوزر سواء، لكن يعذر الإنسان عندما يزيل المنكر أو يزول عنه بقدر استطاعته.
ومن المنكرات التي تقع -أيضاً- الحلف، فيحلفون على أشياء كذباً.
وأيضاً: ليس هذا التمثيل من الأمور التي جوز الشرع أن تكذب فيها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أباح الكذب في ثلاث: في الحرب مع الأعداء في الجهاد، وفي حديث الرجل لامرأته، فيمدح -مثلاً- طعامها أو هيئتها أو شيئاً تفعله تألفاً لها، وفي الإصلاح بين الناس، فلم يكذب الذي ينمي بين الناس فيقول لأحد المتخاصمين: والله فلان ذكرك بخير، ويحبك ويعزك، وهو نادم على ما فعله في حقك، ويذهب إلى الآخر فيقول له كذلك؛ ليصلح بينهما، فليس بكاذب، فهذه هي الاستثناءات الثلاث في حكم الكذب.
فهل التمثيل كذب؟ كلهم متفقون على أنه كذب، لكن هل هو من الكذب الذي استثني وأبيح؟! إذاً: هذا من الأدلة التي يصلح الاستدلال به على الزجر عن هذا النوع من الكذب.
أما قول بعض الناس: إنهم يقصدون بالتمثيل إظهار عظمة الإسلام ومجد المسلمين الأولين فهذا لا يغني عنهم شيئاً، فأغلب الأفلام الدينية يكون فيها تصوير حالة الجاهلية، فيتمادون في وصف الفسق والرقص والفساد والعري والتبرج وغير ذلك من حالات الجاهلية.
فهذا لا يغني شيئاً؛ إذ عظمة الإسلام تظهر بنشر محاسنه وتعاليمه، وطبع المؤلفات النافعة فيه، لا بإقامة رواية تمثيلية بين جداران أحد دور الملاهي أو الجمعيات يقصد أغلب من يحضرها التسلية لا غير، هذا أولاً.
ثانياً: إن المسلمين الأولين لم يكونوا يحبون الإعلان عن أنفسهم وأعمالهم؛ لأنهم كانوا يخلصون العمل لله لا يريدون غيره، فإظهارهم على خشبة المسرح ينافي غرضهم ويباين مقصودهم.
ثالثاً: لو كانت هذه الحجة تجيز التمثيل، ولو أن المبرر هذا معقول بأننا نظهر أمجاد هؤلاء الصالحين فإنا لو أخذنا بهذه الغاية -بغض النظر عن الوسيلة أياً كانت- فإن هذا سيقال في وضع القبور -مثلاً- في المساجد، فسيقال: نتذكر الصالحين ونزورهم، وكذلك التماثيل التي تصنع وتوضع في الميادين وإن كانت -والحمد لله- لا تصنع للصالحين، فالتماثيل هذه أصلاً لا يجوز نصبها في الميادين، ولا يجوز النظر إليها كما ذكر ذلك بعض علماء الشافعية، وكذلك من المالكية الإمام الدردير المالكي قال: ما يحرم صناعته يحرم النظر إليه، فهذه التماثيل حرمت صناعتها فلا يحل لك أن تنظر إليها.(40/28)
دخول النساء في التمثيل والقيام بدور الكافرين
من منكرات التمثيل أن التمثيل لا يمكن أن يستغني عن وجود نساء في الغالب، وإذا كان بغير نساء فإنه يقوم رجل بتمثيل دور امرأة، وهذا أخبث وأطم، فيلبس الرجل ملابس المرأة ويتزين بزينتها، وهذا ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أن التمثيل قد يفضي بالشخص إلى أن يصل ويقف مواقف شائنة مخزية؛ إذ يمكن أن الشخص يقوم بدور إبليس، ومن الذي يقبل أن يقوم بدور إبليس أو يقوم بدور خروف؟! هذا حصل، وقد يقوم بدور كافر مثلاً، فربما يضحك عليه الناس ويستهزئون به، فلا شك أن هذا الشخص الذي يقبل لنفسه هذا الوضع الشائن فاقد المروءة، فاقد الشهامة، وأنه ضيع الكرامة التي أكرمه الله عز وجل بها في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، فهو يجعل نفسه حماراً أو حيواناً أو نحو ذلك.
الشافعي رضي الله عنه يقول: والله لو أعلم أن شرب الماء البارد يخرم مروءتي ما شربته! إن كان شرب الماء يقدح في مروءته ما شربه حفاظاً على مروءته وهيبته رضي الله عنه.
ولو فرض وجود ممثل مسلم، فإن قام بدور الملك الكافر أو القائد الكافر يلبس ملابسه ويجعل نفسه هو ذلك الكافر أو الراهب أو القسيس، وتراه يشد في وسطه الزنار، وينطق بما هو كفر حسبما تقتضيه الرواية، فلو مات على هذه الحالة فكيف سيكون أمره؟! لو مات وهو يسجد للمسيح، أو وهو واضع الصليب على صدره أو يسجد للأصنام كيف ستكون خاتمته؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يبعث المرء على ما مات عليه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) فبماذا يختم لهذا الشخص؟ وعلام يبعث يوم القيامة؟! (يبعث المرء على ما مات عليه) فهل يشفع له قوله: كنت أمزح وإنما كنا نخوض ونلعب؟! وماذا يحصل لو مثل عقبة بن أبي معيط وهو يضع السلا والقاذورات على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، أو يتلفظ بسب النبي عليه الصلاة والسلام أو التنفير عن الإسلام؟! فهل هناك إنسان عاقل أو مسلم عاقل يقبل مثل هذا الوضع؟! ومن يقبل أن يمثل دور فرعون ويقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] ويسب موسى عليه السلام؟! فلا شك أن التمثيل يحتوي على هذه المنكرات التي تئول بصاحبها إلى الكفر، ومن ثم فظاهره أننا ننظر إليه أمامنا وهو راضٍ بهذا الكفر، والرضا بالكفر كفر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي) فاليمين بمثل هذا من المهالك العظيمة والمخاطر العظيمة للإنسان الذي يتلفظ بهذه الألفاظ، فمن يقول: هو يهودي إن فعل كذا أو إن حصل كذا فهذه الصورة فيها تهاون بدينه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني فهو نصراني، وإن قال: هو بريء من الإسلام، فهو بريء من الإسلام، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم.
قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: وإن صام وصلى) رواه أبو يعلى والحاكم وقالا: صحيح الإسناد.(40/29)
احتواء التمثيل على الكلام فيما لا يعني
في التمثيل الكلام فيما لا يعني، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر أو ذكر الله تعالى).
وقال أنس بن مالك: (توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: أبشر بالجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك! لعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه) فهذا كله مما لا يعني، فهو يمثل والجماعة ينظرون، وهذا مما لا يعني، فكيف بالإنسان يجلس أمام هذه الأجهزة الفاسدة يتلقن منها تلك الأشياء؟ وفي الأثر: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي).
وبعضهم يقول: يزيد أن نعمل تمثيلاً دينياً! لا يوجد تمثيل ديني، وهل أحد سمع عن تمثيل ديني يقول: الآن مع القرآن قبل نشرة الأخبار؟ بل يقال: مع الموسيقى الدينية حتى وقت نشرة الأخبار، فهل هناك موسيقى دينية؟! لا توجد موسيقى دينية، وهذا مثلما يقولون: الفن الإسلامي، ولا يوجد شيءٌ اسمه فن إسلامي، وإنما يوجد الفن العربي مثلاً، لكن الفن الإسلامي لا يوجد، فالإسلام ما دعا إلى هذا الهراء وهذا اللغو وهذا الباطل.(40/30)
تشبه الرجال بالنساء في التمثيل
من منكرات التمثيل أنهم إذا ما وجدوا نساء يأتون برجال يتشبهون بهؤلاء النساء، وفي الحديث الذي رواه ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال).
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل).
ورأى عبد الله بن عمرو بن العاص أم سعيد بنت أبي جهل متقلدة سيفاً وهي تمشي مشية الرجل فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال) رواه الإمام أحمد.(40/31)
اختلاط الممثلين بالممثلات والخلوة بهن
من المنكرات الفاحشة العظيمة في التمثيل وجود النساء الممثلات في هذا التمثيل مع الرجال، فإنه يترتب عليه من المفاسد الهدامة والقاضية على الخلق وعلى الدين ما لا يمكن أن يتصور، فلو أحضرنا اليهود من أجل أن يفسدوا الأمة فلن يقدروا على أن يفسدوها بمثل الممثلين، فاليهود لا يقدرون بجيوشهم على أن يحطموا المسلمين كما يحطم أعداء الله ورسوله من الممثلين الذين يسمون الفنانين الأبطال، ولذلك فإن اليهود هم وراء صناعات السينما في العالم كله؛ حرصاً على إفساد أخلاق الناس.
فنجد أنه تحدث منكرات كثيرة الإنسان يستحي من الكلام فيها كما تذكرها الكتب، ومنها اختلاط الممثلات بالممثلين واندماجهن معهم اندماجاً لا يوافق عليه عقل ولا دين، ويكشفن العورات، ويلبسن الثياب الرقاق مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات) قال الشيخ إسماعيل حقي في تفسير قوله: (مميلات) أي: قلوب الرجال إلى الفساد بهن.
أو مميلات أكتافهن كما تفعل الراقصات.
أو مميلات مقانعهن عن رءوسهن لتظهر وجوههن.
قال صلى الله عليه وسلم: (رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).
وبعض الفقهاء فسر قوله (مائلات مميلات) فقال: مائلات في أنفسهن، مميلات غيرهن من النساء بدعوتهن إلى مثل هذا الفساد، فيدخل فيه رائدات تحرير المرأة والتبرج والسفور، فهن مائلات في أنفسهن ويضللن غيرهن، ويدعين غيرهن من النساء إلى الوقوع في مثل فسادهن ويحرضنهن عليه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) فهذا دليل على بعدهن الشديد عن الجنة، فإذا كان هذا عقابهن على ذلك اللباس -وهو شر عقاب بل منتهى العقاب في الشدة لاقتضائه الخلود في النار- فكيف إذا انضم إليه أنواع الفجور الذي تقع فيه الممثلات في تمثيلهن؟! إذا كان هذا للنساء الكاسيات العاريات فكيف بما هو أشد من ذلك كالرقص ونحوه من الأشياء المعروفة؟! وكثرة الرقص والممثلات أثرت في نفوس الناس، وأصبحت مشاهدتها هي الأصل عند بعضهم، حكي عن رجل كان ابنه في مدرسة، فحضر اجتماع لمجلس الآباء والمعلمين، فحضرت إحدى الأمهات ساخطة رافعة صوتها قائلة: أنتم أفسدتم ابني! فالمدير والمدرسون أخذوا في تهدئتها ثم قالوا لها: ماذا حصل؟ فقالت لهم: إن الولد كلما يجد منظر رقص في التلفزيون أو يرى امرأة يرمي ببصره نحو الأرض، فمن الذي علمه هذا التصرف؟ لابد أنكم الذين علمتموه هذا التصرف! فكان رد المدير والأساتذة أن تبرءوا من ذلك، وأنه لا يمكن أن يكون عندهم أحد بهذه الصورة، وأنهم ملتزمون بمنهاج الوزارة! إلى هذا الحال وصل المسلمون! هذه المرأة قلقة لأن يغض بصره حتى لا ينظر إلى الراقصات ونحو هذه الأشياء، فإننا لله وإنا إليه راجعون! كما أن الممثلة تنفرد بالممثل وتكون معه في خلوة، وقد حكي لي أن بعض الممثلين كانوا في لحظة القيام بدور معين من الأدوار القذرة، فمن شدة الغيرة قام زوج الممثلة فأمر كل العمال الموجودين في الأستوديو أن يخرجوا إلى الصالة من أجل ألا ينظر أحد إلى زوجته وهي في منظر مخل مع الممثل الآخر! أليست هذه الصورة ستعرض على ملايين الناس؟! فانظر إلى التناقض والمسخ وذهاب العقل والحماقة والجنون! نسأل الله العافية.
والناس تقول لك: لا، هذا تمثيل! وفي التمثيل مصافحة ولمس وغير ذلك مما هو معلوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) حتى مجرد المصافحة وفعل أدنى شيء، لكن مع ذلك يقع في هذا الوعيد.
تقول السيدة عائشة: (لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط حتى في المبايعة، إنما كان يبايعهن قولاً) أي: بايعهن بالكلام.
ويفعل الممثلون كل القبائح والموبقات أمام الجماهير الناظرة من رجال ونساء، وذلك منتهى الهمجية، ولو أن هذا الشخص القبيح الدنيء كانت الممثلة التي يمثل معها زوجته لمقتها الله عز وجل على هذا الفعل، ولمقتهما الناظرين إليهما على ذلك، فما بالك وهي أجنبية عنه؟! فلا يقر هذا الوضع إلا الهمج الرعاع الأوباش المنسلخون من الدين ومن العقل، الذين هم في درجة الأنعام بل هم أضل؛ فالكلاب تغار على الأنثى، وكذلك سائر الحيوانات المعروفة، ومع ذلك تجد هؤلاء يستحلون هذه المفاسد ويتعارفون عليها ويستمرئونها.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)، وفي بعض روايات هذا الحديث التعبير عن هذا الفعل بأنه من أعظم الإهانة عند الله، قالت أسماء بنت يزيد: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود، فقال: لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها! فأرم القول -أي: سكتوا- ولم يجيبوا، فقلت: إي والله -يا رسول الله- إنهن ليفعلن وإنهم ليفعلون! قال: فلا تفعلوا؛ فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون).
وقال عز وجل: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].
فذلك هو حال هؤلاء القوم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أشراط الساعة التي لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأخبر أن الساعة لا تقوم حتى يجامع الرجل المرأة في الطريق، وحتى يقول له أعقل امرئ في ذلك المجتمع: لو تنحيت عن الطريق! يتنحى فقط عن الطريق والعياذ بالله! وكل شخص يجلس أمام هذه المناظر فهو يقع في أعظم الوزر وأعظم الإثم، فويل له من الله سبحانه وتعالى إن لم يتب من هذه المفاسد! تجد الأب مع بناته ومع نسائه يرون مناظر في منتهى الفساد والانحلال، والسائر في الشارع يسمع بعض عامة الناس -غير المتطرفين ولا الملتحين- في شكوى وأنين من الفساد، وتسمع أحدهم في الشارع يقول لآخر: لا يوجد حل مع التلفزيون غير أن الواحد يكسره.
وهؤلاء أناس بسطاء بلغ عندهم سخط الفساد إلى هذا الحد، فكيف تكون غيرة أهل الدين والمروءة على حرمات الله عز وجل؟!(40/32)
نظر الممثلين والناظرين إليهم إلى العورات المحرم كشفها
يقع الممثلون والناظرون إليهم في كبيرة النظر إلى العورات التي يحرم كشفها؛ والتي هي بإجمع الفقهاء محرم كشفها، فكيف بما عدا ذلك؟! قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأه فقال: اصرف بصرك) ونظر الفجأة معناه أن الإنسان لا يقصد أن ينظر، لكن يفاجأ بامرأة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اصرف بصرك)، وأنت تفتح التلفزيون، وتمشي وتقطع المسافات لتجلس إلى هؤلاء الفسقة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك: (اصرف بصرك)، وأنت تتعمد أن تستخدم هذه النعمة في معصية الله سبحانه وتعالى، وهو قادر على أن يحرمك إياها، فربنا قادر على أن يخطف هذا البصر الذي تستعمله في محاربته ومبارزته بالمعاصي مع هؤلاء الفساق.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية) فإذا كان هذا في نظر الفجأة والنظر الذي لم يقصد فكيف بالنظر الدائم مدة التمثيل الذي يقصد به التلذذ ويدفع المال من أجله؟! قال الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] والمعنى: قل للمؤمنين غضوا من أبصاركم، فحال المؤمنين الالتزام بأمر الله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المقصود بكلمة (يغضوا) التي هي جواب الطلب، لكن حذفت كلمة (غضوا) التي هي فعل الأمر؛ لأن المؤمنين حالهم الاستجابة، أي: قل للمؤمنين: غضوا من أبصاركم يغضوا من أبصارهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان وزناهما النظر) فهذا المشارك والجالس أمام هذه التماثيل التي يعكفون أمامها واقع في هذا النوع القبيح من الزنا، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبست نساؤهم الزينة وتبخترن بها في المساجد لفتنة الرجال.
وهذا التبرج هو من عادات الجاهلية، يقول الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] فالتبرج لعن بسببه بنو إسرائيل، فكيف بالتبرج والعري الذي ظهر في نساء هذه الأمة، والتبختر في دور الرقص والتمثيل واللهو؟! وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية).
ومن منكرات التمثيل أكل أموال الناس بالباطل، وهو حرام، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء:29 - 30]، ولا باطل على وجه الأرض أبطل من التمثيل وإنفاق المال في هذا الفساد.(40/33)
وقوع الناظرين في إهدار المال في الباطل وارتكاب المحرمات
من منكرات التمثيل أنه يوقع الناظرين في عدة كبائر، فمنها: أنه يدعو إلى إنفاق المال في الباطل والحرام، ورؤية المحرمات وارتكاب المعاصي؛ لأنهم لا يشترون ذلك إلا بالمال، وقد عد الفقهاء من جملة الكبائر إنفاق المال -ولو ريالاً واحداً- في محرم، كما عدوه سفهاً وتبذيراً موجباً للحجر، واستدلوا بأنه لا أعز عند النفس من المال، فإذا هان عليها صرفه في معصية دل على الانهماك التام في محبة المعاصي، كما هو مفصل في كتب الفقه.
ومن منكرات التمثيل المعروفة التي لا ينفك عنها المستمع بحال من الأحوال سماع الغناء وأصوات النساء والآلات المطربة، والله عز وجل يقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، فهن يتفنن في الخضوع بالقول واستدعاء الفواحش ممن يسمعونهن ويجلسون إليهن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمرة يسمونها بغير اسمها ويضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير).(40/34)
صرخة نداء وتذكير
التوجيه الأخير الذي نحتاج إلى أن نذكر به هو مسئولية تربية الإنسان لأولاده وأهله ونفسه ومن هم في سلطته، فالله عز وجل يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].
ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
ويقول عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].
وقال عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
وقال عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، فالله أرحم بكم من أولادكم وهو يوصيكم في أولادكم.
وقال عز وجل: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24].
وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) فهل من النصيحة للأولاد والنساء والبنات والذرية والإخلاص لهم والمنفعة لهم أننا نطلق لهم العنان أمام التلفزيون والفيديو وكل هذه الصور من الفساد المعروض الذي جره إلينا التمثيل وغيره، وفي نفس الوقت نقصيهم عن المساجد وعن الصحبة الصالحة؟! قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل يقول الفضيل ين عياض: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
فبعض الناس مساكين يظنون أن تربية الأولاد هي إيجاد الغذاء لهم، فيمكث الأب يمتعهم ويلبسهم أحسن الملابس، ويظن أن هذه هي التربية، فإن كان الأمر بهذه الصورة فما هو الفرق بين الإنسان وبين الحيوان؟! التربية مسئولية أضخم من ذلك بكثير، ليست بنوع التغذية والتنمية، ولكن بتربية هذا النشء حتى ندخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، وندخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له) يعني: ينفعه دعاؤه في قبره بعد موته.
