الإجهاز على الفيديو والتلفاز
أحاطت بالمسلمين في هذا العصر فتن ومخاطر تحطم وتهدم فيهم من كل جانب، وليس العجب مما يفرض عليهم من الخارج، ولكن العجب مما يفرضونه هم على أنفسهم.
ويعد التلفاز والفيديو من تلك الأشياء التي فرضوها على أنفسهم لكي تهدمهم من حيث لا يشعرون، ومما يميز هدم التلفاز والفيديو أنهما يهدمان الأخلاق والأديان والشرائع والأعراف كلها، وأن هذا الوباء يستشري مع الزمان ويتمكن في القلوب، وينتقل من جيل إلى آخر، مما ينذر بخطر عظيم ما لم يتدارك أهل العقل والعلم هذا الأمر ويحذروا من خطره.(1/1)
تأثير الفيديو والتلفاز على المحيطين بهما
نستحضر معاً صورة رسمها أو تخيلها بعض الناس، وربما عبروا عنها في قصة تنسب إلى شخصية جحا أو غيره، شخصية ذلك الرجل الذي أراد أن يقطع غصن شجرة، فتسلق الشجرة وجلس على الغصن من طرفه الخارجي وليس من الجهة المقابلة للساق، ثم أخذ المنشار وظل يقطع الغصن، فرآه رجل على هذه الحالة، وكان هناك رجل يرى الصورة من بعيد، فقال له: أنت على وضع خطأ، يوشك أن تسقط الآن.
فما بالى به ولا التفت إليه، ونظر أمامه فقط، فأخذ يقطع الغصن حتى هوى به وسقط على أم رأسه، فأخذ يجري وراء ذلك الرجل ويقول له: كأنك تعلم الغيب، كيف عرفت أنني سأسقط؟ أخبرني إذاً متى سأموت؟ والشاهد أن الإنسان حينما يكون داخل تأثير مجال معين فإنه لا يستطيع أن يقيس الأمور قياساً دقيقاً، لكنه إذا حرر نفسه من هذا المجال ومن تأثيراته، ونظر من بعيد استطاع أن يذكر الحكم الصائب على الأشياء، ولذلك فإن ذلك الرجل -لأنه بعيد- استطاع أن يرى هذه الصورة بخلاف ذلك الذي كان يمارسها بالفعل.
فنحن نحتاج -أولاً- إذا أردنا أن نناقش هذا الموضوع أن نخرج من تأثيره السحري، أو تأثيره المخدر، كما يسميه بعض المعاصرين بالمخدر الكهربائي، نحن نحارب الإدمان بالمخدرات والكحول وغيرها كثيراً، إلا أننا نؤمن تماماً أن التلفزيون أو الفيديو أشد وأخطر وأفسد للقلوب.
إن هذا الشخص الذي أشرب حب هذه الأشياء، ويجلس أمامها عاكفاً في خشوع وصمت وسكون العابد الخاشع المتبتل ما حظ هذا الإنسان الذي يدعي الإسلام ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة الله؟! ما حظه من قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، هل هذا الإنسان فعلاً بغض إليه الكفر والفسوق والعصيان؟! إن الذي يجلس ليرى -على الأقل- النساء المتبرجات هو الذي استجلب الجهاز بيده، واشتراه بماله، وربما أخذه من قوت أولاده، وهو الذي فتحه لأولاده وأحضره لهم، ثم بعد ذلك يذوق الثمار المريرة من هذه الفتنة التي أشعل نارها بيده هل له حظ من قوله تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]؟ هل له حظ من قوله عز وجل: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]؟ إذا حشر الخبيث والطيب يوم القيامة، إذا حشر الحق والباطل فمع أي الفريقين يكون صاحب التلفزيون والفيديو؟ المسألة لا تحتاج إلى جواب، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
هذه الفتنة الآن اقتحمت بيوت المسلمين، وجاست خلال ديارهم تفسد عليهم عقيدتهم وأخلاقهم، وتصدهم عن دين ربهم تبارك وتعالى، وتقتل فيهم روح الغيرة على حرمات الله، الغيرة التي هي حياة القلب ليرى المنكر منكراً والمعروف معروفاً، إذا ماتت الغيرة على حرمات الله عز وجل مات الإيمان، وصار بلا روح، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)، فإن الله عز وجل يغار حينما يرى حرماته تنتهك وحدوده تتعدى.
إن أقل ما يقع ممن يعكف ويجلس خاشعاً أمام هذا الصنم الكبير استحسان المعاصي، وإذا ما تعود قلبه على رؤية المنكرات يموت في قلبه الإحساس بأنها منكرات، لن يخلو من سماع الموسيقى، ولن يخلو من رؤية المرأة المتبرجة، ولن يخلو من إقرار كثير من المنكرات، بل لن تصير منكرات حينما يرى النساء الأجنبيات مع الرجال الأجانب عنهن في أوضاع -والعياذ بالله- تكاد تتفطر لها الأكباد والقلوب، هل القلب في هذه الحالة ينكر هذا المنكر؟ وإن أنكره في المرة الأولى ماذا يكون في الثانية والثالثة؟ وهكذا.
إذاً يموت الإحساس من القلب ويصير قلباً منكساً، يستحسن المعاصي ويتلذذ بها، ويود أن لا يزعجه أحد أو أن يبعده ويقصيه عن هذا الاسترسال والخشوع أمام هذا الصنم الجديد.
مر عبد الله بن عمرو رضي الله تبارك وتعالى عنهما على قوم جالسين يلعبون بالشطرنج، فأنكر عليهم قائلاً: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ فأيهما أولى بأن نتمثل له بهذه الآية، هذه القطع من الشطرنج الخشبية، أم هذا الصنم الجديد الذي حول ونقل السينما والبارات والمواخير والخمارات إلى داخل بيوت المسلمين؟! ثم حول الأمة تحويلاً شديداً عن الهدف الذي خلقت له.
إن هذه الأمة المحمدية أمة ذات رسالة في هذه الحياة، كما قال ربعي بن عامر لـ رستم لما قال له: ما جاء بكم؟ قال: (إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)، هذه هي أهداف هذه الأمة، لا أن تجلس وتقتل الوقت أو تنتحر -بتعبير أدق- أمام هذا الجهاز الخبيث، صارت الفتنة في كل مكان الآن، ولا يكاد يخلو منها بيت، وفي نفس الوقت نحتاج ونحن ندرس هذه القضية إلى الاقتباس من كثير من البحوث، وإن كنت -والحمد لله- لا أرى هذين الجهازين، لكن من خلال بحوث علمية كثيرة جمعت ودراسات اشتملت على الأسئلة التي ننقلها إليكم بالتنبيه إلى هذا الخبر.
أيضاً نحتاج كثيراً جداً إلى الاقتباس من الباحثين الغربيين لسببين: الأول: أن الحكمة ضالة المؤمن.
والسبب الثاني: أن القوم كانوا أسرف منا في الابتلاء بهذه الأشياء، ومع ذلك شهد شاهد من أهلها، وفهم رماه الأقربون حينما يضجون الآن ويمنعون أبناءهم من مشاهدة هذا الجهاز لأخطاره على الأخلاق والقيم؛ لأنه فتنة يشب عليها الصغير ويهرم عليها الكبير.
الكل يوقف سمعه وبصره وقلبه على البث التلفزيوني، انظر إلى منظرهم وهم يتابعون مباراة كرة قدم، أو تمثيلية مهمة، ماذا يكون حالهم؟ تجد الخشوع، وهل يخشعون في الصلاة هكذا؟ أو إذا قرئ القرآن ينصتون له هكذا؟! لا.
إنك تجد القلوب والأسماع خاشعة، ولو أن طفلاً صغيراً ألقى قشة في الأرض لثاروا وضجوا: اسكت.
ويخرصون كل من يهم بأن يقطع عليهم هذه العبادة وهذا التبتل في محراب الشيطان، يتشبث كل فرد في متابعته لا يكاد ينفك عنها، الجميع عاكفون أمامه سامرون على حال من الذهول وفقدان الوعي كأنهم مسحورون قد سمروا على مقاعدهم يتابعون الأحداث بكل إصغاء وانتباه، تنقطع أنفاسهم، وتدق قلوبهم إذا تأزم الموقف، ثم تنطلق صيحاتهم وصرخاتهم ويتحركون في عنف عند أي موقف ناسين ما حولهم ومن حولهم، فترى الرجل الكبير يخرج عن وقاره، ويقف على الكرسي إذا سجل هدف -مثلاً- في مبارة كرة، ويصرخون كأن الحرب قد قامت، وكأن المسلمين استردوا فلسطين وعاد بيت المقدس بذاك الهدف، وأقيمت الخلافة، وعادت أفغانستان، ونفذت كل مآرب الأمة وأهدافها.
هل من العقل والحكمة أن نتعامل مع هذا الجهاز الخبيث بهذه العفوية والسذاجة والسلبية؟ هل نحسن به الظن ونعتقد أن فوائده كثيرة؟ بل صار من المسلمين من يعتبر وجود هذا الخبيث ضرورة حياتية لا يستطيع أن يستغني عنها، قد يستغني عن الطعام والشراب ولا يستغني أبداً عن هذا الجهاز الخبيث، غاب عن هؤلاء جميعاً مساوئ ومخاطر هذا الجهاز، أو نظروا إليها بمنظار مصغر فحقروها.
ومن هنا نقف هذه الوقفة في دعوة صادقة مع النفس نراجعها ونقلب أبصارنا وبصائرنا في محاسن هذا الجهاز ومساوئه، فإذا فعلنا ذلك سنقرر أن للفيديو والتلفزيون منافع للناس، ولكن هما كالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.
لكن المنافع على قلتها ضخمت، وأريد لها الظهور فروج لها، وأخفيت المساوئ على خطورتها وكثرتها فلا تكاد تذكر، ومن أجل ذلك لن نتكلم على مزية واحدة من مزايا هذا الجهاز؛ لأن الناس يحفظونها ويعدونها كأسلحة مضادة إذا هوجموا، يقول أحدهم: أنا اشتريت التلفزيون لأشاهد البرامج الدينية، أو لمتابعة الشيخ الشعراوي، أنا أتيت به لكي أطالع نشرات الأخبار.
ويستنزله الشيطان دركة دركة حتى يقع في الهاوية.
فالتلفزيون ليس في حاجة إلى تلميع حتى نتكلم على مزاياه، وإنما نحاول كشف ما فيه من مخاطر يغفل عنها أكثر المسلمين انطلاقاً من قوله تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].(1/2)
مفاسد التلفاز الأخلاقية والشرعية
أول ما نذكر به هؤلاء المؤمنين آية نتلوها من كتاب ربنا العظيم، لو فقهت معناها قلوبنا لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية الله، وإذا استيقظت ضمائرنا فلعل قشعريرة الرهبة تسري في أوصالنا، ورعشة الهيبة تهز أعماقنا، إنها قول ربنا جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، فما ألصق هذه الآية بموضوعنا حيث تتعلق بأخطر جهاز إعلامي يخاطب العين، والسمع، والبصر، والقلب بالصوت والصورة والحركة.(1/3)
أضرار التلفاز الصحية
بالنسبة للأضرار الصحية والجسيمة التي تحدث من هذا الجهاز تجد أطفال الجيل التلفزيوني حينما يجرى لهم الفحص الطبي عند دخولهم المدارس تجد أن ظهورهم منحنية من الجلسة التي يجلسونها أمام التلفزيون، الأبصار ضعيفة، مشكلات في النطق والطلاقة في الحديث، إرهاق لأعصاب العين وإجهاد لها بسبب النظر المستمر في حجرة مظلمة عن قرب وباستمرار، وعدم تحريك الظهر إلا في هذا الحيز الضيق.
عالم شهير بالتصوير الإشعاعي يسمى: دكتور إينل كروب أكد بمرارة وهو يحتضر في إحدى المستشفيات بأمريكا -هذا عالم في الإشعاع، ولن يكون هناك عالم بالإشعاع مثله متخصص في ذلك- فقال وهو يحتضر: إن أجهزة التلفزيون في البيوت هي عبارة عن عدو لدود وإخطبوط سرطاني خطير يمتد إلى أجسام الأطفال.
وقد كان هذا الدكتور نفسه أحد ضحايا السرطان الناتج عن إشعاعات التلفزيون، بالذات الأشعة السينية التي تسبب الإصابة بالسرطان، وتشوه الأجنة، وقد تقتل الأجنة قبل الولادة أو بعد الولادة، وقد تحدث سرطانات في الجلد.
هذا الدكتور كان أحد ضحايا السرطان الناتج عن إشعاعات التلفزيون، وقد أجريت له قبل وفاته ستٌّ وتسعون عملية جراحية لاستئصال الدرنات السرطانية ولكن دون جدوى؛ إذ إنه وصل إلى النهاية المؤلمة بعد أن استؤصل قسم كبير من وجهه وبترت ذراعه.
وأضاف الدكتور كروب قبل موته: إن شركات التلفزيون تكذب وتخدع الناس عندما تزعم أن هناك حداً أدنى للطاقة الإشعاعية لا تضر ولا تزود بها أجهزتها، فالعلم يقول بعد التجارب العديدة: إن أية كمية من الإشعاع مضرة بالجسم على درجات متفاوتة، وذلك حسب نسبة التعرض والجلوس أمام التلفزيون.
وقد طالبت مجلة الاقتصاد التي نقلت هذه المعلومات -وهي مجلة تصدر في بيروت- في نهاية مقترحاتها أن على كل أب وأم أن يتناولا مطرقة ضخمة ويحطما بها كل ما لديهما من أجهزة تلفزيونية.
يحذر العلماء في مصر أيضاً من ذلك، ويقولون: أكدت نتائج بحث علمي مصري أن تعرض الأم الحامل لمصادر الإشعاع الشديدة الموجودة حولنا في كل مكان ينتج عنه تشوهات في الأجنة قد تتسبب في موت الجنين قبل أو بعد الولادة.
وأيضاً الدكتور محمد محمد منصور رئيس وحدة بحوث المناعة والطفيليات بالمركز القومي لتكنولوجيا الإشعاع في مصر يقول: بناءً على هذه النتيجة ينصح الدكتور محمد منصور السيدات الحوامل وكذلك الأطفال بعدم الجلوس لفترات طويلة أمام أجهزة التلفزيون الملون الموجودة حالياً في معظم البيوت المصرية؛ إذ به -الإشعاع- مصدر قاتل للجنين، كما أنه يؤدي إلى ضعف الإبصار عند الأطفال، إضافة إلى تأثيره على عدسة زجاج النظارة الطبية، وبالتالي درجة ملاءمتها للعين.
وعلى أي الأحوال فهذه بعض الأشياء تكشف أنه خبيث لا خير فيه.(1/4)
تدمير الفيديو لأخلاق الأجيال
من مفاسد الفيديو تلك الظاهرة التي انتشرت، وملخص القصة أن مالك إحدى المدارس ذهب إلى صاحب مقهى يرجوه أن لا يقدم أفلام الفيديو في الصباح؛ لأن المدرسة خلت تماماً من التلاميذ، ولما لم يستجب له صاحب المقهى طلب معاونة البوليس.
أب أيضاً اقتنى جهاز الفيديو وعاد فوجد أولاده أتوا بشريط قذر، وجلس جميع الأولاد ينظرون إليه، فحطم الأب الجهاز تحطيماً وكسره تكسيراً.
مثل هؤلاء الآباء هم أولى أن يسجنوا وأن يوضعوا في الأحداث، وليس الأبناء المساكين؛ لأنك أنت الذي أتيت بهذه الأشياء في البيت، ولتجدن إثمها ولو بعد حين، وستذوق ثمرتها.
من ذلك أيضاً ظاهرة الهروب من المدرسة كما ذكرنا، فقد جاء في صحيفة الأهرام: كان أمراً غريباً أن تتجاوز أرقام الغياب نصف تلاميذ المدرسة، وباتت الفصول الدراسية شبه خاوية نتيجة لغياب التلاميذ، ولم يكن أمام ناظر المدرسة إلا أن يفزع إلى مدير أمن الجيزة ويضع أمامه أبعاد المشكلة والمخاطر التي تهدد مستقبل التلاميذ، وضرورة التوصل إلى حقيقة الأمر قبل أن يتفاقم الخطر وتمتد العدوى إلى باقي التلاميذ.
فلم يكن ناظر المدرسة وحده الذي يعاني من مشكلة غياب تلاميذ مدرسته، فقد كانت مشكلة عامة عانت منها بعض المدارس الأخرى المجاورة التي تجاوز فيها أعداد الغائبين من تلاميذ تلك المدرسة النسب المعقولة، وأحال مدير الأمن بلاغ ناظر المدرسة لمدير المباحث لدراسته، وقاد رئيس قسم مكافحة جرائم الآداب العامة فريقاً للبحث، وبدأ تنفيذ خطة العمل بالانتشار في الأماكن القريبة من المدرسة والمدارس المجاورة، ومراقبة التلاميذ في خفاء، ومتابعة خطواتهم والطرق التي يسلكونها، ولم يدم الأمر طويلاً وبدأت الحقائق تتكشف حين تبين أن معظم التلاميذ يسلكون طريقاً واحداً يؤدي إلى حظيرة مواشي يتوقفون أمامها قليلاً لترقب الطريق، ثم يسرعون بعدها بالدخول في حذر حيث يقضون الساعات الطويلة بداخلها إلى حين حلول موعد انصرافهم من المدرسة، ويعودون بعد ذلك إلى بيوتهم.
واكتملت الصورة، ولم يتبق سوى معرفة ما يدور داخل المكان، حتى تمكن ضابط الآداب من التسلل إلى داخل الحظيرة بعد أن دفع مبلغاً من المال في الوقت الذي انتشر فيه رجال الكمين لمحاصرة المكان، وكانت المفاجأة أن وجد الضابط أن حظيرة مواش مظلمة قد امتلأت عن آخرها بتلاميذ المدارس الهاربين الذين جلسوا متراصين على مقاعد خشبية، واستغرقوا في مشاهدة أحد أفلام الفيديو القذرة، فألقي القبض على صاحب الحظيرة وعلى التلاميذ، وتمت مصادرة مجموعة شرائط الفيديو.
هذا من الحصاد المر الذي جناه المسلمون من هذا الجهاز.
أيضاً أضعف الجهاز سلطان الأسرة، فاضمحلت القيم والآداب التي كانت الأسرة تعلمها، وحل محلها قيم التلفزيون المشتقة من الأفلام والمسرحيات والتمثيليات، عطلت الأمور النافعة التي كان يمارسها الأبناء والشباب كالقراءة والكتابة أو الرياضات النافعة، وإذا بالتلفزيون يصور الخمول والكسل والخواء الفكري لدى الإنسان، فلست أنت الذي تتحكم فيه بل هو الذي يتحكم فيك ويغير من نظم حياتك.(1/5)
دور التلفاز في قلب المنكر معروفاً والمعروف منكراً
من أسوأ آثار التلفاز -إن لم تكن أسوأها على الإطلاق- تعويد الناس على التغاضي عن كثير من الفضائل الاجتماعية، فهو يهدم ويحطم الأخلاق والأديان، ويبطش بالحياء والقيم، وينشر الرذيلة، ويقتل الأحاسيس، بحيث ينتهي الأمر إلى استمراء المنكر، بل استحسان المنكر والفرح الشديد بارتكابه.
ومن الأدلة الواقعية على ذلك أن الناس أصبحوا يقبلون أن رجلاً بحجة أنه أب لفتاة شابة يحتضنها، وهم يعلمون أنه أجنبي عنها وأن هذا تمثيل وكذب، ولكنهم صدقوا الكذب ولم يعودوا يستنكرونه، فهذا عندهم ليس منكراً هذا أبوها! فيأخذونه بعفوية وكأنه أمر طبيعي وعادي.
ولم يعد يستنكر ما يقع بين رجال ونساء أجانب عنهم مما حرمه الله تبارك وتعالى، بل من يمكن نفسه من هذا الإجرام وهذا الانحلال ويعيش الدور بصدق -كما يقولون- يقال عنه: الممثل المحترم، والممثلة القديرة -أي: على الفساد والانحلال- أما من يظهر عدم الانسجام فهذا ضيق الأفق، هذا إنسان متزمت متطرف، وتنطلق عبارات: إنهم يريدون أن يعيدونا إلى القرون الوسطى المظلمة والعصور الحجرية.
أيضاً صاروا لا ينكرون على المرأة المتزينة المتبرجة التي تظهر بأبهى زينتها حاسرة الرأس، كاشفة الشعر والرقبة والذراعين والساقين، ومع ذلك ربما يصفون هذه الممثلة أو هذه المذيعة بأنها محتشمة، فهي تكشف فقط شعرها ووجها ويديها وما إلى ذلك.
تعودت القلوب على مناظر احتساء الخمور، كأنك داخل الخمارة والحانة وأماكن الفساد والإجرام، تعودت العيون أن ترى هذه المناظر وهي قيم كفرية فاسقة خبيثة تتعود عليها هذه القلوب، احتساء الخمور، التدخين، إتيان الفواحش، السرقات، القتل، السباب بأقذع الألفاظ السوقية، توجيه اهتمام الناس إلى تعظيم كرة القدم، وأن الأبطال هم أبطال كرة القدم، وإذا كانت هناك مباراة دولية لكرة القدم أو شيء من هذا ترى -كما قال بعض الإخوة- البلد خاوية تماماً، كأنه يوجد حظر تجوال، لا سيارات ولا مشاة، والمحلات مغلقة.
حتى قال بعض الإخوة: لو أن عدواً من الأعداء أراد أن يحتل مصر بدون أن تطلق رصاصة واحدة تقاومه لاختار هذا الوقت؛ لأن الناس قابعون في بيوتهم أمام هذا الصنم، وانظر إلى الناس في ساعة صلاة الجمعة تجد وسائل المواصلات تعمل، والشوارع مزدحمة بالسيارات، والناس يمشون في الشوارع، وكأنك لست في بلد من بلاد المسلمين بشغل هذا الجهاز الخبيث.
أيضاً إبراز برامج الرقص والخلاعة وأمثال هذه الأشياء، حتى عندما تسأل الطفلة الصغيرة: ما أملك في الحياة؟ تقول: أريد أن أكون راقصة مثل فلانة، أو مغنية مثل فلانة.
فلا حول ولا قوة إلا بالله! هل هؤلاء هم أبناء المسلمين؟(1/6)
تناقض المواقف بيننا وبين الغرب في محاربة التلفاز
وهو تناقض غريب جداً، فإننا بقدر ما نتهاون بقدر ما يحرص الكفار على حماية أبنائهم من هذا الجهاز الخبيث، مع أنهم كفار لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، تجد -مثلاً- المدرسة الألمانية في الإسكندرية تأتي بالآباء وتعمل لهم فرزاً شديداً جداً للآباء والأمهات والأطفال، وتقيم لهم مختبرات الذكاء، ثم يوقع الأبوان إقراراً أن أولادهما إذا عادوا من المدرسة لا يشاهدون التلفزيون، هؤلاء لا يتدينون بذلك، لكن يقولون: إن التربية التلفزيونية تسير في خط موازٍ ومضاد للتربية التي تنتهجها هذه المدرسة، هذه تلغي مفعول تلك، ولذلك يوقع الأب والأم على إقرار أنه إذا طلب الطفل النظر إلى التلفزيون ونظر فالمدرسة غير مسئولة عن أي آثار تربوية تظهر في سلوكه، وتقول المدرسة: هذا أتى منكم أنتم وليس من طرفنا نحن.
في حين تجد في مدرسة أخرى، وفي مكان اجتماع مجلس الآباء والمعلمين أتت امرأة متبرجة منسوبة ومحسوبة على الإسلام، أتت تصرخ وتشتكي وتضج وتصيح في اجتماع مجلس الآباء، وتقول: لابد من أن تبحثوا لي عن السبب، من الذي فعل بابني هكذا؟ لابد من أن عندكم هنا في المدرسة أناساً متطرفين.
تقول لهم: إن ابني حينما يجلس عند التلفزيون إذا رأى راقصة أو شيئاً من هذه المناظر فإنه يضع بصره في الأرض ويرفض أن ينظر، فقولوا لي: من المسئول؟ أنتم متطرفون، أنتم تعلمون ابني التطرف، ابحثوا لي عن المسئول عن ذلك؟ أجاب مدير المدرسة: أبداً.
نحن أبرياء من هذا التطرف، نحن لا نعلمه ذلك، نحن نلتزم كاملاً بمنهج الوزارة.
أيضاً التلفزيون يعد أستاذاً من أساتذة الجريمة، ففي إحدى البرامج التلفزيونية أجريت مقابلة مع فتاة في الخامسة عشر من عمرها، رأت شخصاً في فلم يريد أن يقتل آخر فقطع مكابح السيارة، وكادت البنت أن تقتل أباها وأمها، فذهبت أيضاً لتقص فرامل السيارة لتقتلهما، لكن الأبوان اكتشفا الأمر بقدر من الله؛ لأن الفتاة أخطأت فقطعت بدل الفرامل سلكاً آخر أضاء إشارة إنذار حمراء، ولم يعرفا الفاعل.
فجربت الفتاة خطة أخرى، إذ ألقت صفيحة من البنزين على السيارة في داخل الجراش فانفجرت، فتنبه الأبوان في آخر لحظة فأسرعا يفتشان الجراش والبيت خوفاً على ابنتهما حتى لا تحترق، وكادا يختنقان لكثافة الدخان واكتشفا أن الفاعل هو ابنتهما، وعندما سئلت الفتاة عن السبب قالت: أبواي يضغطان علي كثيراً للمذاكرة، وأخي أخفق، وهما يريدان مني تعويض إخفاقه، فنظرت إلى التلفزيون فتعلمت هذه الجريمة.
هذه الفكرة علمها إياها التلفزيون.(1/7)
جيل التلفاز والمثل الأعلى
من أخطر الأشياء أن التلفزيون يؤثر في الأولاد عندما يأخذون منه المثل الأعلى في حياتهم، حيث يقلب القيم في نظرهم، فالشباب عامة ربما إذا سألته هل تتقن سورة الفاتحة أم لا لم يدر ما الجواب، وربما نجد بعضهم يجيب علينا، لكن لو سألته: ما هي الأسئلة التي ستتوجه إليك أول ما تنزل في قبرك؟ وإنك سوف تسأل عن ثلاثة أسئلة هل تعرف ما هي؟ كيف ستجيب عليها؟ وحين يسألك الملكان: من ربك وما دينك وماذا تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم صلى الله عليه وآله وسلم كيف ستجيب؟ فإنه لا يعرف، لكنه يعرف أسماء الممثلين والممثلات، والألوان المفضلة لهم، والأكلة المفضلة لهم، وكم مرة تزوج، والراقصين والراقصات، وأسماءهم، وربما عناوينهم، ويعرف عنهم ما لا يعرفه عن أقربائه.
وهذا يضطرنا -للأسف الشديد- إلى حكاية أشياء نحب أن ننزه مجلس الذكر عن حكايتها، لكن ربما نلجأ أحياناً لضرب الأمثلة؛ لأن هذا واقع نعيشه، والخطر قادم في كل بيت بهذا التغيير.
هذا نموذج يحكيه الشيخ مروان كجك، وهي مشكلة زوج يعاني من زوجته، وهي امرأة متعلمة وتعمل، وهي مغرمة بمشاهدة الأفلام التي تروي تاريخ حياة الراقصات، أو الأفلام التي تكون بطلتها (معلمة في قهوة بلدي) هذه المرأة تشجع طفلتها وهي في العاشرة من عمرها على المشاهدة أيضاً، والنتيجة أن الطفلة أصبحت تحاول إجادة الرقص البلدي أمام المرآة، إنه اغتيال البراءة والفطرة، وفي أوقات الفراغ فإن هذه الطفلة لا تلعب، وإنما تأتي بكوب وخرطوم لتجعل منه (شيشة)، وتطلب من زميلاتها أن ينادينها بصوت أجش: (يا معلمة!).
وقال صاحب الرسالة أيضاً: إن زوجته تشعر بالارتياح من أعمال الطفلة، وتقول: إنها موهوبة في التمثيل فهذا حصاد هذه التربية التلفزيونية الخبيثة، ماذا تنتظر؟ البنت تتعلم من مثل هذه الممثلة كيف تسلك هذه المسالك، لذلك لا تعجب إذا كانوا يسمون الفاسق الفاجر المجرم (البطل)، بدل أن يقال: الفاسق الصادّ عن سبيل الله عدو الله وعدو رسول الله يقال: (البطل).
المطربة أو المغنية معبودة الجماهير، وسبحان المعبود! يعبدونها عبادة، ولعلك تذكر حديث جريج العابد، فقد كان جريج يتعبد في صومعة، فأتته أمه وهو يصلي فنادته.
فقال: أي رب! أمي وصلاتي؟ يعني: أيهما أقدم: هل أجيب أمي أم أكمل صلاتي؟ فنادته الثانية.
فقال: أي رب! أمي وصلاتي.
فأقبل على صلاته.
ونادته الثالثة فقال: أي رب! أمي وصلاتي.
وكان لابد له من أن يقطع الصلاة ويجيب أمه براً بها.
فدعت عليه أمه أن يعاقب عقوبة شديدة، وما كانت هذه العقوبة؟ لقد دعت عليه أن لا يموت حتى ينظر في وجوه الزانيات، دعت عليه بهذه الدعوة، فإذاً هذه عقوبة؛ لأن النظر إلى وجوه الفساق والظالمين يفسد القلوب ويطبع فيها السموم ويمرض القلوب، بعكس النظر إلى الصالحين الذين إذا رأيتهم ذكرت الله تبارك وتعالى.
فانظر كيف أن المسلمين صاروا طواعية لا ينظرون إلى هذا عن عقوبة، لكنهم يستحسنون النظر إلى وجوه المجرمات الفاسقات، ويتقدمون بأنفسهم إلى هذا الجهاز الخبيث ويستجلبونه حتى ينظر أبناؤهم وشبابهم إلى هؤلاء النساء المجرمات اللاتي يسمونهن (البطلات) معبودات الجماهير.
يقول الكاتب محمد عبد الله السمان مشيراً إلى حلقة تلفزيونية استضيف فيها بعض الطلبة من مدرسة معروفة، يقول: كان من المتوقع أن تكون الحلقة إلى آخر دقيقة فيها بالطلبة المتفوقين، وتكون حلقة من الحلقات الجادة التي يتلقى منها سائر الطلبة دروساً في التفوق، ولكن مقدم البرنامج سأل الطلبة واحداً واحداً عن مثله الأعلى في الحياة؟ وكانت الإجابات مذهلة، فالمثل الأعلى لدى الطلبة المتفوقين هم على الترتيب -ولست أدري أهو ترتيب تصاعدي أم تنازلي-: عبد الحليم حافظ، بليغ حمدي، نزار قباني، محمد عبد الوهاب، أنيس منصور.
وقلت تعقيباً على هذه الإجابات: لم أكن أنتظر من هؤلاء الطلبة المتفوقين أن يقولوا: إن مثلنا الأعلى أبو بكر أو عمر أو علي أو خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهم، بل كنت أتوقع أن يقول واحدٌ منهم: إن مثلي الأعلى هو أبي.
إلا أنه ما وجد في أبيه مثله الأعلى، وإلا فلو أحسن أبوه تربيته لما عمد إلى هذه الزبالة كي يتخذهم قدوة ومثلاً أعلى في الحياة.(1/8)
جيل التلفزيون وشيوع الإجرام والرذيلة
إن تأثير التلفاز تأثير وبائي عام، لما يتسم به من جماهيرية وشمولية، ولا يمكن الزعم بأن هذا الوباء غير ضار لأنه نجى منه بعض الناس.
يقول دكتور يسمى استيفن محاضر في جامعة كالفورنيا، يقول هذا وهو رجل كافر نصراني أو يهودي الله أعلم به.
يقول: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.
طفل فرنسي عمره خمس سنوات أطلق رصاصة على جار له عمره سبع سنوات، وأصابه إصابة خطيرة بعد أن رفض الأخير إعطاءه قطعة من اللبان، وقد ذكر في أقواله للشرطة أنه تعلم كيف يحشو بندقية والده عن طريق مشاهدة الأفلام في التلفزيون.
ولذلك كتب أستاذ التاريخ الدكتور شاكر مصطفى عن جيل التلفزيون قائلاً: أبناؤنا هم أبناء وسائل الإعلام التي أفسدت الأسرة لدينا إفساداً، ودمرت كل مفاهيمها وآدابها، وكان قد قدم التلفزيون هذه الأمثلة كلها من خلال بحوث مجموعة أصلاً في هذا الأمر، قدم شخصية بطل طائر غير طبيعي يسمونه كذا العجيب منذ سنوات، حاول أحد الأطفال أن يقلد هذا المخلوق العجيب عندما طار من شرفة المنزل محاولاً تقليد هذا البطل العجيب فكان فيها هلاكه.
فما من شك في آثاره في نشر الجريمة والعنف، وإضعاف الأشخاص، وشيوع الرذيلة، وتشييع الفاحشة وتزيينها في نظر الناس، وشيوع أساليب النصب والاحتيال، والسلبية، والتراخي، وتخريب البيوت.
ويتحدث عما تثيره مسلسلات التلفزيون وأفلام الفيديو من تنغيص الحياة الزوجية، يقول: وحدث عن ذلك ولا حرج، ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من مشاهدي التلفزيون يجهلون أن هذه البيوت الواسعة والفرش المتنوعة ليست سوى أستديوهات قد أنشأت خصيصاً لتأجيرها للمنتجين الذين يصورون فيها مسلسلاتهم وأفلامهم، وهي ليست ملكاً للممثلة، هم يعتقدون أن هذا ملك للممثلة، الحدائق والخدم والحشم والأجهزة الحديثة والأثاث الرفيع وكذا وكذا، فتبدأ الزوجة في المقارنة بين ما تعيش فيه من ضيق وضنك وبين هذه الممثلة: انظر إلى الغنى، انظر إلى البيت الواسع المؤثث.
فهي لا تتصور أن هذه أشياء مؤجرة لكن تتصور أن هذا ملك للممثلة، ويصدقون الكذب.
فهذه الخدعة الماكرة تصيب النساء بالتأفف من حياتهن؛ لأنهن يعشن في بيوت متواضعة تخلوا من مظاهر الأبهة التي تعيش فيها الممثلات.
أيضاً الزوجة التلفزيونية في الأفلام والمسرحيات والتمثيليات يأتون لها بطريقة المعاملة بين الرجل وبين المرأة، بين الزوج والزوجة، مشتملة على الرقة والخلو من المشاكل والحنو والعطف وكذا وكذا، فتبدأ تقارن كيف يمكث معها وكيف يحصل بينهما المودة، في حين هذا الزوج يرجع مكدوداً منغصاً عليه عيشته من السعي في جلب لقمة العيش لها ولأولادها ولا تعذره في ذلك، فتقارن بينه وبين ذلك الممثل، هذا ممثل، وهذا عمله، هو يعمل ممثلاً كذاباً ويتصنع، وهم أبعد الناس عن الابتسامة التي يرسمونها، وأبعد الناس عن الرقة التي يتظاهرون بها، هم أخبث الناس وأسقطهم وأهونهم في المجتمع.(1/9)
آثار التلفاز على الحفظ والذاكرة
يعمل التلفاز على استفراغ طاقة الأبناء على الحفظ والتذكر بما يبثه من أغان واستعراضات جذابة، فتجد أن الأطفال يحفظون أغاني الإعلانات ويرددون شعاراتها، وبذلك ترسخ في نفوسهم قيم وأذواق الممثلين والمغنيات، فأنت تأتي بدروس خصوصية في البيت كل يوم، وتعلم بنتك كيف تعشق، وكيف تحب الولد، وإذا جلست معه ماذا تفعل.
أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت فاعل يداك أوكتا وفوك نفخ فالأطفال يحفظون الأغاني ويرددون شعاراتها، وتربيهم الممثلات والفنانون، أتعرف ما معنى (الفنان) في لغة العرب؟ الحمار المخطط، هذا هو الفنان، فهؤلاء هم الذين يربون أولادك، تربية الممثلين تربية البارات والخمارات والحانات التي انتقلت إلى داخل بيوت المسلمين، فيا حسرة على العباد! كيف ومتى يحفظ هؤلاء الأطفال القرآن، هل يجتمع القرآن كلام الله الذي قال تعالى عنه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] هل يجتمع مع الأغاني والإعلانات والتمثيليات وأسماء المطربين والمطربات.
كلا.
لا يجامع القرآن غيره، قرآن الرحمن ومزمار الشيطان لا يجتمعان.(1/10)
أهداف برامج التلفاز
تدور المسرحيات والأفلام وهذه الأشياء حول ضررين لا ثالث لهما، الضحك بمجرد الضحك، الضحك القائم على الكذب وربما دس فيه السخرية من شريعة الإسلام، وربما أضحكوا الناس على المتدينين وأهل طاعة الله وأولياء الرحمن عز وجل، السخرية والضحك التافه، الضحك الذي يلقي صاحبه في جهنم، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل له ويل له ويله له قالوا: من يا رسول الله؟ قال: الذي يكذب ليضحك الناس.
فقال الصحابة للنبي: إنك تمازحنا! قال: نعم ولكني لا أقول إلا حقاً) صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب)، فهذا هو الهدف الأول.
أما الهدف الآخر الذي تدور حوله كل البرامج والأفلام والمسرحيات والتمثيليات فهو قيم الحب والغرام والعشق والهيام ونحو هذه المعاني، وكأن هذه هي المشكلة الوحيدة في هذه الأمة، حلت كل المشاكل وما أصبحت غير مشكلة هذه الفتاة التي أحبت ذلك الولد وجرت بينهما هذه الأشياء المكررة، من أجل صد الناس عن سبيل الله تبارك وتعالى، وفي خلال ذلك يبثون السموم، ويصبح الخمر والدخان هو الحل الأول إذا بدرت مشكلة، إذا وقعت مشكلة لا يلجأ ولا يرجع إلى الاستخارة، أو الدعاء، أو الصلاة كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام، لا.
بل أول حل إذا وقعت مشكلة أن يشعل السيجارة أو يشرب الخمر، هذا هو المخرج من الضائقات عند هؤلاء وأمثالهم.
فالتلفزيون انتزع وسرق زمام القيادة من الآباء والأمهات، حتى يصح أن نعتبر هذا الجيل التلفزيوني ابن التلفزيون، هؤلاء هم أبناء التلفزيون وليسوا أبناء أبويهم، أهملهم الآباء، بل الآباء عندما يريدون أن يستريحوا من الضوضاء يفتحون لهم التلفزيون حتى يستريحوا منهم، ويسلمونهم إلى هذا الخبيث وهم عجينة غضة طرية يشكلونها كما شاؤوا، حتى سماه بعضهم (الوالد الثالث)، أو (الأب الثالث).(1/11)
مفاسد التلفاز الشرعية
يتناول القائمون على البرامج من خلال برامجهم الخبيثة تشويه بعض الأحكام والمفاهيم الإسلامية الثابتة، بل قد يتوصلون إلى الطعن في الشريعة الإسلامية، فيأتون مثلاً لقضية الطلاق التي هي من مميزات هذا الدين، حتى إن العالم الغربي الكافر اضطر أخيراً إليها، وبعدما كانوا يعيرون الإسلام بنظام الطلاق اضطروا اضطراراً إلى تشريع الطلاق، ومن الذي يكتب القصة؟ إنسان خبيث عنده هدف يريد أن يحققه من خلال القصة، فيأتيك بامرأة ناشز متحللة، ومع ذلك هو يصنع هذه الشخصيات، ثم يظهرها في صورة المظلومة المقهورة، وأن المرأة مستعبدة بسبب الإسلام وبسبب هذا الزوج الرجعي المتزمت، وهو الذي تحكم في صفات الفريقين، ثم بعد ذلك يبين كيف أن الرجل يتخلص من المرأة باستعمال سلاح الطلاق، وأن الطلاق عبارة عن كلمة تلقى بلا مسئولية، وجزافاً بلا مبالاة، وأنه بمجرد خروج هذه الكلمة تتمزق الأسرة وتهدم جدرانها، مع أن تشريع الطلاق في الإسلام أسمى وأعلى من أن يكون كذلك، لكنهم يركزون على الأخطاء الفردية، ويوهمون الناس أن هذا هو الأصل في المجتمع الإسلامي، وهذا هو الأصل في تشريع الطلاق، مما يزعزع يقين الناس بتشريعات القرآن ويجرئهم على التطاول عليها، والعياذ بالله.(1/12)
خطر التلفاز كوسيلة إعلامية
من المعلوم أن الإنسان يحصل على المعلومات إذا كانت بطريق النظر بنسبة تسعين في المائة، ويحصل على المعلومات عن طريق السمع كما أن العين تجذبها الحركة أكثر من أي شيء آخر.
وإذا أرادنا أن نستشعر خطورة قضية هذا الجهاز علينا أن نسأل أنفسنا، لماذا تتسابق أمريكا وفرنسا والعالم الغربي على أن يبثوا إلينا البث المباشر؟! ليس هذا فحسب بل يعطونه إيانا منحة وهدية، لماذا؟ هل يجمعون الضرائب من مواطنيهم من أجل أن يتصدقوا علينا، وهل يريدون بنا الخير والسلامة والعافية، أم أنهم هم الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]؟ نعم هؤلاء هم الذين قال الله تبارك وتعالى في حقهم: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} [آل عمران:119]، وقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وهم الذين قال الله فيهم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
سؤال آخر نسأل أنفسنا إياه يبين لنا خطورة هذا الجهاز، التلفزيون ليس مجرد جهاز كهربائي موجود كغسالة أو ثلاجة أو نحوهما، كلا.
إن التلفزيون موجه تربوي وله رسالة يؤديها، وليس مجرد تسلية، إنه موجه يوجه الناس إلى أهداف محددة، وإذا أردنا أن نستشعر خطورة التلفزيون كأقوى جهاز إعلامي ينطبق عليه المثل القائل: فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب إذا سمعت عند حدوث أي انقلاب عسكري في أي مكان في الدنيا فإن أول ما يبدأ به الانقلابيون هو الاستيلاء على الإذاعة والتلفزيون، لماذا؟ لأن بهما يمكن أن توجه الجيوش التي لم يتمكنوا منها من بعد، هذا الجهاز الذي يسميه بعض الإعلاميين بالمخدر الكهربائي، بل المخدرات التي يدمنها الناس يقعون في أسر هذا الجهاز، ذلك الأسر الذي لا يضاهيه سوى الأسر العسكري، لكن الأسر العسكري إذا قدر لصاحبه الخلاص منه خرج مرفوع الجبين، أما من يقع في الأسر التلفزيوني فإنه يوم يتمكن من الفرار والإفلات من الشاشة فإنه يمضي مهدود القوى نادماً ولا يكاد أن يرفع له رأس.(1/13)
مفاسد التلفاز المادية على الناس
لقد فاقت جاذبية التلفزيون كل حد حتى أضحت إدماناً استسلمت له طوائف كثيرة من الناس، ودخل التلفزيون إلى المصنع والمتجر وأكشاك السجائر والمرطبات، ورافق المسافرين في مركباتهم، والمتنزهين في نزهاتهم، حتى أصبح الرفيق الدائم الذي لا يمل، والسمير المستعلي الذي لا ينفك عن اللهو وترهات القول، حتى الطعام يتناوله الناس وهم يشاهدونه، وهذا يشعر إلى أي مدى تعلق الناس به، حتى إنهم في المحلات التجارية لا يتصورون العيش بدونه، وبلغت الفتنة به إلى أنهم بعدما كانوا في السابق يأتون بجهاز واحد في البيت أصبحوا بعد ذلك يأتون بجهازين أحدهما يستعمل والثاني احتياطي، فإذا تعطل الجهاز الأول لا يطيقون أن يعيشوا بدونه كأنه هواء يتنفسونه، فلابد من وجود جهاز آخر.
ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى أن حدثت موضة جديدة، وهي أن يكون هناك مراعاة للذوق والآداب والحياء والقيم، وحتى لا يجلس الأولاد مع الأبوين وهما يشاهدان المناظر الخليعة، فكيف حلت المشكلة؟ أن يشتري الأب تلفزيوناً خاصاً ويضعه في غرفة النوم، ويضع تلفزيوناً آخر في غرفة الأولاد، هذه هي المروءة والشهامة والغيرة، كيف يجلسان معاً وينظران إلى هذه الأشياء؟ وهذا يذكرنا بذلك الممثل الفاسق الذي كانت زوجته تمثل دوراً من الأدوار القذرة الإجرامية مع أحد الممثلين، فالشهامة والغيرة والرجولة والنخوة اقتضت منه أنه يرفض أن يتم تسجيل هذه المشاهد في وجود أي شخص في داخل الأستوديو، فأمر بإخراج كل من في الأستوديو حتى لا يروا زوجته وهي تمثل هذه المشاهد.
انظر كيف انتكست قلوبهم، وصارت عقولهم هباءً كأن لم تكن؟ أين النخوة؟ أين الشهامة؟ ربما جعلتك الشهامة تطرد خمسة أو ستة من الموجودين في الأستوديو حتى لا يروا زوجتك بهذه الحالة المزرية، وماذا عن الرجل الذي كان يصورها؟ ماذا عن الملايين من الناس الذين سيطالعون هذه الأشياء؟ ويقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن ما كاد هذا الجهاز يدخل بيتاً حتى شرعت كل البيوت لاحتضانه حتى البيوت الفقيرة المعدمة التي ربما يعوزها القوت اليومي، يقتطعون من قوتهم ليأتوا بهذه الأجهزة، ودخل هذا الخبيث وترفع في أزهى وأفضل مكان في صدر الدار بلا مقدمات، وانتشر في بيوت المسلمين انتشار النار في الهشيم.(1/14)
الآثار الأخلاقية السيئة للتلفاز
إن الآثار والبصمات التي يطبعها هذا الجهاز على الأسرة إنما تسري وتنطبع في نفوسهم بهدوء وبطء وخفاء، ولا تظهر على مدى يوم أو يومين وإنما تظهر بمرور الوقت في صور ما يسمى بمشكلات التلفزيون.
لا شك أنه من المعلوم والملاحظ أن حال الناس -ولا حول ولا قوة إلا بالله- في يوم الإجازة ارتياد المساجد لصلاة الجماعة، لكن عندما يكون في نفس الوقت مباراة مهمة -كأنهم سيفتحون عكا وفلسطين والقدس- تجد المساجد خاوية، وتجد دروس العلم خاوية، حتى رواد المساجد يفتنون بهذه الصورة، ويضيعون صلاة الجماعة من أجل هذا الخبيث.
تجد النزاعات العائلية، دمر كل شيء، إذا دخل بيتاً أذن بخرابه، إذا دخل قرية أذن بخرابها، قطع الأواصر، وأفسد وخبب بين الزوجات والأزواج، وأثار النزاعات بين الآباء والأبناء، فمثلاً: إذا أراد الآباء -مراعاة للمروءة ومن باب الحكمة والوقار والهيبة- منع أولادهم من النظر إلى شيء معين إذا بالأولاد يقاومون، ومن ثمَّ تحصل النزاعات والصراعات بين أفراد الأسرة الواحدة، الأبناء يتشاجرون على القناة التي يريدون أن يروها، ثم إصرار الأبناء على السهر وانصرافهم عن واجباتهم محاكاة وتقليداً لما يرونه من العنف والعدوانية، وأيضاً ما يقع من كثير من الشباب -وهم قد صاروا بالتلفزيون أطفالاً صغاراً غير راشدين- صاروا يعانون من النقص، ويحاولون إكمال هذا النقص عن طريق التقليد والمحاكاة.
لقد دمر التلفزيون الكثير من القيم والأخلاق الإسلامية، ولنذكر مثالاً على ذلك: شرع الله تبارك وتعالى الاستئذان، وما الحكمة من تشريع الاستئذان؟ قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] إلى آخر الآية في سورة النور، حتى لا يطلعوا على العورات، وقد دمر التلفزيون هذه الحرمة، وضيع الحكمة من تشريع الاستئذان، أمر الشرع الأولاد والأطفال أن يستأذنوا قبل الدخول على الأبوين في أوقات خاصة من أجل الستر والصيانة والعفاف، لكن هذا الجهاز الخبيث هتك هذه الأستار، ولم يعد لهذه الأمور احترام ولا صيانة ولا سرية ولا ستر، بل تكشفت المرأة في هذا الجهاز بصورة مبتذلة ورخيصة، وفي إسفاف بالغ.
إذا تأملنا حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها حينما كانت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والرجال والنساء قعود عنده -الرجال أمامه والنساء في الخلف-، فقال عليه الصلاة والسلام: (لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها؟ فأرم القوم -سكت الصحابة وأحرجوا من هذا-، فقالت أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: إي والله -يا رسول الله- إنهن ليقلن وإنهم ليفعلون -اشتكتهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: نعم -يا رسول الله- يفعلون ذلك، الرجال يتحدثون، والنساء أيضاً يفعلن نفس الشيء فيما بينهن- فغضب النبي عليه الصلاة والسلام والسلام فقال: فلا تفعلوا -لا يتحدث الرجل ولا المرأة بما يكون بينهما من أمور خاصة- فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون)، فتأملوا هذا المثال فيما ضربه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ضربه فيما يكون بين الزوجين، وهذا يكون في حدود ما أحل الله تبارك وتعالى، فكيف إذا كان الذي يكشف ذلك هما شيطانان حقيقة من شياطين الإنس، وإذا كان الكلام في الحديث هنا في مجرد الحكاية فكيف إذا انضمت إليها المشاهدة والعياذ بالله، وقد قيل: حسبك من شر سماعه.
فكيف برؤيته؟!(1/15)
مسئولية المسلمين تجاه أطفالهم
يتصور بعض الناس أن تربية الأطفال تقتصر على أن يطعمه الطعام الجيد ويلبسه الملابس الجيدة وغير ذلك، ولا يلتفت إطلاقاً إلى مسئوليته في تربية هؤلاء الأولاد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، فليست المسألة تطوعاً ولا نافلة، بل إن هذا واجب، وسوف تحاسب عليه وتسأل أمام الله عنه.
يقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته)، ويقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
يقول الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله: الولد أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق.
ويقول الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى حجاً ولكن يعوده التدين أقربوه ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
وأيضاً في هذا الزمان أبواه يتلفزانه، فيجعلانه عبداً للتلفزيون ومفاسد التلفزيون.
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب فإذا نشأ على الفساد لا يصلح بعد ذلك فيه شيء.
ودور الأب والأم الآن بسبب هذا الجهاز الخبيث في انحسار شديد جداً، فالأب مشغول بالعمل، وربما الأم -أيضاً- تخرج للعمل، ثم يصبح الأطفال فريسة لهذا الجهاز الذي يتسلمهم وهم في طور التكوين عجينة رطبة يشكلها كيفما يشاء، ويتحكم فيها كاتبو برامجه، وقد يكون هؤلاء الكتاب من مرضى النفوس الذين يسقطون أمراضهم إسقاطاً نفسياً خلال كتابتهم، وحسب موقف الأب يكون موقف الابن، إذا كان الأب يصيح في الولد ويهجره ويزجره: كيف تنظر إلى التلفزيون؟ ثم إذا به هو يغلق الحجرة وينظر فما من شك أن هذه القدوة السيئة ستؤثر في موقف الابن من هذا الجهاز.
لكن إذا كان الأب يحكي لأولاده ويعلمهم أن هذا الجهاز الخبيث جهاز حافل بالمعاصي التي تغضب الله تبارك وتعالى، فيحذر ابنه باستمرار، ويبغضه في هذا الخبيث، حينئذ يصبح الموقف الطبيعي للابن أن يكره أيضاً هذا الجهاز، فيتعالى عن مشاهدة شيء لا يرضي والده؛ لأنه يثق بوالده ويقلده.
أيضاً الطفل عاجز عن أن يقوم بدور الرقابة على نفسه وحمايته مما يؤذيه في دينه أو دنياه، وهذه مسئولية أبيه، والأطفال ليسوا هم من يشتري الجهاز؛ لأنهم لا يستطيعون ذلك، وليسوا هم الذين ينتجون الأفلام والبرامج، فإذاً لابد أن يكون هناك رقابة وحماية من الأب لهذه الرعية المسكينة من أن تسقط فريسة لهذا الجهاز الخبيث.
والسلف رحمهم الله كانوا يهتمون اهتماماً شديداً بتربية الأولاد، حتى إن بعض هؤلاء في بعض العصور الإسلامية لما أتى بهم الحاكم بعدما سجنهم فترة فقال لهم: أخبرونا ما هو أشد شيء مر عليكم في هذا الحبس؟ فأجابوا جميعاً: ما فاتنا من تربية أولادنا.
لأنهم كانوا في هذه الفترة بعيدين عن أولادهم ولم يراقبوهم، فكيف بهذا الأب المعتدي الظالم المفرط الذي يأتي بهذا الجهاز لهؤلاء الأطفال المساكين فيسقطون ضحايا، ثم يعاقب الأولاد بعدما يفعلون الجرائم بأن يدخلوا في أماكن الأحداث، هو الذي يستحق أن يسجن وليس هؤلاء الأطفال الضحايا بجهل وظلم أبيهم.
فكم يقلق الأب إذا وجد ابنه قد ارتفعت حرارته وعانى من الحمى، أو حصل له اصفرار اللون، أو جرح عضو منه، ثم لا يبالي وهو يرى ابنه موغلاً في المعاصي التي تنتهي به إلى النار والعياذ بالله، ما الفرق بين أن تأتي ببرميل من البترول وتسكبه على ابنك وتشعل فيه النار وتحرقه، وبين أن تسلك به طريق جهنم بأن تجعل قدوته الممثلين والفنانين والساقطين والساقطات والراقصين والراقصات؟ فأنت تقتله، أنت تضر ولدك، وعدمك خير من وجودك؛ لأنه إذا كان يتيماً ربما وجد من يعطف عليه ويرحمه من هذا العذاب ويحميه، لكن أنت أب شرير حينما تأتي بالجهاز وتضعه أمام أبنائك، وكيف يجلس الأب الذي لا رجولة فيه؟! بل كيف يقبل أن يجلس وبناته وأبناؤه إلى جواره يشاهدون معاً المناظر الخليعة القذرة التي يفعلها هؤلاء الفاسقون المجرمون؟! ماذا يفعل؟!(1/16)
من جرائم التلفاز في حق المسلمين
مما يؤسف له أيضاً أننا بين الحين والآخر نضطر إلى ضرب أمثلة حتى تتحرك النخوة في هذه العقول التي طارت منها النخوة، يحكي الأستاذ مروان كجك يقول: روى لي أخ كريم أنه زار أستاذه الجامعي في بيته، وكان هذا الأستاذ نصرانياً، فلاحظ الأخ أنه ليس لدى أستاذه تلفزيون، رجل يعبد المسيح، ويقول: إن الله ثالث ثلاثة فسأله: لماذا لا تضع تلفزيوناً في بيتك؟ فأجابه ذلك النصراني: أأنا مجنون حتى آتي إلى بيتي بمن يشاركني في تربية أبنائي؟! فالتلفزيون يعد الوالد الثالث الذي يحتل مرتبة في الأسرة تلي مرتبة الأب والأم، بل هي فوق مرتبة الأم والأب في بعض الأحيان، فهو ليس ضيفاً دائماً وإنما هو مشارك في مفعولية إعداد وتربية أبنائنا.
وقاضي فرنسي يعمل في ميدان الأحداث يقول: لا يخالجني أي تردد في أن لبعض الأفلام وخاصة الأفلام البوليسية المثيرة معظم الأثر الضار على غالبية حالات الأحداث المنحرفين.
وإننا لهذا لسنا بحاجة إلى البحث عن أسباب عميقة وراء السلوك الإجرامي عند هؤلاء الأطفال أو المراهقين، والمرأة الناجحة تصبح هي المرأة التي تتخذ المرأة التلفزيونية أسوة وقدوة لها، فلابد أن تعدل في شخصيتها، وفي طريقة كلامها، وفي ملابسها، حتى تتشبه بهذه المرأة التلفزيونية بقدر الإمكان، والبطلة دائماً تسكر، وتدخن، وتعربد، وتتبرج لكل غاد ورائح.
أيضاً تلقن هذه البرامج الأطفال والمراهقين فنون الغزل منذ نعومة أظفارهم، كيف يعشقون، كيف يكون لكل ولد بنت يمشي معها ويصاحبها ويدرس أخلاقها، وكل ما يجري من المفاسد المعروفة التي تفسد على المسلمين بيوتهم.
أيضاً يجعل المشاهير ممن يسمونهم نجوماً في عالم السينما والمسرح والرقص والملاهي الليلية يجعل هؤلاء هم المثل الأعلى، ويرسخ في أذهان الأجيال أن الراقصات والفنانات والممثلات ونجوم الكرة أهم بكثير من العلماء والشيوخ والدعاة والمدرسين والمهندسين والأطباء، ويكفي أن تلمح مظاهر الحداد لموت فنان أو فنانة وتقارنها بموت شيخ أو عالم أو داعية من دعاة الإسلام.
كنت مرة في مطار جدة فسمعت طفلاً صغيراً يصيح بكلمة ما فهمتها، وكأنه يقول: (لولاك) أو: (لولاك حبيبتي) فلفت نظري، ولما نزلت في مطار الإسكندرية سمعت أطفالاً آخرين في المطار يقولون نفس الشيء ونفس الكلمة، وأمشي في الشوارع أسمع الأطفال يرددونها، فسألت: ما معنى هذه الكلمة؟ قالوا: هذه أغنية مما يذاع ويشاع، والأطفال يرددونها ويترنمون بها.
ومن الجرائم الكبرى للتلفزيون تزوير التاريخ الإسلامي، وتشويه بعض الصحابة أو الفاتحين أو المجاهدين كـ هارون الرشيد، وإذا ذكر هارون الرشيد ذكرت معه الجواري والخمور والمعازف، مع أن هذا الخليفة العظيم كان غازياً حاجاً، يحج سنة ويجاهد في سبيل الله سنة، وهو الذي قال لـ نقفور ملك الروم لما غدر به فكتب إليه الجواب يقول فيه: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم: وصلني كتابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع يا ابن الكافرة.
وجهز له جيوشاً وأدبه تأديباً، تلك كانت عزة الإسلام، ولما رأى السحابة في السماء قال لها: أمطري أو لا تمطري فسيأتيني خراجك.
فحتى نبغض الخلافة الإسلامية ننظر إلى الأتراك العثمانيين على أنهم محتلون، وأن الأتراك هؤلاء هم الاستعمار العثماني، يبغضوننا في أمجادنا، وفي نفس الوقت يضخمون أمامنا فساق الشرق والغرب والمغنيين ولاعبي الكرة والفارغين والتافهين؛ لكي يضعوا الحواجز بيننا وبين أمجادنا التي أخرجت خير أمة أخرجت للناس.(1/17)
شبهات المقتنين للتلفاز والفيديو(1/18)
شبهة كون التلفاز للترويح عن النفس بعد العبادة
من الشبهات التي يتشبث بها بعض الناس: (ساعة لربك وساعة لقلبك)، والحقيقة أن هذه هي قسمة ضيزى، هي ساعة أو سويعات أو دقائق أو ثوانٍ لربك إن كانت لربك، وساعات وأيام طوال وليالٍ لشيطانك، أو إن شئت: ساعة لربك وساعة لقلبك المريض بالنفاق والفساد.
وكأنها شركة تقسم، وهل أنت تعبد إلهين؟ أين أنت من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163].
فالإنسان لا بأس بأن يروح عن نفسه لكن في اللهو المباح والبريء، ولا يشترط حتى يشعر الإنسان بالسعادة أن يعصي الله تبارك وتعالى، هناك صور كثيرة من الرياضات النافعة من اللهو المباح البريء الخالي من المعاصي يمكن أن تروح بها عن نفسك.(1/19)
شبهة كون الأبناء قد أدمنوا على التلفاز
بعض الناس يقولون: فات الأوان، الوقت متأخر جداً لإنقاذ أبنائنا وانتشالهم من هذا المستنقع الآثم، فهم أشربوا في قلوبهم حب التلفزيون، وغرقوا في إدمانه، فلا أمل في الخلاص بعد ذلك.
والجواب هو في قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، وفي قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، فالبداية هي النية الصادقة الجازمة، والعزم الأكيد على التوحيد الإيجابي، ثم التوكل على الله والسير حثيثاً في طريق مرضاته، ولنكن على يقين أن من ترك شيئاً لوجه الله أبدله الله خيراً منه، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه الله تبارك وتعالى هرولة.
حتى في البلاد الأوروبية وأمريكا الغالب على استعمال الفيديو وهذه الأجهزة الأشياء النافعة جداً، برامج كاملة تعليمية، وفيها آيات من آيات الله تبارك وتعالى النافعة، واكتشافات علمية، وعلوم كثيرة جداً تدرس من خلال الفيديو وأجهزة الفيديو، لكن هنا ما علم عن هذا الجهاز الشرير إلا الخبث والفساد، وكأنهم لا يصدرون إلينا إلا هذه الأشياء التي تحطم ديننا وتحصيناتنا الأخلاقية.
فالغالب عليه الفساد، ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا أبداً ولو زينها بمائة ثوب، ففي الحقيقة ما عرفنا عن الفيديو والتلفزيون إلا الفساد، أما البرامج النافعة فهذا يخدع نفسه، أين البرامج النافعة؟ حتى لو كان فيه نفع فهو كالخمر والميسر {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219].
والقاعدة الفقهية المأخوذة من الحديث هي (لا ضر ولا ضرار)، وهذا ضرر يقيني في الدين، وإلا فمن يتخيل أنه يفتح التلفزيون ولا يسمع منه موسيقى، أو ينظر إلى امرأة فاسقة متبرجة، هذا بغض النظر عما عدا ذلك مما ذكرنا بعضه.
فلا يخلو أبداً من فساد، هو شر كله ولا شك في هذا، ومن يغالط في هذا فهو إنسان مكابر، نحن نرى الآن في هذا الزمان من شدة الفساد الذي طغى على التلفزيون أناساً غير ملتزمين بالدين، وربما لا يصلون، وتجد الواحد منهم يعمد إلى التلفزيون ويحطمه ويكسره لما رآه بعينه قد أوقع بين أولاده فساداً وتطبيق الدروس التي يرونها من الانحلال والفساد.
فنحن لا نوجه كلامنا إلى الحكومة أو السياسيين أو الإعلاميين أو المنتجين أو المخرجين، ولكن هؤلاء إذا استمروا سادرين في غفلتهم مصرين على انحرافهم فما من شك أنهم ما أجبروك على أن تأتي بالجهاز في البيت، وتخرج من قوت أولادك وتشتري أحد هذين الجهازين الخبيثين أو كليهما، أنت الذي أتيت به، وأنت المسئول عن هذا المنكر، ما أجبرت عليه، أنت الذي أضرمت النار في نفسك وأولادك.
فإن كنت لا ترعوي ولا تنزجر بمثل هذا فلنحك هذه الحكاية -ونختم بها الحديث- لعلك تتخيل أنك حينما تدرج في أكفانك وتنكشف أمامك الحجب وترى الملائكة وتدرج في قبرك فلعل هذه الرؤيا الصالحة أو الصادقة -بتعبير أدق- التي رآها بعض الناس من قبل ممن كان قد أقتنى جهاز التلفزيون ثم مات تنفعك.
هذه القصة قصة شيخ كبير في السن كان سبباً في هداية أسرة بكاملها، كانت هذه الأسرة غافلة لاهية تقضي معظم وقتها أمام شاشة التلفزيون لمشاهدة الصور المحرمة، ومسلسلات الحب والغرام والهيام، فما هي تفاصيل القصة؟ يحكي هذا الشيخ فيقول: في يوم من أيام شهر رمضان المبارك كنت نائماً في المسجد بعد صلاة الظهر، فرأيت فيما يرى النائم رجلاً أعرفه من أقاربي قد مات، ولم أكن أعلم أن في بيته تلفزيوناً، جاءني وأنا نائم في المنام فضربني بقدمه ضربة حتى كدت أن أصرع من ضربته، وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي وقل لهم بأن يخرجوا التلفزيون من بيتي.
قال الشيخ: في نفس الرؤيا كنت أرى التلفزيون في جانب من البيت وكأنه كلب أسود والعياذ بالله.
قال: فاستيقظت من نومي مذعوراً واستعذت بالله من الشيطان الرجيم وعدت إلى نومي، فجاءني في المنام مرة ثانية وضربني ضربة أقوى من الأولى، وقال لي: قم واذهب إلى أهلي وقل لهم أن يخرجوا التلفزيون من بيتي ولا يعذبونني به، قال: فاستيقظت مرة ثانية وهممت أن أقوم، ولكنني تثاقلت وعدت إلى نومي.
فجاءني في المرة الثالثة وضربني في هذه المرة ضربة أعظم من الضربتين الأوليين وقال لي: يا فلان! قم واذهب إلى أهلي وقل لهم بأن يخلصوني مما أنا فيه خلصك الله.
قال: فاستيقظت من نومي وعلمت أن الأمر حقيقة، فلما صليت التراويح من ذلك اليوم ذهبت إلى بيت صاحبي وهو قريب لي، فلما دخلت إذا بأهله وأولاده قد اجتمعوا عليه ينظرون إليه وكأن على رؤوسهم الطير، فجلست، فلما رأوني قالوا مستغربين: ما الذي جاء بك -يا فلان- في هذا الوقت؛ فليس هذا من عادتك؟ قال: فقلت لهم: جئت لأسألكم سؤالاً فأجيبوني: لو جاءكم مخبر وأخبركم أن أباكم في نار جهنم أو يعذب في قبره، هل ترضون بذلك؟ قالوا: لا.
ندفع كل ما نملك مقابل نجاة أبينا من العذاب.
قال: فأخبرتهم بما رأيته في المنام من حال أبيهم، فانفجروا جميعاً بالبكاء، وقام كبيرهم إلى ذلك الجهاز التلفزيون وكسره تكسيراً أمام الجميع معلناً التوبة، ولكن القصة لم تنته بعد.
قال الشيخ: فرأيته بعد ذلك في النوم فقال لي: خلصك الله كما خلصتني.
هذه عبرة من الواقع المشاهد وقعت مع هذا الرجل.
فمن منا يريد أن يخلصه الله؟ وهذا الرجل وجد من يخلصه فربما أنت لا تجد من يخلصك، تموت وتدرج في أكفانك وتصير وحيداً في قبرك ثم تبقى هذه السنة السيئة التي أحدثتها وتركتها تفسد عليك أولادك وتبعدهم عن ربهم وتقطع عليهم الطريق إلى الله.
إن التلفزيون قاطع الطريق إلى الله، فهو يقطع عليك الطريق إلى الله، ويبعدك عن طاعة الله تبارك وتعالى، فلا تقل أبداً: أنا أضبطه، وأنا أتحكم فيه.
إنما هو الذي يتحكم فيك، لا تقل أبداً: أنا أتركه وأثق من أولادي.
كلا؛ النساء ضعيفات القلوب، وربما أحياناً العقول، حتى المسيح الدجال عندما يخرج فإن الرجال يقيدون النساء بالحبال ويوثقونهن بها في البيوت من شدة افتتانهن بالمسيح الدجال، فكيف تعرض زوجتك للفتنة؟ كيف تعرض بناتك للفتنة؟ كيف تعرض أولادك لعشق الممثلة الفلانية، والتلذذ بالنظر للمذيعة الفلانية، وتسلم قلوبهم لهذه السموم ثم تحسب بعد ذلك أنك على شيء؟! فالتوبة بابها مفتوح لمن أراد النجاة، ولا سبيل في مجتمعنا للتعامل مع هذا الجهاز إلا أن تعمد الآن إلى تكسيره وتلقيه على المزبلة في المكان اللائق به، متى يأتي هذا اليوم الذي نجد أكوام القمامة كدست فيها أجهزة التلفزيون في توبة جماعية من جميع المسلمين حتى ينزل الله علينا المطر الذي أمسكته السماء؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن -كان يتعوذ أن يدرك هذه الأيام- لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا من قبل، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).(1/20)
مشاهد الاستهتار في التلفاز
من الأمور الخطيرة جداً في التلفزيون الاستهتار بالقيم الإسلامية، بل ربما يوقع الناس في الكفر والعياذ بالله، إذا تحدث عن حكم شرعي بطريقة فكاهية معينة وضحك الناس هلكوا وراحوا إلى النار واستحقوا عذاب الله إن لم يتوبوا ويسلموا من جديد، حينما يأتي شخص بآية قرآنية ويسخر منها ويضحك الناس عليها ويضحك الغافلون الجاهلون يقعون والعياذ بالله في الردة، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
وفي مشهد راقص هابط ساقط يردد أحد المجرمين الفاسقين عبارة أمام الراقصة -والعياذ بالله- يقول فيها: أستغفر الله.
أو: اللهم! صل على النبي.
وهل هذا مقام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو في الأغاني يغنون ويقولون: صل على النبي عليه الصلاة والسلام.
إن النبي بريء منهم ومن أفعالهم أخزاهم الله.(1/21)
شبهة كون التلفاز للتسلية فقط
هناك بعض الشبهات يذكرها بعض الناس، ومع أنها شبهات ضحلة لكن سوف نتوقف قليلاً لنجيب عليها.
بعض الناس يقول: التلفزيون مجرد تسلية وقضاء وقت فراغ وليس أكثر، وليس كما تزعمون! فالجواب أن علماء النفس أنفسهم يؤكدون أن الشيء الذي لا يأخذه الإنسان مأخذ الجد هو الذي يؤثر فيه أبلغ الأثر، فالترفيه التلفزيوني ليس أمراً ثانوياً يمكن التهوين من شأنه، التلفاز مثل الماء والنار له جاذبية، وله سحر؛ لأنه يتحرك ويسحر ويقلب الألباب، ويتواطأ فيه الشكل مع المضمون.
يقول الباحث الألماني مارتن كارلي هيتر: إن أطفال اليوم ليسوا مشاهدين فقط، وإنما هم شركاء في الأحداث والتمثيل، فهم يعيشون الحدث ويشاركون فيه، ويتأثرون بالتجربة تأثراً واقعياً حياً، فهذا مثل الأفعى ناعمة الملمس لكن بداخلها السم الزعاف، كما يقول الشاعر: إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب فليس جهاز التلفزيون مجرد تسلية، بل هو عبارة عن مرب وموجه وصانع لهذه الأجيال التلفزيونية، وهذه حقيقة ندركها وليس كلاماً خيالياً، واسألوا السجون، واسألوا الأحداث، واسألوا صفحات الجرائم في الجرائد عن ثمار التلفزيون وأثرها على الأولاد.(1/22)
شبهة مشاهدة البرامج الدينية
بعض البسطاء يقول: أنا أشتريه من أجل البرامج الدينية، ونور على نور.
وفي الحقيقة هو ظلام في ظلام، حتى البرامج الدينية لا تخلوا من التشويش ومهاجمة الإخوة الملتزمين، والتشنيع على الدعاة إلى الله، ووصفهم بالتطرف.
فهذه الندوة والمسرحية التي يسمونها (ندوة الرأي) التي تدار من وراء الكواليس وكل واحد يحفظ فيها دوره كالدمى التي تحرك لكي يصلوا عن طريقها إلى هدف معين.
إن التلفزيون يعاني من ازدواج الشخصية، فيفتتحونه بالقرآن الكريم من باب ذر الرماد في العيون، حتى إذا ما اعتراض معترض قيل له: نعم له مساوئ ولكن له أيضاً محاسن.
فيختارون الأوقات -كما يذكر الباحثون- غير الملائمة تماماً لتكون منفرة بحيث لا يجلس إليها الناس، وأوله قرآن وآخره قرآن، وما بين ذلك عبادة للشيطان، نفس الجهاز الخبيث الذي يذيع القرآن الكريم هو هو الذي يذيع الرقص والغناء والفساد المحلي والمستورد بألوانه المتعددة تعدد ألوان الطيف.
إذاعة إسرائيل تذيع القرآن، إذاعة لندن تذيع القرآن، وأنت إذا ركبت سيارة أجرة مع بعض الناس في السفر يبدأ بنفس برنامج الإذاعة، أول شيء يقرأ الركاب الفاتحة، ثم يفتح شريط القرآن، ثم بعد ذلك إذا بالأغاني والفساد والفسق طوال الرحلة، فهو اتجاه سائد، رجل يريد أن يفتتح مشروعاً معيناً يأتي بالمقرئ يقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1].
وإن كانت معاهدة صلح قرأ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، وإن وقعت حرب يقول: لا أدري وافعلوا كذا، ويأتون بالآيات القرآنية، لكي تبرر هذه التصرفات.
فمن يتأمل مساحة البرامج الدينية المزعومة مقارنة بمساحة البرامج الأخرى لا يمكن أن يتخيل أن هذا التلفزيون في بلد أو في مجتمع يدين شعبه بدين الإسلام، بل بدين آخر يعنى به القائمون على هذا الجهاز الخطير.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم(1/23)
منهاج أهل السنة في تقييم الرجال
إن الخوض في أعراض الناس إثم عظيم، وأعظم منه الخوض في أعراض العلماء؛ لذا سلك أهل الحديث في تقييم الرجال منهجاً قويماً لم يسبقهم إليه أحد من الأمم، وهذا المنهج له قواعد مبنية على العدل الذي قامت به السماوات والأرض، وعلى العلم الذي هو معرفة الشيء على حقيقته.(2/1)
أهمية العدل والإنصاف كميزان في الحياة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
رواه مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين) المقسطون: هم العادلون كما فسرها صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث، فبدأ الحديث بقوله: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور)، ثم قال في آخره: (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، ففسرها في آخر الحديث بأن المقصود بـ (المقسطين): العادلون، والإقساط والقسط: العدل، يقال: أقسط إقساطاً إذا عدل، ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].
وأما بفتح الياء وكسر السين قسط يقسط قسوطاً وقسطاً فهو قاسط وهم قاسطون فيعني الجائرون الظالمون، أما المقسطون فالعادلون، ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:15] يعني: وأما الجائرون الظالمون (فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)، فقوله: (إن المقسطين -يعني: العادلين- عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن) يعني: يجلسون على منابر، وسمي المنبر بهذا الاسم لارتفاعه، فهم على منابر حقيقة، ومنازلهم رفيعة عن يمين الرحمن عز وجل، وهذا الحديث من أحاديث الصفات التي يسلك فيها مسلك السلف الصالح، ونقول فيها: نؤمن بالله وبما جاء من عند الله، على مراد الله عز وجل، ونؤمن بهذه الصفات أن لها حقيقة، وإن كنا لا يمكن أن ندرك كيفية اتصاف الله تبارك وتعالى بها، فهذه صفات الله عز وجل تعرف بها إلينا، وما علينا إلا أن نثبتها كما أراد الله، وبلا كيف، مثل قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت صفة السمع والبصر، وفي نفس الوقت رفع علم الكيفية وقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يعني: ليس كالله شيء.
فأي شيء من آيات أو أحاديث الصفات مهما حاولت أن تجتهد، أو تصل بعقلك إلى تخيل صورة لها، فلابد أن تقطع حتماً أن الله عز وجل على خلاف هذه الصورة التي يمكن أن تتخيلها، فكل ما تتخيله فالله جل وعلا بخلافه، فإذا قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فليس كالله تبارك وتعالى شيء، فلا يعلم كيف هو إلا هو تبارك وتعالى، فلذلك علينا أن نيئس تماماً وأن نيئس العقول ألا تطمح أبداً في أن تعرف كيفية اتصاف الله تبارك وتعالى بهذه الصفات، ثم نحن لا نشبه الله بخلقه، وفي نفس الوقت لا نعقل صفات الله تبارك وتعالى.
بعض الناس إذا سمعوا نصوصاً في صفات الرب عز وجل تبادر إلى ذهنهم المعنى الذي يليق بالمخلوقين، فيستبشعونه فيقعون في التشبيه أولاً، ويترتب على التشبيه أن يستبشعوا هذا الوصف، فالبتالي يلجئون ويفرون إلى التعطيل، فينفون صفات الله تبارك وتعالى، ولو أنهم من البداية ما شبهوا لما وقعوا في الورطة الثانية، وهي ورطة التعطيل، أما السلفيون الموحدون فإنهم يقولون كما قال سلفهم الصالح: آمنا بالله، وبما جاء من عند الله، على مراد الله، ونحن نقول أيضاً كما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.
تنبيه: جاءت وصف الله تبارك وتعالى باليمين كما في قوله تبارك وتعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وفي هذا الحديث يقول: (وكلتا يديه يمين)، وهذا تنبيه على أن اتصاف الله تبارك وتعالى بهذه الصفة لا كاتصاف المخلوقين، بل كلتا يديه تبارك وتعالى يمين، فيده لا تشبه صفات المخلوقين التي تستحيل في حق الرب عز وجل.
(الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) هذا الجزاء، وهذا الفضل العظيم، وهو أن يتبوأ هؤلاء المقسطون منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وحتى ينال الإنسان هذه الفضيلة فلابد أن يتصف بصفة العدل.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -جعل أولهم- إمام عادل) فكل ما تقلده الإنسان يجب أن يعدل فيه؛ من خلافة أو إمارة أو قضاء أو حسبة أو نظر على يتيم أو صدقة أو وصف، وأيضاً فيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
الشاهد: أن من اتصف بصفة العدل وعمل بها فيما يتولاه من أمور؛ فإن جزاءه عند الله ما ورد في هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
هذا العدل الذي نوه به هذا الحديث، ووعد عليه هذا التشريف والتعظيم، لا يقتصر فقط على الإمارة أو الخلافة، أو ولاية الرجل أهله، والمدير مع موظفيه وهكذا، وإنما ينبغي أن يتصف به الإنسان في كل شيء حتى في حكمه على الأمور، وتقويمه للناس ولمنازلهم، وحكمه على الأفكار والمؤلفات والشيوخ، وهكذا ينبغي أن يتصف الإنسان بالعدل كما أمر الله تبارك وتعالى في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] فهذه الآية توضح منهجاً عظيماً يجعل العدل لازماً أصيلاً من لوازم الإيمان؛ فقد بدأ الخطاب في الآية بمخاطبة المؤمنين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم يشترك فيها إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم نظام الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الدين من خلاق، ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة.
هذا قانون من قوانين وسنن الله في هذه الحياة الدنيا: أن الدولة التي تقوم على العدل فإنها تمكن ويقوم أمرها، والدولة التي تقوم على الظلم -حتى لو كانت مسلمة- فإنه لا يقوم لها أمر، وإن كانت تجازى بالإسلام في الآخرة.
ونحن نحتاج أيضاً إلى العدل والإنصاف حينما نرجع إلى منهج السلف الصالح لنزن الأمور كلها بالميزان القسط، حيث أصبحت الأهواء اليوم هي التي تتحكم بالآراء والتوجهات، حتى أن الإنسان قد يتغاضى عن أخطاء من يحبهم وإن كانت كبيرة، ويسوغها ويلتمس لها المعاذير، بل قد تتحول هذه الأخطاء إلى محاسن في نظره، ويجعل محبوبه في أعلى المنازل؛ ولا يقبل فيه نقداً أو مراجعة، وفي المقابل تراه إذا أبغض أحداً لهوىً في نفسه، أو تقليداً لغيره؛ جرده من جميع الفضائل، ولم ينظر إلا إلى سيئاته وزلاته، فيفخمها وينسى أو يتناسى محاسنه الأخرى مهما كانت بينة، فالاضطراب ليس فقط في تقويم الرجال بل أيضاً في عالم المؤلفات والمصنفات، ترى بعض الناس إذا رأى خللاً في كتاب ما رمى به عرض الحائط، أو إذا رأى شيخاً زل في مسألة فلا يعرف هذا الشيخ إلا بهذه الزلة، كأنه ليست له محاسن على الإطلاق، ولا يقبل منه أي شيء، ويقول: الشيخ صاحب البدعة الفلانية.
الشيخ سالك الخطأ الفلاني في الكتاب الفلاني.
ولا يلتفت إلى أنه ينبغي أن يلتزم بقوله عز وجل: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8].
فعامل الهوى وغيره من العوامل تجعل الإنسان يميل وينحرف عن ميزان العدل، وميزان القسط، فبعض الناس إذا رأى خللاً في كتاب من الكتب رمى به عرض الحائط، وشن على مؤلفه وعلى من اقتناه أو قرأه غاره، وهو في ذلك مغفل إغفالاً شديداً الجوانب الإيجابية التي قدمها صاحبه.
أما إذا كان هذا الكتاب لأحد ممن ينتمي إلى حزبه مثلاً، أو إذا كان مرضياً عنده؛ فإنه يرفع الكتاب فوق منزلته، ويغض الطرف عن زلل المؤلف أو تقصيره؛ ظناً منه بأنه إن اعترف بوجود بعض جوانب النقص في هذا الكتاب فإن هذا يحط من قيمة صاحبه، أو يقلل من شأنه، وقد قيل: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا لم يقف الخلل الفكري والقصور المنهجي عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أعظم من التنازع و(2/2)
أصول المنهج القويم في الرجال والمصنفات والآراء
لشيوع هذه الظاهرة حاول بعض الباحثين أن يعالجها، ويسد هذه الثغرة، وهناك قضايا فكرية كثيرة مهمة جداً ما زالت تحتاج إلى حسم، وإلى وضع ضوابط وموازين، هذه الثغرة هي ثغرة المنهج القويم في الحكم على الرجال، أو تقويم الرجال والمصنفات والآراء وغير ذلك في ضوء موازين ومنهج أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية، هذه الثغرة حاول بعض الكتاب أن يعالجها، ومن ذلك هذا البحث الذي نلخصه لكم اليوم لندرته أو لعدم وجود هذا الكتيب، وهو إعداد الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان: منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم.
يذكر في أول بحثه أنه يعالج فتنة الظلم والجور في الحكم على الرجال والكتب والمناهج.(2/3)
ورع اللسان
إذا ضعف ورع اللسان أو انحرف أو زال عن الإنسان؛ فإنه يتجرأ على الخوض في أعراض الناس، فيتجرأ في بعض الأحيان ويطلق الأحكام جزافاً بدون تثبت، فيجرح أو يعدل ويخطئ ويصوب، وربما سمع شيئاً في حق من هو مخالف له فلا يتفطن إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع)، فنتسمعه يردد كل ما يسمع لموافقته هواه، ويظن أنه ليس عليه عهدة في ذلك لأنه يروي عن الآخرين، ويظن أنه لا يخوض في عرض إخوانه، ويظن أن الرواية عن الآخرين تشفع له، وهذا ظن خاطئ، فالواجب عليه أن يتثبت في ذلك، فهو داخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع)، فليس كل ما تسمع ترويه وتنقله وتعتمده، ولا يشفع لك أنك تقول: إنما أروي عن غيري؛ لأن هذا هو عين ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام، فقوله: (كفى بالمرء كذباً) فيه توضيح أن عين الكذب أن تحكي وتروي بدون تثبت، وهذا ينشأ منه كثير من الفتن، والخوض في حقوق المسلمين لا يجوز؛ ولأن الكلام وافق هواه فهو ينقله عن الآخرين بحجة أن هذا كلام سمعه، وأنه لم يختلقه، والرسول يقول: (كفى بهذا كذباً) يعني: ليس كذباً أصرح من هذا.
فينبغي التثبت تماماً مع من لا تحب كما تتثبت في حق من تحب، وحسن الظن بالمسلمين واجب، فكل المسلمين سواء من هؤلاء أو هؤلاء ينبغي أن تنضبط بميزان العدل معهم، بعض الناس تراه يجرح ويعدل ويخطئ ويصوب قبل أن يستوعب الأمر، وقيل: أن يجمع أطرافه ويدرسه من جميع جوانبه، فيغلب على أحكامه الجور وعدم القسط، وحينما تتفلت الألسنة من قيود الشرع والعقل فإنها تتبارى في الوقيعة في أعراض المسلمين، وتجلب العداوة والبغضاء بين الأحباب، ولو تأمل الإنسان ما ورد في مثل هذا من النصوص لتردد كثيراً قبل أن يزل لسانه ليرمي به من هنا ومن هناك، يقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، فيا ويح غافل وليس بمغفول عنه! (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ)، ولو أنك بكل ذنب ترتكبه بلسانك رميت حجراً في غرفة لامتلأت هذه الغرفة في زمن يسير جداً بالأحجار؛ بحيث لا تتسع بعدها لشيء آخر، فالإنسان في غفلة عن هذا الذي يحصى عليه كل يوم، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!).
من أجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الضمان الذي يؤمن لك دخول الجنة هو حفظ اللسان، يقول صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن العجب! أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين وبالزهد وبالعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب.
وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول، وتزداد الخطورة ويعظم الذنب إذا كان هذا القدح الجائر في العلماء، فهم سادة الأمة وقادتها ونورها، ولا خير في قوم لا يعرفون لعلمائهم قدرهم.
وفي هذا الزمان قد ابتلينا بهذه الجماعات التي تبدأ تعرض وتزين وتزخرف فكرها للآخرين ليقبلوا عليه، وأول ما يهتمون به هو تحطيم علماء المسلمين في نظر الشباب، وأكل لحوم العلماء بالغيبة والنميمة والبهتان أحياناً، والتنقص من شأنهم، والازدراء لهم، والتطاول عليهم، وهذا من أعظم الذنوب، والله عز وجل يعجل لفاعله العقوبة؛ لأن الطعن في علماء المسلمين ذنب عظيم، يقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة.
فعادة الله وسنته جرت أن كل من يتناول ويقع في أعراض علماء المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى جرت سنته أنه لابد أن يهتك ستر من هتك ستر أئمة العلم والهدى، فقوله: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة.
يعني: من أكل منها هلك ومات، وأهلكه الله تبارك وتعالى، يعني: من أكل منها بالغيبة والنميمة؛ فلا ينبغي أبداً أن يقر أحد على التطاول على علماء المسلمين، أو هتك أعراضهم، أو الخوض فيهم بغير حق، بل ينبغي أن تحمل أقوال العلماء وأفعالهم على أحسن وجه ممكن، ويجتهد الإنسان في ذلك، وهو مثاب على هذا الاجتهاد وإن أخطأ.
الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى له كتاب (الرد الوافر)، وقد طبع الكتاب الشيخ زهير جزاه الله خيراً، وكأنه تعمد ألا يكمل عنوان الكتاب على الغلاف؛ لأن هذا الكتاب هو في على العلاء البخاري الذي تطاول على شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إن من قال: ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر! فرد الإمام ابن ناصر الدين عليه بهذا الكتاب القيم جداً، والذي لا يليق بكم ألا تقرءوه، والعنوان هو: الرد الوافر على من قال: من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر! فمراعاة لحرمة شيخ الإسلام ما أتم الشيخ زهير طبع العنوان على الغلاف، لكن سماه فقط الرد الوافر، ويقول الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى في هذا الكتاب: لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فأعراض المسلمين حفرة من حفر الناس، ومن وضع قدمه في أعراض المسلمين فقد وضعها على شفا جرف هار يخشى أن ينهار به في نار جهنم، وكما قال أحد الحكماء: يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل فعثرته من فيه ترمي برأسه وعثرته في الرجل تبرى على مهل إذاً: العلاج الأول للجور في الحكم على الآخرين: ورع اللسان، والخوف من الله تبارك وتعالى، وخوف العقوبة من التطاول بغير حق في أعراض العلماء.(2/4)
أهمية التجرد من الهوى
لا يصح تقويم أي رجل من الرجال أو مؤلف من المؤلفات بمقررات سابقة، فلا يقبل الإنسان على قراءة البحث وهو يحمل فكرة في ذهنه، وغير مستعد لأن يتنازل عنها أو تهتز عنده، فهو يبيت خلفيات معينة، ومن خلالها ينظر لهذا البحث، فهذا يجعل الإنسان لا ينظر بتجرد إلى البحث، بل يميل عن الحق ميلاً واضحاً، فهو لا ينظر إلى المرء بمجموع أعماله، بل يتغاضى عن المحاسن، ولا يقع بين عينيه إلا الهفوات، بل قد يعطيها أكثر مما تستحق من النقد والتجريح.
فلذا كان التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صواباً أو قريباً من الصواب، ومثال عدم التجرد: حينما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه، لقي النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال لهم: (أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: ما تقولون فيه لو أنه دخل في دين الإسلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك! فخرج عليهم عبد الله بن سلام وقال لهم: يا معشر اليهود! أنتم تعلمون أن هذا هو النبي الذي جاءت صفته في التوراة، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا، وأجهلنا وابن أجهلنا!) في الحال انقلبت هذه الموازين؛ لأنهم مقيمون على الباطل ولا يريدون أن يتحولوا عنه، فالتجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صواباً أو قريباً من الصواب.
يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135] فالهوى من الأنواع الخفية التي تتسلل إلى قلب المرء تدريجياً حتى تسيطر عليه من حيث لا يشعر، فهو باب عريض من أبواب الضلال يجثم على صدر الإنسان، ولا يولد إلا الجور والظلم في أحكام المرء، يقول تبارك وتعالى مخاطباً نبيه داود عليه السلام: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، وآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) والقرآن دائماً يأتي بالوحي في مقابلة الهوى كما في هذه الآية: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى} [ص:26].
ويقول أيضاً: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119]، ويقول عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، ويقول تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، لذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يسمون أهل البدع والتفرق الذين يخالفون الكتاب والسنة: أهل الأهواء؛ لأنهم قبلوا ما أحبوه، وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدىً من الله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يحب لحب الله ورسوله في ذلك، ولا يرضى لرضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا ما حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وأنه الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض لدين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصده الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة؛ فليس مجاهداً في سبيل الله.
يعني: أنه ممكن أن يوافق الحق ويتحمس له، لا لأن البحث المتجرد أدى إلى أن هذا حق، لكن لأن الطائفة التي ينتمي إليها يقولون بهذا القول، ولأن من يحيطون به يقولون بهذا القول، أو ينتصر للحق ليثنى عليه به، ولا يقول ذلك خالصاً لله بل لغرض من الدنيا، فهذا ليس مجاهداً في سبيل الله، ولا يفعل هذا لله، لكن يرى الحمية لطائفته التي ينتمي إليها، أو الحزب الذي ينتمي إليه، أو ليقال عنه: شجاع أو جريء، أو عالم، أو لينال غرضاً من الدنيا؛ فهذا ليس عاملاً لله، وليس مجاهداً في سبيل الله، وإن كان يدافع عن حق، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو نظيره أيضاً معه حق وباطل وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة، فالمقصود: أن التجرد بالقول والعمل وسلامة القصد، مقصد مهم في تقويم الرجال وأعمالهم، فينبغي أن يقصد بالبحث أو الكلام وجه الله عز وجل، والنصيحة للمسلمين، كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5].
وينبه شيخ الإسلام أيضاً تنبيهاً مهماً جداً إلى أمر النية في ذلك فيقول رحمه الله: وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد منه بيان الحق، وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم، لم يكن عملهم صالحاً، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبةً وتعزيراً، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام.
فالهجرة المقصود منها معالجة هذا الشخص، وزجره عن المعصية أو الباطل أو البدع، وليس المقصود منها التشفي منه، وإنما المقصود الإحسان إليه بهجره لينبذ هذا الضلال، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر، ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق.
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وعلى المتكلم في هذا الباب وغيره أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق، وغايته النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين، وإن جعل الحق تبعاً للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق، قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
فالعلم والعدل أصل كل خير، والظلم والجهل أصل كل شر، والله تبارك وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم، فقال سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15].
يقول الإمام الفذ ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: هيهات هيهات؛ إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقبها هوى لا منجى له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسه الرامي أخاه ما السبب الذي هاج ذلك، لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك.
وقديماً كان سلفنا الكرام رضي الله عنهم يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه.(2/5)
معرفة الرجال بالحق
يقول الحافظ ابن حزم رحمه الله: التقليد على الحقيقة: إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير برهان، فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليداً، فقام البرهان على بطلانه.
وقال الشوكاني رحمه الله في التقليد: هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة، فثمرة التقليد إهمال النصوص الشرعية، وتعطيل العقل البشري، فالإنسان يرى بعين غيره بدون معرفة دليله، ولسان حاله يقول: إن إمامه قد اقتبس شعلة من نور العصمة، فلا يمكن أن يفوته حديث، ولا يمكن أن يفوته فهم حديث؛ فيصبح فكر الإنسان أسيراً لا حراك به، ليس له قدرة على التأمل أو التفكير أو النظر، وإن وجد فيه بقية من تأمل أو فكر فإنه يسخرها لتحليل أقوال شيخه ودراستها، فمنها المبدأ وإليها المنتهى! كثير من النزاعات والخلافات التي تحدث بين العلماء وبين طلبة العلم قديماً وحديثاً حصلت بسبب هذا التقليد، والتعصب لأقوال الرجال، ومعرفة الحق عن طريق أقوال الرجال، وجعلها حجة في كل صغيرة وكبيرة.
يقول الإمام ابن القيم: اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة.
فمسألة التقليد والتعصب لأقوال الرجال خطأ كامن وخطير جداً في منهج التلقي، فينبغي تجاوز أقوال الرجال، والتحرر من هذا الداء العضال إلى تقديم قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وما يعلم أحد من الأئمة الربانيين إلا وقد نهى عن تقليده، وأخذ كلامه بدون برهان، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر.
ربيعة شيخ الإمام مالك يعرف بـ: ربيعة الرأي، واسم أبيه فروخ، خرج هذا الأب إلى الجهاد وبقي سنوات طويلة، وكان ربيعة ما يزال حملاً في بطن أمه، ثم ولدته أمه وعلمته حتى صار إماماً، وقصته طويلة معروفة، يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: اضطجع ربيعة مقنعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم به ائتمروا! يعني: يتحسر لحال بعض العلماء لاتصافهم بالرياء الظاهر، والشهوة الخفية، وأن الناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، والعلماء هم الذين يتولون صياغتهم وتربيتهم.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت.
وقال مالك بن أنس رحمه الله: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
وبعض تلامذة الإمام مالك كان يحضر مجلسه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر عن الإمام مالك أنه إذا تكلم وناظره أحد في مسألة وناقشه في الدليل، فكان يرفع صوته بهذه العبارة المشهورة: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، ويضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال الشافعي رحمه الله: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي، وجعل يردد هذا لكلام.
وقال الإمام أحمد: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال أيضاً: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا.
فهذا هو منهج الأئمة الكرام بصفائه ونقائه، ومع وضوح هذه القضية عند أهل العلم إلا أن شريحة كبيرة من الأمة تعاني من هذا الداء المستحكم، ليس فقط في مسائل الفروع، لكن أيضاً في مسائل الأصول وأمور العقيدة.
يقول الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: وهذه عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق، الحق هو حق لأن فلاناً قاله، وليس حقاً لأنه قام عليه الدليل، والعاقل يقتدي بسيد العقلاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال: لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله، والعاقل ينظر في القول نفسه فإن كان حقاً قبله، سواءً كان قائله مبطلاً أو محقاً، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالماً بأن معدن الذهب الرغام، والرغام هو التراب، فالذهب تحصل عليه من التراب، فكذلك حتى لو كان في أقاويل أهل الضلال شيء من الحق فتأخذ هذا الحق ولا تعرض عنه.
قال: ولا تأس على الصراف إذا أدخل يده في كيس القلاب.
لماذا؟ لأن الصراف ناقد وبصير يستطيع أن يميز الذهب من غيره.
قال: وانتزاع الإبريز الخالص من الزيت والبهرج دون الصيرفي البصير، ويمنع من ساحل البحر الأخرق دون السباح الحاذق.
أي: فيمنع من الدخول في البحر الشخص الأخرق الذي لا يحسن السباحة، لكن السباح الماهر يسمح له بذلك حتى يغوص ويستجلب الدرر.
قال: ويصد عن مس الحية الصبي دون المغرم البارع.(2/6)
كل بني آدم خطاء
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فالخطأ صفة لازمة للبشر، لا ينجو منها أحد عدا الأنبياء المعصومين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولو نجا من هذه الخصلة أحد لنجا منها خير البشر بعد الأنبياء وهم الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فبعض المبتدعة يرون أن الخطأ والإثم متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، لكن أهل السنة والجماعة يرون أن المجتهد المخطئ مأجور غير مأزور؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، أما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون -لأنهم لا يريدون أن يخطئوا الأئمة كما يفعل الرافضة- وتارة يجفون عنهم، ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يأثمون.
يقول الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: وإنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء، فالشخص النبيل هو الذي تعد أخطاؤه، وتكون معدودة، فلا يوجد إنسان بدون خطأ: من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط يقول ابن القيم رحمه الله: وكيف ينجو من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً، ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصلاح ممن عدت إصاباته.(2/7)
الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات
إذا تبين أن الإنسان معرض للصواب وللخطأ، فلا يجوز لنا مهما كانت منزلته أن نطرح جميع اجتهاداته، بل ننظر إلى أقواله؛ فما وافق الحق منها نلتزمه، ونعرض عن أخطائه، فعين الإنصاف أن توازن بين الإيجابيات والسلبيات، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75].
فالله عز وجل يذم اليهود من حيث العموم، لكن في الوقت ذاته يبين تبارك وتعالى أن بعضهم يلتزم بأداء الأمانة ولا يخونها، وهؤلاء قليلون فيهم، من أجل هذا يقول عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
بلقيس لما كانت كافرة وقالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]، في بعض وجوه التفسير أن قولها: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، هو من عند الله عز وجل، وأنه أقر بلقيس على ما قالته وإن كانت كافرة، لكن لأن هذا حق، ولذلك يقول بعض الشعراء: لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائص فمن أجل ذلك ينبغي أن يتصف الإنسان بالإنصاف.
يقول الله عز وجل وهو يذكر صفات بعض أهل الكتاب مبيناً منهج العدل والإنصاف: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] يعني: مال الأميين أو الأمميين أو الجويين -وهم كل من عادى اليهود- حلال، {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75].
وجاء في صحيح البخاري في حديث طويل فيه قصة رجل من بني إسرائيل استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى، فلما جاء الأجل التمس مركباً ليركبه ليقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، وكان قد قال له صاحب المال: أريد شهيداً، قال: كفى بالله شهيداً، قال: أريد كفيلاً، فقال: كفى بالله كفيلاً؛ فأقره على ذلك، وأخذ منه هذا القرض، فلما أراد الرجل أن يؤدي إليه المال، وحاول أن يصل إليه بالمركب في الموعد ما استطاع، فلما عجز أتى بخشبة، وجعل فيها تجويفاً ووضع فيها الألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم أصلح موضعها ولحمها، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فوضع الآخر الخشبة في البحر، ودعا الله أن تصل إلى الرجل، فإذا بالرجل صاحب المال خرج في الموعد ينتظر المركب لأجل أن يسدد له الدين، فوقف ينتظر المركب فما رأى مركباً، وما أتى الرجل في الموعد، فحينئذ وجد الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله كحطب يحتطب به، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار مرة أخرى، فقال: والله! ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي جئت به، فقال: فإن الله قد أدى عنك، وبعث بالخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً، فهذا مثل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75]، فمن الإنصاف أن تصف هؤلاء بما هم فيه من خير حتى وإن كانوا أعداء.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ويعلمون -يعني: أهل السنة- أن جنس المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس الفلاسفة، وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحياناً، كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين، وإن كان يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75]، فمن الإنصاف أن تصف هؤلاء حتى وإن كانوا أعداء بما هو فيهم حقيقة.
وقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فالله سبحانه وتعالى أثبت النفع في الخمر والميسر، وهو ما يحصل من الربح المادي نتيجة التجارة فيهما، ولكنه حرمهما لغلبة مفاسدهما على هذه المنافع.
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن) فمع أنه وصفه بأنه خير، لكن خالطه دخن، فأدرجه في جملة الخير، (قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)، فأثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن بينهم؛ فالعبرة بكثرة المحاسن وغلبتها.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في شرب الخمر، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله! ما علمت أنه يحب الله ورسوله).
كلمة: (ما)، هنا موصولة بمعنى الذي، أي: لا تلعنوه؛ فإن الذي أعلمه منه أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الصحابي رضي الله تعالى عنه زلت قدمه وتكررت منه هذه المعصية، ولكن هذا لا يعني أنه فاسد بالكلية، بحيث تهمل الصفات الحميدة الأخرى التي توجب محبته وموالاته.
فلابد أن يعرف للمحسن إحسانه، وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف، فلا يجوز أن يغلب جانب النظر إلى المعصية على جانب النظر إلى الطاعات وبقية الحسنات والفضائل، فهذا هو الحد الفاصل بين أهل السنة والخوارج، فالخوارج يكفرونه، ويتبرءون من فعل المعصية، ويعدونه قد خرج من الملة تماماً، ويعادونه كما يعادون الكافر، بل ربما يكونون على أهل الإسلام أشد منهم على أهل الأوثان، كما جاء في صفتهم: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان.
وهذا من شدة انحرافهم عن هذا الأصل القويم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة رضي الله عنه في حق الشيطان الذي علمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان إذا أراد أن ينام: (أما إنه صدقك وهو كذوب)، فانظر إلى الإنصاف؛ مع أنه شيطان، لكنه كان صادقاً في هذه الجزئية، فوصفه بالصدق مع أن الأصل فيه أنه كذاب، فأثبت الصدق للشيطان الذي ديدنه الكذب، ولم يمنع ذلك من اتباع الخير الذي دل عليه، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ضمن فوائد هذا الحديث: ومنها: أن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها، وتؤخذ عنه فينتفع بها، وبأن الكذاب قد يصدق.
كذلك السلف الصالح أيضاً رسخوا وأصلوا هذا الأصل الأصيل، فمن ذلك قول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله يعني: من كان الخير الذي فيه أكثر من الشر الذي فيه، فيعفى عن النقص؛ لأجل غلبة الخير فيه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من المروءة جبر نقص ذوي الهيئات)، وجاء في حديث صحيح: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) أي: الشخص الذي يعلم من غالب أحواله الاستقامة إذا زل مرة أو مرتين ما لم يكن حداً من حدود الله تغاضوا عنه، ولا تؤاخذوه به؛ لأن الغالب عليه الخير.
وقال ابن المسيب: إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقال محمد بن سيرين: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره.
وقال عبد الله بن الزبير الحميدي رحمه الله: كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة، فقلت: فمن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي، وكان أحمد قد جالسه بالعراق، فلم يزل بي حتى اجترني إليه -حتى يحضر عنده- وكان الشافعي قبالة ميزاب الكعبة، فجلسنا إليه، ودارت مسائل، فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ -أي: كيف رأيت الإمام الشافعي رحمه الله؟ - فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه.
أي: جعل يذكر الأخطاء التي أخطأ فيها الإمام الشافعي في أثناء هذه المناظرة، قال: وكان ذلك مني بالقرشية -يعني: كان ذلك حسداً مني للإمام الشافعي رحمه الله تعالى- فقال لي أحمد بن حنبل: فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان؟ تمر مائة مسألة يخطئ في خمس منها أو عشر هل من العقل أن تترك خمسة وتسعين مسألة من الصواب، وتتمسك بخمس؟ ألا يساوي الشافعي عندك إلا هذه الأخطاء الخمسة؟! اترك ما(2/8)
منهج أئمة الحديث في تقويم الرجال
العلم المتعلق بالرجال يسمونه: علم الجرح والتعديل، ومعلوم أنه لا يوجد منهج بشري على الإطلاق يملك عشر معشار هذا المنهج التوثيقي الدقيق الذي قدمه لنا أئمة الحديث رضي الله عنهم أجمعين.
يقول الإمام أبو حاتم ابن حبان وهو يصف معالم هذا المنهج: لسنا ممن يوهم الرعاع ما لا يستحله، ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفاً، بل نعطي كل شيخ حظه مما كان فيه، ونقول في كل إنسان ما كان يستحقه من العدالة والجرح.
محاور هذا المنهج متعددة، وتفاصيلها تراجع في مظانها من كتب الحديث والمصطلح، لكن هنا إشارة عابرة إلى ثلاث مسائل حتى يتبين لنا بها مدى عدلهم وإنصافهم رحمهم الله.
المسألة الأولى: تقويم المبتدعة: فالعلماء ينظرون في الراوي إلى جهتين: جهة الضبط والإتقان، وجهة الصدق، فإذا توافرت فيه هاتان الصفتان اعتمدت رواية الراوي حتى لو كان ممن عرف تلبسه ببدعة غير مكفرة تخالف منهج السلف الصالح، وكانوا يقولون: لنا صدقه وعليه بدعته؛ لأنه عرف بالصدق، لاسيما إن كان خارجياً يعتقد أنه يكفر لو كذب، وإن كان قد وجد أيضاً كذب في الخوارج، لكن هذا في حق من قبلوه من أهل البدع إذا ثبت صدقه، فليس هذا تهوين من أمر البدع وأهلها، وإنما تعظيم للعدل، واعتراف بالحق لأهله.
يقول الإمام الطبري رحمه الله: لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة، ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنهم ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه مجرد الاتهام.
فالقدح هكذا جزافاً لا يصح، لكن ينبغي التحري والتدقيق في هذا.
ويقول الحافظ ابن حجر: فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه؛ فلا مانع من قبوله.
فلذلك لا نعزب إذا رأينا بعض علماء الحديث وأئمتهم حتى البخاري نفسه قد يروي لبعض أهل البدع لتوفر هاتين الصفتين: الصدق والضبط، فهذا يدل على عظم العدل الذي اتصف به هؤلاء السلف في تقويمهم للرجال مع شدتهم على أهل البدع، وحساسيتهم في هذه المسألة.
ولذلك نجد شيخ الإسلام نفسه أحياناً كان يعترف بفضائل المبتدعة إذا ثبتت عنهم، ولا يتردد في ذلك، يقول رحمه الله: وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار؛ فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً.
فانظر إلى دقة فهم شيخ الإسلام، وشدة إنصافه في هذا الباب.
نجد أيضاً في صفوف من ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية أخذهم على بعض الجماعات أنهم ينتشرون في كل أقطار العالم كجماعة التبليغ، حتى في داخل روسيا وجنوب أفريقيا وأمريكا وأوروبا وكل العالم؛ ينتشرون للدعوة إلى الإسلام على بعض البدع التي يتلبسون بها، ولهذا يقولون: كيف يعلمون الناس إسلاماً بهذه البدع؟ فالأولى أن من يرى فهماً أصح للإسلام أن ينشط نشاطهم ويتحرك حركتهم، لكن مع الكسل نتفرغ فقط للرثاء لحال هؤلاء الذين يسلمون على أيديهم، وهذا كلام شيخ الإسلام يقول: وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً يظلم فيه المسلمين والكفار، ويكون آثماً بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفاراً فصاروا مسلمين، وذلك كان شراً بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير، وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين؛ فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخص منها وهي بدعة أهل السنة.
ثم يقول شيخ الإسلام في نفس الباب رحمه الله: والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء، فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأزين، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم، وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض.
ومن جميل ما سطره يراع الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه سير أعلام النبلاء، وهو من أنفس كتب الرجال وأعظمها، يقول رحمه الله: غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن.
هذه هي المسألة الأولى فيما يتعلق بتقويم أهل الحديث في تقويم المبتدع.
المسألة الثانية في منهج أهل الحديث: أن الخطأ اليسير في جنب الصواب الكثير مغفور: فالحكم يكون على غالب مرويات الرجل، وضبط الراوي شرط أساسي من الشروط، لكن هذا لا يعني سلامته من الخطأ تماماً، بل ينظر إلى مجموع ما يرويه الرجل، فإذا كان الغالب على ما يرويه السلامة من الخطأ؛ اعتبر الراوي ضابطاً وقبلت روايته، لكن إذا كثرت الأخطاء، ومخالفة الراوي لغيره من الثقات؛ رد حديثه.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ، وإذا كان الغالب عليه الغلط ترك.
ويقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا خلاف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة.
فهذا لا يترك حديثه، وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ما رأيت أحداً أقل خطأ من يحيى بن سعيد، ولقد أخطأ في أحاديث، ثم قال: ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟! وقال أبو عيسى الترمذي: وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان، والتثبت عند السماع؛ مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط أحد من الأئمة مع حفظهم.
وقال الحافظ ضياء الدين المقدسي: ولو كان كل من وهم في حديث اتهم؛ لكان هذا لا يسلم منه أحد.
المسألة الثالثة والأخيرة من ضوابط أهل علم الحديث في الحكم على الرجال، وهي مهمة جداً، وقل ما يتفطن لها كثير من الناس، وهي: أن كلام الأقران يطوى ولا يروى: فقد يحصل أن بعض الأقران المتقاربين في السن والعلم ممن يكونون في عصر واحد يحصل بينهم شيء من الاختلاف لسبب من الأسباب، فيؤدي ذلك إلى وقوع بعضهم ببعض دون عدل أو تأن، حتى أن الواحد منهم قد يصف غيره أحياناً بأوصاف يعلم يقيناً أنه بريء منها، ولكن حب الذات والانتصار للنفس يذكي فيه روح الغيرة والاعتداء، من أجل ذلك كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون الجرح بين الأقران، إذا تبين لهم أن سبب صدوره نزاعات شخصية بين الطرفين، والعبرة بالأدلة والبراهين، صحيح أن الجرح مقدم على التعديل، لكن إذا كان الجرح ناشئاً عن خصومة مذهبية أو عصبية، أو نوع من التحاسد، وثبت ذلك؛ فلا يقبل هذا الجرح، ولا ينبغي أن يحكى، لكنه يطوى ويخفى، فهذه الصورة أيضاً لا تقف عند المحدثين، بل قد تتعداه في مثل هذا العصر إلى العلماء والدعاة وشتى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية؛ فبعض الناس قد يعجب مما يراه في كتب بعض علماء الدعوة السلفية من الخلاف والمساجلات والمحاورات الشديدة؛ لأنهم ينحرفون عن هذا المنهج، ولكن كلام الأقران يطوى ولا يحكى، فالمنهج القسط: أن ينظر إلى الخلفيات التي تبنى عليها الأحكام، ومن ثم توزن بما يقتضيه الحال من التحري والإنصاف حتى لا يتهم أحد بما ليس فيه، فليس كل جرح مؤثراً، وليس كل اتهام مقبولاً، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: هذا باب غلط فيه كثير من الناس، وضلت فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب: أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه.
يقول الإمام الذهبي: كلام بعض الأقران في بعض لا يعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لذكرت من ذلك الشيء الكثير.
وذلك مثل ما حصل بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح، وبين السيوطي والسخاوي، وهكذا في كل عصر تحصل مثل هذه الأشياء، فإذا تناطحت ا(2/9)
أمثلة تطبيقية لتقويم الرجال
أخيراً وقبل أن نطوي بساط هذا البحث نذكر أمثلة تطبيقية لتقويم الرجال، فنلاحظ في كلام العلماء في تقويم الرجال التورع والتحري والعدل والإنصاف، فنجد بعض النقاد من علماء الحديث قد يضعف أباه أو ولده أو قريبه إذا كان يستحق ذلك، ولا يداري ولا يداهن؛ فإن المنهج أغلى من أولئك الرجال، يقول شعبة: لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسان؛ كان ختني -قريباً له- ولم يكن يحفظ.
وسئل علي المديني عن أبيه فقال: سلوا غيري.
يعني: لا يريد أن يتكلم في أبيه، فأعادوا فأطرق ثم رفع رأسه فقال: هو الدين، يعني: هي مسئولية الدين، فكأن هناك تحفظ من أن يوثق أباه في الرواية أو من ناحية حفظه مثلاً، حتى مع أبيه، فهذا تصديق لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135]، فهو يتحرج من أن يقع في أبيه، ويستخدم كل وسيلة ليهرب من هذا الأمر، وفي نفس الوقت يقول: هو الدين.
وأبو داود السجستاني كان يكذب ابنه ويقول: هو كذاب لا تقبلوا روايته.
وقال عبيد الله بن عمرو: قال لي زيد بن أبي أنيسة: لا تكتب عن أخي؛ فإنه كذاب.
وقال الذهبي: لو حابيت أحداً لحابيت أبا علي، لمكان علو روايته في القراءات عنه؛ لأنه صاحب الروايات العالية في القراءات التي أخذها عنه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى.
ونذكر مثالاً في معرض حديث شيخ الإسلام عن أبي ذر الهروي، وهو أحد الرواة المشهورين لصحيح البخاري، يقول: أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف.
ثم ذكر بعض أصحابه ممن فيهم نظر، وفيهم بعض البدع، ووضح أيضاً ما هم عليه من الخطأ في هذه الأبواب.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الإمام أبي محمد بن حزم رحمه الله: كذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث، مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك، بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في باب الصفات، فإنه يستحمد فيه موافقة أهل السنة والحديث، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة، ويعظم السلف وأئمة الحديث، ويقول: إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن الكريم وغيرها، ولا ريب أنه موافق له في بعض ذلك، لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن الكريم والصفات.
وكذا يفصل الإمام ابن تيمية القول في حق الإمام الكبير ابن حزم رحمه الله، ثم يقول في النهاية بعد أن ذكر بعض المؤاخذات: وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدافعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام، ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره، فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف، والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء.
كذلك انظر إلى كلام الذهبي في ترجمة القاضي أبي بكر بن العربي مشيراً إلى وقوع القاضي أبي بكر بن العربي في ابن حزم رحمه الله، فقال بعدما مدح القاضي أبا بكر بن العربي رحمه الله تعالى: ولم أنقم على القاضي رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم، وأحفظ بكثير، وأصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايق كغيره من الأئمة، والإنصاف عزيز.
أيضاً يقول الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم: وكان قد مهر أولاً في الأدب والأخبار والشعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيراً ليته سلم من ذلك، ولقد وقفت له على تأليف يحض فيه على الاعتناء بالمنطق، ويقدمه على العلوم؛ فتألمت له، فإنه رأس في علوم الإسلام، متبحر في النقل، عديم النظير، على يبس فيه، وفرط ظاهرية في الفروع والأصول، وصنف في ذلك كتباً كثيرة -أي: في المذهب الظاهري- وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله؛ بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين -يعني: كأنهم عملوا منها عقداً فيه درر ثمينة وفيه خرز مهين- فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزءون! وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار.
اهـ أيضاً الإمام أبو إسماعيل الهروي له كتاب معروف اسمه: ذم الكلام، وكتاب في التصوف اسمه: منازل السائرين شرحه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين، والإمام الهروي ممن يلقب بشيخ الإسلام، لكن الحافظ ابن القيم استدرك عليه في كتابه مسائل عديدة، وتعقبه في ألفاظ مختلفة، يقول الإمام ابن القيم في بعض المواضع التي ما استطاع أن يتجاوز عنها وهو يشرح كتاب الإمام الهروي: في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير يجبره حسن حال صاحبه وصدقه وتعظيمه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له.
ولذلك تجد الفرق بين عبارات الإمام ابن القيم في بعض الطبعات من كتاب مدارج السالكين، وبين عبارات بعض علماء الدعوة السلفية، فقد كانت عباراتهم شديدة جداً في مثل الإمام الهروي، ففي الغالب الشباب يميلون إلى هذه الشدة ويتجاوبون معها، ولا ينضبطون بهذا الذي نتحدث فيه الآن، وهو العدل والإنصاف، فتجد من السهل جداً أن تخرج منهم كلمة الكفر والشرك، ويوصف رجل بأنه صوفي؛ فيظن أن كلمة صوفي تطلق دائماً على أهل الإلحاد والاتحاد، وتعني كذا وكذا، وهذه لفظة مشتبهة، وينبغي أن تفتش عن المعنى المقصود لمن اتصف بها؛ لأنها كلمة تحتمل عدة معانٍ، وبسط هذا له موضع آخر.
يقول ابن القيم في بعض الألفاظ قبل أن ينتقده شيخ الإسلام حبيب، ولكن الحق أحب إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: عمله خير من علمه، أي: عمل الهروي خير من علمه.
وصدق رحمه الله، فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله رسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ في هذا الباب لفظاً ومعنى.
ثم في موضع آخر يستنكر ابن القيم على الهروي بعض هذه المواضع ويقول: ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه، وإساءة الظن به، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل، وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، والكامل من عدّ خطؤه، ولاسيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب الذي زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا إلا أقلهم على أودية الهلكة.
ومن هذه النماذج أيضاً، وهو نموذج واضح جداً ونحتاجه كثيراً، نقد العلماء لكتاب إحياء علوم الدين لـ أبي حامد الغزالي، وكتاب قوت القلوب لـ أبي طالب المكي، يقول شيخ الإسلام بعد كلام طويل في حق الإحياء: والإحياء فيه فوائد كثيرة، ولكن فيه مواد مذمومة، فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: أبو حامد أمرضه الشفاء! وهو كتاب لـ ابن سيناء اسمه الشفاء في الفلسفة فكانوا يقولون: إن أبا حامد لما قرأ في كتاب الشفاء أمرضه.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في الإحياء أيضاً: وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء، ومنحرفي الصوفية نسأل الله علماً نافعاً.
ويقول أيضاً: الغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ، ويقول الذهبي أيضاً: رحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله؟ ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول.
فهذان إمامان من أئمة أهل السنة؛ شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الذهبي رحمهما الله يثبتان الاضطراب والانحراف في منهج أبي حامد الغزالي رحمه الله، ولم يمنعهما ذلك من تقرير الجوانب الإيجابية في منهجه الفكري إحقاقاً للحق، وإتماماً للعدل المأمور به شرعاً، فإذا فقدنا هذه الضوابط التي ذكرناها، تشيع الاتهامات وتكثر الافتراءات، ويصل الحال عند بعض الناس إلى أن يرموا بالكتاب جملة وتفصيلاً، وقد يتطاولون بألفاظ السب والتجديع لمؤلفه.
منهج أهل(2/10)
تفسير آية الكرسي
إن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي؛ ففيها من المعاني ومن صفات الله وأسمائه وتنزيهه ما لا يحيط به إنسان، ولا يسطره بنان.
ومن تأمل هذه الآية وتدبرها ظهر له من هذه المعاني ما يُعرّفه بقدر هذه الآية، وفضلها وعلوّ منزلتها، فحريّ بكل مسلم أن يحفظها، وأن يعي تفسيرها؛ ليكون له عند الله الثواب العظيم، والأجر الجزيل.(3/1)
فضل آية الكرسي(3/2)
آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن لآية الكرسي مكانة عظمى، ومنزلة رفيعة؛ لأنها اشتملت على أشرف المذكورات، وعلى أفضل المعلومات، كما أنها تتضمن توحيد الله جل جلاله، وتعظيمه وتمجيده، وذكر صفاته، ولا مذكور ولا معلوم أعظم من رب العالمين تبارك وتعالى.
يقول الرازي رحمه الله: واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم، فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف، كان الذكر والعلم أشرف، وأشرف المذكورات وأشرف المعلومات هو الله سبحانه وتعالى، وكل كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه، فإن ذلك الكلام يكون النهاية في الجلال والشرف.
وآية الكرسي هي بهذه المثابة، وقد بلغت في الشرف أقصى الغايات وأبلغ النهايات.
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي أنزل عليه القرآن الكريم قد بين فضل هذه الآية ومكانتها في عدد من أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم.
ونحن نحاول أن نفرد هذه الآية بالتدبر والتأمل من خلال بحث مختصر للدكتور فضل إلهي حفظه الله تعالى بعنوان: (فضل آية الكرسي وتفسيرها).
يذكر المؤلف أولاً: أن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم، فقد روى الإمام مسلم، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فضرب في صدري وقال: والله! ليهنك العلم أبا المنذر)، معناها: ليكن العلم هنيئاً لك، رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى.
فخير الكلام كلام الرحمن جل جلالة، وخير ما نزل من كلام الله عز وجل: القرآن الكريم، وخير وأعظم آية في القرآن الكريم: آية الكرسي، فما أعظم شأنها، وأجلّ منزلتها، وأعلى مكانتها! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الحديث، وعلى وصفه هذه الآية بأنها أعظم آية في كتاب الله: وليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي، وإنما ذكر الله في أول سورة الحديد وآخر سورة الحشر عدة آيات لا آية واحدة.
وهو هنا يشير إلى أن أوائل سورة الحديد وأواخر سورة الحشر تضمنتا من أسماء الله عز وجل وصفاته الكثير، لكن هذا أتى مفرقاً في عدة آيات، وإنما كلامنا هنا عن أفضل آية في القرآن.(3/3)
آية الكرسي تتضمن اسم الله الأعظم
كذلك من فضائل هذه الآية المباركة: أن فيها اسم الله الأعظم، فلله تبارك وتعالى أسماء، وهي الأسماء الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها، ومن تلك الأسماء المباركة: اسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم أن اسمه الأعظم جل جلاله في آيات من القرآن الكريم، ومن تلك الآيات التي ذكر فيها ذلك: آية الكرسي.
فقد روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في هاتين الآيتين: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} و {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]: إن فيهما اسم الله الأعظم).
يستفاد من هذا الحديث أن اسم الله الأعظم هو: الله لا إله إلا هو الحي القيوم؛ لأن هذا هو القاسم المشترك بين هذين الموضعين في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي صدر آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2].
وروى الحاكم عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن اسم الله الأعظم لفي ثلاث سور في القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه) فالتمستها فوجدت في سورة البقرة قول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} آية الكرسي، وفي سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2] وفي سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111].
فمن رغب في الدعاء باسم الله الأعظم ليستجاب له فليدعُ بما جاء في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، فمن توفيق الله سبحانه وتعالى للعبد أن يدعو الله عز وجل باسمه الأعظم؛ لأن الإنسان إذا دعا باسم الله الأعظم وتوسل به فإنه إذا سأل الله أعطاه، وإذا دعاه أجابه.
والاسم الأعظم لله سبحانه يحتاج إلى بحث مستقل، وهناك خلاف كبير بين العلماء في تعيين اسم الله الأعظم، والروايات، في هذا كثيرة، وتستحق بالفعل أن نفردها ببحث مستقل إن شاء الله تعالى فيما بعد، لكن هذه إحدى الروايات التي تؤيدها بعض الأدلة في أن اسم الله الأعظم هو: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن اسم الله الأعظم هو: الحي، حيث قال: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها؛ ولهذا كانت أعظم آية في القرآن: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا هو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتفى بالحي؛ لأنه لو لم يكن إلا اسمه الحي لاستلزمت حياته سائر الصفات.
فرأي ابن تيمية: أن (الحي) هو اسم الله الأعظم.
أما ابن القيم فإنه يرى أن اسم الله الأعظم هو: الحي القيوم، فقد قال: كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، هو اسم (الحي القيوم).
من الروايات التي وردت في اسم الله الأعظم: دعاء ذي النون: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
ومنها: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) إلى آخر الدعاء، وموضعه بعد التشهد وقبل التسليم.
وهناك عدة روايات في الاسم الأعظم، وتفصيل ذلك في موضع آخر.(3/4)
آية الكرسي من أعظم ما يحصن العبد من الشيطان الرجيم
ومن فضائل هذه الآية الكريمة: أنها تحرز الإنسان وتحفظه من الشيطان الرجيم.
فالشيطان يسعى إلى الإضرار بالعباد، والله عز وجل -وهو الرءوف بالعباد- شرع لهم أموراً تقيهم من شر الشيطان وتبعده عنهم.
فمن تلك الأمور التي يتقى بها شر الشيطان: قراءة آية الكرسي، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قراءة آية الكرسي تبعد الشيطان عن قارئها وتحفظه من شره.
من ذلك ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثوا من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: لأذهبن بك وأشكوك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال: رفعه إلى الحاكم، يعني: أحضره للشكوى، (قال: إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة)، يحتمل هنا أنه يعني: عليّ نفقة عيال، أو أن (علي عيال) بمعنى: لي عيال، قال: (فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟).
أي: بادره النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال عن شيء لم يخبره به أبو هريرة، وإنما ذلك وحي من الله.
قال: (قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود)، أي: أنه كان كاذباً في هذا الكلام، وسيعود مرة ثانية إلى هذا الفعل، قال: (فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، فرصدته -أي: راقبته- فجعل يحثوا من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني؛ فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود.
فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجعل يحثوا من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح).
قوله: (فإنك لن يزال عليك من الله حافظ) يعني: حافظ من عند الله، أو من جهة أمر الله تبارك وتعالى، وقوله: (ولا يقربنك شيطان حتى تصبح) هذا ضمان للحفظ من الشيطان.
قال أبو هريرة: (فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح).
وكان الصحابة رضي عنهم أحرص ما يكونون على الخير، فلم يكن أبو هريرة ليفوّت مثل هذه الفرصة التي أغراه فيها هذا الجني بأن يعلمه كلمات ينفعه الله بها.
وكانوا أحرص شيء على الخير، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب مذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك شيطان).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث: ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها.
أي: إذا قرأتها في وضع من الأوضاع الشيطانية بصدق فإنها تبطل هذه الأحوال الشيطانية، مثل من يدخل النار بأحوال شيطانية، وبعض الناس الذين يزعمون أنهم يلقون أنفسهم في النار، ويكون في الأمر نوع من الأحوال الشيطانية، فإذا كان هناك شخص موجود وقرأ آية الكرسي فإن هذا يبطل، أو يحضر سماع المكاء والتصدية، فتتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاماً لا يُعلم، وكذلك في مثل هذا الموضع إذا قرأ الإنسان آية الكرسي فإنه يبطل الأحوال الشيطانية، ولذلك فإن القوم الذي ينشغلون بهذه الأحوال الشيطانية، يخافون جداً من أن يوجد أحد الحضور يذكر الله أو يقرأ آية الكرسي، ولا شك أن في هذا الحديث فضل عظيم لآية الكرسي.
ومن ذلك ما رواه الإمامان أحمد والترمذي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (أنه كانت له سهوة فيها تمر)، والسهوة: هي الطاق في الحائط، يوضع فيها الشيء، وقيل: المخدع بين البيتين، وقيل: شيء يشبه الرف، وقيل: بيت صغير كالخزانة الصغيرة، وكل هذه الأشياء يُطلق عليه: سهوة، ولفظ الحديث يحتملها كلها، وإن كان بعض الطرق تُرجح أن المراد بالسهوة هنا: التعريف الأول، وهو الطاق في الحائط يوضع فيها الشيء.
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (أنه كانت له سهوة فيها تمر، فكان تجيء الغول فتأخذ منه)، والغول: مفرد الغيلان، وهي جنس من جن الشياطين، (فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب، إذا رأيتها فقل: باسم الله، أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأخذها، فَحَلَفَتْ ألا تعود، فأرسلتها، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ قلت: حلفت ألا تعود، قال: كذبت، وهي معاودة للكذب، فأخذتها مرة أخرى، فحلفت ألا تعود، فأرسلتها، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ قلت: حلفت ألا تعود، فقال: كذبت وهي معاودة للكذب، فأخذتها، فقلت: ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى النبي صلى عليه وسلم، فقالت: إني ذاكرة لك شيئاً: آية الكرسي، اقرأها في بيتك، فلا يقربك شيطان ولا غيره) أي: لا يقربك شيء يضرك، سواء كان شيطاناً أو غيره، (فجئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ فأخبرته بما قالت، قال: صدقت وهي كذوب)، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وأقرّه الحافظ المنذري، وصححه الألباني رحمهم الله تعالى.
وروى النسائي وابن حبان والطبراني والحاكم والبغوي عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أنه كان له جرين تمر)، وجرين التمر: هو موضع يجفف فيه التمر، (فكان يجده ينقص، فحرسه ليلة، فإذا هو بمثل الغلام المحتلم، فسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال: أجني أم أنسي؟ فقال: بل جني، فقال: أرني يدك، فأراه، فإذا يد كلب وشعر كلب، فقال: هكذا خلق الجن؟ فقال: لقد عَلِمَتْ الجن أنه ليس فيهم رجل أشدّ مني، قال: ما جاء بك؟ قال: أنبئنا أنك تحب الصدقة، فجئنا نُصيب من طعامك، قال: ما يجيرنا منكم؟ قال: تقرأ آية الكرسي من سورة البقرة: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}؟ -يعني: أتحفظها؟ - قال: نعم، قال: إذا قرأتها غدوة أُجِرْتَ منّا حتى تمسي، وإذا قرأتها حين تمسي أُجِرْتَ منّا حتى تصبح).
قوله: (غدوة) يعني: في الغدو، وهو الصباح.
قال أُبي: (فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدق الخبيث).
فالشاهد: أن هذا من فضائل آية الكرسي.
وهذا الحديث قال فيه الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي، وقد ترجم الإمام ابن حبان هذا الحديث بقوله: ذكر الاحتراز من الشياطين -نعوذ بالله منهم- بقراءة آية الكرسي.
إذاً: من وظائف آية الكرسي أنها تقال في أذكار الصباح والمساء، وعندما يأوي المسلم إلى فراشه لينام، فإنه إذا قرأ آية الكرسي، فإنه يصير معه حافظ من الله تعالى ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
وأيضاً: قراءة آية الكرسي في البيت تبعد الشيطان وغيره مما يضر الناس عن ذلك البيت.
وكذلك قراءة آية الكرسي غُدوة -أي: في الصباح- تجير قارئها من الجن حتى المساء، وقراءتها مساء تجير قارئها منهم حتى الصباح.(3/5)
من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى
كذلك مما ثبت من فضل آية الكرسي: أن من قرأها بعد الصلاة المكتوبة فهو في ذمة الله تعالى إلى الصلاة الأخرى.
فقد روى الإمام الطبراني عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله تعالى إلى الصلاة الأخرى)، وهذا حديث حسن.
فما أعظم هذه الذمة! وما أوثقها وأقواها! فإنها ذمة الله سبحانه وتعالى القادر المقتدر، رب الخلق، ومالك الكون، ومدبر الأمر كله، إنها ذمة الله الذي لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، إنها ذمة الله الذي لا غالب لمن نصره، ولا ناصر لمن خذله، فعلى الراغبين في أن يدخلوا في ذمة الله أن يحرصوا على مداومة قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة.(3/6)
قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة من أسباب دخول الجنة
ومن فضائل ووظائف آية الكرسي أيضاًًًُ: ما بشّر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: أن من قرأها بعد الصلاة المكتوبة، لا يحول بينه وبين دخول الجنة إلا الموت.
فقد روى الإمام النسائي وابن حبان والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت).
وهذا الحديث قال عنه الحافظ المنذري: رواه النسائي والطبراني بأسانيد آحادها صحيح، وقال شيخنا أبو الحسن: هو على شرط البخاري وابن حبان في كتاب الصلاة وصححه، وأيضاً صححه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
قال الطيبي في شرح قوله: (لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت): أي: أن الموت يكون هو الحاجز بينه وبين دخول الجنة، فإذا انقضى هذا الحاجز -الموت- حصل دخول الجنة، (لم يمنعه)، وهذا يدل على أن من أراد أيضاً أن يختم له بخير فليحرص على آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة، كما في فضيلة سيد الاستغفار: (أن من قرأه حين يصبح ثم مات من يومه دخل الجنة، ومن قرأه حين يمسي ثم مات من ليلته دخل الجنة).
وقراءة آية الكرسي أحد أسباب دخول الجنة، واستحقاق الجنة أن يكون قد قرأ آية الكرسي في هذين الوقتين، أو يكون قرأ آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة.
قال المُلاّ علي القاري: ويمكن أن يقال بالمقصود: أنه لا يمنع من دخول الجنة شيء من الأشياء ألبتة؛ لأن الموت في الحقيقة ليس مانعاً من دخول الجنة، بل قد يكون موجباً لدخولها، ويكون الوسيلة لدخول الجنة، فيكون تفسير هذا الحديث على مثل قول القائل: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلولٌ من قراع الكتائبِ فهل الناس الذين يصفهم الشاعر يُذمّون بهذا الكلام؟!
الجواب
لا، بل هذا من المدح؛ لأن مما يدل على الشجاعة أن السيوف تكون فيها الخدوش نتيجة لكثرة القتال بها، فهذا فيه وصف لهم بالشجاعة.
وأحياناً قد يمدح الإنسان من يحبه ويؤكد مدحه بما يشبه الذم، فمثلاً تقول: فلان ليس فيه عيب إلا أنه يموت، وهل كون الإنسان يموت هذا عيب؟! فيكون المقصود في هذا البيت: أنه لا عيب فيهم.
فإذاً: هذا يشبه تفسير آخر الحديث: (لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت)، يعني: لم يمنعه من دخول الجنة شيء ألبتة.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]، فقوله: (وما نقموا منهم) يعني: ما كرهوا وما عابوا عليهم إلا الإيمان، مع أن هذا مما لا يُكره ولا يُعاب.
ولا شك أن هذا من الفضل العظيم لهذه الآية العظيمة -وهي آية الكرسي- وفعله يسير جداً، وفي نفس الوقت جزاؤه عظيم للغاية، فهل يخطر على قلب بشر جزاء أجلّ وأفضل من هذا الجزاء، وهو أنه إذا قرأ آية الكرسي استحقّ الجنة! ويبقى فقط أن يموت حتى يدخل الجنة! فهذا هو الفوز العظيم كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].(3/7)
تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)(3/8)
(الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء
إن آية الكرسي مشتملة على عشر جمل مستقلة، نذكرها بالترتيب: الجملة الأولى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} والكلام فيها على قسمين: أولاً: بيان أن (الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فقوله: (الله لا إله إلا هو) هذا هو شعار الإسلام، وهذه كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله تبارك وتعالى.
يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: وأما تأويل قوله: (لا إله إلا الله) فإن معناه: النهي أن يُعبد شيء غير الله الحي القيوم، الذي صفته ما وصف به نفسه تباك وتعالى في هذه الآية: (الله لا إله إلا هو)، فبدأ بلفظ الجلالة، ثم ذكر أهمّ شيء على الإطلاق في دعوة الإسلام، وهو هذا الشعار -شعار التوحيد-: (لا إله إلا هو).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: إخبارٌ بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلق.
وقال البيضاوي: والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير.
وقال القاضي أبو السعود: أي: هو المستحق للعبودية لا غير.
وقال السعدي: فأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية، وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، فألوهية غيره وعبودية غيره باطلة.
إذاً: معنى هذه الجملة: أن الله جل جلاله هو المتفرد في استحقاق العبودية، فلا يعبد أحد سواه كائناً من كان، بأي نوع من أنواع العبادات.
فلا قيام ولا ركوع ولا سجود ولا ذبح ولا نذر إلا له وحده تعالى.
ولا يُدعى في السراء والضراء واليسر والعسر والفرح والغمّ إلا الله سبحانه وتعالى.
ولا يُستمدّ ولا يُستنصر ولا يُستغاث إلا به.
ولا طواف إلا ببيته العتيق.
ولا حلف إلا به، ولا حكم إلا له.
ولا ندّ ولا نظير ولا شريك له في أي نوع من أنواع العبادات.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هذه كلمة النجاة، وهي مكونة من شقين: الأول: شق فيه النفي، وهو: (لا إله) يعني: نفي استحقاق العبودية والألوهية عن غير الله.
الثاني: الإثبات، وهو: (إلا الله)، وهو إثبات استحقاق الألوهية لله الأحد جل جلاله.
وقد أتى ذكر شهادة التوحيد بمعناها في بعض المواضع، مثل قول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، وهي كلمة الشهادة، فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت) يعني: يحقق النفي، فيؤمن بأنه لا يوجد أحد ولا شيء غير الله يستحق أن يُعبد.
وقوله: (ويؤمن بالله)، يعني: لا يصحّ إيمانك بالله حتى تبطل استحقاق العبودية لغير الله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256].
وكذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [الزخرف:26 - 28] وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، لكنه هنا ذكرها بالمعنى: (إنني براء مما تعبدون) أي: أكفر بكل ما تعبدون من دون الله، (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)، وهذا هو نفس معنى: لا إله إلا الله.
وهذا هو ما بدأت به آية الكرسي، وهو مفتاح وأساس دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فما بعث الله نبياً إلا أوحى إليه أنه لا إله إلا هو، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فهذه الكلمة مفتاح دعوة جميع الأنبياء والرسل، ولذلك كانت هذه الشهادة قاسماً مشتركاً بين جميع الأنبياء على الإطلاق، ولجميع الرسالات: لا إله إلا الله، ينضّم إليها شق آخر في الشهادة بإثبات النبوة والرسالة وهي: فلان رسول الله، ويختلف هذا من أمه إلى أمه، فمثلاً في عهد نوح كانت كلمة النجاة: لا إله إلا الله نوح رسول الله، وفي عهد موسى: لا إله إلا الله موسى رسول الله، وفي عهد عيسى عليه السلام: لا إله إلا الله عيسى رسول الله، ثم جاءت الرسالة الخاتمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا ينجو الإنسان إلا إذا حقق هذين النوعين من التوحيد: توحيد المعبود -وهو: الله- وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله؛ لأن معنى أنك تشهد أن لا إله إلا الله: أنك تثبت أنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إلى الله، وأن من عبد أو وجه العبادة لغير الله فقد أشرك بالله واتخذ معبوده إلهاً من دون الله.
فخلاصة الكلام: أن الشقّ الأول من كلمة التوحيد يدلنا على توحيد العبادة، فإذا قال قائل: يا رب آمنت أنه لا إله إلا أنت، وأنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إليك، إذاً: كيف يتعرف هذا على كيفية العبادة؟ وعن أي طريق يعرف ما يرضي ربه ليفعله؟ وما يسخطه ليتجنبه؟ وكيف يصلي؟ وكيف يصوم؟ وكيف يزكي؟ وكيف يحج؟ وكيف يقوم بسائر العبادات؟ وقد أتى بيان هذا كله في الشق الثاني، وهو توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فلا يعبد الله بالأهواء، ولا بمقتضيات العقول فحسب، وإنما يعبده بالوحي الذي يوحيه الله للرسول الذي أرسله كي يعلمك كيف تحقق التوحيد.
فإذاً: لابد من توحيدين: توحيد الله عز وجل، وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله، إذ لا يمكن أن يقبل الله من العبد عبادة إلا إذا كانت موافقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال القاضي ابن عطية في تفسيره: لما أخبرهم تعالى أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم، أتبع ذلك بإعلامهم أنه ما أرسل قط رسولاً إلا أوحى إليه أن الله فرد صمد، وهذه عقيدة لم تختلف فيها النبوات، وإنما اختلفت في الأحكام، ولذلك نقول: إن لفظة التوحيد (لا إله إلا الله) قاسم مشترك بين جميع الأنبياء، وكل الأنبياء دعوا إليها، واختلفوا في الأحكام، والشريعة تختلف، لذلك فمن الممكن أن نقول: الرسالات السماوية، ولا ينبغي أن نقول: الديانات السماوية؛ فهذا كذب وضلال مبين، إذ لا يوجد شيء اسمه: (الديانات السماوية) بصيغة الجمع؛ لأن السماء لم ينزل منها إلا دين واحد، وكل الأنبياء دعوا إلى الإسلام، لكن التحريف هو الذي فعل ذلك، فادعاء أن الأديان المحرّفة الموجودة حالياً كلها سماوية هذا من الضلال المبين؛ لأن السماء لم ينزل منها غير دين واحد فقط، وهو دين الإسلام، فآدم كان مسلماً نوح كان مسلماً موسى دعا إلى الإسلام عيسى دعا إلى الإسلام هود دعا إلى الإسلام صالح دعا إلى الإسلام وهكذا جميع الأنبياء دعوا إلى الإسلام، فلذلك إذا قرأت قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فإياك أن تظن أن الإسلام هو الرسالة الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا، بل معنى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] أي: منذ أن خلق الله الدنيا والناس كلهم مطالبون بالإسلام، والأدلة في القرآن على ذلك أكثر من أن تُحصر، ووصف الأنبياء بالإسلام شائع جداً في القرآن الكريم.
فجميع الأنبياء متّحدون في العقيدة، وقد يختلفون في الشرائع، فمن الممكن أن نقول: شرائع سماوية، أو رسالات سماوية؛ لأنها رسالات متعددة، لكن لا نقول أبداً: الأديان السماوية كما سبق.
والحق لابد أن يكون واحداً، فكيف يقال عن النصرانية المحرّفة أنها دين سماوي في سياق المدح؟! وفيها: لا إله إلا الله، ليس عيسى رسول الله، حيث يزعمون أن عيسى هو الله!! أو أن الآلهة ثلاثة!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وفي اليهودية نجد إلحاداً في أسماء الله وصفاته، فكيف يكون هذا أيضاً دين سماوي؟! الدين السماوي هو دين موسى وعيسى وآدم ومحمد ونوح وجميع الأنبياء، فهؤلاء كلهم دعوا إلى: لا إله إلا الله، واختلفوا في الشرائع لاختلاف الأمم والظروف، إلى أن جاءت الشريعة الخاتمة التي يصلح بها كل زمان وكل مكان.
إذاً: لا تختلف النبوات على الإطلاق في الدعوة إلى: لا إله إلا الله، وإنما يختلفون في الأحكام، مثل: أحكام الزواج أحكام الطلاق أحكام العبادات، إلخ.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أي: قلنا للجميع: لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة على أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود؛ لأن الدليل إما معقول وإما منقول: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:10].
وقال قتادة: لم يُرسَل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد، روحه التوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى) العلات: الضرائر، أي: مثل الشخص الذي يتزوج عدة نساء ويأتي بأولاد، فهؤلاء الأولاد يكون أشقاء من جهة الأب، فالدين واحد وهو التوحيد، وكلهم متفقون على هذا الأصل.
قوله: (وأمهاتنا شتى)، أي: الشرائع تختلف، ولذلك جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بنسخ الشرائع التي قبلها، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيرها: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ)) أي: بعثناهم بأن اعبدوا الله ووحدوه، (واجتنبوا الطاغوت) أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل ما دعا إلى الضلال.
وقال ابن كثير: (ولقد بعثنا في كل أمة) أي: في كل قرن وطائفة (رسولاً) وكلّهم يدعون إلى عبادة الله، وينهون عن عبادة ما سواه.
إذا استعرضنا بعض آيات القرآن الكريم نجد أن هذه الحقيقة هي أجلى حقائق القر(3/9)
شواهد اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى هذا الأساس: (الله لا إله إلا هو)
إذا كان الأمر كذلك فلا غرو أن نرى سيد الأنبياء وخاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم قد اهتمّ بالتوحيد، وأعطاه الأولوية المطلقة، يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وهذا هو الأصل الذي أمر أن يعلنه للناس كافة، يقول عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف:158].
فهذا الأصل لم ينشغل عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً قبل تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، بل وبعد ذلك في حال الأمن وفي حال الحرب في الحضر والسفر في المسجد والسوق، فدعا إليه أقاربه وعامة الناس، ومن أحبوه ومن أبغضوه من جميع أصناف الناس، وسواء المشركين أو المنافقين، أو اليهود والنصارى، كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه بكل وسيلة من المشافهة والمكاتبة، ومنهم من أرسل إليهم رسلاً، فالسيرة الدعوية في المرحلة المكّية والمدنية مليئة بالشواهد الدالّة على ذلك.
روى الإمام أحمد عن رجل من بني مالك بن كنانة، وهذا الرجل من الصحابة، وإذا لم نعرف اسم الصحابي الذي روى الحديث، كأن يقول الراوي: عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لا يؤثر في صحة الحديث على الإطلاق؛ لأن الصحابة جميعهم عدول، رضي الله عنهم.
فقد روى الإمام أحمد بسنده عن رجل من بني مالك بن كنانة قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخلّلها) يتخللها: يمشي خلال تجمّعات الناس في سوق ذي المجاز، (يقول: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
وأبو جهل يحثي عليه التراب، ويقول: لا يُغوينّكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وروى الإمام الحاكم عن ربيعة بن عباد الدؤلي قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً.
ووراءه رجل يقول: يا أيها الناس! إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم.
فسألتُ عن هذا الرجل، فقيل: أبو لهب).
ففي الحديث الأول كان أبو جهل هو الذي يحثي عليه التراب، أما في هذه المرّة فكان أبو لهب.
وروى البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ل أبي طالب: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملّة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال: أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب.
وأبى أن يقول: لا إله إلا الله).
وروى البخاري عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير، فقال يا معاذ! هل تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: ألاّ يعذب من لا يشرك به شيئاً).
وروى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع) يعني: في غزوة ذات الرقاع، (فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فاخترطه) أي: أن هذا المشرك أخذ السيف، (فقال له) يعني: قال المشرك للرسول عليه الصلاة والسلام: (أتخافني؟ فقال له: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله)، وفي رواية للإسماعيلي: (فسقط السيف من يده) أي: سقط السيف من يد هذا المشرك، (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ).
فتأمل كيف أن الرجل لم يُجب على السؤال، أما النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: من يمنعك مني؟ قال: الله.
أما المشرك فلا مولى له، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، وذلك هو الذي يرجّح كفّة أهل الإسلام في صراعهم مع أهل الباطل، وهو أن الله معهم، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، فمن كان الله معه فلن يغلبه أحد.
فإذاً: إلى من يلجأ الكفار والظالمون والذين يعيثون في الأرض فساداً؟! لو سُئلوا فلن يجدوا جواباً، أما المؤمن فهو يعرف جيداً من الذي يلجأ إليه.
وتكملة الحديث: (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك على ألاّ أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فأتى أصحابه -أي: الرجل- فقال: جئتكم من عند خير الناس).
كذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيصر ملك الروم إلى عبادة الله وحده وترك الشرك، فقد جاء في نصّ كتابه الكريم إلى هرقل، كما جاء في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من محمد عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِمْ تَسْلَم يؤتِك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين؟ -وهُمْ: الأكارين أو الفالحين جمع أريس- {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]).
وهذه الآية يستدل بها بعض السّاسة كما فعل السادات في بعض المناسبات أو المؤتمرات المتعلقة بالتنفيذية، فكان يتلو الآية في سياق أننا شيء واحد، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] بحيث يوهم أن المسلمين واليهود والصنارى وغيرهم شيء واحد، وأنهم كلهم يدعو إلى عبادة الله، بطريقته، فهذا يقول: إن الله هو المسيح! واليهود يقولون على الله الكذب! وينسبون إليه من الصفات ما يتنزه سبحانه عنه! والمسلمون كذلك يدعون إلى عبادة الله، وهذا كلام باطل، فإن معنى (كلمةٍ سواء) هي: دين الإسلام فقط لا غير، فقوله: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران:64] يعني: ادخلوا في دين الله، ((أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) فإذا أكملت الآية: ((فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)).
كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن أن يكون أول ما يدعو الناس إليه هو: توحيد الله تبارك وتعالى.
فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى نحو أهل اليمن قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحّدوا الله تعالى).
إذاً: التوحيد له الأولية المطلقة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا عرفوا ذلك، فأخبِرْهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم) إلى آخر الحديث.
وفي رواية: (فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
إذاً: أول ما بُدئت به آية الكرسي هو أفضل الكلام على الإطلاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).
فأفضل الذكر على الإطلاق -أي: بعد القرآن الكريم- هو أن تقول: لا إله إلا الله، فالله عز وجل هو المتفرد بالإلوهية والعبودية لجميع الخلائق دون سواه، وهذا هو الأمر المهمّ الذي ابتعث الله له جميع الأنبياء والمرسلين بمن فيهم خاتمهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(3/10)
تفسير قوله تعالى: (الحي القيوم)(3/11)
بيان معنى (الحي) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى
الجملة الثانية من آية الكرسي: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
بدأ الشيخ فضل إلهي بتعريف معنى (الحي).
يقول: المراد به -والله تعالى أعلم- الذي له الحياة الذاتية التي لم تأتِ من مصدر آخر، الكاملة الدائمة التي ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد.
وحينما تصف الله سبحانه وتعالى بأنه الحي فإن تماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسمّيات، فقد يُطلق لفظ من الألفاظ على الله وعلى غير الله، لكنّ هذا التماثل في الاسم لا يقتضي تماثل المسمّيات، فمثلاً: يوصف الله بأنه عالم، ويوصف بعض البشر بأنه أيضاً عالم، أو كريم، أو حليم، وكذلك (حي) أيضاً من أوصاف بعض المخلوقات، لكن حينما نقول: إن الله عز وجل من أسمائه الحسنى (الحي) فيجب أن ندرك الفرق بين حياتنا وبين حياة الله تبارك وتعالى، فحياتنا قبلها عدم وبعدها موت، ونحن لم نحي أنفسنا، وإنما الذي أحيانا هو الله تبارك وتعالى.
فمعنى وصف الله سبحانه وتعالى بهذا الوصف: (الحي) يعني: أنه له الحياة الذاتية التي لم تستمد من مصدر آخر، فهو دائماً عز وجل حي منذ الأزل وإلى الأبد، لم ينفصل عنه هذا الوصف أبداً تبارك وتعالى، فحياة الله حياة كاملة دائمة، ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد.
وقال قتادة في تفسير الحي: يعني: الحي الذي لا يموت.
وقال الإمام السدي: المراد بالحي: الباقي.
وقال الطبري: أما قوله: ((الْحَيُّ)) فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحدّ، ولا آخر له بأمد -أي: غاية ينتهي إليها- إذ كل ما سواه فإنه وإن كان حيّاً فلحياته أول محدود وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها.
وقال البغوي: (الحي): الباقي الدائم على الأبد.
وقال ابن كثير: أي: الحي في نفسه، الذي لا يموت أبداً.
وقال أبو السعود: الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء.
ومن الآيات التي جاء فيها اسم (الحي) لله تبارك وتعالى: قوله عز وجل في أول سورة آل عمران: ((الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))، وقال عز وجل: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]، وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]،وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65].
وقد ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن اسم (الحي) يستلزم جميع صفات الكمال لله تبارك تعالى، ولذلك كان يرى أن (الحي) هو اسم الله الأعظم، يقول: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كانت أعظم آية في القرآن: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) فهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتُفي بالحي.
وقال السعدي: وأنه الحي الذي له جميع معاني الحياة الكاملة، من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في تفسير (الحي القيوم): هذان اسمان من أسمائه تعالى، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال، فكمال الأوصاف في الحي، وكمال الأفعال في القيوم؛ لأن معنى الحي: ذو الحياة الكاملة، ويدل على ذلك (أل) التي تفيد الاستغراق، وكمال الحياة من حيث الوجود والعدم، ومن حيث الكمال والنقص.
