ففساد الأعمال وخبطها منه، وعلى أهله منه حياء شديد إذا وقف بين يدي الله تعالى، فقال: عبدي! هذا عمل برٍّ كان يتقرب بمثله إلي، فما حملك على أن تركت وجهي، وعملته لوجهٍ دنسٍ، ترائي عبداً من عبيدي؛ لتنال منه منزلة لينيلك مرفقاً؟.
894 - حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، قال: أخبرنا أبو عامرٍ العقدي، قال: حدثنا كثير بن زيدٍ الأسلمي، عن المطلب بن عبد الله بن حنطبٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: كنا نوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطرقه أمرٌ، أو يأمر بشيء، قال: فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلةً، حتى كنا أبداً نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما هذه النجوى؟! ألم تنهوا عن النجوى؟!))، فقلنا: تبنا إلى الله، إنا كنا في ذكر المسيح؛ نتخوف منه، فقال: ((ألا(4/137)
أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من ذكر المسيح؟))، قالوا: بلى، قال: ((الشرك الخفي: رجلٌ يعمل لمكان رجلٍ)).
وأما قوله: ((ولساني من الكذب)): فإن للسان درجة عظيمة، به يعبر عن مكنون القلب، فإذا قال بلسانه ما لم يكن، كذبه الله، وكذبه إيمانه من قلبه؛ لأنه إذا قال لشيء لم يكن: إنه قد كان، فقد زعم: أن الله خلقه، ولا يكون شيء حتى يكونه الله عز وجل، فإذا أخبر أنه قد كان، ولم يكن الله كونه، فقد افترى على الله.
فلذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الكذب مجانبٌ للإيمان.(4/138)
فإيمانه في قلبه يكذبه، فسأل أن يطهر لسانه من ذلك.
وأما قوله: ((وعيني من الخيانة)): فخيانة العين: مسارقة، كأنه يريد أن يسرق ممن لا يسرق منه، ويستخفي مما لا يخفى عليه لمحة، ولا لحظة، ولا طرفة؛ لأنه لا يستعمل الإله نظراً، ولكنه يلحظ، ويعرض إذا رأى ما لم يؤذن له النظر إليه، فيعرض بمكان المخلوقين، ثم يلحظ بلحاظ عينه سرقةً واختلاساً، وقد حذر الله في تنزيله، فقال: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.
فقد غفل قلبه عن أن يراه أبصر الناظرين.
وأما قوله في الحديث الآخر: ((اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً))، فهذا عيش أهل الجنان، رزقهم طيب، وأعمالهم صالحة،(4/139)
كلها ليس فيها فساد، فالرزق الطيب هو الحلال مع القبول منه، وإن استعمله، فقد فاز، فإن العباد على ضربين:
منهم: من وضع العمل بين يديه، فقيل له: اعمل هذا، ودع هذا، وأقبل على هذا، وجانب هذا.
وآخرون قد جازوا هذه الحظة، وعافوا المنهي، ونسوه، وطهرت قلوبهم، وأركانهم، فاستعملهم ربهم في الشريعة لمحابه، ولما قد علم: أن صلاحهم في ذلك، فسأله الاستعمال.
فالأول بين له الشريعة، ثم قيل له: سر فيها مستقيماً، وخذ الحق، واجتنب الباطل، وكثيراً ما يقع في التخليط، والأغاليط، ويشوبه ما ليس منه.(4/140)
الأصل الثالث والستون والمئة
895 - حدثنا حاتم بن نعيمٍ التميمي، قال: حدثنا أبو روحٍ، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، قال: حدثنا ابنٌ لكنانة بن عباس بن مرداسٍ، عن أبيه، عن جده عباس بن مرداسٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة، وأكثر الدعاء، فأجابه: إني قد فعلت، إلا ظلم بعضهم بعضاً، فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم، فقد غفرتها، قال: ((يا رب! إنك قادرٌ أن تثيب هذا المظلوم خيراً من مظلمته، وتغفر لهذا الظالم))، فلم يجبه تلك العشية، فلما كان الغداة، غداة المزدلفة، اجتهد في(4/141)
الدعاء، فأجابه: ((إني قد غفرت لهم))، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: يا رسول الله! تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها؟ فقال: ((تبسمت من عدو الله إبليس، إنه لما علم أن الله استجاب لي في أمتي، أهوى يدعو بالويل والثبور، ويحثي على رأسه، ويفر)).
قال أبو عبد الله:
فهذا لما نالتهم المغفرة عشية عرفة، وقد ستروا من الذنوب، فهم في(4/142)
ستره، والحق يناشد، ويقتضي تبعات الخلق، فلا مرد له، ولا معارض، فلو تركهم والحق، لأخرجهم الحق من الستر، حتى يعودوا إلى الحالة الأولى عراةً، فعطف الله عليهم، ولم يخيب أضيافه وزائريه، والمنيخين بفنائه يستعطفونه، ويسألونه سؤال المساكين، فضمن عنهم التبعات، ويرضي أهلها عنهم، فغفرها لهم، فبقوا في ستره، ورضي الحق بضمان الكريم الملي الوفي، وخلى عنهم، وصاروا إلى تطواف بيته، لائذين به بعد أن أرضوا الحق، وتطهروا من الأدناس، فحباهم، وخلع على قلوبهم من النور، وتلك عرائس الضيافة.(4/143)
الأصل الرابع والستون والمئة
896 - حدثنا داود بن حمادٍ القيسي، قال: حدثنا عمر بن سعيدٍ الدمشقي، قال: حدثنا صدقة بن عبد الله، قال: حدثني عبد الكريم الجزري، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن الله -تبارك وتعالى-: أنه قال: ((من أهان لي وليًّا، فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيءٍ إلى نصرة أوليائي، إني لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرب، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن وهو يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه، وما تعبد لي عبدي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا، ولا تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت له سمعاً، وبصراً، ويداً،(4/145)
ومؤيداً، إن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبت له، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، ولو أعطيته إياه، لدخله العجب، فأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا السقم، ولو صححته، لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي بعلمي بقلوبهم، إني عليمٌ خبيرٌ)).(4/146)
قال صدقة: سمعت أبان بن عياش يحدث هذا عن أنس رضي الله عنه، ثم يقول أنس رضي الله عنه، اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى، فلا تفقرني.
897 - حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي، قال: حدثنا أبو عامرٍ العقدي، قال: حدثنا عبد الواحد بن ميمونٍ مولى عروة بن الزبير، عن عروة بن الزبير عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله -تبارك وتعالى-: أنه قال: ((من أهان لي وليًّا، فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، إنه يكره الموت، وأكره مساءته، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، وإن عبدي ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت بصره الذي به يبصر، ولسانه الذي به ينطق، وأذنه الذي به يسمع، وفؤاده الذي به يعقل، ويده(4/147)
التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي)).
898 - حدثنا إسماعيل بن نصرٍ، قال: حدثنا أبو المنذر القطيعي، قال: حدثنا عبد الواحد أبو حمزة مولى(4/148)
عروة، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله -تبارك وتعالى-، بمثله.
قال أبو عبد الله:
فالولي: من ولي الله هدايته ونصرته، وأخذه من نفسه، فقد رفعه بمحل عليٍّ، وعامة المؤمنين قد تركوا ونفوسهم يجاهدونها؛ ليكون ذلك الجهاد عبودتهم له، فيكرم غداً مآبهم، ويمجد نزلهم، وقد قال في تنزيله: {وجاهدوا في الله حق جهاده}.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((المجاهد: من جاهد نفسه في ذات الله)).
وذلك أفضل الجهاد.(4/149)
والولي: جاهد، فصدق الله في جهاده، حتى إذا استفرغ وسعه في ذلك، ألقى نفسه بين يديه ضرعاً، مستكيناً، مستغيثاً به، صارخاً إليه، مضطراً، وقد قال: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}.
فأجابه، ورحمه، وأخذه من نفسه بنورٍ، فتح لقلبه من الغيب، فاشتعل ناراً أحرقت شهوات نفسه، ودواهيها، وأشرق الصدر بالنور، وكشف السوء، وجعله من خلفاء الأرض، إماماً من أئمة الهدى، وربيعاً للقلوب، وخريفاً يجتني ثماره، فولي الله إقامته على طريقه، حتى ربت له عنده، وهو قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
فمن أهانه، فقد خرج إلى البراز، يريد أن يسلبه ما أخذ.
والمحاربة: المسالبة، يقال في اللغة: حربه؛ أي: سلبه، كأنه قال: قد بارزني، يريد أن يأخذ مني ما قد رفعته، فيضعه.
وأما قوله: ((إني لأسرع شيءٍ إلى نصرة أوليائي)): فإن من تدبير الله أن الحق، والرحمة، مقتضيان في شأن الخلق، فالحق يقتضي الخلق عبودته، فمن لم يقبلها، فهو ذرء النار، وبهم تملأ جهنم، وبالجنة، كما(4/150)
قال في تنزيله: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.
ومن قبلها، فوفى بها، فلا حساب عليه، ولا عذاب، ويدخل الجنة بسلام.
ومن قبلها، فوفى ببعض، وضيع بعضاً، (اقتضى الحق ذلك، والنار منتقمة، تأخذ من جسده، وتذر؛ كما وفى ببعض، وترك بعضاً)، فإذا جاءت المشيئة، جاءت الرحمة، فأخذته من الحق، فأنقذته من العذاب، والحق يؤدي إلى الغضب، وإلى النار إذا اقتضى، فلم يجد الوفاء.
وقد سبق منه القول: ((سبقت رحمتي غضبي))، فتجيء الرحمة لمن سبقت له رحمته غضبه، فتأخذه من الحق، فهذا لعامة الموحدين.
فأما الأولياء: فإنما نالوا الولاية بالرحمة العظمى، فمن نازع الولي، أي: آذاه، أو ظلمه، فالرحمة خصمه، والحق خصمه، وخصم الجميع، فقد اجتمع الحق والرحمة في طلب ثأره من هذا الظالم، فلذلك كان أسرع شيء إلى نصرة أوليائه، ومن كان من دون الأولياء، فظلم، فاقتضى الحق ظلمه ليصاب بعقوبة، جاءت الرحمة تدفع عنه، وتأخذه، والرحمة من المشيئة، والحق من القدرة.
899 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا الحسن بن أيوب الدمشقي، قال: قرأت على عبد الله بن صالحٍ المصري، قال: حدثني سليمان بن عبد الله الأيلي،(4/151)
قال: حدثني ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: ليقم أهل الله! فيقوم أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وعمر الفاروق، وعثمان بن عفان ذو النورين، وعلي بن أبي طالبٍ -رضوان الله عليهم-، فيقال لأبي بكرٍ: قم على باب الجنة، فأدخل فيها من شئت برحمة الله، ورد منها من شئت بقدرة الله، ويقال لعمر: قم عند الميزان، فثقل ميزان من شئت برحمة الله، وأخف ميزان من شئت بقدرة الله، ويقال لعثمان: خذ هذه العصا، فذد بها الناس عن الحوض، ويقال لعلي: البس هذه الحلة؛ فإني قد خبأتها لك منذ يوم خلقت السماوات والأرض إلى اليوم)).
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرحم أمتي بأمتي: أبو بكرٍ، وأقواهم في دين الله: عمر، وأصدقهم حياءً: عثمان بن عفان)).(4/152)
فهذا الحديث الأول يبين منازل القوم أنهم أهل الله وخاصته، وأنه ينكشف لأهل الموقف غداً، يظهره عليهم عند خلقه، وأن الرحمة حظها من الناس أبو بكر رضي الله عنه، وأن الحق حظه من الناس عمر رضي الله عنه، فلذلك يقوم أبو بكر رضي الله عنه عند باب الجنة، ويقوم عمر رضي الله عنه عند الميزان، ينبئ هذا القول عن الرجلين أن قلبيهما كانا قد استويا لله، وكانا في قبضته، فلا يرحمان إلا من يرحم، ولا يخيبان من الرحمة إلا من يخيب، وهذا من الإنابة، فإذا صار الأمين بحال يستكمل الأمانة، فوض إليه، فتكون مشيئته قد وافقت مشيئة الذي ائتمنه، فهؤلاء قوم قد صاروا أمناء الله، وقفت قلوبهم بين يديه راقبين لمشيئته، فلذلك قال: ((أهل الله)).
والأهل والآل بمعنى واحد يؤولون لله؛ أي: يرجعون إليه في كل شيء، فيبرز لأهل الموقف فيقاومهم بقلوبهم وضمائرهم التي كانت فيما بينهم وبين الله؛ كرامة لهم، وتنويهاً بأسمائهم في ذلك الجمع، فكان الغالب على أبي بكر رضي الله عنه الرحمة في أيام الحياة، والغالب على عمر رضي الله عنه(4/153)
القيام بالحق وتعزيزه، فكأنهما كانا ممن هو في قبضته يستعمله، واستعمل هذا بالرحمة، وهذا بالحق، فإذا كان يوم القيامة، وقف هذا عند باب الجنة، وهذا عند الميزان؛ لأن الحق يطالب أهل الموقف بالعدل، والرحمة تطلب أهل الموقف لتوردهم الجنة.
ومعناي في قولي: أنه يستعمل العبد إذا صيره في قبضته ما جاء به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه يحكي عن جبريل -صلوات الله عليه- عن الله -تبارك وتعالى-: أنه قال: ((وإن عبدي ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه وبصره، ويده، ورجله ولسانه، وفؤاده، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يعقل، وبي يبطش، وبي يمشي)).
ومنه قول عمر رضي الله عنه حيث أتاه رجل والدم يسيل من شجته، فقال: ويحك! من فعل بك هذا؟ قال: علي، فقال علي رضي الله عنه: رأيته مفاوضاً امرأة، فأصغيت إليهما، فساءني ما سمعته، فشججته، فقال عمر رضي الله عنه للرجل: أصابتك عين من عيون الله، وإن لله في الأرض عيوناً.
فهذا هو ذاك الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش)).