فكيف نسلم بأنفسنا أهلنا ونساءنا وبناتنا لهؤلاء الفسقة والفجرة ليعلموهم هذا الفساد؟! ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا فالأب مشغول والأم مشغولة، فيتركان الأولاد لهذه المفاسد، والنتيجة بعد ذلك الندم حيث لا ينفع الندم، يقول الشاعر: تبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع فلا ينفع الندم بعد فساد الأولاد، وما أكثر الحوادث التي تطرق أسماعنا، والسبب فيها هؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
يقول بعض الشعراء: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى بحجىً ولكن يعوده التدين أقربوه ويقول الآخر: وليس النبت ينبت في بناء كمثل النبت ينبت في الفلاة وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثُديَّ الناقصات فهذه جمل بسيطة رأينا أن نجمع فيها منكرات التمثيل تحذيراً للمسلمين ونصيحة لهم بشأن هذا المنكر الفظيع، ونحذر من موالاة الممثلين أو تعظيمهم أو الافتتان بمفاسدهم، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19].
اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا -اللهم- بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم! أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم! توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، وصل -اللهم- على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.(40/35)
السلفية منهج ملزم لكل مسلم [1]
السلفية منهج رباني، وطريقة محمدية للحاضر والمستقبل، بل هي الإسلام والدين الذي ارتضاه الله لعباده، فمن خرج عنه كان مبتدعاً.
والسلفية هي الجماعة، وهي الفرقة الناجية التي لا تتغير ولا تتبدل، ولكن للأسف قيد بعض الجهلة اسم السلفية، وضيق الخناق على الناس في المسائل الاجتهادية، فمن أخذ برأيه فهو السلفي وإلا فلا؛ وهذا ليس من الدين في شيء.(41/1)
الدوافع التي دعت إلى الحديث عن منهج السلفية
الحمد لله الذي جعل اتباع رسوله على محبته دليلاً، فأوضح طرق الهداية لمن شاء أن يتخذ إليه سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد مخلص لم يتخذ من دونه وكيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي اختص أمته بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير الناس هدياً وأقومهم قيلاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد بعد العهد بتناول أمثال هذه القضية المهمة الخطيرة، وبإذن الله تبارك وتعالى -نتيجة لضخامة هذا الموضوع وتشعبه وتوسعه- سنجعل هذه المحاضرة مجرد مدخل يتناول رءوس أقلام في موضوعات شتى، وإن كان كل منها يستحق أن يفرد في محاضرات، فهناك دوافع كثيرة لإحياء بحث هذه القضية والتنبيه إلى حقائقها، منها: بيان حقيقة السلفية، وأنها منهج حياة، وأنها أسلوب في فهم الإسلام وتلقيه، ومنهج عملي في تطبيقه، وبيان أن الانتماء إلى السلفية هو حتم واجب على كل مسلم.
السلفية هي منهج لكل مسلم، وليست قضية اختيارية يكون الإنسان مخيراً فيها، نقول هذا وإن كان سلوك بعض من ينتسبون إلى السلفية يرسخ في نفوس العوام أو المخالفين كأنها كيان مبتور من جسد هذه الأمة، بعض الناس يتصور أن السلفية مذهب من المذاهب، أو طائفة منغلقة لها رسومها وأفكارها الخاصة بها.
نريد أن نبين أن السلفية منهج حياة، وهي الفهم الصحيح للإسلام، ولا نقول: فهم الإسلام الصحيح؛ لأنه لا يوجد إسلام صحيح وإسلام غير صحيح، إنما الذي يطرأ عليه الصحة أو الخطأ الفهم البشري.
وكذلك نريد أن نوضح أن قضية السلفية هي في الحقيقة أعمق مما يتصوره بعض المشنعين حيث زعم أن السلفية سواك، وقميص قصير، ولحية طويلة إلى غير ذلك من هذه الأشياء التي يحاولون أن يبرزوا بها السلفية في هذه القضايا الجزئية.
كذلك نريد أن نبين أنه لا تعارض على الإطلاق بين الإسلام وبين السلفية، بعض الناس لا تطيق قلوبهم الإعلام بهذا الانتماء إلى السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فيقولون: لماذا لم نكتف باسم الإسلام؟ ويقولون: الله تعالى قال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78]، وإنما ينشأ هذا لأنه يتصور أن هناك تعارضاً بين التسمي بالإسلام وبين الانتماء إلى السلفية، وفي الحقيقة: العلاقة بين الإسلام وبين السلفية هي عبارة عن علاقة بين العام والخاص، فالاتصاف بالسلفية -أو مرادفاتها من الألقاب الشريفة التي سنذكرها- لا تعارض الإسلام على الإطلاق، بل هو تخصيص بعد تعميم على نحو قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فهل هناك تعارض بين قوله تعالى: (وملائكته) وقوله: (وجبريل وميكال)؟ كلا، بل هذا عام أتبعه بذكر الخاص.
ونريد لكل من يسمع هذا الموضوع أن ينزع من قلبه الحساسية تجاه هذا اللقب، ونحن نعذر كثيراً من الناس لما نشأ عندهم من الحساسية نتيجة أخطاء بعض من ينتسبون إلى السلفية، وهم بشرٌ غير معصومين، يخطئون ويصيبون، فينبغي أن نتحرر من هذه الحساسية، خاصة ونحن نرى جميع الجماعات الإسلامية أو الاتجاهات الإسلامية تتسرف بمحاولة الانتماء إلى المنهج السلفي لكننا نقول: وكلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك إذ اشتبكت دموع في جفون تبين من بكى ممن تباكى ويقول آخر: إن كنت تنوح يا حمام البان للبين فأين شاهد الأحزان أجفانك للدموع أم أجفاني لا يقبل مدع بلا برهان فالدعوة سهلة (وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان)، فنريد أن نتعرف على ملامح هذا المنهج حتى نتعرف من هم أحق الناس به، ومن هم أهله على الحقيقة.
أقرر -بادئ ذي بدء- أنني لا أوظف هذا المصطلح الشريف ومرادفاته -كأهل السنة والجماعة أو الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة إلخ- خدمة لتجمع بعينه؛ لأن المنهج لا يخدم أحداً، إنما هو مخدوم.
ولا أقصد أيضاً أن أوظفه مسوغاً لواقع تجمع معين أو فكرة حزبية؛ لأن المنهج السلفي هو منهج معصوم في حقيقته، فهو يقوم على أصول معصومة، السلفية تقوم على الكتاب والسنة والإجماع، وخاصة إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، المنهج فوق الجميع، أما السلفيون فهم بشر يخطئون ويصيبون، ويجب أن يحاكم كل واحد منهم وفق هذا الميزان الحساس الدقيق, وكل من ينتمي إلى السلفية يجب أن يراجع نفسه وأحواله عن طريق النقد الذاتي، ويزن نفسه بهذا الميزان الذي ذكرنا أنه ميزان معصوم.
إذاً: بعبارة أخرى: نحن نريد أن نفرق بين ما نحن عليه من حيث انتمائنا إلى السلفية وبين ما ينبغي أن نكون عليه إذا تشرفنا بهذا الانتماء.
أيضاً من الدوافع لتناول هذا الموضوع: أننا لا نبرئ كثيراً ممن ينتمون إلى السلفية من تسرب بعض مظاهر التحزب والتعصب ممن ينتمون إليها، وهم في الحقيقة لا يفهمون كنهها وجوهرها.
ومن دوافع الكلام في هذا الموضوع: أن هناك محاولات لتصحيح الانتماء إلى السلفية، وتذويب هذا المصطلح النوعي، وسنشرح إن شاء الله تعالى ما نقصد بكلمة النوعية.
من الدوافع: بيان أن السلفية هي الميزان الحساس الذي يقاس به كل الناس بمن فيهم السلفيون، ودرء محاولات فرض الوصاية على المنهج، فهناك بعض الناس يريدون أن يحتكروا الكلام باسم السلفية، ويريدون هم أن يستأثروا بمفاتيح الدخول إلى السلفية، وبعضهم قد يمارس الإرهاب الفكري: وافقني على فهمي وإلا فلست سلفياً! فليس في السلفية صكوك خاصة بها يحتكرها بعض الناس، وإنما السلفية بابها مفتوح على مصراعيه لكل من أراد أن يلج هذا الباب، ويسلك طريق النجاة.
أيضاً: من الدوافع أننا نلاحظ وجود تباين شديد بين فئات شتى كلٌ منها ينتسب إلى السلفية، بالرغم من وجود نتوءات شاذة في فهم كثير من هؤلاء السلفيين، حتى رأينا في الحقيقة ثلاثيات وليس ثلاثية واحدة، ولا شك أن هناك منطقة من الخلاف المباح بين تجمعات السلفيين، لكن هناك مفاهيم لا يجوز أن يحصل فيها اختلاف أو تفاوت في الفهم.
نريد أيضاً أن نبين أن السلفية أو منهج أهل السنة والجماعة أو الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة أو أهل الحديث إلخ تلك الأسماء هو العلاج الوحيد الناجع الذي يستأصل شأفة الفرقة الواقعة بين المسلمين؛ لأن كلاً منا يقطع بأن جميع مشكلات المسلمين وخلافاتهم ويمكن أن تنقشع فوراً إذا ما عاد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بيننا، لو فرضنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلينا فلا شك أنها ستنقشع الخلافات بين من ينتمون إلى دينه ودعوته وإلى طريقه صلى الله عليه وآله وسلم.
بعض الناس قد يتحسر ويقول: قد مات رسول الله عليه السلام ولن يعود إلى الحياة، لكن نقول: لا تأس ولا تحزن؛ لأنه إن كان قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الحجة قائمة، وما قبض حتى بين لأمته كل شيء صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم سيعود إلينا ليحكم بيننا، ويحسم خلافاتنا، ويعالج مشكلاتنا، فهذا ليس في الحقيقة خيالاً، وإنما هو أقرب إلينا جميعاً من حبل الوريد؛ لأن المنهج السلفي الصحيح ومنهج أهل الحديث يفعل ذلك؛ لأنه يوقفنا على موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونصيحته لنا لو عاش حتى أدرك هذا الواقع الذي نعيشه، ولهذا أيضاً مزيد من التفصيل نبينه إن شاء الله تعالى.(41/2)
أهمية معرفة منهج السلفية وما يلزم من سلكه
إذا خرجت مثلاً على الطريق الزراعي فستجد عدة طرق رئيسية، فإذا وقفت على تقاطع الطرق التي كل منها يؤدي إلى عدة مدن رئيسية، فإنك تختار الطريق التي توصلك إلى البلدة التي تقصدها، لكنك لا تضمن وصولك سالماً غانماً إلى الموضع الذي تقصده إلا بمراعاة أمور مهمة جداً أثناء سيرك في الطريق.
بعبارة أخرى: نحن نحتاج إلى هدايتين: نحتاج إلى هداية إلى الطريق عند اختيار طريق رئيسي من عدة طرق، ثم نحتاج إلى هداية في الطريق ونحن نسلك هذا الطريق، والنجاة لا يحصلها الإنسان إلا بتحقيق هاتين الهدايتين، فالطرق الرئيسية هي بمثابة الأديان المختلفة سواء أديان سماوية ثم حرفت كاليهودية أو النصرانية أو أديان وضعية كالزرادتشية أو البوذية وغير ذلك من الملل الكفرية، فالهداية إلى الطريق هي الهداية إلى طريق الإسلام ونبذ طرق الكفر، فالإسلام بين الملل: هو الدين الوسط كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
أيضاً: لا بد من معرفة قواعد السير بهذا الطريق وإلا تعرض الإنسان للحوادث، لا بد أن يحترم إشارات المرور، ويعرف أن هناك منحنى خطر، وهناك مكان -مثلاً- مرتفع، وهذه المنطقة مليئة بقطاع الطريق، فينبغي للإنسان أن يحفظ ضوابط السلوك في هذا الطريق، فهناك قواعد للسير في داخل الطريق وهي ضوابط المرور، ويجب أن يكون الإنسان منتبهاً إلى التحذيرات المعلنة على جانبي الطريق، وهي تضمن لك السلامة ما دمت قد راعيتها.(41/3)
وجوب اتباع الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة والأدلة عليه
الهداية هدايتان: هداية إلى الطريق، والهداية إلى الطريق هو طريق الإسلام دون طرق الكفر، ثم هداية في الطريق تحميك من الانحراف في السبل التي يقف على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وهو ما نسميه بالفرق النارية، وكذلك هداية تحميك من الدجاجلة الذين يقفون على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
إذاً: وقف الإسلام وقف عام يشمل كل من دخل في الإسلام، وهم من نسميهم بأهل القبلة، ثم نحن في حاجة إلى وقف آخر مع وقف الإسلام، فلا يمكن للإنسان أن ينال النجاة إلا بالحق الواضح، بأن يكون أولاً مسلماً ثم يكون من أهل السنة والجماعة أو من السلفيين أو من الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة أو أهل الحديث أو من الجماعة أو من السنة أو غير ذلك من الأوصاف، فهذه الألقاب كلها تشير إلى منهج متميز هو الأخذ بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
إذاً: لا بد من الاهتمام بنقطة الابتداء، الإنسان عندما يختار طريقاً لا بد أن يكون على بصيرة في اختيار هذا الطريق؛ لأنه إذا أخطأ الطريق منذ البداية فسينفق ردحاً من حياته يتجول ويتلون مع الفرق الضالة، والقاعدة تقول: (إن فساد الانتهاء من فساد الابتداء) ولذلك قالوا: إن من سعادة الحدث والأعجمي إذا أسلم أن يقيض الله له رجلاً من أهل السنة يعلمه السنة ويحمله عليها؛ لأنه بهذا سلم من كثير من العناء، فلو أن رجلاً نصرانياً أسلم على يد شيعي فكم من الجهد والوقت سوف يضيع منه في تعلم مذهب باطل ضال، ثم إذا أراد الله رحمته قيض له من أهل السنة من ينقذه، أيضاً يقول بعض السلف: من سعادة الشاب إذا نسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها، وهذا كله إشارة إلى أن فساد الانتهاء من فساد الابتداء.
دعا بعض الناس فقال: اللهم توفني على الإسلام فقال له عالم: والسنة، أي: اللهم توفني على الكتاب والسنة، وهذا إشارة إلى المعنى الذي سنذكره بأن الإسلام وقف عام، أما السنة فهي وقف خاص، يعني: كأن دائرة أهل القبلة داخلها طوائف شتى، فهي بضع وسبعون دائرة كلها في النار إلا واحدة، وهي الفرقة الناجية التي سوف نبين شأنها.
إذاً: يجب اتباع الكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم وسلف الأمة، فإن كل فرقة ضالة تدعي الكتاب والسنة سواء الخوارج والشيعة وغيرهم، وهكذا عامة الفرق الضالة تتفاخر باتباع الكتاب والسنة، لكن إذا أردت الامتحان والتمييز والتمحيص قل لهم: اتباع الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، فهم لا يلتزمون بهذا الضابط وهذا القيد وهو: بفهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى؛ لأن هذا الضابط هو الذي يسد على الأمة منافذ الانحراف، هل هذا الضابط أتى بدون بينة وبدون دليل؟ كلا، بل هناك كثير من الأدلة عليه، منها: قوله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] فرض علينا ربنا أن ندعوه بهذا الدعاء على الأقل سبع عشرة مرة في اليوم والليلة، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ثم بين هذا الصراط أنه (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وقد بينهم في آية أخرى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69].
إذاً: من هم الذين أنعم الله سبحانه وتعالى عليهم؟ هم المسلمون أهل السنة والجماعة، يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، ويقول أيضاً: {فَإِنْ آمَنُوا بمثل} [البقرة:137] والسياق في اليهود والنصارى من أهل الكتاب، وتأملوا كلمة (بمثل) فهذه هي السلفية، انظر إلى هذه المثلية {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137] لا هداية إلا بأن تؤمن بمثل ما آمن به الصحابة {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137] ولحكمة بالغة لم يقل الله تبارك وتعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنت به يا محمد، وهذا فيه إشارة إلى صحة إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ويقول تبارك وتعالى في شأن الصحابة أيضاً: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، ولم يقل تبارك وتعالى: وألزمه كلمة التقوى وإنما قال: (وألزمهم كلمة التقوى)، وهذه شهادة من الله عز وجل للصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم هم أهل التوحيد والجماعة.
(وكانوا أحق بها) يعني: كانوا أحق من حملها، وأهلاً لتطبيقها؛ وقد شهد الله سبحانه وتعالى لهم بالفوز، فيقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ما هو سبيل المؤمنين؟ قطعاً هو سبيل أفضل أمة على الإطلاق، وهي أمة الصحابة؛ لأن الصحابة أفضل البشر بعد الأنبياء، أفضل أمة بعث فيهم نبي هم الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين (ويتبع غير سبيل المؤمنين) يعني: غير سبيل الصحابة.
ويقول تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ َّ} [لقمان:15] والصحابة بلا شك هم أعظم من أناب إلى الله سبحانه وتعالى بعد الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ويقول تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] تأملوا هذه الآية: يحينما ذكر الله عز وجل المهاجرين والأنصار لم يقيد حالهم بالإحسان؛ لأنهم محسنون بطبيعة الحال، أما كل من أتى بعدهم فاشترط فيه أن يكون تابعاً لهم بإحسان، ولم يشترطه في الصحابة، وهذا فيه إشارة إلى أنهم بطبيعة الحال محسنون رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
بل إن منهج السلف والصحابة رضي الله تعالى عنهم والاقتداء بهم مما أثنى الله سبحانه وتعالى به على عباد الرحمن، ففي صفات عباد الرحمن -في آخر سورة الفرقان- يقول تعالى حاكياً لنا دعاء عباد الرحمن: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] ومعنى هذه الآية كما فسرها العلماء: اجعلنا نقتدي بمن سبقنا فنصلح لأن يقتدي بنا من بعدنا، هذا خلاصة الكلام في تفسير هذه الآية، فلا يصير الإنسان إماماً إلا إذا ائتم بالسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ثم الله تعالى حكى عنهم قولهم: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ولم يقل (واجعلنا للمتقين أئمة)؛ لأن طريق المتقين واحد، ومعبودهم واحد، وكتابهم واحد، ونبيهم واحد، فكأنهم إمام واحد لمن بعدهم لا كالأئمة المختلفين، وقال مجاهد: اجعلنا مؤتمين بالمتقين مهتدين بهم، فلا يكون الرجل إماماً حتى يأتم بالمتقين وهم السلف، ومن ائتم بأهل السنة قبله ائتم به من بعده ومن معه.