أيضاً: إثبات هذا الاسم (الحي) بهذا المعنى الذي ذكرناه يستلزم أن كل ما سوى الله تبارك وتعالى ميت، فإن الحياة الأزلية الأبدية الدائمة ليست إلا الله الأحد تبارك وتعالى، وكل من سواه كائناً من كان فإنه هالك وميت، يقول عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185]، وقال عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، وقال عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57]، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فلو كان لأحد من الخلق الخلود والبقاء لكان أولاهم بذلك سيد الأولين والآخرين خليل رب العالمين: رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يبق عليه الصلاة والسلام، وإنما مات كما يموت البشر، فهذه الحقيقة كانت مؤكدة حتى قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35]، وقال عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] وقال جل وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، ثم قال: واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزّه استغناؤه عن الناس) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
ووافقه الحافظ الذهبي رحمهم الله تعالى.
وليس الحديث على ظاهره؛ لأن الإنسان لا يعيش كما يشاء هو، لكن هذا لبيان هذه الحقيقة، كما قال موسى عليه السلام لما أُمر أن يضع يده على متن ثور وله بكل شعره وقعت عليها يده سنة، فيمتد عمره بذلك، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت.
قال: فالآن.
فالشاهد قوله: (يا محمد! عِشْ ما شئت)، أي: افترض أنك تعيش ما شئت، فلا بد في النهاية من الموت، فإنك ميت.
ونحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ذكر اسم الحي مباشرة بعد قوله: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، وفي ذلك استدلال على إثبات تفرده بالألوهية، فكأن الحي دليل لإثبات قوله: (الله لا إله إلا هو)، فالدليل على أنه لا إله إلا هو: أنه الحي، فهذا استدلال على إثبات تفرده بالألوهية وإبطال عبودية كل من سواه؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا من كان حياً بالحياة الذاتية الدائمة الأبدية، وحيث لا حي بهذه الحياة إلا الله الأحد، فلا يستحق العبادة إلا هو.
يقول ابن عاشور: والمقصود: إثبات الحياة، وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية؛ لانتفاء الحياة عنهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42].
وقد يقول قائل: إن هذه الأصنام كانت جمادات، ولكن من عبد إنساناً أو كائناً حياً فإنه يعبد حياً، نقول: لا، يوجد وصف الحياة المستقلة الذاتية التي لم تأتِ بمصدر آخر سوى الله سبحانه وتعالى، فليس هناك حي بهذا المعنى إلا الله، وبالتالي فلا ينبغي أن يُعبد إلا الله؛ لأن حياة كل ما سوى الله إنما هي من عند الله، فهو الذي يحيي ويميت، وغيره لا يحيي ولا يميت.
وقد نبّه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى التلازم بين الحياة الدائمة واستحقاق العبودية، فانتبهوا لهذا المعنى، وهو معنى كلمة (الحي)، وأنها أتت مباشرة بعد قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255]، وأبو بكر الصديق نبّه إلى الربط بين الحياة وبين استحقاق الألوهية والعبودية.
وهذا كان في الخطبة التي ألقاها أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة كانت الصدمة عليهم أشد ما تكون، ونحن نعرف ماذا فعل عمر في تلك الحادثة الجليلة، والتي هي أعظم قاصمة وقعت في تاريخ الإسلام كله، وهي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، والصحابة كانوا قد صُدموا أشد الصدمة، وثبت أبو بكر رضي الله عنه، وهذه من فضائله التي تبين فعلاً استحقاقه لأنْ يكون الرجل الثاني في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمصيبة رغم عظمها إلا أن أبا بكر أراد أن يلفتهم إلى أن لا غرابة في أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحالة في ذلك، بدليلٍ لطيف جداً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلهاً يُعبد، وإنما هو بشر من البشر، وأن الذي نعبده نحن المسلمين وحده هو الله عز وجل، فهو حي لا يموت.
فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا بكر رضي الله عنه خرج، وعمر رضي الله عنه يكلم الناس، حتى وصل الأمر إلى أن عمر قال: كذب من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قُبض، بل ذهب إلى لقاء ربه كما حصل لموسى.
ورفع السيف وقال: من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات لأقطعن عنقه بهذا السيف -وهذا من شدة الصدمة- فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه بكل ثقة، فقال له: اجلس يا عمر، فأبى عمر رضي الله عنه أن يجلس من شدة الانفعال، فأقبل الناس عليه وتركوا عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أما بعد: من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً صلى الله ع(3/12)
بيان معنى (القيوم) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى
قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: (الحي) كمال الأوصاف، و (القيوم) تعبير عن كمال الأفعال، أما وزن (القيوم) فهو: (فيعول) مأخوذ من القيام، ومعنى ذلك: أنه جل جلاله قائم بأمر الخلق برزقه ورعايته وحفظه، وما من شيء إلا وإقامته بأمره وتدبيره سبحانه وتعالى.
قال القرطبي: وأما قوله: (القيوم) فإنه (الفيعول) من القيام، وأصله: القيوُوْم، بواوين.
وقال أبو حيان: القيوم على وزن (فيعول) أصله: قيووم، اجتمعت الياء والواو واستبقت إحداهما بالسكون، فقُلبتْ الواو ياءً وأُدغمت فيها الياء.
أما معناه: فقال قتادة: القيوم: القائم بتدبير خلقه.
وقال الربيع: القيوم: قيّم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه.
وقال الطبري: القيوم: القائم برزق خلقه وحفظه.
وقال ابن كثير: القيوم: القيّم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره.
وقد وردت نصوص أخرى من القرآن الكريم تدل على أن قيام الموجودات وبقاءها وحفظها بأمر الله تعالى، ولا قوام لها بدونه.
من ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:19] (صافات): باسطات أجنحتهن، (ويقبضن) يعني: قابضات، (ما يمسكهن): يعني: عن الوقوع سواء في حالة البسط أو القبض، (إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير): فمن الذي يمسك الطير في السماء؟ لا أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
وقال جل وعلا: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:38 - 39] (العرجون): العذق الذي عليه الشماريخ، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس:40] يعني: فتجتمع معه في الليل، {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40] فلا يأتي قبل انقضائه، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] (يسبحون): يجرون، {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41] المشحون: المملوء، {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس:42 - 43] أي: لا مغيث لهم، {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43] يعني: ولا هم ينجون من الغرق، {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:44].
فمن يأمر الشمس بالجري لمستقرٍ لها؟! ومن يقدر منازل القمر؟! ومن يمنع الشمس عن الاجتماع مع القمر؟! ومن يحجز الليل عن المجيء قبل انقضاء النهار؟! ومن يوقف النهار من الطلوع قبل انصرام الليل؟! ومن يحفظ ركاب السفن وسط موجات البحر التي هي كالجبال؟!
الجواب
إنه الله لا إله إلا هو الحي القيوم.
يقول تبارك وتعالى مبيّناً قيام السموات والأرض بأمره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] (أن تقوم) أي: أن تدوما قائمتين، {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] يعني: أن الله يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع، {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] يعني: ما يمسكهما أحد سوى الله تبارك وتعالى، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41] وهذه الآية فيها ترغيب عظيم جداً، فهو الحافظ القيوم لأمرهما، الحكمة في أنه ختم الآية بقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو يؤاخذ الناس بما كسبوا لدمر هذا الكون، ولأزال السموات والأرض، لكنه حليم، يحلم عنهم، ويرجئهم إلى أن يتوبوا.
فهذا ترغيب في المبادرة إلى الله، وألا ينخدع الإنسان بإمهال الله إياه، ولا يغتر بصفة الحلم، بل عليه أن يبادر إلى التوبة، فإنه إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، (إنه كان حليماً) يعطيك الفرصة، ويمهلك كي تستعتب وتتوب، (غفوراً)، إذا رجعت إليه فإنه يغفر لك.
وكما بين العلماء أن لاسم (الحي) منزلة عظيمة، فكذلك بيّنوا عظم شأن اسم (القيوم).
يقول القاضي علي بن علي الحنفي شارح الطحاوية رحمه الله: فعلى هذين الاثنين: (الحي القيوم) مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيهما، فكل الأسماء الحسنى تدور حول (الحي القيوم).
ثم قال رحمه الله تعالى: وأما (القيوم) فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتمّ انتظام.
فالله سبحانه هو الغني الحليم، يقوم بنفسه ولا يحتاج إلى غيره، أما غير الله فلابد من أن يقيمه الله؛ لأنه لا حول ولا قوة لأحد إلا بالله، فيجب أن نرى أفعال الله، وتدبير الله، وقيامنا بالله في كل شيء، في كل نبضة قلب في كل نفس تأخذه في كل رزق يفتح عليك به في طلوع الشمس في غروبها في كل شيء، فما من شيء إلا وهو بقدرة الله وبإقامة الله إياه، فلو لم يُقمْك الله لما قدرت على شيء، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه القيّومية هي سبب كل ما نرى في الوجود من تدبير، ومن إقامتنا.
قال السعدي رحمه الله: كما أن (القيوم) تدخل فيه جميع صفات الأفعال؛ لأنه القيوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها، وأمدّها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها.
وذكر اسم (القيوم) لله عز وجل بعد (الله لا إله إلا هو) فيه ما يدل على تفرده تعالى بالألوهية والعبودية؛ لأنه هو المتفرد لقيام أمر الخلق، من رزقهم وحفظهم ورعايتهم من غير ندّ ولا شريك، فما دام لم يقم الخلق، ولم يدبر أمرهم، ولم يرزقهم، ولم يُحيهم، ولم يعافهم، ولم يفعل بهم كل هذا إلا الله عز وجل وحده، فينبغي ألا نوجّه العبادة إلا إلى الله عز وجل؛ لأنه هو المستحق وحده لجميع أنواع العبادات، دون أن يشرك معه فيها أحد.
هذا ما تيسر من استعراض هذا التفسير لجزء من آية الكرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(3/13)
بداية الهداية
عندما يأذن الله سبحانه وتعالى بهداية شخص فإنه ييسر له أسباب الهداية، وما أكثر الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي ثم وفقهم الله تبارك وتعالى إلى الهداية، وقد جعل الله عز وجل للهداية أسباباً كما جعل للغواية أسباباً، فمن أسباب الهداية: مجالسة الصالحين، وسماع أخبار التائبين، وتلاوة القرآن بالتدبر، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة.(4/1)
أسباب تجديد الإيمان في القلوب(4/2)
السبب الأول: دعاء الله وسؤاله تجديد الإيمان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم) رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الهيثمي: إسناده حسن، ورواه الحاكم عن ابن عمرو رضي الله عنهما وقال: رواته ثقات، وأقره الذهبي، وصححه الألباني، ومن قبله قال الحافظ العراقي في أماليه: حديث حسن من طريقين، عن ابن عمرو وابن عمر رضي الله عنهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق) أي: يكاد أن يبلى.
قوله: (في جوف أحدكم) يعني: أيها المؤمنون.
قوله: (كما يخلق الثوب) شبه الإيمان بالثوب الذي لا يستمر على هيئته، فحينما تشتري ثوباً جديداً له ألوان معينة فبمرور الوقت يتعرض للشمس والغسل فيصبح ثوباً خلقاً قديماً، وتتغير ألوانه، فهكذا الإيمان أيضاً إذا دخل القلب لابد أن يجدد، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء حتى يجدد الله الإيمان في قلوبنا، وإلا فإن الإيمان يخلق ويطول الأمد على القلب، ويطرأ عليه القساوة والران، وربما اشتدت به الأمراض حتى يموت ذلك القلب.
قوله: (كما يخلق الثوب) وذلك أن العبد يتكلم بكلمة الإيمان وبذكر الله والتوحيد، ثم يدنس هذه الكلمة بسوء أفعاله، فإذا عاد واعتذر واستغفر فقد جدد ما أخلق وطهر ما دنس من قلبه.
قوله: (فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم) يعني: حتى لا يكون لقلوبكم وجهة غير الله تبارك وتعالى، ولا رغبة في سواه، ولهذا قال معاذ لبعض أصحابه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) أي: نجدد إيماننا بذكر الله تبارك وتعالى وتعلم العلم.
هذا الحديث يبين الخطر الذي يهدد قلب أي مؤمن، ولا يكفي الإنسان مجرد أن يدخل في الإيمان أو ينعم الله عليه بالتوبة، ثم يظن أنه نجا، بل لابد مع التقوى من الاستقامة عليها، لابد من الثبات حتى الممات، وإلا فأكثر الناس يشرعون في هذا الطريق ثم لا يثبتون عليه، وتتخطفهم الشهوات والأهواء من الجانبين، وقل من يسلم، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأخذ هذا السبب من أسباب تثبيت الإيمان في القلب، وهو الدعاء، وهو أعظم سبب؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (الدعاء هو العبادة)، وقال عز وجل قبل ذلك: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
فهذا الدعاء أحد أسباب مداواة القلوب وشفائها وعافيتها من القساوة وعودة الإيمان من جديد، وهو أن نقول: اللهم جدد الإيمان في قلوبنا!(4/3)
السبب الثاني: الذكرى بالآيات والأحاديث والقصص
من الأسباب التي تنفع القلب وتجدد الإيمان وتعافي القلب من قساوته: الذكرى، ولا يشترط أن يكون الإنسان جاهلاً بالأحاديث أو الآيات التي تتكلم -مثلاً- عن عظة الموت وعن أهوال يوم القيامة وعن القرب من الله عز وجل والأحوال القلبية، وإنما قد يعلم الإنسان كثيراً جداً من الآيات والأحاديث، ولكنه لما طال عليه الأمد، وتعود قلبه على سماعها؛ لم ينفعل بها، ولم تؤثر فيه شيئاً، لكن إذا جدد العهد بتذكر هذه النصوص ولم يهجرها، وجدد العهد بزيارة المقابر، وبقراءة هذه الأحاديث، وبحضور مجالس العلم؛ فقد نصت آية في كتاب الله تبارك وتعالى أن هذا مما ينفع القلب، ولا يشترط أن تكون جاهلاً بما يقال، لكنك تنتفع بالتذكرة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] فمن كان مؤمناً انتفع بهذه الذكرى، وحملته على تجديد الإيمان في قلبه.(4/4)
أهمية استقامة القلب وأسباب فساده وقسوته
القلب هو قطب الدائرة، وهو أساس الاستقامة وصلاح الحال، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فعلى العبد أن يهتم بصلاح قلبه قبل أي شيء آخر، فإذا صلح القلب صلح كل شيء واستقام كل أحواله.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره صلى الله عليه وسلم).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه) فتبين من هذه الأحاديث أن أس الاستقامة وقطب رحاها استقامة القلب.(4/5)
من أسباب قسوة القلب ومرضه: التهاون بالمعاصي
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء) هكذا تحصل القساوة والمرض والران على القلوب تدريجياً؛ وذلك بسبب تهاون الإنسان بالمعاصي، وكونه يظن أن الوقت فيه سعة، وسوف يتوب ويستدرك فيما بعد، لكن تنضم نكتة إلى نكتة إلى نكتة حتى يعلو الصدأ ويعلو السواد ويعلو الران جميع القلب.
إذاً: على الإنسان ألا يتهاون بأي معصية وإن دقت في عينه؛ فإن هذا الذنب الصغير مع الأيام ومع تكراره يعود كبيراً.
لا تحقرن من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يعود كبيرا إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطر تسطيرا قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وعاد إليه نوره، وإن عاد -يعني: عاد إلى المعصية- زيد فيها حتى تعلو قلبه).
قوله: (زيد فيها حتى تعلو قلبه) هو الران الذي ذكر الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].(4/6)
من أسباب قسوة القلب ومرضه: استحسان المنكرات
عن حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء) وهذه أيضاً من الأبواب التي يسمم بها القلب، ويطرأ عليه بسببها الصدأ والسواد والتعكير؛ لأنه حينما يرى المنكرات ولا يتمعر وجهه غضباً لله تبارك وتعالى، بل لا يكتفي أنه لم ينكر الحرام، بل يستلذ بهذا الحرام ويستحسنه والعياذ بالله، فيكون ذلك سواداً في قلبه، وهو لا يشعر أن النظر إلى فساد التلفاز -مثلاً- يعتبر معصية، لكنه يظن أن هذه متعة، وأن الوقت الذي يقضيه في هذه المعصية يعود عليه بنفع موافق لهواه ولشهواته، فهو لا يستقبح المعصية، لكنه يستحسنها، فتنكت كل معصية نكتة سوداء في قلبه، ويموت قلبه رويداً رويداً، ولهذا لما سئل سفيان رحمه الله تعالى: ما بال أهل الأهواء شديدو المحبة لأهوائهم؟ قال: ألم تر إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، فهكذا يشرب الإنسان المعاصي ويستحسنها، وتنقلب المفاهيم والموازين في قلبه فيرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فأنى له الهداية إن لم يتداركه الله برحمته؟! يقول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفاء لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).
فيكون الهوى هو الحاكم، وبذلك يصبح قلبه أسود مرباداً، يعني: متغيراً.
قوله: (كالكوز مجخياً) أي: كالكوز المقلوب، وهل الكوز المقلوب يستوعب الحكمة؟ لا، فكذلك هذا القلب منكوس، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه.(4/7)
من أسباب قسوة القلب ومرضه: الإعراض عن القرآن
لقد اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام في كثير من الأحاديث بأمر القلب، فقد كان يكثر الدعاء بصلاح القلب، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلبي) قوله: (ربيع قلبي) يعني: المطر الذي يحيي قلبي؛ فإن القرآن فيه حياة القلوب، وقراءة القرآن وحفظه والتعبد به من أعظم ما يتقرب به إلى الله تبارك وتعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم لن تتقربوا إلى الله بشيء أحب إليه مما خرج منه) يعني: كلامه سبحانه وتعالى، لكن كيف ندعو الله عز وجل في كل مناسبة، ونقول: اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونحن أصلاً نهجر القرآن ولا نقرأ القرآن ولا نعيش مع القرآن؟! كيف ندعو الله أن يجعله ربيع قلوبنا ونحن لا نأخذ هذا الدواء؟! إن هجرنا لهذا الدواء الموجود في الصيدلية لا ينفي كونه سبباً من أسباب الشفاء، وكون بعض الناس يعرضون عن تعاطي هذا الدواء الذي هو القرآن -وهو سبب من أسباب الشفاء- لا يقدح في كونه شفاءً لما في الصدور، يقول عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، وهذا المعرض عن القرآن لا يعود وبال عمله إلا على نفسه، فيكون ممن يشتكيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم القيامة: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فالسؤال الذي يجب أن يعرضه كل منا على نفسه: إذا كنت تسأل الله وتدعوه بقولك: اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، كيف يكون ربيع قلبك وأنت لا تتعاطى هذا الدواء ولا تداوي قلبك به؟!(4/8)
من أسباب قسوة القلب ومرضه: الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى
جاء في بعض الآثار: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل؛ فتقسو قلوبكم، وإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلى، ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).(4/9)
أسباب استقامة القلب وشفائه من القسوة
كان صلى الله عليه وسلم يهتم كثيراً بوصف دواء القلوب لأصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له: إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم)، وشكا ذلك رجل إلى مالك بن دينار فقال له: أدمن الصيام -أي: داوم على الصيام- فإن وجدت قسوة فأطل القيام، فإن وجدت قسوة فأقل الطعام.
قال إبراهيم الخواص: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.(4/10)
من أسباب استقامة القلب وشفائه من القسوة مجالسة التائبين
يقول بعض السلف: اجلسوا إلى التوابين؛ فإنهم أرق الناس أفئدة.
إذاً: من أعظم أسباب استقامة القلب وشفائه من القسوة أن يكثر الإنسان من الجلوس إلى التائبين لاسيما حديثي العهد بالتوبة، فهؤلاء يكونون أرق الناس أفئدة وقلوباً، فإن لم يتيسر له ذلك فليطالع في أحوال هؤلاء التائبين، وكيف تابوا، فإن لكل توبة قصة، ولكل هداية بداية، وقد تكون هذه البداية للهداية إما آية سمعها رجل فأفاق وصحا من سكرته، وإما حادثة تعرض لها كسرت قلبه بعد الكبر والإعراض فتاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى وهكذا.
إذاً: ما دام هناك روح في الإنسان فمهما قسا قلبه فهناك أمل بأن يشفيه الله تبارك وتعالى، يقول بعض الصالحين: أسق غصنك ما دامت فيه رطوبة.
أي: إذا كان الغصن ما زال فيه رطوبة -حتى ولو كانت قليلة- فهو قابل لأن يحيا، أما إذا جف الغصن تماماً ويبس فهذا لا ينفع فيه شيء.(4/11)
مراحل التوبة
يقول بعض العلماء حينما يتكلمون عن التوبة: إن بداية الطريق إلى الله عز وجل وبداية الهداية لا تكون بالتوبة بقدر ما تكون بالإفاقة، وذلك بأن يفيق الإنسان ويصحو ويفكر في مصيره وماذا عمل لما بعد الموت؟! وكيف يستعد للقاء الله؟! حينها يندم على ما فرط منه.
هذه الإفاقة هي الصحوة التي يفيق بها الإنسان، والتي إن لم تقم له هذه القيامة في الدنيا فرغماً عنه سيفيق وسيندم، لكن حيث لا ينفعه الندم حينما يأتيه ملك الموت.
فأول المراحل: أن يفيق الإنسان ويقوم من نومه ومن سباته، يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] فهذه القيامة هي أن يفيق الإنسان من سكرته، ويعزل نفسه عن هذه المؤثرات التي تشغله عن الله، وعن الدار الآخرة، وعن الوطن الحقيقي، وعن المستقبل الدائم الذي لا انقطاع له في حياة أبدية لا نهاية لها.
يقول تبارك وتعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، عبر عنها بهذا القيام.
قوله: (إذ قاموا) أي: أفاقوا، (فقالوا ربنا رب السموات والأرض).
إذاً: كل هداية لها بداية، وأي إنسان منَّ الله عز وجل عليه بالهداية ففي الغالب أن يكون هناك موقف معين، خاصة إذا كان هذا الإنسان من قبل معرضاً عن الله، ولم يوفق أن يكون شاباً نشأ على طاعة الله وعلى عبادة الله، بل يكون قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، أو انغمس تماماً في المعاصي والمخالفات، فتكون هناك بداية لهدايته.
وهذه البداية تختلف حسب مدخل كل إنسان إلى التوبة، والاستقامة قد تكون بآية سمعها مئات المرات من قبل، لكن في موقف معين فهذه الآية جعلته بإذن الله يفيق من غفوته، وتكون سبباً لاستئناف الطريق إلى الله عز وجل.(4/12)
معنى قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم) وسبب نزولها
الآيات في موضوع التوبة والاستقامة كثيرة، منها هذه الآية في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17].
يقول الله عز وجل: (ألم يأن) يعني: ألم يحن أو ألم يأت الأوان والحين، وهو من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه، أي: وقته بمعنى يقرب.
كما قال الشاعر: ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب الملم لي العقلا وكما أنشد ابن السكيت: ألما يأن لي أن تجّلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا معنى قوله تعالى: (ألم يأن) أي: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه.
قوله تعالى: (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) هذا فيه بيان أن دواء قسوة القلوب هو ذكر الله.
قوله: (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) هو القرآن الكريم.
والخشوع أصله في اللغة: السكون والطمأنينة والانخفاض.
أما في الشرع: فهو خشية من الله تداخل القلوب، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون كما هو شأن الإنسان الخائف.
إذاً: لقد حان للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وجاء الحين والأوان لذلك؛ لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه.
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] إلا أربع سنين) رواه مسلم، والعتاب: هو مخاطبة الإدلال وطلب حسن المراجعة والتذكير بما كره من عمله.
يقول ابن مسعود: (لما نزلت هذه الآية بهذا العتاب من الله عز وجل، جعل بعضنا ينظر إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟!) أي: ما الشيء الذي أوجب نزول هذه الآية؟ وما التقصير الذي قصرناه؟ وقال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه تبارك وتعالى.
ويروى في بعض كتب التفاسير: أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستبطئكم الخشوع، فقالوا عند ذلك: خشعنا).
وهذا أيضاً يذكرنا بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] قوله: (لما يحييكم) أي: يحيي قلوبكم، ثم قال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24].
قوله عز وجل: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ) أي: الأجل والإمهال والاستدراج.
قوله: (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: بطول الأمد.
إذاً: الإنسان قد يعلم الآيات ويعلم الأحاديث ويعلم الحلال ويعلم الحرام، لكن قلبه لا ينفعل بهذه الآيات والأحاديث لطول الأمد الذي يحدث قسوة في القلوب.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله؛ فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون الموعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد.
قوله: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أي: خارجون عن طاعة الله، فاسقون في الأعمال فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة، كما قال عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13]، فكل نقض لميثاق الله وعهد الله يعاقب الإنسان من جرائه بقسوة القلب، ماذا أحدثت هذه القسوة؟ {يحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
ويقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110]، ويقول عز وجل: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:27] أي: خارجون عن أمر الله تبارك وتعالى.
يقول الحافظ ابن كثير معلقاً على قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] أي: فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهوا عنه، ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في أي شيء من الأمور الأصلية أو الفرعية.
ثم قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17] فيه إشارة إلى أنه تبارك وتعالى يلين القلوب بعد قساوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]: الذين ابتدعوا الرهبانية من أصحاب الصوامع قست قلوبهم فخرجوا وفسقوا عن أمر الله عز وجل.
وقيل: الفاسقون: هم من لا يعلم ما يتدين به من الفقه، ويخالف من يعلم، وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى.
وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة رضي الله عنهم بمكة مجدبين، فلما هاجروا إلى المدينة أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم فوعظهم الله؛ فأفاقوا.
وقال ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس قال: (بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى، ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).(4/13)
نماذج من التائبين في الزمن القديم والمعاصر(4/14)
توبة ابن المبارك والفضيل بن عياض وسببها
يقول القرطبي: وهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله تبارك وتعالى.
وروى بسنده عن الحسن بن زاهر قال: سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده، قال: كنت يوماً مع إخواني في بستان لنا؛ وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعاً بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له: راشين السحر -لعله نوع من الموسيقى- وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد -أي: العود لا يجيب إلى هذا العزف-، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان -والعهدة على الراوي إن صح السند في ذلك- يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري.
فإن صحت هذه القصة فهذه تكون إعانة من الله تبارك وتعالى لـ ابن المبارك على هذه الهداية والتوبة.
يقول القرطبي: وبلغنا أن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود ويغني به: ألم يأن لي منك أن ترحما وتعص العواذل واللوما وترثي لصب بكم مغرم أقام على هجركم مأتما يبيت إذا جنه ليله يراعي الكواكب والأنجما وماذا على الظبي لو أنه أحل من الوصل ما حرما وأما الفضيل بن عياض فمشهور عنه أكثر مما اشتهر عن ابن المبارك أن هذه الآية كانت سبباً في توبته، وذلك أن الفضيل كان يعشق جارية فواعدته ليلاً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن، فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: نسير الليلة، فقال آخرون: لا إن فضيلاً يقطع الطريق فانتظروا حتى الصباح، فسمعهم الفضيل رحمه الله، فقال: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام، فجاور في الحرمين، ولذلك سمي بعابد الحرمين رحمه الله تعالى.(4/15)
توبة شاب بعد إنقاذه من الغرق
نستطرد قليلاً في هذا الموضوع الذي أشرنا إليه وهو ذكر قصص التائبين، ومن ذلك قصة شاب كان يمشي بسيارته، وإذا بها تخرج عن سيطرته وتهوي به في النهر فغاصت به حتى بلغت به القاع، يقول هذا الشاب: وأحسست كأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد، فقلت: إنها النهاية لا محالة فنطقت بالشهادتين، -أي: في نفسه- وبدأت أستعد للموت، وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ يمتد إلى خارج السيارة، وفي الحال تذكرت أن زجاج السيارة الأمامي مكسور، شاء الله أن ينكسر في حادث منذ أيام ثلاثة، وقفزت دون تفكير، ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ، فإذا الأضواء تغمرني، وإذا بي خارج السيارة، ونظرت فإذا جمع من الناس يقفون على الشاطئ كانوا يصيحون بأصوات لم أتبينها، ولما رأوني خارج السيارة، نزل اثنان منهم وصعدا بي إلى الشاطئ، وقفت على الشاطئ ذاهلاً عما حولي، غير مصدق أني نجوت من الموت وأني الآن بين الأحياء، وكنت أنظر إلى السيارة وهي غارقة في الماء فأتخيل حياتي الماضية سجينة هذه السيارة الغارقة، أتخيلها تختنق وتموت وقد ماتت فعلاً، وهي الآن راقدة في نعشها أمامي، لقد تخلصت منها، وخرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب، وأحسست برغبة شديدة في الجري بعيداً عن هذا المكان الذي دفنت فيه ماضيّ الدنس، ومضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات، دخلت البيت وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لبعض الممثلات والراقصات، فمزقتها، وارتميت على سريري أبكي، ولأول مرة أحس بالندم على ما فرطت في جنب الله، فأخذت الدموع تنساب بغزارة من عيني، وأخذ جسمي يهتز، وبينما أنا كذلك إذا بصوت المؤذن يجلجل في الفضاء، وكأني أسمعه لأول مرة، فانتفضت واقفاً وتوضأت، وفي المسجد بعد أن أديت الصلاة أعلنت توبتي، ودعوت الله أن يغفر لي، ومنذ ذلك الحين وأنا كما ترى.
قلت: هنيئاً لك يا أخي! وحمداً لله على سلامتك، لقد أراد الله بك خيراً، والله يتولاك ويرعاك، ويثبت على الحق خطاك.(4/16)
توبة شاب من استعمال الحبوب المنبهة
قصة أخرى أيضاً من الواقع لشاب تائب يقول: كنت أعمل سائقاً للمسافات الطويلة، وبالجهد والكفاح استطعت بفضل الله أن أشتري سيارة أعمل عليها، وأنا لا أستطيع أن أواصل الليل بالنهار؛ لأني كنت أحلم بالحياة الوردية كما يقولون، مما أدى بي إلى استعمال الحبوب المنبهة، فأصبحت أواصل السهر والسفر من ثلاثة أيام إلى خمسة أيام دون نوم، بقيت على هذا الحال ما يقرب من سنتين، جمعت خلالهما مبلغاً كبيراً، وفي سفرة من السفرات قررت أن تكون هذه الرحلة آخر رحلة، وبعدها أرتاح من هذا العناء، وكانت إرادة الله فوق كل شيء.
ركب المسافرون السيارة، وخرجنا من المدينة وقطعت مسافة لا بأس بها، وإذا بي أفاجأ بسيارة تمر من جواري تسير بسرعة جنونية، أحسست بداخلي بأن أمراً ما سوف يحدث، وبالفعل فما هي إلا لحظات حتى رأيت السيارة المذكورة وهي تتقلب أمامي، ومع تقلبها كنت أرى أشلاء تتطاير في الهواء، هالني المنظر فلقد مرت بي حوادث كثيرة، ولكن الذي رأيت كان فوق تصوري، ووجمت للحظات أفقت بعدها على صوت بعض المسافرين وهم يرددون: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
انظروا الموت لا يفرق بين شاب وعجوز، ولا رجل ولا امرأة، ولا طفل ولا كبير، ولا سائق ماهر ولا غيره، وإنما يأتيك بغتة دون إنذار مسبق، فإذا تذكر الإنسان كثيراً من أصدقائه وأحبابه فإنه يرد على خاطره الكثيرين ممن سبقوه، فهل إذا صرت إلى مثل الذي صاروا إليه ستضمن أنك ستنجو من عذاب الله؟! يقول: قلت في نفسي: كيف لو كنت مكان هذا الشاب؟ كيف أقابل ربي بلا صلاة ولا عبادة ولا خوف من الله؟ أحسست برعدة شديدة في جسمي ثم لم أستطع قيادة السيارة إلا بعد ثلاث ساعات، بعدها أخذت الركاب وعدت، وفي الطريق أديت صلاة المغرب والعشاء، وكانتا أول صلاة أصليهما في حياتي.
دخلت إلى منزلي وقابلتني زوجتي، فرأت تغيراً واضحاً وجلياً في هيئتي، فظنت بأني مريض فصرخت في وجهي: ألم أقل لك اترك هذه الحبوب؟! إنك لن تدعها حتى يخطف الله عمرك فتذهب إلى النار، كانت هذه الكلمات بمثابة صفعات وجهتها لي زوجتي، فقلت لها: أعاهد الله أنني لن أستعمل هذا الخبيث، وبشرتها بأني صليت المغرب والعشاء، وأني تبت إلى الله وبكيت بكاء مراً وشديداً.
أيقنت زوجتي أني صادق فيما أقول، فما كان منها إلا أن انخرطت تبكي معي فرحة بتوبتي ورجوعي إلى الحق، في تلك الليلة لم أتناول عشائي، نمت وأنا خائف من الموت وما يليه، فرأيت فيما يرى النائم أني أملك قصوراً وشركات وسيارات وملايين الجنيهات، وفجأة وجدت نفسي بين القبور أنتقل من حفرة إلى حفرة أبحث عن ذلك الشاب المقطع فلم أجده، فأحسست بضربة شديدة على رأسي أفقت بعدها لأجد نفسي على فراشي، تنفست الصعداء وكان الوقت قد جاوز منتصف الليل، فقمت وتوضأت وصليت حتى بزغ الفجر فخرجت من البيت إلى المسجد، ومنذ ذلك اليوم وأنا -ولله الحمد- ملازم لبيوت الله لا أفارقها، وأصبحت حريصاً على حضور الندوات والدروس التي تقام في المساجد، وأحمد الله أن هداني إلى طريق السعادة الحقيقية والحياة الحقة.(4/17)
توبة شاب من استعمال المخدرات وسبب تعاطيه لها
هذه قصة توبة شاب مدمن للمخدرات: كان شاباً يافعاً شجاعاً يعرفه كل أولاد الحارة بالنخوة والشهامة، كان دوماً لا يفارق ذلك المقهى المنزوي، والذي تظلله تلك الشجرة الكبيرة، أولاد الحارة يخافونه ويستنجدون به في وقت الأزمات، كانت عصاه لا تخطئ، وكانت حجارته كالسهام، كانت أخباره في كل الحارات، كان إذا دخل ذلك المقهى وأخذ الكرسي الذي اعتاد الجلوس عليه وشاهده القوهجي؛ ترك كل شيء في يده وأحضر براد الشاي الذي تعود أن يتناوله باستمرار، وخاصة بعد صلاة المغرب، إنه لا يخافه، ولكنه يحترم فيه نخوته وشهامته، ظل ذلك الشاب طويلاً على هذه الحال بلا منافس، غير أن هذه الأحوال لم تعجب مجموعة من أشرار الحي، كيف يأخذ هذا الشاب كل هذه الشهرة، وكل هذا الحب والاحترام؟ لابد من حل لكسر شوكته وتحطيم معنوياته وأحلامه وسمعته، فكر كبيرهم ملياً وقال: إنني لا أستطيع مقاومة ذلك الشاب، ولكن لدي سلاح سهل ويسير إذا استخدمته دمرته به، إنها المخدرات، ولكن كيف؟ قفز واحد من تلك المجموعة الشريرة وصاح: براد الشاي، براد الشاي، إنه يحب أن يتناوله يومياً بعد صلاة المغرب.
تسلل واحد منهم بخفية وسرعة إلى ذلك المقهى، ووضع كمية من الحبوب المخدرة في براد الشاي، وجلسوا في الموقع المقابل يراقبون تصرفاته، لقد وقع في الفخ، وتمر بقدر الله دورية للشرطة وترى حالته غير طبيعية فتلقي القبض عليه، إنها المخدرات، وكم كان اندهاش قائد الدورية، فهو يعرفه تماماً، فكيف تحول بهذه السرعة إلى تلك الملعونة الحبوب المخدرة؟ أدخل السجن ولكن لا فائدة، لقد أدمن ولم يستطع الإفلات من حبائلها، إنه في كل مرة يخرج من السجن يعود إلى ذلك المقهى ويقابل تلك المجموعة، استمر على تلك الحال عدة سنوات، وكانت المفاجأة لقد فكر والداه وأقاربه كثيراً وحاله ومصيره وسمعتهم بين الناس، وكان القرار أن أصلح شيء له هو الزواج من إحدى البلاد المجاورة؛ حتى ينسيه ذلك المقهى وتلك الجماعة الشريرة، وأبلغوه بذلك القرار فكان نبأ ساراً، فأعلن توبته، وعاهد والديه، وبدأ في الترتيب لعش الزوجية، واشترى بعض الأثاث، ودخل مرحلة الأحلام والأماني: زوجة وبيت وأسرة وأبناء، ما أجمل ذلك، وتحدد موعد السفر ليرافق والده للبحث عن زوجة، إنه يوم السبت، لكن الله لم يمهله، نام ليلة الخميس، وكان كل تفكيره في الحلم الجديد في الموعد الآتي حتى ينقضي هذا اليوم واليوم الذي بعده، إيه أيتها الليلة! إنك طويلة، وكان
الجواب
إنها ليلتك الأخيرة! فما أصبح الصباح، حتى اعتلى الصياح وكانت النهاية أن يمسي في قبره تلك الليلة.(4/18)
توبة شاب عاق لأمه
هذا شاب ذهب إلى الخارج، تعلم وحصل على شهادات عالية، ثم رجع إلى بلاده، وتزوج من فتاة غنية جميلة كانت سبباً في تعاسته لولا عناية الله، يقول: مات والدي وأنا صغير، فأشرفت أمي على رعايتي، عملت خادمة في البيوت حتى تستطيع أن تنفق علي، فقد كنت وحيدها، أدخلتني المدرسة، وتعلمت حتى أنهيت الدراسة الجامعية، كنت باراً بها، وجاءت بعثتي إلى الخارج، فودعتني أمي والدموع تملأ عينيها وهي تقول لي: انتبه يا ولدي على نفسك ولا تقطعني من أخبارك، أرسل لي رسائل حتى أطمئن على صحتك، أكملت تعليمي بعد مضي زمن طويل ورجعت شخصاً آخر -قد أثرت فيه الحضارة الغربية-، فصرت أرى في الدين تخلفاً ورجعية، وأصبحت لا أؤمن إلا بالحياة المادية والعياذ بالله، وتحصلت على وظيفة عالية، وبدأت أبحث عن الزوجة، حتى حصلت عليها، وكانت والدتي قد اختارت لي فتاة متدينة محافظة، ولكني أبيت إلا تلك الفتاة الغنية الجميلة؛ لأني كنت أحلم بالحياة الأرستقراطية كما يقولون.
وخلال ستة أشهر من زواجي، كانت زوجتي تكيد لأمي حتى كرهت والدتي، وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجتي تبكي، فسألتها عن السبب؟ فقالت لي: إما أنا وإما أمك في هذا البيت، لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك، جن جنوني وطردت أمي من البيت في لحظة غضب، فخرجت وهي تبكي وتقول: أسعدك الله يا ولدي! وبعد ذلك بساعات خرجت أبحث عنها ولكن بلا فائدة، فرجعت إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيني تلك الأم الغالية الفاضلة، وانقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن، وأصبت خلالها بمرض خبيث، دخلت على إثره المستشفى، وعلمت أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي، وقبل أن تدخل علي طردتها زوجتي وقالت لها: ابنك ليس هنا، ماذا تريدين منا؟ اذهبي عنا؟ رجعت أمي من حيث أتت، وخرجت من المستشفى بعد وقت طويل، وانتكست فيه حالتي النفسية، وفقدت الوظيفة والبيت، وتراكمت علي الديون، وكل ذلك بسبب زوجتي، فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة.
وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميل وقالت: ما دمت قد فقدت وظيفتك ومالك، ولم يعد لك مكان في المجتمع؛ فإني أعلنها لك صريحة: أنا لا أريدك، طلقني! كان هذا الخبر بمثابة صاعقة وقعت على رأسي، فطلقتها بالفعل، فاستيقظت من السبات الذي كنت فيه، خرجت أهيم على وجهي أبحث عن أمي، وفي النهاية وجدتها، ولكن أين وجدتها؟ كانت تقبع في أحد الأرصفة تأكل من صدقات المحسنين، وجدتها وقد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة، وما إن رأيتها حتى ألقيت بنفسي عند رجليها وبكيت بكاء مراً، وما كان منها إلا أن شاركتني البكاء، بقينا على هذه الحالة حوالى ساعة كاملة، بعدها أخذتها إلى البيت، وآليت على نفسي أن أكون طائعاً لها، وقبل ذلك أكون متبعاً لأوامر الله ومجتنباً لنواهيه، وهأنا الآن أعيش أحلى أيامي وأجملها مع حبيبة العمر أمي حفظها الله، وأسأل الله أن يديم علينا الستر والعافية.(4/19)
توبة شاب بسبب دعاء أمه له
هذه قصة شاب كان يسكن مع أمه العجوز في بيت متواضع، وكان يقضي معظم وقته أمام شاشة التلفاز، كان مغرماً بمشاهدة الأفلام والمسلسلات، يسهر الليالي من أجل ذلك، لم يكن يذهب إلى المسجد ليؤدي الصلاة المفروضة مع المسلمين، طالما نصحته أمه العجوز بأداء الصلاة فكان يستهزئ بها ويسخر منها ولا يعيرها أي اهتمام، مسكينة تلك المرأة الكبيرة الضعيفة، إنها تتمنى لو أن الهداية تباع فتشتريها لابنها الوحيد بكل ما تملك.
وهذه العجوز لا تملك إلا شيئاً واحداً فقط إنه الدعاء، فهو سهام الليل التي لا تخطئ، فبينما هو يسهر طوال الليل أمام تلك المناظر المزرية كانت هي تقوم في جوف الليل تدعو له بالهداية والصلاح، ولا عجب فإنها عاطفة الأمومة التي لا تساويها عاطفة أياً كانت.
وفي ليلة من الليالي حيث السكون والهدوء، وبينما هي رافعة كفيها تدعو الله، وقد سالت على خديها دموع الحزن والألم، إذا بصوت غريب يقطع ذلك الصمت الرهيب، فخرجت الأم مسرعة باتجاه الصوت وهي تصرخ: ولدي حبيبي! فلما دخلت عليه فإذا بيده المسحاة -آلة مثل الفأس- وهو يحطم ذلك الجهاز اللعين، الذي طالما عكف عليه وانشغل به عن طاعة الله وطاعة أمه، وترك من أجله الصلوات المكتوبة، ثم انطلق إلى أمه يقبل رأسها ويضمها إلى صدره، وفي تلك اللحظة وقفت الأم مندهشة مما رأت والدموع على خديها، ولكنها في هذه المرة ليست دموع الحزن والألم، وإنما هي دموع الفرح والسرور، لقد استجاب الله دعاءها فكانت الهداية، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].(4/20)
توبة شاب من سماع الغناء بسبب طفل صغير
هذا طفل صغير لم يتجاوز سن البلوغ، كان سبباً في هداية أخيه من سماع الغناء المحرم، عرف ذلك الطفل حكم الإسلام في الغناء وتحريمه له، فانشغل عن الغناء بقراءة القرآن وحفظه، ولكن لابد من الابتلاء.
ففي يوم من الأيام خرج مع أخيه الأكبر في السيارة في طريق طويل، وأخوه هذا كان مفتوناً بسماع الغناء، فهو لا يرتاح إلا إذا سمعه، قام الأخ الأكبر بفتح المسجل على أغنية من الأغاني التي كان يحبها، فأخذ يهز رأسه طرباً، ويردد كلماتها مسروراً، لكن لم يتحمل ذلك الطفل الصغير هذه الحال، وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فعزم على الإنكار وهو لا يملك هنا إلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه، فأنكر بلسانه وقال مخاطباً أخاه: لو سمحت! أغلق المسجل؛ فإن الغناء حرام، وأنا لا أريد أن أسمعه، فضحك أخوه الأكبر ورفض أن يجيبه إلى طلبه.
ومضت فترة وأعاد ذلك الطفل الطلب، وفي هذه المرة قوبل بالاستهزاء والسخرية، فقد اتهمه أخوه بالتزمت والتشدد إلى آخره، وحذره من الوسوسة، وهدده بأن ينزله في الطريق ويتركه وحده! وهنا سكت الطفل على مضض، ولم يعد أمامه إلا أن ينكر بقلبه، ولكن كيف ينكر بقلبه؟ إنه لا يستطيع أن يفارق ذلك المكان، فجاء التعبير عن ذلك بعبرة ثم دمعة نزلت على خده الصغير الطاهر؛ فكانت أبلغ موعظة لذلك الأخ المعاند من كل كلام يقال.
فقد التفت الأخ الأكبر إلى أخيه الصغير فرأى الدمعة تسيل على خده، فاستيقظ من غفلته، وبكى متأثراً بما رأى، ثم أخرج الشريط من مسجل السيارة ورمى به بعيداً معلناً بذلك توبته من استماع تلك الترهات الباطلة.(4/21)
توبة أسرة كاملة من مشاهدة الأفلام والمسلسلات الماجنة في التلفاز وغيره
هذا شيخ كبير في السن كان سبباً في هداية أسرة كاملة، كانت غافلة لاهية، تقضي معظم وقتها أمام شاشة التلفاز لمشاهدة الصور المحرمة ومسلسلات الحب والغرام والهيام.
يقول هذا الشيخ الكبير: كنت نائماً في المسجد بعد صلاة الظهر، فرأيت فيما يرى النائم رجلاًً أعرفه من أقاربي قد مات، ولم أكن أعلم أن في بيته التلفاز، جاءني فضربني بقدمه ضربة كدت أصرع من ضربته، وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي.
قال الشيخ: وكنت أرى هذا التلفاز في بيته -يعني: في المنام- وكأنه كلب أسود والعياذ بالله، قال: فاستيقظت من نومي مذعوراً، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وعدت إلى نومي، فجاءني في المنام مرة ثانية وضربني ضربة أقوى من الأولى وقال لي: قم واذهب إلى أهلي وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي لا يعذبونني به، قال: فاستيقظت مرة ثانية وهممت أن أقوم، ولكني تثاقلت وعدت إلى نومي، فجاءني في المرة الثالثة وضربني في هذه المرة ضربة أعظم من الضربتين الأوليين وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي، وقل لهم: يخلصونني مما أنا فيه خلصك الله، قال: فاستيقظت من نومي، وعلمت أن الأمر حقيقة.
فلما صليت التراويح من ذلك اليوم ذهبت إلى بيت صاحبي وهو قريب لي، فلما دخلت فإذا بأهله وأولاده قد اجتمعوا عليه ينظرون إليه وكأن على رءوسهم الطير، فجلست، فلما رأوني قالوا مستغربين: ما الذي جاء بك -يا فلان- في هذا الوقت، فليس هذا من عادتك؟! فقلت لهم: جئت لأسألكم سؤالاً فأجيبوني عليه: لو جاءكم مخبر وأخبركم أن أباكم يعذب في قبره هل ترضون بذلك؟ قالوا: لا، وندفع كل ما نملك مقابل نجاة أبينا من العذاب! قال: فأخبرتهم بما رأيته في المنام من حال أبيهم؛ فانفجروا جميعاً بالبكاء، وقام كبيرهم إلى ذلك الجهاز (التلفاز) وكسره تكسيراً أمام الجميع معلناً التوبة.
لكن القصة لم تنته بعد، قال الشيخ: فرأيته بعد ذلك في النوم فقال لي: خلصك الله كما خلصتني! يعني من العذاب.
إذاً: فكل أب أو ولي يدع هذا الجهاز الخبيث في بيته ويموت فويل له إن لم يدمره تدميراً قبل أن ينتقل إلى جوار الله تبارك وتعالى.(4/22)
توبة من في المرقص على يد شيخ وعظهم فيه
هذه القصة الأخيرة وهي قصة غريبة جداً، قال الشيخ علي الطنطاوي في بعض كتبه: دخلت أحد مساجد مدينة حلب، فوجدت شاباً يصلي فقلت: سبحان الله! إن هذا الشاب من أكثر الناس فساداً، يشرب الخمر، ويفعل الزنا، ويأكل الربا، وهو عاق لوالديه، وقد طرداه من البيت، فما الذي جاء به إلى المسجد؟! فاقتربت منه وسألته: أنت فلان؟ قال: نعم.
قلت: الحمد لله على هدايتك، أخبرني كيف هداك الله؟! قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص -يعني ساحة رقص- قلت مستغرباً: في مرقص؟! قال: نعم في مرقص، قلت: كيف ذلك؟ قال: كان في حارتنا مسجد صغير يؤم الناس فيه شيخ كبير السن، وذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم: أين الناس؟ ما بال أكثر الناس وخاصة الشباب لا يقربون المسجد ولا يعرفونه؟! فأجابه المصلون: إنهم في المراقص والملاهي.
قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟ رد عليه أحد المصلين: المرقص: صالة كبيرة فيها خشبة متسعة تصعد عليها الفتيات شبه عاريات يرقصن، والناس حولهن ينظرون إليهن، فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟! قالوا: نعم.
قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس.
قالوا له: يا شيخ! أتعظ الناس وتنصحهم في المراقص؟! قال: نعم.
حاولوا أن يثنوه عن عزمه، وأخبروه أنهم سيواجهونه بالسخرية والاستهزاء، وسيناله الأذى، فقال: وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأمسك الشيخ بيد أحد المصلين ليدله على المرقص، وعندما وصلا إليه سألهما صاحب المرقص: ماذا تريدان؟ قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص.
تعجب صاحب المرقص! وأخذ يمعن النظر فيهما، ورفض السماح لهما بالدخول، فأخذا يساومانه ليأذن لهما حتى دفعا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي؛ فحينئذ وافق صاحب المرقص، وطلب منهما أن يحضرا في الغد عند بدء العرض اليومي.
قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجوداً في المرقص، فبدأ الرقص من إحدى الفتيات، ولما انتهت أسدل الستار ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة وحمد الله والثناء عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة، وتملكهم العجب، وظنوا أن ما يرونه هو فقرة فكاهية! فلما عرفوا أنهم أمام شيخ يعظهم، أخذوا يسخرون منه، ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء وهو لا يبالي بهم، واستمر في نصحه ووعظه، حتى قام أحد الحضور وأمرهم بالسكوت والإنصات حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ.
قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل، تلا علينا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، وقصصاً لتوبة بعض الصالحين.
وكان مما قاله: أيها الناس! إنكم عشتم طويلاً وعصيتم الله كثيراً، فأين ذهبت لذة المعصية؟ لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء، ستسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى.
أيها الناس! هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم؟ إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم فكيف بنار جهنم؟! بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان.
قال: فبكى الناس جميعاً وخرج الشيخ من المرقص وخرج الجميع وراءه، وكانت توبتهم على يده، حتى صاحب المرقص تاب وندم على ما كان منه.
هذا ما تيسر ذكره من بيان بعض المواقف التي كانت بداية لهداية كثير من الناس، فعلينا أن نجدد العهد مع الله تبارك وتعالى، وأن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم).
وعلينا أن نذكر أنفسنا بهذه الآية العظيمة التي كانت سبباً في بداية الهداية لكثير من عباد الله الصالحين، هذه الآية التي خاطبت خير أمة أخرجت للناس: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17].
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(4/23)
تلخيص مناسك الحج
الحج فريضة الله على من استطاع إليه سبيلاً، وعلى المسلم قبل أن يحج أن يتعلم أحكام الحج وآدابه، وما ينبغي فعله أو تركه من الأعمال، وفي هذه المادة تلخيص مفيد لما يتعلق بآداب السفر إلى الحج، والإحرام له، والطواف فيه.(5/1)
آداب السفر إلى الحج
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
نشرع في تلخيص المناسك -مناسك الحج والعمرة- ونحيل التفاصيل في الفروع الفقهية إلى درس السبت والخميس إن شاء الله.
فالمقصود اليوم تبسيط المناسك بصورة عملية بحيث تسعف من يتعجل للسفر في هذه الأيام.
وأول ما ينبغي الكلام فيه: آداب السفر إلى هذه الفريضة.(5/2)
آداب التهيؤ للسفر
فأول آداب السفر: أن يشاور الإنسان من يثق بدينه وعلمه وتقواه في أمر سفره، وأيضاً: أن يستخير الله تبارك وتعالى في هذا السفر، وذلك إذا لم يكن السفر فريضة.
من آدابه أيضاً: أن يعزم على التوبة والرجوع عن جميع المعاصي والمخالفات، وأن يرد المظالم إلى أصحابها، فإن كان غصب مالاً أو اغتاب رجلاً، أو أخذ أي نوع من المظالم من صاحبها فعليه أن يرد هذه المظالم.
ثم أيضاً: يقضي من ديونه ما أمكنه أو يستأذن صاحب الدين عليه.
أيضاً من هذه الآداب: أن يرد الودائع إن كان عنده ودائع يحفظها للناس فيردها إلى أصحابها، حتى إذا قبض أو مات في سفره لم يطالب بها أمام الله.
أيضاً: يطلب المسامحة خصوصاً ممن كان يكثر مصاحبته ومعاملته من زوجة ووالدين وغيرهما.
أيضاً: يكتب وصيته إن كان له مال يوصي به، ويشهد عليها، بشرط ألا تزيد على الثلث، وأن يؤديها إلى أقاربه الذين لا يرثون، أو إلى جهة من جهات الخير.
يوكل من يقضي عنه من ديونه ما لم يتمكن من وفائه.
أيضاً: يترك لأهله نفقتهم إلى حين عودته، وأن يجتهد في إرضاء والديه، وتجتهد المرأة إذا سافرت في إرضاء زوجها والتوثق من مسامحته.
من ذلك أيضاً: الاستكثار من الزاد والنفقة بنية مواساة المحتاجين ممن يصحبونه أو يلقاهم في سفره.
كذلك ترك المماحكة والمشاجرة والخلاف، وعدم المسامحة في البيع والشراء.
أيضاً من هذه الآداب: أن يختار الصحبة الصالحة كما قال بعض الناس: الرفيق قبل الطريق، فينبغي أن يختار ويتحرى في الصحبة التي تصحبه في الحج، فيختار الرفيق الموافق الذي يؤثر على نفسه، ويحرص على راحة من يرافقه، ويا حبذا لو كان من أهل العلم أو ممن عنده علم بحيث يذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر.
من ذلك أيضاً: أن يؤمر القوم عليهم أميراً للسفر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم).
كذلك أيضاً: أن يحصل وسيلة مواصلات قوية ومريحة.(5/3)
فقه الحج والعبادات وآداب الرفقة
من هذه الآداب: أن يتعلم فقه الحج، وعلى الأقل يتعلم ما يصح به حجه، وما يفسد الحج، وكيف يتجنبه وهكذا، فيجب أن يتعلم من الفقه ما يصحح به عبادته ومناسكه، وأيضاً يتعلم من الفقه ما يحصل به النوافل، وما يزيد الحسنات ويضاعف الثواب في مثل هذه التجارة العظيمة، وفي مثل هذه المواضع المشرفة، فإن عجز عن ذلك فإنه يستصحب كتاباً شاملاً لمناسك الحج؛ بحيث يدمن ويداوم على مطالعته أثناء سفره ما بين الوقت والآخر حتى يستوثق من أداء المناسك على وجهها، أو يصطحب عالماً يرجع إليه كلما احتاج.
من ذلك أيضاً: أن يجتهد في العبادة والذكر، وأن يتفرغ لهما في هذه الرحلة.
من آداب السفر عموماً: أن يسافر يوم الخميس مبكراً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يسافر يوم الخميس، أما مبكراً فلقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها).
ويستحب المشي في السفر ليلاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل).
من آداب هذا السفر: التقشف والرق، فيتجنب الإنسان تحصيل الشهوات ولو كانت مباحة كالطعام الزائد، والملابس الفخمة، والاهتمام بالمظهر، بل ينبغي أن يكون متقشفاً، ويتجنب الزينة والتبسط في الطعام والشراب وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم: (أتدرون من الحاج؟ الحاج الشعث التفل) الشعث: الذي تفرق شعر رأسه، لأنه لا يهتم بمظهره ولا بهذه الأشياء، والتفل: الذي لا يضع طيباً ولا بخوراً ولا مثل هذه الأمور.
أيضاً من آداب السفر: حسن الخلق مع الناس، لقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] ومنها: تجنب المخاصمة والمخاشنة، ومزاحمة الناس، بل ينبغي أن يكون الإنسان منضبطاً، ولا يكون سلوكه في حال إحرامه وفي حال انطلاقه في هذا السفر المبارك مثل سلوكه في دار الإقامة، لأنه صار في حالة تلبس بعبادة من أعظم العبادات ينبغي أن ينزهها عن جميع المخالفات؛ لقوله تبارك وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] كما سنبين إن شاء الله، فنهى الله تبارك وتعالى عن الرفث والفسوق والجدال.
والرفث: هو النطق بالكلام الذي يتعلق بالجماع، وقيل: هو ذكر أحوال هذا الأمر ما بين الرجل وبين أهله، ومواجهة النساء بذلك.
والفسوق: هو جميع المعاصي من الخروج عن طاعة الله.
((وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)) أي: لا مماراة ولا مخاصمات ومجادلات تفضي إلى قسوة القلوب وإلى التفرق والشتات، فينبغي على الإنسان أن يكون منضبطاً.
والتلبس بالمعاصي ينقص ثواب الحج جداً، ويكفي أن التلبس بالمعاصي يحرم الإنسان من الثواب العظيم على الأقل، وهو الثواب الذي ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فإذا وقع في الرفث أو الفسوق أو أي شيء من المعاصي فإنه يقدح في استحقاقه لهذا الثواب العظيم، فينبغي لهذا الإنسان أن يكون متيقظاً حذراً من وقوع المخالفات.
بل من العلماء -وهو الإمام ابن حزم رحمه الله- من أبطل حج من رفث أو فسق في حجه، فينبغي الاحتياط الشديد في ذلك.(5/4)
أذكار السفر وما يتعلق بذلك
من ذلك أيضاً: أن يحافظ على الأذكار؛ سواء الأذكار الموظفة أو الأذكار المطلقة، فإن هناك أذكاراً قيدت بوظيفة معينة ينبغي على الإنسان أن يحافظ عليها، فيستحب للمسافر عموماً أن يواظب على نفس الأذكار التي تستحب للمقيم في الليل والنهار، واختلاف الأحوال، كالأكل والشرب، وعند النوم، وعند الاستيقاظ، وعقب الصلاة، وغيرها من الأذكار الموظفة.
أما المسافر فيزيد أذكاراً أخرى منها: أنه يودع حينما يودع من يكونون في وداعه يقول لهم: (أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)، وفي بعض روايات الحديث: (أستودعكم الله الذي لا تخيب عنده الودائع) ففي الحديث: (إن الله عز وجل إذا استودع شيئاً حفظه) فلا ينسى الإنسان أن يستودع الله أهله وبنيه وكل من يكونون في وداعه بهذا الدعاء كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول المقيم للمسافر: (أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك).
أستودع الله: أي أتركها وديعة عند الله، وهي ثلاثة أشياء: دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك.
المقصود بالأمانة هنا: أهله ومن يخلفه، وماله الذي يتركه عند أمينه، وذكر الدين هنا، فقال: (أستودع الله دينك) أي: أن يحفظ عليك دينك، ويبقى عنده وديعة لا تضيع في السفر؛ لأن السفر مظنة المشقة، فربما كانت هذه المشقة سبباً لإهمال بعض أمور الدين والتفريط فيها، فلذلك خص هذا الأمر قبل كل شيء.
قوله: (وخواتيم) جمع خاتمة، وهي: ما يختم به العمل، أي: يكون آخره، ودعا له بذلك لأن الأعمال بخواتيمها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) فلذلك اهتم بهذه الثلاث: دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك.
وحينما يبعد الإنسان ولا يكون تحت رقابة القوم الذين يعرفونه ويعرفهم، ربما كان الشيطان عليه أقوى، فلذلك سمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن حقيقة أخلاق الشخص وطباعه، فيحتاج إلى توفيق من الله وعصمة؛ حتى لا يتردى مهاوي المخالفات.
أيضاً يقول المودع للمسافر بعد أن يقول: أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك؛ يقول له أيضاً: زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما كنت، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مسافر: (زودني، فقال: زودك الله التقوى.
قال: زدني.
قال: وغفر ذنبك.
قال: زدني.
قال: ويسر لك الخير حيثما كنت) ثم يقول المودع للمسافر: (عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف).
الشرف: هو ما علا من الأرض، فهذه أيضاً كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم للمسافر.
وإذا كان سفر حج أو عمرة يقول له المقيم: ادع الله لنا بخير، فإذا ولى المسافر وانطلق دعا له المقيم قائلاً: اللهم اطوله البعد، وهون عليه السفر؛ لأن السفر قطعة من العذاب كما قال صلى الله عليه وسلم.
فإذا أراد ركوب دابته، أي: إذا أراد المسافر أن يركب المركوب فوضع رجله في الركاب يقول: باسم الله.
وإذا كانت سفينة قال: كما قال نوح عليه السلام: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:41] أي: أن مجراها باسم الله ومرساها، وهو منتهى سيرها كذلك.
وأيضاً يدعو كما دعا نوح عليه السلام لما ركب الفلك: {رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون:29].
فإذا استوى واستقر على ظهر ما يركبه يقول: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] (مقرنين) أي: مطيقين أو مقتدرين عليه، فنحن ما كنا نطيق قهر هذه الدابة واستعمالها لولا تسخير الله تعالى إياها لنا.
الإنسان إذا ركب جملاً فقوة الجمل لا تخفى، وإذا غضب الجمل وطاش كانت شدته وصعوبته عظيمة، فمن الذي ذلل الجمل بحيث يقوده طفل صغير؟ إن الذي ذلله هو الله تبارك وتعالى، فنحمد الله على هذه النعمة، خاصة إذا كانت هناك نعم أعظم وأعظم، كركوب الطائرات أو السيارات أو ما إلى ذلك من الوسائل الحديثة التي وفرت الراحة، وهي من نعم الله تبارك وتعالى علينا، فنشكر الله على هذه النعمة وهذا التيسير! فيقول: الحمد لله، {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
النبي صلى الله عليه وسلم لما علمهم هذا الدعاء ضحك بعدما قال: (سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقال له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا رسول الله! من أي شيء ضحكت؟ فقال: إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري).
ويقول أيضاً: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا بنصحك واقلبنا بذمة، اللهم اطو لنا الأرض، وهون علنيا السفر) الذمة: العهد، والذمام العهد والأمان، اللهم اقلبنا: أي: أرجعنا إلى أهلنا (بذمة) أي: بعهد وأمان وضمان منك أن نعود آمنين سالمين.
ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)، وعثاء السفر: شدته ومشقته وتعبه.
(وكآبة المنظر) الكآبة: هي الحزن والتغير والانكسار من مشقة السفر، وما يحصل على المسافر من الاهتمام بأموره.
(وسوء المنقلب) سوء الانقلاب إلى أهله بعد السفر، وذلك بأن يرجع مهموماً أو منقوصاً ومهموماً بما يسوءه، فيتعوذ الإنسان من سوء المنقلب.
ويقول أيضاً: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال) الحور: هو النقصان والرجوع، والكور أو الكون المقصود به: الرجوع من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية، أي: الرجوع من شيء إلى شيء من الشر، أو الرجوع من الاستقامة والزيادة إلى الاعوجاج والنقص، فهذا معنى الكون في قوله: (أعوذ بك من الحور بعد الكون)، ومن رواه بالراء (أعوذ بك من الحور بعد الكور) فالمقصود به هنا: الزيادة، مأخوذ من تكوير العمامة، فكلما كورها زادت، والمقصود التعوذ من الانتقاص بعد الزيادة والاستكمال، ورواية الكون معناها مأخوذ من الاستقرار والثبات، فالمراد التعوذ من النقصان والتغيير بعد الثبات والاستقرار حتى لا يتحول قلبه وينقص في دينه.
وإذا علا الثنايا كبر، وإذا هبط سبح: أي: إذا ارتفع فوق جبل يكبر، وإذا هبط في الوديان يسبح، فأولى إذا ركب الطيارة أن يكثر من التسبيح، وإذا عثرت دابته، أو تعطلت السيارة أو شيء من هذا يقول: باسم الله.
وإذا نزل منزلاً قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه إذا قال ذلك لن يضره شيء، ولما كان لا يجوز وصف أي شيء من كلام الله بالنقصان تعوذ صلى الله عليه وسلم بكلمات الله التامة؛ لأنها ليس فيها نقصان ولا عيب كما يكون في كلام الآدميين، وقيل: معنى (التامات) أن ينتفع بها المتعوذ وتحفظه من الآفات.
وإذا أتى عليه السحر وهو الجزء الأخير من الليل قال: (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا؛ عائذاً بالله من النار) كما كان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
(سمع سامع): المقصود فليشهد الشاهد، أو ليسمع السامع وليشهد على حمد الله سبحانه وتعالى على نعمه وحسن بلائه.
وقيل معناه: انتشر ذلك وظهر، وسمعه السامعون أن نعم الله علينا قد ذاعت وكثرت وترادفت بحيث علم بها الجميع، فسمعها السامعون، وشهد الشاهدون.
(وحسن بلائه علينا): المقصود بالبلاء: حسن بلاء النعمة، والبلاء: الاختبار والامتحان، فالبلاء بالقول ليتبين به الشكر، والابتلاء بالشر ليظهر الصبر.
(ربنا صاحبنا): أي: احفظنا؛ لأن من صحبه الله لم يضره شيء.
(عائذاً بالله من النار): تحتمل وجهين: أحدهما أن يريد: أنا عائذ بالله من النار.
أو يقول: أنا متعوذ بالله من النار.
فعلى المسافر أن يكثر من الدعاء، وهذا من أهم آداب السفر التي يقصر فيها كثير من الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده) جعل منهن صلى الله عليه وسلم دعوة المسافر، فالمسافر ينبغي أن يكثر من الدعاء؛ لأن دعوة المسافر مستجابة.
وعلى المسافر أن يكون على دراية بأحكام الطهارة والصلاة، وما يحتاج إليه من الرخص أو الفقه الخاص بجمع الصلاة، والمسح على الجورب، وهكذا ما قد يحتاج إليه من الأحكام في سفره.
فهذا فيما يتعلق بآداب السفر.(5/5)
تنبيهات تتعلق بالمناسك(5/6)
اجتناب الوقوع في الشرك
هناك بعض التنبيهات تتعلق بالمناسك، وهي بعض المخالفات التي يقع فيها كثير من الناس، أعظمها بلا شك الوقوع في بعض الشركيات التي لا تليق بالمسلم الموحد، فيستغيث بعض الناس بغير الله، ويستعينون بالأموات من الأنبياء أو الصالحين ويدعونهم من دون الله، أو يحلفون بهم تعظيماً لهم؛ فيبطلون بذلك حجهم؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
ينبغي أن يعبد الله وحده لا شريك له، لا يشرك الإنسان مع الله أي شيء من الملائكة أو النبيين أو الصالحين؛ لقوله تعالى، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإذا كنا بصدد التحذير من المعاصي في الحج، فأولى ثم أولى أن يحذر المسلمون الوقوع في الشرك، للأسف كثير من المسلمين يقعون في أشياء وهذا مشتهر ومعروف، وهو من الشرك، وقد يكون شركاً أكبر كهذه النماذج التي ذكرناها.(5/7)
اجتناب حلق اللحى
كذلك بعض الناس يتزينون بحلق اللحية، وهذه معصية، والإصرار عليها يجعلها من الكبائر؛ لأنها ضمن الفسق: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة:197] الفسوق ذكرنا أنه يدخل فيه جميع المعاصي، فمن المعاصي المحرمة في الحج وفي غير الحج، وفي حالة الإحرام وفي غير الإحرام: أن يحلق الإنسان لحيته مضادة لأمر الله تبارك وتعالى، فهذا مما يشيع أيضاً في المسلمين في هذا الزمان، معاندة لأمر الله تبارك وتعالى.
والأدلة باختصار شديد جداً على تحريم هذه المعصية: أولاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام ظاهره الوجوب، فينبغي امتثاله، وعدم التحذلق والتنطع والتفلسف لإبطال أمر النبي وتعطيله.
الأمر الثاني: أن في حلق اللحية تغييراً لخلق الله بدون إذن من الشرع، فالهيئة التي خلقك الله عليها ينبغي أن تحافظ عليها فلا تغيرها، إلا ما ورد الدليل باستثنائه، فهذا يجوز تغيير خلق الله فيه، بل قد يجب.
من ذلك مثلاً: نتف الإبط، وحلق العانة، والختان، وتقليم الأظفار، كل هذا تغيير لخلق الله، لكنه تغيير بأمر من الشارع؛ لأنه من خصال الفطرة.
والذي يأمر بتغيير خلق الله هو الشيطان قال تعالى عنه: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، فحلق اللحية فيه تغيير لخلق الله.
وأيضاً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن النساء، فقال: (لعن الله النامصات والمتنمصات، والواشمات والمستوشمات، والمتفلجات بالحسن المغيرات خلق الله) فإذا كان قد حرم على النساء أن يتزين بهذه الأنواع من الزينة المحرمة التي فيها تغيير لخلق الله، فأولى أن يحرم ذلك على الرجال.
الأمر الثالث: أنها من سنن الفطرة، فسنن الفطرة بعضها واجب، وبعضها في وجوبه خلاف، ولكن على الأقل ينبغي الاستمساك بالفطرة وسنن الأنبياء، وما كانوا عليه أجمعون.
ومن ذلك أن في حلق اللحية تشبهاً بالنساء، فالله عز وجل خص الرجال على النساء بوجود اللحية في وجوههم، بل اللحية من نعم الله تبارك وتعالى على الرجال، فحلقها كفر بهذه النعمة؛ لأنها من خصال الذكورة والفحولة والرجولة، وقد (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من النساء بالرجال، والمتشبهات بالرجال من النساء).
أيضاً: في حلق اللحية تشبه بالكفار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (خالفوا المجوس -أو خالفوا المشركين أعفوا اللحى وأحفوا الشوارب).
ورد الأمر بإعفاء اللحية بخمس صيغ: (أعفوا اللحى، أوفوا اللحى، أرجوا اللحى، أرخوا اللحى، وفروا اللحى)، ومعناها كلها تركها على حالها لا يقربها، والأدلة في هذا الأمر كثيرة، والكلام في هذا يطول، لكن مما يؤسف له أن المسلم قد يموت قريبه، فإذا أراد أن يظهر الجزع والحزن ترك لحيته، إظهاراً للجزع لا طاعة لله ورسوله، أو انصياعاً وراء الآراء والتقاليد الفاسدة.(5/8)
اجتناب لبس خاتم الذهب
أيضاً من ذلك شيوع لباس خاتم الذهب: كثير من الرجال يلبسون خاتماً من ذهب أو ساعة أو نظارة ذهب، فهذا الأمر شائع جداً، وبالذات ما يعرف بدبلة الخطوبة أو خاتم الزواج، هذا بجانب أنه محرم على الرجل أن يلبس خاتماً من الذهب ففيه تشبه بالنصارى من الكفار، فيحرم على الرجل لبس خاتم الذهب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها).
أيضاً: لما رأى في إصبع رجل خاتماً من ذهب نزعه من إصبعه صلى الله عليه وسلم وألقاه في الأرض، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في إصبعه، فألقاها، فبعدما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال الناس للرجل: خذه فانتفع به، قال: لا آخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم).(5/9)
ذكر ما يجوز للمحرم مما قد يتحرج منه بعض الناس(5/10)
غسل المحرم رأسه
إن في الحج أفعال يجوز للمحرم فعلها، ويظن بعض الناس أنها ممنوعة، ومنها: الاغتسال للإحرام، ودلك الرأس، ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن حنين أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة: (اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك، فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب، قال: فسلمت عليه فقال: من هذا؟ قلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب رضي الله عنه يده على الثوب الذي كان يتخذه ستارة وهو يغتسل فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل) فقال المسور لـ ابن عباس: لا أماريك أبداً، يعني: لا أجادلك بعد ذلك أبداً؛ لأن الحجة والعلم معك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ربما قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعال أباقيك في الماء أينا أطول نفساً! ونحن محرمون.
وكأنهما كانا في البحر أو نحوه، فينظر أيهما أطول بقاء في الماء إذا غطس، كنوع من الترفيه أو المزاح.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر يتناقلان -يعني: يتغاطسان يغوص أحدهما رأس صاحبه- وعمر ينظر إليهما فلم ينكر ذلك عليهما.(5/11)
حك الرأس ولو سقط منه شعرات
ومن الأمور التي لا حرج فيها حك الرأس ولو سقط منه بعض الشعر، ويدل عليه حديث أبي أيوب الذي ذكرناه في اغتساله أنه جعل الرجل يصب على رأسه وهو يحرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، مع احتمال أن تسقط شعرة أو عدة شعرات.
وروى مالك عن أم علقمة بن أبي علقمة أنها قالت: سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسأل عن المحرم: أيحك جسده؟ فقالت: نعم، فليحككه وليشدد، ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت، يعني: برجلها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وله أن يحك بدنه إذا حكه، وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره.(5/12)
الاحتجام وشم الريحان وطرح الظفر المنكسر ونحوه
أيضاً: يجوز الاحتجام ولو بحلق الشعر التي في مكان الحجم؛ لحديث ابن بحينة رضي الله عنه قال: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم في موضع بطريق مكة في وسط رأسه).
أيضاً من ذلك: شم الريحان، وطرح الظفر إذا كان طويلاً فانكسر؛ لكن لا يستأنف هو قص أظافره.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: المحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، ويشم الريحان، وإذا انكسر ظفره طرحه، ويقول: أميطوا عنكم الأذى فإن الله عز وجل لا يصنع بأذاكم شيئاً.
وعن محمد بن عبد الله بن أبي مريم أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر وهو محرم، فقال سعيد: اقطعه.(5/13)
الاستظلال بالخيمة ونحوها
أيضاً من الأمور الجائزة للمحرم: الاستظلال بالخيمة أو المظلة، وأيضاً يستظل بالسيارة، وبعض المتنطعين وهم الرافضة الشيعة يتنطعون في هذا الأمر، فتجد (الأتوبيسات) التي يسافرون فيها قد أزالوا منها السقف، وهذا من ضلالهم وتنطعهم وابتداعهم في الدين، فهذا لم يأذن به الله عز وجل؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنصب القبة له بنمرة، ثم نزل بها وهو محرم.
وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: (حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً رضي الله عنهما أحدهما بخطام ناقته، والآخر رافعاً ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة).(5/14)
شد المنطقة والحزام على إزاره
وله أن يشد المنطقة والحزام على إزاره، فلا بأس أن يضع حزاماً في وسطه، وله أن يعقده عند الحاجة، وأن يتختم، وأن يلبس ساعة اليد، ويضع النظارة لعدم النهي عن ذلك: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، وعن عائشة رضي الله عنها: (أنها سئلت عن الهميان للمحرم -وهو شيء مثل الحزام توضع فيه النقود- فقالت: لا بأس به ليستوثق من نفقته) أي: حتى يستوثق ويضمن أنه حافظ على نفقته وماله، فيحتاج المحرم لمثل هذا حتى يحافظ على المال.
وعن عطاء قال: (يتختم المحرم ويلبس الهميان).
رواه البخاري تعليقاً، فلا شك أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم والمنطقة، مع عدم ورود ما ينهى عنه، قال الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
فهذه بعض التنبيهات على أشياء يتحرج منها بعض الناس.(5/15)
أمور ينبغي على المحرم الانتباه لها(5/16)
الغسل للإحرام وصفة لباس الإحرام
قبل الإحرام ينبغي للإنسان أيضاً أن يلاحظ هذه الأمور.
أولاً: يستحب لمن عزم على الحج أو العمرة المفردة أن يغتسل للإحرام، ولو كانت حائضاً أو نفساء، فهذه أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وأن تستثفر، وهذا مجرد تنظف وليست طهارة، لأنها إذا حاضت أو نفست واغتسلت فهذا الغسل لا يطهرها ولا يجيز لها الصلاة، لكن مع ذلك أمرها عند الإحرام أن تغتسل، فغير الحائض والنفساء أولى.
فيستحب للإنسان أن يغتسل غسل الإحرام قبل أن يحرم، ثم يلبس الرجل ما شاء من الألبسة التي لم تفصل على قدر الأعضاء، وهي التي يسميها الفقهاء الثوب المحيط، وهو الشيء الذي يفصل على قدر العضو، كأن تقول: هذا كم، وهذا سروال، وهذا كذا.
فعلى المحرم أن يلبس أشياء غير مفصلة على قدر العضو، وذلك كالإزار والرداء في هيئته، ويلبس النعلين، وهو هنا: كل ما يلبس على الرجلين لوقايتهما مما لا يستر الكعبين فهو جائز، والكعبان: هما العظمان الناتئان في جانبي القدم، فهذا هو الأولى؛ لكن إذا لم يجد نعلين فإنه يلبس خفين.
ولا يغطي الرجل رأسه بشيء مما يستر الرأس بطريقة مباشرة لا قلنسوة ولا عمامة، أما المرأة فلا تنزع شيئاً من لباسها، إلا أنها تمنع من أمرين: من النقاب، ومن القفاز، كما قال صلى الله عليه وسلم، في الحديث: (لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين إلا ألا يجد نعلين فليلبس الخفين)، وقال: (لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين)، لكن ليس معنى هذا أن المرأة تكشف وجهها، فهذا النهي ليس عن تغطية الوجه والكفين مطلقاً، وإنما هو عن تغطيتهما بلباس معين وهو النقاب أو القفاز، لكن إذا مر بها الرجال فلتستتر بأن تسدل جلبابها على وجهها وأن تسدل كمها حتى يستر كفها.
فلا يفهم من الحديث أن المرأة تكشف الوجه والكفين أمام الأجانب وهي محرمة، وإنما المقصود أن إحرام المرأة في الوجه والكفين، وأن وجه المرأة مثل بدن الرجل لا مثل رأسه، فلو قلنا: إن وجه المرأة وكفيها مثل رأس الرجل لوجب عليها أن تكشفه في كل وقت في الإحرام، لكن الصحيح أن وجه المرأة وكفيها مثل بدن الرجل يغطى لكن لا بمخيط، كذلك وجه المرأة وكفاها يغطيان لكن لا بمخيط وهو القفاز؛ لأن القفاز مخيط، وكذلك النقاب يقطع على قدر الوجه، فهذا أيضاً لا يلبس، لكن ستر وجهها كما كانت النساء يفعلن في صحبة عائشة رضي الله عنها في الإحرام.
تقول أسماء: (كنا إذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا) فيفهم من هذا أنها تسدل سدلاً، لكن لا تستعمل النقاب، والنقاب: هو قطعة تغطي الجبهة، وقطعة تأتي على عظمة الأنف وما تحته، فبالتالي تظهر العينان، فالنقاب من النقب، وهو: الثقب ويسمى أيضاً: البرقع، أما إذا جعلت النقاب على طرف الأنف فيسمى اللثام، فالمقصود أنها تستر وجهها وكفيها، لكن لا بالنقاب، وتغطي يديها لكن ليس بالقفاز، هذا بالنسبة لإحرام المرأة، والله أعلم.(5/17)
متى يصير المرء محرماً
وللمرء أن يلبس الإحرام قبل الميقات ولو في بيته، لكن ليس معنى ذلك أنه يصير محرماً، لأنه لا يكون محرماً إلا بالنية، فالإزار والرداء يلبسه الإنسان في أي حالة عادية، كذلك امتناعه عن محظورات الإحرام ليس إحراماً، فلابد من النية، فله أن يلبس الإحرام قبل الميقات ولو في بيته كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فهذا فيه تيسير على الذين يحجون بالطائرة، فلا يحتاجون إلى تغيير الملابس، ولبس الإزار والرداء فيها، فلا بأس أن يلبس في المطار الإزار والرداء، لكن لا يحرم إلا قبل أن يصل الميقات بيسير حتى لا يفوت الميقات وهم غير محرمين.
أيضاً المحرم بعدما يغتسل غسل الإحرام يدّهن ويتطيب في بدنه لا في ثوبه، وطيب الرجل في بدنه يكون في اللحية والرأس، لكن الرجل لا يضع الطيب في جبهته ووجنتيه هذا للنساء، أما الرجل فيضع الطيب في شعره وفي لحيته أو في بدنه عامة بأي طيب شاء له رائحة ولا لون له، أما النساء فطيبهن ما له لون ولا رائحة له، هذا كله قبل أن ينوي الإحرام.
فهو في الحقيقة سوف يستديم الطيب ولم يستأنف الطيب، لأنه بعد اغتسال غسل الإحرام يضع الطيب، ثم يحرم بعد قليل، فيبقى أثر الطيب بعد إحرامه؛ وهذا لا يعد محظوراً، لكن لو أنه مسح الطيب من رأسه ووضعه في أي موضع آخر، فإنه يعتبر قد ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام وعليه دم؛ لأنه بهذا النقل كأنه استأنف تطييب هذه المنطقة، لكنه لو سال بفعل العرق أو نحوه فلا بأس.
فاستبقاء أثر الطيب الذي وضعه وهو حلال قبل أن يحرم لا حرج فيه، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كأني أرى وبيص الطيب في مفرقه صلى الله عليه وسلم وهو محرم) أي: كان يلمع طيب المسك في مفرقه وهو محرم، فدل على أن أثر الطيب يبقى، وكان هذا استدامة وليس استئنافاً للطيب، لكن متى ما أحرم يحرم عليه أن ينقل الطيب من موضع إلى موضع.(5/18)
الإحرام من الميقات المكاني
إذا وصل الميقات المكاني وجب عليه أن يحرم، ولا يكون ذلك بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته؛ لأن نية الحج موجودة وهو خارج من بيته، فالمقصود أن توجد نية الإحرام بجانب التلبس بالأمور المختصة بالإحرام وبالذات التلبية، فالقصد مازال في القلب منذ خرج من بلده، فلابد مع القصد من قول أو عمل يصير به محرماً، فإذا لبى قاصداً للإحرام انعقد إحرامه اتفاقاً، وذلك أنه بمجرد أن يصل الميقات يقول: لبيك اللهم لبيك! ويستمر في التلبية ناوياً الإحرام.
ولا يقول بلسانه شيئاً بين يدي التلبية من البدع والعبادات المخترعة التي يقولها الناس في ذلك الموطن، مثل قولهم: اللهم إني أريد الحج أو العمرة فيسره لي وتقبله مني إلى آخره؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: إني نويت الحج والعمرة، وبعض العلماء يستحبها حتى لا ينسى، ولكن الأقرب أن هذا التلفظ بالنية لم يثبت من فعله صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة والطهارة والصيام وغيرها.
أما المواقيت المكانية فهي خمسة مواقيت: ذو الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل، ويلملم، وذات عرق، (هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة، ومن كان منزله دونه فمهله من منزله، حتى أهل مكة يهلون من مكة).
هذه المواقيت حددها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لمن قصد مكة للنسك أن يتجاوزها بدون إحرام.
أما ذو الحليفة فهو مكان معروف يبعد عن المدينة المنورة حوالى أحد عشر كيلو متراً، ويبعد عن مكة أربعمائة وخمسين كيلو متر، وهو أبعد ميقات.
الجحفة كانت تسمى من قبل المهيعة، وهي تبعد عن مكة حوالى مائتي كيلو متر، والجحفة الآن قد انقرضت، وأصبح الناس يحرمون من مكان قبلها بقليل يسمى (رابغ)، وهو ميقات أهل المغرب والقادمين من مصر.
وقرن المنازل يبعد عن مكة حوالى أربعة وتسعين كيلو متراً، ويلملم يبعد أربعة وخمسين كيلو متراً، وذات عرق تبعد حوالى أربعة وتسعين كيلو متراً.
فهذه المواقيت لأهلهن، أي: لمن يدخل هذه الأماكن، ولمن مر عليهن من غير أهلهن، أي: بغض النظر عن جنسيته، مثلما لو أن مصرياً يعيش في اليمن فذهب للعمرة من اليمن فإنه يحرم من يلملم.
والذي يكون في مكان أقرب لمكة من الميقات فميقاته من مكانه، وهو معنى قوله: (وأهل مكة يهلون من مكة).
أما ذو الحليفة فهو مكان قريب من المدينة المنورة بينه وبينها أحد عشر كيلو متراً، ويسمى وادي العقيق، والمسجد هناك يسمى مسجد الشجرة، وفيها بئر، ويسميها جهال العامة: أبيار علي يزعمون أن علي بن أبي طالب قاتل الجن في هذا المكان، وهذا من خرافاتهم وأكاذيبهم.(5/19)
كيفية الإحرام
فإذا أتى الميقات وأراد الإحرام نوى بقلبه العمرة أو الحج، فإذا استوى على الدابة وابتدأ السير استقبل القبلة وحمد الله وسبح وكبر ثم قال: لبيك اللهم بعمرة إن كان معتمراً أو متمتعاً، أو: لبيك اللهم بحجة وعمرة إذا كان قارناً قد ساق الهدي، أو: لبيك اللهم بحجة إذا كان مفرداً.
وللمرء أن يشترط إذا كان مريضاً يخشى الوجع، ويخاف أن صحته لا تساعده فيضطر للرجوع، فيقول: لبيك اللهم لبيك! ومحلي من الأرض حيث تحبسني، ويقول: اللهم هذه عمرة، أو اللهم هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ثم يرفع صوته ملبياً بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينوي النسك: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك.
فيكررها، ويستحب ألا يزيد عليها، لكن يجوز أن يزيد زيادات أخرى كما كان بعض الصحابة يقولون: لبيك إله الحق لبيك.
أو يزيد مثلاً: لبيك ذا المعارج، ولبيك ذا الفواضل، أو: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل، فهذا جائز فقط لا مستحب، فلا تنكر على من فعل هذا، لكن الأفضل أن تلزم تلبية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الصيغة المشهورة المعروفة، فيلزم التلبية ويحافظ عليها؛ لأنها من شعائر الحج.
والتلبية مأخوذة من لبى، بمعنى: أجاب، فكلمة (لبيك) معناها تلبية بعد تلبية، فمعناها هنا المسمى، وتسميتها للتكثير أي: إجابة لك بعد إجابة ولزوماً بطاعتك، يقول الإمام النووي رحمه الله: اتفق العلماء على استحباب التلبية، ويستحب الإكثار منها في دوام الإحرام، وتستحب قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وجنباً وحائضاً، ويتأكد استحبابها في كل صعود وهبوط، وحدوث أمر من ركوب أو نزول أو اجتماع رفقة أو فراغ من صلاة، وعند إقبال الليل والنهار، ووقت السحر، وغير ذلك من تغاير الأحوال.
وليس للإحرام صلاة تخصه كما يتوهم كثير من الناس، لكن السنة أن تحرم بالحج أو العمرة عقب صلاة فرض أو نافلة؛ لكن ليس هناك سنة مستقلة للإحرام، فإذا كان الإحرام في وقت من أوقات النهي عن الصلاة فلا تصلي ركعتين تنفلاً بنية الإحرام؛ لأنهما ليستا من ذوات الأسباب، لكن السنة أن يكون الإحرام عقب صلاة فرض أو نافلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم عقب صلاة الظهر، لكن إذا كان ميقات الشخص من ذي الحليفة استحب له أن يصلي في هذا المكان عند ذي الحليفة لا لخصوص الإحرام وإنما لخصوص المكان وبركته.
فقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: (أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة، أو عمرة وحجة).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأي -وفي رواية: أري- وهو معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إنك ببطحاء مباركة) فلذلك أمر بالصلاة في هذا المكان.
فمن كان ميقاته من ذي الحليفة فلا بأس أن يصلي في هذا الوادي لخصوص الوادي المبارك وليس لسنة الإحرام.(5/20)
محظورات الإحرام(5/21)
الرفث والفسوق والجدال وحلق الشعر
ما هي الأشياء التي تحرم على الإنسان بالإحرام حتى يحل من إحرامه؟ أول ذلك ما جاء في قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، والرفث كامن في أمرين: مباشرة النساء بالجماع ومقدماته والكلام بذلك.
والفسوق في الآية كامن بجميع أنواع الخروج عن طاعة الله تبارك وتعالى، فأي معصية فسق.
والجدال: المخاصمة والمراء حتى يغضب صاحبه.
من ذلك أيضاً ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه من حلق شعر الرأس: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] فحلق شعر الرأس أو شعر البدن عموماً من المحظورات.(5/22)
ما يحرم من اللباس على المحرم
من ذلك أيضاً تغطية المحرم الذكر رأسه، فهذا أيضاً لا يحل له في الإحرام.
ومن ذلك أن يلبس أي شيء يحيط بالبدن أو بعضه، وأي شيء يغطي الرأس، فلا يجوز للمحرم لبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا الخف أيضاً، إلا إذا لم يجد نعلاً فإنه يجوز له لبس الخفين.
كذلك إذا لم يجد إزاراً فيجوز له لبس السراويل.
كذلك لا يجوز له أن يلبس ثوباً مسه ورس أو زعفران، والزعفران: هو صبغة صفراء، وهذا في حق الرجال، وكما ذكرنا أن النساء يلبسن ما شئن من أنواع الثياب إلا أنه لا يجوز لهن أن ينتقبن، ولا أن يلبسن القفازين، وهذا هو معنى قولنا: إحرام المرأة في وجهها وكفيها.
من ذلك أيضاً: عقد النكاح، فلا يجوز للمحرم أن يتزوج، ولا أن يزوج غيره في حالة الإحرام، سواء كان بوكالة أو بولاية، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.(5/23)
صفة التلبية وذكر فضلها
بعد ذلك يستقبل القبلة ثم يلبي بالعمرة أو بالحج كما ذكرنا، فيقول: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ويلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمر المحرم برفع صوته بالتلبية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الحج العج والثج) وهو رفع الصوت بالتلبية.
والثج هو: ثوران دماء الهدي والأضاحي، فهذا من أفضل مناسك الحج، ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته يصرخون بالتلبية صراخاً يرفعون أصواتهم.
قال أبو حازم: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم.
لكن لا تكون التلبية بصوت جماعي كما يفعل الناس، القاعدة أنه حيثما شرع الجهر بالذكر فلا يكون بصورة جماعية، سواء في ختام الصلاة أو غيرها كما هو أقرب للأدلة.
كذلك في تكبيرات العيد كل إنسان يكبر وحده، وليس بالصورة الجماعية الموجودة الآن، فهذه من البدع.
كذلك أيضاً التلبية شرع فيها الجهر بالذكر، فليس من السنة أن يلبي الناس بصوت واحد في جماعة، لكن السنة أن كل شخص يلبي وحده.
والنساء يلبين كما يلبي الرجال، لكن لا يشرع للمرأة أن ترفع صوتها خشية الفتنة، وإن كان قد وردت آثار أن عائشة رضي الله عنها سمعت وهي تلبي.
ويواظب على التلبية ولا يقصر فيها؛ لأن ثواب التلبية عظيم جداً، والتلبية من شعائر الحج، ومن تعظيم شعائر الله أن تواظب على التلبية طوال فترة الإحرام، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا)، يعني: عن يمينه وشماله؛ وبخاصة كلما علا شرفاً أو هبط وادياً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنية له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية) وفي حديث آخر: (كأني أنظر إليه إذ انحدر في الوادي يلبي).
ويجوز أن تخلط التلبية بالتهليل، أي: بلا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتلبية أو تهليل، فإذا بلغ الحرم المكي ورأى بيوت مكة أمسك عن التلبية).
وبعض العلماء يقول: إن من كان محرماً بالعمرة قطع التلبية عند وصوله إلى الحجر الأسود، أما الحج فيلبي باستمرار ولا تنقطع التلبية إلا عند رمي جمرة العقبة.(5/24)
آداب دخول مكة
من السنة أن يغتسل لدخول مكة قبل الدخول، ويدخلها نهاراً أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلا، فإنه صلى الله عليه وسلم دخلها من الثنية العليا، ثنية كداء المشرفة على المقبرة عند الحجون، ودخل المسجد من باب بني شيبة، فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود، فيتحرى أن يدخل من باب يوصله مباشرة إلى الحجر الأسود، وله أن يدخل مكة من أي طريق شاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل فجاج مكة طريق ومنحر) وفي حديث آخر: (مكة كلها طريق، يدخل من هاهنا، ويخرج من هاهنا).
فإذا دخل المسجد فيراعي آداب دخول المسجد الحرام، فيقدم رجله اليمنى ويقول: (اللهم صل على محمد وسلم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم)، فإذا رأى الكعبة يجوز أن يرفع يديه؛ لأن ذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع والمهابة والإجلال، ويدعو بما تيسر له أو يدعو بدعاء عمر رضي الله عنه حينما رأى الكعبة قال: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام).
قوله: (اللهم أنت السلام) أي: أنت الذي اسمك السلام، وهو من أسماء الله الحسنى.
(ومنك السلام) أي: منك تأتي السلامة من الآفات والبلايا.
(فحينا ربنا بالسلام) أي: اجعل تحيتنا في وفودنا عليك السلامة من الآفات.
فإذا أتى الحجر الأسود أمسك عن التلبية، بعض العلماء كما ذكرنا يقول: إذا أتى بيوت مكة قطع التلبية؛ لأنه حينئذ ينشغل بأمور أخرى حيث يعتني بمتاعه وإيداعه في مكان أمين إلى غير ذلك.
بعد ذلك يبدأ في طواف القدوم، وإذا كان معتمراً فإنه ينوي طواف العمرة، والقارن أيضاً ينوي طواف العمرة.(5/25)
صفة الطواف وآدابه
وصفة الطواف: أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، وهناك شيء يسهل الطواف وهو أنه يوجد خط بني من الرخام مقابل الجهة التي عندها الحجر الأسود، فيبدأ الشوط منها، فيستقبل الحجر الأسود، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر، فإذا واجهه استلمه بيديه، يقول: باسم الله والله أكبر ثم يقبله، ثم إن شاء سجد عليه، هذه هي الصورة المثلى لاستلام الحجر الأسود، فيستقبله ويستلمه بيديه ثم يقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر، وذلك بحيث يكون جميع الحجر عن يمينه ويكون منكبه الأيمن عند طرف الحجر، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر، ثم يبتدئ طوافه ماراً بجميع بدنه على جميع الحجر جاعلاً يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفاً بالبيت، ثم يمر وراء الحِجْر، ويدور بالبيت فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، فتتم له بهذا طوفة واحدة، ثم يفعل ذلك حتى يتمم سبعة أشواط، وكلما مر بالحجر الأسود يستلمه ويقبله ويسجد عليه إن استطاع، وإن لم يستطع فيستلمه ويقبله، فإن لم يستطع يستلم بيديه ويقبل يديه، فإن لم يستطع فيشير إليه من بعيد ويقول: باسم الله والله أكبر.
أما في الركن اليماني فليس عنده ذكر معين، لكن يستلمه فقط بدون ذكر، وإذا لم يستطع فلا يشير إليه، هذا بالنسبة للركن اليماني الذي من الجهة اليمانية.
ويقول الشنقيطي رحمه الله: أصح أقوال أهل العلم أنه لابد أن يكون جميع بدنه حال طوافه خارجاً عن شاذوران الكعبة؛ لأنه منها، وكذلك لابد أن يكون جميع بدنه حال طوافه خارجاً عن جدار الحجر؛ لأن أصله من البيت، ولكن لم تبنه قريش على قواعد إبراهيم؛ لأجل ذلك لم يشرع استلام الركنين الشاميين، وإذا صليت داخل الحجر فأنت تصلي داخل الكعبة.
وهناك سنن في طواف القدوم أو طواف العمرة الذي تفعله أول ما تقدم إلى مكة: فيسن حينما تقترب من الكعبة وقبل ما تبدأ الطواف الاضطباع، والاضطباع هو كشف الضبع وهو أعلى الذراع أو أعلى الكتف، بأن يرد الرداء على كتفه الأيسر ويكشف الأيمن.
بعض الناس حينما يحرمون من الميقات يضطبعون، وهذه بدعة مخالفة للسنة، فلا يتصورون إحراماً إلا بكشف الكتف، والاضطباع إنما يكون عند طواف القدوم فقط، وفيما عدا ذلك لا اضطباع، فإذا فرغ من الطواف فلابد أن يغطي كتفه؛ لأنه سيصلي.
ويسن أيضاً في الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القدوم الرمل، والرمل: هو عبارة عن تقارب الخطا مع الإسراع في المشي.
وحكمة تشريع الرمل أن الصحابة لما أتوا للعمرة منعوا في الحديبية، وفي العام المقبل أتوا ليعتمروا، فكان المشركون يتهمونهم بالضعف حتى قالوا: أتاكم قوم قد أنهكتهم حمى يثرب، فكانوا يظهرون الشماتة في الصحابة أن حمى المدينة قد أنهكتهم وأمرضتهم، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يظهر الجلد والقوة حتى لا يشمت المشركون، فأمرهم أن يسرعوا في الخطا حتى يظهروا الجلد والقوة، وأنهم في عافية، ثم بقي هذا الحكم مع أن علته قد زالت بتمكين المسلمين من الفتح، فهذا لا ينافي أن هناك علة أخرى لهذا الحكم، وهذه العلة هي أن يتذكر المسلمون نعمة الله عليهم بالقوة بعد الضعف، وبالكثرة بعد القلة.
ويشترط للطواف الطهارة من الحدث والخبث وستر العورة.(5/26)
مجمل ما يفعله الطائف بالبيت
مجمل ما يفعله في طواف القدوم: أن يبادر إلى الحجر الأسود فيستقبله ويكبر، والسنة أن يقول: الله أكبر، وهذا قد ثبت في الحديث المرفوع، أما التسمية فهي ليست في حديث مرفوع، ولكنه موقوف على ابن عمر، فلا بأس أن يقول: باسم الله، والله أكبر، ثم يستلمه بيده فيمسحه ويقبله بفمه، ويسجد عليه أيضاً، فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر وابن عباس، فإن لم يمكنه تقبيله مسحه ثم قبل يده، فإن لم يمكنه الاستلام أشار إليه من بعيد بيده، ويفعل ذلك في كل طوفة ولا يزاحم عليه؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمر إنك رجل قوي فلا تؤذ الضعيف، وإذا أردت استلام الحجر فإن خلا لك فاستلمه وإلا فاستقبله وكبر) وفي استلام الحجر فضل كبير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبعثن الله الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، ويشهد على من استلمه بحق) وهذا حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مس الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطّاً).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من الجنة) أي: ليس على وجه الأرض شيء من الجنة غير الحجر الأسود، (الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضاً من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك).
ثم يبدأ الطواف حول الكعبة يجعلها عن يساره، فيطوف من وراء الحِجْر سبعة أشواط يضطبع فيها كلها، ويرمل في الثلاثة الأول منها، ويمشي في سائرها، ويستلم الركن اليماني بيده في كل طوفة دون أن يقول: باسم الله والله أكبر، وإذا عجز عن استلامه من بعيد لا يشير إليه، ولا يقول شيئاً؛ لكن السنة بين الركنين أن يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فهذا هو الدعاء المأثور مع التسمية في الطواف، وما عدا ذلك فلا يوجد دعاء مأثور.
لكن الركنين الشاميين لا يستلمهما، وبعض العلماء يقول: لو تم بناء الكعبة لاستلمنا الركنين الشاميين أيضاً.
بعد ذلك يجوز له أن يلتزم ما بين الركن والباب، وهي مسافة قدر أربعة أذرع بين الحجر الأسود وبين الباب، ومعنى الالتزام: أن يقترب من الكعبة فيضع صدره ووجهه وذراعيه عليه ويدعو عنده.
وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين يرتقي بهما الحديث إلى مرتبة الحسن، ويزداد قوة بثبوت العمل به عن جمع من الصحابة منهم ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذا الملتزم بين الركن والباب، وقال شيخ الإسلام: وإن أحب أن يأتي الملتزم بين الحجر الأسود والباب فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه، وكفيه، ويدعو ويسأل الله تعالى حاجته؛ فعل ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع وغيره، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك حين يدخلون مكة.
ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسناً، فإذا ولى فلا يقف ولا يلتفت ولا يمشي القهقرى.
ليس للطواف ذكر خاص، فله أن يقرأ من القرآن أو من الذكر ما شاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة ولكن الله أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير) وفي رواية: (فأقلوا فيه الكلام).
قال شيخ الإسلام: وليس فيه ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له.
ومن آداب الطواف: أن يكون في طوافه خاشعاً حاضر القلب، ملازماً للأدب بظاهره وباطنه، في هيئته وحركته ونظره، فإن الطواف صلاة فيتأدب بآدابها، ويستشعر بقلبه عظمة من يطوف ببيته، ويخفض صوته، ويقل الكلام، فإن نطق فلا ينطق إلا بخير، ويصون نظره عما لا يحل النظر إليه.
ولا يجوز أن يطوف بالبيت عريان ولا حائض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يطوف بالبيت عريان) وقال لـ عائشة رضي الله عنها لما حاضت: (افعلي كما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، ولا تصلي حتى تطهري) فلا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت.
فإذا انتهى من الشوط السابع غطى كتفه الأيمن، وانطلق إلى مقام إبراهيم وقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فجعل المقام بينه وبين البيت وصلى عنده ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الثانية بعد الفاتحة سورة الإخلاص، ثم إذا فرغ من الصلاة ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وقال أيضاً: (إنها مباركة، وهي طعام طعم، وشفاء سقم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم).
وبعدما يصلي الركعتين ويشرب زمزم يعود إلى الحجر الأسود فيكبر ويستلمه على التفصيل الذي ذكرناه، وهذه نقطة ينساها كثير من الناس.(5/27)
قصيدة في الحج للصنعاني
نختم الكلام بأبيات طيبة من نظم العلامة الصنعاني رحمه الله ذكر فيها الحج وبركته وتكلم على المناسك، يقول: فشدّوا مطايانا إلى الربع ثانياً فإن الهوى عن ربعهم ما ثنيناه ثم يتكلم حينما رأى البيت والطواف، يقول: ففي ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه فكم لذة كم فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه نطوف كأنا في الجنان نطوفها ولا هم لا غم فذاك نفيناه فياشوقنا نحو الطواف وطيبه فذلك شوق لا يحاط بمعناه فمن لم يذقه لم يذق قط لذة فذقه تذق يا صاح ما قد أذقناه فوالله ما ننسى الحمى فقلوبنا هناك تركناها فيا كيف ننساه ترى رجعة هل عودة لطوافنا وذاك الحمى قبل المنية نغشاه ووالله ما ننسى زمان مسيرنا إليه وكل الركب قد لذ مسراه وقد نسيت أولادنا ونساؤنا وأموالنا فالقلب عنهم شغلناه تراءت لنا أعلام وصل على اللوى فمن أجلها فالقلب عنهم لويناه جعلنا إله العرش نصب عيوننا ومَنْ دونه خلف الظهور نبذناه وسرنا نشق البيد للبلد الذي بجهد وشق للنفوس بلغناه رجالاً وركبانا على كل ضامر ومن كل ذي فج عميق أتيناه نخوض إليه البر والبحر والدجى ولا قاطع إلا وعنه قطعناه ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا فتمسي الفلا تحكي سجلاً قطعناه ولا صدنا عن قصدنا بعد أهلنا ولا هجر جار أو حبيب ألفناه وأموالنا مبذولة ونفوسنا ولم نبق شيئاً منهما ما بذلناه عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله فهان علينا كل شيء بذلناه فمن عرف المطلوب هانت شدائد عليه ويهوى كل ما فيه يلقاه فيا لو ترانا كنت تنظر عصبة حيارى سكارى نحو مكة وُلاه فلله كم ليل قطعناه بالسرى وبر بسير اليعملات بريناه وكم من طريق مفزع في مسيرنا سلكنا وواد بالمخوفات جزناه ولو قيل إن النار دون مزاركم دفعنا إليها والعذول دفعناه فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله ترادفت الأشواق واضطرم الحشا فمن ذا له صبر وفي النار أحشاه وأسرى بنا الحادي فأمعن في السرى وولى الكرى نوم الجفون نفينا ولما بدا ميقات إحرام حجنا نزلنا به والعيس فيه أنخناه ليغتسل الحجاج فيه ويحرموا فمنه نلبي ربنا لا حرمناه ونادى مناد للحجيج ليحرموا فلم يبق إلا من أجاب ولباه وجردت القمصان والكل أحرموا ولا لبس لا طيب جميعاً هجرناه ولا لهو لا صيد ولا نقرب النسا ولا رفث لا فسق كُلاً رفضناه وصرنا كأموات لففنا جسومنا بأكفاننا كل ذليل لمولاه لعل يرى ذل العباد وكسرهم فيرحمهم رب يرجّون رحماه ينادونه: لبيك لبيك ذا العلا وسعديك كل الشرك عنك نفيناه فلو كنت يا هذا تشاهد حالهم لأبكاك ذاك الحال في حال مرآه وجوههم غبر وشعث رءوسهم فلا رأس إلا للإله كشفناه لبسنا دروعاً من خضوع لربنا وما كان من درع المعاصي خلعناه وذاك قليل في كثير ذنوبنا فيا طالما رب العباد عصيناه إلى زمزم زُمَّت ركاب مطينا ونحو الصفا عيس الوفود صففناه نؤم مقاماً للخليل معظماً إليه استبقنا والركاب حثثناه ونحن نلبي في صعود ومهبط كذا حالنا في كل مرقى رقيناه وكم نشزٍ عالٍ علته وفودنا وتعلو به الأصوات حين علوناه نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعاً في الكتاب وعدناه دعانا إليه الله قبل بنائه فقلنا له لبيك داع أجبناه أتيناك لبيناك جئناك ربنا إليك هربنا والأنام تركناه ووجهك نبغي أنت للقلب قبلة إذا ما حججنا أنت للحج رمناه فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا وما زمزم أنت الذي قد قصدناه وأنت منانا أنت غاية سؤلنا وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه إليك شددنا الرحل نخترق الفلا فكم سدَّ سَدٌّ في سواد خرقناه كذلك ما زلنا نحاول سيرنا نهارا وليلاً عيسنا ما أرحناه إلى أن بدت إحدى المعالم من منى وهبّ نسيم بالوصول نشقناه ونادى بنا حادي البشارة والهنا فهذا الحمى هذا ثراه غشيناه رؤية البيت وما زال وفد الله يقصد مكة إلى أن بدا البيت العتيق وركناه فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا وكبرت الحجاج حين رأيناه وقد كادت الأرواح تزهق فرحة لما نحن من عظم السرور وجدناه تصافحنا الأملاك من كان راكبا وتعتنق الماشي إذا ثم تلقاه طواف القدوم فطفنا به سبعاً رملنا ثلاثة وأربعة مشينا كما قد أمرناه كذلك طاف الهاشمي محمد طواف قدوم مثلما طاف طفناه وسالت دموع من غمام جفوننا على ما مضى من إثم ذنب كسبناه ونحن ضيوف الله جئنا لبيته نريد القرى نبغي من الله حسناه فنادى بنا أهلاً ضيوفي تباشروا وقروا عيونا فالحجيج قبلناه غداً تنظروني في جنان خلودكم وذاك قراكم معْ نعيم ذخرناه فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا وأي ثواب مثل ما قد أثبناه وكل مسيء قد أقلنا عثاره ولا وزر إلا عنكم قد وضعناه ولا نصب إلا وعندي جزاؤه وكل الذي أنفقتموه حسبناه سأعطيكم أضعاف أضعاف مثله فطيبوا نفوساً فضلنا قد منحناه فيا مرحباً بالقادمين لبيتنا إليّ حججتم لا لبيت بنيناه علي الجزا مني المثوبة والرضا ثوابكم يوم الجزاء ضمناه فطيبوا سروراً وافرحوا وتباشروا وتيهوا وهيموا بابنا قد فتحناه ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم وما كان من عيب عليكم سترناه فهذا الذي نلنا بيوم قدومنا وأول ضيق للصدور شرحناه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(5/28)
آفات اللسان
إن اللسان نعمة من نعم الله عز وجل العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جَرْمه، عظيم طاعته وجُرْمه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان، ثم إنه ما من موجود أو معدوم، خالق أو مخلوق، متخيل أو موهوم، إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، وبثناء أو قدح إما بحق أو بباطل، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء إلا في اللسان، فيجب على المسلم الحذر من آفات اللسان ومكائده.(6/1)
المؤمن هو الذي ينتفع بالذكرى
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً؛ إذا ذُكر ذكر).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن: (إذا ذُكر ذكر)، إشارة إلى ما بينه الله تبارك وتعالى في قوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9].
ثم بين في آية أخرى من الذين ينتفعون بالذكرى، فقال عز وجل: {وَذَكِّر ْفَإِنّ َالذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فقد يقع المؤمن في الأخطاء، لكنه إذا ذكر بآيات الله عز وجل فإنه يتذكر وينتفع بهذه الذكرى، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
وهناك فرق بين التعليم وبين التذكير؛ فالإنسان يتعلم ما كان جاهلاً إياه من قبل، أما الذكرى فقد يكون عند الإنسان معلومات، لكنه يحتاج إلى التذكير بها، وإلى إيقاظ معانيها في قلبه، فكلنا يعلم أنه يموت، لكن ليس كلنا يعتبر ويتذكر حقيقة الموت، ولا ينفعل بها إلا إذا ذُكر بذلك.(6/2)
الإسلام دين يتعامل مع الواقع البشري الحي
ومن نعمة الله سبحانه وتعالى علينا أن هذا الإسلام ليس ديناً يتعامل مع النظريات المثالية أو الخيالية، وإنما هو دين يتعامل مع الواقع البشري الحي، وإذا كلفنا الإسلام بشيء فهو لابد داخل طوقنا، وفي استطاعتنا؛ إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ومن رحمة الله عز وجل أنه أرسل إلينا من أنفسنا رسولاً من البشر، ولو كان أرسل إلينا ملكاً -بفرض وقوع ذلك- فربما إذا ندب الملك هؤلاء البشر إلى أن يغيروا أخلاقهم ويتمثلوا الحق في سلوكهم ربما قالوا: أنت ملك، وأما نحن فبشر، ولابد من أن نقع في الذنوب والتقصير.
أما وقد جاءنا رسول من أنفسنا وهو بشر مثلنا تمثل فيه وتحقق فيه النموذج الأعلى والأكمل للبشرية على الإطلاق، وليس هذا فحسب، بل جعله الله عز وجل قدوة لنا وأسوة نقتدي بها، فقال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، ثم انفعل صحابته الأبرار رضي الله تعالى عنهم بهذه الأسوة الحسنة وتأثروا بها، وبذلك استحقوا أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، فخير أمة وأفضل أمة وأكمل الأمم على الإطلاق هم الصحابة الأطهار، ثم من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن المسلمين دائماً ننظر إلى السلف الصالح وإلى الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان على أنهم قمة شامخة عالية، وكل ما نرجوه هو أنا نحاول أن نرتقي بقدر الاستطاعة ونرتفع إلى مستواهم؛ فالاقتداء بالسلف وبالصحابة ليس رجوعاً إلى الوراء، وليس رجعية، لكنه تسامٍ وترقٍ وصعود إلى أعلى.
فينبغي محاولة اللحاق بهم في أخلاقهم وفي عباداتهم وفي جهادهم رضي الله تعالى عنهم.(6/3)
أهمية تزكية النفوس
وإذا كان من الوظائف الأساسية للرسول صلى الله عليه وسلم تزكية النفوس، كما قال الله عنه: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] فإنه عليه الصلاة والسلام بين أيضاً أن من مقاصد بعثته الأساسية ما شرحه وفسره بقوله: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)، فهذا من المقاصد الرئيسية لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الإنسان مهما كان فيه من العيوب فبفضل الله سبحانه وتعالى وبمجاهدة النفس وبالاستهداء بنور الوحيين، فإنه يستطيع أن يتغير إلى أكمل صورة؛ وباب الفضائل مفتوح على مصراعيه، وكل من عنده همة وعزيمة على أن يلجه فإنه يستطيع أن يلجه، ولن يكبله أحد، وفي ذلك يقول الشاعر: إذا أعجبتك خصال امرئٍ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس لدى المجد والمكرما ت إذا جئتها حاجب يحجبك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) يعني: أنه مهما كان عند الإنسان صعوبة في أخلاقه أو في طباعه، وهو غير راضٍ عنها، فإنه يستطيع بالاستعانة بالله سبحانه وبالاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فعليه أن يغيرها إلى أحسن الأخلاق؛ وبالتالي ينال أعلى الدرجات؛ فإن العبد ينال بحسن الخلق ما لا يناله بالعبادة والصيام والقيام.(6/4)
استغلال شهر رمضان في التخلص من العادات السيئة
والحقيقة أننا نطرق كثيراً باب الموسم العظيم المبارك موسم شهر رمضان المعظم، والذي فيه كثير من الفضائل والخيرات التي لا يحرم منها إلا محروم، وهو فرصة لتحسين الأخلاق، وشهر رمضان إذا نظرنا إليه من أي زاوية نجد أنه شهر البركات والخيرات العامة والخاصة على جميع الناس، حتى نجد أن الإنسان مهما كان شريراً فبمجرد أن يدخل عليه شهر رمضان نجد أن ذروة الشر تقل عنده، وعند الناس جميعاً، فالحقيقة أنه فرصة عظيمة، فنقول للمدخنين: هذه فرصتكم للإقلاع عن التدخين، وكذا نقول للنهمين الشرهين في الطعام: هذه فرصتكم لمكافحة شهوة الطعام.
وفي مجتمع الملتزمين ما زلنا جميعاً نشكو من آفات خطيرة جداً نحتاج إلى استغلال هذا الشهر من أجل مقاومتها ومجاهدتها.
وما أكثر ما نسمع أسئلة حينما يحل شهر رمضان: هل البخور يؤثر في الصيام؟ وهل الطيب يؤثر في الصيام؟ هل كذا يؤثر في الصيام؟ ونهتم دائماً بما يؤثر في الصيام من هذه الأمور، وقلَّ أن نجد من يصرف همه إلى هذا العضو الخطير في بدنه وهو اللسان الذي هو بلا شك يؤثر في الصيام تأثيراً شديداً جداً بنقصان الأجر، حتى وصل الأمر أن بعض العلماء يفتي -وفتواه شاذة- أن من اغتاب الناس فقد أفطر وبطل صيامه بذلك، ونحن لا نقول بهذا بالضبط، لكن نقول: هي تؤثر في الصيام بلا شك، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
إذاً: هذا حديث يبين لنا أنه ينبغي أن يصاحب الصوم تزكية للنفس وتطهير للسان من آفاته.(6/5)
فضل القول الحسن وحسن الخلق
إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالقول الحسن فقال عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، ففي هذه الآية الأمر بإحسان الكلام، وأن ينطق الإنسان بالخير.
وقال تبارك وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، فانتظمت هذه الآية بعمومها المسلم واليهودي والنصراني وغيرهم.
وعن عطاء في قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] قال: للناس كلهم المشرك وغيره.
فحتى المشرك عليك أن تحسن خلقك وألفاظك معه.
وعن أبي سنان قال: قلت لـ سعيد بن جبير رحمه الله: المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي -أي: هو الذي يبدأني بالخير ويسلم علي- أفأرد عليه؟ فقال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن نحو من ذلك، فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه.
أي: لو قال لي فرعون الذي هو شر البشر في عصر موسى عليه السلام خيراً لرددت عليه خيراً مثله، فإن هذا هو أدب القرآن، كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].
ففرعون الذي كان شر الخلق في زمن موسى عليه السلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى أرسل إليه نبيين كريمين وأمرهما باللين معه فقال عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فإذا كان هذا مع فرعون، فكيف بغيره؟! وبعض الإخوة إذا أحسن خلقه مع الكافر يظن أنه مفرط في دينه، وأن هذا تنازل عن الإيمان وعن مقتضيات الإيمان، وهذا غير صحيح، فأنت لا تواليه بسبب كفره، بل أنت تعاديه وتبغضه، لكنك تعطيه حقه إذا كان قريباً أو جاراً أو إذا تعاملت معه؛ فحسن الخلق مع كل الناس مندوب إليه ومأمور به، وليس في ذلك ما يقدح في الدين.
وكان من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يذم أحداً ولا يعيبه صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن).(6/6)
تأثير سوء الخلق في الصد عن سبيل الله
وبمناسبة هذه الكلمة التي قالها أبو سنان لـ سعيد بن جبير: المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي أفأرد عليه؟ فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن نحو من ذلك، فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه.
يعني: فإذا كان الإحسان في مقابلة إحسان كمن أدى إليك خدمة معينة فلا مانع من أن تشكره بأن تقول له: شكراً لك، حتى لا يكون دعاءً وهو لا يستحق ذلك، لكن اذكر له أي عبارة فيها نوع من المجاملة؛ فهذا الخلق هو الذي يليق بالمسلم.
وأتذكر حادثة حصلت بسبب سوء فهم بعض الإخوة لهذا الأمر؛ لأنه كان يظن أن حسن الخلق مع الكافر تنازل في الدين أو ضعف في الإيمان، وذلك أني كنت في بريطانيا، فحكى لي بعض الإخوة الأفاضل قصة حصلت من شابين ضلا الطريق في منطقة معينة، وكانا يبحثان عن العنوان، والناس هناك فيهم صفة جيدة في موضوع دلالة الناس الذين يبحثون عن الطريق مثلاً، أو يحتاجون معرفة شيء معين.
المهم أنهما سألا رجلاً كبيراً في السن عن العنوان أو المكان الذي يبحثان عنه، فالرجل لم يكتف بأن شرح لهما خريطة المكان أو الموضع الذي يطلبانه، وإنما سار معهما مسافة كبيرة واصطحبهما حتى أوصلهما إلى المكان الذي يريدان، فوقف الرجل فإذا بالأخوين ينصرفان عمداً، فالرجل استنكر هذا الموقف جداً، فأراد أن يعاتبهما عتاباً يسيراً فقال لهما: عندنا نحن معشر الإنكليز أن من أدى إلينا معروفاً فإننا نقول له: نشكرك، وكأنه يريد أن يقول: فماذا عندكم فالأخ قال له: أنا أعرف هذا جيداً، وأنا متعمد ألا أقول لك: شكراً؛ لأنك كافر! إلى آخر هذا الأسلوب، وبلا شك أن هذا تنفير.
وأنا لا أريد أن أخرج عن الموضوع؛ لأننا حتى الآن لا نزال في المقدمة، ولكن بلا شك أن سوء الخلق بالذات يكون له تأثير ضار في الصد عند سبيل الله عز وجل، فلا تظن أنك إذا فعلت ذلك أنك في عافية، قال الله عز وجل في أواخر سورة النحل: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94]، فهذه آية في غاية الروعة في الحث على حسن الخلق حتى مع الكفار، فقوله: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ)، أي: إياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف باسم الله سبحانه وتعالى وتجعلوها وسيلة لخداع الناس، فالناس حينما يرونكم تحلفون وتعظمون اسم الله عز وجل يثقون أنكم صادقون فيما تريدون، وأنكم ملتزمون بما تحلفون عليه، فإياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف وتجعلوها سبيلاً للإفساد بينكم ونقض العهود والمواثيق.
وقوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، أي: أن أول ضرر أنه تزل قدم بعد ثبوتها، فبعدما كنتم ثابتين على الصراط المستقيم تزلون وتنحرفون عنه، وهذا انحراف يخصكم أنتم في أنفسكم، وليس هذا فحسب، بل تفقدون اسم الإيمان والتقوى والاستقامة إلى الاعوجاج والزلل، وأيضاً تذوقون السوء، ولكم عقاب عند الله عز وجل؛ لأنكم بسوء خلقكم ونقضكم العهود واتخاذ الأيمان للإفساد وخداع الناس تنفرون عن الدين، فالكفار إذا رأوكم تفعلون ذلك قالوا: لو كان في دينهم خيراً لأدبهم، ولزجرهم عن هذا الشر الذي فعلوه وعن هذه الخديعة والخيانة، فهذا يترتب عليه تشويه الدين في نظر هؤلاء الناس الذين يفترض أنكم تدعونهم بسلوككم وأخلاقكم أكثر مما تدعونهم بأقوالكم، فيترتب على ذلك أن ينفر هؤلاء الناس عن الإسلام، وبالتالي ستبوءون أنتم بوزر صدهم عن سبيل الله؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94] أي: بسوء الخلق.
وفي واقعة ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه ما يدل على أثر حسن الخلق؛ فإنه كان شديد العداوة للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام خير معلم على وجه الأرض، فأتي بـ ثمامة بعد أن أسر، فأمر به أن يوثق ويقيد في سارية من سواري المسجد، وبقي على ذلك ثلاثة أيام.
إنها حكمة عظيمة من خير معلم وخير مربٍ في تاريخ البشر كلهم أجمعين عليه الصلاة والسلام، هذه الحكمة هي أن ثمامة بن أثال ربط في المسجد حتى يعلم أن المسجد هو مجلس الوزراء وهو مجلس الشعب ومجلس الشورى وغرفة العمليات ومكان العبادة ومكان التدريب على الجهاد، وكل شيء كان يتم في المسجد، فأراد أن يلقنه درساً في كيفية أخلاق المسلمين، وفي كيفية تعامل الصحابة مع بعضهم البعض، وكيف يعبدون الله؟ وكيف يحيي بعضهم بعضاً؟ وهكذا، فإنه إذا رأى هذا فسيكون سبيلاً إلى اقتناعه بالإسلام.
وبالفعل أن هذا هو الذي تم، (فلما سأله أول يوم: كيف تجدك يا ثمامة! قال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وفي اليوم الثاني قال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وفي اليوم الثالث عفا عنه النبي عليه الصلاة والسلام وأطلقه، فذهب ثمامة إلى مكان معين فاغتسل، ثم أتى وشهد شهادة الحق، رضي الله تعالى عنه).
الشاهد من هذا: أنه لولا أنه عاش وانغمس في مجتمع الصحابة ورأى أخلاقهم وسلوكياتهم لما كان انجذب إلى الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام: (وخالق الناس بخلق حسن) أي: كل الناس، وليس فقط المسلمين؛ فحسن خلق المسلم -كما سنتناوله إن شاء الله تعالى- يتعدى حتى يشمل البهائم والحيوانات.(6/7)
أعظم حقوق المسلم صيانة عرضه
ونحن سنركز على آفات اللسان، وبالذات آفات اللسان المتعلقة بالغيبة التي هي آفة شائعة ومتوغلة في المجتمعات، ولا نكاد نستثني أحداً، حتى مجتمعات الملتزمين والملتزمات.
فلا شك أن أعظم حقوق المسلم على الإطلاق هي صيانة عرضه ورعاية حرمته، فإن تحريم النيل من عرض المسلم أصل شرعي متين واجب بالضرورة من دين الإسلام، وحفظ العرض واحد من الضرورات الخمس التي جاءت من أجلها الشرائع.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعظم حشد تم في الإسلام على الإطلاق، وكان يزيد عن مائة ألف نفس من الصحابة الكرام رضي الله عنهم في حجة الوداع فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟).
والأعراض: جمع عرض، والعرض هو كل موضع يقبل المدح أو الذم في الإنسان، فأي شيء من صفات الإنسان يمكن أن يمدح أو يذم سواء كان في نفسه أو في سلفه من آبائه وأجداده أو من يلزمه أمره، أو هيئة مشيته أو طريقة كلامه أو ملابسه أو أي شيء يخص المسلم مما إذا ذكر فيه بسوء يسوءه ذلك، فهذا هو عرضه.
وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويثلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ويده تشمل أشياء كثيرة: تشمل الضرب، وتشمل الكتابة، وتشمل كل شيء يمكن أن يترتب عليه أذية مسلم.
قال سفيان بن حصين: كنت جالساً عند إياس بن معاوية، فمر رجل فنلت منه، فقال لي: اسكت، ثم قال لي: يا سفيان! هل غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: سلم منك الروم وسلم منك الترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فما عدت إلى ذلك بعد.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة)، ومثل هذه الضمانة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تعلق إلا على أمر عظيم جسيم.
ونظر عبد الله بن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك).
أي: أن حرمة المؤمن عند الله سبحانه وتعالى أعظم من حرمة الكعبة المشرفة.
وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:11 - 12] يعني: هل منكم من يطيق ذلك من الناحية الطبيعية؟ وطبع الإنسان هل يقبل أن يكون أخوه المسلم ميتاً وهو يأتي بسكين ويقطع من لحم أخيه ويأكله؟! فأنتم لا تحبون ذلك، وأنتم تكرهونه طبعاً، فكما كرهتموه طبعاً فاكرهوه شرعاً.(6/8)
حد الغيبة وحرمتها
وبين صلى الله عليه وسلم أن حد الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه، وقال صلى الله عليه وسلم: (الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره).
وبعض الناس يلبس الشيطان عليهم؛ لأن الشيطان واقف لهم بالمرصاد، وكل باب من أبواب الخير يريد أن يغلقه عليهم، وكل باب من أبواب الشر يريد أن يفتحه ويوسعه لهم بالتبريرات والتسويغات والمعاذير، فمثلاً تسمع واحداً يتكلم على واحد فتقول له: اتق الله! فهذه غيبة، فيقول لك: أنا مستعد أن أقول هذا الكلام أمامه! فيقال لهذا المسكين: حتى لو كنت مستعداً أن تقوله أمامه فهذه هي الغيبة التي حرمها الله، وإنما الفارق أنك إذا قلته أمامه وقعت في خطأ آخر وهو أذية أخيك المسلم ومواجهته بما يكره، وإذا كان أمام ناس فتكون قد فضحته وأسأت إليه أكثر ولم تستر عليه، وإذا كان في غيبته فهذه هي الغيبة، فإنه لم يستثن الرسول عليه الصلاة والسلام شئياً، ولم يقل مثلاً: الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه إلا إذا كنت تقوى على أن تواجهه بذلك، فحتى لو كنت تزعم أن هذه من الشجاعة وأنك تستطيع أن تواجهه بذلك فهي غيبة، وليس لها اسم آخر غير الغيبة، وهي الذنب المحرم الذي أجمع العلماء على تحريمه، فحد الغيبة: أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه.
والفرق بين الغيبة والبهتان هو كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابي: (أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، أي هذا هو البهتان.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم، ولا يرحل حتى يرحل له) قوله: (لا يأكل) يعني: ليس هو الذي يعد طعامه، فإنه لا يأكل حتى يُعد له الطعام، وقوله: (ولا يرحل حتى يرحل له) أي: وإذا أراد أن يركب الدابة فإن غيره يضع الرحل الذي يوضع على الدابة، ويقوم بخدمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتبتموه)، فالمفروض أنك أيها الإنسان! تكون منتبهاً في أي مجلس تجلسه، وإذا كان سيقع من أحد غيبة فعليك أن تنصحه وتبين له أنها غيبة، وقد يقع بينك وبينه نوع من الوحشة في أول جلسة، لكنه سوف يعرف أنك لست ممن يحب المشاركة في أكل لحوم الناس، فعلى الأقل سيكفيك شره إن لم يتب إلى الأبد؛ لأنه إذا وجد في كل مجلس فيه غيبة من يزجره وينبهه إلى خطورة هذه المعصية فسيراجع نفسه بلا شك، أو يكف عن أعراض الناس، لكن الذي يحصل أنها توافق أهواء الجالسين، وقد يسوغونها في مصلحة الدعوة، وهذه من الأبواب الشيطانية، وبالتالي يحصل تمكن من هذه الآفة في هذا المجتمع، قالوا: (لا يأكل حتى يُطعم، ولا يرحل حتى يرحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتموه، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا بما فيه؟ فقال: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه) أي: حسبك من الشر أن تغتابه بأن تذكر ما فيه، فهل تريد كذلك أن تبهته، وتفتري عليه الكذب أيضاً؟ بل يكفيك حظاً من الإثم أن تذكر أخاك بما فيه، وأن تغتابه.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية كذا وكذا)، قال بعض الرواة: تعني: أنها قصيرة، مع أن عائشة ضرتها، وقد يقع من التحاسد والتنافس بين الضرائر ما يغتفر، لكن مع ذلك ما سكت؛ رعاية لحرمة المسلمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته!) أي: لو أن هذه الكلمة تجسدت وخلطت بماء البحر لعكرت ماء البحر وأفسدته، إنها كلمة واحدة، لكنها غيبة.(6/9)
أحكام الغيبة وأثرها على الفرد والمجتمع(6/10)
التوبة من الغيبة
روى الضياء في الأحاديث المختارة بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت العرب يخدم بعضهم بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا لا يوائم نوم بيتكم)، يعني: وجدوا أن هذا الخادم تأخر في النوم أو أطال النوم حتى استيقظا ولم يكن قد أعد الإفطار أو الطعام، فقالا: إننا الآن في حالة سفر، والإنسان في السفر لا يتمادى في تعاطي راحة البدن؛ لأن حالة السفر تحتاج نوعاً من الأهبة والاستعداد، والإنسان لا يتصرف كأنه في بيته، فمعناه: أن النوم يكون خفيفاً، فقالا: (إن هذا لا يوائم -يعني: يوافق- نوم بيتكم) أي: أنه نائم نوماً واحداً سواء كان قاعداً في البيت أو مسافراً، (فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، وهما يستأدمانك)، يعني: يطلبان منك الإدام، والإدام هو كل ما أكل به الخبز، فلما ذهب الرجل وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قد ائتدما، ففزعا، فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟ فقال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه في أنيابكما -وفي رواية: ثناياكما- قالا: فاستغفر لنا قال: هو فليستغفر لكما) أي: صاحب الحق.
فالإنسان إن كان لابد مصراً أن يعصي الله سبحانه وتعالى فليختر معصية يسهل عليه أن يتوب منها، لكن عند أن تختار معصية تتعلق بحق الغير فمعنى ذلك أنه لن تبرأ ذمتك إلا أن يسامحك هذا الشخص، وإذا لم يسامحك فسترد القيامة وفي عنقك حق العباد؛ لأن المعصية إذا كانت بينك وبين الله فإذا تبت إلى الله فالله يقبل التوبة عن عباده، أما إذا كانت المعصية في حق من حقوق العباد فلابد أن تستحل من صاحبها، وإما أن يستوفي حقه منك، والعملة هناك في الآخرة ليست الدينار ولا الدرهم، إنما هي الحسنات والسيئات، فيأخذ من حسناتك حتى يقضي عليها، فإذا لم يبق معك حسنات يؤخذ من سيئاته فتطرح عليك، فلماذا الإنسان يتعب في العبادة ويتعب في الحفظ والصيام والأعمال الصالحة ثم يجدها في ميزان الآخرين؟! فلذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم: المفلس.
الشاهد أيضاً من هذا الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (قد ائتدما) والخطاب موجه إلى الاثنين، مع أن واحداً منهما هو الذي تكلم، فنسب الوزر إليهما جميعاً.
إذاً: القاعدة: أن مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم والوزر.
يقول الشاعر: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه(6/11)
حكم استماع الغيبة
ومن الأمور المهمة جداً أن مستمع الغيبة والمغتاب كلاهما شريك في الإثم، فإذا تواجدت في مجلس تدور فيه الغيبة كما يدار بالفاكهة على رواد المجلس فلا تظن أنك تبرأ من مثل هذا المنكر، بل لابد أن تزيله أو تزول عنه، أما أن تجلس ساكتاً فمجرد استماعك يجعلك شريكاً في هذه الغيبة.
فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (جاء الأسلمي -يعني: ماعزاً - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: أتيت امرأة حراماً، وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال في الحديث: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رُجم رجم الكلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله)، وجثة الحمار لما تتعفن وتتجيف تزيد الغازات في داخل البطن، والعضلات تشتد جداً وتتيبس، والجثة ملقاة في الأرض، والحمار رافع رجليه من التعفن، كل هذا كناية عن شدة التعفن والنتن في هذه الجيفة، قال: (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: أين فلان وفلان -يعني: هذين الرجلين اللذين تكلما بهذا الكلام- قالوا: نحن ذان يا رسول الله! فقال لهما عليه الصلاة والسلام: كلا من جيفة هذا الحمار! فقالا: يا رسول الله! غفر الله لك، من يأكل من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده! إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها)، فالشاهد من هذا الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة).
فأول شيء نسب الوزر إليهما جميعاً، مع أن الذي تكلم هو واحد؛ كان يحدث الذي بجواره، والذي بجواره سكت، فمعناه أنه صار شريكاً له في الإثم؛ لأن السكوت علامة الرضا.
فلو قلت للمغتاب: اتق الله، فستكون قد برئت من المعصية، لكن حين تسكت أو تستحي فأنت شريك في الوزر، ومثلك مثله ولا فرق، ولذلك قال لهما: (كلا من جيفة هذا الحمار!)، وقال لهما: (ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة)، يعني: أن الأكل من الجيفة أخف؛ لأن الإنسان لو أكل من جيفة الحمار المنتن لم يؤذ مسلم، ولم ينتهك عرض مسلماً، ولم تتعلق بذمته حقوق العباد، فلا شك أن أكل لحوم الحمر المتجيفة والمنتنة خير من أكل لحوم البشر؛ لأن أكل لحوم البشر يترتب عليه هذه الأشياء التي ذكرنا.(6/12)
تنجيس الغيبة والأمر بالتطهر منها
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن أحق ما طهر الرجل لسانه، وأي واحد منا إذا أصابت النجاسة ثيابه فإنه ينظفه ويطهره، فإذا اغتاب الناس فإن هذه النجاسة تكون في لسانه، فأي الأشياء أولى أن تطهر؟ لا شك أن اللسان أولى بالتطهير، ولذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: إن أحق ما طهر الرجل لسانه.
بل إن بعض السلف كان إذا أراد التنفير من هذه المعصية أمر فاعلها بالطهارة الحقيقية، فيأمره بالمضمضة وبالوضوء تشبيهاً لها بالنجاسة الحسية، وإرشاداً إلى التحرز منها، كما يتحرز من النجاسات.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها؟ وهذه العبارة من أم المؤمنين تحتمل أكثر من معنى، فإذا كانت على حقيقتها فربما كانت تقصد الوضوء من أكل ما مسته النار قبل أن ينسخ، كأنها تقول لهم: أنتم تتوضئون من هذه الكلمة قبل أن ينسخ الوضوء ما مسته النار، وتحتمل الوضوء من أكل لحم الإبل، فكأنها تقول لهم: إذا توضأ أحدكم من الطعام الطيب الحلال سواء كان مما مسته النار قبل أن ينسخ أو من أكل لحم الإبل ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها، وهي أولى أنك تمضمض فمك بعدها.
فإذا ما ابتليت بالغيبة فهذا أولى من أن تتمضمض من أكل لحم الإبل أو غيره.
ومثله قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لأن أتوضأ من كلمة خبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من طعام طيب).
وعن إبراهيم قال: الوضوء من الحدث وأذى المسلم، أي: كما تتوضأ من الحدث توضأ من أذى المسلم.
ويحمل هنا الوضوء على غسل الفم وتطهير اللسان.
وعن محمد بن سيرين قال: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول: توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحدث.
يعني: اغسلوا وطهروا ألسنتكم، فإن بعض ما تقولون من الغيبة والنميمة شر من الحدث ومن النجاسة.
وجاء حديث في هذا، لكنه مرسل وإن كان رجاله ثقات، أخرجه ابن سعد، وهو ما رواه معن عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، قالت صفية بنت حيي: والله يا نبي الله! لوددت أن الذي بك بي، فغمزها أزواجه) أي: أن ضرائرها غمز بعضهن لبعض أن انظرن صفية ماذا تقول للرسول عليه الصلاة والسلام: (فأبصرهن، فقال: مضمضن، فقلن: من أي شيء؟ قال: من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة)، هنا الحديث مرسل في الحقيقة، وإذا صح ففيه إشارة أيضاً إلى موضوع المضمضة كما بينا.(6/13)
الإجماع على تحريم الغيبة
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: والإجماع على أنها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله تعالى.
والحقيقة أن حكاية الإجماع في هذا فيه نظر.
لكن هنا تعبير آخر أكثر دقه، وهو أن علماء الشافعية نصوا على أن الغيبة إذا كانت في أهل العلم وحملة القرآن الكريم فهي كبيرة وإلا فصغيرة.
وقال الفقيه ابن حجر الهيتمي رحمه الله: كل منهما -أي: الغيبة والنميمة- حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة، هل هي كبيرة أم صغيرة؟ وقال آخرون: إن كانت في طلبة العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا كانت صغيرة.
وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)، والجزاء من جنس العمل.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً؛ أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه).(6/14)
عذاب القبر بسبب الغيبة
وعن جابر رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، فأيكم يأتيني بجريدة؟ فاستبقنا، فسبقته، فأتيت بجريدة، فكسرها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة وعلى ذا القبر قطعة، وقال: إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول).
وعن قتادة رضي الله عنه قال: ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم) يعني: يعذبون أنفسهم بأيديهم، وفيها أظافر من نحاس، وبها يخمشون الوجوه، (فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم).(6/15)
غيبة المسلم كأكل لحمه ميتاً
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل -يعني: انصرف- فوقع فيه رجل من بعده -أي: بعدما غادر المجلس اغتابه أحد الجالسين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تخلل، فقال: ومم أتخلل وما أكلت لحماً؟) وتخليل الأسنان هو: إخراج الألياف التي تعلق ما بين الثنايا، فقال له النبي عليه السلام: (إنك أكلت لحم أخيك).
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم.
فالغيبة ضيافة الفساق، والفساق هم الذين لا يبالون بحرمة الله سبحانه وتعالى، ولا يبالون أن يأكلوا لحوم الناس.
والمنكر قد شاع في المجتمع جداً وذاع، وقلَّ من ينكره، ونحن لا نكاد نبالي به، ولا نشعر، وقلوبنا لا تحس ناحيته بكراهية إلا من رحم الله، فحن محتاجون إلى تجديد العهد بهذه النصوص، وأن نعطي الأمور حجمها، فالأمر كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، وكما قال تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، فالغيبة ضيافة الفساق الذين لا يتقون الله سبحانه وتعالى، كما قال بعض السلف.
وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله: أنه أضاف ناساً، فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلاً، فقال إبراهيم: إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز.
يعني: بدأتم بلحم هذا المسلم الذي اغتبتموه قبل الخبز.
وعن موسى السيلاني أنه سأل سفيان الثوري رحمه الله تعالى فقال: يا أبا عبد الله! إن الله يبغض بيت اللحميين؟ يعني: يقول له: هل ربنا سبحانه وتعالى يبغض بيت اللحميين؟ يقصد: الناس الذين يأكلون لحماً كثيراً، فنسبهم إلى اللحم، فقال له سفيان: ليس هم الذين يأكلون اللحم، ولكنهم الذين يأكلون لحوم الناس.
فاللحميون هم الذين هم مغرمون بأكل لحوم الناس، لكن أن تأكل لحم البقر والغنم فهذا حلال لم يحرمه الله سبحانه وتعالى عليك مادمت تشكر نعمته، لكن المهم ألا تأكل لحوم الناس.(6/16)
صور الغيبة
أما صور الغيبة فالغيبة لها صور شتى: فقد تكون بالقول، وقد تكون بغير القول، يعني: أنه لا يشترط في الغيبة أن تكون باللسان، بل ممكن أن تكون الغيبة بحركة العين، أو بإخراج اللسان، أو بالتمثيل كأن يحاكي مشيته أو شيئاً من هذا، فالغيبة كما تكون بالقول تكون بغيره.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: ذكر عيب أخيك باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وتعريفه بما يكره، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة، وهو حرام.
وقال النووي: وكذا سائر ما يتوصل به إلى فهم المقصود، كأن يمشي مشيته، فهو غيبة، بل هو أعظم من الغيبة، كما قال الغزالي؛ لأنه أبلغ في التصوير والتفهيم، وأنكر للقلب.
ومن صور الغيبة أن يأتي ذكر واحد في مجلس من المجالس، فيأتي آخر من الجالسين فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان الحمد لله الذي عافانا من فتنة الدنيا، فهذه غيبة، وصاحبها جمع بين أمرين: بين ذم أخيه وبين مدح نفسه، وأنه رجل زاهد ومخلص، وقد يقول: الحمد لله الذي عافانا من الرياء، وهذه غيبة، فمهما قلت: الحمد لله فلا تظن أن قولها يعفيك من الغيبة، بل هي غيبة.
وقد يأتي ذكر رجل فيقول آخر: الحمد الله الذي عافانا من فتنة الدنيا، أو الحمد لله الذي عافانا من كذا وكذا، أو الحمد لله الذي عافانا من عبودية المال، فهو بهذا يزكي نفسه ويذم أخاه.
كذلك بعض الناس يتكلم في مجلس ويكون الحاضرون في المجلس يعرفون أن الذي يتكلم عليه هو فلان ابن فلان بعينه، كأن يقول: قال بعض الفقهاء، أو قال بعض من رأينا، أو فعل بعض من نعرفه من أصحابنا، أو قال بعض الجيران، فإذا كان الجالسون يعرفون من الذي يقصده فهذه أيضاً غيبة؛ لأنهم يعرفون، وبالتالي فإن المتكلم ذكر أخاه بما يكره من خلفه؛ لأن المخاطب يفهمه بعينه؛ لحصول التفهيم بهذه الصيغة.
وربما سئل شخص عن حال أخيه فيقول مثلاً: ربنا يهدينا! والظاهر أن الشيطان يسول له أنه نفسه ما فعل شيئاً خطأً؛ لأنه يقصد بقوله: ربنا يهدينا، وصفه بالضلال مثلاً، أو يسأل عنه فيقول: ربنا يصلحنا ويصلح أحوالنا، الله يصلحه، أو نسأل الله العافية، أو نعوذ بالله من الشر، أو أي عبارة يفهم منها تنقص المسلم؛ فهي غيبة.(6/17)
التحذير من اتخاذ مصلحة الدعوة ذريعة إلى الغيبة
وفي الحقيقة من المفروض أننا نتكلم بالتفصيل على بعض الاستثناءات التي ذكرها العلماء.
وهنا إشارة حمراء فيها الإنذار الشديد؛ لأن بعض الإخوة أحياناً يلقون ببعض المعلومات إلى من لا يحسن فهمها ولا تطبيقها، والرسول عليه الصلاة والسلام سئل: (أفلا أخبر بها الناس؟ -في تبشير من قال: لا إله إلا الله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً يتكلوا) يعني: لا.
حتى لا يسيئوا فهم هذا الكلام؛ لأنهم إذا أساءوا فهمه سيتكلون على هذا الكلام، ويقصرون في العمل؛ فلا تخبرهم؛ لأنهم لن يضعوا الكلام في موضعه المناسب.
ومن ثمَّ قال ابن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، ففي بعض الأشياء المفروض أن الإنسان إذا شك أن ناساً يفهمونها على غير وجهها فيكتم هذا العلم؛ لأنه سيساء فهمه، ويكون باباً إلى الشر.
مثلاً: إذا علم واحد أن السنة أن تؤدى السنن والرواتب في البيت، وحاله أنه إذا أخرها إلى البيت لم يصلها، فهذا إذا كنت تعرف من حاله أنه لن يصليها في البيت فلا تعلمه هذه المسألة، وهكذا، فالإنسان لابد أن يكون عنده بصر وتلمح للأمور، وأكثر الآفات التي دخلت في مجتمعنا في موضوع الغيبة ناشئة من أننا دائماً نقرن الكلام بالغيبة بالكلام على الرخص التي أبيحت فيها الغيبة، فبالتالي نجد المجتمع في نوع من التسيب وعدم الانضباط إلى أقصى غاية ممكنة، ونجد الإخوة يحفظون المبررات والمسوغات كما يحفظون الفاتحة و (قل هو الله أحد)! وتقول لأحدهم: يا أخي! اتق الله فإن هذه غيبة، فيقول لك: العلماء قالوا: يجوز هذا للجرح والتعديل، ويجوز لكذا، ويجوز لكذا، فنقول: إذا كان مستواك العلمي والإيماني ومستوى الورع عندك يؤهلك أنك تضبط نفسك ضبطاً متيناً محكماً حيث تحاسب نفسك بمنتهى الدقة وتتحكم فيها جيداً فلك أن تفعل، أما إن لم يحصل فهي غيبة، وهي سيف في يد ناس لا يحسنون استعمالها؛ فيذبحون به الناس وينتهكون أعراضهم، وهذا هو الواقع، ونحن نعترف بهذا الواقع.
فأحسن شيء أن ننسى تماماً موضوع الاستثناءات التي هي للغيبة؛ لأن هذا أسلم شيء إلا لمن وجد من نفسه ثقة، كما سنحكي عن الإمام البخاري وغيره من الأئمة، لكن اجعل الأصل أن ننسى موضوع الاستثناءات؛ إذ لا توجد سلامة في غير هذا الآن، ولن تكون لك سلامة من هذه الفتنة إلا بإنسان يكف لسانه عن الشر وعن الخوض في إخوانه المسلمين.
فاعتبروا أنه لا توجد أصلاً استثناءات في الغيبة؛ لأن باب الاستثناء هو الذي فتح لنا هذه الأبواب العظمى من الشر التي تهلكنا وتهلك إخواننا.
والإمام النووي رحمه الله تعالى لما نقل عن الغزالي المواضع الستة المعروفة في جواز الغيبة لم يقرهم بعض العلماء على ذلك.
والإمام الشوكاني رحمه الله تعالى ألف كتاباً استدرك فيه على النووي، واستدرك فيه على الإمام الغزالي رحمهم الله تعالى أجمعين، وبيَّن أن الكلام ليس على إطلاقه في هذه الصور، وذلك في كتابة المعروف: (رفع الريبة عما يجوز وما لا يجوز من الغيبة).
ولا نريد أن نفصل الآن، ولكن أنصح إخواني نصيحة لوجه الله أن ينسوا وجود استثناءات في الغيبة، وأن يؤسسوا الأساس وبعدما يصلون إلى مستوى من الورع كمثل ورع البخاري ومثل ورع السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فحينئذٍ لهم أن يعملوا بهذه الاستثناءات.
فإن كنت أيها الأخ! ضابطاً نفسك كحال السلف الذين نتكلم عنهم فلك أن تأخذ هذه الرخصة وتتكلم، لكن أعتقد أن الأمر يحتاج لكثير من الضبط.
فالنصيحة التي أشدد فيها هي: أن تنسوا تماماً أن هناك استثناءات في الغيبة، وتعاملوا على الأصل، وهو أن الغيبة كلها حرام؛ لأننا في زمن لو فتح فيه هذا الباب فالناس ستتوسع فيه توسعاً شديداً جداً.
فهذا الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى يقول: منذ أربعين سنة ما تكلمت بكلمة إلا أعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل.
فمنذ أربعين سنة لم يتكلم بكلمة واحدة إلا وهو واثق وجازم وقد أعد لها جواباً، فلما يسأله الله عز وجل يوم القيامة على هذه الكلمة فعنده الجواب حاضر.
فهل أنت في هذا المستوى حتى تقول: أنا أغتاب من أجل مصلحة الدعوة؟! ومصلحة الدعوة تكاد أن تكون وثناً يعبد من دون الله، وكل من وقع في معصية حتى يخرج من الحرج يقول: لمصلحة الدعوة! فأي دعوة هذه التي تنحرف بك عن مثل هذه الثوابت في المنهج الإسلامي؟! وهل هذه دعوة الله سبحانه وتعالى؟! وهل هذه أخلاق الصحابة؟! وهل هذا هو ما علمنا إياه الرسول عليه الصلاة والسلام؟!(6/18)
حال السلف في الحذر من الغيبة(6/19)
دلالة الغيبة على حقارة المغتاب
وعن عون بن عبد الله قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه.
وهذا الكلام الذي يقوله السلف الآن كأنهم يتفاخرون في العلوم النفسية الحديثة بأنهم هم الذين وضعوا هذه الأسس وهذه الأشياء.
والشخص الذي يرى صورة نفسه صغيرة جداً تجده دائماً يضخم عيوب الآخرين، ولذا تبرز شخصية الإنسان من خلال نصيبه من هذه القضية، فإذا عُرف بأنه مشغول بتضخيم عيوب الآخرين والطعن في الناس، فهذه مرآة تعكس أنه يشعر بضآلة نفسه وبحقارتها وأن حجم نفسه صغير؛ لأنه يعتقد أنه لن ينفتح إلا على أنقاض الآخرين، فدائماً يحاول أن يحطم الآخرين، ولذا يكثر نقد الناس وذكر عيوبهم، وهذه مرآة تعكس أن إحساسه وثقته بنفسه ضعيفة، وأنه في داخل نفسه يحس أنه صغير وحقير، فلذلك يشتغل بعيوب الآخرين.
يقول عون بن عبد الله رحمه الله: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه.
وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس.
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً ألا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين.
وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس فيما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم.
يقول الشاعر: لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك سمع أعرابي رجلاً يقع في الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها.
وأجرأ من رأيت لظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب(6/20)
اشتغال السلف بعيوب أنفسهم عن الآخرين
لا شك أن الإنسان إذا انزجر عن الكلام في عيوب الناس، فإنه في خير، ونحن لا نقول: إن الناس لا يوجد فيها عيوب، لكن يجب عليك أن تنشغل بعيوب نفسك، والإنسان إذا ركز في الاشتغال بعيوب نفسه سوف يكون مشغولاً عن عيوب الناس، ولن ينظر في عيوب الناس بهذه الصورة إذا ركز في عيوب نفسه، فالإنسان دائماً يجب عليه أن يركز وأن ينتقد نفسه، وعليه أن يصلح ويجاهد نفسه؛ ولا ينشغل بعيوب الناس إلا من قد لهى عن عيوب نفسه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) وفي بعض الروايات: (وينسى الجذل) أي: جذل الشجرة، والقذاة هي ما يقع في الماء من تراب أو تبن أو أي شيء من القاذورات التي تأتي على الماء، والجذع هو: واحد جذوع النخل، وقوله: (وينسى الجذع في عينه)؛ أي: لأنه لنقص نفسه وحبه لها يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه؛ فيدركه مع خفائه، فيعمى عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به.
يقول الشاعر: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى لقي زاهد زاهداً فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله، فقال الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله، فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي فيما أعلم من نفسي شغل عن بغضك.