وأما قوله لعثمان رضي الله عنه: ((خذ [هذه] العصا، فذد بها عن الحوض))؛ فإن الحوض غياث الخلق يومئذٍ.(4/154)
وكان عثمان رضي الله عنه الغالب عليه إغاثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نوائبه بالمال، وهو جهز جيش العسرة، فخذلوه حتى سفك دمه، فحكم في شأن الحوض؛ ليذود من لم يستحق من الحوض شراباً.
وأما قوله لعلي رضي الله عنه: ((البس [هذه] الحلة التي خبأتها لك)): فهو عندنا حلة التوحيد، فإن الغالب على علي رضي الله عنه النفاذ في علم التوحيد، وبه كان يبرز على عامة أصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الخطب التي جاءت عنه تدل على ذلك، وكان إذا أثنى على ربه، أبلغ وبرز على غيره، فهذا قسم الله لهم، وحظوظهم منه، فيظهرها الله عز وجل يوم الموقف على أحوالهم.
رجعنا إلى حديث الأولياء:
فأما قوله: ((وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، إنه يكره الموت، وأكره مساءته)).
فالموت خلق فظيع، منكر ثقيل، بشع مرير، لا بد للأحباب أن يذوقوه، ولا يخلو من أن يكرهوه، وقد علم الله أنه يشتد عليهم، ويتأذون به، فتردد في فعله؛ لكراهة مساءتهم، كالذي يكره شيئاً، وقد قضى على نفسه حتماً أنه يفعله، فمشيئته لموتهم تردد بين الحق والرحمة.(4/155)
فالحق ينفذ الموت، والرحمة تدفع، فالمشيئة مترددة بينهما، مرةً إلى الرحمة، ومرةً إلى الحق، ومن دونهم ليس لهم هذا الحال، إذا جاءت المشيئة مع الحق، نفذ أمره، فليست للرحمة هناك حركة؛ لأن المشيئة لم تتردد بينهما.
قال الله -جل ذكره-: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}.
فالحائد عن الموت أيام الحياة، يأخذه الحق بتنفيذ الموت، وليست للرحمة حركة في الدفع عنه، ومن كان أيام الحياة يهتش لذكره شوقاً إلى الله، فغليان الشوق في قلبه مراجل، فإنما نال هذا القلب، وهذا الشوق في هذا القلب بالرحمة، فتلك الرحمة تتحرك له عند كل نائبة، وأعظم نوائبه الموت، يريد خلاصه، والحق من ناحيته يقتضيه أن ينفذ الموت عليه، والمشيئة من الله مترددةٌ فيما بينهما، مرةً إلى هذا، ومرةً إلى ذاك.
وأما قوله: ((إني لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرب)):
فالليث: كريم لا يؤذي، حتى يجترأ عليه، فإذا اجترئ عليه، أو سلب منه ولده، حرب، فكسر، ودمر على من يظفر به، فمن آذى ولي الله،(4/156)
فإنما يجترئ على الله، يريد أن يحاربه، فيأخذ منه ما اصطفاه لنفسه، فيفسد شأنه، ويهدم بنيانه، وتربيته، فإن الولي إذا بلغ غاية الصدق سيراً إليه، ومجاهدةً لنفسه؛ نظر إلى نفسه، فوجدها كما كانت، فلم يقدر أن يمحو عن نفسه ما ركب فيه، كما لم يقدر على أن يسود ما ابيض من شعره، أو يبيض ما اسود، إذا كانت خلقة.
فهذا الصادق جاهد، فصدق الله في المجاهدة، وفطم نفسه عن سيء الأخلاق، فلم يقدر على إماتتها واستئصالها، فحينئذٍ إذا رآه الله قد انقطعت حيلته، وبقي بين يديه ينتظر رحمته، انتجبه للولاية، ووكل الحق به، يهذبه، ويطهره، ويسير به إليه، فتلك الأنوار التي ترد عليه من قربه، تميت تلك الأخلاق، وتطهر نفسه، فذاك بنيان الله وتربيته، وتبين أخلاقه بتلك الأنوار على محابه، حتى يصلح لولايته، فإذا تم البنيان والتربية، كشف الغطاء، وأشرق على صدره نوره، وجعل لقلبه إليه طريقاً لا يحجبه عنه شيء؛ لأنه لم يبق في نفسه شيئاً يحجبه، فهو ولي الله، هو يتولاه في أموره، وهو يكلؤه، وهو الذي يستعمله، فهذا الذي يتعرض له، وبظلمه قد اجترأ على الله، يريد أن يهدم بنيانه، ويفسد تربيته فيغضب الله له.
وذكر غضب الليث إذا أحرب، فإن الأسد إذا أحرب، لم يحل عن الشيء الذي يثب إليه، حتى يفنيه كسراً ودماراً.
فإنما أراد بذكر هذا هاهنا: أن العقوبة من الله تسرع إليه إسراعاً كهيئة الاختطاف.
وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:
900 - حدثنا داود بن حمادٍ القيسي، قال: حدثنا عمر(4/157)
عمر ابن سعيدٍ الدمشقي،، قال: حدثنا مكرمٌ البجلي، عن هشام ابن الغاز، عن أبيه الغاز بن ربيعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياك ونار المؤمن لا تحرقك، وإن عثر كل يومٍ سبع مراتٍ؛ فإن يمينه بيد الله، إذا شاء أن ينعشه نعشه)).
فلكل نورٍ نارٌ، ولكل نارٍ حريقٌ، وحريق كل نارٍ على قدره، وعظم كل مؤمن على قدر نوره، ونوره على قدر قربه، ومحله من المؤمن.
فهذا المؤمن الذي ذكر هاهنا هو المحتظي من النور والقربة، وقد تولاه الله، فكان في ذلك الزمان المؤمن عندهم بهذه الصفة.(4/158)
ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: وددت أني شعرة في صدر مؤمن.
وقيل في الحديث: ((لو أن المؤمن أقسم على الله، لأبره)).
فالمؤمن البالغ الولي لله، إذا تعرضت له بمكروه، فنار نوره تحرقك، ومن لا حظ له من نوره، فليس له نار تحرق، وإنما معه نور التوحيد فقط، فحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشتبه عليك أمره، فإذا رأيته عثر، أو وقع في ذلةٍ، أن تنظر إليه بعين الازدراء، كسائر العامة، فيحرقك، فإن يمينه بيد الله.
فهذا ولي، فإنما قال: ((يمينه بيد الله))؛ لأنه قد صار في قبضته، وقد أخذه من نفسه، فهو يمسكه، ويحفظه، فإذا عثر، فتلك العثرة كانت في تدبير الله له؛ ليجدد عليه أمراً، وليرفعه إلى ما هو أعظم شأناً، وليس تلك عثرة رفض، إنما هي عثرة تدبير، كذا دبر له، كما دبر لداود تلك الخطيئة.
فانظر: أي شيء كان له بعد الخطيئة من الكرامة، والقربة بذلك البكاء وذلك النوح؟ وما ظهر له من الله من الزلفة والعطف عليه؟.(4/159)
فتكون للأولياء عثراتٌ يجدد الله لهم بها كراماتٍ، ويبرز لهم ما كان مغيباً عنهم من حبه إياهم، وعطفه عليهم، فينعشهم، فهو مع ذلك الذنب يمينه بيد الله، لم يكله إلى نفسه، ولا تخلى عنه، وإنما يجري عليه الذنب، ثم ينعشه.
901 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عمرو ابن عثمان القرشي، قال: حدثنا محمد بن حربٍ، قال: حدثني أبو سلمة سليمان بن سليمٍ، عن يحيى بن جابرٍ الطائي، عن يزيد بن ميسرة، قال: إن الله -تبارك وتعالى- يقول: ((ابن آدم! لا تحرقك نار المؤمن؛ فإن يمينه في كف الرحمن ينعشه، وإن عثر في كل يومٍ سبع مراتٍ)).
وذلك: أن المؤمن يذنب الذنب، ثم يتوب منه، فيكون كالقرحة بين عينيه، لا يزال يذكره، فيستغفر الله منه، ويذكر الرجل ذلك منه، فيعيره به، فيدخل الله صاحب الذنب الجنة، ويدخل الذي يعيره به النار.(4/160)
وأما قوله: ((ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته)): فإنما فرض الله الفرائض؛ ليحط بها عنه الخطايا، وليطهر العبد بها.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل}؟ ثم قال: {إن الحسنات يذهبن السيئات}.
فأعلمك أن هذه الصلاة قيامها، وركوعها، وسجودها، منك حسنات تذهب سيئاتك، فإنك لهوت عن العبودة، وغفلت عن نعمي، وجفوتها، وتكبرت في نفسك، حتى ركبت الخطايا والذنوب، وأطعت هواك من كبرك في نفسك، وتركت أمري.
فهذه: سيئات قد قبحتك وشانتك، فالقيام: تذلل، وتسليم نفس، والركوع: خضوع، والسجود: خشوع، والجلوس: رغبة وتضرع.
فهذه منك حسنات تذهب منك سيئاتك، وتزينك، وتستر شينك.
وقال في شأن الزكاة: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها}.
وقال في شأن الحج، فأمره بالوقوف والذكر، ثم قال في آخره: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه}؛ أي: يرجعون مغفورين، قد حطت عنهم الآثام.(4/161)
فهذه الفرائض إنما فرضها عليهم؛ لتكون دواء للداء الذي اكتسبوه، فإذا أقامها؛ فقد تطهر، فصلح للقربة، وإذا ضيع الفرائض، لم يكن ذاك دواء للذنوب، وبقي على حاله مع دناسة الذنوب، فلم ينل القربة.
فإذا تطهر بإقامة الفرائض، فقد استوجب القربة، فتنفل بعد ذلك، فاستوجب المحبة، والتنفل في المغازي، كالعطف من الأمير على الواحد من أهل العسكر يخصه بحضرته.
فالنفل زيادة على القسمة، خارج منها، يبره الأمير على قدر عنايته، ورجائه، وبلائه في الحرب، فهاهنا يتنفل العبد بزيادة على الفرائض، فينفل القربة والمحبة، فإذا أحبه، اختاره، وأوصله إلى حبة القربة، ولكل شيء حبة، وحبة كل شيء وسطه، وجوفه، ولبابه.
فهذا عبد نال القربة، وهو أقرب القربة وحبته، فقيل حب، وهناك يحيا قلبه بالحي الذي لا يموت، فإذا أحياه به، كان كما ذكر، فقال: ((كنت سمعه، وبصره، وفؤاده، ولسانه، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يعقل، وبي ينطق)).
خمد ما في قلبه من نور الروح، ونور العقل لنوره، فهو يتولاه ويستعمله.
فالموحدون: أحياهم الله بالروح، وأحيا قلوبهم بنور التوحيد، وهذه الطبقة ساروا إليه بنور التوحيد بالقلوب، ورفضوا النفس، وتبروا منها، فأوصلهم إلى نفسه، وقربهم، وأحيا قلوبهم بنوره، فهم الأنبياء والأولياء.
وقوله: ((ما تعبدني عبدي بمثل الزهد في الدنيا)).(4/162)
وهكذا شأن العبد يزهد في كل شيء لم يقدر له في اللوح، فما أعطي، علم أنه قد كان قدر له في اللوح، فقبله، وما منع، [علم] أنه لم يكن قدر له في اللوح، فرفع باله وذكره عن ذلك.
فهذا عبد قد أبرز صدق العبادة، فهو متعبد، قد تعبد الله بالتشبه بالعبيد؛ فإن من شأن العبد: أن لا يمد يده إلى شيء حتى يعطى، وهذا ينظر إلى ما قدر له في اللوح من بين العبيد، وهو شيء لم يتدبره، ولم يتكلفه، ولم يعلم به، دبره له مولاه العليم بما يصلحه، وإنما مدح الزاهد: بأنه تهاون بالدنيا، فلم يلحظ إليها، فهذا منه صدق إيمانٍ، وتحقيقٌ؛ لأنه لما أيقن بالآخرة، فنظر بنور اليقين إلى آخرته، تلاشت الدنيا في عينه في جنب ما أعد الله في الآخرة، فصغرت عنده.
والزهد في اللغة: هو الشيء القليل.
وإذا قل الشيء في عين المرء، تهاون به، على هذا ركب وطبع، رأوا قلة الدنيا بنور الإيمان التي أبصروا بها كثرة الآخرة، وعظمها، فبهذين نبلوا وشرفوا، فأعرضوا عن جمعها، إلا ما قدر لهم في اللوح، فعظموا ذلك القدر الذي أوصل إليهم؛ لأنه لما توصل إليهم، علموا: أن هذا تدبيره، وصنعه، وعطفه، ورحمته، فعظم شأن ذلك عندهم، ففرحوا، واستبشروا، وحمدوا ربهم، وتوسعوا في ذلك، فمن بلغك عن أحد من المنتبهين من السلف، أنه فرح بشيءٍ مما أوتي، أو عظم، فإنما عظمه من(4/163)
هذا الطريق، لا من طريق قدر الشيء، فأنعم فيه النظر حتى لا تغلط، فتظن بهم ظن السوء، ويقتدى بتوهمك بهم.
فإذا حصلت السرائر غداً، خرج فرحك بالشيء من أجل النفس، وقدر الشيء، وخرج فرحك بالشيء فرحاً بعطف الله وتدبيره ورحمته.
وقد قال في قصة قارون: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين}؛ فإنما فرح قارون فرح أشرٍ، وبطر، وإعجاب بالدنيا، فانظر كيف كان عاقبته؟!!
وفرح المتنبه بالله، وتدبيره، وصنعه له، كيف دبر له ما قسم له في اللوح برحمته، ولهى عما سوى ذلك.
فالزاهدون متعبدة، والأولياء عبيد، هؤلاء يعبدونه بالزهد، وهؤلاء عبدوه بالعبودة.
فالزاهدون: أعرضوا عن الدنيا، فبهذا تقربوا إليه.
والأولياء: أعرضوا عن النفس، فبهذا تقربوا إليه، فمن أعرض عن الدنيا، أقام الزهد، ومن أعرض عن النفس، أقام العبودة.