إذاً: يجب الائتمام بالمنهج الذي كانوا عليه، والإمام في الحقيقة هو منهج النبي صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين، ويدل على ذلك عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة (صلوا كما رأيتموني أصلي) وفي الرواية الأخرى: (صلوا كما تروني، وليأتم بكم من بعدكم) فعموم قوله (وليأتم بكم من بعدكم) لا يقتصر على أحوال الصلاة، وإنما يتعدى إلى كل أمور الدين الأخرى؛ لأن الصحابة هم الذين حملوا إلينا هذا الدين.
ومن الأدلة أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى قص علينا قول الكافرين للصحابة: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] أي: لو كان الإسلام حقاً وخيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء والفقراء، وعلق ابن كثير على هذه المقولة بقوله: أما نحن أهل السنة والجماعة فإننا نرى السلف الصالح رحمهم الله تعالى أولى الناس بكل خير، ونحن لا نقول كما قال هؤلاء: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، ولكننا نقول في أي شيء لم يفعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم: لو كان خيراً لسبقونا إليه، فهم أولى الناس بكل خير.
أيضاً في الحديث الصحيح في افتراق الأمة يقول عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، وفي رواية: (قيل: ومن هي يا رسول الله؟! قال: هي الجماعة) ومن ألقاب أهل السنة: الجماعة، وفي رواية أخرى: قال: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فلا شك أن هذا الحديث من النصوص الواضحة الدلالة جداً على هذا الضابط، وأنه لا بد من هذا القيد: (الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى ورضي عنهم)، وأنه لا بد أن ينضم إلى اتصافك بالإسلام اتصافك بأن تكون من الفرقة الناجية، وإلا كنت من هذه الفرق النارية أيضاً.(41/4)
المتبعون للكتاب والسنة على منهج السلف هم الفرقة الناجية
من ألقاب الجماعة: الفرقة المنصورة أو الطائفة المنصورة كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك) وهم الطائفة المنصورة إلى يوم الدين، وقد توارد كلام أئمة العلم في أن المقصود بهم أهل الحديث، وهنا نقطة مهمة جداً وهي: أن أهل الحديث هم أولى الناس بمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسنزيد ذلك بياناً إن شاء الله تعالى.
أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) وفي بعض الروايات زيادة: (ثم الذين يلونه) فدخل فيها القرن الرابع كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى، وقال عز وجل: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] فهذا فيه ثناء ومدح للصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
والنصوص الواردة في تزكية الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين كثيرة جداً، وهذا باب واسع يحتمل كلاماً أوسع من هذا، لكن نقتصر في آخر هذه الجزئية على قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء).
وخلاصة الكلام في هذه القضية: أنه كما أن الإسلام قاض وحاكم ومهيمن على سائر الأديان فإن منهج الصحابة رضي الله تعالى عنهم قاض ومهيمن وحاكم على فرق الإسلام، وكما أن الإسلام وسط بين الأديان فإن أهل السنة هم الوسط بين الفرق الإسلامية، والنجاة: هي بالاقتداء بالصحابة في كل أمور الدين، ابتداء بأعلى شعب الإيمان (لا إله إلا الله) وانتهاء إلى إماطة الأذاء عن الطريق.(41/5)
افتراق الأمة(41/6)
سبب الخلاف الموجود في الأمة
الاقتصار على حسن النية في التمسك بطريق، بدون أن يكون الإنسان واثقاً من أن طريقه هو طريق الفرقة الناجية، هذا من تلبيس الشيطان، وكل الفرق الموجودة الآن متفقون على أمرين، ومختلفون على أمر واحد، متفقون على حسن النية والغاية وهي: أن ينصروا الإسلام، ولكنهم مختلفون في الطريق التي توصل إلى نصرة هذا الدين؛ فحري بنا أن نتبصر وأن نعي الطريق الذي نسلكه، خاصة أنه مما يحير الإنسان أنهم جميعاً يرفعون شعار الكتاب والسنة، فلماذا الاختلاف؟! والجواب واضح مما تقدم من الكلام على الانحراف في باب المنهج أو العقيدة أو الأصول، وقد كان الانحراف يعامل بمنتهى الشدة من النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلين مع أهل المعاصي كقصة الشاب الذي استأذنه في الزنا، وكذلك قصة الرجل الذي قبل المرأة ونال منها دون فرجها ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنزل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وكذلك أيضاً قصة أبي محجن الثقفي، والمواقف الشرعية مع أهل المعاصي فيها لين ورفق.
أما أهل البدع فقد اشتد عليهم موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وأدل دليل على ذلك هو هذا الحديث الذي ذكرنا آنفاً: (كلها في النار إلا واحدة).
وكذلك قصة الرهط الثلاثة الذين قال النبي عليه السلام في شأنهم: (فمن رغب عني سنتي فليس مني) فهذا منتهى الشدة.
وكذلك شدته على الذين أصروا على الوصال في الصيام، ولو سكتنا عن الانحراف في قضايا الأصول والعقيدة للزم من ذلك أن نخطئ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عندما قتل الخوارج.
إذاً: ينبغي أن نستحضر -ونحن نطرق هذا البحث وهذا السبيل- أننا نريد النجاة لأنفسنا، لا تؤملوا أن يرضى الناس عنكم؛ لأن إرضاء الناس غاية لا تدرك، وإرضاء الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يكون هو الهدف الوحيد؛ لأن إرضاء الله مقدور ومأمور، وإرضاء الناس ليس بمقدور ولا مأمور، إرضاء الله سبحانه وتعالى داخل في قدرة العبد؛ لأن الله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وكما أنه مقدور فهو مأمور به، قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]، وقال عليه الصلاة والسلام: (فعليكم بسنتي) أما إرضاء الناس فهو غير مقدور؛ لأن الفرقة أمر كوني قدري كسائر الشرور التي خلقها الله سبحانه وتعالى ولا يرضاها، يقول تبارك وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119] إذاً: الافتراق سنة كونية.
وجاء في وصف النبي عليه السلام في التوراة (ومحمد فرق بين الناس).(41/7)
المراد بالأمة في حديث الافتراق
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) لا يمكن أن يقال: إن (أمتي) هنا هي أمة الدعوة، فأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قسمين: أمة الدعوة التي يوجه إليها الدعوة إلى الإسلام، ويدخل فيها اليهود والنصارى، وكل من على وجه الأرض من يوم بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهذه كلها أمة محمد بمعنى أنها أمة الدعوة، فمن أجابه ودخل في الإسلام فهو من أمة الإجابة.
وأمة الإجابة تنقسم إلى فريقين: الفرق النارية وأهل السنة والجماعة، فالفرق النارية التي توعدها النبي عليه الصلاة والسلام بالهلاك في النار، والفرقة الناجية هي فرقة واحدة وهي: أهل السنة والجماعة.(41/8)
المقصود بافتراق الأمة
الافتراق هنا هو الافتراق في أصول الدين، وليس في فروع الدين، إلا إذا تكاثرت المخالفات في الفروع حتى ترتب عليها من هجر الأدلة ما يترتب على الأصل المتبع الذي يتحاكم إليه.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي) المراد الافتراق على أساس أصول الدين، وهذا ملاحظ، فالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية والجبرية والمرجئة كل هذه الفرق الضالة إنما خالفت في الأصول أساساً.(41/9)
لا يقطع لمن انتمى إلى السنة بجنة ولا نار
هنا تنبيه مهم جداً وهو: أننا حين نقول: إن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية وأهل الجنة، فهذا من حيث الأنواع لا من حيث الأعيان.
فإنه لا يقطع لمن ينتمي إلى أهل السنة والجماعة بالجنة إلا إذا دل عليه الوحي، وكذلك لا يقطع لمن خالفهم أنه في النار إلا إذا دل الوحي على ذلك، فنحن نتناول هنا الأنواع وليس الأعيان.
فباختصار: هذا هو المعنى الكامن وراء تسمية أهل السنة والجماعة بالفرقة الناجية، فحري بالمسلم العاقل ألا يهدأ له بال، ولا يكتحل بنوم، ولا يهنأ بطعام ولا شراب، حتى يتيقن أنه من هذه الفرقة الناجية.(41/10)
الحكمة الكونية من هذا الافتراق
قد يرد
السؤال
ما الحكمة من هذا الافتراق؟ كثير من الناس يتناولون الموضوع بطريقة عاطفية، ويتألمون لافتراق المسلمين وتمزقهم، ويقولون: هلا جعل الله سبحانه وتعالى الأمة فرقة واحدة ناجية وتدخل في الجنة؟ نقول: إن الافتراق هذا شر من الشرور، وهو أمر كوني قدري أوجده الله لحكمة، فالأمور الكونية القدرية قد يوجد منها أشياء يبغضها الله ويكرهها، لكن يشاؤها سبحانه وتعالى قدراً وكوناً لحكم عظيمة تترتب على ذلك، فالافتراق أمرٌ كوني قدري لكننا أمرنا شرعاً بعلاج هذا الخلاف، والدليل قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] ولا يزالون مختلفين كما اختلف الناس من أهل الكفر إلى يهود ونصارى، كذلك أهل الإسلام قدر الله وقضى بهذه الفرقة لحكم عظيمة، ولما يترتب على هذا من ألوان العبودية والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فنحن خلقنا للابتلاء، فلا يجوز أن نقول: نقترح على الله سبحانه وتعالى أن يجعل المسلمين فرقة واحدة كي لا يتمزق المسلمون وتذهب شوكتهم؟! كل هذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، ونحن خلقنا للابتلاء: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، وقال تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]،) وقال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فخلق الله سبحانه وتعالى نعيم الدنيا لينبهنا إلى نعيم الجنة، وخلط هذا النعيم بالمنغصات لندرك أن الدنيا ليست دار الجزاء ولا دار النعيم، وخلق النار في الدنيا تذكرة ومتاعاً للمقوين، نستدفئ بها ولنتذكر بها نار الآخرة، ونحن الآن في دار الابتلاء، وفي لجنة الامتحان، فالامتحان منعقد، وعواقب أعمالنا محجوبة عنا، ولا تنكشف إلا في الدار الآخرة التي هي دار ظهور النتائج، ومع ذلك زودنا الله سبحانه وتعالى بأسباب النجاة والنجاح والفوز العظيم، وأوضح لنا السبيل الذي يوصلنا إلى الجنة دار القرار، وأخذ منا الميثاق حين استخرجنا من صلب آدم عليه السلام، وفطرنا على التوحيد الخالص، ومنحنا العقول والأسماع والأبصار لنهتدي بها، ومع كل هذا تضمن وتكفل أنه لا يعذب أحداً حتى تقام عليه الحجة الرسالية.
والشيطان له أساليب متنوعة لجر الناس إلى النار، وابن القيم له كلام رائع في مدارج السالكين في شرح هذه العقبات السبع التي يحاول الشيطان أن يجر الناس بها إلى النار، فأعظم أمنية يتمناها الشيطان أن يوقع الإنسان في الكفر، فإن عجز ينتقل به إلى البدع، فإن عجز فإلى الكبائر، فإن عجز فإلى الصغائر، فإلى المباحات، فإلى تقديم المفضول على الفاضل.
ولو سألنا أي آية في كتاب الله عز وجل هي أخوف؟ لوجدنا العلماء يختلفون في هذا اختلافاً كثيراً، وربما بعضهم يقول مثلاً هي قوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] وبعضهم يقول: هي قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31] لكن قال بعض أهل العلم: أخوف آية في القرآن هي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] يجتهد الرجل في العبادة ما شاء الله أن يجتهد، ثم يفاجأ في يوم القيامة بأنه ليس فقط خاسراً لكنه من الأخسرين أعمالاً، بصيغة (أفعل) التفضيل! (بالأخسرين أعمالاً) فهم أشد الناس خسراناً، والله تبارك وتعالى قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] (عاملة ناصبة) كانت تكد وتكدح في العبادة في الدنيا، ومع ذلك انظر إلى مصيرهم في الآخرة! وكما يحرص العبد على حسن صلاته وعبادته، ويحرص على أن يتجنب الخنا والخمر؛ فلا بد أن يحرص على سلوك الصراط المستقيم، يقول تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] هؤلاء الخوارج تقرحت جباههم، وتيبست أقدامهم من شدة الاجتهاد في العبادة، ومع ذلك هم كلاب النار؛ لأنهم انحرفوا في الأصول، وكانوا من الفرق النارية.(41/11)
تضعيف بعض العلماء لحديث (افتراق الأمة) والرد عليهم
عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة) هذا الحديث قال فيه الحاكم بعد ما ساق أسانيده: هذه أسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح الحديث، ووافقه الذهبي، وقال شيخ الإسلام: هو حديث صحيح مشهور، وصححه الشاطبي في الاعتصام.
وبعض العلماء أشار إلى تضعيف زيادة في الحديث وهي (كلها هالكة إلا واحدة) وأيضاً: (ثنتان وسبعون في النار)، وهذا مشهور عن الشوكاني وابن الوزير وابن حزم، بل صديق حسن استحسن قول من قال: إن هذه الزيادة من دسيس الملاحدة، فإن فيها التنفير عن الإسلام، والتخويف من الدخول فيه.
إذاً: بعض العلماء نظر إلى متن الحديث فاستنكره، وظن أن هذه الزيادة: (ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة) من دسيس الملاحدة، وإن فيها التنفير عن الإسلام، والتخويف من الدخول فيه.
وهذا في الحقيقة ليس صحيحاً فمن ناحية صحة الحديث فالنقد العلمي الحديثي دل على صحة هذه الزيادة، فلا عبرة بقول من ضعفها كما بين ذلك العلامة الألباني رحمه الله تعالى، والذين صححوا هذا الحديث أكثر وأعلم من ابن حزم رحمه الله تعالى، فلا ينبغي أن يحتج بتضعيفه، فهو معروف في نقد الأحاديث إذا انفرد فكيف وقد خالفه هؤلاء الأئمة، وابن الوزير يرد الحديث من جهة المعنى لا من جهة الإسناد، فذكر أن هذا الحديث يقتضي أن الذي يدخل الجنة من هذه الأمة قليل، والنصوص الصحيحة تدل على أن الداخلين من هذه الأمة الجنة كثير يبلغون شطر أهل الجنة كما صح في الحديث، والرد على هذا من وجوه، منها: ليس معنى انقسام الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة أن يكون أكثر الأمة في النار؛ لأن أكثر الأمة عوام، وهم لم يدخلوا في تلك الفرق، وإنما هم تبع لعلماء أهل السنة، والذين افترقوا وأصلوا وقعدوا مخالفين للسنة هم قليل بالنسبة للذين جانبوا ذلك كله.
أيضاً ليس كل من خالف أهل السنة في مسألة من المسائل يعد من الفرق المخالفة للسنة، بل المراد بهم الذين تبنوا أصولاً تجعلهم فرقة مستقلة بنفسها، وتركوا بسبب هذه الأصول كثيراً من نصوص الكتاب والسنة كالخوارج والمعتزلة والرافضة، أما الذين يتبنون الكتاب والسنة، ولا يحيدون عنهما، فإنهم إذا خالفوا في مسألة من المسائل لا يعدون بذلك فرقة من الفرق.
بعض الفرق يصل ضلالها إلى حد الكفر، فهؤلاء يكونون خالدين في النار كغلاة الباطنية الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، كالإسماعيلية والدروز والنصيرية ونحوهم، ومن هذه الفرق من خالف أهل السنة في مسائل كبيرة عظيمة لكنها لا تصل إلى الكفر، فهؤلاء ليس لهم وعد مطلق بدخول الجنة، وإنما يكونون تحت المشيئة، إن شاء الله عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وقد تكون لبعضهم أعمال صالحة عظيمة تنجيه من النار، فالفعل الذي يستحق صاحبه النار مشروط بحصول شروط وانتفاء موانع، وربما ينجون من النار بشفاعة الشافعين، وقد يدخلون النار فيمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين، ورحمة أرحم الراحمين عز وجل، وهذه إجابة عابرة وسريعة على هذه الشبهة.(41/12)
فضل السلفيين على الأمة الإسلامية
مما يلفت النظر أن ماسنيون المستشرق الفرنسي الشهير الذي كان تابعاً لوزارة الخارجية الفرنسية أخذ تعريفاً عن الحركة السلفية بواسطة الإمام عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء في الجزائر، ثم حذر قومه في فرنسا مما سماه بحركة السلفيين المتشددين، وما هي في حقيقتها إلا انتفاضة إسلامية تبغي التخلص من نار الاستعمار الغربي، فلا شك أنه كان لهذه الحركة دور مشرف في المحافظة على أصالة الأمة الإسلامية؛ لأن المؤامرة كانت في الجزائر موجهة نحو الانتماء الإسلامي للجزائر، ونحو طمس اللغة العربية، فتصدت لذلك هذه الحركة السلفية، وحافظت على هذه الهوية حتى لا تتميع أو تهتز تحت ضربات الغزو الأجنبي، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ظهر فيها السلفيون بهذا المظهر، فقد قاموا بالدفاع عن الإسلام أيام الاشتباك العقلي مع خصوم الإسلام حينما نقل الفكر الغربي واليوناني، فانتقده السلفيون، ورفضوا هذا المنهج، وكان الأمر واضحاً في الدوائر السلفية أكثر من غيرهم.
ومن فضل الدعوة السلفية: المحافظة على التوحيد في جوهره النقي، فمنعت السلفية في كل العصور تردي العقيدة الدينية إلى صورة من صور الوثنية، كما هو معلوم ومشاهد.
ومفهوم السلفية -كمنهج في الإسلام- لا يعني جيلاً أو أجيالاً مضت كما يزعم بعض الكتاب ممن كتب عنهم، حيث زعم أن السلفية فترة زمنية محددة، وليست مذهباً بعينه، وهذا الكلام ممن لا يفقه معنى السلفية، فالسلفية ليس فيها بعد زمني، ولا تقتصر على جيل أو أجيال مضت، وإنما تتسع دائرة السلفية لتشمل الحاضر والمستقبل أيضاً؛ لأنها لا تتعلق بالعصور والزمن، ولكن باتباع الطريقة الواحدة الثابتة.(41/13)
فضائل أهل الحديث
الألقاب التي تدعى بها السلفية ويعبر بها عنها: أهل السنة، الجماعة، أو أهل السنة والجماعة، أهل الحديث، الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية.
أما بالنسبة لفضائل أصحاب الحديث ففضائلهم كثيرة، ومن أعظم هذه الفضائل قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، وليس لأصحاب الحديث إمام سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) رجح كثير من العلماء أن هذه الطائفة هم أصحاب الحديث، يقول الإمام أحمد: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم.