فانظر كيف كان الصحابة والسلف يصدقون قول الرسول عليه السلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وكثيراً من الكلام الذي نخوضه لا يعنينا ولا يخصنا في شيء.
لما توفي منصور بن زاذان رحمه الله تعالى وكان من العابدين المجتهدين حتى قالوا: لو أن منصور بن زاذان هذا قيل له: إن ملك الموت على الباب أو أنك تموت غداً لما استطاع أن يزيد في عمله؛ لأنه قد أتى بأقصى ما يستطيع في كل الأحوال، ولم يملك على أن يزيد شيئاً في عمله الصالح، فلما توفي قالت ابنة واحد من جيرانه من العلماء لأبيها: يا أبت! الخشبة التي كانت على سطح البيت الذي بجوارنا ما نراها! أي: أنها تعودت أن ترى بالليل بالذات دائماً خشبة موجودة على سطح بيت منصور، فقال لها: يا ابنتي إن هذا منصور كان يقوم الليل يصلي ويقرأ القرآن، وقد مات رحمه الله.
أي: أنه كان من بعيد يبدو كالخشبة، فالبنت لما فقدت رؤيته قالت: أين ذهبت الخشبة؟ فقال لها أبوها: هذا منصور كان يقوم الليل وقد مات رحمه الله تعالى.
الشاهد: أنهم كانوا جيراناً، ومع هذا فانظر كيف أن هذا العالم ربى نفسه وربى أهله وربى ابنته على أنه لا يتكلم على الناس، وما انشغلوا بالجيران ولا تكلموا حتى ولو بكلام على أن منصوراً يقوم طول الليل، وما عرفت البنت أنه كان منصوراً؛ لأنها قالت: أين الخشبة التي كانت على السطح.
فالسلف كان كل واحد يركز على نفسه، وينشغل بعيوب نفسه، ولا ينشغل بغيره.
قال الشاعر: المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه وعن بكر قال: تساب رجلان فسب أحدهما الآخر، فقال أحدهما: حلمني عنك ما أعرف من نفسي.
أي: أنا أستطيع أن أرد عليك، لكن الذي يجعلني أحلم وأصبر عليك هو ما أعلم من نفسي من العيوب.
وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس، ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل وعن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر فقال: إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرئونك السلام، ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان، وما قولك فيهما؟ فقال: هل غير، أي: هل عندك حاجة أخرى؟ قال: لا، قال: جهزوا الرجل، يعني: أن الجواب سيأخذه بسرعة، فأحضروا له متاعه من أجل أنه سيعود، فلما فرغ من جهازه قال: اقرأ عليهم السلام، وأخبرهم أن قولي فيهما: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
وقال الشافعي: قيل لـ عمر بن عبد العزيز: ما تقول في أهل صفين، فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها فلا أحب أن أخضب بها لساني.
يقول الشاعر في هذا المعنى: لعمرك إن في ذنبي لشغلاً عن ذنوب بني أمية على ربي حسابهم إليه تناهى علم ذلك لا إلي وليس بضائري ما قد جنوه إذا ما الله أصلح ما لدي فربنا سيحاسبك على ذنوبك أنت، لا على ذنوب بني أمية؛ فلا تنشغل بذم الناس.(6/21)
ورع البخاري رحمه الله عن الغيبة
قال بكر بن منير سمعت أبا عبد الله البخاري رحمه الله تعالى يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً.
يعني: أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصطفي لموقف الإمامة في الدين أي إنسان، وإنما يصطفي أناساً في القمم، ومن الذين اصطفاهم الله الإمام البخاري رحمه الله تعالى، فهناك المؤهلات والمسوغات لهذا الإمام، ولذا قال: إني أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً، وله كلام في علم الرجال كما في كتابه (التاريخ) وفي غيره، ومع ذلك فهو في منتهى الدقة، وواثق من نفسه أنه لم يقع في غيبة على الإطلاق.
وعلق الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى على كلام البخاري قائلاً: صدق رحمه الله؛ ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه؛ فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث سكتوا عنه فيه نظر ونحو هذا، وقل أن يقول: فلان كذاب أو كان يضع الحديث، حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر فهو متهم واهٍ.
وهذا هو معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً.
وهذا والله غاية الورع.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعته -يعني: الإمام البخاري - يقول: لا يكون لي خصم في الآخرة -أي: أنه لم يقع في مسلم بحيث يقف يوم القيامة أمامه خصماً بين يدي الله عز وجل- فقلت: إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب التاريخ، ويقولون: فيه اغتياب الناس، فقال: إنما روينا ذلك رواية لم نقله من عند أنفسنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس مولى العشيرة) يعني: حديث عائشة.
وسمعته يقول: ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها.
فكانوا إذا اختاروا الصراط المستقيم يبقون على استقامة، ولا يوجد عندهم روغان الثعالب ولا التحايل والتلاعب في حدود الله عز وجل.(6/22)
خطر اللسان وما يترتب على حفظه وإطلاقه(6/23)
أهمية تعويد الإنسان لسانه على النطق بالخير
أخرج الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عيسى بن مريم عليه السلام لقي خنزيراً بالطريق فقال له: انفذ بسلام، فقيل: تقول هذا لخنزير؟ فقال عيسى: إني أخاف أن أعود لساني النطق بالسوء.
وعن أبي حيان التيمي عن أبيه قال: رأيت ابنة الربيع بن خثيم أتته فقالت: يا أبتاه! أذهب ألعب؟ فقال: يا بنيتي! اذهبي قولي خيراً.
أي: أنه خشي أن تكتب في صحيفته كلمة (اذهبي فالعبي)، فتحرز من أن يقول لها: العبي، لكن قال: يا بنيتي! اذهبي قولي خيراً.
والحقيقة أن الدوافع على الغيبة غالباً ما تكون الرغبة في شفاء الغيظ، فالإنسان قد يكون حاسداً لشخص أو بينه وبينه خصومة أو أي عامل من هذه العوامل، فيريد أن يشفي غيظه وينفس عن هذه المشاعر عن طريق الغيبة، فالإنسان إذا جاهد نفسه إزاء ما يجد من هذه المشاعر المقيتة فإنه يثاب على ذلك، وهذا من أفضل الجهاد، كما سنبين إن شاء الله تعالى، فإذا كظم غيظه فله بذلك ثواب عظيم؛ لأن معنى ذلك أن عنده تحكماً وضبطاً لنفسه، يقول عليه الصلاة والسلام: (من كظم غيظاً وهو قادر أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور ما شاء).
ومن ثمّ قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: التقي ملجم لا يفعل كل ما يريد، يعني: يكون في فمه مثل لجام الفرس الذي يوضع في الفكين، وهو لجام التقوى على لسانه، فليس كل ما يريده الإنسان يفعله؛ لأن معه لجام التقوى، وهو اللجام الذي يحبسه عن أن يفعل كل ما يريد أو كل ما يقدر عليه.
وعن عبد العزيز بن الماجشون قال: قال: أبو حازم لبعض الأمراء -ويبدو أن هذا الأمير آذاه-: والله لولا تبعة لساني لأشفيت منكم اليوم صدري.
يعني بالكلام فيكم.
وعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله).(6/24)
فضل حفظ اللسان
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما النجاة في الفتن؟ قال: املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار).
وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
وفي حديث معاذ الطويل المعروف أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ -العاصم من هذه الأشياء- فأخذ بلسانه وقال: كف عنك هذا أو كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)، أي: أن اللسان يحصد الشرور والآثام والأوزار بمنتهى السهولة؛ وذلك بكونه يفري في أعراض الناس ويخوض في الباطل.
وعن معاذ رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أوصني، قال: اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك على الناس من هذا كله، قال: هذا، وأشار بيده إلى لسانه).
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً لمن استوصاه: (أجمع اليأس مما في أيدي الناس، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً).
وقال في الحديث الآخر: (إياك وكل ما يعتذر منه).
وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به، قال: قل ربي الله ثم استقم، قلت: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف عليه؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا) يعني: إن أكثر القوادح في الاستقامة هو اعوجاج أو انحراف اللسان.(6/25)
الأحكام الشرعية المتعلقة باللسان
فجارحة اللسان ينبني عليها كثير جداً من الأحكام كالطهارة والصلوات وسائر أركان الإسلام والجهاد والبيوع والنكاح والجنايات والحدود والقضاء.
فاللسان له أبواب متخصصة به: منها القذف والردة والأيمان والنذور والشهادات والإقرار، وكذلك في باب التوحيد؛ فكم من كلمة ردة أوجبت قتلاً! وكم من كلمة أوجبت قذفاً فجلداً! أو أوجبت كفارات، أو نزعت بسببها حقوق من أهلها، أو كان فيها إفراط أوجب بمفرده حكماً، ولذلك قالوا: إقرار المرء على نفسه أقوى البينات، ولذلك تكاثرت نصوص الشريعة الإسلامية في تعظيم شأن اللسان ترغيباً وترهيباً، وأفرد العلماء في كثير من مفرداته المؤلفات في الترغيب وفي الترهيب عن آفات اللسان.(6/26)
أكثر ما يدخل النار اللسان
وعن شكل بن حميد رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! علمني تعوذاً أتعوذ به، قال: فأخذ بكفي فقال: قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيي) والشاهد هنا: قوله عليه الصلاة والسلام: (وأعوذ بك من شر لساني).
وعن شقيق قال: لبى عبد الله رضي الله عنه على الصفا، ثم قال: يا لسان! قل خيراً تغنم، واسكت تسلم من قبل أن تندم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن! هذا شيء أنت تقوله أم سمعته؟ قال: لا، بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثر خطايا ابن آدم في لسانه).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟! قال: أن يسلم الناس من لسانك)، فهذا الترك سماه عملاً؛ لأن في
السؤال
( أي الأعمال أفضل؟)، فقال في الثانية: (أن يسلم الناس من لسانك).(6/27)
لسانك سبع بين فكيك
قال ابن السماك: سبعك بين لحييك -يعني أنه يشبه اللسان بالسبع، وأن هذا السبع الضاري موجود بين الفكين- تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور -أي: قد انتهيت من غيبة الأحياء ثم بعد ذلك تحولت للكلام في الموتى في قبورهم-: فما تركي وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك، ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه فهذا جزاؤه إذ عافاك؟ يعني: هل هذا من شكر نعمة الله أنه عافاك من هذا البلاء؟ ارحم أخاك واحمد الذي عافاك.
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين ففي الحقيقة أن اللسان من الأعضاء الخطيرة الشديدة الخطر، ومن يعرف تشريح اللسان يجد أن بعض الألياف طويلة وبعض الأحيان تكون عرضية أو مائلة، فاللسان فيه كل أنواع العضلات، فيه عضلات بالطول والعرض والمائلة والمستعرضة وغيرها، واللسان هي العضلة الوحيدة التي لا تتعب من كثرة الحركة، فممكن أن الإنسان يتكلم خمس ساعات ولا يشعر بمشقة في كثرة الكلام، وهي خطيرة جداً، فبالتالي يحتاج الإنسان إلى أن يلزم جانب الأمان.
فالأفضل للإنسان أن يعتاد الصمت، كما نصح العلماء: إذا استوت المصلحة والمفسدة في الكلام فلا تتكلم، أما إذا رجحت المصلحة فنعم، وإذا غلبت المفسدة فيكون أولى ألا تتكلم، يقول الله عز وجل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] وقال عز وجل -وهي آية في الحقيقة فيها أعظم زجر عن إطلاق اللسان-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فلا توجد كلمة تخرج منك إلا وتسجل وتكتب.(6/28)
فضل الصمت
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لم تزل سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب لك أو عليك)، فالأصل الذي هو السلامة أن الإنسان لا يتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام على مصلحة السكوت.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت قليل الضحك).
وعن شيخ من قريش قال: قيل لبعض العلماء: إنك تطيل الصمت، فقال: إني رأيت لساني سبعاً عقوراً أخاف أن أخلي عنه فيعقرني: ما إن ندمت على سكوتي مرة ولقد ندمت على الكلام مرارا وعن أرطأة بن المنذر قال: تعلم رجل الصمت أربعين سنة بحصاة يضعها في فيه، يعني: مكث أربعين سنة يجاهد نفسه في تعلم الصمت، فلذلك فإن هذا الكلام ليس موضوعاً نظرياً، بل ينبغي أن يكون انطلاقاً إلى المجاهدة العملية للنفس في التحكم في اللسان.
وقوله: بحصاة يضعها في فيه، يعني كان يأتي بحصى ويضعها تحت لسانه لا ينزعها إلا عند طعام أو شراب أو نوم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: والذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
ولذلك مد الله سبحانه وتعالى اللسان بكثير من الحواجز، وجعل لنا أذنين ولساناً واحداً، حتى نسمع أكثر مما نتكلم، ولهذا تجد الأذنين ليس عليهما غطاء، وتجد العين عليها غطاء من أجل رد البصر، وهكذا اللسان جعل الله له باباً من عظم وباباً من لحم، حتى لا يتساهل الإنسان في الكلام.
وقال الليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أن اكتب إلي بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فافعل.
وعن الحسن قال: ابن آدم! وكل بك ملكان كريمان: ريقك مدادهما، ولسانك قلمهما.
يعني: أنه وكل بك ملكان كريمان يكتبان عليك الأعمال، والمداد الذي يكتبان به هو الريق، والقلم هو اللسان.
وعن شفي بن نافع الأصبحي قال: من كثر كلامه كثرت خطيئته.
وكان المدرسون في موضوعات التعبير سواء العربي أو الإنجليزي يقولون لنا: كلما تتكلم كثيراً كلما كانت احتمالات الغلط أكثر، فتكون عليك، فالإنسان عليه أن يتكلم بما قل ودل، فكلما تكلم أكثر كلما كانت احتمالات الخطأ أكثر.
وقال سفيان الثوري: لأن أرمي رجلاً بسهم أحب إلي من أن أرميه بلساني.
أي: لأن رمي اللسان لا يخطئ، لكن السهم قد يخطئ.
وعن يعلى بن عبيد قال: قال سفيان: لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم الملائكة ترفع الحديث إلى الله سبحانه وتعالى.
وقال أبو علي الدقاق: لو كنتم تشترون الكاغد للحفظة -أي: الورق- لسكتم عن كثير من الكلام.
يعني: لو كان الله سبحانه وتعالى كلفكم بأن تشتروا الورق للكرام الكاتبين ليسجلوا فيها أعمالكم لسكتم عن كثير من الكلام، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تبعث إلى أخواتها بعد صلاة العشاء تقول لهن: ألا ترحن الكتَّاب؟(6/29)
محاسبة السلف لأنفسهم(6/30)
دلالة حفظ اللسان على خيرية صاحبه
عن يونس بن عبيد قال: ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله.
يعني: أن كل أحواله تكون مستقيمة، فيكون محافظاً على الصلاة، ذاكراً لله عز وجل، محافظاً على العبادات، وعلى الطاعات والواجبات، وعلى الاستقامة في كل أحواله.
وعن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى قال: خصلتان إذا رأيتهما في الرجل فاعلم أن ما وراءهما خير منهما: إذا كان حابساً للسانه، يحافظ على صلاته.
يعني: إنسان تجد فيه هاتين العلامتين فاعرف أن ما خفي عليك منه أفضل مما ظهر.
وعن الأوزاعي عن يحيى رحمه الله قال: أثنى رجل على رجل، فقال له بعض السلف: وما علمك به؟ قال: رأيته يتحفظ في منطقه.
يعني: يتحكم في اللسان، فكان هذا هو العمدة في أنه أثنى عليه ثناءً عاماً طيباً.
فمن حافظ على لسانه فهو لما سواه أحفظ، كما قيل في الصلاة.(6/31)
من أساليب السلف في حفظ اللسان
عن أسلم: أن عمر رضي الله تعالى عنه دخل يوماً على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يجبذ لسانه، فقال عمر: مه! غفر الله لك، فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد.
وعن جرير بن حازم قال: ذكر ابن سيرين رجلاً فقال: ذاك الرجل الأسود -يريد أن يعرفه بصفة يمتاز بها- ثم قال: أستغفر الله؛ ما أراني إلا قد اغتبته.
فما دام الإنسان يستطيع أن يميز الشخص بصفة أخرى غير الصفة التي تؤذيه فعليه أن يلجأ إليها، ولا يلجأ إلى الصفة التي فيها نقص أو إساءة أو عيب فيه، إلا إذا لم يجد غيرها وكان لابد من ذكرها.
وعن ثابت البناني رحمه الله تعالى قال: قال شداد بن أوس رضي الله عنه لغلامه: ائتنا بسفرتنا فنعبث ببعض ما فيها، -يعني: نأكل ما فيها- فقال له رجل من أصحابه: ما سمعت منك كلمة منذ صاحبتك أرى أن يكون فيها شيء غيره هذه، قال: صدقت؛ ما تكلمت بكلمة مذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحكمها وأفطنها إلا هذه، وايم الله لا تذهب مني هكذا، فجعل يسبح ويكبر ويحمد الله عز وجل! يعني: مقابل أنه قال هذه الكلمة أراد أن يجبرها ويكفرها بذكر الله عز وجل.
وعن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس في سفر، فنزل منزلاً، فقال لغلامه: ائتنا بالسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أختمها وأحكمها إلا كلمتي هذه، فلا تحفظوها عليَّ.
وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: قال فلان -وسمى رجلاً-: ما رأيت رجلاً من الناس إلا لابد أن يتكلم ببعض ما لا يريد غير عاصم بن عمر.
وعن أبي عبيد قال: ما رأيت رجلاً قط أشد تحفظاً في منطقه من عمر بن عبد العزيز.
وكان الربيع بن خيثم إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً، فكل ما تكلم به كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء.
يعني: أن كل الكلام الذي يتكلم به يسجله، ثم يأتي في المساء فيحاسب نفسه على ما قاله.
وعن إبراهيم التيمي قال: أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة فلم يتكلم بكلام لا يصعد، أي: أن كل كلامه في حق؛ بحيث يصعد إلى الله، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10].
وقال خارجة بن مصعب: صحبت ابن عون ثنتي عشرة سنة، فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(6/32)
أساليب عجيبة في حفظ اللسان
وبعض السلف لهم أساليب عجيبة جداً في محاسبة النفس في هذا الأمر، فبعضهم كان كلما عمل غيبة وضع حجراً في الغرفة، يقول: ولو أني فعلت ذلك لامتلأت الغرفة من الحجارة.
ولا مانع أننا نحاول أن نطبق هذا الكلام كنوع من التأديب العملي حتى نعطي الأمور حجمها الحقيقي، فالأمر خطير جداً؛ فتخيل أنك تحاسب لسانك على كل كلمة قلتها كان ينبغي ألا تقولها، وكلما زللت وضعت طوبة في الغرفة، وبقيت هكذا لمدة أسبوع أو أيام قليلة، فستجد أننا نتساهل في أمر هو في غاية الخطورة.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان)، يعني: تذل وتخضع، ومنه التكفير في الصلاة، والتكفير: هو وضع اليدين على الصدر عند النحر؛ لأنها علامة التذلل، فمن أراد أن يتذلل غاية التذلل فليعمل هكذا، فكل الأعضاء كما يقول الصادق المصدوق في كل صباح تخضع وتتذلل للسان كأنها تتحايل على اللسان: (وتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) ولذلك يستدل على استقامة الرجل باستقامة لسانه، فانظر إلى لسانه؛ فإذا كان يتحكم في لسانه فمعناه أن كل أحواله جيدة، وكل أحواله مستقيمة غالباً.
وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء من الجسد إلا يشكو ذرب اللسان على حدته) يعني: حدة اللسان.(6/33)
الخلوة والاختلاط
من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء صيانة الأعراض ليصلح المجتمع وتنتظم الحياة، ولئلا تنحط الحياة البشرية إلى الحياة البهيمية، فتختلط فيها الأنساب، وتدخل الرذيلة عليها من كل باب، وفي سبيل تحقيق هذا المقصد حرم الله الزنا، وسد كل الطرق المفضية إليه، ووضع بين الرجال والنساء أسلاكاً شائكة من تجنبها سلم وغنم، ومن تعداها عطب وأثم، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون.(7/1)
الاحتياطات التي شرعها الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كلامنا يدور حول قضية فتنة المرأة واحتياطات الإسلام إزاءها؛ إذ أول معالم الفتنة في بني إسرائيل كانت بالنساء، وهناك احتياطات شرعها الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة، وينبغي أن يعلم أن حفظ العرض من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والشريعة تسير في اتجاهين لمنع وقوع الفاحشة، فهناك إجراءات وقائية وهناك إجراءات علاجية.
أما الإجراءات الوقائية فهي تحريم الزنا وبيان أنه خراب للدنيا وللدين، وهناك جملة من الآيات والأحاديث والآثار في الحث على العفة والتحذير من الفاحشة وبيان عاقبتها الوخيمة في الدنيا والآخرة.
وأعظم الإجراءات التي شرعها الإسلام لحماية المسلمين من هذه الفتنة هو الاجتهاد في إصلاح القلب؛ فإن ذلك هو أعظم رادع عن المعاصي.
ومن هذه الإجراءات منع الزواج ممن عرف -أو عرفت بالفاحشة- إذا لم يتب، فلا يجوز نكاح الزانية أو الزاني، كما قال تبارك وتعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً} [النور:3] يعني: فاسقة مثله {أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] لا تعتقد تحريم هذا الفعل أصلاً، أو العكس كما في الآية الكريمة، إذاً هذا يدل على أن الكفاءة في العفة شرط في الزواج، الكفاءة في العفة أن تكون مثله، فلا يزوج العفيف من فاسقة، ولا يزوج الفاسق من امرأة صالحة عفيفة؛ لعدم وجود التكافؤ، قال تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ} [النور:3] يعني: فاسق مثلها مستهتر {أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] يعتقد تحريم ذلك، {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] أما أهل الإيمان فإنه يحرم على المؤمن أن يتزوج زانية، وكذلك بالنسبة للمؤمنة.(7/2)
تحريم البذاءة وفحش القول وسوء الظن بالمسلمين وقذفهم
إن من تلك الإجراءات: تحريم البذاءة والفحش من القول، ومنها تحريم سوء الظن بالمسلم، ووجوب حسن الظن بالمسلمين، خاصة إذا سمع الإنسان أحداً يقذف أحداً في عرضه، فيجب على الذي يستمع وجوباً مؤكداً بالقرآن الكريم أن يقول له: إذا لم تأت بأربعة شهداء فأنت عند الله من الكاذبين، أنت عند الله كاذب.
فلا ينبغي أبداً للمسلم الذي يخشى الله سبحانه وتعالى في أي مجلس وفي أي ظرف أن يتكلم بكلمة واحدة أو حرفاً في المشاركة أو الإقرار في قذف عرض أي مسلم معصوم، إلا إذا كان هناك أربعة شهود وتحققت شروط هذه الشهادة، وإلا فيجب عليك أن تقطع كلامه وأن تواجهه وأن لا تستحي منه، بل تجهر بقول الله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] قل له: أنت كاذب مهما ادعيت صدقك حتى لو كان هذا الشخص من أعدل الناس عندك، متى ما تجرأ على الخوض في أعراض الناس وليس معه الشهود الشرعيون فإنك تقول له: أنت كاذب بنص القرآن (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ).
والعلماء ذكروا أنه لو شهد أربعة رجال على الفاحشة بكل شروطها المطلوبة شرعاً، ثم حينما أتى بهم القاضي أو الحاكم واستشهدهم فشهد ثلاثة شهادة قاطعة ومؤكدة، والرابع تلعثم فإن الأربعة يقام عليهم الحد بالقذف، أي: لو أن ثلاثة شهدوا لا يجوز لهم أن يتكلموا، وإذا تكلموا فإنه يقام عليهم حد القذف، فالأربعة إذا شهدوا وواحد منهم تلعثم وتردد ولم يجزم بالشهادة المطلوبة فالجميع يقام عليهم الحد؛ لأن أمر الأعراض -كما ذكرنا- ليس بالأمر الهين، فينبغي أن تعلم خطورة القذف أو الطعن في عرض المعصوم وكيف تكون آثاره متعدية تتوقف لا على المرأة ولا على الرجل، بل تتعدى إلى العائلة كلها، وإلى كل من يمد لهم بقرابة، فمثل هذا الأذى ومثل هذا العدوان شرع الله سبحانه وتعالى فيه مثل هذه الإجراءات الصارمة لحفظ كرامة المرأة والرجل، ومن هذه الإجراءات تحريم قذف المؤمن أو المؤمنة بالفاحشة، وتشريع العقوبة الزاجرة لمن يفعل ذلك.(7/3)
تحريم إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد
إن الإسلام حرم مجرد حب إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] إلى آخر الآية، فمجرد حب إشاعة الفاحشة هذا من الجرائم ومن العدوان والانتهاك لحدود الله تبارك وتعالى، ومن إشاعة الفاحشة الحكايات الكثيرة أو الحوادث التي تهون على القلوب أن تسمع مثل هذه المعاصي، فتتعود القلوب على سماعها، وهذه أول خطوة في الاقتراب من حدود الله وتعديها فيما بعد، فإذاً حرم الإسلام مجرد حب إشاعة الفاحشة فكيف بمن يشيعها بالفعل؟! مثل هذه الجرائد التي يقوم عليها أناس لا خلاق لهم، والتي يجردونها لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا عن طريق سرد هذه الحكايات ونشرها على الملأ، فهذا يحرم حكايته، ولا يجوز أن تحكي ولا تسمح لأحد أن يحكي لك، حتى لو كانت الإشاعة قد وقعت بالفعل لا تتكلم، ولا تسمعها رعاية لقلبك وحماية لقلبك؛ لأنك إذا عودت قلبك أن يسمعها فينتهي هذا الحاجز بينك وبينها، وبالتالي تكون أقرب إلى الوقوع فيها أو إلى التهوين من شأنها.(7/4)
تحريم غياب الرجل عن زوجته مدة طويلة
ومن تلك الإجراءات أن الشريعة الحنيفية حرمت على الرجل أن يغيب عن زوجته مدة طويلة، فأصوب الأقوال في تقديرها هي مدة الإيلاء {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227].(7/5)
فرض الحجاب على النساء
ومن أعظم التدابير الوقائية في هذا الباب فرض الحجاب على النساء، فالحجاب فريضة على النساء المسلمات، واعتبار قرارهن في البيوت هو الأصل الأصيل في دائرة عملهن، كما قال عليه الصلاة والسلام (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).(7/6)
تحريم التبرج وإظهار الزينة وتشريع الاستئذان
ومن تلك الإجراءات -أيضاً- تحريم التبرج وإظهار الزينة للفت نظر الأجانب، ونرجو -إن شاء الله- فيما بعد أن نفصل الكلام في هذا الموضوع، ومن هذه الإجراءات أيضاً تشريع الاستئذان؛ لأن الاستئذان شرع من أجل البصر، إنما جعل الاستئذان حتى لا تقع عين خائنة على عورة غافلة فيقع ما لا يحمد عقباه.(7/7)
الأمر بغض البصر
ومن تلك الإجراءات الأمر بغض البصر، فقد منح الله سبحانه وتعالى كل مسلم ساتراً وحاجباً طبيعياً يسدله على عينه إذا رأى مالا يحل له، والنظرة الأولى التي ستكون وليدة المفاجأة لا يؤاخذ الله تعالى عليها، وإذا وقعت نظرة فجأة فعلى المسلم أن لا يعقبها بأخرى، بل عليه أن يحول بصره إلى الأرض أو إلى جهة أخرى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يا علي لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) فقوله (لك الأولى) يعني نظرة الفجأة التي تقع بدون قصد، أما إذا كانت عن قصد فتحرم الأولى وتحرم الثانية، وتحرم الآخرة إذا كانت بقصد، أما المعفو عنها فهي التي جاءت فجأة.(7/8)
تحريم مس المرأة الأجنبية ومصافحتها
ومن تلك الإجراءات أيضاً تحريم مس الأجنبية ومصافحتها، فإن الإسلام يطارد الحرام أنى وجد، ويترقب المنكر حيثما كان ليقضي عليه، فلمس المرأة باليد يحرك كوامن النفس ويفتح أبواب الفساد ويسهل مهمة الشيطان، والحواس التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الإنسان خمس، فكل شيء من البدن مخلوق لأجل أداء وظيفة محددة، العين للنظر، والأنف للشم، والبشرة للمس، فهذه الوظيفة لا ينكرها عاقل، فمس المرأة الأجنبية مما يفتح ذريعة الفساد، ولذلك توعد الرسول صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك بعقوبة شديدة، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)، وإذا كان هذا في مجرد المس فقال: (أن يمس) حتى لو كان بغير شهوة فما بالك بما فوق هذا النوع من المس؟! وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)، فالمقصود بالحديث أن من الناس من يكون إتيانه لهذا الأمر المحرم إتياناً حقيقياً بفعل الفاحشة الكبرى، ومنها ما يكون -كما قال الإمام النووي - مجازياً دون ذلك، لكن أطلق عليه هذا اللفظ تنفيراً منه، (فالعينان زناهما النظر) بأن ينظر الإنسان إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، وما أوفر حظ الذين يجلسون أمام الفيديو والتلفاز وهذه الأشياء ينظرون إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، والنظر للأجنبية في حد ذاته بشهوة لا شك أنه داخل في زنا العين.
(والأذنان زناهما الاستماع) الكلام الفاحش والماجن، (واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش) البطش معناه: اللمس (والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) فيكون زناً حقيقياً إذا وقعت الفاحشة.
الشاهد في الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (واليد زناها البطش)، والبطش هو المس باليد، بأن يمس امرأة أجنبية بيده، أما من تساهل في مصافحة النساء واحتج بطهارة قلبه فيقول: أنا قلبي طاهر، ونيتي سليمة فنقول: الإسلام لم يكل الناس إلى نواياهم الحسنة ولا إلى ضمائرهم، وإنما شرع من الإجراءات الصارمة ما يحسم باب الفتنة حتى لا يصير الأمر محتملاً، فلذلك لا تقبل دعوى طهارة القلب وسلامة النية، مع أن الظاهر يخالف ذلك، لا تقبل دعوى من ادعى أن قلبه سليم وقلبه طاهر ويدعي أنه لا يتأثر بذلك، فمن فعل مثل هذا فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وأقوى دليل على كذبه في هذه الدعوى أن أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأخوفهم لله وأرعاهم لحدود الله يقول وهو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أمس أيدي النساء) ويقول (إني لا أصافح النساء)، ويمتنع من ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقتضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء، مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم، كيف وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]؟! وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها) أي: يملك نكاحها.
فلا ينبغي الالتفات بعد ذلك إلى بعض الناس الذين يتساهلون في هذا الباب انصياعاً أمام الضغوط الاجتماعية الواقعة من الناس، لأن بعض الناس يتساهل جداً في هذا الأمر ويحاول أن يتنصل من هذا الحكم الشرعي بحجج واهية ساقطة لا تحتاج إلى أن نبذل جهداً ووقتاً في إسقاطها، وبعض الناس قد يتهاونون بهذا الحكم بزعم أنهم يستحيون من إحراج من تمد يدها للمصافحة، غافلين عن أن هذا ليس حياء؛ لأن الحياء خير كله، والذي يأتي بالشر لا يمكن أن يكون خيراً، فإنه لا يأتي الخير إلا بالخير، فالحياء الذي يحبه الله هو الحياء الشرعي الذي يمنع من الحرام، فالحياء الشرعي في هذا الموضع هو حياؤك من الله، أن تستحي من الله أن تمد يدك إلى امرأة أجنبية فتصافحها، أما إذا دفعك حياؤك من الناس أو من هذه المرأة إلى أن تمد يدك وتصافحها فإنك استحييت من الخلق وضيعت الحياء منه تبارك وتعالى، فهذا يسمى عجزاً وليس حياءً، هذا عجز وتهاون وخذلان وليس حياءً، يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء ويأمر به ويحث عليه، ومع ذلك فلا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكاً بقوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]، فهذا هو نهاية الحياء.
يعني: كان صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فنهاية الحياء أن لا يستحي الإنسان من الحق، فهذا نهاية الحياء وكماله وحسنه واعتداله، فإن من غلب عليه الحياء حتى منعه من الحق فقد ترك الحياء من الخالق واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء واتصف بالنفاق والرياء، والحياء من الله هو الأصل والأساس؛ فإن الله أحق أن يستحيا منه.(7/9)
تحريم الخلوة بالأجنبية
ومن تلك الإجراءات المقصود منها حماية المرأة وحماية الرجل -أيضاً- من الافتتان بها تحريم الخلوة بالأجنبية، وحقيقة الخلوة: أن ينفرد رجل بامرأة أجنبية في غيبة عن أعين الناس.
فالخلوة بالأجنبية بلا شك من أعظم الذرائع، وأقرب الطرق إلى اقتراف الفاحشة الكبرى، وقد صرح القرطبي رحمه الله تعالى بأن الخلوة بغير محرم من الكبائر، خلوة الرجل بالمرأة بغير محرم هي من كبائر الذنوب، وبعض الناس لا يفهم ولا يريد أن يفهم، ويقول: قلبي سليم ونيتي حسنة! كل هذا الكلام الذي ما حدثت جريمة إلا وكانت هذه مقدماتها، فدائماً تكون مقدمة هذه الجرائم مثل هذا الكلام الذي لا ينطلي على الإنسان الذي يفقه عن الله أمره، فيقول: نيتي سليمة، وهذه مثل أختي، وهذه مثل أمي إلى آخر هذا الكلام، فهو يتصور أن المحرم هو فعل الفاحشة، أما الخلوة فليس فيها مشكلة لأن قلبه سليم ونيته سليمة، والله سبحانه وتعالى قال في القرآن الكريم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالله سبحانه وتعالى أعلم بنا من أنفسنا وهو اللطيف الخبير، شريعته ما جاءت للتعنيف ولا للمشقة، وإنما أتت رحمة بنا، وحماية لنا وصيانة لأعراضنا، فالله أعلم بمن خلق، وقوله: (من خلق) تعم الإنسان الرجل والمرأة، وتعم أيضاً الشيطان، فالله أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم (أنه ما اجتمع رجل بامرأة) يعني بغير محرم (إلا كان ثالثهما الشيطان) فهذا خبر الله وهذا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله وصدق رسوله، وكذب المنافقون الذين يجادلون في الحق بعدما تبين، يقول مجاهد: فالخلوة بغير محرم من الكبائر وهو أيضاً من أفعال الجاهلية، كما صرح بذلك العلماء، قال مجاهد في قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] قال: لا تخلو المرأة بالرجال.
وقال عبد الرحمن بن زيد: لا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم.
والحقيقة أن الإنسان العاقل -لا الذي أصاب عقله ضعف وخور -هو الذي يدرك هذه الأشياء، فهي إجراءات في منتهى المنطقية ومعقولة، والإنسان العاقل نفسه يدركها ببساطة وبسلاسة، ونلاحظ -مثلاً- أن تقسيم الناس بالنسبة للمرأة أو بالنسبة للرجل إلى محارم وأجانب تقسيم منطقي جداً، والمقصود -كما قلنا- هو حماية الأعراض، حماية المرأة من فتنة الرجال، وحماية الرجال من فتنهن، وفي نفس الوقت فإن هذا التقسيم يترتب عليه أحكام فطرية، فالخلوة والنظر والسفر إنما تحرم بالنسبة للأجنبية، ولكن تباح الخلوة لمن يباح له أن يستحلها وهو الزوج، أو لمن هو مأمون عليه من المحارم كأخيها وأبيها وابنها، فهؤلاء جميعاً يؤمنون على المرأة، يودع الله سبحانه وتعالى في قلوبهم ما ينفرهم عن التطلع إلى النساء ذوات المحارم، ولذلك يباح للمرأة أن تتزين لزوجها، ويمكن أن تظهر زينتها العادية في ثياب المهنة -مثلاً- أمام أخيها أو أمام أبيها؛ لأنهم محارم ويؤتمنون عليها، لكن منعت من إظهار ذلك أمام الأجنبي لأنه لا يؤتمن عليها، وقد تترقى الأمور خطوة خطوة إلى أن يقع ما حرم الله سبحانه وتعالى، فهذا الكلام يقبله الإنسان العاقل، ولا يعارضه إلا الإنسان الذي في قلبه مرض والعياذ بالله، الذين عندهم مرض وفساد في القلوب وضعف في العقول هم الذين يجادلون في الحق بعدما تبين، فهذا كلام منطقي، وأي إنسان عاقل حتى لو كان غير مسلم يستسيغه إذا كان المفروض حماية المرأة وإذا كان العِرض له قيمة عنده، أما من كان عنده العرض ليس له قيمة فمن الطبيعي أن يحصل عنده ما يحصل في المجتمعات الغربية وفيمن اقتفوا واقتدوا بهم من الفساد وضعف الغيرة والتحلل وانعدام الحياء، وغير ذلك من شيوع الفواحش فيما بين هؤلاء الناس؛ لأن العرض ليس له عندهم أي قيمة على الإطلاق، ولا يعرفون أصلاً كلمة العرض ولا الشرف، بل عندهم البنت إذا وصلت سن الثامنة عشرة ولم تتخذ لها خليلاً تعيش معه كالأزواج تعرض على الطبيب النفساني، والولد إذا لم يفعل نفس الشيء في نفس السن أو قبل ذلك بقليل فإن أصدقاءه يعيرونه ويتهمونه بصفات مضادة للرجولة؛ لأنه لم يتخذ خليلة! فأمثال هؤلاء ينبغي أن نضعهم في الموضع اللائق بهم، فلا نقول: إنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً كما وصفهم الله تبارك وتعالى، لا أن نفتتن بهم وأن نجعلهم القدوة ونرتضيهم قدوة بدلاً من سلفنا الصالح الذين هم خير قدوة رحمهم الله تعالى أجمعين.
خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدرجة الهلاك، فينبغي في هذا الباب أن لا يأمن الإنسان على نفسه ولا من نفسه، بل الإنسان كما قال بعض السلف: من أعطى من نفسه أسباب الفتنة أولاً لم ينج آخراً، وإن كان جاهداً، فالشيطان -كما ذكرنا- لا يأتيك مباشرة ويأمرك بالحرام، لكنه يستدرجك خطوة بعد خطوة ويستنزلك درجة بعد درجة إلى أن يهون عندك ما كنت تستفظع إتيانه أو فعله، ولذلك قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]، وقال تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، وقال عز وجل أيضاً: {وَلا تَقْرَبُوا الزنا} [الإسراء:32]، وإنما قال: (تقربوا) لأنه عبارة عن خطوات، فالزنا حرام وكل ما أدى إليه حرام كما سنشرح ذلك بالتفصيل، فالإنسان عليه أن يتصرف في هذا الباب كأن سبعاً ضارياً كامن في داخله، وإنه إذا أتى شيئاً من هذه المحرمات فإن هذا السبع يخرج ويهلكه ويوقعه فيما حرم الله تبارك وتعالى، ولذلك فإن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدعاة للهلاك ومدرجة للإثم والفجور، وكيف لا يكون كذلك والفرصة سانحة وقد تركت الخلوة لهذه الأمور أن تستيقظ، فأي فعل من الأفعال يمر بمراحل عدة، أولها: مرحلة النزوع أو الرغبة أو الميل إلى الفعل، ثم مرحلة الوجدان أن يجد الشخص ويعزم على الفعل، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التنفيذ، وهذا الباب هو الذي نتكلم فيه باب الافتتان بهذه الشهوة، فهناك طبيعة في هذا الكائن البشري، أن الإنسان إذا اتقدت نار الشهوة واستيقظ فيه الحيوان فإنه يندفع إلى الفعل إن لم تحجزه التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى، فمن ثم رأينا القرآن الكريم ينهى عن الاقتراب من أسباب الزنا فيعالج هذه الجريمة الخلقية بحجز النفس عن أسبابها، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزنا} [الإسراء:32] بينما نلاحظ أن هذا فعلاً هو دين الفطرة، فالله سبحانه وتعالى لم ينهنا في آية أو في حديث عن أكل الطين أو الرمل -مثلاً- أو شرب البول؛ لأن في فطرتنا نفوراً من هذه الأشياء، فلذلك الشرع ما تعرض لهذا واكتفى بوجود النفور، فالخطر من تعاطي مثل هذه الأشياء لم يتعرض له أصلاً بنهي، كذلك لما نهانا عن القتل ما قال: ولا تقربوا القتل.
وإنما قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] مع أن القتل جريمة بشعة والقتل من أعظم الكبائر والجرائم بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، لكن النفس بطبيعتها تأبى القتل وتنكره، فلذلك أتى النهي عن الفعل مباشرة فقال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) أما في هذا الوزر خاصة فإن الله سبحانه وتعالى قال فيه: (ولا تقربوا) فينبغي للأخوة في حوارهم مع الناس أن ينبهوا لهذا الأمر، كحكاية: (إن قلبي سليم) و (نيتي سليمة) و (قلبي طاهر وما يؤذي أحد) كل هذا الكلام لأن الإنسان لا يستحضر أن مجرد الخلوة معصية، حتى لو وجد رجل وامرأة في مكان في خلوة ولم يخطر ببال أي منهما أي شيء فقد ارتكبا الوزر وسجلت ودونت المعصية في حقهما؛ لأن الخلوة في ذاتها حرام، وليست حراماً فقط إذا أدت إلى الفاحشة، لكن الخلوة لذاتها حرام، والحكمة من تحريمها أنها ذريعة للفاحشة وذريعة إلى القيل والقال والطعن في الأعراض، ولذلك قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا) فهذا كله يرينا إلى أي حد يسد الإسلام على هذه الجريمة كل من منفذ، ويحجب النفس عن أسبابها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية وشدد في ذلك، فالإسلام جعل بين الرجال وبين النساء الأجانب أسلاكاً شائكة، وهذه الأسلاك الشائكة كي تحجب الأجانب من الرجال عن النساء وقاية للطرفين من هذه الفتنة، وتأكد أنك إذا تتبعت خطوات ومراحل أي قصة في جريدة حصل فيها انتهاك للعرض أو العدوان عليه أو الوقوع في هذه الفاحشة -والعياذ بالله-، إذا تتبعت القصة من أولها ستجد أن البداية كانت ثغرة في الأسلاك الشائكة، ثغرة بسيطة في الأسلاك الشائكة مر وعبر من خلالها الشيطان وتسبب في وقوع هذا الفحش، فالبداية تكون في أن الله أمره من ضمن الأسلاك الشائكة بغض البصر، فلم يمتثل أمر الله وأطلق بصره، فوقع في العشق -مثلاً- وما يتلوه من ترك الدين والدنيا، أمره الله بأن لا يمس أجنبية فصافح المرأة الأجنبية وتلا ذلك ما تلاه من الحرام، نهاه عن الدخول عن المغيبة التي غاب زوجها، نهاه عن الخلوة بالمرأة وعن السفر معها، أو نهى عن سفر المرأة وحدها، فتجد أن هذه الأسلاك الشائكة حصل فيها ثغرة، ومن خلالها نفذ الشيطان فأوقع العباد في حبائله، فإذاً هذا كله يتطرق مع الحكمة العظيمة في صيانة الأعراض، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)، ومنها حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالهما الشيطان) وهذا يعم جميع الرجال (ألا لا يخلون رجل) يعني: أي رجل (بامرأة) أي امرأة، فالحديث يعم جميع الرجال ولو كانوا صالحين ومن أولياء الله، أو مسنين شيوخاً هرمين فهم فيدخلون في الحديث؛ لأن الحديث قال: (لا يخلون رجل بامرأة) سواء أكانوا رجالاً صالحين أم مسنين، أو كانت النساء صالحات أو عجائز، ومنها حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن الن(7/10)
تحريم سفر المرأة بدون محرم
ومن تلك الإجراءات أن الإسلام حرم سفر المرأة بغير محرم، وبعض النساء حينما نتكلم في هذا تظن أن هذا نوع من التشديد أو التعسير عليهن، ولا يدركن أن هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بهن كما سنبين؛ لأن المرأة مظنة الشهوة والطمع، والمرأة لا تكاد تقي نفسها لضعفها ونقصها، ولا يغار عليها مثل محارمها، لا يغار على المرأة غيرة حقيقية أبداً أحد مثل محرمها كزوجها أو أخيها أو ابنها، الذين يرون أن النيل منها نيل من شرفهم وعرضهم، وسفرها بدون محرم يعرضها إلى الخلوة بالرجال ومحادثتهم، وقد يقع فيها من في قلبه مرض، وربما سهل خداع المرأة، وربما يعتريها مرض، وإذا سلمت من كل هذا فلن تسلم من القيل والقال إذا سافرت بدون محرم يصونها ويرعاها فمن أجل ذلك كله حرم الإسلام عليها أن تسافر بغير محرم يصحبها ويحميها، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) (لا تسافر) فهنا أطلق السفر ولم يقيده بمدة ولا بزمن، وهذا هو الصحيح أن السفر هو كل ما أطلق عليه لفظ السفر فإنه يتناوله هذا الحديث، يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ذلك في ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك.
وفي رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المطلقة: (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم) وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً، وقال الحافظ رحمه الله: قد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات.
أي: الروايات التي فيها تقييد مختلفة ومتفاوتة، فالمخرج من هذا كله أن يقال: السفر مطلقاً.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم.
ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتب في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك)، فأمره أن يترك الجهاد وينطلق كي يصحب امرأته في الحج، وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى (النساء لحم على وضم) والوضم: ما وقيت به به اللحم عن الأرض من خشب أو حصير يعني الشيء مثل السفرة على الأرض تضع عليه اللحم كي تحمي اللحم أن ينتقل عليه التراب مثلاً، سواء قطعة خشبة أو قطعة حصير، فهذا هو الوضم، فمعنى قول الإمام ابن العربي: (النساء لحم على وضم إلا ما ذُبَّ عنه) أن اللحم إذا تركته على وضم فإن الذباب يجتمع عليه ويلوثه ويفسده، إذا تركت اللحم على الوضم دون أن تدفع عنه الذباب أو تغطيه بشيء فإنه سيأوي إليه الذباب ويفسده، فهكذا أيضاً (النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه)، فيقف معها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها يذب عنها هذه الذئاب البشرية وهؤلاء الذباب ويحميها من هؤلاء، كما يقول الشاعر: تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مربض المستأسد الحامي لأن أمثال هؤلاء الذئاب من البشر أو الكلاب من البشر إذا رأوا المرأة معها من يحميها فإنهم لا يجرءون عن أن يقتربوا منها.
تعدو الذئاب على من لا كلاب له.
الكلاب التي تستعمل الحراسة، يعني عدم وجود الحرس.
وتتقي مربض المستأسد الحامي.
أي: الذي يقف كالأسد يحمي عرضه.
يقول ابن العربي: كل أحد يشتهيهن وهن لا مدفع عندهن، بل ربما كان الأمر إلى التخلي والاسترسال أقرب من الاعتصام، فحد الله عليهن بالحجاب وقطع الكلام وحرم السلام، وباعد الأشباح إلا مع من يستبيحها وهو الزوج، أو يمنع منها وهم أولو المحرمية، ولما لم يكن ذلك من تصرفهن جعل الأصل قرارها في البيت، فلما لم يجد مفراً من أن يخرجن لقضاء حاجتهن أذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن، وذلك في مكان المخالفة وهو السفر مقر الخلوة ومعدن الوحدة).
السفر غالباً يكون فيه وحدة ويكون فيه خلوة، فإذا تركت وحدها تتعرض لما لا تطيق، وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كبيرة.
أي: حتى لو كانت امرأة كبيرة؛ فإن السفلة والسقطة من الناس لا يرتدعون حتى عن الكبيرة، كما يقول الشاعر: ولكل ساقطة في الحي لاقطة وكل كاسدة يوماً لها سوق فيقول النووي: قد قالوا: (لكل ساقطة لاقطة) ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطتهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وحيائه.
فتباً لهؤلاء الذين يطلقون لبناتهم ولنسائهم العنان يسافرن دون محرم، ويجعلون من علامات المرأة المتحررة المتنورة أنها تسافر دون محرم! وأنها الآن تجهر وتفخر بأنها تسافر بدون محرم، ويخلون برجال أجانب مدعين أن الظروف تغيرت، وأن المرأة اكتسبت من التعليم ومن الحرية ما يجعلها موضع ثقة أبيها وزوجها، ما هذا إلا فكر خبيث دس إلينا ليفسد حياتنا، وما هي إلا حجج واهية ينطق بها الشيطان على ألسنة هؤلاء الذين انعدمت عندهم غيرة الرجولة والشهامة، فضلاً عن كرامة المسلم ونخوته، يقول فضيلة الدكتور الصباغ حفظه الله تعالى: ومثل الذين يتهاونون في الخلوة والاختلاط الآثم بدعوى أنهم ربوا على الاستجابة بنداء الفضيلة ورعاية الخلق مثل قوم وضعوا كمية من البارود بجانب نار متوقدة، ثم ادعوا أن الانفجار لا يكون؛ لأننا كتبنا ورقة وضعناها فوق البارود تحذيراً من الاشتعال والإحراق!! هل هذه الورقة يكون لها قيمة؟! النار موجودة بجانب البنزين أو البارود، ويقول: إن المانع من الانفجار هو هذه الورقة.
يعني أن هذه حجة واهية مثل هذه الورقة التي لا قيمة لها؛ لأنه متى ما اقترب البنزين من النار فالنتيجة معروفة في الغالب، فهذا خيال بعيد عن الواقع، ومغالطة للنفس وطبيعة الحياة وأحداثها، أنه متى حصل تسيب وتهاون في نظام الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء فالنتيجة معروفة.
ونحن إذا كنا نتكلم من خمسين سنة عندما كانت دعوة تحرير المرأة ونشر هذا الفساد في بلاد المسلمين ما زالت قائمة، وعندما خضنا التجربة كان يمكن أن الكلام فعلاً يحتمل، ولذلك خدع به كثير من الناس، لكن الآن المفروض أن القضية ليست محل خلاف في أن هذا من أفسد المناهج، أي: الاختلاط والإباحية التي إلى الآن نرى ثمرتها، وسنحاول أن نتكلم فيما بعد عن ذلك بالتفصيل إن شاء الله.
فالموضوع أخذ باستدراج، ففي البداية كانت المعركة حول كشف وجه المرأة، وزجوا ببعض الشيوخ في المعركة، وجعل يقول: الشرع يبيح كشف وجه المرأة، وهؤلاء الناس متزمتون أو متشددون، ويحرفون الآيات عن مواضعها.
وينحرفون في تفسير نصوص الشريعة إلى أن ينصروا هذا المذهب المرجوح القائل بإباحة كشف وجه المرأة، ثم إذا فرغوا من ذلك ترقوا إلى خطوة أخرى، إلى الآن وصل الأمر إلى ما نحن عليه الآن، فالآن المفروض أن كل شيء انكشف، وأن كل سوءات منهج تحرير المرأة ومناهج الإباحية الآن صارت تجربة خضناها وصار عندنا رصيد من الحقائق المريرة نعيشها ونحياها، فالكل منا يجد ثمرات مرة لتحرير المرأة ويراها في الطرقات وفي المواصلات وفي المرافق وفي الوظائف وفي الجامعات وفي المدارس وفي الهيئات، في كل مكان في بلادنا نرى الثمرات المريرة لا المرأة نضجت ولا المرأة حصلت خيراً، بل المرأة الآن عادت تحلم من جديد بأن تستقر في بيتها وتعود إلى مملكتها، فكل هذا الكلام مغالطات خطابية، فقط يقال للتغرير بالنفس، والمفروض أنه الآن انتهى دور الكلام الخطابي؛ لأن الواقع يقطع كل من يجادل في هذه الحقائق، فإننا ما ذقنا من هذا كله إلا الانحدار، وإذا لم يحصل وقوف لهذا التيار من الانحلال والفساد فالنهاية ستكون كما حصل في تركيا، حينما ثبتت على هذا الطريق الذي يُعلم جيداً أن من قطع الخطوات الأولى فيه لا بد أن تنتهي به إلى الإباحية المطلقة، وقد سمعت من بعض الناس أن البلاد الأوربية تخشى على فسادها من شبكات البث التركية من الفساد الذي فيها! فبعد ما كانت تبث النور لكل أوروبا ودخل الملايين من أهل أوروبا في الإسلام على يد الأتراك، إذا بهم يكيدون لنا حتى يجعلوها هي البؤرة لنشر الفساد في كل المنطقة، وهذا الشيء الوحيد الذي تفوق فيه الأتراك الآن في هذا الزمان إلا من رحم الله! هذا الفساد الذي يشيعونه في كل مكان حتى جعل بعض البلاد الأوربية تخشى على فسادها من فساد البرامج التركية والبث التلفزيوني التركي والعياذ بالله، فنفس الشيء إذا لم يحصل كبح لهذا الاتجاه ستمضي الأمور على سلمها، كل يوم يحصل تحطيم لشيء جديد من الرصيد الذي تبقى لدينا من القيم، فالأمور تتدهور، وهناك أناس لهم مصلحة في تحصين شباب المسلمين والمسلمات عن طريق الإنحلال، بعدما اجتهدوا في تحصينهم عن طريق الشبهات والطعن في الدين والأفكار البائسة كالعلمانية وغيرها، ثم الآن العمل ماض على قدم وساق لأجل تحصينهم بالانحلال خدمة لأغراض اليهود؛ لأن المطلوب من الأمة أن لا يصلح شبابها في المستقبل القريب لأي نوع من المقاومة حتى يستطيع اليهود أن يركبوهم كالحمير كما يقول اليهود، وهذا السر في أن اليهود دائماً يحاولون تحطيم جميع الأجيال بنشر الفواحش والمذاهب الهدامة حتى لا تقوى هذه الشعوب على المقاومة حينما يقوم من جديد ملك داود في بيت المقدس وتقوم مملكة داود، ويخرج إليهم المسيح الدجال كما ينتظرونه، ويسمونه المسيح المنتظر، فهدفهم كله تحطيم الأمم حتى لا يبقى عندها أي قدرة على المقاومة، ولا يكون عندها مبدأ، ولذلك نجد أن المخدرات تنتشر وهي سلاح أشد فتكاً من الأسلحة النووية على شباب المسلمين؛ لأن الإنسان إذا سقط صريعاً للإدمان انتهى ويشطب عليه، ولا يؤمل في أن يعالج فيما بعد إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فالأمر جد خطير، وهي عبارة عن سلسلة متشابكة من المؤامرات لتحطيم مقومات القوة في أمة المسلمين وفي أمة التوحيد كي لا يبقى عندها أي قدرة على المقاومة إذا حضر السيد اليهودي.(7/11)
تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة
ومن تلك الإجراءات -أيضاً- تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة، فمن المعلوم أن من دواعي فتنة الرجل بالمرأة ونزوعه إليها ما يشم منها من الطيب الذي يفوح شذاه، فيجر إلى الفتنة ويكون رسولاً من نفس شريرة إلى نفوس أخرى شريرة، والإنسان يعجب من هذه المرأة التي تستيقظ في الصباح وتقضي ساعة -مثلاً- أمام المرآة تظهر الأصباغ والمساحيق، وتهتم بمظهرها أمام الرجال الأجانب أكثر مما تهتم بمظهرها أمام زوجها الذي تستطيع أن تتناول ثواب العبادة إذا تزينت له في البيت، فهذه تكون عبادة وتثاب عليها، وهي طاعة لله سبحانه وتعالى؛ لأنها في موضعها المناسب، فمن الظلم أن تضع هذا التزين في غير موضعه، تخرج المرأة بهذه الزينة وتضع هذه الروائح والعطور لأجل أن تلفت إليها الأنظار! قرأت في أحد الكتب التي تتكلم عن التلفزيون ومفاسده، فيحكي أنه أذيع في أحد التلفزيونات أن امرأة تمر تفلة -يعني: ليس عليها طيب ولا روائح- والرجال واقفون يلتفتون إليها، ثم بعد ذلك تهتدي هذه المرأة لفكرة شيطانية، فتضع الطيب وتتضمخ بالطيب ثم تمر وإذا بالرجال جميعاً ينجذبون نحوها ويسيرون ورائها! وهذا الإعلام قد يكون صامتاً أو متكلماً، لكن أنظر إلى المعنى الذي يريدونه وإلى الهدف الحقيقي الذي هو نشر الفتنة بالمرأة عن طريق هذه الأشياء، فأي امرأة عندها بقية من كرامة كيف تقبل أنها تخرج هكذا وتعرض على الرجال بهذه الصورة وهي لا تأمن أن ينظروا إليها نظرة محرمة أو يشتهونها في أنفسهم، هل امرأة عندها كرامة؟! وهل عنده كرامة ذلك الزوج الذي يخرج يتأبط ذراع زوجه في الطريق، وقد كشفت عن محاسنها وتزينت وتلطخت بالبويات والألوان ووضعت الطيب وهو ماشٍ فخور بهذا العري وهذه الفضيحة؟! أولى لك أن تنكس رأسك في الوحل وفي الطين من أن تفتخر بأنك تعرضها للرجال؛ لأن النظر هو نوع من التمتع، والنظر إلى المرأة -خاصة إذا كانت في الزينة- هو نوع من الاستمتاع بها، فكيف يكون رجلاً؟! حتى إذا لم نقل: عنده دين.
ولا: إنه متطرف ولا إرهابي فهو رجل، فكيف يقبل أن يشاركه الرجال فيها ويعرضها للناظرين هكذا بعد أن زينها في البيت، ثم تخرج إلى الرجال ويفخر بذلك؟! كما نرى ذلك في الأفراح ونرى ذلك في الطرقات، وكأننا لسنا من أمة المسلمين، وكأننا لا صلة لنا بهذا الدين ولا بهذا الرسول ولا بهذا القرآن! فالله المستعان.
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية) كل عين تنظر إليها فهي واقعة في هذا الإثم، ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل عين زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا) يعني: زانية.
والعياذ بالله، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً) نهاها أن تمس الطيب إذا راحت إلى المسجد وهو مكان عبادة، فكيف إذا خرجت إلى السوق؟! وكيف إذا خرجت لغير ذلك من المرافق؟! وكيف تمر على مجالس الرجال بهذه الرائحة؟! ليس هذا من المنطق ومن العقل فضلاً عن أنه حكم الشرع، إنما يرفع الحرج عنها تماماً ما دامت أمام زوجها أو أمام محارمها بأن تضع الطيب أو تتزين أو ترفع الحجاب؛ لأن هؤلاء مأمونون، وأي إنسان عاقل يستسيغ هذا، ولا يمكن أن يعترض على هذا إلا من مسخت فطرته وانتكس إلى مرتبة أقل من مرتبة الخنازير والحيوانات والبهائم، هذا كلام منطقي جداً، حتى الذي ليس عنده دين يرى ذلك متوافقاً مع فطرته ومع عقله، فلا ضير على المرأة أن تستعطر في بيتها ولزوجها بشرط أن لا تغشى به مجالس الرجال؛ لأن الطيب من ألطف وسائل المخابرة والمراسلة، والحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس أن لا يحتمل حتى هذا العامل اللطيف الخفي، وقد خرجت امرأة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه متطيبة فوجد ريحها، فعلاها بالدرة ثم قال: (تخرجن متطيبات فيجد الرجل ريحكن! وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تفلات) (تفلات) خاليات من الروائح.(7/12)
تحريم الخضوع بالقول
ومن تلك الإجراءات -أيضاً- تحريم الخضوع بالقول، فقد يكون صوت المرأة رخيماً يحرك النفوس المريضة، فيجرها إلى التفكير في المعصية أو يوقعها ويوقع بها في بلية العشق، يقول بشار: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا فمن هنا نهيت المرأة عن مخاطبة الأجانب بكلام فيه ترخيم كما تخاطب زوجها، وأمرت أن تتحرى فوراً الصوت الجاد العاري عن أسباب الفتنة، ولم يخول لها الإسلام إذا ما راب شيء في الصلاة أن تسبح كالرجال؛ لأن الرجال قد يفتتنون بصوتها، بل عليها أن تصفق، وهي في الحج لا ترفع صوتها بالتلبية، ولا يشرع لها أن تؤذن للصلاة في المسجد، ولا أن تؤم الرجال، وقد سد الإسلام على المرأة كل سبيل للتسيب في هذا الباب حينما جعل أمهات المؤمنين محلاً للقدوة، فلم يبق هناك عذر لمعتذر، فإذا كانت أمهات المؤمنين اللائي هن أشرف نساء العالمين رضي الله تعالى عنهن أجمعين يقول الله تعالى لهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] مع أنهن أمهات المؤمنين في الحرمة وفي الاحترام، ومع ذلك نهاهن أن يخاطبن الرجال بخضوع بالقول فكيف بغير هن؟! وقال صلى الله عليه وسلم: (والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام)، وفي رواية: (والأذن تزني وزناها السمع).(7/13)
تحريم الاختلاط
من أعظم وسائل الإسلام لتجفيف منابع الفتنة بالمرأة -وهو من أشد مظاهر الإسلام غربة الآن في مجتمعات المسلمين عامة- حظر الاختلاط، وحينما نقول: (الاختلاط) فإنما نقصد به اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم له اجتماعاً يؤدي إلى ريبة، أو يكون فيه تسهيل لوسائل الاتصال بينهما والتي قد تؤدي إلى هذه الريبة، أو كما قال بعض العلماء: هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر أو الإشارة أو الكلام أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد.
يعني: لو أن الرجال في الطريق العام والنساء كذلك ولا توجد وسيلة للاتصال أو الريبة فهذا لا يسمى اختلاطاً، إذا خرجت المرأة في الطريق تمشي على الرصيف -مثلاً- أو بعيداً عن الرجال فهذا ليس اختلاطاً، إنما الاختلاط الذي نتكلم عنه هو الذي يسهل حصول الريبة، ويسهل الاتصال بين الرجال الأجانب والنساء، فيقول تبارك وتعالى مخاطباً أمهات المؤمنين: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، فهذا إشارة إلى أرقى وأعلى درجات الحجاب، وهي القرار في البيت، ويقول تعالى أيضاً: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] (وإذا سألتموهن متاعاً) يعني: إذا سألتم -أيها المؤمنون- أمهات المؤمنين زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم متاعاً -فتوىً، أو ماعوناً، أو طعاماً، أو غير ذلك- (فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن)، فإذا كان الحجاب الكامل الذي يغطي جميع البدن أطهر لقلوب الصحابة وأطهر لقلوب أمهات المؤمنين فماذا نقول فيمن يأتي بعدهن؟ ومن الذي هو أشد حاجة إلى هذه الطهارة: نحن أم الصحابة؟ نساؤنا أم أمهات المؤمنين؟ لا شك أن الحكم يثبت في حقنا بطريق الأولى، أو بقياس الأولى، وقال صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها)، وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق: (استأخرن) أمر النساء أن يستأخرن، يقول: (استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق) (تحققن): مأخوذة من: حاق الطريق يعني: وسطه.
يعني أن تتنحى المرأة جانباً إذا مشت في الطريق، (فليس لكن أن تحققن الطريق)، يعني: ليس لكن أن تمشين في وسط الطريق لكن في الجوانب، عليكن بحافة الطريق.
فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به، والآن نحن ما نجد مكاناً حتى على الرصيف، والله المستعان! وقد أفرد صلى الله عليه وسلم في المسجد باباً خاصاً للنساء يدخلن ويخرجن منه لا يخالطهن ولا يشاركهن فيه الرجال، فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو تركنا هذا الباب للنساء) قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات.
وعن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى أن يدخل المسجد من باب النساء)، ومن ذلك تشريعه للرجال إماماً ومؤتمين أن لا يخرجوا فور التسليم من الصلاة إذا كان في الصفوف الأخيرة بالمسجد نساء، إذ كان وضع المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما نعلم: الرجال أولاً، ثم الصبيان، ثم بعد ذلك النساء، وقال (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، وبعض الأخوات لهن اجتهاد غريب في تطبيق هذا الحديث، يذهبن إلى أن تركيب الصفوف بالنسبة للنساء يبدأ من آخر صف، فبعضهن وصلن لمرحلة اجتهاد عليا، ففهمن الحديث هكذا، أن أول صف للمرأة هو الذي يكون قريباً من جدار الخلف، والصف الثاني يكون أمامه وهكذا، أي أنهن يعكسن الحديث، وهذا معناه أن أول الصفوف سيكون آخرها، فبالتالي يكون أولها خيرها بعكس الحديث، وعلى أي الأحوال فما كان هناك ساترٌ أو حاجزٌ بين الرجال وبين النساء في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والحقيقة أن هذا الأمر الآن شاع في المساجد، وهو فيه شيء من الخير الكثير، وهو الفصل الكامل بين الرجال والنساء في المساجد، لكن يشترط فقط اتخاذ إجراء يسهل للنساء اللاتي يحضرن كل يوم متابعة الإمام؛ لأنه بهذا الوضع المحكم الإغلاق إذا حصل أي طارئ أثناء الصلاة فإن النساء يقعن في اضطراب عظيم، فلا يتمكن من معرفة إذا كان الإمام سجد سجدة التلاوة أم لا، سجد سجود السهو أم لا، هنا نقول: نأتي بكاميرات تلفزيونية.
لكن الكهرباء يمكن أن تنقطع، فالحقيقة أن القضية تحتاج إلى أن يوجد هناك وسيلة ولو نوع من الزجاج الذي يحجب الرؤية، وفي نفس الوقت توجد ثغرة ولو بسيطة يستطيع حتى بعض النساء أن يتابعن الإمام من خلالها، أما بهذا الوضع فأعتقد أن هذا فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بد من وجود طريقة لمتابعة النساء لحركات الإمام، وهذا تنبيه عابر وليس الآن مقام التفصيل فيه.
ومن هذا أيضاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام (كان إذا سلم من الصلاة مكث قليلاً)، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال، كان المعصوم عليه السلام إذا فرغ من الصلاة يمكث في مصلاه شيئاً قليلاً، ثم يتحول؛ لأن النساء كن في الخلف، وإذا التفت الرسول عليه السلام ستقع عينه على النساء، فلذلك كان يمكث قليلاً بعد السلام في مكانه قبل أن ينصرف أو يتحول كي تتمكن النساء بسرعة من الخروج من المسجد، فإذا خرجن يلتفت إلى الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك بوب الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في هذا بقوله: (باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة)، ورواه البخاري أيضاً، وفيه: قال ابن شهاب: (فنرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم) يعني: كي لا يحصل اختلاط بين الرجال والنساء.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان يسلم فينصرف النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وروى النسائي: (أن النساء كن إذا سلمن قمن).
إذاً السنة بالنسبة للنساء إذا سلمن ينطلقن بسرعة لئلا يحدث اختلاط، ولو أن الأخوات يلتزمن هذا الأمر الشرعي لما حصلت هذه المناظر المؤذية التي تقع أحياناً، وأنا استغرب من هذا الجيل الجديد في موضوع التهاون في أمر الاختلاط، أين الحزم الذي عهدناه في الإخوة؟ تجد الأمر فيه تساهل غريب جداً، الأخت تروح وتأتي وتقف وسط الشارع بلا حرج، والأمر عادي لا مشكلة فيه، أو الأخ يقف قريباً من مكان النساء، فهذه أوضاع ليست من الإسلام -لا أقول: ليست من السلفية-، إن هذه أوضاع ليست من الإسلام في شيء، فالأخوات عليهن الانصراف بسرعة بعد التسليم من الصلاة، والأخوة يتريثون في الخروج حتى تنصرف النساء، وفي رواية النسائي: (أن النساء كن إذا سلمن قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال) قال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث كراهة مخالطة الرجال بالنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت.
وعن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك.
فقال: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي) مع أن الصلاة في مسجده تضاعف، ولكن مع ذلك كلما كانت المرأة أبعد من الخروج والاحتكاك بالرجال كان أسلم لدينها، فهي إذا كان ولا بد -كما في هذا الزمان نظراً لأن بعض الأخوات يعانين من آبائهن -للأسف الشديد- بسبب التزامهن بالدين وليس هناك مخرج ولا وسيلة للتعلم سوى أن تخرج إلى المسجد فلا أقل من إنها إذا خرجت تراعي حدود الله سبحانه وتعالى، بأن تحتجب حجاباً كاملاً، وتراعي آداب مجلس العلم، فتنصرف مباشرة كي لا تختلط بالرجال خارج المسجد.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن) وقال صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، وهذا كله في حال العبادة والصلاة التي يكون فيها المسلم أو المسلمة أبعد ما يكون عن وسوسة الشيطان وإغوائه، فكيف بما كان خلاف العبادة والصلاة؟! وعن عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (نعم.
ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن، وأمرهن بالصدقة).
قال الحافظ قوله: (ثم أتى النساء) يعني: بعدما خطب الرجال.
فقوله: (أتى النساء) معنى ذلك أنه كان هناك فرق بين الرجال وبين النساء يشعر بأن النساء كن على حدة غير مختلطات بالرجال.
وقوله: (ومعه بلال): فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه؛ لأن بلالاً كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم وكان متولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره، وعن ابن عباس(7/14)
من صور الاختلاط المحذورة في الشرع
نذكر بعض صور الاختلاط المحذورة شرعاً، والتي يتهاون فيها الناس خاصة في هذا الزمان، فمنها ما يدخل في طوقنا فهذا نحن مسئولون عنه أمام الله سبحانه وتعالى، ومنها ما عمت البلوى والفتنة به، فعلى كل مسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى في أن يتجنب مواضع الاختلاط بقدر استطاعته {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].(7/15)
اختلاط الذكور والإناث في المضاجع
أما ما في طوقنا اتفاقاً الاختلاط في البيت، اختلاط الأولاد الذكور والإناث ولو كانوا إخوة بعد سن التمييز في المضاجع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر) وليس معناه أنه لابد من أن تضربه، وإنما إذا احتاج للضرب، بمعنى أنك إذا بقيت معه من سن السابعة وأنت في حث وتوجيه، فما استقام على الصلاة حتى أتى سن عشر ولما يصلي فحينئذ يضرب بشروط محددة، قال: (وفرقوا بينهم بالمضاجع) أي: فرقوا بين الأولاد في المضاجع.(7/16)
اتخاذ الخدم والخادمات
ومن صور الاختلاط المحذور اتخاذ الخدم الرجال واختلاطهم بالنساء، يكون الخادم رجلاً أو سائقاً أو غير ذلك، ويختلط بالنساء، وتحصل الخلوة بينه وبين هؤلاء النسوة، فهذه -بلا شك- من الاختلاط المحرم، أن يتخذ خادماً رجلاً أو سائقاً -مثلاً- يدخل ويخرج وكأنه ممن ملكت أيمانهن، وهذا ليس رقاً، فالخادم حر وليس رقيقاً، فهذه أيضاً من الصور المحرمة، ومنها اتخاذ الخادمات اللاتي يبقين بدون محارم، وقد تحصل بهن الخلوة، والآن ظهرت الموضة الجديدة بعدما ذاقت بعض البلاد القريبة منا الويل من استجلاب الخادمات الفلبينيات ومن شرق آسيا، لقد أصبح ذلك نوعاً من الوجاهة الاجتماعية، فالذي يريد أن يتفاخر يجعل عنده خادمات فلبينيات وسائقاً من شرق آسيا إلى آخر هذا الكلام! أصبحت هذه الظاهرة الآن من مظاهر النفاق الاجتماعي والرياء، بجانب الفساد الذي يحدثه هؤلاء في الأخلاق أو في خلوتهن بالرجال، أو في تربية الأولاد على التربية النصرانية، وبالذات الفلبينيات، والأسرة تفخر جداً بأن الولد سيتكلم بالإنجليزية ويتقن اللغة الإنجليزية بسبب احتكاكه بهذه المربية الكافرة، فلا شك أن هذا أيضاً من الفتن التي ظهرت، وبدأت تنتشر -للأسف- في بلادنا.(7/17)
جلوس الخطيب مع خطيبته
أيضاً السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة، ثم إلى ما لا تحمد عقباه، فيقع العبث بأعراض الناس بحجة التعارف ودراسة أحدهما للآخر، وكأنه عقد قران في التساهل في الخلوة وفي الخروج وغير ذلك، فلا شك هذا من التعدي لحدود الله تبارك وتعالى وفتح ذرائع الفساد.(7/18)
مخالطة المرأة أقارب زوجها الأجانب
من ذلك أيضاً استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب أو أصدقاءه في حال غيابه ومجالستهم، فالمرأة تقوم باستقبال الضيوف الأجانب أو رجل أجنبي صديق لزوجها أو جار له، وتمكث معه في البيت بدون وجود محرم، فهذا من البلايا ومن المصائب التي تجر الفساد.(7/19)
الاختلاط في دور التعليم
ومن ذلك -وهو من أقبح مظاهر الاختلاط للأسف الشديد، وعلى الإنسان أن يجتهد بقدر استطاعته في تقليل التورط في مثل هذا الاختلاط- الاختلاط في دور التعليم كالمدارس والجامعات والمعاهد، خاصة الدروس الخصوصية.(7/20)
الاختلاط في الأماكن العامة
ومن ذلك الاختلاط في الوظائف والأندية، والمواصلات، والأسواق، والمستشفيات، والزيارات بين الجيران في الأعراس والحفلات، والخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد، فلا يركب أبداً إنسان مع امرأة بمفردها في المصعد، فالتيار الكهربائي قد ينقطع، حتى لو لم ينقطع فإن الخلوة في حد ذاتها حرام ولو لم يرد في ذهن أي منهما أي فكرة محرمة، فإذا خلا بها فقد ارتكبا وزراً، وكذلك المكاتب، والعيادات، وغير ذلك من الأماكن التي ينبغي أن لا يخلو فيها الرجل بالمرأة خلوة بحيث يأمنا من دخول الناس عليهما، ولا شك أنه ينبغي أن نراجع أنفسنا، ونجتهد في اتقاء الخلوة والاختلاط والتبرج ما استطعنا، فإن الستر والصيانة هما أعظم عون على العفاف والحصانة، فاحترام القيود التي شرعها الإسلام في علاقة الجنسين هو تمام الأمن من الفتنة والعار والفضيحة والخزي، ويجب على المسلم أن يحفظ ويحرس أولاده وأهله من أجهزة الفساد السمعية أو البصرية التي تغزونا الآن في عقر دارنا، أليس الدور الذي يؤديه التلفزيون والفيديو والدش وهذه الأشياء يعطي أولادنا دروساً خصوصية بلا تكلفة؟! لا يقفون في طابور ولا يذهبون إلى سينما، وإنما هي دروس تأتي من أفسق فساق الأرض من كل أنواع الشياطين في شرق الأرض وغربها، يأتون إلى بيوتنا ويغزوننا، ويعلمون أولادنا هذه الفواحش وهذه المحرمات، فإذاً الفرق أن هذا جهاز جامد وتلك صورة حية، فإذا قالوا: حسبك من شر سماعه، فكيف برؤيته؟ إن على الرجال أن يصونوا بناتهم وأزواجهم من الاختلاط بالأجانب والتبرج أمامهم، يقول الشاعر: إن الرجال الناظرين إلى النساء مثل السباع تطوف باللحمان إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان وقال آخر: تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الحامي فالأعراض إذا لم تصن بهذه الحصون وتلك القلاع، ولم تحصن بالأسوار والسدود والأسلاك الشائكة التي ذكرناها فستسقط -لا محالة- أمام هذه الهجمة الشرسة، ويقع المحذور ولا ينفع حينئذ بكاء ولا ندم، والتبعة كل التبعة واللوم أولاً وأخيراً على ولي البنت الذي ألقى لها الحبل على غاربه، وأرخى لها العنان، فيداه أوكتا وفوه نفخ، يقول الشاعر: نعب الغراب بما كرهت ولا إزالة للقدر تبكي وأنت قتلتها فاصبر وإلا فانتحر ويقول الآخر: أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع فجعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المشينة التي هي صفعة قوية في وجه كل من يجادل بعدما تبين، والإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة -بل صارخة- بخطر الاختلاط على الدين والدنيا، لخصها العلامة أحمد وثيق باشا العثماني كان رجلاً سريع الخاطر حاضر الجواب، وأحياناً الإنسان المغمور الذي بخر الهواء عقله يحتاج لصفعة قوية توقظه، فهذا الذي فعله أحمد وثيق باشا حينما سأله بعض معاشريه من رجال السياسة في أوربا في مجلس بإحدى تلك العواصم الأوربية، قال له رجل من الساسة الغربيين: لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال ويغشينهم؟ فأجابه في الحال -واضطر إلى أن يستعمل هذا التعبير القاسي الشديد كي يخرص هذا الإنسان المتبلد الحس- فقال له: لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن.
وكان هذا الجواب كصب ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر، ولما وقعت فتنة الاختلاط التي سنها أول من سنها طه حسين في الجامعة المصرية وقعت حوادث يندى لها الجبين، وبما أنه هو الذي تآمر لفتح باب الاختلاط في الجامعة سئل عن ذلك، فرد طه حسين على الحوادث التي وقعت فقال: لا بد من ضحايا.
ولكنه لا يبين بماذا تكون التضحية، وفي سبيل ماذا لا بد من ضحايا، فالمعروف أن الإنسان يضحي بشيء رخيص في سبيل شيء أغلى وأثمن، فيضحي بشيء تافه أو قليل، أو يمكن التغاضي عنه في سبيل ما هو أعظم وأثمن، فما هو الشيء الذي هو أسمى وأغلى من أعراض المسلمات بحيث نضحي بأعراضنا في سبيل مصلحة أكبر!! والله المستعان.
وعلى أي الأحوال نستطيع بكل قوة أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها ولا جدل ولا شك، وهي أنك إذا وقفت على جريمة فيها نهش العرض، وذبح العفاف، وإهدار الشرف، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي أنتجت هذه الجريمة وسهلت سبيلها فإنك ستجد حتماً أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة الإسلامية بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة دخل الشيطان، وصدق الله العظيم {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:27 - 28].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(7/21)
الرؤيا واقع وضوابط
الرؤى المنامية أنواع: فمنها مبشرات، ومنها أحاديث نفس قد تصدق وقد لا تصدق، ومنها وساوس شيطانية يلبس بها على الناس.
وللرؤى ضوابط، فما وافق الشرع منها فيستأنس بها، وما خالف الشرع منها فيجب طرحه وعدم الالتفات إليه، فهي ليست تشريعاً.(8/1)
أنواع الرؤيا
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأصدق الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
روى ابن ماجة بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الرؤيا ثلاثة: منها تهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة).
وفي حديث عند الترمذي: (الرؤيا ثلاثة: فبشرى من الله، وحديث نفس، وتخويف من الشيطان).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقرر في هذين الحديثين الشريفين أن الرؤى ثلاثة أنواع: الأول: حديث النفس، وهو الذي يسميه العلماء الماديون بالانعكاسات النفسية، أي: خواطر النفس والتطلعات التي يصبو الإنسان إلى تحقيقها في الحياة، فيراها في المنام، فهذه انعكاسات تشغل الإنسان عما يصبو إليه في يقظته، فهو يحلم بها أثناء النوم حيث لم يستطع أن يحققها في واقع الحياة.
النوع الثاني: الرؤيا التي لم يفكر بها صاحبها يوماً ولم تخطر على باله، وهذه الرؤيا بعيدة كل البعد عن تفكيره، وقد يراها بصورة جلية ولا تحتاج إلى تفسير ولا إلى تأويل، وقد تكون هذه الرؤيا أمثالاً مضروبة أو أحداثاً مشبوكة تحتاج إلى علم وتقدير وفهم ثاقب ونظر بعيد، وما كل من رزق علماً رُزق فهماً بتأويل الأحلام والرؤى.
فالرؤيا الحقة هي من الله سبحانه وتعالى وليست من الشيطان، وهي جزء من أجزاء النبوة، ومثل هذا العلم ليس عبثاً، بل هو علم له أهله المختصون به، ومن راجع سورة يوسف عليه السلام وجد دليل ذلك وبرهانه.
إذاً: هذا النوع من الرؤى هي من الله سبحانه وتعالى، وهي بشرى للمؤمنين، وهي البقية الباقية من حقيقة النبوة، ولذلك كان بعض الناس إذا سُئل عن تفسير بعض الرؤى اعتذر عن التفسير، وإذا أنكر عليه الناس ذلك الاعتذار يقول: تريدونني أن أكذب في الوحي؟! باعتبار أن الرؤيا نوع من أنواع الوحي أو جزء من أجزاء الوحي، صحيح أن الوحي الإلهي قد انقطع، وأن النبوة قد ختمت بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، لكن لم يبق إلا هذه الرؤى وهي المبشرات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يبق إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات قال: الرؤيا الصالحة) رواه البخاري وزاد مالك من طريق عطاء بن يسار: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له) إما يرى الرؤيا بنفسه أو يراها له غيره.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) متفق عليه.
وإذا كانت الرؤيا من الرسول أو من نبي من الأنبياء فهي حق لا يمكن أن يطرأ عليها كذب أبداً، بل هي في الحقيقة وحي إلهي، ورؤيا الأنبياء وحي، وقد بادر خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلى ذبح ولده عندما رأى في المنام أنه يذبحه؛ وما ذاك إلا لأنه يقطع بأن رؤياه وحي من الله سبحانه وتعالى، أما غير الأنبياء فقد تقع الرؤيا التي هي من أقسام الوحي كما ذكرنا.(8/2)
حقيقة الرؤى وضوابطها
للرؤيا الحقة علامات وسمات، وتكون دلائل الصدق عليها بينة، إلا أننا لا نستطيع أن نجزم وأن نقطع بأنها رؤيا حق إلا إذا تحققت على النحو الذي رآه صاحبها في منامه.
الحقيقة بين وقت وآخر نحن نضطر أن نتوقف عند بعض الظواهر المنتشرة الآن في وسط الشباب، كان المفروض أن نشتغل دائماً في البناء، وننهل من العلم النافع والعمل الصالح، لكننا نضطر بين وقت وآخر أن نتوقف وقفات يسيرة مع الأفكار التي تشيع، نظراً إلى الاتساع الأفقي الكبير في قاعدة الدعوة، والذي شكل نوعاً من التضخم على حساب المنهجية، وعلى حساب الاهتمام بالتربية، وتصفية المنهج السلفي؛ حتى عاد الانتساب للسلفية أحياناً مجرد اسم تحته مخلفات مصادمة لهذا المنهج، وليس هذا أمراً حديثاً لكنه وجد من قبل في حادثة الحرم المكي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، أحياناً يوجد عند بعض السلفيين نوع من انحرافات الصوفية، وقد كان من ذلك شيء في هذا الموضوع الذي نطرقه الآن، وهو موضوع الاستغراق في موضوع الرؤى دون ضابط ودون خطام ودون زمام، قد تقابل صديقاً أو قريباً فتراه في غاية الحزن والاكتئاب، فتفتش وتحاول أن تسبر غور نفسه حتى تعرف سر حزنه وكآبته، فتتعجب أشد العجب عندما تعلم أن سبب هذا الاكتئاب الذي يعلوه هي رؤيا مزعجة، أو رؤيا منذرة بخطر سوف يداهمه! وأحياناً تجده فرحاً منشرح الصدر باسم الثغر؛ وما ذلك إلا لأنه رأى رؤيا مفرحة أو مبشرة بحدث سار قادم! والحقيقة أن الرؤى كانت ولا تزال لها تأثير ليس على الأفراد العاديين فحسب، بل على النابغين والأذكياء، كم أقضت الرؤى مضاجع الجبابرة والملوك! وكم شغلت شعباً بأكمله يوماً من الأيام! وما رؤيا ملك مصر في عهد يوسف عليه السلام ببعيدة عن ذاكرتنا، حينما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، وكانت رؤيا حق، وهذه الرؤيا الحق نفعت الناس نفعاً عظيماً عندما وجد الشخص الذي أحسن تفسيرها وتأويلها.
يقول الدكتور عمر الأشقر في كتابه (جولة في رياض العلماء): كثير من الناس اليوم يبادرون بالتكذيب بالرؤى والأحلام، وهؤلاء غالباً الذين يشتغلون بالأمراض النفسية وبالدراسات النفسية المادية التي تستقي من المصادر الغربية، ويزعمون أن أي شيء يراه الإنسان في منامه ما هو إلا انعكاسات لما يجول في فكره في حال اليقظة، وما يختزن في فكره الباطن أو في عقله الباطن كما يزعمون، فإذا استسلم للرقاد، وطاف في أودية الكرى، فإن عقله الباطن يعمل، فيحقق المرء في نومه ما لم يستطع تحقيقه في عالم اليقظة.
نحن لا ننكر أن قسماً كبيراً من الرؤى ليس إلا انعكاسات لأحاديث الناس وخواطرها التي تمر بها في اليقظة، ويمكن أن نتطلع إلى ما يدور في عقل الإنسان الباطن من خلال التعرف على المنامات التي يراها، لكن هذا ليس في كل حال، وإنما في بعض المنامات التي يصدق عليها وصف حديث النفس أو الأحلام الشيطانية، لكنها لا يمكن أن تكون في حق الرؤيا التي هي حق من الله سبحانه وتعالى، فنرفض أن تكون جميع الرؤى انعكاسات نفسية، وهذا تحكم يعلم كذبه كل من تفكر في رؤاه التي مرت به، أو التي سمع الناس يروونها ويحدثون بها عن أنفسهم، كيف نفسر رؤيا امرأة رأت وليدها يسقط من سطح منزل، وفي الصباح يخرج فلا يعود؛ لأن سيارة دهسته وأودت بحياته؟! كيف نفسر رؤيا رجل يرى نفسه وقد سافر إلى بلد وسكن منزلاً عرف في هذا المنام معالمه، فلا تمضي شهور حتى يكون في ذلك المنزل الذي رآه في منامه؟! يوسف عليه السلام أخبر أباه عليه السلام بما رآه {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] فكم من السنوات الطويلة مضت ما بين رؤيا يوسف عليه السلام وبين أن تحققت، وقال قولته عليه السلام {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100].
كيف نفسر رؤيا رجل رأى أنه سافر وتعطلت سيارته على صورة ما، وينسى الرؤيا ولا يذكرها إلا حينما يرى المشهد الذي رآه في المنام حقيقةً ماثلة؟! ليوفل فايس كان صحفياً نمساوياً يهودياً أسلم وحسن إسلامه، وله سيرة عطرة، وقد توفي منذ سنوات قريبة رحمه الله، تحدث في كتابه (الطريق إلى مكة) عن رؤيا رآها في منامه قبل إسلامه، وقام من منامه وسجلها، وقد تحققت فيما بعد على الرغم من طولها، وكثرة أحداثها! إذاً: ليس كل الرؤى انعكاسات لأحاديث النفس وخواطرها وهواجسها، بل الأمر أعمق من ذلك، والإنسان لا يقدر بعقله وفكره أن يصل إلى أعماق نفسه، ففي النفس الإنسانية خبايا يعجز الإنسان عن الإحاطة بها، على الرغم من أنها أقرب الأمور إليه.
أكثر الناس من المؤلفين وغيرهم إذا تدبروا قوله تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يلتفتون إلى الناحية التشريحية في جسم الإنسان، ومن خلالها يطلعون على وظائف الأعضاء أو غير ذلك من آيات خلق الله سبحانه وتعالى، والعبر الموجودة في خلق الإنسان، ووظائف جسمه، وما يطرأ على جسمه، لكنهم يُغفلون آيات الله سبحانه وتعالى في تركيب هذه النفس التي هي قسيم ذلك البدن، والتي بدونه يكون ميتاً لا حراك به.
عالم النفس عالم مستقل تماماً، وهو من الأمور المجهولة الغامضة التي حيرت الألباب، والحافلة أيضاً بآيات الله سبحانه وتعالى الناطقة بربوبيته وأُلوهيته عز وجل، والرؤى لها علاقة بالنفوس الإنسانية، والرؤى فيها جانب غيبي لا يخضع للعلم المادي المبني على النظر والتأمل والبحث المادي، وقد أغنانا النبي صلى الله عليه وسلم عن إتعاب النفس في هذا الموضوع، وقال لنا كلمة الفصل التي لا نحتاج معها إلى غيرها، وذلك أنها تمثل الحقيقة، وتفسر الأمر تفسيراً يدرك الإنسان صدقه عندما ينظر إلى رؤاه ورؤى الناس، وهو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (الرؤيا ثلاثة: منها: تهاويل من الشيطان -ليحزن الشيطان ابن آدم-ومنها: ما يهم بها الرجل في يقظته فيراه في منامه -حديث النفس-، ومنها: جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) وفي الحديث الآخر: (الرؤيا ثلاثة: فبشرى من الله، وحديث نفس، وتخويف من الشيطان).(8/3)
فتن عظيمة بسبب عدم الانضباط في التعامل مع الرؤى
من أسباب افتتان كثير من الناس، وحدوث كثير من الفتن عدم الانضباط في موضوع التعامل مع الرؤى، نجد كثيراً من الإخوة تسير الرؤى حياته بصورة مذهلة، كل حياته تفسر عن طريق الرؤى، وتوجهاته وخططه في المستقبل واختياراته تربط بالرؤى بطريقة فيها مبالغة وفيها غلو شديد.
ومن جملة الفتن العظيمة التي حصلت في هذه السنوات الأخيرة التي غُصت بالفتن فتنة الحرم المكي حينما قام رجل يُدعى محمد بن عبد الله القحطاني، وحوله من حرضوه بل وأجبروه على أن يقول: إنه هو المهدي، واعتمدوا على ذلك بصفة أساسية على ما زعموه من تواتر الرؤى المنامية، والشيطان اجتهد اجتهاداً شديداً في تغذية هذا الأمر عنده؛ لأن هذا الأمر فيه نوع من الجاذبية، والإنسان ينشغل به وهو حديث نفس أو من الشيطان، وأراد الشيطان أن يوقع فتنة إراقة الدماء، وقد حصلت -للأسف الشديد- داخل الحرم المكي في سنة (1400) للهجرة، كان الواحد من الناس يأتي ويقول: رأيت واحداً لابساً ثوباً لونه كذا، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول لي: هذا هو المهدي إلى آخر هذا الكلام، ويقولون: إن رجلاً جاء من أطراف الأرض، وآخر من مكان كذا، وأول ما رآه قال: هذا هو الذي رأيته!! فُتح هذا الباب، وخدعوا به، ولم ينضبطوا في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الرؤية في المنام وبين الواقع الذي نعيشه، لا بد من ضوابط تضبط مسالكنا مع الرؤية.
يقول: الدكتور عمر الأشقر حفظه الله: لقد كان من أسباب افتتان بعض الناس ومتابعتهم لأولئك الذين احتلوا الحرم المكي واعتصموا به؛ تلك الرؤى التي رآها بعض الكبار والصغار والنساء والرجال، وهي في جملتها تشير إلى أن المدعو محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول الدكتور الأشقر: وقد تبين للناس اليوم أن تلك الرؤى لم تكن صادقة؛ لأن ذلك الرجل ليس هو المهدي، وإلا لو كان هو لم يقتل، ولبقي حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.(8/4)
علامات المهدي المنتظر
المهدي اسمه محمد بن عبد الله، هل هذه العلامة وحدها تكفي؟ لا تكفي، وإلا فكم من مدع ادعى أنه المهدي، وهو بالفعل اسمه محمد واسم أبيه عبد الله، وقد يأتي واحد اسمه أحمد بن إبراهيم ويدعي أنه المهدي، ويقول لهم: أحمد هو محمد وإبراهيم هو أبو النبي عليه الصلاة والسلام كما أن عبد الله أبوه، وهذا من باب التأويل.
ولو كان الذي ادعى أنه المهدي من أهل البيت فإنه لا يكفي أيضاً: وأرجو أن تحفظوا هذا الكلام الذي سأقوله في ذاكرتكم، فقد تحتاجونه في يوم من الأيام: كن في غاية الاطمئنان، ولا تجزع ولا تقلق على المهدي، فهو إذا خرج وكان بالفعل هو المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فإن انتصاره أمر كوني قدري كائن كما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تقطع بأن فلاناً هو المهدي حتى تتحقق كل الصفات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهرها وأعظمها أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فبعدما يمكن له، وبعدما يملأ الأرض قسطاً وعدلاً اطمئن، وحينئذ نقول: هذا هو المهدي، بجانب الصفات الأخرى، أما قبل ذلك فاسكت، ولا تظن أنك قد خذلت المهدي، اطمئن على نفسك، ولا تخف عليه؛ فإن المهدي غير محتاج إليك.
بعض الناس يستعجل ويقول: لماذا لا أكون من أوائل من ينصرون المهدي؟! وهذا هو الذي حصل في كل فتنة بنيةٍ صالحة وبعزم أكيد على التضحية في سبيل الدين، نجد أناساً يتسارعون إلى من يظنونه المهدي عن طريق الرؤى والمنامات ووجود بعض العلامات لا كل العلامات.
قرأت في كتاب (حيلة الأولياء) هذه العبارة الرائعة عن حفص بن عياث قال: قلت لـ سفيان الثوري رحمه الله: يا أبا عبد الله! إن الناس قد أكثروا في المهدي فما تقول فيه؟ فقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إن مر على بابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه.
وهذه النصيحة الذهبية أرجو ألا تنسوها أبداً، إن مر على بابك لا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه حتى يجتمع عليه العلماء والصالحون وعموم المسلمين، حينئذ تقول: هذا المهدي، قبل ذلك لا تجزع على نفسك، فهذا هو مفتاح السلامة والنجاة بالنسبة لهذه الفتنة بالذات، وإذا راجعت موضوع ادعاء خروج المهدي لوجدت عدم الاكتراث بهذه القاعدة التي أرساها سفيان الثوري كان السبب الرئيس في استفحال الفتن وإراقة الدماء، وما حصل من الفساد العظيم في الأرض.
والقاعدة الرصينة: أن الشيطان يضل الإنسان على قدر بعده عن العلم، لكن كلما زادت بصيرته وزاد علمه كلما احتمى بهذا العلم من تلك الفتن، ولو كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعرّفنا بالرؤيا الباطلة إذا اشتبهت الأمور.(8/5)
كيفية تأويل وتفسير الرؤى
كثير من الناس يظنون ما يرونه رؤيا حق، الصديق الأكبر رضي الله عنه -الذي هو الرجل الثاني في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل أولياء الله على الإطلاق- لما فسر رؤيا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) فكيف بمن دون الصديق رضي الله تعالى عنه؟! ونحن لسنا بمعصومين، فإن الرؤى تبقى في مجال الظن، ولا ترقى إلى اليقين والجزم، ما لم تتمثل في واقع مشهود، عند ذلك يوافق الواقع الخبر.
إذاً: الأصل أن نجعل الرؤى تفيد الظن، ولا نقطع بالرؤيا حتى يقع ما رأيناه في هذه الرؤيا.(8/6)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حقيقتها وضوابطها وحكمها
قد يظن بعض الناس أن هناك نوعاً من الرؤية لا تحتاج إلى تبيين، فهي عندهم صادقة أبداً، وهي رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، نحن لا ننكر أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم حق وصدق، فقد ثبت في الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي) وفي الحديث الآخر المتفق عليه يقول صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) لكن ينبغي أن نعلم أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم تكون حقاً إذا كانت الصورة المرئية له هي صورته الحقيقية التي كان عليها.
كيف نطبق هذا الحديث؟! إذا كان هذا الشخص يُحصي يحفظ الصفات الخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم مثل: ملامح عينيه، ولون بشرته، وشعره، وكذا وكذا من شكله وهيئته، ورآه على صورته الحقيقية التي رآها الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فالشيطان لا يمكن أبداً أن يتمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقية، أما إذا رئي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة غير صورته الحقيقية فالأمر ليس كذلك، فالممنوع هو أن يتمثل الشيطان بالصورة الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم.
كثير من الناس يبني خططه على أساس أنه يقول: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لي: افعل كذا وكذا وكذا، نقول: لا، لابد من التثبت ونقول له: صف لنا ملامح الشخص الذي رأيته، فإذا كانت الملامح دقيقة وواضحة بصورة تتوافق تماماً مع صفاته صلى الله عليه وسلم الخلقية فنعم، لكن لهذا ضوابط يجب الأخذ بها وسوف نذكرها.
أما مجرد أن يقول: إنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام ويقطع بأنها رؤية حقيقية، فلابد من دليل على صحة رؤياه.
إذاً: زعم الشيطان أنه هو الرسول عليه الصلاة والسلام وتمثله في صورة غير صورته لم ينفه الحديث، وهذا الاحتمال قائم وواقع، فينبغي أن نكون على حذر، كثير من الأحوال يأتينا شخص ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في المنام كذا ويخبر بكذا، لابد أن تكون الملامح في غاية من الدقة والوضوح مع ملامح النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المنفي من قدرة الشيطان على التمثل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإلا لا نأمن أن يكون هذا من الشيطان.(8/7)
الرؤى الشيطانية المفزعة
أخبر الرسول علية الصلاة والسلام أن الرؤى المفزعة السبب فيها هو الشيطان، فإنه قد يُمثل للإنسان في منامه رؤية مفزعة تبلبل خواطره، وترهق نفسه، وتجعله حذراً متخوفاً، وفي الحديث: (الرؤية الصالحة من الله والحُلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يُحب فلا يحدث به إلا من يحب) المعنى: إذا رأى رؤية حسنة لا يقصها إلى على محب؛ لأنه إذا قصها على حاسد قد يحمله حسده على أن يؤولها تأويلاً سيئاً، لكن يخبر بها حبيباً لبيباً عاقلاً، عنده علم بالرؤى، ويستطيع أن يفسرها، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وشر الشيطان، وليتفل ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً فإنها لا تضره) وفي الحديث الآخر: (جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت في المنام أن رأسي قد قُطع قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إذا عبث الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس) رواه مسلم.
نحن نعلم أن الشيطان عنده قدرة على الوسوسة في صدور الناس؛ وذلك لقوله عز وجل {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:4 - 5]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق) فله قدرة على أن يمثل للنفس في منامها أموراً تفزعها وتحزنها.
إذاً: لا ضير على من يرى في منامه رؤية إذا اجتهد في تفسيرها، وإن كان عليه ألا يشغل فكره في هذه الأمور شغلاً يهدر وقته ويضيع طاقته، كما يحصل من بعض الإخوة في موضوع الرؤى، تجد الواحد منهم يهدر كل طاقته العقلية والذهنية في موضوع الرؤى بصورة مقيتة، وبصورة بعيدة عن سلوك السلف الصالح رحمهم الله تعالى.(8/8)
أصناف الناس في الرؤى المنحرفة وحكم كل صنف
الناس ينقسمون إلى طائفتين في الرؤى: صنف تكون رؤياه تلاعباً شيطانياً، فإذا بهذه الرؤيا الشيطانية تفسر تفسيراً خاصاً؛ لتوافق مخططاً يراد تنفيذه في واقع الحياة من قبل زعماء الكفر ودهاقنة الباطل، الذين يلعبون بمقدرات الأمم، فتجدهم يفسرون هذه الأحلام بهذه التفسيرات التي تخدم مصالحهم، لتبدو وكأنها قدر إلهي لا يجوز مغالبته ولا منازعته.
الصنف الآخر هم الذين لا يرون في المنام شيئاً، ولكنهم يزعمون أنهم رأوا رؤية وتكون هذه الرؤية في العادة محبوكة حبكاً محكماً، وتذاع بين الناس بتفسيراتها، ويتعمد إشاعتها في الناس، ثم يجتهد هؤلاء في تنفيذ مخططاتهم المدمرة فتأتي وفق الرؤيا المزعومة، وما هي برؤية وإنما هي جزء من المؤامرة للتغرير بالبسطاء الذين لم يبلغ فهمهم إلى معرفة شياطين الإنس والجن.
يقول الدكتور الأشقر في كتابه (جولة في رياض العلماء): وسأضرب على هذا مثالين قد يكون أصحابهم من الصنف الأول أو الثاني، نشرت جريدة السياسة الكويتية بتاريخ (12يناير 80م) أن حسن التهامي زعم أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في الحلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بأن يسعى للصلح بين العرب واليهود.
وحسبنا أن نعلم أن حسن التهامي كان في ذلك الوقت الذي زعم هذا الزعم نائباً للسادات ومستشاراً له، وكان يمهد للسفرة المشئومة التي قام بها السادات إلى القدس، لتكون بداية رحلة الذل والهوان التي أدت إلى ما أدت إليه من مآس، وحسبنا أيضاً أن نعلم أن التهامي هو الذي تفاوض مع ديان ليمهد الطريق أمام سفر السادات كما ذكرت ذلك جريدة السياسة في عددها بتاريخ (16يناير 80م).
إذاً رؤية التهامي المزعومة هذه ثم استغلالها استغلالاً سيئاً وهي اختلاق لا أساس له من الصحة، قصد بها تحقيق أمرٍ يسعى هو وآخرون إلى تحقيقه، وحسبنا أن نعلم أن هذه الرؤية لو كانت حقاً لكانت موافقةً لتعاليم الإسلام لا مخالفةً لها.
الحادثة الثانية: هي التي رآها ثلاثة من كبار الحاخامات اليهود المعروفين بعلمهم في التصوف اليهودي، رأوا في المنام في ليلة واحدة أن آخر معركة عظيمة على الأرض ستنشب في إبريل من هذا العام، وهي التي ستبشر ببداية العصر الألفي الذي سيملك فيه المسيح الأرض.
وأنا أعجب أين السلفية المزعومة من بعض الناس؟ نجد أن الواحد منهم يكتب ويقول: في سنة 98م سيحصل كذا، وستحصل حرب جديدة مع كذا، والأمريكان يقولون: في 97م سيحصل كذا وكذا، ويرتبون على ذلك أشياء غريبة جداً، وهناك سلاسل من الكتب كثيرة جداً الآن تتناول هذا الموضوع، كتاب اسمه (الزلزال العظيم)، وكتاب (الحرب العالمية الثالثة) ظهر بعد حرب الخليج مباشرةً، وكتاب (عُمر الأمة المحمدية)، وهذا كتاب حديث جداً، وغير ذلك من الكتب، وآخر يقول لك: إن المسيح الدجال يغزو العالم من مثلث برمودا.
ننتقل إلى موضوع قتال اليهود في ملحمة مع المسلمين، نحن لا ننكر ذلك، لكن الجديد في الأمر أنهم الآن يطبقونه على الواقع، مع أنها مجرد منامات، فنحن لا نأمن أن تكون هذه من الإسرائيليات التي يبثها اليهود من أجل تحقيق أهدافهم وأغراضهم، فيشيعون هذه الأشياء لإلقاء الرعب في نفوس المسلمين وإحباطهم.
فما ينبغي أبداً أن ننقل مثل هذا الكلام، أين نحن من قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]؟ غاية ما عندهم إما الرؤى المنامية وإما الإسرائيليات المأخوذة من كتب اليهود والنصارى، مثل: يوحنا ورؤيا دانيال فتراهم يأتون من الأناجيل ومن التوراة نصوصاً تضبط الوقت بالسنة والشهر واليوم، وتحدد متى ستحصل هذه الأحداث.
أما آن لنا أن ننضبط؟! إلى متى سنضيع وقتنا بهذه الطريقة؟! كثرت الكتب التي تكتب في هذا، وأصحابها لا يعتمدون إلا على أحد هذين الأمرين: إما المنامات وإما الإسرائيليات، فهم يعتمدون على ما في كتب اليهود والنصارى، ويحلون كلامهم أحيانا ً -كنوع من ذر الرماد في العيون- بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) صحيح حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، لكن ليس في مثل هذه الفتن، وفي مثل هذه الأشياء التي فيها قطع وجزم بحصول أشياء من الغيب.
الإسرائيليات ثلاثة أنواع: ما وافق الحق قبلناه، وما خالفه رفضناه، وما لم نعرف موافقته ولا مخالفته فإننا نمسك عنه احتياطاً؛ لئلا نكذب بحق إن كذبنا به، ولا نصدق بباطل إن صدقنا به، هذا هو الموقف الصحيح من الإسرائيليات باختصار، فلا يجوز أن نأتي بهذه الحكايات التي تزيد من إضعاف نفوس المسلمين، كأن نقول: اليهود سيفعلون كذا وكذا.
أكبر مشكلة أن هؤلاء الكتاب يأتون بأحاديث آخر الزمان ويحاولون أن يطبقوها على شخص بعينه، وهذا هو الخطأ؛ لأن أحاديث آخر الزمان القاعدة فيها أن نؤمن بها ونصدق بها ولا ننزلها أبداً على الواقع إلا بعد ما تحدث، يقول عز وجل: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] لكن قبل ذلك ليس من حقنا أن نرتب الأمور ونضع الخطط على أساس أن الذي سيحصل هو كذا وكذا.
وبسبب عدم إحسان هذه القاعدة أثناء حرب العراق والكويت (حرب الخليج) كادوا أن يقطعوا بأن هذه هي الملحمة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تكون إرهاصات وقد لا تكون، نحن لا ندري متى سيقع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، أما أن نوافق هؤلاء القوم وما يشيعونه من أنه في سنة كذا ستحصل حرب، وتظهر الأمة الإسلامية كالريشة في مهب الريح، لا إرادة لها على الإطلاق، وكل القوة وكل القرارات هي في يد أعدائهم من اليهود، صحيح أن الأمة في حال من الاستضعاف والإذلال والقهر على يد أولياء اليهود وعلى يد اليهود، لكن الأمة لن تخلو من خير إن شاء الله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) فالله سبحانه وتعالى لن يضيع عباده المؤمنين، لابد أن نقوي اليقين في قلوبنا بنصر الله سبحانه وتعالى، وأن المستقبل قطعاً للإسلام، أما أن نكرر ما يقوله اليهود والنصارى، ونحطم من معنويات المسلمين بهذه الطريقة، فهذا يتنافى الإسلام.
يقول الحاخامات اليهود: إنهم رأوا في المنام في ليلة واحدة أن آخر معركة عظيمة على الأرض ستنشب في إبريل من هذا العام، وهي التي ستبشر ببداية العصر الألفي السعيد الذي سيملك فيه المسيح الأرض.
وقالت بعض التقارير: إن الحاخامات رأوا في منامهم أن المعركة بين يأجوج ومأجوج تعجل في وقوع المذبحة النووية بين القوتين الكبريين.
وقالت تقارير أخرى عن هؤلاء: إن المسيح سيصل بطريقة سلمية، ويستشهد أحبار اليهود بالعلاقات التي تدل على قرب وصول المسيح، والتي ظهرت في العام المنصرم، وقالوا: إن وقع خطا المسيح كان مسموعاً في العام الماضي.
هذا هو مضمون الخبر، كما تعلمون أن الأحداث التي تحصل الآن قد يكون لها علاقة وقد تكون إرهاصات وقد لا تكون، لكن الأوضاع العامة هي أوضاع غير طبيعية كما تلاحظون، إن الأوضاع التي نحن فيها الآن موضوع التحالفات من الحلف الأطلسي مع مصر وإسرائيل والأردن والمغرب وتونس، والتحالف العسكري، وكثير من الأشياء قد تكون إرهاصات وقد لا تكون، والله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما يكون في غدٍِ.
إننا نؤمن بالنصوص، لكن تنزيلها على الواقع لا نقطع به إلا بعد أن تقع، أما قبل ذلك فلا، فعلينا أن ننظر إلى ما يلزمنا الشرع به في كل ظرف وفي كل موقف.(8/9)
العالم ينتظر ثلاثة
العالم ينتظر ثلاثة أشخاص: ننتظر المهدي عليه السلام وهو رجل صالح من المجددين ليس نبياً ولا رسولاً، هو مجدد من الذين يجددون شباب هذا الدين، ورجل صالح يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وقد صحت به الأحاديث وتواترت كما هو معلوم.
وننتظر أيضاً نزول المسيح عليه السلام من السماء، كما أخبر الصادق المصدوق وكما أشار إليه القرآن الكريم في أكثر من آية، إن المسيح سينزل إلى الأرض ويحكم بالإسلام ويحكم بالقرآن ويقاتل اليهود.
الثالث: خروج المسيح الدجال مسيح الضلالة الذي حذر كل الأنبياء أممهم من فتنته، هذه هي عقيدة المسلمين، فهم يعتقدون خروج المهدي، ونزول المسيح من السماء، وخروج المسيح الدجال الذي سيقتله المسيح عليه السلام.
واليهود أيضاً ينتظرون المسيح، ويستدلون ببعض النصوص التي تبشر بمقدم المسيح في كتبهم، مع أن هذا المسيح الذي بشروا به قد جاءهم بالفعل وكفروا به، وأرادوا أن يصلبوه كما هو معروف من شأن اليهود.
الفاتيكان حينما برأ اليهود من دم المسيح كان صادقاً، فاليهود بالفعل أبرياء من دم المسيح عليه السلام؛ لأن الذي صلبوه ليس هو المسيح عليه السلام بالفعل، فاليهود يؤمنون بمجيء المسيح، وقد جاءهم المسيح وكذبوه، لكنهم الآن ينتظرون مسيح الضلال، الذي هو المسيح الدجال، وسوف يخرج معه سبعون ألفاً من يهود أصفهان، ويقاتلون مع المسيح الدجال المسلمين، فهذا هو الذي ينتظر اليهود.
اليهود يعتقدون أن المسيح قادم، ومن أجله يريدون إعادة بناء الهيكل المزعوم؛ لكي يحكم الأرض، وهذا الكلام له أساس ديني وأساس اعتقادي، لكن من هو المسيح الذي سيلتفون حوله؟ إنه المسيح الدجال مسيح الضلال.
أما النصارى فهم ينتظرون مجيء المسيح، لكنهم يزعمون أن المسيح سيأتي بصفته إله.
والصحيح أن المسيح الذي سيأتي ليس إلهاً إنما سيأتي بصفته رسولاً متبعاً لشريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وليس مستأنفاً لشريعةٍ جديدة.
فالواقع أن الثلاثة الأديان تنتظر هؤلاء الأشخاص، وقد أخبرنا الصادق المصدوق في الأحاديث بالتفصيل لما سيحصل، والله سبحانه تعالى سيعز الإسلام والمسلمين، وسوف ينتصر المسلمون على اليهود.(8/10)
استغلال اليهود للرؤى المنامية في تحقيق مخططاتهم
اليهود الآن يخططون لحرب عالمية ثالثة يحكمون بعدها العالم، وهم يفسرون بقايا المعلومات الدينية التي سلمت من التغيير تفسيراً يوافق تطلعاتهم ومخططاتهم، كما هو ظاهر من تفسيرهم لحرب يأجوج ومأجوج، فالرؤية المزعومة تجعل من يأجوج أمة ومأجوج أمة أخرى، واليهود يكفرون بالمسيح عليه السلام، ويزعمون أن المسيح لم يبعث بعد، وهم ينتظرون قدومه ليحكموا العالم به، ولذا يتبعون المسيح الدجال عندما يجتاح العالم، ويتبعه -كما قلنا آنفاً- من يهود أصفهان سبعون آلفاً كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لظنهم أنه المسيح الموعود ملك اليهود المنتظر.
إن هذه الرؤية تمهد لأحداث تخطط لها يهود في الخفاء، وهي تعطي تأثيراً معيناً عند من يقرأ الخبر، وإلا كيف يتسنى لثلاثة أشخاص في وقت واحدٍ في ليلةٍ واحدة أن يروا رؤية واحدة ذات مضمون واحد، فالرؤية لا تعد تشريعاً، وبعض الأفراد والجماعات تجعل من الرؤى والأفكار وأحاديث القلوب مصدراً تشريعياً ينافس القرآن والسنة، وقد يُقدم عليهما، والرؤية الصادقة ما هي إلا مبشر بأمر سار، وقد تكون دعوةً إلى الاستقامة، وقد تكون تثبيتاً على الحق، وقد تنفر من الباطل، لكنها لا تشرع شيئاً جديداً.(8/11)
حكم الاستدلال بالرؤى المنامية
جادلني رجل كان يسير على بدعةٍ لم يشرعها الله، إذ كان يقوم على القبور بعد أن يدفن أصحابها ليلقن الميت حجته، ويعرفه بما يجيب به رُسل ربه، جادلني هذا الرجل بأن هذا مشروع بدليل أنه رأى في منامه كيف يُفعل بالميت منذ نزع الروح إلى الدفن، واستدل على هذا التلقين بالرؤى، فقلت: إن ديننا تام كامل لا ينتظر شخصاً يكمله بالرؤيا والمنام، وكيف يكون جوابك عندما يأتيك رجل آخر يزعم أنه رأى خلاف ذلك؟! من الذي نتبعه أنت أم هو؟! كلا لا نتبع لا أنت ولا هو، بل نتبع من هديه خير الهدي وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أيضاً هناك أمر مهم جداً، هل هذا الشخص النائم هو في موقع تكليف؟! الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (رُفع القلم عن ثلاثة) وممن رفع عنه القلم النائم حتى يستيقظ، فبعض الناس يأخذ تكاليف وتشريعات من المنام، فحالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق، العلماء قالوا: لو أن الرجل في مجلس التحديث غلب عليه السِنة والغفلة والنوم وعدم التركيز لا يُقبل خبره ولا تقبل روايته، فما بالك بشخص استغرق في النوم كيف يُقبل خبره؟! بعض الناس يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لي: افعل كذا ولا تفعل كذا، واكتب هذه الورقة وانشرها، وإذا لم تنسخها سبعة وثلاثين مرة يصيبك كذا، ما هذا الكلام؟! ويقولون: إن تاجراً لم يفعل هذا فاحترق محله، ومات أولاده، وكل الكوارث أصابته، أما من نفذ الكلام فحصل على كذا وكذا، وتكثر مثل هذه الخطابات، وتُرسل لكثير من الطلبة من المسلمين أثناء فترة الامتحانات، وهذا شيء غريب! فالشاهد مثل هذه الأشياء التي تظهر بين حين وآخر نضع له ضابط وينتهي بهذه الطريقة، فنقول: النائم ليس في موضع التكليف، والنوم عذر من الأعذار التي تسقط الأهلية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) هذا عُذر.
وإذا تقرر شيء في الشرع فلا يمكن أبداً أن يتغير بسبب رؤية منامية، وقد حكى الإمام النووي رحمه الله تعالى الاتفاق على ذلك، ومن الأمثلة على ذلك: ما رُوي أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: اذهب إلى موضع كذا فاحفره فإن فيه رِكازاً إما معادن وإما كنز فخذه لك، ولا خُمس عليك فيه، فلما أصبح ذهب إلى ذلك الموضع فحفره فوجد الركاز فيه، فاستفتى علماء عصره فأفتوه بأنه لا خُمس عليه لصحة الرؤيا ودليل صحة الرؤيا أنه بالفعل لقيه في هذا المكان، وأفتى العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى بأن عليه الخُمس وقال: أكثر ما ينزل منامه منزلة حديث صحيح، وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو حديث: (في الركاز الخمس) والقاعدة: أنه حينما يتعارض حديثان فمن طرق ووسائل الترجيح أن يكون أحدهما أقوى من حيث الصحة، فهذا أصح منه، ولا شك أن المنام سيكون دون ذلك، فيرد المنام ويُعمل بالراجح منهما.(8/12)
حكم العمل بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
قد تكلم العلماء في قضية أن الإنسان لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بأمر هل يلزمه العمل بهذا الأمر ويكون قوله حجة؟ بعض أهل العلم -منهم أبو إسحاق الإسفراييني - ذهبوا إلى ذلك، وجمهور العلماء أبوا ورفضوا هذه الطريقة، واتفقوا على أن أي شيء مما ينتج عن الرؤية إذا خالف الشريعة فهو مردود، وإن وافقها فهو أمارة يستأنس بها، وإن لم يوافقها ولم يخالفها جاز العمل بها، وهاك بعض النصوص: قال النووي رحمه الله: إن الرائي وإن كانت رؤياه حقاً لكن لا يجوز إثبات حكم شرعي بما جاء فيها؛ لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي، وقد اتفقوا على أن من شروط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظاً لا مغفلاً ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة، ولو كان الذي يرى الرسول عليه الصلاة والسلام فعلاً قد رآه حقاً، كأن يكون صحابياً.
وقال الإمام ابن الحاج: إن الله لم يكلف عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (رُفع القلم عن ثلاثة) وعد منهم النائم حتى يستيقظ؛ لأنه إذا كان نائماً فليس من أهل التكليف، فلا يعمل بشيء يراه في نومه.
وقال الشاطبي: لا يستدل بالرؤى في الأحكام إلا ضعيف العقل، نعم قد يأتي المرئي تأنيساً وبشارةً بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً، ولا يبنون عليها أصلاً، وهو الاعتدال في أخذها حسبما فُهم من الشرع فيها.
إن الشرع الذي شرع الله لنا قد كمله الله عز وجل وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فشريعتنا شريعة تامة وكاملة وغير ناقصة، ولا تحتاج لأي إضافة، ولا تحتمل أي إضافة؛ لأنه لم يبق للأمة في أمر دينها شيء ناقص، وقد انقطعت البعثة بتبليغ الشرائع وإتمامها وبموت النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائمِ لم يكن ما رآه من قوله صلى الله عليه وسلم أو فعله حجةً عليه ولا على غيره من الأمة.
وقال العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى: أما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم والإيمان.
أُنبهكم جداً للاهتمام بهذا الأمر والانتباه له وأن نكون يقظين؛ لأن الشيطان لا ييئس، وقد يأتي إلى بعض الناس وقد يكون من الصالحين والمستقيمين على السنة، وقد يأتي ويدّعي أنه المهدي، وقد يأتي باختراع جديد وهو أنه ليس المهدي وإنما هو المنصور الخليفة الذي سيمهد للمهدي أو سيساعده أو شيء من هذا، وأحاديث المنصور كلها ضعيفة، أو يأتيه الشيطان في المنام ويقول: هذه وصية محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رأت إحدى المسلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مدينة كذا في وقت الشمس فيه ساطعة في السماء وبعد أن صلى بالمسلمين من أهل البلدة رجال ونساء، كتب الرسول عليه الصلاة والسلام وصية يقول فيها: وصية محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل المسلمين خذوا أميركم وقائدكم فلان بن فلان، وبعد أن انصرف رسول صلى الله عليه وسلم، وقف فلان هذا مكانه، وقال للمسلمين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} [آل عمران:103] إلى آخر الآية الكريمة.
أيها المسلمون! إن وصية الرسول صلى الله عليه وسلم حق ويجب أن تعملوا بها، ففر الناس كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، لم يبق أحد ملتحٍ إلا صافح هذا الشخص بكلتا يديه، وقال: أقسم بالله أن وصية الرسول حق، وأنا أؤازرك وأُناصرك، فهذا الكلام ينبغي أن يغلق بابه، يكفي ما حصل في الحرم المكي.
فواحد يأتي يقول: أنا المهدي، وواحد يقول: أنا المنصور، ويبدأ الشيطان يتلاعب بعقول البسطاء والسذج من حوله، نقول: هذه الرؤية من الشيطان.(8/13)
ضابط ظهور المهدي ومناصرته
ذكرنا أن أحسن منهج في موضوع المهدي هو ما علمنا الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى بقوله: إذا مر ببابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع عليه الناس ولن يضيرك ذلك، أنت مسئول عن التصديق بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت مسئول عن التصديق بالأحاديث الصحيحة التي تخبر بحقيقة المهدي، لكن لن تحاسب أبداً إذا احتطت لدينك احتياطاً واجباً، بأن تمسك لسانك وتمسك يدك عن الخوض في أي فتنة من هذه الفتن، والإنسان يدعو إلى الله، ويدعو إلى الكتاب والسنة، فهذا خير.
والشيطان قد يلبس حتى على الرجل الصالح لكي يخدع به الناس وتحصل فتن كما حصلت من قبل، فينبغي الانتباه لذلك، ولذلك قال بعض السلف: إن الشيطان إذا أراد أن يضل عبداً ويضل به الناس ألقى عليه الخشوع والبكاء والرقة وغير ذلك مما يجذب الناس إليه، فينبغي أن نحذر من تلبيس إبليس، ونقفل هذه الأبواب التي تفتح أبواب الفتن، وعندنا من الفتن ما يكفي.
أخي في الله! انظر ما يلزمك به الشرع في الواقع الذي تعيشه، وافعل الواجب في كل حالة، التزم بذلك واعتصم بحبل الله سبحانه وتعالى إلى أن تلقى الله، حتى لو قالوا لك: خرج المهدي.
وإذا خرج المهدي ولم يجتمع عليه المسلمون، فاعتبر أنك لست منهم في ذلك إلى أن يجتمع عليه المسلمون، فهذه علامة أنه المهدي الحقيقي، والمهدي الحقيقي سوف يؤيده الله سبحانه وتعالى بآيات صادقة، بخوارق للعادات كالخسف بالجيش الذي يقصده من تبوك أو من الشمال، فالله سبحانه وتعالى سوف يؤيده وسوف يؤازره، وإذا كان المهدي فسيتحقق فعلاً له التمكين، لا تقلق ولا تخف على المهدي، خف على نفسك، واحذر من تلاعب الشيطان بالناس في المنامات.
نحن رأينا الفتن التي حصلت من قبل بسبب موضوع المهدي، حتى وصل الأمر ببعض الناس أنهم يكذبون بحديث المهدي من باب المثل: الباب الذي يأتي منه الريح سده واستريح، يقول لك: إن الأحاديث التي في المهدي أتت بفتن كثيرة، فنحن نسد هذا الباب وننكر المهدي أصلاً، وهذا منهج منحرف أيضاً.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: وأما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم والإيمان؛ لأن المرائي مهما كثرت لا يجوز الاعتماد عليها في خلاف ما ثبت به الشرع المطهر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أكمل لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة قبل وفاته عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز لأحد أن يعتمد شيئاً من الأحلام في مخالفة شرعه عليه الصلاة والسلام، ثم إن المهدي قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بالشرع المطهر، فكيف يجوز له ولأتباعه انتهاك حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين وحمل السلاح عليهم بغير حق؟!(8/14)
هل نحن مكلفون بإيجاد أشراط الساعة؟
الأمور الكونية القدرية في أشراط الساعة التي أخبر الصادق المصدوق عنها حتماً ستقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فهل نحن مكلفون بإيجاد أشراط الساعة؟ هل نحن مكلفون بإخراج المسيح الدجال أو طلوع الدابة أو طلوع الشمس من مغربها أو ظهور المهدي؟ هذه ليست في طاقتنا، نحن لم نكلف بهذا، لذلك الله سبحانه وتعالى جعل علامة المهدي الصادق أن يخسف بالجيش الذي يقصده، أما أن يؤتى برجل اسمه محمد بن عبد الله ويقال: إنه من قريش، فالله أعلم بصحة هذا، حتى وإن كان من قريش فليس شرطاً؛ لأنه يوجد آلاف الناس من أهل البيت ومن نسل الحسن رضي الله تعالى عنه، ولا يبعد أن يكون فيهم المئات اسمه محمد بن عبد الله، فوجود علامة من العلامات لا ينبغي الاعتماد عليها وحدها، فهؤلاء أتوا بالأحاديث التي في المهدي وكأنهم مسئولون عن إخراجها، فهذا الرجل الذي اسمه محمد بن عبد الله رفض أن يستجيب لهم في البداية، لكنهم ضغطوا عليه وقالوا: إن رفضك هذا دليل على أنك المهدي؛ لأنه يُخرج وهو كاره، وهذا من تلبيس إبليس فأكرهوه بالفعل على أن يخرج، ويقولون: يصلحه الله في ليلة، وهو مقلد للمذهب الحنبلي، ثم إن هؤلاء بايعوه بين الركن والمقام، فهل يعجز أحد أن يدبر هذه الأحداث؟ وهذا هو ما حصل بالفعل، أتوا وقت صلاة الفجر، وأغلقوا بوابات الحرم الشريف أثناء الصلاة، وأخرجوه، وأعلنوا: الله أكبر! ظهر المهدي، وبايعوه بين الركن والمقام، فقال الناس: هو المهدي؛ لأنه بويع بين الركن والمقام، فنقول: لا، هذه الأشياء يمكن تكلفها ويمكن اصطناعها مع غير المهدي، فلا يدل وقوعها على أنه المهدي، لتعوذه بطائفة في البيت كما في الحديث، وبيعته بين الركن والمقام، فهذا من الجائز عقلاً أن يقع بتدبير من البشر، كما أن المرائي المناميه يمكن أن تصدر عن حديث نفس أو وساوس شيطانية، أما الخسف بالجيش الذي يقصد المهدي فآية خارقة لا يمكن أن يدبرها إلا رب البشر سبحانه وتعالى، فهذه علامة على صدق المهدي، وتميزه عن غيره من الدجّالين أو المتأولين الذين يقعون فريسة لمكايد إبليس اللعين، فالحمدلله الذي لم يمتحنا بما تعيا العقول به.
وكان ينبغي -حتى تكتمل الفائدة- أن كل حادثة من حوادث ادعاء خروج المهدي أن تؤخذ بالتفصيل، وتُستخلص منها العِبر، وهذا مما يعطينا مناعة حتى لا نضل بعد ذلك، لكن أرجو أن يكون هذا له وقت فيما بعد، وقد سبق شيء من هذا، فقد ناقشنا من قبل قصة المهدي السوداني، والمهدي القحطاني، لكن حتى لا نبعد عن منهجنا أكثر من ذلك نرجو أن تكون هناك فرصه أخرى لمناقشة هذه الأشياء، وأهم شيء ألا تكذب الأحاديث الصحيحة، بل تعتقد بما فيها، لكن لا تنزلها على فلان بن فلان إلا إذا وقعت مطابقة لما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، والسلامة -خاصة في هذا الزمان- لا يعدلها شيء.
موضوع المنامات اشتغل به كثير من الناس، وكذلك موضوع الخوض الكثير في الحرب التي تريد أن تشعلها إسرائيل، وأنه لم يبق إلا سنتان أو سنة ثم يحصل كذا وكذا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفي المسلمين شر اليهود وشر أوليائهم من أعداء الدين، وفي هذا عبرة وتذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/15)
بين يدي رمضان
إن مما يحسن ويجدر بالمؤمن الصادق أن يعلم حقيقة هذه الحياة الدنيا وأنها دار عمل، وحينئذٍ سيقوم باستغلال الأوقات بالطاعات وما أكثرها! فما من عبادة إلا وحض الشرع عليها، وبيّن ما يكون بين يديها؛ حتى يستعد العبد لها استعداداً كاملاً لائقاً بها، ومن هذه العبادات صيام شهر رمضان، وشهر رمضان من أعظم مواسم الطاعات والقربات، ففيه تجتمع أغلب العبادات من صلاة وصيام وزكاة وذكر لله وقراءة قرآن واعتكاف وغير ذلك.(9/1)
التأهب لقدوم شهر رمضان قبل استهلاله
الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة بما دفع عنهم من كيد الشيطان ورد أمله وخيب ظنه، إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجنده، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس مطمئنة، ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد قائد الخلق وممهد السنة، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فإن حكمة الله جل وعلا اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعة للآخرة وميداناً للتنافس، وكان من فضله عز وجل على عباده وكرمه أنه يجزي على القليل كثيراً، ويضاعف الحسنة، ويجعل لعباده مواسم تعظم فيها الأجور، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام، وتقرب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] قال: من عجز بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب.
أي: يستدرك في أحدهما ما يفوته في الآخر.
ومن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلها شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، بل لا يعلم موسم تجتمع فيه أبواب الخير والطاعات أكثر مما تجتمع في هذا الشهر العظيم، ولهذا كان حرياً بالمسلم انطلاقاً من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (احرص على ما ينفعك) أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم، ويفقه شروط وآداب هذه العبادة المباركة؛ لئلا يفوته الخير العظيم، ولئلا ينشغل بمفضول عن فاضل أو بفاضل عما هو أفضل منه.
وندعو أنفسنا جميعاً الآن إلى أن يستحضر كل واحد منا لو أن أحب الناس إليه غاب عنه أحد عشر شهراً ثم بشر بقدومه وعودته خلال أيام قلائل، فكيف يكون استبشاره بقدومه وبشاشته عند لقائه؟! فمن أجل هذا المعنى كان أول الآداب الشرعية في هذه المناسبة وبين يدي رمضان التأهب لقدومه قبل الاستهلال، وذلك بأن تكون النفس بقدومه مستبشرة، ولإزالة الشك في رؤية الهلال منتظرة، وأن تستشرف لنظره استشرافها لقدوم غائب حبيب من سفره؛ لأن الاهتمام باستقبال رمضان والاستعداد له قبل دخوله من تعظيم شعائر الله، ومن تعظيم شعائر ومعالم هذا الدين، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
والناس في رمضان كغيره من مواسم الخير والطاعات يصدق فيهم قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] فيتباين الناس في استعدادهم لهذا الشهر الكريم حسب حظهم من الإيمان والصبر واليقين، فهم ما بين فرح مسرور بقدومه، وما بين مستثقل متضجر.
وهناك من يستعد لرمضان بمجرد انطلاق رمضان الماضي، حيث نجد شياطين الإنس يستعدون لاستقبال شهر رمضان المقبل بما يعدونه من التمثيليات والأفلام والفوازير واللهو والعبث، وذلك لصد الناس عن هذا الموسم العظيم، أفلا يجدر بعباد الرحمن وأولياء الله عز وجل أن يستعدوا فيعلموا كيف يغتنمون هذا الموسم العظيم ويخططون له ويتأهبون له قبل قدومه؟!(9/2)
استثقال شهر رمضان وأسباب ذلك وحكمه
إن المستثقلين شهر رمضان هم أهل الغفلة الذين يعدونه إذا نزل بهم كالضيف الثقيل، يعدون أيامه ولياليه وساعاته منتظرين رحيله بفارغ الصبر، يفرحون بكل يوم مضى منه، حتى إذا قرب العيد فرحوا بدنو خروج هذا الشهر، وليس فرحهم من أجل العيد وإنما فرحهم لأنهم تخلصوا من هذا الشهر، وهذا الشعور السيئ عندهم يرجع إلى أسباب عدة: أولها: أنهم اعتادوا على التوسع في الملذات والشهوات المحرمة فضلاً عن التوسع في الشهوات المباحة، فهم يعلمون أن هذا الشهر سيقيدهم ويحجزهم عن الاسترسال فيها، فاستثقلوه حتى قال بعضهم أقوالاً تقشعر منها الجلود وتشمئز منها النفوس، كقول الشاعر ابن الرومي: ألا ليت الليل فيه شهر ومر نهاره مر السحاب ويقول الآخر: رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق حكي أنه كان لـ هارون الرشيد رحمه الله غلام سفيه، فلما أقبل رمضان ضاق الغلام به ذرعاً وأخذ ينشد: دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر فأصيب بمرض الصرع فكان يصرع في اليوم عدة مرات، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر.
كذلك من هؤلاء المتضجرين المستثقلين لهذا الضيف العزيز من يستقبل رمضان بالسفر أو بالهروب من بلاد المسلمين.
ومنهم من يستقبله بإعداد خطط خاصة للطعام وألوان الشراب وغير ذلك.
ومنهم من يستقبله فرحاً مسروراً لما يجده فيه من فرص اللهو والعبث أمام (التلفزيون) أو (الراديو)، أو مع أصدقائه وأترابه في اللعب واللهو.
فهؤلاء جميعاً يستثقلون الشهر، وإذا فرحوا فلا يفرحون بمواسم الطاعات التي فيه، وإنما يبتهجون بمواسم اللهو والعبث التي تزيدهم عن الله عز وجل بعداً.
نقل عن ابن حجر رحمه الله تعالى أنه قال: إن تمني زوال رمضان من الكبائر.
إذاً: المؤمن المملوء بالصبر واليقين في بداية الشهر أو قبل بدايته قلبه يكاد يطير فرحاً بقدومه، ويتمنى أن يكون شعبان يوماً واحداً.
كذلك إذا دخل رمضان فإنه يحزن جداً لكل ساعة أو لكل ليلة تمر منه؛ لأنه يعلم أن تمني زوال رمضان من كبائر الذنوب.
وقال بعض العلماء معلقاً على كلام ابن حجر: ولعله إذا كان بغضاً للعبادة فربما يخشى منه الكفر.
ومما يخالف تعظيم شعائر الله قول العوام: رمضان مريض، أو يخرج الروح، ونحو ذلك.
وذكرنا آنفاً أن أحد أسباب استثقال رمضان عند من يستثقله توسع بعض الناس في الملذات والشهوات المحرمة فضلاً عن المباحة، ولا شك أن التعلق بهذه الشهوات يثقل على القلب العبادة المرتبطة بها، فمن تعلق مثلاً بالمال ثقل عليه عبادة الزكاة والصدقة، ومن تعلق بالأهل والأولاد ثقل عليه الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومن تعلق بالطعام والشراب والشهوات ثقل عليه الصيام.
واستثقال الأعمال الصالحة ناتج عن ضعف الإيمان وضعف محبة الله عز وجل في القلب.
فقارن بين قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرحنا بها يا بلال) بقول من يقول بلسان حاله أو حتى مقاله: أرحنا منها! قارن حال هذا بحال أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقوله: (إيماناً واحتساباً) أي: تصديقاً بفرضيته، ورغبة في ثوابه، طيبة به نفسه، غير كاره ولا مستثقل لقيامه، ولا مستطيل لأيامه، لكن يغتنم طول أيامه لتعظيم الثواب فيه.(9/3)
حال المستبشرين بقدوم شهر رمضان ومواسم الطاعات
أما الذين يفرحون ويستبشرون بقدوم رمضان فهم يحمدون الله عز وجل على أن بلغهم رمضان، ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات وزيادة الحسنات وهجران السيئات، وهؤلاء هم امتداد للسلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، الذين أثر عنهم أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر بعده أن يتقبله منهم.
أولئك الفرحون المستبشرون بقدوم رمضان يبشرون بقول الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
إن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124].
والذي يحمد من الاستبشار بالطاعات ومواسم العبادات والخيرات ما كان نابعاً عن محبة العبد لربه عز وجل، لا ما كان بسبب أن للنفس حظاً من تلك العبادة، فربما يحب الإنسان -مثلاً- مجالس الخير وهو لا يقصدها لذاتها، لكن يستأنس برفاقه وبأترابه وبما يسليه، فلا تنفعه تلك المحبة، لكن من أحب مجالس الخير وفرح بها لا لأنه سيقابل أصحابه ويتحدث معهم ويتناقشون ويسمرون ويسهرون وإنما ليفرح بقيام الليل؛ لأنه تعمير لبيت الله وإقامة لذكر الله عز وجل رغبة في ثواب الله فهو الذي يحمد عمله ويؤجر عليه.
فمن أحب هذه المجالس المباركة وفرح بها لأنها محبوبة لله عز وجل فهو المفلح الذي تنفعه هذه المحبة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في).
وبعض الناس قد يؤدي بهم الحذر من مثل هذا المزلق والتخوف من أن يخالط حظ النفس عبادتهم إلى أن يتركوا العبادة بحجة الخوف من حبوطها وعدم تقبلها، والصواب هو أن يثبت الإنسان ويستكثر من العمل الصالح، وفي نفس الوقت يجاهد نفسه ليكمل الإخلاص ويمحض النية لوجه الله عز وجل.(9/4)
أسباب فرح الصالحين بقدوم رمضان(9/5)
تهيئة الصالحين لأنفسهم وتوطينها على تحمل مشقة الصيام
لقد هيأ الصالحون أنفسهم ووطنوها على تحمل مشقة الصيام، فصاموا التطوع خلال الشهور الأخرى، خاصة في شهر شعبان، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم أكثر شعبان؛ استعداداً لشهر رمضان، فمن ألف الصيام في شعبان، واجتهد في تعمير شعبان بطاعة الله ودرب نفسه على عدم الالتفات إلى ما حرم الله مثل قول الزور والغيبة والنميمة فهذا يأتي عليه موسم رمضان وقد سهل عليه أمر الصيام وأمر سائر الطاعات من القيام وغيرها، فيستطيع أن يغتنمه في أحسن صورة ممكنة.
وكان هذا شأن السلف، كانوا يحافظون على نوافل العبادات، ويحافظون على صيام التطوع، ويحافظون على الاجتهاد في الإكثار من صيام شهر شعبان استعداداً للقاء رمضان.
باع أحد السلف جارية له لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان، كما يصنع كثير من الناس اليوم، أهم استعداد عندهم لرمضان هو الأطعمة والأشربة، وكيف سيصنعون بكذا وكذا، وإعداد المخللات والفواتح الشهية، فمنذ زمن بعيد يستعدون للقاء هذا الشهر لتعميره بهذه الأشياء، وكأن شهر رمضان هو شهر إثخان المعدة بالطعام، والتلذذ بالطعام والشراب، وإرهاق الميزانيات، حتى يقول بعض الناس في وصف حال الكثير من المسلمين -للأسف- في هذا الأمر: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأثقال، وتنامون الليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال.
فقالت هذه الجارية لما وجدت سيدها يستعد بهذه الطريقة في استقباله شهر رمضان، قالت: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال شهر رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان، والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان، لا حاجة لي فيكم، ردوني إليهم.
ورجعت إلى سيدها الأول.(9/6)
الامتناع عن الشهوات لله من أجل الحصول عليها في الآخرة
إن هؤلاء الصالحين الفرحين بقدوم رمضان يعلمون أن الامتناع عن الشهوات لله عز وجل في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، فإن من كف نفسه عن شيء منعه الله منه فمن فضل الله وعدله أنه لابد من أن يعوضه الله عز وجل خيراً منه وأفضل.
فإذا تأملنا مفهوم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب) عرفنا ذلك، وشتان بين خمر الدنيا وخمر الآخرة، فهذه تذهب العقول وتهين الإنسان، وأما تلك فليس فيها سوى مسك، وهي شراب طهور، كما وصفها الله بقوله: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:46]، فمن شرب الخمر الذي منعه الله في الدنيا عوقب بأنه يحرم من شرب الخمر في جنة الرضوان.
ومن تأمل -أيضاً- قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) أدرك ذلك، والحرير محرم على الرجال، فمن لبس الحرير منهم وتمتع به في الدنيا فإنه يعاقب بحرمانه منه في الآخرة.
روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة إذا هاتف فوقهم يهتف: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى: أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش) رواه البزار، وحسنه المنذري والألباني.
ورواه -أيضاً- ابن أبي الدنيا بنحوه إلا أنه قال: (إن الله قضى على نفسه أن من عطّش نفسه لله في يوم حار كان حقاً على الله أن يرويه يوم القيامة، قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر فيصومه ابتغاء ثواب الله الذي وعده به).
وهناك -أيضاً- حديث صحيح في نفس هذا المعنى، وهو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً).
فثواب الله عز وجل لمن كفّ عن الشهوات المباحة طاعة لله وانقياداً لأمره أن يكافئه بهذه المكافأة يوم القيامة.
إذاً: لا شك أن استحضار هذا النعيم وهذا الثواب يهون على الإنسان ما يلقاه من العناء في شهر الصيام.(9/7)
الفرح عند تمام صيام رمضان بتوفيق الله وشكره على ذلك
إن الصالحين الذين يستبشرون بقدوم ذلك الضيف الكريم، ويعلمون أن هذا الشهر هو أعظم مواسم الطاعات والتنافس في القربات، هؤلاء إذا جاءهم العيد فإنهم يفرحون، ولا يفرحون لأن رمضان ولى، وإنما يفرحون لأن الله عز وجل وفقهم لإكمال عدة هذا الشهر وإتمام صيامه، كما قال عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] يعني: تشكرون الله عز وجل على أن وفقكم لصيام شهر رمضان.(9/8)
أصناف الناس عند دخول شهر رمضان
يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] ونذكر حديثاً شريفاً مناسباً لمعنى الآية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه انقسام الناس إلى قسمين بسبب دخول رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، -أي: أقسم أبو هريرة بما حلف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر).
وعنه رضي الله عنه من طريق آخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله؛ وذاك لأن المؤمن يعد فيه القوة من النفقة للعبادة ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر)، وفي رواية البيهقي: (فهو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر)، وهذا الحديث أخرجه البيهقي في السنن، والطبراني في الأوسط، وابن خزيمة، وسكت عنه المنذري، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة) يعني: يعد المؤمنون لرمضان ما يقويهم على العبادة، فهم يدخرون ما ينفقونه على العيال قبل أن يدخل رمضان، وأيضاً كثير من الناس يخرجون زكواتهم في رمضان، وكثير من الناس يتهيئون لأداء العمرة في رمضان وغير ذلك، فتجدهم يخصصون ويتأهبون لقدوم رمضان قبل دخوله، فهم يعدون قبل دخول رمضان ما يحتاجونه حتى يتفرغوا لطاعة الله إذا دخل عليهم رمضان.
أما قوله: (وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة من النفقة للعبادة) فيعني أن المؤمنين بسبب اشتغالهم بالعبادة في رمضان يمنعهم ذلك من تحصيل المعاش أو التقليل منه، فقيام الليل يستدعي النوم بالنهار، والاعتكاف يستدعي عدم الخروج من المسجد، وفي هذا تعطيل لأسباب المعاش، فهم يجمعون القوت وما يلزم لأولادهم في رمضان قبل حلوله ليتفرغوا فيه للعبادة وللإقبال على الله عز وجل ولاجتناء ثمرة هذا الموسم، فهو خير لهم مما أنفقوه؛ لما اكتسبوا فيه من الأجر العظيم والغفران العميم.
قوله عليه الصلاة والسلام: (وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم) يعني أن هذا هو السبب في أن شهر رمضان شر على المنافقين، وما أكثر هؤلاء المنافقين من أعداء الله من قطاع الطريق إلى الله الذين يغتنمون فرصة التوبة والإنابة واستقامة الناس على طاعة الله وانفتاح أبواب الخيرات حتى يصدوا الناس عن ذلك الخير! وتراهم يجلبون بخيلهم ورجلهم ليل نهار، في النهار يريدون أن يفسدوا صيام الناس بالمعاصي بالأفلام وباللهو والعبث والفجور، وفي الليل بالسهر والعكوف أمام العجل الفضي (التلفزيون) وأمثاله.
فهو شر لهم؛ لأنهم يحرمون أنفسهم من هذا الخير العظيم، ويخسرون هذه الفضائل الجليلة، ولأنهم بدلاً من أن تكون هذه الأوقات الفاضلة عامرة بالطاعات إذا بهم يعكسون مقاصد دين الله ويحولونه إلى موسم للهو والعبث والفجور، وتتكاثر شياطين الإنس من الممثلين والفنانين وأمثالهم، وتراهم يفكرون كيف يلهون الناس عن الطاعة، وكيف يصدونهم عن طريق الله، وكيف يضيعون عليهم هذه الفرصة، ولا شك في أن هؤلاء وزرهم مضاعف؛ لأنهم ضلوا أنفسهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله، وقطعوا الطريق إلى الله عز وجل على عباده التائبين.
إذاً: المنافقون يستعدون قبل شهر رمضان لإيذاء المسلمين في دينهم ودنياهم؛ لأن المسلمين في هذا الوقت طائعون لله غافلون عن الدنيا منقطعون إلى الله عز وجل، فيأتي هؤلاء المنافقون فيستغلون فرصة انشغال الطائعين بطاعة الله فيتتبعون عوراتهم، والمنافقون عندما يتتبعون عورات المؤمنين يعتبرون ذلك غنيمة حاضرة وفوزاً عظيماً، فهم يتوهمون أن هذه غنيمة اغتنموها في نظرهم، ولكنها في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم وحرمانهم من فضله العميم، نعوذ بالله عز وجل من ذلك.
قال عليه الصلاة والسلام في نهاية الحديث: (هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر) وفي رواية البيهقي: (فهو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر) والمعنى أن الله عز وجل ينتقم من الفاجر ويذيقه العذاب الأليم لسوء فعله وإيذائه المؤمنين وتتبع عوراتهم، فيكون نقمة له، وأما المسلم فرمضان غنيمة له بما اكتسبه من صيام أيامه وقيام لياليه، والانقطاع إلى الله عز وجل بالعبادة فيه.
وقوله: (أظلكم شهركم هذا) يعني: أشرف عليكم وقرب منكم (بمحلوف رسول الله صلى عليه وسلم) يعني: إني أحلف بما حلف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه -والإصر هنا الإثم والعقوبة- من قبل أن يدخله) أي: الله عز وجل يعلم ما كان وما سيكون، ولا حدود لعلمه سبحانه وتعالى.
فالله عز وجل يكتب قبل دخول الشهر أن فلاناً سيجني من هذا الشهر كذا وكذا من الطاعات والعبادات، وفلاناً سوف يجني كذا وكذا من الشقاء والإثم والإصر والعقاب.
فقوله: (إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله) معناه أن المؤمن يستعد ويتهيأ لاستقبال رمضان قبل دخوله -كما ذكرنا في إعداد النفقة وإعداد القوت وغير ذلك- حتى يتفرغ ويجتهد في طاعة الله عز وجل في رمضان، فإن الله عز وجل يكتب له أجره ونوافله، وما سيترتب على أعماله هذه من الثواب قبل أن يدخل عليه شهر رمضان.
وقوله عليه الصلاة والسلام (ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم) معناه أن المنافق يعلم أن الناس مزدحمون في المساجد، فيستغل هذا المنافق اجتهاد عباد الله بالطاعات كالصلاة وغيرها فيسرق -مثلاً- أحذيتهم أو يسرق شيئاً من المسجد.
فانشغال المؤمنين بطاعة الله هو مكسب وغنيمة للمؤمن، يغتنمه المنافق، أي: يغتنم المنافق وقت انشغال الصالحين بالعبادة، وذلك بتتبع عوراتهم واغتنام غفلتهم.
فهذا الحديث ينبغي أن نستحضره، وذلك لأنه مهم جداً، وكم فرحت حين رأيت الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى قد صححه؛ لأن هذا الحديث هو عين ما نقصده الآن من التذكير به.(9/9)
أهل الخير وأهل الشر بين نداء الفعل والترك
ما أكثر ما يخبرنا الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم بكثير من الأحداث التي تقع في هذا الكون وفي هذا الوجود ونحن لا نراها ولا نسمعها! لكن يكفينا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاطلاع على حقائق هذه العوالم الغيبية.
مثلاً: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من صباح إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً).
ومن هذه الأحداث التي تقع في أول ليلة من رمضان ما أخبرنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين) وهذا يقع ويحدث في أول ليلة من شهر رمضان المبارك، كذلك الذي صح -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة) وعند الإمام ابن خزيمة: (صفدت الشياطين مردة الجن) يعني أن الشياطين هم مردة الجن.
ونريد أن نقف طويلاً عند هذا الخبر العظيم، خاصة عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وينادي مناد: يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر) فهذا أنسب شاهد لما نحن بصدده من الكلام على انقسام الناس وتباينهم عند استقبال رمضان مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4].
ففي هذا الحديث يبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هناك من يبغي الخير في رمضان، وهناك من يبغي اقتراف الشر والصد عن سبيل الله في رمضان.
فمنذ بداية هذا الشهر يتكرر النداء العام ويختص بهذا الشهر (يا باغي الخير! أقبل) أي: أقبل فقد أعددت وخططت وتهيأت، وها هو قد فتح السوق، فمن أراد الغنيمة فلينتهز الفرصة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن)، أو: (صفدت الشياطين مردة الجن) وتصفيد الشياطين في شهر رمضان يحتمل أن يكون المراد به تصفيد الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع، ولذلك قال بعض العلماء: ألا تراه قال: مردة الشياطين.
يشير إلى قوله تبارك وتعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7]؛ لأن شهر رمضان كان وقتاً لنزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكانت الحراسة قد وقعت بالشهب، كما قال عز وجل: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8]، فزيد التصفيد في شهر رمضان مبالغة في الحفظ، وهذا أفاده الإمام الحليمي، والله تعالى أعلم.
ويحتمل أن يكون المراد من تصفيد الشياطين في زمان وأيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده أيضاً، والمعنى أن الشياطين في شهر رمضان لا يخلصون فيه من إفساد الناس إلى ما كانوا يخلصون في غيره؛ لاشتغال المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات التي تهذب النفس وتزكيها، قال رب العزة جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فالحكمة من الصيام هي الوصول إلى تقوى الله تبارك وتعالى، وهذا أمر ملموس، وهذا من بركة هذا الشهر حتى على العصاة، فإنك تجد عند ابتداء شهر رمضان همة الناس في إصلاح حالهم مع الله وفي الصلح مع الله تزداد، فالمحسن يرغب في زيادة الإحسان والمسيء تجده مقبلاً على الخير، وآية ذلك أن تنظر إلى المساجد في أول ليلة من رمضان، بل انظر إلى المساجد في صلاة الفجر في أوائل رمضان، ثم انظر إلى طبيعة أسئلة الناس في أوائل شهر رمضان أو قبل قدومه بأيام، تجد أن كل إنسان يراجع نفسه ويقول: أنا أفعل كذا وكذا فهل لي من توبة؟ أنا أريد أن أفعل كذا وكذا ولكن يمنعني كذا وكذا؟ وتجد العصاة يريدون أن يقصروا عن الشر وأن يتوبوا وأن يصلحوا حالهم مع الله تبارك وتعالى.
ولذلك كانت مسئولية كل من يتبوأ مقام الدعوة في رمضان كما يصنع التاجر حين يغتنم الفرص حتى يروج سلعته ويفوز بالأجر العظيم ويغتنم الربح الوفير، فكذلك الداعية إلى الله عز وجل، وكل مسلم يجب أن يكون داعية إلى الله، فمن علم شيئاً عليه أن يدعو إليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية).
فالواجب الاهتمام واغتنام هذه الفرصة العظيمة، فإن الناس يقبلون على الله سبحانه وتعالى أشد الإقبال، والشيطان قد توعد بني آدم -حسداً وحقداً- أن يفتنهم وأن يتفنن في إضلالهم، وأقسم في ذلك بعزة الله تبارك وتعالى، ومما يؤسف له -إذا نظرنا إلى واقع الناس عموماً على ظاهر الكرة الأرضية وإلى واقع المسلمين خصوصاً- أن إبليس وفى بقسمه وبر بعهده.