902 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا موسى ابن عامرٍ الدمشقي، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: حدثني أبو غنيمٍ الكلاعي، عن أبان، عن الحسن، قال:(4/164)
بني الإسلام على عشرة أركان: الإخلاص لله، وهي الفطرة، والصلاة، وهي الملة، والزكاة، وهي الطهرة، والصيام، وهي الجنة، والحج، وهو الشريعة، والجهاد، وهو العزة، والأمر بالمعروف، وهو الحجة، والنهي عن المنكر، وهو الواقية، والطاعة، وهي العصمة، والجماعة، وهي الألفة.
فإنما أردنا في هذا الحديث ما ذكرنا بدءاً أن الفرائض هي للعباد خلاصٌ من الآفات التي أحدثوها، فإذا عملوها، ذهبت الأحداث، فقربوا.
وأما قوله: ((الإخلاص لله، وهي الفطرة)).
فإن الخلق فطروا على المعرفة، فليس أحدٌ ينكره، فمعرفة الفطرة قد استوى الخلق فيه علواً وسفلاً، وهو قوله تعالى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها}.
وروي عن وهب بن منبه رضي الله عنه، أنه قال: لما خلق الله الخلق، لحظ إليهم لحظة، فكاد يزول كل شيء من مكانه، ثم لحظ أخرى، فهمدوا كلهم، فألهمهم من ربوبيته ما ليس لأحد أن ينكره، فهي الفطرة.
903 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا هشام(4/165)
ابن عمارٍ الدمشقي، عن محمد بن شعيبٍ، قال: أخبرني النعمان، عن مكحولٍ: إن الفطرة معرفة الله.
يقول الله -تبارك اسمه-: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله}. وقال في تنزيله: {فطرت الله التي فطر الناس عليها}، ثم قال: {لا تبديل لخلق الله}.
إنه خلقهم على معرفته، وعلى ذلك فطرهم من الغيب، فلا تبديل لذلك؛ أي: لا يقدرون أن ينكروني، فهم يقرون به، ويعرفونه معرفة الفطرة، ثم يشركون به؛ لجهلهم بصفاته.
فقوله: ((الإخلاص لله، وهي الفطرة)): أن المؤمنين لما أدركتهم الهداية، وجعل الله لهم نوراً، فأحياهم، خلص لله أمره.
وقوله: ((الصلاة، وهي الملة)).
فإن الصلاة شيء في نفسه محشو بالأفعال، وهو القيام، والركوع، والسجود، والتلاوة، والثناء، والجلوس، فهي أفعال مضمومة بعضها إلى(4/166)
بعض، فصيرت فعلاً واحداً، فقيل: هي ملة، والملة ما ضمت، والملة: الخبزة المضمومة إلى الحفرة، أضيفت الخبزة إلى الملة دقاق الخبز وترابه.
وقيل: خبز ملة، على الإضافة إلى الملة، فهكذا شأن صفة الصلاة، هي أفعال شتى، مضمومة بعضها إلى بعضٍ إلى أمر واحد، وكذلك سبيله أيضاً أنهم يجتمعون بأجسادهم على هذا الأمر الواحد، فتكون صلاتهم مضمومة بعضها إلى بعض، فتكون صلاة واحدة، وهي الملة.
وأما قوله في الزكاة: ((وهي الطهرة))، فهو قوله: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم}.
لأنهم قد تدنسوا بها، وإنما سمي مالاً؛ لميل القلوب إليه عن الله، جعل الله هذا المال سبباً لقوام معاشهم، وخلقهم محتاجين مضطرين، والمضطر مفزعه إلى من اضطره، إلى نفسه، وترك مفزعه، وصير المال الذي صير سبباً مفزعاً لحاجته، فمال بقلبه عن الله، فهذا دنس.
فقيل: تصدقوا؛ أي: أعطوا من هذا المال ما يطهر صدق أقوالكم: إنا لله، وإن هذه الأموال من الله، وفي أيدينا لله، فسميت صدقة؛ لأنه يظهر بالإعطاء صدق إيمانهم بالله، وأنها لله، فتصير صدقاتهم طهرة لهم من أدناسهم، هذا إذا أصابه من حلال، فهو يميل قلبه عن الله، ويصير دنساً، فكيف بالشبهة، وبالحرام؟!(4/167)
فالحرام: لا يطهرها شيء، والشبهة: موقوفة، والحلال: متقبلة، فإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأمر الخلق في ذلك الوقت حيث أمرهم بالصدقة كانت في أيديهم مكاسب الحلال والغنائم.
فالصدقة من هناك وجبت على تلك الأموال، ثم على سائر أموال العامة التي قد اختلطت.
وأما قوله: ((والصيام، وهي الجنة)):
فإن النار حفت بالشهوات، والجنة بالمكاره، وكذلك جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي الصيام ترك الشهوات، فإن تركها، فقد ترك حفاف النار، فصار جنة له من النار وستراً؛ لأنه قد تباعد من حفافها.
وأما قوله: ((الحج، وهو الشريعة)).
فإن الله -تبارك وتعالى- دعاهم إلى أن يؤمنوا به، ويسلموا إليه وجهاً، وجعل البيت مظهرة ومعلمةً، فهناك آثاره، وآياته، وقد كان من قبل خلق(4/168)
الأرض زبدةً بيضاء، فاقتضاهم الإجابة له بإتيانه قلباً؛ لمظهره الأعلى، وهو العرش، وبأبدانهم إتيان المعلم الذي بالأرض لمن وجد السبيل إليهن فشرع للعباد إلى العرش قلوباً إليه، وشرع لهم إلى البيت عند معلمه أبداناً، فهي الشريعة، وهي الطريق إليه، وشرع لهم بالقلوب وبالأبدان إلى الموطنين.
وأما قوله: ((الجهاد، وهي العزة)).
فإن الله دعا العباد إلى أن يوحدوه، فأجابته طائفة، وامتنعت طائفة تعززوا بالكبر الذي في صدورهم، والقوة التي في أبدانهم، وبالنعمة التي أسبغها عليهم، فقال لهذه الطائفة المجيبة: أنتم أنصاري وأوليائي {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قويٌّ عزيزٌ}.
ثم قال: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}، ثم قال -جل ذكره-: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب}، وقال: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنانٍ}.
ثم قال: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصدٍ}.
فصارت هذه الطائفة أهل حمية الله، ونصرته، وولايته، فقتلوهم، وأخذوهم، وأسروهم، وحاصروهم، حتى أذعنوا وقعدوا في المراصد، وهي الرباطات، ينتظرون خروجهم بأمر الله، فقال الله -تبارك اسمه-: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، فالجهاد هو العزة.(4/169)
وأما قوله: ((والأمر بالمعروف، وهو الحجة)).
فإن الأمر حجة الله على خلقه، وهو فعل المرسلين، بعثوا للأمر بالمعروف، (والنهي عن المنكر، فمن فعله من بعدهم، فهو من خلفائهم، فهو يقيم حجة الله على خلقه.
فأما قوله): ((والنهي عن المنكر، وهي الوقاية)).
فإن الله -تبارك اسمه- ذكر في تنزيله: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
ثم ذكر بدو أمرهم، فقال: {كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}.
ثم روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الظالم إذا لم يأخذوا على يديه، يوشك أن يعمهم الله بعقابٍ)).
وروي عن النعمان بن بشير يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ضرب مثلاً للراكب منكراً، والمانع له والساكت عنه مداهناً.(4/170)
904 - حدثنا بذلك سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: سمعت النعمان بن بشيرٍ يقول على منبرنا هذا: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل القائم على حدود الله، والمداهن في حدود الله، والراكب حدود الله، كمثل قومٍ ركبوا سفينةً، فاقترعوا منازلها، فصار مكان النز ومهراق الماء ومختلف القوم لأحدهم، فصبح فأخذ القدوم، فنقر في السفينة، فقال أحدهم لآخر: إنه يريد أن يغرقنا، ويخرق سفينتكم، فقال الآخر: دعه؛ فإنما يخرق مكانه)).
905 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا زكرياء بن أبي زائدة، قال: سمعت عامر [اً](4/171)
الشعبي يقول: سمعت النعمان بن بشرٍ يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله، وزاد فيه، قال: ((فإن تركوه، هلك، وهكلوا، وإن أخذوا على يديه، نجا ونجوا)).
فقوله: ((والنهي عن المنكر، وهي الواقية)):
أن يقيهم العقوبة والهلاك، فإذا غيروا، ونهوا، كان ذلك وقاية للعذاب.
وأما قوله: ((والطاعة، وهي العصمة)).
فإن طاعة الأئمة في طاعة الله رشد، فإذا تركوا الطاعة، ضلوا، فتلك الطاعة هي عصمة، بهم يعصم الله، وبهم تسكن الفتنة، وبهم يقمع أهل الريب، وبهم يقوم الحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فالسلطان شأنه عظيمٌ، وهو من الله رحمة، فطاعته عصمة.
وطاعتك لله فيما أمرك عصمة لك من شر الدنيا وشر الآخرة، فهذا الذي يعم، والأول خاصٌّ.
وأما قوله: ((والجماعة، وهي الألفة)).
فإن الله -تبارك اسمه- جمع المؤمنين على معرفةٍ واحدةٍ، وعلى شريعة واحدة؛ ليألف بعضهم بعضاً بالله، وفي الله، فيكونون كرجل(4/172)
واحدٍ، وقال: {إنما المؤمنون إخوةٌ}، وقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ}.
فإذا كان مع الجماعة في الشريعة، ولم يخرج إلى حدثٍ، ولا إلى بدعة، فهو في الألفة معهم.(4/173)
الأصل الخامس والستون والمئة
906 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، عن محمد بن المصفى، عن بقية بن الوليد، عن شعبة بن الحجاج، عن المجالد بن سعيدٍ، عن الشعبي، عن شريحٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عائشة! {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً} من هم؟))، قالت: الله ورسوله أعلم؟ قال: ((هم أصحاب البدع، وأصحاب الأهواء، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة. يا عائشة! إن لكل ذنبٍ توبةً، ما خلا أصحاب الأهواء والبدع، ليس لهم توبةٌ، أنا بريءٌ منهم، وهم براءٌ مني)).(4/175)
907 - حدثنا هارون بن حاتمٍ الكوفي، قال: حدثنا علي بن حمزة الكسائي، عن عباد بن كثيرٍ، عن ليثٍ، عن طاوس، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (({إن الذين فرقوا دينهم})) الحديث.(4/176)
فأهل الأهواء: قومٌ استعملوا أهواءهم، والأهواء ميالة عن الله تعالى، زوالة، فحيثما مالت، أتبعوها قلبوهم، وإنما صارت هكذا؛ لأنه لم يكن في قلوبهم من النور ما يقيدها عن اتباعها، فإنـ[ـه] على الحق نور، وعلى الإيمان نور، ووقار، والإيمان بنفسه نور، فإذا خلا القلب عن ذلك، كان إيمانه ذا سقم، والسقيم ضعيف، فمال به الهوى، قال الله -جل وعز-: {فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة}.
وهي الحرقة، وهي الشهوة التي في قلوبهم؛ تلذذاً بها، {وابتغاء تأويله}، فكانت تلك الشهوة صارت في قلوبهم، فمالت.
فسميت زيغاً؛ لأنها زائغة بوليها عن الله.
فأهل الأهواء: كلما استحلوا شيئاً، ركبوه، واتخذوه ديناً، حتى ضربوا القرآن بعضه ببعض، وحرفوه.
ومنهم من ترفض، حتى جحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ونسب الرسالة إلى علي رضي الله عنه.(4/177)
ومنهم من اتخذه ربًّا، فدخل عليه، فقال: أنت ربي، فقام علي رضي الله عنه، فوطئه بقدمه حتى قتله، وأحرقه بالنار.
وأما أهل البدع: فمثل الخوارج، وأهل حروراء، أبدعوا من تلقاء أنفسهم بدعاً، فما زالت بهم تلك البدع حتى أدتهم إلى الخروج على علي رضي الله عنه، وإلى حربه.
وقوم تزهدوا بغير علمٍ، فأداهم الجهل إلى أن أبدعوا من تلقاء أنفسهم بدعاً، وحسبوا أن الزهد في الدنيا تجنب الأشياء فعلاً، والعزلة عن أهل الدنيا، فضيعوا الحقوق، وقطعوا الأرحام، وجفوا الخلق، واكفهروا في وجهوه الأغنياء، وفي قلوبهم شهوة الغنى أمثال الجبال.
ولم يعلموا أن صلب الزهد إنما هو بالقلب، وأن أصل الزهد موت الشهوات في القلب، فلما اعتزلوها بالجوارح، اكتفوا به، وحسبوا أنهم استكملوا الزهد، حتى تأدى بهم الجهل إلى أن طعنوا في الأئمة الذين عرفوا بسعة المعاش، وغنى المال، حتى عابوا الأنبياء، ونسبوا سليمان -صلوات الله عليه- إلى الرغبة، وصاروا عند ذكره كالمعرضين عنه، الطاعنين عليه، فعابوه، وثقل عليهم ذكر من لا يتم إيمانهم إلا بالإيمان به؛ فإن المؤمنين يدخل في عقد إيمانهم الإيمان بالرسل، فهو حجة الله على خلقه.(4/178)
وقومٌ زعموا أنهم توكلوا على ربهم، وأن الطلب شكٌّ، والرزق يأتي في وقته، فقعدوا؛ رفضاً للطلب، والمكسب، فضيعوا الأهلين والأولاد، ثم في خلال ذلك يتدنسون في أبواب المطامع، ويخادعون الله في معاملته.
وقومٌ اتخذوا هذا العلم الذي هو حجة الله على عباده حرفة، وصيروه مأكلةً، فأكدوا به رئاستهم، واحتظوا به من القلوب، وتمكنوا به في صدور المجالس، وصحبوا به الملوك؛ ختلاً لما في أيديهم من الحطام، فلينوا لهم في القول؛ طمعاً لما في أيديهم، وداهنوهم؛ لما يرجون من نوالهم، وساعدوهم على تجبرهم، وجورهم.
وقومٌ مفتونون، نسبوا إلى الدين، فالتقطوا الرخص، وزلات العلماء، فاتخذوها ديناً، وتدرعوا بذلك إلى شهواتهم الغاوية لهم، وزينوا للخلق ذلك تستراً على أحوالهم السيئة بذلك من تعاطي الأشربة المردية، والمكسبة الرديئة، وأشباه ذلك.