والنبي عليه السلام لما سئل عن الفرقة الناجية قال: (ما أنا عليه وأصحابي) فإذا كانت النجاة بمعرفة ما كان عليه هو وأصحابه فلا بد من معرفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأن طريق معرفة حال الرسول وأصحابه إما بالمشاهدة، فيلزم أن يكون الإنسان صحابياً أو تابعياً بعد وفاة النبي عليه السلام، وإما بطريق النقل، فكما أننا نرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة، ونرجع في النحو إلى أهل النحو، كذلك نرجع في معرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أهل الحديث والنقل، قال النبي عليه السلام: (وألا ننازع الأمر أهله) وأولى الناس بمعرفة ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أهل الحديث قطعاً.(41/14)
كلام الخطيب البغدادي في مدح أهل الحديث
وحتى لا نطيل في هذه الجزئية نكتفي بسرد عبارات للإمام أبي بكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى وهو يتكلم عن فضائل أصحاب الحديث يقول: وقد جعل الله تعالى أهله -يعني أهل الحديث- أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث؛ فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول قدوتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع، منهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهدٍ في قبيلة، ومخصوصٍ بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن.
وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم سبيل المتقين، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر إليهم بالسوء حسير، وإن الله على نصرهم لقدير، ثم يقول: فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين؛ لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين، فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار؛ في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً، حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها وأهلها، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها، والقوامون بأمرها وشأنها، إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون.
هذه نبذة من فضائل أصحاب الحديث، وهذا الأمر يحتاج إلى وقت أطول من هذا.(41/15)
ألقاب أهل الحديث ومصطلحاتهم
من الأمور المهمة أن مصطلح السلفية مصطلح نوعي بمعنى: أن كلمة (سلفي) هي عبارة عن عنوان لطائفة كبيرة لها من الصفات والمواقف التي يعبر عنها بكلمة (السلفي)، فكلمة (سلفي) يفترض أنها تعني كثيراً جداً من المعاني التي تتحقق في صاحبها، ومواقف الشخص الذي يتبناها، فالسلفي لا يتصور أبداً أن يوالي الشيعة أو الروافض أو يلبس عليه هذا الأمر؛ لأنه على بصيرة من دينه.
والفرقة الناجية هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا كانت النجاة باتباع الصحابة فكيف يتصور أن يجتمع في قلب مؤمن حب الصحابة مع حب من يلعنون الصحابة ويكفرونهم ويجعلون الاشتغال بلعن أبي بكر وعمر أفضل من التسبيح والحوقلة والتهليل إلى غير ذلك من فضائح الروافض؟! إذاً: كلمة (سلفي) تدل أن صاحبها ليس شيعياً، وليس خارجياً يكفر المسلمين بالمعاصي مثلاً، وليس قدرياً، وليس جهمياً، وليس جبرياً، كلها عبارة عن صفات سلب وإثبات، تثبت له مواقف محددة في قضايا محددة، فلا يكون الإنسان سلفياً إلا إذا تبنى كل هذه الأصول والقواعد بحذافيرها، ولا يشذ في شيء منها خاصة فيما يتعلق بالعقيدة وأصول الدين.
إذاً: كلمة (السلفية) مصطلح نوعي يعكس كثيراً جداً من الصفات والمواقف التي لا بد أن يتبناها هذا الإنسان، ومن لم يتحل بهذه الصفات الإيجابية، ويتخل عن هذه الصفات السلبية؛ فلا يستحق أن يكون سلفياً.
هناك ألقاب كثيرة لأهل السنة والجماعة، وأشهرها (السلفية)، وهذا المصطلح لم يكن شائعاً في الصدر الأول، حتى نفس مصطلح أهل السنة والجماعة -بنفس الحروف- لم يكن موجوداً في عهد السلف الأول كما سنبين، وإن كان معناه صحيحاً وموجوداً.
وكلمة (أهل السنة والجماعة) لقب شريف تتنازعه ثلاث طوائف: أولاً: أهل الحديث أو السلفيون أو الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة إلى آخره.
ثانياً: الأشاعرة.
ثالثاً: الماتريدية.
وفي الحقيقة أن الأشاعرة والماتريدية -عند الفحص والتمحيص- لا يستحقون هذا الوصف، فنحن مطالبون بأن ننزع عنهم هذا الوصف الشريف، ونخرجهم عنه ليعود لمن هم أحق به وأهله.
وبعض الناس -اعتزازاً بهذا المنهج- يتلقبون بلقب أهل السنة والجماعة، وهذا المنهج لا ينبغي أن يكون مقصوراً على طائفة معينة تماماً كوصف السلفيين، ولذلك أنا ضد عبارة (السلفيين) أو أي عبارة تغذي العصبية والحزبية، بل هذا المنهج يجب على كل المسلمين أن ينتموا إليه، ولا يعبر بهذا المنهج عن طائفة مبتورة من جسد الأمة، كلا، بل السلفية هي قلب الأمة النابض.
إذاً: أهل السنة والجماعة لقب لا ينبغي لأحد أن يحتكره؛ لأنه إذا احتكرته طائفة من الناس فبالتالي يترتب على ذلك أن أخطاءهم سيتحملها المنهج نفسه، وهم كبشر سيسلكون مسالك معينة أو يخطئون في قضايا معينة يترتب عليها أمور، ويحدث تولد حساسية عند الناس من هذا الاسم تماماً كما هو حاصل نتيجة أخطاء بعض السلفيين، فينبغي أن يكون المنهج فوق الجميع، ولا يحتكره أحد أبداً للمعاني التي ذكرناها.(41/16)
فضائل السلفية
من الأمور المهمة أن مصطلح السلفية مصطلح نوعي بمعنى: أن كلمة (سلفي) هي عبارة عن عنوان لطائفة كبيرة لها من الصفات والمواقف التي يعبر عنها بكلمة (السلفي)، فكلمة (سلفي) يفترض أنها تعني كثيراً جداً من المعاني التي تتحقق في صاحبها، ومواقف الشخص الذي يتبناها، فالسلفي لا يتصور أبداً أن يوالي الشيعة أو الروافض أو يلبس عليه هذا الأمر؛ لأنه على بصيرة من دينه.
والفرقة الناجية هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا كانت النجاة باتباع الصحابة فكيف يتصور أن يجتمع في قلب مؤمن حب الصحابة مع حب من يلعنون الصحابة ويكفرونهم ويجعلون الاشتغال بلعن أبي بكر وعمر أفضل من التسبيح والحوقلة والتهليل إلى غير ذلك من فضائح الروافض؟! إذاً: كلمة (سلفي) تدل أن صاحبها ليس شيعياً، وليس خارجياً يكفر المسلمين بالمعاصي مثلاً، وليس قدرياً، وليس جهمياً، وليس جبرياً، كلها عبارة عن صفات سلب وإثبات، تثبت له مواقف محددة في قضايا محددة، فلا يكون الإنسان سلفياً إلا إذا تبنى كل هذه الأصول والقواعد بحذافيرها، ولا يشذ في شيء منها خاصة فيما يتعلق بالعقيدة وأصول الدين.
إذاً: كلمة (السلفية) مصطلح نوعي يعكس كثيراً جداً من الصفات والمواقف التي لا بد أن يتبناها هذا الإنسان، ومن لم يتحل بهذه الصفات الإيجابية، ويتخل عن هذه الصفات السلبية؛ فلا يستحق أن يكون سلفياً.
هناك ألقاب كثيرة لأهل السنة والجماعة، وأشهرها (السلفية)، وهذا المصطلح لم يكن شائعاً في الصدر الأول، حتى نفس مصطلح أهل السنة والجماعة -بنفس الحروف- لم يكن موجوداً في عهد السلف الأول كما سنبين، وإن كان معناه صحيحاً وموجوداً.
وكلمة (أهل السنة والجماعة) لقب شريف تتنازعه ثلاث طوائف: أولاً: أهل الحديث أو السلفيون أو الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة إلى آخره.
ثانياً: الأشاعرة.
ثالثاً: الماتريدية.
وفي الحقيقة أن الأشاعرة والماتريدية -عند الفحص والتمحيص- لا يستحقون هذا الوصف، فنحن مطالبون بأن ننزع عنهم هذا الوصف الشريف، ونخرجهم عنه ليعود لمن هم أحق به وأهله.
وبعض الناس -اعتزازاً بهذا المنهج- يتلقبون بلقب أهل السنة والجماعة، وهذا المنهج لا ينبغي أن يكون مقصوراً على طائفة معينة تماماً كوصف السلفيين، ولذلك أنا ضد عبارة (السلفيين) أو أي عبارة تغذي العصبية والحزبية، بل هذا المنهج يجب على كل المسلمين أن ينتموا إليه، ولا يعبر بهذا المنهج عن طائفة مبتورة من جسد الأمة، كلا، بل السلفية هي قلب الأمة النابض.
إذاً: أهل السنة والجماعة لقب لا ينبغي لأحد أن يحتكره؛ لأنه إذا احتكرته طائفة من الناس فبالتالي يترتب على ذلك أن أخطاءهم سيتحملها المنهج نفسه، وهم كبشر سيسلكون مسالك معينة أو يخطئون في قضايا معينة يترتب عليها أمور، ويحدث تولد حساسية عند الناس من هذا الاسم تماماً كما هو حاصل نتيجة أخطاء بعض السلفيين، فينبغي أن يكون المنهج فوق الجميع، ولا يحتكره أحد أبداً للمعاني التي ذكرناها.(41/17)
حفظ السلفية لتاريخ السلف وتدوينه وحمايته
من فضائل السلفية: أنها أعظم منهج يؤدي وظيفة صيانة تاريخ السلف، فهذه من المواقف المهمة جداً عند السلفيين، فهم يحفظون جداً تاريخ السلف، ويدفعون محاولة التشويه لهذا التاريخ من خلال أدق منهج علمي عرفته الأمم كلها، وهو علم الإسناد، الذي يقول فيه مرجوليوت اليهودي المستشرق الخبيث: فليتخذ المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم.
فعلماء السلفيين وعلماء الحديث هم أعظم وأقوم من ينقش ويصفي هذه الروايات، ليمحص تاريخ السلف من البدع والضلالات والأكاذيب، ومعروف أن أعداء الإسلام لم يفشلوا في أن يطعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، بل تحولوا إلى الطعن في الصحابة؛ لأن الطعن في الصحابة يئول إلى نفس الهدف، وهو طعن الإسلام في الصميم، يقول الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى: إذا رأيت الرجل ينتقد أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق يدعي الإسلام -لكنه في الباطن كافر-، إنهم يريدون أن يجرحوا شهودنا ليعطلوا الكتاب والسنة، وإنما أدى إلينا هذا الكتاب والسنة الصحابة، فلا يجرح الصحابة إلا الزنادقة، من الذي حمل إلينا القرآن؟ الصحابة.
من الذي حمل إلينا السنة؟ الصحابة، والشيعة يقولون: ارتد الصحابة عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا خمسة! هذا ذبح للإسلام، هذا الذي يريده أعداء الدين من الشيعة والروافض عن طريق الطعن في تاريخ الأكابر كـ أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار.
في ترجمة أبي الأحوص سلام بن سليم وكان ثقة صاحب سنة، أنه كان إذا امتلأت الدار من أصحاب الحديث قال لابنه الأحوص: يا بني! قم فمن رأيته يشتم أحداً من الصحابة فأخرجه، ما يجيء بكم إلينا؟! يأمر ابنه أن يخرج أي واحد تلبس بشتم أحد الصحابة، وأن يطرده من المجلس ويقول: ما يجيء بكم إلينا؟! ليس هذا مكانكم.
إذاً: صيانة تاريخ السلف وظيفة مهمة جداً، وبالذات ما يتعلق بالفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم، ولعل من أفضل الكتب في هذا (العواصم من القواصم) للقاضي أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى، وهذا عنوان يحتاج إلى كثير جداً من التفاصيل، ودور السلفية في صيانة التاريخ الإسلامي سواء في عهد البعثة أو عهد الخلفاء الراشدين أو من تلا ذلك؛ لا شك أن هذا الدور مهم جداً.(41/18)
عقائد السلفية هي عقائد جميع الأئمة
عقيدة السلفيين هي عقيدة الأئمة كلهم من عهد الصحابة إلى عهد التابعين وتابعي التابعين، وهي عقيدة أئمة السلف كلهم بمن فيهم الأئمة الأربعة.
والنماذج كثيرة جداً، وهذا بحث مستقل في موقف الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السلف في قضايا العقيدة، وهو بحث طويل جداً لا يمكن أن نتناوله الآن في هذه اللحظات، لكن نقف عند قصة الإمام أحمد رحمه الله، ولماذا الإمام أحمد بالذات يوصف بالإجماع بأنه إمام أهل السنة؟ لماذا كل من كان أشعرياً أو في أي فرقة ضالة، ثم تاب وأراد أن ينزه نفسه من البدعة والضلالة يتشرف بالانتساب إلى المنهج السلفي، ويعلن أنه اتخذ الإمام أحمد إماماً وقدوة، ويقول بقول الإمام أحمد؟ فمثلاً: الإمام الأشعري نفسه في كتابه الإبانة وغيرهما من كتبه التي رجع فيها إلى منهج السلف رحمه الله تعالى، قال بكل صراحة: إنني على ما كان عليه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، فإنه ناصر السنة، وإنه الرئيس الكامل، والإمام الفاضل إلخ عباراته.
فكل من أراد أن يعلن انتماءه للسلفية ينتمي إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين نقلوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعاً عند أهل السنة والجماعة، وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولاً، بل إن السنة كانت موجودة معروفة قبله، علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، هذا هو السر في هذا الأمر، فـ الشافعي ومالك وغيرهما ماتوا قبل الإمام أحمد، والإمام أحمد عاش بعدهم وتعرض للمحنة المعروفة، وهي القول: بخلق القرآن، وصمد أعظم صمود، فلذلك كافأته الأمة بإطلاق لقب (إمام أهل السنة) عليه، وهذا تعبير عن العرفان بجميل الإمام أحمد، وبفضله في صيانة هذا المذهب، وصيانة هذا المنهج، فهذا هو السر.
مع أنه في تخريج الأحاديث تلاحظون المحدث يقول: رواه أبو داود والترمذي والنسائي والإمام أحمد، فلا يذكر هذا لغيره إلا قليلاً، فأغلب المخرجين يحفظون له هذا اللقب، وهذا تعبير عن الولاء للإمام أحمد والاعتراف بفضله في صبره على المحنة.
يقول شيخ الإسلام: فإن السنة كانت موجودة معروفة قبله، علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، وثبت الإمام أحمد على ذلك الأمر؛ فصار إماماً من أئمة السنة، وعلماً من أعلامها؛ لقيامه بإعلامها وإظهارها، واطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لصحيح إسنادها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأياً.
إذاً: هذا هو السر في حرص السلفيين في كل عصر على الانتماء إلى الإمام أحمد بالذات في أصول العقيدة، ولذلك هناك عبارة مشكورة بالنسبة لعلاقة المذاهب الأربعة بالمنهج السلفي، يقولون: المذهب لـ مالك والشافعي والظهور لـ أحمد، يعني الظهور والشهرة حصلت للإمام أحمد للسبب الذي ذكرناه.(41/19)
السلفية أصلها ثابت وفرعها في السماء
السلفية كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، عميقة الجذور، جذورها متغلغلة تصل إلى عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ما الذي يثبت هذا المنهج؟ الذي يثبته علم الإسناد وعلم الحديث؛ لأن الإسناد بالنسبة للسلفية هو شريان الحياة، وهو سر أصالتها وثباتها، والتمكين للدين لا يكون إلا على منهاج النبوة كما في الحديث: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها) إلى أن تدرج النبي عليه السلام في هذه المرحلة التي تمر بها الأمة الإسلامية إلى أن قال في النهاية: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).
إذاً: لن تعود الخلافة إلا على منهاج النبوة، كيف نتعرف على منهاج النبوة؟ إن منهاج النبوة يدرك إما بالمعاينة -وهذا متحقق لمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم وعايشه- وإما بالرواية وهي مهمة أصحاب الحديث، فأولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمعرفة هديه هم أصحاب الحديث، ولذلك نحن نقول: إن هذه العقيدة عقيدة مسندة، لا توجد قضية واحدة من قضايا العقيدة إلا وهي مسندة إلى أصلها وجذورها، مسنده إلى الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان من أئمة الدين، وهذا يدل على أهمية دراسة العقيدة من الكتب المسندة، إذا أردنا أن نتعلم العقيدة تعلماً صحيحاً فعلينا أن نرجع إلى الكتب المسندة التي ألفت في القرون الأولى كصحيح البخاري ومسلم، وسنن أبي داود وغيره من أهل السنن، وكتب السنة والسنة فيها بمعنى: العقيدة -وغيرها من كتب أصول الدين ككتاب السنة لـ أحمد ولـ ابن أبي عاصم والإبانة لـ ابن بطة وعشرات الكتب التي ألفت في الصدر الأول، ودونت المذهب السلفي، وأثبتته بأسانيده.
فالمذهب السلفي في الحقيقة ليس مذهب الإمام أحمد ولا الشافعي ولا مالك، بداية المذهب السلفي يوم أن نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] هذا هو المذهب السلفي باختصار شديد، ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عندما كان يحاج مخالفيه والمشنعين عليه يقول لهم: أنا أمهلكم عشر سنين، ابحثوا وفتشوا وائتوني بأي قول مما قلته لم يقله السلف الصالح رحمهم الله تعالى، أخرجوا أي شيء من كلامي يخالف ما كان عليه السلف، ولم يستجب أحد منهم لهذا التحدي.(41/20)
السلفية هي الإسلام
السلفية هي منهج الخيرية، وهذه ليست دعوة مجردة عن الدليل، إنما هي دعوة مسندة، وهي أقوى ما نفحم به كل من خالف المنهج السلفي، هناك محاولات لقطع السلفية عن جذورها الحية، وقطع هذا الشريان الممتد والضارب إلى أعماق التاريخي الإسلامي، ومن هذه المحاولات محاولة نسبة المذهب السلفي إلى الإمام أحمد بن حنبل أو نسبته إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أو نسبته إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فنقول: نحن لسنا تيميين، ولسنا وهابيين كما يدعوننا، هذه في الحقيقة مغالطة، صحيح أن الإمام أحمد له خصيصة، وأنه لقب بإمام أهل السنة، بل نقول: لو قدر أن ابن تيمية لم يخلق أصلاً، ولو قدر أن محمد بن عبد الوهاب لم يخلق، ولو قدر أن الإمام أحمد لم يخلق، فهل كان سيضيع المنهج السلفي؟ ما كان ليضيع أبداً؛ لأنه هو الإسلام الصافي في جوهره الأصيل، هؤلاء المجددون كل الذي فعلوه أنهم نفضوا الغبار عن هذا المنهج، لكنهم لم يبتدعوا ولم ينشئوا مذهباً، إنما ضبط ابن تيمية المنهج وحرر قواعده، وأصلها ولم يخترع شيئاً في دين الله تبارك وتعالى.