فانظر وقارن بين أولياء الرحمن وبين أولياء الشيطان، تجد أن جنود إبليس في أجهزة الإعلام يحتشدون ويتجهزون لحرب الدين وأهله، وكأن الشيطان يبعثهم سرايا حتى يضلوا الناس ويضيعوا عليهم هذه الفرصة ويغلقوا عليهم هذه الرحمة الواسعة، وذلك بصدهم عن المساجد وإشغالهم باللهو والفسق والفجور، وصدهم عن طريق الله وقطع الطريق إلى الله عز وجل على عباد الله، وقارن بين الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى هل بروا بالعهد الذي أخذه الله عليهم كما بر أولياء الشيطان وكما بر إبليس بعهده فتفنن في إضلالهم؟! إذاً: ينبغي الاعتناء باغتنام فرصة إقبال الناس على ربهم تبارك وتعالى، وينبغي تفويت الفرصة على أعداء الدعوة الإسلامية وعلى قطاع الطريق إلى الله الذين ينتهزون مواسم الخير ليعكروا صف المسلمين، وليمزقوا وحدتهم، وليحدثوا فيهم البلبلة والتشكيك، وكأن رمضان صار موسماً للمشكلات من أوله إلى آخره.
فعلى الإخوة جميعاً أن يهتموا بهذا الأمر، ويجتهدوا في تفويت هذه الفرص على أعداء الدعوة.
قوله: (ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.(9/10)
أعمال بغاة الخير خلال شهر رمضان وصفاتهم
نقف وقفة مع هذا المنادي الذي ينادي في الناس، ونحن لا نسمعه، ولكن الصادق المصدوق أخبرنا فكأننا سمعناه بأنفسنا، بل أبلغنا بقوله: (يا باغي الخير! أقبل ويا باغي الشر! أقصر) فهذا النداء يحض على التوبة وهي أعظم الخير، ولذلك سنتوقف عندها قليلاً.(9/11)
العمرة في شهر رمضان
إن من الخير الذي يجنيه الصالحون في هذا الشهر، والذي من أجله يقول له الملك: يا باغي الخير! أقبل -أي: هلم إلى موسم الخير كله- من ذلك الخير العمرة في رمضان، فمن استطاع أداء العمرة في رمضان فلا يفرط في ذلك.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رجع من حجة الوداع قال لامرأة من الأنصار اسمها أم سنان: ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: أبو فلان -تعني زوجها- له ناضحان حج على أحدهما والآخر نسقي عليه.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم -على سبيل المواساة لها-: فإذا جاء رمضان فاعتمري؛ فإن عمرة فيه تعدل حجة -وفي لفظ: تعدل حجة معي-) وهذا الحديث متفق عليه.
فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) يعني: إذا اعتمرت في رمضان فكأنك وقفت في عرفات مع الرسول صلى الله عليه وسلم وطفت بالبيت.(9/12)
الحرص على تعمير المساجد بالطاعات
إن من صور الخير تعمير المساجد والحرص على ذلك، جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق) فمن حرص على تطبيق هذا الحديث تغير حاله، واستقام شأنه، وزاد إيمانه، واقترب من الله عز وجل، وتضاعفت أعماله الصالحة.
فالشرط الأول: (من صلى لله) أي: من صلى مخلصاً لله بأن يحافظ على صفة الإخلاص وعدم الرياء.
الثاني: قوله: (أربعين يوماً) يعني: يحافظ على الصلوات الخمس لمدة أربعين يوماً متصلة.
الثالث: (في جماعة) أي: يحضر صلاة الجماعة.
الرابع: (يدرك التكبيرة الأولى) فلابد من أن يدرك تكبيرة الإحرام ولا يتخلف عنها.
قوله: (كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق) براءة من النار باجتهاده في طاعة الله تبارك وتعالى وإقامة الصلاة في جماعة، وبراءة من النفاق لأنه تبرأ من سلوك المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، أما هذا فيستعد ويتأهب ويحرص على حضور تكبيرة الإحرام.(9/13)
التوبة واستغلال شهر رمضان بسائر الطاعات
نقول: لا بد من التوبة والندم على ما فات من التفريط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الندم توبة)، والخير الذي يبتغيه عباد الله الصالحون على رأسه الصيام والقيام وقراءة القرآن، والاعتناء بالعشر الأواخر وذلك بتعميرها بالطاعات، والاجتهاد في تحري ليلة القدر، وكذلك الصلاة في جماعة، والانشغال بذكر الله وبدعائه تبارك وتعالى، والعمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والاعتكاف في بيوت الله، وتفطير الصائم، وأداء زكاة الفطر وزكاة المال -أيضاً- كما يفعل كثير من الناس، فهم يجعلون رمضان وقت إخراج الزكاة توسعة على إخوانهم المسلمون، وكذلك الجهاد في سبيل الله، فإن رمضان هو شهر الجهاد، كان فيه غزوة بدر، وكان فيه فتح مكة، وكان فيه موقعة عين جالوت وغير ذلك من المعارك التي انتصر فيها المسلمون في شهر رمضان المبارك.
وكذلك هو شهر الإنفاق والسخاء والجود وإكرام عباد الله تبارك وتعالى، وهو شهر الكف عن أذى الخَلْق، بل هو شهر حسن الخُلُق مع الناس، حيث إن الصائم لا يرفث ولا يفسق ولا يسخط، وهو شهر التوبة من كل معصية، ورمضان هو شهر التربية الجماعية للأمة جمعاء، وهذه في الحقيقة ما زالت غصة في حلوق أعداء الإسلام لا يستطيعون القضاء عليها، حتى الشخص الذي أغراه الشيطان بالإفطار إذا خرج إلى الشارع يجد فيه الصائمين، وإذا ركب وسائل النقل يجد الصائمين، وفي الكلية وفي المتجر وفي المصنع يجد الصائمين، فهذه التربية الجماعية تجعله يعود إلى عقله ويثوب إلى رشده، فعلى الأقل يستحيي من المجاهرة، إلا أن يكون قد فقد الحياء بالكلية من الله ومن الناس.
إذاً رمضان مدرسة وفرصة ليصلح كل إنسان حاله مع الله تبارك وتعالى.
وإذا كان التدخين عادة سيئة فرمضان أعظم فرصة للتوبة من هذه الخصلة القبيحة وغيرها مما ينبغي أن نتجنبه.(9/14)
المكث بعد صلاة الفجر في المصلى حتى تطلع الشمس
إن من صور الخير الذي علينا أن نبتغيه ونقبل عليه ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه كان إذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس) فالإنسان إن كان قد قصر فيما مضى فإنه يحتاج إلى مجاهدة حتى تنقلب عادة الشر إلى عادة خير، ومن ذلك أن يجاهد نفسه على المكث في مصلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس لينال الأجر المترتب على ذلك الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة).(9/15)
أعمال بغاة الشر خلال شهر رمضان وصفاتهم
أما الفريق الآخر بغاة الشر والسوء والصد عن سبيل الله فتجد الملك ينادي عليهم ويقول: (يا باغي الشر! أقصر) كما يقول العوام للشخص حينما يتمادى في الإساءة: أقصر.
يعني: انته وكف عما تنويه من السوء في هذا الشهر العظيم.(9/16)
تعمد الإفطار في نهار رمضان بغير عذر
من صفات بغاة الشر في رمضان -وهي من أقبح المظاهر في الحقيقة- تعمد الإفطار بغير عذر.
وهذه ظاهرة تجسد غربة الإسلام في هذا الزمان، فكثير من الناس انعدم عندهم الحياء من الله والحياء من المخلوقين، مع أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (استح من الله كما تستحي رجلاً من صالح قومك) ونجد كثيراً من المستهترين يجهرون بالتدخين ويجهرون بالإفطار ولا يبالون، ونجد أصحاب المطاعم يفتحون المطاعم في رمضان.
ولو أن كل واحد منا عد نفسه مسئولاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حدود علمه لأغلق هؤلاء متاجرهم، لو أن هذا الفاسق الفاجر الذي يجهر بمبارزة الله سبحانه وتعالى بالطعام أو الشراب في نهار رمضان كلما قابل مسلماً قال له: اتق الله، إذا بليتم فاستتروا.
أو ذكر له هذا الحديث الذي نذكره في وعيد متعمد الإفطار فلا شك أنه في المرة الأولى إذا لم يستجب فقد يستجيب في الثانية.
فهذا العاصي لو قابله مسلم طائع لله وحذره وأنكر عليه فلا شك في أنه ستنتهي هذه الظاهرة، إذا دخلت إلى صاحب العصير أو المطعم وقلت له: اتق الله وارع حرمة هذا الشهر ونصحته فلعله ينزجر ويكف عن فسقه ومعاصيه، فلماذا نقصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى هذا الحد؟ لو أن كل امرأة متبرجة وجدت من يقول لها: اتقي الله واستري نفسك وأنقذيها من النار أو غير ذلك لانكف الناس عن كثير من المنكرات.
وبعض الناس يتسترون وراء فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقولون: لابد من أن يكون الإنسان عالماً وأن يكون كذا وكذا، ويذكرون عدة شروط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونقول: هناك قدر من المنكرات لا يجهلها أحد ولا تحتاج إلى فقه، مثل شرب الخمر وتضييع الصلاة والتبرج والربا، كل هذه المعاصي ظاهرة وواضحة، فيجب علينا متى ما استطعنا وفي كل فرصة أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر، ولا نتخذ فقه وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أداة نعلق عليها كسلنا وتراخينا في أداء واجبنا نحو ربنا ونحو ديننا.
فكل إنسان مسئول ينبغي أن يبلغ بقدر استطاعته، وينكر على من يجهر بالمعاصي سواء في رمضان أو في غير رمضان.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواد الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلقا بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالا: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم).
فإذا تأملنا هذا الحديث فإن فيه وعيداً شديداً لمن يتعمد الإفطار في شهر رمضان.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (بينما أنا نائم أتاني رجلان) معلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، فهذا صورة من صور الوحي.
قوله: (فأخذا بضبعي) يعني: أخذا بعضدي.
قال: (فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد.
فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواد الجبل إذا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلقا بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً -وهي جوانب الفم- قال: قلت: من هؤلاء؟ قالا: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم).
تأمل جيداً قوله: (قبل تحلة صومهم) فمعناه أن هؤلاء يصومون لكنهم يفطرون قبل غروب الشمس، فإذا كان هذا عذاب من يتعجل الإفطار قبل أوانه قبل تحلة الصوم فكيف بمن لا يصومه كله؟! كيف بمن يفطر اليوم بل الشهر كله ولا حظ له في الصيام؟! أما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أفطر يوماً من رمضان متعمداً لا يجزئه صيام شهر وإن صامه) فهذا حديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأيضاً ثبت في الحديث الصحيح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أحلف عليهن) وذكر منهن قوله: (لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: من أفطر عامداً بغير عذر كان تفويته له من الكبائر.
وحكي عن الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى أنه قال: وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا عذر أنه شر من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه ويظنون به الزندقة والإخلال.
وأحسن بعض إخواننا حيث كانوا يضمون هذه العبارة إلى عبارة الحافظ ابن القيم ويكتبونها بخط جميل على أوراق كبيرة مكبرة ويلصقونها ويعلقونها في المداخل والمخارج والأسواق وعند المحلات زجراً للناس عن هاتين المعصيتين: تعمد الإفطار، وترك الصلاة المكتوبة.
فيا حبذا لو أحيا الإخوة هذه السنة وأعادوا تذكير الناس بهذه العبارات، ولا تعلق داخل المساجد؛ لأن هذا تحصيل حاصل، فالذي يأتي للمسجد يصوم ويصلي؛ لأن الذي يصلي لا يمكن أن يتصور أنه لا يصوم؛ لأن من حافظ على الصلاة سهلت عليه كل العبادات الأخرى، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع.
فيصعب أن تجد شخصاً يحافظ على الصلاة ثم لا يصوم، لكن قد تجد من يحرص على الصيام ولكنه -ولا حول ولا قوة إلا بالله- لا يصلي.(9/17)
ترك الصلاة عمداً
إن بغاة الشر في رمضان للأسف الشديد كثيرون، ومن أسوئهم وأقبحهم هؤلاء الذين يضيعون أعظم فريضة في الإسلام، ألا وهي فريضة الصلاة التي هي عمود هذا الدين وثانية العبادات وناهية عن السيئات، يقول عز وجل {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فنجد من يترك الصلاة بالكلية ويحسب أنه على شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر).
ودعنا من الخلاف بين العلماء هل تارك الصلاة كافر كفراً أكبر يخرج من الملة وأنه إذا مات مصراً على تركها فإنه لا يورث ولا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يجوز الدعاء له بالمغفرة، أو أنه مسلم عاص فاسق بفعله؟ وإنما أهمس فقط في أذن هذا الذي يترك الصلاة ويستأنس بقول من يقول له: إنك مسلم عاص.
فهل تقبل أن يكون انتسابك إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى دين محمد صلى الله عليه وسلم موضع خلاف بين العلماء؟! فعالم يقول عنك: أنت مسلم فاسق شر من الزاني والسارق وشارب الخمر وآكل الربا وقاتل النفس التي حرم الله، أنت شر من هؤلاء كلهم ومعرض لسخط الله وعقوبته في الدنيا والآخرة، وآخر يقول: بل أنت مثل أبي جهل وأبي لهب وفرعون وهامان وقارون وإخوانهم من أعداء الله! فهل تقبل أن يكون انتسابك إلى الإسلام محل خلاف العلماء؟! ومن يقبل لنفسه هذا الوضع؟! يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم (الصلاة وحكم تاركها) في تحقيق هذه المسألة -وقد انتهى إلى تكفير تارك الصلاة كفراً أكبر- يقول رحمه الله تعالى: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة.
فهذا متفق عليه بين جميع علماء المسلمين، ولا خلاف في ذلك أبداً.
وقد تجد تارك الصلاة يتمدح بأنه يتعفف عن الزنا، أو أنه إذا اتهم بأنه سارق يشمخ بأنفه ويقول: كيف أكون سارقاً؟! ويغضب بسبب ذلك، أو غير ذلك من الذنوب كقتل النفس أو شرب الخمر أو غير ذلك، وهو لا يدري أن المصيبة التي ابتلي بها أشد من كل هذه المعاصي مجتمعة.
نعجب لتارك الصلاة كيف يتمتع بنعم الله وبعافية الله وبرزق الله سبحانه وتعالى! فخير الله إليه نازل وشره إليه صاعد.
فالإنسان من غير صلاة لا خير فيه، ولا خير في دين لا صلاة فيه.
قال أمير المؤمنين: (ألا وإن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر).
إذاً فشهر رمضان فرصة عظيمة جداً لبغاة الخير أن يأمروا بغاة الشر ممن يصرون على ترك الصلاة أن يفتحوا صفحة جديدة، وأن يتوبوا إلى الله عز ويؤدوا الصلاة لله تبارك وتعالى.(9/18)
حكم منع إخراج الزكاة الواجبة وما يترتب على المنع
جاء في الحديث السابق أن أسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة، وتكلمنا عن تارك الصلاة ومتعمد الإفطار في رمضان، والآن نمر مروراً عابراً على منع الزكاة.
إن كثيراً من الناس يخرجون زكاتهم في هذا الشهر المبارك، فننتهز الفرصة، ونذكر بخطأ يفعله كثير من الناس في قضية إخراج الزكاة، فبعض الناس يتصور أن إخراج الزكاة هي زكاة الفطر فقط، وإذا قلت له: إن عليك زكاة في مالك بشروط وهي كذا وكذا يقول لك: أنا أتصدق بين وقت وآخر وأعطي الفقراء والمساكين وأجود عليهم وأنفق عليهم! ويظن أنه بذلك يكون قد أدى الزكاة، كلا، فأداء الزكاة عبادة من العبادات لابد فيها من نية إخراج فريضة الزكاة.
ولابد من الالتزام بالمقدار المحدد لكل نوع من الأنواع الذي تجب فيه الزكاة، سواء في ذلك زكاة الذهب والفضة، وسواء في ذلك زكاة الحلي والأواني والصحف الذهبية والفضية، وخاصة ما اتخذ كنزاً للاقتناء، أو زكاة الثروة التجارية والزراعية، أو زكاة المستغلات كالعمارات والمصانع ونحو ذلك، أو زكاة الثروة الحيوانية كالإبل والبقر والغنم، وما إلى ذلك.
فكل نوع له مقدار محدد من الزكوات ينبغي الالتزام به، أما العشوائية في إخراج الزكاة بأن تقول: أنا بين وقت وآخر أتصدق على الفقراء بما ييسر الله فهذا لا يصح، فلابد من أن تضبط الزكاة ضبطاً دقيقاً في مواعيد محددة وبمقدار محدد، وتلتزم بذلك، وإلا فقد ورد الترهيب الشديد لمنع الزكاة.
يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) إلى آخر الحديث.
وورد ضمن حديث طويل قال: (ولاوي الصدقة ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم).
قوله: (لاوي الصدقة) يعني المماطل في أداء الزكاة، فإنه ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذا كان لك مال استوفى شروط الزكاة كاملة فإن لله فيه حقاً، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] فهذا المال ليس ملكاً لك، بل حق الله عز وجل، فإذا لم تؤد الزكاة وبخلت بها فالله تبارك وتعالى قادر على أن يعاقبك أشد العقوبة.
يقول عليه الصلاة والسلام: (مانع الزكاة يوم القيامة في النار)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين) والسنون جمع سنة، وهي الجدب والقحط وعدم نزول المطر، وقال في رواية أخرى: (ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر) وقال عليه الصلاة والسلام: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
فمنع الزكاة معصية خطيرة جداً، ويخشى على الشخص الذي يمنع الزكاة أن تمحق بركة ماله لكفره بنعمة الله، فهذا المال الذي فيه حق الفقراء والمساكين من الزكاة ليس ملكك، فإذا أتى أوانه فهو حق هؤلاء الفقراء ولا ينبغي لك تأخيره أبداً، بل لا بد من أن تعجل بأدائه إلى أصحابه.
وأذكر هنا قصة طيبة لأحد الناس: كان هناك رجل من الناس الطيبين في الإسكندرية، وهذا الرجل كان يتمتع بالصحة والعافية وفي خير حال، وقبل أن ينام مباشرة أنطقه الله تبارك وتعالى فقال لزوجته: هذا المال -وأشار إلى مبلغ معين من المال- هو الزكاة التي ستجب علي بعد يومين أو ثلاثة، فإذا أتى وقت الزكاة فأخرجوها، وحذار أن يقربها أحد منكم، فإن هذا ليس مالنا.
ونام الرجل على وسادته ولم يقم من نومه، بل أفضى إلى ربه تبارك وتعالى في نفس تلك الليلة.
فهذه -إن شاء الله- من علامات حسن الخاتمة.
وهناك قصة حكاها بعض الشيوخ على عكس الأولى، أن أحد القضاة الشرعيين حدثه أن رجلاً جاءه في الحجاز يشتكي من أن صاعقة نزلت على غنمه فأتلفت منها أكثر من سبعمائة رأس من الغنم، وأتى إلى المحكمة وطلب تسجيل هذه الجائحة أو الواقعة كي يعوض فيما بعد عن خسائره، وأخذ هذا الرجل يتردد على المحكمة حتى يثبت هذه المصيبة التي وقعت به ويصرف له تعويض عن هذه الخسارة.
وفي يوم من الأيام قال له القاضي ذات مرة: لعلك لا تخرج زكاة هذه الأغنام؟! قال القاضي: فرأيت الرجل لما قلت له ذلك قد تغير وظهرت عليه علامة التأثر مما قلت، ثم خرج من عندي ولم يعد بعدها إلى المطالبة بالتعويض.
لأن هذه الكلمة وقعت في قلب هذا الرجل، وعلم أن ما أصابه من الصاعقة التي نزلت من السماء وأتلفت سبعمائة رأس من الأغنام إنما هي بسبب عدم إخراج الزكاة، فزهد في هذا التعويض الذي كان يسعى إليه؛ لأن هذا حكم عادل من الله تبارك وتعالى.
إذاً: إذا بخلت ولم تخرج زكاة المال فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يتلف عليك كل هذا المال من أوله إلى آخره، ويبتليك بالمصائب والبلايا.(9/19)
الآثار المترتبة على إخراج الزكاة الواجبة
إن الزكاة تنمية وبركة وتطهير للمال كله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره) وقال في حديث آخر: (داووا مرضاكم بالصدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) وقال عليه الصلاة والسلام: (ظل المؤمن يوم القيامة صدقته) وقال عليه الصلاة والسلام: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء) فقوله: (صنائع المعروف) أي: الإحسان إلى الناس.
وكما ذكرنا أنموذج شؤم عدم إخراج الزكاة نذكر أنموذجاً من بركة إخراج الزكاة على صاحبها.
جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينا رجل في فلاة من الأرض إذ سمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان -والحديقة هي البستان إذا كان عليه حائط- فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة -والحرة: هي الأرض التي بها حجارة سود- فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله -والشرجة: هي مسيل الماء إلى الأرض السهلة- فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته -وهي المجرفة من الحديد- فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان.
للاسم الذي سمع من السحابة.
فقال له: يا عبد الله! لم سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان باسمك، فما تصنع فيها؟) يعني: ما الذي تصنعه حتى استحققت به أن يقال للملك: اسق حديقة فلان، فأتت السحابة وأمطرت الماء في حديقتك أنت؟! قال: (فما تصنع فيها؟! قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثه) وهذا الحديث رواه مسلم.(9/20)
دعوة إلى الإقبال على الطاعات والابتعاد عن المعاصي والمنكرات
إن ما سبق ذكره هو من وجوه الخير، فمن كان باغياً للخير فليقبل على عملها، وأما باغي الشر الذي يضيع الصلاة أو الصيام أو الزكاة فليقصر، كما أُمر بذلك في بداية شهر رمضان المبارك.
فعلى الإنسان أن يعقد النية والعزم على أن يستقبل هذا الشهر مقصراً عن المعاصي متخلياً عنها، متحلياً بالطاعات ومكثراً منها، فيتجنب كل ما يفتنه في دينه كالاختلاط، وكقراءة المجلات الخليعة والجرائد المؤذية.
وكذلك إطلاق البصر من الشر، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم زنا العين فقال: (والعين تزني وزناها النظر) فالنظر إلى ما حرم الله مثل الأفلام الخليعة والمتبرجات والمذيعات كل هذا إفساد لثوابك وصد لك عن سبيل الله تبارك وتعالى، وتذكر حينما ترى هؤلاء الشياطين قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، فأولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27 - 28].
وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها أو يتقحمن في هذه النار، فجعل الرجل يذبهن بيده -أي: يطرد الفراشات التي يجذبها الضوء حتى لا تحترق-، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي) عليه الصلاة والسلام، كيف وقد قال الله عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] صلى الله عليه وآله وسلم.
فالله عز وجل يريد أن يرحمنا ويريد أن يتوب علينا، وهؤلاء يريدون أن يهلكونا ويفسدوا علينا ديننا ويقطعوا علينا الطريق إلى ربنا عز وجل.(9/21)
طرق معالجة ظاهرة تضييع صلاة الجماعة في رمضان وتضييع الأوقات
مما يؤسف له أن في رمضان الذي هو موسم الطاعات نجد ظاهرة مؤسفة جداً، وهي أن الأذان لم يصبح اسمه أذاناً، بل صار بدله المدفع، كأن هذا المدفع هو ساعة الصفر لكي يبدأ الهجوم لاكتساح ما لذ وطاب من الطعام والشراب، مما جعلهم لا يلتفتون إلى الأذان، فالمؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، هلموا إلى طاعة الله وإلى تعمير بيت الله وإذا بهم في صلاة المغرب في كثير من المساجد لا يصلي إلا عدد أو نفر قليل جداً منهم، وذلك بسبب أنهم يجلسون على الموائد ويأكلون ويشربون ثم يضيعون صلاة الجماعة.
فإذا كان رمضان وهو موسم الخير ومضاعفة الأعمال الصالحة يحصل منا فيه هذا الأمر السيئ والقبيح، وربما يكون سبب هذه الفتنة عند كثير من الناس أن شياطين الإنس عبر (التلفزيون) يجتذبون الناس مباشرة عقب ما يسمى بالمدفع ويفتنوهم عن دينهم بالفوازير وباللهو وبالعبث والفجور، حتى إن بعضهم قد يجمع المغرب مع العشاء جمع تأخير، أو يسهر إلى ما قبل صلاة الفجر أمام (التلفزيون) فإذا كان الأمر كذلك فأين ستكون صلاة الفجر في جدوله إذا كان يمكث من المغرب حتى الساعة السادسة صباحاً؟! هذا إن كان يصلي صلاة الفجر.
فهذا إتلاف وإفساد للدين، فطهروا بيوتكم من هذا الجهاز الخبيث الذي يصدكم عن طاعة ربكم تبارك وتعالى ويفسد أخلاقكم وأديانكم، فهو شؤم في شؤم.
وإذا أذن لصلاة المغرب فيحبذ أن يفطر الصائم على شيء خفيف جداً، على تمر أو شيء يسير، ويا حبذا لو كان الإفطار في المسجد حتى ينال الذين يحضرون الإفطار أجر تفطير الصائم، ومن يفطر في بيته ينبغي أن يكون أمامه مهلة عشر دقائق بين الأذان والإقامة، ثم تقام الصلاة بتمهل بعد إذهاب سورة الجوع التي قد تذهب بألباب بعض الناس حتى يصلوا صلاة المغرب باطمئنان؛ لأن أكثر الناس يصلون صلاة المغرب بسرعة ينقرونها نقراً ولا يقيمونها.
وكون وقت الإفطار لمدة عشر دقائق بين الأذان والإقامة ثم تقام الصلاة بالميكرفونات حتى يحضر الناس من البيوت الذين لم يأتوا بعد أمر طيب.
كذلك علينا أن نقوم بحملة كبيرة من أجل دعوة الناس إلى تعمير المسجد بصلاة المغرب وغيرها من الصلوات، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] فظاهرة تضييع صلاة الجماعة في المغرب خصوصاً منتشرة، فعلى الإخوة أن يتعاونوا في ذلك.
والإفراط في السهر يؤدي إلى تضييع صلاة الفجر، وهذا -أيضاً- من الشر، وكذلك قول الزور والعمل به مما يفعله بغاة الشر، والمجاهرة بالفطر وقد ذكرناها، وأكل الربا، واللهو، والنميمة، والكذب إلى غير ذلك مما حرم الله تبارك وتعالى، فكل ذلك ينبغي الحث على تركه.(9/22)
كيفية استقبال شهر رمضان
إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل رمضان خطب في أصحابه رضي الله عنه منبهاً إياهم إلى هذا الموسم المبارك، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) وإنما كان ذلك في أول ليلة من شهر رمضان.
أي: إذا ظهرت الرؤية وبان لنا أن هذه ليلة هي أول ليلة من شهر رمضان فينبغي لمن كان من بغاة الخير ويريد أن يصوم رمضان كله إيماناً واحتساباً حتى يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تقدم أن يحذر من أن يفوته قيام الليلة الأولى من رمضان، إذ أغلب الناس يعمرون المساجد بصلاة القيام غالباً في اليوم الثاني من رمضان.
والغالب أن الرؤية لهلال رمضان تكون متأخرة، وربما تكون أحياناً بعد صلاة العشاء، فبعض الناس لا يسرعون إلى المساجد لصلاة القيام ولا يصلونها -أيضاً- في البيوت في الغالب، فيفوتون على أنفسهم هذا الثواب العظيم.
فعلى الإخوة -أيضاً- أن ينبهوا الناس إذا ظهرت الرؤية وثبت هلال رمضان حتى يفزعوا إلى المسجد ويدركوا صلاة القيام حتى لا يفوتهم هذا الفضل العظيم.(9/23)
ضرورة اغتنام التوبة والاستغفار والإنابة خلال شهر رمضان وغيره
إن من أعظم الوظائف التي سنتكلم عنها باختصار -إن شاء الله- هي وظيفة التوبة إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن شهر رمضان موسم التوبة والاستغفار، وموسم الصلح مع الله عز وجل.
والاستغفار يكون في افتتاح كثير من العبادات وخواتيمها، ففي استفتاح الصلاة تقول: (اللهم! باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم! اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) وهذا استغفار.
كذلك في خطبة الحاجة في أول الكلام: (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره).
وكذلك في خواتيم الأعمال، كما في كفارة المجلس تقول: (سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك).
وفي خاتمة عمره الشريف صلى الله عليه وسلم أمره الله تبارك وتعالى به فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
وفي خواتيم أفعال الحج قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199].(9/24)
إحسان الظن بالله والتوبة إليه والطمع في رحمته
إن وظيفة العمر كله هي وظيفة التوبة والإنابة إلى الله تبارك وتعالى، ولن يعزم العبد على التوبة والاستقامة إلا إذا كان يحسن الظن بربه تبارك وتعالى، فيجب أن نقبل على هذا الشهر ونحن نحسن الظن بالله عز وجل في أن من عاد إليه وتاب إليه تاب الله عليه، ومن استغفره غفر له تبارك وتعالى.
فمهما بلغ الإنسان من التقصير في طاعة الله عز وجل فلابد له من أن يغتنم هذا الموسم العظيم، وأن يطمع في رحمة الله طمعاً لا مزيد عليه، فإن خزائنه لا تنفد.
يقول عز وجل {إِِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وضرب بعض العلماء مثلاً في حسن الظن بالله تبارك وتعالى وفي رحمة الله عز وجل بعباده فقال: أرأيت لو أن ولداً كان يعيش في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القائم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجة، فخرج عليه عدو في الطريق فأسره وشد وثاقه، ثم ذهب به هذا العدو إلى بلاد الأعداء، وصار يعامله بعكس ما كان يعامله به أبوه، فكان كلما تذكر تربية أبيه وإحسانه إليه المرة بعد المرة تهيجت من قلبه لوعة الحسرات، وتذكر ما كان فيه من النعيم، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد ذبحه في نهاية المطاف إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريباً، فسعى إليه وألقى بنفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه، يا أبتاه، يا أبتاه! انظر إلى الولد وما هو فيه، والدموع تسيل على خديه، وهو قد اعتنق أباه والتزمه، وعدوه يشتد في طلبه، حتى وقف على رأسه وهو ملتزم بوالده ممسك به، هل تقول: إن والده سيسلمه في هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟! فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها إذا فر عبد إليه سبحانه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه، باكياً بين يديه، يقول: يا رب! ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا معين له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك، أنت معاذه وبك ملاذه، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك! كان أحد الصالحين يسير في بعض الطرقات، فرأى باباً قد فتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً أين يذهب؟ فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولم يجد من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام ودموعه على خديه، فخرجت أمه بعد حين فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت بنفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين ذهبت عني؟! من يؤويك سواي؟! ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني على عقوبتك بخلاف ما جبلني الله عليه من الرحمة بك والشفقة عليك؟! ثم أخذته ودخلت.
بل نتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أظلت امرأة من السبي ولداً لها، فلما رأته ألقت بنفسها عليه وأخذت تضمه إليها وتبكي، ثم قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقالوا: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).
فالله تبارك وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويرحب بالعائدين إليه، فمن تاب إليه تاب عليه.
فعلينا أن نستحضر هذا المعنى جيداً ونحن نستقبل هذا الشهر، ولا تصرفنا المعاصي والشهوات عن الطمع في رحمة الله تبارك وتعالى؛ فإن خزائنه لا تنفد.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن) ومعنى هذا أن يكون عندنا علو في الهمة، فإذا طلبت فلا تستعظم على الله شيئاً، بل اطلب ما شئت من الله، فإذا سألت الله فاسأل الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأعظم وأشرف مقام في الجنة.(9/25)
آيات الرجاء في القرآن
يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
اختلف العلماء في أي آية في القرآن أرجى، حتى يتعلق بها العصاة ويأملوا في رحمة ويطمعوا في كرم الله عز وجل.
ونشير إشارات سريعة إلى اختلاف العلماء في هذا الأمر.
قال بعض العلماء: إنها قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] فقالوا: حق لهذه الواو أن تكتب بماء العين؛ لأن الواو تشمل هؤلاء جميعاً، فهذه أرجى آية في القرآن.
ومنهم من قال: إن أرجى آية في القرآن قوله تبارك وتعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال: لأن هذه الآية نزلت في مسطح لما خاض في حديث الإفك، فمنع أبو بكر عنه النفقة، فدلت هذه الآية على أن معصيته بقذف أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها لم تحبط هجرته في سبيل الله، فقالوا: هذه -أيضاً- من آيات الرجاء.
ومن العلماء من قال: إن أرجى آية في القرآن هي آية الدين، وهي أطول آية في القرآن، وذلك لأن الله عز وجل أنزل فيها تلك الأحكام الجامعة العظيمة من أجل حفظ حق المسلم ورعاية مصلحته، فدل على أن عناية الله ورحمته بعبده في الآخرة أوسع وأعظم من هذا بكثير.
وقال بعضهم: أرجى آية قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام سيشفع فيمن يستحق الشفاعة ويرضيه ربه تبارك وتعالى برحمتهم وإخراجهم من النار.(9/26)
العزم الصادق على التوبة
يقول عزّ وجل في الحديث القدسي: (من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئاً)، وقال عز وجل: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
فالضمان الأكيد للتوبة الصادقة هي أن تستوفي الشروط الصحيحة، يقول الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب، فتجب التوبة من كل ذنب، ليس هذا فحسب، بل قال بعض العلماء: تسويف التوبة ذنب تجب التوبة منه.
إن من رحمة الله عليك أن سد عليك باب اليأس وقرنه بالكفر، يقول عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] فهو سبحانه يسد عليك باب اللجوء إلى غيره ويفتح لك باب التوبة، ويأمرك بتعجيل التوبة حتى يعجل رحمته إياك.
ويقول عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8].
ويقول عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].(9/27)
شروط التوبة
الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب فوراً بلا تأجيل، بحيث يكون الانكفاف عن المعصية لله ولوجه الله تبارك وتعالى؛ لأن بعض الناس قد يترك الذنب لعدم القدرة عليه، أو يتركه خوفاً من كلام الناس، أو خوفاً على سمعته وجاهه، أو حرصاً على وظيفة، أو يترك الذنوب بنية حفظ صحته وقوته، أو خشية من الأمراض لا لوجه الله، فهذه لا تسمى توبة ولا يثاب عليها، أو يتركها لأنه صار مفلساً، أو يترك -مثلاً- أخذ الرشوة لأنه يخشى أن يكون هذا الشخص الذي سيعطيه الرشوة من قسم مكافحة الكسب المحرم.
فهو لا يتركها لأنها حرام ولا يتركها لوجه الله، لكن يخشى أن يكون هذا مسلطاً عليه.
إذاً: فأول هذه الشروط الإقلاع عن الذنب فوراً خشية من الله تعالى لا لسبب آخر.
الشرط الثاني: الندم على ما فات، فلابد من أن يندم على ما مضى، أما أن يتذكر ما مضى من المعاصي بفرح وسرور وبدون أي شائبة من الندم فليست هذه توبة.
فالندم توبة، فالعاجز المتمني بالقول مثل الفاعل، كما جاء في الحديث في شأن الرجل الذي يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما يعمل فلان، فقال عليه الصلاة والسلام:: (فهما في الوزر سواء).
الشرط الثالث: العزم على عدم العودة، فيعزم عزماً أكيداً على أن لا يعود.
الشرط الرابع: إرجاع حقوق من ظلمهم، أو طلب الإبراء منهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون ثم دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات).
الشرط الخامس: أن تكون التوبة قبل حدوث الموت والغرغرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه) ومن ثم استحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة التوبة، فصح فيها الحديث: (ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم ويتطهر ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين -في بعض الروايات: لا يسهو فيهما، وفي رواية أخرى: لا يحدث فيهما نفسه، وفي لفظ آخر: يحسن فيهما الذكر والخشوع- ثم يستغفر الله إلا غفر الله له -وفي رواية: إلا وجبت له الجنة-، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]).
وهناك حديث -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يناسب المقام: (جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدعم على عصاً حتى قام بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة -يعني: لا صغيرة ولا كبيرة- إلا أتاها -وفي رواية: إلا اقتطعها بيمينه- لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم -يعني: لأهلكتهم- فهل لذلك من توبة؟ قال: هل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال: تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن.
فقال: وغدراتي وفجراتي! قال: نعم.
قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
فلم يزل يكبر حتى توارى) فرحاً بهذه البشرى منه صلى الله عليه وآله وسلم.
فلنبشر جميعاً بتوبة الله عز وجل إذا عزمنا على ذلك والتزمنا بشروط هذه التوبة، ولنهيئ أنفسنا ولنستغفر من الآن بكل ما أمكننا في كيفية استقبال هذا الشهر الكريم؟! وكيف نعمره بطاعة الله، وكيف نصل إلى مرحلة بحيث إذا انتهى رمضان وأخبرت أنك ستموت غداً، تقول: ما بقي شيء أستطيع أن أعمله، قد فعلت كل ما في وسعي.
ولنعلم أنه بعدما يخرج رمضان وينقضي يذهب كل التعب والنصب والسهر والعطش والجوع ويبقى الأجر، أما أصحاب اللهو فيذهب اللهو ويثبت عليهم الوزر، والعياذ بالله.
فالمقصود أنه ينبغي أن نذكر لهذا وأن نستعد له ونعد له العدة؛ حتى لا نفعل كما يفعل بعض الناس حين يندم على فوات الفرصة ويقول: إن شاء الله تعالى في السنة القادمة سيكون رمضان شهر طاعة وعبادة، وبالنسبة لي سأفعل كذا وكذا.
ويسوف.
نقول: الأماني هي بضاعة المفاليس والحمقى، لكن نحن الآن على وشك الدخول في شهر رمضان، وهب أن الأيام التي مضت كانت رمضان وكنت مقصراً فيها، فانو من الآن أنه إذا دخل رمضان بعد أيام قلائل فسوف تستعد له أتم الاستعداد.
اللهم! أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وبأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(9/28)
تحرير المرأة
إن المرأة المسلمة لها مكانتها في الإسلام، فحين جاء الإسلام رفعها من وحل الجاهلية إلى عز الكرامة والرفعة، فقد كانت توأد في الجاهلية، ولا تعطى ميراثاً، بل كانت تورث كبقية المتاع.
ولقد ابتليت المرأة في هذا الزمان بمن يسمون دعاة تحرير المرأة، يريدون أن يسلبوا كرامتها وينزلوها من مكانتها، وقد نتج عن هذه الدعوة فساد الأخلاق وغياب القيم وغير ذلك من المفاسد، ولهذا يجب على كل المسلمين الحذر من هذه الدعوة الهدامة المستوردة من الغرب أعداء الإسلام.(10/1)
احتفال دعاة تحرير المرأة بمرور مائة عام على تأسيس دعوتهم الهدامة
الحمد لله الذي جعل عز الكافرين بعز التوحيد والإسلام مطموساً، وأذل بقهره منهم أعناقاً ورءوساً، وصرف عن أهل طاعته بلطفه وإسعاده أذىً وبوساً، ورفع كيد شياطين الإنس والجن عن قلوب أهل الإيمان فأصبح عنها محبوساً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وعلى سائر التابعين مقصده، الصابرين من البلاء على أشده.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن هناك بعض مجموعة كتيبات لبعض الصحفيين بعنوان (سنة أولى سجن)، (سنة ثانية سجن) وهكذا، فحق لمحاضرتنا أن يعنون لها (سنة مائة تحرير)، أو بالأحرى (سنة مائة سجن)، أي: السنة المائة من استعباد المرأة وسجنها في هذه الدعوة المشئومة، وهذه هي المرة الأولى التي تحتفل فيها مصر أو أية دولة أخرى بمرور مائة سنة على صدور كتاب، ولم يحصل أن احتفل بمرور قرن على صدور كتاب، وهم يسمونه (الاحتفال بمرور مائة عام على تحرير المرأة) وهذا عنوان غير صحيح، إنما هو على صدور كتاب (تحرير المرأة)، فإذا كان عنوان المحاضرة (تحرير المرأة من البذر إلى الحصاد) فالمفروض أن نرجع قرنين إلى الوراء وليس فقط قرناً واحداً، وبالضبط إلى تاريخ (21/ 10/1798م) حيث كانت البذرة الأولى لتحرير المرأة كما سنبين إن شاء الله تعالى، فأقامت مصر جنازة حارة، أو بتعبير آخر: ذكرى حارة لصدور هذا الكتاب، وانضم عام (1899م) إلى قائمة الأعياد المقدسة في التقويم العلماني، وهو عام صدور كتاب قديس العلمانيين قاسم أمين فتنة الأجيال وداعية السفور في عهد الاحتلال، فهذه ذكرى مرور قرن كامل على بداية الطرح النظري لقضية تحرير المرأة في مصر وفي البلاد العربية، ولكن انتهت من الناحية العملية إلى كونها تغريباً للمرأة، حيث كانت هناك مطالب لإصلاح أوضاع المرأة في ذلك الوقت، لكنها لم تكن في تهور واندفاع قاسم أمين.
وفي الحقيقة لقد تكلم كل من أراد أن يتكلم، فليس من الصواب تجاهل هذه القضية، وليس الهدف من الكلام تصفية حسابات مع أناس قد أفضوا إلى ما قدموا فحسابهم على الله سبحانه وتعالى، وإنما الهدف هو تقويم آثارهم التي تركوها، على حد قول الله سبحانه وتعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، لا سيما تلك الآثار التي امتدت بحيويتها وتأثيرها إلى واقعنا المعاصر.
ومن الملاحظ واللافت للنظر أنه لم يكن من طقوس هذه الاحتفالية بمرور مائة عام على صدور هذا الكتاب ترتيل وإنشاد الكتاب المقدس لدى دعاة تحرير المرأة؛ لأنه ليس من مصلحتهم أن يتلى هذا الكتاب وأن يتعرف الناس على حقيقة محتوى كتاب تحرير المرأة؛ لأنه ربما لو تلي هذا الكتاب وأعلن للناس فلسوف يفضح مدى رجعية صاحب الجنازة، وسوف يوصف بأنه متطرف بالاصطلاح الحديث، وبأنه أصولي وبأنه رجعي، وذلك إذا قارنا محتوى كتاب (تحرير المرأة) بالتطور الكبير الذي لحق بالمذهب منذ تأسيسه، فـ قاسم أمين في محطته الأولى -أو بتعبير آخر: في المحطة الثانية له وهي كتاب (تحرير المرأة) - يعتبر من المتطرفين، حيث ينطبق عليه وصف التطرف؛ لأن قاسم أمين في كتاب (تحرير المرأة) جعل الكتاب كله يتمحور حول قضية أساسية، وهي كشف وجه المرأة مع احتفاظها بسائر ملامح الحجاب الإسلامي، فكل ما كان يدعو إليه هو كشف وجه المرأة، وكل المعركة التي قامت كانت من أجل أن يقنع الناس بأنه يجوز كشف وجه المرأة، وكان هذا الاعتقاد والتمسك بالحجاب الكامل للمرأة المسلمة بكل أبعاده وبكل معانيه ملمحاً رئيسياً في الهيئة الاجتماعية لمصر في ذلك الوقت، حتى كتب حافظ أمين معاتباً المصريين في شدة تمسكهم بالنقاب وبالحجاب الكامل للمرأة قائلاً: فلو خطرت في مصر حواء أمنا يلوح محياها لنا ونراقبه وفي يدها العذراء يسفر وجهها تصافح منا من ترى وتخاطبه وخلفها موسى وعيسى وأحمد وجيش من الأملاك ماجت مواكبه وقالوا لنا رفع النقاب محلل لقلنا صحيح ولكن نجانبه فلا شك أن هذا الشعر يعكس مدى شدة تمسك المصريين مع التجاوز عما يحتويه هذا الشعر من أمور فيها نظر، وقبل أن نستطرد في الموضوع فلو أراد أحد أن يحبط دعوة قاسم أمين وأن يثير ضدها أشنع دعاية وجهت لها على الإطلاق لما استطاع أن يحبط هذه الدعوة وأن يفضحها وأن يدمرها بمثل ما حصل في هذا المؤتمر الأخير الذي أقيم في ذكرى مرور مائة عام على تحرير المرأة.
وباختصار: إذا أردنا أن نختزل هذه الرحلة التي امتدت لمسافة قرن وكانت بدايتها البذرة أو البذور التي سنذكرها فإن نهايتها وحصادها الذي جوهر به علناً جهاراً نهاراً في هذا المؤتمر هو أسوأ دعاية لدعوة تحرير المرأة، وبلغ من قبح هذه الدعاية وشؤم هذا الحصاد أن الذين تولوا الرد على ما حصل في هذا المؤتمر أناس كثيرون لا علاقة لهم بالمتطرفين ولا بالأصوليين، بل هم أناس من عامة الناس، حتى من الصحفيات المتبرجات، فهذه واحدة من الصحفيات في صحيفة الأهرام كتبت تقول: إن المرأة لا تحتاج إلى قاسم أمين، ولكنها تحتاج الآن إلى من يعلمها أن الدين كله حياء وغير ذلك مما سوف نذكره.
وأحد هؤلاء الأساتذة -وهو أستاذ الأدب الانكليزي في جامعة القاهرة الدكتور محمد يحيى - يقول: إن الضجة التي نصبت لذكرى كتاب (تحرير المرأة) وتحويل هذا النص إلى عمل مقدس تخفي الحقيقة وتموه على تاريخ مؤلم وطويل من فرض خطاب علماني ومتغرب النزعة على الأمة بالقوة -يعني: لم يتم اختيار هذا المنحى بمحض الإرادة الحرة للمسلمين أو المسلمات- ليكون خطاب قمع وممارسة قهر ضد دينها وضد رجالها، ولكن ليس لصالح نسائها.
يعني أنه في الحقيقة ليست دعوة تحرير المرأة لصالح النساء؛ لأنهم يدأبون على تقسيم الناس إلى قسمين: من وافق أهواءهم فهذا صديق المرأة، ومن خالف أهواءهم فهذا عدو للمرأة أياً كان، فما دام يخالف دعواتهم فإنه عدو للمرأة، وكان هذا التقسيم فعلاً رائجاً في وقت من الأوقات، وكان يتم تمييز الرجال والأدباء والمفكرين هذا عدو وهذا صديق على أساس موقفه من هذه الدعوة المشئومة.
يقول: فالحقيقة أن هذا المذهب الذي فرض على الأمة المسلمة لم يكن لصالح نسائها على عكس ما يزعم له من أنه خطاب تحرير وخلاص وانعتاق، بل هو خطاب يزعم التحرير ويمارس القمع قولاً وممارسة، وهو خطاب يزعم تحقيق الخلاص، لكنه يحقق العبودية في الفكر وفي الممارسة وصولاً إلى العمالة الصريحة للقوى التي تنظم الاحتفال بالتحرير.
انتهى كلام الدكتور محمد يحيى.(10/2)
موضوع المرأة مرتبط بالعقيدة
وقبل أن نستطرد -أيضاً- نريد أن نبين وبمنتهى الصراحة والوضوح أننا من البداية عندما نناقش هذا الموضوع أنه لا ينفصل على الإطلاق من عقيدتنا وتمسكنا ورضانا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، فليست المسألة في موضوع المرأة مسألة قديم وجديد، وتطور وتخلف، بل القضية قضية إسلام وكفر، هدى وضلال، حق وباطل، وحي وهوى؛ فإنه لا يقابل الوحي إلا الهوى، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فالوحي يقابله الهوى، فهي إما هوى وإما وحي، أما أن نَّدعي الإسلام ونتستر وراء الإسلام ثم ننخر في جسد الإسلام ونحور ونغير مفاهيمه، فهذا غير مقبول؛ فإن كان لا يعجبك الإسلام فدعه وشأنه، ولك ما شئت، قال تعالى: {فمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، أمّا أن يدّعوا الإسلام ثم يحاولوا أن يسوغوا ضلالاتهم وانحرافتهم باسم الإسلام فهذا ما لا ينبغي أن يقبل أبداً.
وأيضاً عند تناول هذه القضية -كما قلنا- يجب أن نعلم أنها قضية لها ارتباط بعقيدتنا، ولابد من أن نعلم أن هذا القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الإسلام حق، وأن ديننا هو الإسلام، وأن ربنا هو الله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى أرحم بنا من أنفسنا، وأن الله يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وبناءً على كل هذه المسلمات نحن نقبل على الشرع بغاية الثقة في أنه يريد لنا الخير في الدنيا وفي الآخرة، وأننا ممتحنون في كل موقف وفي كل اعتقاد وفي كل تصرف، وممتحنون بموقفنا من هؤلاء: هل نواليهم في الله أو نبغضهم في الله، أم غير ذلك؟ ونرفض أيضاً النبرة الاعتذارية واللهجة التبريرية حين نناقش أمثال هذه القضايا، سواء قضية المرأة أو غيرها؛ فإن بعض المنهزمين يقبلون مبدأ أن الإسلام موضوع في داخل قفص الاتهام، وأنهم يقومون بالدفاع عنه دفاعاً هزيلاً ضعيفاً منهزماً، فهم يقرون أن الموضوع الفلاني كأنه تهمة، وأن الإسلام فعلاً أدخل القفص وأغلق عليه، وهم يدافعون كمحامين، ونحن لا نقبل هذا المبدأ على الإطلاق، هذا يمكن أن يصلح بين دين باطل ودين آخر باطل، وفي المذاهب الأرضية مع بعضها، أما بين الإسلام الحق الذي لا حق غيره في الوجود، والذي كل ما عداه كفر وبين غيره فلا، ولا نجعل هذا موازياً لذاك أو هذا سواسية مع ذاك، فهذا كمبدأ هو مبدأ مرفوض.
فالقضية هي أن أحكام الشرع نازلة من عند الله، ومن طعن فيها فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً له من الملة، ولا نقاش في هذه البديهية، فنبرة الاعتذار ونبرة (من أجل أن يقولوا عنا: إننا معتدلون.
ونحوز رضاهم، ونحوز كذا وكذا) غير مقبولة، ويجب أن يرفض مبدأ التنازل في مقابل أي شيء آخر، فلا مساومة ولا أنصاف حلول، ولكن ثقة في حكم الله سبحانه وتعالى وانقياد له؛ لأن هذا هو معنى الإسلام، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وأذكر هنا ما رواه الشعبي حينما قال: (لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان رضي الله عنه، فقال: ابسط يدك أبايعك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علامَ تبايعني؟ فقال أبو سنان: على ما في نفسك)، فهو لا يطلع على ما في نفس النبي عليه السلام، ولكنه الانقياد والاستسلام والإذعان لشرع الله سبحانه وتعالى مهما كان أمر الله، فما دام الأمر صادراً من الله فلا نقاش، وينتهي الخيار تماماً، وهذا هو شأن المؤمن، أما المنافقون والزنادقة فلهم شأن آخر.(10/3)
افتعال قضية المرأة وعدم وعي كثير من المسلمين
نحن في قضية المرأة نحارب في المعركة، وقد زُجَّ بنا في معركة لا تخصنا من بدايتها إلى نهايتها، فهي معركة لا علاقة لنا بها في الأصل؛ لأن الإسلام ما ظلم المرأة، وما استعبد المرأة حتى تطالب بتحرير الحجاب، وليس الرجل الذي يعتبر عدو المرأة هو الذي فرضه عليها، ولكن الذي فرضه عليها هو الله سبحانه وتعالى خالقها، فما أكثر ما حارب المسلمون في معارك لا تخصهم وزج بهم فيها وهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل! وقد رأينا من قبل مئات الآلاف من المسلمين يجندون في الجيش البريطاني من مسلمي الهند وبدو الجزيرة العربية والأردن وسوريا في أثناء ما يسمى بالثورة العربية للشريف حسين، فكان الآلاف من المسلمين مجندين تحت قيادة الإنكليز يحاربون إخوانهم المسلمين الأتراك بزعم الثورة العربية الكبرى، وكان يفتخر لورانس بأنه قتل الآلاف من العرب في سبيل بريطانيا في حين أنه لم تنزف قطرة دم واحدة من جندي انكليزي، وكان يفخر بأنه فعل هذا لوطنه؛ لأنه أراق دماء مئات الآلاف من العرب، ولم ترق قطرة دم واحدة من جندي إنكليزي في سبيل بريطانيا، ومع ذلك نحن نرى اليوم رجالاً ونساءً يحاربون في مدارس الفكر الغربي وهم في الحقيقة يحاربون دينهم دون وعي منهم.
وهذه المعركة المفتعلة ضد الرجل في قضية المرأة هي كما ضرب مثل أن رجلاً جاء في وسط الليل إلى أبرز شارع في العاصمة المزدحمة، ثم أتى بكم كبير من الأنقاض وفرغه في هذا الشارع أو في هذه الساحة، ثم صنع منه تلاً عالياً، ووضع على رأسه مصباحاً، فقال له الناس: لمَ أتيت بهذه الأنقاض؟ قال: لأرفع عليها المصباح، قيل له: لماذا تضع المصباح؟ قال: كي لا يصطدم الناس بالأنقاض! فالقضية أصلاً هي قضية مفتعلة، فإن المرأة ما عرفت ذلاً من الإسلام، وهناك انحرافات تقع في الواقع البشري في كل أمة وفي كل عصر وهي في الحقيقة ترجع إلى الانحراف عن الإسلام، وما سبب الإسلام أبداً أي مشكلة، ولا يمكن للإسلام أن يسبب ظلماً، ولا يمكن أن يصدق هؤلاء الدجالون العملاء الذين يزعمون أن الرجل عدو المرأة، فالرجل المسلم عدو أي مرأة؟ وأي امرأة هي التي يعاديها؟ هل هي أمه؟ أو أخته؟ أو بنته؟ أو زوجته؟ هذه هي المرأة بالنسبة لأي رجل، فلمَ يعاديها؟! وهل يؤتمن أحد على المرأة كما يؤتمن الأب الحاني أو الأخ الشفيق أو الزوج الرحيم أو الابن البار؟! وبعض الناس يمارسون موقفهم في هذه القضية ويتفاوتون، فبعضهم يمارس الفن المتلون الحربائي، ويراوغ ويلف ويدور ويقول لك: هذا هو روح الإسلام، ولا ينبغي أن نجمد عند النصوص، وإنما ننظر إلى روح هذه النصوص.
وعلم الله أنهم ما يريدون إلا إزهاق روح هذه النصوص، ويقولون: الإسلام دين السماحة، لكنكم أنتم بعقولكم الذين تشوهون جماله.
إلى آخر هذا الدجل الذي يروج على السذج.
وبعضهم يكونون في غاية الصراحة، وهذا هو الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين الصحفي المعروف، فإنه في يوم من الأيام كتب: لابد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيداً عن اللف والدوران، وإن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيماً خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير، وأما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل ومن باب تنظيم حياة نزلت في مجتمع بدائي إلى حد كبير، ومن ثمَّ فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا!! إنها صراحة يحسد عليها في الحقيقة.
وكذلك الرجل الذي جهر في جريدة الأهرام أثناء موضوع عباد الشيطان، حيث قال: بقدر ما أنا ضد الحجاب أنا ضد عبدة الشيطان! ونقول: بل أنت من عبدة الشيطان.
فهم يتصورون أن عبادة الشيطان تقتصر على ما يفعله هؤلاء الشباب من طقوس عبادة الشيطان والأشياء التي فعلوها، والحق أنك إما أن تعبد الرحمن وإما أن تعبد الشيطان، ولا يوجد حل وسط، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، فكل من عبد غير الله فقد عبد الشيطان، وكل من صد عن سبيل الله فقد عبد الشيطان.(10/4)
معنى الحرية والتحرير
وقبل أن نستطرد في الكلام في هذا الموضوع وذكر التاريخ من البذرة إلى الحصاد لابد لنا من وقفة مع كلمة (الحرية والتحرر)، فإنه يكثر الكلام في زماننا عن كلمة (الحرية والتحرير)، وكلمة التحرر هي الكلمة الرنانة والمحببة إلى النفس، ويدعي كثير من النظم والهيئات أنها تحقق الحرية، أي: حسب فهم كل لمبدأ الحرية.
والإنسان فقير بذاته يتطلع بفطرته إلى الخضوع والذل والعبودية لخالقه وفاطره الغني بذاته سبحانه وتعالى، فالعبد من حيث كونه عبداً لابد أن يشعر بحاجة إلى هذه العبودية، وفيه شعبة لا يمكن أن يسدها إلا الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والفقر وصف ذات لازم لي أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي فالإنسان السوي المستقيم على الفطرة لا يستقيم حاله ولا يطمئن قلبه إلا إذا أوى إلى مولاه، وطرح نفسه على عتبته، وأمعن في العبودية الخالصة له عز وجل دون سواه، والعبودية لله عز وجل هي أرقى مراتب الحرية؛ لأن العبد إذا تذلل إلى مولاه وحده فإنه يتحرر من كل سلطان، فلا يتوجه قلبه ولا يطأطئ رأسه إلا لخالق السماوات والأرض، ولابد للإنسان من العبودية؛ إذ لا يمكن أن يوجد إنسان ليس عبداً، بل لابد من عبودية، فإن وضع العبد العبودية موضعها بأن عبد الله سبحانه وتعالى فهذه أشرف العبودية، وهذه أرقى درجات الحرية على الإطلاق، فإن لم يضع العبودية موضعها فإنه حتماً يتلطخ بالعبودية لغير الله عز وجل من الأنداد والشياطين، والمسلم يتحرر بإسلامه من سيطرة الهوى والشهوة والسلطان، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
إذاًَ هذه حرية في صورة العبودية، ولا يمكن للبشرية أن تحرر حقاً إلا بتحقيق هذه العبودية، فإذا وضعت العبودية في موضعها تتحقق لك الحرية، وإلا كنت عبداً لعبيد مثلك، ونحن نعرف الشعار الذي رفعه الصحابة رضي الله تعالى عنهم حينما فتحوا البلاد، فلما سئل ربعي بن عامر من قبل قائد جيش الفرس حيث قال له: ما جاء بكم؟ قال: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
فهذا هو شعار هذه الدعوة وهذا الفتح (إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه وتعالى)، فالحرية في غير الإسلام تصبح جوفاء لا معنى لها، بل هي العبودية المذلة المهينة، حتى لو بدت في صورة الحرية، فالخضوع للطواغيت وللمناهج والقوانين التي بنيت على ما تهواه الأنفس بعيداً عن تشريع الخالق جل وعلا إنما هو عبودية لغير الله، كما يقول الشاعر: هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق الكفر والشيطان فإن لم تضع العبودية والرق في موضعه الصحيح -وهو العبودية لله- فلابد أن تبتلى برق الكفر والشيطان، فمفهوم العبودية لله في الإسلام هو الحرية في أرقى صورها وأكمل مراتبها.
والعبودية لله إذا كانت صادقة فإنها تعني التحرر من سلطان المخلوقين والتعبد لهم، فالمسلم ينظر إلى هذا الوجود نظرة صاحب السلطان، فإن الله خلق كل ما فيه من أجلنا وسخره لنا، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، وما دام الأمر كذلك فالمسلم لا يمكن أن يخضع لمخلوق من المخلوقات في هذا الكون، ولا يعبدها؛ لأنها مسخرة له.
إذاً فهي أقل منه شأناً، وهي مخلوقة لنفعه وصلاحه، والمسلم أيضاً لن يستعبده إنسان مثله؛ لأن الناس جميعاً عبيد الله، فإن حاول بعض المتمردين من بني الإنسان أن يطغى ويبغي وقف المسلم في وجهه يقول كلمة الحق ويذكره بأصله الذي منه خلق، ومصيره الذي لابد له منه، ويذكره بضعفه وعجزه عله يفيق أو يرجع، وبالعبودية لله يتحرر الإنسان من أهوائه، فالهوى شر وثن يعبد، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فالهوى قد يُجعل إلهاً معبوداً يسيطر على نفس صاحبه فلا يصدر إلا عن هواه، ولا يسعى إلا لتحقيق ما يبعثه إليه، فالإسلام يعتبر الخضوع لأهواء النفس التي تدعو إلى المحرمات والآثام عبودية لهذه الأمور.
أما الالتفات عما تدعو إليه النفس من المحرمات حتى لو كانت النفوس تميل إليها فإنه يمثل في الإسلام الحرية الحقة؛ لأنه وإن قيدت حريته من جهة بأن ألزم بترك بعض ما يشتهي إلا أنه تحرر من سلطان الهوى من جهة أخرى، وانظر إلى تحرر المسلم أثناء الصيام من عبوديته للشهوات، مع أنها حلال، لكن الله حرم عليه الماء، حتى الماء صار حراماً على الصائم، وكل ما أحل الله سبحانه وتعالى يدعه المسلم في نهار رمضان؛ لأنه تحرر من أن تستعبده هذه الشهوات.
فالذين يزعمون أنهم يستطيعون تحقيق مبدأ الحرية بعيداً عن الله سبحانه وتعالى وعن دينه مخطئون؛ لأن كل مخلوق سيبقى عبداً شاء أم أبى، إلا أنه إن رفض الخضوع لله اختياراً فسيخضع لمخلوق مثله لا يملك له نفعاً ولا ضراً، بل قد يخضع لمن هو أقل منه شأناً، فيكون استبدل عبودية بعبودية، ولم يخرج من العبودية إلى الحرية، بل خرج من عبودية الله إلى عبودية الطاغوت وثناً أو صنماً أو بشراً أو شمساً أو قمراً، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60]، فمما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى به جزاء تكذيبهم أن جعلهم عبيداً للطواغيت بعد أن كانوا عبيداً لله.
ويزعمون أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت الحرية وأن هيئة الأمم المتحدة أقرت الحرية مبدأً، وليس الأمر كذلك؛ فإن ما فعله هؤلاء هو أنهم أخرجوا الناس من عبودية نظام وقانون وطائفة إلى عبودية نظام آخر وقانون آخر وطائفة أخرى، فالذين خرجوا من الشيوعية خرجوا إلى عبودية من نوع آخر، ولم يخرجوا من عبودية إلى حرية، فهم بقوا عبيداً وإن ظنوا أنفسهم أحراراً، ولن يحررهم من سلطان البشر ويخلصهم من العبودية الظالمة إلا أن يكونوا عبيداً لله يقصدونه وحده، فعند ذلك يتحررون من سلطان الآخرين حتى من أهواء أنفسهم التي تتردد في أجسادهم، فأخرجوا الناس من ظلمات متراكمة إلى ظلمات أشد، ومن عبودية إلى عبودية، ولن يكون من مخلص من العبودية لغير الله إلا بالإسلام، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، فكل من لم يرض بالإسلام ديناً وبحكمه حكماً فإنه غارق في قاذورات الجاهلية وأوحالها، والذين يرفضون أن يكون الله معبودهم فإنهم يوهمون أنفسهم بتعبيدها لمخلوقات أقل منها شأناً وأحقر منزلة، وهم في ذلك يهينون هذه النفوس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
وبالنسبة لهؤلاء الذين أطلقوا هذه الكلمة (تحرير المرأة) ومنهم قاسم أمين فإنه كان يقصد بذلك الإشارة إلى أنه يرى المرأة في حالة استعباد، وأنه أتى ليحررها من هذا الرق وهذا الاستعباد، كما سنرى إن شاء الله تعالى.
ولو نظرنا في معنى مصطلح التحرير لرأينا أنه يترجم أحياناً إلى (ليبريشن) أو (إيمانسفيشن)، والاصطلاح الشائع في العالم كله بالنسبة لقضية تحرير المرأة هو اصطلاح: (إيما نسفيشن)، و (إيمانسفيشن) يساوي العتق، وليس التحرير، فالتحرير كلمة أعم، لكن الإيمانسفيشن هو المصطلح الذي يعبر عن تحرير المرأة بالعتق، فانعتاق المرأة أدق في تصوير المرأة المسلمة على أنها عبدة، وأنه مطلوب تحريرها بنفس المعنى الذي سوف نستنتجه من القصة التالية.
فقد كان بشر -المشهور بـ بشر الحافي - في زمن لهوه في داره وعنده رفقاؤه يشربون ويطربون، فاجتاز بهم رجل من الصالحين فدق الباب عند أن سمع أصوات اللهو والمعازف، فخرجت إليه جارية فقال لها: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فقالت: بل حر.
فقال: صدقتِ؛ لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب.
فاستمع بشر محاورتهما فسارع إلى الباب حافياً حاسراً -حافي القدمين حاسر الرأس- وقد ولى الرجل، فقال للجارية: ويحك! من كلمك على الباب؟ فأخبرته بما جرى، فقال: أي ناحية أخذ الرجل؟ فقالت: ناحية كذا.
فتبعه بشر حتى لحقه، فقال له: يا سيدي! أنت الذي وقفت بالباب وخاطبت الجارية؟ قال: نعم.
قال: أعد علي الكلام.
فأعاده عليه، فمرغ بشر خديه على الأرض فقال: بل عبد.
بل عبد، ثم هام على وجهه حافياً حاسراً، حتى عرف بالحفاء فصار لقبه: بشراًً الحافي، فقيل له: لمَ لا تلبس نعلاً؟ قال: لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ، فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات.
الشاهد من القصة قول الرجل للجارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ قالت: حر.
فقال: صدقتِ؛ لو كان عبداً لخاف من مولاه.
أو كما قال، يعني: لو كان محققاً معنى العبودية.
فهؤلاء يريدون أن نكون أحراراً بهذا المعنى الذي هو التحرر من شرع الله ومن أوامر الله عز وجل، والخروج من عبودية الله إلى عبودية كفار الشرق وكفار الغرب، فالحقيقة أن هذه العبودية هي مما يفخر به المسلم.
ففعلاً إنهم يريدون تحرير المرأة من عبوديتها لله، وهذه هي حقيقة دعوة قاسم أمين والشاذلي ومن استنوا بسنتهما، فنحن نفخر بأننا عبيد لله سبحانه وتعالى، كما يقول الشاعر: ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا والرسول صلى الله عليه وسلم أشرف صفة رفعت مقامه عند الله هي إمعانه في اتصافه بالعبودية، ولذلك فإن أعظم مديح تمدح به رسول الله عليه السلام أن تقول: عبد الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، ولما ج(10/5)
أهداف دعاة تحرير المرأة، وذكر بعض أقوالهم
سنسلك مسلك من يبدأ من الأخير، وبعد ذلك الذاكرة ترجع وتأتي من البذرة، فسنبدأ بالحصاد ونقول: إن الإنسان أول ما يقرأ ردود الأفعال بشأن المؤتمر الأخير هذا -مؤتمر مائة عام على تحرير المرأة العربية- فأول كلمة يقولها الإنسان: آمنت بأن الله سبحانه وتعالى حليم صبور فلولا حلم الله سبحانه وتعالى لاندكت الأرض من تحتنا؛ لأن الإلحاد والكفر قد وصل إلى هذا المدى، والله سبحانه وتعالى حليم يعطيهم فرصة ويمهلهم لعلهم يتوبون ولعلهم يستعتبون، وكم كانت الحياة سعيدة هادئة مريحة قبل هذه الحركة النسوية المشئومة! وهذا المؤتمر انعقد ما بين (23 - 28 أكتوبر) يعني لمدة ستة أيام، عقد خلالها أكثر من ستين ندوة ومائة مائدة ومائدة مستديرة وجلسات شهادة، وحين تقرأ كلامهم تحس أن المتكلم حاقد على الدين حاقد على الإسلام.
وقد أتت شاذات الآفاق من هؤلاء النسوة المنحلات، أتين من الشام ومن المغرب، ومن الشمال ومن الجنوب، أتين ليصفين حسابهن مع الإسلام ومع دين الله عز وجل! والحقيقة أنه تصدى لهن في المؤتمر ناس عاديون ليسوا متطرفين مثلنا، وبالعكس، فلقد قامت واحدة من الصحفيات وهي متبرجة تماماً في غاية التبرج فكتبت في الأهرام الأدبي تنتقد هذا المؤتمر؛ لأن الصاع اشتط والكيل طفح، إلى حد أن هؤلاء الذين لا يتهمون بالتطرف ولا بالأصولية ما أطاقوا هذا الفجور وهذا الانفجار.
وقد كان هناك مؤتمر حصل أيضاً في اليمن قريباً، وكان عن جندرة اللغة، وجندرة اللغة يبدو من السياق أنهم يريدون بها عملية تأنيث اللغة، ويتهمون اللغة العربية بأنها منحازة للرجال، ووصل الإلحاد بإحدى الملحدات الكافرات من اليمنيات الخبيثات إلى أنها -والعياذ بالله- قالت كلاماً شنيعاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنا في حكايته، لكن وصل إلى حد أنها تريد التعبير عن الله سبحانه وتعالى بغير لفظ (هو)! فرد عليها رئيس تحرير جريدة (عقيدتي) التابعة للحزب الوطني وغضب غضباً شديداً ووقف واعترض اعتراضاً شديداً، فهذا الإلحاد هو الحصاد! وقد كان الناس من زمن يكتبون ويقولون: سوف يحصل.
والعلماء لما تصدوا لـ قاسم أمين كانوا يقولون: سدوا الذرائع.
لأنهم أشفقوا من المستقبل، فكانت هذه الأمور متوقعة، أما الآن فنحن رأينا الحصاد ولمسناه بأيدينا.
وقد حاول أحد الصحفيين أن يحتج بالنصوص الشرعية، وأن يذكرهم بقول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، وبأحكام الحجاب وتطبيق الشريعة، فهاجمه الفنان التشكيلي عدلي رزق الله ووصفه بالجحش، وأنه جاهل؛ لأنه يستدل بآيات قرآنية! وقد هاجمت سلوى بكر تطبيق الشريعة في السعودية قائلة: إن محاولة إرهاب المواطنين -الحدود أصبحت إرهاباً- بقطع اليد عقاباً على السرقة وجلد الزاني والزانية هي أمور رجعية لم تعد صالحة لهذا العصر! وأتحدى أن يأتوا بعالم واحد على وجه الأرض لا يكفر من يقول هذا.
والكاتبة الكويتية ليلى العثمان كانت هناك تعليمات بعدم التدخين فلم تستطع أن تستحمل وهي على المنصة، فأشعلت أول سيجارة وتبعها الباقي على هذه السنة، وقد كانت تحاكم في الكويت بتهمة الفجور والخروج على الأدب، فقالت: إن من حق المرأة أن تكتب عما يتعلق بالفواحش والسياسة والدين كما يفعل الرجل تماماً! وهذا الدكتور جابر عصفور يقول: الحجاب مسألة ثانوية لا نشغل أنفسنا بها، ومن حق المرأة أن تختار ما تريد بدون ضغط عليها! وهذا الدكتور محمد حافظ ذياب يقول: الحجاب أنواع: هناك الحجاب السلفي، والحجاب التكفيري، والحجاب الإخواني، هذا الحجاب يتعامل مع الجسد باعتبار أنه خطيئة، ويقول: إنه حجاب واسع فضفاض داكن يلائم كل الأغراض السياسية والاجتماعية، وأحياناً يتم استخدامه لتخبئة السلاح! وأنا حقيقة أختزل الكلام ولا أذكره بالنص؛ لأنه يوجد كلام لا أقوى على النطق به؛ لأنه كلام إباحي إلى أقصى مدى! وقد طالبت حياة الحضري -وهذه حذفت كثيراً من كلامها- بإلغاء إذن الزوج لسفر المرأة أو عملها، وإلغاء حق التأديب، والمساواة في الإرث بين الذكر والأنثى، وبين الزوج والزوجة ونحو ذلك!(10/6)
المشكلة الحقيقية لدعاة وداعيات تحرير المرأة
أقول: فتش عن العقد في حياة محررات المرأة فستجد أن المشكلة بالنسبة لهنَّ أنهن أفلسن ولم يفلحن في الحصول على رجل، هي هذه كل مشكلاتهن في كل الأجيال، فهو عبارة عن ثأر مبيت نتيجة ظروف في الغالب.
وأنا أتكلم بتفصيل أكثر، وبالذات عن نوال السعداوي، فإنها بعثت من أمريكا -حيث تقيم الآن- رسالة للمؤتمر تقول فيها: مع تصاعد القوى السياسية الدينية في بلادنا اشتدت القيود على النساء.
أي أنها تتهم الحكومة هنا بأنها متواطئة مع التيارات الإسلامية لتقييد حرية المرأة، وأن هناك خطة بين الاثنين من أجل هذا الأمر.
وتقول: انتشرت ظاهرة التدين بين الرجال، وظاهرة الحجاب بين النساء، واشتدت عمليات التخويف من عذاب القبر والحرق بالجحيم وتعليق المرأة من شعرها يوم القيامة إن خالفت الله أو الأب أو الزوج! وهذا الدكتور شريف حتاتة يقول: إن الأصولية والعولمة والحداثة ضد تحرير المرأة؛ حيث إنها تتفق على أن المرأة جسد فقط دون عقل.
وهذه الدكتورة نجلاء القليوبي تعلق على مطالب المؤتمرات وتقول: إنهن يطالبن بنوع آخر من الاستعباد، نوع تافه وهزيل.
تعني: أنتم لا تريدون تحرير المرأة، بل أنتم تريدون استعباد المرأة ثم تقول: إن من أحلى ما سمعته من صديقة ارتدت الزي الإسلامي عندما سألتها: ما هو شعورك لما تحجبت؟ قالت: شعرت بالحرية.(10/7)
دور أعداء الإسلام في الدعوة إلى تحرير المرأة
أذكر بالمناسبة قصة أخت أمريكية فاضلة تدعى حالياً شريفة كارلو مشهورة جداً الآن في النشاط الإسلامي، هذه المرأة أصلاً كانت شابة صغيرة تدرس في أمريكا، وكانت متحمسة جداً لدعوة تحرير المرأة وحقوق المرأة، فالتقطها مجموعة من الناس، تقول عنهم: إنهم موظفون ولهم مناصب كبرى في الحكومة الأمريكية.
قالت: وبينهم عداوات شديدة جداً، ومختلفون على كل شيء إلا على شيء واحد فقط هو تدمير الإسلام والقضاء على الإسلام، فأتاها واحد من كبراء ووجهاء هذه المجموعة التي لها مناصب عالية في الحكومة الأمريكية وقال لها: نرى عندك كفاءة وهمة ونشاط وتحمس لقضية المرأة، وأنا أعدك إذا سلكتِ مسلكاً معيناً في الدراسة وتأهلت أعدك بمنصب في السفارة الأمريكية في القاهرة؛ لتذهبي بعدما تتأهلين لتعملي هناك وترتبطي بالداعيات إلى تحرير المرأة هناك وترفعي مطالب شأن المرأة إلى آخره.
فهذه الأخت اجتهدت جداً في الدراسة حتى إنها حصلت تحصيلاً عالياً جداً في اللغة العربية وفي التاريخ الإسلامي وفي الفقه وفي القرآن وفي الأحاديث، وعلموها كيف تلوي الأدلة -كما تقول هي- وكيف تدخل الشبهات على المسلمين، وكيف تقنعهم بأن الإسلام ظلم المرأة، إلى آخر هذه الأشياء المقررة.
وأثناء الدراسة بدأ الإسلام يغزو قلبها كما هو شأنه مع كثير ممن يحاولون قهره فيقهرهم، فبدأ الإسلام يغزو قلبها، أو بتعبيرها: باتت تهتز لما تعاملت مباشرة مع أحكام الإسلام وجمال الإسلام وشرائع الإسلام، فخافت على نفسها، فقالت: أنا هكذا سأفقد ديني، فأنا سأعالج الموضوع هذا بأن أذهب إلى متخصص في اللاهوت -قسيس- ويعلمني العقيدة ويثبت عقيدتي، فذهبت إلى دكتور في اللاهوت من جامعة هارفرد في أمريكا، وعنده دكتوراه في اللاهوت، ومتخصص في الدراسات النصرانية اللاهوتية، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الرجل ينتمي إلى فرقة معروفة، لكنها تكاد تكون مندثرة، وهي فرقة الموحدين من النصارى، وهؤلاء الموحدون لم يدخلوا في الإسلام، لكنهم مقتنعون تماماً بأن عيسى مجرد نبي، وأنه لم يصلب، وأنه لا يوجد ثالوث ولا شيء من الكلام هذا كله، لكنهم لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام، فوجدت أن له دراسات كثيرة جداً عملها في النصوص، وأنه فقد الثقة تماماً بالتراجم الموجودة للإنجيل والتوراة، فبحكم تخصصه في دراسة النصوص باللغة الأصل -وهي اللغة الآرامية، واللغة العبرية، واللغة اليونانية التي كان يترجم إليها الإنجيل وهذه الكتب- اطلع على نصوص فعلاً أثبتت التحريف القطعي في الكتب الموجودة عندهم والمترجمة.
تقول: ما أن انتهيت من المقرر الذي درسته معه حتى أزال من قلبي آخر بقايا العقيدة النصرانية.
أي أن الإسلام قضى في الأول عليها قليلاً وهو أجهز على كل ما عندها وغسل دماغها تماماً من أي ارتباط بهذه العقيدة، حينئذ بدأت تتصل بالمراكز الإسلامية في أمريكا، وتراسل بعض الإخوة هناك ويراسلوها، وتعاملوا معها، وفي يوم من الأيام اتصل بها أحد الإخوة من مدينة أخرى وقال لها: هذه الليلة سوف يحضر مجموعة من الإخوة المسلمين أرجو أن تقابليهم، وأظنهم حوالي عشرين أخاً ذهبوا إلى هنالك، وكان معهم عالم باكستاني متخصص جداً في هذا المجال وعلى علم كبير.
تقول: رأيت عنده علماً لم أره عند أحد، وظل يناقشها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وبعدما أجاب عن كل أسئلتها وانشرح صدرها تماماً قال لها: لماذا لا تدخلين في الإسلام؟ ففوجئت بالسؤال، وقالت: إني كثيراً ما جودلت وعلمت حتى شتمت، ولكن لم يقل لي أحد: ادخلي في الإسلام.
فتقول: صادفت هذه الكلمة وقت انفتاح قلبها للهداية، فشهدت الشهادتين في الحال، والآن اسمها: شريفة كارلو من أنشط الداعيات على مستوى العالم إلى الإسلام، ولها مقالات في الحجاب، وأنا أذكر لها مقالة باللغة الإنجليزية، ترجمت عنوان المقالة: بمجرد ما غطيت رأسي تفتح عقلي.
أي أنها رأت النور ورأت الهداية بمجرد أن تغطت، لكن هؤلاء الدجالين يقولون: إن الحجاب حجاب على العقل، وإن الإسلام ينظر إلى المرأة على أنها جسد فقط إلى آخر هذه الترهات.
ولها مقالات كثيرة، والعجيب أني رأيت لها مقالات تتكلم فيها على أنواع التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، ومقالة أخرى في الشرك وكيف ظهر في العالم، وتتكلم على قصة طروء الشرك في عهد نوح عليه السلام، وأن سببه الغلو في الصالحين، وتنقل نقولاً باللغة الإنكليزية، وتقول: شيخ الإسلام ابن تيمية قال كذا وكذا؛ لأنها تضلعت من العلوم في أثناء فترة دراستها، فإنها تضلعت من هذه العلوم حتى تطعن في الإسلام في الصميم، والحقيقة أن هذا أنموذج من النماذج التي تبين كيف أن الله سبحانه وتعالى يفتح لهذا الدين قلوب الناس.
وكما قلت: كتبت صحفية في الأهرام -وهي متبرجة تماماً- تستنكر قلة حياء المحاضرات، وتقول: على المرأة بعد مائة عام تحرير أن لا تطالب بـ قاسم أمين جديد، إنما بمن يعلمها الدين الذي كله حياء.
وقد تفوهت كثيرات بعبارات تخدش الحياء، وبكلام قبيح للغاية، حتى قال سامح كريم في صحيفة الأهرام: هل كان الفيلسوف الألماني شوفن هاور على حق حين قال: إن الرجل أكثر حياء من المرأة؟ فبلا شك أن الرجل أكثر حياءً من أمثال هؤلاء النسوة.
وكالعادة ليس من الممكن أن يفوتهن أنهن يشددن ثياب بعض وشعور بعض، وقد تشاجرن على المنصة وصرخن، حتى صرخت إحداهن في الجلسة الأولى بأعلى صوتها قائلة: نحن نريد قاسم أمين جديداً يحرر المرأة من المرأة! فالحقيقة أن المجتمع قفز من مرحلة كان الناس فيه يذمون المرأة ويقولون عنها: هذه وجهها مكشوف.
وكانوا حينما يريدون أن يذموا امرأة بأنها ما عندها حياء يقولون: هذه وجهها مكشوف، كان في أيام البذرة، والحصاد الآن وصل إلى مرحلة تفكك لا يستطيع أحد أن ينكرها، بل وصل الأمر إلى حد أنه في إحدى الدول العربية قامت طالبات كلية الشريعة بالسباحة لابسات أقبح ما يمكن من أزياء السباحة، فهللوا لذلك وقالوا: هذه بداية مرحلة التنوير، وهذه بداية التغلب على الأصولية في هذه البلاد، وهؤلاء السابحات هن طليعة التنوير الإسلامي ورسولات الإسلام المستنير في هذه البلد! فهذا هو الحصاد، وهذه إشارة هذا الحصاد الذي رأيناه في مؤتمر (القاهرة) ثم في مؤتمر (بكين) الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تحطيم الأسرة تماماً، والقضاء على الأسرة، وإيجاد تعريف جديد للأسرة.
ومن هذا الحصاد ما نعانيه الآن من القنوات الفضائية ذوات القصف الإعلامي المركز.
وهكذا انتشار المجلات النسائية التافهة، فإذا أردنا أن نفتح كشف حساب ختامي لوضع المرأة في نهاية القرن الذي مضى فلا شك أن العاقبة في غاية المرارة، وأنه مما يغنينا عن إكثار الكلام في هذا الموضوع عن هذا المؤتمر وما حصل فيه؛ فإنه لا يمكن أن يفضح أحد دعوة قاسم أمين بمثل ما فعل هؤلاء الملحدات، حيث وقفت واحدة منهم تقول: أنا ملحدة، وأصر على أني ملحدة، وأرفض أن يصفني أحد بأني مسلمة! وبالنسبة لهذا الشر ليس جديداً علينا؛ لأننا الآن في عصر الغربة الثانية، كما قال النبي عليه السلام: (وسيعود غريباً كما بدأ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم.
قلنا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، يعني: مَنْ غير اليهود والنصارى؟ فكل الشر يأتينا من أوروبا، ويأتينا من الكفار، ومن الشر الذي أتانا هذه الدعوة المشئومة، كما ورد إلينا منهم كثير من الشرور الأخرى.(10/8)
الجذور الأوروبية لتحرير المرأة
هذه مقدمة بسيطة تتعلق بجذور تحرير المرأة في الغرب: الجذور الثقافة الأوروبية أساساً ترجع إلى التراث اليوناني والروماني الوثني، وأصول الحضارة الغربية ترجع إلى التراث اليوناني والروماني الوثني، وفي الحقيقة هي تنبذ الدين وتنبذ التوراة والإنجيل.
ومعلوم أن في هذا التراث أنَّ أفلاطون في دولته الخيالية التي افترضها جعل النساء متاعاً في طبقة الجنود، على أساس هذا التراث بنيت علاقات الرجال بالنساء، ولا شك أن هذا يصطدم تماماً مع الإسلام الذي يحرص على الستر وعلى العفاف، وقد تكلمنا من قبل مراراً على المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والتي منها صيانة العرض، وصيانة الشرف، وفي الإسلام العرض له قيمة عظمى جداً، وهكذا الشرف.
أما اللغات الأوروبية فكلها تخلو من كلمة (العرض)، فلا تعرف كلمة (العرض) فضلاً عن المعاني الحقيقية لهذه الكلمة، فأصلاً الشرف والعرض والصيانة هذا مما لا قيمة له عندهم، والإسلام لأنه يعطيه قدراً عظيماً جداً وضع الاحتياطات الكفيلة بعدم المساس بهذه الأمور المصونة أو اختراق حجب الستر والعفاف، فعندهم حينما يحصل التحلل والاختلاط ونحوهما لا يخسرون شيئاً في تصورهم؛ لأنهم لن يصطدموا مع عقيدة، أما نحن فهذا يصطدم مع عقيدتنا، ولا يمكن لإنسان أن يكون مخلصاً وملتزماً بدعوة قاسم أمين إلا إذا خرج من الإسلام، فكما رأينا وصلوا إلى حد أنهم يقولون: تحرير المرأة هو المساواة بين الرجل والمرأة.
أي: المساواة بينهما في الميراث وفي كل شيء.
وهذا خروج من الملة، ويقولون غير ذلك من الكفريات التي وصلوا إليها.
فأصل دعوة تحرير المرأة هو انعكاس لدعوة مماثلة شاعت في الغرب في القرن التاسع عشر، وهي أحد فروع التوجه العلماني الليبرالي الذي كان عدواً للنصرانية، فالنصرانية لها تصور عجيب جداً عن المرأة في فترة شباب النبي عليه الصلاة والسلام، حيث إنه في نفس الوقت عقد في فرنسا مؤتمر يناقش: هل المرأة لها نفس أم أنها حيوان وليس له نفس؟! واتفقوا في النهاية على أن لها نفساً، لكن لا ترقى إلى روح الرجل.
فقد كانوا في غاية التخلف بالنسبة لموضوع المرأة، وتحرير المرأة نشأ في الغرب كرد فعل من موقف النصرانية واليهودية من المرأة.
وهؤلاء استوردوا موضوع تحرير المرأة من الغرب، والغرب تبنى فكرة تحرير المرأة مضادة للكنيسة ومضادة للنصرانية، فعندما تستورد فلابد أن يحصل تغيير، فأصبح العدو هو الإسلام! إنه تعميم ظالم، كما حصل في قضية العلمانية، فأصبح العدو الذي يجب تحرير المرأة منه هو الإسلام، أو بالتعبير المموه: (العدو هو التفسيرات الخاطئة للإسلام) من أجل أن يهذبوها ويستطيعوا خداع الناس بها، وهذا التعبير المألوف والمطروح هو على سبيل التقية، مثل تقية الشيعة، فيدّعون أن الذي يدعون إليه هو سماحة الإسلام ويسر الإسلام، وأنه الإسلام الصحيح.
وهذا الإسلام الصحيح يشترط أن العلمانيين وحدهم هم الذين أوتوا مفاتحه ولا يستطيع أحد أبداً أن يصل إلى الإسلام الصحيح إلا هؤلاء العلمانيون، وهؤلاء المتحررة، أما العلماء والفقهاء والمتخصصون فلا يتكلمون باسم الإسلام؛ لأنهم رجعيون! فالحقيقة أن الاشتباك مع الإسلام لم يكن؛ لأن الإسلام يعادي المرأة أو يقمع المرأة، ولكن لأن النبع الأم الذي استوردت منه هذه الفكرة كان يعادي دين النصرانية، فلابد أيضاً أن يعادي في بلادنا الدين الذي هو دين الإسلام.
وهذه الدول الأوروبية التي احتلت معظم بلاد المسلمين سعت منذ اللحظة الأولى لإحلال نظام العلاقات الأوروبية بين الرجال والنساء محل العفاف والستر الإسلاميين، وعلى هذا كان موضوع تحرير المرأة وإحلال النظم الأوروبية -أو بتعبير أدق: الفوضى الأوروبية- في علاقات الرجال بالنساء محل العفاف والستر والصيانة الذي تتميز بها المرأة المسلمة، وكان هذا الإحلال يمثل ركيزة أساسية في مشروعهم للقضاء على هوية الشعوب المسلمة واستقلالها الاعتقادي والتشريعي والأخلاقي.(10/9)
البذور الأولى لتحرير المرأة العربية
كان المجتمع المصري قبل مقدم نابليون ملتزماً بالإسلام وأخلاقياته، وكان كل من خرج على هذه الأخلاقيات يلقى العقاب والردع، وكان الحجاب على رءوس النساء جميعاً حتى النصرانيات واليهوديات المصريات، ولم تظهر امرأة سافرة إلا زوجات القناصل الأوروبية في مناخ الاحتلال، وكان يحصل انتشار النساء الفرنسيات في شوارع القاهرة؛ لأن الحملة كان معها كمٌّ كبير من العلماء والباحثين؛ لأنها كان لها هدف خبيث جداً، وكان معهم مطبعة، وكان معهم أيضاً حوالي ثلاثمائة امرأة، وهؤلاء النسوة هن بذرة الفساد في مصر؛ لأنهن بدأن ينتشرن في الشوارع ويفسدن المجتمع بصورة فاحشة جداً، في تبذل وتبرج وفساد، وبدأت بعض النسوة غير المسلمات يحاكين أولاء النسوة، ولم يمر حوالي أربعة عشر شهراً حتى انقلبت الأوضاع رأساً على عقب.
ومن الأمور التي ينبغي أن نلتفت إليها أنّ أول مواجهة حصلت حين ثار المسلمون في مصر ضد هذا الوضع، فقد كانت ثورة القاهرة الأولى في (21 أكتوبر 1798م) أي: منذ حوالي قرنين من الزمان، وكان السبب في ثورة القاهرة الأولى أساساً هو هذه الإباحية التي انتشرت وأرادت أن تحل محل العفاف.
ومعروف أن ثورة القاهرة الأولى قادها أئمة المسلمين وعلماؤهم وطلبة الأزهر، وأحبطت الثورة بعد أن أطلقت المدفعية الحديثة على الأزهر والمساجد المختلفة، ودخلوا الأزهر وحولوه إلى إسطبل للخيول، وكل هذه القصص الوحشية التي فعلها الفرنسيون معنا معروفة، ومع ذلك يأتي الخونة ليحتفلوا بذكرى احتلال مصر على يد نابليون بونابرت، ويذكرونا بكلام طه حسين لما كان يستنكر على المسلمين المغاربة كيف يقاومون الاحتلال الفرنسي، ويقول لفرنسا: اصبري؛ فهذا عناء وثمن لابد أن تدفعيه في سبيل فرض الحضارة على هذه الشعوب المتوحشة! واندلعت ثورة القاهرة الأولى كرد فعل ضد الانحلال الذي كان يمارسه الفرنسيون، وهذا حقيقة هو فعلاً بدء البذرة الأولى لتحرير المرأة.
وهذه البذرة الأولى التي وجدت في مصر جاءت مع الحملات الغربية بقيادة نابليون بونابرت، وحصلت ثورة القاهرة الأولى، ثم بعد خمسة أشهر تقريباً وستة أيام حصلت ثورة القاهرة الثانية وكليبر لم يجد بداً من قصف المدينة بالمدافع وتجويعها حتى تسلِّم.
وفي الحقيقة هم يقولون: مرور مائة سنة على تحرير المرأة العربية، وهذا تعبير غير صحيح، فليست مائة سنة، بل هي مائتان، إلا إذا كانوا يقصدون صدور كتاب، أما البذرة الأولى فكانت نتيجة هذا الاحتكاك بالفرنسيين في الحملة الفرنسية، وهذا الكلام هو الذي قاله لويس عوض كما سنبين إن شاء الله، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن كلمة (المرأة العربية) كلمة غير صحيحة، فلم يكن المسلمون حينذاك يعرفون مصطلح (المرأة العربية)، وما عرفوا إلا المرأة المسلمة فقط، وقاسم أمين ما كان موجهاً دعوته إلى المرأة العربية ولا المرأة النصرانية ولا المرأة اليهودية، إلى المرأة المسلمة.
ولويس عوض كتب يقول: إن تحرير المرأة بدأ (1800م) وأن الحملة الفرنسية كانت نقطة الانطلاق إلى تحرير المرأة من كل قيد بما فيه قيد الدين والخلق والحياء.
وعام (1800م) هو عام هزيمة ثورة القاهرة الثانية حينما سبى جنود الاحتلال الفرنسي نساء مصر وبناتها وغلمانها! هذا هو عام تحرير المرأة المصرية في زعم لويس عوض.
والجبرتي وصف بدايات حركة السفور، ووصف بداية حركة تحرير المرأة ووصف ما أصاب بعض نساء القاهرة من الانحلال نتيجة مخالطة المصريين للفرنسيين ومحاكاتهم في الزي وفي السلوك، والجبرتي يتكلم عن الأسافل من النسوة، وهو يسميها (ثورة نساء) أو (ثورة حريم) يعني أنهمن كن يقعن في الفاحشة والبغاء نتيجة الاختلاط بالجنود الفرنسيين، وبدأ ذلك ينتشر في المجتمع.
فـ لويس عوض وهو تلميذ المدرسة الاستعمارية يصر على أن هذه كانت ظاهرة عامة ليست في الأسافل، كما يقول الجبرتي: إن الأسافل من الجواري والسفل من النساء هن اللائي كن يفعلن ذلك.
فهو يرى أن هذه ثورة تحررية، ويجعل من انحطاط المرأة إلى حد التكسب بالفاحشة ثورة نساء وبداية تحرر المرأة، فـ لويس عوض يؤرخ بداية تحرير المرأة بثورة القاهرة الثانية؛ لأن الدليل عليها ما قاله الجبرتي -وهو كلام شديد-: أما الجواري فذهبن إليهم أفواجاً وفرادى وأزواجاً، فنططن الحيطان، وتسلقن إليهم من السيقان، ودلوهن على كذا وكذا إلى آخره.
فيحكي أيضاً ما كان يحصل من الفواحش والتبرج والاختلاط بالفرنسيين ومصاحبتهم في المراكب والرقص والغناء والشرب في النهار والليل بالفوانيس والشموع الموقدة إلى آخره.
هذه هي بداية تحرير المرأة، ثم يأتون إلى الإسلام ويقولون: الإسلام ينظر إلى المرأة على أنها كذا وكذا.
فمن الذي يعامل المرأة على أنها سلعة؟! فالإسلام هو الذي كرمها، ومع هذا يأتي هذا الخبيث ويرى أن بداية تحرير المرأة هو هذا الفجور والفساد والتفسخ الذي حصل من سفلة النساء في مصر، وادعى أيضاً أن طبقات النساء اللواتي حاكين المتبرجات والعادات الفرنسية قد طرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار، واتسعت هذه الدعوة بتأثير سبايا الفرنسيين المتحررات من بنات بولاق.
فرائدات تحرير المرأة في نظره هن هؤلاء السبايا المتحررات؛ لأنهن كنَّ يمارسن البغاء وهذه الأشياء، فانظر إلى العجب! وكيف لا تتعارض عنده (سبايا) مع (متحررات)؟! لأن الحرية التي يقصدها هنا هي الحرية الشهوانية بمعناها السوقي المبتذل، فيمكن في نظره أن تكون المرأة جارية سبية وفي نفس الوقت متحررة، بل طليعة ثورة تحررية؛ لأنها تتبرج في ثيابها وتخرج سافرة الوجه متأبطة ذراع محررها ومالكها في نفس الوقت، وأيضاً مع فصل كامل بين حرية المرأة المملوكة وحرية هذا الوطن الأسير! هذا هو ما يتعلق بموضوع البذرة الأولى لتحرير المرأة، وهو ثورة القاهرة الثانية التي قام بها المسلمون المجاهدون من علماء الأزهر ومن طلاب الأزهر ومن الطبقة الفقيرة من المجتمع المصري، قامت هذه الثورة ضد الحملة الفرنسية من أجل التصدي لهذا التفسخ وهذا الانحلال الذي يعتبرونه بداية تحرير المرأة.(10/10)
مفهوم الحجاب الشرعي
وبالنسبة لقضية الحجاب فإن كلمة الحجاب في العرف الذي استعمله قاسم أمين لم يقتصر المقصود به على ما نفهمه الآن، فالحجاب كانوا يفهمونه بالوضع الصحيح، أي أن كلمة (الحجاب) عبارة عن عنوان لمجموعة من الأحكام الشرعية التي تنظم وضعية المرأة في المجتمع الإسلامي، سواء فيما يتعلق بالثياب أو فيما يتعلق بالقرار في البيوت أو غير ذلك من الفروع في هذه القضايا.
فالحجاب ليس المقصود به موضوع ملابس المرأة فقط، ولكن الحجاب بمعناه الأوسع -وهو المعنى الصحيح الذي كان يدركه قاسم أمين هو قرار المرأة في البيت وعدم مخالطتها للرجال، وعند خروجها أيضاً تلتزم بالحجاب الشرعي الكامل، هذا فيما يتعلق بهذا التعريف؛ لأننا سوف نحتاج إليه.(10/11)
نمو حركة تحرير المرأة في مصر
وبالنسبة لبدايات الحركة -كما قلنا- كانت البذرة الأولى هي أول اصطدام وأول احتكاك حصل بين المصريين وأوروبا في خلال الحملة الفرنسية، ثم خففت هذه الدعوات، وبعد ذلك أصبحت البذرة تنمو أكثر وأكثر حينما بعث محمد علي باشا والي مصر المبعوثين إلى فرنسا ليتلقوا الخبرات والمهارات الفنية، وأخرج معهم شيخاً أزهرياً من أجل أن يحافظ عليهم هناك، ويصلي بهم، وهو المشرف الديني عليهم، وهو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، فأقام في باريس خمس سنوات، وما إن عاد إلى مصر حتى بدأ هو يبذر بذور كثير من الدعوات الدخيلة على البيئة المصرية.
فـ رفاعة الطهطاوي هو أول من دعا إلى فكرة الوطنية القومية بمعناها المادي المحدود، فإن المسلمين قبل ذلك ما كانوا يعرفون إلا الرابطة الإسلامية، ولم يعرفوا قومية عربية ولا شعوبية ولا فرعونية، فأول من استورد فكرة الوطنية بمعناها الوثني المحدود وهو التمسك بقطعة معينة من الأرض وغير ذلك من المفاهيم المعروفة عن الوطنية والقومية هو رفاعة الطهطاوي، استوردها من فرنسا حينما رجع من واقع الحياة الفرنسية، وكذلك أخذ طبعة من فرنسا في قضايا جريئة جداً مثل موضوع الكلام على موضوع الطلاق واختلاط الجنسين، وقال: إن السفور والاختلاط ليس داعياً إلى الفساد.
وطالب بأن نقتدي بالفرنسيين في إنشاء المسارح والمراقص، وقال: إن الرقص على الطريقة الأوروبية ليس من الفسق في شيء، بل هو عياقة وسلبنة.
يعني: أناقة وفتوة.
وكان يحرض عليها.
فأول من أثار قضية تحرير المرأة هو رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر الميلادي، وسن بذلك أسوأ السنن، حتى إنه حاول أن يضع هذه الأفكار النظرية موضع التنفيذ، وحصلت مقاومة لهذا الأمر.
والمحطة الثانية حصلت بعد ذلك في القرن التاسع عشر، فالقذيفة التي تليها كانت لقس مصري يدعى مورقس فهمي عام (1894م) بعد الاحتلال الإنكليزي بحوالي اثنتي عشرة سنة، فظهر أول كتاب في مصر أصدره هذا الرجل مورقس فهمي، وهو من أصدقاء كرومر، أظهره محتمياً بالنفوذ البريطاني، وكتابه هو (المرأة في الشرق)، دعا فيه صراحة -وللمرة الأولى في تاريخ المرأة المصرية- إلى تحقيق أهداف خمسة: أول هذه الأهداف: القضاء على الحجاب الإسلامي.
ثانياً: إباحة اختلاط المرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثاً: تقييد الطلاق وإيجاب وقوعه أمام القاضي.
رابعاً: إباحة الزواج بين المسلمات والأقباط.
خامساً: منع الزواج بأكثر من واحدة.
وأصلاً هو نصراني، فلماذا يخاطب المسلمين ويطالبهم أن يتخلوا عن دينهم؟! وما له ولموضوع التعد؟ وهذا الكتاب أحدث ضجة عنيفة، ولم يفق المسلمون من الصدمة التي أحدثها هذا الكتاب حتى ظهر كتاب آخر لفرنسي يدعى الدوق داركير حيث ألف كتاباً اسمه (المصريون)، حمل فيه على نساء مصر، وهاجم المصريين، وتعدى على الإسلام، ونال من الحجاب الإسلامي، وهاجم المثقفين المصريين لأنهم يسكتون على هذه الأوضاع ولا يريدون أن يتمردوا عليها.
ولجأ بعد ذلك الاستعمار الإنكليزي إلى الأميرة نضلي فاضل، وهي أم الملك فاروق، وطلب منها أن تساند مورقس فهمي من خلال صالونها الذي كانت تقابل فيه الرجال.(10/12)
ترجمة قاسم أمين وكتابه تحرير المرأة
قبل أن نذكر الدور الذي فعله قاسم أمين في هذه المرحلة نشير إلى أن قاسم أمين -للأسف الشديد- إسكندراني، ولد في (1 ديسمبر 1863) في الإسكندرية، والتحق بمدرسة رأس التين الابتدائية بالإسنكدرية، وكانت تقع بحي رأس التين، وقيل: إن أباه من أصل كردي.
وقيل: إن الأصل للأسرة تركي.
سافر إلى فرنسا ليتم تعليمه هناك، وتأثر جداً بالإقامة في فرنسا، حتى إنه صرح بأن أكبر الأسباب في انحطاط الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة والتمثيل والتصوير والموسيقى، فبعدما كان الناس يقولون: مصر أم الدنيا.
أصبح في باريس يقول: مصر خادمة الدنيا يعني أنها تستحق أن تسمى خادمة الدنيا، وتعرف على صديقة فرنسية تدعى سلافا، فكانت تصحبه إلى المجتمعات الفرنسية، وتقرأ معه في كثير من الكتب.
وكان هناك حركة نسائية في ذلك الوقت تأثر بها قاسم أمين، ومن هنا بدأ يضطرب قاسم أمين، وكانت أول خطوات قاسم أمين -وهي المحطة الأولى- أنه تألم من كتاب داركير عن المصريين، فألف رداً باللغة الفرنسية في نبرة دفاعية تبريرية ضد هذا الكتاب، فكان فيه نوع من الاستخزال؛ حيث كان يخاطب هذا الرجل الفرنسي ويدافع عن الإسلام، فيقول له: إن الإسلام دين خلقي لا يقل عن المجوسية ولا عن المسيحية، وإن روح القرآن لا تختلف عن الروح الإنجيلية! يقول: ولهذا كان أمام مصر طريقان: العودة إلى تقاليد الإسلام، أو محاكاة أوروبا، وقد اختارت الطريق الثاني، إنها قد خطت اليوم بعيداً في هذا الطريق حتى ليصعب عليها الارتداد عنه، إن مصر تتحول إلى بلد أوروبي بطريقة تثير الدهشة، وقد أخذت إدارتها وأبنيتها وآثارها وشوارعها وعاداتها ولغتها وأدبها وذوقها وغذاءها وثيابها تتسم كلها بطابع أوروبي، لقد اعتاد المصريون قضاء الصيف في أوروبا كما اعتاد الأوروبيون قضاء الشتاء في مصر، فلعل أوروبا تقدر لمصر مسيرتها، ولعلها ترد لها يوماً بعض هذا الود الكبير الذي تكنه لها مصر! وقاسم أمين في أثناء الكتاب انتقد بعض النساء اللائي يخالطن الرجال ويبرزن أمام الرجال، فاصطدم في هذه الحالة بالأميرة نضلي فاضل؛ لأنه لم يكن في هذا الوقت من يتشبه بالنساء الأوروبيات ويخالط الرجال غيرها في صالونها الذي اتخذت منه مركزاً للتغريب، وإلى دعوة تحرير المرأة بصفة خاصة، وكان من رواد هذا الصالون سعد زغلول والشيخ محمد عبده وغيرهم.
فغضبت جداً من كلام قاسم وقالت قولاً شديداً بعد أن تهددت وتوعدت، وأمرت جريدة المقطم الناطقة بلسان الإنكليز أن ترد على قاسم أمين وتفند أخطاءه، لكن اقتنع قاسم أمين بضرورة تصحيح خطئه، واتفق معه سعد زغلول ومحمد عبده على أن ينشر كتاباً يصحح فيه خطأه، ويؤيد فيه الدوق داركير، ويواصل مناصرته لكتاب (المرأة في الشرق) لـ مورقس فهمي.
فهذه هي الظروف التي ولد فيها كتاب قاسم أمين (تحرير المرأة)، وكان الذي توسط بين الأميرة وبين قاسم أمين هو -للأسف الشديد- الشيخ محمد عبده! فتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى الأميرة وقبلت اعتذاره، وظل يتردد على صالونها، ووضع كتابه الأول الذي هو (تحرير المرأة)، وفي هذا الكتاب ألغى الأفكار الدفاعية التي دافع فيها عن الإسلام في كتابه (المصريون) واتجه منحىً آخر، فيقول مثلاً: فالتركي نظيف صادق شجاع، والمصري على ضد ذلك، إلا أنك تراهما رغماً عن هذا الاختلاف متفقين في الجهل والكسل والانحطاط، إذاً لابد أن يكون بينهما أمر جامع وعلة مشتركة هي السبب الذي أوقعهما معاً في حالة واحدة، ولما لم يكن هناك أمر يشمل المسلمين جميعاً إلا الدين ذهب جمهور الأوروبيين وتبعهم قسم عظيم من نخبة المسلمين إلى أن الدين هو السبب الوحيد في انحطاط المسلمين وتأخرهم عن غيرهم! وقد تناول في كتابه مسألة الحجاب، واشتغال المرأة بالشئون العامة، وتعدد الزوجات، والطلاق، وفي كل هذه المسائل يأخذ بما يذهب إليه الغربيون! وهو في المرحلة الأولى كانت النبرة عنده هادئة في قضية الحجاب، وجعل كل المعركة منصبة حول حكم كشف الوجه، وأنه يجوز للمرأة أن تكشف وجهها، فكان يقول في هذا الكتاب: الحجاب أصل من أصول الأدب يلزم التمسك به، ولكني أطالب بأن يكون منطبقاً على الشريعة الإسلامية.
ثم قال: إن الشريعة ليس فيها نص يوجب الحجاب على الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضت لهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها، وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين، والدين منها براء.
وظل يتكلم كلاماً فقهياً، غير أنه من المعلوم والمشهور أنه كان ضحلاً جداً في الناحية الشرعية، ولم يكن عنده أي علم على الإطلاق، ولذلك اتفق كل من أرخ للكتاب على أن الفصول التي تناولت مناقشة القضايا الشرعية كتبها له الشيخ محمد عبده! وقد علق الشاعر أحمد شوقي على دعوة قاسم أمين فقال: في مطلب خشن كثير في مزالقه العثور ولك البيان الجذل في أثنائه العلم الغزير حتى لنسأل هل تغار على العقائد أم تغير؟ ما بالكتاب ولا الحديث إذا ذكرتهما نكير يقول قاسم أمين في بعض المواضع: في البلاد الحرة قد يجاهر الإنسان بأن لا وطن له، ويكفر بالله ورسله، ويطعن على شرائع قومه وآدابهم وعاداتهم، ويقول ويكتب ما شاء الله في ذلك، ولا يفكر أحد أن ينقص شيئاً من احترامه لشخصه متى كان قوله صادراً عن نية حسنة واعتقاد صحيح! يعني أن من يكفر بالله ورسله ويشتم الأنبياء ليس هناك مشكلة معه ما دام الاعتقاد عنده صحيحاً والنية حسنة! يقول: كم من الزمن يمر على مصر قبل أن تبلغ هذه الدرجة من الحرية؟ فنقول: لم تمر مائة سنة حتى سمعنا هؤلاء الذين يكفرون بالله ورسله.
والغريب أن في نهاية كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" شاء الله تعالى أنه ختم آخر سطر في الكتاب بقوله: تم كتاب (تجريد المرأة)، وهو خطأ مطبعي، لكن معناه صحيح، وبعد ذلك حورب قاسم أمين وقوبل باعتراضات شديدة جداً، إلا أن سعد زغلول في هذه المرحلة وقف يسانده، واتهمه المعارضون بالهذيان، وهاجمه علماء الدين، وحكم الفقهاء بأنه خرق في الإسلام ومروق من الدين وضرب من المبالغة في تقليد الغربيين، وأنه يمالئ الإنكليز على ضياع البلاد، وأنه ينفذ أمنية من أماني الأمم الصليبية التي تريد أن تهدم الإسلام وتقوض البلاد والأخلاق.
وفي الهند ترجم الكتاب، وانتشر فيها انتشاراً كبيراً جداً.
وممن ناصروا قاسم أمين وبادروا إلى تأييد دعوته في كتاب "تحرير المرأة" جورجي نيقولا باذ، حيث ألف كتابين يؤيد فيهما قاسم أمين هما: "إكليل الغار على رأس المرأة" والآخر " النسائيات".(10/13)
بعض الذين ردوا على قاسم أمين
ولم يكتف دعاة الحق بالمقالات العنيفة، بل ألفوا حوالي مائة كتاب رداً على كتاب "تحرير المرأة" منها: "السنة والكتاب في حكم التربية والحجاب" لـ محمد إبراهيم القاياتي، و"الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المرأة من التلبيس" للبولاقي، و"خلاصة الأدب" لـ حسين الرفاعي، و"نظرات في السفور والحجاب" للغلاييني، و" قولة المرأة" لـ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، و"رسالة في نشرات الحجاب" لـ مصطفى ندى، و"رسالة الفتى والفتاة" والعديد من هذه الكتب والرسائل التي يتعمد إخفاؤها.
وهناك شخصية مشهورة جداً قامت مع تأييد الحجاب، وهو محمد طلعت حرب الاقتصادي المعروف الذي اقترن اسمه -للأسف الشديد جداً- بشئون الاقتصاد الربوي، فإنه ألف أول كتاب في الرد على قاسم أمين، واسم الكتاب (تربية المرأة والحجاب) استنكر عليه دعوته وقال: إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا من قديم الزمان لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوروبا في العالم الإسلامي.
ثم يقول: إنه لم يبق حائل دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق ولا في مصر وحدها إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل، بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق.
وهناك شخصية أخرى هامة جداً في هذا الموضوع، وهذا أيضاً مما يتعمد إخفاؤه، ونحن نحفظ من المدرسة عند أن كنا ندرس كتب التاريخ عيوب مصطفى كامل، فمن المشهور من عيوبه أنه كان يدافع عن الرابطة بالدولة العثمانية، وينادي ببقاء مصر ولاية عثمانية تحت حكم الخلافة العثمانية، هذا هو العيب المشهور عنه، لكن له عيب ثانٍ إن جاز التعبير، وهو أنه كان أشد أنصار الحجاب على الإطلاق في الساحة السياسية، ولم يتصد أحد لدعوة قاسم أمين بمراحله المختلفة مثلما فعل مصطفى كامل رحمه الله وعفا عنه، حيث كان مصطفى كامل يتحسس الأصابع الإنكليزية وراء حركة قاسم أمين التي يديرها النادي المشبوه، وهو صالون الأميرة نضلي، والذي كان يضم أذناب الاستعمار الإنكليزي، وقد قاوم مصطفى كامل هذه الدعوة المسمومة بشدة، حتى إنه أعلن عن فتح جريدة، وجعل صدر صحيفته (اللواء) منذ أول ظهورها لكل من يريد أن يطعن على قاسم أمين وأفكاره، وكان ينشر أي رد على قاسم أمين.(10/14)
قاسم أمين يعزز دعوته بكتاب المرأة الجديدة
والشعراء كان لهم موقف، فهذا الشاعر محرم كان له قصيدة جميلة جداً يقول فيها: أغرك يا أسماء ما ظن قاسم أقيمي وراء الخدر فالمرء واهم تضيقين ذرعاً بالحجاب وما به سوى ما جلت تلك الرؤى والمزاعم سلام على الأخلاق في الشرق كله إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم قاسم لا تقذف بجيشك تبتغي بقومك والإسلام ما الله عالم لنا من بناء الأولين بقية تلوذ بها أعراضنا والمحارم أسائل نفسي إذ دلفت تريدها أأنت من البانين أم أنت هادم؟ ولولا اللواتي أنت تبكي مصابها لما قام للأخلاق في مصر قائم نبذت إلينا بالكتاب -كتاب"تحرير المرأة".
نبذت إلينا بالكتاب كأنما صحائفه مما حملن ملاحم ففي كل سطر منه حتف مفاجئ وفي كل حرف منه جيش مهاجم إلى أن يقول رداً عليه: لنا في كتاب الله مجد مؤثل وملك على الحدثان والدهر دائم إذا نحن شئنا زلزل الأرض نابنا ودانت لنا أقطارها والعواصم هممنا بربات الحدالي نريدها أقطيع ترعى العيش وهي سوائم وإن امرأً يلقي بليل نعاجه إلى حيث تستن الذئاب لظالم وكل حياة تثلم العرض سبة ولا كحياة جللتها المآثم أتأتي الثنايا الغر والطرر العلا بما عجزت عنه اللحى والعمائم فلا ارتفعت سفل الجواء بصاعد إذا حلقت فوق النسور الحمائم عفا الله عن قوم تمادت ظنونهم.
يعني الذين يحسون الظن بـ قاسم أمين.
عفا الله عن قوم تمادت ظنونهم فلا النهج مأمون ولا الرأي حازم ألا إن بالإسلام داءً مخامراً وإن كتاب الله للداء حاسم.
وهذا الشاعر جواد الشبيبي أيضاً رد مستنكراً هذه الدعوة الآثمة يقول: منع السفور كتابنا ونبينا فاستنطق الآثار والآيات تلك الوجوه هي الرياض بها ازدهت للناظرين شقائق الوجنات كانت تكتم في البراقع خفية من أن تمس حصانة الخطرات واليوم فتحها الصبا فتساقطت بعواصف الألحاظ والقبلات صوني جمالك بالبراقع إنها ستر الحسان ومظهر الحسنات ويقول الشاعر أيضاً: أولم يروا أن الفتاة بطبعها كالماء لم يحفظ بغير إناء من يكفل الفتيات بعد ظهورها مما يجيش بخاطر السفهاء ومن الذي ينهى الفتى بشبابه عن خدع كل خريدة حسناء نص الكتاب على الحجاب ولم يبح للمسلمين تبرج العذراء ماذا يريبك من حجاب ساتر ميز المهاة وطلعة الزلفاء ماذا يريبك من إزار مانع وزر الفؤاد وظلة الأهواء ما في الحجاب سوى الحياء فهل من التهذيب أن يهتكن ستر حياء هل في مجالسة الفتاة سوى الهوى لو أصدقتك ضمائر الجلساء شيد مدارسهن وارفع مستوى أخلاقهن لصالح الأبناء أسفينة الوطن العزيز تبصري بالقعر لا يغررك سطح الماء ويقول أيضاً الشاعر حسيب علي حسيب شاعر سوداني -أيضاً- راداً على قاسم أمين بقوله: دعوا في خدرها ذات الدلال فقد أرهقتموها بالجدال رأيت شعورها الحساس مضنى على هذا الجمود عن المعالي تذوب وقد تناظرتم حياءًَ بفحش اللفظ أو هجر المقال ويعلو خدها خطر ينادي أيا للنساء من الرجال! زعمتم تعشقون لها صلاحاً فظني أن ذا عشق الجمال ومسألة السفور غدت قديماً لدى الكتاب مشكلة النضال وما أحد لها يدعو فماذا يريد الناس من قيل وقال أحباً في مناجاة الغواني ترى أم ذاك زهداً في المعالي بلى فالعلم عندهم كريم ولكن المتيم غير تالي دعوها فهي تؤلمها كثيراً سهام المصلحين بالاعتدال عجبت لحلمهم في كل خطب وإن ذكر البنات دعوا نزال أي أنه يتعجب ويقول: المصائب عندما تنزل بالأمة تكونون حلماء لا تحركون ساكناً، ولكن إذا جاءت دعوة تحرير المرأة وخروج المرأة وتبرجها دعوا نزال -أي: المعركة- كي يخوضوا فيها.(10/15)
الهدف الحقيقي من دعوة قاسم أمين
ولم يلبث قاسم أمين حينما أحرج بهذه المواجهة الصارمة أن أسفر عن وجهه الحقيقي وكشف في جرأة وصراحة عن أهدافه المغرضة، فأظهر في العام الثاني مباشرة قاسم أمين كتاباً رفع فيه شعاراً في غاية الصراحة (خير الهدي هدي أوروبا) وهو لم يقلها باللفظ لكن هذا معنى كلامه، وهو كتاب "المرأة الجديدة" بدت فيه بصمات الفكر الغربي واضحة، حيث حمل فيه على المدنية الإسلامية، وادعى أنه لا سبيل إلى الإصلاح الاجتماعي سوى اقتفاء آثار الغرب وقطع الصلة بماضي أمتنا.
يقول: لأن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعاً لمحاربتها؛ لأنه ميل إلى التدني والتقهقر، هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس له من دواء إلا أن نربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها! وفي الكتاب السابق كان متمسكاً بالحجاب، لكن يقول بكشف الوجه، وفي هذا الكتاب قطع بأن الحجاب عادة لا يليق استعمالها في عصرنا.
وحاله كما قال الشاعر: يرمرم من فتات الكفر قوتاً ويلعق من كئوسهم الثماله يقبل راحة الطاغوت حيناً ويلثم دونما خجل نعاله وقد حصلت ردود فعل شديدة جداً بالنسبة للكتاب الثاني الذي هو (المرأة الجديدة)، حيث تصدى له من جديد مصطفى كامل، وكتب يقول: هذا الكتاب أخرجه أخيراً قاسم أمين ليدعم به أمر كتابه الأول، ويفتح به آفاقاً جديدة لتحلل المسلمين من دينهم وأخلاقهم.
وفي هذه الحال أيضاً أعلن الخديوي عباس حلمي عن رأيه في مسألة الحجاب، وصدر بيان من الخديوي يقول: يرى الجناب العالي حفظه الله في مسألة الحجاب وإطلاق حرية النساء ما يراه الشرع الشريف، ويأمر به.
ولما حضر قاسم أمين إلى المعية السنية، والتمس تقديم الكتاب إلى سموه أبى الخديوي قبول كتاب "المرأة الجديدة"، وفي نفس الوقت قبل كتاب "الاحتجاب" لأحد العلماء الذين يدعون إلى الحجاب، وأعرب عن عظيم امتنانه لنشره إلى آخره، وأصدر الخديوي أمراً بمنع قاسم أمين من دخول القصر في أية مناسبة.(10/16)
دور الإنكليز في الدعوة إلى تحرير المرأة
وفي عام (1908م) مات قاسم أمين، فأوحى الإنكليز إلى شيعته أن يقيموا له ما يسمى بحفل تأبين، وأرادوا أن لا تنقطع الدعوة بموته.
وفي المقابل قام الرجال في الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل فأقاموا احتفالاً كبيراً بالدعوة إلى الحجاب، ولإبراز أصابع الإنكليز في فتنة السفور.
وبعد ذلك حصلت طفرة شديدة جداً بالنسبة لقضية تدمير المرأة، وهي قيام ثورة التاسع عشر، فكانت أكبر طفرة حصلت في حركة تحرير المرأة؛ لأن المرأة خرجت للمظاهرات وشاركت فيها، ولا أدري ما هي علاقة المرأة بموضوع المظاهرات، وهل الإنكليز هم الذين فرضوا عليها الحجاب؟ وهل هي تقاوم الإنكليز من أجل أنهم هم الذين أمروها بالحجاب؟ الحجاب فرض عليها منذ ثلاثة عشر قرناً فما هي علاقة خروج النساء في مظاهرات ضد الإنكليز، ويهتفن ضد الإنكليز.
وهذا هو فن صناعة الأبطال، فواجب على البطل أن يكون له مجد وله مآثر وله إنجازات من أجل أن يبرز الناس هذه السموم التي يريد أن يبثها.(10/17)
محمود عزمي وسعد زغلول في الدعوة إلى تحرير المرأة
ومن ضمن التعبيرات الخطيرة جداً تلك التي صرح بها رجل يدعى محمود عزمي حيث قال: تأثرت بكتب قاسم أمين تأثراً عجيباً جعلني أمقت الحجاب مقتاً شديداً، ويرجع إلى اعتبار خاص هو اعتبار أن الحجاب من أصل غير مصري، ودخوله إلى العادات المصرية كان عن طريق تحكم بعض الفاتحين الأجانب.
قال: فكان حنقي على أولئك الأجانب الفاتحين الإسلاميين يزيد.
وكما قلت في البداية: القضية هي صراع بين إسلام وكفر، هدىً وضلال، حق وباطل، وحي وهوى، ولا يوجد خط وسط أبداً بين الاتجاهين.
وكان لزوجة سعد زغلول صفية مصطفى فهمي دور خطير في هذا الوضع، فحينما رجع سعد زغلول من المنفى قامت صفية زغلول بإلقاء الحجاب من على وجهها، وهذه هي مكافأة المرأة من أجل أنها شاركت في مقاومة الاحتلال، فتدخل علي الشمسي وواصف بطرس، حيث اعترض واصف بطرس غالي وقال لـ سعد زغلول: هذا سيعمل رد فعل شديد في المجتمع، كيف تكون صفية زغلول تكشف وجهها؟ فرد عليه سعد زغلول وقال: المرأة خرجت إلى الثورة بالبرقع، ومن حقها أن ترفع الحجاب اليوم، فرفعت صفية زغلول الحجاب، وطلبت من النساء رفع الحجاب فرفعت الحاضرات الحجاب.
هذه كانت بداية الطفرة في موضوع تحرير المرأة، ولا شك أن كشف الوجه كان ذريعة إلى كثير من المفاسد التي حصلت بعد ذلك، كما ذكرت الأشعار التي تبين أنه كان المصريون في غاية التمسك بالحجاب، كما يقول حافظ إبراهيم: فلو خطرت في مصر حواء أمنا.
لأنه يدعي أن حواء كانت سافرة، وكذلك يدعي أن مريم كانت سافرة، فيقول حافظ إبراهيم: لو جاءت حواء كاشفة وجهها ومريم عليها السلام وجاء معهما موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام وجيش من الأملاك ماجت مواكبه، وكل هؤلاء قالوا لنا: رفع النقاب حلال لقلنا لهم: صحيح، لكن سنتجنبه ولن نعمله.
فيقول: فلو خطرت في مصر حواء أمنا يلوح محياها لنا ونراقبه وفي يدها العذراء يسفر وجهها تصافح منا من ترى وتخاطبه وخلفهما موسى وعيسى وأحمد وجيش من الأملاك ماجت مواكبه وقالوا لنا رفع النقاب محلل لقلنا لهم حق ولكن نجانبه(10/18)
هدى شعراوي وتحرير المرأة
وبعد ذلك خطا الناس إلى أبعد مما نادى به قاسم أمين، فـ قاسم أمين ادعى أنه يريد الوقوف بالحجاب إلى حيث أمرها الله بكشف الوجه والكفين فقط، وكل المعركة في المرحلة الثانية التي هي كتاب "تحرير المرأة" كانت متعلقة بكشف الوجه والكفين، والذي كتب له هذا الكلام هو محمد عبده كما ذكرنا، فلم يدع في هذه المرحلة قط إلى كشف العورات كالأذرع والسيقان وغيرها، ولم يدع إلى الاختلاط بالرجال ومراقصتهم ولا إلى شيء من ذلك.
بل زوجة قاسم أمين كانت محجبة حجاباً كاملاً، بل إنها ظلت ترتدي البرقع والحدرة وقاسم كان ينادي بفكرته، لكنه لم يطبقها في أسرته إلا على النشأ الجديد، ثم قالت زوجة قاسم أمين: إن بنات الجيل الحالي وشبابه قد أخطئوا فهم هذه الدعوة وتجاوزوا مداها، فالمظهر الذي تظهر به الفتاة في هذا العصر ليس سفوراً، بل بهرجة فظيعة لم تخطر على بال قاسم أن ينادي بها أو يدعو إليها، وإنما كان قاسم ينادي بالسفور الشرعي، أي: كشف الوجه، فكلمة السفور تعني الكشف الذي لا يزيد على إظهار الوجه واليدين والقدمين، ولا يتجاوز إلى إظهار العورات وإلى اختلاط المرأة بالرجل بالشكل الحاصل الآن.
تقول: وإني أعتقد أن قاسم بيك لو كان حياً لما رضي عن هذه الحال، بل لانبرى إلى محاربتها.
وقد أخذت الأمور تتطور بسرعة شديدة، وقد شل جسم الحياء من المرأة فأفضت تحدث وتجالس وتصافح وتختلط وتضاحك عامة الناس وأصدقاء وأقارب الزوج وإن بعدوا وإن سفلوا، وألقت المرأة بعد ذلك ملاءتها بعيدا ًعن ساحة الحياء، وخرجت في ملابس ملونة ومزخرفة أخذ المقص يجور عليها حتى خرجن كاسيات عاريات.
وقد تتابعت التطورات في سرعة مذهلة، ولم تدع فرصة للمعارضة، وأعان على اندفاعها جو الثورة التي تلت الحرب وما كان يوحي به من جرأة ومن تمرد على كل قديم.
وفي عام (1919م) حصلت مظاهرة قامت بها النسوة، وكان عددهن ثلاثمائة، وفي بعض الكتب الوثائقية صورة للنساء في هذه المظاهرات.
وكانت هدى شعراوي في صراع شديد مع زوجها لأنها تذهب إلى المظاهرات، وكان يقول لها: هل أنت ستحرجين الإنكليز إذا عملت مظاهرة؟! وإذا ضربوك بالنار تقولين: يا لهوي! ويا لهوتي! وكذا، تقول: فتركته وانصرفت لألحق بزميلاتي الذي كن ينتظرنني في الخارج.
وقد تهكم منهن حافظ إبراهيم حيث يقول في وصف هذه الغزوة: خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه وضللن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنه وأخذن يجتزن الطريق ودار سعد قصدهنه يمشين في كنف الوقار وقد أبن شعورهنه وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنه وإذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهنه وإذا المدافع والبنادق والصوارم والأسنه والخيل والفرسان قد ضربت نطاقاً حولهنه والورد والريحان في ذاك النهار سلاحنه فتطاحن الجيشان ساعات تشيب لها الأجنه فتضعضع النسوان والنسوان ليس لهن منه ثم انهزمن مشتتات ال شمل نحو قصورهنه فليهنأ الجيش الفخور بنصره وبكسرهنه فكأنما الألمان قد لبسوا البراقع بينهنه وأتوا بهند نبرج مخـ تفياً بمصر يقودهنه فلذاك خافوا بأسهن وأشفقوا من كيدهنه وقد تردت أوضاع المرأة بعد ذلك إلى وضع لم يكن يحلم به قاسم أمين، حيث قامت حركة هدى شعراوي، وكان لها تأثير سيئ جداً، وقد سافرت إلى باريس وأمريكا، وحصل منها تصريحات واجتماعات تدعو فيها إلى تحرير المرأة.
وفي هذه المرحلة أيضاً كتب الشاعر محمد عبد المطلب قصيدة جميلة جداً يصف أحوال المرأة في ذلك الزمان يقول فيها: ما في بنات النيل من أرب لذي غرض نبيل أصبحن عاباً في الزمان وسوءة في شر جيل ما هذه الحضرات تهفو في الخمائل والحقول نكر العفاف ذيولها ومن الخنا قصر الذيول إن ينتسبن إلى الحجاب فإنه نكد الدخيل يختلن أبناء الهوى بالدل والنظر الختول من كل خائنة الحليل تهم في طلب الخليل ما لابنة الخدر المصون وربة المجد الأثيل أودى كثيف نقابها بكرامة الأم البتول يعني: يشتكي من أن النقاب شفاف، هي هذه المشكلة كلها.
يقول: وعلا رنين حجولها أسفاً على الذيل الطويل فإذا مشت هتك النقاب محاسن الوجه الجميل ولقد ينم عبيرها فتحسه من نحو ميل ترتاد خائنة العيون بلحظ فاتنة قتول ثم يعرض بـ قاسم أمين فيقول: يا هل درى ذاك الغيور بما جرى ويح الجهول أهي التي فرض الحجاب لصونها شرع الرسول جعل الحجاب معابها من ذلك الداء الوبيل يا منزل القرآن نوراً للبصائر والعقول عميت بصائر أهل وادي النيل عن وضح السبيل ذهلوا عن الأعراض لو يدرون عاقبة الذهول(10/19)
هل يستجيب دعاة السفور إلى ما تستلزمه دعوتهم من منكرات
وقد اندفع تيار السفور والتبرج ولم يستطع أحد أن يوقفه، فهذا شكيب أرسلان كتب مقالة يقول فيها: عند إعلان الدستور العثماني سنة (1908م) قال أحمد رضا بيك من زعماء أحرار الترك: ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علناً مع المرأة التركية على جسر غلطة أو بلطة -الذي يربط بين آسيا وأوروبا- وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستوراً ولا حرية.
وكانت هذه هي المرحلة الأولى، يقول شكيب أرسلان: وفي هذه الأيام بلغني أن أحد مبعوثي مجلس أنقرة الكاتب رفقي بيك الذي كان كاتباً عند جمال باشا في سوريا كتب: إنه ما دامت الفتاة التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت ولو كان من غير المسلمين، بل ما دامت لا تعقد مقاولة مع رجل تعيش وإياه كما تريد مسلماً كان أو غير مسلم فإنه لا يعد تركيا قد بلغت رقياً.
هذه هي المرحلة الثانية، يقول شكيب أرسلان: فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور، ولا هي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما تشاء، بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصل بعضها ببعض لابد أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها، فإذا كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة فعليه أن يقبلها بحذافيرها، أما أن نجمع بين حرية المرأة وعدم حريتها، وأن نطلق لها الأمر تذهب حيث أرادت وتحادث من أرادت وتضاحك من أرادت وتغامز من أرادت ثم إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا فذهبت وساكنته وكان بينها وبينه ما يكون بين الرجل وزوجه أقمنا القيامة ودعونا بالمسدس وقلنا: يا للحمية! يا للأنفة! يا للغيرة! يا للعرض! فهذا لا يكون، وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون.
ثم يقول: والنتيجة التي نريدها قد حصلت، وهي أن سلوكنا مسلك الأوروبيين حذو القذة بالقذة في هذه المسألة له توابع ولوازم لابد أن نقبلها، ولا يبقى معها محل لكلمة (أعوذ بالله) كلا! لا يوجد هناك: (أعوذ بالله) بل تلك مدنية وهذه مدنية، تلك نظرية وهذه نظرية، فعلينا أن نختار إحدى المدنيتين أو إحدى النظريتين مهما استتبعت من الأمور التي كان يقال في مثلها عندنا: (أعوذ بالله)! ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى ارتفع صوت الصحفي الكاثوليكي إبراهيم المصري في مصر فكتب مقالة سنة (1925م) يقول فيها: إننا لم نخط بعد الخطوة الحاسمة في سبيل تطبيق روح الحضارة العصرية على عاداتنا وأخلاقنا وأساليب حياتنا، إن نساءنا العصريات المتعلمات اللواتي يطالعن الصحف ويقرأن القصص ويغشين المسارح ودور السينما لا يزال يحال بينهن وبين الظهور في المجتمعات البيتية أمام رجل غريب، فنحن قد سلمنا بمبدأ تعليم نسائنا، ولكنا لم نسلم بعد بقدرة هؤلاء النساء على الانتظام في حفل كبير يضم عدداً مختاراً من أفراد الجنسين، ويتألف منه مجتمع مصري مختلط أشبه بالمجتمعات الأوروبية التي نشهدها في مصر، ونحسد الأجانب عليها! يقول: إن هذا راجع إلى أن ثقة الرجل المصري بالرجل المصري لا تزال معدومة، وقد تركز على ذلك أنك أصبحت ترى امرأة صديقك السافرة في الشارع وفي المحل التجاري وفي دار المسرح أو السينما، ثم لا تستطيع أن تراها في بيتها لتتفهم حقيقة شخصيتها، وتعرف كيف تعيش وكيف تشعر وكيف تفكر، أصبحت تبصرها في الحياة العامة وتعجب بها، ولكنك متى أردت تهذيب عواطفك وصقل إحساساتك ومشاعرك بالجلوس إليها والتحدث معها وإشراكها في المسائل التي تشغل عقلك وعقل باطنك حيل بينك وبينها، واتهمت بفساد النية وسوء القصد! ثم يقول: إن المجتمع المختلط هو الذي يقرب مسافة الخلف بين الجنسين، ويقيم علاقات الرجل والمرأة على قاعدة التفاهم الفكري العاطفي! ثم يقول: على المصريين أن يخرجوا من عقولهم، فالاعتقاد الشرقي الشائع بأن الرجل والمرأة متى التقيا فلابد أن ينهض الشيطان بينهما وينفث في نفسيهما سموم الرذيلة والشر هذا هو سر تأخرنا، وهو بقايا عصور الجهل والخوف والظلام! ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول الإمام ابن دقيق العيد: من عذيري من معشر هجروا العقل وحادوا عن طرقه المستقيمة لا يرون الإنسان قد دان حظاً من صلاح حتى يكون بهيمة(10/20)
ردود بعض الشعراء على دعاة التحلل والسفور(10/21)
من شعر مصطفى الرافعي عن الحجاب
وأيضاً الشاعر الكبير الأديب العملاق مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى كان له دور رائع في الرد على هذه الدعوى كعادته حيث يقول: أراك تريدين الذي لست أهله وما كل علم إبرة وثياب كسا الزهر ما تندى به راحة الصبا وهم الندى بين السيول حساب وما أحمق الشاة استثرت بظلفها إذا حسبت أن الشياه ذئاب فحسبك نبلاً قالة الناس أنجبت وحسبك فخراً أن يصونك باب لك القلب من زوج وولد ووالد وملك جميع العالمين رقاب ولم تخلقي إلا نعيماً لبائس فمن ذا رأى أن النعيم عذاب دعي عنك قوماً زاحمتهم نساؤهم فكانوا كما حف الشراب ذباب تساووا فهذا بينهم مثل هذه وسيان معنىً يافع وكعاب وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب(10/22)
قصيدة النجدي في بيان مفاسد السفور
وهناك قصيدة أخرى رائعة للشيخ محمد حسن النجدي يقول فيها: زعم السفور والاختلاط وسيلة للمجد قوم في المحالات أغرقوا كذبوا متى كان التعرض للخنا شيئاً تعز به الشعوب وتسبقُ أيكون كشف السوأتين فضيلة فيذيعها هذا الشباب الأحمق ما لهم والبنت قد فتنت بما قالوا وحل بها الجنون المطبق وبدت مقاتل عرضها لرماته حتى لهمّ به الجبان الأخرق والقول أصبح في الخروج لها فلا كف تكف ولا ركاب يغلق كرهوا الزواج بها وباتت سوقها بعد التبذل عندهم لا تنفق ما خطبهم كلفوا بنزع حجابها وتكلفوا فيه البيان ونمقوا وتناولوا بالضعف من حاجاتنا واللين ما هو بالصرامة أخلق أغدت مشاكلنا الكبيرة كلها ذيلاً يجرجره السفور المطلق أم أنهم ضلوا السبيل وغرهم بتاريخه هذا الجديد المخلق أشبابنا المرجو صيحة جازع أغرى بها هذا البلاء المحدق ونطيحة يسدي برائع سرها لقوام نهضتنا محب مشفق لا ترهفوا سمع الحفي لقالة أبداً بها بوم البطالة تنعق لم يقصدوا خيراً بها لكنهم رأوا القوي يصيبها فتملقوا ولربما اجترح القوي خطيئة فمضى الضعيف بمدحها يتشدق قوا أهلكم ونفوسكم عاراً إذا لم تتقوه بغيركم لا يعلق وتناولوا بالجزر حمراً كلما هيجت إلى متع الإباحة تنهق كيف التمدن أن نرى روح الحيا بيد الخلاعة كل يوم تزهق والبنت يدفعها براحتها الهوى فتروح تهوى من تشاء وتعشق لكنه العلم اهتدى بضيائه غرب البسيطة حين ضل المشرق(10/23)
ما قاله سعيد الجابري
يقول الشيخ سعيد الجابري: رفع النقاب وسيلة إن حبذت ضمت إليها للفجور وسائل فالاختلاط فمرقص فتواعد فالاجتماع فخلوة فتواصل(10/24)
أبيات أخرى تدعو إلى الحجاب وتحذر من السفور
ويقول آخر: يا أخت سابغة البراقع في الأباطح والوعور قري ببيتك حيث لا تؤذيك ناطحة الهدير ودعي الجنوح إلى السفو ر وخففي ألم العشير النمر لو لزم الشرى من كان يطمع في النمور والطير تأخذها خباث الصيد في ترك الوكور(10/25)
ابن الخطيب يرد على دعاة السفور
وهذا جميل صدقي الزهاوي ألف قصيدة يقول فيها: أخر المسلمين عن أمم الأرض حجاب تشقى به المسلمات ونقول: هل لما تعرت المرأة المسلمة تقدمنا وحلت المشاكل؟
الجواب
لا.
بل الحصاد هو كما رأينا، وقد رد عليه ابن الخطيب قائلاً: بئسما يدعي فلاسفة العصر من أن السفور فيه الحياة وهو حق إذ إن أسلافنا الـ أعراب من فرط من يحبون ماتوا يعني أنه يقول: السفور فيه الحياة.
ونقول: هذا صحيح؛ لأن أسلافنا العرب كان منتشراً عندهم الحجاب الكامل، ولم يكن هناك سبيل لرؤية المرأة، بل كان الرجل إذا عشق امرأة يموت؛ لأنه لا يستطيع أن يراها، كما يقول الشاعر: ما كان أغناني عن حب من من دونه الأستار والحجب فيقول ابن الخطيب: بئسما يدعي فلاسفة العصر من أن السفور فيه الحياة وهو حق إذ إن أسلافنا الـ أعراب من فرط من يحبون ماتوا يا خليلي! حدث عن الشرق قدماً حين كانت تعظم المعجزات حين كان القرآن يرجى ويخشى والقوانين آيه البينات حين كان الحديث يتلى ولا ير ويه إلا ذوو العقول الثقات إننا في الزمان نلفي أناساً في التوضي علومهم قاصرات أي أن هؤلاء الدعاة إلى تحرير المرأة لا يعرفون كيف يتوضئون أصلاً، ولا يعرفون كيفية شرح الوضوء والطهارة.
وهمُ بعد يدَّعون علوماً أنكرتها عصورنا الخاليات ليت شعري ماذا يريدون منا وصنوف الأذى بنا محدقات بنت مصر هاتي سفورك واغشي كل ناد ولتمل منك الجهات عرفي نفسك الغداة وطوفي لا تفكي الأسواق والحانات ثم أمي مجالس القوم وادعي هم إلى حيث لا تمل الدعاة علناً بالسفور نبني حصوناً شامخات بها ترد العداة وعسانا نرى البرايا سدوداً لابن مصر وقد علاه السبات ولعمري لقد بكى الدين حزناً حين قال الخطيب يا سيدات إشارة إلى السنة التي كان يحلم بها قاسم أمين، حيث قال: متى يأتي اليوم الذي أرى فيه النساء مختلطة بالرجال والخطيب يقول: سيداتي آنساتي سادتي! فهذه كانت أمنية يحلمون بها، ولهذا فالشيخ ابن الخطيب رحمه الله يقول هنا: ولعمري لقد بكى الدين حزناً حين قال الخطيب يا سيدات(10/26)
واقع المرأة التي أريد لها التحرر والتطور
لقد فقدت المرأة التي كان يلوح لها أنصارها بسعادة التحرر والتطور وجودها كامرأة، ولو قبضت على دينها لقبض الله عنها السوء وبسط لها الحلال، ولكنها ابتذلت وأهينت على يد أصدقائها وأنصارها وكانوا هم أول من زهد فيها.
لقد انحسرت المرأة وغادرت حجابها وغادرت حصنها وعصت ربها، فماذا جنينا؟! لقد خالطت الرجال واختلط الحابل بالنابل، فهل زالت العقد النفسية؟ وهل استقر ما في دواخلهما؟ وهل جنينا سوى الثمار المريرة! ولن نطيل في وصف الهاوية التي تردت إليها المرأة المتحررة بفضل أنصارها وأصدقائها الكذابين؛ لأن الواقع حولنا يكفينا مؤنة هذه الإطالة، إنه واقع مرير نستطيع أن ندرك عواقبه وآثاره في كل مكان وفي كل بيت وفي كل طريق وفي كل وظيفة، ولو كنا نقول هذا توقعاً للمستقبل، أو قلناه قبل قرن مضى لاتُهمنا بالتحامل والمبالغة، لكنه واقع أليم تخبرك عنه هذه المرأة الضحية وهؤلاء الأنصار والأصدقاء إن صدقوا.(10/27)
خصائص دعوة تحرير المرأة
من خصائص دعوة تحرير المرأة أنها منذ نشأتها وهي تدور دائماً في فلك الاستعمار، فالعمالة صفة أساسية لأغلب دعاة تحرير المرأة، وقضايا الحجاب كلها اختلطت منذ البداية بعجلة الاستعمار، وهناك علاقة وثيقة تربط دعاة تحرير المرأة والقوى المعادية للإسلام وعلمائه ودعاته.
ومن خصائص هذه الدعوة: أن هؤلاء النسوة القائمات عليها لا يُعرفن بدين ولا بخلق ولا بمبدأ، ويُعرفن في الغالب بالعداء للإسلام، وهذا هو القاسم المشترك بينهن كما لاحظنا، والحال أن أعمى يقود بصيراً، فمن الذي يحرر الآخر؟! ومن هو الإنسان الذي يحررها؟ فهذه المتبرجة المحررة -أو هذه الأسيرة بالمعنى الصحيح- هي التي تحتاج إلى أن نحررها، فإن الإسلام هو الذي يحرر المرأة ويخرجها من هذه العبودية، أما أن المسلمة تقتدي بهؤلاء النسوة فهذا لا ينبغي، كما قال الشاعر: فأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطا حمالة الحطب ومن خصائص هذه الدعوة الخبيثة: أن موضوع تحرير المرأة انقلب فيه الميزان، حيث كانت علامة الفرق بين الحرة والأمة في عهد النبوة وفي عهد السلف أن الحرة تحتجب حجاباً كاملاً، وأن الأمة هي التي تكشف؛ وهذا يدل على أن الحجاب كان علامة على الحرية، وأما الآن فأصبح العهر والتبرج هو علامة الحرية في عرف هؤلاء القوم.
ومن خصائص هذه الدعوة أيضاً أنها تتبنى مبدأ القومية النسائية، حيث يحاولون أن يظهروا أن النساء كلهن على وجه الأرض حزب واحد، لهن قومية اسمها (قومية نسائية).
إن المرأة في كل مكان قضيتها واحدة، وهي الصراع ضد الرجل ومحاولة التحرر من سلطان الرجل، فكان دأب دعاة تحرير المرأة منذ البداية قضية تحرير المرأة فقط، ثم صارت هناك قومية خاصة اسمها (القومية النسائية) تربط المرأة المسلمة بالمرأة النصرانية واليهودية وعابدة الأصنام والأوثان والمشركة الملحدة، حتى رأينا من المتحررات من تفاخر بنساء الفراعنة عابدي الملوك والأحجار، وكأن قضيتهن واحدة ومطالبهن واحدة وأهدافهن واحدة ومعتقداتهن واحدة، وكلما تطابقت صورة المرأة مع المرأة الغربية زاد الإعجاب بها وتقريظها بأنها لا تفترق عن الأجنبية، حتى سقطت المرأة المسلمة فيما لم تسقط فيه عابدة البقر التي ظلت معتزة بزيها الخاص ومتميزة بالنقطة الحمراء بين عينيها.
وهناك دور شهير جداً بالنسبة لبعض النسوة المشهورات، مثل بنت النيل التي هي درية شقيق، فقد أنشأت حزباً اسمه (بنت النيل) وقد كانت في العمالة للإنكليز في غاية الصراحة، وكانت تحرض الإذاعة البريطانية، وتشتكي مصر لبريطانيا، وتذهب إلى الإذاعة وتعمل حملات على مصر، وهكذا، وهذا أيضاً من ملامح هذه الدعوة كما ذكرنا.
ولا شك أنه قد حصلت بشائر عظيمة جداً في السنوات الأخيرة، ولكن حصل مزيد انحطاط بفضل هذا المخلوق الذي قال: إنني كما أنا ضد الحجاب فأنا ضد عبدة الشيطان! فبفضل ما فعله هذا الإنسان أو هذا المخلوق حصل من جهوده وجهود أمثاله نوع من التراجع في ظاهرة الحجاب، ولا شك في ذلك، وهذه الظاهرة في غاية الخطورة، لكن نرجو أن تكون سحابة وتنقشع، ويكشف الله سبحانه وتعالى عن الأمة هذه الكربة.
يقول صحفي ألماني عاش فترة في مصر: لقد عشت في القاهرة كمراسل صحفي من سنة ست وخمسين إلى سنة إحدى وستين، ومنذ هذا التاريخ كانت طبيعة عملي وراء حضوري إلى المنطقة بين الحين والحين، وكنت أفضل دائماً الإقامة بجوار النيل، إن التغيير الهائل الذي طرأ على القاهرة عاصمة الملايين معروف للجميع، فقد انتقلت هذه المدينة الضخمة من الطابع الشرقي حيث كانت النساء يرتدين الأحجبة والرجال يرتدون الطربوش إلى عاصمة كبرى، ولم تعد الفتيات اللواتي يرتدين البنطلونات والملابس العصرية يلفتن نظر أحد أو يقابلن بدهشة واستغراب، وأصبحت العلاقة بين الجنسين علاقة سوية لا تتخللها رواسب الجاهلية التي استمرت فترات طويلة في الشرق، ويكفي أن تعلم أنه منذ عشرين عاماً فقط كان (90%) من الرجال في القاهرة يرتدون الجلباب، وكانت كل النساء تقريباً يرتدين الحجاب، أما اليوم فإن القاعدة العامة هي البدل العصرية وعلى أحدث الموضة في الغرب، وبالنسبة للنساء فإنه حتى في أكثر المناطق شعبية لم نعد نرى الحجاب! فرح ذلك الصحفي الألماني، لكنها فرحة لم تتم، فقد فرح لأنه لم يبلغه رأي أخيه بلاكوت وزير المستعمرات الفرنسي في الجزائر، فقد حصلت قصة أثناء الاحتلال الفرنسي في ذكرى مرور مائة سنة على احتلال فرنسا للجزائر، حيث وقف الحاكم الفرنسي في الجزائر يقول: يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم حتى ننتصر عليهم.
وقامت فرنسا من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر بتجربة عملية، فتم انتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، وأدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً، وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفلة تخرج رائعة، دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون، ولما ابتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذاً بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً من الاحتلال؟ أجاب بلاكوت وزير المستعمرات الفرنسي قائلاً: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟! فسبحان الله! هم يكيدون كيداً والله يكيد كيداً، يمكرون والله خير الماكرين، فقوة الإسلام ليست في جهود أتباعه؛ لأن أتباعه مقصرون ومستضعفون أيضاً، بل قوته في أنه هو دين الله الحق، ولو أن ديناً آخر جوبه بعشر معشار ما واجهه الإسلام في خلال رحلته الطويلة خلال أربعة عشر قرناً لما بقي له ذكر، ولكان قد حرف كما حرفت أديان أخرى، ولقضي عليه واندثر كما اندثرت مذاهب أخرى، لكن الحافظ له هو الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فقوة الإسلام في الإسلام ذاته، حيث إنها قوة كامنة فيه، فتجد -مثلاً- الكلام على تعدد الزوجات والطعن في أحكام الإسلام وهذا الإلحاد الذي يقوله هؤلاء المنحلون، ومع ذلك لم يضروا الإسلام شيئاً.
وفي يوم من الأيام قالت أمينة السعيد: كيف نرجع إلى فقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟! أين هي الآن؟ فقد كانت تسخر من الحجاب، وتهاجم الإسلام، ثم مُسحت كل هذه الجهود وكل هذه الميزانيات، قال عز وجل: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، فقطعاً أن العاقبة للتقوى والعاقبة للمتقين.(10/28)
انحسار السفور وامتداد الحجاب بين الجامعيات
تقول جريدة الأهرام في تاريخ (26/ 4/1977م): مر واحد وسبعون عاماً على وفاة قاسم أمين الذي دعا إلى تحرير المرأة ورفع الحجاب.
يقول الكاتب: الغريب أنه بعد مرور واحد وسبعين سنة على وفاته وفي نفس الوقت الذي نحتفل فيه بذكراه تقوم الدعوة إلى رجوع المرأة إلى البيت وحجبها عن المشاركة في الحياة العامة.
وهذا مصطفى أمين يعلن قلقه عن سبب انتشار المد الإسلامي بين الفتيات في مصر خاصة في الجامعات وبين أعلى الطبقات ثقافة، حيث يقول مصطفى أمين: حارب الأحرار -العبيد وليس الأحرار- في هذا البلد سنوات طويلة لتحصل المرأة على بعض حقها، ويظهر أن بعض الناس يريدون العودة بها إلى الوراء، وقد يحدث هذا في أي مكان، لكن لا نفهم أن يحدث في الجامعة مهد التقدم والفكر الحر! وقال أحدهم في مجلة (صباح الخير) وقد تلقى بعض الردود المفحمة من فتيات محجبات عن آرائهن في الحب والعشق، فلم ترقه إجابات هؤلاء الأخوات، فعلق قائلاً: أي جامعة هذه، -يعني أن الجامعة لابد من أن تكون ملحدة وإلا فلا تكون متطورة- وأي طالبات جامعيات هؤلاء في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث المرأة مساوية للرجل وتصعد إلى الفضاء؟ إن كل ما يفعله المجتمع وكل ما تفعله الحكومة من تعليم البنت وتشغيلها، وما تفعله زعيمات النشاط النسائي في مصر لتأكيد هذه المساواة وتربية المرأة المصرية على الخروج على عقلية الحريم، تهزمه مثل هذه الأساليب في التربية والرعاية في المدن الجامعية للطلاب.
وفي مجلة (أكتوبر) نشرت صحيفة (كرستيان ولسن) بحثاً عن الإنجازات التي حققتها المرأة المصرية في ميادين العلم والدراسات الاجتماعية، وقالت الصحيفة (كرستيان ولسن): شيء غريب في مصر، لقد كانت الأمهات من جيل هدى شعراوي أكثر تحرراً وتقدماً من بعض الفتيات في مصر الآن.
أي: الفتيات المحجبات ومعنى ذلك أن هدى شعراوي وجيلها كن أكثر تحرراً وتطوراً من فتيات اليوم، والمتحدث يتحسر على الأموال والميزانيات والجهد الجهيد الذي بذل، ويرى أن هذا كله ذهب مع الريح.
لأنه هكذا الباطل، ولابد أن الحق ينتصر في النهاية، وليس هناك شك في هذا.
وجريدة (الأهالي) كانت تتابع ظاهرة الحجاب في قلق وفي غيظ، وكانت تفرد لها بحثاً في أثنائها على لسان الدكتورة زينب رضوان، وقد كان الناس من قبل يعيرون المرأة ويقولون لها: يا رجعية أنت لا تريدين أن تتعلمي إلى آخره، وأما في هذا الوقت فمن الذي يمنعهن من دخول الجامعات؟ ومن الذي يمنعهن من دخول المدارس؟ فأصبح الآن الموضوع ليس إقناعاً ولا حجة ولا حرية، وإنما هو قهر وإكراه.