وأما أهل الضلال، والمشبهة، والقدرية، والجبرية، والجهمية، وأشباههم طلبوا الله من قبل علم البينة، لا من قبله، فضلوا عنه، فاقتضى الله الإسلام للعباد ديناً.
فالإسلام: تسليم النفوس، والدين: الخضوع لله بتسليم النفس إلي.
يقال في اللغة: دان له؛ أي: خضع، والدون مشتق عنه، سمي دوناً؛ للاتضاع.(4/179)
فقال في تنزيله: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخسارين}.
فجعل الدين في تسليم النفس، فدانوا له بأن سلموا نفوسهم إليه؛ قبولاً لأمره، وطاعته، فأنزل كتاباً فرقاناً يفرق بين الحق والباطل، وأمرهم بالاعتصام به، وأشار إلى دار السلام أن هذه مصيركم، وإليها أدعوكم، فقال: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، وهو عهده الذي أنزل، وقال: {والله يدعو إلى دار السلام}.
ودل إلى طريق مستقيم إليها من غير تعريج ولا تلوية، ودبر في هذا الطريق فرائض معلومة، وسنناً، وأخذ زينة ليوم العرض عليه.
فالزائغون مالت قلوبهم، وأبدعوا، وضلوا عن الله، تركوا الخضوع لله، وتسليم النفس إلى الله، ففارقوا ديناً، فصاروا شيعاً وأحزاباً، وكل حزب بما لديهم فرحون فرحاً مظلماً لا بقاء له، ولا قوام، زين لهم سوء أعمالهم، سد عليهم باب القدر، فاشتدوا، وتعمقوا في طلبه حتى هلكوا، وأداهم ذلك إلى أن برؤوا الله من قدرته، وشاركوه في مشيئته إفكاً، وافتراءً، وسد عليهم باب درك الكيفية، فاستبدوا يطلبون الكنه والكيفية، حتى عدلوه بخلقه سبحانه، وسد عليهم باب التعمق، فما زالوا ينزهونه حتى تاهوا في الإلحاد عنه، فنفوا عنه ما لم ينف عن نفسه، حتى جعلوه أصم أبكم أعمى، حتى آل بهم الأمر حتى قالوا: ليس بشيء.(4/180)
وجاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((افترقت بنو إسرائيل (اليهود منهم) على إحدى وسبعين فرقةً، كلها في النار إلا واحدةً، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقةً، كلها في النار إلا واحدةً، وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، كلها في النار إلا واحدةً)). قيل: يا رسول الله! من هذه الواحدة؟ قال ((السواد الأعظم)).
908 - حدثنا بذلك الفضل بن محمد، قال: حدثنا كثير بن عبيدٍ الحمصي، قال: حدثنا محمد بن حميرٍ، قال: حدثني مسلمة بن عليٍّ، عن عمر بن ذرٍّ، عن أبي قلابة الجرمي، عن أبي مسلمٍ الخولاني، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أعرف الحزن في وجهه، فأخذ بلحيتي، فقال: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، أتاني جبريل آنفاً، فقال: إنا لله وإنا إليه(4/181)
راجعون، قلت: أجل، إنا لله وإنا إليه راجعون، فمم ذلك يا جبريل؟ فقال: إن أمتك مفتتنةٌ بعدك بقليلٍ من الدهر غير كثيرٍ، فقلت: فتنة كفرٍ أو فتنة ضلالةٍ؟ فقال: كل ذلك سيكون، قلت: ومن أين ذلك، وأنا تاركٌ فيهم كتاب الله؟ قال: فبكتاب الله يضلون، وأول ذلك: من قبل قرائهم، وأمرائهم، يمنع الأمراء الناس حقوقهم، فلا يعطوها، فيقتتلوا، ويتبع القراء أهواء الأمراء، ويمدونهم في الغي، ثم لا يقصرون، قلت: يا جبريل؟ فبم يسلم من سلم منهم؟ قال: بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم، أخذوه، وإن منعوا، تركوه)).
909 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا شباب ابن خليفة، عن يوسف بن خالدٍ السمتي، عن سالم بن بشير بن جحلٍ، سمع حبيبـ[اً] المزني يحدث: أنه سمع(4/182)
أفلح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أخوف ما أخاف على أمتي ثلاثٌ: ضلالة الأهواء، واتباع الشهوات في البطن والفرج، والعجب)).
قال محمد بن علي الحكيم رحمه الله:
فهذا، وحديث شريح عن عائشة -رضي الله عنها- متفقان: أنهم ثلاثة أصناف: العجب، وهو البدعة، واتباع الشهوات، وهي الأهواء والضلالة.
فإنما صار هؤلاء فرقاً؛ لأنهم فارقوا دينهم، فبمفارقة الدين تشتتـ[ت] أهواؤهم، فافترقوا.
ألا ترى إلى ما قال الله تعالى في تنزيله: {إن الذين فرقوا دينهم}، ثم قال: {وكانوا شيعاً}، ثم قال: {لست منهم في شيءٍ}.
فبرأه منهم، فوجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين، فلم يفترقوا، ولم يصيروا شيعاً؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، وإنما اختلفوا فيما أذن لهم النظر فيه، والقول باجتهاد الرأي، فاختلفت آراؤهم،(4/183)
واختلفت أقوالهم، فإنما أمروا بذلك، فصاروا باختلافهم محمودين؛ لأنهم أدى كل واحد منهم على حياله بما أمر من جهة الرأي، والنظر فيه.
فمن ذلك ما قال أبو بكر رضي الله عنه في مسألة الجد أنه بمنزلة الأب، وأن المال كله له دون الأخ.
وقال علي وزيد رضي الله عنهما: المال بين الأخ والجد نصفان.
ومثل ما قال عمر رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد: أن لا يبعن، وقال علي رضي الله عنه: يبعن.
ومثل ما قالوا في الشركة، فمنهم من شرك، ومنهم من لم يشرك، وذلك في زوج، وأم، وأختين لأب وأم، وأختين لأم، فأعطوا الزوج النصف، والأم السدس، وأعطوا الأختين للأم الثلث.
فمنهم من شرك الأختين للأم والأب في هذا الثلث؛ لأنهم كلهم لأم واحدة.
ومنهم من لم يعط الأختين للأب والأم شيئاً، وجعل الثلث للأختين للأم، وقال: في فريضتهما في الكتاب بينة، ولكل وجهٍ مذهب.
ومثل قول ابن عباس رضي الله عنهما: إن الفريضة لا تعول.
وقال عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعول، وأنزلوه بمنزلة رجل ترك درهماً واحداً، ولرجل عليه ثلثا درهم، ولرجل آخر نصف درهم، فقالوا:(4/184)
يقسم هذا الدرهم الواحد بينهما على سبعة أسهم، على حصة دينهما.
ومنهم من رأى طلاق السكران جائزاً، ومنهم من أبطله.
ومثل قولهم في الطلاق قبل النكاح، فمنهم من أنزله، ومنهم من لم ينزله.
وفي البيوع، وفي أشياء كثيرة من أمر الدين اختلفوا، فكان ذلك الاختلاف رحمة من الله على هذه الأمة، حيث أيدهم باليقين، ثم وسع على العلماء منهم النظر فيما لم يجدوا ذكره في التنزيل، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يلحقوه ببعض الأصول، فكانوا أهل مودةٍ، وعطف، متناصحين، أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة.
فلما حدثت هذه الأهواء المردية، الداعية صاحبها إلى النار، ظهرت العداوات، وتبيان الناس، وصاروا أحزاباً، دليل ذلك: أن هذا التباين والفرقة، إنما حدثت من المسائل المحدثة التي ابتدعها الشيطان، فألقاها على أفواه أوليائه؛ ليختلفوا، ويرمي بعضهم بعضاً بالكفر.
فكل مسألة حدثت في الإسلام، فخاض فيها الناس واختلفوا، فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة، ولا بغضاء، ولا فرقة، علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام، يتناظر فيه، ويأخذ كل فريق بقول من تلك الأقوال، ثم يكون في أحوالهم من الشفقة، والرحمة، والألفة، والمودة، والنصيحة، كما فعل الصحابة والتابعون رضي الله عنهم.(4/185)
وكل مسألةٍ حدثت فاختلفوا فيها، فردهم اختلافهم في ذلك إلى التولي والإعراض، والتباين إلى الرمي بالكفر، علمنا أن ذلك ليس من أمر الدين في شيءٍ يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها، ويعرض عن الخوض فيها.
ومما يؤكد ما قلنا: ما ذكر الله في كتابه من حال أهل الإسلام كيف يكونون، فقال الله عز وجل: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}.
فذكر أنهم أصبحوا بالإسلام إخواناً، فلما جاءت مسألة مما إذا اختلف فيها، ذهبت الأخوة، وجاءت الفرقة، علمنا: أن هذه المسألة ليست من الإسلام في شيء؛ لأن شرط الله في تمسكنا بالإسلام، أنما نصبح بذلك إخواناً، فصاروا، بهذه المسألة أحزاباً، يكفر بعضهم بعضاً، ووجدنا أهل الخذلان، إنما أعرض الشيطان في قلوبهم بمثل هذه الأشياء، وذلك لما خلت قلوبهم من خشية الله، ومن خوف عقاب الله، بما قدمت أيديهم، ومن الأهواء التي أمامهم، وذكر الموت، والصيحة، والحساب، والاهتمام بصحة الأمور، وطلب الإخلاص فيما بينهم، والانتباه بحسن صنعه بهم في ليلهم ونهارهم، وطلب النجاة من رق النفوس إلى حرية العبودة لربهم، فلما خلت من هذه الأشياء خربت، وصارت في القلوب ثلم،(4/186)
فوجد العدو فرصةً، فألقى إليهم مثل هذه الأشياء التي يعلم المستنيرة قلوبهم: أن هذا تكلفٌ، وخوضٌ فيما لا يعنيه، مثل قولهم في الجبر، والقدر، وفي الاستطاعة قبل الفعل، ومعه، وفي طلب كيفية صفات الله، وفي الإيمان: مخلوقٌ هو أم لا؟ وفي القرآن: ما هو؟ وفي الإمامة: من استحقها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
حتى أداهم ذلك أن رفضوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وجورهما، وأظهروا سبهما، فلولا أن هذا عبد قد خذله الله، ونكس قلبه، كان يشتغل بمثل هذا، وهم: قومٌ مضوا إلى الله بأعمالهم، فهو يقسم لهم المنازل بهواه، ويحمل بعضهم على بعض، وقد قال الله -جل ذكره-: {تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}.
وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً، ومعلماً، وهادياً، فخرج من الدنيا، وقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وعلم، وهدى، وأبلغ في النصيحة، فأين القول منه للأمة في هذه الأشياء التي ذكرناها، وأين هدايته، وتعليمه لهم ذلك؟ فهل يوجد حديث واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستطاعة والجبر؟(4/187)
والقرآن ما هو؟ والإيمان مخلوق أم لا؟ فإن كان بعث مبلغاً، وقد بلغ، ولم يكتم شيئاً من الوحي، فأين هذا في الوحي؟ وأين هذا في السنن التي جاءت عنه، وكيف أدت عنه أئمة العلماء آداب الإسلام في طعامهم، وشرابهم، ونومهم، وخلائهم، ووضوئهم، ولباسهم، ومشيهم، وزيهم، وسائر أحوالهم، وتركوا مثل هذه الأشياء التي أدى اختلاف القائلين فيها إلى إكفار بعضهم بعضاً، ذلك ليعلم أنها مسائل الفتن، وأنها تؤدي إلى الحيرة، وأن الكلام في ذلك مما يؤذن لك فيه.
ووجدنا أن الله -تبارك اسمه- أثنى على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} إلى قوله: {ذلك مثلهم في التوراة}؛ أي: صفتهم في الترواة، فشهد لهم بهذه الخصال التي هي رأس الإيمان وذروته، فما ظنك بقوم يبلغ من أقدارهم ومحلهم أن يمدح لبني إسرائيل شأنهم، ويصف لهم محاسن خصالهم من قبل أن يخلقهم بكذا وكذا ألف سنة، ثم وصفهم في الإنجيل للأمة الأخرى، فقال: {يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}.
أخبر أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم غيظ الكفار، فمن وجدناه ممن ينتحل الإسلام قد صار كبراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له غيظاً، فقد ساء ظننا به،(4/188)
ونخاف أن يكون في قلبه داهية تسلبه الإسلام، وهو لا يشعر.
وروي في نحوٍ من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من يخادع الله، يخدعه الله، ويخلعه من الإيمان وهو لا يشعر)).
وروي عن أنس رضي الله عنه: أنه قال: من ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس له في الفيء نصيب.
وذلك أن الله قسم الفيء في تنزيله بين ثلاثة أصناف، فقال: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم}، {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم}، وهم الأنصار، {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}، وهم التابعون إلى يوم القيامة.
فإنما صار الفيء بين هؤلاء، فمن جاء من بعدهم، فتناولهم بالسوء، فقد خرج من هذا الصنف، ولا نصيب له.
910 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا محمد ابن داود الإسكندراني، قال: أخبرني زياد بن يونس، قال: حدثني عطاف بن خالدٍ، قال: بلغني أنه لما نزل قوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا}، صاح إبليس بجنوده، وحثى(4/189)
على رأسه التراب، ودعا بالويل والثبور، حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر، فقالوا: ما لك يا سيدنا؟ قال: إنه نزلت في كتاب الله [آية] لا يضر بعدها أبداً من بني آدم ذنبٌ، فقالوا: وما هي؟ فأخبرهم، فقالوا: نفتح لهم باب الأهواء، فلا يتوبون، ولا يستغفرون، ولا يرون إلا أنهم على الحق، فرضي منهم بذلك.(4/190)
الأصل السادس والستون والمئة
911 - حدثنا عبد الواحد بن مسلمٍ البصري، عن محمد ابن السماك، عن الهيثم بن جمازٍ، عن يزيد بن أبان، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صوتٍ أحب إلى الله من صوت عبدٍ لهفان))، قالوا: يا رسول الله! وما اللهفان؟ قال: ((عبدٌ أصاب ذنباً، كلما ذكر ذنبه، امتلأ قلبه فرقاً من الله، فقال: يا رباه)).