التشنيع على هذا المنهج بالافتراءات الظالمة هدفها قطع جذور هذا المنهج، أحد المعاصرين له كتاب اسمه: تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد، وأنا أعجب من صاحب هذا الكتاب، فهو يذكر الفرق والمذاهب السياسية المتفشية ويقول: التعريف الإجمالي آثارهم فرقهم المبادئ التي تجمعهم اختلافهم ومناقشتهم إلخ، ثم ذكر الجبرية، القدرية، المعتزلة، الأشاعرة، ثم وضع في ضمن الفرق: السلفية وقال: السلفيون، ثم يقول: ونقصد بالسلفيين أولئك الذين نحلوا أنفسهم ذلك الوقت، وسنناقش بعض آرائهم من حيث كونها مذهب السلف، وقد ظهروا في القرن الرابع الهجري، وكانوا من الحنابلة، وزعموا بأن جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي أحيا عقيدة السلف، وحارب دونها، ثم تجدد ظهورهم في القرن السابع الهجري، فأحياه شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم ظهرت تلك الآراء في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر الهجري إلى آخره، وقد ذكر جميع الفرق وقال مني كل فرقة: مذاهبهم آراؤهم أما عند ذكر السلفيين فانظر إلى العنوان الرئيسي في الصفحة حيث يقول: منهاج هؤلاء السلفيين! يعني: توتر في العبارة، وابتعد عن الإنصاف، لماذا بالذات عند ذكر السلفيين تقول: منهاج هؤلاء السلفيين؟ ثم انظر هذه الجملة التي هي في الحقيقة سهم الأقربين، وهي وسام شرف على صدر السلفيين يقول: علمنا أن المعتزلة نهجوا في بيان العقيدة الإسلامية منهجاً فلسفياً قبسوه من منطق اليونان ومن طرائق الفلاسفة في الجدل والمناظرة، وقد كان الدفاع عن الإسلام باعثاً لهم لأن ينهجوا ذلك المنهج -كأنه يدافع عن المعتزلة في سلوكهم هذا المنهج- وجاراهم في ذلك المنهاج الفلسفي الأشاعرة والماتريدية -وأيضاً الأشاعرة تلطخوا بالفلسفة والماتريدية كذلك-، وهؤلاء الأخيرون قاربوهم في أكثر ما انتهوا إليه من النتائج، وإن ناقشوهم على الأساس، ولقد جاء أولئك السلفيون فخالفوا ذلك المنهاج! انظر إلى المصيبة! السلفيون خالفوا ذلك المنهاج ورفضوا الفلسفة والمنطق اليوناني، ورفضوا علم الكلام، ما جريمة السلفيين؟! وهذا من باب (شهد شاهد من أهلها)، قال: جاء أولئك السلفيون فخالفوا ذلك المنهاج، وأرادوا -انظر يا لهول ما قال! - أن تعود دراسة العقائد إلى ما كانت عليه في عهد الصحابة والتابعين، -أنا أنقل إليكم من الكتاب دون واسطة- فلا يأخذونها إلا من الكتاب والسنة، فيأخذون من القرآن أصل العقيدة، والدليل الذي بنيت عليه العقيدة، ويمنعون العلماء من أن يفكروا في أدلة القرآن.
وإذا كان الباقلاني قد سوغ لنفسه أن يقيد السلفيون الناس بأدلة الأشعري فأولى ثم أولى أن يقيدوا الناس بأدلة القرآن، وفي الحقيقة من أراد أن يمدح المنهج السلفي فلن يجد أعظم من هذا الاقتباس كي يمدح به هذا المنهج العظيم.
وبعدما أفاض في الكلام، قال في آخره: مذاهب حديثة! يعني: هذه الفرق التي مضت هي المذاهب القديمة، والآن يتكلم عن المذاهب الحديثة، فتكلم على ثلاثة مذاهب، وقرن السلفيين بمذاهب حديثة فقال: الوهابية البهائية القاديانية! فانظر كيف يصل التوتر والتعصب إلى حد أن يدرج السلفيين ويقرنهم بالبهائية والقاديانية، ويسميهم: الوهابيين! نكتفي بهذا الاقتباس للتعبير عن نموذج من نماذج التشنيع على السلفية بالافتراءات الظالمة، وبالألقاب المنفرة.(41/21)
تحقيق السلفيين للولاء والبراء
قضية الولاء والبراء أكثر القضايا أدلة بعد قضية التوحيد، وأشد الناس حفاظاً على مفاهيم الولاء والبراء هم العلماء السلفيون، فموقفهم صارم من قضية التشبه بالكفار، وتذويب الهوية الإسلامية، ولعل أبرع وأنفس كتاب ألف في ذلك هو اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حتى أن الغماري -رغم عداوته الشديدة لـ ابن تيمية، وشتمه له في كل كتبه عندما يذكر هذا الكتاب لا يملك نفسه من الإعجاب بـ شيخ الإسلام، حتى إنه لا يذكر اسمه وإنما يكنيه فيقول: قال أبو العباس يعني بذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية؛ تكريماً له وإعجاباً بكتابه هذا.
السلفي يتصدى لمحاولة تمييع الإسلام، وتقسيمه إلى قشر ولب، كما يفعل بعض الناس ويقول لك: أنا متمسك بروح النصوص، وهم -علم الله- لا يرضيهم إلا إزهاق روح هذه النصوص! السلفيون هم الذين يقومون بالتصدي للغزو الفكري الدخيل، يقول المستشرق شاتليه: إذا أردتم أن تغزو الإسلام، وتخمدوا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم، وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم؛ فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية، بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم.
وهذا هو الانتماء إلى منهج السلف والإعجاب به، الآن الطلاب يدرسون حضارة الغرب، ويحفظون سير مفكريهم وتاريخهم؛ حتى تقطع الصلة بشريان الحياة -الذي هو الاعتزاز بهذا المجد- الذي يمثل القمة بالنسبة إلينا، والذي حققه السلف الصالح، يقول هذا المستشرق: عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية، بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم، وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، حتى ولو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها.(41/22)
صيانة الهوية الإسلامية من الذوبان
من فضائل السلفية صيانة الهوية الإسلامية من الذوبان، لم يحافظ أحد على الإطلاق على الهوية الإسلامية مثلما حافظ عليها المنهج السلفي، فالسلفية هي أشرف نسب ينتسب إليه الإنسان، أشرف نسب لمن أدى حق هذا الانتساب، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، وقال أيضاً: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، والله تعالى يقول: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، وأولى الناس بكل هذه النصوص هم من حققوا وصف السلفية.
وعوام الناس عندما يتفاخرون بالنسب فأشرف نسب على الإطلاق قطعاً هو الانتساب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لا بد أن يضم إلى شرف الانتساب لآل البيت شرف الانتساب إلى منهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فـ أبو لهب مات كافراً وهو عم النبي عليه الصلاة والسلام: لقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب كان شريفاً لكن لم يغن عنه نسبه شيئاً، فأشرف نسب هو الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا الفخر لأهل الحديث الذين هم أقرب الناس وأولى الناس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول عليه الصلاة والسلام: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين) من أجل ذلك فالسلفي الحق لا يُعرف إطلاقاً بما يسمى الآن بأزمة الهوية والانتماء، هذه الأزمة التي يشيع الكلام عنها الآن، ونرى آثارها في الشوارع الآن، نرى الشباب الذي يرفع علم أمريكا ويفتخر به، وهو في الحقيقة يفتخر بالذي يغل رقبته ويغل أمته! تحدث بعض الشباب الذين كانوا يلبسون البرنيطة مع الأستاذ الشيخ محمد المجذوب فقال له: يا بني! اخلع عنك هذه البرنيطة، فقال: لا أخلعها حتى تأتيني بحجة مقنعة، فقال: إن هذه البرنيطة هي رمز الذين أذلوا أمتك، وامتهنوا كبرياءك! هذه هي الحجة القاطعة! الآن يوجد فرع مكدونال هنا بجوارنا في نادي سموحة، ومكدونالد هذا يعني الاستعمار بالسندوتشات فإنه سيأكلها الناس في القاهرة، وعندما افتتحوا أول فرع له حضر الافتتاح السفير الأمريكي بجلالة قدره! فعلى أية حال، أزمة الهوية وأزمة الانتماء لا يمكن أبداً أن يقع فيها السلفي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: روينا عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما أنه سأل ابن عباس: (أأنت على ملة علي أو على ملة عثمان؟ فقال: لست على ملة علي ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الإمام مالك كان يحدث أصحابه يوماً فقص عليهم قصة رجل كان يحتضر فقال له بعض الحاضرين: أنت تموت على ملة من؟ فقال: أموت على ملة فلان! شيخ له أو زعيم، فعلق الإمام مالك بعد ما روى القصة وقال: يدع المشئوم ملة محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: أموت على ملة فلان! فالسلفي لا يمكن أبداً أن ينتسب إلى غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(41/23)
قاعدة: السنة هي الأصل والبدعة طارئة عليها
من الأمور المهمة التي نحتاج إلى ذكرها وهي في غاية الأهمية: أن السنة هي الأصل، أما البدع فهي طارئة عليها، يعني: إذا استتبعنا تاريخ ظهور البدع نعرف أن البدع تأخرت إلى أواخر عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وتصدى الصحابة لهذه البدع، فبعض الناس قد يسأل: منذ متى بدأ المنهج السلفي؟ ما هي بداية تاريخ أهل السنة والجماعة؟ متى ظهرت هذه الفرقة بهذا الاسم؟ عندما نتناول لقباً شريفاً كلقب أهل السنة والجماعة فإننا نعنى بالبحث عن نشأته أو بداية التميز باسم أهل السنة والجماعة كدلالة على اتجاه معين واعتقاد متميز، لكن لا نسأل أبداً عن تاريخ بداية مذهب أهل السنة والجماعة أو المنهج السلفي، ولا يصح أبداً السؤال عن بدايته ومتى بدأ؟ كل فرقة يصح أن تسأل عنها: متى بدأت؟ ومن أسسها؟ إلا أهل السنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وطريقتهم -أي: أهل السنة- هي دين الإسلام.
إذاًً: كلمة أهل السنة والجماعة هي الإسلام، يعني: أن هذا الشخص من أهل السنة أنه مسلم خال من البدع والضلالات التي شاعت في الفرق، فهذا يدل على أن التميز باسم أهل السنة والجماعة حصل عندما حدث الافتراق الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قبل ظهور الفرق لم يكن ظهر شيء من تلك المصطلحات مثل التسنن أو التشيع، كان الإسلام والمسلمون هم الاسم وهم المسمى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] أما تحديد بداية هذا التميز فيقول الدكتور مصطفى حلمي حفظه الله تعالى: كان المسلمون على ما كان عليه رسول الله من الهدى ودين الحق الموافق للصحيح المنقول، والصريح المعقول، فلما قتل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه ووقعت الفتنة واقتتل المسلمون بصفين؛ مرقت مارقة الخوارج التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق) وكان مروقها لما حكم الحكمان، وافترق الناس على غير اتفاق، فهذا أول صدع في وحدة العقيدة في الجماعة المسلمة، فحركة الخوارج تعتبر أقدم انشقاق ديني حدث في صفوف الأمة.
ثم حدث بعد بدعة الخوارج بدعة التشيع، وتصدى لهم الصحابة، فمثلاً: السبابة الذين كانوا يسبون أبا بكر وعمر لما بلغ ذلك علياً رضي الله تعالى عنه طلب ابن السوداء الذي تكلم بهذا الكلام وقيل: إنه أراد قتله، فهرب، وهو رأس الشيعة الذين غلوا وادعوا في علي الألوهية، وادعوا أن النبي عليه الصلاة والسلام نص على إمامته، وجمعوا إلى ذلك سب أبي بكر وعمر وقد عاتب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الخوارج وقاتلهم، أما مبتدعة الشيعة الذين زعموا فيه الألوهية فأمر بإحراقهم وقال في البيت المعروف: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبرا أما المفضلة الذين كانوا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر فروي عنه أنه قال: (لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد الفرية)، وتواتر عنه أنه كان يقول على منبر الكوفة: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر).
وفي بداية الأمر الابتداع لما ظهر لم يكن في الغالبية العظمى والقاعدة العريضة من المسلمين الذين التزموا بالسنة والجماعة، وكانوا غير محتاجين للتميز بهذا اللقب؛ لأنهم الأصل الذي انشق عنه المخالفون، فما احتاجوا إلى التميز باسم من الأسماء، ثم طرأت بعد ذلك الفرق الضالة المنحرفة، فالأصل ليس بحاجة إلى ما يميزه، إنما الذي يحتاج لاسم يميزه هو الفرع المنشق الذي سرعان ما يشتهر ببدعته حينما يتنكب السبيل.
أحد الأئمة الأذكياء دخل على أحد الخلفاء وعنده أحد الرافضة مقدماً ومعظماً فقال له: يا أمير المؤمنين! كيف تقرب الرافضة وقد سرقوا نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فانبرى له ذلك الرافضي فقال: لا تصدقه يا أمير المؤمنين! فإن الشيعة لم يكونوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ذلك العالم: هذا ما كنا نبغي، أن تعترف بلسانك أنكم فرقة طارئة على الأصل، فرقة طارئة يمكن تحديد بدايتها، ومن الذي أسسها، أما أهل السنة والجماعة فلا يحتاجون إلى السؤال عن بداية المذهب أو متى نشأ، بدايته لما نزل جبريل في ليلة القدر في غار حراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(41/24)
السلفية منهج ملزم لكل مسلم [2]
منهج أهل السنة والجماعة منهج قديم، لم يبتكر في عصر من العصور لا اسماً ولا رسماً، فتعلقه دائماً ملصق بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله، وبما أجمع عليه سلف الأمة، وساروا عليه، ولهذا المنهج مزايا وخصائص ميزته عن سائر الفرق، وجعلته دائم الثبات في كل العصور.(42/1)
بداية التسمي باسم أهل السنة والجماعة
الحمد لله الذي جعل اتباع رسوله على محبته دليلاً، وأوضح طرق الهداية لمن شاء أن يتخذ إليه سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد مخلص لم يتخذ من دونه وكيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اختص أمته بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير الناس هدياً وأقومهم قيلاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سئل الإمام مالك عن أهل السنة فقال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا قدري ولا رافضي.
يقول الدكتور مصطفى حلمي حفظه الله تعالى: إن أهل السنة والجماعة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ولا نستطيع أن نحدد لهم بداية نقف عندها كما نفعل مع باقي الفرق، والسؤال عن نشأة أهل السنة والجماعة سؤال ليس له موضع كما هو الحال إذا تساءلنا عن منشأ الفرق الأخرى، ولذلك الإمام اللالكائي رحمه الله تعالى افتتح كتابه القيم: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) بذكر أئمة السنة الذين ترسموا بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بذكر أبي بكر، ثم الخلفاء الثلاثة بعد أبي بكر، وبقية أهل العلم والدين من الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى زمنه رحمه الله، وقد ذكر كثيراً من أئمة أهل السنة في معظم الأمصار الإسلامية.
وقال ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم، وبداية التميز بين أهل السنة وغيرهم هي الفتنة التي وقعت في آخر عهد عثمان رضي الله تعالى عنه.
إذاً: خلاصة الكلام في هذه النقطة: السؤال عن نشأة مذهب أهل السنة كما يسأل عن نشأة سائر الفرق لا مكان له ولا محل له؛ لأن مذهبهم هو مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، لكن السؤال ينبغي أن يوجه إلى بداية التسمي بهذا الاسم؛ لا نشأة المسمى وهو المذهب وأهله، فمن الخطأ أن يخلط بين الأمرين، فبداية بروز الاسم غير بداية هذا المنهج.
فالأصل في التسمي بأهل السنة هو ما ورد من النصوص التي تأمرنا باتباع السنة وبلزوم الجماعة، فالتسمية مأثورة في السنة، وواردة في كلام السلف، أما بداية التسمي بهذا الاسم فهذا يعني أمراً آخر؛ لأن بعض الناس يخلط بين بداية التسمية وبين نشأة المسمى وهو المذهب وأهله، حتى رأينا من يتحدث عن السنة كأنها فرقة أو طائفة طارئة في الإسلام كسائر الفرق الأخرى التي انشقت عنها.
فمثلاً: الدكتور مصطفى الشكعا يزعم أن تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنة تسمية متأخرة يرجع تاريخها إلى حوالى القرن السابع الهجري، أي: بعد الإمام أحمد بأربعة قرون؛ وهذا كلام لا يثبت أمام التحقيق العلمي كما بينا؛ وإنما كلما هبت أعاصير البدع تجلى وشاع التميز لأهل السنة بسبب جهود علمائهم في المنافحة عن هذه السنة، وهناك رسالة بعث بها إلى المأمون نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي يكتب تقريراً للمأمون يتكلم عن الإمام أحمد ومن معه، فيقول: ونسبوا أنفسهم إلى السنة أهل الحق والجماعة، فواضح أن الاصطلاح كان بارزاً جداً في تلك المرحلة.
والعلاقة بين كلمة (أهل السنة) وبين كلمة (الجماعة) كالعلاقة بين الإسلام والإيمان، يعني: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ إذا ورد واحد منهما في النص فإنه يشمل المعنيين، وإذا اجتمعا في نص واحد افترقا، فيقال: أهل السنة والجماعة، فمعنى السنة: الاعتقاد الحق؛ والجماعة: أهل الاعتقاد الحق، فإذا قلت: الجماعة فقط، ففي هذه الحالة فإنها تجمع الاعتقاد الحق وأصحابه، وإذا قلت: السنة فقط، فإنها تجمع الاعتقاد الحق وأصحابه، فإذا اجتمعا معاً افترقا في المعنى، فدل كل لفظ على معناه الخاص به.(42/2)
خصائص أهل السنة والجماعة(42/3)
من خصائص المنهج السلفي: شيوع الاستدلال بالآيات والأحاديث
من خصائص المنهج السلفي الضبط الدقيق للعلاقة بين العقل والنقل، وهذا بحث كبير جداً لا نستطيع أن نوفيه حقه، لكن هذه من خصائصهم على سبيل الاختصار: الضبط الدقيق للعلاقة بين العقل والنقل.
رفض التأويل الكلامي.
كثرة الاستدلال بالآيات والأحاديث.
يبين الدكتور الأشقر حفظه الله تعالى في كتابه: (العقيدة في الله) أن هذه الخصلة ينبغي أن تشيع وتنتشر بين السلفيين، وهي: موضوع شيوع الاستدلال بنصوص القرآن والسنة، فهي التي ترطب القلب: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وتلينه من قساوته.
والحقيقة -وللأسف الشديد- أنه يشيع بين كثير من السلفيين مفهوم مؤلم جداً، وهو أنهم أحياناً ينزلقون إلى أساليب المتكلمين عند الاستدلال، يعني: نحن نذم الكلام والفلسفة ثم نكتب أحياناً بأساليب المتكلمين! ولعلكم تلاحظون هذا في بعض الكتب كشرح العقيدة الطحاوية، مثل مسألة التسلسل والدور ونحو هذا الكلام الكلامي الذي يتعذر على كثير من العقول فهمه؛ لأنه غير موافق للمنهج السلفي؛ وهذه الأساليب الكلامية الخالية من القرآن والسنة هي التي تجفف وتنشف القلوب، وهناك عبارة نطق بها بعض الدعاة -وهو ينتقد بعض كتب العقيدة- فقال: إن هذه النصوص فيها جفاف، ولا يمكن أن يظن بواحد من عوام المسلمين وجهلتهم أنه يقصد أن نصوص القرآن والسنة جافة، وأقل قدر من حسن الظن يقتضي أن تحمل هذه الكلمة على أنه لا يقصد القرآن والسنة، فإن هذا كفر، ولا تليق بعامي من عوام المسلمين، ولذلك بعض الناس أساءوا فهم هذه العبارة، وظلموا صاحبها ظلماً بيناً.