تقول زينب رضوان: انتشر الحجاب بين الطبقة المثقفة قبل العوام، وهذا على عكس ما هو متعارف عليه، ونفس هذه الطبقة المثقفة هي التي رفضت الحجاب في زمن هدى شعراوي وخلعته وداسته، هي ذاتها التي عادت تنادي به وبالعودة إلى الأصالة، بالإضافة إلى أن الغالبية العظمى من المحجبات من الطبقة الوسطى وهي الطبقة التي تقود التغيير في أي مجتمع، صحيح أنه انتشر أيضاً بين الطبقة الأرستقراطية، ولكن بنسبة أقل.
وأمينة السعيد كانت تقول: الحجاب ثياب ممجوجة، فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر يزعمن أنها زي إسلامي، لم أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لبس أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء! وتقول منى رمضان في صحيفة (أكتوبر): عاد الحجاب مرة أخرى كظاهرة على وجوه الفتيات والسيدات في مصر، وهذه ليست آخر صيحة في عالم الموضة كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه نوع من الحشمة وإحياء التقاليد الإسلامية التي تطلب من النساء أن يدنين عليهن من جلابيبهن -تعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، وهذه آية قرآنية وليست تقاليد- والحشمة هنا نابعة من المرأة، وعلى أساسها فصلت هذه الثياب.
وهذا زكي نجيب محمود يتباكى على تبرج الجاهلين الذي انقشع أمام الصحوة الإسلامية فيقول في مقالة بعنوان: (ردة في عالم المرأة) -أي أنه يسمي الرجوع إلى أحكام الإسلام ردة-: أصابت المرأة المصرية في أيامنا هذه نكسة ارتدت بها إلى ما قبل، هناك اليوم عشرات الألوف من النساء المرتدات ينزلقن تطوعاً إلى هوة الماضي، والمأساة أن المرأة اليوم تتبرع سلفاً بحجاب نفسها قبل أن يأمرها بالحجاب والد أو زوج، إن أبشع جوانب الردة في حياة المرأة المصرية ليس أن أحداً يتدخل في شئون حياتها، أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى فيمنعها أحد؛ لأن أحداً لا يمنعها من ذلك، وليس هو أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحد؛ لأن أحداً لا يقفل في وجهها أبواب العمل، وإنما الجانب البشع من تلك الردة هو أن المرأة اليوم تريد أن تجعل من نفسها وبمحض اختيارها حريماً يتحجب وراء الجدران أو يتستر وراء حجب وبراقع! ثم يتحسر على زمن السفور فيقول: ذلك زمن أوشك على الذهاب مع رائدات الجيل الماضي.
ثم يقول: إن في طائفة كبيرة من نساء هذا الجيل وبناته نكوصاً على الأعقاب بالقياس إلى الطموح الذي تميزت به أمهاتهن في الجيل الماضي، وإنها لمفارقة شديدة في أي مجتمع أن ترى الجيل الأصغر منه سلفياً لدرجة تزيد على المألوف، وترى الجيل الأكبر منه أقل سلفية، وبينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة، رأينا ثورة شبابنا تحتج هي أيضاً على أوضاع الحياة الراهنة وتدعو بها إلى نموذج السلف، وهذه مصيبة! حيث إنه يدعو الشباب إلى الرجوع إلى نموذج السلف.
ثم قال في صحيفة (تتشن): حتى في الجامعات العبرية في إسرائيل بدأ الطلاب العرب والمسلمون يبدون اهتماماً متزايداً بالعودة إلى دينهم، وبدءوا يمارسون ضغوطاً على السلطات اليهودية بالسماح بفتح كليات للثقافة الإسلامية والشريعة الإسلامية في الجامعات اليهودية، كما بدأ العديد منهم يطلقون لحاهم، ويؤدون العبادات الإسلامية في الجامعات اليهودية، في حين بدأت الفتيات المسلمات في ارتداء الزي الشرعي.
تقول الصحيفة أيضاً: في جامعة القاهرة يزيد عدد الطالبات بالزي الشرعي، وقد يأتي يوم لا تبقى فيه طالبة مصرية واحدة إلا وقد ارتدت الزي الشرعي الإسلامي.
وهذا ليس بعيداً على الله سبحانه وتعالى، والحقيقة أن موضوع دعوة تحرير المرأة قد تلقى كثيراً من الصفعات، منها ما ذكرناه آنفاً من إقبال الفتيات على الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
والعملية ليست عملية قديم وجديد، بل العملية عملية حق وباطل؛ لأنه دين الله سبحانه وتعالى، فهم لا يستطيعون أن يستوعبوا حقيقة أن العاقبة للتقوى، وأن كلمة الله هي العليا.(10/29)
الصفعات التي تلقتها دعوة تحرير المرأة
وهناك صفعات كثيرة تلقتها دعوة قاسم أمين، وأقوى صفعة هي المؤتمر الأخير هذا؛ لأنها عند من يعقل كشفت سوأة هذا المذهب المدمر.
ومن هذه الصفعات التي تناسب أن نوردها هنا إسلام كثير ممن هم مفتونون بهم من الغربيين، سواء أكانوا رجالاً أم نساءً، بل وأصبحوا ممن يلتزم بالإسلام ويلتزم بالحجاب وبالنقاب، وصاروا يدعون إلى الإسلام في غاية النشاط، وممن دخل في الإسلام منذ سنوات سفير ألمانيا الغربية في المغرب: (مراد هوفمان، وألف كتباً في ذلك، مثل كتاب (البديل الوحيد)، أي أن الإسلام هو البديل الوحيد للبشرية، ومن ضمن ما يقول في كتابه وهو يرد على الذين يقولون إن الأحكام في الإسلام أحكام قديمة وعتيقة.
لنقل إن الإسلام في تمسكه بالفضيلة عتيق، نعم هو عتيق، ولنا أن نعتز بذلك، فنؤكد أن الإسلام فخور بهذا.
أي: ما دام أن فيه الفضيلة.
ومن الصفعات التي تلقتها دعوة تحرير المرأة أيضاً: أن هدى شعراوي كانت تعد كوادر للمستقبل، فكان من ضمن التلميذات التي كانت تعدهن للمستقبل الأستاذة زينب الغزالي، فكانت ترسم لها -باعتبارها تلميذة وهي صغيرة- طريقاً، وشاء الله سبحانه وتعالى لها طريقاً آخر، وكانت زينب الغزالي طالما وقفت وجادلت علماء الأزهر من أجل الدفاع عن هدى شعراوي، لكن شاء الله سبحانه وتعالى أن تتعرض لحادثة حريق، وأثناء مرضها دعت الله سبحانه وتعالى أن يشفيها، وعاهدته على ارتداء الحجاب من هذه اللحظة، فلما استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءها تخلت عن الاتحاد النسائي بقيادة هدى شعراوي، فتلقت هدى شعراوي صفعة شديدة من هذه التلميذة النجيبة.
فلم تستسلم هدى شعراوي، وطلبت مقابلتها، ولما حضرت أخذتها بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها وقبلتها، ثم بكت وقالت لها: يا زينب! كنت أريدك أن تكوني خليفتي من بعدي في الاتحاد النسائي.
فردت زينب الغزالي: لقد اخترت واختار الله، فأنا مع اختيار الله، وأسست جمعية (السيدات المسلمات) التي كانت تنافس وتضاد اتجاه الاتحاد النسائي لـ هدى شعراوي، وبدأ الانفصام بين الاتجاهين يزداد، لكن عند مرض موت هدى شعراوي طلبت زينب الغزالي، فذهبت إليها ووافتها المنية وهي بجانبها.
وهكذا توبة الفنانات والفنانين، فالفن هو سلاح الشيطان في محاربة الإسلام والصد عن سبيل الله تعالى وإلهاء الشباب، لكن موجة التوبة والاستقامة التي حصلت في جنود إبليس وانضمامهم إلى حزب الرحمن كانت من الصفعات الشديدة لدعوة التحرير.(10/30)
الصراع بين الحق والباطل سنة كونية
إن أعداء الحق في كل عصر هم على وتيرة واحدة، وقلوبهم متشابهة فيما يرد عليها من الخواطر والشئون، فالمعركة والصراع بين الحجاب والسفور، وبين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال لن تنقطع، فإن التاريخ يعيد نفسه، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه، كما قال سبحانه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
فنحن مبتلون، والقضية أن وراءنا جنة وناراً، ووراءنا حساباً، وليست القضية قضية مذهب دنيوي يصارع مذهباً دنيوياً، أو مذهب سياسي أو اجتماعي أو غير ذلك، بل القضية أن أعداء الله يجتهدون في إطفاء نور الله عز وجل وتشويهه وصد الناس عنه، فالصراع مستمر، والصراع ما دام قائماً فهو علامة صحية؛ لأنه يدل على التمايز بين الفريقين، وزوال الحد الفاصل بين الحق والباطل هو الخطر الحقيقي الذي يهدد ذاتية وهوية هذه الأمة، فسنة الله لن تتخلف ولن تتغير؛ لأنها دنيا، والدنيا دار الابتلاء، كما يقول الشاعر: ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات فلا تطلبن من عند يوم ولا غد خلاف الذي مرت به السنوات اللهم! من أراد الإسلام وأهله بسوء فأدر عليه دائرة السوء، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره.
اللهم! اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(10/31)
حرمة العلماء
حث الإسلام على مكارم الأخلاق ورغب فيها، ومن تلك الآداب إكرام الكبير وصاحب العلم وحامل القرآن، حيث ورد الترغيب في ذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين أعظم قدوة في ذلك؛ إذ ضربوا في هذا الباب أروع الأمثلة، فما أحوج المسلمين إلى الأدب مع أكابرهم وعلمائهم!(11/1)
حب النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب رضي الله عنه
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراًًً ونذيراًَ بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، اللهم! صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أما بعد: فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزىً له فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم.
فلاناً وفلاناً وفلاناً.
ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم.
فلاناً وفلاناً وفلاناً.
ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا.
قال: لكني أفقد جليبيباً فاطلبوه.
فطلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال: قتل سبعة ثم قتلوه! هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه.
قال: فوضعه على ساعديه -ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلى عليه وسلم- قال: فحُفر له ووُضع في قبره.
ولم يذكر غسلاً) رواه مسلم في فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والحديث يرويه أبو برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزىً له)، يعني: كان في سفر غزو.
ويفهم من ذلك أنه كان في هذا السفر ومعه جليبيب رضي الله تعالى عنه.
(فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم.
فلاناًً وفلاناً وفلاناً.
ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم.
فلاناً وفلاناًَ وفلاناً.
ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا.
قال: لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه).
وجليبيب اسم لهذا الصحابي الجليل، وجليبيب تصغير جلباب، وقوله: (فطلب في القتلى)، أي: بحث عنه في القتلى: (فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه) أي: سبعة من المشركين قتلهم وحده رضي الله تعالى عنه، ثم بعد ذلك كأنه كان فيهم بقية روح فاجتمعوا عليه حتى قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (قتل سبعه ثم قتلوه! هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) والمقصود بهذا التعبير المبالغة في اتحاد طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق جليبيب رضي الله تعالى عنه، واتفاقهما في طاعة الله تعالى في مقابلة قوله في الجهة الأخرى في بعض المعاصي والذنوب: من فعل كذا فليس مني كما في قوله -مثلاً-: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) أما هنا فمبالغة في بيان شدة انتمائه إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (هذا مني وأنا منه) وكأنه قطعة من جسده أو بضعة من لحمه، قال: (فوضعه على ساعديه) نال جليبيب هذا الشرف، أن حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه الشريفتين: (ليس له -أي: ليس لـ جليبيب - سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحُفر له ووُضع في قبره)، وفي رواية: (ثم وضعه في قبره ولم يذكر غسلاً) لأن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه.(11/2)
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب امرأة من الأنصار
وعن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي صلى عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار) وهذا الخبر مما يطلعنا على بعض من سيرة جليبيب وشدة محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، فرغم أن جليبيباً كان في وجهه دمامة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبه؛ لأن الله ورسوله لا ينظران إلى الصور والأشكال، وإنما إلى القلوب والأعمال، فمن ثم كان له هذه المكانة الخاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه خطب على جليبيب امرأة من الأنصار: (فلما حدث في ذلك أباها قال: حتى أستأمر أمها.
فقال النبي صلى عليه وسلم: فنعم إذاً.
فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها، فقالت: لا هاالله! إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟) (لا هاالله!) تعني: هذا يميني فكلمة (لا) هي لنفي كلام الرجل الذي أبلغهم هذا أو زوجها، و (هاالله) الهاء بالمد والقصر، بمعنى واو القسم، ولفظ الجلالة مجرور بها، و (إذاً) جواب القسم: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟) وإنما قالت المرأة ذلك لأن جليبيباً رضي الله عنه كان في وجهه دمامة.
تقول: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟! وقد منعناها من فلان وفلان! قال: والجارية في سترها تستمع) أي أن الجارية كانت في الخدر أو في الستر تستمع لهذا الحوار من وراء الستر، قال: (فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟! إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه) جعلتهم يفيقون من هذا المسلك الذي يسلكونه لرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وفي رواية أنها قالت: (ادفعوني إليه؛ فإنه لن يضيعني) أي: ما دام هذا هو اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نسمع له ونطيع: (فكأنها جلت عن أبويها) يعني: فكأنها كشفت وأوضحت أمراً خفي عليهما، حتى كأنهما أفاقا من هذه الغشاوة التي جعلتهما يكادان يقعان في معارضة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل أجابا في الوقت، وقالا لها: (صدقت.
فذهب أبوها إلى النبي صلى عليه وسلم، فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضينا.
قال: فإني قد رضيته، فزوجها، ثم فزع أهل المدينة) يعني: حصل بعد ذلك أن أخافهم العدو (فركب جليبيب) يعني: كان جليبيب في أول من خرج في مواجهة هؤلاء المشركين: (فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم).
قال أنس: (فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة) يعني أن هذه المرأة التي تزوجها جليبيب رغم أنها كانت ثيباً بعد الزواج لكن مع ذلك كانت من أنفق بيت في المدينة، وكلمة أنفق هنا مأخوذة من النَّفاق -بفتح النون- وهو ضد الكفاف، ويقصد بالنفاق الرواج، كما جاء في الحديث: (إن الحلف ينفق ثم يمحق) أي أن التاجر حينما يحلف على بضاعته فإن هذا يروجها وينفقها، لكنه يمحق البركة بعد ذلك.
فالمقصود أنها كانت أعظم امرأة أيم في بيوت المدينة، بحيث كان يتسابق إليها الخطاب بعد قتل جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها.
وهذا الحديث الأخير صحيح على شرط الصحيحين، رواه أحمد وأبو يعلى مختصراً، ويشهد له حديث أبي برزة السابق عند مسلم.
وفي رواية قال ثابت: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها).
وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً فقال: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (اللهم! صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً كداً) قال: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها) والأيم: المرأة التي ليس لها زوج بكراً كانت أم ثيباً.
والشاهد من الحديث الوارد في شأن جليبيب رضي الله تعالى عنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) ففي هذا إشارة -كما ذكرنا- إلى اتحاد طريقهما، وأنهما كانا كأنهما جسد واحد، فقوله: (هذا مني) أي: كأنه قطعة مني أو بضعة مني (وأنا منه) مبالغة في بيان اتحاد الطريق والسبيل، ولهذا التعبير عن اتحاد الطريق بهذه العبارة نظائر، منها: ما روى أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم) متفق عليه.(11/3)
إشارة الحديث إلى ميزان الولاء والبراء
إن ذلك التعبير الذي يعطينا ميزان المولاة أو ميزان الحب في الله يعطينا أيضاً من الجهة الأخرى ميزان البغض في الله، وميزان البراءة ممن حاد الله ورسوله، وهو التعبير المشهور (من فعل كذا فليس منا)، أو (ليس منا من فعل كذا) فهكذا نصب الشارع علامات يعرف بهذه العلامات كون المعصية كبيرة من كبائر الذنوب، ومن هذه العلامات التعبير عن هذا الفعل بأن صاحبه ليس منا، أي: ليس من أهل سنتنا، وليس على طريقتنا الإسلامية.
وذلك أن الله تعالى قال للمؤمنين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وليس المراد بهذا التعبير الإخراج الحقيقي من الدين، وإنما المراد الزجر عن هذه المعاصي، كما في قوله: (ليس منا من تشبه بغيرنا) وقوله: (لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)، وقوله: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)، وذلك لأن سنة غيرنا منسوخة بشرعنا، وفي الجهة المقابلة يقول عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم)، أي: يصير منهم وليس منا.
ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ويقول: (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه من النساء بالرجال)، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من تَطير أو تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو تَسحر أو تُسحر له) ويقول أيضاً: (ليس منا من حلف بالأمانة) لأن الحلف بالأمانة حلف بغير الله، ويقول: (ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) (خبب) يعني: أفسد.
ومنها قوله: (ليس منا سلق ومن حلق ومن خرق) (من سلق) أي: رفع صوته عند المصيبة بالبكاء (ومن حلق) أي: حلق شعره جزعاً على المصيبة (ومن خرق) أي: خرق ثوبه جزعاً على الميت.
ومنها -أيضاً- قوله صلى عليه وسلم: (ليس منا من غش)، وقوله: (من غشنا فليس منا).
ومنها: قوله: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، (دعا بدعوى الجاهلية) كما تفعل المرأة النائحة حينما تقول: واكهفاه.
واجبلاه.
إلى غير ذلك من عبارات الجزع عند نزول المصيبة، أو أن المقصود بدعوى الجاهلية أنه كان من عادتهم في الجاهلية أن الرجل إذا غلب في الخصام نادى بأعلى صوته: يا آل فلان.
يا لبني فلان.
فيبادرون لنصرته ظالماً كان أو مظلوماً؛ لأنه استغاث بهم، فيفزعون إليه ماداموا من قبيلته ومن عنصره.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) والمقصود بالعصبية هنا معاونة الظالم، فالشخص العصبي هو الذي يغضب لعصبيته، ويحامي عنها بقبيلته أو عائلته أو غير ذلك مما ينتمي إليه، فالرسول عليه السلام يبغض إلينا هذا الداء الوبيل، داء الحزبية الجاهلية، وداء العصبية ومناصرة الشخص بمجرد أنه من حزبك أو قبيلتك أو عائلتك، لا لكونه على حق أو غير ذلك، وهذا الفعل القبيح قد شاع وذاع، خاصة بين بعض الجماعات الإسلامية، والذي يعتبر جرم الجماعات الإسلامية هو الحزبية البغيضة الجاهلية؛ حيث إنها تجعل الإنسان لا يحترم هذه القواعد في الولاء والبراء، وإنما يوالي في الحزب، ويعادي في الحزب، وليس مولاة في الله ومعاداة في الله عز وجل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بين بهذا الحديث أن تعصب الرجل لطائفة مطلقاً فعل أهل الجاهلية محذور مذموم، بخلاف منع الظالم وإعانة المظلوم من غير عدوان، فإنه حسن، بل واجب.
فلا منافاة بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وبين قوله: في نفس الحديث: (أن تحجزه عن الظلم، فذاك نصرك إياه).
ومن هذه الأحاديث أيضاً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)، كما لاحظنا في حديث جليبيب رضي الله تعالى عنه كيف أن هذه الجارية حينما استجابت وتأدبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفعها هذا الأدب، بحيث كانت رغم قتل زوجها رضي الله عنه أنفق أيم في المدينة كلها، وحظيت بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخير كله، فهذه إحدى ثمرات التزام الأدب مع الشرع المطهر ومع صاحب الشرع، وانظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلي شأن الأدب، إلى حد أنه كان يستعمل هذا التعبير الذي فيه بيان تنافي طريقه مع طريق من يسيء الأدب، وأن من يسيء الأدب ليس من المسلمين، وليس على طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا قال: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).(11/4)
مكانة الأدب في الإسلام
ومن هذا الحديث ندلف إلى موضوعنا، وهو الحديث عن حقوق المسلم، وصيانة عرضه، والتحذير من الغيبة ومن إطلاق اللسان في أعراض المسلمين بغير حق، ونحن لا نستوفي حقوق المسلم على المسلم، وإنما نقتصر -فقط- على التنبيه فيما يشيع التقصير فيه بين الناس في مثل هذا الزمان، فهذا الحديث الشريف يبين لنا كيف عظَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدب، حتى إنه عبر عمن لا يراعي الأدب، سواء أكان أدب الكبير مع الصغير في الرفق أم أدب الصغير مع الكبير بالاحترام والتوقير، أم أدب طالب العلم مع شيخه في أن يراعي حق هذا الشيخ عليه، فكل من لم يراع هذه الآداب فإنه متوعد بهذا التعبير الشديد الهول، وهو قوله: (ليس منا).
وقد اهتم السلف الصالح رحمهم الله تعالى بباب الأدب اهتماماً عظيماً، ليس بمجرد التصديق، وإنما أيضاً بسلوكهم وواقعهم، كما سنذكر إن شاء الله تعالى.
فالأدب اهتم به علماء المسلمين، حتى إنهم أفردوا فيه كتباً، ولا تكاد تجد كتاباً من الكتب الجوامع في السنة إلا وتجد كتاب الأدب جزءاً أساسياً من أبوابه ومن أغراضه ومقاصده، فهناك (كتاب الأدب) في صحيح البخاري، ومع ذلك الإمام البخاري أفرغ الأدب بكتاب آخر، وهو كتاب (الأدب المفرد)، وكذلك مَحضَّ بعض المصنفين بعض مصنفاتهم فقط للأدب، كما فعل السفاريني في كتابه المرسوم بـ (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) أو بـ (شرح منظومة الآداب)، وكما فعل الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى الذي كان يقول له شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية: إنك لست ابن مفلح، وإنما أنت مفلح.
وهو صاحب كتاب (الآداب الشرعية) بخلاف ما صنف من الكتب في الآداب واقتصر مؤلفه على جزء في باب واحد من أبواب الأدب، وذلك مجرد عبور على أبواب الأدب الغالبة المنتشرة في مصنفات علماء المسلمين، وبهذا نجد خطورة مجال الأدب وخطورة هذا الحقل من حقول الأخلاق الإسلامية، ونجد هناك كلاماً في الأدب على النية وآداب النية، والأدب مع الله سبحانه وتعالى، والأدب مع القرآن الكريم، والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدب مع الملائكة، والأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والأدب مع النفس بالتوبة والمراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والأدب مع الخلق باختلاف أنواع هؤلاء الخلق، والأدب مع الوالدين، والأدب مع الأولاد، والأدب مع الإخوة، والأدب فيما بين الزوجين، والأدب مع الأقارب، والأدب مع الجيران، والأدب مع أخيك المسلم، حتى الأدب مع الكافر أفردوه بالكلام، وذكروا الآداب الشرعية التي ينبغي أن يلتزمها المسلم مع الكافر، بل تكلموا حتى في الأدب مع الحيوان ومع البهائم.
وفي الكلام على حقوق الأخوة والأدب مع الإخوان في الله ذكروا آداب المجالس، وآداب الأكل والشرب، وآداب الضيافة، وآداب الاستئذان، وآداب السفر، وآداب اللباس، وخصال الفطرة، وآداب النوم، وآداب المسجد، وآداب حلق العلم، والأدب مع المشايخ، والأدب مع حاملي القرآن، والأدب مع كبير السن، وغير ذلك.
وربما يتصور بعض الناس أن الآداب فقط هي أشياء من باب المروءة أو أشياء مستحبة ونوافل، وهذا ليس بصحيح، بل من الآداب ما هو فرض متحتم وواجب أكيد على كل مسلم، كما سنبين إن شاء الله تعالى.(11/5)
احتفاء السلف بوظيفة الأدب
وقد بلغ من احتفاء السلف بوظيفة التأديب أن الأدب كان وظيفة من الوظائف التي يُرصد لها إنسانٌ خبيرٌ بها، فكما يتعلم الإنسان العلم وكما يحفظ القرآن كذلك كان يُجعل له مؤدب يؤدبه، حتى إن الإمام ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى كان يلقب (مؤدب أولاد الخلفاء) فكان هناك وظيفة شخص اسمه (المؤدب) يتولى تهذيب الطفل من صغره ومنذ نعومة أظفاره، ويربيه على مكارم الأخلاق وعلى تعظيم الدين، وغير ذلك من هذه الآداب الشرعية.
ومما يعكس خطورة موضوع الأدب والتربية أهميته بالنسبة للأولاد؛ لأن الأدب أعظم ما ينفع إذا بدأ منذ صغرهم ومنذ نعومة أظفارهم، وقد جاء أن بعض الخلفاء كان قد سجن بعض خصومه، فلما أفرج عنهم وأطلقهم من السجن قال: ما أشد ما مر عليكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فاتنا من تأديب أولادنا.
ولم يقولوا: ما فاتنا من حرياتنا أو من كذا أو كذا.
وإنما قالوا: ما فاتنا من تأديب أولادنا.
والكلام في باب الأدب كلام يطول جداً، لكننا سنجتزئ -كما أشرنا من قبل- أهم المهم من عيون هذا الموضوع.(11/6)
نماذج من أدب الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم
إذا رجعنا إلى سلوك الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأدبهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنرى من ذلك نماذج عظيمة وكبيرة، حتى إن الكافر الذي أوفده المشركون في صلح الحديبية حينما رجع كان من أشد ما أثر فيه أدب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه قال لإخوانه من المشركين: لقد وفدت على قيصر وعلى كسرى فما وجدت أحداً يعظم أحداً مثلما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمداً، ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، ولا توضأ وضوءاً إلا تقاتلوا عليه يعني أنهم كانوا يتبركون بوضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال رويم بن أحمد البغدادي لابنه: يا بني! اجعل عملك ملحاًًَ وأدبك دقيقاً.
قال له هذا مع أن المعروف أن نسبة الملح تكون قليلة حتى يصلح الطعام، فقوله له: اجعل عملك ملحاً يعني: قليلاً.
لكن اجعل أدبك هو الدقيق، قال: اجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقاً.
يأمره بالاستكثار من الأدب، حتى تكون نسبة الأدب في سلوكه من حيث الكثرة كنسبة الدقيق إلى الملح الذي يوضع فيه، وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من كثير من العمل مع قلة الأدب.
وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه، وأتأسف على فوته.
وقيل للعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (هو أكبر مني، وأنا أسن منه) حاله كما قال الشاعر: أدب كمثل الماء لو أفرغته يوماً لسال كما يسيل الماء وقيل لـ أبي وائل: أيكما أكبر أنت أم الربيع بن خثيم؟ قال: أنا أكبر منه سناً وهو أكبر مني عقلاً.
ودخل عروة بن مسعود الثقفي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، فجعل يحدثه ويشير بيده إليه حتى تمس لحيته، والمغيرة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده السيف، فكان عروة بن مسعود يسيء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه كان يشير إليه بيده، حتى يلمس لحية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان المغيرة رضي الله تعالى عنه واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده السيف، فكلما أهوى أو أشار بيده إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب يده بالسيف ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أو: اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك.
يهدده أن يقطع يده إذا امتدت ثانية إلى لحية رسول الله صلى الله وعليه وسلم وهو يكلمه، فقبض عروة يده.
ويكفي في ذم سوء الأدب أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في الأعراب الجفاة الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه من وراء الحجرات -وسورة الحجرات تسمى سورة الآداب؛ لما اشتملت عليه من الآداب الشرعية- فوصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين لم يراعوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] فنفى عنهم العقل لعدم مراعاتهم الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(11/7)
اهتمام السلف بباب الأدب
السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يولون باب الأدب اهتماماً عظيماً، كما روي عنهم أنهم كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، ولم يكونوا يقتصرون على تحصيل العلم النظري، وإنما أيضاً كانوا يمحضون نياتهم ويوجهونها نحو الاقتداء بالهدي وبالسمت الحسن.
ولذلك يقول إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه.
وقال ابن سيرين: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) فلابد أن يدقق الإنسان أولاً قبل أن يتلقى العلم، وأن ينظر في سمت وحال من يتلقى منه العلم.
وذلك هو ما فعله الإمام مالك رحمه الله تعالى، حيث يقول: رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم، فكان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه.
أي أنه كان رقيق القلب شديد التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان يسمع كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبكي، وليس بكاءً عادياً، وإنما كان يتمادى في البكاء، حتى إن من يجالسونه كانوا يرحمونه ويشفقون عليه لشدة تأثره وشوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذاً ما كانوا يقتصرون على تلقي العلوم النظرية حتى يضموا إلى ذلك أدب النفس، ومن ثم يقول الفراء الحنبلي: أدب النفس ثم أدب الدرس.
وقال بعضهم لابنه: يا بني! لأن تتعلم باباً من الأدب أحب من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم.
وقال مخلد بن الحسين لـ ابن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.
وذكر البرهان البقاعي أنه سأله بعض العجم أن يقرأ عليه فأذن له، فجلس متربعاً، فامتنع من إقرائه وقال له: أنت أحوج إلى الأدب منك إلى العلم الذي جئت تطلبه.
أي: لأنه جلس أمامه متربعاً، ولم يجلس جلسة المتعلم التي وردت في حديث جبريل عليه السلام.
وعن الأمام أبي حازم الأعرج رحمه الله تعالى قال: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا.
يعني: أقل ما نتعارف عليه من الأخلاق التواسي فيما بيننا.
أي: يعطي بعضهم بعضاً مما رزقه الله.
يقول: وما رأيت في مجلسه متماريين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا.
وفي الحقيقة هذا ليس في المقام الأول مدحاً لهؤلاء الطلبة، لكنه مدح لنهج شيخهم الذي رباهم على ذلك، ولذلك صدر الكلام بقوله: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه متماريين -ما كانوا يعرفون الجدل والمراء- ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا.
وقال خالد بن نزار: سمعت مالكاً يقول لفتى من قريش: تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم.
والأدب خير وسيلة لاستدرار علم الشيخ، فقد قال ابن جريج: لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به.
فمن هنا لا نستبعد ونستغرب ما قاله بعض الشعراء: ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب فكأن العلم والأدب هما الأب والأم، وإذا فقدهما صار يتيماً.(11/8)
أدب سحرة فرعون مع موسى عليه السلام
ذكر الله تعالى أدب السحرة مع موسى عليه السلام حينما قالوا: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:115] فذكر الزمخشري أنهم تأدبوا مع موسى عليه السلام، ثم ذكر أن هذا الأدب مع موسى نفعهم بأن هداهم الله سبحانه وتعالى إلى الإيمان.
وقد قص القرآن الكريم علينا كيف أن العجماوات نفسها راعت الأدب مع نبي الله سليمان حينما قالت نملة: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] وهذا من حسن الظن والأدب مع مقام سليمان عليه السلام، حيث قالت: إن سليمان وأصحابه لا يتعمدون قتل النمل، لكنهم سيقتلونكم دون أن يشعروا بذلك.
وفي هذا تأدب مع نبي الله ومع أصحابه أيضاً.(11/9)
أدب ابن أم مكتوم مع النبي صلى الله عليه وسلم
ومن مواضع الإشارة إلى هذه الآداب في القرآن الكريم قول الله سبحانه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:8 - 10] فقوله: (وأما من جاءك) فيه أن العلم يؤتى، ثم قال: (يسعى) ولم يقل: من جاءك يمشي.
إنما قال: (يسعى) لشدة حرصه على التعلم.
وقوله: (وهو يخشى) أي: يخشى الله سبحانه وتعالى.(11/10)
الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام
ومن المواضع التي يستفاد منها كثير من الأدب في القرآن الكريم -وما أكثر الآداب في القرآن الكريم- قصة موسى والخضر عليها السلام، حينما قال موسى للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] فهذه الآيات في هذا الموضع في القرآن الكريم تبين لنا أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، فمادمت تريد أن تتعلم وأن تستفيد فلابد من مراعاة هذه الآداب: أحد هذه الآداب أنه جعل نفسه تبعاً له، فقال له: (هل أتبعك) بخلاف من يذهب إلى الشيخ وإذا به يناطحه رأساً برأس وكلمة بكلمة، ويجلس متربصاًً كي يقذف سهام الاعتراض والتجاوز على شيخه، لكن انظر كيف أن نبي الله موسى كليم الله يرحل هذه الرحلة الشاقة التي يقول في شأنها: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، وذلك في سبيل طلب العلم، ففي في سبيل طلب العلم رحل موسى هذه المسافة الكبيرة.
فلما لقي الخضر عليه السلام قال له: (هل أتبعك)، فموسى جعل نفسه تبعاً لمن يريد أن يتعلم منه.
ومن هذه الآداب أيضاًَ أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، ولم يقل له: أنا تابع لك.
وإنما تلطف واستأذن فقال: (هل أتبعك) يعني: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك؟ وبلا شك أن هذه مبالغة عظيمة في التواضع من موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وأيضاً قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف:66] فهذا يتضمن الإقرار على نفسه بالجهل، وإقراراً لأستاذه بالعلم، فهناك عالم وهناك متعلم مفتقر إلى هذا العلم ولذلك قال موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] فأثبت أنه طالب علم مفتقر إلى ما عنده من العلم، ثم قال: {تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] و (من) هنا للتبعيض، يعني: من بعض ما علمك الله سبحانه وتعالى.
فهذا أيضاً -بلا شك- مشعر بالتواضع، وكأنه يقول له: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءاً من ماله.
وأيضاً قال موسى عليه السلام: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:66] إشارة إلى الاعتراف بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه ذلك العلم، وفي ذلك نسبة الفضل إلى صاحبه والمفيض به وهو الله عز وجل، وقوله: {رُشْدًا} [الكهف:66] هذا طلب منه للإرشاد والهداية، والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل للإنسان لحصلت له الغواية والضلال.
وقوله: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:66] طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، ولم يقل: أن تعلمن مما تعلمت.
أو: تعلمن مما عندك من العلم.
وإنما أشار إشارة عظيمة جداًَ هنا فقال: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:66] وفي هذا إشارة في غاية التهذيب والأدب والتواضع، أي أنه كما علمك الله فعلمني مما علمك الله.
يعني: عاملني بجنس ما عاملك الله به، فبما أن الله أفاض عليك بهذا العلم فقابل أنت هذه النعمة بالشكر بأن تفيض علي أيضاًًَ مما علمك الله.
ولعل هذا هو حكمة قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:66] وعدم قوله: مما عندك من العلم.
أو: مما تعلمت.
وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم، ولهذا شاع في العبارة المشهورة على ألسنة الناس: أنا عبد من تعلمت منه حرفاً.
أو: من علمني حرفاً صرت له عبداً.
وطبعاً ليس معناها العبودية التي هي عبودية من دون الله، لكن المقصود العبد الرقيق، يعني أنه يملكني كالعبد أو الرقيق.
كما أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: (لا إله إلا الله) فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة، فلا تكون متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة؛ لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها، وإنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا إنما أتينا بها لأجل أنه صلى الله عليه وسلم أتى بها، ولا جرم حينئذ أننا يصدق علينا الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا مختصون بتبعيتنا له، قال عز وجل: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وفي هذا أمر لنا بالاتباع.
فقول موسى عليه السلام: (هل أتبعك) يدل على أنه سيأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها، وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض فيما لا يصادم الشرع مصادمة صريحة.
كذلك قوله: (أتبعك) يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء.
وأيضاً ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أنه من بني إسرائيل؛ لأن موسى لما أتى إلى الخضر عليه السلام قال له: من أنت؟ قال: موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ فالخضر عرف أن الذي يحادثه هو من بني إسرائيل، وأنه موسى صاحب التوراة، وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة، وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة، وهذا هو اللائق به؛ لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان طلبه لها أشد، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد؛ لأنه يعرف قيمة العلم.
وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أدبني الدهر فأراني نقص عقلي كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي وكذلك في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف:66] أثبت كونه تبعاًً له أولاً، ثم طلب ثانياً منه أن يعلمه.
وكذلك قال موسى عليه السلام: (هل أتبعك على أن تعلمن)، فلم يطلب على تلك المتابعة شيئاً غير التعليم، كأنه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه، ولا غرض لي إلا طلب العلم.
وهذا هو محصل ما ذكره الفخر الرازي في هذا الباب، حيث ذكر الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام.(11/11)
احترازات السلف في باب الأدب في مقام التعليم
السلف رحمهم الله تعالى كانوا يهتمون بهذا الباب أيما اهتمام، بل كانوا يحترزون احترازاً شديداً حتى في أبسط العبارات، فقد كان طالب العلم -وهذا محكي عن بعض المتأخرين- إذا جلس في مجلس الشيخ وقرأ عليه، فإذا كان في نص الكتاب الذي يقرؤه: (اعلم أن الموضوع الفلاني حكمه كذا وكذا)، إذا أتى إلى هذه العبارة في الكتاب الذي يقرأ فيه لم يخاطب شيخه بكلمة (اعلم)، بل يحولها إلى قوله: (ليعلم)؛ تنزهاً من أن يكون هو في مقام التعليم لشيخه، فبدل أن يقرأها (اعلم رحمك الله أن العلماء قالوا كذا وكذا أو اختلفوا في كذا)، يقول: (ليعلم)، ويبدل الكلمة تنزهاً من أن يخاطب شيخه بهذا التعبير.(11/12)
الأدب من الكبير
في الحقيقة باب الآداب باب واسع، ويستغرق أوقاتاً كثيرة جداً، ونحن ننبه على بعض الآداب التي يشيع التهاون والاستهانة بها، وحينما نناقش هذه القضايا نرجو أن يكون كل منا يطلع عليها لغرض التطبيق والامتثال لآداب الشرع الشريف، ومعالجة ما يشيع بيننا من التقصير في هذه الجانب.
فندلف إلى أدب من هذه الآداب، وهو أدب مراعاة حق كبير السن، فمن يكبرك في السن فعليك أن تراعي حقه، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نعطي كل ذي حق حقه، بل أمر الله عز وجل بذلك في قوله: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] وصحيح أنها واردة في حوار شعيب مع قومه في بخس المال، لكن قد يكون معنى قوله: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85]، يعني: كل ما يستحقونه، ومنها الحقوق الأدبية بالاحترام والتوقير، وليس أدل على ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) أي: ليس من المسلمين، ولا أخلاقه أخلاق المسلمين، ولا أدبه أدب المسلمين؛ لأن المسلمين خير أمة أخرجت للناس.
فيجب أن نعرف هذه الحقوق، وأن نعطي الأكابر حقوقهم كاملة غير منقوصة، وأن نبذلها لهم عن طيب خاطر، وأن نخفض الصوت بحضرتهم، وأن نحرص على الانتفاع بخبرتهم، والالتقاط من جواهر علومهم، وإفساح المجال لهم، وتهيئة الموضع اللائق بشيبتهم، ووضع جواهر علومهم في صدورنا كما توضع الدرر الكبار في العقد المنضود، فإذا أراد إنسان أن ينظم عقداً فإنه يضع الحبات الكبرى في صدره وفي مركزه، فالصدر للصدر.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا) يدل على ذلك؛ فإنه إذا أمرنا بحسن الخلق مع الصغير فأولى ثم أولى أن تَحسُن أخلاقنا مع الكبير، وإذا أمرنا بالرفق مع الجاهل فيكف بالعالم؟ وإذا أمرنا الله عز وجل بحسن الخلق مع الكافر فكيف بالمسلم؟ وذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وهذه تعم اليهودي والنصراني، وقضية الولاء والبراء قضية أخرى من الثوابت التي لا تنازل فيها، لكن لا يعني أنك تعتز بدينك أن تكون سيئ الخلق ولو مع الكافر ولو مع البهائم، فأنت مطالب بمراعاة هذه الآداب، بل إن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وأخاه هارون عليهما السلام إلى فرعون أمرهما بالقول اللين، وموسى عليه السلام هو كليم الله الذي كتب له التوراة بيده، وخصه بتلك الخصائص، وليس هذا فحسب، بل ضم إليه أخاه هارون وزيراً، فهما رسولان كريمان أرسلا إلى أشقى خلق الله في زمانه وهو فرعون، ومع ذلك قال الله سبحانه وتعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فأمرهما بأن يقولا له قولاً ليناً.
إذاً لين القول والموعظة الحسنة والحكمة والأدب في الحوار لا يعني أنك تتنازل عن دينك، وسوء الخلق والتجاوز في التعبيرات لا يعني أنك قوي في الحق، إنما الفتوة أن تجمع بين الثبات على الحق مع حسن الخلق وفي نفس الوقت؛ لأنه ليس المقصود التشفي من هذا الإنسان الهالك، وإنما المقصود هدايته واجتذابه إلى الحق، وهذا ما التزمه موسى، بقوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:18]، فانظر إلى التلطف في عبارة موسى مع فرعون وهو من هو؟ ففي قوله: (هل لك إلى أن تزكى) تلطف، ولم يقل: هل لك إلى أن أزكيك، لكن قال: (هل لك إلى أن تزكى)، وكأنه هو الذي يزكي نفسه، ولم يقل له: هل لك إلى أن أزكيك، أو تعال أعلمك أو أزكيك، بل قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:8 - 19].
فإذا كان هذا مع الكافر فكيف به مع المسلم؟! وإذا كان مع الصغير فكيف به مع الكبير؟! وإذا كان مع الجاهل فكيف به مع العالم؟!(11/13)
مكانة إكرام ذي الشيبة المسلم
عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) رواه أبو داود.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله) يعني: من تبجيل الله وتعظيم الله، ومن العلامات التي تبين أن هذا الإنسان يعظم الله سبحانه وتعالى الآتي: أولاً: (إكرام ذي الشيبة المسلم) أي: الذي شاب رأسه ولحيته في التوحيد وفي العبادة وفي الصيام وفي طاعة الله سبحانه وتعالى وفي ذكره عز وجل.
فهذا لا شك أنه تتضاعف حرمته بسبب هذا النور الذي جعله الله في شعره، وهو نور المسلم كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الشيبة توجب له حقاً زائداً على من هو دونه، فإن من تعظيم الله أن تعظم من شاب رأسه ولحيته في التوحيد.
ثانياً: (وحامل القرآن)، أي: ومن علامات تعظيم الله سبحانه وتعالى تعظيم الشخص الذي شرفه الله سبحانه وتعالى بحمل القرآن، بشرط أن لا يكون غالياً فيه ولا جافياً عنه، والغلو فيه هو المبالغة في التجويد، أو الغلو فيه بالإسراع في بالقراءة، بحيث يمنعه الإسراع عن تدبر معانيه، أو الغلو فيه مجاوزة الحد فيه من حيث لفظه أو من حيث معناه بتأويل باطل، ولهذا قال: (غير الغالي فيه ولا الجافي عنه) والجفاء في القرآن: أن يتركه بعد علمه، وأن ينساه بعد حفظه، وأن يتباعد عن العمل به وإتقان معانيه، فهذا شرط حامل القرآن.
ثالثاً: (وإكرام ذي السلطان المقسط) يعني العادل، سواء أكان حاكماً أم دون ذلك من ذوي السلطان، فما دام عادلاً مقسطاً فإن إكرامه من إجلال الله سبحانه وتعالى، ومن ثم نجد علماء المسلمين في متون العقيدة ينصون على هذا، وهو أن خلفاء المسلمين الحاكمين بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمقيمين العدل بين الناس هؤلاء يتعبد بتعظيمهم، بل تعظيمهم من علامة تعظيم الله عز وجل.(11/14)
أهمية تقديم الكبير وإجلاله
جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من الشباب فأقاموا عنده، فلما قاربوا الانصراف قال لهم: (وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم) رواه البخاري.
فكبر السن أحد الأسباب التي تعطي حق الأولوية في الإمامة بعد أسباب أخرى، فإن قيل: لماذا هذه المجموعة خصت بقول النبي عليه الصلاة السلام: (ثم ليؤمكم أكبركم)؟ ف
الجواب
جاء في أول الحديث أنهم قالوا: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون) أي أنهم كانوا شباباً متقاربين في السن، وأتوا في وقت واحد، وتعلموا نفس العلم، فبالتالي يغلب عليهم أنهم حفظوا نفس الحفظ، فمعنى ذلك أنهم كانوا مستوين في قراءة القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم) وهؤلاء الشباب كانت هجرتهم في وقت واحد، وكانوا شباباً متقاربين في السن، فمن ثمَّ قال لهم في هذا الحديث: (وليؤمكم أكبركم).
ولما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر وشرع أصغرهم في الكلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر الكبر) والكبر: جمع أكبر، يعني: احترم الكبار.
فعندما يكون هناك صغار وكبار فعلى الصغار أن يتركوا الكبار أولاً يتكلمون.
ومثل هذه الآداب لا ينبغي لنا أن ندع أبناءنا يتلقونها جزافاً، وبصورة غير مقصودة، بل لابد من أنك تفرد مجالس مع أبنائك بأن تلقنهم تلقيناً هذه الآداب، وتلح على ذلك، وتحاسب أحدهم إذا قصر، بحيث تترسخ هذه الآداب في نفسه منذ صغره، وتسهل عليه عند كبره، ومن ثمَّ لم يدع الرسول عليه السلام هذا الموقف يمضي دون أن يلقن الطفل هذا الأدب الشرعي المهم، فلابد من أن تلقنهم ذلك وتوجهه توجيهاً مباشراً.
فلما شرع أصغرهم في الكلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر الكبر) يعني: قدم للكلام من هو أكبر سناً منك.
فهذا أحد حقوق كبير السن أنه لا يتقدم بالكلام بين يديه.
وجاء في بعض الروايات: (الكبر الكبر) بالنصب على الإغراء.(11/15)
أدب ابن عمر رضي الله عنهما مع الأكابر
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، لا تحت ورقها.
فوقع في نفسي أنها النخلة، فكرهت أن أتكلم وثمَّ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما لم يتكلما قال النبي صلى عليه وسلم: هي النخلة.
فلما خرجت مع أبي قلت: يا أبت! وقع في نفسي أنها النخلة.
قال: ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا.
قال: ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت).
متفق عليه.
فانظر إلى أدب عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، يقول النبي عليه السلام في هذا المجلس: (أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم)، وقد ضرب الرسول عليه السلام للمسلم أمثلة كثيرة، كما في قوله: (مثل المؤمن مثل النحلة، إذا أكلت أكلت طيباً، وإذا وضعت وضعت طيباً، وإذا وقعت على عود نخر لم تكسره) يعني: حتى لو أن المسلم ينصح فاسقاً أو فاجراً فإنه -أيضاً- يكون متأدباً في النصيحة ولا يجرح.
ولذلك قال: (وإذا وقعت على عود نخر لم تكسره) بل تفيد الناس.
والشاهد أن هذا الحديث -أيضاً- فيه ضرب مثل آخر للمؤمن، وهو أن المسلم مثله مثل النخلة؛ لأن المسلم يدين بالسلام أو بالسلامة لا غير، ولا يأتي منه إلا كل سليم وكل سلامة وعافية وخير.
وفي الحديث: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، فالمسلم هو من سلم الناس من أذيته، ولا يأتي إلا بالخير.
والشجرة التي مثلها مثل المسلم: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25]، أي: تعطي ثمرها كل حين بإذن ربها.
وقوله: (لا تحت ورقها) يعني: لا تسقط ورقها.
يقول ابن عمر: (فوقع في نفسي أنها النخلة) أي: عرف أن جواب هذا السؤال هو أنها النخلة، قال: (فكرهت أن أتكلم وثمَّ -أي: هناك- أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنها، فلما لم يتكلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي النخلة).
فلما خرجت مع أبي قلت: يا أبت! وقع في نفسي أنها النخلة، قال: ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا).
ثم انظر كيف أن ابن عمر أعطى أباه المبرر أو المسوغ لعدم كلامه، وهو مراعاة احترام من هو أكبر منه سناً في المجلس، فقال: (ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت).(11/16)
أهمية إجلال وتقديم صاحب العلم، وذكر نماذج من هدي السلف في ذلك
يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ وإن كان قد بلغ من العلم مبلغاً فآيس من خيره؛ فإنه قليل الحياء.
فقوله: (إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ) يعني المشايخ العلماء الذين هم أكبر منه في العلم وفي السن، ثم مع ذلك تراه يتكلم بين يديهم، فإذا سأل الشيخ سؤالاً يبادر هو إلى الجواب، ولا يراعي هذا الضابط، أو لا يراعي هذا الأدب، يقول: إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ وإن كان قد بلغ من العلم مبلغاً فآيس من خيره؛ فإنه قليل الحياء.
أي: لا تضع فيه أملاً بأنه يأتي منه خير؛ لأن هذا قليل الحياء، ولو كان عنده حياء لاستحيا أن يتكلم في حضور من هم أكبر منه.
وقال خلف: جاءني أحمد بن حنبل يسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه.
والإمام أحمد هو إمام أهل السنة والجماعة، فاجتهد خلف في أن يجلس الإمام أحمد على مكان مرتفع، فالإمام أحمد أبى إلا أن يجلس جلسة المتعلم منخفضاً عند المحدث خلف.
يقول: فاجتهدت أن أرفعه بأن ألح عليه أن يرتفع في المجلس فأبى، وقال: لا أجلس إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه.
وكان القاضي أحمد بن إبراهيم بن حماد المالكي مع كونه كبير القضاة إلا أنه كان يتردد إلى الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي يسمع من تصانيفه، واتفق مجيء شخص لاستفتاء الطحاوي عن مسألة والقاضي عنده، أي أن الرجل جاء يسأل الإمام الطحاوي في مجلسه وكان كبير القضاة موجوداً في هذا المجلس، فلما سأل الرجل الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى عن هذه المسألة قال الطحاوي: مذهب القاضي -أيده الله- كذا وكذا.
ولم يقل: مذهبي.
وإنما حكى مذهب القاضي الجالس في المجلس، فقال له السائل: ما جئت إلى القاضي، إنما جئت إليك! فقال: يا هذا! هو كما قلت.
فأعاد السائل، فقال له القاضي: أفته -أيدك الله- برأيك.
فقال له الطحاوي: إذاً حيث أذن القاضي أيده الله أفتي ثم أفتاه.
وقال أبو زكريا العنبري: شهدت جنازة حسين القباني سنة تسع وثمانين ومائتين، فصلى عليه أبو عبد الله -يعني محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي شيخ أهل الحديث في عصره -فلما انصرف قدمت دابته، فأخذ أبو عمرو الخفاف بلجامه، وابن خزيمة إمام الأئمة بركابه، وجعل الجارودي وإبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه، فمضى ولم يكلم واحداً منهم.
وهذا موقف عابر، لكن إذا تأملت وحللت هذا الموقف تجد شدة احترام هؤلاء لأكابرهم ولعلمائهم، فمجرد أن صلى الإمام البوشنجي رحمه الله تعالى على الجنازة فلما انصرف قدموا له الدابة التي يركبها، وكان الذي احتف به يخدمه هم أئمة المسلمين في ذلك العصر وفي ذلك البلد، فهذا أبو عمرو أخذ بلجامه، والإمام ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة رحمه الله تعالى أخذ بركابه، والجارودي وإبراهيم بن أبي طالب جعلا يسويان عليه ثيابه، فمضى ولم يكلم أحداً منهم رحمهم الله تعالى أجمعين.
وعن حكيم بن قيس بن عاصم أن أباه أوصى عند موته بنيه، فقال: اتقوا الله! وتوجوا أكبركم؛ فإن القوم إذا توجوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا توجوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم.
فقوله: (اتقوا الله وتوجوا أكابركم) يعني: راعوا حق الكبير وقدموا الكبير.
(فإن القوم إذا توجوا أكبرهم) يعني: جعلوه سيدهم (خلفوا أباهم) يعني: قاموا مقام أبيهم في حسن الفعال.
(وإذا توجوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم) فالأكفاء سوف ينظرون إليهم بازدراء، فعدم احترامك للكبير يجعل من يراك من بعيد ينظر إليك بازدراء؛ لأن في هذا نسبة لك إلى سوء الأدب.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (البركة مع أكابركم، البركة مع أكابركم).
وعن عبد الله بن مغول قال: كنت أمشي مع طلحة بن مطرف، فصرنا إلى مضيق -أي: إلى مكان ضيق لا يتسع إلا لمرور شخص واحد فقط- فتقدمني -يعني أنه كان يعرف أنه أكبر منه في السن فسارع هو إلى التقدم- ثم قال لي: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك.
وعن الفضل بن موسى قال: انتهيت أنا وعبد الله بن المبارك إلى قنطرة، فقلت له: تقدم.
وقال لي: تقدم.
فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين.
يعني أنهما -حتى يحسما الخلاف- ظلا يحسبان عمر كل منهما.
قال: فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين.
فيفهم من ذلك أن الذي تقدم هو الأكبر.
وعن يعقوب بن سفيان قال: بلغني أن الحسن وعلياً ابني صالح كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي.
يعني أنهما توأمان ولدا في وقت، ومعلوم أنه لا يخرج التوأمان في وقت واحد، وإنما يكون هناك فرق بينهما قد يكون دقائق أو أكثر أو أقل، ومع ذلك يقول هنا: بلغني أن الحسن وعلياً ابني صالح كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي -أي أنه أكبر منه بدقائق- فلم ير قط الحسن مع علي في مجلس إلا جلس علي دونه، ولم يكن يتكلم مع الحسن إذا اجتمعا في مجلس.
مراعاة لهذا الفارق البسيط في السن بينهما، وهو عبارة عن لحظات؛ لأنهما توأمان، فالله المستعان.
ويقول يحيى بن معين الإمام الجليل رحمه الله تعالى: إذا حدثت في بلدة فيها مثل أبي مسهر فيجب على لحيتي أن تحلق.
يعني: إذا حدثت في بلدة فيها مثل أبي مسهر فهذا سوء أدب، وبالتالي ينبغي أن أعزر وأعاقب بحلق لحيتي.
وهو لا يحصل منه ذلك، وإنما هذا مجرد ضرب مثل، وإلا فبعض الأمراء الذين لم يكن عندهم فقه كانوا إذا أرادوا تأديب الرجل والتشهير به حلقوا له لحيته، فهذه العقوبة كانت من التعزير، ولذلك العلماء نصوا في كتب الفقه على أنه لا يجوز التعزير بحلق اللحية؛ لأنها معصية، والتعزير لا يكون بالمعاصي، لكن الشاهد من هذا الموقف مراعاة الأدب مع من هو أجل وأكبر.
وعن الحسن بن علي الخلال قال: كنا عند معتمر بن سليمان يحدثنا إذ أقبل ابن المبارك، فقطع معتمر حديثه، فقيل له: حدثنا.
فقال: إنا لا نتكلم عند كبرائنا.
وانتهى أبو منصور وإبراهيم إلى زقاق، فقال له إبراهيم: تقدم.
فأبى أن يتقدم، فتقدم إبراهيم، ثم قال: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمت.
وهذا غير القصة التي ذكرناها قبل.
وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: إذا تكلم الحدث -يعني: صغير السن- في الحلقة عندنا أيسنا من خيره، وقلنا: هذا لا يفلح؛ لأنه سيء الخلق قليل الحياء.
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى: رأيت أبي إذا جاء الشيخ والحدث من قريش أو غيرهم من الأشراف لم يخرج من باب المسجد حتى يخرجهم، فيكونوا هم يتقدمونه، ثم يخرج من بعدهم.
وقال المروزي: رأيته جاء إليه مولى ابن المبارك، فألقى إليه مخدة وأكرمه.
يعني: عظم الإمام وأحمد مولى ابن المبارك وخادمه أو عبده تعظيماً لـ ابن المبارك نفسه.
يقول: رأيته -يعني الإمام أحمد - جاء إليه مولى ابن المبارك فألقى إليه مخدة وأكرمه، وكان إذا دخل عليه من يكرم عليه يأخذ المخدة من تحته فيلقيها له.
وقال المروزي: كان أبو عبد الله -يعني الإمام أحمد رحمه الله- من أشد الناس إعظاماً لإخوانه ومن هم أسن منه، لقد جاءه أبو همام راكباً على حمار، فأخذ له أبو عبد الله بالركاب، ورأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ.
وكان بكر بن عبد الله المزني يقول: إذا رأيت من هو أكبر منك فعظمه، وقل: إنه سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح، وإذا رأيت من هو أصغر منك فعظمه وقل في نفسك: إني قد سبقته إلى الذنوب.(11/17)
إجلال حامل القرآن وتقديمه
وأيضاً من هذه الحقوق حق حامل القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا في الحديث الصحيح أن خيرنا هم أهل القرآن، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فهذا بيان لطبقة عليا من طلبة العلم، وأن أشرف طلبة العلم وخير العلماء والمتعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن الكريم؛ لأن خير الكلام كلام الله، فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل بكلام الله عز وجل مريداً بذلك وجه الله سبحانه وتعالى، فلأهل القرآن شرف عظيم بهذه الشهادة على لسان رسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وقد خص الشرع الشريف أهل القرآن بكثير من الفضائل، فإنهم يتقدمون بحسب اهتمامهم بالقرآن الكريم، وبحسب حظهم من حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم حينما استعرض قوماً وكان بصدد تأمير أمير عليهم فسألهم عما يحفظ كل منهم، فلما رأى أحدهم قد قرأ سورة البقرة قال له: (أنت أميرهم)، فأمَّره لحفظه سور البقرة.
وقال عليه الصلاة السلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
رواه مسلم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً) رواه البخاري.
أي: كان القراء -حفاظ القرآن- هم الذين يقدمهم عمر، بغض النظر عن سنهم، سواء أكانوا كهولاًُ أم شباباً ما داموا حافظين للقرآن، فكان يشكل منهم مجلس مشورته ومصاحبته.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن لله أهلين.
قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته).
وكان صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: (أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟) أي: يجمع بينهما في الدفن، ويقدم أحدهما قبل الآخر، وهذا التقديم يتم على أساس حفظه للقرآن الكريم، فكان يقول: (أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد) رواه البخاري.
وبهذا نكون قد مررنا على بعض الحقوق العامة الشاملة التي تتعلق بحق المسلم عموماً، وفيما يتعلق بحفظ غيبته وعدم انتهاك حرمته بالغيبة، فضلاً عن البهتان، وكذلك مراعاة الأدب مع كبير السن، وكذلك الأدب مع حامل القرآن الكريم، والقاعدة أن الحرمة تتضاعف بتعدد جهات الانتهاك، أي أن بعض المعاصي إذا حصلت في المخالفة من جهة واحدة فهذا ذنب، ويتعاظم هذا الذنب وهذا الوزر إذا تعددت جهات الانتهاك.
فمثلاً: لو أن إنسان له جار، فله حق الجوار وله حق المسلم، ولو كان قريباً فله حق زائد وهو حق الرحم، فأذية مثل هذا الجار لا يكون وزرها مثل أذية الشخص الأجنبي أو الجار الكافر، وهكذا، فكل ما مضى من كلام كان تمهيداًً وتوطئة لأعظم الناس حقاً في المسلمين، وهم أهل العلم وأهل البصيرة في الدين، فهم يشتركون مع كل من مضى في هذه الحقوق: حق الإسلام، وحق كبر السن، وحق حمل القرآن الكريم، ثم بعد ذلك حق العلم الذي شرفهم الله سبحانه تعالى به، فإن هذه الحقوق جميعاً -وخاصة حق العلم- تفرض علينا التزامات تجاههم، وحينما نتكلم عن أهل العلم فنحن لا نقصد زمناً معيناً أو مكاناً معيناً، وإنما نقصد جميع أهل العلم ابتداء من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى عصرنا الذي نعيشه، فللعلماء حرمة وحقوق وآداب ينبغي أن نلتزمها معهم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/18)
طول الأمد
لقد نهانا الله عز وجل عن أن نتشبه باليهود الذين أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وطول الأمد تنتج عنه أمور: منها البعد عن الله وعدم العمل بالقرآن، وترك تحكيم شرع الله، ولكن على الإنسان أن يبحث عن علاج لهذه الأسباب والأمراض التي بدأت تستشري في قلوب كثير من الناس وإلا وقع في المصيبة، نسأل الله العافية.(12/1)
أهمية الالتزام وتجديد الإيمان
الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخي المسلم! نحن نعرف أن كلمة (ملتزم) شاعت في بداية الصحوة الإسلامية كمهرب يهرب به الإخوة من وصف الناس بالكفر، وأيضاً للتمييز بين المسلم الذي يدخل في اسم عموم الإسلام مع أنه مقصر ومفرط في دينه، فكأنها صارت تعبيراً عن مسلم حسن إسلامه، فراراً من تكفير المسلمين بالمعاصي والتقصير، وفراراً أيضاً من وصف المسلم العام الذي يفرط ويقصر في دينه، والذي كنا جميعاً نلحظه أن كلمة (ملتزم) هذه كانت كلمة لها شأن عظيم جداً؛ لأنها كانت تعبر عن نقطة تحول كاملة في كل السلوك الحياتي والفكري والحد الفاصل بين ما مضى وبين الأمس، وبين اليوم وبين الغد، كانت نقطة تحول يتحول الإنسان فيها ويعيد تخطيط حياته كاملةً في ضوءِ ما يمليه عليه دينه الذي جدد العهد مع الله تبارك وتعالى أن يلتزم به، وينبغي أن نشتغل بدعوة الناس عموماً إلى الالتزام بدينهم، وأن نقوم بتحسين إسلامهم، ويتوجب علينا بين الحين والآخر أن لا ننسى أنفسنا، فنحن محتاجون إلى تصحيح إسلامنا وتجديد إيماننا، مع الاهتمام بالفقرة العددية والانتشار الأفقي في ساحة الدعوة، وربما كان هذا على حساب التغذية الفردية والسلوكية في بعض الناس، وخاصة إذا ضممنا إلى ذلك أن إنساناً يكون في أغلب عمره قد قضى هذا العمر من طفولته إلى صباه إلى أوائل شبابه طبقاً لنظام معين في المجتمع، وفي تعاملاته وأخلاقه وسلوكه، فإذا أراد تغيير بعض الصفات في الكبر فإنه يكون فيه شيء من الصعوبة، وربما حمل الإنسان على فعل ما كان عليه من قبل هذا الالتزام أو أن يترخص فيما لا يجوز له فيه الترخص أنه لم ينشأ على طاعة الله منذ الصغر، فنرجو أن تكون الأجيال القادمة بإذن الله أسعد حظاً منا.
وأكثر ما نعانيه الآن أنه بطول الأمد وبمرور الوقت يحصل فينا تغير وتحول، وهذا التحول الذي بقي يصيب المظهر أحياناً، وليس في الأمر كبير خطورة، لكن المشكلة أن هذا التحول مع الوقت يصيب الجوهر لا المظهر فقط، وينفذ إلى الصفات، ويعدل القيم والموازين التي ما كنا نتصور أنه في يوم من الأيام أن نتنازل عنها أو نمعن التفكير فيها.
أيضاً التحول في ترتيب الأولويات التي تشغل الإنسان في حياته، فبعد أن كان الأخ يعاهد الله تبارك وتعالى حينما يلتزم على أنه إذا تزوج سيفعل كذا، وأنه إذا رزق بأولاد سيربيهم على كذا، وسيجعلهم يحفظون القرآن في سن كذا إلى آخر هذه الخطط والآمال إذ أنه يغير هذا كله، والواقع أننا نكون قد تنازلنا عن هذه الأشياء أو قصرنا أو فرطنا، وربما تغيرت نظرة الناس إلى أشياء كثيرة حتى يجوز أن يسمى حالهم بالافتتان، وقد قال بعض السلف في حد الفتنة: أن تستحل ما كنت تراه حراماً.
يحمل هذا على أن الإنسان يترخص في شيء كان يراه حراماً، ولا يكون تحوله هذا عن زيادة علم ورسوخ في الفقه، وإنما مجرد جريان وراء الهوى والشهوات، وضعف أمام الفتن والمغريات، فنحن الآن ينبغي أن نلتفت إلى ضرورة أن نسعى لتحقيق صحوة جيدة أو زيادة الصحوة، فتوبتنا تحتاج الآن إلى توبة، والتزامنا يحتاج إلى التزام، وعلينا أن نجدد العهد مع الله تبارك وتعالى، وليس في هذا معرة أو أي نقص، وإنما هذه طبيعة البشر، إننا في الطريق إلى الله بصفتنا البشرية قد نتعثر، وليس الخطأ أن تتعثر ولكن الخطأ أن تتخذ الحفرة التي وقعت فيها مستقراً ومقيلاً، وتأوي إليها، وتخضع وترضخ لهذا الأمر، والواجب على الإنسان أن ينهض من العثرة ويجدد التوبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً، إذا ذكر ذكر) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ونفس هذا المعنى الذي يشير إليه عبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حتى لا ينزعج بعض الناس من هذا التعبير الذي نقوله، وهو أننا ينبغي أن نبحث عن تحقيق الصحوة، وتجديد الإيمان، وتحقيق الالتزام من جديد، وتجديد التوبة، وقد ألفنا خيراً من شيخ الإسلام ومجدد شباب الإسلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى، حكا عنه ابن القيم رحمه الله في أواخر حياته المباركة يقول: هذا كلام شيخ الإسلام: والله منذ أن احتلمت وبلغت وعقلت إلى الآن ما أعلم أني أسلمت إسلاماً جيداً، وإني أجدد إسلامي إلى الآن.
فما هناك شك في أن أمثالنا أحوج إلى تصحيح الإسلام وتجديد العهد مع الله تبارك وتعالى من وقت إلى آخر.(12/2)
الدعوة إلى التوبة من المعاصي والغفلة
الله تبارك وتعالى أمرنا بتجديد هذا الإيمان والإسلام، والتقصير طبيعة البشر، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، ولما سأله بعض الصحابة الوصية قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) مع أنه سيحرص على تحقيق التقوى، لكن لا يمنع أنه يقع في تقصير، والمهم أنه لا يستسلم للشيطان، ينهض من العثرة، ويجدد توبته، ويستأنف المسير إلى الله عز وجل.
(وأتبع الحسنة السيئة تمحها) لأن الإنسان غير معصوم، (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، وقال عز وجل في مدح المؤمنين {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:135] ولم يقل: هم معصومون من فعل المعاصي.
لكن قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) شبههم بالقمع، وهو الذي يوضع فيه السائل فيخرج من أسفله، فمعنى ذلك أن هؤلاء لا ينفعلون بالنصيحة، وإنما تدخل فيهم من أعلى وتخرج من أسفل كأنها لا فائدة منها، وكأنهم لا يستفيدون ولا ينتفعون بها، والله تبارك وتعالى هو الذي يأمرنا أن نستجيب له فقال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:47 - 48]، والله عز وجل ينادينا إلى التوبة، وهو أرحم بنا من أنفسنا تبارك وتعالى، ليس هذا فحسب، بل هو يأمرنا بالمبادرة والمسارعة والمسابقة، فيقول: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] هذه هي الروح التي ينبغي أن تحكمنا في مسيرنا إلى الله، أننا نحقق في قلوبنا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فنفر من الله إلى الله (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) كما كان يدعو صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقول تبارك وتعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، ويقول عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] هذه دعوة الله، هذه هي دعوة الحق، فهو يدعو إلى دار السلام.
وقال عز وجل في شأن المشركين: (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، ويقول تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27 - 28] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في تنبئه في فتن آخر الزمان: (دعاةٍ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ونحن اليوم تتخطفنا دعوات الشر من كل جانب، ومن كل حدب وصوب، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ومثل هذه الفتن التي تحيط بنا من كل مكان ليس لها من دون الله كاشفة، فينبغي أن نعتصم بالله عز وجل، ونجتهد في النجاة، ولا تغرنا تلك القوافل أو الكتل التي تهوي إلى جهنم وهي غافلة عن هذا المصير ولا تهتم به، ولا تنظر فيما يكون فيما بعد الموت أو بعد الحياة.
ومما يقوي همتنا على ذلك أن الله عز وجل عظم ثواب التدين في وقت غفلة الناس وانخراطهم عن دين الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل، فكما أنه بالقدر الذي تعاني من الفتن حولك وتصبر لوجه الله بقدر ما يعظم ثوابك عند الله، كما قال عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نفقتك ونصبك) فبقدر ما تعاني في طريق الاستقامة في سبيل الله بقدر ما يعظم أجرك عند الله تبارك وتعالى، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ) الذي يعبد الله وقت الهرج ووقت الفتن ووقت اختلاط أمور الناس وكثرة القتل ووقت انصراف الناس عن الدين إلى الدنيا، فإن هذه هجرة تكون في القلب، فهو ربما يعجز، إذ قد لا توجد طريق للهجرة إلى دار إسلام أو إلى بلد أخف شراً، فإذا عمت الفتن فليهاجر الإنسان بقلبه، ويهجر السوء وأهله إلى الخير وأهله، يكون ثوابه حينئذ كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعظم ثواب التدين وقت الغفلة، لذلك لما سئل أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] فقال للسائل: سألت عنها خبيراً، أنا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلاً فقال: (مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم هوىً متبعاً، وشحاً مطاعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه عليكم أنفسكم، لا يضركم ضلال غيركم) لا تغتر بكثرة الهالكين، كما قال الفضيل بن عياض: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة! ولا تغتر بكثرة الهالكين.(12/3)
أسباب طول الأمد(12/4)
إهمال الجانب السلوكي والتربوي
أيضاً من هذه الأسباب التركيز على الجانب العقلي أو الجانب النظري مع إهمال الجانب السلوكي والتربوي، إهمال الروح والنفس مع أن تزكية النفس من أعظم الوظائف التي بُعث رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم من أجل تحقيقها، يقول الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: النفس {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10].
ويقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] فالفلاح منوط بالتزكية، وهي تطهير القلب بالتوحيد والعقيدة الصحيحة، أي: مراعاة حرمات الله واجتناب ما يسخطه عز وجل.
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإيمان ليَخلقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم).
اللهم! إنا نسألك أن تجدد الإيمان في قلوبنا.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الإيمان ليخلق) يعني: يبلى (كما يخلق الثوب) إذا كان عندك ثوب فيه ألوان أو خطوط فمع كثرة الغسيل والمواد الكيماوية وتعرضه للشمس والاستعمال تجد الثوب يدرس وجهه وتنمحي معالمه رويداً رويداً، فيخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بهذه الحقيقة، وينبغي أن نصدق بما يخبرنا عليه الصلاة والسلام.
(إن الإيمان يَخلقُ في جوف أحدكم) أي: يضعف، ومع طول الوقت تنمحي معالمه كما يخلق الثوب.
ويرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسباب معينة لا بد من أن نلاحق بها هذا البِلى، فلا بد من أن يحصل عامل مضاد نواجه به هذا البِلىَ وهذا الانجراف، ويذكر هنا عليه الصلاة والسلام دعاءً معيناً لزوال هذا المرض، فهذا هو المضاد لعملية ضعف الإيمان في القلوب (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) يعني: حتى لا يبقى في قلوبكم رغبة في غير الله عز وجل.(12/5)
موت الغيرة على الحرمات في القلوب
أيضاً من أسباب طول الأمد موت الغيرة على الحرمات في القلوب؛ لأنه كلما كان الإنسان منكراً للمنكر آمراً بالمعروف يبقي قلبه حياً حساساً إزاء المنكرات، فبعض الناس يكون عندهم حساسية من نوع من الأدوية، فإذا أخذه تحصل له هذه الحساسية، كذلك قلب المؤمن إذا رأى المنكر ينفعل ويثور دمه ويغلي، وكان عليه الصلاة والسلام لا يغضب إلا لله، كان لا ينتصر لنفسه صلى الله عليه وآله وسلم، فكذلك الإنسان على الأقل فيما يخص نفسه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في إحدى علامات حياة القلب التي يجد فيها الإنسان حلاوة الإيمان: (أن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) فتكره الكفر والمعاصي، فالفساد ينبغي أن تكرهه وتبغضه بقلبك؛ لأن الله يبغضه فضلاً عن أن تفتن به أو تستجيب لفتنته، فالإنسان يكره ويبغض بقلبه ما يكرهه الله تبارك وتعالى، حتى يتحقق فيه قوله عز وجل: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]، فهل الإيمان وأفعال الإيمان مزينة في قلبك؟ هل الذي لا يغض بصره يعرف أن الله مطلع عليه وأن الله يبغض منه هذه المعصية حين ينظر إلى ما حرم الله؟! وهل هذا يكره المعصية كما يكره أن يقذف في النار؟ كلا.(12/6)
التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من الأسباب التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعلل بحجج باردة لا تغني عن صاحبها شيئاً، والإنسان إذا قصّر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة إذا وجب عليه فهذا يضعف الغيرة في القلب على الحرمات، فالشيطان يلبس على الناس فيقول المرء: أنا آمر وأنهى ولم أتعلم علماً كثيراً من العلم.
لكن تستطيع أن تأمر وتنهى فيما هو معلوم في الدين من الضرورة وما أكثره في مجتمعنا! رجل يضيع الصلاة هل هذا يحتاج إلى أن تتفقه عشر سنوات حتى تأمره بصلاة الجمعة التي يهجرها أو صلاة الجماعة أو الصلاة أصلاً إذا كان تاركاً للصلاة؟ والربا والخمر ونحو هذه الأشياء لا يسع مسلماً أن يجهلها، ولا تحتاج إلى مراجع كبيرة وسنوات كثيرة حتى تتعلمها لتنكرها، والتبرج والتهتك الذي يحصل من النساء، كل هذه الأشياء لا بد للإنسان من أن ينكرها، وكلما مررت على المنكر ولم تنكره أو المعروف ولم تأمر به ففي هذه الحالة لا تظن أن قلبك في حالة سكون، لا بد أن يتأثر بكل ما يراه، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) يعني: الفتن تعرض على نفس الشكل على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً.
ولم يقل: تُعرض على العين وإنما: على القلوب.
وربما تكون الوسيلة هي العين وربما تكون هي الأذن، لكن في النهاية تصل إلى القلب ويتأثر شئت أم أبيت، ومعنى (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير) أنه إذا نام الإنسان وقد كشف جنبه على الحصير فبعدما يستيقظ يجد أثراً لهذا الحصير في جنبه على هيئة خطوط في لحمه وجلده، فهذا هو عرض الحصير، فمعنى ذلك أن الفتن مثل الحصير، والجنب مثل القلب، فما دام الإنسان يتعرض للفتن ويعيش في جو فيه فتن لا بد أن قلبه سيتخذ موقفاً من هذه الفتنة، ويتأثر سلباً أو إيجاباً، زيادةً أو نقصاناً، فإن القلب يتأثر بالفتن كما يتأثر الجنب بالحصير إذا نام عليه، ولا بد أن ينطبع في قلبك شيء إزاء كل فتنة، يقول عليه الصلاة والسلام: (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلبٍ أُشربها-تشرب بها وقبلها- نُكتت فيه نكتةٌ سوداء) إذا مرت عليك فتنة لم تنكرها بدرجة الإنكار الواجبة عليك سواء الإنكار باليد إن كنت قادراً على ذلك وبشروطه، أو الإنكار باللسان أو الإنكار بالقلب الذي هو فرض عين على كل مسلم، أما إنكار المنكر بالقلب فليس فرض كفاية، وليس بعده شيء اسمه استطاعة، والحديث فيه: (فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) ولم يقل: (فإن لم يستطع) بعد إنكار القلب؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، حتى الإكراه، فقد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فالقلب إذا رضي بالمنكر فإنه يموت ويخرج منه الإيمان؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبةٍ من خردل)، فينتفي الإيمان من القلب في هذه الحالة.
(وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين) تنقسم القلوب بعد حصول هذه الفتن والتعرض لها إلى نوعين: قلب أسود مرباد - معكر- كالكوز مجخياً.
أي: كالكوز المنكوس المقلوب الذي قاعدته إلى أعلى فلا يستوعب الخير، فإذا وضعت فيه أي شيء كسائل أو حبوب فإنه سيقع لأنه منكوت، كذلك هذا القلب إذا ابتلي -والعياذ بالله- بالاستجابة وقبول الفتن وتشربها فإنه يمرض ويعتل، ولا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من الهوى.
وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، فإذاًَ الشيطان يزين للإنسان كما يزين لبعض الناس الجهلة، يقول: أنا سأحج لكن حين يقوى إيماني، وسألتحي لكن لما يقوى إيماني قليلاً، وتقول المرأة: سأتحجب لكن لما يقوى إيماني.
كلا، الطاعة هي التي تقوي الإيمان، والإيمان يزيد وينقص كما هو مقرر عند أهل السنة، يزيد بأسباب وينقص أيضاً بأسباب، فعليك أن تأخذ بهذه الأسباب وتستعين بالله، وتجتنب أسباب النقص، فيزيد الإيمان بالطاعات وينقص بالمعاصي، فمن أعظم الطاعات التي ترضي الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] كل إنسان دب على وجه هذه الأرض فهو في خسر، فهذه قاعدة {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] حتى الإنسان ولو كان مقصراً فإنه يجب عليه -ما دام يستطيع- أن ينهى عن المنكر، يقول بعض العلماء: فرض على شاربي الكئوس أن يعظ بعضهم بعضاً، فالذين جلسوا في منتزه يشربون الخمر عليهم وزران: الوزر الأول: أنهم يشربون الخمر.
الوزر الثاني: وزر ترك الإنكار؛ لأنهم مجموعة، والواجب أن يتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر على هذا الحق، فهم يقصرون أولاً بمعصية شرب الخمر، ويقصرون ثانياً أنهم لم ينه بعضهم بعضاً عن هذا المنكر، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] لماذا؟ لأنهم لم ينه بعضهم بعضاً عن المنكر، فبعض الناس يقول: كيف أنهى وأنا مقصر؟ نعم أنت مأمور بالأمرين: أن لا تقصر وأن تنهى عن المنكر، لكن أن تضيع أمراً واحداً أهون من أن تضيع أمرين، ولعلك إذا أخلصت النية لله ونويت فلعل الله يقوي إيمانك، وببركة هذا الإخلاص لوجه الله يصلح الله حالك وقلبك، ويعالجه من علله، ففي هذه الحالة تكون فيه بركة عظيمة، فلو لم يوعظ إلا من كان نقياً من الذنوب فمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سيعظ الناس؟ من كان سيحمل رسالة الإسلام ويجاهد في سبيلها؟ فالإنسان لا يستسلم للشيطان بسبب ذنوبه وتقصيره، لكن عليه أن ينهض من العثرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يسوف.
ولا يؤجل، ولا يعتذر بالتقصير والمعاصي بقوله: حينما يقوى إيماني سأنهى عن المنكر.
كلا، إذا أردت أن تقوي إيمانك فمن أعظم أسباب قوة الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآن وأنت خارج من المسجد، وأنت تسير في الشارع توجد منكرات -والعياذ بالله- كثيرة، فجرب نفسك أسبوعاً كاملاً، إذا رأيت منكراً تُنكر باللسان، وسوف تحسها في نفسك، وتجد حلاوتها في قلبك، فأنت منتفع على كل الأحوال، أنت لا يحاسبك الله بأن تحول قلوب الناس {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22] يعني: لا تصطدم ولا تيأس ولا تفتر وتضعف همتك إذا لم يستجب الناس لك، وإذا آذاك الناس، وإذا ردوا عليك رداً سيئاً.
ومع ذلك كثير من الناس ما زال فيهم خير لا يؤذون من يأمرهم وينهاهم، لكن نحن الذين نقصر ونبتعد عن الناس، وربما الإنسان عندما يقرأ في بعض الجرائد أو المجلات الإسلامية قصص توبة بعض هؤلاء الملقبين بالفنانين والممثلين والمغنين يعجب، فعلى ما هم فيه من الغفلة لا نتصور أن فيهم شيئاً من الخير أبداً، لكن عندما تسمع القصص والحوار، وكيف بدأت توبة فلانة وتقول مثلاً: أول من هنأتني على التوبة فلانة وفلانة وفلانة.
وتذكر أسماء أناس كانوا رواد الفسق والمعاصي والتمثيل، إذاً تحس من خلال واقع هؤلاء التائبين أن هناك تقصيراً من الدعاة، لكن ضالة الداعية إلى الله الشخص الكافر، وإلا يكون الأمر تحصيل حاصل إذا كان من نخاطبهم ونوصل دعوتنا إليهم هم الملتزمون، فهذه ليست ضالة الداعية، ضالة الداعية هو الفاسق والمقصر والعاصي، تبحث عنه وتزين له بضاعتك كما يزين التاجر بضاعته، اصبر على أذى الذين يرفعون شعار (الزبون دائماً على حق) لماذا؟ حتى يحصل على مال، وحتى يحسن علاقته مع الزبون، ويخاف العمال الذين يعملون في المتجر من أن يسيئوا أخلاقهم مع الزبائن، فهذا أسلوب منفر، فيرفع شعار (الزبون دائماً على حق)، ويزين المحل، ويعمل له ديكوراً في الخارج، ويعلن عن تخفيض الأسعار، ويعمل كل شيء من أجل أن يزين بضاعته ولا ينفر منها من يدعوه إلى الشراء، ولماذا نحن نقصر في هذا؟ لماذا لا نزين دعوتنا للناس؟ لماذا لا نحاول أن نبحث عن أفضل ثوب ونعرضها فيه؟ لماذا لا نصبر على من يؤذينا؟ التاجر يصبر لأجل العيش وأنت تصبر وتقول: أريد الجنة التي هي أوسع من السماوات والأرض، هذا عرضها فكيف بطولها؟ ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة! {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فلماذا سلعة الله تريدها وأنت مقصر ومفرط؟! فالشاهد أنك تسلك هذا المسلك بل تكون أعظم اجتهاداً؛ لأنك تريد أعظم مما يريده ذلك التاجر.(12/7)
هجر القرآن والمخاصمة فيه
كذلك من هذه الأسباب هجر القرآن والمخاصمة فيه، فهجر القرآن على أنواع، فهناك هجر القرآن بعدم الإيمان به، وهجر القرآن بترك التحاكم إليه، وعدم تصديق شريعة القرآن، وهجر القرآن بهجر تلاوته حتى تتراكم عليه أكوام الأتربة، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].(12/8)
الانفتاح على رفقاء السوء
ومن هذه الأسباب أيضاً الانفتاح على رفقاء السوء وهجر الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى؛ لأن الصالحين حتى لو لم يتكلموا تنتفع برؤيتهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكر الله) وربما يمشي الإنسان أحياناً في الطريق ويكون غافلاً عن ذكر الله، فيجد رجلاً ماشياً في الطريق يذكر الله، أو له هيئة تدل على الصلاح والسمت الصالح، أو بمجرد أن تقع عينك عليه تتذكر وترى فمه لا يفتر عن ذكر الله فتقتدي به، وإذا رأيته تذكر الله، فهذا رجل ممن يذكرون الله، فتجد بركته تعود على كل من يقترن به ويتحقق فيه الدعاء أو الوصف: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] ينتفع به الناس حيث كان، فهؤلاء هم الذين إذا رءوا ذُكر الله تبارك وتعالى، فالإنسان يهجر إخوانه الصالحين الذين ينبهونه إذا غفل، ويذكرونه إذا نسي، وكثير من الناس يقول: أنا أريد أن أعتزل الإخوة؛ لأن فيهم عيوب كذا، وفيهم أناس يقصرون في كذا.
لكن ما من شك أن الملتزمين بدينهم أقرب إلى الحق من غيرهم، الخير غالب عليهم، وبعض التقصير الذي يوجد في أحد من الناس لسبب أو لآخر إنما هو من آثار صفة البشرية، فهم ليسوا معصومين، والإنسان إذا هجر إخوانه الذين يعينونه على العلم وطاعة الله، وذكر الله، وصلاة الجماعة والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما من شك أن هؤلاء كالماء بالنسبة للسمك، إذا خرج منه ربما لا تبقى فيه حياة، فهذه حقيقة الأخوة في الله تبارك وتعالى، فإذا هجر إخوانه هل سيذهب ويعتزل في الجبال أم ينغمس تماماً في مجتمع كل ما فيه يبعده عن الله ويقصيه عن طريق الله؟! فإذا استبدل صحبة الخير بأناس لا يعظمون الدين فينضح ذلك عليه، ويضعف التزامه إذا أحاط نفسه بمن لا يعظمون ما يعظمه الله تبارك وتعالى.
أيضاًَ ضعف الهمة والفتور الذي يصيب الناس بمرور الوقت، وهذا سنزيده إيضاحاً إن شاء الله فيما بعد.(12/9)
التأثر بالحرب الإعلامية ضد المتدينين
من أسباب ظاهرة طول الأمد وضعف التدين عند كثير من الناس التأثر بعمليات الحملات الإعلانية التي لا ييأس أعداء الله في وسائل الإعلام ليل نهار من التشويه والتحريض على المتدينين ووصفهم بالصفات المنفرة، كالتطرف والتزمت والرجعية وغير ذلك، خاصة إذا كان الإنسان يُعرض نفسه لهذه الإشعاعات المدمرة، ولو أنه جعل بينه وبين وسائل الإعلام الخبيثة سوراً لحمى نفسه من تأثيرها، لكن إذا كان يلتفت إليها فلا شك أنه سوف يتأثر برؤية وجوه الظالمين، وبرؤية وجوه العصاة والمجرمين، ألا ترى إلى قصة جريج العابد حينما نادته أمه وهو يصلي ثلاثاً فلم يجبها، وكان في كل مرة يقول: أي رب! أمي وصلاتي! فيقبل على صلاته، فدعت عليه أن لا يموت حتى يعاقب بعقوبة معينة، فقالت: (اللهم! لا تمته حتى يرى وجوه المومسات) أي: الزانيات من النساء.
فهذه عقوبة أن تقع عين الإنسان على هؤلاء المجرمين والمجرمات، فكيف بتعمد ذلك؟! وهكذا القلب السليم يحس بذلك، فنحن الآن ندفع الأموال حتى نجلب سخط الله ونشتري النار بالنقود، عذاب وفقدان مال، نشتغل بالأفلام والفيديو والتلفاز، ونجلس أمامه خاشعين صامتين كأننا في محراب العبادة والتبتل، وبأنفسنا نجلب ما يغضب الله ويسخطه، ونفتح على المجلات والجرائد، وننظر إلى ما حرم الله عز وجل النظر إليه، ثم نقول: إننا من أحسن الناس، وليس بعد التزامنا التزام.
فمن آثار هذه الظاهرة استجابة بعض الناس وخضوعهم أمام هذه الحملات، وتأثرهم بها، خاصة الأوساط المنفرة، فإن من أساليب الشيطان وأوليائه أن ينفروا من الحق بتغيير الألفاظ والتعبير عن الحق بالألفاظ المنفرة القبيحة المذمومة، يقول الشاعر: تقول هذا مجاج النحلِ تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فيعبرون عن الحق ويلبسونه ثوباً منفراً، حتى يصدوا به الناس عن دين الله تبارك وتعالى، فما هو التطرف؟ التطرف: الأخذ بأطراف الأمور.
أي: الابتعاد عن الوسط.
وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
الحق وسط، والأمة هذه هي أمة الوسط، والدين هو دين الوسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] عدولاً، وخير الأمور الوسط، لكن أي وسط؟ ما هو المقياس الثابت؟ وما هو هذا الوسط؟ الوسط: هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن حاز عنه يمنةً أو يسرةً فهذا هو المتطرف الذي انحرف عن الميزان الوسط المعتدل القوام، فالشخص الذي ينحرف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإفراط أو تفريط بغلو أو جفاء هو المتطرف، ففي الحقيقة هم المتطرفون حينما يستحلون ما حرم الله، وحينما يزينون المعاصي للناس، وحينما يخالفون هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أيضاً من هذه الأسباب التي أضعفت إلى حدٍ ما التزام كثير من الناس أن هناك بعض الجماعات المنسوبة إلى الدعوة الإسلامية تقدم للناس نماذج ممسوخة لهذا الالتزام، إرضاءً لأهواء الناس، وربما تكثيراً للأعداد دون مبالاة بالكيف والتربية، فيحصل التسيب الفقهي، ويحصل الاستهتار ببعض الأشياء من السنة أو من الدين، فما من شك أن الإنسان إذا فرط في الشيء الصغير أو اليسير فالصغير إلى الصغير يصيره كبيراً كما قال الشاعر: لا تحقرن شيئاً من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يعود كبيراً إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مفصل تفصيلاً وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحقرات الأعمال! فإن لها من الله قالباً) وقال أنس: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات).(12/10)
حب الدنيا
وهناك أسباب لهذا المرض كما أن هناك علاجاً له، فما من شك في أن أعظم أسباب طول الأمد وضعف الدين وقسوة القلوب هو (حب الدنيا)، كما جاء في بعض الآثار أن حب الدنيا سبب كل خطئية، تأمل في أي ذنب يمكن أن الإنسان يقع فيه تجد أصله وأسه هو (حب الدنيا) كما قال عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20 - 21]، وقال عز وجل: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، فمن أحب شيئاً شغل به وقدمه على غيره، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فالناس إذا أصبح الصباح وردت إلى أبدانهم الأرواح ينقسمون إلى قسمين: هناك إنسان يبيت على عد الأموال وحسابها، وهناك إنسان يبيت على الخصومات التي بينه وبين الآخرين، وهناك إنسان يبيت على الشهوات والمعاصي ويصحو أيضاً على طلب الدنيا، والإنسان إذا أراد أن يعرف ما هو أحب شيء إليه فلينظر ما هو الشيء الذي يقفز إلى ذهنه عندما ينام، أحب شيء إليك هو الشيء الذي عندما تأوي إلى فراشك تجده قد طغى على تفكيرك حتى تنام وأنت مشغول به.
كذلك الشيء الذي هو أحب الأشياء إليك، والشخص الذي هو أحب الأشخاص إليك هو من يخطر في ذهنك بمجرد أن تنتبه، كما يقول الشاعر في حق من يحبه: وآخر شيء أنت في كل هجعةٍ وأول شيء أنت عند هبوبي فكذلك من كان مشغولاً بالآخرة وكان محباً لله عز وجل أو رسوله حباً صادقاً أكثر من حبه لأهله وماله وولده وكل شيء في الدنيا قفز إلى قلبه دائماً حُب الله وحُب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحب ما يحبه الله ويرضاه، إذا أصبح يقفز إلى قلبه هم الآخرة فيصحو على ذكر الله، وينام على ذكر الله، ويشغل قلبه دائماًً: ما الذي يرضي الله؟ فإذا نظر حكّم شرع الله: هل النظر هذا حلال أم حرام؟ وإذا لبس حكّم شرع الله، وإذا أكل وإذا شرب وإذا عمل، في كل حركاته وسكناته يبحث عما يرضي الله، فهذا هو الشخص الذي يكون من أصحاب الآخرة، كل شيء في الدنيا يذكره بالآخرة، وهذا هو العاقل، فإن الله تبارك وتعالى ما جعل كل ما في الدنيا إلا لكي ينبهنا على الآخرة، الدنيا لذاتها لا تشتهى ولا تطلب، فإن نعيمها عذاب، ولا بد أن يكون نعيم الدنيا مخلوطاً بالآفات والمكدرات، كما يقول الله عز وجل في شأن أصحاب الجنة: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] (وأتوا به متشابها) نعيم الدنيا إنما خلق لكي يذكرك بالآخرة، وما في الجنة من الدنيا إلا الأسماء، فعنب الجنة ليس كعنب الدنيا، وثمر الجنة ليس كثمر الدنيا، إنما هو الاتفاق في الأسماء للتقريب فقط، أما الإنسان إذا حرم تماماً في الدنيا من النعيم فلن يستطيع أن يتخيل نعيم الآخرة، فمثلاً يحس بعينيه متعة النظر إلى الجمال الذي بثه الله تبارك وتعالى في هذا الخلق وفي الأشجار والحدائق والثمار ونحو ذلك، فهذا الشخص الذي فقد نعمة البصر لن يستطيع أن يتذوق نعمة النظر، وإذا كان الإنسان ليس له لسان -جدلاً- لن يحس بطعم ما يأكله، فأعطانا الله هذا النعيم في الدنيا لا لذاته، ولكن لينبهنا على نعيم الآخرة، ولكن خلط كل نعيم في الدنيا بالمكدرات والشوائب، فلا يوجد نعيم إلا ولا بد أن يكون مكدراً من عند أقل الأشياء إلى أكثرها.
فمثلاً: إذا كان يحب أنواعاً معينة من الفواكه كالبطيخ والبرتقال فإنه يجد ما يكدره عليه، فالقشرة يجب أن تزيلها أولاً، ولا بد في البذر أن تتضايق فتجد بعض التعب في تخليصه، وربما إذا أسرفت فيه يترتب عليه أضرار صحية، وهكذا حتى النكاح، فتجد المكدرات والعناء الشديد، وأما في الآخرة فإنه لا يوجد شيء من هذا، لكن وجدت هذه الأمور في الدنيا، وقصّر الله عز وجل وقتها وخلطها بالآفات تنبيهاً على أنها ليست مقصودة بذاتها، إنما المقصود أن نتنبه إلى ما يكون في الآخرة من النعيم الذي لا يضاهى ولا يقارن بما في الدنيا، هذا في جانب النعيم.
أيضاً في جانب العذاب، وقد نص القرآن على ذلك كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:71 - 74] فبين الله عز وجل من خلق النار أمرين: الأمر الأول -وقدمه لأنه أهم-: (نحن جعلناها) يعني: خلقناها (تذكرة ومتاعاً للمقوين) والمتاع معروف، تستدفئون بها وتطبخون بها الطعام، وتستضيئون بها، أما الهدف الأول من خلق النار في الدنيا فهو أن تكون تذكرة، إذا رأيتموها ذكرتم نار الآخرة فتعوذتم بالله منها، وحرصتم على أن لا تقعوا فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً.
فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)، وألوان العذاب متنوعة ليست كما يتخيل الناس أن العذاب فقط بالحرارة المرتفعة التي هي سبعون ضعفاً من نار الدنيا، فهناك عذاب بالبرد الشديد الذي لا يقارن ببرد الدنيا وهو الزمهرير، وهذا أيضاً من أنواع ما يعذب به، يعذبون بالبرد كما يحرقون بالنار، والشاهد في قوله عز وجل: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] النار خلقت كي نتذكر بها نار الآخرة، ونتعوذ بالله إذا رأيناها، ونتخيل ما يصيبنا إذا وقعنا فيها، والزيارة إلى عنبر الحرائق في أي مستشفى يفسر للشخص معنى (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين)، فهذا أول إنذار من حب الدنيا وانشغالنا بها، وانصراف قلوبنا عما خُلقت له من محبة الله ورجاء الله والخوف من الله، صارت الدنيا تغلب وتطغى على قلوبنا حتى صرنا من أصحاب هم الدنيا، وصاحب هم الدنيا يعاقب بتشتيت همه فيعامل بنقيض قصده؛ لأن الله لما فتح عليه باب الخير والعلم الشرعي وباب العمل بطاعة الله فآثر الهوى على ما يرضي الله عوقب بعكس مراده، فأنت تريد الراحة في الدنيا، وتريد أن تجد لنفسك الراحة بدلاً من أن يقولوا: متطرف وتصبح الحكاية نكداً في نكدٍ، تتهاون قليلاً وتترخص وتبحث عن زلة عالم هنا ورخصة هناك، وتفتش في الكتب لعلك تجد شيئاً يثبت ما تفعله، نتعامل مع البنوك، نترخص في الكلام مع النساء، أو أي شيء من هذه الأشياء التي يستدرجنا الشيطان بها رويداً رويداً حتى يخلعنا من الدين، فإذا حصل مثل هذا وهو يريد الراحة فيعاقب بالتعب والنكد، لا في الدين فقط، لكن في الدنيا يعامل بنقيض قصده، والجزاء من جنس العمل، لما هان الله عليك هنت عليه وتركك ونفسك، ورفع عنايته عنك، وأرسلك للشيطان، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وأصلح لي شأني كله) الله عز وجل وهو مدرك الحال، وهذا يقين عند كل إنسان راسخ في قلبه، فالله لو تخلى عنك طرفة عين ما أفلحت أبداً، فالشاهد في هذا كله أن من أراد الدنيا وأصبحت الدنيا هي همه وشغله الشاغل وقدمها على الدين انحصر التعارض، فهذا يعاقب كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله) وما أدراك ما تشتيت الشمل! لا تقضى له حاجة، لا يستريح، فهو في نكد وهم وذل دائم في الليل والنهار.
(وجعل فقره بين عينيه) هو يريد الدنيا، وقدمها على الدين حتى يغنى ويجمع المال، لكن عومل بنقيض قصده، فلو جمع الملايين فهو فقير؛ لأن الغنى غنى القلب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس الغنى بكثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) فإذا احتجت إلى شيء فأنت فقير إليه.
وينبغي أيضاً أن يكون الإنسان على يقين من هذا المعنى، أن الغنى ليس بكثرة العرض، والراحة لا تكون بالمال، إنما الراحة بطاعة الله تبارك وتعالى، والسعادة في ذلك، فرب رجل غني تقي -أعني غني النفس- قانع بما يعطيه الله يبارك الله له في هذا القليل، وإذا أوى إلى فراشه يبيت هادئ البال حتى لو نام على صخرة، ما ينام على ريش النعام، ولا على الفرش الوثيرة، ولا القصور الفخمة، لكنه ينام ولو على قش ولو على صخرة يتوسدها هادئ البال مرتاحاً، بينما تجد ملوك ورؤساء الدنيا إذا نام أحدهم يهُم بالليل ويهُم بالنهار، وربما يكون اجتلاب النوم عنده شيء عسير جداً، حتى لا يستطيع أن ينام، وربما يتعاطى المنومات حتى ينعم بلحظات الراحة، ورب رجل معه المال الكثير سلطه على هلكته في الباطل والمعاصي، فهو ما بين شراء الفيديو والتلفاز والأفلام والمسرحيات وأكل الحرام وشرب الخمر والمخدرات والربا، ويسلط الله عليه الأمراض، فمعه مال كثير لكن ليس فيه بركة، وأما الرجل الفقير التقي الصالح الغني فبالعكس من ذلك، فأولاده فيهم بركة يحفظون القرآن، ويطيعون الله.
فالشاهد أن من آثر الدنيا على الآخرة عوقب بنقيض قصده، وحرم من الدنيا، وأيضاً حرم من الآخرة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:45]، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
وأما من جعل همه الآخرة فإنه يجعل الله(12/11)
تحذير الله سبحانه وتعالى من طول الأمد
حذرنا الله من طول الأمد فقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] يعني أن طول الأمد وطول العهد يقسي القلب، فتعود قلبه أن يسمع الأحاديث والآيات ولا ينفعل بها، وتعود أن يعرف أدلة غض البصر وأدلة وجوب الحجاب وتحريم مصافحة الأجنبية ثم نتيجة كون السلوك ينفصم عن الالتزام بهذه الأشياء تجد قلبه يموت، فهل ينفع الضرب في حديد بارد؟ لا ينفع، لا بد من أن ينصهر هذا الحديد ويلين، فهذا القلب القاسي لا ينتفع بالمواعظ، ولا ينفعل بها، والموعظة مثل الصقر لا يسقط على جيفة بل لا بد من أن يصطاد الشيء الحي، فكذلك الموعظة لا تسقط إلا على القلب الحي فينتفع بها، فلذلك من أخطر الأشياء مرض القلب، والإنسان لا بد أن يتحرى أسباب مرض القلب ويقوم بعلاج هذا القلب، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسياً لهذه القاعدة: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ويقول عليه الصلاة والسلام (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وقال: (التقوى هاهنا التقوى هاهنا) ويشير إلى صدره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه).
ويقول تبارك وتعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] يعني: الذنوب تغطي القلب وتحول بينه وبين الهدى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران)، أي: الذي ذكره الله تعالى فقال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
فالشاهد أن هذا هو أثر الذنوب، فلا بد من أن القلب يتأثر، ولا يعرف القلب حالة السكون أبداً، إما أن يكون في ازدياد، وإما أن يكون في نقص حسب تجاوبه مع ما يعرض عليه من الفتن، حسب القاعدة التي ذكرها الله عز وجل في سورة الرعد (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فإذا وصل الإنسان إلى حالة الرضا عن نفسه والقناعة بما هو فيه لن يسمح أبداً إلى إحداث تغيير في حياته وقلبه، فأول البداية أن الإنسان يفيق قلبه ويبعث من جديد وتدب إليه الحياة، لذلك بعد ما رغب الله عز وجل المؤمنين في التوبة قال تبارك وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] كذلك الله يحيي القلوب بعد موتها، فالله يحيي موتى الأبدان ويحي الأرض بدبيب الحياة فيها من جديد فينزل عليها المطر، ويحي القلوب أيضاً بعد موتها وهو على كل شيء قدير.
وهناك أسباب لابد من أن يسلكها الإنسان، والإنسان مادام غير راضٍِ عن نفسه فإنه يوجد فيه بقية من خير، لذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن المؤمن قال: (إذا غرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن) فهذا اختبار للقلب، فننظر هل يفرح بالسيئة ويمرح وتزين له أم أن القلب يتألم ويكتئب ويحزن ويندم على ما فرط، (إذا غرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن) لأن هذه علامة أن القلب ما زال حيَّاً ينفعل بالخير ويكره الشر، وكما قال تبارك وتعالى في شأن أهل الكهف: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] (قاموا) في قيام للقلب، أي: انتباه ويقظة من الغفلة.
هذا الانتباه في حد ذاته قد يأتي من أسباب، وقد يلقيه الله في قلب العبد فتتحول حياته تماماً إلى طريق الله عز وجل.(12/12)
السعي في تغيير الواقع علاج لمرض القلب
ليس المطلوب أن لا ترضى عن الواقع الذي أنت فيه، ليس هذا فحسب بل تسعى إلى تغييره: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] أتريد أن يغير الله ما بك من ضعف في الإيمان، ومن تقصير وتفريط؟ اشرع أولاً بأن تبحث وتفكر في نفسك: ما الذي فعلته؟ وما التقصير الذي ارتكبته؟ واجتهد في إرضاء الله عز وجل وتحريك خطة من جديد لتجديد الإيمان وتصحيح الإسلام حتى يأتيك وعد الله فيتغير حالك إلى أحسن حال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) ويقول تبارك وتعالى في بعض المصائب التي ألمت بالمسلمين في بعض الغزوات: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
ويروى أن بعض الناس لما أتى إليه أحد السلف وفتح له الباب آذاه أذية شديدة بالكلام، فقال له: أستاذنك برهة يسيرة.
ثم دخل إلى بيته فسجد لله عز وجل، وأخذ يتوب ويستغفر، ثم عاد إلى هذا الرجل فقال له: ما أخرك عني؟ قال: علمت أن الله سلطك علي بذنب أحدثته.
رحمهم الله أجمعين، يقول: إن الرجل إذا عصى الله عرف ذلك في خلق زوجته ودابته.
فعقوبة المعاصي تنعكس عليك وتجدها مع الناس من تسلطهم وتجرئهم عليك، كل هذا من الذنوب والمعاصي، فبعض السلف كان يقول: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق زوجتي ودابتي.
حتى الحمار الذي يركبه يستعصي عليه لأنه مسخر، والعقوبات تتنوع، فهناك عقوبات شرعية، وعقوبات كونية قدرية كالزلازل وكالمسخ إلى آخر هذه العقوبات التي ينزلها الله تبارك وتعالى، أما العقوبات الشرعية فمعروفة، كقطع يد السارق، ورجم الزاني، وجلد الشارب وهكذا، فهذه عقوبات شرعية.
والعقوبة قد تتغلظ وقد تخف، وقد تظهر وقد تخفى، وأخطر أنواع العقوبات هي العقوبة الخفية، وضربة العقوبة الخفية هي التي يعاقب بها الإنسان وهو لا يشعر أنه معاقب، بل زُين له سوء عمله: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37]، فإذا وقع إنسان في هذا فإنه يكون فرحاً جداً، فهو يفرح بأن المعاصي ميسرة له، وهو مسرور وسعيد لما هو فيه، فلا يرى القبيح قبيحاً والحسن حسناً، بل تنعكس وتنقلب في قلبه هذه الموازين، وهذه أخطر عقوبة يعاقب الله بها العبد؛ لأن هذا العبد -أولاً- راضٍ عن نفسه، وهو بعكس المؤمن، أي: تسره سيئته وتسوءه حسنته، وينقبض من ذكر الله، فإذا ذكر الله اشمأز قلبه {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج:72] إذا ذكرته بالله سخط وغضب واشمأز، وإذا ذكر غير الله فدعوته إلى المعاصي وإلى اللهو والفساد ينشرح صدره ويهم، وإذا دعوته إلى الطاعة يحزن ويبطر ويقول ما لا ينبغي.
فالشاهد أن هذا الإنسان الذي زين له سوء عمله لن يتوب، ولذلك جاء في بعض الأحاديث (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فكيف يتوب المبتدع؟! المبتدع أصلاً زُين له سوء عمله، هو يرى أن السيئ حسناً والحسن قبيحاً، فلا يتوب إلا إذا شاء الله هداية قلبه بأسباب أخرى، فكذلك هذا الإنسان المفرط العاصي الذي زُين له سوء عمله يحب المعاصي ويفخر بها، فهذا معاقب بأشد أنواع العقاب، أشد من الزلازل، وأشد من الخسف، وأشد من الصيحة، وأشد من الصاعقة، وأشد من قطع اليد، وأشد من الرجم، وأشد من الجلد، فهذا معاقب بأشد عقوبة يعاقب الله بها عبده، وهي أن يسلط الله الغفلة على قلبه {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] لما نسوا الله وضيعوا أمر الله عاقبهم الله بأن نسيهم، أي: تركهم فلا يفيقون من غفلتهم، بل يستمرون على الغفلة حتى يختم لهم -والعياذ بالله- بسوء الخاتمة، وقال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] أنساهم أنفسهم فلا يتفكرون في عاقبتها ومصيرها، وكيف ستكون الحياة الخالدة فيما بعد الموت أو في الدنيا.(12/13)
من علاج مرض القلب وقسوته لزوم تقوى الله
الله تبارك وتعالى وصانا بوصية هي وصيته للأولين والآخرين، وصيته التي وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، كان الواحد من السلف إذا قيل له: اتق الله يصفر وجهه، لا كما يحصل الآن، إذا قيل لإنسان: اتق الله يركبه الشيطان ويقول: أنا أتقي الله أحسن منك.
فتقوى الله معناها أن يراجع الإنسان نفسه وينزجر، فإذا قيل له: اتق الله لا يكون كمن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فقد أمرنا بتقوى الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ولم يوصنا فقط بتقوى الله، بل اشترط معها شرطاً آخر، وهذا الشرط هو أن تتقي الله وتثبت على هذه التقوى حتى الموت، فالتقوى أمر والثبات عليها إلى الموت أمر زائد، ويمكن التعبير عنهما بعبارة واحدة هي (الاستقامة) كلمة تركب من معنيين: التقوى والثبات على التقوى، فكل عمل حتى يكون مقبولاً عند الله عز وجل لابد فيه من النية والإخلاص وحُسن الخاتمة، فإنما الأعمال بالخواتيم، وأدلة هذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة) إلى آخر الحديث المعروف، فنحن أمرنا بملازمة التقوى، قال بعض السلف رحمهم الله: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.
وليس أعظم الكرامة أن يطير الإنسان في الهواء ويمشي على الماء وتخرق له العادات، بل كان السلف يخافون من مثل هذا، فربما يكون لهذا تأثيراً سيئاً على الإيمان، والكرامة العظمى التي هي أعظم كرامة ينالها ولي الله هي الثبات حتى الممات، والوفاة على الإسلام، هذه التي هي كانت دعوة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أمر الله عز وجل بهذا الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] قال ابن مسعود: (أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يطاع فلا يعصى) فقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] أمر بالتقوى والثبات على التقوى حتى الممات.
وقد ذكرنا من قبل أن الموت على الإسلام والوفاة على الإسلام وختم الحياة بكلمة الشهادة ليس أمراً إرادياً، وإنما هو محض توفيق من الله تبارك وتعالى، إذاً
السؤال
ما الحكمة في أن الله أمرنا بشيء هو ليس في أيدينا؟
و
الجواب
إن الله عز وجل يقول لنا: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وهذا التوفيق ليس بأيدينا، فالله هو الذي يوفق، وإنما تأخذ بالأسباب التي شرعها الله عز وجل حتى يمن عليك بحسن الخاتمة والثبات على الدين حتى الممات، فهذا يتضمن الأخذ بأسباب الثبات حتى الممات، فالقلب الذي يقنع ويرضى بالله عز وجل حاله كحال ذلك القلب الذي سئل عنه بعض السلف: أيسجد القلب؟ قال: نعم.
يسجد لله سجدةً لا يرفع بعدها رأسه أبداً.
فبدن الإنسان قد يسجد أحياناً وقد لا يسجد، أما القلب الصادق في تقوى الله الثابت على طريق الله فإنه لا يحيد ولا يتحول ولا ينصرف إذا ذاق حلاوة الإيمان، قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله يحفظك) احفظ أوامر الله يحفظك الله بأن يثبتك على دينه حتى الممات، ولذلك جاء في بعض الآثار أن العبد إذا استقبل القبلة في الصلاة، وتوجه بقلبه وبوجهه إلى الله عز وجل وإلى القبلة، فإذا التفت في صلاته قال الله عز وجل: إلى خير مني؟ فهل هناك شيء خير من الله حتى تلتفت عن الله إليه؟ لا شيء أبداً خير من الله عز وجل، فلذلك هذه الكلمة نفسها نقولها لمن يحيد عن الطريق إلى الله، لمن كان يرى الأمر حراماً بالأمس ويستبيحه اليوم، لمن كان يقبض على الجمر واليوم رضي بجنة الدنيا التي هي مثل جنة المسيح الدجال من يدخلها يجدها ناراً، ويفتن بهذا المظهر الخادع ولا يلتفت إلى حقيقته.
من ترك صلاة الجماعة، وقصر في غض البصر، وتهاون في تعاطي الربا وغير ذلك مما حرمه الله بعد ما جرب وذاق حلاوة الطريق إلى الله هل وجد ذلك خيراً وأفضل من طريق الله؟ كلا.
كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعاء السفر: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور) يعني: من أن تبدل أحوالي في الدين والطاعة إلى انفكاك هذه العروة والتفريط في حق الله عز وجل.
وأصل ذلك مأخوذ من تكوير العمامة، عندما يدور الإنسان العمامة على رأسه حتى تكبر وتمسك برأسه فهذا هو التكوير، فإذا نقض هذه العروة وحلها فهذا هو الحور بعد الكور، أي: فك العمامة بعد تثبيتها.
فهذه هذا المقصود بهذا التعبير، يعني: انحلال عرى الدين، وضعف وازع الإيمان في قلب الإنسان بعد أن كان ثابتاً وبعد أن كان قوياً، كان يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم! إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) ولذلك قال السلف: لا تعجب ممن يحور، ولكن اعجب ممن يستقيم.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في دعائه أيضاً: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا) لماذا؟ لأن مصيبة الدين لا تجبر، بعكس كل مصائب الدنيا، فإن فيها عوضاً، وقد يخلف الله عليك ما فاتك، لكن مصيبة الدين لا تعوض، وجرح الدين لا يعالج إلا أن يشاء الله، كما يقول بعض الشعراء: من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعته عوض فلا يوجد شيء يعوضك عن الله، لكن الله يعوضك عن كل شيء، لذلك يقول بعض الصالحين: فليتك تحلو والحياة مريرةً وليتك ترضى والأنام غضاب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب ويقول شريح: إني أصاب بالمصيبة فأحمد الله تعالى أربع مرات، أحمده إذ لم تكن أعظم منها، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده، إذ وفقني لاسترجاع ما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني.
وقال حاتم الأصم: مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا -وحاتم الأصم رجل مشهور من السلف-، ولقد ماتت لي بنت فعزاني أكثر من عشرة آلاف، وفاتتني صلاة الجماعة فلم يعزني أحد.
وكان السلف إذا الواحد منهم فاتته صلاة الجماعة تدفق المسلمون وأهل المسجد إليه يعزونه في هذه المصيبة.(12/14)
أسباب الثبات على دين الله(12/15)
عدم الاغترار بما عليه الكفار
كذلك من هذه الأسباب أن الإنسان لا يغتر بما عليه الكفار: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196]، لا يغتر بما عليه الكفار من الزينة والبغي في الأرض والعلو فيها، ينبغي أن يستحضر دائماً أن العاقبة للتقوى وللمتقين {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
كذلك استجماع الأخلاق المعينة على الثبات، خصوصاً خلق الصبر على دين الله تبارك وتعالى.(12/16)
الحرص على وصية الرجل الصالح
كذلك من هذه الأسباب الحرص على وصية الرجل الصالح حتى تنتفع بها وقت المحنة، والإمام أحمد لما حمل إلى المأمون في الأغلال وقد توعده المأمون وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه في الأغلال، حتى قال القادم للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! إن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وإنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف.
لما حصل ذلك قفز أهل البصرة إلى الإمام أحمد يثبتونه في هذه المحنة، يقول أبو جعفر الأنباري: لما حمل أحمد إلى المأمون أخبرت فعبرت الفرات فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر! تعنَّيت -أي: أتعبت نفسك حتى أتيت- فقْلت: يا هذا! أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لأن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك لا بد من الموت، فاتق الله ولا تجب.
فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله! ثم قال: يا أبا جعفر! أعد فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله! وقال أيضاً الإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون: سرنا إلى الرحبة ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل: إنه هذا.
فقال للجمال: على رسلك انتظر.
ثم قال: يا هذا -يخاطب الإمام أحمد! - ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة! ثم قال: أستودعك الله فمضى، ثم سألت عنه فقيل: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له جابر بن عامر يذكر بخير.
أيضاً يقول الإمام أحمد: ما سمعت كلمةً منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة سوق، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً.
يقول: فقوي قلبي.
حتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد ساهموا في تثبيته في وقت المحنة، فقد قال الإمام أحمد مرةً في الحبس، لست أبالي بالحبس ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط، فسمعه بعض أهل الحبس فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سلي عنه رحمه الله، فعلى الإنسان أن يحرص على طلب الوصية من الصالحين ومن أهل العلم والصلاح حتى ينتفع بها خصوصاً في وقت المحن إذا خشي أن يقع منه تفريط في دينه أثناء الابتلاء.(12/17)
استحضار الغاية الذي من أجلها خلقنا
كذلك من هذه الأسباب استحضار الهدف، ما هو الهدف؟ الجنة هي الهدف، فلا تطلب الالتزام بالدين لأن تنال الراحة في الدنيا، ولا تطلب الدنيا نفسها، فالصحابة لما بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام ما بايعهم على أن يقسم عليهم المناصب، أنت ستكون وزيراً، وأنت رئيس وزراء، وأنت سنعطيك كذا.
كان الثمن الجنة، بايعوه على أن يبنوا له هذا الدين ويكون الثمن الجنة، قالوا: (وما لنا إن نحن فعلنا ذلك؟ قال: الجنة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل) لن نطلب منك أن ترفض هذا العهد، ولن نقبل منك إذا طلبت أن نقيلك، فربح البيع.
فالإنسان إذا أخبره الطبيب الكافر النصراني -مثلاً- أن حياته مهددة وأنه لا يوجد أمل أن يبقى في الحياة إلا إذا بترت ساقه -مثلاً- والطبيب أكثر خبرة منه بالعافية التي ستحصل فإنه يسلم نفسه للطبيب يخدره ويقطع رجله، ويصبر على الألم بكل أنواعه من أجل هذه العافية، وهو خبر رجل كافر، فكيف إذا أتانا الخبر من الله عز وجل ومن رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام أن العاقبة للتقوى، وأن العاقبة للمتقين، وأن الآخرة خير وأبقى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4]، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يعد الصحابة بأن الوطن هو الجنة وليس غير الجنة موطناً، لذلك مر بآل ياسر وهم يعذبون، فبماذا ثبتهم؟ بأن يلمحوا حلاوة العافية فيما بعد، فهو ألم قليل ومرارة ساعة خير من الخلود الأبدي في العذاب: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وأيضاً قال للصحابة والأنصار رضي الله عنهم: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) موعدنا هناك، فالإنسان إذا تأمل القبر وما يكون في القبر وأهوال الحشر والحساب والميزان والصراط ومنازل الآخرة، ولمح حلاوة العافية في الآخرة والثبات على الدين فلا شك يهون عليه ما يعانيه.
كذلك كثرة ذكر الموت من أعظم ما يعين على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، فإنه ما ذكره عبد في ضيق إلا وسعه عليه، وما ذكره في سعة إلا ضيقها عليه).
هذا بعض ما تيسر من أسباب الثبات على هذا الدين، نقولها كي ننتفع بها ونعمل بها ونجتهد في تحصيلها، فإذا كنا صادقين وكنا نحرص على أن نغير أحوالنا فلا بد من أن نغير أولاً ما بأنفسنا، فيجدد كل واحد من الآن ولا يسوف ولا يؤجل، ويعاهد الله عز وجل فيما يأتي من أيامه على أنه لن يجد موطناً فيه رضاً لله إلا فعله، ولا موطناً فيه شيء يسخط الله إلا اجتنبه، وأنه سيعود ويستأنف الطريق إلى الله عز وجل مجدداً التوبة، ناهضاً من الكبوة، قائماً من هذه العثرة، حتى لو وقع في عثرة في الطريق من جديد سوف ينهض من جديد إلى أن يثبته الله تبارك وتعالى حتى الممات، ويتوفاه على الإسلام.
اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا -اللهم- بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم! يا ولي الإسلام وأهله! مسكنا الإسلام حتى نلقاك عليه، يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك وطاعة رسولك، ربنا! لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك.
اللهم! إنا نسألك أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم! إنا نسألك أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم! إنا نسألك أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم! صلِّ على محمد وعلى آل محمدٍ كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(12/18)
الثقة بالطريق التي يسلكها العبد
كذلك من هذه الوسائل أن تكون واثقاً من الطريق الذي تسلكه، وأن تعرف أنك لست وحدك في هذا الطريق، فقد سلكه من قبلك أُناس كثيرون منهم الأنبياء والرسل والصالحون والعلماء، لا في الأمة المحمدية فقط ولكن في كل الأمم، فإن في كل أمة من الزمان فرقة ناجية وفيها فرق ضالة {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران:113] إلى آخر الآيات، أن تستشعر أن الله عز وجل من عليك واصطفاك بأن وفقك ودلك على هذا الطريق: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32].(12/19)
ممارسة الدعوة إلى الله تعالى
كذلك من أعظم وسائل زيادة الإيمان والثبات عليه أن تمارس الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ولا تقصر في ذلك، فإن الارتباط بالدعوة وسيلة من وسائل تثبيت الإيمان وزيادته باستمرار، فتحمد الله عز وجل أنه لم يخلقك جماداً ولا خشبة ولا شجرة ولا حيواناً بهيمياً، وإنما كرمك وجعلك إنساناً، ثم بعد ذلك كرمك بأن جعلك مسلماً وامتن عليك بأعظم نعمة وهي نعمة الإسلام، وليس هذا فحسب، بل إنه عصمك من البدع والضلالات التي اشتهر بها بعض المسلمين، ودلك على طريق أهل السنة والجماعة، ثم جعلك داعياً إلى الله تبارك وتعالى، فتستحضر هذه النعمة وتشكر الله حتى يعينك بالثبات عليها.(12/20)
مجالسة الصالحين
كذلك من هذه الأسباب أن تبحث عمن يعينك على هذا الطريق وهذا الدين وتستمسك بغرزه، فهؤلاء الناس الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر) ابحث عن الذين هم مفاتيح الخير من أهل العلم والدعوة والعبادة والنسك، وتمسك بهم والتف حولهم.(12/21)
الثقة بنصر الله تعالى
كذلك من هذه الأسباب أن تكون واثقاً بنصر الله، وأن المستقبل للإسلام، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا شكا له أصحابه ما يعانون من أعداء الله يثبتهم بأن المستقبل للإسلام، وهذا في أشد أوقات المحنة، كما يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل يُحفر له حفرة في الأرض، ثم يوضع فيها، ثم يوضع المنشار في مفرق رأسه ويشق نصفين، ويمشط بأمشاط من حديد ما دون لحمه وعظمه وما يرده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، فلابد من تبشير الناس باستمرار بأن المستقبل للإسلام حتماً شئنا أما أبينا، كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) وبشر النبي صلى الله عليه وسلم أن القسطنطينية ستفتح، وأن روما أيضاً ستفتح، ووقعت البشارة الأولى بعد ما يزيد على سبعمائة سنة من نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها، أما الثانية -وهي فتح روما- فهي حادثة بلا شك في ذلك: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، ولا شك في ذلك أن الإسلام سوف يصل إلى كل ما طلعت عليه الشمس كما أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شك أن هذا التبشير وتلاوة هذه النصوص تثبت الناس خصوصاً في وقت المحن والغربة وتزيل وحشة هذه الغربة، وهي مما يجدد لهم بأن دعوتهم ونشاطهم لا بد من أن يكون له أثر حتى ولو ظهرت ثمرته بعد أمد يعلمه الله تبارك وتعالى.(12/22)
التربية الإيمانية العلمية الواعية
أيضاً من وسائل الثبات على الدين التربية الإيمانية الواعية العلمية المتدرجة، فالتربية الإيمانية العلمية الواعية هي التي تكون بصيرة بأعداء الإسلام وحيل شياطين الإنس والجن، وهي التي تثمر وقت المحن الثبات على دين الله تبارك وتعالى، تربية لا تقوم على الإمعية ولا على التقليد المذموم للآخرين، إنها تربية واعية تعرف سبيل المجرمين فكشف سبيل المجرمين، وفضح خطط أعداء الإسلام هدف أو غاية من غايات هذه البعثة وهذه الرسالة: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، فالإنسان لا يكن مغفلاً، لا بد أن يعايش عصره بأن يدرك ويكون واعياً لخطط أعداء الإسلام ووسائلهم في استدراجه إلى طريق الشيطان، وكلما ثقلت جرعة التربية وطال أمدها رجي منها الثبات أكثر عند المحن، لذلك تجد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الصحابة الذين تربوا على العقيدة وحصلوا على أكبر قدر من التربية النبوية كانوا أكثر ثباتاً من غيرهم، بخلاف حديثي العهد بالإسلام كما حصل -مثلاً- في غزوة حنين، هؤلاء الذين نفروا وفروا كانوا من حديثي العهد بالإسلام، لم يحظوا بقدر وافر من تربية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن انظر إلى بلال وإلى خباب وإلى آل ياسر وإلى مصعب بن عمير، فـ خباب بن الأرت كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر ثم تطرحه عليها عارياً فلا تنطفئ الأسياخ إلا من ودك ظهره -أي: شحم ظهره- حين يسيل وينصهر، فما الذي جعله يصبر على هذا كله؟ ما الذي جعل بلالاً يصبر في الرمضاء، وسمية تصبر في الأغلال والسلاسل على العذاب؟ هو أنهم حظوا بقدر أكبر من تربية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حنين -كما ذكرنا- الذين انهزموا كانوا ممن هم حديثوا عهد بالإسلام؛ لأنهم لم يكونوا قد حظوا بقدر أكبر من هذه التربية، ولذلك مدح الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.(12/23)
الدعاء
من أعظم وسائل تثبيت الإيمان في القلب الدعاء، يحافظ الإنسان على ورد ثابت من الدعاء يخلو فيه بربه، ويكثر من دعاء الله عز وجل، خاصة الأدعية التي فيها سؤال التثبيت على الدين، فالدعاء من أنفع الأسباب في حصول هذه الثمرات، كمثل قوله تبارك وتعالى حين علمنا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [البقرة:250]، {رَبَّنَاْ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250].
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك) فسأله الصحابة عن كثرة دعائه وسؤاله هذا السؤال فقال علية الصلاة والسلام: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء) حتى رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو بهذا الدعاء (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)! وفي الدعاء الآخر: (يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك)، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو أيضاً: (يا ولي الإسلام وأهله مسكني الإسلام حتى ألقاك عليه)،وهذا أيضاً سؤال في الثبات على الدين، فالإنسان يثابر قدر استطاعته على الأعمال الصالحة، ويغتنم أوقات الإجابة وأماكن الإجابة وساعات الإجابة الكثيرة، وهي معروفة، سواء في جوف الليل أو في يوم عرفة مثلاً أو في يوم الجمعة؛ لأن في يوم الجمعة حديثاً يرجح أن ساعة الإجابة ترجى في آخر ساعة بعد صلاة العصر، وصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخبر أن هذه الساعة هي آخر ساعة بعد صلاة العصر وقال: (إن في هذا الوقت ساعة لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي إلا أجاب الله دعوته) ومعنى الحديث (قائم يصلي) ليس المراد به صلاة النافلة -مثلاً- بعد العصر؛ لأنه معروف الخلاف في ذلك وأن هذا وقت الكراهة، لكن (يصلي) أي: يدعو.
ولذلك كان بعض السلف يستحبون أن يمكث الإنسان في المسجد أو في المصلى ويدعو الله تبارك وتعالى في هذه الساعة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعةً من ولد إسماعيل، ولأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة).(12/24)
كثرة ذكر الله تعالى
كذلك من هذه الأسباب كثرة ذكر الله تبارك وتعالى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال:45].(12/25)
تصحيح العقيدة
كذلك من هذه الأسباب أن يحرص الإنسان على أن يصحح عقيدته، وأن يهتم جداً بتصحيح العقيدة، وأن يستقيم قلبه على عقيدة السلف الصالح رضي الله عنهم، لا يحيد عن ذلك قيد أنملة، فالإنسان لأن يصاب بمعصية أو يقصر في طاعة أو يرتكب شيئاً مكروهاً أهون من أن يؤول صفة من صفات الله، فهذه مصيبة عظيمة، يؤول صفة من صفات الله ويجحد الخبر، ويلحد في أسماء الله وصفاته تبارك وتعالى، وتلوث عقيدته بأي مظهر من مظاهر انحراف العقيدة، فهذا أخطر بكثير من الوقوع في المعاصي، وأكثر الناس إذا ذكر الالتزام أمامهم تلتفت أذهانهم إلى ترك المعاصي لا إلى هذه الشبهات، فتنقية القلب من العقائد الفاسدة الخربة من أعظم أسباب التثبيت، والدليل أنك إذا تأملت حال أهل البدع الذين انحرفوا عن منهج الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- تجدهم في حالة تقلب وتلون، تجد الواحد يتنقل من فرقة إلى أخرى، كل يوم يتلون، لكن نادر جداً -أو لا يكاد يوجد- أن تقف على واحد عرف طريق أهل السنة والجماعة عن علم وخبرة ووعي ثم حاد عنه وآثر عليه غيره، ونفس هذه الخصلة صفة أهل الحق في كل زمان، وآية ذلك أن هرقل سأل أبا سفيان عن أتباع النبي عليه الصلاة والسلام فقال: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان: لا.
فقال هرقل: كذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
فالشاهد أن الإنسان إذا تنقل بين أهل الفرق والضلال خارج دائرة أهل السنة والجماعة فإنه يخشى عليه سوء الخاتمة وعدم الاستقامة والثبات، يقول بعض السلف: أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام.
فتجد أهل البدع يتنقلون، ثم ينتهي بهم الأمر أن يكونوا ساخطين على كل شيء تعلموه، أما أهل الحق فبخلاف ذلك، فعلى الإنسان أن يسلك سبيل المؤمنين.(12/26)
تدبر قصص القرآن
من بركات قراءة القرآن تدبر قصص الأنبياء، ودراستها للتأسي والعمل، يقول تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، فإذا تأمل الإنسان قصة إبراهيم عليه السلام وتخيل الموقف: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68 - 70].
فيتساءل: ماذا فعل إبراهيم لما ألقي في النار؟ إذا هدد الإنسان بالقتل أو التعذيب ماذا يفعل؟ ويتذكر إذا كان يقرأ القرآن قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] نفس الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، لقد قال: حسبي الله ونعم الوكيل.
يعني: الله سوف يكفيني شركم.
وإذا تدبر الإنسان موقف موسى عليه السلام لما حصلت المطاردة بين موسى وقومه وفرعون وجنوده، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لأنه ما بقي شيء يمشون عليه، فقد انتهوا إلى ساحل البحر فقالوا: (إنا لمدركون)، و (إن) فيها توكيد، وفي (اللام) أيضاً توكيد أنهم هالكون لا محالة، فماذا قال موسى عليه السلام الذي وعده الله بقوله: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]؟ الله معه، وهو يعلم أنه لا بد من فرج، وكما قال في مناسبة أخرى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، فهو واثق أن الخير نزل، لكنه فقط يريد تيسير السبيل إليه، فانظر: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25].
فعند البحر يقول تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فأمره الله أن يشق البحر بالعصا، وهذا الأمر عجيب لو أن الإنسان تخيله! فالبحر لم يوضع جسر عليه فوق الماء حتى مشوا عليه، لا، الذي حصل أن البحر انفلق: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] صار الماء من الجانبين مثل الجبل العالي، فالماء بقدرة الله وقف وانكشف قاع البحر، فمشوا على قاع البحر، ووقف الماء بقدرة الله في الجانبين، ومشى موسى وقومه، وفرعون الغبي حينما رأى ذلك كان ينبغي أن يعرف أن هذا لا يكون إلا بقدرة الله، لا يكون إلا بقوة الله الذي خلق هذا السبب، ولكن أعماه الله عن أن يدرك هذه الحقيقة: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} [يونس:90] فأطبق الله عليهم البحر فغرقوا وهلكوا.
أيضاً الإنسان لو تأمل موقف فرعون -لعنه الله- حينما توعد المؤمنين: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] ماذا أجاب المؤمنون؟ وكم كان عمر إيمانهم؟ كان عمر إيمانهم لحظات، فأجابوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
كذلك الإنسان لو تأمل قصة مؤمن آل ياسين أو أصحاب الأخدود وغير ذلك من المواقف، كل ذلك مما يعين على الثبات.(12/27)
المحافظة على الأعمال الصالحة
أيضاً مما يعين الإنسان على الثبات على دين الله تبارك وتعالى التزام الشرع، والمحافظة علي الأعمال الصالحة، والمثابرة عليها، يقول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وبعض الناس تنطلق أذهانهم إلى أن التثبيت فقط يكون عند الموت، ولا يتأملون أن التثبيت حال الحياة مطلوب أيضاً، فقوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا) عام، فيثبتهم وهم أحياء بالأعمال الصالحة (بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين)، قال قتادة: أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر.
ويقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] فما توعظ وتؤمر به من الأعمال الصالحات خير لك، ويثبتك على دين الله تبارك وتعالى، فإذا أطلت الفتنة برأسها فهل يثبت الكسالى القاعدون المفرطون في حق الله؟ لا، لا يثبت إلا من ثابر على العمل الصالح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، وكان أحب الأعمال إليه أدومه وإن قل، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ على ثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة) وهي السنن الرواتب في اليوم والليلة، قال: (من حافظ) يعني: ليس من عملها يوماً وقطعها شهراً، لكن من واظب، وهذا هو معنى الاستقامة، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (قال الله تبارك وتعالى: ولا يزال -تفيد الاستمرار والثبات- عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) إلى آخر الحديث.
فانظر إلى كلمة (ولا يزال) فهي تفيد الثبات والاستمرار على ذلك.(12/28)
الإقبال على القرآن الكريم
نمر مروراً سريعاً على بعض هذه الأسباب كما ذكرها فضيلة الشيخ محمد صالح المنجد في محاضرة له بنفس هذا العنوان (وسائل الثبات على دين الله تبارك وتعالى)، أولها: الإقبال على القرآن الكريم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو فيقول: (أسألك -اللهم- أن تجعل القرآن ربيع قلبي) يحيي قلبي كما تحيا الأرض بالمطر حين ينزل عليها، فأنت تدعو وتقول: (اللهم! إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي) فكيف يكون ربيع قلبك وأنت لا تعرض قلبك لهذا المطر، بل جعلت حاجزاً وسقفاً بين قلبك وبين المطر؟! كيف سيرتوي أصل القلب؟! ولنفرض أن شخصاً ذهب إلى الطبيب، فكتب له الدواء، وجمع مجموعة من الأدوية النافعة بإذن الله، ثم إنه وضع بروازاً من المجوهرات الثمينة مزخرفاً وغالي الثمن، فعطره بأطيب العطور، ووضع الدواء في هذا البرواز الأنيق الجميل، فحفظ الأدوية داخل هذا لبروازه؛ فهذا إنسان سفيه ناقص العقل؛ لأن الدواء ينبغي أن يتعاطاه بجرعات منتظمة، وبطريقة محددة حتى يؤثر مع مرور الزمن، كذلك القلب القرآن دواؤه وشفاؤه، لكن شفاء لمن يتعاطاه، فكونك تقصر في تعاطي الدواء هذا جهل منك وتفريط، فهو دواء، وكل دواء ينبغي أن تتعاطاه، ولن يعالج قلبك دفعةً واحدة، لا بد من توالي القطرات على القلب حسب قوة المرض، وبحسب ما تحتاج إليه من الزمن في التداوي على جرعات مستمرة حتى تؤثر في القلب، ألا ترى أنك لو أتيت إلى عشرين لتراً من الماء ثم صببته على هذه الصخرة دفعة واحدة لا يؤثر فيها شيئاً، لكن لو أن نفس هذا الماء موجود في صفيحة، وفيها ثقب من أسفلها، وينزل منها نفس الكمية من الماء على هيئة قطرات متوالية فإنك تجد مع الوقت أن الماء يحدث فيها تأثيراً، كذلك القلب لا يتأثر ولا يتحول إلا بتوالي العلاج باستمرار لفترة طويلة، وهناك نقطة ضعف عند الناس في الرقية، فعندما يعالج بالرقية يتصور أن الرقية لا تؤتي ثمرتها حتى يقف الذي يدعو ويرقي المريض على رجليه وانتهى كل شيء، كلا، هناك أسباب مطلوبة كأي دواء، فلا بد من الاستمرار في الرقية والصبر عليها والمداومة حتى يحصل الانفعال بهذا الدواء.
وأعظم وسيلة لتثبيت الإيمان في القلب وزيادته هي التعامل باستمرار مع القرآن الكريم، فهو أعظم دواء وشفاء لما في الصدور و (ما أنزل الله داءً إلا وأنزل معه دواء)، و (داءً) نكرة في سياق النفي تعم كل الأدواء، سواء أدواء القلب أو أدواء البدن، والقلب دواؤه القرآن، فهو شفاء ينبغي أن تتعاطاه دائماً، فما أنزل الله القرآن حتى نضعه في السيارات، ويهديه الرؤساء والملوك والوزراء والمسئولون بعضهم لبعض ثم يظن أن هذا هو تكريم القرآن! تكريم القرآن تصديقه والعمل به وتلاوته، وعدم هجره وهجر أحكامه: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس:70]، وما أُنزل لنتلوه على المقابر أو على الموتى في التراب، ثم نمضي وننصرف وكأن شيئاً لم يكن، ما أًُنزل القرآن لأجل هذا، إنما أُنزل ليكون منهاجاً في حياتنا، بين الله تبارك وتعالى أن الغاية التي من أجلها أنزل القرآن مفصلاً منجماً مقسماً على نجوم وأجزاء أنها هي تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] القرآن يزرع في النفس الإيمان، ويحيي القلوب بعد موتها، فالقلب تنزل آيات القرآن عليه برداً وسلاماً فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله، ولن يتقرب الإنسان إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه وهو كلامه تبارك وتعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك نحن نعيش في جو مليء بالفتن والشبهات، وبطعن أعداء الإسلام وحملات الإعلام وغيره، فهذه الفتن مع تكاثرها إن لم نتعاط ما يضاد هذه السموم والشبهات والشهوات ستطغى علينا.
والقرآن هو المحطة التي تأتيك بالوقود باستمرار، فإذا قطعت الصلة بينك وبين هذا المصدر -مصدر التزويد بالمفاهيم الصحيحة- فلا شك أنك ستنفعل لهذه الفتن وتؤثر في قلبك شئت أم أبيت، فاستمرار القرآن يعطيك المقاييس حتى تحكم على الأشخاص أهل المبادئ ولا تقع في الاضطراب.
أيضاً القرآن يرد على شبهات الكائدين للإسلام وأعداء الإسلام من المنافقين والكافرين بكل ألوانهم، فالارتباط بالقرآن يحبط كيد أعداء الله تبارك وتعالى، فإنه يكسر طعن أعداء الإسلام وتشويه مفاهيم المؤمنين في قضية الولاء والبراء، وفي قضية أن النصراني أخو المسلم فيما يسمى بالوحدة الوطنية، فهذه المفاهيم الوثنية المضللة الإنسان يتعرض لها ليل نهار على لسان علماء السوء قطع الله ألسنتهم، ودعاة السوء من الشرق والغرب في كل مكان، في الجرائد، في الإذاعة، في كل شيء.
فنحن سنتأثر بهذا إن لم نرتبط بالقرآن، وآية واحدة من القرآن كفيلة في أن تحبط كل كيد هؤلاء: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] هذا خبر الله، ونحن نصدق خبر الله عز وجل، وهكذا تجد آية واحدة من القرآن تحبط كل كيد هؤلاء المجرمين.
فمثلاً: حينما يكثر التشويش على تعدد الزوجات والطعن في هذا الحكم الإلهي أو التطاول عليه فإن المسلم الموحد الذي يتلو كتاب الله ويحافظ على الصلة الوثيقة بينه وبين القرآن آية واحدة في كل ختمة يقرؤها تكفي لأن يتلاشى كل هذا كأن لم يكن، وهي قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] إلى آخر الآيات، آية واحدة تكفي، ولا ينشغل الإنسان بعد ذلك بالمحاورة والمجادلة في حيل أعداء الله تبارك وتعالى، والأسماء فقط هي التي تتغير، لكن جنس المنافقين والكائدين للدين ما زال قائماً، نعم لقد مات أبو جهل ومات أبو لهب ومات أبي بن خلف ومات فرعون ومات قارون ومات النمرود، لكنهم يتجددون ويظهرون الآن في صور أخرى وتحت أسماء مختلفة، والحقيقة واحدة، فالقرآن يخاطب هؤلاء كما خاطبهم من قبل، ويخاطب أمور التزامنا كما كان يخاطب الذين مضوا من أهل الإيمان، فتجد الشخص إذا ربط حياته بالقرآن وأقبل عليه تلاوة وحفظاً وتدبراً تجد أن ذلك ينعكس في حياته، بعكس ذلك الذي قطع الصلة بينه وبين القرآن، وحرم من هذا المصدر العظيم من مصادر الطاقة، والوقود الذي يحفظ عليه إيمانه.(12/29)
فضائل الأذكار
ليس شيء أعظم من ذكر الله سبحانه وتعالى، ولذا دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على فضل الذكر، ولا يكون العبد ذاكراً لله سبحانه حتى يكون غالب وقته متعلقاً بالله، والله سبحانه عند ظن عبده به، وهو معه إذا ذكره، والجزاء من جنس العمل.(13/1)
الأحاديث الواردة في فضل الذكر(13/2)
حديث: (ما جلس قوم يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء)
الحمد لله الذي جعل ذكره عدة للمتقين، يتوصلون بها إلى خيري الدنيا والدين، وجنة واقية للمؤمنين سهام الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين من طوائف الخلق أجمعين، وصلى الله على خير البشر الذي أنزل عليه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
فبين للعباد من فضائل الأذكار، وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار ما ملأ الأسفار، وعلى من صاحبه ووالاه وسلم تسليماً كثيراً لا يدرك منتهاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات)، هذا الحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط، والإمام أحمد في مسنده، وأبو يعلى، والبزار، وحسنه الألباني.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل) قوله عليه الصلاة والسلام: (يذكرون الله) لا ينحصر في وظيفة معينة من الوظائف المشهورة بأنها هي ذكر الله سبحانه وتعالى، فلا شك أنه يدخل في ذكر الله التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والحوقلة، وقراءة القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك، والأذكار لا تنحصر في هذا، بل كل عامل لله بطاعة لله فهو ذاكر لله عز وجل، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى، وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام.
أي: كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج، وأشباه هذا، فأشرف مجالس الذكر على الإطلاق هي مجالس العلم التي فيها يتعلم الإنسان علوم الحلال والحرام، وكيف يراعي حدود الله تبارك وتعالى.
ويقول الحسن: ما من شيء مما خلق الله أعظم عند الله في عظيم الثواب من طلب العلم فلا حج ولا عمرة، ولا جهاد، ولا صدقة ولا عتق، قال: ولو كان العلم صورة لكانت صورته أحسن من صورة الشمس.
وقال يحيى بن أبي كثير: درس الفقه صلاة.
وكان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون العلم ومعهم فتى شاب، قال لهم هذا الشاب: قولوا سبحان الله والحمد لله.
فغضب الشيخ أبو السوار وقال: ويحك في أي شيء كنا إذاً؟ فالعلم أفضل من مجرد الذكر، كما هو معلوم من تفضيل طلب العلم على صلاة النافلة، فيقدم طلب العلم على صلاة النافلة.
فمعرفة الحلال والحرام واجب في الجملة على كل مسلم، أما ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان فأكثره يكون تطوعاً، لكن العلم والفقه يعلمك كيف تجتنب الحرام، وكيف تؤدي الواجبات، وما هي شروطها، وما هي المكروهات، وما هي المستحبات، فحدود الله تبارك وتعالى إنما تعلم عن طريق مجالس العلم، فلذلك مجالس العلم هي أفضل مجالس الذكر على الإطلاق، فهي حلق ذكر.
أما ما يرد إلى الأذهان حينما تقام حلقة ذكر -خاصة في الوسط الصوفي- فيها من الرقص والطبل والمزمار والقفز والصياح وهذه الأشياء التي يفعلونها فهذه ليست حلقة ذكر، بل حلقة غفلة وحلقة نسيان لله، وليس ذلك ذكراً لله سبحانه وتعالى، فهذا نسيان وإعراض عن الذكر الحقيقي الذي هو طلب العلم وقراءة القرآن وغير ذلك من الأذكار التي أشرنا إليها.
ويدل على هذا المعنى الذي قاله عطاء رحمه الله تعالى قوله تبارك وتعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37].
أما هذا الذكر الذي أحدثه بعض الصوفية ولزموه مع هجران العبادات اللازمة التي هي من حقوق الإسلام وحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق النفس، ثم ينظرون إلى أهل العلم في مجالس الدرس نظرة حقارة وازدراء فهذا ليس بذكر كما قلنا، بل هو نسيان لله سبحانه وتعالى، ونسيان لأمره ونهيه، فما أقبح هذا الذكر الصوفي! وما أحراه بتسميته النسيان والغفلة والإعراض عن الله تبارك وتعالى! وقد ثبتت جملة من الأحاديث في فضائل الذكر بعد جملة عظيمة من الآيات، كقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42].
قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: و {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] قال: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر.
فكل عبادة لها وقت وحدود معينة، مثلاً: الصلاة في أوقات تباح، وفي أوقات تكره أو تحرم، وكذلك الصيام، فالفريضة وقتها في شهر رمضان، وصيام التطوع في أيام معينة منهي عنه، كأيام التشريق أو يوم العيد، فكل عبادة لها حدود ولها وقت، ولها ابتداء وانتهاء، ولها أحوال يعذر من تركها فيها.
أما ذكر الله سبحانه وتعالى -كما روى علي بن طلحة عن ابن عباس - فلم يجعل الله له حداً معلوماً، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهى إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، يقول تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103] أي: بكل أحوالكم في الليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:42] فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، فهذه هي العبادة الوحيدة التي أمرنا بالإكثار فيها بلا حدود في كل الأحوال، حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله على كل أحواله، طاهراً أم غير طاهر، جنباً أم غير جنب، نائماً أو قائماً أو قاعداً، في كل أحواله يذكر الله تبارك وتعالى.
ولذلك نلاحظ في القرآن الكريم الأمر بالإكثار من الذكر، قال تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] وفي هذا الحديث الذي رواه أنس رضي الله تعالى عنه من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم).
والذكر هنا أعم من أن يكون مخصوصاً بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والحوقلة وغير ذلك، فأي مجلس علم يتعلم فيه حدود الله سبحانه وتعالى فهو مجلس ذكر، ويستحق أهله هذا الفضل الذي ثبت في هذا الحديث: (إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم) يعني: إذا انتهى المجلس وقمتم بعد انتهائه فتقومون حال كونكم (مغفوراً لكم) فبعض العلماء يقولون: هي الصغائر.
وبعضهم يقولون: الصغائر والكبائر إذا كان مع حضور مجالس الذكر توبة صحيحة من الكبائر، يعني: لا يكون الرجل الذي ارتكب كبيرة مصراً عليها، فإذا تاب منها -أيضاً- يغفر له الكبائر والصغائر؛ لأن الكبائر لا بد لها من توبة خاصة، فذنب معين يرتكبه عليه أن ينوي أن يتوب منه، وبالتالي يغفر له الكبائر والصغائر.
وليس المراد من قوله: (قوموا مغفوراً لكم) أن هذا المنادي يناديهم ويقول لهم: قوموا واتركوا الذكر والقيام.
وإنما المراد حين يريدون الانصراف، وليس المقصود أن المنادي يناديهم آمراً لهم أن يتركوا مجلس الذكر ويقوموا عنه.(13/3)
حديث (سبق المفردون)
صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
قوله: (المفردون) يعني الذين ذهب جيلهم الذي كانوا فيه وبقوا وهم يذكرون الله سبحانه وتعالى، يقال: (فرد الرجل) إذا تفقه واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي.
فهنا قوله عليه الصلاة والسلام: (سبق المفردون) يعني هؤلاء الذين يثبتون على ذكر الله، ويشتغلون به عما عداه، حتى إن جيلهم الذي كانوا يعيشون فيه انخرم كله، وبقوا هم يذكرون الله عز وجل.
وعرفهم النبي عليه الصلاة والسلام لما قيل له: وما المفردون يا رسول الله؟ فقال: (الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).(13/4)
حديث (إذا أيقظ أهله من الليل فصليا ركعتين)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).
واختلف العلماء فيمن يستحق هذا الوصف، فقال الإمام أبو الحسن الواحدي: حكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قوله: المراد: يذكرون الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله عز وجل، فمن حافظ على هذه الأذكار المرتبطة بهذه الوظائف كان في تفسير ابن عباس من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
فهم يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً -أي: أذكار الصباح والمساء- وفي المضاجع عند النوم وأثناء النوم، وإذا تقلب أو رأى رؤيا فاستيقظ، وكلما استيقظ من نومه وغدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى، فهذا الذي يحافظ على هذه الأذكار يعد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، يعني: في كل أحيانه وأحواله.
وقال عطاء: من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] أي: من صلى الصلوات الخمس في جماعة بخشوع، مراعياً حقوقها وحدودها يدخل -أيضاً- في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
ومعنى ذلك أن الإنسان يجتهد في حفظ الأذكار الثابتة الصحيحة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كافة الوظائف الشرعية الثابتة، وأن يلم بذلك، وهذا الباب اهتم العلماء به رحمهم الله تعالى أعظم اهتمام، حتى أفردوه بالتصنيف، فهو باب من أبواب العلم، فكما أن هناك باباً للفقه، وهناك علم الحديث، وهناك التفسير، وهناك أصول الفقه، وهناك علوم اللغة بأقسامها، وكما أن الفقه فيه أبواب الطهارة ونحوها، فكذلك هذا علم وباب مستقل من أبواب العلم، ويسمى عمل اليوم والليلة، وهو عبارة عن محاولة إحصاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأذكار الموظفة أو الأذكار المطلقة؛ فإن الأذكار نوعان: أذكار مطلقة كقراءة القرآن، فإنه تستحب القراءة في كل وقت، وليست مقيدة بزمن معين.
كذلك من الأذكار المطلقة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكالاستغفار والحوقلة، والتسبيح والتهليل، والتكبير والتحميد وغير ذلك من الأذكار.
النوع الثاني: أذكار موظفة بوقت معين، وبوظيفة معينة، كالأذكار التي تقال في الركوع والسجود، وعند الاستيقاظ من النوم، فهي مرتبطة بوظيفة، ففي وقت هذه الوظيفة يكون التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الذكر الموظف أفضل من غيره من الأذكار المطلقة، أما خارج وقت الوظيفة فأفضل الأذكار المطلقة على الإطلاق هو تلاوة القرآن الكريم، يقول الإمام الشوكاني في كتابه تحفة الذاكرين: لا شك أن صدق هذا الوصف -أعني كونه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات- على من واظب على ذكر الله تعالى وإن كان قليلاً أكمل من صدقه على من ذكر الله كثيراً من غير مواظبة.
وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) وورد عنه صلى الله عليه وسلم أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، كما جاء في بعض الروايات.
فالشاهد أن الإمام الشوكاني رحمه الله يبين أن هذا الوصف -وصف الذاكرين الله كثيراً والذاكرات- يصدق على من يداوم على ذكر الله، حتى لو كانت المداومة على قدر قليل، فيقول ذكرين أو ثلاثة مثلاً عند النوم، وذكراً واحداً قبل أن ينصرف من التشهد، أو ذكراً واحد عند الاستيقاظ، أو ثلاثة أذكار في الصباح والمساء، وهكذا شيء قليل تداوم عليه أفضل من أن تذكر الله كثيراً مرة واحدة ثم تنقطع مدة طويلة وتعود، فالمداومة مع قلة الأذكار أفضل من كثرتها مع الانقطاع عنها.
يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أذكاراً وأدعية عند الأحوال المختلفة، وفي الأوقات المتنوعة، كالنوم واليقظة، والأكل والشرب واللباس ونحوها، ووردت لكل حال من هذه الأحوال وفي كل وقت من هذه الأوقات أذكار متعددة، وكذلك وردت أدعية فوق الواحد والاثنين، فمن أخذ بذكر أو دعاء من الأذكار والأدعية المأثورة وأتى به في ذلك الحال والوقت فقد طبق عليه وصف الإكثار من الذكر إن داوم عليه في اليوم والليلة، ولم يخل به في ساعاته من النوم واليقظة، وأما من واظب على جميعها وأتى بها ليلاً ونهاراً وجعلها وظيفة دائمة فلا تسأل عنه، فإنه قد فاز بالقدح المعلى، وسلك الطريقة المثلى، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى به إلا من صنع مثل صنيعه أو أكثر أو زاد عليه.