قال أبو عبد الله:
فالفرق: نفار القلب، وهذا مقام عظيم.(4/191)
هذا عبد له حظ من الهيبة، فتلك مرتبته، وهي الغالب على قلبه، فإذا اشتدت هيبته، وذكر ذنبه، نفر القلب مما يلاحظ، فذلك الفرق، فإذا امتلأ قلبه من ذلك الفرق، فرق، فنادى نداء من ينحط في مهوى لا يدري ما قعره، فهو في الانحطاط ينادي نداء مستغيث: يا رباه!
وذلك أن للعبد مقاماً بين يديه، ومقامه الهيبة، فإذا ذكر ذنبه، لم يستقر القلب في مقام الهيبة مع قبيح ذلك الذنب، فيحيل إلى القلب بنفاره، كأنه يهوي من قربه إلى حيث لا يدري قراره بعداً، فهو يتلهف على ما فاته من مقام القربة بغاية التلهف.
ويقال: وإذا كان الشيء بالغاً غايته، خرج مخرج فعلان في القالب، فقيل: لهفان، وهو غاية التلهف على ما فاته من القربة، فهو ينادي في انحطاطه في مهواه: يا رباه، نداء ندبة الثكلى، وهذا نداء توجع وحرقة.
كذا تعرفه أهل اللغة، أنهم إذا أرادوا أن ينادوا بتوجع، وصلوها بمدة وهاء، فقالوا: يا فلاناه؛ ليبرز التوجع في المدة، ويكون الهاء معتمداً يسكت عليه، فتكون المدة أبين وأكشف.
قال: فذاك أحب الأصوات إلى الله عز وجل، ولا يصير الرجل لهفاناً حتى يفوته شيء قد عظم قدره عنده فهو يخاف الهلاك من فوته، فيأخذه الدهش من فوته، والعجلة والاضطراب، وإنما صار لهفان من الفرق،(4/192)
وإنما فرق القلب؛ لأنه نفر حين رأى الذنب معه في مقام الهيبة.
والفرق: شأنٌ عظيمٌ؛ لأنه عاين القلب سلطاناً عظيماً، وهو في محل ملك الملوك، فلم يتمالك القلب أن فرق.
وذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قرأ بين يديه رجل، فسقط فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الفرق فلذ كبده)).
فالكبد: متصل بالقلب من تحته عن شقه الأيمن، والطحال: عن شقه الأيسر، فحرارته أحرقت الكبد، فكلما نفر القلب، فلذته؛ أي: قطعته.
وقوله: ((امتلأ قلبه)): يدل: على أنه يمازجه حسن الظن؛ لأنه فتح له من تلك الهيبة، وإنما ينال حسن الظن من ملك الجمال.
912 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد ابن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلالٍ: أن داود النبي -صلوات الله عليه- كان يعوده الناس، ما يظنون إلا أنه مريض، وما به إلا شدة الفرق من الله عز وجل.(4/193)
الأصل السابع والستون والمئة
913 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا أحمد ابن عمرو بن السرح المصري، قال: حدثنا ابن أبي فديكٍ، قال: حدثني عمر بن محمدٍ الأسلمي، عن مليح بن عبد الله الخطمي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمسٌ من سنن المرسلين: الحياء، والحلم، والحجامة، والسواك، والتعطر)).(4/195)
914 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا حفص ابن غياثٍ، عن حجاج، عن مكحولٍ، عن أبي الشمال، عن أبي أيوب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ من سنن المرسلين: التعطر، والحياء، والنكاح، والسواك)).
فالسنة: الصورة والمثال، كأنه يقول: هذه الخلال الخمس من(4/196)
شأنهم، وأنهم كانوا يكونون في هذه الصورة من الأفعال.
فأما الحياء: فإن النور إذا دخل القلب، تخلص الروح من أسر النفس وأشغالها، فعاد إلى طبعه السماوي، والحياء: هو خجل الروح، وتلكؤه عن كل عمل لا يحسن في أهل السماء، فإنما صار الحياء من شأنهم؛ لطهارة الروح من أسباب النفس.
وأما الحلم: فهو سعة الصدر، وانشراحه، وإنما اتسع وانشرح؛ لورود النور.
وأما الحجامة: فمن أجل أن للدم حرارة، وقوة، وللنور حرارة وقوة، وإذا لم ينقص من حرارة الدم، أضر.
ومما يحقق ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مررت بملأٍ من الملائكة ليلة أسري بي إلا قالوا: يا محمد! مر أمتك بالحجامة)).
فإنما خصت هذه الأمة بذلك؛ من أجل زيادة النور.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أعطيت أمةٌ ما أعطيت أمتي من اليقين)).
وقول كعب: وجدت في التوراة: أن الأنبياء يقومون يوم القيامة، مع كل نبي نوران، ومع كل واحد ممن تبعهم نور واحد، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قام، وله(4/197)
بعدد كل شعرة من رأسه وجسده نور، ومع كل واحد ممن تبعه نوران.
ومما يحقق ذلك: قوله تعالى: {قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم}؛ أي: قل: إن هذا الهدى هدى الله الذي ولي هدايتكم به، لن يعطى أحدٌ مثل ما أعطيتم.
فإذا ولي الله هداية عبد، فضله باليقين، ومن هداه بالرسل والكتاب والآيات، هو دون هذا، وكانت الأنبياء تأتي بالآيات، وكفي الرسول صلى الله عليه وسلم مؤنة ذلك، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إني لمن أكثر الأنبياء تبعاً، وما أتيت بما آمن بمثله البشر من الآيات)).
فإذا تركوا، أخذ الدم يتبيغ، فقتل؛ لأن حرارة النور تغلبه، فعرفت الملائكة شأن هذه الأمة، وما فضلت به، فتقربت إلى الله بالنصيحة لها.
وهذه المقالة التي بقيت في أفواه العامة: أن البدن يضعف، ويضر به إخراج الدم منه، وذلك أن الدم عماد الجسد، ومنه حرارته، ويشيرون إلى ترك الحجامة، إنما خرجت من الأطباء، والطب بدؤه من كتب الروم، وهم نصارى، وإنما انتسخوها من كتب ذي القرنين، ومن بعده من كتب طب سليمان بن داود عليه السلام.(4/198)
ثم تبحروا وزادوا من تلقاء أنفسهم، ووضعوا الكتب على ذلك، فعامتهم يشيرون إلى تقليل الحجامة، ثم إلى تركها بعد مجاوزة الخمسين من العمر، ولا يعلمون أن لله في هذه الأمة خبيئة قد اضطربت بها الصوت في الملأ الأعلى، حتى تقربوا إلى الله بالنصح لهم من المداومة على الحجامة، فلم يكن لبني إسرائيل من اليقين من الحظ ما لهذه الأمة، فلم يضر بهم ترك الحجامة.
وإنما أخذت أطباؤهم من تقدير طبائعهم وسيرتهم، ولو علموا أن هاهنا فضل يقين يشتعل حريقه في قلوبهم، ويتلهب في صدورهم، فتغلي من ذلك دماؤهم الطبيعة، حتى يؤدي ذلك إلى الفضول والضرر الكثير؛ لدبروا لهم خلاف تدبير نفوسهم وطبائعهم، فإنما صارت الحجامة من سنن عامة المرسلين؛ لأن النور غالب على قلوبهم وصدورهم، فتغلي من ذلك دماؤهم، فإذا لم يأخذوها، فارت، فأضرت.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من الصداع من نور الوحي، فيغلف رأسه بالحناء؛ ليخفف عن رأسه سلطان تلك الحرارة، فمن رئي من بعده أنه كان يخضب، فإنما ذاك من قبل الوفد والأعراب، كانوا يرون بشعره ردع الحناء وحمرته، فيحسبونه خضاباً.
وأما السواك: فلأنه طريق التنزيل والوحي الوارد، وموضع نجوى الملائكة، فكانوا يقصدون لتطييبها، وتطهيرها، فإنه إذا استاك، تنظف،(4/199)
وإذا تركه، تنكرت الرائحة، وآذى الملك، وضاعت حرمة الوحي.
وأما النكاح: فإن الأنبياء قد زيدوا في النكاح بفضل نبوتهم، وذلك أن النور إذا امتلأ الصدر منه، ففاض في العروق، التذت النفس والعروق، فأثار الشهوة، وقواها، وريح الشهوة إذا قويت، فإنما تقوى من القلب والنفس، فعندها يجد القوة.
وروي عن سعيد بن المسيب: أن النبيين -عليهم السلام- يفضلون بالجماع على الناس، وذلك لما فيه من اللذة.
915 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم الجمحي، عن يحيى بن أيوب، وابن لهيعة، قالا: حدثنا ابن الهاد، عن سعيدٍ بن المسيب.
916 - وعن ابن الهاد، عن حمزة بن عبد الله بن عمر: أنه سمع ابن عمر رضي الله عنه يقول: ما أعطي أحدٌ من الجماع(4/200)
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطيت.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أعطيت قوة أربعين رجلاً في البطش، وفي النكاح، وأعطي المؤمن قوة عشرةٍ)).
فهو بالنبوة، والمؤمن بإيمانه، والكافر له شهوة الطبيعة فقط.
وأما التعطر: فإن الطيب يذكي الفؤاد، وذلك أن أصل الطيب إنما خرج من الجنة، وكان تزود آدم عليه السلام منها بورقة تستر بها، وتركت عليه، فمن ذلك أصل الطيب.
ففي تذكية الفؤاد قوةٌ للقلب، والجوارح، وذلك أن حس القلب بالفؤاد؛ لأن الأذن عليه، والبصر، والنور بين القلب والفؤاد، فالرؤية للفؤاد، وهو قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى}.
والفؤاد: اللحمة الظاهرة، والقلب: اللحمة الباطنة، وإنما هي بضعة واحدة، بعضها مشتمل على بعض، فما ظهر، فهو فؤادٌ، فإذا كان الفؤاد متحرقاً، لم يع شيئاً (من النور، قال الله تعالى: {وأفئدتهم هواءٌ}؛(4/201)
أي: منحرفةٌ لا تعي شيئاً، ولا تعقل)، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أتاكم أهل اليمن ألين قلوباً وأرق أفئدةً)).
فوصف القلوب باللين، والأفئدة بالرقة؛ لأن النور إذا دخل القلب، لين البضعة، وأرطبها؛ لأن الرحمة مع النور، وإذا تمكن النور في القلب في مستقرها، فربا وعظم، رقق الفؤاد.(4/202)
الأصل الثامن والستون والمئة
917 - حدثنا سعيد بن عبد الرحمن العامري القشيري مولى الجارود بن يزيد، قال: حدثني الجارود بن يزيد القشيري، قال: لقيت بهز بن حكيمٍ في الطواف، فحدثني، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترعون عن ذكر الفاجر؟ متى يعرفه الناس؟ اذكروا الفاجر بما فيه تحذره الناس)).(4/203)
قال أبو عبد الله:
فإنما ذكر الفاجر، وهو اسم يلزم الموحد والمشرك، وهو الذي يفجر الحدود، وذلك أن الإسلام كحظيرة حظرها الله على أهله، فلا يتعدون حدود الحظائر، فإذا جاء أحدهم، فثلم الحظيرة بالخروج منها متخطياً إلى ما وراءها، فقد فجرها، فهذا فعل يأتيه الموحد والمشرك، فالمشرك لا حرمة له، ولا متوقى من ذكره.
فمعنى هذا الحديث عندنا على الفاجر الموحد، وذلك أنهم تورعوا عن ذكره؛ لحرمة التوحيد، فبين لهم أن ذلك خيانة للعامة من المسلمين، فقال: ((متى يعرفه الناس؟)).
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحث على الستر، ويقول:(4/204)
((من ستر مسلماً، ستره الله))، ((ومن هتك ستراً لأخيه، هتك الله ستره)). فهابوا هذا الأمر، فكفوا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترعون عن ذكره؟)).
وإنما لزمه هذا الاسم إذا غلب عليه ذلك الفعل، فمن غلب عليه الفجور، فقد أعلن به، وهتك ستره، فإذا لم يبق له ستراً، استحال أن أستره، وأكتم أمره، وفي كتماني أمره، وكفي عنه خيانةٌ.
ألا ترى أنه قال: ((متى تعرفه الناس؟)).(4/205)
وإن كان عنى بهذا المشرك؛ لكان الناس قد عرفوه، فما معنى قوله: ((متى تعرفه الناس؟)).
ثم بين نفع الذكر، فقال: ((اذكروه بما فيه، تحذره الناس)).
فإنما هذا الذكر لمن احتسب بهذا الذكر، وأراد به النصيحة للعامة؛ لئلا يغتر به مسلم، وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه دل.
فأما من قعد يذكر أحداً من هذا الصنف متشفياً لغيظه، أو مستنقماً لنفسه، فهو خارجٌ من هذا الحديث عندنا، حتى يذكره على تلك النية، وعلى ذلك دل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأطلق له.
وهذا حديث تفرد به الجارود بن يزيد، فلم يشركه عامة رواة بهز فيما نعلمه، كما تفرد به أبو بكر الهذلي في حديث له أيضاً، عن بهز، عن أبيه، عن جده: قلت: يا رسول الله! أوصني بوصية قصيرة فألزمها، قال: ((لا تغضب؛ فإن الغضب يفسد الإيمان، كما يفسد الصبر العسل)).
وكما تفرد علي بن إبراهيم بحديث عن بهز، عن أبيه، عن جده: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة، سأل عنها، فإن قيل: صدقة، لم يأكل منها، وإن قيل: هدية تناول.
وكما تفرد معمر، عن بهز، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/206)
حبس رجلاً في تهمة.
ورواه ابن علية، عن بهز أيضاً.
وكما تفرد أبو رجاء الهروي، عن بهز، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب هذه الأحاديث ليماري بها السفهاء، أو يباهي بها؛ ليتحدث بها، لم يرح رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة خمس مئة عامٍ)).