الذي يسبب الجفاف في القلب -وهو الذي نتكلم فيه- هو الوقوف مع ضوابط العقيدة، وتناولها بأسلوب كلامي متناقض تماماً مع منهج السلف، حتى إن بعض الدعاة أراد انتقاد السلفيين يوماً فكان مما قال: إن السلفيين يعتمدون في تناول العقيدة على علم الكلام؛ وذلك من كثرة ما شاع في الكتب من علم الكلام وأسلوب أهل الكلام في تناول قضايا العقيدة، حتى إن هذا الشخص الجاهل بحقيقة المنهج السلفي شنع على السلفيين بأنهم أهل كلام، فالسلفية تقوم أساساً على محاربة أهل الكلام والفلسفة، الإمام الشافعي رحمه الله يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر، وينادى: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة إلى ما عداهما أو كما قال رحمه الله.
فإذاً: السلفية تتميز بمحاربة علم الكلام، وتبديع أهله، وهجرهم وذمهم، والمشكلة أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كان يناظر هذه الفرق كلها، فاستلزم الأمر أن يقاتلهم بأسلحتهم في كثير جداً من الأحيان، فبعض السلفيين يأخذ من شيخ الإسلام مثل هذه الأساليب في حين أنهم ليسوا في وضع مثل وضع شيخ الإسلام، حتى إن طلبة العلم الصغار يتدارسون هذه القواعد، وهذا خطأ، فهذه فرض كفاية على طائفة معينة من المتخصصين، أما أن نجعل الأصل هو تناول العقيدة بطريقة كلامية فهذا لا يمكن، وهذا هو الذي أحوج شرح الطحاوية إلى كثير من الاختصار لكي يحرر من هذه النصوص الجافة، ونعني بها أساليب علم الكلام التي تؤثر على قلوب الناس، والتي تقسي القلب وتجففه.
فالسلفية قائمة على نبذ الفلسفة، ونبذ علم الكلام، يقول بعض العلماء: يا أيها الرجل الذي هو جاهد في الفلسفة ماذا يروقك من تعلمها وأكثرها سفه فالفلسفة أو علم الكلام كلاهما مرفوض تماماً، ولا يجوز أبداً أن يسمى علم العقيدة أو مسائل الإيمان أو التوحيد بعلم الكلام، هذا نوع من العدوان، والشيخ الجديع في كتابه: العقيدة السلفية في كلام رب البرية له كلام رائع في الرد على من يسمون العقيدة بعلم الكلام.(42/4)
من خصائص المنهج السلفي: أنه وسط بين الفرق
من خصائص السلفية أنها المنهج الوسط بين الفرق، كما أن الإسلام وسط بين الأديان؛ في كل قضية من قضايا العقيدة تجد السلفية وسط، في قضايا الكفر والإيمان هم وسط بين إفراط الخوارج وتفريط المرجئة، في مسألة القضاء والقدر هم وسط بين المرجئة وبين القدرية، وهكذا في عامة قضايا الإيمان نجد أن مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب السلف وسط بين هؤلاء الفرق النارية، كما أن الإسلام وسط بين الأديان.
ومن هنا نضع تعريفاً للمتطرف؛ فالمتطرف: هو الذي يأخذ بأطراف الأمور، فيتطرف إلى الغلو أو الجفاء.
يقول الشاعر: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً والخلاف في تعريف كلمة المتطرف ناشئ عن تحديد ما هو الوسط؟ نحن نقطع جزماً أن الوسطية والاعتدال هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الوسط، فكل من حاد عنه يمنةً أو يسرةً فهو متطرف، من حلق لحيته فهو متطرف؛ لأنه انحرف عن هديه عليه الصلاة والسلام، ومن صافح النساء فهو متطرف؛ لأنه خالف هدي النبي عليه الصلاة والسلام وأمره.
إذاً: المتطرف هو كل من ليس مسلماًَ من أهل السنة والجماعة، (كل من ليس مسلماً) يعني: كل يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بوذي، كل من ليس مسلماً فهو متطرف، فلا تصدقوا ما تسمعونه في نشرات الأخبار: قام بعض المتطرفين اليهود بفعل كذا وكذا، فكل يهودي متطرف؛ لأنه ليس من الأمة الوسط الذين هم أهل الاعتدال.
كذلك: كل مسلم ليس من أهل السنة والجماعة فهو أيضاً متطرف من حيث بعده عن منهج السلف.
يقول تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدع والافتراق، والآن كلما ازددت ارتباطاً بأصول السلف الصالح زاد حظك من وصف التطرف، فهذا هو التطرف عندهم! إن كان الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام تطرفاً فليشهد الثقلان بأني متطرف، إذا كان التمسك بالإسلام تطرفاً -قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:170]- فنحن متطرفون قطعاً، لكن في الحقيقة المتطرف: هو من حاد عن الإسلام أو عن منهج أهل السنة والجماعة؛ لذلك كلما زاد ارتباطك بالأصول زاد قدر الأعداء، بعض الجماعات المتسيبة تفرح عندما يصفها بعض الصحفيين العلمانيين أو أعداء الإسلام بأنها جماعة معتدلة، وهذا الوصف منهم لا يشرف في الحقيقة، فيجب عليها أن تراجع منهجها، وتراجع أصولها، يغازلون هذا الجماعات بأنها معتدلة، فلماذا السلفيون -عندهم- متطرفون؟ لأنهم يتمسكون بالفهم الصحيح للإسلام.
السلفية هي دعوة العلم والبصيرة، موقف السلفية من العلم الصحيح مشهور، يهتمون بالتحقيق واتباع الدليل، وهذه القضايا كلها موقف السلفيين منها معروف ومشهور لا نفيض في ذكره.(42/5)
من خصائص المنهج السلفي: أنه عاصم من الحيرة والتلون
من خصائص السلفية ما يعبر عنه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، السلفية عاصمة من الحيرة والتلون، وهي سبب من أسباب الثبات على الدين، فالسلفي هو من حفظه الله سبحانه وتعالى وعصمه، ومن نشأ على المنهج السلفي فقد وفر كثيراً من عمره، أما غير السلفي فدائماً يتلون: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل فالسلفي الحق لا يتلون، تعطيه السلفية نوعاً من الثبات، الثبات على المنهج، والوضوح في الانتماء، فطريق السلفية غالباً طريق في اتجاه واحد، قد يرتد بعض الناس لا عن السلفية فقط لكن عن الإسلام كله والعياذ بالله! هذا وارد، لكن القاعدة أنه طريق ذو اتجاه واحد، من مشى فيه لا يرجع إلى الوراء، مثال ذلك: ما جاء في حديث هرقل لما قال لـ أبي سفيان: (وسألتك هل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب).
ولذلك لا تجدون أبداً عالماً سلفياً يرتد ويرجع إلى الأشعرية أو الاعتزال أو مذهب الخوارج أو غيره، لكن نجد كثيراً جداً من رءوس هذه الفرق يهديهم الله سبحانه وتعالى إلى الحق، ويلحقون بقافلة السلفيين، والأمثلة كثيرة جداً، وأشهرها على الإطلاق الإمام أبو الحسن الأشعري الذي مر بمرحلة الاعتزال، ثم مرحلة التأويل -وهو المذهب الشائع الآن- ثم بمرحلة التزام المنهج السلفي.
ووالد إمام الحرمين عبد الله بن يوسف أبو محمد الواسطي الشافعي ألف رسالة يقول فيها: كنت برهة من الدهر متحيراً في مسألة الصفات والفوقية والكلام في القرآن الكريم، وكنت متحيراً في كذا وكذا، وحكى رحلته مع المنهج، وأنه كان في حيرة وتردد وصراع نفسي ما بين هذا الكلام الذي تعلمه في هذا المذهب غير السلفي وبين نصوص القرآن والسنة، إلى أن هداه الله سبحانه وتعالى، وصار من أئمة أهل السنة، وله رسالة ينصح الناس فيها ويدعوهم إلى مذهب السلف.
ويوجد كتاب: التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار، ألفه الشيخ الإمام عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي وفي كتاب آخر غير هذا الكتاب حكى فيه قصة اهتدائه على يد شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو كلام في غاية الروعة في الحقيقة.
هذه النماذج تدل على أن السلفية عصمة من الحيرة والتلون، فالذي ينشأ على المنهج السلفي لا يتلون، بينما تجد جماعة التكفير والخوارج الجدد، يتنقل أحدهم من فرقة إلى فرقة، والفرقة يحصل فيها انشطارات داخلية، فتنقسم الفرقة الواحدة إلى فرقتين، ويكفر بعضهم بعضاً، وقد يقاتل بعضهم بعضاً! وهكذا.
فمن طبيعة المنهج السلفي أنه يجمع، فهذا من خواصه الكامنة فيه، فالمنهج السلفي منهج تجميع، ولذلك دائماً تقترن السنة بالجماعة (أهل السنة والجماعة) السنة في مقابلة أهل البدع، والجماعة في مقابلة الافتراق، الحق واحد، أما الباطل فكثير، والقرآن دائماً يأتي بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً -ثم ذكر العلاج- فعليكم بسنتي)، فالسنة هي علاج الفرقة.
وهنا تجربة واحدة أشير إليها باختصار، وهي تجربة الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى وعفا عنه: الإمام الغزالي تجول في كثير من المناهج المنحرفة والضالة، أمضى معظم عمره في التجول والبحث عن الحق في هذه الفرق، وللأسف الشديد لم ينتبه إلى منهج النجاة الحقيقي -وهو منهج أهل السنة والجماعة والمنهج السلفي- إلا في آخر عمره، وحاول أن يكفر عما مضى بأن ينهل ما استطاع من القرآن والسنة، حتى أنه مات وصحيح الإمام البخاري على صدره! فالإمام الغزالي يعتبر تجربة فريدة تستحق أن تدرس؛ ليتبين فضيلة المنهج السلفي، وكيف أن من أراد الله به خيراً يئول حاله في النهاية إلى الندم على ما مضى، وإلى الانتقال إلى المذهب السلفي، ومن الرسائل التي تناولت تجربة الغزالي كتاب الأخ عبد الرحمن دمشقية: أبو حامد الغزالي وكتابه إحياء علوم الدين، أو أبو حامد الغزالي والتصوف، وهذه الرسالة سبق أن درسناها منذ زمن.
وهذه مقارنة بين الغزالي وابن تيمية كتبها رجل هو من أخبر الناس بتراث ابن تيمية وهو الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى، يقول: لا شك أن الغزالي وابن تيمية من أكبر علماء هذه الأمة، وهما من الرجال الذين ملئوا الدنيا، وشغلوا الناس، فقد أحب كلاً منهما فريق من المسلمين، حتى وصلوا في محبته إلى درجة التعصب، والواقع أنني لا أقصد بالمقارنة بين شخصية وآراء الرجلين مجرد المتعة الذهنية، بل إنني أقصد بذلك الموازنة والمفاضلة بين أكبر تيارين فكريين يؤثران على المسلمين حتى أيامنا هذه، فـ الغزالي يمثل التيار الأشعري الصوفي، وابن تيمية يمثل التيار السني السلفي، ولكل من التيارين أنصاره ورجاله، إلى أن يقول الدكتور رحمه الله تعالى عبارة قوية جداً يقول: ولن أحاول أن أدعي حيازاً كاذباً بين الاتجاهين، بل إنني أحدد موقفي بوضوح فأقول: إنني أعتقد أن نهضة المسلمين وانبعاثهم من رقدتهم وغفوتهم إنما تتوقف إلى حد كبير على مدى أخذهم بهذا التيار السلفي السني، أخذاً قائماً على الفهم والدراسة والعلم والعمل بالعلم، لا أخذاً قائماً على التعصب الفارغ والحماسة العاطفية.
ثم يختم بنصيحة رائعة جداً يقول: فليحرص المسلمون على بداية أبنائهم، وتنقية ثقافة شبابهم؛ حتى نعود إلى أصالتنا، ونتحرر من الآثار المدمرة للغزو الفكري الدخيل القديم والحديث.
انظر إلى كلمة: (على بداية أبنائهم) فهو ينبه على أن البداية مهمة جداً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن يقيض لك أهل السنة والجماعة عند نقطة البداية.
ونماذج الحيرة والتلون بسبب البعد عن المنهج السلفي كثيرة، وكثير من أهل الكلام كـ الرازي والجويني وعامة علماء الكلام ندموا بعدما أنفقوا عمرهم في لا شيء.
الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى -وهو من أفاضل علماء السلفيين المعاصرين، ومن علماء أنصار السنة- كان له قصة مع السلفية، فهو أراد أن يقدم دراسة عليا ينتقد فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال له أستاذه: ما وجدت أحداً أعفش -هذه عبارته- من ابن تيمية حتى تقدم فيه دراسة؟ قال له: أنا أعمل دراسة حتى أبين عفاشته! وأنا لا أدري هل هي كلمة فصيحة أم لا؟! لكن هذا هو اللفظ الذي سمعته، فذهب إلى الشيخ محمد منير آغا الدمشقي رحمه الله تعالى، وكان عالماً سلفياً، وكانت عنده مكتبة قيمة جداً، فشرح له مراده، فالشيخ محمد منير آغا تلطف بالدكتور خليل هراس رحمه الله، وما اشتد عليه، مع أنه قال: أنا أريد أن أبين عورات منهج ابن تيمية، وكان عنده فراسة وبصيرة، فماذا فعل؟ وفر للدكتور خليل هراس رحمه الله تعالى كتب شيخ الإسلام فأخذ ينهل منها وينهل، وإذا به ينتهي بالبحث المشهور المتداول الذي اسمه: ابن تيمية السلفي، وقد كان عنوان بحثه: ابن تيمية ليس سلفياً، فتحولت الرسالة إلى: ابن تيمية السلفي، فأصبح مدافعاً عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.(42/6)
من خصائص المنهج السلفي: أنه يحتكر مهمة تجديد الدين
من خصائص السلفية: أن السلفية تحتكر مهمة تجديد الدين، لا يمكن أبداً أن يكون شخص يصدق عليه وصف مجدد وهو خارج من أهل السنة والجماعة، يشترط في المجدد أن يكون منتمياً إلى المنهج السلفي، وإلى منهج أهل السنة والجماعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)؛ لأنه إذا لم يكن المجدد من أهل السنة والجماعة فماذا سيجدد؟ لو كان المجدد خارجياً -مثلاً- فإنه سيضيع الدين، فمن شروط المجدد أن يكون ممتثلاً دعاء المؤمنين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] اجعلنا نقتدي بمن قبلنا فنصلح لأن يقتدي بنا من بعدنا.
عندما نتكلم عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الكلام على معجزة هي من أقوى معجزاته عليه الصلاة والسلام، وهي آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في البشرية، فقد أحيا أمةً ميتة، وأخرجها من الهوان والذل والجهل إلى أن صيرها خير أمة أخرجت للناس.(42/7)
المنهج السلفي طريق عزة المسلمين
قال النبي عليه السلام: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) فالعز مرتبط بالرجوع إلى الدين.
وتعلمون قصة عمر لما ذهب إلى بيت المقدس، فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ولما اقترب عمر من بحيرة صغيرة نزل عن الناقة وخلع نعليه ووضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام الناقة وخاض في الماء فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أنت تفعل هكذا؟! ما يسرني أن أهل الشام وبطارقة الشام استقبلوك، فقال رضي الله عنه: أوه! لو قال ذا غيرك يا أبا عبيدة لجعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم! وفي هذا فائدة: وهي مراعاة أقدار الرجال، قال: لو قال ذا غيرك لجعلته نكالاً، لكنه لم يفعل مراعاة لقدر أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح: قال: أوه! لو قال ذا غيرك يا أبا عبيدة لجعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، جملة شرطية وهي من صيغ العموم، مهما نبتغي العزة في غيره أذلنا الله، والله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، فما دمنا نكفر بنعمة الله فإننا سنعود إلى ما كنا عليه أذل قوم، حتى إن أخبث خلق الله وأرذل خلق الله -وهم اليهود لعنهم الله- يذلوننا هذا الذل، ولا مخرج لنا منه إلا بالعودة إلى التماس العزة في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إن الباطل قد يعلو لكنه علو الزبد والاستكبار، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
قال عليه الصلاة والسلام: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وهذا أوضح دليل على أن التمكين لا يقع إلا بهذا المنهج، وتأملوا القضية! ليست قضية إقامة دولة، فهناك دولة تدعي زوراً أنها جمهورية إسلامية -وهي إيران- ولكنها وبال على الإسلام والمسلمين، وهناك صراع الآن يجري في أفغانستان بين هذه الفصائل المعروفة في أفغانستان، يقتل ويدمر بعضهم بعضاً كالوحوش الضارية ولا حول ولا قوة إلا بالله! وتأملوا موقفهم! ماذا كان موقفهم من العقيدة السلفية؟ قتل الشيخ جميل الرحمن بسبب منهجه السلفي، فهل هؤلاء يصلحون لأن يكونوا دولة إسلامية؟ لا بد أن يبنى البناء على أساس العقيدة والفهم الصحيح؛ الإمام مالك يقول: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لم يظهر دين محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأديان إلا بأهل السنة، فالصحابة جاهدوا وانتشروا في آفاق الأرض ينشرون نور الله سبحانه وتعالى في ربوع العالمين، وأحسنوا إلى البشرية هذا الإحسان.
إذاً: كلمة الله هي المتمثلة في المنهج السلفي أحسن تمثل، ونحن لسنا الذين نرفعها، إنما نحن نرتفع بها؛ نحن نرتفع بهذا المنهج، وإذا سلكناه فإننا نكون مستحقين للتمكين الذي وعده الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، فكلمة الله لا يرفعها البشر؛ لأن كلمة الله مرفوعة على كل حال، ولذلك قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]؛ ويقول في الآية الأخرى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة:40] وإعراب: (السفلى) يكون مفعولاً به ثاني، والمفعول الأول (كلمة)، هذا في قوله: (وجعل كلمة) أما قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40] فهذا استئناف وليست معطوفة على ما قبلها وإلا لكانت منصوبة؛ لأن كلمة الله عليا في كل الأحوال، والباطل يرتفع مثلما يرتفع الزبد أو الفقاعات الهوائية على سطح الماء لفترة محدودة، لكن لا تلبث أن تتلاشى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلينا كي نرفع كلمته، لكننا نرتفع بكلمة الله، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10].