فعليك أن تكون من أحد هذه الأصناف لتصدق عليك هذه الأوصاف، وإلا فلا تكن.
أي: يدعو عليه بأن يموت، فهو يقول: إما أن تكون ممن يذكرون الله قليلاً لكن يداومون، أو كثيراً مع المداومة، أو لا تكن.
يعني: تكون كأنك ميت إذا خلوت عن أحد هذه الأوصاف.(13/5)
حديث (ثلاثة لا يرد دعاؤهم)
وعن عطاء بن يسار قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط).
أي: الإمام الحاكم العادل.
فمن أكثر ذكر الله سبحانه وتعالى لا يرد الله سبحانه وتعالى دعاءه، فهذه فضيلة من أعظم الفضائل، وأن هذا سبب كونك ودخولك فيمن لا يرد الله سبحانه وتعالى دعاءهم، وإذا كان ممن لا يرد دعاءهم فأي خير سيتخلف عنه من خيري الدنيا أو الآخرة؟! فكلما سأل ربه استجاب دعاءه، فهذه من أفضل وأعظم فضائل الأذكار.(13/6)
حديث: (ألا أخبركم بخير أعمالكم)
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الورق والذهب) يعني التصدق بالذهب والفضة (وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى.
قال: ذكر الله).(13/7)
حديث (مثل البيت الذي يذكر الله فيه)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت) وفي رواية: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت).(13/8)
حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا)
وعن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر يحيى بن زكريا عليهما السلام أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات) منها: ذكر الله عز وجل.
وفي نص الحديث: أن يحيى قال لهم: (وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أسره) يعني: أعداؤه لحقوه، وأخذوا يطاردونه بسرعة شديدة (فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه) فدخل الحصن وأغلق الأبواب جيداً وأوثقها وأحكم إغلاقها، وتحصن بذلك من هذا العدو الذي كان يريد أن يفتك به، يقول: (فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، فإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى) فهذا أعظم ما يحمي الإنسان من كيد الشيطان، سواء بستويل المعاصي، أو بالوساوس، أو غير ذلك من الآفات والأمراض التي تفسد على الإنسان حياته، فإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى.(13/9)
حديث: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) وهذه المعية معية خاصة، وليست المعية العامة التي تكون مع البشر أجمعين، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] بعلمه وسمعه وبصره، وإنما هذه هي المعية الخاصة التي هي معية النصر والتأييد والتسديد والتوفيق، مثل قوله تبارك وتعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، ومثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فمعنى (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه): أنا مع عبدي زمان ذكره لي مادام يذكرني، فأنا معه بالحفظ والكلاءة.
وليس المقصود أن الله سبحانه وتعالى يحل حيث يحل العبد، وإنما المقصود أن الله معه بالحفظ والكلاءة والحراسة والحماية.(13/10)
حديث: (طوبى لمن طال عمره وحسن عمله)
وعن عبد الله بن بسر المزني رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله).
فهذه من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى، أن يمد في عمر الإنسان فيعمره بالطاعات والأعمال الصالحة، أما من طال عمره وقبح وساء عمله فطول العمر في حقه مصيبة عظمى؛ لأنه كلما ارتكب معاصي أكثر استوجب عقاباً أكثر، فطول العمر لمثل هذا وبالٌ عليه.
وجاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أحدهما قائلاً: (أي الناس خير؟ قال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، وقال الآخر: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله).(13/11)
حديث: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)
وعنه رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بشيء أتشبث به ولا تكثر علي، فأنسى فقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تبارك وتعالى)، وفي رواية: أن الرجل قال: (إن شرائع الإسلام قد كثرت، وأنا قد كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر علي فأنسى.
فقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تبارك وتعالى).(13/12)
حديث: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشىً لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة).
ومعنى الترة لغة: النقص، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
يعني: لن ينقصكم، لكن المقصود بالترة هنا في هذا الحديث التبعة، يقال: وترك الرجل يترك ترة، على وزن: وعدك يعدك عدة.
يعني: إلا كانت عليهم تبعة.
أي: حسرة ومسئولية يسألون عنها ويحاسبون عليها.
يقول عليه الصلاة والسلام: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشىً لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) وفي رواية: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم).
ففي هذا الحديث وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر الله في أي مجلس يجلسه الإنسان، فإذا جلس الإنسان مجلساً -سواءٌ مع إخوانه في درس علمي أو محاضرة في أي موضوع- فإنه يجب أن يراعى هذا الأدب، والدليل على وجوبه قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم) وهذا لا يقال إلا في الواجب، قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة) يعني: كأنهم كانوا يجلسون في وليمة يأكلون فيها جثة حمار منتنة متعفنة يتعاطونها ويأكلونها.
فهذا مثل كل من يجلس مجلساً لا يذكر الله تبارك وتعالى فيه، وما أكثر هذه المجالس -للأسف- في هذا الزمان! مجالس أمام الفيديو والتلفاز، وفي المسارح والسينماء وعلى المقاهي، وفي أماكن كثيرة جداً كما نعلم يجلسون فيها لا يذكرون الله سبحانه وتعالى، وليتهم يكتفون بعدم الذكر إن لم يكن فيها اللغو والآفات الأخرى من آفات اللسان.(13/13)
حديث الثلاثة الذين أسلموا فكان آخرهم موتاً أكثرهم أجراً
وعن عبد الله بن شداد: (أن نفراً من بني عذرة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يكفنيهم -يعني من يقوم بضيافتهم-؟ قال طلحة: أنا.
قال: فكانوا عند طلحة ضيوفاً، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً، فخرج فيه أحدهم فاستشهد، قال: ثم بعث بعثاً فخرج فيه آخر فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم في منزلة أعلى من منزلتهم، ورأيت الذي استشهد أخيراً يليه، ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم).
فالأول سبق إلى الشهادة، والثاني كان يليه في الشهادة، والثالث مات على فراشه ولم يكن شهيداً في الجهاد، فكيف بهذا الثالث الذي مات على فراشه يكون في منزلة أعلى من منزلة أخويه؟ يقول: (فدخلني من ذلك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنكرت من ذلك؟) يعني: ما الذي أثار استغرابك؟ ولماذا تتعجب؟ قال: (وما أنكرت من ذلك؟ ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله) يعني أن الثاني استشهد بعد الأول بفترة، وهذه الفترة عمرها بذكر الله، فزادت في ميزان عمله من تسبيح وتكبير وتهليل وقراءة قرآن وصلاة وذكر، فهذه ثقلت ميزانه حتى تفوق على أخيه الذي استشهد أولاً بسبب أنه عاش عمراً أطول منه، فعمره بذكر الله فارتفع على درجة أخيه الذي مات دون هذا الوقت، وليس هذا فحسب، بل إن الثالث الذي مات على فراشه ولم ينل الشهادة في سبيل الله أثناء القتال بلغ من استثماره لوقته بعد موت الأول والثاني أنه -أيضاً- عمر هذا الوقت بذكر الله سبحانه وتعالى، فارتفعت درجته على مقام الشهيدين اللذين سبقاه، مع أنه مات على فراشه، وهذا لفضيلة الذكر.
فالذكر عبادة أجرها عظيم جداً فوق ما نتصوره، ولا تستطيع أن تتخيل أبداً فضيلة الذكر، ولو أن البشر كشف لهم الحجب واطلعوا على ما يترتب على الكلمات السهلة الخفيفة على اللسان الثقيلة في الميزان لقطعوا أنفسهم حسرة على كل ساعة غفلوا فيها عن ذكر الله عز وجل، كما يقول عليه الصلاة والسلام: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم).
ومثلاً: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة) وكيف يكون البيت في الجنة؟ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومع ذلك انظر كيف يكد الإنسان ويكدح في هذه الدنيا من أجل أن يحصل على شقة مكونة من غرفتين! يكد ويكدح ويجمع المال ويهتم وينشغل جداً حتى يبني بيتاً يستقر فيه، فكيف نضيع ذكر الله إن كان عندنا يقين بأن هذا خبر الصادق المصدوق، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى؟! هذا خبر حقيقي، وعندما تنكشف الحجب يقطع أناس أنفسهم من الغم والهم والحسرة على أنهم لم يغتنموا هذه اللحظات.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من بخل بالمال أن ينفقه، وبالليل أن يكابده، فعليه بسبحان الله وبحمده).
شيء سهل جداً، تقول: سبحان الله وبحمده.
ولا أحد يعطلك عن شيء، تذكر الله وأنت تمشي في الطريق، وربما إذا ما ذكرت الله في الطريق ورآك رجل غافل فرأى شفتيك تتحرك بذكر الله فإنه يذكر الله اتباعاً لك واقتداءً بك، فتأخذ ثوابه أيضاً، وكل من رآك واستفاد بمنظرك وأنت تذكر الله سبحانه وتعالى انتبه من الغفلة وفعل مثلك، فأنت تثاب هذا الثواب، ولذلك هذه كانت من أعظم علامات أولياء الله، ولما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أولياء الله قال: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله سبحانه وتعالى).
فإذاً لا ينبغي أن يقصر عاقل أبداً في الذكر، والله سبحانه وتعالى يمد في عمر الإنسان ويقبض روحه في كل يوم وليلة، فأنت تتوفى وتخرج روحك من بدنك، وصحيح أنها ليست مفارقة كبرى كالموت، لكنه أخو الموت، وكم من رجل وضع خده على الوسادة وما استيقظ ثانية، فأرواحنا لا تكون بأيدينا، فهي تعود إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يعيدها إلينا، فهذه نعمة متجددة -أيضاً- نحن في غفلة عنها، فمن أعظم النعم أن يعطيك الله سبحانه وتعالى عمراً أطول: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فهنا هذا الصحابي - طلحة - لما حكى هذه الرؤيا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (فدخلني من ذلك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنكرت من ذلك؟ ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله).(13/14)
فضائل حِلق الذكر
هناك فضائل عظمى لحلق الذكر، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله.
قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك -يستحلفهم بالله ما جلسوا إلا لذكر الله-؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا.
فقال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة).
وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً) والباع مسافة ما بين اليدين ممدودتين يميناً وشمالاً.
فإذا بسطت ذراعيك فما بين الأصابع هو الباع، (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
يعني: أسرع من مجيئه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل).
والسر في قوله: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة) السر في التفضيل على هذا العدد أن المفضل هو مجموع أربعة أشياء، فما هي هذه الأشياء المفضلة؟ ذكر الله، والقعود له، والاجتماع عليه، والاستمرار فيه إلى الطلوع وإلى الغروب.
وخص بني إسماعيل لشرفهم وإنافتهم على غيرهم، وقربهم منه، ومزيد اهتمامه بحالهم صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى الإنسان أن الله سبحانه وتعالى ييسر له أمر الذكر فعليه أن يستشعر أن هذه نعمة من الله عز وجل، فتوفيقك للذكر هو نعمة جديدة تحتاج إلى شكر لله سبحانه وتعالى.
فعلينا أن نحمد الله سبحانه وتعالى أن سخرنا لطاعته، واستضافنا في بيته؛ لأنه إذا كنت ضيفاً لله في حلق الذكر في المساجد فحق على المزور أن يكرم زائره، وإذا ذهبت إلى رجل كريم وزرته في بيته أليس يكرمك ويقدم لك النزل؟ فإذا كان هذا في حق بشر فكيف في حق الله سبحانه وتعالى؟! فأنت ضيف الله، فأحسن الظن بالله فإنه حق على المزور أن يكرم زائره، وفي حين أن الله سبحانه وتعالى هيأ لك أن تكون في المساجد في حلق الذكر وفي حلق العلم ففي نفس الوقت خذل الله سبحانه وتعالى قوماً آخرين هم في نفس اللحظة أو في نفس الساعة إما موجودون في داخل السينما أو في البارات أو النوادي يلهون ويلعبون، أو أمام التلفاز في بيوتهم، أو غير ذلك من أماكن الفساد، كمن يشتغل بالمقهى، أو بالشطرنج، أو بلعب الورق ونحو ذلك من هذه الآفات، فالله سبحانه وتعالى عافاك من أن تكون في مجالس اللغو واللهو والمعصية حين أدخلك المسجد.
ولقد رأى ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه قوماً في المسجد يتعلمون، فقال رجل: علام اجتمع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه: على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسمونه.
يقتسمون ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، فما هو ميراث محمد؟! إنه العلم والذكر، وقراءة القرآن والأحاديث وغير ذلك.
وخرج أبو هريرة إلى السوق فقال لأهل السوق: تركتم ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسم في المسجد وأنتم هاهنا! فهرعوا إلى المسجد يظنون أنه ميراث مال أو شيء من هذا، فما وجدوا إلا حلقة ذكر، فبين لهم أن هذا هو ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الأنبياء لا تورث إلا العلم والحكمة والذكر، كما قال تبارك وتعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل:16].(13/15)
حث الشارع على حضور مجالس الذكر وهجر مجالس اللغو(13/16)
قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور)
كما حث الشارع على حضور مجالس الذكر فقد حذر من مجالس الخاطئين، حيث يقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] فقوله تعالى: (يَشْهَدُونَ الزُّورَ) يعني: يحضرون (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) يعني: لا يحضرون مجالس اللغو.
وضرب العلماء أمثلة لمجالس الزور التي ينبغي أن لا نشهدها، فمنها -مثلاً- أعياد المشركين، فلا تحضر أبداً أعياد المشركين، ولا تحضر صلواتهم التي يشتمون فيها الله سبحانه وتعالى، ولا تجلس مع الغافلين اللاهين العابثين الصادين أو المصدودين عن ذكر الله تبارك وتعالى.
وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) يفهم منه أن من يمر باللغو ويتعاطى منه شيئاً فقد أهان نفسه، لكن الكريم يمر دون أن يؤذي نفسه بسماع هذا اللغو والفساد، فلا ينبغي حضور مجالس الكذابين أو الخاطئين أو العصاة ولا قربها تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينك عما يشينه؛ لأن مشاهدة الباطل فيه شركة، فبحضورك مجالس الباطل تصير شريكاً، كما قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، ويقول تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
فانظر في هذا الذي يدعوك إلى مجلسه، أو الذي يدعوك إلى النادي، أو إلى السينما، أو المسرح، أو إلى مشاهدة التلفاز أو غير ذلك هل هذا الشخص الذي يدعوك إلى هذه المجالس ينطبق عليه أنه قد أغفل الله قلبه عن ذكره؟ وتأمل في حال هذا الشخص: هل هو ممن ينطبق عليه قوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] أم أن قلبه عامر بذكر الله سبحانه وتعالى ومتبع للشرع لا للهوى؟(13/17)
قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله)
ويقول تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] إذا نسيت الله أنساك نفسك، وإذا ذكرت الله ذكرك بالخير وفتح عليك هذه الأبواب.
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] وفي الآية الأخرى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] يعني: تركهم.
ومعنى: {أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] أغفل قلوبهم عن ذكره تبارك وتعالى، وألهاهم عن ذكر الله، وشغلهم بغير ذكر الله، فهم لا يلتفتون إلى ما هم فيه من القبائح، ولا يسعون في إصلاح أحوالهم مع الله سبحانه وتعالى، فالواحد منهم لا يفكر في التوبة؛ لأنه عوقب بأن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فمم يتوب؟! وإذا كان الإنسان يرى حياته كما يقال: أعيش حياتي بالطول والعرض.
ويتمتع بكل شيء يريده من الدنيا، ويرى أن هذه هي العصرية والمدنية، وهذا هو التقدم والحضارة فقد زينت له هذه الأشياء في عينه وهي ليست قبيحة، ويراها شيئاً من أعظم الإنجازات، ويفرح جداً إذا يسرت له المعصية.
فأخطر عقوبة يسلطها الله سبحانه وتعالى على عبد من عباده أن ينسيه نفسه، فلا يسعى في إصلاحها ولا يشعر بالندم؛ لأنه يرى القبيح حسناً، كما قال عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104] وهذا مشاهد وواقع يحكيه القرآن ويصفه، فأهل الباطل والفساد في كل مجال الآن تجد أنهم فرحون بما هم عليه، سعداء به، حريصون على أن لا يحرفهم أحد عن هذا المنهج، وكل منهم يقول قولة فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].
وفرعون نفسه الذي كان يدعوهم إلى عبادته يقول: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فموسى في نظر فرعون هو المفسد، وفرعون يخاف من نشر الفساد في الأرض! وأي فساد بعد أن دعا قومه لعبادته من دون الله تبارك وتعالى؟! وأي فساد بعد أن يقول هذا الذي كان ينام ويأكل ويشرب ويقضي حاجته: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24]؟! بل يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] بصيغة تنكير! أنساه الله نفسه، ولو أراد الله به خيراً لنبهه من غفلته.
ولذلك فالشخص الذي يتمادى في المعاصي والبعد عن الله سبحانه وتعالى لعله إذا أراد الله به خيراً يجعله يفيق بمصيبة تحصل له أو حادثة، أو أي شيء ينبهه فيفيق وينتبه، وإذا به يراجع نفسه ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى، فالعقوبات على الذنوب تتفاوت، فهناك العقوبات الكونية القدرية المعروفة مثل القذف والخسف والزلازل وغير ذلك من العقوبات العامة المعروفة.
وهناك عقوبات شرعية كقطع يد السارق، ورجم الزاني أو جلده، وجلد شارب الخمر، وغير ذلك من حدود الله سبحانه وتعالى الشرعية.
لكن أخطر عقوبة على الإطلاق يعاقب الله سبحانه وتعالى بها عبداً من عباده أن يسلط الغفلة على قلبه؛ لأن العقوبة الخطيرة هي التي لا يحس بها صاحبها حين يعاقب، فلا يصل إلى التنبيه ولا التحذير، فهذا هو داء السرطان، والسرطان إذا بدأ في بعض خلايا الجسم فإنه ينمو ويكبر بصورة مذهلة والمريض لا يشعر بألم، فهو يرى ورماً ولا يشعر بأي ألم، وما يكون فيه أية مشكلة، حتى إنه لا يسعى في العلاج؛ لأنه يرى شيئاً طبيعياً، لكنه قد يفيق بعدما يكون قد فات الأوان وانتشرت الخلايات السرطانية إلى سائر أجزاء الجسد، وبالتالي لا يبقى أمل في نجاته.
فكذلك هذا الداء خطورته أنك لا تحس به، فالغفلة إذا سلطها الله سبحانه وتعالى على قلب عبد لا يسعى في إصلاح حاله، بل يتمادى ويتلذذ بمزيد من الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، فهؤلاء هم الذين نسوا الله فنسيهم، أي: أنساهم أنفسهم كما بينتها الآية الأخرى، فلا يسعون في إصلاح حالهم، ولا يفكرون في توبة، فمم وكيف يتوب؟! إنه يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً، والتدين تطرفاً ورجعية وتزمتاً وإرهاباً، فينظر إلى طاعة الله سبحانه وتعالى بهذه الصفات المنفرة، وينظر إلى المعاصي على أنه إنسان يعيش حياته ويتمتع بها، وينفتح على الناس ولا يكون معقداً، وغير ذلك من تلبيس الشيطان وتسويله لهؤلاء القوم.(13/18)
قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)
يقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] معنى ذلك: لا تحسبن أن من أعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى وهرب من مشقة التكاليف والانقياد لأمر الله عز وجل بحثاً وراء السعادة في الحياة الدنيا ووراء الفرحة والتمتع بالدنيا لا تحسب أن هذا سوف يصفو له عيشه، بل بالعكس، سينغص الله عيشه، فقد قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً محكماً لا يرد أن من آثر عليه غيره عذبه الله به ولا بد، وكل من أحب شيئاً ضد محبة الله سبحانه وتعالى، أو فضل شيئاً على محاب الله لا بد من أن يجعل الله نفس هذا الشيء سبباً في عذابه، فمثلاً: من أطاع زوجته في معصية الله كي يرضيها وكي لا يتكدر عيشه، فإذا طاوعها في معصية الله عز وجل فإنه يعاقب بأن الله سبحانه وتعالى يجعلها سبباً في عذابه ونكده.
كذلك من آثر مصلحة أو محبة ولده على محبة الله عز وجل يجعل الله ابنه هذا سبباً في عذابه، من أحب أو عشق امرأة بحيث أفسدت عليه دينه ودنياه كما هو معلوم ومتواتر فتكون نفس هذه المحبوبة سبباً في شقائه وعذابه، وصده عن سبيل الله تبارك وتعالى، فكل من أحب شيئاً غير الله عذب به ولا بد.
كذلك من سعى وراء الدنيا ليسعد بها تجد نفس الدنيا تكون سبباً في شقائه، فكم من رجل سعى إلى زواج ابنته مثلاً بالحسب والنسب والتفاخر بمظاهر الدنيا، فيزوج ابنته -مثلاً- برجل من عائلة كبيرة جداً، ثم يشاء الله سبحانه وتعالى أن تحصل الخلافات، ويذوق الويل والدمار والوبال على يد نفس هذه العائلة، وتكون قوة هذه العائلة ومراكزها وجاهها سبباً في زيادة النكال حينما يحصل بينهم خصومة.
فالشاهد أن الإنسان إذا أعرض عن ذكر الله بنية أن يتمتع بالدنيا أكثر ويأمن أكثر فإنه لن ينال الأمن ولا الراحة، ولا السعادة، ولا ينال إلا المعيشة الضنك كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:124].
أي: القرآن {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:125 - 126].
وقال سبحانه وتعالى في المنافقين: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142].
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].(13/19)
آداب ذكر الله تعالى
هناك في الحقيقة كثير من الآداب التي ينبغي مراعاتها عند التلبس بذكر الله عز وجل.(13/20)
طهارة مكان الذكر
أول هذه الآداب: أن يكون المكان الذي يذكر الله سبحانه وتعالى فيه نظيفاً خالياً؛ لأن التنزه عن ملابسة النجاسة مطلقاً مندوب إليه في كل الأحوال، فتدخل حالة الذكر والدعاء تحت ذلك دخولاً أولياً، والإنسان إذا أراد ذكر الله فينبغي أن يكون في مكان خال طيب لا نجاسة فيه ولا قاذورات.
وصحيح أنه لم يرد دليل يدل بخصوصه على هذا الحكم، لكن هذا الذكر -بلا شك- عبادة للرب سبحانه وتعالى، والنظافة على العموم ورد الشرع بالترغيب فيها، كما قال عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:4 - 5] فمن هنا مدح الذكر في المواضع الشريفة وفي المساجد، فعن أبي ميسرة رضي الله عنه قال: (لا يذكر الله تعالى إلا في مكان طيب) أي: لا يذكر الله تعالى باللسان إلا في مكان طيب.
ولذلك فإن من الآداب أن الإنسان في الخلاء لا يذكر الله بلسانه، وإنما يذكر الله بقلبه، ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك).
وبعض العلماء قالوا: يستغفر لتوقف لسانه عن الذكر في هذا الوقت؛ لأن هذا المكان لا يليق أن يذكر فيه الله سبحانه وتعالى.
كذلك يكون المكان الذي يذكر الله فيه خالياً عن كل ما يشغل البال ويحصل من وجوده الوساوس والأشغال، فذلك أقرب إلى حضور القلب، وأبعد عن الرياء والمباهاة، وأكثر عوناً على تدبر ما يذكر الله سبحانه وتعالى به، فهذه الحالة -بلا شك- هي أكمل مما يخالفها.(13/21)
كمال طهارة الذاكر
ثانياً: ينبغي أن يكون الذاكر على أكمل الصفات، فيكون فمه نظيفاً، فإن كان في فمه تغير أزاله بالسواك؛ لأن الذكر عبادة لسانية، فتنظيف الفم عند ذلك أدب حسن، ومن هنا جاءت السنة المتواترة بمشروعية السواك للصلاة؛ لأجل تنظيف المحل الذي يكون الذكر به في الصلاة، وهو الفم.
وعن أبي الجهيم رضي الله عنه قال: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الجدار فمسحه بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام) لأنه ما كان يستطيع أن يتوضأ في ذلك الوقت، فأراد أن يخفف الحدث بالتيمم، فاتجه إلى الجدار وتيمم، ثم رد عليه السلام حتى يكون على ما يستيطعه من طهارة ليذكر الله في السلام، ولأن السلام اسم من أسماء الله، ولفظ (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته) فيه ذكر لفظ الجلالة، فاستحب لذلك أن يكون على طهارة بقدر المستطاع، فإذا كان هذا في مجرد رد السلام فلم يرد عليه حتى تيمم عليه الصلاة والسلام فكيف بذكر الله سبحانه وتعالى الذي هو أولى بذلك؟! وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل: (كرهت أن أذكر الله إلا على طهر).(13/22)
استقبال القبلة
الأدب الثالث: أن يستقبل القبلة، فإنها الجهة التي يتوجه إليها العابدون لله سبحانه وتعالى والداعون له والمتقربون إليه، وقد ورد النهي عن أن يبصق الرجل إلى جهة قبلته، معللاً بمثل هذه العلة، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: لو ذكر الله على غير هذه الأحوال لجاز.
لأنه لو ذكرت الله وأنت غير متوضئ أو في مكان فيه شيء يشغلك فهذا ذكر جائز بلا شك، لكن ليس هو الأكمل، قال: ولا كراهة في حقه، لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل.
والدليل على عدم الكراهة قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191] يعني: في كل أحوالهم.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن).
وفي رواية: (ورأسه في حجري وأنا حائض).
وعنها رضي الله عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه).(13/23)
من آداب الذكر التدبر والتعقل
من الآداب -أيضاً- أن يتدبر ما يقول ويتعقل معناه، وإن جهل شيئاً تبين؛ لأن المقصود بالذكر هو حضور القلب، ولا سبيل إلى حضور القلب إلا إذا كنت تفقه هذا الذكر الذي تقوله وتتدبره، يقول علي رضي الله عنه: (لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا قراءة لا تدبر فيها).
يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: لا ريب أن تدبر الذاكر لمعاني ما يذكر به أكمل؛ لأنه بذلك يكون في حكم المخاطب والمناجي، وإن كان أجر هذا أتم وأوفى فإنه لا ينافي ثبوت ما ورد الوعد به من ثواب الأذكار لمن جاء بها، فإنه أعم من أن يأتي بها متدبراً لمعانيها.
حتى لو كان لا يستطيع أن يتدبر معانيها فإنه ينال الثواب أيضاً، وأيضاً الشخص الذي لا يتدبر ولا يكون حاضر القلب تماماً فهو -أيضاً- لن يحرم من الثواب؛ فإنه لم يرد دليل يشترط أو يقيد هذا الثواب بحصول التدبر والتفهم، يقول الشيخ صديق حسن خان في (نزل الأبرار) معلقاً على كلام الشوكاني: وهذا تقرير حسن، فيه توسيع دائرة الرحمة التي وسعت كل شيء.(13/24)
تنبيهات ونصائح تتعلق بذكر الله تعالى
نذكر بعض التنبيهات والفوائد التي تتعلق بذكر الله عز وجل:(13/25)
الإخلاص لله تعالى
أولها: الإخلاص في ذكر الله عز وجل، يقول تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5].
وقال عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] أي: النيات والإخلاص، فهذا الذي يصل إلى الله سبحانه وتعالى.
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) يقول الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
فقوله: (ترك العمل لأجل الناس رياء)؛ لأن بعض الناس يفتح عليه بالذكر أو قراءة القرآن فيقول: لا؛ أخشى إن فعلت ذلك أن أكون مرائياً.
فـ الفضيل هنا يقول: إنك إذا تركت العمل خوفاً من الرياء فهذا هو عين الرياء؛ لأنك راعيت رؤية الناس لك، ونظرهم إليك، فضيعت هذه الوظيفة العظيمة أو الشريفة.
(والعمل لأجل الناس شرك)، كذلك إذا فعلت العمل الصالح حتى يراك الناس فهذا هو الشرك الأصغر، أما الإخلاص فهو أن يعافيك الله منهما، فلا تضيع العمل خوفاً من الناس أن يظنوا بك الرياء أو أن ترائي الناس، ولا تعمل العمل مراءاة للناس، لكن الإخلاص أن يعافيك الله منهما.
فافترض أنك الوحيد في هذا الوجود المكلف باتباع الحق وبذكر الله، ولا تبال بالناس، ولا تلق لهم بالاً، فإن الإنسان لو فتح على نفسه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم لانسد عليه أكثر أبواب الخير؛ لأنه لا يمكن إرضاء جميع الناس أبداً، فإنك إذا أرضيت فئة تسخط فئة أخرى، وإذا أسخطت هذه الفئة رضيت تلك، وإرضاء الناس غير مطلوب، فهذا شيء أنت غير مكلف به، فلم يأمرك الله أن ترضي الناس.
ثانياً: لم يحصل أبداً أن العبد يرضي الناس ويجتمع عليه الناس، فالأنبياء ما اجتمع البشر عليهم، فأنت اجعل همك هماً واحداً، وهو إرضاء الله سبحانه وتعالى، ولا تبال بالناس، فإنه سيرضى الله سبحانه وتعالى عنك بعد ذلك.
فالإنسان لا يفتح على نفسه باب ملاحظة الناس، ولو فتح الإنسان على نفسه باب ملاحظة الناس والاحتراز من ظنونهم لانسدت عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليست هذه طريقة الصالحين، فإذا أراد الإنسان أن يذكر الله تبارك وتعالى باللسان مع القلب فليس له أن يمتنع من ذلك خوف الرياء، بل يذكر الله بهما جميعاً، ويقصد بذلك وجه الله سبحانه وتعالى وحده.(13/26)
الجهر والإسرار بالذكر حسب الأحوال
التنبيه الثاني: أنه قد وردت أحاديث تقتضي الجهر بالذكر وأحاديث تقتضي الإسرار به، والجمع بينهما أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، إلا إذا أتى دليل ينص على الجهر أو على الإسرار، أما حيث لا دليل يطلب فإن الجهر أو الإسرار حسب الحال.
فقد يكون الإسرار في بعض الأوضاع أبعد عن التكلف والرياء والتصنع، فإذا كان الإنسان يخشى على نفسه فيذكر الله سراً، فإن لم يكن في الجهر ما يشوش على شخص آخر كمصل -مثلاً- فالجهر أفضل؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته أيضاً تتعلق بغيره، فلو أن إنساناً يقرأ القرآن وبقراءته هذه أوقظ شخصاً نائماً -مثلاً- ليزيد نشاطه في القراءة ويقوم فيفعل مثلك، ويكون القارئ سبب إحيائه لذكر الله عز وجل، أو شخص يراك بطالاً أو غافلاً أو ناسياً فيذكر الله سبحانه وتعالى ليذكرك، فإذا كان بهذه النوايا الحسنة فلا حرج في الجهر، وإذا حضرك شيء من هذه النيات فالجهر أفضل، فإذا اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر، وبكثرة النيات تزكو أعمال الأبرار وتتضاعف أجورهم.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبة كانت أو مستحبة، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه.
يعني بذلك الأذكار حتى تنال ثوابها؛ لأن معناها يدل على أن التلفظ باللسان مطلوب، وليس معنى ذلك أن يقولها بقلبه فقط أو يمرها على خاطره، فإن قوله: (من قال سبحان الله وبحمده فله كذا) يعني: يقولها باللسان.
وإلا فإنه لا ينال الثواب الموعود في الحديث، ويقول الجزري في (العدة): ولا يعتد له بشيء مما رتبه الشارع على قوله حتى يتلفظ به ويسمع نفسه.
فقوله: (من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة) فلفظ (قرأ) يعني: باللسان، لكن لو أن إنساناً قرأها بقلبه فهذا يعتبر محروم الأجر، والشخص الذي امتثل الحديث بأن تلفظ ونطق بالقرآن الكريم وقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات فله الثواب الموعود في الحديث.
أما من ذكر الله في نفسه فثوابه أنه يذكره الله في نفسه: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)، لكن هل ينال نفس الثواب الموجود في الحديث؟ لا.
فهذا باب وموضع آخر، فلا تعارض بين الحديثين.(13/27)
الحرص على قراءة الأذكار مجودة
أيضاً من الآداب الشرعية أن يجتهد الإنسان في قراءة الأذكار مجودة، أن يجتهد في التجويد، فبعض الناس إذا سمع بعض الشيوخ يقرأ حديثاً في صحيح البخاري أو مسلم مجوداً يستنكره ويقول: فلان يقرأ الأحاديث تماماً كما يقرأ القرآن! فهذا قصور في الفهم، فإن التجويد أصلاً من الصفات الأساسية للحروف في اللغة العربية، فالعرب ما نطقت حرفاً إلا مجوداً، حتى في الشعر، وكلامهم العادي كان كله مجوداً، وليس ذلك من الأمور التحسينية أو التكميلية، بل هو من الصفات الذاتية للحروف العربية.
فقولهم: وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا نجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل وأمثاله كانوا يقولونه مجوداً.
وهكذا كانت هذه اللغة العربية، والأصل في اللغة العربية أن تنطق مجودة؛ لأن العرب ما نطقت كلاماً إلا مجوداً، فبالأولى إذا نطقت الأحاديث أن تقرأها أيضاً مجودة، وإذا ذكرت الله سبحانه وتعالى فأكمل الأحوال أن تكون في ذكرك مراعياً قواعد التجويد في ذكر الله سبحانه وتعالى، يقول الشيخ عطية الأجهوري في حاشيته على شرح الزرقاني للمنظومة البيقونية: فائدة: قال الإمام محمد بن محمد البديري الدمياطي في آخر شرحه لهذه المنظومة المباركة ما نصه: وأما قراءة الحديث مجودة كتجويد القرآن من أحكام النون الساكنة والتنوين والمد والقصر وغير ذلك فهي مندوبة كما صرح به بعضهم، لكن سألت شيخي خاتمة المحققين الشيخ علي الشبراملسي تغمده الله تعالى بالرحمة حالة قراءتي عليه صحيح الإمام البخاري عن ذلك فأجابني بالوجوب -شيخه أفتاه بوجوب التجويد- وذكر لي أنه رأى ذلك منقولاً في كتاب يقال له: (الأقوال الشارحة في تفسير الفاتحة)، وعلل الشيخ حينئذ ذلك بأن التجويد من محاسن الكلام، ومن لغة العرب، ومن فصاحة المتكلم، وهذه المعاني مجموعة فيه صلى الله عليه وسلم، فمن تكلم بحديثه صلى الله عليه وسلم فعليه مراعاة ما نطق به صلى الله عليه وسلم.
وقال العلامة القاسمي رحمه الله تعالى في قواعد التهذيب: ولا يخفى أن التجويد من مقتضيات اللغة العربية؛ لأنه من صفاتها الذاتية، ولأن العرب لم تنطق بكلمة إلا مجودة، فمن نطق بها غير مجودة فكأنه لم ينطق بها، فليس هو في الحقيقة من محاسن الكلام، بل من الذاتيات له، فهو إذاً من طبيعة اللغة، لذلك من تركه وقع في اللحن الجلي؛ لأن العرب لا تعرف الكلام إلا مجوداً.
ونحن لا نطالب الإخوة في كلامهم العادي أن يراعوا التجويد حتى في الحوار العادي، لكن على الأقل يجودون الأحاديث والأذكار، فضلاً عن قراءة القرآن الكريم، أو على الأقل لا ينكر على من يفعل هذا ويصور كأنه يأتي ببدع من الأمر.(13/28)
مراعاة العدد في الذكر المقيد بالعدد
هناك بعض الأذكار تأتي مقيدة بعدد، فهذا يقتضي أن الأجر المذكور لفاعلها يحصل بفعلها، فإن نقص من ذلك العدد نقص ذلك من أجره بقدر ما ينقص من العدد؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع عمل عامل، وإن زاد على العدد حصل له الأجر بالعدد، واستحق ثواب ما زاد.
وقيل: إنه لا يستحق الأجر المرتب على العدد إلا إذا اقتصر عليه من غير زيادة ولا نقصان، وليس ذلك بصواب إلا فيما ورد النهي عن الزيادة عليه، كزيادة عدد غسلات الوضوء ونحو ذلك.(13/29)
جواز قضاء الأذكار إذا فاتت
ينبغي لمن كان له وظيفة من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقيب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتداركها إذا أتت له عوائق، فمثلاً: لم تقل أذكار الصباح ما بين صلاة الفجر والشروق، فهل معنى ذلك أن تضيع الأذكار ولا تقضيها؟ لا.
بل تقضيها حتى ولو بعد ذهاب وقتها، فيأتي بها إذا تمكن منها، ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة لها لم يعرضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سهل عليه تضييعها في وقتها.
فهذا نوع من تربية النفس حتى لا تتساهل، فإن الشيطان يأتي يقول لك: ليست مهمة، فأخرجها عن وقتها، واقضها، فإذا تساهل في الأداء فإنه يتساهل في القضاء فيضيعها أصلاً في وقتها، وتصير عادة سيئة له، فينبغي على الإنسان إذا فاتته الأذكار أن يأتي بها حتى ولو بعد وقتها، لأجل أن يصدق عليه أنه مديم للذكر مواظب عليه، وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يقضون ما فاتهم من الأذكار التي يفعلونها في أوقات مخصوصة، فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه) وهو ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة، وأصله في اللغة النوبة في ورود الماء، قال: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل) فهو يعتاد كل ليلة أن يقرأ جزءاً أو جزئين أو يصلي عدد ركعات معينة، ففي يوم أو ليلة من الليالي فاته ذلك حيث نام ولم يستيقظ، فيفتح له باب بديل عنه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] فمن يفوته العمل في الليل يخلفه النهار حتى يعوض فيه ما فاته، فهنا يقول عليه الصلاة والسلام: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل).
وفي تفسير عبد بن حميد وغيره من التفاسير المسندة عن الحسن في قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] قال: من عجز بالليل كان له من أول النهار مستعتب -فرصة أخرى يعوض ما فاته-، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب.
وعن قتادة قال: إن المؤمن قد ينسى بالليل ويذكر بالنهار، وينسى بالنهار ويذكر بالليل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(13/30)
فوائد في صلاة الجماعة
من نعم الله تعالى علينا أهل الإسلام أن شرع لنا الصلاة في جماعة، وهي مليئة بالحكم والفوائد الدينية والدنيوية، ففيها يتعارف المسلمون ويتراحمون، وفيها يجتمعون ويتعلمون، فأمرها عند الله تعالى عظيم، ويكفي في بيان عظم أمرها أن الله تعالى توعد من تخلفها بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، فكيف بمن أعرض عنها كلية، ولم يرفع بها رأساً.(14/1)
وعيد الشرع وتهديده للمتهاونين بصلاة الجماعة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر -قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلى)، هذا الحديث رواه أبو داود في سننه، وهو -بلا شك- ينذر بالعاقبة الوخيمة لمن يتعمد التخلف عن صلاة الجماعة بعد أن يسمع النداء.
يقول عليه الصلاة والسلام: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر) فقاطعه الصحابة قبل أن يكمل الحديث وقالوا: (وما العذر؟) قال: (خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى).
وعنه رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)، والنداء: الأذان لصلاة الجماعة.
وهذا رواه الحاكم وصححه.
وعن أبي الدرداء رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا في بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة)، وهذا -أيضاً- رواه الحاكم في المستدرك، والجماعة في هذا الحديث هي صلاة الجماعة، كما هو أحد معاني الجماعة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة، فقال: (هذا في النار) رواه الترمذي في سننه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) رواه مسلم في صحيحه.
قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله تعالى: وأجمعوا على أن صلاة الجماعة مشروعة، وأنه يجب إظهارها في الناس، فإن امتنع من ذلك أهل بلد قوتلوا عليها.
فصلاة الجماعة من شعائر الإسلام الظاهرة التي ينبغي أن تكون ملمحاً بيناً من ملامح المجتمع المسلم، وإذا أذن للصلاة فعلى الناس أن يخرجوا من بيوتهم زرافات ووحداناً، فالمحلات تغلق، والذي يمشي بالسيارة يتوقف، ويهرع الجميع إلى المسجد كما نلحظ ذلك في المجتمعات التي ما زالت متمسكة بهذه الشعيرة الإسلامية، فمن خصائص المجتمع الإسلامي تعظيم صلاة الجماعة، وجعلها من شعائر وخصائص وملامح وسمات هذا المجتمع.
يقول ابن هبيرة: (وأجمعوا -أي: الفقهاء- على أن صلاة الجماعة مشروعة، وأنه يجب إظهارها في الناس) يعني: لابد من أن تظهر في المجتمع، قال: (فإن امتنع من ذلك أهل بلد) أو تواطأ أهل بلد على الامتناع من صلاة الجماعة، وأصروا على الصلاة في بيوتهم وعدم المناداة بصلاة الجماعة والجهر بها في الناس (قوتلوا عليها)، فالإمام أو الحاكم عليه أن يقاتلهم حتى يعودوا إلى إظهار صلاة الجماعة.
وينبغي أن يعلم أن العبارات في هذا السياق إنما يخاطب بها الإمام الممكن، ولا تخاطب آحاد الناس.
وللصلاة عموماً منزلة عظيمة جداً في الإسلام، ولصلاة الجماعة خصوصاً مرتبة عالية وفوائد جمة، ولذلك شدد الإسلام في النكير على من يفرط فيها، وهدد الذين يتهاونون بها ويتساهلون فيها، وأنذرهم بالعواقب الوخيمة، واعتبر صلاتهم في البيوت كـ (لا صلاة) كقوله عليه الصلاة والسلام: (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)، وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر -قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلى).
فبإذن الله تبارك وتعالى في هذا الموضوع الحيوي المهم نتناصح فيه من باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الدين النصيحة!) بل من باب قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، وسوف نناقش -إن شاء الله- ونستعرض بالتفصيل أحكام صلاة الجماعة ومتعلقاتها.(14/2)
الحكمة من مشروعية الصلاة في جماعة
من الملامح البارزة جداً للتشريع الإسلامي أن كثيراً من العبادات تشرع في مكان اجتماع المسلمين، وتظهر وكأنها مؤتمرات وتجمعات إسلامية، وذلك لإظهار شعائر الله سبحانه وتعالى وتعظيمها، فيتلاقى المسلمون ويتعارفون ويتشاورون في أمورهم، ويتعاونون في حل مشكلاتهم، ويتداولون الرأي فيما بينهم، فلا شك أن هذه التجمعات فيها من المنافع العظيمة والفوائد الجمة ما يفوق الحصر، أعني بركات التجمعات، سواء في صلاة الجماعة في المساجد، أو الأعياد، أو الحج، وغير ذلك من العبادات التي تؤدى في جماعة، فإن في ذلك منافع عظيمة جداً، سواء التجمعات التي هي في الأفراح أو التجمعات التي هي في مواساة المسلمين في آلامهم.(14/3)
تعليم الجاهل وإظهار عز الإسلام
إن الجاهل يتعلم ببركة الجماعات، كما يعلم ذلك قطعاً في دروس العلم، فهذه من المواضع التي يستحب لها الاجتماع، ومن بركاتها بل -أعظم بركاتها- تعليم الجاهل، وإظهار السنن، ومساعدة العاجز، وتليين القلوب، وإظهار عِزِّ الإسلام، حتى إذا كثر في المجتمع المنافقون والملاحدة والزنادقة واليهود والنصارى إذا وجد هؤلاء فلا شك في أن وجود المسلمين بهذا الشكل خاصة مع إظهار التكبير كما في صلاة العيد أو غير ذلك لا شك أن في هذا إظهاراً لعز الإسلام مهما حاول أعداء الدين طمس هذه المعالم وإخفات صوت الإسلام في هذا المجتمع.
وقد جاء الخطاب الإلهي مقراً هذا الوضع، فلم يتجه للفرد وحده في الأمر والنهي، لكن نلاحظ أن الأوامر تأتي للجماعة، لذلك نلاحظ قوله مثلاً: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، والكلام إذا احتمل التأكيد والتوكيد يترجح حمله على التأكيد، فقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، ويحتمل أن يكون (ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) يساوي قوله: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)، فيكون هذا التكرار للتأكيد.
ولكن يحتمل -أيضاً- احتمال آخر، وهو أن (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) مختلف تماماً عن قوله: (ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، فهذا إقامة للصلاة في حد ذاتها، أما (ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) فهو إيجاد صلاتها في جماعة، كما قال تعالى في حق مريم عليها السلام: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43].(14/4)
إقامة الجماعة لما لا يقيمه الفرد
إن هذه العبادات التي تؤدى في جماعة أشار القرآن إلى وجود تجمع المسلمين من أجل أدائها؛ لأن الجماعة تقيم ما لا يقيمه الفرد، فمثلاً: يقول تبارك وتعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:112]، فهذه أمور تتم في جماعة.
كذلك أيضاً يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} [الحج:77] أمر بصيغة الجمع، {وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:77 - 78]، فإذا وقف المسلم بين يدي الله ليناجيه ويتضرع إليه لم تجر العبادة على لسانه كفرد منفصل عن إخوانه، بل كطرف من مجموع متفق مرتبط، فجميع المسلمين كل واحد منهم كأنه يتحدث بلسان كل من معه من إخوانه المصلين فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ولا يقول: إياك أعبد.
وإنما تكون في جماعة.
ثم يسأل الله سبحانه وتعالى من خيره وهداه، فلا يختص نفسه بالدعاء، وإنما يعم جميع إخوانه، ويطلب رحمة الله له ولغيره {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].(14/5)
إزالة الفوارق الاجتماعية
صلاة الجماعة -أيضاً- من أهم وأعظم حكمها: اشتمالها على الوسائل التي تحطم الفوارق الاجتماعية، يقول فيلسوف فرنسي يدعى رينان: إنني كلما رأيت المسلمين وهم يصطفون صفوفاً في صلاة الجماعة تحسرت على أنني لست بمسلم.
أو كلاماً هذا معناه، ونقول له: وما كان يمنعك وباب الإسلام مفتوح؟! وكثير من الكفار إنما يسلمون بسبب منظر المسلمين في صلاة الجماعة، ولذلك تلاحظ الإعلام الغربي إذا أراد أن يسخر من المسلمين أو أن يشنع عليهم تجد المصور يتحرى تجنب الصورة الحقيقية للصلاة، فهم يتعمدون تشويه صورة الصلاة عند المسلمين، كأن يظهروهم بصورة من يؤدي حركات لا معنى لها وبصورة منفرة جزئية في نظرهم.
بينما أي إنسان عاقل إذا رأى هيئة صلاة المسلمين يعلم أن الله لا ينبغي أن يعبد إلا بهذه الطريقة؛ إذ كلها تعظيم وخشوع ومناجاة لله سبحانه وتعالى، بل أعظم أسباب إسلام العدد الغفير من الكفار أنهم رأوا المسلمين وهم يصلون في صلاة الجماعة، وقد نغفل نحن عن التأمل في هذه الحكم، أما هؤلاء فيتأملونها بدقة.
ولقد كان يصلي معنا في شهر رمضان مضى شاب يوناني لا يعرف كلمة واحدة من اللغة العربية، وكان يصبر مع الإخوة إلى الساعات الأخيرة من القيام، ولما سألوه عن سبب إسلامه قال: رأيت المسلمين يصلون فأحسست أن هذه هي الطريقة التي لا يعبد الله إلا بها.
فبدأ يصلي، وما دعاه أحد، فلما بدأ يركع ويسجد ويفعل مثلما يفعل المسلمون شعر بالراحة وشعر بسمو روحه وبمعانٍ عظيمة جداً، فأداه ذلك إلى الإسلام، وهو لا يتقن من اللغة العربية أي شيء على الإطلاق! كما أنه دعى غيره للإسلام، وكان مما فعل أنه زار بعض أقاربه اليونانيين في الإسكندرية، فذهب إلى هناك ليدعو إحدى قريباته من النساء إلى الإسلام، فقلت له: ماذا قلت لها؟ قال: أنا ما قلت لها أي شيء، إنما فعلت ما حدث معي، قلت لها: لا تجادلي كثيراً، لكن جربي وصلي مثلما يصلي المسلمون، وانظري كيف ستشعرين؟ والعجب أيضاً أن شقيقته أسلمت بنفس الطريقة لما دعاها إلى الإسلام، فهذا مذهبه في الدعوة إلى الإسلام أن يقول: ادخل في الصلاة مثلنا، وانظر كيف ستشعر؟! والقصص في ذلك كثيرة جداً.
ففي صلاة الجماعة والهيئة التي يصطف بها المسلمون تحطيم للفوارق الاجتماعية بين الناس التي لا يجعل لها الإسلام ميزاناً إلا {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فتجد الوزير بجانب الملك وبجانب الخادم وبجانب العامل، كلهم الغني مع الفقير، والشاب مع الشيخ يصطفون في صفوف واحدة متساوين أمام الله سبحانه وتعالى.
أيضاً لا فرق بين لون ولون، ولا بين جنس وجنس، ولا بين عنصر وعنصر، ولا بين مكان ومكان.
فركعتا الفجر أو ركعات الظهر لا تنقص أو تزيد شيئاً عندما يؤثر المرء أداءها في جماعة على أدائها في عزلة، فهي أربع في المسجد وبنفس الهيئة وبنفس تفاصيل الصلاة التي في البيت، ولكن مع ذلك ضاعف الإسلام أجرها بضعاً وعشرين مرة أو يزيد عندما يقف الإنسان مع غيره بين يدي الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن هذا فيه إغراءً شديداً للانضواء داخل هذه الصفوف، ونبذ العزلة والانسلاخ من المجتمع المسلم، ودعوة إلى اختلاط المسلم بإخوانه والامتزاج بهم.(14/6)
معرفة أحوال الناس وقدرهم
إن الإنسان إذا ألف أن يرى إخوانه دائماً في المسجد فإذا ما تخلف أحدهم اكتشف تخلفه، فربما مرض أو أصابته أي مصيبة وما شعر به أحد، فما هو المقياس الذي يعرفون حاله به؟ إنه صلاة الجماعة، فإذا تخلف فهناك شيء ما، فيبدءون يسألون عنه ويتتبعون أحواله، وإذا أراد الشيطان أن يغتاله وينفرد به ويقصيه عن إخوانه يحس إخوانه بذلك من البداية فيتداركون ذلك بزيارته ونصيحته وغير ذلك.
وفي هذا التجمع يعرف الكبير في المجتمع الإسلامي فيقدر، والفقير فيعطى، والعالم فيسأل، والجاهل فيتعلم.
وفي صلاة الجماعة يعرف من كان في صلاته أي نوع من التقصير أو الخلل، فيجد من ينصحه من إخوانه ويعلمه كيفية الصلاة الصحيحة، كذلك المتكاسل ينبه إلى نبذ هذا التكاسل.
كما أن أحد مواضع إجابة الدعاء هي مواضع تجمع المسلمين، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإخراج العواتق وذوات الخدور في صلاة العيد، وقال عن الحُيِّض: (يعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين)؛ لأن هذه المواضع التي يجتمع فيها المسلمون من مواطن إجابة الدعاء.
وكذلك تنزل البركة حيث يجتمع الموحدون والمصلون خاصة في مجال الذكر، وحلق العلم، وهذه العبادات المباركة تنزل فيها البركات والرحمات من عند الله سبحانه وتعالى، فتنشأ بهذه التجمعات الوحدة والمحبة والإخاء بين المسلمين، وتجعل منهم كتلة متراصة تنشِّئ فيهم المواساة والتراحم وائتلاف القلوب، وتربيهم على النظام والانضباط، والمحافظة على الأوقات.(14/7)
تاريخ مشروعية صلاة الجماعة
إن الصلوات المكتوبة في جماعة شرعت في مكة بعد فرضية الصلاة، ولكنها لم تكن مؤكدة، فالاجتماع للصلاة المكتوبة كان في أول الأمر غير واجب، ثم بعد أن فرض الله جل ذكره الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج أرسل جبريل عليه السلام صبيحة تلك الليلة، ففرض الصلاة ثم في صبيحة تلك الليلة أرسل الله عز وجل جبريل ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أوقاتها وكيفية أدائها؛ حيث أَمَّ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت مرتين، مرة صلى فيها الظهر حين زالت الشمس، وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: (لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به فيها لم يرعه إلا جبريل يتدلى حين زاغت الشمس) ولذلك سميت صلاة الظهر الصلاة الأولى (فأمر فصيح في الناس بـ: (الصلاة جامعة))، ولم يكن شرع الأذان بعد.
صيح في الناس: (الصلاة جامعة) أي: هيا اجتمعوا.
فاجتمعوا، فصلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وطول الركعتين الأوليين ثم قصر الباقيتين، ثم سلم جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم النبي صلى الله عليه وسلم على الناس.
أي أن جبريل لما قال: (السلام عليكم)، كان يقصد بذلك السلام على الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (السلام عليكم) كان يسلم على الناس.
ثم في العصر ففعلوا كما فعلوا في الظهر.
ثم نزل أول الليل فصيح: (الصلاة جامعة) فصلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، فقرأ في الأوليين وطول وجهر -أي: في العشاء- وقصر الباقيتين -يعني: صلاهما بالفاتحة فقط- ثم سلم جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم على الناس.
قال السهيلي في (الروض الأنف): أهل الصحيح متفقون على أن هذه القصة -يعني قصة إمامة جبريل- كانت في الغد من ليلة الإسراء، وذلك بعد ما نبئ بخمسة أعوام، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الجماعة مع بعض أصحابه في مكة في بعض الأحيان، والغالب أنه لم يكن يصلي بهم جماعة، وصلى بـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في دار الأرقم، ومع أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وذلك بعد إمامة جبريل له عليه الصلاة والسلام.
ومع وقوع صلاة الجماعة بهذه الصورة لم تكن مشروعيتها متأكدة، إنما أوجبت بالمدينة وصارت فيها شعيرة بارزة من شعائر الإسلام، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها -أي: يترقبون مواقيت الصلاة ويصلون، ولم يكن هناك نداء للصلاة- فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى.
وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود.
فقال عمر: أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فناد بالصلاة).
وروى أبو داود في سننه بسنده عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: (اهتم النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كيف يجمع الناس لها؟)، أي: ما هي الطريقة التي يجمع بها الناس كي يحضروا صلاة الجماعة؟ (فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً.
فلم يعجبه ذلك) لأن هذا سيبنى على حاسة البصر فقط، الذي يرى الراية سيعرف وقت الصلاة، فلابد من أن يكون الإنسان متوجهاً إلى المسجد حتى يرى الراية، أما الاعتماد على السمع فالإنسان حتى لو لم يكن ناظراً للمسجد فإنه سيسمع، والسمع مجاله أرحب وأوسع من البصر، فالمهم أنه لم يعجبه ذلك عليه الصلاة والسلام (فذكر له القمع) أي: بوق اليهود.
فاليهود- ينادون لصلاتهم في بوق، (-وقال زياد: شبور اليهود فلم يعجبه ذلك، وقال: من أمر اليهود) حتى لا يتشبه باليهود (قال: فذكر له الناقوس - أي: الجرس - قال: هو من أمر النصارى.
فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: يا رسول الله! إني لبين نائم ويقظان -كنت في حالة بين النائم واليقظان- إذ أتاني آت فأراني الأذان.
قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال! قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله) يعني: سيلقنك ألفاظ الأذان التي أريها في منامه، فافعل مثلما يقول لك.
قال أبو بشر: (فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً له)، وهذا الحديث قال الحافظ عن إسناده: صحيح الإسناد.
وبهذا يتبين أن الصلاة لم يكن ينادى لها منذ فرضت في مكة حتى بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان المسلمون في تلك الفترة يتحينون أوقات الصلاة فيجتمعون ويصلون بدون أن يجمعهم جامع.
ثم إن النداء للصلاة بألفاظ الأذان المشروعة إنما استقر الأمر عليه بعد الرؤيا التي رآها عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه، وشرع الأذان للصلوات الخمس بصوت إنسان داعية للصلاة لا راية ولا نار ولا ناقوس ولا بوق، وإنما هو منطق بشر يجلجل في الآفاق فيميز المسلمين بمظهر مستقل؛ لأن النداء للصلوات في الأديان الأخرى هو كما عند النصارى بالجرس الآلة جامدة، وعند اليهود بالبوق، وعند غيرهم بالراية، لكن الإسلام جعل نداء الصلاة صوتاً يصدر من بشر يجهر بتكبير الله سبحانه وتعالى وتوحيده حتى يتميز المسلمون في هديهم عن سائر الأديان في كل شأنهم.
فعلى المسلم حين يسمع النداء للصلاة أن يلبيه مهما كان الوقت من ليل أو نهار، وعليه أن يجيب داعي الله مهما عرضت له الأعذار.(14/8)
تعظيم شعائر الدين وتقديمها على ما عداها من أمور الدنيا
في هذا الكلام أقوى وأوضح رد على هؤلاء الضالين الذين يعطلون شعائر الله سبحانه وتعالى، بل يمتحنون الناس ويبتلونهم في دينهم بسبب محافظتهم على شعائر صلاة الجماعة، فنجد أن بعض الكليات -والعياذ بالله- وجدت في الأسبوع كله وقتاً تعقد فيه امتحانات البكالوريوس إلا ساعة صلاة الجمعة، قلوب منكوتة، وفطر منسوخة، ضاق عليهم الوقت ولم يبق إلا وقت صلاة الجمعة، كما يحصل في كلية التجارة أو غيرها في مصر، ويقول الجاهل منهم: إن العمل عبادة فهل العمل عبادة والصلاة ليست عبادة؟! ففي غير مواعيد الصلاة عندك ساعات كثيرة في اليوم يمكن أن تنظم فيها أمورك، فلماذا تزاحم حقوق الله سبحانه وتعالى؟ والله تبارك وتعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:36 - 38].
فالشاهد أن العمل عبادة باعتبار معين، أما الاعتبار المطلق فالعبادة هي الصلاة والصيام وذكر الله، وهكذا.
انظر كيف أثنى الله عليهم، إن الذي يسميه أولئك عبادة لم يلههم عن تعمير مساجد الله، بل قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:18]، فجعل تعمير المساجد علامة الإيمان بالله واليوم الآخر، وغير ذلك من شعائر الإسلام.
وانظر أيضاً إلى قوله تبارك وتعالى في سورة الجمعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فنحن أغنياء عن هذه العبادة، وما يصح البيع ساعة صلاة الجمعة، ويأثم الإنسان إذا اكتسب مالاً من بيع أو شراء ساعة صلاة الجمعة (وَذَرُوا الْبَيْعَ)، فهذا هو حكم الله سبحانه وتعالى، فأولئك يسمونها عبادة والله يقول: اتركوا هذه العبادة وانبذوها وهلموا إلى العبادة الحقيقية.
ثم قال تبارك وتعالى بعد ذلك {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]، فهذا جواب مجمل على هؤلاء الضالين.
فهم يقولون: العمل عبادة.
وهذه الكلمة كأنها آية منزلة في القرآن يتواصون بها ويلقونها في آذان بعضهم، ويرددونها بلا فهم وبلا وعي، فالعمل عندهم عبادة، وكأن الصلاة ليست عبادة! وأصبح العمل عبادة والصلاة ليست عبادة، فلماذا لا تنظمون الأمور بحكمة حتى لا تتعارض مع دين هذه الأمة، فهذه الأمة أغلبها -ولله الحمد- مسلمون، فلماذا لا نحترم دين هذه الأمة؟ لماذا لا نحترم عباداتها؟ لماذا لا توضع جداول للجامعات والمصانع والشركات والمستشفيات وكل شيء؟ لماذا لا ترتب طبقاً لمواعيد الصلاة حتى لا يفتن الناس في دينهم؟ فلا يصل الأمر إلى إهمال هذا الأمر عند التخطيط لهذه الأشياء، بل يصل إلى حد معاقبة من يتخلف عن الطوابير أحياناً أو عن شيء من هذه الأنشطة التي يسمونها عبادة، ويعاقب وقد يفصل ويمتحن ويوضع في هذه الفتنة الشديدة، وإلا فما الذي يعنيه دخول إنسان لامتحان ما في ساعة صلاة الجمعة، والعياذ بالله، قلوب سوداء رانت عليها الذنوب والمعاصي.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً طبع الله على قلبه) والعياذ بالله! ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً) رواه البخاري.(14/9)
اهتمام السلف بصلاة الجماعة
اهتم السلف أعظم الاهتمام بصلاة الجماعة، سواء في ذلك في الحضر أو السفر، في العسر أو اليسر، في المنشط أو المكره، مع أن الله سبحانه وتعالى عذر المرضى، كما جاء في الحديث: (خوف أو مرض) هذا هو عذر التخلف عن صلاة الجماعة، ومع أن الأبدان قد عذرت ولكن القلوب لم تطق أن تحرم نفسها من صلاة الجماعة.
فنجد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: (ولقد رأيتنا يجاء بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) يعني أن الرجل المريض كان يحمل من بيته حملاً على رجلين، ويسند إلى أن يقام في الصف لشدة حرصه على صلاة الجماعة، مع أنه مريض ومعذور؛ لأن قلبه لم يطق ولا يتحمل أن يتخلف عن صلاة الجماعة.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه وهو يصف الرعيل الأول من الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة) أخرجه مسلم.
ويقول الفقيه الكوفي إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كان الأسود بن يزيد إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه، علق النعلين بيديه وتتبع المساجد حتى يصيب جماعة.
لأن السنة للإنسان أن يصلي في مسجد قومه ولا يتتبع المساجد البعيدة، لما فيه من سلبيات كثيرة، منها -مثلاً- أن الإمام قد يظن أنك تفسقه أو تكفره أو تبدعه، فكونك تتجاوز المسجد إلى مسجد آخر بدون عذر شرعي فهذا مما يذم.
فـ الأسود بن يزيد -وكان من الصالحين رحمه الله تعالى- كان إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه علق النعلين بيديه؛ لأنه إذا مشى حافي القدمين فهذا يكون أسرع له، ثم يظل يتتبع المساجد ويبحث عن مسجد لم تصل فيه الجماعة بعد حتى يدرك الجماعة.
وقال بعض السلف: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة.
يعني: حظي بنصيب وافر جداً من الثواب العظيم والجزيل.
ويقول الحافظ الجهبذ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه الحافل (سير أعلام النبلاء) وهو يترجم للإمام الرباني أبي الحارث عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي المدني قال: قال مصعب: سمع عامر المؤذن وهو يجود بنفسه -وهو يحتضر- فقال: خذوا بيدي، أسندوني حتى أذهب إلى المسجد وأصلي في الجماعة.
فقيل: إنك عليل -أي مريض-! قال: أسمع داعي الله فلا أجيبه! فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب، فركع ركعة ثم مات رحمه الله تعالى.
يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة؛ فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلى صلاة ثوابها ثواب جزء من سبعة وعشرين جزءاً منها إلا مغبون.
فلو أن أحداً يبيع سلعة يكسب فيها جنيهاً واحداً، ونفس السلعة يمكن أن يبيعها في مكان آخر ينتقل إليه بسبعة وعشرين فلا شك أن التاجر الذي يضحي بمثل هذا المكسب الوفير لأجل انتقال يسير جداً من محله إلى مكان قريب لا شك أنه مغبون، وإنسان خاسر بكل المقاييس، فما بالك بمن يفوت سبعة وعشرين ضعفاً من الصلاة ويصلي في بيته ويضحي بهذا الأجر العظيم.
لذلك كان بعض السلف إذا تخلف عن الجماعة تكون بالنسبة له مصيبة كبيرة، ويأتي إخوانه من أهل المسجد يعزونه في هذه المصيبة، ويبدو أنه بعد ذلك حصل تراخٍ في هذا الأمر، حتى إن بعض السلف أنكر على أصحابه حينما قال: لو مات لي ولد فعزاني لعزاني عشرة آلاف إنسان، وفاتتني تكبيرة الإحرام فلم يعزني أحد.
فهو يستدل بذلك على أنهم ليسوا فقهاء، وليسوا معظمين لأمر الله سبحانه وتعالى.
يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة؛ فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلى صلاة ثوابها ثواب جزء من سبعة وعشرين جزءاً منها إلا مغبون، ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية بمثل هذا لكان مستحقاً لحجره عن التصرف في ماله.
فلو أن تاجراً ضحى في تجارته بمثل هذا الربح لاعتبر سفيهاً؛ لأنه يضيع سبعةً وعشرين ضعفاً من سعر السلعة! فإن أعطي المال ليتاجر به لقال له المالك: أنت سفيه لا تصلح، كيف تفوت علي سبعة وعشرين ضعفاً من الربح؟! وربما يحجره عن التصرف في ماله.
يقول: ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية بمثل هذا لكان مستحقاً لحجره عن التصرف في ماله لبلوغه من السفه إلى هذه الغاية، والتوفيق بيد الرب سبحانه وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، فهذه من السفاهة، فما بالك بمن يفوت سبعاً وعشرين درجة من درجات الآخرة؟!(14/10)
فضل صلاة الجماعة(14/11)
مضاعفة أجرها وصلاة الملائكة عليه
لا شك أن صلاة الجماعة في المساجد من أوكد العبادات، وإقامتها في بيوت الله سبحانه وتعالى من أجل الطاعات، والمحافظة عليها في الحضر أو السفر من أعظم القربات، ولذلك وردت الأحاديث النبوية الصحيحة تترى مبينة ما أعد لشاهدها من أجر عظيم، وثواب جسيم، ونعيم مقيم، جاءت هذه الأحاديث تشحذ همم السالكين، فتبعث في نفوسهم روح العبادة واليقين، من هذه الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة) وهذا من آداب الخروج للمسجد، وهذه أكمل الأحوال، لئلا يكون الدافع وراء خروجك إلى المسجد أي شيء آخر غير الصلاة، وليس معنى هذا أن الإنسان إذا خرج ليصلي وليؤدي بعض الأشياء أنه آثم، لكن نقول: أكمل الأحوال أن تجرد نيتك لمحض التعبد، لما في بعض الروايات: (ما تنهزه إلا الصلاة)، يعني: ما يريد أن يذهب للمسجد ليقابل أحداً أو يقضي بعض الحاجات في الطريق، ولا لأي غرض آخر، بل يخرج تعظيماً لأمر الله، وتلبية لداعي الصلاة.
يقول صلى الله عليه وسلم: (وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة، تقول الملائكة: اللهم! صل عليه -وفي بعض الروايات-: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه ما لم يحدث فيه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)، ومن طريق أخرى بلفظ: (ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث).
فقال رجل أعجمي: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: الصوت.
يعني الضراط، وهذا الحديث متفق عليه.(14/12)
كثرة حسنات خطاه وبقاؤه في حكم المصلي حتى يرجع
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه -أو قال: كاتبه-) يعني الملك الذي يكتب الحسنات، قال: (كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة -يعني القاعد في المسجد ينتظر الصلاة- كالقانت) والقنوت يطلق على عدة معانٍ، يطلق على السكوت، والدعاء، والطاعة والتواضع، وإدامة الحج والغزو، والقيام في الصلاة وهو المقصود هنا.
(والقاعد يرعى الصلاة كالقانت) يعني الشخص الذي يصلي ويطيل الصلاة وقراءة القرآن في الصلاة، قال: (ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه)، وبالنسبة للحديث المتقدم الذي ذكرناه في مضاعفة أجر صلاة الجماعة فإن حكم صلاة الجماعة موضوع ومضاعفة الثواب موضوع آخر، فالأفضلية لا تنافي الفرضية، أي أن أفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو سبع وعشرين درجة لا تعارض بينها مع كونها فريضة، فليس معنى ذلك أنه يباح للإنسان أن يترك الجماعة بدون عذر، فلا منافاة بين الأفضلية والفرضية والوجوب.(14/13)
مغفرة الذنوب
وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه)، والمقصود بإسباغ الوضوء ليس المبالغة في الوضوء، فبدلاً من أن يغسل إلى كعبيه يغسل إلى ركبتيه، أو أمر بأن يغسل إلى المرافق فيغسل إلى الكتف، فهذا ليس إسباغاً، الإسباغ المقصود به أن تصل بالمياه إلى الحدود الشرعية التي حدها النبي صلى الله عليه وسلم، أو تزيد قليلاً كأن تشرع في العضد مثلاً، أو فوق الكعب بقليل، لكن أن تبالغ فهذا مخالفة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام، فإسباغ الوضوء هو مثل الثوب السابغ الذي يغطي الجسم تماماً، قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه)، رواه مسلم.(14/14)
تبشبش الله جل جلاله إلى المصلي في جماعة
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه فيسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته) يعني: لو أن إنساناً له حبيب أو قريب سافر عنه وغاب غياباً طويلاً ثم أتى إليه فجأة، أو وجد الأب ابنه أو أحب الناس إليه فجأة أمامه فكيف تكون فرحته؟ لا شك أنه يتبشبش له أهله، ويسرون به سروراً عظيماً، فالله سبحانه وتعالى يكون منه ذلك -كما يليق به جل جلاله- مع المؤمن الذي يأتي إلى المسجد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه -أيضاً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قال: إسباغ الوضوء على المكاره) يعني: على الرغم من المكاره.
وهي ما يكرهه الإنسان ويشق عليه، مثل شدة البرد حين لا يوجد إلا ماء بارد، وفي شدة البرد قد يضطر إلى أن يتوضأ به، فرغم وجود هذا المكروه لكنه يسبغ الوضوء لوجه الله سبحانه وتعالى، هذا مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط) رواه مسلم.(14/15)
إعداد الله تعالى النزل للذاهب إلى المسجد غدواً أو رواحاً
وعنه أيضاً رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)، والنزل هو ما يعد للضيف من الإكرام والطعام وغيره.
فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من غدا إلى المسجد) يعني: ذهب إلى المسجد في وقت الغدو الذي هو صلاة الفجر، (أو راح) في العشي (أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح).
وحينما نذكر كلام الرسول عليه الصلاة والسلام في فضائل الأعمال لابد من أن نستحضر القلوب؛ لأننا نسمع قول رسول الله عليه الصلاة والسلام لا كلام شخص عادي، فهذا مبلغ عن الله، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] فليس قوله مجازاً ولا ضرب أمثال، ولا تقريباً للأفهام، ولا مجرد ترغيب ولا ترهيب، كلا، بل هو حقيقة يخبرك عنها الصادق المصدوق، فلابد من أن تستحضر أن هذا واقع قطعاً؛ لأن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فكل ما ينطق به هو حقيقة لا بد أن تستحضرها، فتستحضر أنك إذا توضأت في البيت وأسبغت الوضوء ومشيت إلى المسجد لتصلي صلاة فريضة تستحضر تماماً وأنت في طريقك إلى المسجد أن الله يتبشبش لك ويسر بمجيئك في بيته كما يسر أهل الغائب بطلعته عليهم.
وتستحضر أن مشيك هذه الخطا إلى المسجد وأنك إذا استوفيت هذه الأفعال المذكورة في الأحاديث فإن الله قد أعد لك نزلاً في الجنة كلما غدوت أو رحت إلى المسجد.(14/16)
البشارة بالنور التام يوم القيامة للمشائين في الظُلَم إلى المساجد
وعن بريدة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) ولو أن رجلاً كريماً وعدك بهبة أو هدية، أو بشيء عظيم يعطيك إياه فقال لك أحد أصدقائك: هذا الشيء كثير، فهل يعقل أن يعطيك هذا؟! فإنك تقول له: هذا إنسان كريم لا يخلف وعده، ولا يرجع عن كلمته.
فمن أصدق من الله حديثاً؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]، فاستحضر دائماً أن كل هذه الوعود سيعطيك الله سبحانه وتعالى إياها إذا استوفيت هذه الشروط؛ لأن الله لا يخلف الميعاد.
فالكريم يخلف وعيده لكن لا يخلف وعده، كما يقول الشاعر في حق ابن عم له: وإني إذا وعدته أو أوعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالكريم يخلف الوعيد الذي هو العذاب، ومن كرمه أن يعفو عنك، لكن الوعد لا بد من أن ينجزه.
وهنا انظر إلى هذه البشرى العظيمة واستحضرها كلما خرجت إلى المسجد في الظلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين) و (المشاء) صيغة مبالغة من الماشي، فالمراد هنا مدح من يكثر المشي إلى المساجد ويصير ذلك عادة له، ولا يصدق هذا الحديث ولا تتحقق هذه البشرى لمن اتفق له المشي مرة أو مرتين، وإنما من يدمن المشي إلى المساجد ويكثر الخطا إلى بيوت الله تبارك وتعالى، والظاهر أن هذا الحديث في فضيلة صلاتين: صلاة العشاء وصلاة الفجر؛ لأنهما الصلاتان اللتان تؤديان في ظلمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) والجزاء من جنس العمل، فكما مشوا في الظلام ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى مع احتمال وجود آفة في الطريق تؤذيهم لكن مع ذلك أصروا على الذهاب إلى المساجد بشرهم بأن يبدلهم الله سبحانه وتعالى هذه الظلمة نوراً كاملاً يوم القيامة.(14/17)
الحصول على أجر الحاج والكتابة في عليين
وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى -يعني: خرج كي يصلي صلاة الضحى- لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)، فإذا استطعت أن تحافظ على أن تصلي صلاة فريضة عقب صلاة فريضة بشرط أن لا ترتكب أي نوع من اللغو ما بين هذه الصلاة والتي تليها، إذا حافظت على هذا يكتب لك كتاب في عليين وهي الجنة، وغالباً هذا اللغو لا يحصل ولا يكون احتماله أكثر إلا عند كثرة المخالطة، أو المخالطة نفسها في بعض الأوقات تكون هي سبب وقوع اللغو، فإما أن تسمع كلمة لا داعي لها، أو تتكلم أنت بكلام أنت في غنىً عنه.
فلذلك الإنسان إذا أراد أن يحقق مثل هذا الحديث فعليه أن يذهب إلى المسجد في صلاة المغرب ويمكث بنية انتظار صلاة العشاء؛ لأنه إذا مكث بنية انتظار صلاة العشاء سيكون مرابطاً ويؤجر كأنه لا يزال يصلي، ويجتنب محادثة الناس، ويقرأ القرآن، ويذكر الله سبحانه وتعالى إلى أن تأتي الصلاة التي تليها دون أن يرتكب لغواً بينهما، حينها ينال هذا الثواب العظيم.
يقول عليه الصلاة والسلام: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة؛ فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى -والنوافل تسمى تسبيحاً- لا ينصبه إلا إياه؛ فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين).(14/18)
الضمان على الله بالرزق والكفاية ودخول الجنة
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة)، فالله سبحانه وتعالى يضمن لك ويؤمن لك هذا، فإن عشت ترزق وتكفى الهم، ويبارك لك في الرزق، وإن مت يضمن الله لك الجنة، قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله) فهذا فيه استحباب أن يسلم الإنسان على أهله إذا دخل بيته، (ومن خرج إلى المسجد -يعني: ليصلي- فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله -يعني: في الجهاد- فهو ضامن على الله سبحانه وتعالى).(14/19)
الحصول على حق الزيارة والبراءة من النار والنفاق
وعن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تبارك وتعالى ليعجب من الصلاة في الجمع) يعني: في الجماعة.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق)، فمن أراد أن يكتب له براءة من النار وبراءة من النفاق فليجتهد في تحقيق هذا الحديث، لكن الحديث بشروط: أولاً: (من صلى)، فأول شيء أن تكون صلاة فريضة.
ثانياً: (من صلى لله) وهذا شرط إخلاص النية، أي: لا يكون رياءً ولا سمعةً، وإنما لله.
ثالثاً: (أربعين يوماً في جماعة) يعني: يصلي أربعين يوماً متصلة دون انقطاع في صلاة جماعة.
رابعاً: (يدرك التكبيرة الأولى) فلابد من أن يكون حاضراً وقت تكبيرة الإحرام.
وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال: أشاهد فلان؟) و (شاهد) بمعنى: حاضر (قالوا: لا.
قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا.
قال: إن هاتين الصلاتين -يعني: صلاة العشاء والصبح- أثقل الصلوات على المنافقين).
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور.
يعني: الداعي إلى ترك الحضور قوي، والصارف عن الحضور أيضاً قوي، فهي فتنة من الجانبين.
يقول: إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور، أما العشاء فلأنها وقت الإيواء إلى البيوت، والاجتماع مع الأهل، واجتماع ظلمة الليل، وطلب الراحة من متاعب السير بالنهار.
وأما الصبح فلأنها وقت لذة النوم، فإن كانت في زمن البرد ففي وقت شدته لبعد العهد بالشمس لطول الليل، وإن كانت في زمن الحر فهو وقت البرد والراحة من أثر حر الشمس لبعد العهد بها، فلما قوي الصارف عن الفعل ثقلت على المنافقين، وأما المؤمن الكامل الإيمان فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة، فتكون هذه الأمور داعية له إلى الفعل كما كانت صارفة للمنافقين، فهي تصرف المنافقين عن الحضور، وهي -أي: نفس الأسباب- تدفع المؤمن إلى الحضور لما يرجو من ثواب الله سبحانه وتعالى.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما فيهما - يعني: من الأجر والثواب- لأتوهما ولو حبواً) يعني: لو يعلم المنافقون الثواب الذي يترتب على صلاة الفجر والعشاء لأتوا إلى المساجد ولو حبواً، أي: يخرج أحدهم من بيته إلى المسجد حبواً كما يحبو الطفل الرضيع على يديه وركبتيه، ولحرصوا على تحصيل هذا الثواب الكبير إذا كشف لهم عظم هذا الثواب.
ولذلك المؤمن لا يأتي حبواً لكن يأتي اشتياقاً لهذا الأجر العظيم، فيكون هذا الأجر داعية له إلى تحصيله لما عنده من يقين من حصول هذا الأجر، ويستحضر أنه سينال وعد الله سبحانه وتعالى.
وانظر إلى ذي القرنين، قال تعالى عنه: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ * إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:86 - 88] فالمؤمن لا يطلب ثواباً في الدنيا {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:88] يعني الجنة في الآخرة، فالمؤمن قدم ثواب الآخرة، وهذا هو المحرك والدافع لعمله {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88] أما في الدنيا فسنقول له قولاً حسناً.
فهكذا المؤمن يحركه ويدفعه دائماً الطمع فيما عند الله سبحانه وتعالى من الثواب في الآخرة.
والصحابة لما بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام ما بايعوه على وظائف أو مناصب، أو دنيا، وإنما بايعوه على الجنة، وقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.
فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا.
قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا.
قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب؛ فإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه -يعني: لتسابقتم عليه- وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل)، فإذاً: هذه أحد مرجحات صلوات الجماعة إذا تعددت في الحي الذي أنت فيه.
وهناك مرجحات عديدة، منها: أن يكون المسجد أقدم.
ومنها: أن يكون المصلون أكثر عدداً، فكلما كثر العدد كلما زادت البركة ونزلت الرحمات، فلذلك هنا في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل)، فأحد المرجحات كثرة عدد المصلين في المسجد.(14/20)
الحصول على أجر قيام الليل بشهود صلاتي العشاء والفجر
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) يعني الصبح نصف والعشاء نصف، فإذا صلى العشاء جماعة والصبح في جماعة يجتمع النصفان فكأنه قام الليل كله.
وفي لفظ: (من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار، وكتب في وفد الرحمن)، وهذا في صحيح الترغيب برقم أربعمائة وستة عشر.(14/21)
مصلي الفجر في ذمة الله
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) يعني: في أمان الله وعهده.
وفي بعض الأحاديث: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، فما معنى هذا؟ معناه أن من صلى صلاة الصبح في جماعة في المسجد فهو في حماية الله وفي جوار الله وفي جناب الله، فإياك أن تؤذي رجلاً صلى الصبح في جماعة لأنه في حماية الله، فأنت إذا آذيته أو اعتديت عليه أو ظلمته فإن الله سينتقم له منك (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، وهذا فيه تعظيم حرمة المسلم الذي يصلي الفجر في جماعة فأي واحد يؤذي من يصلي الفجر في جماعة فسوف يطلبه الله لأنه نقض عهد الله، واعتدى على من هو في حماية الله وفي جوار الله سبحانه وتعالى.(14/22)
مباهاة الله تعالى ملائكته بالماكثين في المساجد بعد المغرب
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب -يعني: تأخر من تأخر- فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً قد حفزه النفس -يعني: أتعبه النفس من شدة جريه وسعيه- قد حسر -أي: كشف- عن ركبتيه، فقال: أبشروا أبشروا! هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى)، فهذا الحديث في فضل الرباط والمكث في المسجد بعد الانتهاء من صلاة انتظاراً للصلاة التي تليها، وهو من أعظم الأعمال الصالحة، وأغلب الناس في هذا الزمان في غفلة عن هذا الثواب العظيم.
وانظر إلى انفعال الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه البشرى، وكيف أتى يبشر أمته على هذه الهيئة؟ وتخيل مشهده عليه الصلاة والسلام وهو يبشرهم؛ إذ إنه كان رءوفاً رحيماً بهم عليه الصلاة والسلام! فقوله: (قد حسر عن ركبتيه) أي: كشف ركبتيه من شدة احتياجه لأن يكشف عنهما حتى يستطيع الجري بسرعة أكثر، يبشر الذين تخلفوا بعد صلاة المغرب؛ لأن الناس انقسموا إلى فريقين: فريق انصرف بعد الصلاة وفريق ظل ماكثاً يذكر الله إلى أن تأتي صلاة العشاء.
والآن لو نكلم الناس بهذه الأحاديث فإنهم يقولون: نحن في زمن السرعة، والعمل عبادة.
وهم يقضون الساعات الطوال أمام التلفزيون والمسرحيات والأفلام، ويقرءون الجرائد التي تكاد أن لا يكون فيها حرف يُقرأ، ويقول لك أحدهم: إن العمل عبادة.
فهو لا يعرف أن العمل عبادة إلا إذا أمرته بذكر الله.
فيبشر الرسول الصحابة: (أبشروا أبشروا! هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى).
وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح -يعني: لم يحضر صلاة الفجر- وأن عمر غدا إلى السوق ومسكن سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح؟! فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه.
قال عمر رضي الله عنه: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة).(14/23)
الأسئلة(14/24)
حكم حلق اللحية بسبب مرض ما
السؤال
أعاني من (حب الشباب) وهو يظهر تحت لحيتي، ويسبب لي الكثير من الألم، وذلك لأن هذه الحبوب تمتلئ بالصديد الكثير، فأقوم بحلق اللحية كي أعالجها، فعندما أترك لحيتي مرة أخرى تعود الحبوب كما كانت من قبل، وتكرر ذلك الوضع أكثر من مرة بل كثيراً، فما حكم حلق اللحية بالنسبة لي؟
الجواب
نقول: ما يدريك أن حلق اللحية هو الذي يسبب هذه التقيحات وهو الذي يلوث هذه الجروح؟ لكن لو ابتلي الإنسان بمرض جلدي معين علاجه في حلق اللحية.
فهذه من الرخص النادرة، ويجوز له أن يحلق لحيته للتداوي، ويحرم حلق اللحية إلا لتداو كما قال بعض العلماء، ففي حالة التداوي إذا كان لا سبيل للتداوي إلا الحلق كانت هذه حالة خاصة.
والشيء يذكر بالشيء، ولا بأس أن يكون بين وقت وآخر شيء من العتاب لبعض منا، فلو أن أخاً ما ضعف إيمانه أو التزامه بالدين، أو تعرض لضغوط وحلق لحيته، فنجد الشكوى من سوء المعاملة له، ونجد نفوراً شديداً منه، ويصل الأمر إلى إعانة الشيطان عليه، وبالتالي يعتزل تماماً من مجتمع الإخوة حتى يتجنب هذه الأذية.
فلنفرض أن الأخ عنده عذر، وقد حصل أن أحد إخواننا -عافاه الله سبحانه وتعالى- ابتلاه الله سبحانه وتعالى بمرض، فبدأ شعر لحيته يتساقط، فما بين قائل له: (نعيماً) وقائل له غير ذلك من السخرية والاستهزاء، والأخ حسن الخلق، فصبر وصبر حتى بلغ السيل الزبى، وكاد أن يهجر جميع المساجد حتى يتجنب هذه الأذية.
فالإنسان يكون حسن الخلق، فـ (الكلمة الطيبة صدقة)، حتى مع الكافر، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، حتى مع فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] قال تعالى لموسى أشرف الأنبياء في زمنه عليه السلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فأين الرفق؟ فينبغي مراعاة آداب الإسلام، فأخ لك له حرمة إذا وقع في حفرة هل توسع له الحفرة وتدفنه فيها أم تأخذ بيده وتجذبه إليك وتنقذه؟! والذي يحصل كأنه تواطؤ من كثير من الإخوة، فالسخرية، والاستهزاء، والاكفهرار في وجهه، والتنفير، وإعانة الشيطان عليه، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام لما كان ذلك الرجل الذي يلقب حماراً -وكان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام- كان يؤتى به قد شرب الخمر، وكان الشيطان يغلبه أحياناً بمعصية شرب الخمر -والعياذ بالله- فكان يقيم عليه الحد، ففي إحدى المرات قال أحد الصحابة بعدما جلد هذا الرجل رضي الله عنه قال: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)، وقال: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) فلا تنضم بجانب الشيطان ضد أخيك.
والذي يسخر من أخيه أو يؤذيه أو يقاطعه أو يكفهر في وجهه وهل قد جرب أن يأخذه على انفراد وينصحه برفق ولين ويذكره لعل عنده عذراً خفياً كما كان حال هذا الأخ؟ فاحمد الله على أن عافاك من البلاء، وإذا كان الله ابتلاه وعافاك فلا تظهر هذه الأذية، فلا تأمن أن يعاقبك الله ويذيقك من نفس هذه الكأس، والجزاء من جنس العمل.
فنرجو من الإخوة أن يراعوا هذه الآداب، وإذا ضعف الأخ فلابد من أن نأخذ بيديه وننصحه.
فنرجوا التزام هذا الخلق مع الناس، وأنا ألاحظ أحياناً -ولله الحمد- أن بعض أناس يأتون لأول مرة أو غير ملتحين، فأول ما أرى أخاً غير ملتحٍ أقول: يا رب! استر.
حتى لا ينفره أحد الإخوة ويشتد عليه وينفره.
وبفضل الله نلاحظ كثيراً من المسلمين يسمع أحدهم كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام فنلاحظ مع الوقت كثيراً منهم بدون أن يحصل له أي ضغط أو إرهاب يلتزم بالهدي الظاهر كله، لكن خطوة خطوة؛ لأن الصراع على أشده، وأهل الفساد والإلحاد والزندقة يحاربون ويصدون الناس عن سبيل الله بكل الطرق، حتى إن فيلم (الإرهابي) يصدرونه لكل الدول العربية، ولا توجد دولة ترفضه غير الأردن، وأصدر وزير الثقافة الأردني بياناً يقول فيه: إن هذا الذي تسمونه إرهاباً هو دين الإسلام نفسه، فكيف تسبون الإسلام؟ والهيئات في الأردن كلها كتبت معترضة على مثل هذا، وأنه طعن في الإسلام نفسه وليس طعناً في الإرهاب، وأيضاً لبنان النصرانية ترفضه، وبقية الدول العربية تقبله، وحسبنا الله ونعم الوكيل! فنحن نتصارع مع أعداء الناس لإنقاذهم، فهم يشدون من ناحية ونحن نشد من الناحية الثانية.
وأيضاً توجد بعض التصرفات التي كثرت الشكوى بشأنها في الحقيقة، فنحن إذا لم نتصارح بهذه الأشياء سنتمادى فيها، ونحن -المسلمين- أسرة واحدة، فالمفروض أن يكون أحدنا للآخر كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، أو كالمرآة ترى فيها عيبك، فهناك أشياء نسمعها ولا نكاد نصدقها، فآخر ما سمعت أن أختاً تزوجت من رجل قد طلق زوجته، فكتبت الأولى خطابات تشتمها وتسخر منها، وتقول: يا خاطفة الرجال.
وألفاظاً بذيئة وكلاماً سيئاً جداً، ثم صورت نسخاً من الخطاب، ووضعته أمام كل أبواب الشقق في العمارة، وأخذ أحد النصارى الأوراق وذهب بها لزوج الأخت ليريه ما صنعت، ويقول له: هذه أخلاقكم أيها المسلمون؟! فهل هذا تصرف؟ وهل هذه أخلاق الإسلام؟ نحن محتاجون إلى أن نراجع أنفسنا في أشياء كثيرة جداً، في التقصير في طلب العلم والعبادة، وغير ذلك من أشياء لا أكاد أصدقها فأخت تمضغ العلك -الذي هو اللبان- داخل الصلاة، فتنصحها أخت بأن هذا لا يجوز داخل الصلاة فتجيبها بجواب بارد! وأخت تمشي من آخر المسجد إلى أوله وهي في الصلاة، وتفتح الحقيبة وتدخل أشياء وتخرج أشياء، فهذه الأشياء ما عهدناها مع الملتزمين، فأي التزام هذا؟ فنرجو التخلص من هذه الآفات والالتزام بآداب الإسلام وتحسين صورتنا؛ لأن هذا مما نعاقب عليه، والصد عن سبيل الله بسوء الخلق ذنب، وإذا تأملنا الآية في سورة النحل: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94] فمعنى الآية: لا تستغلوا اسم الله سبحانه وتعالى وتحلفوا بالله وأنتم تنوون الخديعة.
{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل:94] يعني: للإفساد.
فماذا يحصل إذا الإنسان حلف وعاهد ثم غدر أو أخلف أو أساء الخلق؟ قال تعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل:94]، تكون أنت مذنباً في نفسك، وبعدما كنت ثابتاً على الطريق زللت عنه، فهذا انحراف في نفسك أنت، فأنت تعاقب على هذا أولاً، ثم {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل:94]، إذا فعلتم هذه الأخلاق فإنكم تتسببون في تشويه صورة الإسلام، وبالتالي الكفار الذين عاهدتموهم ونقضتم العهود وخدعتموهم باليمين هؤلاء سيقولون: لو كان في دينهم خير لمنعهم من الإخلاف بالوعد.
فمدرب نادي الاتحاد الألماني الذي يدعى سيو بكير كانت المشكلة الوحيدة عنده كلما نكلمه عن مبادئ الإسلام ومفاهيم الإسلام وندعوه إلى جمال الإسلام وروائع الإسلام أنه يقول: فأين هذا فيكم؟ أنتم فيكم الكذب والغش والخداع وكذا وكذا.
وأكبر من هذا أنهم لما أرادوا أن يتعاقدوا معه أتوا به إلى مبنى الأستاد الرياضي، وقالوا له: هذا مبنى الفريق.
فأعجب به جداً، ويبدوا كذلك أنهم أتوا له بفريق آخر يلعب أمامه، وأوهموه أن هذا هو الفريق، وعلى هذا الأساس وقع العقد معهم.
فالشاهد أن مثل هذه التصرفات لها أبعاد خطيرة.
وأنا أريد أن أقول: سلوكك هو عنوان لهذا الدين وعنوان الالتزام به، فأنت -شئت أم أبيت- ستحاسب على هذا التصرف {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل:94]، فلا تصد الناس عن سبيل الله، فإن بعض الأخوات لا يأتين المساجد خوفاً من تصرفات الأخوات، فنرجوا من الأخت التي تمارس هذه الأشياء أن تمسك عليها لسانها، ولا تأمر إلا بعلم ولا تنه إلا بعلم.
ومن شواهد ذلك في القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] فسلوكهم بأكل أموال الناس بالباطل يتسبب في صد الناس عن سبيل الله، فكل هذه شواهد على اعتبار حسن الخلق وأهميته، وأنك تراعي تصرفاتك وأنت تعطي صورة للدين وللالتزام، فحافظ على هذه الصورة، وحتى لا تبوء بإثمك وإثم هؤلاء الذين تصدهم عن سبيل الله تبارك وتعالى.(14/25)
حكم إقامة رحلات مستقلة للنساء
السؤال
هل يجوز سفر مجموعة من النساء بغير محرم لكل واحدة منهن، مثل: الرحلات التي تتم في الجامعة، فهم يعملون رحلة للطلبة والطالبات، وهناك سيارة مستقلة للطلبة وأخرى للطالبات، والرحلة إلى القاهرة والفيوم، فهل يجوز ذهاب الطالبات؟
الجواب
لا يجوز بلا شك، فكيف تسافر المرأة بدون محرم؟ والنبي عليه الصلاة والسلام حرم على المرأة المؤمنة أن تسافر بدون محرم أبداً حتى ولو كانت امرأة كبيرة في السن.
وحاصل المسألة أن بعض العلماء اجتهد فأجاز سفر المرأة في حج الفريضة في صحبة آمنة، في حج الفريضة فقط، وليس في أي سفر، فالقاهرة أو الفيوم ومثل هذه البلاد مسافات سفر، فلا يجوز أبداً أن تسافر المرأة إليها بدون محرم.(14/26)
محو الأمية التربوية
قد يفهم كثير من الناس بكافة مستوياتهم الثقافية معنى الأمية التعليمية، لكن الخطأ المشترك بين كل هؤلاء، والذي يقع فيه حتى عِلية القوم من المثقفين، هو جهلهم بمعنى الأمية التربوية، ولذلك يمارسون مع أبنائهم أساليب تربوية خاطئة، سواء كانت تنتهج القسوة أو التدليل، وسواء كانت موروثة أم مستوردة، ولهذا فالواجب على كل أب أن يتعلم أسس التربية، ويلتزم الطريقة الصحيحة في ذلك.(15/1)
اهتمام الإسلام بتربية النشء
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن الإسلام كالبناء الجميل، من أي النواحي أتيته أعجبت بجماله وبهائه وروعته؛ فسواء نظرت إليه من جهة عقيدة التوحيد التي تميز بها، أو كمال التشريعات التي شرعها، أو النظام الاقتصادي في الإسلام، أو النظام السياسي، أو الإعجاز العلمي، أو بلاغة وآداب القرآن وهكذا.
ومن الجهات التي إذا طرقناها بالنظر والتأمل نجد أن هذه الجهة وهذا الموضوع هو موضوع التربية والاهتمام بتنشئة الأطفال والأجيال التي تشكل الحاضر والمستقبل، ويتميز المنهج التربوي الإسلامي بوسائل معينة توصل إلى أهداف محددة.
أما الهدف فهو إنقاذ هذه الذرية من النار، وأن يشبوا أبناء صالحين يعملون لدينهم ودنياهم، ويسعدون في الدارين بالصلاح والتقوى والإيمان والتوحيد.
وقد وضح الله سبحانه وتعالى ذلك حينما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، قال علي بن أبي طالب: علموهم وأدبوهم.
والمعنى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، بالتربية والتعليم والتأديب والتهذيب، فيكفي في بيان خطر هذه المسئولية: أن الخلل فيها يؤدي إلى عقوبة النار.
وحينما كانت امرأة من الأسرى تجد في البحث عن ولدها، فحينما رأته بعد بحث وعناء ألصقته ببطنها في حنان شديد، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله عز وجل أرحم بعباده من هذه بولدها)، فالله سبحانه وتعالى وضع الرحمة في قلوب الآباء الأسوياء، ومن ثم لم تكثر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي توصي الآباء بالأبناء، وإنما رأينا العكس، فكثير من النصوص توصي الأبناء بالآباء؛ لأن الله عز وجل تكفل بوضع هذه الرحمة الذي تضمن لهم هذا المعين الذي ينبض بالحب والحنان والعطف.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى من دعاء الصالحين وعباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فحينما يراهم صالحين أتقياء فلا شك أنهم يكونون قرة أعين للعبد الصالح.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يجني الأب على ولده، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا لا يجن والد على ولده)، رواه الدارقطني.
وهناك كثير من النصوص فيما يتعلق بإعطاء الإسلام أهمية كبرى لموضوع التربية، فتربية الإسلام للطفل ليست كأي تربية أخرى، إنما هي تربية لغاية ولمقصد ولمستقبل في الدارين، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام للأطفال: (ارموا فإن الرمي أنكأ للعدو)، فمن أول طفولتهم يخاطبهم بهذا الخطاب.
فحينما رأينا الإسلام العظيم ربط الهدف التربوي بهذه الغاية العظمى، وهي سعادة الدارين، في نفس الوقت وجدنا جميع تعريفات التربية في المفهوم الغربي الذي يلهج به كثير من المسلمين تركز على إعداد الطفل ليكون قادراً على تحقيق رغباته الدنيوية، بغض النظر عن كون التعريف بالتربية علمانياً ينفصل تماماً عن التربية الإسلامية.
وقد اهتم المسلمون اهتماماً شديداً بموضوع تربية الطفل، والحفاظ على نفسيته من التشويه والإعاقة النفسية، أذكر مثالاً عارضاً لذلك: كان المسلمون الأوائل يوقفون الأموال على الأطفال أو العبيد الذين إذا أرسلهم آباؤهم لشراء شيء معين وضاعت منهم الأموال، فمن أجل حماية هؤلاء الأولاد من العقوبة أو القتل التي قد يتعرضون لها أوقفوا أموالاً ليعوض هؤلاء الأطفال من هذه الأموال، حماية لهم من قسوة الآباء الذين قد يعاقبونهم بشدة بسبب ضياع المال منهم.(15/2)
مفهوم الأمية التربوية الضائع
لا نتصور أن مثل هذه القضية التي هي غاية في الخطورة يمكن أن تناقش وتعطى حقها في هذا الزمن القليل، فليكن كلامنا مجرد مدخل ومقدمة لسلسلة تستمر -إن شاء الله تعالى- فيما بعد عن هذا الموضوع.
بالنسبة لمفهوم الأمية التربوية لابد أن يتداعى الناس بين وقت وآخر للحديث عنها، والإعلان عن مراكز محو الأمية وأهمية محو الأمية، بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة، لكننا قل أن نجد من يلتفت إلى نوع آخر من الأمية، وهي الأمية في مجال التربية، فضلاً عن أن يفكر في محوها، وسلوك منهج علمي دقيق في محو هذه الأمية.(15/3)
الفرق بين الأمية التربوية والأمية بالقراءة والكتابة
هناك فرق شديد بين أمية القراءة والكتابة وبين أمية التربية؛ إذ أمية القراءة والكتابة من حيث آثارها أخف بكثير جداً من أمية التربية، أما أمية التربية فقد تخرج أجيالاً مشوهة نفسياً تعاني وتتعذب وتنحرف في كل مظاهر الحياة.
الأمية في القراءة والكتابة قد نجدها تتفشى في طائفة معينة من الناس، ولكن الأمية التربوية لا ترحم، فإنها قد تتفشى كالداء الوبيل، وقد نجدها في أعلى الناس من حيث المستوى العلمي، كأستاذ الجامعة، أو حتى خواص الناس وليس عوامهم، فهؤلاء بلا شك أعلى الناس من حيث تنزههم عن أمية القراءة والكتابة، ولكن مما يؤسف له: أن الأمية التربوية متفشية فيهم بصورة مؤلمة جداً على أعلى المستويات، بل على مستوى الوزراء وغيرهم من علية القوم، وهذه الظاهرة نلمسها في مناهج التعليم، أو وسائل الإعلام كل هذه تعكس وتشير إلى مدى الأمية التربوية؛ هذا مع حسن الظن بهم! الأمية بالقراءة والكتابة قد تكون ظاهرة، أما الأخرى فهي تتخفى، ثم تظهر لنا فيما بعد آثارها الخطيرة على الأبناء والأولاد، أي: يمكن أن يكون الرجل خبيراً وقائداً في التربية وهو رجل فقير لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك تجد سلوكه مع أولاده سلوكاً راقياً مهذباً مستنيراً يخرج الأولاد الأصحاء، وقد يكون رجلاً على النقيض من ذلك، ومع ذلك يكون غارقاً في الأمية التربوية.
إذاً: ليس المقصود من محاضرتنا هذه محو الأمية التربوية كما هو العنوان، ولكنه تحت عنوان مضمر: أهمية محو الأموية التربوية؛ فإن المحو لهذه الأمية يحتاج زمناً طويلاً وجهوداً مكثفة، والمقصود هو أن ننقل هذه القضية إلى دائرة الاهتمام ليسلط الضوء عليها، ونعطيها القدر الذي تستحقه.(15/4)
عوائق معالجة الأمية التربوية
كان ينبغي معالجة هذه القضايا منذ زمن بعيد، لكن هناك عوائق وعقبات أمام ذلك، وأكبر عقبة أنه كان يفترض في هذه القضايا التربوية أن يقسم الناس فيها إلى شرائح عمرية، ويوجه لكل طائفة كلام غير الكلام الذي يوجه للطائفة الأخرى، إلا أن مشكلاتنا في مجتمع المسجد أنه تتواجد فيه جميع الفئات العمرية من الجنسين، ولا شك أن هذا توجد معه بعض الصعوبة من حيث اختلاف مستويات الناس في فهم الأشياء.
أيضاً الكلام الذي يقال للأطفال غير الذي يقال للشباب المراهقين، وهو غير الذي يقال للناضجين، وهو غير الذي يقال للشيوخ، كذلك ما يقال للبنات غير ما يقال للبنين؛ علاوة على أن هناك قضايا لابد من طرقها لكن لا يناسب طرحها بصورة مكشوفة أمام كل هذه المجموعات العمرية، لأنها تناسب طائفة معينة؛ فهناك من الشباب مثلاً من له بعض المشكلات الخاصة جداً التي لا يناسب أن تذكر أمام الجميع، أو تناقش بانفتاح أمام هذه المجموعات كلها.
أيضاً: يحتاج هذا الموضوع لتوعية نفسية وصحية، ونحن وإن كنا قد أغنانا الله سبحانه وتعالى بنور القرآن ونور السنة وهدي السلف الصالح، لكننا في نفس الوقت نحتاج لتوعية نفسية وصحية في قضايا لا تكون كالقضايا التي نعتاد على دراستها في المسجد، لكننا نرجع فنذكر أنفسنا بأن المسجد طالما كان له دور شامل لجميع مقاصد الحياة، ويشمل كل مجالات الحياة، فلا حرج على الإطلاق إن شاء الله تعالى من تناول هذه الأشياء، من باب تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك)، كما أن هذه الأمور النافعة تفيدنا ديناً ودنيا، فلا حرج إن شاء الله تعالى من ذكرها.
أيضاً مما يتخوف منه الإنسان: أن بعض الناس يسيء أحياناً فهم الكلام، وبالتالي تطبيق الإرشادات، لكن مع التفصيل والإيضاح نأمل تجاوز هذه المخاطر.
ما دمنا نتكلم عن التربية فمحور هذه القضية هو أهم شريحتين في الأمة: الأطفال والشباب؛ لأنهما الطائفتان القابلتان للتربية والتوجيه، وكلما تقدم السن كلما كان الأمر أصعب.(15/5)
بعض مظاهر الخلل في التربية
من المناسب أن نبدأ بإظهار بعض مظاهر الخلل، وموقفنا نحن من موضوع التربية.(15/6)
إهمال التربية أو تبني التربية المخالفة للإسلام
إذا قلت لشخص: ما هذا؟ فقال: لا أدري، فهذا جهل، لكن لو قلت لآخر عن كوب: ما هذا؟ فقال: هذا كتاب، فقد أخطأ، فهو لا يعرف الكتاب من الكوب، فالخطأ في العلم نوع من الجهل، وقد يكون أخطر من الجهل العادي الذي يعني انعدام العلم.
أقصد بذلك أن عندنا بعض الناس لا يخطر الموضوع لهم على بال، والبعض الآخر يتبنى مناهج تربوية خاطئة؛ لأنها مصادمة للمنهج الإسلامي الصحيح والسوي، فهذا أيضاً نوع من المرض والانحراف ينبغي أن يعالج، وأن تقتلع المفاهيم المنحرفة؛ لأنها لا تخرج عن حيز الجهل؛ لأنها مناهج خاطئة تصادم المنهج الصحيح.
نحن أقسام: إما أن بعضنا غافل تماماً عن شيء يسمى تربية، فيمارس نوعاً من اللامبالاة، والموضوع لا يخطر له على بال، وكل نظره يتجه إلى نمو الطفل: أنه الآن يحبو الآن بدأ يتكلم الآن كذا وكذا مضغة لحم تنمو وتكبر ويتلهى بها، ويغفل أنواعاً أخرى من النمو ينبغي أن يعتنى بها، وأن يعطى الطفل احتياجاته فيها.
فالوعي التربوي لدى أغلب الناس وعي منخفض جداً حتى عند المثقفين منهم، فالتربية لا تأخذ عندهم مأخذاً جاداً كعلم يكتسب، ومهارة تحتاج إلى تدريس، وإنما ينظر إليها أغلب الناس على أنها شيء تلقائي يدركه الفرد بإحساسه العفوي، فإن أراد الاجتهاد فإنه يضيف شيئاً من خبراته المكتسبة وراثياً عن طريق ما تعلمه من الآباء.
وغالبية الناس يجهلون كيف يتعاملون بالأسلوب السليم مع أولادهم في هذا العصر الذي صعبت فيه التربية جداً؛ لأنه عصر يكتظ بالمتناقضات، وتتزاحم فيه الأضداد، وأصبح الإنسان تتنازعه جوانب عدة واتجاهات مختلفة؛ فلا يجد الفتى أو الفتاة سوى التخبط والضياع عندما لا يكون هناك من هو كفؤ لقيادته إلى الطريق الصحيح في هذا الخضم المتلاطم من الأفكار والنزعات.(15/7)
الحديث عن التربية من أبراج عالية لا تناسب بسطاء العقول
بعض الناس يتكلمون كثيراً عن التربية لكنهم يتكلمون من برج عاجي، أو دراسات أكاديمية معقدة لا يفقهها إلا من كان على هذا المستوى الأكاديمي، وكما نلاحظ في الدراسات المتخصصة فإنها لا تعطينا وجبة سهلة قابلة للتطبيق، لأن كل الكلام على مستوى أكاديمي يناسب المتخصصين ويستغلق على الإنسان العادي، وربما عقدت بعض المؤتمرات لمناقشة بعض المشكلات، وقد حضرت مرة مؤتمراً يناقش مشاكل المراهقين، وتطرق أساتذة كبار في كلية الطب إلى هذه المشاكل؛ فوجدت أن الكلام كله يدور في إطار مشاكل طبقة المترفين، وفيه تفاصيل لا تمت للأغلبية من الناس بصلة.
أيضاً بعض الناس افتتن بالمنهج التربوي الغربي وأراد إسقاطه عشوائياً على بيئتنا، وهذا كقصة المثل الذي يحكي أنه كان هناك سمكة جرفها السيل، وأخذ يدفعها أمامه، وهناك قرد أراد أن ينقذ هذه السمكة، فأخرجها من الماء حتى ينقذها، نحن إذا تم التعامل معنا على أساس ثقافة غير ثقافتنا ومذهب غير ديننا فإن هذا لا يناسبنا؛ لأن صلاحنا لا يكون إلا بما صلح به أمر أول هذه الأمة.
وبعض الناس يرون التربية الحسنة، في أن يوفر الأب لأولاده أحسن ملبس وأحسن مأكل، ووسائل الترفيه، والبعض يسلك مسلك التربية القاسية المتسلطة، حتى إن منا من يستحسن ذلك حين يحكي عن شخص أنه حين ينظر لابنه بعينيه فإن الولد يرتجف، فينظر إلى هذا الأب على أنه مرب جيد، وأن هذا الولد متربٍ، وعلى الجهة الأخرى نجد التدليل المفرط الذي يدمر الأطفال ويسيء إليهم.(15/8)
تطبيق طريقة الآباء الخاطئة في التربية أو إيكالها إلى الخادمات
من مظاهر الخلل في هذه التربية أيضاً: اعتزاز بعض الناس -إلى حد التقديس- بالطريقة التي ربي هو بها منذ صغره ويعتبرها جزءاًً من كيانه لا يستطيع أن يتخلص عنه، وبالتالي يريد أن يحاكي هذه الطريقة ولا يخضعها أبداً للنقد أو التمحيص أو النقاش أو إعادة النظر فيها.
أما مشاكل المترفين: فهم يتركون زمام التربية لغيرهم، كحال الخادمات، فقد أصبحن في هذا الوقت ظاهرة جديدة، حيث يستقدمن من شرق آسيا كافرات لا يعرفن العربية، ويسلطن على الأطفال لتربيتهم، وهذه مصيبة ما بعدها مصيبة؛ لأن لهؤلاء الخادمات دوراً مدمراً لهوية الأطفال الإسلامية.(15/9)
ندرة وجود المعلم التربوي
من هذا أيضاً: تسليم زمام التربية لمعلمات غير تربويات، ولا حظ لهن على الإطلاق في التربية، فنجد بعض المسالك من المعلمة التي لا تعرف شيئاً في التربية؛ لأن هناك فرقاً بين التربية وبين التعليم، فالتعليم جزء من التربية، كما يقول المثل الصيني: إذا أتاك مسكين من أجل أن تتصدق عليه فأن تعطيه شبكة وتعلمه كيف يصطاد السمك أفضل من أن تتصدق عليه بسمكة.
فالمدرس الذي يدرس الرياضيات قد يحل لهم المسألة بسهولة، وهو في هذه الحالة ليس معلماً فقط لكنه يكون مربياً إذا علم التلميذ أو الطالب كيف يفكر ويحلها، وكيف يستقل بالإبداع في هذه المجالات؛ فالتربية أعم من التعليم، فقد يوجد معلم لكنه لا يكون مربياً كما لاحظنا، والأمثلة مؤلمة جداً.(15/10)
تسليم زمام التربية لوسائل الإعلام المفسدة
الآن ينتزع زمام التربية ويعطى لوسائل الإعلام التي تدمر الأبناء تدميراً، وفي مقدمتها التلفاز بسلوكه الخطير على نفسية الأطفال بإجماع جميع العقلاء في كل العالم، وفي أمريكا يوجد اقتراح لمنع الفساد عبر أجهزة التلفزيون والفيديو وغيرها، فانضم لهذه الحملة رئيس أمريكا وطالب الناس أن ينضموا ليطالبوا الوسائل التلفزيونية بالحد من النشاط الإجرامي الذي يفسد الأطفال.
هذا وهم كفار غير مسلمين، فما بالك بالمسلمين، فلا نشك أن التربية الموازية والمضادة للتربية الإسلامية التي تسلط على الأطفال صباح مساء تصعب المهمة جداً في واقعنا الذي نعيشه.(15/11)
أهمية التربية المبكرة
من المناسب أن نبدأ بإظهار بعض مظاهر الخلل، وموقفنا نحن من موضوع التربية.(15/12)
تحذير الشريعة من إهمال التربية
إن العملية التربوية عملية في غاية الخطورة، ويكفي أن الخلل فيها يؤدي بنا وبأهلينا وأولادنا إلى النار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] إلى آخر الآية.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، أي أنه واقف أمام الله، وسوف يسأله الله، فاسم مسئول من سأل، فسوف يسأل ويحاسب ويعاقب إن قصر، ويثاب إن أحسن.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته).
فلا تظنوا أن عملية التربية نوع من الكماليات أو الرفاهية، أو نوع من الترف العلمي أو الثقافي بل هي مسئولية في غاية الخطورة، (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهله بيته) فسوف تسأل وتحاسب بين يدي الله سبحانه وتعالى عن سلوكك مع أولادك وتربيتك إياهم.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، يعني: لا إثم أعظم من ذلك.
فمن القصور أن نتصور أن التضييع إنما يكون بالنفقة، لأن التضييع يكون بأمور هي أخطر من النفقة؛ سواء تركه مع صحبة سيئة، أو توفير أجهزة الفساد له بسهولة، أو سلوك مسالك مدمرة لنفسيته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، فلابد من إتقان التربية وإحسانها، والاستعانة في ذلك بالله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].(15/13)
كلام الغزالي على أهمية التربية المبكرة
يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش؛ أي أنه مثل العجينة الطرية يمكنك أن تشكله كما تشاء بإذن الله، فإذا أحسنت تشكيله خرج لك قرة عين، وخرجت لك ذرية صالحة، أما إذا أهملتها فهذا ما يبينه الغزالي فيقول: الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعُلِّمَه نشأ عليه؛ فسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فالشر طارئ لكن الفطرة البشرية سليمة وقابلة للخير، وإلى هذا أشار أبو العلاء بقوله: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى بحجىً ولكن يعلمه التدين أقربوه فالنبي صلى الله عليه وسلم حمل الوالدين مسئولية تربية الأبناء؛ لأن بعض الآباء قد تحصل ظروف معينة في أسرته تجعله يقرر أن يهرب من هذه المسئولية، فيكون مثله كمثل ربان السفينة في وسط البحر إذا غضب من بعض البحارة فترك لهم المركب، وأخذ قارباً ولن يستطيع القيادة إلا هو، وقد يكون الأمر أخطر لو تخيلنا أنه قائد الطائرة وينزل بالمظلة، فهل يخلو مثل هذا من المسئولية بضياع هذه الأسرة وهؤلاء الأولاد؟ لا.
بل سوف يحاسبه الله عز وجل، ويكون حسابه أشد إذا كان سلبياً أو فرر من مواجهة هذه المسئولية.(15/14)
حث الشريعة على حقوق الأبناء والاهتمام بتربيتهم
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، إلى آخر الحديث.
ويروى في بعض الآثار: أن داود عليه السلام قال: إلهي كن لبني كما كنت لي، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! قل لابنك يكن لي كما كنت لي، أكن له كما كنت لك.
يقول الغزالي في رسالته: أيها الوالد! إن معنى التربية يلزم عمل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحصل نباته ويكمل ريعه.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده.
أي: فكما أن للأب على ابنه حق فللابن على أبيه حقاً، كما قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8].
وقال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
وقال علي بن أبي طالب في تفسيرها: علموهم وأدبوهم.
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم).
وقال الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11].
فإذاً وصية الله سبحانه وتعالى للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، والدليل من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31]، فهنا وصية لاحترام هذه الروح، وهذه النفس، وهي نفس الأولاد قبل أن يصبح هذا الطفل مكلفاً ببر والديه، ومنذ أن كان جنيناً نفحت فيه الروح والله سبحانه وتعالى يشرع له من الحقوق ما يحمي له حياته ويصونها، ويجعل لها حرمة، والأحكام في ذلك كثيرة كما سنشير إن شاء الله تعالى.
يقول ابن القيم: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى؛ فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه؛ فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت! إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً.
ويقول سعيد بن العاص: إذا علمت ولدي القرآن وحججته وزوجته فقد قضيت حقه، وبقي حقي عليه.(15/15)
غفلة الآباء عن التربية المبكرة للأبناء
تربية الأولاد تبدأ مبكرة جداً عما نتخيل؛ لأن أغلب الناس تنظر إلى الطفل من ناحية نموه الجسدي، وكثير من الناس يستصحب موقفه هذا مع الطفل الصغير منذ أن يحبو حتى يكبر وهو ما زال ينظر إليه بهذه النظرة.
والإسلام في الحقيقة نبه إلى موضوع التربية، وبعض الناس لا يلتفت لها إلا بعدما يكبر الولد ويتعدى الثانية عشرة من عمره، وهذه خسارة ما بعدها خسارة؛ لأن نفسية الطفل وشخصيته تتشكل وتوضع البذرة الأولى لها في الخمس السنوات الأولى، فهذه أخطر مرحلة تشكل كل مستقبل الطفل فيما بعد ذلك، والله تعالى أعلم.
وهذه المرحلة حقها أن تحظى بأكبر قدر من العناية، لكنها تحظى بأكبر قدر من اللامبالاة، واللامبالاة لا تساوي عدم التربية، بل تساوي تربية خاطئة، فاللامبالاة في حد ذاتها إساءة.(15/16)
بداية التربية من اختيار الأم الصالحة
لا ينظر للتربية على أنها تبدأ عندما يكلف الطفل، فهذا غير صحيح، ولن أقول: إنها تبدأ من ساعة خروجه من بطن أمه، لكنها تبدأ من حين اختيار الأب لزوجته؛ هذه هي البداية الصحيحة، أي: أن حق الأولاد يتقرر في عنقك منذ اختيار أمهم؛ لأن هذا الاختيار يكون له أعظم الأثر فيما بعد على الأولاد، وهذا موضوع في غاية الأهمية، لكننا سنختزله ونذكر أهم ما فيه، فأقول: إن من المهم اختيار الأبوين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نبهنا إلى كلا الأمرين حينما قال في الرجل: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، وقال في المرأة: (فاظفر بذات الدين تربت يداك).
فإذاً من حق الولد إحسان اختيار أمه حينما يريد أباه أن يتزوج، ولا خير ولا أحسن من المرأة الصالحة كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: إن البيت قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولابد أن تكون قلعته متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، كل فرد منها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها، وإلا تكن كذلك سهل اقتحام العسكر من داخل قلاعه؛ فلا يصعب على طارق، ولا يستعصي على مهاجم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم؛ فانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم).(15/17)
أهمية حنان الأم في تربية الطفل وتميز نساء قريش بذلك
حينما امتدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم نساء قريش قال: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش) يعني: الصالحات المتدينات من نساء قريش، ثم ذكر المؤهلات اللاتي استحققن بها هذا الثناء من النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده)، فهن أكثر الناس حناناً على أولادهن، وهذا أمر في غاية الأهمية؛ لأن الطفل يحتاج إلى الحنان حاجة ماسة، ومع كل وجبة إرضاع ينبغي أن تقدم الأم للطفل وجبة حنان وحب وعطف، وكل هذه الأمور من الاحتياجات الأساسية للطفل.
الطفل ينمو، وكما ينمو في جسمه تنمو روحه وعاطفته وإدراكاته، فمما يحتاج إليه الطفل باستمرار: وجبة الحنان، وإلا سهل جداً الإرضاع.
فقد تقوم به الزجاجة، أو الخادمة، لكن المرأة التي ترضع ولدها يشتد الالتصاق بينها وبينه، ووجودها أساسي جداً في الإشباع العاطفي والوجداني الذي ينعكس انعكاساً كبيراً عليه، لذا فإن أخطر السنوات في تشكيل شخصية الطفل هي السنوات الخمس الأولى، ثم يليها الثلاث السنوات التالية، فينبغي أن يهتم بتربيته وقتها أشد الاهتمام.
إن الأم التي إذا أرادت أن ترضع ولدها تصرخ فيه، وترضعه بطريقة ميكانيكية آلية قد حرمته من وجبة الحنان، وهي تظن أنه قطعة لحم لا يحس بشيء، ونحن نقول: إن الطفل يحس بكل شيء، يحس بأمه وهو في بطنها، فيحس بها إذا كانت سعيدة أو كئيبة، ولذلك فإن الأم أثناء فترة الحمل محتاجة إلى توجيهات كثيرة جداً؛ لأنها تختزل فترة من فترات تربية الطفل عن طريق أنها تكلمه وتقوم بعمل حركات معينة على بطنها بحيث يألفها ويحفظ صوتها، وربما سمعتم أن بعض الأمهات الفاضلات كانت دائماً تسمع القرآن الكريم، والطفل في بطنها، فسرعان ما حفظ القرآن مبكراً جداً؛ وذلك لأن الطفل ليس في غفلة، بل يحس بأشياء كثيرة نتغافل عنها، ونحقر من إمكاناته، والحقيقة غير ذلك تماماً.
الشاهد: أن هذا وسام وشرف وضعه النبي عليه الصلاة والسلام على نساء قريش، وكافأهن بهذا المديح العظيم على لسانه صلى الله عليه وسلم وذلك لسببين.
أحدهما: (أحناه على ولد في صغره)، وهذا فيه لفت نظر إلى أهمية الحنان، والأطباء أو الأخصائيون النفسيون حينما يدرسون حالة من حالات الانحراف عند المريض يكون هناك سؤال أساسي جداً: هل الرضاعة تمت في صغرك بطريقة طبيعية أم بطريقة صناعية؟ لأنه لو حرم من الرضاع فسوف ينعكس هذا على نفسه، وهذا نوع من الحرمان.
ثم الفطام: كيف فطمت من الرضاع؟ وأغلب الناس لا يتذكر؛ لكن لو أمكن اجترار هذه المعلومات من الأقارب أو الأم فإنها تكون مفيدة.
فالأزمات النفسية توضع جذورها في السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل، ثم بعد ذلك تليها في الأهمية مرحلة أخرى تستمر إلى ثمان سنين، ثم تنتهي تقريباً عند سن الثامنة عشرة، إلى هنا تكون كل مقومات الشخصية قد تكونت لديه، وما يستقبل فهو انعكاس لما مضى في خلال هذه الفترة، والتجارب التي مر بها، والأسلوب الذي ربي به.
هذه لفتة عابرة لخطورة العملية التربوية.(15/18)
تربية الطفل النفسية من وجهة نظر إسلامية
بعض الباحثين وهو طبيب نفسي له كتاب اسمه (تربية الطفل رؤية نفسية إسلامية) كتب كلاماً جيداً في موضوع الأولاد، يقول فيه: من أجل ذرية صالحة لابد للزوج من زوجة صالحة، ولابد للزوجة من زوج صالح، هو يظفر بذات الدين، وهي تتزوج ممن ترضى دينه وخلقه، لكن بعد هذه المرحلة تأتي أهمية وضوح الغاية من أن يكون عندنا أولاد، وبصورة أخرى: ما هي النية من وراء إنجاب الأولاد؟ هل ننجب الأولاد ونتعب في تربيتهم السنين الطويلة حتى يكونوا لنا عوناً عندما نبلغ الشيخوخة؟ ربما كنا مرحومين فكان أولادنا بارين بنا، وعوناً لنا عندما نحتاج إليهم، لكن قد لا يكونون كذلك؛ فيذهب جهد السنين في العناية بهم بلا مقابل.
وقد نربي الولد السنين الطويلة، ثم يموت أو يبتلى بعاهة وإعاقة دائمة، وقد وقد كل ذلك يجعل الإنجاب والتربية كوسيلة تأمين ضد الشيخوخة مشروعاً أقرب إلى الخسارة منه إلى الربح، وقد ينجب الأولاد لأنهم مثل الأموال زينة في هذه الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، والنفس البشرية تحب امتلاك الزينة، لكن العاقل الذي يدرك مدى المسئولية في ذلك، ومدى العبء الذي يحمله الأبوان في تربية أولادهما، فقد لا تعجبه هذه الزينة؛ لأنها باهظة التكاليف.
وقد ننجب لنجبر كسر زواج على حافة الطلاق، ولكن زواجاً محطماً لا يستحق العناء الذي يتطلبه الأولاد، والأولاد قد يزيدون الأمور سوءاً، وقد يعجل ذلك بالطلاق ولا يؤجل.
بقي أن ننظر إلى أولادنا على أنهم مشروع رابح، يقول: إن تربية الأولاد ينبغي أن تكون النية والهدف من وراء تربية الأولاد لله، فيقول: إن ما كان لغير الله ينقطع وينفصل، وما كان لله فإنه يدوم ويتصل، فإن أردت بالأولاد مالاً ربما خانوك وضيعوك، وإن أردت زينة فهي مكلفة، وإن أردت كذا إلى آخر هذه الاحتمالات.
ثم قال: بقي أن ننظر إلى الأولاد على أنهم تجارة لن تبور، وذلك إذا اتبعنا فيها شرع الله سبحانه وتعالى، يقول: بقي أن ننظر إلى أولادنا على أنهم مشروع رابح لكسب الأجر والثواب، وارتفاع الدرجات عند الله، ولحفظ جهدنا من الضياع؛ لأن الجهد الذي نضيعه على أولادنا قاصدين بذلك تنشئتهم على الإيمان بالله وتوحيده وطاعته جهد باق لا يزول عندما تزول الجبال، ولا يختفي عندما تكور الشمس، أو تكشط السماء، أو تسجر البحار، إنه جهد أودع في إنسان، والإنسان ضمن الله له الخلود بعد أن يبعثه يوم القيامة إلى حياة لا موت بعدها، بينما تزول كل المعاني المادية العظيمة من حولنا، إلا تربية الأولاد.
بهذه النية يكون لدينا مشروع لا احتمال للخسارة فيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك).
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما هم بني؟ فقال: نعم.
لك أجر ما أنفقت عليهم).
أي أن هذا عن المال الذي تنفقه في تربية الأولاد لن يضيع سدى، بل تثاب عليه أعظم الثواب، فما بالنا بالجهد الدءوب والتعب وسهر الليالي بعد الحمل وهناً على وهن، أيعقل أن يكون أجر ذلك كله دون أجر المال الذي ينفقه الأب؟ هل ثواب الأم التي تعاني ما تعاني في تربية الطفل يكون دون ذلك؟ يقول تبارك وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
وعندما يكبر أولادنا صالحين مؤمنين فيكون لنا -بإذن الله- من الأجر مثلما يكون لهم كلما صلوا صلاة أو صاموا صياماً، أو عملوا عملاً صالحاً ما عاشوا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)، والولد من سعي أبيه، أي: أنك إذا ربيته على الطاعة فكل عمل صالح يفعله يكون لك مثل ثوابه، فإذا ذكر الله سبحانه وتعالى وأثيب على ذلك فأنت أيضاً لا تَقِلُّ عنه في شيء، وهكذا إذا صلى أو صام أو فعل أي شيء؛ لأنك أنت الذي تسببت فيه وجوده؛ فإنه لا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]؛ لأن من سعيه إنجاب وتربية هذا الولد.
يقول: هذه الطمأنينة على أعمالنا أنها لن تضيع سواء أحسن إلينا أولادنا أو لم يحسنوا عندما يكبرون؛ تجعلنا نبذل ونربي بحماسة ورضا، وعندما نشعر أن أولادنا نعمة من الله لأنهم وسيلتنا إلى زيادة حسناتنا؛ فكم منا من له الجلد والمثابرة على الصلوات الكثيرة في جوف الليل، وكم منا من إذا صلى كانت صلاته كلها خشوع، وكم منا من له الصبر على صوم أكثر الأيام، إن أولادنا وسيلتنا لكسب الأجر العظيم الذي نعجز عن كسبه عن طريق النوافل الكثيرة صلاة وصوماً وصدقة وحجاً وذكراً، فبإخلاص النية لله يصبح سهر الأم على رعاية رضيعها عبادة، ويصبح عمل الأب في مصنعه أو متجره عبادة، والولد الذي يحفظه الله لنا فيعيش يكون مستودعاً يحفظ الله لنا فيه أعمالنا ليكافئنا عليها يوم القيامة، أما الذي يميته الله طفلاً فنصبر فإنه يقف على باب الجنة لا يدخلها حتى يدخل أبويه.
أوليس تربية أولادنا على الإسلام تجارة لن تبور إن شاء الله؟ لابد من استغلال الفرص لتحقيق أكبر الأرباح.
ثم يلفت النظر إلى أمر في غاية الأهمية، وهو: الدعاء بالصلاح للذرية، يقول الله سبحانه وتعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38].
وقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:89 - 90]، إلى آخر الآية.
يقول: نحن في حياتنا اليومية إذا أردنا شراء قطعة أثاث أو سيارة أو غير ذلك ذهبنا إلى السوق، وحصلنا على ما تمكننا نقودنا القليلة من شرائه، لكن الثري فينا لا يفعل ذلك، فممكن أن يتصل بشركة مرسيدس في ألمانيا ويطلب سيارة فيها كذا وكذا وكذا، ويدفع فيها الملايين؛ لأنه ثري يمكنه أن يبذل هذا المال ليحصل على سيارة حسب مواصفات معينة يرغب فيها، ثم ترسل إليه خصيصاً مقابل ثمنها.
أما إذا أردنا ولداً بمواصفات معينة: أن يكون مقيماً للصلاة، صالحاً، قانتاً، خاشعاً، حتى لو أردنا شيئاً من الدنيا أيضاً، فما علينا إلا أن نرفع أيدينا ندعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا ذلك، وأن نكثر من الدعاء سائلين الله أن يرزقنا ولداً صالحاً ذكياً سوياً جميلاً، والولد قد يكون صبياً وقد يكون بنتاً فندعوه عز وجل ويكون دعاؤنا من هذه الأسباب، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء)، فالدعاء يمكن أن تحصل به أغلى وأثمن الأشياء سواء في الدنيا أو الآخرة، ولا يكلفك سوى أن تخلص النية لله سبحانه وتعالى، ثم ترفع يديك متذللاً سائلاً، فهذا باب سهل جداً للمؤمن، ولذلك ذم النبي عليه الصلاة والسلام من يزهد في الدعاء بقوله: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما يمنع أحدكم أن يقول حين يجامع أهله: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا)، فهذا كله من الإحسان إلى الأطفال، فليس الدعاء وسيلة العاجز، إنما هو سبب من الأسباب التي يحب الله سبحانه وتعالى أن نأخذ بها، فنؤجر على الدعاء نفسه، ثم يتقبل الله سبحانه وتعالى منا هذا الدعاء.
بعث بعض الخلفاء إلى بعض الناس ممن كانوا محبوسين في السجن وطال بهم المقام فيه، فأرسل إليهم وسألهم: ما أشد ما مر عليكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا، وكان السلف يهتمون جداً بموضوع التربية حتى وجدت وظيفة اسمها: المؤدب، وكان الإمام ابن أبي الدنيا يلقب بـ: مؤدب أولاد الخلفاء.(15/19)
حضانة الأم التربوية
مما يجسد خطورة التربية في المراحل الأولى: أن الله سبحانه وتعالى جعل الحضانة حقاً للأم، ورتب على الإرضاع أن جعل الأم من الرضاع تماماً كالأم الحقيقية: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، وقال عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
فموضوع مراعاة حق الطفل في رعاية أمه أمر في غاية الأهمية، وانفصال الطفل عن أمه، أو تقصيرها في هذا الأمر يجرنا إلى اليتيم، هل اليتيم هو من كان فقيراً أو من ليس معه مال؟ لا.
اليتيم يمكن أن يكون غنياً لكنه يتيم؛ لأنه حرم من أبيه أو من أمه؛ فقد ييتم الآباء أبناءهم وهم على قيد الحياة، كما قال الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً ولا يمكن أن يقوم بديل عن الأم في هذه الوظيفة الخطيرة، فالشارع لما جعل حق الحضانة للأم ما قال: يمكن أن تقوم بها دور الحضانة أو الخادمة أو غير ذلك، فعملية هروب المرأة من وظيفتها المقدسة -تربية الأولاد- إلى العمل مصيبة، وأصل هذه العملية إقحامها في حياة المسلمين بطريقة متكلفة، وأصبحت تسمى المرأة: امرأة عاطلة وامرأة عاملة، فالعاطلة ربة بيت، والأخرى عاملة منتجة، أو نصف المجتمع إلى آخره، هذه هي المرأة العاملة التي تمارس هذه الوظيفة المقدسة وهي العاملة بالفعل لأشرف عمل، أما الأخرى فهي هاربة من الوظيفة، وهاربة من العمل إلى الشوارع والمصانع والمحلات إلى آخره.
طبيب أمريكي كان كلما جاءته أم بطفل مريض يشتكي، يكتب في كل الإرشادات الخاصة به: العلاج هو العودة إلى الأم الحقيقية، وهذا كاف، فقد كان يرى أن المرض هو نتيجة عن هذا الخروج.
وكما أشرت فإن الأم الحقيقية ليست عاطلة، ووظيفتها أصعب من أي موظف في العالم؛ لأن أي موظف يشتغل ثمان أو عشر أو خمس عشرة ساعة في اليوم أو فترة معينة ثم يستريح بعد ذلك، لكن الأم التي تحضن الأطفال وتراعيهم والزوج والأولاد والصغار والكبار، تشتغل أربعاً وعشرين ساعة، وممكن أن تستدعى بصراخ الرضيع في أي وقت، وقد تسهر معه إلى نصف الليل أو معظم الليل كي ترعاه وتحرسه، فهل هذه تسمى عاطلة؟! فموضوع إقحام قضية المرأة العاملة كان لغرض يراد بالمسلمين على يد اشتراكية عبد الناصر، وكان الكلام فيه متكلفاً، وضربوا له مثلاً فقالوا: مثل ذلك كمثل عامل يأتي في الليل بأنقاض بناية متهدمة ويضعها في الشارع فيسد الميدان بالأنقاض، ويرفع عليها مصباحاً، فيأتي من يسأله: لماذا أتيت بهذه الأنقاض؟ فيقول: لأرفع عليها المصباح، فيقال: ولماذا أتيت بالمصباح؟ فيقول: حتى لا يصطدم الناس بالأنقاض، وهذا مثل قضية عمل المرأة، فهي قضية متكلفة زرعت زرعاً وأقحمت إقحاماً لكي يتم إخراج المرأة من قلعتها الحصينة، ولشلها عن هذه الوظيفة المقدسة.
قد يقول بعض الناس: نحن نكثر الكلام عن التربية وأهميتها، فهل درس السلف هذه العلوم؟ فنقول: السلف حققوا النموذج العملي الراقي في كل مجالات الحياة، وليس فقط في مجال التربية، لكن الأمر كما في علم النحو والصرف واللغة والبيان والبديع وغيرها، فهل السلف درسوا النحو والصرف وغيره؟ فنقول: لا، ومع ذلك كانوا أفصح الناس؛ لأن ذلك كان عندهم بالسليقة وبالاستعدادات الفطرية بجانب تهذيب الوحي الشريف لهم، كذلك التربية هم مارسوها بالفعل؛ لكن ضبط هذه الأشياء وتبسيطها وتقنينها لا يمكن أن يتصادم مع هذا.(15/20)
مشاكل تواجه استمرار العملية التربوية للطفل
هذا مهم جداً ومما ينبغي أن نلتفت إليه، وهو: أن العملية التربوية هي عملية مستمرة ومتجددة، فلا يوجد وقت معين للتربية بل كل حياتك مع أولادك تربية كل سلوك وكلمة وحركة وسكنة وتعليق وإيماء وتصرف هو تربية، والطفل يقتبس منك ويتمثل كل ما يراه.
فإذاً التربية هي علم له قواعد وأصول وله سنن تحكمه، فكل ما يحصل منك هو نموذج عملي يحتذيه الطفل، ويتأثر به طوال حياته، ولا يوجد وقت معين يقول الأب للأولاد: سنعطيكم حصة تربية أربيكم فيها، لا يحصل هذا، فكل تصرف منك هو تربية، فالتربية عملية تستمر آناء الليل وأطراف النهار، التربية عملية تفاعل وتأثر بالبيئة المحيطة، وسنذكر أمثلة لمدى خطورة التصرفات التي لا نتفطن إليها على الإطلاق.(15/21)
نشوء الطفل على سلوك خاطئ
الطفل إذا نشأ في بيئة تحتقر المرأة وتزدريها وتستخف بها؛ فيرى أباه يضرب أمه ويشتمها ويسبها ويفعل بها كذا وكذا؛ فإن هذا يزرع في قلبه أن هذا هو الوضع الطبيعي للمرأة، ثم بعد ذلك يتقمص هذا السلوك حينما يصير زوجاً، ويكرر ما تشربه منذ الطفولة.
طفل أمه تضربه بالحذاء، مؤكد أنه سيعيش إنساناً مهدر الكرامة، فكيف يكون عنده كرامة حينما يكبر؟ وكما قلنا: أخطر مرحلة هي السنوات الثمان الأولى، وبخاصة الخمس الأولى منها، ومع ذلك أغلبنا لا يلتفت إليها، ولا ينتبه لها.
الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله تعالى أتاه رجل فقال له: قد رزقت بنتاً، وأريد أن تعلمني كيف أربيها، قال له: كم عمرها؟ قال: سنة، قال: فاتك الخطاب، هو في الحقيقة ما فاته، ولكن هذا تجسيد من رجل بصير بفن التربية؛ لخطورة إهمال التربية التي يجب أن تبذل للطفل في وقت مبكر.(15/22)
إهمال الاضطرابات النفسية للطفل
الوقاية من الاضطرابات النفسية أفضل من العلاج؛ لأن العلاج إما ميئوس منه، وإما نسبة النجاح فيه قليلة، وبالتالي فالوقاية تكون بأن ينشأ الطفل سوياً نفسياً من الصغر، وهذا أعظم أسلوب للتعامل مع الاضطرابات النفسية التي قد تحصل إذا حصل خلل في هذا الأمر.
فنحن بدلاً من البحث عن حل للمشاكل عند الأطفال نفر من مواجهة ذلك، فمرة نقول: محسود، ومرة: مصروع عليه جن، أو مسحور؛ وهذا كله هروب.
فنحن بجانب الأذكار الشرعية والرقية، نراجع أنفسنا ونقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في تربيته ومعاملته للأطفال؛ فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والذي أشار إليه الله سبحانه وتعالى في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، أي في كل مجال من مجالات الحياة فهو أب وابن وقائد وزعيم.
وفي قصة الصحابي الذي أدبه النبي عليه الصلاة والسلام في أحد المواقف، فقال: (فوالله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو المعلم الأول، والنموذج الأكمل لكل البشرية.
أكرر: أخطر مراحل التربية هي التي تحظى عندنا بأكبر قدر من اللامبالاة التربوية، وأكرر أيضاً: إن اللامبالاة لا تعني عدم التربية، لأنه لا يمكن أن تتوقف التربية، وسلبيتك في حد ذاتها أو هروبك هو نوع من التربية التي سوف تنعكس على هذا الطفل.(15/23)
إخراج العلاج النفسي كعامل في العلاج التربوي
إذاً: اللامبالاة لا تعني عدم تربية، أو توقفاً عن التربية، وإنما تساوي تربية سيئة مدمرة لهذا الطفل.
تألمت جداً حينما كنت أقرأ بعض الأوراق في مقالة بالإنجليزية، وكان يتكلم هذا الرجل التربوي الأمريكي عن معالجة موقف معين من المواقف، فيقول: في هذه الحالة لا يوجد لهذا حل، فقد عملت خطأ جسيماً لا يكفي لحله أن نكتب كلمتين في ورقة، فإما أن تذهب إلى الأخصائي الاجتماعي في المدرسة، وإما إلى رجل من رجال الكنيسة.
انظر كيف ساوى رجل الكنيسة بالأخصائي النفسي؛ لأن هؤلاء يهتمون جداً بدراسة النواحي النفسية، والثقافة التربوية، ولذلك ساوى بين رجل الدين وبين الأخصائي النفسي؛ لأنه يدرس هذه الأشياء.
ولذلك أقول: إن كل من ينتمي إلى الدعوة بل كل أب، يحتاج إلى أن يفقه في الجانب النفسي في التربية أعظم الفقه، ونحن أولى من الكفار بأن نهتم بهذه الأشياء، بل أحياناً تحدث بعض التصرفات التي تلفت النظر في الأطفال، وكلما انتبهنا إليها مبكراً سهل علاجها.
نحن ننكر الحقيقة كي لا نواجهها، كشخص عنده أعراض مرض السكر، والدكتور يقول له: أنا أشعر أن عندك سكراً، فعليك بإجراء تحليل للدم، فلم يجر التحليل، ويقول: أنا خائف أن يكون عندي سكر، وهل هذا سيقطع عنك البلاء؟ لماذا لا تأخذ بالأسباب، وتحرص على ما ينفعك؟ ومفهومه: اجتنب ما يضرك.
فالشاهد أنا عندنا مفهوماً في غاية الخطورة، وهو النظر إلى الطب النفسي على أنه وصمة عار، فمن ذهب للأخصائي النفسي لابد أن يختفي عن الأنظار، ويظن من يراه هناك بأنه مجنون.
ومن علامات تخلف المجتمعات في هذا العصر، ينظر أن الإنسان هذه النظرة لأناس أفنوا أعمارهم في دراسة هذه الأشياء، والتعامل معها بأساليب علمية لا تتصادم مع ديننا على الإطلاق.
لكن ينبغي أن يذهب الإنسان إلى من هو متدين من هؤلاء الأخصائيين لأننا نظل نتهرب ونتهرب، ونضطر بعد ذلك مرغمين إلى اللجوء للطبيب النفسي بعد استفحال الاضطراب في الأطفال، فأي شيء يلفت النظر، ونحن لسنا بغنى عن الاسترشاد بكلام الأخصائيين في هذه الأبواب.
في الحقيقة إذا كان هذا الكلام يعم جميع الناس، فإن المسئولية على الملتزمين مضاعفة، فموضوع التكيف مع الواقع أو مع البيئة من حولنا مهم جداً، والناس الذين لا تهمهم معاناة أبنائهم لا يعانون كثيراً، ولكن الإخوة الذين يريدون أن يحافظوا على دينهم وعلى ذريتهم في عصر الغربة الثانية تتضاعف عليهم المسئولية؛ لأنك ستحارب بمجرد خروجك من البيت إلى الشارع، وفي كل مكان تذهب إليه، فما بالك بالطفل أو الصبي أو الشاب الغض الطري الذي يواجه المتناقضات حيثما حل، ويواجه الغربة، فأنت مع الوقت أصبح عندك مناعة من التأثر بالنقد والألفاظ المؤثرة كالمتطرفين والإرهابيين وكذا وكذا، أما هذا الطفل فيحتاج بلا شك إلى عناية خاصة كي يمر بسلام إلى شاطئ الالتزام الحقيقي بالدين، فنحن نواجه كما قلت: صعوبات كثيرة في الواقع، أما الدارسات التربوية والمنهج التربوي فإن الكلام كله أكاديمي لأناس متخصصين، فلا نستطيع أن نتعامل معه.(15/24)
انشغال الآباء بالكسب عن التربية
هذه مشكلة أخرى، وهي أن الآباء يشتغلون بالكسب الحلال للقمة العيش، وبالتالي لا يؤدون أي واجب تربوي، والأم قد تعمل وتهمل أولادها، وكلا الأبوين أو أحدهما جاهل تماماً بأصول التربية، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وأخطر هذه العقبات وجود اتجاهات شتى تتنازع تربية الطفل وتربيه تربية مباينة، وكل ما تبنيه أنت يهدمه الآلاف، ثم نعاتب أنفسنا حينما يشب الأولاد غير ملتزمين، ونريد أن نقهرهم قهراً على الالتزام، ونحن لم نلتفت للخطورة من البداية.
ولو أنك بدأت بداية صحيحة، وكنت يقظاً وراعياً، فإن هذا إن شاء الله تعالى يكون سبباً لسلامة ابنك من الافتتان بهذه الفتن من حوله، لكن أنت لا تؤدي أي دور، بل ربما تحطم هذا الولد بمسالك خاطئة، ثم بعد ذلك تريد منه أن يصمد! كيف يصمد وأنت لم تبذل له ما يقيه ويحميه من هذه التربية الموازية التي هي أشد تأثيراً فيه من تأثيرك أنت؟ سواء الإعلام الفاسد، أو الأقارب وغير ذلك مما يوجد تعارضاً بين تربية الأبوين وتربية الإعلام مثلاً.(15/25)
الرسائل المتضادة من البيئة المحيطة
الصراع الذي يحس به هذا الإنسان؛ صراع في البيت، مع أن المفروض أن جميع المؤسسات التربوية في الدول المحترمة تكون وحدة متكاملة، كالمدرسة مع البيت، وفي البيت نفسه لابد من سياسة تربوية موحدة بين الأبوين، فلا يظهران الخلاف أمام الأولاد، ولا التناقض في التربية.
فالواقع أننا نرى كل محضن يسير في طريق معاكس للآخر؛ فالمدرسة بمناهجها الفاسدة المدمرة في طريق، والعلوم الإسلامية في طريق، والإعلام في طريق الشهوات، والتعليم في طريق الشبهات، والأبوان لا توجد عندهما سياسة تربوية متفق عليها، بل قد نجد أن الأب يتعارض مع الأم، الأم تقول: افعل، والأب يقول: لا تفعل، ويتشاجران أمام الولد، ويصير محتاراً في هذه الرسائل المزدوجة، ثم إن الأم نفسها قد تقول له عن شيء: هذا غلط، ثم في وقت آخر تمارسه هي، فأصبح نفس المربي يعطي رسائل متضادة وقدوة متناقضة تحير هذا الابن.
في المدرسة أيضاً ما بين المناهج المدمرة والفاسدة، وما بين هيئة التدريس؛ فيوجد تقصير شديد عند كثير من المدرسين من ناحية الاهتمام بالنواحي التربوية، ويكفي أن أذكر مثلاً عابراً لذلك: مراقب في لجنة امتحان الثانوية العامة يغشش الأولاد ويقول لهم: أنا سأقفل لكم الباب، لتتعاونوا مع بعض، وسوف أنبهكم عند حضور أحد، فهذا في حد ذاته نموذج مدمر للسلوك.
ثم أيضاً التناقض بين ما توجهه أنت إن كنت توجهه وبين الأصدقاء في الشارع أو النادي أو المدرسة، وهؤلاء يكونون أشد تأثيراً عليه منك، ويتلقن منهم أكثر مما يتلقن منك أنت والمجتمع ككل، فلا شك أن الصراع الذي نعيش فيه يولد كثيراً من الإحباط إذا لم نتخذ معه نوعاً من التوعية والفهم، وكيف نتكيف تكيفاً صحيحاً يحفظ لنا ديننا، ويجعل الأولاد يقتنعون بالرسالة التي نحملها كي يحملوها هم من بعدنا؟ إن لم ندرس هذا الأمر ونتعامل معه بطريقة علمية، فبلا شك أن هذا الصبي أو هذا الشاب يكون أضعف بكثير من أن يصمد أمام هذه التيارات كلها.(15/26)
أمثلة تطبيقية لسوء معاملة الطفل تربوياً
البيت هو أخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق، صحيح أن الكل يدمر، لكن تربية البيت هي أخطر ما تكون؛ للأسباب التي أشرنا إليها من قبل.
أكبر الأخطاء التي نرتكبها مع أولادنا وأطفالنا تنشأ عن شيء مهم جداً، وهو أننا ننظر إلى الأولاد ونعاملهم ونحاكمهم بعقليتنا نحن.
وهذا التصور ينتج عنه كثير من الأخطار، منها أننا نكلفه بشيء فوق طاقته، والصواب أن نعامل ونحاسب هذا الطفل على تصرفاته بعقليته هو، ونراعي أنه ينمو كما كنت أنت تماماً في سنه.
مثلاً: الولد في سن معينة يكون له خيال واسع جداً، فيقول لك: أخي رقبته طارت، وطلعت الرأس ونزلت، والتحمت ثانية في الجسم.
هذه عبارة عن خيال واسع وليست كذباً، فلا تقل: إنه يكذب، وهو لا يتعمد هذا؛ بل هو نوع من الخيال الواسع، كما سنفصل إن شاء الله تعالى فيما بعد.
مثلاً: طفل نشاطه زائد عن المعتاد بصورة ملفتة للنظر، لا تقل: هذا الطفل قليل الأدب، أو أهله لم يربوه، بل عليك أن تعلم أن هذا يلفت النظر إلى أنه يحتاج إلى إرشاد وتوجيه للأبوين للبحث وراء أسباب هذه الظاهرة، أما الولد فليس له ذنب، وإنما هو ضحية لمسالك غير صحيحة من الأبوين، فلا تعاتب الأبوين ولا تعاتب الطفل، واحمد الله على أن عافاك، لأن هذا البلاء قد يأتيك أنت، ففي هذه الحالة لا تقل: هذا قليل أدب بل هو يتفاعل مع ظروف معينة تواجد فيها بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب.
من هذه الأشياء: كل كلمة تتكلم بها مع الطفل، فأنت تطبع فيه انطباعاً معيناً، سواء شعرت أم لم تشعر، فأحياناً نكون نحن من نمسك الفئوس ونحطم بها أولادنا، وكما قلت: السنوات الأولى بالذات يكتسب فيها الانطباع الذي يبقى معه -والله تعالى أعلم- إلى ما شاء الله، وإلى أن يكبر ويصير رجلاً.(15/27)
أمثلة على غرس العجز والخذلان والسلبية في نفس الطفل
ذكر بعض الباحثين في هذا المجال مثالاً فقال: ولد تصطحبه أمه في سوبر ماركت أو محل البقالة، ويسلك سلوكاً غير صحيح بطريقة معينة، أو يصرخ أو يعمل أي نوع من السلوك الغير مرضي، فتقول له أمه: إذا لم تتوقف عن ذلك سوف أتركك.
وفي موقف آخر: ولد أمه عملت له شيئاً أعجبه (كيكة)، ثم أكلها كلها، فتقول له: من المفروض أن تخجل من نفسك لهذه الفعلة! في الحالة الأولى أو الثانية كلاهما تريد السيطرة على سلوك الولد وتقويمه وتهذيبه، وهي تظن أنها تؤدي رسالة التوجيه والتربية، لكنهما قد أحدثا جرحاً نفسياً لم تكن آلته السكين ولا الموس، وإنما كانت الكلمات.
الكلمات التي نتواصل ونتعامل بها مع الأولاد حرجة إلى أقصى حد، وذات تأثير بالغ على نظرته إلى نفسه وثقته بها، وعلى صحته العاطفية، وقوته الشخصية، فهناك رابطة لا يمكن أن ننكرها بين الكلمات التي نستعملها مع الأولاد وبين المواقف والنواتج التي تحدثها تلك الكلمات في حياتهم، فالكلمة قد تدعمه وتقويه، وقد تحطمه وتجرحه قد تربيه، وقد تشعره بالعار قد تشجعه، وقد تثبطه قد ترفعه، وقد تضعه فلا يوجد أب على الإطلاق يستيقظ الصباح، ثم يفكر كيف يتآمر على أولاده: كيف أستطيع أن أحطم نفسية ابني، وأطيح بثقته أرضاً، وأجعله يشعر بالتبعية لي والاعتماد علي، وأفقده القدرة على ضبط نفسه.
لا يمكن أن يقصد ذلك أب أو يسعى له مسبقاً، وإنما يفعله بعض الآباء غالباً وبدون قصد؛ لأنهم لا يفهمون الانطباع الكلي الذي تطبعه كلماتهم في أبنائهم.(15/28)
المثال الأول على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً
المثال الأول: إذا لم تتوقف عن هذا الضجيج سوف أمضي وأتركك هنا.
هذه كلمة عابرة جداً.
أما التخويف بالغيلان والجن فهذا كلام الآباء الإرهابيين.
والطفل الصغير أخوف ما يخافه، وأسوأ شيء يؤثر على نفسيته: أن يترك وحيداً غير آمن، وإحساس الطفل بالأمان ليس محل نقاش، فالمصيبة التي يفعلها بعض الآباء الجهلة: أنه يطرد الولد من البيت، وهذا شيء عجيب جداً، والمصيبة الأكبر: أنه لم يطرده بسبب سرقة أو كذا أو كذا، وإنما يهدد ابنه بالطرد من البيت، أو بأنه سوف يطلق أمه أو غير هذه المسالك المدمرة؛ من أجل أن يفرض رأيه عليه، ولما كان فاسداً وغير ملتزم ما كان يبالي بما يفعل من صلاح أو فساد، لكن لما التزم بدين الله سبحانه وتعالى إذا به تأتيه هذه الأشياء.