وإنما جئت بهذه الأحاديث؛ لأن بعض الناس أنكروا على الجارود ابن يزيد هذا الحديث.(4/207)
الأصل التاسع والستون والمئة
918 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا يحيى ابن العيزار الرملي، قال: حدثنا يحيى بن صالحٍ الوحاظي، قال: حدثنا أبو إسماعيل -شيخٌ من السكون-، قال: سمعت مالك بن أديٍّ يقول: سمعت النعمان بن بشير يقول على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب، تمور في جوها، فالله الله في إخوانكم من أهل القبور؛ فإن أعمالكم تعرض عليهم)).(4/209)
قال أبو عبد الله:
فالأرواح تجول في البرزخ، فتبصر أحوال الدنيا، والملائكة تتحدث في السماء عن أحوال.
الآدميين، وأرواحٌ تحت العرش، وأرواحٌ طيارة إلى الجنان، وإلى حيث شاءت؛ على أقدارهم من السعي إلى الله أيام الحياة، والعبودة لهم ومحلهم.
919 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا أبو معشرٍ نجيحٌ مولى بني هاشمٍ، عن محمد بن كعبٍ القرظي، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن سلمان.
920 - وحدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، عن عليٍّ بن زيدٍ ويحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، قال: إن أرواح المؤمنين تذهب في برزخٍ من الأرض حيث شاءت بين السماء والأرض، حتى يردها الله إلى أجسادها.(4/210)
فإذا ترددت هذه الأرواح هكذا، علمت بأحوال الأحياء، وإذا ورد عليهم من الأحياء ميتٌ، التقوا، فتحدثوا، وتساءلوا عن الأخبار، فلما كان هذا شأنهم، خرج من تدبير الله أن وكل أيضاً ملائكة بهم في عرض أعمال الأحياء عليهم؛ كإذا عرض عليهم ما يعاقبون به في الدنيا، ويصابون به من أنواع المصائب، من أجل الذنوب، كان عذر الله ظاهراً، مكشوفاً عند الأموات؛ لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله.
921 - حدثنا محمد بن كرامة الكوفي الوراق، قال: حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن عبد الملك، عن ورادٍ، عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شخص أحب إليه العذر من الله عز وجل، ولذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدح من الله، ولذلك وعد الجنة)).(4/211)
922 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيقٍ، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
فكأن الله أحب عندما أمر بأن تعرض أعمال الأحياء على أمواتهم: أن يلقي إلى الأموات عذره، فيما يعامل به أحياءهم من عاجل العقوبات من الأمراض، وأنواع البلاء، والمصائب في الدنيا، فلو كان يبلغهم ذلك من غير أن تعرض عليهم أعمالهم؛ لكان وجدهم بذلك أشد.
923 - حدثني أبي رحمه الله، قال: حدثنا قبيصة، عن(4/212)
سفيان، عن أبان بن أبي عياشٍ، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الموتى، فإن كان خيراً، استبشروا به، وإن كان غير ذلك، قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا)).
924 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله البصري، عن كثير بن هشامٍ، قال: حدثني عيسى بن إبراهيم الهاشمي، قال: حدثني عبد الغفور بن عبد العزيز، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء، وعلى الآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم،(4/213)
وتزداد وجوههم بياضاً، وتشرقةً، فاتقوا الله، ولا تؤذوا أمواتكم)).
فإنما تعرض على الأنبياء والآباء والأمهات للأعذار.
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى به إلى الميزان يوم القيامة؛ ليحضر وزن أمته؛ ليكون عذر الله ظاهراً فيمن يعاقبون.
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يعتذر إلى آدم يوم القيامة بثلاثة معاذير)).
925 - حدثنا بذلك عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ، قال: حدثنا أبو عاصمٍ العباداني، قال: حدثنا الفضل ابن عيسى، عن الحسن، قال: خطبنا أبو هريرة رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعتذر إلى آدم يوم القيامة بثلاثة معاذير: يقول الله -تبارك وتعالى-: يا آدم! لولا أني لعنت الكذابين، وأبغض(4/214)
الكذاب، والحلف، وأعذب عليه، لرحمت اليوم ذريتك أجمعين من شدة ما أعددت لهم من العذاب، ولكن حق القول مني لمن كذب رسلي، وعصى أمري، ولأملأن جهنم منهم أجمعين. ويقول الله: يا آدم! إني لا أدخل أحداً من ذريتك النار، ولا أعذب أحداً منهم بالنار، إلا من قد علمت في سابق علمي: أني لو رددته إلى الدنيا، لعاد إلى شرٍّ مما كان فيه، لم يراجع، ولم يعتب. ويقول الله: يا آدم! قد جعلتك اليوم حكماً بيني وبين ذريتك، قم عند الميزان، فانظر ما يرفع إليك من أعماله، فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرةٍ فله الجنة، حتى تعلم أني لا أدخل النار اليوم منهم إلا ظالماً)).(4/215)
فإذا ستر عليه في دنياه عند الأحياء، ستر عليه عند الأموات، وكما نشر عنه الجميل، وأثنى عليه عند الأحياء، فكذلك هو عند الأموات، وإنما ذلك لمن ولي الله تدبيره، وإذا كان في ولايته، ستره؛ لئلا يرى الخلق من الأحياء والأموات معايب عبد قد ولي الله تدبيره، فأخذه من أيدي المتوكلين به، فيكون للأموات تحير في ذلك، ويقولون: هذا عبد ولي الله تدبيره، فهكذا خرج له من تدبير الله أن يعمل المساوئ والذنوب، فيستر عليه.
926 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي، عن محمد بن مسلمٍ، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عبيد بن سعدٍ، قال: خرج أبو أيوب الأنصاري غازياً في سبيل الله إلى أرض الروم، فقص قاصٌّ، فقال: ليس أحدٌ في الدنيا من بني آدم يعمل عملاً أول النهار إلا عرض على معارفه من أهل الآخرة في آخر النهار، ولا عمل عملاً في آخر النهار إلا عرض على معارفه من(4/216)
أول النهار من الغد.
فقال أبو أيوب: أيها القائل! انظر ما تقول، قال له: والله! إن ذاك كذلك، قال أبو أيوب: اللهم لا تفضحني عند سعد بن عبادة، ولا عند عبادة بن الصامت بما عملت بعدها، فقال القائل: والله الذي لا إله إلا هو! ما كتب الله لعبد ولايته إلا ستر عورته، وأثنى عليه بأحسن عمله.
قال له قائل: وما ولاية التدبير؟.
قال: إن الله تعالى شرع السبيل، وهدى القلوب، ورزق العقول، وأكد الحجة بالرسل، وبما جاؤوا به من البيان، وأيد بالملائكة، يهدون، ويسددون، وقيل لهم: سيروا إلى الله سيراً مستقيماً في هذا الصراط، فإن عارضتكم نفوسكم بخلاف ما أمر الله، فجاهدوها، وسلوه المعونة.
فهذا تدبيره الذي وضعه للجميع، فمن صدق الله في مجاهدة نفسه، حتى بلغ أقصى الغاية ومنتهاها، لم يقدر على أكثر من أن يمنع قلبه من الفكر، كما منع الجوارح من العمل، فهذا غاية جهاد النفس، وتصحيح الباطن والظاهر، ونهاية الصدق، فبذلنا الوسع، والطبع باقٍ على تركيبه من الشهوة، واللذة، والغضب، والرغبة، والرهبة، وانقطع هاهنا وتحير هذه(4/217)
الأشياء عنها، حدثت المعاصي إلى القلوب، ومن القلوب إلى الأركان، فانقطع هاهنا وتحير، فكما لا يقدر أن يصير سواد الشعر بياضاً، كذلك لا يقدر على تغيير الطبع، فيجأر إلى الله، ويشتد عليه وجده لذلك لكدورة الأخلاق.
فإن هذه الخصال تكدر عليه إيمانه، ولا يصفو، فعندها يرحمه الله بعد انقطاع أسبابه وتغوثه بالله، صارخاً، مضطراً، وقد قال: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}، وقال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
فيأخذه من تدبيره الذي وضعه لعباده، من مجاهدة النفس إلى تدبير نفسه، وهو القادر على ذلك، فيوكل به الحق، حتى يسير به إليه إلى منازل القربة، فكلما سار في القربة، زيد مركباً من النور ليسير به إلى محله من القربة، وكل نور يزاد يموت من طبعه بقدر ذلك؛ لأنه يزداد بكل نورٍ قربة، ويحظى إلى محله، ويزداد بالله علماً، ومنه خشية، فالحق يربيه بهذه الأنوار، حتى إذا انتهت التربية، وتغير الطبع عن النفسية إلى خلق الإيمان، جذب جذبة إلى محل القربة، وانكشف له الغطاء عن جلال الله وعظمته، ما يبهت فيه، وإذا الهوى قد طاوعه، والنفس قد ماتت، فحيي قلبه بالله، فهو الصديق، فهذا، وإن كان صديقاً، وهذه صفته، فلن يخلو من ذنب قد كان في سابق علم الله، ثم جرى القلم بذلك في اللوح المحفوظ، فهو يعلمه لا محالة، ولكنه في ستره عند الأحياء، وفي ستره عند الأموات.(4/218)
الأصل السبعون والمئة
927 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا الوليد بن محمدٍ الموقري، قال: حدثنا الزهري، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المريض إذا برأ وصح من مرضه، كمثل البردة تقع من السماء في صفائها ولونها)).
فالمرض للمؤمن تمحيص، والآثام ذات دنس، فالمؤمن يتلوث في شهواته، فيدنس، ويوسخ، وتكدر الدنس على الأفعال، والوسخ على الأركان، والكدر على الطلاوة، فإذا رحمه، وأراد به خيراً أسقمه حتى(4/219)
يطهره ويصفيه؛ بمنزلة الفضة تلقى في كيرها، فينفخ عليها، حتى يزيل خبثها، وتصفوا فضتها، فتصلح للضرب، والسكة، فشبه بعد البرء بالبردة صفاء وطيباً.
وهو قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير}.
فيأخذ بالقليل حتى يطهر، ويعفو عن الكثير حتى يصفو، فمن علائم العفو نزول البلاء، فيمحص بما نزل، ويعفو عما بقي.
فلذلك قال: ((مثله مثل البردة))؛ أي: لم يبق عليه شيء، وهذا موافق لما جاءنا عن علي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من ابتلي بذنبٍ، فعوقب عليه، فالله أعدل من أن يثني عقوبته، وكما عفا عنه فلم يعاقب، فالله أكرم من أن يعود في عفوه)).
قد كتبناه في بابه، والله تعالى أعلم.(4/220)
الأصل الحادي والسبعون والمئة
928 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا الموقري، قال: حدثنا الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى كسرةً ملقاةً، فمشى إليها، فمسحها، وقال: ((يا عائشة! أحسني جوار نعم الله؛ فإنها قلما نفرت عن أهل بيتٍ، فكادت ترجع إليهم)).(4/221)
فحسن المجاورة لنعم الله من تعظيمها، وتعظيمها من شكرها، والرمي من الاستخفاف بها، وذلك من الكفران.
والكفور: ممقوتٌ مسلوبٌ.
وبلغنا: أن امرأة أنجت صبياً لها بكسرة خبز، ووضعتها في جحر، فابتلي أهل ذلك الزمان بقحط، فاضطرت المرأة من شدة الجوع إلى أن طلبت تلك الكسرة، حتى وجدتها، فأكلتها.
فارتباط النعم بشكرها، وزوالها في كفرانها، ومن عظمها، فقد ابتدأ في شكرها، ومن صغرها، واستخف، فقد تعرض لزوالها، ففيها رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خصالاً غير واحدة، منها: الاستخفاف بالنعمة.
ومنها: الفساد.
ومنها: الإسراف، {والله لا يحب الفساد}، و {لا يصلح عمل(4/222)
المفسدين}، و {لا يحب المسرفين}، و {لا يحب كل خوانٍ كفورٍ}.(4/223)
الأصل الثاني والسبعون والمئة
929 - حدثنا موسى بن عبد الله بن سعيدٍ الأزدي، قال: حدثنا محمد بن زيادٍ الكلبي، قال: حدثنا بشر ابن الحسين الهلالي، عن الزبير بن عديٍّ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، ثم قال: ((هل تدرون ما يقول ربكم؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن ربكم يقول: هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة)).(4/225)
نطق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله -تعالى- يذكر عن وهب بن منبه، كأنه يقول:
هل جزاء من أحسنت إليه؛ بأن هديته للتوحيد، إلا أن أسكنه داري في جواري؟.
وهل جزاء من قربته بالمعرفة قلباً حتى يعرفني، إلا أن أقربه في المسكن نفساً حتى ينظر إلي؟.
وهل جزاء من أكرمته بمعرفتي، إلا أن أغفر له ذنوبه، وأتجاوز له عن سيئاته، وأصفح عنه تكرماً؛ كما تكرمت وجدت عليه بتوحيدي؟.
وهل جزاء من ابتدأته بهذه النعمة العظيمة، ومننت بها عليه إلا أن أحفظها عليه، حتى أختم لها بها، وأتمم عليه، وله كرامتي؟.(4/226)
الأصل الثالث والسبعون والمئة
930 - حدثنا موسى بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن زيادٍ، قال: حدثنا بشر بن الحسين الهلالي، عن الزبير بن عديٍّ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يدي رجلٍ من أمتي، ثم قال: الحمد لله، لكان الحمد لله أفضل من ذلك)).
قال أبو عبد الله:
معناه عندنا: أنه قد أعطي الدنيا، ثم أعطي على إثرها هذه الكلمة،(4/227)
حتى نطق بها؛ لكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها؛ لأن الدنيا فانية، والكلمة باقية، وهي من الباقيات الصالحات، وقال هو: {خيرٌ عند ربك ثواباً وخيراً أملاً}.
وقيل في بعض الروايات: ((لكان ما أعطي أكثر مما أخذ)).