فمنهج أهل السنة والجماعة هو الدواء الأمثل الذي يستطيع التعامل بنجاح مع الأجواء التي انتشرت في واقع المسلمين المعاصر تماماً كما فعل من قبلنا، فهذا الواقع الأليم ليس له حل إلا أن نرفع شعارين: الأول مع بعض التجوز: الإسلام هو الحل، الثاني: السلفية هي الحل.
وقد سبق أن بينا أن الإسلام وحده لا يكون هو الحل، فالإسلام هو قرآن وسنة بفهم سلف الأمة، فإذاً: هناك شعار آخر، وحتمية الحل السلفي ليست مسألة اختيار، ولكنها طريق متعينة للتمكين لدين الله سبحانه وتعالى في الأرض، وأهمية ذلك تكمن في النماذج التي نراها.
الدولة الشيعية في إيران دولة تدعي أنها إسلامية، وفيها شيء كثير من الأشياء الطيبة -إذا سمعت عن أحوالهم- لكنها على غير أساس من العقيدة الصحيحة، فهي وبال على الإسلام في الحقيقة، وهذا موضوع طويل وكبير جداً لا نستطيع أن نخوض فيه الآن، والأفغان ضيعوا منهاج النبوة، وانتشرت فيهم الشركيات، ولم يهتموا بتصحيح العقيدة، وحاربوا السلفيين الذين دعوهم إلى العقيدة، فكان ما كان وما نراه الآن من هذه المآسي.
وأقول أخيراً: المنهج الوحيد الذي قدر على أن يقيم دولة في هذه العصور المتأخرة، وهو المنهج الوحيد الذي قام على منهج السلف: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، والتي لا زالت أصداؤها وبركاتها إلى اليوم وإلى ما شاء الله سبحانه وتعالى تتردد في ربوع العالمين.(42/8)
من خصائص المنهج السلفي: أنه الميزان الحقيقي لكل الناس
من خصائص المنهج السلفي أنه الميزان لجميع الناس، البشر غير معصومين، وهم الذين يوزنون به، فليس لأحد الحق في أن يحتكر مفتاح الدخول إلى السلفية عن طريقه، كأن يقول لك: وافقني وتابعني وإلا فأنت كذا وأنت كذا من هذه الألقاب التي يتنابزون بها، ويكفي للتدليل على أصالة هذه القاعدة أن أعظم من خدم المنهج السلفي من بعد القرن السابع هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن تيمية مع أنه أعظم من خدم هذا المنهج هو نفسه حوكم بالمنهج السلفي، فإذا افترضنا جدلاً صحة ما نسب إلى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم من القول بفناء النار، فماذا كان موقف علماء السلف من هذه القضية؟ مع أن منهم من يقول: هو لم يقل ذلك؛ لأن هذا كلام في غاية الخطورة، ففيه خرق للإجماع، ومنهم من اعتذر عنه، ومنهم من أول كلامه بأنه يقصد فناء طبقة معينة من النار وهي طبقة عصاة الموحدين.
لكن هل يوجد أحد من علماء السلفيين وافق ابن تيمية لأنه ابن تيمية؟ لا نعرف هذا، فهذا يدل على أصالة هذا المنهج، وأن هذا المنهج هو الميزان، وأن السلفية لا تعرف صكوك غفران ولا بابيه، لا يوجد في السلفية: إن فلاناً هو باب إلى السلفية لا يمر إليها إلا من خلاله، ولا يتشرف بالمنهج أحد إلا إذا أعطاه الصك، فنحن لا نجزع إذا صدرت مخالفة أو اجتهاد خاطئ من بعض أعلام السلفية؛ لأننا نثق أن المنهج يعلو فوق الأشخاص، حتى إذا وجد خطأ من بعض من ينتسبون إلى السلفية فنكون مطمئنين تماماً؛ لأنه ما دامت الأرضية واحدة، والأصول التي يتحاكم إليها واحدة؛ فيسهل جداً حسم أمثال هذه القضايا.(42/9)
علاقة المنهج السلفي بالتوحيد والعقيدة
تعتبر العقيدة قطب رحى المنهج السلفي، وهي المحور الذي تدور عليه، وهذا من أعظم مناقب المنهج السلفي على الإطلاق، وهو القيام بصيانة جناب التوحيد، وتعظيم قدره، والتصدي لجميع المظاهر الشركية، ولا يعرف أحد يهتم بالتوحيد كما يهتم به علماء السلفيين في كل العصور، ويصح فيهم العبارة التي قالها البعض: ليس التوحيد علماً ينتقل منه إلى غيره، ولكنه علم ينتقل معه إلى غيره.
فاهتمام السلفيين بقاعدة التوحيد، وإعطاء الأولوية المطلقة لدعوة التوحيد، هذا متوائم تماماً مع رسالة القرآن؛ لأن القرآن كله أمر بالتوحيد، والقرآن إما إخبار بالتوحيد، أو أمر بالتوحيد، أو تحذير من الشرك الذي يضاد التوحيد، أو بيان لدعوة الرسل للتوحيد، وموقف أممهم من التوحيد، وجزاء الذين يتبعون التوحيد، وجزاء الذين انحرفوا عن التوحيد، وحقوق التوحيد من الأحكام الفقهية والعبادة وغير ذلك، إذاً: كل القرآن في التوحيد.
وأيضاً السلفية تعتبر أعمق مظاهر التغيير العقدي، لا تحتقروا هذه الوظيفة، كونك تأخذ بيد شخص وتخرجه من عقيدة زائفة صوفية شركية باطلة إلى عقيدة السلف هذا إنجاز في غاية الخطورة، فبعض الناس إذا ذكرت عنده كلمة التغيير يصرفها إلى مفهوم الانقلابات، وإلى إقامة حكم إسلامي، ويحتقر كل ما عدا ذلك من التغيير، فأعمق صور التغيير هي تصحيح عقيدة الناس، وهي بلا شك من أعظم وأقدس الوظائف التي يقوم بها المنهج السلفي.(42/10)
الرد على من يزعم أن قضايا العقدية قضايا نظرية
بعض الناس يسمون قضايا العقيدة قضايا نظرية، ويقولون: مالكم تحيون معارك تاريخية عفا عليها الزمان، ونحتاج إلى توضيح هذه الشبهة.
أولاً: قولهم إنها قضايا نظرية.
نقول: كيف تكون قضايا نظرية والاعتقاد والتصديق أساساً هو عمل القلب؟! الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] فالقلب يكسب ويعمل، ويبغض ويحب، ويوالي ويعادي، فهذا كله عمل قلبي، وهو ركن من أركان العبادات القلبية، والعبادات القلبية أخطر من كل أنواع العبادات الأخرى، وكبائر القلب أخطر من كبائر الجوارح، فنقول: ليست كل القضايا العقدية هي عبارة عن ردود أفعال تجاه معارك تاريخية، لا، أنتم تعرفون أن أي مذهب شيوعي أو ماركسي له جانب نظري اعتقادي أو أكاديمي كما يقولون، ثم هناك جانب تطبيقي بعد ذلك، فلا يوجد مذهب إلا ويلزم أن يكون له ميثاق نظري يضبط أصوله وقواعده.
فكذلك هنا بالنسبة للمنهج السلفي أنت لا تستحق وصف الإيمان إلا إذا آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى، وهذا قول مجمل كما في حديث جبريل، وفسره القرآن والسنة، وأنت مطالب باستيعاب هذه النصوص بقدر استطاعتك حتى يصح وصفك بالإيمان.
فإذا تأملنا مثلاً أعظم آية في كتابة الله، هل سيسميها هؤلاء القوم آية نظرية لا داعي للاهتمام بها، مع ما لها من الفضائل؟ أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى، نفي وإثبات، نفي النقص، وإثبات الكمال قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] إلى آخر الآية.
ما هي السورة التي هي تعادل ثلث القرآن؟ سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن، ليس فيها إلا صفة الله سبحانه وتعالى، فالعقيدة ليست قضية نظرية، وهذا من جهل هؤلاء الناس الذين يزهدون في تعلم التوحيد بحجة أنها قضايا نظرية ينبغي الاشتغال بما وراءها.
ثانياً: إن الاهتمام بالقضايا العقدية إحياء لمعارك تاريخية.
نقول: نعم، إذا كانت الفرقة قد انقرضت، وقامت مساجلات ومعارك بين أهل البدع وبين علماء السلفيين فيما مضى، وانقرضت هذه الفرقة الآن؛ فعموم الناس وعموم طلبة العلم لا يحتاجون إلى الخوض وتجديد وإحياء معارك قديمة، لكن إذا كانت الانحرافات والضلالات والبدع الضالة سائدة وموجودة فيتعين على المسلم أن يتعلم ما يدفع به هذه الشبهات، فمثلاً: من خصائص السلفية صيانة التاريخ السلفي، وتحديد موقفنا مما شجر بين الصحابة كما هو منصوص عليه في متون الاعتقاد، فهل هذه قضية تاريخية؟ انظروا في كتب التاريخ التي تدرس لعامة الطلبة في المدارس، بكافة مراحلها، كيف تتناول الصحابة رضوان الله تعالى عنهم؟ كيف تتناول معاوية رضي الله عنه؟ كيف تتناول عمرو بن العاص؟ عمرو بن العاص الذي له في عنقنا -أهل مصر- أعظم المنة، عمرو بن العاص الذي قيضه الله لأن ينقذنا من الكفر إلى الإيمان، ومن الظلمات إلى النور، عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ماذا يقال عنه في كتب التاريخ؟ تجد فيها سب بعض الصحابة، وهذا موجود، فهل يقال: هذا إحياء لمعارك تاريخية؟! دولة الرافضة موقفها من الصحابة لا يخفى، ولابد من توعية حتى لا يلتبس الأمر على الشباب.
وهكذا قضية الاعتقاد في صفات الله، ما هو المذهب المعتمد الآن في مصر وفي كثير جداً من بلاد العالم الإسلامي؟ المذهب المعتمد هو منهج الأشاعرة أساساً، وفي بعض البلاد مذهب الماتريدية.
يوجد الآن في عمان وبقاع من الجزائر وليبيا مذهب الإباضية من الخوارج، فضلاً عن الفرق التي ظهرت كفرقة التكفير والهجرة أو الخوارج الجدد.
مذهب المعتزلة الآن منهج محترم تماماً، ويدرس منهجهم في الجامعة، ويتحدث عن أبطال المعتزلة، ومآثرهم في الإسلام وكذا وكذا!! وهذا موجود في كراسي الجامعة.
فإذاً: الضلالات منتشرة في الحقيقة، ونحن نحتاج إلى المناعة من هذه الضلالات، وليست القضية قضية إحياء قضايا تاريخية كما يزعم هؤلاء الناس.(42/11)
التفريق بين العقيدة وضوابطها
هنا نقطة مهمة جداً، وهي تهتم ببذل النصيحة للسلفيين أسداها فضيلة الدكتور عمر الأشقر حفظه الله تعالى، وهي بعنوان: ضرورة التفريق بين العقيدة وبين ضوابطها، يقول الدكتور الأشقر حفظه الله تعالى: هنا أمر عظيم لا بد أن يتنبه إليه، ألا وهو الفارق بين العقيدة وبين القواعد والضوابط التي وضعها علماؤنا في تمييز معتقد أهل السنة حماية لهم من أن يلتمس بغيره، ومخافة أن يضل المسلمون في باب الاعتقاد، والاعتقاد: هو العلم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وقد تكفل الكتاب والسنة بتوضيح هذه الأصول توضيحاً ليس عنه بديل.
لا بد من أجل أن تدرس العقيدة وتكون مؤمناً مستحقاً لوصف الإيمان أن تعرف كيف تؤمن بالله؟ كيف تؤمن بأركان الإيمان الستة؟ أما ضوابط الاعتقاد: فهي تلك القواعد المنهجية التي تعصم صاحبها من الضلال في باب الاعتقاد، وقد وضع علماء أهل السنة والجماعة هذه القواعد في مقابل انحرافات الفرق الإسلامية في مجال الاعتقاد، فإن عامة المتون التي ألفت أو الكتب التي ألفت في شرح عقيدة أهل السنة والجماعة هي تدور حول قضايا أصول الدين في مقابلة الانحراف في هذه القضايا، وهي أحياناً لا تستوعب جميع القضايا، إنما فقط تخص القضايا التي تحقق اختلافاً في العقيدة، فيأتي بعقيدة أهل السنة والرد على البدع الضالة في نفس هذه العقيدة، فهذه الضوابط في غاية الأهمية لأنها تعصم من الانحراف في مجال الاعتقاد، وتحصن المسلم ضد تلك الانحرافات وذلك الضلال، فالعالم بهذه الضوابط يعرف كيف يرد على شبهات الخصوم ودحضها، وتحتاج دراستها إلى وقت طويل، لكن يقول الدكتور الأشقر: وأحب أن أقرر هنا أن هذه الضوابط والقواعد مع عظيم أهميتها لا يمكن أن توجد العقيدة الحية النابضة الدافعة إلى العمل والجهاد والمجاهدة، إن العقيدة التي ننشد إقرارها في أعماق النفوس وخفايا القلوب لا يمكن أن تبنيها القواعد الجافة، والضوابط المقننة، إن هذه الضوابط كالحائط الذي يوضع على حافة الطريق ليمنع السالكين من الخروج عن الجادة السوية، ولكن الحواجز التي تحجز السالكين عن الانحراف لا يمكن أن تمنح السالكين القوة الدافعة التي تجعلهم ينطلقون في مسارهم بالسرعة المطلوبة؛ إن الذي يوجد القوة الدافعة النابضة في أعماق النفوس لون آخر من العقيدة، وأعني بذلك العقيدة التي تقوم على العلم الذي يسوقه القرآن والسنة في الحديث عن الله وعظمته وقدرته، ورحمته وهدايته، وأفعاله في خلقه.
وهو نقل هذه المسألة عن السفاريني حيث يقول: فما ينبغي أن يعلم أن القواعد الكلامية ما رتبت هذا الترتيب وبوبت هذا الترتيب لتؤخذ منها الاعتقادات الإسلامية والقواعد الدينية، بل المقصود منها ليس إلا دفع شبه الخصوم، ودحض نهج أهل البدع والضلال.
ثم يقول الدكتور الأشقر: وإذا كان الأمر على ما بينت فإن مسايرة العاملين بالإسلام تحتاج إلى شيء من المراجعة والتدقيق، فليس العقائديون هم الذين يعلمون ضوابط العقيدة وحدها، ويعنون بها عنايةً كبيرة، ثم يظنون أنهم حققوا المطلوب، وأصبحوا الفئة المختارة المتميزة عن غيرها، إن معرفة الضوابط والعلم بها أمر ضروري ولكنه لا يكفي، والذي يجب أن تشغل به الجماعات ويشتغل به الأفراد شغلاً كبيراً هو بناء المعرفة الواسعة بالله، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر.
تعرفون مجموعة الدكتور الأشقر (العقيدة في ضوء الكتاب والسنة) هذه هي العقيدة، وبعض كتب التوحيد تفصل الاعتقاد مثل معارج القبول مثلاً، وبعض الكتب العقدية فيها بعض الزلل، وهي لا تكفي في استيعاب العقيدة التي تتفاعل مع الخلق كما قال تبارك وتعالى في شأن المؤمنين: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج:26 - 27] فالإشفاق يحصل من التصديق الذي يترتب عن التأثر بهذه النصوص.(42/12)
من خصائص المنهج السلفي المهمة
من خصائص السلفية سد ذرائع الشرك، والكلام في هذا طويل جداً.
كذلك: السلفية درع الأمة الواقي من الضلالات القديمة والمعاصرة، ومعروف كلام السلف في ذم أهل الهوى والبدع، وكيف حذروا منهم، وهذا موضوع مستقل، وهناك مواقف محددة للسلفية من هذه الفرق مثل الأشاعرة الماتريدية الشيعة الخوارج المعتزلة الصوفية وأيضاً الفرق المعاصرة.
كذلك من خصائص السلفية: التزكية التي هي وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، فالسلفية لا بد أن ينعكس فيها السلوك العملي، فنحن لا نجزئ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هدي محمد صلى الله عليه وسلم شامل في كل أحواله، في عقيدته في عبادته في جهاده في سلوكه، فالسلفية لها منهج شامل لكل نواحي الحياة.
عن عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلةً عند أحمد بن حنبل فجاءني بماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل! هذا هو المنهج السلفي، فيحتاج الأمر للمقارنة بين منهج التزكية -تصفية النفوس وتزكيتها- عند أهل السنة الجماعة والصوفية، لكن نحيل إلى مصادر تتتبع أحوال السلف في جانب العبادة مثل كتاب حلية الأولياء وسير أعلام النبلاء.
كذلك من خصائص السلفية: الاتباع، فإن الاتباع هو ثمرة محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمرنا به في القرآن، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فالسلفية موقفها معلوم من التقليد والمذهبية والاتباع، وجهود السلفية كبيرة في تطهير الأمة من أدران البدع بأنواعها، وبلا شك فإن السلفية أبعد الجماعات من البدع، وهذا أمر لا يجادل فيه أحد.
كذلك من خصائص السلفية: أنها علاج لمرض الفرقة، بل هي العلاج الوحيد الناجع لمرض الفرقة، ويكفي أنها دائماً تقترن بأهل السنة والجماعة، فالسلفية تجمع على الحق، وليست تجمعاً على حساب الحق، بعض الناس العاطفين يتألمون لفرقة المسلمين، لكنهم لا ينهجون منهجاً علمياً في التجميع، بل قد يكون تجمعهم على حساب الحق، يقول لك: نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فهل نعذر الشيعة في اعتقادهم بتحريف القرآن؟! هل نعذر الخوارج بتكفيرهم الصحابة؟ نقد هذه القاعدة موضوع مهم وكبير، ولكن كما قلنا: السلفية تجمع على الحق، التجمع شبه كلمة (الجماعة)، على الحق شبه كلمة (السنة)، فهم أهل السنة والجماعة، تجمعوا على الحق، وليس تجمعهم على حساب الحق.
يقول تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137]؛ فإذا خرجنا عن المثلية وقعنا في الشقاق، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران:103]، وقال عليه السلام لما أخبر بوقوع الفرقة: (فعليكم بسنتي) فهذا هو علاج الفرقة، (وإياكم ومحدثات الأمور!) فالبدع تفرق كما ذكرنا.(42/13)
منهج السلف هو المنهج الوحيد الذي يتبنى مبدأ إصلاح ذات البين
منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الوحيد الذي يتبنى بحق مبدأ إصلاح ذات البين، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
مما يمارسه علماء السلفيين ودعاة أهل السنة والجماعة من تنقية العقيدة من الشوائب، وتطهير المنهج من الأدران، وتوضيح المنهج الصحيح؛ كل هذا الجهاد هو عين إصلاح ذات البين، أما أن نقول: إن إصلاح ذات البين أن نؤلف رابطة مشتركة بين الشيعة والسنة والخوارج والجهمية والقدرية والقرآنيين وكل هؤلاء الضلال، فهذا تجمع على حساب الحق، وليس تجمعاً على الحق.