الشاهد: أن تهديد الطفل بالعزف على وتر: سوف أتركك وأذهب، يعتبر وسيلة للتلاعب بهذا الطفل، ودفعه إلى السلوك الذي نحن نريده بهذه الطريقة نية حسنة، لكن الوسيلة التي وصلنا إليها تدل على أن هذا الأب في غاية الجهل والأذية لابنه.
ما البديل؟ نحن نريد أن يقوم سلوكه، لا تقل له: يا فلان إذا أصررت على هذا السلوك فسأتركك، ولكن قل له: إذا أصررت فسوف نعود إلى البيت، لكن إذا اخترت أنك تتكلم بصورة سليمة وطبيعية سنبقى هنا، ونكمل الشراء، وأنت الذي تقرر! هذا هو المسلك الصحيح.
والفرق بينهما: أن الطريقة الأولى تدمره؛ لأنها تشعره بعدم الأمان، لكن السلوك الصحيح هو أن تناديه باسمه: يا فلان! إذا أصررت على هذا التصرف سنرجع إلى البيت كلنا، ولكن إن تراجعت عن هذا فلن نرجع، وسنكمل شراء الحاجيات.
فبهذه الطريقة أنت تقوده إلى الاختيار، ولأنه يريد الشوكلاته واللعبة سوف ينصاع لكلامك.
بديل آخر: أن تتوقف وتستريح؛ لأن ربما كل واحد منكم يحتاج إلى هذه الراحة.(15/29)
المثال الثاني على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً
المثال الثاني: الولد أخطأ وأتى ليعترف، فتقول له: أنت المفروض تخجل من نفسك، وأيضاً أتيت لتخبرني.
فهذه النوعية من الكلام تخلق فيه الشعور بالذنب؛ لأنك تظن أنه لم يشعر بالذنب وسيخجل ويتوقف عن هذا السلوك.
صحيح هذا المسلك قد ينفذ لنا الغاية التي نريدها، وهي إشعاره بالذنب حتى لا يكرر هذا السلوك، ولكن الذي يدفع الثمن هو أنه تترسخ فيه اعتقادات جوهرية تزرع في نفسه عن طريق هذه الكلمة: (المفروض تخجل من نفسك!) فأنت تزرع فيه أن يقول: أنا مخطئ، وغير كفؤ، وعاجز، ولا أقدر أن أقوم بأي شيء بنجاح، وكل من تربى بهذه الطريقة يقول لك: لا أقدر أن أعمل، ودائماً يهرب من أن يتحمل المسئولية، ويحكم على نفسه مسبقاً بالفشل؛ لأنه تعود على أن يعامل بأنه غير كفؤ، وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً؛ لأننا عاملناه بالسلوك الذي يشعره بالذنب؛ فإذا شعر بالخجل فسوف يجلب له ذلك مزيداً من الخجل، فإذا حصل له مزيد من الخجل فمعناه أنه فاشل أكثر، ويعجز عن أداء المهام، فيظل في دائرة مضطربة لا تتوقف.(15/30)
المثال الثالث على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً
المثال الثالث: كلمة عادية جداً ممكن أن تقولها الأم الجاهلة أمام الصديقات أو القريبات في المجالس النسائية المعروفة: هذا الولد حاولت جهدي أن لا يأتي ولكن قدر الله له أن يولد! هي تتلكم بهذا في مجلس دردشة، ولا تدري مدى خطر هذه الكلمة على نفسية طفلها؛ فهو يظن أنه زيادة غير مرغوبة، وأن أمه حاولت بكل وسيلة أن تتخلص من إنجابه، ولكن فشلت كل المحاولات في التخلص منه.
الأم لا تعلم أنها تزرع فيه مفاهيم خطيرة، مثلاً: أنت بالذات كنا غير راغبين فيك على الإطلاق، ما كنا نريدك بصورة أو بأخرى، وكأنها تقول لهذا الولد: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما أنجبتك! هذه الجمل لا يمكن أن تغتفر في العملية التربوية، حتى لو كان الطفل ما عمل أي شيء، أو رفع صوته، أو تكلم بطريقة غير صحيحة؛ فإن هذه ردود الأفعال الأبوية غير مناسبة بالكلية؛ لأن من المهم جداً بالنسبة للطفل أن نتقبله كما هو، لا تقل له: كنا نريد بنتاً بدلاً عنك، معنى هذا: أن مجيئه كان ضد رغبتكم، وأنكم كارهون لوجوده.
وهذا التصرف في غاية الخطورة على نفسية الطفل، ولابد من الرضا بقضاء الله، والرضا باختيار الله سبحانه وتعالى، ولا يخفى ما بين الاثنين من البعد.
عبارة أخرى من ضمن هذه العبارات: أن تخاطب الأم الولد: إننا سوف ننفصل وأنت السبب في ذلك! أي: إن أباه سوف يطلق أمه بسببه، وفي الواقع أن الطفل لن يكون هو السبب، ولا يمكن أن نتوقع أن الطفل يتحمل مثل هذه الكلمة، وحتى لو نفينا عنه تماماً أنه السبب فإنه قد يشك في ذلك!(15/31)
المثال الرابع على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً
المثال الرابع: المقارنة بين الأطفال: يا ابني أخوك جيد، وأنت لا تريد أن تكون مثله، لم لا تعمل مثل أخوك، أو مثل أختك؟ فعملية: (لماذا لا تكون مثل أخيك؟ لماذا لا تكوني مثل أختك؟) هذه المقارنة خطيرة جداً، فحينما يعقد الوالدان مقارنة لفظية بين الأشقاء معنى ذلك أن هناك أفعال تفضيل، وأنه يوجد مفضل ومفضل عليه، فالمفضل عليه لا شك أنه سيبدو أنه ناقص، وأنه دون أخيه! فهذه كلمات نقولها لكنها رسالة تترسخ في أعماقه، رسالة ترسلها إليه مضمونها: أنت مهمل.
وذلك إن كنت تمدح الثاني بأنه منظم.
أخوك ذكي وأنت غبي.
أخوك أدق منك أو غير ذلك من الصفات، فهذه الرسائل تستقر داخل نفسه كعقيدة أساسية، وتساهم في إنشاء سلوك غير مرغوب به في المستقبل.
وبعض الناس الجهلة يعقدون مقارنة بين الأخوة مواجهة: أنت ما لك شكلك هكذا وأختك هكذا، أوليست أمكم واحدة؟ وأنا أعتذر من النساء الجاهلات؛ لأن هذه الكلمة ستسمعها الطفلة أو سيسمعها الولد عشرات المرات ما دام الجاهلات كثيرات، والأطفال سوف يشعرون بعدها بالضعف والنقص.
فإذاً: ينبغي أن يكون عندنا وعي، وألا نقع في هذه المقارنات، خاصة وأن الأطفال يكون بينهم تنافس، فلا شك أن هذا الكلام سوف يزيد روح التنافس والخصام بين الأشقاء، وسيزيد نسبة التشاحن بالنسبة للوالدين، فالمقارنة تدمر العلاقة بين الأشقاء عن طريق تغذية مشاعر الانتقام بين هؤلاء الأولاد، وهذه فيما بعد قد تولد قطيعة الرحم وغير ذلك من هذه الأشياء.
إذاً: ما البديل؟ البديل أن تقبل كل واحد بشخصيته، والله سبحانه وتعالى يميزه بميزة غير موجودة في الثاني، فأنت تسلط الضوء على الميزة التي أعطاه الله إياها: فلان صوته جميل في القرآن، فلان خطه حسن، فلان شكله كذا.
وهكذا، فتركز على الصفة الإيجابية في هذا الابن وتقبل شخصيته كما هي، فإن كل شخص له مواضع قوة خاصة به، وله إمكانات واحتياجات، فلابد أن نساعد الأبناء على أن يشاهدوا جمال تلك الصفات التي ميزهم الله سبحانه وتعالى بها، عن طريق التركيز على كل واحدة على حدة بدون عقد مقارنات بينهم.(15/32)
المثال الخامس على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً
المثال الخامس: الأهل سيذهبون في نزهة، والولد يلبس حذاءه ويتعارك هو والرباط، ويقعد في الأرض، ويأخذ وقتاً كبيراً وهم مستعجلون، فيقول له أحد الأبوين: تعال أنا سأربطها لك هذه المرة.
هذه عبارات نقولها دون أن نشعر بأنها تزرع العجز في نفسية الأولاد، فلا تحاول ذلك في شيء يستطيع الطفل فعله، ستأتي فترة من الفترات يزرع الله سبحانه وتعالى فيها في هذا الطفل محاولة أن يستقل بعمله، وذلك يبدأ في أواخر السنة الثانية، فهو يحاول أن ينمو، ولابد أن يتمرن ويخطئ، فمثلاً يريد أن يأكل بالملعقة بنفسه، أو يشرب من الكوب بنفسه، وأنت تقول له: ستتسخ ثيابك، أو سيقع الكوب على الأرض.
وهذا إحباط له؛ لأن الفطرة تكلفه أن يتمرن على الاعتماد على نفسه في أداء بعض الوظائف، فيتحمل الخسارة بأن تتقذر ثيابه، أو يقع على الأرض بعض الرز أو العصير؛ لأن هذا له فائدة كبيرة ستحصل بأن ينمو، ولابد له لكي ينجز هذه المهام أن يتمرن عليها بنفسه في الأول بالمساعدة، ثم بعد ذلك يستقل بها، فتنمي فيه هذه النزعة الاستقلالية ولا تشعره بالعجز، واتركه ما دام يحرص على هذه الاستقلالية، ولا تعطه ما يكون سبباً في تخاذله، وفي أن ينظر إلى نفسه دائماً على أنه عاجز وغير قادر وضعيف.
فإذا قلت: بأنك سوف تعمل له الوظيفة التي من المفروض أن يعملها هو مثل لبس الحذاء مرة أو مرتين، فقد اتبعت نموذج التعجيز، ولو ساعدته مرة ثالثة فقد أوجبت هذه الكوابيس الجديدة؛ لأنه سيتعود الاعتماد عليك في هذا الموضوع إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى.
من هذه العبارات الخطيرة: أنه عندما يتناقش مع أمه أو أبيه، قد يسأل عن السبب فيكون الرد: لأن هذا ما قلته لك! فهذه ألفاظ تقال ببساطة لكنها رسالة للطفل، مضمونها: أنا كبير وأنت صغير، أنا ذكي وأنت بليد، أنا قوي وأنت عاجز، وظيفتي أن آمرك ووظيفتك أن تطيع وتنفذ، وهذا ينشئ عند الطفل استياء وصراعاً داخلياً.
وبدلاً عن هذا عامله بطريقة فيها نوع احترام لشخصيته؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما كان جالساً وبجواره طفل صغير، فشرب وكان الطفل على يمينه، وكان في المجلس أشياخ كبار من أصحابه، فاحترم الرسول صلى الله عليه وسلم حق هذا الطفل وعامله باحترام، وقال: (لو تأذن لي أن أعطي الكبار؟ فقال له: لا أوثر بحظي منك أحداً)؛ لأن الصحابة كانوا يتبركون بشرب سؤر النبي عليه الصلاة والسلام.
وكذلك كانت معاملته بالاحترام عندما كان يقابل الأطفال ويسلم عليهم، وكان الطفل يأخذه ويمشي به حتى يقضي حاجته.
فالشاهد: عامل طفلك باحترام، ولا تعوده على أن يهان، وأن تهدر كرامته.
خلاصة الكلام: أن اللغة لها تأثير كبير جداً، والكلمات التي ننتقيها في التعامل مع الابن لابد أن تكون بناءة لا هدامة، مثلاً: موضوع ثقته بنفسه لا تقل له: طول عمرك خائف.
أنت لا فائدة منك.
ولن تتغير.
لأن هذا كله تحطيم، وليست هذه وظيفة الأب؛ لأن هذا يدمر ابنه ويفقده ثقته بنفسه، ويزرع فيه الفشل والعجز والهوان.(15/33)
بعض الأخطاء الشائعة في التعامل مع الأطفال
نمر مروراً سريعاً على بعض الأخطاء التي تشيع لنختم بها الكلام.
الإرضاع: الأم التي تتعامل بآلية وميكانيكية مع عملية الإرضاع، فلا تضم الطفل إليها ولا تربت عليه ولا كذا وكذا، والله سبحانه وتعالى قد فطر الأم على أن تعطي وجبة الحب والحنان مع وجبة الطعام للطفل.(15/34)
الكذب على الطفل
من هذه الأخطاء: الكذب على الطفل: الطفل لا ينساها، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام ما فاته هذا التنبيه، لما كانت المرأة تقول للطفل: (تعال أعطيك فاكهة، فقال: ماذا ستعطيه؟ قالت: أعطيه تمراً، قال: أما إنك لو لم تعطه لكتبت عليك كذبة)، فهي كذبة حتى مع الطفل الصغير، فينبغي الاحتراز من الكذب؛ لأن هذا له تأثير في فقد الثقة، كما أنك تعطيه نموذجاً يقتدي به في سلوكياته.
لما يطرق الباب طارق فيقول له الأب: قل له: أبي غير موجود، فالولد يقول له: أبي يقول لك: هو غير موجود! فهذا أنموذج للتحطيم، حتى حال استعمال التعريض قد يدمر الولد؛ لأنه لن ينتبه أن هذا تعريض، فلا تدفع الثمن بأن يتعلم ابنك الكذب؛ لأن أهم صفة على الإطلاق، لو أردنا اختصار كل هذه المحاضرة في كلمة واحدة هي: علمه الصدق، والدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
فهذه عملية تدريب، أنت تقدم له النموذج وسوف يحتذي بك، وأنت أول واحد سيكذب عليه إذا أنت علمته هذا الكذب.
مثلاً: الأم تقول له: اشرب الدواء، وتصفه بأنه حلو، فيجده مراً! فمن ثم سيفقد الثقة في أمه، ولن يصدقها بعد ذلك.
مُدرِّسة تقول للأولاد: ذاكروا، عندكم امتحان في يوم كذا، ثم يأتي هذا اليوم، فتقول: أنا كنت أضحك عليكم، وكنت أريد أن تذاكروا فقط.
وهي لا تدرك أن هذا أنموذج مدمر لسلوكهم، والكذب شيء ينبغي أن يكون أمامه حاجز قوي جداً.
أيضاً أخصائي اجتماعي يدخل إلى الصف فيقول: من آخر واحد على الفصل؟ من آخر واحد في الترتيب؟ وهذه المسالك كثيرة أيضاً.(15/35)
التهديد بالطرد أو البغض له
أمر مهم جداً ينبغي الحذر منه في التعامل مع الأطفال، يقول: لو عملت كذا لن أحبك.
وهذا أخطر ما يكون، لأن موضوع الحب مما ينبغي أن يكون فيه تأمين؛ لأن الطفل يصبح عنده شعور بالأمان عندما يشعر أن أباه وأمه يحبانه لا لشيء إلا لأنه ابنهما، فلابد من تأمين الشعور بالحب، ولا تستعمل الحب أبداً للتهديد.
لذلك نجد أن الطفل يخاف جداً على موضوع الحب، فإذا وجدك غضبان -حتى ولو من أمر آخر- يقول لك: هل تحبني؟ لأنه ينزعج عندما يرى غضبك ويخاف ويشفق أن يؤثر ذلك على حبك له؛ لأن الحب كالأمان بالضبط، والإحساس بالأمان شيء أساسي في الأسرة.
ومن ذلك طرد الولد من البيت، أو تهديده بالطرد من البيت، طفل صغير يبلغ من العمر سنوات معدودات يطرد من البيت، فيلتقطه في الشارع أصحاب المخدرات، أو يتعرض لحادثة مثلاً.
فهذا أمر في غاية الخطورة، والطرد غير وارد على الإطلاق، ولا ينبغي أن يذكر أبداً.
كذلك موضوع الحب يقول عنه الدكتور محمد كمال الشريف: لاحظ العلماء أن بعض الأطفال يعيشون في قلق دائم، نتيجة إحساسهم أن والديهم لا يحبونهم إلا إذا كانوا متفوقين في دراستهم ومطيعين ومهذبين، فصار الطفل يحرص على المثابرة في المدرسة، وعلى تنفيذ أوامر والديه، خشية أن يفقد حبهما، وهما بالنسبة له كل شيء، وكيف له أن يعيش دون حبهما؟ الوضع الصحيح المتوازن هو: أن نفصل بين الحب وبين التأديب للأطفال، فلا نعاقبهم إن أخطئوا بتهديدهم بأننا لن نحبهم بعد الآن، أو بسحب حبنا لهم فعلاً، بل نعاقبهم إن هم أخطئوا، ونطمئنهم في الوقت نفسه إلى أننا ما زلنا نحبهم، وإن كنا سنحبهم أكثر لو كانوا مستقيمين مهذبين، وأننا لا نكرههم الآن إنما نحن غير راضين عما فعلوا.
فلابد أن نشعر الأطفال أن التأديب هو مظهر من مظاهر الاهتمام بهم، وليس مظهراً للكراهية، أو لأنهم خيبوا آمالنا، وتسببوا لنا في الإحباط.
فهذا أيضاً أمر مهم جداً، وهو عدم استعمال سلاح الحب لتهديد الأطفال، يعني: لا تقل له: أنا لن أحبك إذا عملت كذا، لكن قل: أنا أحبك لكن لا أحب هذا التصرف.(15/36)
التخويف بالغيلان والوحوش
من هذه المظاهر والسلوكيات التي نعملها ولا نلتفت إلى أنها تصنع المشاكل: موضوع الخوف أو الرعب: فالأم مثلاً رأت صرصوراً فقامت تصرخ وتصعد فوق السرير أو فوق الكراسي وتجمع الناس؛ لأنها رأته! هذا نموذج عملي، والطفل إنما يتعلم منها الخوف مما تخاف هي منه.
مثلاً أول ما يقترب من النار ننادي عليه بسرعة: انتبه سوف تحرقك، فإذاً: يتعلم أن يخاف من النار، لكن أن يرى الحشرة ويرى أمه تفزع منها هذا الفزع، فهذه حالة غير مرضية -والله المستعان- فموضوع الخوف من الحشرات بهذه الطريقة الفظيعة ستنتقل تلقائياً إلى الطفل، ويقلد نفس هذا المسلك، فالمفروض أن هذه الأم تحتاج إلى علاج.
ومن الخوف المبالغ فيه: الظلام، أو التخويف من الظلمة، سوف أتركك في الغرفة، سأحبسك في الغرفة المظلمة التي فيها الفئران، والتي فيها كذا، كما يصنع في بعض المدارس أحياناً للأسف، أو الغول، أو أن الأم تحكي للطفل قبل النوم قصة مرعبة لكي تخوفه وينام، أو تهدده بالوحوش أو الغول، فهذا أمر مهم جداً، موضوع الخوف يجب أن تعالج الأم منه لكي لا ينعكس على الأطفال.(15/37)
الفطام الرضاعي والفطام النفسي
أيضاً هذه مشكلة شائعة، وعندما تبدأ تدرس حالة نفسية لرجل كبير تقول له: كيف تم الفطام؟ لأن موضوع الفطام الشائع الآن في مجتمعنا للأسف الشديد يجري بطريقة مؤلمة.
الفطام باختصار شديد لا يبدأ بعد سنة أو سنتين، لكن يبدأ منذ الشهور الأولى من الإرضاع، بمعنى أنه لابد أن يكون بطريقة متدرجة، فتبدأ الأم تعطيه بجانب الرضاع الطبيعي وجبات معينة معروفة بطريقة معينة تدريجية، بحيث إنه وقت الفطام يكون قد قل عدد مرات الرضاع، وفي نفس الوقت يستغني عن الرضاع الطبيعي، ولا تشكل له مشكلة حياته، لكن المصيبة كلها في الفطام المفاجئ، وهذه تسبب أزمة نفسية حادة بالنسبة للطفل، وتعتبر إساءة بالغة للطفل، والأشد إساءة من ذلك: الطريقة الوحشية التي يستعملها البعض حينما يضعون نبات الصبار البالغ المرارة في الموضع الذي يرضع منه، لكي يصطدم الصبي صدمة نفسية قاسية تمنعه من أن يرضع لأنه سيكره هذا الفعل، وهذا تصرف بدائي ومتخلف وفي غاية الأذية للطفل، يسبب له صدمة شديدة، والطفل ينفعل بهذه الأشياء، ولا أريد أن أطيل في هذه القضية حتى لا نخرج عن الموضوع.
الفطام النفسي من المفروض أن يحصل للكبار؛ وهذه أيضاً من المشاكل، فالأب والأم لابد أن يحذرا من النظرة الدائمة إلى الطفل على أنه صغير، وهذه نظرة خطيرة كنا نستخدمها في المجتمع من غير أن نلتفت إلى ضررها؛ فمن رأى طفلاً في الابتدائي أو قبل الابتدائي تظل تلك الصورة مرتسمة في ذهنه فلا يريد أن يعترف بأنه الآن قد صار رجلاً، ودائماً يصطحب هذه الصورة ولا يريد أن يلغيها من مخيلته، فلابد من الحذر من هذا الطفل، كان رضيعاً ثم ها هو شاب قوي يافع، فلا ينبغي أن تعامله على أنه طفل، وهذه مشكلة توجد في كثير من التعاملات الخاصة بين الوالدين، وبالتالي هذه أذية له؛ لأنهم لا يساعدونه على النمو الطبيعي حيث الشعور بالمسئولية والاستقلال.
فالفطام النفسي بمعنى: أنه لا يحصل له الاستقلال الوجداني عن الآخرين، ويشعر أنه أسير لإرادة الأبوين، فلا يستطيع أن يوجه عواطفه، أو يأخذ قراراته، أو يستقل عن الآخرين، وهذه قد تكون أكثر ظهوراً مع الأم، حيث تحدث عملية اندماج وجداني وعاطفي يؤثر على الأولاد.
فعملية التعلق الشديد بالأولاد خاصة من جهة الأمهات، وكأنهم في سنة أولى في المدرسة، فتذهب معهم إلى لجنة الثانوية العامة، وتتابع الخطوات معهم، وتصحبهم من البيت إلى باب المدرسة، وتقف أمام باب المدرسة تبكي وكأن ابنها مازال طفلاً لا يمكنه أن يذهب بنفسه إلى الامتحان ويصمد في اللجنة.
ما هذه الطفولة؟ ما هذه الحماية الزائدة؟ أصبح رجلاً ويدرس في الجامعة ولا زالت تمشي معه لكي توصله إلى اللجنة، ثم تقف حتى ينتهي.
هذا سيؤثر على نفسية الشاب الذي دخل الامتحان.
أو مثلاً يريد أن يعبر الشارع فيأخذ بيده لكي يعبره، ويكون ابنه قد بلغ عشرين سنة أو أكثر.
هذه حماية زائدة، وهذا خطأ في التربية، وهذا مما يعكس عدم الثقة به، ويمدد فترة الطفولة بالنسبة لهذا الشاب.
فالأم تظل علاقتها بالابن أو البنت وكأنه يرضع، هذا معنى الفطام النفسي، لا تريد أن تنفطم عنه وتعترف بأنه قد أصبح له كيان مستقل، وهذه تأخذ تفاصيل كثيرة، بالذات بعد ما يتزوج الابن وتحصل بعدها عملية الفطام النفسي، وتسبب له مشاكل كثيرة، مثلاً: التدخل في تفاصيل الحياة، وطلب تقرير مفصل عن كل تصرفات هذا الرضيع الذي لم يفطم حتى الآن فطاماً نفسياً، فالتدخل في أخص الخصوصيات، والتقارير مستمرة عن كل تصرفاته، ولا يزال التصرف هو نفسه جارياً وحتى الآن منذ كان طفلاً رضيعاً.
صورة أخرى من مظاهر انعدام الفطام النفسي: الإغداق على الابن بالأموال الطائلة في سبيل أن يرضيه، فهذا أيضاً من مظاهر التعلق المرضي.
ومن مظاهر عدم التمتع بالفطام النفسي عند الوالدين: أن هذا الحب الشديد لو انقلب لكراهية يأتي بأمور لا تحمد عقباها.
عدم الفطام النفسي بالنسبة للوالدين أو بالنسبة للولد نفسه يجعله يمشي بشخصية اعتمادية على الآخرين، ودائماً لا يقدر أن يتحمل مسئولية نفسه، وهذا غالباً ينتج عنه الفشل في الزواج؛ لأنه لم يصعد إلى مستوى الفطام النفسي، فهو لا يشعر أنه انفصل عن البيت الذي خرج منه، ويولد أيضاً مشاكل أخرى في العلاقة الزوجية تحصل نتيجة عدم الفطام النفسي.
ومن المظاهر: التوقف عن اتخاذ أي قرار لانعدامية الاستقلال الذهني أو الوجداني، لابد أن تكون نتيجة هذه التربية الخاطئة هكذا.
أيضاً: سهل جداً عليه أن ينخدع بالكبار؛ لأنه دائماً تعود الاعتماد عليهم، وألا يأخذ القرارات بدونهم؛ فالبتالي ممكن أن يسرق بسهولة من قبل النصابين والمحتالين وغيرهم.
خلاصة الكلام: أنه حتى يحرز الوالدان الفطام النفسي لابد أن يقفا على الفروق لمراحل العمر المختلفة، وكل مرحلة لها خصائصها، فينبغي أن يخف هذا التعلق كلما تقدم الابن في النمو، ويبدأ الأب والأم بنفسيهما فإذا انفطموا هم عن هذا الولد، فلابد أن يفهم هو أيضاً أن الحب الحقيقي للولد هو أن يصنع منه رجلاً يستطيع أن يأخذ قراراته ويتمتع بحرية الاختيار.(15/38)
بعض مظاهر الخلل في التربية العملية
هناك العديد من مظاهر الخلل في التربية لذا سنذكر بعضها فيما يتعلق بمعاملة الآباء للأبناء.(15/39)
التفرقة بين الأولاد
خاصة بين البنات والذكور، وهذا موجود للأسف الشديد، قال الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (اعدلوا بين أولادكم، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء).(15/40)
حرمان الطفل من الترفيه واللعب
اللعب بالنسبة لك أنت لعب، لكنه بالنسبة للطفل عمل، وهو أمر مهم جداً، وقد أصبح الآن علماً وفناً ووسيلة علاجية وتشخيصية.
فاللعب بالنسبة للطفل أمر مهم جداً، ويجب أن يتم بطريقة علمية مدروسة، إذ كل سن له أشياء تعلمه خبرات في الحياة والفكر والتفكير، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يأتي إلى عائشة وهي تلعب بالعرائس فيتركها تلعب بها؛ لأن هذه تربية مبكرة على فطرة الأمومة، ومن أجل ذلك رخص لهن في لعب البنات، وهذا موضوع سنفصله إن شاء الله فيما بعد.(15/41)
الإلحاح على الترهيب
من الخلل أن تكلم الطفل الصغير، ويدور كل الكلام على أن الله إن عصيته سينتقم منك، ويقطع يديك، ويدخلك النار، والنار فيها ملائكة تعذب بكذا، وفيها كذا إلخ.
فهذا هو الإلحاح على الترهيب: أنت إذا كذبت ستدخل النار.
وهذا غير صحيح؛ لأنه غير مكلف أصلاً: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: وعن الصبي حتى يحتلم).
إذاً: أنت تكذب عليه؛ فلا داعي للإلحاح على موضوع الترهيب بهذه الطريقة، وهو سيستوعبها بطرق أخرى، فإذا حضر معك في مجلس العلم أو الدرس أو قراءة كتاب، فسيعرف أن الذي يكذب عاقبته كذا وكذا، فلا تقل له: أنت ستدخل النار أو ربنا سيعذبك، بل اجعل التركيز على حب الله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى جدير بأن يحب لاتصافه بصفات الكمال والجلال والجمال ولما يغدقه علينا من النعم، وهكذا؛ لأن الطفل لو عمل عملاً صالحاً بنية فإنه يثاب عليه، لكن إذا عمل المخالفات لا يعاقب عليها.(15/42)
القسوة الصارمة
يقسو بعض الآباء قسوة صارمة وشديدة، ومن الأمهات من تسخن ملعقة وتعاقب الطفل بالإحراق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو يضرب الأب مثلاً ابنه حتى يصيبه العمى، فيكون هذا الطفل حاقداً عنيداً طول عمره، لأنه تسبب في عماه، أو يضرب ابنه حتى يبتر يديه بعد أن يربطهما بحبل شديد.
كل مشاكلنا تبدأ حينما نجعل عقولنا مثل عقول الأطفال.
عليك أن تعلم أنه طفل وأنت رجل عاقل، وما أحسن العبارة التي عنون بها أحد الأخصائيين الصينيين في كتاب اسمه: (طفلك ليس أنت)، فلابد أن تراعي التفاوت في العقل بينك وبين هذا الطفل.
والراجح أن الضرب عقوبة للتأديب؛ فهو دواء، ولهذا الدواء شروط؛ إذ معنى الدواء: ما كان سيأتي بالنتيجة المطلوبة.
وأكثر الآباء ينظر للضرب على أنه وسيلة لتفريغ شحنة الغضب المتراكمة في قلبه، فيستمر في الضرب حتى يخرج كل ما بداخله من شحنة الغضب، وهذا عدوان صارخ على حرمة الطفل.
إن قيام الأب القوي المتين بأن يضرب طفلاً غضاً طرياً حتى يكسر عظمه، ثم يذهب به إلى المستشفى للعلاج، يعد من الوحشية؟ ثم يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اضربوهم لكذا وكذا.
والضرب حتى وإن كان مشروعاً؛ لكن لابد أن نفهم أن الضرب ليس مقصوداً به الانتقام من الطفل، بل تأديبه والإحسان إليه، وليس المقصود منه تفريغ شحنة الغضب حتى لا يتوقف الضرب إلا بعد فراغها، فالأب الذي يفعل هذا ظالم معتدٍ، مخالف للشرع الشريف.
فالضرب وسيلة تأديبية بشروطها.(15/43)
الدعاء على الأولاد
فالأم تدعو: الله يبتليك بسيارة تصدمك ونحوها من هذه الدعوات التي تدعو بها بعض النساء على الأولاد! وهذا فيه مخالفة صريحة لنهي النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، لعلها أن تصيب ساعة إجابة فيستجاب لكم) أي: فيندم الإنسان بعد ذلك: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11] وبعض الآباء عندما يختلف مع طفله يتمنى أنه يموت، وكأنه ليس له حق في الحياة، أليست هذه روحاً محترمة لها حرمة ولها حق في الحياة؟ هل ترضى أنت لنفسك أن يدعو عليك أحد بحرمان هذا الحق، أو يقتلك كي يحرمك منه؟ فهذا الطفل له حق في الحياة مثلك تماماً، بل هو أحوج إلى الحياة منك؛ لأنك أخذت فرصة، أما هو فمقبل على الحياة، فكيف تدعو عليه بالموت؟ جاء رجل إلى ابن المبارك يشكو إليه عقوق ولده، فقال له: هل دعوت عليه أم لا؟ فأجاب بأنه قد دعا عليه، فقال: أنت أفسدته بالدعاء عليه.(15/44)
التربية بالثواب والعقاب
هناك التربية بالثواب والتربية بالعقاب، أو التأديب بالعقاب، ولكي نختصر ذلك نقول: إن الإنسان عندما يكافئ الولد على شيء حسن لابد أن تكون المكافأة في الحال وليست مؤجلة.
كذلك العقوبة: إذا أخطأ فلابد أن تكون هناك عقوبة فورية ولا تكون مؤجلة.(15/45)
ضرورة توحيد السياسة التربوية
أمر آخر من الأمور التي نريد أن نلفت النظر إليها: تشاجر الوالدين أمام الأطفال، لا يجوز أبداً ولا ينبغي أن يختصم الأب والأم أمام الأولاد مهما كان الداعي، فلا من التوفيق وتوحيد السياسة التربوية بين الأب والأم، لأن الأطفال قد يفسدون بسبب التصادم التربوي.
بعض الآباء يحزبون الأولاد في البيت، فهذا تبع الأم وهذا تبع الأب، والولد يلعب على الحبلين.
هذا تدمير للأولاد، ولو أن هذين الأبوين عاقلان لما أظهرا أي اختلاف أمام الأبناء، فعلى الأم أن تعطي الأب مكانة لها احترام، وتحافظ على هيبة الأب، ولا تعمل أي تصرف فيه خدش لهذه الهيبة، وتخوفهم بأبيهم: إذا فعلت كذا سأخبر أباك بما صنعت.
والكثير من المشكلات والأمراض النفسية تنشأ بسبب الأم المسترجلة التي تريد أن تفرض كلمتها، ولا تريد أن تخضع لزوجها أبداً، فهذه الأم المسترجلة تشقى ويشقى أولادها.
ويعتبر الغرب تشاجر الأبوين أمام الطفل نوعاً من الإساءة تستدعي القبض عليهما، وإيداعهما في المصحة النفسية للتأديب والتهذيب والإصلاح الحقيقي، وإذا تكرر هذا السلوك أخذ منهما الطفل ليربى في مؤسسة تابعة للدولة ليصبح ابن الدولة.
انظر كيف انتبهوا إلى هذا الموضوع، حتى وصل بهم الأمر إلى اعتبار أن رفع صوت الأبوين أمام الطفل يعتبر انتهاكاً لحق الطفل في الاستقرار النفسي.
الصراع بين الأبوين في غاية الخطورة على الطفل، وإياكم أن تظنوا أن الطفل لا يدرك، بل هو يدرك جيداً كل ما يحصل ويترجمه ويختزنه، ويهدد شعوره بالاستقرار، ولذلك يقول علماء النفس: إن الطفل الذي تطلق أمه وتنفصل عن أبيه حالته أقل تعرضاً للخطر من الطفل الذي يعيش مع الأبوين وهما في حالة شجار دائم؛ لأنه في حالة الطلاق سيصطدم مرة واحدة، ويتكيف بعد ذلك مع الحياة الجديدة، لكنه في الحالة الأخرى لن يشعر بوجود الاستقرار ولا بسلام نفسي.
يقول الدكتور محمد خليل موضحاً لهذه الجزئية: والطفل يترجم ما يدور حوله ترجمة صادقة دون تحريف أو تزييف، وقد يخطئ الآباء والأمهات في تقدير سلوكيات الطفل لصغر سنه، فلا يتورعون عن النقاش الحاد والجدل ورفع الصوت أثناء مناقشة مشاكلهم، وغاب عنهم أن هذا كله يصل إلى الطفل بمفهوم عاطفي، ويترجم النقاش والجدل والحدة عندما تصل إلى سمعه على أنها رياح قطيعة أو بذور خلاف، ويتأكد ذلك لو أحس ببرود العلاقة بين أبيه وأمه.
أي أن هذه المشاعر تصل إلى الطفل بشفرتها العاطفية النفسية، خصوصاً إذا صاحب ذلك اختلاف واضح في معاملة الأم، أو قلة اهتمامها بالأب، أو انصرافها عنه، حتى لو كان ذلك بتغير في نبرات صوتها أو في حرارة حديثها، فهذه التغيرات قد لا تشعر بها الأم، ولكن الطفل يقيسها بترمومتر عاطفي حساس لا يخطئ، فيطوي نفسه على الألم والحسرة، وتقل اهتماماته، ويفقد شهيته، وقد يلفظ ما في جوفه تعبيراً عن رفضه لما حدث.
فإذا تكررت المواقف فإن الأعراض تنتهي إلى الأسوأ، فربما تصل إلى الانطواء والخجل والتردد والتلعثم أو التبول اللاإداري؛ إنها رموز مرضية توضح تأثر الطفل بالخلافات لو استمرت بين الأزواج، وكأن الطفل بما يحدث له من أعراض يقول بمفهومه العاطفي النفسي: لا للخصام بين الأزواج لا للقطيعة بينهم.
فإذاً لابد أن يكون هناك اتفاق على سياسية تربوية بين الأبوين، فإن كانوا سيختلفون فبصوت منخفض لا يسمعه الأطفال، أو في مكان منعزل، ولا يوجد تعارض في الأوامر بين الأب والأم.
وكما أشرت إلى موضوع تحزيب الأولاد إذا كبروا قليلاً، حيث تبدأ الأم بذلك، فهذا لا ينبغي حتى لو انفصل الأبوان، لأن من المفروض ألا تحدث إثارة حقد في نفس الطفل على أبيه، ولا ينبغي إدخال الطفل في صراعات بين الأبوين، ولا أن تتعمد الأم هدم احترام الأب أمام الأولاد، ففي غيابه مثلاً تسخر منه، أو تجرئهم عليه.
هذا كله تحطيم للأولاد أنفسهم قبل أن يكون تحطيماً لغيرهم.(15/46)
موضوع الجهل بصحة الطفل
الجهل بصحة الطفل، والمحافظة عليه من الأخطار التي تنشأ نتيجة الجهل، وقد تمس العقيدة أحياناً.
أعني أن الطفل عندما يصاب بالتهاب الغدد يأتون بصليب، ويضعون عليه الرماد الأسود حتى يشفى والعياذ بالله.
وهذا التصرف في غاية الخطورة، وهي مسألة تمس العقيدة، فهم يظنون أن الكفر يكون شفاء، وليس مناسباً نحن نخوض في مثل هذا.
كما أن الأم بعدما تلد تفرز من صدرها شيئاً يسمى في العربية: اللبأ، وهو سائل شفاف، وهو هدية من الله سبحانه وتعالى إلى هذا الطفل يحتوي على كمية من المضادات الحيوية وأجسام المناعة وفيتمينات وبروتينات عالية جداً لحماية الطفل، فالأم الجاهلة تهدره أو ترميه، وهذا حرمان للطفل من سلاح طبيعي يعطيه الله إياه وقد منَّ الله علينا الآن بالعلوم الحديثة والتطعيمات واللقاح لحماية الطفل، والأم الجاهلة تغير تاريخ الميلاد أسبوعين أو ثلاثة خوفاً من أن يشرحوا جلده بالحقن أو نحو هذا، فشفقة عليه تمنع التطعيم، والتطعيم من مصلحته، وممكن أن يحصل له مرض شديد في هذه الفترة نتيجة عدم المناعة، أي: نتيجة الجهل.
فهو الوالد يفهم أحسن من الأطباء، وسيمنعه من الأطباء الوحوش حتى لا يوخز من قبلهم بالمشرط والإبرة.
ومن ذلك: إذا أصيب الطفل بالتهاب في اللوز، يقال له: ابلع بيضة مسلوقة! وكأنه ثعبان سيبلع بيضة! ومنذ مدة قريبة وجد شاب صغير كان عنده التهاب في اللوز، فقال له جاهل من أمثال هؤلاء الأمهات الجاهلات: ابلع بيضة مسلوقة فبلعها، فوقفت في صدره حتى اختنق ومات! وهذه جريمة قتل بسبب الجهل.
هذه الأشياء ليس هذا وقت الكلام عنها، لكن الموضوع صعب، ونحن نتناوله بصورة شاملة، وحتى لم ندخل بصورة منهجية في قضية واحدة، فكل قضية مما ذكرنا تحتاج لتأصيل علمي في ضوء علوم الشرع الشريف، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام الذي هو خير معلم وخير مرب على الإطلاق، وفي ضوء العلوم الحديثة التي هي مبنية على ملاحظات حسية ودراسات علمية، لا شك أنها في كثير من الأحيان تكون مصيبة.
أرجو أن أكون قد أفلحت في إيصال رسالتي إليكم، وهي: أن نلتفت إلى أهمية محو الأمية التربوية، هذا هو كل ما أريد أن أوصله بهذا الحديث الطويل، فهناك تربية، وهناك منهجية في التربية، وهناك أمية نعاني منها كلنا، وندفع ثمنها باهظاً.(15/47)
الأسئلة(15/48)
علاج تدهور العلاقات بين الزوجين
السؤال
لي زوج يضايقني ويعتدي على حقوقي إلخ، فأرجو أن تجد لي حلاً لذلك؟
الجواب
يبدو أنها صرخة استغاثة من إحدى الأخوات، خلاصتها: يظهر أنها في مشكلة مع زوجها الذي يضايقها، ويجازي الحسنة بالقهر والإذلال وبالقوة والإجبار.
وهذه من المشاكل الاجتماعية؛ لأنها أمور واقعية كلها، وتحتاج إلى توجيه، وأنا لا أحب أن أتناول هذه المشاكل بصورة جزئية؛ لأنها تحتاج إلى شيء من التفصيل، لكن عليها بدعاء الله سبحانه وتعالى أن يصلح حاله.
وأيضاً: هذه الشكوى من هذه الزوجة التي تعاني من زوجها، لابد أن يعترف الزوج رغماً عنه بها؛ لأنها ليست أمة عنده، بل هي آدمي له حقوقه وله حرمته، فإذا كان الزوج يقوم بحق الزوجة، صائناً لها، مراعياً لواجباته نحوها، فليس للأب أو للولي أن يتدخل، لكن إذا حصل خلل ولم يفلح الزوج في حل مشاكله، فمن حقها أن تشتكي إلى ولي أمرها ليتدخل في رفع عنها الظلم.
وبعض الناس يتعامل مع الزوجة على أنها أمة، وبعض الناس يتصور أنه بالزواج أصبحت المرأة شجرة يقتلعها من جذرها من بيت أهلها، ولابد أن تقطع الصلة تماماً بأهلها.
بعض الإخوة عندهم قابلية للتطرف، ولديهم غلو شديد في التعامل، وأنا تكلمت مراراً وتكراراً أن العلاقة بين الزوجين لا تحكمها المعادلات الرياضية؛ إذ ليس الموضوع أن هذه حقوقي وواجباتي وتلك حقوقك وواجباتك، بل التعامل أساساً يبنى على التراحم: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، فمن المعروف الإحسان، ومن أفضل نساء العالمين فاطمة عليها السلام، فلما تزوجت قسمت الأعمال بينها وبين أم علي رضي الله تعالى عنه، فكان عليها وظائف البيت، وأمه لها وظائف خارج البيت، وهي بنت أشرف خلق الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك هل قالت: أنا بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يليق بي هذا؟ فالمفروض أن الأساس في التعامل بين الزوجين هو التسامح والتراحم والتغافر والإحسان.
والرسول الذي هو أشرف خلق الله كان في خدمة أهله، وكان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويخدمهم في البيت، فإذا جاءت الصلاة كأنه لا يعرفهم ولا يعرفونه، تعظيماً لأمر الله! البيت ليس محكمة، ولا قسم شرطة، ولا ثكنة عسكرية يجتمع فيها جندي وضابط وعسكري، بل التراحم والتسامح والتساهل في التعامل، هو الأصل عند التنازع في الحقوق والواجبات.
فنوصي الإخوة بأن يرحموا الأخوات، ويتقوا الله سبحانه وتعالى فيهن، ويراعوا أن المرأة لها تركيباتها العاطفية والنفسية والعقلية المخالفة للرجل، ولها خصائص ينبغي أن تراعى، وأن يرحمها حتى تكون العاقبة إن شاء الله أن يرى ذلك في أولاده فيما بعد.(15/49)
طبيعة الطفل ومراحل نموه
السؤال
كيف يمكن معاملة الأطفال وهم صغار، وفي المراحل المختلفة من أعمارهم، ونأمرهم بالصلاة؟
الجواب
إذا فهمنا طبيعة كل مرحلة من مراحل نمو الطفل نستطيع أن نفهم كيف نوصل له الرسالة التي نريد أن نوصلها إليه بما يطيقه، فالطفل في السنوات الأولى يكون تفكيره متحجراً، فهو تفكير مادي حسي لا يدرك إلا الأمور المحسوسة، وإذا نظرنا إلى الدراسات التربوية الحديثة ونتائجها التي يفرح بها الغرب جداً، ثم تأملنا في هدي النبي عليه الصلاة السلام، فإننا سنجد مظهراً جديداً من مظاهر الإعجاز وصدق النبوة.
فالطفل في المراحل الأولى إلى سن سبع سنين أو قبل ذلك يدرك الأمور بالطريقة الحسية، ولو حدثته عن الجمال والعدل والنزاهة وغيرها من المعاني المجردة التي لم يدركها، لكن يدرك الأمور التي يراها بعينه، يراك تصلي فتجده راكعاً أو ساجداً على الأرض يعمل مثلك من غير أن تكلمه، فهو يتقمص شخصية الأب ويقلده؛ لأنه يتأثر بالأمور الحسية، البنت ترى أمها تستتر من الرجال فتعمل مثلها تماماً، ثم حينما تصلي تضع الحجاب وهكذا.
فالأمور الحسية التي يراها أو يسمعها يدركها، لكن أمور المعاني لا يدركها، فلذلك الصلاة في المراحل الأولى ستلاحظ الطفل إذا كنت تحافظ على الصلاة أمامه سيحاول يقلدك، وبعد سبع سنين يبدأ الإنسان في أمره بالصلاة، حتى يتعود عليها، وبعد ذلك تتابع عليه الأوامر، لكن يربطه بالمسجد من غير قهر أو عقاب، بل نجعل له الصلاة مكافأة، فنقول له: إذا عملت الشيء الفلاني فسوف آخذك معي إلى المسجد، أعني: أن تحببه إلى المسجد.
موضوع الضرب أيضاً يفهمه الناس خطأ: (واضربوهم عليها لعشر) فلنفرض أنه أمره إلى العاشرة، فهل يبدأ بالضرب؟ لا يبدأ بالضرب، وكما قلت: الضرب له شروط سنناقشها بالتفصيل إن شاء الله.(15/50)
كيفية التعامل مع أب يطرد أبناءه
السؤال
أب غير ملتزم يصل به العنف إلى حد الطرد من المنزل بالأسابيع، وعدم قبوله في المنزل مع عدم الكلام، ولا يأكل معه، ويصرح له دائماً بأنه يكرهه، والابن أحياناً يحاول التقرب إلى أبيه فيزيد ذلك من حدة المعاملة، ولسوء معاملته فالابن يفر دائماً من الالتزام؟
الجواب
المفروض أن يذهب هذا الأب لأخصائي نفسي ويأخذ استشارة منه، ولا أريد أن أقول: علاجاً؛ لأن ليس معنى الذهاب والتعامل مع أخصائي نفسي أنه سيعمل لك العلاج مباشرة، وليس معناه أنك مجنون، فهذا من الفهم المتخلف لموضوع الخبرة النفسية.
والمفروض أن أولى من يمارس العلاج النفسي هم الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم أكفأ الناس وأقدرهم عليه، خاصة أنهم يعملون في ضوء الوحي الإلهي بجانب هذه العلوم المرتبة والمنسقة، لكن الواقع أن معظمنا عنده تقصير في هذا الجانب.
أو يذهب إلى طبيب نفسي ملتزم ومتدين، وأضع عشرة خطوط تحت متدين أو ملتزم؛ لأنه يكون ذا خبرة حقيقية في هذه المجالات.
المشكلة في هذا الأب وليس أولاده، فهو محتاج إلى استشارة نفسية، وإلى أن يعترف بأخطائه؛ لأن أول علاج أن نعترف بالخطأ، ومشكلتنا أننا ننكر ذلك دائماً، يظل الأب يضرب ويطرد ثم يتصور أن هذه هي التربية، وأن التربية أن يضرب وتهدر كرامته، وتحطم نفسيته حتى يكون رجلاً.
وهذا تفكير عجيب جداً، فمثل هذه المشاكل الأب محتاج فيها إلى العلاج، ويحتاج إلى أن يذهب إلى أخصائي نفسي للاستشارة النفسية، ويعترف بكل سلوكياته مع أولاده.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(15/51)
منثورات من أطايب الكلام
يمر المرء أثناء قراءته في كتب أهل العلم بحكَم ومواعظ، وحكايات وأشعار ممتلئة بالفوائد، والعجائب، والمواقف النادرة، والعبر الباهرة، وهذا الدرس فيه منثورات من ذلك، وهذه المنثورات تختلف موضوعاتها، وتتفق في أنها من الحكمة والأدب.(16/1)
فضل انتقاء أطايب الكلام
الحمد لله، والصلاة ولاسلام على رسول الله، وبعد: هذا الدرس ليس هو كتاباً نشرحه أو نلخصه، وليس موضوعاً بعينه، ولا تصنيفاً لمؤلف باسمه، وليس مرتباً في أفكاره، وإنما هو بدعة تكون حسنة إن شاء الله، وليست بدعة شرعية مذمومة، وهو في الحقيقة تكرار لما سنه بعض الأئمة مما ينبغي أن نقتدي بهم فيه، وهو أن يتشبه الإنسان بمن يغوص في أعماق البحار ويستخرج اللآلئ والأشياء الثمينة، أو من يطوف في بستان ويقتطف من الثمار أفضلها وأنضجها وأنفعها، فيجمعها ويقدمها لإخوانه وأحبائه.
وهذا المعنى عبر عنه بعض السلف بقوله: لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا يوماً واحداً: ظمأ الهواجر -الصيام في الأيام الحارة-، وقيام الليالي الباردة، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر.
فكان من سنة السلف أنهم ينتقون النصائح التي تؤثر في القلوب أكثر من غيرها، وقد تعودت منذ سنوات طويلة أني متى وقفت على فائدة في أي موضوع من الموضوعات، فإني أدونها في قصاصة وأجعلها في صندوق خاص بالفوائد.
نحن معشر البشر نشترك في الإحساس بالمعاني، ولكن قد لا نوفق جميعاً إلى المستوى الأدبي الراقي أو البديع الذي يعبر عن هذه المعاني ويصوغها في هذه العبارات كسمط اللآلئ المنظومة.
وأنا أنصح جميع الإخوة أن يكون لهم مثل هذا الصندوق يضعون فيه قصاصات، فأي فائدة من حديث عبرة كلمة طيبة تحب أن تحفظها كي تتمثلها وتنتفع بها تلقيها فيه، ثم تدونها بعد ذلك في كراسة إن تيسر لك ذلك.
فهي أفكار غير مرتبة كما ذكرنا لكن إن شاء الله يكون فيها نفع.(16/2)
القصص عبرة
هذه قصاصة فيها قول بعض العلماء: الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه، قال: وشاهده قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120].
هذه إشارة إلى فائدة الحكايات والقصص الحق الذي ليس بكذب، مثل قصص القرآن الكريم والقصص الذي جاء في السيرة النبوية، فهذه الحكايات هي جنود من جنود الله سبحانه وتعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه.
ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم.
أي: فمن خلالها نعرف نطالع آداب السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وشاهد هذا قوله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، كيف نقتدي بهم إن لم نطلع على آدابهم؟ وقوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111].
وقال سفيان بن عيينة: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.
وقال أبو محمد التيمي كأنه يشير إلى أدب يناسب ذكر الصالحين، وهذا الأدب ينبغي أن يحفظه كل طالب علم مع شيخه ومؤدبه ومن يستفيد منه حتى من اللاحقين، يقول: يقبح بكم أن تستفيدوا منا ثم تذكرونا ولا تترحموا علينا.
أي: يقبح أن تستفيدوا من دروس العلماء ونصائحهم أو من كتبهم التي صنفوها، ثم تقولوا: قال الإمام فلان؛ دون أن تقولوا: رحمه الله، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فقابل ذلك بالدعاء له برحمة الله تبارك وتعالى.(16/3)
مقياس المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم
هنا فتوى فيها إشارة إلى معنى عظيم جداً، وأنا لما قرأت هذه الكلمة دعوت لهذا الإمام الذي أفتى بهذه الفتوى، وقلت: فرج الله عنك؛ كما دعا له من أجاب هو سؤالهم، وأرجو أن من ينتفع منكم يدعو لي بنفس هذه الدعوة، فقد سأل رجل الإمام أسد بن الفرات عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يكون الرجل مؤمناً حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله وماله والناس أجمعين)، فقال ذلك الرجل للإمام أسد بن الفرات: أخاف ألا أكون كذلك؟ فقال له الإمام أسد بن الفرات: أرأيت لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فقرب ليقتل، أكنت تفديه بنفسك؟ قال: نعم، قال: وبأهلك وولدك؟ قال: نعم، قال: فلا بأس، فقال الرجل: فرجتها عني فرج الله عنك! فأعطاه هذا المقياس؛ لأن قلب المؤمن الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا يمكن أبداً أن يخلو من أصل محبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالعلامة الحية والبارزة على هذا هو ما ذكرناه هنا، وهي مشار إليها في القرآن في قوله تبارك وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، أي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أولى بك من روحك ونفسك التي بين جنبيك، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه هذا الرجل في جوابه، وقال تبارك وتعالى: {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَفسِهِ} [التوبة:120] لذلك قال له الرجل: فرجتها عني فرج الله عنك، فقد أتاه بالميزان الذي يثبت له فعلاً وجود هذه المحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فائدة أخرى: يقول بعض العلماء في تعليل تمتعه وتلذذه بذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته: لم أسم في طلب الحديث لسمعة أو لاجتماع قديمه وحديثه لكن إذا فات المحب لقاء من يهوى تعلل باستماع حديثه يعني: إذا كانت مقابلة رسول الله عليه الصلاة والسلام قد فاتتني فأنا أتمتع بسماع حديثه كأني قابلته.
أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا يعني: صحبوا أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم.(16/4)
القبول للمتقين
هذه نصيحة من ضيغم العابد يقول: إن لم تأت الآخرة للمؤمن بالسرور، لقد اجتمع عليه الأمران هم الدنيا وشقاء الآخرة، فقيل له: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعب في دار الدنيا ويدأب؟ فقال: وكيف بالقبول وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح عمله يجمع ذلك كله يوم القيامة ثم يضرب به وجهه، ومن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].(16/5)
عظم نعم الله
وجاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقاً من حاله ومعاشه واغتماماً بذلك، فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف؟ فالرجل جاء يشكو أنه لا يجد القوت ولا الطعام وكثرة العيال وهم الدنيا والفقر، فشكا إليه ولم يذكر نعم الله عليه ولم يحمد الله سبحانه وتعالى، ولم يعدل في القضية؛ لأنه إذا سلب منه شيء أو ضيق عليه في باب فقد وسع عليه في أبواب كثيرة من النعم التي لا تحصى، فجاء هذا الرجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقاً من حاله ومعاشه فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف؟ يعني: أيسرك بدل بصرك مائة ألف دينار؟ قال: لا.
قال: فبسمعك؟ قال: لا، قال: فبلسانك؟ قال: لا، قال: فبعقلك؟ قال: لا، ثم قال يونس: ألا أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة! أي: عندك مئات الآلاف وأنت تشكو الفقر.
كثير من النعم لا نحس بها؛ لأننا مغمورون فيها ولم نبتل بفقدها، فلنذكر نعمة قد لا يستحضر أحد أنها نعمة، وهي خروج البول والغائط من الإنسان، كما جاء أحدهم لأحد الملوك وقد أصيب باحتباس البول فقال له: كم تدفع في سبيل أن أعالجك حتى تخرج هذه البولة؟ فذكر له الأرقام الفلكية التي تليق بالملوك والرؤساء.
هو يقول: أنا مستعد أن أتنازل عن جميع ملكي في سبيل أن أعالج من هذه الحالة، فقال: اتق الله في ملك لا يساوي مثل هذا الشيء الذي يخرج من بدنك، فهذه نعمة، لكن قل من يستحضرها إلا إذا ابتلاه الله سبحانه وتعالى.(16/6)
إخلاص العمل واتباع الأمر
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور.
إذا تقربت إلى الله سبحانه وتعالى بعمل صالح، وبالتالي لم تجد في قلبك حلاوة وفي صدرك انشراحاً، فعملك هذا فيه آفة؛ لأن عملك إذا سلم من الآفات فإن الله سبحانه وتعالى شكور، يشكر لمن يتقرب إليه بهذه الطاعات، فإذا كان عملك بلا آفة وتقبله الله منك فلابد أن يعقبك حلاوة في قلبك بسبب هذه الطاعة وانشراحاً في صدرك، فبما أن الله لم يوجد في قلبك ذلك فهو لم يقبل منك هذا العمل، أو هناك آفة في عملك، فراجع نفسك.
وعن شمر عن رجل قال: كنت عريفاً في زمن علي فأمرنا بأمر فقال: أفعلتم ما أمرتم؟ قلنا: لا، قال: والله لتفعلن ما تؤمرون به أو لتركبن أعناقكم اليهود والنصارى.
وقال ابن طاهر المقدسي الحافظ: سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول: عرضت على السيف خمس مرات، لا يقال لي ارجع عن مذهبك، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت.
فانظر إلى هذه الشجاعة الأدبية لأئمة المسلمين.(16/7)
أشعار فيها مناجاة
هذه بعض الأشعار فيها مناجاة لله سبحانه وتعالى، وبعض المعاني الطيبة، فهذا أحد العلماء الأفاضل يتكلم على وجوب الإخلاص في العمل لله سبحانه وتعالى وإلا فإن العمل يذهب هباء منثوراً، يقول: سهر العيون لغير وجهك ضائع وبكاؤهن لغير فقدك باطل ويقول آخر: إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب ويقول آخر: إلهي يا كثير العفو عفواً لما أسلفت في زمن الشباب فقد سودت بالآثام وجهاً ذليلاً خاضعاً لك في التراب فبيضه بحسن العفو وجهي وسامحني وخفف من عذابي ويقول آخر: لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد وقلت يا عدتي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد وقد مددت يدي والضر مشتمل إليك يا خير من مدت إليه يد فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد وآخر يقول في مناجاة جميلة هي من أروع ما تكون المناجاة: يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى في الشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لجودك أن تقنط عاصياً فالفضل أجزل والمواهب أوسع ويقول آخر: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو المجرم أدعوك رب كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم ويقول آخر: قدمت بين يدي نفساً أذنبت وأتيت بين الخوف والإقرار وجعلت أستر عن سواك ذنوبها حتى عييت فَمُنَّ لي بستار(16/8)
أشعار في الاتعاظ بالموت
هذه أيضاً جملة من الأشعار في الاتعاظ بالموت وبالقبور يقول: قدم لنفسك ما استطعت من التقى إن المنية نازلة بك يا فتى أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى أحباب قلبك في المقابر والبلى ويقول آخر: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دماً وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى ووجد مكتوباً عن على قبر سيبويه أستاذ النحاة: ذهب الأحبة بعد طول تزاور ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا تركوك أوحش ما تكون بقفرة لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا قضي القضاء وصرت صاحب حفرة عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا ويقول آخر: وقفت على الأحبة حين صدفة قبورهم كأفراط الرهان فلما أن بكيت وفاض دمعي رأت عيناي بينهم مكاني ويقول آخر: ستنقلك المنايا عن ديارك ويبدلك الردى داراً بدارك وتترك ما عنيت به زماناً وتنقل من غناك إلى افتقارك فدود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك ويقول آخر: يا من سينأى عن بنيه كما نأى عنه أبوه مثل لنفسك قولهم جاء اليقين فوجهوه وتحللوا من ظلمه قبل الممات وحللوه ويقول آخر: لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الفراق قليل وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على ألا يدوم خليل ويقول آخر: إن كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعه فلم لا أكون ضنيناً بها وأجعلها في صلاح وطاعه ويقول آخر: نموت وننسى غير أن ذنوبنا وإن نحن متنا لا تموت ولا تنسى ألا رب ذي عينين لا تنفعانه وهل تنفع العينان من قلبه أعمى ويقول آخر: نراع إذا الجنائز قابلتنا ويحزننا بكاء الباكيات كروعة ثلة لمغار سبع فلما غاب عادت راتعات أي: مثل ثلة من الناس أغار عليهم سبع فارتاعوا لذلك، فلما غاب عنها السبع عادت ترتع من جديد وتعبث وتلهو وكأن السبع لم يهددها.
ويقول آخر: أذان المرء حين الطفل يأتي وتأجيل الصلاة إلى الممات بيان أن محياه يسير كما بين الأذان إلى الصلاة يقول: إن الوقت بين ميلاده وموته وقت سريع وخاطف كالوقت بين الأذان والإقامة، وبيان ذلك أن الأذان يؤذن في أذنه حين يولد، أما صلاة الجنازة فتكون بعد خروج روحه، فحياة الإنسان شبيهة بالوقت الذي بين الأذان والصلاة.(16/9)
من مواقف الأئمة(16/10)
مالك والملبسون
عن سعيد بن بشير قال: كان مالك إذا سئل عن مسألة يظن أن صاحبها غير متعلم وأنه يريد المغالطة -أي يظن أنه يريد المغالطة والتشكيك والجدل والتعنت، ولا يقصد الاستفهام ولا الرغبة في العلم- فكان الإمام مالك يزجره بهذه الآية: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9].
وقال قتادة: لما احتضر عامر بكى فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل.(16/11)
عبد الرحمن بن أبان يجمع بين الدين والملك والشرف
وقال موسى التيمي وهو يصف عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان: ما رأيت أحداً أجمع للدين والمملكة والشرف منه.
وقيل: كان يشتري أهل البيت من الرقيق، فيكسوهم ويعتقهم، ويقول: أستعين بهم على غمرات الموت، فمات وهو نائم في مسجده.
وقيل: كان كثير العبادة والتأله، رآه علي بن عبد الله بن عباس فأعجبه نسكه وهديه، فاقتدى به في الخير.(16/12)
الشافعي يرشد تلاميذه
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث الضغائن.
والمراء هو: الجدل في الدين.
وعن المزني: إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فـ الشافعي.
يشير المزني إلى أن هناك بعض الوساوس في التوحيد كان ترد عليه أحياناً من الشيطان، فما استطاع أحد أن يعالجه من هذا الأمر إلا الشافعي، فحكى القصة قال: صرت إليه وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد فعلمت أن أحداً لا يعلم علمك، فما الذي عندك؟ فغضب الشافعي وقال: أتدري أين أنت؟ يشير إليه أنت الآن في بلدة مصر.
قلت: نعم، فقال له الشافعي: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون، أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت: لا، قال: هل تكلم فيه الصحابة؟ قلت: لا، قال: تدري كم نجماً في السماء؟ قلت: لا، فكوكب منها تعرف جنسه وطلوعه وطوله ومم خلق؟ قلت: لا، قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه.
ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه فلم أصب في شيء منها، فقال: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات، تدع علمه وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله وإلى قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة:163 - 164] إلى آخر الآيات -يرشده إلى التفكر في مخلوقات الله- فاستدل بالمخلوق على الخالق ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك، قال: فتبت.(16/13)
إمام سني يدمغ شبهة المعتزلة
وعن المرتجي بالله محمد بن الواثق العباسي قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً أحضرنا، فأتي بشيخ مقيد، فقال: ائذنوا لـ أبي عبد الله وأصحابه، يقصد بذلك أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة الضال.
قال: فأدخل الشيخ الذي سيقتل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فقال: لا سلم الله عليك فقال: يا أمير المؤمنين، بئسما أدبك مؤدبك! قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].
فقال ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم! أي: يبدو أن عنده قدرة على الجدل والمناظرة.
فقال له: كلمه، فقال أحمد بن أبي دؤاد للشيخ: ما تقول في القرآن؟ قال: لم ينصفني ولي السؤال، قال: سل، قال: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق! قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أم شيء لم يعلموه؟ قال: شيء لم يعلموه، فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم علمته أنت؟! فخجل، فقال: أقلني.
قال: المسألة بحالها، قال: نعم علموه، قال: علموه ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم، قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟ قال: فقام أبي فدخل مجلساً واستلقى وهو يقول: شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت، سبحان الله! شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم أمر برفع قيوده وأن يعطى أربعمائة دينار ويؤذن له في الرجوع، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن أحداً بعدها.(16/14)
الروافض شر من الخوارج
حكى الذهبي أن بعض علماء السنة اتفقوا مع الخوارج على مواجهة الدولة العبيدية الفاطمية الملحدة هنا في مصر، فقال: وعوتب بعض العلماء في الخروج مع أبي يزيد الخارجي فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني؛ حضرت عقداً فيه جمع من أهل السنة والمشارقة، وفيهم أبو قضاعة الداعي، فجاء رئيس فقال كبير منهم: إلى هنا يا سيدي ارتفع إلى جانب رسول الله -يعني بذلك أبا قضاعة - فما نطق أحد.
وخرج أبو إسحاق الفقيه مع أبي يزيد وقال: هم من أهل القبلة وأولئك ليسوا أهل قبلة، وهم بنو عدو الله، فإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد؛ لأنه خارجي.(16/15)
لا تكن إمعة
وعن أبي الأحوص عن عبد الله يعني ابن مسعود قال: لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً فإن آمن آمن وإن كفر كفر، وإن كنتم مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
وقال عبد الله: لا تكونن إمعة قيل: وما الإمعة؟ قال: يقول: أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطنن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس ألا يكفر.
وعن مطرف قال: كنا نأتي زيد بن صوحان فكان يقول: يا عباد الله أكرموا وأجملوا، فإنما وسيلة العبادة إلى الله بخصلتين الخوف والطمع، فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتاباً فنسقوا كلاماً من هذا النحو: إن الله ربنا، ومحمداً نبينا، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا وكنا، ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا، قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلاً رجلاً فيقولون: أقررت يا فلان؟ حتى انتهوا إلي فقالوا: أأقررت يا غلام؟ قلت: لا، قال: -يعني: زيداً -: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول يا غلام؟ قلت: إن الله قد أخذ علي عهداً في كتابه، فلن أحدث عهداً سوى العهد الذي أخذه علي، فرجع القوم من عند آخرهم ما أقر منهم أحد، وكانوا زهاء ثلاثين نفساً.(16/16)
مواقف من التقوى
وعن الشافعي قال: ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، ولا قبله إلا هبته واعتقدت مودته.
وعن سحنون قال: كان بعض من مضى يريد أن يتكلم الكلمة ولو تكلم بها لانتفع بها خلق كثير، فيحبسها ولا يتكلم بها مخافة المباهاة، وكان إذا أعجبه الصمت تكلم، ويقول: أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً.
وعن أبي الأحوص قال: قالت بنت لجار منصور بن المعتمر: يا أبه! أين الخشبة التي كانت في سطح بيت منصور قائمة؟ قال: يا بنيه! ذاك منصور كان يقوم الليل، فكانت البنت ترى منصوراً من كثرة قيامه الليل كأنه خشبة قائمة على السطح؛ ولكن لأن البيت بعيد فما كانت تتحقق في ملامحه، فهذا يعني أن السلف ما كان يتدخل أحد فيما لا يعنيه، فسألت لما فقدت الخشبة، كما يقول بعض الشعراء في هؤلاء الفضوليين: ما يريد الناس منا ما ينام الناس عنا لو سكنا باطن الأر ض لكانوا حيث كنا إنما همهم أن ينشروا ما قد دفنا وعن عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد بن حنبل فجاء بماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء لم ينقص فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل! وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعت الفضيل يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك.(16/17)
الشجاعة في الحق والتضحية في سبيله(16/18)
قاض يصلب لإصراره على الحق
وقال الذهبي في ترجمة قاضي مدينة برقة محمد بن الحبري: أتاه الأمير فقال: غداً العيد، قال: حتى نرى الهلال ولا أفطر الناس وأتقلد إثمهم، فقال: بهذا جاء كتاب المنصور.
يقول الذهبي: وكان هذا من رأي العبيدية يفطرون بالحساب ولا يعتبرون رؤية، فلم ير الهلال، فأصبح الأمير بالطبول وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي، فأمر الأمير رجلاً خطب وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه فأحضر، فقال له: تنصل وأعفو عنك، فامتنع، فأمر به فعلق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش فلم يسق، ثم صلبوه على خشبة؛ فلعنة الله على الظالمين.
وعن أبي عبد الرحمن العمري قال: إن من غفلتك إعراضك عن الله بأن ترى ما يسخطه فتتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى خوفاً ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً.(16/19)
علي بن أبي الطيب وابن سبكتكين
وقال الذهبي في ترجمته للإمام علي بن أبي الطيب: إنه حمل إلى السلطان محمود بن سبكتكين ليسمع وعظه، فلما دخل جلس بلا إذن، وأخذ في رواية الحديث بلا أمر، فتنمر له السلطان، فأمر غلاماً فلكمه لكمة أطرشته، فعرفه بعض الحاضرين منزلته في الدين والعلم، فاعتذر إليه وأمر له بمال فامتنع، فقال يا شيخ: إن للملك صولة وهو محتاج إلى السياسة، ورأيت أنك تعديت الواجب، فاجعلني في حل، فقال: الله بيننا بالمرصاد، وإنما أحضرتني للوعظ وسماع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللخشوع، لا لإقامة قوانين الرياسة، فخجل الملك واعتنقه.(16/20)
عبد الله بن حذافة وملك الروم
وعن أبي رافع قال: وجه عمر جيشاً إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا له: إن هذا من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي، قال: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب ما رجعت عن دين محمد طرفة عين، قال: إذاً أقتلك، قال: أنت وذاك! فأمر به فصلب، وقال للرماة: ارموه قريباً من بدنه، وهو يعرض عليه التنصر وهو يأبى، فأنزله، ودعا بقدر فصب فيها ماء وأوقدت تحتها نار حتى احترقت ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم بكى عبد الله بن حذافة، فقيل للملك: إنه بكى، فظن أنه قد جزع، فقال: ردوه! ما أبكاك؟ قال: قلت: هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله.
فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، فقال له عبد الله: وعن جميع الأسارى؟ قال: نعم، فقبل رأسه وقدم بالأسارى على عمر قال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ، فقبل رأسه؛ رضي الله عنهم أجمعين!(16/21)
من أخبار الجهاد(16/22)
موقف أبي عقيل الأنصاري يوم اليمامة
وعن جعفر بن عبد الله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جرح أبو عقيل، رمي بسهم فوقع بين منكبه وفؤاده في غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن له شقه الأيسر في أول النهار، وجر إلى الرحل، فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: يا للأنصار! الله الله والكرة على عدوكم! قال عبد الله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قَوْمَةً، فقلت: ما تريد؟ ما فيك قتال أنت مجروح! قال: قد نوه المنادي باسمي.
قال ابن عمر: فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار! ولا يعني الجرحى؟ فقال أبو عقيل: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حبواً، قال ابن عمر: فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي يا للأنصار! كرة كيوم حنين! فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً فالمسلمون دريئة دون عدوهم.
فاجتمعوا حتى أقحموا عدوهم الحديقة، فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم، قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب، فوقعت إلى الأرض، وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة.
قال ابن عمر: فوقفت على أبي عقيل وهو صريع في آخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل! فقال بلسان ملتاث: لبيك لمن الدبرة؟ يريد أن يطمئن قبل أن يغادر الدنيا من الذي انتصر؟ قلت: أبشر! قد قتل عدو الله، فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات رحمه الله.(16/23)
رجل يدفع نفسه للجهاد دفعاً
وعن عبد الله بن قيس أبي أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا فحضر العدو، فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس! ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك! فأطعتك ورجعت، ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك! فأطعتك ورجعت، والله لأعرضنك اليوم على الله أخذك أو تركك، فقلت: لأرمقن هذا الرجل أنظر كيف يفعل.
فرمقته، فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا، فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم، قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته أكثر من ستين طعنة.(16/24)
المجاهد بالدعاء
وقال الأصمعي: لما صاف قتيبة بن مسلم بالترك وهاله أمرهم؛ لأن الجيش قوي جداً بالنسبة لجيش المسلمين، سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء، -أي: من شدة الإلحاح في الدعاء- فقال قتيبة بن مسلم: تلك الإصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير! وذلك لأنه يطمع أن يستجيب الله سبحانه وتعالى دعاء هذا الرجل الصالح، فينصر المسلمين بدعائه.(16/25)
أبو بكر النابلسي وجهاد العبيديين
وقال الذهبي في ترجمته لـ أبي بكر النابلسي: قال أبو ذر الحافظ: سجنه بنو عبيد الفاطميون الملاحدة، وصلبوه على السنة.
يقول: سمعت الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]، يعزي نفسه بقضاء الله سبحانه وتعالى، ويصبر نفسه بذلك.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: أقام جوهر الصقلي القائد لـ أبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ، فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهماً وفينا تسعة، أنت تحرض الناس على قتال الفاطميين، قال: ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نوراً إلهياً.
فشهره ثم ضربه، ثم أمر يهودياً فسلخ جلده.(16/26)
رب محنة خير من منحة
وعن عثمان بن الهيثم قال: كان رجل بالبصرة من بني سعد، وكان قائداً من قواد عبيد الله بن زياد، فسقط عن السطح فانكسرت رجلاه، فدخل عليه أبو قلابة يعوده فقال: أرجو أن تكون لك خيرة، فقال له: يا أبا قلابة وأي خير في كسر رجلي جميعاً؟! فقال: ما ستر الله عليك أكثر.
فلما كان بعد ثلاث ورد كتاب ابن زياد: أن يخرج فيقاتل الحسين، فقال للرسول: قد أصابني ما ترى، فما كان إلا سبعاً حتى وافى الخبر بقتل الحسين، فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة! لقد صدق إنه كان خيرة لي.
فالإنسان لا يدري أين يكون الخير، فهو لما دخل عليه قال: لعل هذا خير لك، فكان هذا عذراً في تخلفه عن قتل الحسين رضي الله تعالى عنه، فكان خيراً له كما قال أبو قلابة.
وقال أبو بكر بن عياش للحسن بن الحسن بالمدينة: ما أبقت الفتنة منك؟ فقال: وأي فتنة رأيتني فيها؟! قال: رأيتهم يقبلون يدك ولا تمنعهم.(16/27)
احذروا صاحب الكساء
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كنا مع رجاء بن حيوة فتذاكرنا شكر النعم، فقال: ما أحد يقوم بشكر نعمة! يعني: يشكو من حال الناس أنهم لا يشكرون الله سبحانه وتعالى على النعم.
قال: وخلفنا رجل على رأسه كساء، فقال: ولا أمير المؤمنين؟ فقلنا: وما ذكر أمير المؤمنين هنا، وإنما هو رجل من الناس؟! قال: فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: أتيتم من صاحب الكساء، فإن دعيتم فاستحلفتم فاحلفوا.
أي: لكم رخصة بأن تحلفوا حتى على الكذب.
قال: فما علمنا إلا بحرسي قد أقبل فقال: هيه يا رجاء يذكر أمير المؤمنين ولا تحتج له، قال: فقلت: وما ذاك؟ قال: ذكرتم شكر النعم فقلتم: ما أحد يقوم بشكر النعمة، قيل لكم: ولا أمير المؤمنين؟ فقلت: أمير المؤمنين رجل من الناس، فقلت: لم يكن ذلك، قال: آلله، قلت: آلله، قال: فأمر بذلك الرجل الساعي -لأنه يعرف أن هؤلاء صالحون لا يكذبون- فضرب سبعين سوطاً، يقول: فخرجت وهو متلوث بدمه فقال: هذا وأنت رجاء بن حيوة تكذب، قلت: سبعين سوطاً في ظهرك خير من دم مؤمن، قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس يتلفت ويقول: احذروا صاحب الكساء!(16/28)
من مواقف الأبرار(16/29)
التربية على السنة
عن محمد بن سويد الطحان قال: كنا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عبيد وإبراهيم بن أبي الليث وجماعة، وأحمد بن حنبل يضرب، فجعل عاصم يقول: ألا رجل يقوم معي فنأتي هذا الرجل فنكلمه، قال: فما يجيبه أحد؟ ثم قام، قال ابن أبي الليث: أنا أقوم معك يا أبا الحسين، فقال: يا غلام خفي! يعني: أحضر خفي.
فقال ابن أبي الليث: يا أبا الحسين أبلغ إلى بناتي فأوصيهم، فظننا أنه ذهب يتكفن ويتحنط ثم جاء، فقال: إني ذهبت إليهن فبكين، قال: وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط: يا أبانا إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل فضربه على أن يقول: القرآن غير مخلوق، فاتق الله ولا تجبه، فوالله لأن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت.(16/30)
الورع في الدماء
وعن الشعبي قال: كان مسروق إذا قيل له أبطأت عن علي وعن مشاهده -أي: يعاتبونه على عدم الخوض في القتال الذي جرى بين الصحابة- فيقول: أرأيتم لو أنه حين صف بعضكم لبعض فنزل بينكم ملك فقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] أكان ذلك حاجزاً لكم؟ قالوا: نعم، قال: فوالله لقد نزل بها ملك كريم على لسان نبيكم، وإنها لمحكمة ما نسخها شيء.
وقال أيوب: قال مطرف: لأن آخذ بالثقة في القعود أحب إلي من أن ألتمس فضل الجهاد بالتغرير، يعني: أن أقعد عن الخروج وأنا واثق من سلامة موقفي في القعود، أحب إلي من أن يغرر بي أن هذا جهاد ولا يكون جهاداً، ومعنى ذلك: أنه لا يخرج لقتال أو جهاد إلا إذا كان واثقاً أنه جهاد في سبيل الله، أما إذا كان هناك احتمال التغرير به أنه قتال فتنة فلا.
وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية -الخوارج- مطرف بن عبد الله يدعونه إلى رأيهم، فقال: يا هؤلاء! لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدى أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها.(16/31)
البر بالأم
وعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة من عهد عثمان بن عفان ألف درهم -يعني ارتفع ثمنها حتى وصل ألف درهم- قال: فعمد أسامة إلى نخلة فعقرها، فأخرج جمارها فأطعمه أمه فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم، قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا أعطيتها.(16/32)
دعاء الأم
وذكر عبد الرحمن بن أحمد عن أبيه أن امرأة جاءت إلى بقي فقالت: إن ابني في الأسر ولا حيلة لي، فلو أشرت إلى من يفديه فإني والهة.
قال: نعم، انصرفي حتى أنظر في أمره، ثم أطرق وحرك شفتيه، ثم بعد مدة جاءت المرأة بابنها فقال الابن: كنت في يدي ملك، فبينا أنا في العمل سقط قيدي، قال: فذكر اليوم والساعة فوافق وقت دعاء الشيخ، قال: فأفلت من العدو، قال: فصاح علي المرسم بنا، ثم نظر وتحير من الذي أخرج هذه القيود بهذه الطريقة، ثم أحضر الحداد وقيدني، فلما فرغ ومشيت سقط القيد، فبهتوا ودعوا رهبانهم، فقالوا: ألك والدة؟ قلت: نعم، قال: وافق دعاؤها الإجابة! فانظر كيف عرف النصارى وهم كفار أن دعاء الأم يستجاب، ثم قالوا: قد أطلقك الله فلا يمكننا أن نقيدك، فزودوني وبعثوا بي.(16/33)
البر بالصاحب
وعن مصعب بن أحمد بن مصعب قال: قدم أبو محمد المروزي إلى بغداد يريد مكة وكنت أحب أن أصحبه، فأتيت واستأذنته في الصحبة فلم يأذن لي في تلك السنة، ثم قدم سنة ثانية وثالثة فأتيته فسلمت عليه وسألته فقال: اعزم على شرط أن يكون أحدنا الأمير لا يخالفه الآخر، فقلت: أنت الأمير، فقال: لا، بل أنت، فقلت: أنت أسن وأولى، فقال: فلا تعصيني؟ قلت: نعم.
فخرجت معه، وكان إذا حضر الطعام يؤثرني، فإذا عارضته بشيء قال: ألم أشرط عليك ألا تخالفني، فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يلحق نفسه من الضرر، فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد ونحن نسير، فقال لي: يا أبا محمد اطلب الميل -الميل علامات كانت توضع في الطريق توضح مراحل السفر والمسافات بين المدن، فينصب لذلك ميل على الجدار- فاتجه إلى هذا إلى الميل، ثم قال لي: اقعد في أصله، فأقعدني في أصله، وجعل يديه على الميل وهو قائم قد حنا علي وعليه كساء قد تجلل به يظلني من المطر، حتى تمنيت أني لم أخرج معه لما يلحق نفسه من الضرر، فلم يزل هذا دأبه حتى دخل مكة رحمة الله عليه.
فهذا خلق نادر من الإيثار الذي كان عليه السلف رحمهم الله تعالى.(16/34)
وصية تغني عن كثير من العلم
وقال ليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر: أن اكتب إلي بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم؛ فافعل! يعني: أن هذا يغنيك عن كثير من العلم.
وعن ابن النجمي قال: سمعت سفيان يقول: كان ابن عياش المنتوف يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر فقال: يا هذا لا تفرط في شتمنا وأدخل الصلح موضعه، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.(16/35)
من وصايا الشافعي ليونس
وقال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يا يونس! إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه، فإياك أن تبادره بالعداوة وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن القه وقل له: بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلغ، فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، لا تزيدن على ذلك شيئاً، وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهاً لعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك وجهاً لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى وأبلغ في الكرم؛ لقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، فإن نازعتك نفسك بالمكافأة ففكر فيما سبق له لديك من الإحسان فعدها، ثم اذكر له إحساناً بهذه السيئة، ولا تبخس باقي إحسانه السالف لهذه السيئة فإن ذلك الظلم بعينه.
يا يونس! إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل.(16/36)
الجرح والتعديل
وقال أبو الربيع محمد بن الفضل البلخي سمعت أبا بكر الرازي سمعت علي بن الحسين سمعت يحيى بن معين يقول: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة.
يعني: أن ضرورة الكلام في الجرح والتعديل لحفظ سنة النبي عليه الصلاة والسلام تضطرهم إلى أن يكونوا صادقين في شهادتهم، وإن كانوا قوماً صالحين كما قال بعض العلماء أيضاً: إنا لنرد شهادة أقوام ونحن نرجو شفاعتهم يوم القيامة، فيقول هنا يحيى بن معين: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة.
قال ابن مهرويه: فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا، فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب، وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية.
وعن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلاً قد أسبل فقال: ارفع إزارك! فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، فقال: إن بساقي حموشة وأنا أؤم الناس، فبلغ ذلك عمر فجعل يضرب الرجل ويقول: أترد على ابن مسعود.(16/37)
عزة العلم
وقال إبراهيم ابن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألون عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لبنيه: قوما، فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.
وكان إبراهيم الحربي رجلاً صالحاً من أهل العلم بلغه أن قوماً من الذين كانوا يجالسونه يفضلونه على أحمد بن حنبل، فوقفهم على ذلك، وقال: أقلتم هذا أم لم تقولوا؟ فأقروا به، فقال: ظلمتموني بتفضيلكم لي على رجل لا أشبهه ولا ألحق به في حال من أحواله، فأقسم بالله لا أسمعكم شيئاً من العلم أبداً، فلا تأتوني بعد يومكم.
وعن معاذ بن سعيد قال: كنا عند عطاء بن أبي رباح فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه قاطعه، فقال عطاء: سبحان الله ما هذه الأخلاق، إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم منه به، فأريه أني لا أحسن منه شيئاً.
وعن عثمان بن الأسود قال: قلت لـ عطاء: الرجل يمر بالقوم فيقذفه بعضهم، أيخبره؟ قال: لا، المجالس بالأمانة، يعني: لا يخبره.(16/38)
سبعك بين لحييك
وقال ابن السماك: سبعك بين لحييك تأكل به كل من مر عليك، وقد آذيت أهل الدور في الدور، ولم تكتف بهذا حتى تعرضت لأهل القبور، فما ترثى لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى أن نبشهم أخذ الخرق عنهم، هل تحسب أن نبش الموتى هو أن تسرق الأكفان من فوق جثثهم؟ كلا، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك، ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك، أما سمعت: ارحم أخاك واحمد الذي عافاك؟!(16/39)
البخاري يرجو ألا يكون قد اغتاب أحداً
وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً.
الإمام البخاري وهو صاحب التاريخ وصاحب الكلام الكثير في تعديل الرواة وجرحهم، وهو أمير المؤمنين في الحديث رحمه الله، ومع ذلك يتوثق من كل كلمة أخرجها ويكون قد أعد لها الجواب أمام الله سبحانه وتعالى، قال الذهبي: صدق رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه، فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث سكتوا عنه فيه نظر ونحو هذا، وقل أن يقول: فلان كذاب، أو كان يضع الحديث، حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر فهو متهم واهن، وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً، وهذا هو والله غاية الورع.(16/40)
منثورات شعرية وحكم دينية
نعود لبعض الفوائد الأخرى: يقول بعض الشعراء: يا صاحب البغي إن البغي مصرعة يعني: مهلكة يا صاحب البغي إن البغي مصرعة فاعدل فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يوماً على جبل لاندك منه أعاليه وأسفله وهذه فائدة عن الغيرة: يقول بعض العلماء: العاقل يغار في المواضع التي شرعها الله ولا يتعداها، وكل غيرة خارجة عن حد الشرع فهي هوى.
وقال خالد بن نزار: سمعت مالكاً يقول لفتى من قريش: تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم، وأوصى بعض السلف ولده فقال: يا بني اجعل علمك ملحاً وأدبك دقيقاً.
وعن أبي الحسن عمران بن نمران: أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر فيقول: ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، بادلوا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات.
وقال ثابت البناني: قال أبو عبيدة: يا أيها الناس! إني امرؤ من قريش، وما منكم من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه، يعني: أن أكون أنا الذي في جلده أو في ثيابه.
وقال سفيان الثوري: كان يقال: إذا عرفت نفسك لم يضرك ما قيل فيك.
يقول الشاعر: إن إلهي لغني حميد في كل يوم منه رزق جديد الحمد الله الذي لم يزل يفعل بي أكثر مما أريد هذا أبو عبيدة بن الجراح يقول: وددت أني كنت كبشاً فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي.
وذلك خوفاً من حساب الله سبحانه وتعالى.
وقال عمران بن حصين رضي الله عنهما: وددت أني رماد تسفيني الريح.
وقال عمر بن ذر: كل حزن يبلى إلا حزن التائب عن ذنوبه.
ويقول بعض السلف: سلاح اللئام قبيح الكلام.
ويقول آخر: مواعيد الأحبة وإن اختلفت فهي تؤنس، يعني: حتى لو أخلفها المحبون فهي تؤنس وتوجب الإلف والسرور.
وقال ابن المنكدر: بت أكبت رجل أبي، وبات آخر يصلي التهجد، ولا يسرني ليلته بليلتي، أي أنه يعتقد أن ثوابه أعظم من ثوابه؛ لأنه يبر أباه.
وقال معاوية بن إسحاق: عن عروة قال: ما بر والده من شد الطرف إليه، يعني: ثبت عينه في النظر إليه، لأنه من العقوق.
وعن عمر رضي الله عنه قال: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين.
وقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.
وهذا رواه مسلم.
ويقول الشافعي: إنك لا تقدر أن ترضي الناس كلهم، فأصلح ما بينك وبين الله ثم لا تبال بالناس.
وقال همام: مثل الذي يريد أن تجتمع له الدنيا والآخرة كمثل عبد له ربان لا يدري أيهما يرضي.
وقيل لـ معاوية بن قرة: كيف ابنك لك؟ فقال: نعم الابن كفاني أمر دنياي، وفرغني لآخرتي.(16/41)
منثورات أدبية
هذا شعر ذكره بعض العلماء في اعتذاره عن حضور وداع أحبابه، كانوا في سفر فلم يحضر الوداع فذكر هذا الشعر يذكر السبب، يقول: صدني عن حلاوة التشييع اجتناب مرارة التوديع لم يقم أنس ذا بوحشة هذا فرأيت الصواب ترك الجميع ويقول آخر في نفس الموقف: ولما أن تفرقنا وحالت نوب الدهر رأيت الشهد لا يحلو فما ظنك بالصبر وقيل لـ شريح: ممن أنت؟ قال: ممن أنعم الله عليه بالإسلام وعدادي في كندة.
هم يقصدون القبيلة، فاعتز وافتخر بانتمائه إلى الإسلام.
كقول الشاعر: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم وكان إذا قيل لـ شريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس علي غضاب.
يعني لأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
هذا شاعر يقول: تمنيت أن الشيب عاجل لمتي وقرب مني في صباي مزاره لآخذ من عصر الشباب نشاطه وآخذ من عصر المشيب وقاره يقول الشافعي: يا يونس! الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.
ويقول الشافعي أيضاً: يا راكباً قف بالمحصب من منى واهتف بساكن خيفها والناهض سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي(16/42)
قاعدة في التوبة
هذه قاعدة يذكرها العلماء: أن الإنسان إذا ارتكب بعض المعاصي، مثل ممثلة تتوب من الفسق والفجور وتتبرأ من الأفلام والفساد الذي فعلته من قبل، وتحاول أن تقضي عليه فلا تستطيع، حيث يعمد الشياطين إلى إخراج تلك الأشياء السيئة وإذاعتها في الناس، فهل هي تحمل هذا الإثم بعد أن استفرغت وسعها في التبرؤ من ذلك؟ فالقاعدة: أن كل من تاب من شيء تعاطى سببه فقد فعل ما هو واجب عليه، والله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الإنسان إلا بما في وسعه، يقول الشاعر: من تاب بعد أن تعاطى السبب فقد أتى بما عليه وجب وإن بقى فساده كمن رجع عن بث بدعة عليها يتبع أو تاب خارجاً مكان الغصب أو تاب بعد الرمي قبل الضرب يقول بعضهم: كل مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش.
أمستوحش أنت مما جنيت فأحسن إذا شئت واستأنس(16/43)
المحافظة على الحقوق
استعار عبد الله بن المبارك قلماً من رجل بالشام، وحمله إلى خراسان ناسياً، فلما وجده معه رجع إلى الشام حتى أعطاه لصاحبه.
سلام على تلك النفوس فإنها مسلمة من كل عار ومأثم رجع من خراسان إلى الشام حتى يعيد القلم وقد نساه صاحبه معه، فانظر إلى تعظيم السلف لحقوق الآخرين.
وقال مالك بن دينار: قولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى.
أي إن لم تكن صادقاً في طاعة الله فلن تستفيد من هذا العناء.
قال أبو العالية: قال لي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم: لا تعمل لغير الله فيكلك الله عز وجل إلى من عملت له.
يقول ابن عمر رضي الله عنه: لو وضعت إصبعي في خمر ما أحببت أن تتبعني، من شدة بغض المعاصي والعصاة.
أي: لو أن هذه الإصبع دخلت داخل خمر لوددت أنه تنفصل وإذا سحبتها يكون قد بتر منها هذا الإصبع الذي لمس الخمر، فكيف بمن يشربه والعياذ بالله أو يحمله؟ وقال عثمان بن حيان: سمعت أم الدرداء تقول: إن أحدهم يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن الله لا يمطر عليه ذهباً ولا دراهم، وإنما يرزق بعضهم من بعض، فمن أعطي شيئاً فليقبل، فإن كان غنياً فليضعه في ذي الحاجة، وإن كان فقيراً فليستعن به.
وقال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم لا يفعل كل ما يريد.
ما معنى التقوى لغة؟ أصل كلمة التقوى في اللغة: قلة الكلام، فهنا يقول عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم لا يفعل كل ما يريد، أي وإن قدر عليه، فحتى لو كان قادراً على أن يبطش مثلاً بالناس فإن التقوى تحجزه؛ وبعض الناس لا يمتنع إلا عما عجز عنه، فإذ عجز عن النصب والاحتيال وسرقة حقوق الناس وخداعهم، فهذا هو حرام عليه، لكن متى تمكن فهو الحلال عنده، أما التقي فعند القدرة تلجمه التقوى عن أن يفعل ما يريد.
ويقول بعض السلف: من أشرقت بدايته أشرقت نهايته.
ويقول بعضهم: خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة، فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبداً.
وقال مالك رحمه الله: لو أعلم أن قلبي يصلح للجلوس على كنافة لذهبت حتى أجلس عليها، يعني: في سبيل إصلاح قلبه.(16/44)
سوأة الشهوة والمعصية
يقول بعض الشعراء: واسوأتى لفتى له أدب يضحي هواه قاهراً أدبه يأتي الدنية وهو يعرفها فيشين عرضاً صائناً أربه فإذا ارعوى عادت بصيرته فبكى على الحين الذي سلبه يقول: ما أعظم سوأة هذا الرجل الذي هو فتى عاقل عنده أدب وعنده خلق وحياء من الله سبحانه وتعالى، لكن يلوح له الهوى، فإذا بالهوى يقهر ما عنده من الأدب والحياء من الله.
واسوأتى لفتى له أدب يضحى هواه قاهراً أدبه يأتي الدنية وهو يعرفها فيأتي الدنايا والمعاصي وهو يعرف أنها مما حرمه الله.
فيشين عرضاً صائناً أربه يعني: يصون أربه وشهوته وفي نفس الوقت يشين عرضه بفعل هذه الدنية.
فإذا ارعوى عاد بصيرته إذا ارعوى وانكف وانزجر عنها تعود إليه البصيرة.
فبكى على الحين الذي سلبه فيبكي على الحين الذي سلب فيه هذا الأدب.
ويقول أبو مسهر: ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنه متاع قليل والزوال قريب ويقول آخر: لا تكثرن تأملاً واحبس عليك عنان طرفك فلربما أرسلته فرماك في ميدان حتفك يعني لا تكثرن النظر إلى ما حرم الله.(16/45)
المطلوب من العلم العمل
وعن نجيد الترمذي قال: كنت عند مالك وعنده محمد والمأمون يسمعان منه الحديث، فلما فرغا قال أحدهما إما المأمون وإما محمد: يا أبا عبد الله أتأمرني أن أكتبه بماء الذهب؟ قال: لا تكتبه بماء الذهب، ولكن اعمل بما فيه.
يهدي بعضهم لبعض المصاحف المذهبة والمزخرفة وهم ينبذون كتاب الله وراء ظهورهم! وقال الشافعي: كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء يجادله، قال: أما أنا فإني على بينة من ديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه.
أي: أنا على يقين أن هذا هو الحق، وأنه منهج أهل السنة والجماعة، أما أنت فصاحب بدع، فاذهب لتبحث عن شكاك أو مرتاب مثلك يجادل بعضكما بعضاً، أما أنا فلست محتاجاً إلى جدلك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول: لا، بملء فيه.
وعن سفيان بن عيينة قال: دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فإذا هو بـ سالم بن عبد الله بن عمر فقال له: يا سالم سلني حاجة، فقال له: إني لأستحيي من الله أن أسأل في بيت الله غير الله، وكان داخل الكعبة، فلما خرج في أثره قال له: الآن قد خرجت فسلني حاجة، فقال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، فقال له سالم: ما سألت من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها.
ويقول أبو حنيفة رحمه الله تعالى: من طلب الرياسة في غير حينه لم يزل في ذل ما بقي.
وذكر المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كان والله أفضل من أن يَخدَع، وأعقل من أن يُخدَع.
وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/46)
نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية
الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وقد فضل الله المجاهدين على القاعدين تفضيلاً عظيماً، ولا عزة ولا نصر للأمة إلا بالجهاد، وهو ماضٍ إلى قيام الساعة، إلا أنه قد استعمل في هذا العصر في غير محله، وأطلق على أمور ليست منه ولا تمت إليه بصلة، وما ذلك إلا للبعد عن معرفة أحكام الشرع الحنيف، وعدم الرجوع إلى الكتاب والسنة.(17/1)
شرح حديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبة من نفاق) رواه مسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه) (لم يحدّث) بالتشديد أي: لم يكلم، (به) أي: بالغزو، (نفسه) أي: لم يعزم على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ولم يقل: يا ليتني كنت مجاهداً.
وقيل: معناه: لم يرد الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل، وعلامته في الظاهر إعداد آلته، قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46]، ويؤيده قوله: (مات على شعبة من نفاق) أي: نوع من أنواع النفاق، أي: من مات على هذا فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد، و (من تشبه بقوم فهو منهم).
قال بعض العلماء: إن هذا كان مخصوصاً بزمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال القاري في مرقاة المفاتيح: والأظهر أنه عام، وأنه يجب على كل مؤمن أن ينوي الجهاد، إما بطريق فرض الكفاية، أو على سبيل فرض العين، وإذا كان اللفظ عاماً فيصير الجهاد فرض عين، ويستدل بظاهره لمن قال: الجهاد فرض عين مطلقاً، وهذا سنناقشه إن شاء الله بالتفصيل.
وفي شرح مسلم للنووي: قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: نرى أن ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أي: أن هذا كان خاصاً بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي قاله ابن المبارك محتمل، وقال غيره: إنه عام، والمراد أن من لم يحدث نفسه بالغزو، فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في سبيل الله عز وجل في هذا الوصف؛ لأنهم يتخلفون كما قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] والسياق في المنافقين، فترك الجهاد أحد شعب النفاق.
وفيه: أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعلها، لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه على من مات ولم ينوها، وهذه فائدة علمية، فلو أن رجلين ماتا، وقد ضيعا أو تركا عبادة معينة، وقد نوى أحدهما أن يفعلها فمات قبل أن يفعل ما نوى عليه، والآخر لم ينو فعلها، فلا يستوي من نوى أن يؤديها وعزم على فعلها، مع من مات وهو لم يعزم على فعلها.
يقول النووي: اختلف أصحابنا فيمن تمكن من الصلاة في أول وقتها، فأخرها بنية أن يفعلها ومات، أو أخر الحج كذلك، قيل: يأثم فيهما، وقيل: لا يأثم فيهما، وقيل: يأثم في الحج دون الصلاة.
هذه بعض الفوائد المتعلقة بهذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق).(17/2)
أهمية الكلام حول موضوع الجهاد والتيارات الجهادية
هناك عوامل كثيرة تحتم مناقشة هذه القضية، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن طُلب مني الكلام في هذا الموضوع، فجاء الطلب موافقاً لما في النفس، وهذه القضية لا شك أنها مهمة وشائكة، لكنها مثل كثير من القضايا لا يجدي معها التجاهل والإعراض، خصوصاً وأن لها كثيراً من الآثار والأبعاد.
وهناك أسباب كثيرة تمنع الإنسان من الكلام المباشر والمفصل في قضية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وما يطلق عليه الجهاد في سبيل الله الآن في عصرنا؛ لأنه طرأ في السنوات الأخيرة فهم جديد لكلمة (الجهاد)، وهناك مد وجزر في الكلام في هذه القضية؛ لأن فيها حساسية شديدة.
أول عوامل الامتناع من الكلام فيها: أن الإنسان يشفق دوماً أن يقف في خندق واحد مع أعداء الإسلام، فالذين يواجهون التيارات الجهادية في أغلبهم أعداء الإسلام من الداخل ومن الخارج، من المنافقين، والملاحدة، وغيرهم من أعداء الله عز وجل في كل مكان، وهم يقفون في مواجهة من يسلك هذا السبيل لإعزاز كلمة الله تبارك وتعالى بما يراه طريقاً إلى تحقيق هذا الهدف، فبلا شك أن في الأمر حرجاً شديداً، لكن المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى كبيرة، فهناك حرمات تنتهك، فينبغي أن تستبعد العواطف إذا كان الإنسان يبحث المسألة بحثاً موضوعياً مجرداً.
وقد يحصل أحياناً اتحاد في الموقف، كما حدث عند اندلاع ثورة إيران، فكنا نعاير بنفس الشيء، كيف تحذرون من ثورة إيران؟ وكيف تنكرون عليها وأعداء الإسلام -أمريكا والغرب كله- يهاجمها؟ فنحن نقف معهم في خندق واحد، وفي الحقيقة أن التمادي مع هذه السياسة له ثمار غير محمودة، وله عواقب غير حميدة.
وقد يحصل اتفاق مع الكفار في المواقف من بعض النواحي، لكن إذا كان المنطلق مختلفاً فلا حرج في هذه الحالة، فالكفار ينطلقون من منطلق الحقد على الإسلام، والعداوة للإسلام، والمسلمون يتناصحون فيما بينهم؛ حرصاً على الإسلام، وعلى مصلحة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فالمنطلق مختلف، فإذا كانت الشيوعية مثلاً تحارب الربا، والإسلام يحارب الربا، فهل معنى ذلك أننا نقول: الإسلام هو الشيوعية؟! لا، فالمنطلق مختلف، وحين نتدارس هذه القضية سنتدارسها من منطلق مختلف عما ينظر من خلاله أعداء الله تبارك وتعالى.
وكنا نترقب بين وقت وآخر، ونقول: ننتظر حتى تمر هذه العاصفة، وسنتكلم بعد ذلك، فما تكاد تأتي عاصفة إلا وتأتي أخرى أشد منها.
وما من شك أن من العوامل المؤثرة والفعالة في تهييج هذه الأوضاع -بالذات في السنوات الأخيرة- أن الذين وقفوا ضد الصف الإسلامي داعين إلى النار، صدر منهم ظلم وأذية لعباد الله، وللدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وانتهاك لحرمات المسلمين، مما أدى إلى حصول رد فعل في المقابل، وهو ما يطلقون عليه: الإرهاب والإرهاب المضاد، وإن كنا نتحرج كثيراً من استعمال هذه المصطلحات الخبيثة، لكن كثيراً من المنصفين من خصوم الإسلام يقرون بأن هذا المسلك إنما هو رد فعل لمن تعدوا كل الحدود، وتفلتوا من كل الضوابط، وتخلوا عن كل القيم، فسلكوا مسالك الجبابرة والظالمين في تعاملهم مع المسلمين.(17/3)
تنبيه التيارات الجهادية إلى الاستفادة مما يحدث للمسلمين عبر التاريخ
رصيد الدعوة دائماً يزيد من الخبرة، ومن التجارب، وما من شك أن هناك كثيراً من التجارب التي كان ينبغي أن نستفيد منها جميعاً، وكل من ينتمي إلى الصف الإسلامي لابد أن يستفيد من هذه التجارب؛ كي تكون رصيداً جديداً، ففي الحقيقة أن الدعوة قد مرّت منذ بداية هذه الصحوة إلى الآن بكثير من التجارب التي كان من المفترض أن يستفاد منها، وتستخلص منها العبر، لكن البعض لا يتعظون، ويصرون على سلوك مسلك معين، على أمل أن يؤدي إلى هدف مقصود.
نحن اعتبرنا بلا شك خلال فترة الصحوة الأخيرة، ومن ذلك وضوح ما يسمى بـ (التجربة البرلمانية)، ومحاولة إعزاز الإسلام وإقامة حكم الله سبحانه وتعالى عن طريق سراب الديمقراطية الموهوم، وما أرى القوم يفعلون إلا كما كان يفعل المشركون في الجاهلية، فيعتبرون الديمقراطية إلهاً يعبدونه من دون الله، ولكنها كأصنام العجوة التي كانوا يصنعونها من التمر فإذا جاعوا أكلوها!! وهذه الديمقراطية التي يعبدونها ويسبحون بحمدها الآن إذا احتاجوا إليها أكلوها والتهموها، كما حصل في مصر، وكما حصل في الجزائر، فالمتعلق بمثل هذا الخيط الواهي يعتبر متعلقاً بسراب لا شيء وراءه ولا طائل تحته.
وما من شك أننا مررنا بكثير من التجارب التي كان ينبغي أن نستفيد منها، وأن نطلق لعقولنا ولأفكارنا العنان؛ حتى نستخلص أقصى ما نستطيع من العبر من خلال هذه المعاناة، ابتداء من حادثة الفنية العسكرية، وغيرها من الأحداث في مصر، إلى هذا المسلسل الأخير الذي نعيشه الآن، فهو علامة بارزة جداً في تاريخ الحركة الدعوية المعاصرة، كأحداث حماس وما أدراك ما حماس! وغير ذلك من الوقائع التي كان ينبغي أن يحصل نوع من التحليل لها، والانتفاع بها، وأن يكون من جرائها رصيد يضاف إلى تجربة العمل الإسلامي، خصوصاً وأننا نتعمد أحياناً أن نغلق أعيننا وآذاننا عن التطلع من خلال نافذة التاريخ.
وهذا أمر من مكامن النقص الخطيرة جداً في بعض الدعاة في هذا الزمان، فينبغي الاطلاع من خلال الرصيد التاريخي العظيم الموجود، والذي يفيدنا كثيراً في تحليل هذه الظواهر، وللتجربة أثر حتى في استنباط الأحكام، كما استقر إجماع أهل السنة والجماعة على عدم الخروج على الحاكم المسلم الجائر، وقد كانوا اختلفوا في أول الأمر، ثم استقر إجماعهم بعد ذلك على عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم الجائر أو الظالم أو الفاسق ما دام أنه في دائرة الإسلام، وما دام يحافظ على الإسلام، قالوا: قد جربنا، ورأينا في الصدر الأول عمليات خروج على الحكام في الدولة الأموية وغيرها، ثم استقر إجماع السلف على منع ذلك، ونصوا عليه في متون العقيدة، كما ترون في متن الطحاوية وغيرها من متون العقيدة، فالعلماء ينصون على هذه القضية لخطورتها، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
إذاً: الاطلاع من خلال نافذة التاريخ أمر مهم جداً، وهناك دراسة طويلة فيها نوع من التحليل والاستنباط الذي نحن محتاجون إليه، وهي دراسة حركة النفس الزكية: محمد بن عبد الله بن الحسن للشيخ محمد العبدة، عمل فيها دراسة تطبيق فعلي لحركة من هذه الحركات، وما أكثر حركات الخروج، وما أكثر العبر التي ينبغي استخلاصها منها!(17/4)
أهمية التبصر في الأمور والنظر في العواقب قبل الإقدام
العواقب المترتبة على مسلك الخروج على الحكام خطيرة جداً، لكننا نلاحظ على من يفكرون في بعض هذه الاتجاهات أن هناك حدة في طريقة التفكير، وبعض من يتصدرون للإفتاء في هذه الأشياء يغلب عليهم عدم تقدير العواقب على الإطلاق، وليس عندهم نظر إلى العواقب غالباً، مما قد يشكك في أهلية بعض هؤلاء للإفتاء في مثل هذه الأمور الجسيمة، فسواءً في ذلك بعض الأحداث المحلية التي تحصل كعملية العلاقة مع الأخلاط أحياناً، وبعض أفعال الاستثارة، أو تصعيد بعض التصرفات من خلال دول أخرى، ونحن نرى الآن ما يحصل من التضييق على الدعوة الإسلامية في الخارج، منذ التفجير في مركز التجارة العالمي في نيويورك، مع أننا لا نستطيع أن نقطع بمن فعل ذلك، لكن هو لا يبعد عن طريقة تفكير بعض الإسلاميين، ولا يبعد أنهم فعلاً سلكوا هذا المسلك، والله تعالى أعلم، ونرجو أن يكونوا مبرئين من ذلك.
لكن الشاهد: أن من يفعلون أفعالاً لها مثل هذه الأصداء الكبيرة والواسعة، لا يضعون في الحسبان مثل هذه العواقب، يهملونها تماماً، ومن الشواهد ما يحصل من التصعيد في الخارج لأقل حادثة تحصل بين المسلمين والأقباط، وكيف أنها توظف كي تضم في رصيد يبرر فيما بعد كثيراً من المخاطر التي تهدد الأمة بأسرها.
الآن يوجد رجل في خراسان يدعى أبا عبد الله محمد بن أحمد بن خليفة الحسيني المهدي، لا نقول: المهدي، بل أمير المؤمنين، فهو نصب نفسه أميراً للمؤمنين، وهو الآن موجود، وقصته طويلة، ولن نخوض الآن في تفاصيلها، لكن الشاهد أنه يقول: ستتحرك كتيبة الموت من خراسان عما قريب، وتمر عبر إيران تحمل راية سوداء، وإياكم أن تتعرضوا لهذه الراية السوداء، وحذار أن يقاومها أحد، فتمر هذه الراية السوداء التي تحملها كتيبة الموت من خراسان إلى إيران، إلى العراق، إلى الأردن، إلى القدس في فلسطين.
وقد كنت مسافراً في الخارج، وقرأت بيانات أحد أتباعه، يقول في أخرها: أنا لن أشعلها ناراً في بقعة واحدة، سأشعلها ناراً في العالم أجمع! فإذا كانت مثل هذه الأحداث الطفيفة يترتب عليها هذا الكم الهائل من الآثار الخطيرة، فكيف إذا تكررت في كل موقع؟! وما من شك أن بعضنا يؤدي خدمات جليلة لأعداء الإسلام الذين يحرصون أشد الحرص على تضخيم هذه الأشياء، وتشويهها، وتوظيفها في التنفير عن دين الله تبارك وتعالى.
فالشاهد من الكلام: أن هذه الأشياء تكون لها عواقب، والملاحظ أن كثيراً من الناس لا ينظرون في هذه العواقب، ولا يقدرونها حق قدرها.(17/5)
ثوابت متفق عليها بين الفصائل الإسلامية
قبل أن نتكلم في الموضوع مباشرة نقول: إننا ننطلق بالكلام في هذا الموضوع من داخل الصف الإسلامي، ونحن لا نتكلم من نفس منطلق أعداء الإسلام وأعداء الدعوة الذين هم معروفون في بلادنا أو في خارجها، لكنا نتكلم على أننا من داخل العائلة الإسلامية، ومن داخل الصف الإسلامي الذي يجمع على ثوابت لا نقاش فيها، ومن أهم هذه الثوابت: أننا جميعاً لا نرضى بواقع الأمة الحالي.
ثانيها: أننا جميعاً مؤمنون بحتمية تغيير هذا الواقع، انطلاقاً من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، حتى وإن حصل بعد ذلك اختلاف في طريقة التغيير، وهذا هو الذي يتعلق بموضوعنا الآن إن شاء الله تعالى.(17/6)
أمور تبين أهمية الحوار الصريح حول موضوع الجهاد
مما يبين أهمية هذا الحوار الصريح الذي نحتاجه أمور كثيرة: أولها: أن الإنسان لابد أن يتبصر، أي: لا يمشي ثم ينظر، بل ينظر أولاً قبل أن يمشي، ولا ينبغي أن ينظر فقط تحت قدميه؛ بل ينبغي أن تكون نظرته للأمور وتقديراته للعواقب دقيقة؛ لأن ديننا يحتم علينا النظر في عواقب الأمور، دون التفات إلى الثمرات العاجلة أو العاطفية؛ بل لا بد أن تنظر إلى مدى أبعد، وأن تأخذ بما استطعت من علم وفهم في تقدير الأمور، والتفكير فيها.
ففي أي تصرف تسلكه لا بد أن تتذكر أن الدنيا دار ابتلاء، وأن الآخرة هي دار ظهور النتائج، فلا تتصرف في هذه الدنيا على أساس أن النتيجة الآن بارزة أمامك؛ لأنك لست نبياً معصوماً يوحى إليه، بحيث تقطع بأن مسلكك هو الحق الذي لا خفاء فيه، ولا مرية فيه.
فهذه الدنيا دار ابتلاء، ونحن لا ننسى أبداً أننا في دار امتحان وابتلاء، والنتائج تظهر هناك، وبالتالي فالإنسان قبل أن يخطو خطوة لا بد أن يستفرغ كل وسعه في أن يتأكد أن هذا -فعلاً- يقوده إلى الجنة، وإلى رضوان الله تبارك وتعالى.
فمهما كانت العواطف تسيطر أحياناً على بعض الناس، وتكون هذه العواطف متأججة، فلا اعتبار لها ولا وزن، وإن كان لها اعتبار بحسن النية، والنية بينك وبين الله سبحانه وتعالى، لكن لابد من الإصابة في العمل، نحن لا نتناقش مع أحد في حسن نيته، وما نظن أن أحداً من إخواننا الذين يسلكون هذه المسالك يريد غير وجه الله عز وجل، ولكن نقول: كم من مريد للخير لا يبلغه، ونقول: إنه لابد من استفراغ الجهد في التأكد من أن هذا العمل يرضي الله عز وجل، فقد حصلت محن كثيرة للدعوة، وما نظن أحداً دخل في هذه المحن إلا وكان مخلصاً، مثل فتنة أحداث الحرمين سنة ألف وأربعمائة هجرية، حين ادعى بعضهم ظهور المهدي.
وحصلت أحداث أخرى كثيرة جداً، وكان العمود الذي تقوم عليه هو العاطفة فحسب حسن النية فحسب، بدون بصيرة، وبدون تقدير للأمور.
وهناك أمر مهم جداً، وهو: أنه يحصل في ساحة العمل الإسلامي -أحياناً- نوع من التجاوزات، كما رأينا أمثلته كثيراً في جماعة التكفير، فإن المبتدع أو الإنسان المنحرف يشعر بالوحشة؛ لأنه يشذ عن منهج الفرقة الناجية، فيفزع أحياناً إلى بعض الأعمال لإرهاب المخالف؛ كي يكثر عدد من معه حتى تزول عنه هذه الوحشة، وهو يستوحش إذا رأى رجلاً على علم ليس معه ولا يوافقه، فلذلك رفع هذه القاعدة التي يساء استغلالها: من لم يكفر الكافر فهو كافر، أي: إذا لم توافقه في تكفير هذا الشخص فأنت أيضاً تكون كافراً.
ولسنا في مقام الرد على هذه القاعدة أو سوء استعمالها.
فينبغي لمن أراد وجه الله سبحانه وتعالى، ومن أراد النصيحة للمسلمين في مثل هذه القضايا الحساسة، ألا يضع أي اعتبار لأي نوع من الضغوط، سواء كانت هذه الضغوط من داخل الصف الإسلامي، أو من خارج الصف ممن ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا ضد دين الله، وضد دعوة الله تبارك وتعالى، فالمسلم لا يخضع لأي ضغوط من أي طرف من هذه الأطراف؛ لأنهم دائماً يلوحون بالاتهام وسوء الظن، كقولهم: من لم يشاركنا في هذا المنهج فهو من المنافقين، أو نحو هذا الكلام.(17/7)
عدم التأدب مع العلماء وازدراؤهم من قبل بعض تيارات الجهاد
نلاحظ ملمحاً خطيراً جداً في بعض هذه التيارات، وهو: ازدراء العلماء، والنظر إليهم بتحقير وازدراء وتنقص، علاوة على سوء الظن بهم، وقد يصل الأمر إلى تكفيرهم، كما هو معلوم في بعض البقاع، والإنسان عندما يخرج إلى الخارج يرى هذه الأشياء منتشرة هناك، وكل من أراد أن يقول شيئاً قاله، ولا أحد يمنعه، فمثلاً: هذا الذي يدعي أنه أمير المؤمنين في خراسان يكفر الشيخ علي بلحاج فرج الله كربته، ويقول عن الشيخ ابن باز: أنا -تورعاً- لا أكفره، ولكن هو للكفر أقرب منه للإيمان!! ونلاحظ على بعض هذه التيارات أنهم يبدءون دعوتهم بتشويه سمعة العلماء، وهز الثقة بهم، وما أكثر ما يستغلون أزمة الخليج، وما صدر من بعض أفاضل المشايخ من اجتهادات، ولنفرض -على أسوأ الفروض- أن هذا اجتهاد خاطئ، فكان ماذا؟! اجتهد فأخطأ، فما المشكلة؟! ألم يجتهد الصحابة من قبله فأخطأ بعضهم، وحصل بينهم القتال؟! ومع ذلك كلٌ مثاب على اجتهاده، وكل يريد مصلحة الإسلام والمسلمين، فهؤلاء يريدون أن يحطموا العلماء ليكونوا هم المفتين، ويكونوا هم أهل الحل والعقد في هذه الأمور، بعد تحطيم العلماء، وتشويههم، وازدرائهم.
ومن مرجحات هذا الحوار الصريح: حصول نوع من الخلط بين الأوراق بطريقة سيئة جداً، كما سيأتي في ظاهرة خلط الأوراق، ووضع الأسماء لغير مسمياتها، فهذا أمر شاع، ونحتاج إلى توضحيه.
كما ننبه على ضرورة الحذر من موضوع التأويل؛ فما من فتنة في تاريخ الإسلام كله، وما من دم أريق، ولا بدعة ظهرت، ولا فساد حصل في الأرض؛ إلا بسبب التأويل الفاسد الذي هو عدو الدين.
فهذه الملاحظات نضعها بين يدي الكلام في هذا الموضوع، ولابد أن نتذكر ونحن نبحث هذا الموضوع أننا في دار ابتلاء، والنتائج هناك في الآخرة، فينبغي للإنسان أن يتبصر كثيراً قبل أن يضع قدمه في أي طريق، وينظر في العواقب، ليس العواقب العاجلة فقط، ولكن ينظر إلى العواقب على المدى البعيد، وينظر إلى الآفاق، أما النظر تحت القدمين، أو في العواقب العاجلة والفرح بها؛ فهذا ليس من شأن العقلاء والمنصفين.(17/8)
التحذير من الكتب الجهادية
ومما يتعلق بهذه القضية التي سنتكلم فيها إن شاء الله تعالى: أن هناك بعض المطبوعات تحوي مغالطات جسيمة، وقد اطلعت على بعض المطبوعات تكلم فيها أحد المؤلفين على أحد العلماء الأفاضل، وأنا أتحرج من ذكر اسم العالم؛ لأن الشتم الذي وجه إليه شتم فظيع، وكلام العالم قد يكون غير صحيح، قد ننكر عليه هذا الكلام، اجتهد فأخطأ، فليست هناك مشكلة، لكن الرجل -بعدما حكى كلام العالم- قال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله الذي عافاني مما تقوله هذه الأنعام! فهل يمكن أن يكون في مثل هذا الإنسان خير؟! هو يتطاول على عالم من علماء المسلمين، ولم يحترم حتى شيبته، فضلاً عن العلم والخدمات الجليلة التي قدمها لهذا الدين.
وهذا المنهج الذي أوله ازدراء للعلماء، لاشك أن عاقبته غير حميدة، وهذا الذي نلاحظه، فما وجدنا أحداً ممن يطيل لسانه في أهل العلم إلا وتكون عاقبته سيئة والعياذ بالله، كما قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه فيهم بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
أو كما قال رحمه الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)، لماذا؟ لأن تعظيم العلماء من شعائر الله؛ بل هي من علامات وجود التقوى في القلب، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
فاحترام العلماء، والتأدب معهم، ليس هو احتراماً لأشخاصهم؛ بل هو احترام لشعائر الله، فالعلماء من شعائر الله التي يجب أن توقر، وأن تحترم، وألا تنتهك محارمها، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن أهون الربا مثل أن ينكح الرجل أمه! وإن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)، فإذا كان هذا في المسلم العادي، فكيف بالعالم الجليل؟! ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، قال الإمام أحمد وغيره من الأئمة: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي أي: إذا لم يكن العلماء هم أحق الناس بولاية الله فليس لله أولياء؛ لأنهم أجدر وأولى الناس بولاية الله تبارك وتعالى، فهم الأدلّاء عليه، والمنافحون عن دين الله تبارك وتعالى.(17/9)
أمور يحصل فيها خلط كبير عند التيارات الجهادية
لاشك أن فيما تضمنته هذه المطبوعات التي أشرنا إليها غلطات علمية جسيمة، وهي منشورة، وأحياناً يطلع عليها الكثير من الناس، فيحصل الخلط، فمن خلال (حوار العلم) نرى بعض ما تضمنته هذه الأوراق من شبهات، فمثلاً: الاستدلال على جواز قتل الجنود المسلمين أو بعض المسلمين المدنيين بمسألة التترس، وسنبين -إن شاء الله- الفرق في ذلك، ونبين أنه لا يجوز في أي حال من الأحوال الاستدلال بهذا على ما يحصل الآن من تصرفات.(17/10)
الخلط بين أحكام الجهاد وأحكام الخروج على الحكام
فمن أشد الأمور جسامة: الخلط بين أحكام الجهاد وبين أحكام الخروج على الحكام، فصارت كلمة الجهاد الآن تطلق على الخروج على الحكام، في حين أن هذا الباب مستقل تماماً في الفقه عن باب الخروج.
إذا أطلق الجهاد في سبيل الله فإنما ينصرف إلى قتال الكفار لنشر دين الله سبحانه وتعالى، والذب عنه، والمعاونة على ذلك، فهذا هو الجهاد اصطلاحاً، ولا يمكن أن يستعمل استعمالات أخرى، فالجهاد عند الإطلاق ينصرف إلى هذا المعنى، فهذا باب، وموضوع الخروج على الحكام باب آخر، ولا يمكن أبداً أن يذم الجهاد في حال من الأحوال، فالجهاد في سبيل الله عز وجل ممدوح في كل الأحوال، ما دام أنه مستوفٍ للشروط الشرعية.
أما الخروج فهو نوعان: الأول: خروج على الحاكم الجائر، والثاني: خروج على الحاكم الكافر، والحاكم فيه تفصيل: أما الحاكم الجائر فقد أجمع العلماء على عدم جواز الخروج عليه، وأما الحاكم الكافر فاتفقوا على جواز ذلك، لكن بشروط دقيقة جداً، فقد يذم هذا الخروج أحياناً، وقد يمدح أحياناً.
أما إطلاق الجهاد مطلقاً عليه، فنشبهه بما يحصل من بعض الجماعات الأخرى في تطويع الحقائق الشرعية لمسميات لا تماثل بينها وبين هذه الحقائق الشرعية، كما تفعل جماعة التبليغ، فهم لم يكتفوا في بيان فضل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالآيات والأحاديث الواردة في فضيلة الدعوة إلى الله عز وجل، وهي تكفي، لكنهم عمدوا أيضاً إلى النصوص الواردة في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى في القرآن والسنة، فحولوها وصرفوها إلى الخروج للدعوة معهم، وكلمة الخروج اصطلاح خاص عند جماعة التبليغ، حتى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يجعلونها للخروج معهم؛ بناء على المنام الذي رآه شيخهم محمد إلياس كما يزعمون! وكذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، فيجعلون الخروج في هذه الآية حسب الاصطلاح الخاص بجماعة التبليغ، وهكذا يعمدون إلى نصوص الجهاد ويطلقونها ويطبقونها على هذا النوع من الخروج، كما فعلت الصوفية حينما صرفت نصوص الجهاد إلى جهاد النفس، ويستدلون بالحديث الموضوع: (رجعت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس).
كذلك فعلت بعض هذه التيارات حين أطلقت مصطلح الجهاد على شيء لا يكون تحت اسم الجهاد، والفرق كما بينا: الجهاد في كل الأحوال ممدوح، كما سنفصل ذلك إن شاء الله، أما الخروج فقد يمدح وقد يذم، بالنظر إلى الشروط والضوابط التي وضعها العلماء.(17/11)
اعتقاد أن آية السيف نسخت كل ما يدل على الدعوة بالحكمة والرفق
ومن الخلط للمفاهيم ما يحصل أحياناً -للأسف الشديد- من أناس لا علم عندهم ولا بصيرة ولا فقه في آيات الله تبارك وتعالى، فيقولون: إن آية السيف نسخت كل ما قبلها من الأمر بالدعوة بالحكمة، والرفق في الدعوة، واللين، والصبر على المشركين، والإعراض عنهم، وغير ذلك من المراحل التي سبقت آية السيف وآية الجهاد، فهذا من الخلط الشديد، فهو يفهم أن قول بعض السلف: نسخت براءة كل موادعة، أنها نسخت كل دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويفهمون أن كلمة (النسخ) مثل نسخ الخمر مثلاً بحيث يحرم تماماً امتثال الحكم المنسوخ، وهذا في الحقيقة من أخطر مواضع الزلل والضعف في تفكير القوم؛ نتيجة سوء فهم آيات الله تبارك وتعالى، ولذلك كان السلف يشددون جداً فيمن يتصدر للكلام في الدين أو لتعليم الناس، حتى يمتحنوه في جملة من العلوم، ومن أهمها: الناسخ والمنسوخ، وسنزيد هذا الأمر إن شاء الله تعالى إيضاحاً، لكننا الآن نذكر رءوس أقلام تتعلق بظاهرة خلط الأوراق.
إذا كان هذا الخلط سيترتب عليه آثار في الواقع بعيدة المدى أو أبعد بكثير مما نتصور؛ فحينئذ نحتاج إلى مثل هذه الوقفة.(17/12)
تكفير الجنود والقول بأن بلاد المسلمين بلاد كفر
ومن مظاهر هذا الخلط: إطلاق القول بتكفير الجنود الذين في الجيش أو الشرطة، وبالتالي استحلال دمائهم، وبعضهم يتورع ويقول: أنا لا أكفر الجنود، لكن أكفر القادة.
ومن مظاهر هذا الخلط: إطلاق القول بأن بلاد المسلمين بلاد كفار، وقد ناقشناه من قبل حينما ناقشنا كتاب الغلو في الدين، وإن كنا سنحتاج إلى الرجوع إليه إن شاء الله باختصار.
قال بعضهم: إن بلاد المسلمين ديار كفار، ثم يأتي بكتب الفقه الحنفي بالذات، ويأخذ أحكام دار الكفر، ويطبقها على أوضاع بلادنا اليوم، مع أن موضوع تقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام غير موجود في القرآن والسنة، وإنما اضطر العلماء في عصر الفتوحات إلى هذا التقسيم؛ كي ينظموا ويكيفوا العلاقة بين المسلمين وبين الأمم الكافرة، مثل ما يكاد يحصل من تعاملات، وارتحال بين البلدان، وتبادل الأسرى، فهذه الأحكام صيغت في وضع العزة والقهر والتمكين، حين كان المسلمون قاهرين للكفار في كل بقاع الأرض، فهذه الأحكام لها ارتباط وثيق جداً بموضوع الغلبة والعزة والقوة، ومن الخلط قيام البعض بأخذ الأحكام من الكتب، وتطبيقها على واقعنا بلا أدنى بصير.
ومن الملاحظات المهمة في هذا الباب -الذي سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى-: تضرر القائمين في ساحة الدعوة من الأخطاء الصادرة من بعض مسالك الجماعات الأخرى، فنقول: إن شروط إنكار المنكر معروفة، ومن ضمن هذه الشروط: ألا يحصل ضرر متعد إلى من لا يوافقك على هذه الأعمال، فإن ساحة الدعوة مشتركة، وإذا استأثرت جماعة معينة بتصرف فإن آثاره تمتد إلى غيرها، ولا شك أن هذا يخالف الأصول والقواعد الفقهية المعروفة، وهذا سنزيده تفصيلاً إن شاء الله.(17/13)
أحكام مهمة تتعلق بالجهاد
نذكر أسساً مهمة جداً فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهي: حكم الجهاد في الإسلام، وما هو الجهاد؟ للجهاد حالتان: أولاً: إذا كان للمسلمين دار وسلطان وقوة ومنعة، ففي هذه الحالة ينقسم الجهاد إلى نوعين: الأول: جهاد الطلب والغزو.
الثاني: جهاد الدفاع.
ثانياً: إذا لم يكن للمسلمين دار ولا سلطان ولا منعة ولا استطاعة، ففي هذه الحالة ننظر في مراحل تشريع الجهاد، ونبحث عن أقربها إلى واقعنا، ونستنبط الحكم منه.
فمن المعلوم أن تشريع الجهاد مر بأربع مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة الكف عن المشركين، والإعراض عنهم، مع الاستمرار في دعوتهم إلى الحق.
المرحلة الثانية: مرحلة إباحة القتال من غير فرض.
المرحلة الثالثة: مرحلة فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط.
المرحلة الرابعة والأخيرة: قتال جميع الكفار ابتداءً، حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
وهناك نصوص عن علماء المذاهب الأربعة في إثبات هذه المراحل السابقة.
ونحتاج إلى بيان قضية مهمة جداً، وهي قضية الجهاد والنسخ، فموضوع النسخ في مراحل الجهاد من أهم الموضوعات، وسنذكر أقوال بعض العلماء، وننظر هل هناك نسخ في مراحل الجهاد أم لا؟ ثم نذكر الآثار المترتبة على سوء فهم قضية الناسخ في مراحل الجهاد.
وكما ذكرنا من قبل فالجهاد في سبيل الله عز وجل لا يختلف العلماء في مشروعيته، ولا خلاف في مشروعية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وإنما تكمن المشكلة في إطلاق مصطلح (الجهاد) على تصرفات خاطئة ليس لها علاقة بالجهاد.
وقد يكون الخلاف في مدى تحقق مشروعية الجهاد في واقع معين وظروف معينة، وينبغي أن يراعى في هذا الأمر الفرق بين ماضي الأمة وحاضرها، وسنذكر شروط الجهاد الشرعي، ونبين أنه لا يجوز ذم الجهاد بحال من الأحوال، فإن الجهاد فريضة وعبادة لا تُذم أبداً بأي حال من الأحوال، فلا يجوز أبداً أن يوصف الجهاد بالعنف، أو التطرف، أو الإرهاب، أو ما إلى ذلك من المسميات؛ لأن الذي ينكر هذا سينكر القرآن الكريم، وبالتالي يخرج من ملة الإسلام والعياذ بالله.
فآيات الجهاد في القرآن الكريم أكثر وأوضح من أن نحتاج إلى إيرادها في مثل هذا السياق، فالجهاد الذي هو الجهاد الشرعي الاصطلاحي يمدح في جميع الأحوال كما سبق، لكن ما يهمنا هو مناقشة أشياء يطلق عليها جهاد، وهي لا تندرج تحت باب الجهاد، وبالتالي فهناك فرق في الأحكام بين هذه الأمور، فإن هناك تصرفات تسمى جهاداً في هذا الزمان، وهي إما أن تدخل تحت باب النهي عن المنكر، أو الأمر بالمعروف، أو تحت باب الخروج على الحاكم، ولا يعترض أحد ويقول: هذا يسمى جهاداً، نعم، يسمى جهاداً، نقول: لكن ليس على الإطلاق؛ إذ ليس هذا هو الجهاد الاصطلاحي، بل يدخل تحت الجهاد العام، الذي يطلق على سائر أنواع العبادات، كما أن العبادة جهاد، ومدافعة الشهوات جهاد، وذكر الله جهاد، والزكاة جهاد، وأي طاعة لله فهي جهاد؛ لأنه عبارة عن بذل الجهد والمشقة في سبيل تحصيل الطاعة، وهذا سنناقشه إن شاء الله بالتفصيل فيما بعد.(17/14)
حكم الجهاد
ما حكم الجهاد إذا كان للمسلمين دولة وسلطان وقوة على الجهاد؟ الجهاد نوعان: النوع الأول: جهاد الطلب والغزو.
النوع الثاني: جهاد الدفاع.(17/15)
جهاد الطلب
فجهاد الطلب: هو تطلب الكفار في عقر دارهم، ودعوتهم إلى الإسلام، وقتالهم إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام، وحكم هذا النوع أنه فرض على مجموع المسلمين، أي: فرض على أمة المسلمين ككل، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5].
وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
وقوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق).
وقد أجمع علماء المسلمين على أن جهاد الكفار، وتطلبهم في عقر دارهم، ودعوتهم إلى الإسلام، وجهادهم إن لم يقبلوه أو يقبلوا الجزية؛ فريضة محكمة غير منسوخة.
قال ابن عطية في تفسيره: واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين.
فهذا إجماع من جمهور العلماء أن جهاد الطلب والغزو فرض كفاية، إذا قام به جماعة من المؤمنين فيهم غناء لأهل الإسلام أو لنشر الإسلام والدعوة إليه، فليس على كل مسلم أن يخرج معهم، ما داموا يؤدون المهمة، فالباقون لا يأثمون.
واستدل الجمهور بالأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في هذه الآية: الجهاد ليس على الأعيان، وهو فرض كفاية؛ إذ لو نفر الكل لضاع مَن وراءهم من العيال، فليخرج فريق للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون، أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95].
فقوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ) إلى آخر الآية، يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، أي: ما دامت الكفاية تحصل بهؤلاء المجاهدين.
الدليل الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان: ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) رواه مسلم.
الدليل الرابع: قال عليه الصلاة والسلام: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) رواه مسلم.
وفي هذا: أن من قعد، ولم يخرج للجهاد، فإنه لا يأثم، ما دام الخارجون تحصل بهم الكفاية.
ومن الأدلة على أنه فرض كفاية: فعل النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، فقد كان يخرج في الغزو تارة، ويبقى تارة، ويؤمر غيره على السرية، ولم يكن يخرج جميع أصحابه، بل بعضهم، وهذا أمر واضح مستفيض، كما في غزوة مؤتة وغيرها.(17/16)
جهاد الدفع
أما النوع الثاني من أنواع الجهاد -وهو جهاد الدفاع- فحكمه فرض عين على المسلمين عموماً، حتى يندفع شر الأعداء، وهذا بإجماع المسلمين.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: إذا تعين الجهاد لغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله العقرى، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم، كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم، وعلم أنه يدركه ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها، سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها؛ لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو، ولا خلاف في هذا.
إذاً: لا خلاف في أن جهاد الدفاع فرض عين على الجميع كما أشرنا.
وهنا تنبيه مهم جداً فيما يتعلق بهذين النوعين: (جهاد الطلب) و (جهاد الدفاع)، فقد ذكر العلماء أنه لا خلاف في أن أحكام الجهاد المتقدمة تقع إذا كان للمسلمين دار وسلطان، وكان بهم قوة على الجهاد، وأما إذا لم يكن لهم قوة ولا دار ولا سلطان، فهذا ما سنوضحه -إن شاء الله تعالى- فيما بعد، في البحث حول مراحل تشريع الجهاد، ونكتفي الآن بهذا القدر، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(17/17)
نساء عدن إلى الله
إنّ طاعة الله تعالى هي حياة الأرواح، وزاد القلوب، وهي الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والنديم في السمر.
فقد سعى إليها الأولون سعياً حثيثاً، وشمروا لها تشميراً؛ رجالاً ونساءً، شباباً وشيباً، وقد حفظت لنا كتب التراجم أخبار نساء عابدات قانتات سبقن كثيراً من الرجال، فما أحوجنا إلى معرفة أخبارهن؛ لتكون لنا زاداً في طريق سيرنا إلى الله تعالى.(18/1)
الحث على طاعة الله تعالى
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي! انظروا إلى عبدي! ثار عن فراشه ووطائه ومن بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي.
ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي! رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه).
هذا الحديث قال عنه المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه من رواية ابن مسعود، والحديث حسنه الألباني، وقال الشيخ شاكر في تحقيق المسند: إسناده صحيح.
قوله: (عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه) (ثار) أي: نهض ووثب بعلو همته، كما قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، والوطاء هو الفراش، واللحاف هو ما يتغطى به (من بين حبه) أي: حبيبه (إلى صلاته) أي: ينهض إلى الصلاة والتنفل والقيام لله تبارك وتعالى، (فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي! انظروا إلى عبدي! ثار عن فراشه) أي: نهض وقام عن فراشه (ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقه مما عندي) أي: رغبة فيما عندي من الجنة (وشفقة مما عندي) أي: خوفاً من عذابه تبارك وتعالى.
والثاني يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع) أي: علم ماذا ستكون عقوبته عند الله عز وجل إن هو فر من الأعداء، وعلم -أيضاً- ما له من الثواب الجزيل إذا رجع يقاتل ويجاهد هؤلاء الأعداء، (فرجع حتى أهريق دمه) أي: فرجع يحتسب نفسه عند الله، وقاتلهم منفرداً حتى أهريق دمه، (فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي! رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه).
وهناك أحاديث أخرى في نفس معنى هذا الحديث، منها: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم، -وذكر أولهم- رجل إذا انكشفت فئة قاتل وراءها، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا، كيف صبّر لي نفسه؟!) أي: حبس لي نفسه، فقوله: (انكشفت فئة) يعني: انهزمت في أثناء القتال، وقوله: (قاتل وراءها) أي: قاتل بنفسه منفرداً حتى يردها ابتغاء وجه الله عز وجل، (فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول -أي: يقول الله عز وجل-: (انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي نفسه؟!).
ثم قال: - (ورجل له امرأة حسنة، وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول) - أي: فيقول الله تبارك وتعالى: (يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد! ورجل كان في سفر، وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء) يعني: يذكر الله تبارك وتعالى، ويثني عليه، ويصلي له في ضراء وسراء.
هذا الحديث رواه الطبراني في الكبير وقال: إسناده حسن، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات، وحسنه الألباني.
هؤلاء الثلاثة يضحك الله إليهم، اثنان منهم قاما الليل، أحدهما قامه وسط أهله وترك زوجته الحسناء وفراشه الوثير، والآخر قامه في سفر بعد أن كابد السفر وهوله، ومن ضحك الله إليه لا يمكن أن يدعه من الإنعام والإكرام.
(فهؤلاء ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم: أحدهم الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي نفسه! والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول الله تعالى: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد! والذي كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء).
ومن هذا الباب -أيضاً- قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله) أي: يبغضهم الله تبارك وتعالى (الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم) والسرى هو المشي ليلاً حتى يحبوا أن يمسّوا الأرض.
أي: يحبون أن يناموا على الأرض من شدة الإرهاق في السفر، قال: (فينزلون، فيتنحى أحدهم) أي أنه يشاركهم في الإرهاق والتعب وعذاب السفر، ومع ذلك إذا هجعوا وناموا فإنه يتنحى ولا ينام طمعاً فيما عند الله (فيتنحى أحدهم، فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن) والظعن هو الانتقال أو السفر (والذين يشنؤهم: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان).
هذا الحديث عزاه السيوطي في (الجامع) للإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر، ورواه الموطئي -أيضاً- بلفظ آخر بإسناد جيد، وقال الألباني: رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وابن المبارك وابن نصر وابن أبي شيبة والطحاوي، وصححه الألباني.
قوله: (والذين يشنؤهم: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان) (يشنؤهم) أي: يبغضهم الله تبارك وتعالى (التاجر الحلاف) أي: الذي ينفق سلعته ويروجها بالحلف الكاذب، فيصدق الناس قوله بسبب حلفه بالله تبارك وتعالى، ويغفل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة) فالحلف قد ينفق السلعة، لكنه يمحق بركة هذا المال الذي جاء بالحلف.
وقوله في الحديث: (التاجر الحلاف) فيه ذم للشخص الذي يكثر الحلف حتى ولو كان صادقاً، وأما من يحلف أحياناً وهو صادق، وأحياناً لا يحلف فإنه لا يكون كثير الحلف، فالتاجر الذي يبالغ في الحلف ويكثر منه يبغضه الله تبارك وتعالى ولو كان صادقاً، أما إذا كان كاذباً فهو حلف يهلكه ويغمسه في النار، ومن كان صادقاً لا يخلو من الذم؛ لأنه ينبغي للإنسان أن لا يكثر من الحلف، وإنما يجعل الحلف لعظائم الأمور، أو يقلل منه بشرط أن يكون صادقاً.
وهناك أيضاً رواية ثالثة قريبة من هذه الروايات، وهي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو ذر في رواية أخرى: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم) أي: سألهم بالله أن يتصدقوا عليه، ومعلوم أن الإنسان إذا سئل بالله وجب عليه أن يعطي السائل، يقول عليه الصلاة والسلام: (من سألكم بالله فأعطوه)، ويقول الله سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] فالسائلون والناس لو عرفوا هذا لانتفعوا كثيراً، فمن سألك بالله وجب عليك أن تعطيه أيَّ شيء، ولا ترده على الإطلاق.
فهذا الرجل أتى هؤلاء القوم، وسألهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم (فمنعوه) أي: فمنعوه الصدقة ولم يجيبوه (فتخلف رجل بأعقابهم) أي: تخلف في نهاية القافلة أو القوم، وكان رجلاً صادقاً في طاعته لله تبارك وتعالى، فأراد أن لا يُرى أنه تصدق (فتخلف رجل بأعقابهم، فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه) فهذا يحبه الله (وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به وضعوا رءوسهم، فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي)، فهذه فضيلة ظاهرة لقيام الليل خاصة في السفر ومع شدة المشقة (ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا، فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له، والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم).
فهذه بعض الأحاديث التي فيها الحث على طاعة الله تبارك وتعالى، والاجتهاد في ذلك مع إخلاص النية.(18/2)
حث الرجل أهله ومن يعول على طاعة الله تعالى
هناك أحاديث أخرى فيها الترغيب على أن يحث الرجل أهله ومن يلوذ به على طاعة الله عز وجل، وتُعلي همته في ذلك، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته) فهذا فيه أنّ من فعل ذلك دخل في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (رحم الله رجلاً! قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم، وصححه -أيضاً- النووي وغيره.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أبت) أي: إن أبت زوجته (نضح في وجهها الماء)، وأيضاً (فإن أبى) أي: أبى زوجها (نضحت في وجهه الماء) والمقصود الماء أو ما يقوم مقامه، فإذا كان سينفعل ويثور إذا نضحت في وجهه الماء البارد فيمكن أن تستبدله بأي عطر أو طيب أو أي شيء له رائحة طيبة، بحيث لا يستفزه ذلك وتعين الشيطان عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل، وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً، كتبا ليلتئذٍ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإيقاظ نسائه ويقول: (أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).
وجاء في الحديث الآخر أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ على ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فأمرهما بقيام الليل، فأجابه علي رضي الله عنه قائلاً: (يا رسول الله! أرواحنا بيد الله، يبعثها متى شاء) فانصرف صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذيه ويقول: ({وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).(18/3)
الحث على طاعة الله تعالى في المواسم المباركة
إنّ هذه الأحاديث هي مقدمة هذا الموضوع الذي سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى، وهو موضوع الحث على طاعة الله تبارك وتعالى والاجتهاد فيها، خاصة في هذا الموسم العظيم، وهو موسم يغفل عنه أكثر الناس مع أنه لا يقل أهمية عن رمضان أو عن العشر الأواخر من رمضان.
وهذا الموسم هو عشر ذي الحجة، والناس في هذا الموسم على قسمين: فمنهم من ييسر الله له الرحيل إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ومنهم من يعذر ولا يستطيع الذهاب، فربما رحل بقلبه، وهذا الفريق الثاني الذي لم ييسر الله له السفر إلى بيت الله الحرم قد أقام الله عز وجل له موسماً للطاعات فيه ثواب جزيل جداً إذا اغتنمه، فعلى الإنسان أن يعمره بالصلاة والصيام والصدقة وذكْر الله عز وجل، وقراءة القرآن، وسائر أنواع الخير، وأن يجتهد في ذلك، وينبغي الاستعداد لهذا الموسم قبل مجيئه، وأن يفرغ الإنسان نفسه لطاعة الله عز وجل حتى لا يكون من الخاسرين في هذا السوق العظيم.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من أيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه يجاهد في سبيل الله عز وجل فلم يرجع من ذلك بشيء).
لقد أقسم الله تعالى بليالي عشر ذي الحجة فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] وهي ليالي العشر من ذي الحجة، والعمل في أيام العشر ثوابه العظيم، فهذه فرصة من الفرص النادرة التي يكون فيها الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى، فنحتاج إلى إيقاظ الهمم حتى تسمو نفوسنا إلى طاعة السابقين واجتهادهم، فإن العلماء يذكرون أن أعظم طريقة في إصلاح القلوب وتزكية النفوس هي أن يعايش الإنسان إنساناً أو شيخاً أو قدوة يقتدي به في أحواله، ويعرف السنن من سلوكياته، فإذا عَزَّ هذا -كما في هذا الزمان الذي نعيشه- فإن البديل هو أن يكثر الإنسان من مطالعة أحوال الصالحين، خاصة في القرون الخيِّرة الأولى وما تلاها من حياة من تبعوهم بإحسان، فيطالع أخبارهم حتى يستثير همته، ويكون له فيهم أسوة، فهذا الذي يخرج الأمة المجاهدة، والأمة العابدة، والأمة العاملة لدينها، والتي تحقق العبودية لله وتعرف ما هو هدفها من هذه الحياة، وكيف تستثمره، لا الأمة التي جعلت هدفها هي الأهداف التي يحققها لاعبو الكرة، ولا الأمة التي هدفها أن تصير الأولى في العالم في اللعب واللهو وتنسى الجهاد في سبيل الله.(18/4)
انشغال المسلمين بالدنيا واللهو ونسيانهم قضايا الأمة الكبيرة
مما يؤسف له أنّه حصل موقف يتحسر فيه المرء على حال المسلمين، فقد قال مراسل الـ ( B.
B.
c) يصف القاهرة: القاهرة من أكثر عواصم العالم ازدحاماً، سواء أكان ذلك في ليل أم في نهار.
ويقول: أنا مع طول مكثي في القاهرة ما رأيت العاصمة قبل ذلك على هذه الهيئة، فقد ظهرت عاصمة مصر على حالين متناقضين تماماً: الأولى: أثناء إذاعة المباراة باتت الشوارع وكأن المدينة قد فرض عليها نظام حظر التجول.
والصورة الأخرى التي تضادها تماماً هي ما كان من الناس بعدما حصل الفوز العظيم والنصر المبين، وكأن القدس قد استعيدت، وفلسطين قد رجعت، وكأن أفغانستان قد عادت، وكأن شرع الله قد طبق، وكأن كل الأهداف التي تعيش لها هذه الأمة الغافلة اللاهية التي صارت أضحوكة الأمم قد حققت، فترى أفرادها أوائل في اللعب واللهو، أما الجهاد والعيش للهدف الذي خلقنا الله من أجله وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فيسمى تطرفاً.
وفي نفس هذا اليوم -أعني يوم الفوز العظيم الذي حققه المجاهدون في ميدان الكرة- أعلن نائب رئيس الأركان الإسرائيلي أن إسرائيل تعتقد حتمية قيام حرب رابعة أو حرب جديدة مع عدة دول عربية، ذكر منها مصر وسوريا والأردن والعراق.
وهل ذكر السعودية؟ إنني غير متأكد من ذكر السعودية، ولو ذكرها لكانت المصيبة أكبر؛ لأنهم يطمعون في المدينة المنورة، وفي نفس هذا اليوم الذي صدر فيه هذا التصريح يخرج المحدث المصري يرتعد من الخوف ويقول: كيف هذا؟! هذا يتعارض مع السلام الذي نحن عليه وكذا وكذا، وفي نفس هذا اليوم -أيضاً- خنق ستون طفلاً فلسطينياً في مستشفى الأطفال في محاضنهم من تأثير الغازات المسيلة للدموع التي ألقاها اليهود -لعنهم الله- عليهم، أفنحب أن يكون في كل بيت مأتم؟! فما الفرق بين أن يكون هؤلاء الأطفال إخوانك أو أبناؤك؟! كيف يحصل هذا الانتصار الشعوري، فنحن في نشوة وانتصار كأن فلسطين قد فتحت، وكأن القدس قد عادت، ومثل هذا من التفاهات واللهو واللعب يحصل.
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم، وكم في مصر من المضحكات! ولكنه ضحك كالبكاء.
ترى الناس يبكون وكأنهم يبكون من خشية الله، إنّا نعيش مأساة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالمقصود أن التربية هي التي تنشئ هذه الأمة المجاهدة، وأنا أريد أن أسأل الإخوة المجاهدين الذين يمكثون أمام التلفزيون الساعات الطوال، وربما تخلفوا عن صلاة الجماعة ببسب هؤلاء الشياطين المجرمين فأقول: لو كان بينكم الآن أبو بكر أو عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد أو سعد بن أبي وقاص أو عبد الرحمن بن عوف أو ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أو صلاح الدين الأيوبي هل كانوا سيمكثون أمام اللعب واللهو وينظرون إلى هذا الجهاز الجديد؟! إنّ هذه صورة جديدة من الجهاد تحشد لها أمة بكاملها، وتحشد لها الملايين وتنفق عليها.
فهل تسأل -يا من تسأل وتكثر السؤال-: هل النظر إلى المباريات حلال أو حرام؟ هل عرضت على قلبك هذا السؤال؟! هل كان عمر سيمكث هذه الساعات أمام هذا الباطل وأمام هذا اللغو؟! الله المستعان! إننا نوبخ أنفسنا بمقارنة أحوالنا وأحوال السابقين، فلن نقارن بين رجالنا ورجالهم، بل سنقارن بين رجالنا ونسائهم، ونردد قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أحب الصالحين ولست منهم علي أن أنال بهم شفاعة وأبغض من تجارته المعاصي إن كنا سواء في البضاعة ونقول: أما لك في الرجال أسوة؟! أتسبقك وأنت رجل النسوة؟! وبين أيدينا نماذج من نساء السلف اجتهدن في طاعة الله تبارك وتعالى.(18/5)
نماذج من نساء السلف العابدات
فنقول: إن المرأة المسلمة التي رباها القرآن والسنة قد فقهت عن الله تبارك وتعالى أمره، وتدبرت في حقيقة الدنيا ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشت من حشمتها، وتجافى جنبها عن مضجعها، وتناءى قلبها عن المطامع، وارتفعت همتها عن السفاسف، فلا تراها إلا صائمة قائمة باكية نائحة، وقد حفل التاريخ الإسلامي بالخيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الجد عن علم ورسوخ عقيدة، لا عن حماقة وجهالة، كما تجد في كثير ممن وصفن بالنسك والتصوف، تجد في دواوين الإسلام أخباراً كثيرة عن النساء العابدات، بدءاً من صدر العهد النبوي إلى ما تلاه من القرون.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفتخ والقرط والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال رضي الله عنه، وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن)، وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين، وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18].
لقد كان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة وحسن الأحدوثة، فأصبح بالإسلام مما تفيض منه الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضات الله عز وجل.(18/6)
أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله تعالى عنها
وفي قمة هؤلاء العابدات نساء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهن، ويتصدر نساء الصحابة أمهات المؤمنين وآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى رأس هؤلاء جميعاً أم المؤمنين أم عبد الله الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سموات، حبيبة خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء على الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد.
وقال القاسم: كانت عائشة تصوم الدهر.
ويحمل هذا على أنها كانت تصوم ما سوى الأيام المنهي عن صيامها، كأيام الحيض، وأيام التشريق، ويوم العيد.
وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم.
وعن القاسم أنها كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
وقال عروة: كنت إذا غدوت -يعني: خرجت في الصباح- أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها، فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح -أي: تصلي النافلة، ولعلها كانت تصلي الضحى والله أعلم- وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام -أي: وقف ينتظرها حتى مل القيام والوقوف- فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي.
وعن عروة قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله تعالى إلا تصدقت به، فقال عروة: بعث معاوية رضي الله عنه مرة إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف درهم، فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ قالت: لو ذكرتيني لفعلت.
وعنه أيضاً قال: إن عائشة تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جانب درعها.