فصير الكلمة إعطاءً من العبد، والدنيا أخذاً من الله، وهذا في التدبير، كذا يجري في الكلام: أن هذه الكلمة من العبد، والدنيا أخذاً من الله، فهذا في ظاهر الأمر، وكلاهما من الله في الأصل، الدنيا منه، والكلمة منه، أعطاه الدنيا، فأغناه بها، وأعطاه الكلمة، فشرفه بها في الآخرة، وخفف عنه أثقالها؛ لينعم بها في الدنيا.(4/228)
الأصل الرابع والسبعون والمئة
931 - حدثنا موسى بن عبد الله، قال: حدثنا محمد ابن زيادٍ، عن بشر بن حسينٍ، عن الزبير بن عديٍّ، عن أنس ابن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما محق الإسلام محق البخل شيءٌ قط)).(4/229)
932 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ لسانه، ستر الله عورته، ومن كف غضبه، كف الله عنه عذابه، ومن اعتذر إلى الله في الدنيا، قبل الله معذرته)).
فالإسلام بني أسه على السماحة والجود؛ لأن الإسلام: هو تسليم النفس والمال، ومن بخل بالمال، كان بالنفس أبخل، ومن جاد بالنفس، كان بالمال أجود، والبخل يمحق الإسلام ويبطله، ويدرس الإيمان ويلبسه؛ لأن البخل: سوء الظن بالله، وفيه: منع حقوق الله، وعليه: اعتماد دون الله.
وأما قوله: ((من حفظ لسانه، ستر الله عورته)): فإنما يحفظ من أعراض المسلمين كيلا يشتمهم، ولا يهتك أستارهم، فعاجل ثوابه أن ستر الله عورته.
وقوله: ((من كف غضبه، كف الله عنه عذابه)): فعذابه النار، وحشوها(4/230)
غضبه، وإنما تلظت وتسعرت لغضب الله، وإذا كف غضبه، فقد تواضع لله، فكف عنه غضبه، وإذا كف غضبه، فمن ورائه الرضا عن الله.
وقوله:
((ومن اعتذر إلى الله في الدنيا، قبل الله معذرته)).
فالكريم يقبل العذر إذا اعتذر إليه، صادقاً أو كاذباً؛ لأن اعتذاره ندمٌ وتوبةٌ، وإقبالٌ إليه، فيأبى الماجد الكريم أن يخيبه عن معذرته، وإنما أمل بها الستر وإسقاط الحشمة، فيعامله ربه على أمله لديه، وطمعه، وحسن ظنه به.
فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما من أحدٍ يعتذر إلى أخيه، فلم يقبل عذره، إلا كان عليه كخطيئة صاحب مكسٍ))، وهو العشار.(4/231)
وروي عن الحسن: أنه قال: من لم يقبل العذر ممن يتنصل إليه صادقاً أو كاذباً، لم يرد الحوض إلا متضيحاً.
لأن التنصل: هو خروج إليه من الذنب، واستسلام له، فليس ترك قبوله من فعل الكرام.(4/232)
الأصل الخامس والسبعون والمئة
933 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد ابن المتوكل، عن البختري بن عبيد بن سلمان الأغر، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا عظمت أمتي الدنيا، نزعت منها هيبة الإسلام، وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرمت بركة الوحي، وإذا تسابت أمتي، سقطت من عين الله)).(4/233)
فمن شرط الإسلام تسليم النفس وبذلها لله عبودة، فإنما عظم ما صغره الله، وحقرها، بأنها أخذت بقلبه، فسبته، وإذا وقع القلب في سبي الدنيا، ذهبت العبودة، فلم يقدر على بذل النفس لله، فكان إسلامه مدخولاً، وإذا فسد الباطن، ذهبت الهيبة؛ لأن الهيبة إنما تكون لمن هاب الله، فإذا منحت نفس على فساد الباطن، فهذا من أجل أنه لا يهابه، ولو هابه؛ لم يستقر قراراً حتى يصلح باطنه، وإنما يهابه من صلحت سريرته، هذا علامة الهيبة، وهو قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تمام البر؟.
934 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن ابن أنعم، عن عتبة بن حميدٍ، عن عبادة بن نسيٍّ، عن عبد الرحمن بن غنمٍ، قال: سمعت أبا عامرٍ الأشعري يقول: قلت: يا رسول الله! ما تمام البر؟ قال: ((تعمل في السر عمل العلانية)).(4/234)
فمن تعظيم الدنيا ذراعة النفس إلى محبباتها ودواهيها، وإذا عظمتها النفس، آثرها على حقوق الله، ولا يجتمع تعظيم الحقوق، وتعظيم الدنيا في قلب واحد، فكأن هذا العبد لما أسلم نفسه ووجهه إلى الله، وبذل نفسه لله عبودة، فصار من رجال الله، وعبيده، وخاصته، فعلته مهابةٌ، وظهر سيماء العبودة عليه، كما قد يرى العبيد عبيد السوقة وعبيد الغلة لا قدر لهم، فإذا صار عبداً للملك، ظهر عليه من بهجة ملكه، وغناه، وجدت له هيبة؛ لأنه عبد للأمير، فعبيد الله صدقاً، عليهم من الله طلاوة، وحلاوة، وملاحة، ومهابة؛ لبذلهم أنفسهم إسلاماً، فإذا غيروا وبدلوا، فعظموا الدنيا بخراب قلوبهم، فقد ارتجعوا في نفوسهم، فذهبت الهيبة؛ لأنه ليس الآن من عبيد الأمير، إنما هو عبد نفسه، وهواه، ودنياه، وشهواته، وشيطانه.
وأما قوله: ((إذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرمت بركة الوحي)).
فإن في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر خذلاناً للحق، وجفوة للدين، وفي خذلان الحق ذهاب البصيرة، وفي جفاء الدين فقد النور، فيصير القلب محجوباً، فيحرم بركة الوحي، وحرمان بركة الوحي أن يقرأه، فلا تعي أذنه منه شيئاً إلا ذرور الكلام، قد حرم فهمه، وهو من(4/235)
أعلم الناس باللغة، وأبصرهم بتفسيره، وقد عمي عن لطائفه، ومعانيه، ووعده، ووعيده، وأمثاله، قد خلق على قلبه؛ لأنه كلما وقع الكلام من لسانه في أذنه، فصار إلى قلبٍ صدره مظلمٌ، فكأنه غرق في لجةٍ، إنما هو كلامٌ يدخل سمعه، فإذا صار إلى الصدر، صار في عمى.
والذي أشرق صدره بالنور، فعلا قلبه ينابيع الفهم، فيلتذ باللطائف، ويفرح بالوعد، ويتحذر الوعيد، وينتذر منه، ويرغب، ويرهب، ويعتبر، ويتعظ، فهذا بركة الوحي.
وأما قوله: ((إذا تسابت أمتي، سقطت من عين الله)).
فالسباب بدؤه: الكبر، والاستحقار للمسلمين، والحسد، والبغي، والتنافس في أحوال الدنيا، فبهذا يسقط من عين الله، والساقط من عينه: قد خرج من كلاءته، ورعايته، فليستعد للخذلان في نوائب الدين والدنيا، فإذا زالت عنه رعايته، ذهبت العصمة، فله في كل نائبة ورطة حتى تؤديه إلى الورطة الكبرى: سلب الدين، والانتكاص على العقبين، ومن سقط من عينه، لم يبال في أي واد هلك، وأي شيطان سباه، فذهب به هذا في السباب، فكيف فيما هو أعظم منه؟(4/236)
الأصل السادس والسبعون والمئة
935 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الله ابن أبي أمية الفزاري، عن أبي علي بن الرماح عمر بن ميمونٍ، قال: حدثني مقاتل بن حيان، عن الأسود بن هلالٍ، عن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في دبر الصلاة بعد ما سلم هؤلاء الكلمات، كتبها ملكٌ في رقٍّ، فختم بخاتمٍ، ثم رفعها إلى يوم القيامة، فإذا بعث الله العبد من قبره، جاء الملك ومعه الكتاب ينادي: أين أهل العهود؟ حتى يدفع إليه، والكلمات أن يقول: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إني أعهد إليك (في هذه الحياة الدنيا أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً(4/237)
عبدك ورسولك، فلا تكلني إلى نفسي)، فإنك إن تكلني إلى نفسي، تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل رحمتك عهداً لي عندك تؤديه إليّ يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد)).
936 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا أبو إسماعيل المؤدب إبراهيم بن سليمان، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن طاوسٍ: أنه أمر بهذه الكلمات، فكتبت في كفنه.
فصاحب العهد يتخلى بهذا العهد الذي عهد إلى ربه من الأسباب، فيكون متعلقه برحمته، فلا يثق إلا بها، ولا يلحظ إلى الأعمال لحظ النجاة إلا بها، فجعل هذا العهد في الدنيا كالوديعة عند ربه، فوكل بها ملكاً؛(4/238)
ليقبلها منه، ويسلمها إليه عند منشره، حتى يسير إلى الله في محشره، وموقفه، والعهد بها: أنه لم يثق إلا برحمته، وأنه أمله ورجاؤه، فمن كرم ربنا: أن لا يقطع رجاءه، ولا يخيب أمله.
وقال الله -جل ذكره- في تنزيله يومئذٍ: {لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً}؛ أي: في الدنيا.
واتخاذ العهد من صدق قول: لا إله إلا الله، والوفاء بها؛ لأن الوفاء بها أن لا يعتمد قلبك شيئاً سواه في أمر دنياه ولا أخراه، فيكون هو كافيك وحسبك في الدارين، وعندها يصفو قولك: حسبي الله، ويخلص.(4/239)
الأصل السابع والسبعون والمئة
937 - حدثنا عمر، قال: حدثنا نعيم بن حمادٍ، عن عبد المؤمن بن خالدٍ الحنفي، قال: حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال عشر كلماتٍ عند دبر كل صلاة غداةٍ، وجد الله عندهن مكفيًّا، مجزيًّا، خمسٌ للدنيا، وخمسٌ للآخرة: حسبي الله لديني، حسبي الله لدنياي، حسبي الله لما أهمني، حسبي الله لمن بغى علي، حسبي الله لمن حسدني، حسبي الله لمن كادني بسوءٍ، حسبي الله عند الموت، حسبي الله عند المساءلة في القبر، حسبي الله عند الميزان، حسبي الله عند الصراط، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب)).(4/241)
فهذه مواطن نوائب العبد في دنياه وفي آخرته، فقد جعل له في كل موطنٍ سبباً وعدةً يقطع به تلك النائبة، فإذا أعرض عن السبب والعدة، وضرب عنه صفحاً، واغتنى بالله كافياً وحسيباً، كفاه الله، وكان عند ظنه به.
فعدته في الدين: العهد الذي أنزل، وهو الحبل الذي أمره بالاعتصام به.
وعدته فيما أهمه: الحبل الذي وضعه لكل حيلة.
وعدته في البغي: الاحتراز والتحصن والأخذ بالحزم.
وعدته في الحسد: التواضع والمقاربة للحاسد.
وعدته في المكايدة له بالسوء: سد الأبواب التي يجد السبيل منها إليه.
وعدته في الموت: العمل الصالح.
وعدته في المساءلة في القبر: تصحيح الأمر للجواب.
وعدته عند الميزان: كثرة الأعمال لثقل الوزن.
وعدته عند الصراط: النور للجواز.
فإذا لها العبد عن هذه العدد، وكان الله حسبه، قد انشرح بها صدره، ولم يشخص أمله إلى شيءٍ سواه، ولا لحظ إلى خلق، ولا فعل، وقال: حسبي الله عند كل موطنٍ من هذه المواطن، فهذا عبد قد تعلق به، ومن(4/242)
تعلق به، لم يخيبه، وكان له في ذلك المواطن حسيباً؛ لظنه به.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني)).
فمن قال في هذه المواطن: حسبي الله، كان الله له أكبر من تلك العدد والأسباب التي وضعها له.
ألا ترى أن إبراهيم -صلوات الله عليه- لما وضع في المنجنيق من الجبل ليرمى به في النار، جأرت السماوات، والأرضون، والملائكة، والخلق، والخليقة بكاءً وعويلاً، فقالت: يا رب! عبدك يحرق بالنار، فأذن الله لهم في نصرته إن استغاث بهم ودعاهم إلى نصرته، ورمي به، فهو في الهوي إذ عارضه جبريل عليه السلام بلوى من الله تعالى، فقال: يا إبراهيم! هل من حاجة؟ قال: أما إليك، فلا، حسبي الله، فقال الله تعالى: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم}.
فولي الله نصرته، إذ لم يفزع إلى أحد سواه، فلم يكله إلى أحدٍ من خلقه، فهذا صدق قوله: حسبي الله، فإذا لم يكن للعبد في قلبه من حقيقة ما كان لإبراهيم -صلوات الله عليه-، فإن لكل مقالةٍ حرمة، والله عز وجل لا يضيع عبده، فإذا ردد هذه الكلمات، نفعته في هذه المواطن؛ بأن(4/243)
كن شفعاء إلى الله تعالى، وكان الله بكل خير إلى عبده أسرع، وإذا تكلم بهذه الكلمات على يقظة، وانشراح صدرٍ، وجد الله في هذه المواطن قد كفاه وأجزأه.
ولذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا قال العبد: حسبي الله سبع مراتٍ، قال الله -تبارك اسمه-: صدق عبدي، لأكفينه صادقاً أو كاذباً)).
معناه عندنا في قوله: ((صادقاً أو كاذباً)): في الوفاء به على الحقيقة، فأوجب له بقوله: ((سبع مراتٍ)) أن وفى له، وكان حسبه، كما كان للصادقين من الوفاء بذلك.(4/244)
الأصل الثامن والسبعون والمئة
938 - حدثنا إبراهيم بن زيدٍ الجرجاني، قال: حدثنا هشام بن عمارٍ الدمشقي، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: حدثنا زهير بن محمدٍ، عن محمد بن المنكدر، عن جابر ابن عبد الله، قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الرحمن. علم القرآن.} حتى ختمها، فقال: ((ما لي أراكم سكوتاً؟! الجن كانوا أحسن منكم ردًّا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرةٍ: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا: ولا بشيءٍ من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد)).(4/245)
فحسن الجواب من لطافة الفهم، وأجساد الجن من مارج من نار، والآدميين من تراب، فجوهرهم أرق، وجوهر الآدمي أغلظ، ولم يشغلهم الشهوات شغل الآدمي، فرقة جوهرهم عونٌ لهم على درك الشيء، وهذه سورة عدد الله فيها النعم، وخاطب بتعديده الثقلين كليهما الجن والإنس، فقال في ذكر كل نعمة: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}.