إصلاح ذات البين مارسه أئمة السلفيين في كل العصور، مارسه ابن عباس حينما حاور الخوارج، فإصلاح ذات البين: أن تنقذهم من الفرق النارية، وأن تعيدهم إلى الفرقة الناجية، هذا هو إصلاح ذات البين، وهذا هو الفهم الصحيح لإصلاح ذات البين.
الإمام أحمد أصلح ذات البين عندما صبر أمام البدعة رغم امتحانه، وشيخ الإسلام ابن تيمية أصلح ذات البين بجهاد الفرق الضالة.
يوجد كلام طيب جداً للدكتور سفر الحوالي في كتابه: منهج الأشاعرة في العقيدة، فيه الرد على الذين يطالبون بالتجميع العاطفي بين أهل السنة والجماعة وغيرهم، وهو كلام في غاية القوة، وفيه رد على قاعدة المنار التي يسمونها القاعدة الذهبية، ويبدو أنها ذهب مزيف! فبعض الناس يقول: أنتم تفرقون بين المسلمين، والكلام في التوحيد يفرق بين المسلمين! فنقول: إذا كان الكلام في التوحيد هو الذي يفرق فهذا تفرق مطلوب؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام فرق بين الناس، يفرق بين الحق وبين الباطل.
ونقول: من أراد توحيد المسلمين فأيدينا في يده، والباب مفتوح على مصراعيه، ونشترط عليه فقط أن يرجع إلى منهج أهل السنة والجماعة، ويتبنى المنهج السلفي، فلا طريق لتوحيد المسلمين إلا أن يتجمعوا على هذا المنهج.
والسلفية: عبارة عن فكر واحد لكل العقول، وهذا يؤدي إلى حل واحد لكل المشاكل في الغالب، إذا توحدت العقيدة والمواقف فإنك تجد أن هناك أشياء لا يمكن أن يتورط فيها سلفي، لما قامت ثورة الخميني عليه من الله ما يستحقه، تورط كثير من قادة العمل الإسلامي للأسف الشديد، وإلى الآن لا يستحون من مدح الخميني ويسمونه إمام المسلمين! والسلفيون على غير تواطؤ منهم في شتى بقاع العالم لم يقعوا في هذه الزلة، لا يعرف أن سلفياً واحداً تورط في موالاة الخميني ودولته الشيعية، هل هناك تواطؤ؟ وهل عملوا مؤتمراً ووحدوا فيه الموقف؟ لا، إذا توحدت المفاهيم والأفكار والموازين ينشأ عنها تلقائياً توحد المواقف، فالنجاة من النار بأن تكون على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهؤلاء يلعنون أصحابه، ويكفرونهم، ويشتمون جميع أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فكيف تكون النجاة سالمةً مع هؤلاء المجرمين؟ هذه قضية كبيرة، لكن نقول باختصار شديد: التجميع العاطفي هو إضافة أمراض إلى أمراض الأمة، وتضليل للأمة، والتجميع الصحيح هو قوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، وهذا هو الحل الصحيح لهذه المشكلة.(42/14)
نقد بعض القواعد المشاعة في العصر
هناك قواعد مضادة للسلفية يتحاكم إليها بعض الناس ينبغي التحذير منها، من هذه القواعد: تقديم العقل على النقل.
وقولهم: منهج السلف أسلم ومنهج الخلف أعلم وأحكم، ومعناه: أن الخلف أعلم من السلف، وحجتهم في ذلك: أن الخلف ألفوا مئات المجلدات، والسلف ما ألفوا، ويظنون أن كثرة الكلام تدل على كثرة العلم، وهذا جهل، وقد تصدى لبيان هذا الأمر الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه: فضل علم السلف على الخلف.
ومن هذه القواعد قول البوطي: السلفية فترة زمنية مباركة، وهذا ضلال، لا، السلفية ليست فترة زمنية مباركة، السلفية منهج شامل وممتد إلى آخر الزمان: (لا تزال طائفة من أمتي) أي: باستمرار.
وتوجد عبارة يقولها بعض الإخوة الأفاضل، وينبغي التحرز منها وهي قولهم: سلفية المنهج عصرية المواجهة، السلفية ينبغي ألا تعطى بعداً زمنياً، ونحن نتسلح بقواعد المنهج السلفي، ونتعامل مع كل المتغيرات ومع كل العصور، بمعنى آخر: نتعامل مع المستجدات بالأسلوب الذي كان سيتعامل به الصحابة وأئمة السلف لو عاشوا في عصرنا.
وهذه قاعدة يساء تطبيقها: (من لم يكفر الكافر فهو كافر)، فيستعملها بعض الخوارج الجدد لإرغامك على أن تتبنى تكفير المسلمين، ولا يطبقونها في موضعها الصحيح.
يبقى الكلام على مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأعلام السلفية في العصر الحديث كالشيخ محمود شكري الألوسي والقاسمي والشيخ محمد بهجت البيطار والإمام عبد الحميد بن باديس والعلامة أحمد شاكر والشيخ محمد حامد الفقي والدكتور هراس والشيخ عبد الرزاق عفيفي وهناك كثير من العلماء المعاصرين معلومون لدينا جمعياً.
أيضاً هناك بحث حول السلفية في مواجهة التحديات، والصراعات في شتى أحقاب التاريخ بين السلفيين ومخالفيهم، وهذا موضوع طويل.
وهناك مناقشة للموقف من العلماء الذين أولوا بعض الصفات أو خالفوا المنهج السلفي في بعض القضايا، هذه المسائل نرجو إن شاء الله أن نبينها فيما بعد.(42/15)
هل نحن سلفيون حقاً؟
هل نحن سلفيون حقاً؟ قد عرضنا بحسب الاستطاعة، ولكن نحن مطالبون بالنقد الذاتي حتى لا نظلم السلفية ونسيء إليها، وعلينا أن نراجع أنفسنا كثيراً جداً، والآن ينتشر إهمال دارسة التوحيد، وإهمال ضبط ضوابط العقيدة السلفية، وقد حصل من إهمال العقيدة نفسها نتوءات موجودة في بعض السلفيين ومنها: تطاول البعض على الأئمة والعلماء، وادعاء أن هذا من ملامح السلفية.
تسرب المظاهر الحزبية العصبية الجاهلية في التعامل مع الآخرين، بل وظهور التحزب.
عدم التثبت في النقل، ولا بد من احترام المنهج السلفي في كثير من الاتهامات، والتشنيع على كثير من الدعاة ما حصل إلا بسبب عدم احترام المشنعين للمنهج السلفي الذي ينتمون إليه، فالتحقق والتثبت في النقل قل التورع فيه عند كثير من الدعاة.
كذلك موضوع الجدل والمراء، والتنطع بكثرة الأسئلة، وتشديق الكلام، فهذا كله يخالف المنهج السلفي، وغير ذلك من الأشياء التي نرجو إن شاء الله تعالى فيما بعد أن نفصلها.(42/16)
أبرز علماء الجماعة السلفية ابن تيمية
نختم الحديث عن أبرز أعلام السلفية بعد الإمام أحمد، ونحن نحتاج إلى دراسة تراجم للأئمة السلفية، وبالذات المحطات الرئيسية، مثل أحمد بن حنبل ابن تيمية محمد بن عبد الوهاب لكن ابن تيمية أنا أسميه: رجل كل العصور، وشيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر نادرة الزمان في الحقيقة، وهو باعث النهضة السلفية، ومجدد الدين بلا نزاع رحمه الله تعالى، شيخ الإسلام ترك آثاراً في كل العصور التي جاءت بعده إلى اليوم، وكثير من القضايا الدعوية والعلمية في شتى مجالات المعرفة الإسلامية نحتاج فيها إلى أن نغترف من مائدة شيخ الإسلام ونقتبس من أنوار كلماته، وهي قضايا معاصرة كثيرة جداً مثل: قضية الحزبية الجاهلية، وقضايا تصنيف الناس، وقضايا البرلمانات، وقضايا العمل الجماعي يعني: قضايا كثيرة جداً من القضايا الحيوية والواقعية، ونتعامل مع كتب شيخ الإسلام كأنه يعيش معنا في نفس الواقع، ونستفيد جداً من كتبه، أنا أقتبس عبارة قالها الأستاذ مالك بن نبي المفكر الجزائري المعروف رحمه الله تعالى، عبارة لو أنصف الناس لانتبهوا لها جيداً يقول: اجتهاد ابن تيمية وتراثه يمثل الترسانة الفكرية التي لا زالت تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية إلى اليوم.(42/17)
ثناء ابن شيخ الحزامي على ابن تيمية
ممن حثوا على الاحتفال بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية الشيخ عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي المعروف بابن شيخ الحزاميين رحمه الله تعالى، فهذه بعض العبارات التي يقولها في هذه الرسالة: إلى فلان وفلان وفلان وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم، وشيخنا السيد إمام الأمة الهمام، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفائق عن الحقائق وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلا قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرهم، ونسيت الأمة حذوهم، فذكرهم بها الشيخ، فكان لدارس نهجهم سالكاً، ولموات حذوهم محيياً، ولأعنة قواعدهم مالكاً، الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى.
وابن تيمية نشأ في بيت علم، أبوه وجده أئمة، وجده هو المجد بن عبد السلام يقولون فيه: كان إماماً جليلاً، وكان نجماً لكنه لم يظهر بسبب نور الشمس وضوء القمر، نور الشمس يعني: حفيده شيخ الإسلام، وضوء القمر والد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى؛ لأن شيخ الإسلام سطع نوره بحيث غطى على أبيه وجده رحمهم الله تعالى أجمعين.
ثم يقول مخاطباً السلفيين في عصره: واعلموا أيدكم الله -وهو من تلامذة شيخ الإسلام - أنه يجب عليكم أن تشكروا ربكم تعالى في هذا العصر، حيث جعلكم بين جميع أهل هذا العصر كالشامة البيضاء في الحيوان الأسود، لكن من لم يسافر إلى الأقطار، ولم يتعرف أحوال الناس، لا يدري قدر ما هو فيه من العافية، فأنتم إن شاء الله تعالى في حق هذه الأمة الأولى، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وكما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج:41]، أصبحتم تحت سنجق -يعني: لواء وراية- رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى، مع شيخكم وإمامكم، وشيخنا وإمامنا، فقد تميزتم عن جميع أهل الأرض -فقهائها وفقرائها، وصوفيتها وعوامها- بالدين الصحيح.
ثم ظل يسرد الفروق بينهم وبين هذه الطوائف التي ذكرها في كلام رائع جداً في الحقيقة فقال: ثم اعرفوا -إخواني- حق ما أنعم الله عليكم من قيامكم بذلك، واعرفوا طريقكم إلى ذلك، واشكروا الله تعالى عليه، وهو أن الله أقام لكم ولنا في هذا العصر مثل سيدنا الشيخ الذي فتح الله به أقفال القلوب، وكشف به عن البصائر عمى الشبهات، وحيرة الضلالة، حيث تاه العقل بين هذه الفرق، ولم يهتد إلى حقيقة دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أن يقول أيضاً: فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من يبين لكم أعلام دينكم وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته، وبين لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافتهم إلى آخره.
ثم يقول: ثم إذا علمتم ذلك فاعرفوا حق هذا الرجل -الذي هو بين أظهركم- وقدره، ولا يعرف حقه وقدره إلا من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم وحقه وقدره، فمن وقع دين الرسول صلى الله عليه وسلم من قلبه بموقع يستحقه عرف حق ما قام به هذا الرجل بين أظهر عباد الله، يقوم معوجهم، ويصلح فسادهم، ويلم شعثهم جهد إمكانه في الزمان المظلم الذي انحرف فيه الدين، وجهلت السنن، وعهدت البدع، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، فإن أجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف، وخطره لا يعرف.
ثم يقول: فالله الله في حفظ الأدب معه، والانفعال لأوامره، وحفظ حرماته في الغيب والشهادة، وحب من أحبه، ومجانبة من أبغضه وتنقصه، ورد غيبته والانتصار له في الحق.
ثم يقول أيضاً في شيخ الإسلام: واعلموا -رحمكم الله- أن هنا من سافر إلى الأقاليم، وعرف الناس وأذواقهم، وأشرف على غالب أحوالهم، فوالله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم علماً وعملاً، وحالاً وخلقاً، واتباعاً، وكرماً وحلماً في حق نفسه، وقياماً في حق الله عند انتهاك حرماته، أصدق الناس عقداً، وأصحهم عزماً، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفاً، وأكملهم اتباعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسنتها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيث يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقةً، إذا علمتم ذلك -أيدكم الله تعالى- فاحفظوا قلبه، فإن مثل هذا قد يدعى عظيماً في ملكوت السماء، واعملوا على رضاه بكل ممكن، واستجلبوا وده لكم وحبه إياكم بمهما قدرتم عليه، فإن مثل هذا يكون شهيداً، والشهداء في العصر تبع لمثله.
ثم يقول أيضاً: فإني أستخير الله تعالى، وأجتهد رأيي في مثل هذا الرجل وأقول انتصاراً لمن ينصر دين الله بين أعداء الله في رأس السبعمائة، فإن نصرة مثل هذا الرجل واجبة على كل مؤمن كما قال ورقة بن نوفل: لئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً.(42/18)
ثناء ابن القيم على ابن تيمية
ابن القيم نفسه رحمه الله تعالى ما هو إلا شعاع من نور ابن تيمية، وإلا فأشعة شيخ الإسلام كثيرة كـ ابن القيم وابن عبد الهادي وابن كثير والذهبي وغيرهم من الأئمة، كلهم أشعة من نور شيخ الإسلام، وقد حكى ابن القيم قصته مع شيخه في شعره المشهور فقال: يا قوم بالله العظيم نصيحةً من مشفق وأخ لكم معوان جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني حبراً أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران أخذت يداه يدي وسار فلم يلن حتى أراني مطلع الإيمان وأبصرت أسوار المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن وأبصرت آثاراً عظيماً شأنها محجوبةً عن زمرة العميان إلى آخر كلامه في النونية المعروفة.(42/19)
ثناء ابن مري على ابن تيمية
آخر شيء نختم به الكلام هذه الرسالة القيمة، وهي عبارة عن قطعة من مكتوب الشيخ الإمام الزاهد شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية كتبه إلى حنابلة دمشق يعزيهم بالمصاب بعد وفاة الشيخ، ويوصيهم بنسخ تآليفه من المسودات والاحتفاظ بها، وبمراجعة الإمام ابن القيم، ويبشرهم بالعاقبة الحسنة، ويذكرهم بأخلاق الشيخ عليه الرحمة والرضوان.
وقد تعجبت من فراسة هذا الرجل، لما بلغه موت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أرسل يعزي أصحاب الشيخ رحمه الله تعالى، وعلى رأسهم ابن القيم في المصيبة الجلل التي وقعت بوفاة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وأوصاهم وقال عبارات هي في غاية الروعة.
فيقول مثلاً: وكما انتفع بكلام الأئمة قبله، فكذلك ينتفع بكلامه ممن بعده إن شاء الله تعالى، أي: كما أن ابن تيمية أسس مذهبه على اتباع الأئمة الماضين فسوف يكافئه الله بأن يجعله إماماً يقتدي به من يأتي بعده.
تعرفون أن الدعوة الوهابية ما هي إلا صدى تطبيقي لدعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وأنتم تعرفون الآن الاهتمام العجيب بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية مما يدل على أن هذا بركة إخلاصه والقبول الذي وضع لعلمه رحمه الله تعالى، رغم الحرب الضروس التي حوربت به مؤلفات شيخ الإسلام؛ حتى إن الأمير عبد القادر الجزائري هذا كان أخذ على نفسه أن يستأصل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يبحث عن كتب شيخ الإسلام، فمن كان عنده شيء منها أحرقه، ولعلكم تعرفون أن شارح الطحاوية أبهم اسمه، وكتاب: غاية الأماني في الرد على النبهاني طبع بغير اسم المؤلف محمود شكري الألوسي؛ لشدة الاضطهاد الذي كان يمارس في زمن الدولة العثمانية لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والعجيب أنه إلى اليوم يوجد في تركيا مراكز تنشر كتباً ومطبوعات توزعها مجاناً، وبعض هذه الكتب تشتم شيخ الإسلام، وتشتم الدعوة الوهابية بطريقة مضحكة، إلى الآن تركيا التي وصلت إلى ما وصلت إليه ما زالت بعض الهيئات هناك تقوم بمحاربة الدعوة السلفية.
فالشيخ محمود شكري الألوسي أبهم اسمه خوفاً من الاضطهاد الذي كان سيتعرض له لو جهر باسمه على أنه سلفي؛ كذلك شرح الطحاوية لـ ابن أبي العز بقي الكتاب مدة كبيرة لا يعرف مؤلفه؛ وعلة ذلك أن السلفيين كانوا مضطهدين في ذلك الزمن.
فانظر سبحان الله! كيف مرت العصور والأجيال، وها نحن اليوم نشاهد الأمة تنتفع الآن بتراث شيخ الإسلام.
ثم يقول: ووالله -وتأملوا هذه العبارة العجيبة- إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه وتعالى لنصر هذا الكلام ونشره، وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم! وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصي عدده غير الله تعالى، ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أخرج طريداً ثم مات بعد ذلك غريباً، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما كان لا يخطر في بال، وشيخ الإسلام مات وهو في السجن، والدولة كانت ضده، لكن انظر إلى احتفال الأمة به وبتراثه.
وقد ذكر هنا أن البخاري طرد ومات غريباً رحمه الله تعالى، وعوضه الله سبحانه وتعالى عن ذلك بما لا خطر في باله ولا مر في خياله، من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها له على جميع كتب السنن؛ وذلك لكمال صحته، وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب، ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير إن شاء الله تعالى؛ لأنه كان بنى جملة أموره على الكتاب والسنة، ونصوص أئمة سلف الأمة، وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده، ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب مخالفة أحد من الناس في نصرة هذه الطريقة، وتبيين هذه الحقيقة، وتسهيل العبارات، وجمع أشتات المتفرقات، والنطق في مضايق الأبواب بحقائق فصل الخطاب ما ليس لأكثر المصنفين في أبواب مسائل أصول الدين وغيرها من مسائل المحققين.
يقول: فكانت مقاصده وتحقيقاته في هذا الباب العظيم عجباً من عجائب الوجود.
ثم يوصيهم بشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول لهم: تلميذه ابن القيم حافظوا عليه، هو أعلم الناس بعلم شيخ الإسلام.
ولو قرأتم الرسالة فهي شيء عجيب يقول لهم: انتبهوا! كتاب شيخ الإسلام في الفلسفة كتاب لا نظير له في الرد على الفلاسفة، توجد منه نسخة عند الشيخ فلان، وناقصة منها الورقة الأخيرة، فابحثوا عنها في المكان الفلاني، يعني: كان يعطيهم تعليمات على الرغم من البعد، ويبين