وعن محمد بن المنكدر عن أم ذرة -وكانت تغشى عائشة وتتردد عليها- قالت: بعث إلى عائشة ابن الزبير بمال في غرارتين -قالت: أراه ثمانين ومائة ألف-، فبعث بطبق -وهي صائمة يومئذ- فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية! هلمي فطوري -أي: أحضري فطوري-، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت -مما قسمت اليوم- أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟! قالت: لا تعنتيني، لو كنت أذكرتيني لفعلت.
وعن عبد الواحد بن أيمن الحبشي قال: حدثني أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قطر ثمنه خمسة دراهم، وقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي فانظر إليها، فإنها تزهى أن تلبسه في البيت -أي: أنّ الجارية كانت تستنكف أن تلبس مثل هذا الثوب الذي على عائشة وهي في البيت- وقد كان لي منهن درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين في المدينة إلا أرسلت إلي تستعيره.
أي: يستعرنه في المناسبات كي يلبسنه.
وعن عبد الله بن أبي مليكة أنه جاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن.
وذلك حينما كانت تحتضر رضي الله عنها.
ولا يخفى على مسلم مكانة عائشة رضي الله عنها ومقامها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يحبها إلا من كانت أمه فهي أم المؤمنين، ومن أبغضها فليس من المؤمنين.
وفضائل عائشة رضي الله عنها كثيرة جداً تحتاج لدروس كثيرة مستقلة، ويكفي في فضلها وشرفها رضي الله تبارك وتعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان على وشك أن يفارق الدنيا اختار حبيبه لخلافته في الصلاة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واختار المكان الذي يقبض فيه وهو بيت عائشة رضي الله عنها، وهي ابنة أبي بكر رضي الله عنه، فتباً وسحقاً للرافضة الذين يلعنونهما ويتقربون إلى الله ببغضهما، فهم المطرودون المبعدون.
فحينما كانت أم المؤمنين رضي الله عنها في وقت احتضارها وهي تشرف على الموت قال لها عبد الله بن أبي مليكة: هذا ابن عباس يستأذن -يعني: يستأذن على أم المؤمنين- فقالت: دعني من ابن عباس.
تعني: لا تدخلوا ابن عباس؛ لأنّها كانت تعلم شدة حب ابن عباس لها، ولعله إذا دخل عليها جعل يمدحها ويرجيها، كما هي السنة أنك إذا حضرت رجلاً يحتضر فلا يناسب أن تكثر من ذكر الخوف؛ لأنّ ذكر الخوف قد يخرج به إلى القنوط، فذكر الخوف ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو باعث ومحرك حتى تعمل، وحتى تسعى إلى العمل، أما إذا انقضت المهلة ولم يبقَ وقت تعمل فيه فإن الخوف مع عدم إمكان العمل قد يؤدي إلى القنوط، والله تعالى يقول: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] لذا فإنّ المستحب إذا حضرت شخصاً مسلماً يحتضر أن تذكره بما فعل من الأعمال الصالحة، وأن تذكره بأعماله الطيبة، مثل أن تقول: لقد كنت تصلي جماعة، وكنت تكثر من ذكر الله، وكنت تتقي الحرام، ويذكره بالأعمال الصالحة حتى يدخل في الرجاء ويقبل على الله تبارك وتعالى وهو يحسن الظن به.
فالمقصود أن أم المؤمنين قالت: دعني من ابن عباس.
فقال لها: يا أماه! إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلم عليك ويودعك! فقالت: ائذن له إن شئت.
فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري أبشري! فما بينك وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد -لأنه كان يؤمن أنها زوجته في الجنة رضي الله عنها- كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل.
وهذه القصة هي أنه حينما سقطت قلادتها أوقف الرسول عليه الصلاة والسلام جميع الجيش الذين معه ليبحثوا عن قلادة عائشة رضي الله عنها ليلة كاملة، فغضب منها أبو بكر رضي الله عنه لما علم أنهم أنما حبسوا بسببها، فأتاها ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على فخذها، فجعل أبو بكر يطعن في خاصرتها ويقول: حبستينا.
فكانت تتألم جداً من هذا الضرب، ولكنها لم تتحرك حتى لا يستيقظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانت تثبت في مكانها رغم شدة هذا الطعن الذي كان يطعنها به أبو بكر رضي الله عنه في خاصرتها، ويوبخها بأنها تسببت في حبس المسلمين، فأصبح الناس وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله عز وجل: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43].
فحينئذ تيمموا، وأرادوا أن يرحلوا فإذا بالقلادة تحت جملها الذي كان باركاً.
فالشاهد أن ابن عباس قال لها في ضمن مناقبها رضي الله عنها: وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل، فأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]، وكان ذلك بسببك.
ولذلك قال أسيد بن حضير لها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
أي: ليست هي أول بركتكم على الأمة، فإن لكم بركات كثيرة.
قال ابن عباس: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات جاء بها الروح الأمين، فأصبح وليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه إلا تتلى فيه آناء الليل وآناء النهار.
فردت أم المؤمنين رضي الله عنها: يا ابن عباس! دعني منك ومن تزكيتك، فو الله لوددت أني كنت نسياً منسياً.(18/7)
أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها
وكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم امرأة صناعاً، وكانت تعمل بيدها، وتجمع المال من هذه الصنعة التي كانت تعملها، ولعلها كانت تغزل أو تفعل شيئاً من هذا القبيل، فكانت تجمع المال ثم تتصدق به كله في سبيل الله تبارك وتعالى، وكانت صالحة صوامة قوامه بارة، وكان يقال لها: أم المساكين.
وفيها قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين توفيت: لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل.
كانت زينب مفزع اليتامى والأرامل، يفزعون إليها حتى تفرج كرباتهم رضي الله عنها.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: حبل لـ زينب) أي أنها تصلي فإذا فترت تعلقت به حتى تواصل الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) وفي رواية قالوا: (زينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد).
وعن عبد الله بن رافع عن برة بنت رافع قالت: لما جاء العطاء -وهو المال الذي كان يوزعه الخليفة على المسلمين في كل سنة- بعث عمر إلى زينب رضي الله عنهما بالذي لها -أي: بنصيبها من المال- فلما دخل عليها قالت: غفر الله لـ عمر! لغيري من أخواتي كان أقوى على قسم -أي: توزيع- هذا مني.
قالوا: هذا كله لك -وهي ظنت أن عمر أرسله إليها حتى توزعه- فقالت: سبحان الله! واستترت دونه بثوب -أي أنها خافت من هذا المال وابتعدت عنه واستترت بثوب- فقالت: صبُّوه، واطرحوا عليه ثوباً، فصبوه وطرحوا عليه ثوباً، فقالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي به إلى آل فلان وآل فلان من أيتامها وذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برة: غفر الله لك! والله لقد كان لنا من هذا حظ -أي: كان الأصل أن تبقي لنا حظاً من هذا المال- قالت: فلكم ما تحت الثوب، فرفعنا الثوب فوجدنا بضعة وثمانين درهماً، ثم رفعت يدها وقالت: اللهم! لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، قال: فماتت رضي الله عنها.
وعن محمد بن سعد قال: كان عطاء زينب اثني عشر ألف درهم -هكذا كانت تُعطى في كل سنة- فحُمل إليها فقسمته في أهل رحمها وفي أهل الحاجة حتى أتت عليه، فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير، فوقف على بابها وأرسل بالسلام، وقال: قد بلغني ما فرقت، فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها على نفسها، فسلكت بها طريق ذلك المال.
وروي عنها أنها حين حضرتها الوفاة قالت: إني قد أعددت كفني، ولعل عمر سيبعث إلي بكفن، فإن بعث بكفن فتصدقوا بأحدهما، فإن استطعتم -إذا أبليتموني- أن تصدقوا بحقوتي فافعلوا.
وزينب رضي الله عنها هي التي كان يقول فيها عليه الصلاة والسلام: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) يعني أن أول أمهات المؤمنين ستموت بعده صلى الله عليه وسلم أطولهن يداً، ففهمنها على ظاهرها، فكانت أمهات المؤمنين يقسن أيديهن على جدار، فترفع كل واحدة منهن يديها حتى يقسنَ وينظرن من منهن أطول يداً؟ فبعد ذلك حينما توفيت زينب فهمن أن مقصود الرسول عليه الصلاة والسلام كان طول يدها في المعروف وأسرعهن صدقة.
قالت عائشة رضي الله عنها: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً، وكانت زينب تعمل وتتصدق بما يأتيها من المال.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها تساويني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تتقرب به إلى الله تعالى، ماعدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة.
فانظر إلى هذا المدح والوصف من ضرتها؟!(18/8)
أم المؤمنين زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها
وأم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله الهلالية كانت -أيضاً- تدعى أم المساكين، وهي غير زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت كثيرة المعروف، ولذلك كانت تلقب بأم المساكين.(18/9)
أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنها
أما أم المؤمنين حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقد كانت أيضاً تسامي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في منزلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عابدة خاشعة قانتة لله تبارك وتعالى، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم راجعها بأمر الله تعالى له بذلك، فقد أتاه جبريل عليه السلام فقال له: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة) فجعل كثرة صيامها وقيامها سبباً في أمر نبيه أن يراجعها ولا يطلقها، وفي أنّها تكون زوجته في الجنة إذا ماتت وهي زوج لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي شهادة وتزكية لـ حفصة رضي الله عنها بعد شهادة وتزكية الله تبارك وتعالى لها من فوق سبع سموات؟!(18/10)
أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها
أما أسماء بنت أبي بكر بن عبد الله بن أبي قحافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين فهي أم عبد الله القرشية التيمية والدة الخليفة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وأخت أم المؤمنين عائشة، وهي المعروفة بـ ذات النطاقين، وقد كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات، قال ابن أبي مليكة: كانت أسماء تصدع -أي: يصيبها الصدع- فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي، وما يغفره الله أكثر.
وعن فاطمة بنت المنذر قالت: إن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها.
وعن محمد بن المنكدر قال: كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما سخية النفس.
وعن الركين بن الربيع قال: دخلت على أسماء بنت أبي بكر وقد كبرت وهي تصلي وامرأة تقول لها: قومي، اقعدي، افعلي، من الكبر.
أي: من شدة طعنها في السن.(18/11)
أم الدرداء الصغرى رحمها الله تعالى
وأما أم الدرداء الصغرى: فهي السيدة العالمة الفقيهة هجيمة بنت حيي الأوصابية زوجة أبي الدرداء رضي الله عنه، عرضت القرآن -وهي صغيرة- على أبي الدرداء رضي الله عنه، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد.
قال عون بن عبد الله: كنا نأتي أم الدرداء فنذكر الله عندها.
وقال يونس بن ميسرة: كن النساء يتعبدن مع أم الدرداء، وإذا ضعفن عن القيام تعلقن بالحبال.
وعنه أيضاً قال: كنا نحضر أم الدرداء فتحضرها نساء عابدات يقمن الليل كله، حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.(18/12)
السيدة سكينة بنت الحسين رحمها الله تعالى
أما السيدة الشريفة العفيفة التقية النقية سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فكانت شهمة سخية كريمة، وكانت تجود بكل ما لديها من مال، فإن لم يكن مال فبشيء من الحلي الذي تلبسه.(18/13)
السيدة نفيسة بنت الحسن رحمها الله تعالى
أما السيدة المكرمة الصالحة نفيسة فهي بنت الحسن بن زيد بن السيد سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي العلوية الحسنية رضي الله عنها، وهي السيدة نفيسة المدفونة في القاهرة، وللأسف أنه يفعل بقبرها من الشرك ما الله ورسوله والمؤمنون منه براء، وهي -أيضاً- بريئة منه، كانت -رحمها الله وأكرمها- من الصالحات العابدات، زاهدة تقية نقية، تقوم الليل وتصوم النهار، وتكثر البكاء من خشية الله عز وجل، حتى قيل لها: ترفقي بنفسك.
لكثرة ما رأوا منها، فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟! وقد حجت ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن حكى أنها دخلت مصر مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر الصادق فأقامت بها، يقول ابن كثير: لما دخلت مع زوجها أقامت بها، وكانت ذات مال، فأحسنت إلى الناس والجذامى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير، ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه، وكان ربما صلى بها في شهر رمضان، وحين مات أمرت أن تُدخل جنازته إليها، فأُدخل جثمانه رضي الله عنه عليها فصلت عليه.
ولها أخبار طيبة، منها أنها لما قدمت إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق، -وقيل: مع أبيها الحسن - هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون ويجأرون إليها من ظلم أحمد بن طولون، فقالت: متى يركب -تعني موكبه متى يكون موعده-؟ قالوا: في غد.
فكتبت رقعة ووقفت في طريقه في الموكب، وقالت: يا أحمد بن طولون! فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه -أي: نزل في الحال عن الفرس- ومشى على رجليه، وأخذ منها الرقعة، وقرأها فإذا فيها: ملكتم فأسرتم- من الأسر- وقدرتم فقهرتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام القدر نافذة غير مخطئة، لاسيما من قلوب أفزعتموها، وأكباد روعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] فعدل لوقته أي: رجع عن الظلم في الحال.
وقد قيل: إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سمع منها الحديث من وراء حجاب، وطلب منها أن تدعو له.
وحضرتها الوفاة رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها أن تفطر، فقالت: واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائماً أأفطر الآن؟! هذا لا يكون، وخرجت من الدنيا وهي تقرأ القرآن، وكانت آخر آية قرأتها قبل أن تقبض روحها: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] رحمها الله ورضي عنها.(18/14)
أم البنين بنت عبد العزيز رحمها الله تعالى
انظر كيف كان حال الأقارب؟! فحين تنظر إلى القرابات بين نساء السلف ورجال السلف تجد المرأة منهن زوجة فلان، وعمها فلان، وخالها فلان، وابنها فلان، وزوجها فلان، فكانت القرابات التي تجمعهم هي الأعمال الصالحة، ولم تكن المناصب وظلم الناس، وإنما تجد الوسائل والروابط بين الأسر والأقارب مسخرة لطاعة الله سبحانه وتعالى، فهذه أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز، وماذا تتوقع من شقيقة عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمهما الله تعالى؟! كانت مضرب المثل في الكرم والجود، كانت تقول: لكل قوم لهنة -واللهنة: الشهوة أو الرغبة في شيء- ولهنتي في الإعطاء، أي: شهوتها في الإعطاء والنفقة في سبيل الله، كانت تعتق كل يوم جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، تشتري فرساً ليجاهد عليه في سبيل الله، وتقول: أف للبخل، لو كان قميصاً لم ألبسه، ولو كان طريقاً لم أسلكه.(18/15)
عجردة العمية رحمها الله تعالى
وأما عجردة العمية فهي من المعدودات المشهورات من نساء السلف، فعن آمنة بنت يعلى بن طرير قالت: كانت عجردة العمية تغشانا، فتظل عندنا اليوم واليومين، فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت، ثم قامت إلى المحراب فلا تزال تصلي إلى السحر، ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر، فقلت لها -أو قال لها بعض أهل الدار-: لو نمت من الليل شيئاً! فبكت وقالت: ذكر الموت لا يدعني أنام، وكانت تحيي الليل، وكانت مكفوفة البصر، فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك -يا إلهي- أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني إليك في عليين في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء يا كريم.
ثم تخر ساجدة، فيسمع لها شهيق، ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر.(18/16)
حبيبة العدوية رحمها الله تعالى
وعن عبد الله المكي أبي محمد قال: كانت حبيبة العدوية إذا صلت العتمة قامت على سطح لها، وشدت عليها درعها وخمارها، ثم قالت: إلهي! قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك، ثم تقبل على صلاتها، فإذا طلع الفجر قالت: إلهي! هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ أم رددتها علي فأعزى، وعزتك لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت -أي: لو تركتني ما غادرت الباب- لما وقع في نفسي من جودك وكرمك.(18/17)
جارية الحسن بن صالح رحمها الله تعالى
وكان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباعها لقوم، فلما صلت العشاء افتتحت الصلاة فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: يا أهل الدار! قوموا، يا أهل الدار! صلوا، فقالوا لها: نحن لا نقوم حتى نصلي الفجر.
فجاءت إلى الحسن بن صالح وقالت: بعتني لقوم ينامون الليل كله، وأخاف أن أكسل من شهود ليلهم -أي: خشيت على أخلاقها أن تتغير بمعاشرتهم-، فردها الحسن إليه رحمة بها ووفاء بحقها.(18/18)
عابدة بني عبد القيس رحمها الله تعالى
وهذه عابدة من بني عبد القيس كانت إذا جاء الليل توضأت، ثم قامت إلى المحراب، وكانت تقول: المحب لا يسأم من خدمة حبيبه، وكانت تقول: عاملوا الله على قدر نعمه عليكم وإحسانه إليكم، فإن لم تطيقوا فعلى قدر شكره، فإن لم تطيقوا فعلى الحياء منه، فإن لم تطيقوا فعلى الرجاء بثوابه، فإن لم تطيقوا فعلى خوف عقابه.(18/19)
امرأة الهيثم بن جماز رحمها الله تعالى
أما الهيثم بن جماز فيقول: كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش علي الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها، وتقول: ألا تستحي من الله؟! إلى كم هذا الغفوف- تعني: الشخير-؟! قال زوجها: فو الله إن كنت لأستحيي مما تصنع.
أما لك في الرجال أسوة؟! أتسبقك وأنت رجل النسوة؟!(18/20)
العابدة شعوانة رحمها الله تعالى
قال يحيى بن بسطام: كنت أشهد مجلس شعوانة -وهي إحدى العابدات- فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب لها: لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها، فقال: أنت وذاك، قال: فأتيناها فقلت لها: لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئاً، فكان لك أقوى على ما تريدين، قال: فبكت، ثم قالت: والله لوددت أنى أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكي دماً حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي، وأنى لي بالبكاء؟! وأنى لي بالبكاء؟! فلم تزل تردد: (وأنى لي بالبكاء؟) حتى غشي عليها.
وكانت تقول في دعائها: إلهي! ما أشوقني إلى لقائك، وأعظم رجائي في جزائك، فأنت الكريم الذي لا يخيب إليك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي! إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عملي فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك؟! وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك؟! إلهي! قد جرت على نفسي في النظر لها، وبقي لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي! إنك لم تزل بي براً أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي! كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي؟! إلهي! إن كانت ذنوبي قد أخافتني فإن محبتي لك قد أجارتني، فتول من أمري ما أنت أهله، وعد بفضلك على من غره جهله، إلهي! لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعني بما له هديتني، وأدم لي ما به سترتني.
وعن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كانت شعوانة قد كمدت -أي: أصابها الحزن الشديد -فكانت لا تتنفل من شدة الحزن والذهول حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة، فأتاها آتٍ في منامها فقال: أذري جفونك إما كنت شاجية إن النياحة قد تشفي الحزينينا جدي وقومي وصومي الدهر دائبة فإنما الدأب من فعل المطيعينا فأصبحت وأخذت في الترنم والبكاء، وراجعت العمل.
وعن الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتُبكي النساك معها، تقول: لقد أمن المغرور دار مقامه ويوشك يوماً أن يخاف كما أمن وعن روح بن سلمة قال: قال لي مضر: ما رأيت أحداً أقوى على كثرة البكاء من شعوانة، ولا سمعت صوتاً قط أحرق لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نشدت ثم نادت: يا موتى! وبني الموتى! وإخوة الموتى! وقال أبو عمر الضرير: من استطاع منكم أن يبكي فليبك، وإلا فليرحم الباكي؛ فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه.
وعن الحارث بن المغيرة قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين: يؤمل دنيا لتبقى له فوافى المنية قبل الأمل حثيثًا يروي أصول الفسيل فعاش الفسيل ومات الرجل وعن الفضيل بن عياض قال: قدمت شعوانة فأتيتها، فشكوت إليها، وسألتها أن تدعو بدعاء، فقالت: يا فضيل! أما بينك وبين الله ما إن دعوته استجاب لك؟! قال: فشهق الفضيل وخر مغشياً عليه.(18/21)
معاذة العدوية رحمها الله تعالى
أما أم الصهباء معاذة بنت عبد الله العدوية زوجة صلة بن أشيم فهي تلميذة مباركة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت -رحمها الله- إذا جاء النهار تقول: هذا يومي الذي أموت فيه.
فما تطعم حتى تمسي-أي: تصوم- فإذا جاء الليل تقول: هذه الليلة التي أموت فيها، فتصلي حتى تصبح، ومن أقوالها: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلمة الكهوف.
وإن كان مثل هذا التعبير فيه نظر؛ لأنّ المكوث في القبر لا يوصف بأنه رقاد أو نوم، كما يقول بعض الصوفية حين يتكلمون عن القبر ويقولون: وقت النوم في القبر طويل، فنحن لا ننام في الدنيا كثيراً.
لأن المكث في القبر ليس نوماً، وليست المعيشة في القبر تكون نوماً، وإنما هي عذاب أو نعيم، وما هي بنوم، كما قيل: فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حَيٍّ ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شَيٍّ كانت معاذة تصلي الليل الطويل، يكل الرجال وهي لا تكل، وكانت إذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق؛ حتى يمنعها البرد من النوم، ولما بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها صبرت، وكان زوجها خرج ماضياً هو وابنه في سبيل الله تبارك وتعالى، فقال صلة لابنه: يا بني! إلى أمك -أي: ارجع إلى أمك كي ترعاها- فقال ابنه: يا أبت! أتريد الخير لنفسك وتأمرني بالرجعة؟! أنت -والله- كنت خيراً لأمي مني.
قال: أما إذ قلت هذا فتقدم، فتقدم فقاتل حتى أصيب، واجتمع عليه الكفار، فرماهم صلة عن جسده، وظل يرميهم حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتل رحمهما الله تعالى، فلما بلغها نبأ استشهاد ابنها وزوجها أتت النساء يواسينها في مصابها، فقالت لهن: إن كنتنّ جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن، ولم تتوسد فراشاً بعد مقتل زوجها رحمها الله تعالى لكثرة قيامها وصلاتها.(18/22)
العابدة بريرة رحمها الله تعالى
قال ابن العلاء السعدي: كانت لي ابنة عم يقال لها: بريرة، تعبدت، وكانت كثيرة القراءة في المصحف، فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت، فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء، فقال بنو عمها: انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعذلها- أي: نلومها- في كثرة بكائها، قال: فدخلنا عليها فقلنا: يا بريرة! كيف أصبحت؟ قالت: أصبحنا أضيافاً منيخين بأرض غربة، ننتظر متى ندعى فنجيب، فقلنا لها: كم هذا البكاء! قد ذهبت عيناك منه.
قالت: إن يكن لعينيّ عند الله خير فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا، وإن كان لهما عند الله شر فسيزيدهما بكاء أطول من هذا، ثم أعرضت، فقال القوم: قوموا بنا، فهي -والله- في شيء غير ما نحن فيه!(18/23)
أخوات بشر الحافي رحمهم الله تعالى
وذكر الخطيب أنه كان لـ بشر الحافي -الزاهد المشهور- أخوات ثلاث: مخة ومضغة وزبدة، وكلهن عابدات زاهدات ورعات مثله أيضاً، فذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد بن حنبل فقالت: إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر، فهل علي عند البيع أن أميز هذا من هذا؟ فقال: إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري.
وقالت له مرة إحداهن: ربما تمر بنا مشاعل لـ ابن طاهر في الليل ونحن نغزل، فنغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصني من ذلك، فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار، وهو المقدار الذي كانت تغزله في ضوء مشاعل هؤلاء الذين كانوا يمرون بالليل بالمشاعل، وفي بعض الروايات أنه قال لها: من أنت عافاك الله؟ فقالت: أخت بشر الحافي، فبكى الإمام أحمد رحمه الله وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها.
وسألته أيضاً عن أنين المريض في إحدى المرات، أفيه شكوى؟ فقال: لا، إنما هي شكوى إلى الله عز وجل، ثم خرجت فقال لابنه عبد الله: يا بني! اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة، قال عبد الله: فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته مخة.(18/24)
جارية عبد الله بن الحسن رحمهما الله تعالى
وقال عبد الله بن الحسن: كانت لي جارية رومية وضيئة، وكنت بها معجباً، فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي، فانتبهت فالتمستها فلم أجدها، فقمت أطلبها فإذا هي ساجدة، وهي تقول: بحبك لي -يعني: أتوسل إليك بحبك أنت لي، وهي امرأة على الفطرة- قالت: بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبي.
أي: أسألك بحبك لي أن تغفر لي ذنوبي.
تناشد الله عز وجل المغفرة، وتتوسل بحبه هو لها، فقلت لها: لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك.
وهذا توسل بالعمل الصالح، فتتوسل بعملك أنت، فإن كنت تحب الله تقول: اللهم! إني أسألك بحبي لك، وهذا جائز ومشروع؛ لأنه من الأعمال الصالحة التي يجوز التوسل بها، قال: فقلت لها: لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك.
فقالت: لا يا مولاي، بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام.(18/25)
العابدة سرية اليمانية رحمها الله تعالى
وقال أبو هاشم القرشي: قدمتْ علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها: سرية، فنزلت في بعض ديارنا، قال: فكنت أسمع لها من الليل أنيناً وشهيقاً، فقلت يوماً لخادم لي: أشرف على هذه المرأة فانظر ماذا تصنع؟ قال: فأشرف عليها فما رآها تصنع شيئاً غير أنها ما ترد طرفها عن الصلاة، وهي مستقبلة القبلة، فسمعها وهي تقول: خلقتَ سرية، ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال، وكل أحوالك لها حسنة، وكل بلائك عندها جميل، وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوكل على معاصيك فلتة بعد فلتة، أتراها تظن أنك لا ترى أفعالها وأنت عليم خبير، وأنت على كل شيء قدير؟!(18/26)
واعظة ذي النون المصري رحمها الله تعالى
وقال ذو النون المصري: خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل علي وهو يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] ويبكي، فلما قرب مني السواد إذا هي امرأة عليها جبة من صوف وبيدها ركوة، فقالت وهي فزعة مني: من أنت؟ فقلت: رجل غريب، فقالت: يا هذا! وهل يوجد مع الله غربة؟! قال: فبكيت لقولها، فقالت لي: ما الذي أبكاك؟! قلت: قد وقع الدواء على داء قد قرح فأحسن في نجاحه، قالت: فإن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: يرحمك الله! والصادق لا يبكي؟! قالت: لا، قلت: ولم ذاك؟ قالت: لأن البكاء راحة القلب.
وسكت متعجباً من قولها.(18/27)
العابدة رحلة رحمها الله تعالى
وقال الخواص: دخلنا على رحلة العابدة، وكانت قد صامت حتى اسودت، وبكت حتى عميت، وصلت حتى أقعدت، وكانت تصلي قاعدة، فسلمنا عليها، ثم ذكرناها شيئاً من العفو ليهون عليها الأمر، قال: فشهقت، ثم قالت: علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم كبدي، والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، ثم أقبلت على صلاتها رحمها الله تعالى.(18/28)
العابدة عفيرة رحمها الله تعالى
أما عفيرة العابدة -وهي أيضاً من مشاهير العابدات- فكانت رحمها الله لا تضع جنبها على الأرض في الليل، وتقول: أخاف أن أؤخذ على غرة وأنا نائمة، وكانت لا تمل من البكاء، فقيل لها: أما تسأمين من كثرة البكاء؟ فقالت: كيف يسأم إنسان مِنْ دوائه وشفائه؟! وكانت تقول في مناجاتها: عصيتك بكل جارحة مني على حدتها، والله لئن أعنت لأطيعنك ما استطعت بكل جارحة عصيتك بها.
وجاء أخ لها طالت غيبته، فبشرت به فبكت، فقيل لها: ما هذا البكاء؟! اليوم يوم فرح وسرورا فازدادت بكاء، ثم قالت: والله لا أجد للسرور في قلبي مسكناً مع ذكر الآخرة، ولقد ذكرني قدومه يوم القدوم على الله فمن بين مسرور ومكدور.
ودخل عليها قوم فقالوا: ادعي لنا.
فقالت: لو خرص الخطاءون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم من نبق الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال، وحفظ علينا الإيمان إلى الممات، وهو أرحم الراحمين.
وقالت أيضاً: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر عليه، وكيف يقدر على النوم من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ونهاراً؟!(18/29)
العابدة الحبشية رحمها الله تعالى
وقال بعض الصالحين: خرجت يوماً إلى السوق ومعي جارية حبشية، فجعلتها في موضع بناحية السوق، وذهبت في بعض حوائجي، وقلت: لا تبرحي حتى أنصرف إليك، قال: ثم رجعت فلم أجدها في الموضع، فانصرفت إلى منزلي وأنا شديد الغضب عليها، فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي، فقالت: يا مولاي! لا تعجل علي، إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكراً لله تعالى، فخفت أن يخسف بذلك الموضع.
فعجبت لقولها، وقلت لها: أنت حرة.
فقالت: ساء ما صنعت، كنت أخدمك فيكون لي أجران، وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما!(18/30)
العابدة آمنة بنت أبي الورع رحمها الله تعالى
وكانت آمنة بنت أبي الورع من العابدات الخائفات، وكانت إذا ذكرت النار قالت: أُدْخِلوا النار، وأكلوا النار، وشربوا من النار فعاشوا! ثم تبكي وكأنها حبة على مقلى، وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت رضي الله عنها.(18/31)
العابدة مليكة البحرانية رحمها الله تعالى
وأما مليكة بنت أبي طارق البحرانية فكانت إذا هجم عليها الليل تقول: بخ بخ يا نفس! قد جاء سرور المؤمن، فتقوم في محرابها، فكأنها الجذع القائم حتى تصبح.
وعن أم عمار بنت مليك البحراني قالت: بت ليلة عند مليكة ابنة أبي طارق فما زالت على هذه الآية ترددها وتبكي: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].(18/32)
رحلة العابدة تعظ المشفقين عليها
وأما رحلة العابدة -وهي مولاة معاوية - فقد دخل عليها نفر من القراء فكلموها في الرفق بنفسها، فقالت: مالي وللرفق بها، فإنما هي أيام مبادرة -أي: مسابقة- فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً، والله -يا إخوتاه- لأصلين ما أقلتني جوارحي، ولأقومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي، ثم قالت: أيكم يأمر عبده فيحب أن يقصر فيه؟ وقامت حتى أقعدت، وصامت حتى اسودت، وبكت حتى عمشت، وكانت تقول: علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم قلبي، والله! لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، وكانت تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله تعالى.(18/33)
غصنة وعالية رحمهما الله تعالى
وأما غصنة وعالية فكانتا من عابدات البصرة، يقول أبو الوليد العبدي: ربما رأيت غصنة وعالية تقوم إحداهما من الليل، فتقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف في ركعة.(18/34)
العابدة غندكة رحمها الله تعالى
وأما غندكة -وهي من عابدات البصرة- فكانت تصلي عامة الليل، ثم تقول: أعوذ بالله من ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإذا قضت صلاتها قالت: هذا الجهد مني وعليك التكلان.
وأما امرأة أبي عمران الجوني فكانت تقوم من الليل تصلي حتى تعصب ساقيها بالخرق، فيقول لها زوجها أبو عمران الجوني: دون هذا يا هذه! فتقول: هذا عند طول القيام في الموقف قليل، فيسكت عنها.(18/35)
العابدة هنيدة رحمها الله تعالى
ومن العابدات أيضاً هنيدة، فعن عامر بن أسلم الباهلي عن أبيه قال: كانت لنا جارية في الحي يقال لها هنيدة، فكانت تقوم إذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه، فتوقظ ولدها وزوجها وخدمها، فتقول لهم: قوموا فتوضئوا وصلوا فستغتبطون بكلامي هذا، أي: فسوف يصيبكم السرور يوم القيامة بما آمركم به، فكان هذا دأبها معهم حتى ماتت، فرأى زوجها في المنام: إن كنت تحب أن تزوجها هناك فاخلفها في أهلها بمثل فعلها.
فلم يزل دأب الشيخ حتى مات، فأُتيَ أكبر ولده في منامه فقيل له: إن كنت تحب أن تجاور أبويك في درجتهما من الجنة فاخلفهما في أهلهما بمثل عملهما.
قال: فلم يزل ذلك دأبه حتى مات، فكانوا يُدعون القوامين.(18/36)
الورع في حياة نساء السلف
ومن ورع نساء السلف ما حكاه الحافظ ابن الجوزي -رحمه الله- أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها -وهي تعجن- موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.
أي أن مال الرجل إذا توفي انتقل وصار ملكاً لورثته الشرعيين، فلم يصبح لها وحدها، فلذلك رفعت يدها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.
وأخرى كانت تستصبح بمصباح -أي بالزيت أو شيء من هذا- فجاءها خبر زوجها فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء.
أي: ما يجوز لها أن تستقل بالانتفاع به.
فيا ويل من يأكلون أموال اليتامى ظلماً وينفقون أموال الطفل اليتيم في السرادقات والتفاخر، وهم لا يخافون الله سبحانه وتعالى من أكل أموال اليتامى ظلماً، ويتلفون أموالهم في أشياء حرم الله أن تنفق فيها كالمباهاة والفخر.(18/37)
العابدة الواعظة ميمونة بنت شاكونة رحمها الله تعالى
ومنهن -أيضاً- ميمونة بنت شاكونة الواعظة، التي كانت للقرآن حافظة، فقد ذكرت يوماً في وعظها أن ثوبها الذي عليها -وأشارت إليه- له في صحبتها -أي: تلبسه- منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها، ثم قالت لتلامذتها: والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرق سريعاً.
وقال ابنها عبد الصمد: كان في دارنا حائط يريد أن ينقض، فقلت لأمي: ألا ندعو البناء ليصلح هذا الجدار؟ فأخذت رقعة فكتبت فيها شيئاً، ثم أمرتني أن أدعها في موضع من الجدار، فوضعتها، فمكث على ذلك عشرين سنة لم ينقض ولم ينهدم، فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة: ((إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا))، اللهم! ممسك السموات والأرض أمسكه.(18/38)
العابدة مريدة وابنتها رحمهما الله تعالى
وعن أبي عياش القطان قال: كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها: مريدة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن ربما رآها وتعجب من عبادتها على صغر سنها، فبينا الحسن ذات يوم جالساً إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت، فوثب الحسن فدخل عليها، فلما نظرت الجارية إليه بكت، فقال لها: يا حبيبتي! ما يبكيك؟! قالت له: يا أبا سعيد! التراب يحثى على شبابي، ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد! انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لابنتي قبراً واسعاً، وكفنها بكفن حسن، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، فكيف وأنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها وبيت الظلمة والدود؟!(18/39)
العابدة التيمية رحمها الله تعالى
وقال وضاح بن حسان الأنباري: حدثني رجل من أهل الكوفة قال: كانت امرأة من التيم مجتهدة في العبادة، فكانت تفطر في كل ثلاثٍ مرة -يعني: تصوم ثلاثة أيام وتفطر الرابع-، ولا تخرج من مسجد الحي إلا لحاجة، فقال لها إبراهيم التيمي: صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في مسجد الحي، ففعلت فلزمت بيتها، فلم تزدد إلا خيراً.(18/40)
القرشية والتقوى
عن ابن سماك قال: أذنب غلام امرأة من قريش ذنباً، فسعت إليه بالسوط -أي: لتضربه به؛ لأنه عمل خطأً- فلما قربت منه رمت بالسوط، وقالت: ما تركت التقوى أحداً يشفي غيظه.(18/41)
العابدة فاطمة بنت نصر العطار رحمها الله تعالى
أما فاطمة بنت نصر العطار فكانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، وكانت من العابدات المتورعات المخدرات -أي: اللائي يلزمن الخدور، وهو مكان يكون في أقصى البيت تستتر فيه العذراء حتى لا يراها أحداً-، يقال: إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات، وقد أثنى عليها الخليفة وغيره، قاله الحافظ ابن كثير.(18/42)
العابدة رابعة العدوية رحمها الله تعالى
ومن هؤلاء الناسكات اللائي يحكى عنهن اجتهاد في العبادة رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، فقد كانت مضرب المثل في وله القلب واحتراق الكبد حباً لله وإيثاراً لرضاه، وكانت تواصل صيامها وقيامها، وتتابع زفراتها، وتدفق عبراتها، وتستقل كل ذلك في جنب الله.
قال يوماً شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها: واحزناه.
فقالت: لا تكذب، بل قل: واقلة حزناه.
لو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس.
ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال -وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها- قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في صلاتها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، وكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس! كم تنامين؟! يوشك أن تنامي ليلة لا تقومين منها إلا بصرخة يوم الفزع.
وقد سبق التنبيه على أن هذا التعبير غير صحيح؛ لأن القبر ليس فيه ليل، وليس فيه نوم، ويا ليته كان نوماً! بل فيه حياة دائمة، إما نعيم وإما عذاب.
قالت عبدة: وكان هذا دأبها أمد دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها الوفاة دعتني فقالت: يا عبدة! لا تؤذني بموتي أحداً -أي: لا تخبري أحداً-، وكفنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون.
ومن قولها: ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئاً.
ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم.
وعن أزهر بن مروان قال دخل على رابعة رياح القيسي وصالح بن عبد الجليل وكلاب فتذاكروا الدنيا، فأقبلوا يذمونها، فقالت رابعة: إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم، قالوا: ومن أين توهمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتم فيه.
قال خالد بن خداج: سمعتْ رابعة صالحاً المري يذكر الدنيا في قصصه، فأرسلت إليه: يا صالح! من أحب شيئاً أكثر من ذكره.
فالإنسان ينشغل دائماً بما يطغى على قلبه، ويحبه قلبه، فمن أحب قوماً حشر معهم، فمن أحب الممثلين يخشى عليه أن يحشر معهم، ومن أحب الظالمين يخشى عليه -أيضاً- أن يحشر معهم، ومن أحب اللاهين اللاعبين الكافرين فهذا -أيضاً- يخشى عليه.
وقال بشر بن صالح العتكي: استأذن ناس على رابعة ومعهم سفيان الثوري، فتذاكروا عندها ساعة وذكروا شيئاً من الدنيا، فلما قاموا قالت لخادمتها: إذا جاء هذا الشيخ وأصحابه فلا تأذني لهم، إني رأيتهم يحبون الدنيا.
وعن أبي يسار مسمع قال: أتيت رابعة فقالت: جئتني وأنا أطبخ أرزاً، فآثرت حديثك على طبيخ الأرز، فرجعت إلى القدر وقد طبخت.
وعن حماد قال: دخلت أنا وسلمان بن أبي مطيع على رابعة فأخذ سلمان في ذكر الدنيا، فقالت: إنما يذكر شيء هو شيء، أما شيء ليس بشيء فلا.
قال أبو سعيد بن الأعرابي: أما رابعة فقد حمل الناس عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشعبة وغيرهما ما يدل على بطلان ما قيل عنها من قولها: ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه.
يقول الحافظ الذهبي معلقاً على النسبة السابقة: قلت: فهذا غلو وجهل، ولعل من نسبها إلى ذلك حلولي يحتج بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر: (كنت سمعه الذي يسمع به) يعني الحلوليين.
وقال ابن كثير رحمه الله: وقد ذكروا لها أحوالاً وأعمالاً صالحة، وصيام نهار، وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، والله أعلم.
وقال أيضاً: أثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر، والله أعلم بحقيقة الأمر.(18/43)
نماذج من نساء الخلف العابدات
فنقول: إن المرأة المسلمة التي رباها القرآن والسنة قد فقهت عن الله تبارك وتعالى أمره، وتدبرت في حقيقة الدنيا ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشت من حشمتها، وتجافى جنبها عن مضجعها، وتناءى قلبها عن المطامع، وارتفعت همتها عن السفاسف، فلا تراها إلا صائمة قائمة باكية نائحة، وقد حفل التاريخ الإسلامي بالخيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الجد عن علم ورسوخ عقيدة، لا عن حماقة وجهالة، كما تجد في كثير ممن وصفن بالنسك والتصوف، تجد في دواوين الإسلام أخباراً كثيرة عن النساء العابدات، بدءاً من صدر العهد النبوي إلى ما تلاه من القرون.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفتخ والقرط والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال رضي الله عنه، وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن)، وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين، وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18].
لقد كان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة وحسن الأحدوثة، فأصبح بالإسلام مما تفيض منه الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضات الله عز وجل.(18/44)
الصالحة عصمة الدين خاتون رحمها الله تعالى
وأما زوجة الملك الصالح الذي قيل فيه: إنه لا يُعلم ملك صالح بعد عمر بن عبد العزيز سوى الملك الصالح نور الدين محمود بن زنكي الذي قهر الصليبيين وهزمهم فزوجته عصمة الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين كانت رحمها الله كثيرة التهجد، وأحسن النساء في عصرها وأعفهن، وأكبرهن طبقة، وكانت تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها، فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين الملك عن غضبها، فذكرت له نومها الذي فوت عليها وردها، يقول ابن كثير: فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى ضارب الطبلخانة أجراً جزيلاً وجراية كثيرة، وقد تزوجت هذه المرأة الصالحة بعد وفاة الملك نور الدين تلميذه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى.(18/45)
الصالحة فخرية بنت عثمان البكرية رحمها الله تعالى
وأخيراً فخرية بنت عثمان البكرية، وقد كانت من أسرة عظيمة الجاه، موفورة الغنى، ولكن ذلك لم يطب لها، فخرجت وتزهدت وتنسكت، وقلبت الراحة والمنام إلى الصلاة والقيام، وقنعت من العيش برغيف وقدح ماء، فذلك قوتها كل يوم، وكانت أشبه الناس بـ رابعة في الوحدة والدنيا والتزلف، هاجرت إلى بيت المقدس، وأقامت أربعين عاماً تقف الليل كله بباب المسجد الأقصى تصلي حتى يفتح الباب، فتكون أول داخل وآخر خارج.
وبعد: فإننا نهدي هذه الصور من سير النساء إلى إخواننا المسلمين ونقول: فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال ونقول: أما لك في الرجال أسوة أتسبقك وأنت رجل نسوة وقد قيل: فذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف التعالي نسأل الله عز وجل أن يجعلنا بالخير موصوفين، ولا يجعلنا له -فحسب- وصافين، وأن يرزقنا سهراً في طاعته ومناجاته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(18/46)
الأسئلة(18/47)
خير البقاع على وجه الأرض
السؤال
قرأت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (إن بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)، وإني لأظن -والله أعلم- أن هذه البقعة يجب أن تكون خير بقعة على الأرض، ولكن ذكرتم أنَّ خير بقعة على الأرض هي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كذلك فما حكم الكعبة المشرفة أيضاً؟
الجواب
هذا الحديث غير صحيح، والذي يثبت هو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، وأما اللفظ السابق فلا يصح؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم أين يكون قبره، بل كان ذلك المكان في حياته هو حجرة عائشة، ثم صار قبراً له بعد موته، فلعل بعض الرواة غير المتقنين رواه بالمعنى فأخطأ في ذلك.
أما ظنك أن هذه البقعة يجب أن تكون خير بقعة على الأرض فليس بأمانيكم، فهذا خبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام في شرف هذا المكان، فأنا نقلت عن العلماء أنهم -رغم اختلافهم في المفاضلة بين مكة والمدينة- متفقون على أن أفضل بقعة على وجه الأرض هي التي تضم جسد خير من وطئ هذه الأرض، وهو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فخير بقعة على وجه الأرض هي التي تضم جسده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعد ذلك يختلفون هل مكة أفضل من المدينة أم المدينة أفضل من مكة، والذي يظهر -والله أعلم- أن مكة أفضل من المدينة، ويكفي في فضل مكة المكرمة أن الصلاة في المسجد الحرام فيها بمائة ألف صلاة فيما سواه.
وهذا لا يعني أنّ الكعبة ليست مشرفة، أو أن مكة ليس لها شرف، وإنما هذه الترتيب النسبي ليس إلينا، ولكنه فضل الله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].(18/48)
دخول المعاصي في خلق الله تعالى
السؤال
قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] هل يدخل في قوله: (مَا خَلَقَ) الأعمال التي يعصى الله سبحانه وتعالى بها؟
الجواب
نعم تدخل فيما خلقه الله تعالى، فمعنى (شَرِّ مَا خَلَقَ) أي: شر ما خلقه الله عز وجل، فهي تعم ما خلقه الله تبارك وتعالى، فالشر هنا أضيف إلى المخلوق، ولا يضاف الشر إلى الله، كما قال عليه الصلاة والسلام في الدعاء: (والشر ليس إليك)، وكقوله تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10].
فأتى بصيغة المبني للمعلوم في الخير فقال: (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)، أما في الشر فقال: (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ)، وقال الله تبارك وتعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96]، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، ومن ذلك أفعال العباد، لكن كون الله يخلق هذا كله لا يعني أنك تحتج بالقدر.(18/49)
حكم العمل في المحاماة
السؤال
هل يجوز العمل في المحاماة؟
الجواب
مهنة المحاماة الغالب عليها الشر، وتعلم القوانين الوضعية الكافرة التي تخالف شرع الله تبارك وتعالى، وقد يكون فيها إعانة الظالمين، ويكون هَمّ المحامي في الغالب -إلا من عصم الله وقليل ما هم- أن يأخذ الدراهم المعدودة مقابل إنجاء هذا الرجل، سواءٌ كان ظالماً أم مظلوماً، فقد يتسبب في أن يكون من المجادلين عن الخائنين أو المجرمين، ويجوز من الناحية الشرعية التوكيل في الخصومة والنقاش والجدال والدفاع عن النفس، فيمكن أن أوكل شخصاً عنده هذه الكفاءة عني ليخاطب باسمي إذا كان أكفأ مني في ذلك، ففكرة المحاماة هي فكرة التوكيل في الخصومة من الناحية الشرعية، لكن يشترط في ذلك أن تكون في حق، أما أن يستعمل براعته الإنشائية والخطابية في هذه الأمور من أجل أن ينصر الظالم فلا شك أن هذا من التعاون على الإثم والعدوان.(18/50)
البيع بالتقسيط
لقد أحل الله البيع وحرم الربا، والبيع والشراء أمر مهم في الحياة البشرية، وبه تقوم كثير من أمور الحياة، وقد حث الله تعالى العباد على السماحة في البيع والشراء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى).
وقد شاع في عصرنا هذا ما يسمى ببيع التقسيط، وهذا البيع اختلف في حكمه أهل العلم، ومعرفة حكم هذا البيع من المهمات.(19/1)
شرح حديث قصة بلال في نفقة النبي عليه الصلاة والسلام
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد روى الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في سننه بسنده عن عبد الله الهوزني قال: (لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً يأمرني فأنطلق فأستقرض، فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال: يا بلال! إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما أن كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار، فلما أن رآني قال: يا حبشي! قلت: يا لباه! فتجهمني وقال لي قولاً غليظاً، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع، فآخذك بالذي عليك فأردك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك، فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي كنت أتدين منه قال لي: كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني، فخرجت حتى إذا أتيت منزلي، فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي، حتى إذا انشق عمود الصبح الأول أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو يا بلال! أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت حتى أتيته فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن، فاستأذنت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر، فقد جاءك الله تعالى بقضائك، ثم قال: ألم تر الركائب المناخات الأربع؟ فقلت: بلى، فقال: إن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعاماً أهداهن إلي عظيم فدَكَ، فاقبضهن واقض دينك، ففعلت، فذكر الحديث، ثم انصرفت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد، فسلمت عليه، فقال: ما فعل ما قبلك؟ قلت: قد قضى الله تعالى كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء، قال: أَفَضَل شيء؟ قلت: نعم، قال: انظر أن تريحني منه، فإني لست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منه، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة دعاني فقال: ما فعل الذي قبلك؟ قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقص الحديث، حتى إذا صلى العتمة -يعني: من الغد- دعاني قال: ما فعل الذي قِبَلك؟ قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله! فكبر وحمد الله؛ شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى إذا جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته، فهذا الذي سألتني عنه).
هذا الحديث رواه الإمام أبو داود في سننه في باب: في الإمام يقبل هدايا المشركين في كتاب الخراج، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ولم يروه بهذا التفصيل إلا أبو داود، وقد رواه بسنده عن عبد الله الهوزني قال: (لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب)، حلب هي بلدة بالشام، (فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كان له شيء) أي: أن هذا الرجل كان يسأل بلالاً رضي الله تعالى عنه عن تفاصيل نفقة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان ينفق، وكيف كان يفعل؟ (فقال: ما كان له شيء) أي: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم شيء من المال، (كنت أنا الذي ألي ذلك منه) أي: كنت أنا الذي أتولى أحواله المالية ونفقاته، وأشرف عليها (منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي، وفي رواية: حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قوله: (وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً) أي: ليس عليه شيء، (يأمرني فأنطلق فأستقرض) أي: فأستدين لذمة النبي عليه الصلاة والسلام ولحسابه، (فأشتري له البردة، فأكسوه، وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين) أي: حتى عرض لي رجل من المشركين، فقال: (يا بلال! إن عندي سعة) أي: إن عندي مالاً كثياًر، وأنا متيسر (فلا تستقرض من أحد إلا مني) أي: إذا احتجت إلى الاستقراض فلا تستقرض من أحد غيري قال: (ففعلت) أي: كنت أقترض منه عند الحاجة، وفي هذا جواز أن يحصل هذا النوع من التعامل حتى مع المشركين، (فلما أن كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار) أي: أقْبل ذلك المشرك الذي قال لـ بلال: لا تستقرض من أحد إلا مني، في عصابة من التجار، أي: في جماعة من التجار، (فلما أن رآني قال: يا حبشي! قلت: يا لباه! -أي: لبيك- فتجهمني)، أي: تلقاني بوجه كريه، وعاملني بشدة وغلظة وجفاء، قال في القاموس: جهمه كمنعه وسمعه، أي: استقبله بوجه كريه.
(فتجهمني وقال لي قولاً غليظاً، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت: قليل) أي: أنه يحذره ويعامله بهذه الغلظة مع أنه لم يتخلف، فالموعد لم يحلّ بعدُ، لكن هذا المشرك -بسوء خلقه- تجهمه لما لقيه، وقال له هذا الكلام الغليظ، وقال: (أتدري كم بينك وبين الشهر؟) أي: كم بينك وبين تمام هذا الشهر الذي نحن فيه؟ (قال: قلت قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع) أي: أربع ليالٍ، (فآخذك بالذي عليك) أي: آخذك على رأس الشهر في مقابلة ما عليك من المال، وأتخذك عبداً في مقابلة ذلك المال، (فأردّك ترعى الغنم) أي: أُعيدك عبداً ترعى الغنم كما كنت من قبل، (فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس) أي: وجدت في نفسي من الهمّ، وتأثرت بهذا الكلام الذي جرحني كما يُجرح الناس بمثل هذا الكلام السيئ، (حتى إذا صليت العتمة) وهي صلاة العشاء، (رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي)، وهذا من أدب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل أن يقدم طلبه، أو قبل أن يناجيه يقدم بهذه العبارة المؤثرة التي تعرب عن غاية الحب والتعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام، فقوله: (بأبي أنت وأمي) معناها: أفديك بأبي وأمي، وأضحي بأبي وأمي من أجلك، أو أنت أعز عندي من أبي وأمي، فمعناها أنت مفدي بهما، صلى الله عليه وسلم، (فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي.
إن المشرك الذي كنت أتدين منه) أي: الذي كنت أستقرض وأستدين منه، (قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني، ولا عندي) أي: ولا عندي أنا أيضاً ما أقضيه به، (وهو فاضحي) أي: هو ناوٍ أن يفضحني إذا لم أوف له بهذا الدين، ففاضحي اسم فاعل مضاف إلى ياء المتكلم، ومعنى فضحه: كشف مساويه، (وهو فاضحي، فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا) أي: ائذن لي أن أفر وأهرب قبل أن يحين الأجل إلى أن يرزقك الله سبحانه وتعالى مالاً فتقضي عني وحينئذ سأعود؛ حتى لا ينفذ ذلك المشرك وعيده، والأحياء جمع حي، وهو بمعنى القبيلة.
(إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا، حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني) أي: أنه صلى الله عليه وسلم كان يستدين لقضاء حاجات المسلمين عليه الصلاة والسلام.
(فخرجت حتى إذا أتيت منزلي، فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي)، هذا كل المتاع الذي كان يملكه بلال، والجراب هو وعاء من إهاب أو من جلد الشاة، والمجن: هو الترس، وفي رواية أخرى: (استقبلت بوجهي الأفق، فكلما نمت ساعة انتبهت، فإذا رأيت عليّ ليل نمت، حتى ينشق عمود الصبح الأول)، ويقول في الرواية التي هنا: (حتى إذا انشق عمود الصبح الأول) أي: انصدع وطلع، وفي الحديث: (فلما انشق الفجر أمر بإقامة الصلاة) فهناك شق وفتحة في الأفق في موضع طلوع وخروج الفجر، وقوله: (حتى إذا انشق عمود الصبح الأول) المقصود به العمود المستطيل المرتفع في السماء، وهو الفجر الكاذب، وذلك غير الفجر الأحمر المنتشر في أفق السماء، فإنه الصبح الصادق، وبين الفجرين ساعة، فإنه يظهر الأول وبعد ظهوره يظهر الثاني ظهوراً بيناً، والفجر الذي تتعلق به الأحكام هو الفجر الثاني، فيدخل وقت الصوم ووقت صلاة الصبح بطلوع الفجر الثاني واستنارته وإضاءته، وهو المعترض بالضياء في أقصى المشرق، الذاهب من القبلة إلى دبرها حتى يعم الأفق، وينتشر على رءوس الجبال والقصور المشيدة.
والمعنى: أني أردت أن أسير في الصبح الكاذب؛ لكي لا يعرفني أحد بسبب ظلمة آخر الليل، وكان بلال رضي الله عنه قد أعد كل عدته، حتى لا ينكشف فيُفطن إلى أنه في حالة هروب من قضاء هذا الدين.
يقول بلال رضي ال(19/2)
التحذير من التوسع في الاستدانة
الحديث المتقدم طويل، وهو يحمل فوائد عظيمة، والفقرة المقصودة من قراءة هذا الحديث هي تلك الفقرة التي فيها ذكر ذلك الرجل المشرك الذي هدد بلالاً رضي الله تعالى عنه وقال له: إذا حل أجل الدين ولم يقض ما عليه فسيأخذه بهذا المال الذي عليه، وسيسترقه ويعيده عبداً يرعى الغنم كما كان من قبل رضي الله تعالى عنه، فهذا من شؤم وعيوب الدين، فينبغي للإنسان أن يتحرز منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وتعلمون قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) أي: أنه لا يغفر له الدين؛ لأن فيه تعلقاً بحقوق العباد، فيكون الشهيد محبوساً ومرهوناً في البرزخ إذا لم يؤدَّ عنه ذلك الدين.
والبيع بالتقسيط هو في الحقيقة صورة من صور الدين، وقبل أن نبدأ موضوعنا في حكم البيع بالتقسيط ينبغي أن يستقر هذا المفهوم وهو: أنه لا ينبغي التوسع في أمر الاستدانة؛ لأن الاستدانة في حالة الشراء بالتقسيط فيها زيادة في مقابل الأجل كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى، أضف إلى ذلك أن حجم الدين يجب ألا يتجاوز قدرة المدين على السداد، والدين إذا كان ديناً عاماً كأن تكون الحكومة مثلاً هي المَدْينة، لاسيما إذا كان ديناً عاماً، وطويل الأجل، فإنه شؤم؛ لأنه يحمَّل الأجيال القادمة عبء الجيل الحالي؛ فإنا نورث أبنائنا وأجيالنا المقبلة أعباء هذه الديون، وهذا إذا كان ممولاً بأموال الزكاة أو غيرها من الموارد العامة.
وفي مثل هذه الحالة إذا كان الدين ليس في مقدور المدين ولا في طاقته أن يؤديه، فإنه يكون هماً بالليل، ومذلة بالنهار، وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من المغرم والمأثم، ولما سئل عن سرّ القَرن بين المغرم والمأثم وما علاقة الدين بذلك؟ فأخبر عليه الصلاة والسلام أن الرجل إذا غرم فإنه يعد فيخلف، فيقع في الإثم، فالدين دائماً إن لم يكن هناك عذر واضطرار يجلب كثيراً من هذه المصائب، ولا شك أنه هم بالليل، وذل بالنهار، وكما قال بعض السلف: ما دخل همُّ الدين قلباً إلا خرج من العقل، يعني: من شدة انشغال تفكيره فإنه يؤثر في عقله.
وهو همٌّ في أوله، وهرم في آخره، وأما إذا كان الدائن مثل حالة البلدان الأجنبية الدائنة، فمن مخاطر الدين في هذه الحال سيطرة هذه البلدان الدائنة، وتبعية البلدان المدينة لها كما لا يخفى على أحد في عصرنا هذا، وفيها من صور إذلال الأمم والشعوب، وقهرها بأمر الدين، واستعبادها بذلك، كما أراد ذلك المشرك من إذلال بلال تماماً، ولعل هذا المشرك نفسه -وهو حقيق بسوء الظن- إنما دعا بلالاً إلى أن يستدين منه بهذه النية، عسى أن يتعثر السداد، فيسترقه بعد ذلك.
فعلى أي الأحوال فالاستعباد يكون بصور شتى، ولا يكون بصورة الرق فقط، فمحاولة استعباد المدين محاولة قديمة، وهو يدل على الأخلاق الأيدلوجية الفجة أو الباردة كما هو مشهور عنهم، قال بعضهم: لا تقرض أبداً ولا تقترض، فإنك إذا اقترضت من رجل جعلته سيدك، وإذا أقرضت رجلاً جعلته عدوك.
والشاهد من الكلام: أن الأصل الذي نقدمه بين يدي الكلام في موضوع البيع بالتقسيط هو أن الاستدانة غير مرغوب فيها، فهناك مخاطر شديدة في التوسع في أمر الاستدانة، والبيع بالتقسيط هو صورة من صور الاستدانة، فينبغي للإنسان ألا يستدين، وألا يشتري بالتقسيط إلا لعذر قوي في ذلك.(19/3)
أنواع البيوع، مع بيان صورة بيع التقسيط
سنعتمد في تلخيص هذا البحث إن شاء الله تعالى على بعض البحوث أهمها: بحث الدكتور محمد عقلة الإبراهيم: (حكم بيع التقسيط في الشريعة والقانون)، وليس لنا شأن بالقانون، ولا يهمنا منه شيء، والبحث الآخر للدكتور رفيق يونس المصري وهو: (بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي)، وهناك أيضاً رسالة اسمها (القول الفصل) لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله! وهناك مراجع أخرى تمس هذا الموضوع.
ولا شك أنّ الناس قد عرفوا كثيراً من أنواع البيوع في الماضي، ومنها ما يعرف ببيوع الأجل، وسنفصل الكلام فيها: معنى بيوع الأجل: أن يكون أحد العوضين إما المال أو السلعة مؤخراً عن مجلس العقد، وبما أن الإسلام هو دين اليسر، ودين السماحة، ورفع الحرج، رأى أن الحاجة تمس إلى وجود استثناء في القاعدة العامة، وصولاً للغاية المثلى، فأجاز الإسلام تأخير المثمن أو الثمن عن مجلس العقد، والثمن هو الذي يقسط ويؤجل، وقد يكون تأخيره دفعة واحدة، وإذا قسَّط فهو المسمى بيع التقسيط.
وقد شاع هذا النوع في زماننا شيوعاً كثيراً، وشمل من حيث السلع دقيقها وجليلها؛ لما في هذا النوع من البيوع من مصالح لكل من البائع والمشتري، ولما كان تأجيل الثمن عن زمان العقد يرافقه زيادة في الثمن تعويضاً للبائع عن تأخير قبضه، وحرمانه من استثماره، فإسهاماً من المشتري في تخفيف هذه الآثار مع ما له من نعمة توفير الحصول على ما يحتاجه من السلعة رغم ضيق يده؛ زاده في الثمن.
ولا يزال هذا النوع من البيع مثار بحث وجدل بين أهل العلم من حيث مشروعيته، نظراً لما فيه من الزيادة في الثمن، فربما اشتبهت صورته على بعض الناس بالربا، وصورة هذا البيع: أن يقول البائع: أبيع لك هذه السلعة عاجلاً بكذا، وآجلاً بزمن كذا، بزيادة مقدارها كذا، فلا شك أن الحاجة تمس إلى ذلك، فهنا نفرد هذه المسألة بمثل هذا البحث، ونفصل الكلام فيها؛ حتى نكون على بينة من أمرنا، خاصة وأن الأسئلة قد كثرت جداً حول هذا الموضوع، وكانت الأجوبة المختصرة لا تقنع كثيراً من الإخوة، فنقف هذه الوقفة مع هذه المسألة.
لابد من مقدمة تتعلق بأنواع البيوع، فالبيع على ثلاثة أنواع: بيع معجَّل البدلَين، أي: الفلوس والسلعة، وهو البيع المعروف الذي يحصل في الأسواق، فتدفع الفلوس في الحال وتستلم السلعة في الحال، فهذا هو أول نوع من أنواع البيوع.
النوع الثاني: بيع مؤجل البدلين، أي: أن الفلوس والسلعة مؤجلان، وهذا هو بيع الكالئ بالكالئ.
النوع الثالث -وهذا الذي يتعلق ببحثنا اليوم- وهو: بيع يكون فيه أحد البدلين معجلاً والآخر مؤجلاً، وهذا النوع من البيع جائز أباحته الشريعة.
وقولنا: إن أحد البدلين معجّل والآخر مؤجل يحتمل أن يكون الثمن معجلاً والسلعة مؤجلة، وهذا يسمى بيع السلَم أو السلَف، وهذا البيع مستثنى من القاعدة الأصلية التي جاءت في حديث: (ولا تبع ما ليس عندك) فهو استثناء من عموم هذا الحديث بالنص، وقد ثبت أن أهل المدينة كانوا يُسلفون في بعض هذه السلع، ويحتمل هذا النوع أن يكون المعجل هو المبيع والمؤجل هو الثمن.
إذاً: أنواع البيوع ثلاثة: الأول: معجل البدلين.
الثاني: مؤجل البدلين، وهو بيع الكالئ بالكالئ، وهو منهي عنه.
الثالث: أن يكون أحدهما معجلاً والآخر مؤجلاً، وهذا على صورتين: إما أن يعجل الثمن ويؤجل المبيع، وهو بيع السلَم أو السلف، أو أن يعجل المبيع ويؤجل الثمن، وهو بيع النسيئة، والنسيء هو التأجيل.
وبيع النسيئة وإن أجازته النصوص إلا أنه ليست هناك نصوص تجيز الزيادة لأجل التأجيل أو التقسيط، بل هذا يحتاج إلى بحث واستظهار، وهذا هو موضوعنا الذي نتكلم فيه.
وبيع النسيئة في حد ذاته جائز، والدليل على ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً -وفي رواية: شعيراً- إلى أجل، وفي رواية: اشترى من يهودي طعاماً أو شعيراً بنسيئة، ورهنه درعاً له من حديد).
فقد اشترى الشعير ولم يدفع له الثمن حالاً، وإنما سيدفعه فيما بعد، ووضعه للدرع حتى يسدد الدين هو رهن للضمان فقط، فهذا البيع جائز سواء كان مع المسلمين أو اليهود أو من سواهم، فهذا مثل بيع السلَم أو السلَف، يقول عليه الصلاة والسلام: (من أسلف في شيء فليسلف في شيء معلوم بكيل معلوم، إلى أجل معلوم).
متفق عليه.
فبيع النسيئة أو الأجل يكون مع الزيادة، ويكون الثمن فيه مؤجلاً، وأما بيع التقسيط فقد يكون مع الزيادة، وقد يكون بدون زيادة، وإنما يقسط عليه الثمن الأصلي، ثم بيع التقسيط يشابه بيع الأجل في أن المال غير مدفوع حالاً، ويخالفه في أنه مقسط على مراحل وليس مؤخراً كلياً.
إذاً: بين بيع الأجل وبيع التقسيط عموم وخصوص.
خلاصة الكلام: أن بيع النسيئة -وإن كانت النصوص قد أجازته- ليس فيه نصوص تجيز الزيادة لأجل التأجيل أو التقسيط، فبيع التقسيط ليس فيه دفع النقود حالاً بل تؤجل؛ لذلك يزاد في السعر من أجل الأجل، وهذا ما سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى.
بيع التقسيط هو عبارة عن حادثة لمعاملة قديمة، وهو لون من ألوان بيع النسيئة، حيث يعجَّل فيه المبيع، ويتأجل فيه الثمن كله، أو يقسط على أقساط معلومة، لآجال معلومة، وهذه الأقساط قد تكون منتظمة سنوياً مثلاً، أو تكون غير منتظمة، وقد تكون متساوية المبالغ، أو غير متساوية.
والأقساط: جمع قسط، والقسط لغة: هو الحصة والنصيب، تقول: تقسّطنا المال بيننا، أي: أخذ كل منا نصيبه من هذا المال، والقِسط: هو العدل، تقول: أقسط الرجل فهو مقسط، أي: عادل.
والعلاقة بين المعنيين، أعني: القسط بمعنى الحصة والنصيب، والقسط بمعنى العدل: أن النصيب الذي يعطى لكل واحد يفترض أن يكون عادلاً بوجه من الوجوه، ومن ذلك أيضاً قول الفقهاء: إن للزمن قسطاً من الثمن، أي: إن للزمن حصة عاجلة من الثمن، والقاسط العادل عن العدل، أي: الذي ينحرف عن العدل، أو هو الفعل، وأما المقسط فهو العادل، والقسطاس في اللغة: هو الميزان.
وليس المراد ببيع التقسيط أن يقسط المبيع، ولكن التقسيط يكون في طريقة سداد ثمن المبيع.(19/4)
حكم بيع التقسيط
مسألة: هل بيع التقسيط مستحب أم مباح؟ استدل البعض بحديث ضعيف جداً مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة فيهن البركة، ومنها: البيع إلى أجل)، وهذا لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، إلّا أن البيع إلى أجل يكون مستحباً إذا قُصد به الإرفاق بالمشتري، فالبائع إذا رأى أن الرجل لا يستطيع أن يدفع المبلغ كله مرة واحدة حالاً فيؤجَّل له السداد كنوع من الإرفاق به دون أن يزيد عليه في الثمن لأجل الأجل، فهذا يكون مستحباً، وهو نوع من الإحسان.
وأما إذا كان البيع إلى أجل لا يقصد منه الإرفاق، بل هو مجرد المعاوضة فإذا كان ثمن السلعة -مثلاً- مائة فإنه يزيد في ثمنها إلى أجل عشرة أو عشرين، فيصير سعرها مائة وعشرين مثلاً إلى هذا الأجل، باعتبار أن الأجل له حصة من الثمن، فسنفصل الكلام في حكم هذا فيما بعد، وفي هذه الحالة يكون هذا العقد عقد معاوضة لا إرفاق، فهذا الرجل يتعامل معاملة مادية، فهو يريد قيمة الزمن الزائد.
فإذا كان البيع إلى أجل بهذه الصورة، أو تطلب كفالة، أو رهن، أو يؤتمن فيه المليء فقط، فهذا البيع يكون بيعاً مباحاً فقط.
ويكون مستحباً في صور، منها -كما ذكرنا- ألّا يزيد عليه في الثمن لأجل الأجل إذا كان محتاجاً، أو فقيراً، ومنها: أن يؤتمن على سداد الثمن دون أن يضيق عليه بطلب رهن أو كفالة مثلاً.(19/5)
بعض آداب بيع التقسيط
له آداب منها: أولاً: أن بعض الناس لا يبيع إلا بالتقسيط، فكل البضاعة التي عنده لا يبيعها إلا بالتقسيط، ولا يخير المشتري بين البيع الآجل والبيع العاجل، والعلماء حينما ناقشوا مسألة بيع العينة وصوره ذكروا أن للعينة صوراً منها: أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة، وقد نص الإمام أحمد على كراهية ذلك، فقال: العينة أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس، أي: أن المكروه هو أن يقتصر فقط على البيع بالنسيئة، وأما إذا باع بنسيئة وبنقد ففي هذه الحالة يقول الإمام أحمد: لا بأس بذلك.
وقال أيضاً: أكره للرجل ألّا يكون له تجارة غير العينة، فلا يبيع بنقد، أي: أنه يمتنع عن البيع بالنقد، ويكون كل بيعه بالأجل.
وقد علل ابن تيمية رحمه الله تعالى ذلك بأنه يدخل في بيع المضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه.
ومعنى كلامه: أن أغلب الناس الذين يشترون إلى أجل مع ارتفاع السعر، إنما يلجئون إلى هذا النوع لأنهم لا يستطيعون أن يسددوا ذلك المال نقداً.
يقول: فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة -وكأنه يستغل حاجة هؤلاء الناس- وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجراً من التجار.
لكن إذا كان التاجر يقصد من البيع بالنسيئة بيع العينة أو بيع الآجال فهذا نوع من الحيل الربوية، ولا شك في كراهية هذا، بل هو حرام ديناً وقضاءً، لكن إذا كان التاجر يبيع بالأجل دون أن يتخذ هذا ذريعة إلى بيوع الآجال أو بيوع العينة، فهذا مباح؛ حتى ولو لم يبع إلا بالأجل والتقسيط؛ لأن بيع الأجل جائز وبيع العينة حرام كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فأفضل أحوال البائع أنه يبيع للناس -إذا كان إلى أجل- بنفس سعر الحال، وهذا يدخل تحت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى) رواه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (من كان هيناً ليناً قريباً من الناس حرمه الله على النار).
إذاً: من أراد أن ينال هذا الثواب العظيم، فليبع بالتقسيط وبسعر النقد؛ حتى لا يستثمر حاجة الناس، فهذه هي أكمل الأحوال، وفي نفس الوقت فنحن نحرض المشتري على أنه لا يستدين، وأن يحرص على أن يشتري بنقداً، ولا يشغل ذمته بهذه الحقوق وهذه الأموال.(19/6)
مظان مسألة بيع التقسيط وأصوله
الآن سنتكم عن صلب البحث، وسنذكر مظان مسألة البيع بالتقسيط وأصولها، وقد ذكرنا من قبل: أن مجرد بيع الأجل مباح وليس فيه بأس، ولكن المشكلة تكمن في زيادة سعر السلعة لأجل الأجل.
لم يكن اصطلاح البيع بالتقسيط معروفاً عند علماء الشريعة والفقه الإسلامي قبل القرن الحالي، حيث عرف وشاع هذا النوع من البيع، ومن البدهي -والأمر كذلك- ألا يكون للمصطلح هذا وجود في كتب الحديث النبوي وهي مصدر رئيس يستقى منها الفقه وأحكامه، ولما كان الأمر كذلك اقتضى أن نبين المواطن والمظان التي فيها جذور هذه المسألة وأصولها من مصادر الحديث والفقه، فنلخص فيما يلي كلام الدكتور محمد عقلة الإبراهيم في هذا الباب، فيقول: ففي كتب الحديث نجد أصل هذا النوع من البيع قد ورد في مواطن في السنة يمكن من خلالها أن نفهم لفظ الشرع لهذا النوع من البيع، فلم نبحث عنه تحت اسم البيع بالتقسيط لأن هذا المصطلح حادث، فأما الأحاديث التي لها علاقة بمضمون هذا البيع فأولها حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة).
النوع الثاني: حديث: (نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة) بألفاظه المختلفة.
النوع الثالث: الأحاديث التي تتضمن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع، أو بيع وشرط، أو بيع وسلم، فقد ورد في شروح هذه الأحاديث ما يفيد أن من الصور التي تعنيها هذه الأحاديث أن يبيع الرجل السلعة نقداً بكذا ونسيئة بكذا، أي: مع الزيادة، وهذا المعنى يعتبر أصل مسألة بيع التقسيط.
وأما في كتب الفقه الإسلامي فنجد أصل مسألة بيع التقسيط تحت عنوان: البيوع الفاسدة، أو البيوع المنهي عنها، في كتب البيوع، أو باب: بيوع الآجال، فقد تناولت تلك الكتب في عداد حديثها عن البيوع المنهي عنها البيوعَ التي ذكرت آنفاً في كتب الحديث، وبيان الفقهاء لمعاني تلك الأحاديث، والتي تتضمن الصورة التي مرت، وهي أن يقول البائع للمشتري: هذه السلعة حالاً بكذا ومؤجلاً بكذا.
ومن ثَم فإن إعطاء المسألة حقها من الوضوح والجلاء يستلزم الخطوات التالية: أولاً: ذكر الأحاديث الشريفة التي تعتبر أهم مظان مسألة بيع التقسيط، مع تخريجها بألفاظها المختلفة، وبيان درجتها من الصحة.
ثانياً: إثبات عبارات أمهات كتب الحديث التي تناولت هذه الأحاديث بالبيان والشرح، وهذا هو المنهج العلمي، فلا ينبغي للإنسان أن يأخذ الحديث من كتب الحديث -حتى لو تبين له أن هذا الحديث صحيح -ثم يذهب يفسره على ما يريده، وهذه الآفة موجودة في بعض طلاب العلم في هذا الزمان، فإنه يأخذ الحديث، ثم يفسره بهواه، وإذا سكت الإنسان عن الخوض في المسائل الخلافية التي لا علم له بها قل الخلاف، وصدق من قال: إذا سكت من لا يعلم قل الخلاف بين الناس.
ثالثاً: إيراد عبارات الفقهاء في شرحهم لهذه الأحاديث عند كلامهم في البيوع المنهي عنها.
رابعاً: نستخلص علة تحريم هذه البيوع؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، أي: أننا نبحث عن علة التحريم، فإذا انتفت العلة رُفع الحرج، وإذا وجدت العلة حرم.
وخلاصة الكلام ونتيجته النهائية هو جواز البيع بالتقسيط بشروط معينة، على أساس مقدمات سنذكرها إن شاء الله تعالى.(19/7)
ذكر الأحاديث النبوية المتعلقة ببيع التقسيط
المطلب الأول: الأحاديث النبوية المتعلقة بهذه المسألة! الحديث الأول: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)، وهذا الحديث صححه طائفة من العلماء كـ الحاكم في المستدرك، وابن حزم في المحلى وغيرهما.
الحديث الثاني: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة).
الحديث الثالث: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك).(19/8)
تفسير الأحاديث المتعلقة ببيع التقسيط
المطلب الثاني: وهو معنى هذه الأحاديث: هذه الأحاديث لها معان عديدة ذكرتها كتب الحديث والفقه، فبما أن الموضوع متعلق بموضوع بيع التقسيط فسنقتصر فقط على المعنى الذي يتعلق بقضيتنا؛ لأننا لو فصلنا في شرح الأحاديث فسنخرج عن موضوعنا، فسنذكر كلام علماء الحديث في شرح هذه الأحاديث: حديث أبي هريرة: (نهى عن بيعتين في بيعة) يقول الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: (نهى عن بيعتين في بيعة): وقد مثل بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على إحدى البيعتين.
أي: دون أن يحدد له أي البيعتين اشترى، فأما إذا فارقه على إحداهما فلا بأس بذلك، فإذا قال لك: أبيع لك هذا نقداً بعشرة، ونسيئة بعشرين، فقلت له: أنا موافق وقبلت، فهذا إيجاب بالقبول، دون أن يبين أي البيعتين اختار، فهذا العقد عند هذا الحد يكون باطلاً وغير صحيح، وهو منهي عنه؛ لأنها وقعت بيعتان في بيعة واحدة.
فالمسألة مسألة عرض، فهو يعرض عليه ويساومه، فإذا اختار أحدهما فليس هناك بيعتان في بيعه، فلو قال مثلاً: اشتريه إلى أجل بعشرين، فهذه بيعة واحده، وإذا قال: اشتريه نقداً بعشرة، فهذه بيعة واحدة.
إذاً: فلا يدخل في المنهي عنه إذا اختار إحدى البيعتين؛ لأنها بيعة واحدة، وأما إذا عرض عليه البيعتين فقال المشتري قبلت، فهذا العقد يدخل تحت النهي عن بيعتين في بيعة.
قال الشافعي: ومعنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فربط بيعة الدار ببيعة الغلام، ومثل أيضاً أن يقول: أبيعك هذه الأرض بكذا على أن تبيعني هذه السيارة بكذا، فهذه بيعتان في بيعة واحدة، فهذه الصورة تدخل تحت معنى الحديث.
فإذا وجب الغلام لي وجب لك داري، وهذه صفقة بغير ثمن معلوم، ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه الصفقة.
فما يدري كم هو السعر، وهل هو بيع الآجل أم العاجل، فهذا هو الذي أثر في صحة هذا العقد، وبهذا المعنى فسره صاحب (معالم السنن) وهو الخطابي، وصاحب (بذل المجهود) وهو السهارنفوري، وصاحب (عون المعبود) وهو شمس الدين آبادي، وصاحب (نصب الراية) وهو الزيلعي وصاحب (سبل السلام) وهو الصنعاني، وصاحب (نيل الأوطار) وهو الشوكاني، وصاحب (فتح العلام) وهو صديق حسن خان.
وجاء في (الموطأ) وشرح الباجي عليه: قال مالك لرجل اشترى من غيره سلعة بمائة نقداً أو بشاة موصوفة إلى أجل، حال كونه قد وجبت عليه بأحد الثمنين: ذلك مكروه لا ينبغي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وهذه بيعتان في بيعة، فيمنع لذلك.
وقال النسائي: باب بيعتين في بيعة، وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة دينار نقداً، وبمائتي دينار نسيئة.
وبمثله فسره البيهقي.
فمما تقدم يتبين لنا بجلاء: أن أكثر المعاني شيوعاً لهذا الحديث هو أن يذكر البائع للمشتري ثمنين أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه مقداراً، وهذه الصورة هي الأساس لبيع التقسيط، وسنخلص فيما بعد النهي إلى علة هذا الحكم، هذا ما يتعلق بنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيعتين في بيعة.
الحديث الثاني: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)، وقد جرت عادة البائع والمشتري أنهما يتساومان في عملية البيع والشراء، فإذا توافقا قال الأول: بعتك بكذا، وقال الثاني: قبلت، فإذا تم صافح أحدهما الآخر؛ تعبيراً عن إمضاء الصفقة، فيبسط يده في يد الآخر.
فالنهي عن الصفقتين في صفقة المقصود به نفس معنى بيعتين في بيعة، وهذا الكلام الذي ذكرته في هذا الحديث مبني على تفسير سماك قال: الرجل يبيع الشيء فيقول: هو بنساء بكذا وكذا وهو بنقد بكذا وكذا، فهذا مقارب لما سبق.
وقال ابن أبي شيبة: أن يقول الرجل: إن كان نقداً فبكذا، وإن كان نسيئة فبكذا.
وأما الحديث الثالث فحديث: (نهى عن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف، وعن بيع وشرط)، فأما الشرطان في بيع، فقد فسرها صاحب (المنتقى شرح الموطأ) وهو الإمام الباجي بقوله: وهو أن يقول: بعتك هذه السلعة نقداً بكذا وبكذا نسيئة، وبمثله فسره النسائي وغيره.
أما (سلف وبيع) فهو: أن يريد الشخص أن يشتري سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النساء وهو التأجيل، وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليرجعه إليه حيلة.
وعلى أي الأحوال: فما أورده العلماء من تفاسير للأحاديث: (نهى عن بيعتين في بيعة) و (صفقتين في صفقة) و (شرطين في بيع) يظهر أنها تتفق في معنى واحد، أن يبيع الرجل سلعته بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحاضر.
هذا ما يتعلق بالأحاديث، والكلام عليها.
وأما كلام علماء الفقه: ففي الفقه الحنفي يقول صاحب (المبسوط): وصفة الشرطين في بيع أن يقول: بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، وبمثل هذا المعنى فسره صاحب (تحفة الفقهاء)، وصاحب (الفتاوى البزازية)، والسندي في حاشيته، وصاحب (فتح القدير)، وهذا شائع في كتب الأحناف.
وأما في كتب المالكية فقد جاء في (مختصر خليل): وكبيعتين في بيعة يبيعها بإلزام بعشرة نقداً أو أكثر لأجل.
وفي الفقه الشافعي يقول الشافعي رحمه الله تعالى في معنى بيعتين في بيعة: وهنا وجهان: أحدهما: أن يقول: بعت هذا العبد بألف نقداً أو بألفين نسيئة، فقد وجب لك بأيهما شئتُ أنا أو شئت أنت، فهذا بيع الثمن فيه مجهول، وثانيهما: أن يقول: قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف.
وفي الفقه الحنبلي يقول صاحب (المغني) بعد ما ذكر حديث أبي هريرة (نهى عن بيعتين في بيعة): مثل أن يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك، فهذا كله لا يصح.
قال ابن قدامة: وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر، وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقداً أو بخمسة عشر نسيئة، وهو أيضاً باطل.
وكذلك باقي العلماء والمذاهب الأخرى، سواء كانوا من علماء السلف كالصحابة والتابعين، أو من غيرهم فقد جاء عنهم ما يفيد أن كل هذه الأحاديث تعني أن تقول: هي نقداً بكذا ونسيئة بكذا، وقد روي هذا عن علي وابن عباس، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما نُقل عن الأوزاعي وعطاء والثوري والقاسم بن محمد والشعبي وابن سيرين رحمهم الله تعالى أجمعين، وبهذا المعنى فسر أيضاً داود الظاهري.
ويظهر مما تقدم من ذكر أقوال العلماء في بيان معنى الأحاديث الشريفة الثلاثة أن هذه الأحاديث تفيد معنيين: الأول -وهو أرجحهما وأكثرهما وروداً عند العلماء-: أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذه السلعة بسعر معجل بكذا وبمؤجل بكذا، وهذا هو أصل بيع التقسيط.
الثاني: أن يقول البائع للمشتري: أبيعك كذا على أن تبيعني أو تؤجرني أو تقرضني كذا.(19/9)
علة التحريم في البيوع المنهي عنها في الأحاديث السابقة
المطلب الثالث: ما هي علة التحريم في البيوع المذكورة؟ إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، ونهى عن صفقتين في صفقة، ونهى عن شرطين في بيع أو بيع وسلف، فما علة هذا التحريم؟ إنّ المتتبع لعبارات كتب الحديث النبوي وشروحها العديدة يجد أن تحريم البيعتين في بيعة مردُّه إلى جهالة الثمن الذي تم به البيع، فقول البائع: أبيعه لك معجل بعشرة وإلى أجل بعشرين، فيقول المشتري: أنا موافق على أي البيعتين، بدون أن يبين أي البيعتين قد أمضى، فإلى هذا الحد فالبيع غير صحيح، وهو محرم، وهو داخل في بيعتين في بيعة وصفقتين في صفقة، وشرطين في بيع، والعلة هي جهالة الثمن الذي تم به البيع، وهذه الجهالة هي نوع من الغرر الذي يؤثر في صحة العقد.
يقول الإمام الترمذي بعد ما ذكر حديث (بيعتين في بيعة): وفسره بعض أهل العلم أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقداً بعشرة ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، يعني: وقد جزم وقطع واختار ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كان العقدة على أحدهما.
فهذا القول يفيد أن علة النهي هي جهل المتعاقدين بالثمن؛ إذ إنه يقبض السلعة ويفارق البائع دون أن يعين ما إذا كان الثمن الذي تم به البيع هو المعجل أو المؤجل، أما إذا انتفت العلة بأن حدد المشتري أيَّ الثمنين اختار لإتمام العقد به فإن العقد يصح؛ لانتفاء الجهالة المفضية إلى المنازعة، وهذه العلة هي التي نص عليها الخطابي والصنعاني والشوكاني وصاحب (بذل المجهود) وصاحب (فتح العلام).
وهذه العلة هي أيضاً عند علماء الحديث، وهي أيضاً نفسها عند الفقهاء، فعند فقهاء الأحناف: يقول السرخسي في شأن علة النهي: وإذا اشترى شيئاً إلى أجلين وتفرقا على ذلك لم يجز، وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما وأمضى البيع عليه جاز.
وقال في موضع آخر بعد بيان معنى بيعتين في بيعة: فهو فاسد؛ لأنه لم يقاطعه على ثمن معلوم، فإن كانا يتبايعان بينهما ولم يفترقا حتى قاطعه على ثمن معلوم وأتما العقد عليه فهو جائز؛ لأنهما ما افترقا إلا بعد تمام شروط الصحة.
فهذا ظاهر في أن علة النهي عن بيعتين في بيعة وما في معناهما: عدم العلم بالثمن الذي تم عليه العقد، مما يعني أنه إذا انتفت العلة المذكورة وعرف الثمن فإن البيع يصح.
وعامة فقهاء الأحناف يقولون نفس هذا الكلام.
وكذلك فقهاء المالكية، قال الدسوقي: وهو أن يبيع السلعة بتاً -أي: نقداً- بعشرة، أو أكثر لأجل معين، ويأخذها المشتري على السكوت ولم يعين أحد الأمرين، اختاره بعد أخذها، وإنما منع للجهل بالثمن حال البيع، وهناك عبارات أخرى للمالكية بنفس هذا المعنى لا نطيل بذكرها.
والمتتبع لعبارات فقهاء المذهب الشافعي يجد أنها تكاد تُطبِق على اعتبار الجهل بالثمن وإبهامه وعدم استقراره هي علة تحريم الأنواع التي نحن بصددها من البيوع، سواء كان ذلك بطريق الصراحة أو الدلالة، فيقول أبو إسحاق الشيرازي بعد بيان معنى بيعتين في بيعة: والبيع باطل؛ لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، وهو باطل، أما لو قال: بعتك بألف نقداً وبألفين نسيئة فيصح العقد، وإلى مثل هذا ذهب الشافعي وابن الرفعة.
كذلك الفقه الحنبلي يقول العبدلي في شأن العلة: لا يصح ما لم يتفرقا على أحدهما، أي: الثمن المعجل أو المؤجل، وهو المذهب نص عليه الإمام أحمد، وعليه جمهور أصحابه، وقطع به كثير منهم.
يقول ابن القيم: وليس هاهنا ربا، ولا جهالة، ولا غرر، ولا قمار، ولا شيء من المفاسد.
يعني: إذا افترقا وقد بيَّن أي البيعتين اختار.
يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا بأس أن يقول في السلعة: هي بنقد بكذا وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقان إلا عن رضا، وتحديد أي البيعتين قد أمضى.
ويقول الأوزاعي: لا بأس بذلك، يعني: بيعتين في بيعة، ولكن لا يفارقه حتى يُباتّه بأحد الثمنين، أي: حتى يقطع بأحد الثمنين.
إذاً: خلاصة الكلام: أن علة عدم جواز البيعتين في بيعة -مع تفاوت عبارات العلماء والمحدثين- لا تخرج عن جهل الثمن الذي تم العقد عليه، أو سد ذريعة الربا كما عند المالكية.
وعلى هذا الأساس: إذا ارتفعت هذه العلة من بيع التقسيط بحيث يذكر البائع للمشتري ثمنين: أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه، فيختار المشتري واحداً منهما بعينه قبل التفرق من مجلس العقد؛ فإن هذا النوع يكون جائزاً شرعاً.(19/10)
الواجب على من تبايعا بيعتين في بيعة
ما حكم البيعتين في بيعة؟ لنفرض أن رجلاً بالفعل باع بيعتين في بيعة، وحصلت الصورة المنهي عنها، قال له: أبيع لك ثوبي بكذا وبأجل بأكثر منه بكذا، فقال: قبلت، فما حكم هذا البيع؟ ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى أن بيع بيعتين في بيعة باطل أو فاسد، ولم يشذ عن القول ببطلانه إلا نفر من الفقهاء كـ طاوس والحسن وحماد بن أبي سليمان.
وجاء في (الشرح الكبير): كما فسره مالك والثوري وإسحاق، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين، ولأن الثمن مجهول، فليس يصح كالبيع بالرقم مجهول.
أي: قوله: بعتك أحد هذين تشبه أن يقول له: بعتك بأحد الثمنين، ففيه جهالة، فإذا قال لك مثلاً: بعتك أحد هذين: مثلاً جهاز الكاست ومنبّه، وأنت تقول: قبلت، فهذا لا يجوز؛ لأن فيه جهالة، فأنت لا تعرف ماذا اشتريت، فالسلعة مجهولة، وذلك غرر، ومثلها أن أقول لك: بعتك بأحد هذين السعرين إما آجل بكذا أو عاجل بكذا، ومثل أن يقول لك قائل: أبيع لك هذه السلعة بمبلغ ما، فتقول له: قبلت، فهذا لا يصح؛ لجهالة الثمن، فكذلك ما سبق.
إنّ ما تكلمنا عليه آنفاً هو حكم البيعتين في بيعة من حيث الحل والحرمة، والصحة والبطلان، وهنا سؤال وهو: إذا كان هذا البيع حراماً باطلاً فماذا يجب؟
و
الجواب
أنه يجب فسخه، فلا يترتب عليه أثره، وأما لو هلكت السلعة أو استُهلكت، كأن تكون هذه السلعة طعاماً أو نحوه مما يؤكل، أو استُعمل واستهلك فما الحكم الشرعي في هذه الحالة؟ لقد أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك في حديث نبوي شريف أخرجه أبو داود في سننه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) وهذا الحديث حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، حديث رقم (2326).
فمن العلماء من أخذ بظاهر هذا الحديث ورتب على هذه الصورة من البيع أثراً، فقد روي عن الأوزاعي أنه سئل عن معنى بيعتين في بيعة وهو أن يقول: نقداً بكذا ونسيئة بكذا، فقال الأوزاعي: لا بأس بذلك، ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد البيعين، أي: لا يفارقه حتى يجزم بأي البيعتين أمضى، فإن قبض السلعة على ذينك الشرطين فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين.
أي: يكون بأقل الثمنين وهو بيع النقد، إلى أبعد الأجلين وهو بيع الأجل.
وبه قال طاوس، فقد سئل: إذا قال: بكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا فوقع البيع على هذا، قال: هو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، يعني: أن من وقع في هذه المخالفة الشرعية وحصل منه هذا البيع دون أن يجزم أو يحدد أي البيعتين أمضى فالحل في ذلك أن يكون البيع بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، وهذا مأخوذ من الحديث: (من باع بيعتين في بيعة) أي: قد حصل هذا البيع فما الحل؟ (له أوكسهما أو الربا)، أي: أقل ما يمكن أن تكون عليه في هذه الحالة وذلك بأن يكون بأبعد أجل، وبأقل ثمن، فهذا معنى: (فله أوكسهما)، وإن لم يفعل ذلك فإنه يقع في الربا.
وقد طعن بعض العلماء في صحة هذا الحديث، وقال بعضهم: على فرض صحته فعنه أجوبة: أولاً: يجاب عما قاله الأوزاعي بما قاله الخطابي: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث، أو صحح البيع بأوكس الثمنين إلا شيء يحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد؛ وذلك لما تضمنه هذا العقد من الغرر والجهل.
فهنا تعارض بين الحديث المتقدم وبين حديث: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، فظاهر هذا الحديث أن البيع يمضي، لكن بأوكسهما، أي: بأقل الثمنين.
وقال بعض العلماء: يحمل على معنى آخر مثل رجل باع شيئاً إلى أجل، وقال للمشتري: سدد لي مبلغ هذه السلعة خلال شهر مثلاً، فيأتي بعد شهر وعليه مائة جنيه مثلاً، فيقول المشتري بعد الشهر: ليس عندي ما أستطيع أن أسددك الآن، فيقول له البائع: أمد لك شهراً آخر ويكون عندك مائة وعشرون؟ قالوا: فهذا هو المقصود بقوله: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، قالوا: فإما أن يؤجَّل له المبلغ الأقل وهو مائة جنيه، أو يطلب منه هذه الزيادة فيكون قد وقع في الربا.
وهناك تفسير آخر لهذا الحديث، وهو: أن يسلف رجل رجلاً آخر ديناراً في قفيز بر، والقفيز هو نوع من المكاييل، فأسلفه ذلك إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له: بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثاني قبل فسخ البيع الأول، فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما أي: أقلهما من الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ البيع الأول كان منهياً عنه؛ لأنه بيع الدين بالدين أو بيع الكالئ بالكالئ منهي عنه لما فيه من الربا، فهذه صورة أخرى في معنى بيعتين في بيعة.
وقال بعض العلماء: إن الحديث من باب بيع الدين بالدين، وهذا قاله ابن الأثير في شرح هذا الحديث، قال: أن يقترض الرجل من الرجل مالاً فيعطيه سلعة إلى أجل، فإذا حل الأجل وطالب بالوفاء قال: بعني تلك السلعة إلى أجل آخر وأزيدك، ولا يجري بينهما تقابض، فكأنه أسلفه ديناراً في صاع بر مثلاً إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له: بعني الصاع بصاعين إلى شهرين، فهذا بيع ثانٍ، وهو بيعتان في بيعة، فهنا يرد إلى أقلهما وهو الصاع، أي: كأنه باعه دين بدين، وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه.
وهناك جواب آخر أجاب به بعض العلماء عن هذا الحديث: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) فقال بعض العلماء: ظاهر هذا الحديث مخالف للمذاهب كلها، إلا أن يقال في معناه: إن من باع شيئاً على أنه بخمسة إن كان ناجزاً وبعشرة إن كان نسيئة، ثم افترقا من غير أن يتعين أحدهما، فهذا البيع فاسد؛ لكونهما افترقا قبل تعيين الثمن، ولأنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعتين في بيعة وكان الحكم فيه الفسخ، إلا إذا استهلك المشتري المبيع أو أكله فلا يجب فيه إلا المثل أو القيمة إذا تعذر المثل، وهو أوثق عادة من الثمن المتعين بينهما في البيعتين معاً حاسبين المثل أو القيمة، المثل أو القيمة لا بد أن يكونا أقل من السعر الذي كان متفقاً عليه في البيعة الثانية؛ لأنه لو أخذ الثمن كان إبقاءً لبيع منهي عنه، فإذا أخذ الثمن ولم يفسخ فقد أربى؛ لكونه عقد عقداً فاسداً، والعقود الفاسدة كلها داخلة في حكم الربا.
وخلاصة الأمر في حكم بيعتين في بيعة: أنها من البيوع المنهي عنها ونقصد بيعتين في بيعة فالمقصود بها الصورة التي ذكرناها آنفاً، وهي غير بيع التقسيط، وهي من البيوع المحكوم ببطلانها، وتستحق الفسخ إذا وقعت بالصورة التي لا يُعلم فيها الثمن، وهذا رأي عامة الفقهاء.
وأما من حيث حكمها: فإذا حدث قبض بموجبها فجمهور الفقهاء يرون أن البيع الباطل لا ينتج أثراً، وأنه لا يصح الأخذ بظاهر حديث أبي داود؛ لأن العمل بظاهره يفيد أن البيع صحيح، والبيع الصحيح هو الذي ينتج آثاراً، ويرتب حقوقاً، إضافة إلى المطاعن التي ذكرناها في صحته أولاً من جهة، أو في صلاحيته للاحتجاج به على المقصود من جهة أخرى، فقد التمسوا له التأويلات على فرض صحته؛ انسجاماً مع الحقيقة الشرعية التي تأبى أن يترتب على العقد الباطل آثاراً، وتمكين للبائع من الوصول إلى حقه الذي ذهب بتعذر استرداد السلعة التي باعها بموجب عقد البيعتين في بيعة المنهي عنه شرعاً حتى يرد إلى البائع حقه، أي: إذا قلنا لهذا البائع: هذا البيع باطل ولابد أن يفسخ، فإنه سيقول: أرجعوا لي سلعتي التي أخذتموها، ويكون المشتري قد استهلكها، أو أتلفها، أو احترقت عنده، أو غير ذلك فهل يضيع حق البائع؟ لا، بل نُعمِل هذا الحديث كمخرج، (من باع بيعتين في بيعة) أي: واستهلكت السلعة، أو تلفت في يدي المشتري الذي قصّر في حفظها، فما الحل؟ (فله أوكسهما) أي: برد السلعة لصاحبها، أو قيمتها عند تلفها.(19/11)
القول الراجح في حكم بيع التقسيط
بعد النظر إلى أدلة الفريقين وما قدمه الجمهور إلى أدلة مخالفيهم من طعون أوضحت عجزها عن الاحتجاج بها، يترجح أن الحق هو ما قاله جمهور العلماء، وهو أن النهي عن بيعتين في بيعة هو إذا عرض عليه، البيع نقداً ونسيئة ولم يعين الثمن، وأما إذا عين الثمن فالبيع جائز.
وبعض العلماء قال بكراة بيع التقسيط لظاهر هذا الحديث، وهذا مذهب متوسط ذهب إليه بعض الفقهاء، فبعض الفقهاء يبطلون البيع بالأج، وبعضهم يبيحه، وبعضهم قالوا: هو مكروه، فالأحوط تركه، والله تعالى أعلم.(19/12)
التبرك الممنوع والمشروع
مسألة التبرك من المسائل التي حصل فيها الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، فمن باب التبرك انتشرت كثير من البدع والشركيات؛ لذا كان لزاماً علينا معرفة التبرك المشروع من التبرك الممنوع؛ حتى لا يقع الإنسان في البدع أو الشركيات وهو لا يشعر.(20/1)
إثبات كون البركة من الله عز وجل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله -أي: ابن مسعود - رضي الله عنه قال: (كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء.
فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله.
فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
فقوله رضي الله عنه: (كنا نعد الآيات بركة) يعني: كنا نعد الأمور الخارقات للعادات بركة (وأنتم تعدونها تخويفاً) أي أنه ينكر على من يسمعونه أو من كان يحدثهم أنهم كانوا يعدون جميع الخوارق تخويفاً.
فقوله: (كنا نعد الآيات بركة) المقصود به: كنا نعد بعض الآيات بركة.
وقوله: (وأنتم تعدونها تخويفاً) أي: وأنتم تعدونها كلها تخويفاً، فليست كلها تخويفاً، وليست كلها بركة، بل بعضها يكون تخويفاً، كما قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، وبعضها يكون بركة، كما في هذا الحديث المبارك.
يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: إن التحقيق يقتضي عد بعضها بركة من الله، كشبع الخلق الكثير من الطعام القليل، وبعضها تخويفاً من الله، ككسوف الشمس والقمر، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوفاً الله بهما عباده)، فكأن القوم الذين خاطبهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بذلك تمسكوا بظاهر قول الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59].
ثم قال رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر)، وهذا السفر يشبه أن يكون في غزوة الحديبية؛ لأن ثبوت نبع الماء كان في هذه الغزوة، كما جاء في بعض الأحاديث، وقد وقع مثل ذلك في غزوة تبوك، وقيل: إنه كان في غزوة خيبر.
وفي بعض روايات الحديث: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فأصاب الناس عطش شديد، فقال يا عبد الله! التمس لي ماءً.
فأتيته بفضل ماء في إداوة) إلى آخر الحديث.
وقد تكرر وقوع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم حضراً وسفراً.
قوله: (قال: اطلبوا فضلة من ماء.
فجاءوا بإناء فيه ماء قليل) جاء من طريق ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بماء، فطلبه، فلم يجده، فأتاه بشن فيه إناء) وفي آخره: (فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر) لأنه كان ماءً مباركاً، فجعل يشرب ويكثر، فكأن ابن عباس حمله عن ابن مسعود، وكأن القصة واحدة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتى بفضلة من ماء، ولا شك في أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يخلق له الماء بدون هذه الفضلة، فالله على كل شيء قدير، لكن أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم أن هذا الماء القليل يبارك الله تبارك وتعالى فيه بإذنه فيزيده ويكثره، ويكون الماء ينبع من أصابعه صلى الله عليه وسلم، حتى لا يتوهم متوهم أن البركة إنما هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما البركة من الله، كما جاء في نص الحديث: (البركة من الله)، لكنه طلب شيئاً قليلاً من الماء حتى يبين ابتداء أن خلقة هذا الماء من الله، والبركة -أيضاً- من الله، حتى لا يقع التباس عند بعض الناس في هذا الأمر، ولذا قال لهم: (حي على الطهور المبارك) ومعنى (حي) أي: هلموا وأقبلوا (إلى الطهور) المراد به هنا الماء، ويجوز أن نقول: الطُهور بالضم، والمقصود الفعل، أي: تطهروا.
وقوله: (والبركة من الله) البركة مبتدأ و (من الله) خبر وهي إشارة إلى أن الإيجاد والخلق من الله تبارك وتعالى.
وفي بعض الروايات قال ابن مسعود: (فجعلت أبادرهم إلى الماء) أي: لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والبركة من الله) علم أن هذا الماء ماء مبارك، فجعل يسابق الصحابة رضي الله عنهم إلى الماء، يقول: (فجعلت أبادرهم إلى الماء أدخله في جوفي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: والبركة من الله)، وفي حديث ابن عباس: (فبسط صلى الله عليه وسلم كفه فيه فنبعت تحت يده عين، فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: والحكمة في طلبه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المواطن فضلة الماء لئلا يظن أنه الموجد للماء، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالباً بالتوالد، وأن بعض الأشياء يقع بينها التوالد، وبعضها لا يقع، ومن جملة ذلك ما نشاهده من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت زماناً، ولم تجر العادة في ماء الصرف بذلك، فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جداً.
قوله: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل) أي: في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ففي الغالب أن هذا كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وله شاهد من طريق قيس بن أبي حازم قال: كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: (بآية الصحفة).
كما نقول نحن: بأمارة كذا إذا كان الاثنان متفقين على شيء ولا يعلمه ذلك الرسول الذي يمشي بينهما.
فكان أحدهما يقول للآخر: أعط فلاناً كذا وكذا بآية -يعني: بعلامة أو بأمارة- الصحفة.
قال: (كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: بآية الصحفة، وذلك أنه بينا هما يأكلان في صحفة إذ سبحت).
وجاء في الحديث: (مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بطبق فيه عنب ورطب، فأكل منه فسبح) يعني الطبق.
قال الحافظ ابن حجر: وقد اشتهر تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنيناً، ثم وضعهن في يد أبي بكر رضي الله عنه فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن) وفي بعض الروايات: (فسمع تسبيحهن من في الحلقة) وفيه: (ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن)، فهذه من الأشياء التي سبقت فيها بركة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.(20/2)
تأييد الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم بخوارق العادات
جاء في الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما في البخاري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع -أي: إلى نخلة- في المسجد -أي: كان يعتمد على هذا الجذع أو يتكئ عليه وهو يخطب-، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه، فلما أتى النبي عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة ليخطب مر على هذا الجذع وجاوزه إلى المنبر الذي اتخذ له، فلما رأى الجذع ذلك حن أي: أصدر صوتاً كصوت الطفل الصغير الذي يحن إلى أمه- حتى أتاه النبي - أي: أنه نزل من على المنبر- وضمه إليه، وأخذ يمسحه، حتى سكن).
وفي رواية أخرى: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار -أو رجل-: يا رسول الله! ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إن شئتم.
فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن، فقال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها) أي: كانت تحن إلى الذكر الذي كانت تسمعه حين يخطب عندها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: (كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر قام عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها، فسكنت).
والعشار جمع عشراء، وهي الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر.
فهذا كله تأييد لقول من يحمل قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] على ظاهره، وهذا هو الصحيح.(20/3)
التبرك الممنوع وسيلة من وسائل انتشار البدع والشركيات
قول النبي عليه الصلاة والسلام: (والبركة من الله) يحتاج إلى مزيد من التوضيح له ضمن هذه السلسلة التي هي تلخيص لبعض الدراسات المهمة.
وهنا سنتكلم عن التبرك المشروع والممنوع، علماً أنَّ هذه المجموعة من الدراسات المفيدة النافعة تحمل اسم (رسائل ودراسات في منهج أهل السنة) للدكتور علي العلواني، ونظراً لندرة هذه الرسائل وعدم توافرها ولشدة الحاجة إليها في نفس الوقت نقوم بمحاولة نشرها بقدر المستطاع عن طريق هذه البنود.
يقول الدكتور علي العلواني حفظه الله: إن التبرك بذوات الصالحين وآثارهم والتبرك بالأزمنة والأمكنة المرتبطة بهم قضية من أهم القضايا العقدية، كذلك الغلو فيها ومجانبة الصواب قد جر فئاماً من الناس قديماً وحديثاً إلى حظيرة البدع والخرافيات والشركيات.
وهذا من قديم الزمان، فإن أهل الجاهلية الأولى الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أسباب عبادتهم للأصنام التبرك بها، وطلب بركتها في الأموال والأمن والأولاد والأنفس، ثم لما دخلت البدع في هذا الدين عن طريق الزنادقة والمنافقين كان من وسائلهم لتحريف الدين الغلو في الأولياء والصالحين، والتبرك بقبورهم، وفي مقدمة هؤلاء الرافضة لعنهم الله، فهم من أولهم ظهوراً بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن هنا أدخل أهل النفاق في الإسلام ما أدخلوه من باب التبرك والغلو في الدين.
ويكفينا نحن في مصر أن مصر تتميز بقدر من البدع لا تحظى به كل البلاد الإسلامية، كباكستان وأفغانستان والبلاد البعيدة عن مبادئ الإسلام الأولى، فلنا في مصر بدع لا تكاد تجدها تنتشر في بلاد أخرى، خاصة مسألة بناء المساجد على القبور، وتعظيم المقابر بهذه الطريقة، والموالد، والمواسم، والأطعمة، والاشتغال بهذه الشكليات التي تنسي الناس جوهر الإسلام.
وكل هذه البدع أو أغلبها إنما طرأ علينا في مصر بسبب شؤم الدولة الفاطمية الملحدة التي حكمت مصر ردحاً من الزمان.
فنحن ابتلينا بهذه الدولة الرافضية الفاطمية الخبيثة، فإنها لما حكمت في مصر بثت هذه البدع، ولعل مما يشرف أهل الإسكندرية أن الإسكندرية هي المدينة الوحيدة التي استعصت على الفاطميين في فترة حكمهم وغزوهم العقدي للمسلمين في مصر.
وعلى أي الأحوال فنحن نعيش بين هذه البدع، ونكتوي بنارها، كالغلو في أهل البيت، والغلو في الصالحين، وبناء المساجد على القبور، حتى إن العقائد السائدة عند الناس أنهم يعتقدون أن كل قرية لابد من أن يكون لها ولي يدفن في وسط المقابر لأجل أن يحمي القرية، والذين يعتقدون ذلك هم عامة الناس في الأرياف، ونرجو أن تنقطع هذه العقائد الآن بسبب دعوة الإخوة جزاهم الله خيراً.
فيعتقدون أن كل بلدة تحمى وتحفظ بالولي المدفون فيها، والذي يعظم قبره وتشد إليه الرحال، حتى إن بعض الناس ألفوا كتباً ليوضحوا فضل مناسك الحج إلى هذه المشاهد وسموها (مناسك الحج)! ونرى فيها أنواعاً من الشرك التي تضاهي ملة إبراهيم عليه السلام وتشابهها، وكأنه يحج إلى بيت الله العتيق، فتجد الطواف حول هذه القبور والأضرحة، مع أنها مؤسسة على لعنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومؤسسة على غضب من الله تبارك وتعالى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، والأدلة في ذلك معروفة.
وتجد أنهم يحجون إلى تلك الأضرحة كما يفعل الموحدون إذا حجوا إلى بيت ربهم تبارك وتعالى.
وتجد -أيضاً- أنهم يتبركون بهؤلاء الأنجاس الذين يعبدونهم من دون الله، وتجد الذبائح التي يهدونها إلى الميت وإلى القبور، وهذا عجل البدوي وهذا عجل فلان، ولا أحد يقربه أبداً، مثل ما عمل أهل الجاهلية حين جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فعجل البدوي لا أحد يقربه ولا أحد ينتفع به؛ لأنَّه عجل البدوي! ويذبحون الذبائح للأنداد الذين اتخذوهم من دون الله تبارك وتعالى، فنجد عندهم الطواف والذبح والحلق والنحر، وكل هذه الأشياء مضاهاة لما يفعله الموحدون أتباع ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فالحقيقة أن هذه الأمور من أشد مظاهر غربة الإسلام في بلادنا وفي كثير من بلاد المسلمين، فإذا تتبعت منابع هذه الضلالات وهذه الشركيات فسوف تجدها تعود إلى جذور خبيثة منتنة، كما قال عز وجل: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58].
فهذا النكد أتانا من هؤلاء المبتدعين والمنافقين، فكثير من الناس لما أرادوا الطعن في الإسلام طعنوا فيه من خلال الغلو في الصالحين أو الغلو في أهل البيت.
فالذي ابتدع دين الرافضة وأسس دين الرافضة هو يهودي خبيث اسمه عبد الله بن سبأ، وكان يقال له: ابن السوداء.
ذلك الخبيث هو الذي أثار الفتن في المسلمين، وكان زنديقاً أظهر الإسلام وأبطن الكفر؛ ليحتال في إفساد دين المسلمين، كما احتال بولس في إفساد دين النصارى؛ لأن الذي أفسد دين النصارى هو بولس، وهو يهودي أيضاً.
وقد سعى هذا اليهودي الخبيث -أعني ابن سبأ- في الفتنة بين المسلمين، حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وكان هو ممن غذى هذه الفتنة، وكان يغذي فتنة الاقتتال بالكذب والدعاوى بين المسلمين، كما قال تبارك وتعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47].
ثم إنه لما تفرقت الأمة ابتدع ما ادعاه في الإمامة من النص والعصمة، وافترى فرية أخرى، هي أن كل نبي لابد له من أن ينص على إمام من بعده، وأن هذا الإمام يكون معصوماً، فهو الذي أسس للشيعة الرافضة دينهم الخبيث.
وأظهر التكلم في أبي بكر وعمر، فهو الذي فتح باب الطعن في أبي بكر وعمر، وصادف ذلك قلوباً فيها جهل وغل وإن لم تكن كافرة، فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشر، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(20/4)
لا اجتماع بين التوحيد والشرك في قلب واحد
إن القلب لا يتسع للبدعة والسنة، ولا يتسع للتوحيد والشرك، فإذا دخل أحدهما خرج الآخر، فلا يجتمعان لأنهما نقيضان، فالقلب الذي يمحص وينقى ولا يكون إلا للتوحيد والسنة لا يطيق أبداً خلاف ذلك، وبقدر ما يدخل من البدع في القلب بقدر ما يذهب من نور السنة.
والذي يرتبط بالقرآن كتاب الله، ويستقي الحكمة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجد تعظيمه للقرآن وحبه للقرآن وشعوره بحلاوة القرآن ولذة مناجاة الله تبارك وتعالى حين يتلو كلامه أعظم بكثير ممن أخذ من ذلك بحظ قليل ثم ملأ قلبه بالشعر وبأقوال حكماء اليونان وحكماء الهند وكلام الفلاسفة والشعراء، فهذا الذي يملأ قلبه بهذه الأشياء يكون تأثره بالحكم الإلهية والنبوية أقل.
والإنسان حين يراقب نفسه وينقي نفسه ويكون عنده الاحتفال بعيدي المسلمين في يومين لا ثالث لهما: عيد الفطر وعيد الأضحى تجد شعوره بالفرحة في عيدي المسلمين -الأضحى والفطر- لا يكون كشعور من جعل بين كل عيد وعيد عيداً، كما يحصل في بلادنا من الأعياد السياسية، والأعياد الوطنية، والموالد الشركية، والبدع والضلالات، وكل يوم يطلع لنا فيه عيد معاندة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلكم بهما عيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى) فالبدل لا يجتمع مع المبدل منه.
والذي يحج إلى بيت الله الحرام فحسب، ويطوف بالكعبة فحسب، ويذبح لله فحسب هو إنسان توحيده أتم وأكمل وأنقى من هؤلاء الذين يتمرغون في الشرك ممن يحجون إلى البدوي والدسوقي، وتجد حب المرء من هؤلاء للكعبة ولبيت الله الحرام وللحج يضعف بلا شك؛ لأنه يعظم من دون الله هذه المشاهد وهذه القبور ويحج إليها، فأنت حين تطوف بالكعبة وحدها وحين تذبح الهدي لله فقط وحين تقف على عرفات وهكذا هل تستوي أنت ومن اتخذ من دون الله أنداداً، وطاف بقبورهم، وتمسح بأضرحتهم، وفعل هذه الشركيات التي ما أنزل الله بها من سلطان؟!(20/5)
التبرك عند الرافضة
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد، محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم.
ولذلك فمن ابتلي برؤية الشيعة -أخزاهم الله- عند البيت الحرام أو في المدينة المنورة يجد أنه يخرج الموحدون المسلمون من المسجد النبوي -مثلاً- في صلاة الفجر وهؤلاء قادمون أفواجاً وراء أفواج من المقابر من البقيع، ولا يصلون مع المسلمين في المسجد! فهؤلاء هم -كما وصفهم ابن تيمية - الذين يهجرون المساجد ويعظمون المشاهد، فدينهم هو عبادة القبور والأضرحة والمقامات وغير ذلك، ولهم أيضاً كذلك تفاصيل في المناسك التي تؤدى عند هذه القبور.
يقول شيخ الإسلام: محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف معصوم، ورووا في عمارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتاباً في مناسك حج المشاهد، وكذبوا فيه على الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، واتبعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب.
انتهى كلام شيخ الإسلام.(20/6)
التبرك عند طوائف الصوفية
يقول الدكتور علي حفظه الله: ثم اقتبس أناس متصوفة من الرافضة التبرك بالمشائخ وقبورهم وآثارهم، فهذا البوصيري يرى أن من تبرك بتراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم كانت له طوبى، وطوبى شجرة في الجنة، فكيف يقال: طوبى بدون وحي؟! أليس الكلام في باب القطع؟ وهذا لابد من أن يقال من وحي المعصوم.
يقول البوصيري: لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه طوبى لمنتشق وملتثم أي: ضم أعظمه عليه الصلاة والسلام.
وقوله: (طوبى لمنتشق منه وملتثم) يعني بالملتثم من يأخذ هذا التراب ويقبله.
أما أتباع الطريقة الرفاعية فقد ذكروا من بركات صاحب الطريقة ما يجل عن الوصف، من ذلك قوله في شعر: أنا الرفاعي ملاذ الخافقين فلذ في باب جودي لتسق الخير من ديمي إذا دعاني مريدي وهو في لجج من البحار نجا من حالة العدم فلو ذكرت بأرض لا نبات لها لأقبلت بصنوف الخير والنعم ولو ذكرت بنار قط ما لهبت ولو ذكرت بسفح غار من عظمي ولا يساوي الرفاعي في هذه البركات إلا الشيخ نقشبند شيخ الطريقة النقشبندية، الذي يقول عنه الشيخ محمد أمين الكردي: هو الغيث الأعظم، وعقد جود المعارف الأنظم، انزاحت بأنوار هدايته أعلام الأغوار، وعادت الأسرار ببركة أسراره للأخيار أعيان وأعوان الأخيار.
أما شيخ البريلوية في الهند فإنه لا يرى بأساً بوضع تمثال لمقبرة الحسين في المنزل من أجل التبرك به.
ومع انتشار العلم في هذا الزمن إلا أن هذا التبرك بالأشياخ وآثارهم وبالقبور وأصحابها لا يزال شائعاً منتشراً حتى بين من يحوزون أعلى الدرجات العلمية! وما الحجر الطيني المصنوع من تراب النجف الذي نرى حجاج الرافضة يحملونه معهم للسجود عليه في الصلاة إلا مظهر منحرف من مظاهر التبرك المحرم، وما قيام أصحاب الموالد أثناء قراءتهم للمولد وشربهم للماء الموضوع عند قارئ المولد إلا مظهر منحرف من مظاهر التبرك المحرم؛ إذ يعتقد بعضهم أن روح الرسول صلى الله عليه وسلم حضرت قراءة المولد، وشربت من الماء الموضوع، ومن ثم فهم يتبركون ببقية الماء.(20/7)
معنى التبرك وحقيقته
قسم الدكتور علي قسّم البحث إلى بابين: الأول بعنوان: (التبرك المشروع) وتكلم فيه على التبرك المشروع بذات النبي صلى الله عليه وسلم، والتبرك المشروع بالأقوال والأفعال، والتبرك المشروع بالأمكنة، والتبرك المشروع بالأزمنة، والتبرك المشروع بالمطعومات وما في حكمها.
ثم الباب الثاني تكلم فيه عن التبرك الممنوع، ومهد له أولاً بالتبرك عند أهل الجاهلية الأولى، ثم التبرك الممنوع بالأمكنة والجمادات، والتبرك الممنوع بالأزمنة، والتبرك الممنوع بذوات الصالحين وآثارهم.
فنبدأ أولاً بذكر تمهيد في معنى التبرك وحقيقته.
قال في اللسان: قال الليث في تفسير: {تَبَارَكَ اللَّهُ} [الأعراف:54]: يعني: تعظيم وتمجيد.
وتبارك بالشيء أي: تفاءل به.
وقال الزجاج في قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] قال: المبارك: ما يأتي من قبله الخير الكثير.
وقال أيضاً: تبركت به أي: تيممت به.
وقال الراغب: البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء.
قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البِرْكة؛ لأن الماء إذا كان في البركة يثبت فيها.
كذلك البركة؛ لأن الخير في هذا الفعل مبارك يثبت فيه ولا يزول، ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس على وجه قيل لكل ما يشاهد منه بطريقة غير محسوسة: هو مبارك، وفيه بركة.(20/8)
التبرك يكون غالباً بالذي هو سبب البركة
التبرك بالأشياء يكون غالباً بما كان سبب البركة فيه، وليس من الأسباب المعهودة للناس، من أجل ذلك كان يحرص الصحابة رضي الله عنهم على هذا كثيراً، فعندما أدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يده في الإناء ثم قال: (حي على الطهور المبارك!) و (البركة من الله) وكان الماء ينبع من بين أصابعه جعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يبادر الصحابة إلى الماء ويدخله في جوفه ويكثر من شربه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والبركة من الله).
وكذلك فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قصة رواها البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: (إن أصحاب الصفة كانوا ناساً فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) يعني: من كان عنده طعام اثنين -كما لو كان هو وزوجته- فإنه يأخذ معه ثالثاً من أهل الصفة، قال (ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس -أو كما قال- وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة، قال: فهو أنا وأبي وأمي -ولا أدري هل قال: وامرأتي- وخادم بين بيتنا وبين بيت أبي بكر) يعني أنها كانت تخدم بيت عبد الرحمن وبيت أبي بكر، وهذا معنى قوله: (خادم بين بيتنا وبين بيت أبي بكر).
ثم إنَّ أبا بكر أخذ هؤلاء الضيوف وذهب بهم إلى البيت، ووكل ابنه عبد الرحمن أن يتولى قراهم وإطعامهم، فبعدما ذهب بهم أبو بكر إلى البيت رجع هو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتعشى أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء، وكان النبي عليه السلام يحب تأخير صلاة العشاء، قال: (فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته - أم رومان -: ما حبسك عن أضيافك -أي: ما الذي أخرك على الضيوف-؟! قال: أو ما عشيتيهم؟! قالت: أبوا حتى تجيء.
أي: رفضوا أن يأكلوا حتى تحضر وتجيء، فأهل بيت أبي بكر رضي الله عنه عرضوا على الضيوف العشاء فرفضوا أن يأكلوا، وغلبوهم وأصروا.
قال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: (فذهبت فاختبأت).
وذلك خوفاً من عقوبة أبيه، أو أن يوبخه ويعنفه؛ إذ كيف يترك الأضياف إلى ذلك الوقت ولا يطعمهم، فخشي أن يتهمه بالتقصير في قراهم.
قال: فذهبت فاختبأت، فقال: (يا غنثر) والغنثر هو: السقيم الوخم، وقيل: الجاهل والسفيه واللئيم.
فقال لابنه يعاتبه: (يا غنثر.
فجدع وسب) أي: دعا عليه بقطع أنفه أو غير ذلك، فاشتد على ابنه لهذا، ثم قال لأضيافه: (كلوا).
وقال: (لا أطعمه أبداً) فحلف أبو بكر على أنه لا يأكل من هذا الطعام أبداً؛ لأنهم تأخروا بسببه هو حتى يعود.
ثم قال: (وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها).
أي: كلما بدأ الضيوف يأكلون اللقمة يخرج من أسفلها أكثر منها ببركة الله تبارك وتعالى، فبارك الله في هذا الطعام، وكلما أخذ الضيوف لقمة يرون بعينهم زيادتها.
يقول عبد الرحمن -وهو الجاني هنا-: وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها -يعني: كبر ونما وطلع من أسفلها- أكثر منها، حتى شبعوا -أي: شبع الضيوف-، وصارت أكثر مما كانت قبل) أي: صارت مزيدة ومباركة أكثر مما كانت قبل أن يأكلوا فنظر أبو بكر رضي الله عنه وتعجب؛ لأن هذه كرامة.
قال: (فنظر أبو بكر وتعجب مما حصل في هذا الطعام، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ فقالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرار.
فأكل منها أبو بكر، وحنث في يمينه -أي: لأجل أن ينال بركة هذا الطعام المبارك- وقال: إنما كان من الشيطان -يعني: يمينه-.
ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده.
قال: (كان بيننا وبين قوم عهد، فمضى الأجل ففرقنا اثني عشر رجلاً، مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل).
يعني أنهم كانوا أثني عشر رجلاً، ومع كل واحد منهم عدد كبير، قال: (فأكلوا منها أجمعون) أو كما قال.
ولن نطيل في شرح الحديث، لكن موضع الشاهد فيه هو هذه البركة التي أنزلها الله عز وجل في طعام أبي بكر كرامة لـ أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والشاهد هنا أيضاً: أن أبا بكر مع أنه كان حلف أن لا يأكل منها لما رأى هذه البركة حلت فيها حرص على أن يأكل منها؛ لأن البركة في الغالب تكون بأسباب غير الأسباب العادية، لذلك الصحابة كانوا إذا حصل شيء من هذا بادروا إليه.
فالتبرك هو طلب البركة، أي: طلب الزيادة في الخير والأجر، وكل ما يحتاجه العبد في دينه ودنياه بسبب ذات مباركة أو زمان مبارك، وتكون هذه البركة قد ثبتت بوجود ذلك السبب ثبوتاً شرعياً، وتنال البركة منه بالكيفية التي شرعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(20/9)
التبرك المشروع وأنواعه
أما التبرك المشروع فهو أنواع:(20/10)
التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره
فالنوع الأول من التبرك المشروع هو التبرك بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره، فلا شك في أن ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات مباركة جعل الله تبارك وتعالى فيها بركة خاصة به صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون ذلك، كما روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات -أي: كان يرقي نفسه- فلما ثقل كنت أنفث عنه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها) أي: بدل أن تقوم هي بقراءة المعوذات بيدها وتنفث فيها ثم تمسح عليه بيديها كانت تجمع يديه وتقرأ فيهما، ثم تمسح عليه بيديه الشريفتين صلى الله عليه وآله وسلم.
فـ عائشة رضي الله عنها كانت تعرف بركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا كانت تمسح بها على نفسه الشريفة، وهو صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، ولم يقل لها: لا فرق بين يدي ويدك.
مما يدل على اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بتلك البركة العظيمة، وأن تلك البركة العظيمة تنتقل بإذن الله عز وجل إلى المتبرك الذي يعلم أنها من الله تبارك وتعالى.
وهذه البركة خص بها أفضل الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة -أي: الفجر- جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها صلى الله عليه وآله وسلم) أي: يعملون هذا تبركاً بالماء الذي تدخل فيه يده الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال أنس: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل) رواه مسلم في صحيحه.
يعني: كان الحلاق إذا حلقه اجتمع الصحابة وأطافوا به حتى لا تكاد تسقط شعرة واحدة على الأرض، وهذا من حرص الصحابة على أن يقع هذا الشعر في أيديهم، فكانوا ويأخذونه ويتبركون به.
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم، فينام على فراشها وليست فيه، - وأم سليم كانت محرماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما بين ذلك الإمام النووي رحمه الله-، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك.
قال: فجاءت وقد عرق، واستنقى عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها -والعتيدة مثل الصندوق الصغير تجعل المرأة فيه ما يعز عليها من المتاع أو يندر- فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قوارير، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعين يا أم سليم؟! فقالت: يا رسول الله! نرجو بركته - أي: العرق - لصبياننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت).
وفي رواية: (أدوف به طيبي) أي: أخلط به الند أو العطر الذي أستعمله.
وفي صحيح البخاري عن ثمامة عن أنس: (أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعاً، فيقيل عندها على ذلك النطع)، والنطع هو بساط من الجلد، وقوله: (يقيل عندها) يعني: ينام وقت القيلولة.
وهو قبل صلاة الظهر، وليس كما يتصور بعض الناس أنه بعد صلاة الظهر، بل وقت القيلولة ما قبل صلاة الظهر.
قال: (فإذا نام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذت - يعني: أم سليم - من عرقه وشعره، فجمعته في قارورة، ثم جمعته في طست- والطست هو طيب مركب يضاف إليه غيره- وهو نائم).
وأنس بن مالك هو ابن أم سليم.
قال الراوي: (فلما حضرت أنساً الوفاة أوصى بأن يجعل في حنوطه من ذلك الطست) يعني: من ذلك الطيب أو الأطيبة التي يدهن بها الميت بعد أن يغسل بالماء.
قال: (فجعل في حنوطه).
قال أيوب عن ابن سيرين: فاستوهبت من أم سليم من ذلك الطست فوهبت لي منه.
قال أيوب: فاستوهبت من محمد من ذلك الطست فوهب لي منه، فإنه عندي الآن.
قال: ولما مات محمد حنط بذلك الطست.
وأيضاً في نفس هذا الباب روى مسلم في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: (ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابن أختي وجع.
فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة) أي: أن خاتم النبوة كان بين كتفيه صلى الله عليه وآله وسلم مثل زر الحجلة، والحجلة واحدة الحجال، وهي: ساتر كالقبة لها أزرار كبار وعرى، وهي شيء كان يجعل للعروس في ثوبها مثل الستائر، فخاتم النبوة مثل الزر الذي كان يفعل للحجلة.(20/11)
تبرك الصحابة رضي الله عنهم بوضوء النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم له
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في حديث صلح الحديبية وفيه: (ثم إن عروة بن مسعود جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، يقول عروة بن مسعود: فوالله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره - أي: تسابقوا إلى طاعته والانقياد له-، وإن توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -من شدة حرصهم على أن يأخذ كل منهم من هذا الماء الذي توضأ به ولمس جسده الشريف صلى الله عليه وسلم- وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له).
فهذه من آداب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: إنه كان قبل أن يسلم لم يكن أحد أبغض إليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم قال بعدما أسلم: (فلم يكن أحد أحب إلي منه، وما ملأت عيني منه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، حتى لو قيل: صف النبي صلى الله عليه وسلم لما أطقت ذلك؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم) أي: لأنه كان لا يحد النظر إليه.
فهذه من الآداب التي ينبغي أن تسلك، خاصة مع الوالدين أو مع كبار السن أو مع العلماء، ولا ينبغي أن يثبت الابن عينه في عين أبيه أو شيخه أو كبار السن، فينبغي أن يغض الإنسان الطرف أمام من ينبغي توقيرهم، فهذه من الآداب الشرعية، كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم، فالويل لهؤلاء الأبناء العاقين الذين ينظر أحدهم إلى أبيه كأنه هو الأب وكأن أباه هو الابن، وكأنه هو الذي يؤدب أباه، فقد يثبت الولد عينه في عين أبيه يقصد بذلك الزجر والشدة على أبيه، وهذا من العقوق، فصحيح أنه لا يتكلم، ولا يقول: أفٍ، لكن قد يكون أشد من الأف مثل هذه النظرات الثاقبة.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبشر.
فقال: قد أكثرت علي من (أبشر)) وعادة الأعراب أنهم لا يحسنون آداب الحوار، فهذا الأعرابي بشره النبي عليه الصلاة والسلام، ولعله كان طلب منه شيئاً فوعده بأنه سوف يملكه هذا الشيء، أو غير ذلك، فقال له (أبشر)، فرد عليه الأعرابي وقال: قد أكثرت علي من (أبشر).
قال: (فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: رد البشرى! فاقبلا أنتما.
قالا: قبلنا) فانظر كيف قالا: (قبلنا) دون أن يعرفا ما هي هذه البشرى! قال: (ثم دعا بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه -يعني: أخرج الماء من فمه بعدما مضمض- ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا.
فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة -وكانت ترقب هذا الموقف من وراء الستر- أن: أفضلا لأمكما -أي: لا تنسيا أمكما أم المؤمنين، وأبقيا لها ولا تأخذاه كله- فأفضلا لها منه طائفة) رواه البخاري.(20/12)
حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتباس شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك -أيضاً- ما حدث به عثمان بن عبد الله قال: (أرسلني أهلي إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدح من ماء -وقبض إسرائيل - أحد الرواة- ثلاث أصابع -من فضة- ومعناه أن القدح كان صغيراً بحجم الثلاث الأصابع- فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مِخْضَبَه، فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمراً).
يعني: كان في هذا القدح شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والجلجل هو وعاء صغير يحفظ فيه الشعر.
وروى البخاري -أيضاً- بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة، فقال سهل للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي شملة.
فقال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها -يعني بطانتها-، فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه.
فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها -يعني أنه كان في حاجة إليها- فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة رضي الله عنهم فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها.
فقال: نعم) وكان من خلق النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يرد سائلاً، وهو أولى بصفة الجود والكرم من ذلك الذي قيل فيه: هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله فأولى الناس بهذا الوصف هو رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فهذا الصحابي كان يعرف أن هذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان له مأرب وغرض، فهو أراد أن يحرج النبي عليه السلام، ويعلم أنه سيقول له: خذها.
فقال له: (ما أحسن هذه! فاكسنيها).
أي: أعطني إياها؛ فإني أريد أن ألبسها.
وهو يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها.
قال: (فقالت المرأة: يا رسول الله! أكسوك هذه؟ فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة رضي الله عنهم فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها، فقال: نعم.
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه) وانظر إلى الأدب، حيث لم يلوموه في حضور النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما انتظروا حتى انصرف فلاموه ووبخوه وعنفوه، (فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه.
فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أكفن فيها) فهذه هي الخطة التي دبرها لأخذها، يعني أنه أراد أن يأخذ منه هذه البردة بعد أن تلامس جسد النبي عليه الصلاة والسلام رجاء بركته صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: (رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أكفن فيها) فيا ليتنا كنا هذا الرجل.
فكل هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاته وما انفصل من جسده من شعر وعرق ولباس وما استعمله من الأواني قد جعل الله فيه من البركة ما يستشفى به، ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة، والواهب لهذا الخير والمعطي له هو رب السموات والأرض.(20/13)
ذكر مذهب من يمنع التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره
يقول الدكتور علي العلواني حفظه الله: وهذه الأدلة المتكاثرة ترد ما ذهب إليه العلامة المحقق ناصر الدين الألباني حفظه الله في كتابه (التوسل أنواعه وأحكامه)؛ حيث قال: ولكن ثمة أمر يجب بيانه أو تبيانه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره والتمسح بها، وذلك لغرض مهم، وخاصة في تلك المناسبة، وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم وحبهم له، وتفانيهم في خدمته، وتعظيم شأنه، إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه هو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلك الغزوة رغب المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك، وصرفهم عنه، وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله عز وجل وأجدى، وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي.
وقبل أن نذكر الحديث نبين أنه اتضح أن جملة الأحاديث التي ذكرناها في التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم ليست كلها في غزوة الحديبية، فالشيخ -رحمه الله تعالى- هنا إنما تكلم على ما حصل في غزوة الحديبية أمام المشركين حتى يظهر لهم تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويلق في قلوبهم الرعب، فإذا صح هذا في تلك الحادثة فماذا يكون الجواب عن الأدلة الأخرى التي لم تكن في غزوة الحديبية وأقر فيها النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على التبرك بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول الشيخ ناصر حفظه الله: وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي: عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ يوماً، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملكم على هذا؟ قالوا: حب الله ورسوله) أي أن هذه من علامات المحبة، فكلما اشتدت المحبة تعلق الإنسان بآثار محبوبه، حتى إنه يهتم بأي شيء يحبه هذا المحبوب، كما قال الشاعر: ولقد أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وفي أخبار العشاق أن عاشقاً عشق السراويلات من أجل سراويل معشوقه، فوجد في تركته اثنا عشر حلاً وفردة من السراويلات.
وعشق آخر الهاونات؛ من أجل صوت هاونة محبوبته، فوجد في تركته عدة آلات منها.
أما أهل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقول أحدهم: فيا ساكني أكناف طيبة كلكم إلى القلب من أجل الحبيب حبيب وهنا لما سألهم صلى الله عليه وسلم عما حملهم على التبرك به قالوا: (حب الله ورسوله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاور).
فانظر إلى هذا الحديث العظيم.
وعلق الشيخ -رحمه الله تعالى- على هذا في الهامش بقوله: وهو حديث ثابت له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرهما، وقد أشار المنذري في الترغيب إلى تحسينه، يقول الشيخ: وقد خرجته في الصحيحة برقم (2998).
انتهى هنا كلام الشيخ ناصر.
والدكتور علي بعدما ذكر هذه الأدلة قال: إن هذه الأدلة ترد ما ذهب إليه العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله.
أي: ترد القول بتخصيص ذلك بالحديبية، وأنه ندبهم إلى ما هو أفضل من ذلك وأجدى لهم عند الله، وأن يشتغلوا بهذه الأعمال الصالحة.
يقول: وترد -يعني هذه الأدلة- أيضاً ما ذكره الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في حاشيته في كتاب (الاعتصام) حيث قال: ولم يعرف من الأحوال التي تبركوا فيها بفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم وبصاقه إلا يوم الحديبية.
هذا غير صحيح، فالأدلة -كما ترى- ليست محصورة في صلح الحديبية، لكنها أعم من ذلك، كما ذكرنا.
يقول الدكتور علي حفظه الله: وذلك لأن تبرك الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم لم يختص بغزوة -يعني غزوة الحديبية-، ولم يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم إنكاره، ولكن الذي أعجبني هو ما أشار إليه العلامة الألباني بقوله: هذا ولابد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم ولا ننكره؛ خلافاً لما يوهمه صنيع خصومنا، ولكن لهذا التبرك شروط، منها: الإيمان الشرعي المقبول عند الله، فمن لم يكن مسلماً صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بسبب تبركه هذا.
كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلاً على أثر من آثاره صلى الله عليه وسلم ويستعمله، ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وآله وسلم من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت، وليس لأحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمراً غير ذي موضوع في زماننا هذا، فيكون أمراً نظرياً محضاً، فلا ينبغي إطالة القول فيه.
انتهى كلام الشيخ ناصر الدين الألباني.
يقول الدكتور علي: إنما ذكرت الأدلة على التبرك بذاته وآثاره صلى الله عليه وآله وسلم لتتضح الصورة الكاملة للتبرك الذي كان الصحابة يخصون به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفعلونه مع أحد سواه، فالصحابة كانوا يتبركون فقط بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يفعلون ذلك مع أحد سواه، كما سيأتي -إن شاء الله- فيما بعد في باب التبرك الممنوع.
فهذا ما تيسر من ذكر النوع الأول من أنواع التبرك المشروع، وهو التبرك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاته وآثاره، ونكمل البحث -إن شاء الله- في الدرس القادم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(20/14)
رسالة من غريق
إنّ الهداية إلى هذا الدين القويم هي أعظم نعم الله على العبد، فإنها تخرج العبد من الظلمات إلى النور، من ظلمات التيه والاضطراب إلى نور اليقين والثبات، ومن ظلمات القلق والكآبة إلى نور الطمأنينة والانشراح، ومن ظلمات العبودية للدنيا ورذائلها وسفاسفها إلى نور العبودية لله الواحد القهار، ومن ظلمات الشهوات والشبهات إلى نور العزم وقوة الإرادة والبصيرة، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم.
وقد لا يشعر العبد بعظمة هذه الهداية، فعليه أن يعتبر بمن افتقدها ممن يعيش في دياجير الجهل والشهوات والشبهات، وفي ظلمات التيه والاضطراب والشك؛ ليعرف مقدار هذه النعمة.(21/1)
بين يدي الموضوع
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخي المسلم! روى أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما طلعت شمس قط إلا بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان من على الأرض غير الثقلين: أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
ولا غربت إلا بجنبتيها ملكان يناديان: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاًَ).
هذا الحديث رواه الطيالسي والإمام أحمد وابن حبان والحاكم والبغوي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وقال محقق الأنواع والتقاسيم لـ ابن حبان: صحيح على شرط مسلم.
وهذا الحديث فيه الدعوة إلى الإخبات إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم الانشغال بالدنيا، والاكتفاء منها بالقليل، (فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى).
وحديثنا عبارة عن موضوعين: الأول: تذكرة وموعظة، وجهها أحد إخواننا الأفاضل، وهو: الأخ مجدي الهلالي في رسالة له بعنوان: (رسالة من غريق)، وهي تعكس حال كثير منا، فكثير منا يحتاج إلى هذه التذكرة الوجيزة البليغة، ولذلك -إن شاء الله- نتواصى بها.
الثاني: جواب سؤال يتعلق بحكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة.(21/2)
موعظة في ذم الدنيا والتحذير من الانغماس فيها
يقول مجدي الهلالي: إن الناظر المتفحص لأحوالنا يجد الكثير منا قد جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، يعدو وراءها ويلهث في سبيل تحصليها، كلما نال منها شيئاً ازداد طلبه لها وجريه وراءها علّه ينال منها أشياء أخرى، كما قال الشاعر: فما قضى أحد منها منالته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب فالإنسان الذي يشتغل بالدنيا ويؤجل الأعمال الصالحة إلى أن يفرغ لا يمكن أبداً أن يفرغ؛ لأن آمال الدنيا لا تنتهي، ولا يقضي أحد وطره منها أبداً، فعليه أن يجعل الهموم هماً واحداً، وهو إرضاء الله سبحانه وتعالى، فيتولى الله سبحانه وتعالى تيسير أمور دينه ودنياه.
أما أحوالنا في الآخرة فتجارتها عندنا كاسدة، ولا يلتفت إليها إلا أقل القليل، مع أن المتأمل لآيات القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه وتعالى -عند الحديث عن الآخرة- يحثنا على السعي الحقيقي إليها، فنتأمل تعبيرات القرآن، كقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] فالذي يفر لا بد من أن يكون مسرعاً جداً، وكذلك قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وقال أيضاً: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، وقال أيضاً: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فهناك تنافس أمرنا به، وهناك تنافس نهينا عنه، فأما الذي أمرنا به فهو التنافس في الآخرة، وأما الدنيا فقد قال فيها عليه الصلاة والسلام: (ولا تنافسوا) يعني: في أعراض الدنيا.
ومع ذلك فإنك تجد أغلب الناس يتنافسون في الدنيا، ويغفلون عن التنافس في الآخرة.
وكذلك نجد أن الأمر بتحصيل الدنيا يرشد إلى أنه أهون وأبطأ، كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] فلم يقل: اسعوا، أو سابقوا، أو (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) ولم يقل أيضاً: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)، ولم يقل فيها: سابقوا إلى الدنيا.
وإنما قال: (فَامْشُوا) والمشي يكون أهون وأبطأ.
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:10] وحينما تكلم عن صلاة الجمعة في أول الآيات قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: بادروا.
وأما قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ) فهو مجرد انتشار لطلب الرزق الحلال.
والحقيقة الباقية والقائمة هي أن القلب لا يتسع أبداً للدنيا والآخرة معاً، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى) فهما ضرتان، إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ومن ظن أنه سيرضي الاثنتين فقد ظن ما لا يقع أبداً ولا يكون، فإما أن نختار الدنيا وإما الآخرة.(21/3)
حقيقة الزهد في الدنيا
ليس معنى الكلام السابق الإعراض الكامل عن الدنيا، وفهم الزهد في الدنيا على أنه الفقر والحرمان والرغبة عنها بالمرة، بل حقيقة الزهد في الدنيا تجريد القلب عن محبتها، فالمسكنة التي يحبها الله سبحانه وتعالى من عبده والتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في قوله: (اللهم! أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقه حبه، وحب من يحبه، وأن يرزقه حب المساكين، وأمره الله تعالى أن يلزم هؤلاء الذين يريدون وجه الله سبحانه وتعالى، وأن لا يعرض عنهم إلى أصحاب الدنيا كما بين ذلك في أكثر من موضع في القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] المسكنة المقصودة هنا ليست مسكنة الفقر؛ لأن الفقر شيء مذموم، ويكفي في ذمه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرنه بالكفر فقال: (أعوذ بك من الكفر والفقر) كما في أذكار الصباح والمساء، فإنّ المال عون على الدين، فإنه يؤدى به فرض الزكاة وغيرها من الفروض، ويستغنى به عن القرض، ويصان به العرض، فالمال -بلا شك- أمر مهم، ولكن المقصود بالمسكنة مسكنة القلب، وهي إخبات القلب وذله وخشوعه وتواضعه لله سبحانه وتعالى، وهذه المسكنة لا تنافي الغنى، فيمكن أن يكون الإنسان غنياً مكتفياً وفي نفس الوقت يكون مسكيناً مستكيناً ذليلاً لله سبحانه وتعالى، فليس هناك تلازم بين الفقر والمسكنة.
فالزهد بينه الله تبارك وتعالى في قوله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] هذا هو الزهد كما قال الجنيد رحمه الله تعالى.
قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:22 - 23] أي: لا تأسوا على ما فاتكم من أمور الدنيا؛ {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود.
قال الإمام أحمد في الزهد: هو عدم فرحه بإقبالها وحزنه على إدبارها.
ويقول الإمام أحمد وقد سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهداً؟ قال: نعم، على شريطة أن لا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت.
فليس الزاهد من لا مال عنده، وإنما الزاهد من لم يشغل المال قلبه وإن أوتي مثل ما أوتي قارون، فالتحذير إنما هو من تغلغل الدنيا في قلوب الناس، فتتحول نياتهم من عمل لرفعة الإسلام وعبادة الله إلى طلب جاه ومنصب ومال، فالمطلوب أن تكون الدنيا في يد الإنسان لا في قلبه.
وقد ضرب بعض أخواننا مثالاً طيباً لتوضيح هذه الحقيقة فقال: الدنيا مثل السفينة، فالسفينة ما دام الماء خارجها تستطيع أن تمشي في البحر الخضم سالمة ناجية، أما إذا دخلها الماء واستقر داخلها فإنها تغرق وتهلك، فكذلك الدنيا، فإن أهم شيء أن لا يستقر حبها في قلب المؤمن، فإذا دخلت في القلب أفسدت عليه دينه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) يعني أنّ حرص المرء على المال والشرف يفسد دينه أكثر مما يفسد الذئبان الجائعان اللذان أرسلا في غنم لا راعي لها، فكيف الظن بذئبين جائعين مطلقي الحرية في الفتك بهذه الغنم؟! فالفساد الذي يتحصل من وراء هذين الذئبين ليس أشد من الفساد الحاصل من حرص المرء على المال والشرف على الدين، فمكر الشيطان هو محاربتنا بسلاحنا، فيأتينا من حيث لا نتوقع.
يقول: فالكثير منا عندما يعاب عليه انشغاله بالدنيا فإنك تجد الحجج والمعاذير والتبريرات التي لا تنتهي معدة جاهزة عنده سلفاً مثل السهام والصورايخ، فإذا قلت له: هون عليك، أو ما قاله عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب) يعني: هونوا عليكم في طلب الدنيا، ولا تستميتوا في طلبها.
فتجد أنك إذا ذكرته بمثل هذا المعنى يسارع في الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
والسعي في طلب الرزق يشغل في الإسلام حيزاً محدوداً، فلا يكون طلب الرزق هو كل ما يشغل الإنسان، فهذا أحد واجبات الفرد المسلم وليس كل واجباته.
وقد يتشدق بعضهم بهذه المقولة التي يجعلها كأنها آية قرآنية، أو حديث عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، وهي (العمل عبادة) أو (طلب الدنيا عبادة)، ومنهم من يحول بين المرءوسين أو العاملين عنده -سواء في مدرسة، أو في مصنع، أو في أي مكان- وبين الصلاة، فيقول لمن يريد الصلاة: نحن في عبادة.
حتى لو خرجت الصلاة عن وقتها، وقد تؤدى الامتحانات ساعة صلاة الجمعة، ويقولون: العمل عبادة.
وهذا من تلبيس إبليس على هؤلاء الجهلة، فالنفقة على الأهل وعلى الأولاد وطلب الرزق الحلال جزء من الواجبات على المسلم، وعندك الوقت كله، فكيف تنشغل عن الوقت الذي هو مخصص لأداء واجب الصلاة والله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]؟! فالمسلم مطالب بإصلاح نفسه وتزكيتها، وتربية أهله، والعمل لدين الله سبحانه وتعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة) فتجدهم منشغلين بجمع المال أو طلب الدنيا، ويتجرأ بعض الجهلة ويفتيهم بأنه إذا عاد أحدهم إلى البيت في المساء فإنه يجوز له أن يجمع كل الصلوات، فيجوز أن يُصلي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء جميعاً قبل أن ينام.
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس ينخدعون بهذا الفتاوى المضلة، ويفعلون هذه الجريمة الكبرى، فهؤلاء آثمون قطعاً، ويجب عليهم أن يسألوا أهل العلم وأن يسألوا أهل الذكر ليبينوا لهم الحكم، فهذا ضلال مبين، وإخراج الصلاة عن وقتها بحجة طلب الدنيا من كبائر الذنوب، يقول عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) رواه البخاري.
يقول الأخ الفاضل هنا: هذه الرسالة أرسلها إلى كل مسلم أحاطت به الدنيا، فصار أسيراً لها تسيره كيف شاءت، أرسلها طالباً من الله عز وجل أن تصله قبل فوات الأوان، وسماها: (رسالة من غريق).
إنّ هذه الرسالة فيها الحُسن في التعبير، والصدق في الشعور، وكثير منا -بل أغلبنا- يحتاج لهذه التذكرة.
يقول المرسل لهذه الرسالة: إخواني في الله! يرسل إليكم هذه الرسالة أخ لكم يعيش بينكم بآمالكم وآلامكم، هذا الأخ انتبه فجأة فوجد نفسه يغرق ويغرق، ونظر حوله فوجد الكثير منكم مثله يغرقون، وعندما حدق النظر فيهم وجدهم جميعاً في ظروف واحدة، ومناخ مشترك، ووجد أغلبهم متزوجاً، أو تخرج من الجامعة وانشغل بالوظيفة، فعلم أن سبب غرقه وغرقهم يرجع إلى الانغماس في الدنيا، فهو ينام على تفكير في الرزق والأولاد والسفر إلى آخره، ويستيقظ على موعد العمل لا على موعد الصلاة، وفوجئ أنه لا يحافظ على صلاة الفجر التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)، وأما بقية الصلوات فالخشوع فيها نادر، والدنيا قد استولت على قلبه.
فعندما أراد صاحبنا أن يتذكر آخر يوم صامه تطوعاً خانته ذاكرته، وعندما أراد أن يتذكر آخر ليلة قامها فوجئ أنها في رمضان، وبحث عن مصحفه فوجد أن التراب يعلوه، ونظر إلى مكتبته فأحس أن الكتب تبكي من إهمالها، وتشكو إلى الله التراب الذي يعلوها.
وتأمل حاله فوجد أنه لا يذكر الله إلا في المناسبات، وفي صباح يوم من الأيام استيقظ على وفاة أحد أقرانه الذي كان يتمتع بصحة جيدة، ولا توجد أي أمراض عنده، وذهب مع الأهل والأقارب لدفنه، وعندما حانت لحظة إدخاله القبر وإهالة التراب على وجهه هزه هذا المنظر هزاً عنيفاً، وزلزل كيانه، وجعله يفيق من غفوته، ويستيقظ من سباته، ويتذكر أنه لا بد من دخول هذا القبر الموحش الذي لا أنيس فيه إلا العمل الصالح.
فانتبه صاحبنا فوجد نفسه يغرق في الدنيا، فبكى على نفسه وانتحب، وتذكر حاله في بداية طريقه إلى الله وأثناء الدراسة الثانوية والجامعية، لقد كان محافظاً على الصلوات في المسجد خصوصاً صلاة الفجر، وكان المصحف لا يغادر جيبه إلا عند دخول الخلاء، ولم يكن يمر الأسبوع إلا ويكون قد صام فيه، وكانت له مع الليل وقفات يناجي فيها ربه عز وجل، فما الذي حدث؟(21/4)
بداية النكوص عند كثير من الناس
تذكر الأخ أن بداية التدهور في حاله كانت بعد التخرج من الجامعة، وعندما أصبحت عليه تكاليف معيشية، وأعباء مالية، وتطلعات مستقبلية، فعليه أن ينفق على نفسه، وعليه أن يتزوج، وعليه أن يعد المسكن، فإذا أعده فعليه أن يزوده بالثلاجة وسائر الكماليات، وعليه وعليه، فبدأ يتنازل تدريجياً عن طاعات كان يؤديها، وزين له الشيطان سوء عمله، وأنها فترة قصيرة وستنقضي، ولكنها طالت وطالت، وأصبح التنازل صفته، وكل يوم تزداد الدنيا تزيناً له، فأصبح يعمل في وظيفة من الصباح حتى العصر، ويرجع إلى بيته في وقت الغداء، ويرجع بعد العصر لوظيفة أخرى حتى العشاء، وأخرى من بعد العشاء حتى الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلاً، ثم يعود إلى البيت وهو يحلم بالسرير لكي يرتمي عليه، وينام حتى يستيقظ على عمله في الصباح، وهكذا كل يوم.
وانطبق عليه قول القائل: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع وأصبح الذي يربطه بالإسلام هو مظهره إن كان يحافظ عليه، وصلاته التي يعلم الله مدى خشوعها، أما بقية يومه فللدنيا.
وعندما انتبه هذا الأخ إلى حاله، وفوجئ بهذا الواقع المرير، علم أنه سائر في طريق الهلاك لا محالة، فربما ترك الصلاة كما ترك ما قبلها، وربما