فكأن هذا القول سؤالٌ يحتاج إلى رد الجواب فيه، فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على مؤمني الجن، حيث تلا عليهم هذه السورة بحسن ردهم الجواب.
وهذا من زينة الخطاب أن لا يترك الخطاب الذي له جواب مهملاً، فيكون المستمع كهيئة الغافل، أو كهيئة من لا يستمع إلا دعاء ونداء من الناعق به، {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون}، فهذه هيئة سيئة.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتوا على هذه الآية: {أليس ذلك بقادرٍ على أن يحيي الموتى}، قالوا: اللهم بلى.
وإذا أتوا على آية: {أليس الله بأحكم الحاكمين}، قالوا: اللهم بلى.
فهذه أشياء يحسن الجواب فيها، والصلة للكلام، وكانوا إذا مروا بذكر الجنة، رغبوا إلى الله فيها، وإذا مروا بذكر النار، استعاذوا بالله(4/246)
منها، وإذا مروا بذكر التنزيه، نزهوه، وإذا مروا بذكر وعيده، رددوه، وإذا مروا بذكر لطائفه، تلذذوا به.
فاقتضاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت قراءته عليهم ما وجده من الجن، واستحسنه منهم، وقد كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه من يشغله ذرو كلام الله عن النظر في معناه؛ إعظاماً لجلال الله، ودهشاً في ذكره، ومنهم من يتعلق قلبه بأول آية، فيشغله أولها عن ذكر ما بعدها.
روي لنا عن علي بن الفضيل بن عياض: أنه صلى خلف إمام قرأ سورة الرحمن، فلما انفتل، قيل له: يا علي! ألم تسمع إلى ما قرأ الإمام اليوم من ذكر نعيم الجنان، وما أعد الله للمؤمنين؟ فقال: شغلني ما قبلها عن ذكر الجنان؛ يعني: ذكر النار.
وسلطان كلام الله على القلوب على قدر ما فيها من العلم بالله، والخشية له، والحظ من القربة، وإنما ينزل من القلب كلام كل واحد على قدر منزلته عنده، فإذا كان عظيم المنزلة، عظم قوله وأمره، وإن لم يكن كذلك؛ استخف به.
ومما يحقق ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يعلم ما منزلته عند الله، فلينظر ما لله عنده من المنزلة؛ فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من نفسه)).(4/247)
الأصل التاسع والسبعون والمئة
939 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني، قال: حدثنا أبو عامرٍ العقدي، قال: حدثنا كثير بن زيدٍ، عن إسحاق ابن عبد الله بن جعفرٍ، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السماوات السبع وربع العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين))، قالوا: يا رسول الله! فكيف هي للحي؟ قال: ((أجود، وأجود)).
فكان هذا الكلام عند أهل البيت معلوماً، ويسمونه: كلمات(4/249)
الفرج، فيتكلمون بها في النوائب والشدائد، متعالم عندهم غياثه، والفرج به، وفيه زيادة: ((لا إله إلا الله العلي العظيم)).
940 - حدثنا عمر بن يحيى بن نافعٍ الأبلي، قال: حدثنا حكيم بن حزامٍ، عن العلاء بن كثيرٍ، عن مكحولٍ: كلمة الفرج: ((لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين)).
941 - حدثنا أحمد بن شدادٍ، قال: حدثنا علي بن قادمٍ الكوفي، قال: حدثنا علي بن صالحٍ، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أعلمك كلماتٍ إذا أنت قلتهن، غفرت لك ذنوبك، مع أنه مغفورٌ لك: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله(4/250)
رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين)).
942 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن يونس، وعبيد بن الصباح الكوفي، قالا: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عليٍّ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعليٍّ، فذكر مثله.(4/251)
943 - حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأودي، قال: حدثنا شريح بن مسلمة التنوخي، ثنا إبراهيم بن يوسف ابن أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أعلمك كلماتٍ إذا أنت قلتهن، وعليك مثل عدد الذر من الخطايا، غفر لك، على أنه مغفورٌ لك؟ تقول: لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين)).
فهذه كلمات جامعة، وحده، ثم وصفه بالعلو والعظمة، ونزهه بهما على كل سوء، وميزه منه، علا عن شبه المخلوقين، وعظم عن درك المفكرين أن تبلغه قرائحهم، ثم وحده ثانية، ثم وصفه بالحلم والكرم، فوسعهم حلماً وكرماً، فغرقهم في نعمه، عاملوه بما لا يحبه، فعاملهم بما يحبون، ثم عفا عنهم، فقال في تنزيله: {وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون}، ثم قال: {ولقد عفا عنكم}.
هكذا معاملته، ثم نزهه بالتسبيح، وختمه بالحمد.(4/252)
الأصل الثمانون والمئة
944 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت على باب الجنة مكتوباً: القرض بثمانية عشر، والصدقة بعشرٍ، (فقلت: يا جبريل! ما بال القرض بثمانية عشر، والصدقة بعشرٍ؟ قال): لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا وهو محتاجٌ، وربما وضعت الصدقة في غنيٍّ)).(4/253)
945 - حدثنا عتبة بن عبد الله بن عتبة الأزدي، قال: حدثنا محمد بن عيسى أبو مالكٍ، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت على باب الجنة مكتوباً: القرض بثمانية عشر، والصدقة عشراً، فقلت: يا جبريل! ما بال القرض أعظم أجراً؟ قال: لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا محتاجاً، وربما وقعت الصدقة في غير أهلها)).
946 - حدثنا محمد بن أبي تميلة المروزي، قال: حدثنا الحسن بن محمدٍ الأعمش، قال: حدثنا بشر بن نميرٍ القشيري، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت مكتوباً على باب الجنة: الصدقة بعشرٍ، والقرض بثمانية عشر، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟(4/254)
قال: إن الصدقة ربما وقعت في يد غنيٍّ، وصاحب القرض لا يأتيك إلا وهو محتاجٌ)).
947 - حدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: حدثنا هشام بن عمارٍ، قال: حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالكٍ، عن أبيه، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة: الصدقة بعشرٍ، والقرض بثمانية عشر، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ قال: الصدقة بعشرٍ، والقرض بثمانية عشر، قال: لأن المتصدق عليه يعطى وعنده، والمستقرض لا يأتيك إلا من حاجةٍ.(4/255)
قال أبو عبد الله:
معناه عندنا: أن المتصدق حسب له الدرهم الواحد بعشرة، فدرهم صدقته، وتسعة زائدة، فصارت له عشرة.
والقرض: ضوعف له فيه، فدرهم قرضه، والتسعة مضاعفة، فهو ثمانية عشر.
والدرهم القرض لم يحسب له؛ لأنه يرجع إليه، فبقي له التضعيف فقط، وهو ثمانية عشر.
والصدقة: لم يرجع إليه الدرهم، فصارت له عشرة بالذي أعطى.(4/256)
الأصل الحادي والثمانون والمئة
948 - حدثنا خالد بن عقبة بن خالدٍ السكوني، قال: حدثنا حسينٌ الجعفي، عن زائدة، عن عاصمٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه: أنه قام يخطب، فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أول كقيامي فيكم، ثم بكى، ثم أعادها، ثم بكى، ثم أعادها، ثم بكى، فقال: ((إن الناس لم يعطوا شيئاً أفضل من العفو والعافية، فسلوهما الله)).
فالعفو والعافية: مشتق أحدهما من الآخر، إلا أن العفو يستعمل في نوائب الآخرة، والعافية تستعمل في نوائب الدنيا، وقد يقال في نوائب(4/257)
الدنيا: عفا عنه، فلم يقبله به، وفي نوائب الآخرة: عافاه، فلم يعاقبه، إلا أن الغالب في اللغة يستعمل لفظة العفو في نوائب الآخرة.
وقد جاءت رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر العفو والعافية في الدنيا والآخرة؛ ليعلم أن أحدهما، وهو العفو: في الآخرة، والعافية: في الدنيا، وكلاهما يرجع إلى شيء واحد.
فيقال في موضع العقوبة: عفا عنه، وفي موضع البلاء: عافاه، وأصله التفضل عليه؛ أن يتفضل على عبده، فلا يعاقبه، وأن يتفضل على عبده، فلا يبتليه.
والعفو: الدرس أيضاً، وهو أن يدرس آثار الذنوب والبلاء عن جوارحه وشخصه، فإن لكل نعمة تبعة، ولكل ذنب نقمة في الدنيا والآخرة، فإذا درست عنه التبعات والنقمات، تخلص هذا في العفو.
وأما العافية، فلكل نفس عند مدبر الأمور تدبيره، وإذا تنفس، أخرج نفساً، واستمد من الجوارح مثله، وفيه السلامة والآفة، فإن نزعت الآفة منه، سلمت لك النفس، فعوفيت من البلاء، وإذا طعمت أو شربت، فمثل ذلك أيضاً.
واستقامت الطبائع لهما، وبغير ذلك من الأحوال.
فالعافية: أن تدرس عنك تلك الحوادث التي يحدث منها البلاء.(4/258)
الأصل الثاني والثمانون والمئة
949 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا كثير بن عبيدٍ الحمصي، قال: حدثنا بقية، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يحب الملحين في الدعاء)).
ففي الإلحاح ملقٌ، والمؤمن حبيب الله، ولحبه رزقه معرفته؛ لأنها أعز شيء في خزائنه، فكلما كثر سؤال الحبيب، فهو أحب إلى محبه، والله يحب صوته.(4/259)
فروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أن الله -تبارك وتعالى- يقول: يا جبريل! قد قضيت حاجته، وأجبت دعوته، ولكن احبسها عنه؛ فإني أحب صوته))
950 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا قاسمٌ العمري، عن محمد بن المنكدر، عن رجلٍ من الأنصار، قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وروي في الخبر: ((أن الله تعالى يقول: أنزل البلاء أستخرج به الدعاء)).
951 - حدثنا بذلك عبد الله بن سعيدٍ الأشج، قال: حدثنا أبو يحيى التيمي، عن ليثٍ، عن محمدٍ، عن وهب بن منبهٍ، قال: نجد فيما أنزل الله في بعض الكتب: أن الله تعالى يقول: ((أنزل البلاء أستخرج به الدعاء)).(4/260)
952 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا دحيمٌ الدمشقي -واسمه عبد الرحمن بن إبراهيم-، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: ((قال داود -صلوات الله عليه-: سبحان مستخرج الدعاء بالبلاء، سبحان مستخرج الشكر بالرخاء)).
وروي عن كعب، قال: ((قال الله تعالى لموسى عليه السلام: يا موسى! اطلب إلي العلف والدقة لشاتك، ولا تستحي أن تسألني صغيراً، ولا تخف مني بخلاً أن تسألني عظيماً، يا موسى! أما تعلم أني خلقت الخردلة فما فوقها، وأني لم أخلق شيئاً إلا وقد علمت أن الخلق(4/261)
يحتاجون إليها؟ فمن سألني مسألةً، وهو يعلم أني قادرٌ، أعطي وأمنع، أعطيته مسألته مع المغفرة، فإن حمدني حين أعطيه، وحين أمنعه، أسكنته دار الحمادين، وأيما عبدٍ لم يسألني مسألةً، ثم أعطيته، كان أشد عليه عند الحساب، ثم إذا أعطيته ولم يشكرني، عذبته عند الحساب)).
953 - حدثنا بذلك عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني، قال: حدثنا سيارٌ، قال: حدثنا موسى بن سعيدٍ الراسبي، قال: حدثنا هلالٌ أبو جبلة، عن أبي عبد السلام، عن أبيه، عن كعب.
فالدعاء اعتراف العبد بأن ذلك منه، فإذا أعطاه، كان قد قدم الشكر؛ لأن الشكر إنما هو رؤية العبد من ربه من ذلك العطاء، فالحمد لله قولاً، والحفظ للجوارح له طاعة، فإذا لم يسأل، فأعطي، اقتضى الشكر، فحوسب لاقتضائه، فإذا لم يوجد الشكر، جاء العذاب.
وإنما صار الملح محبوباً؛ لأنه لا ينقطع رجاؤه، فهو يسأل فلا يرى إجابة، ثم يسأل فلا يرى إجابة، فلا يزال يلح، ولا ينقطع رجاؤه،(4/262)
ولا يدخله اليأس، فذلك لعلمه بالله، وصحة قلبه، وصدق عبودته، واستقامة وجهه، فمن صدق الله في دعوته، استعمل اللسان، وانتظر بالقلب مشيئته، ولا يضيق، ولا ييئس؛ لأن قلبه صار معلقاً بمشيئته، فانتظاره المشيئة من أفضل ما تقدم به على ربه، وهو صفو العبودة، فاستعماله اللسان عبادة؛ لأن في السؤال اعترافاً بأنها له، وفي انتظار مشيئته لقضائه عبادةٌ، فهو بين عبادتين سريتين وجهريتين، فاضلتين، وأفضل الدعاء ما داوم عليه.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ليدع أحدكم، ولا يقولن أحدكم: قد سألت، فلم يستجب لي)).
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن العبد المؤمن يستجاب له))، فالإجابة: ((إذا قال العبد: يا رب! قال الله عز وجل: لبيك))؛ لأنه إنما ناداه بأنه لا رب له غيره، فصدق الكريم قوله في ذلك، فأجابه.
((فإذا سأله حاجةً، فهو منه على إحدى ثلاثٍ: إما أن يعجل له حاجته، وإما أن يصرف عنه بمسألته بدل حاجته شرًّا، وإما أن يدخر له في آخرته ما هو خيرٌ له مما سأل)).(4/263)
فلم تسقط دعوته على حالٍ.
قال الله عز وجل لموسى: {قد أجيبت دعوتكما}.
954 - حدثنا عمر، قال: حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، عن أبي عوانة، عن الأعمش، عن مجاهدٍ، قال: بعد أربعين سنةً.
قال أبو عبد الله: وقد كان كثير من السلف الصالح يمتنعون من الدعاء، يخافون من خيانة نفوسهم، لا يحبون أن يراهم الله في طلب الحاجة كأهل الغفلة، يطلبونها بنهمة وشهوة.
وأما أهل اليقين، فإنهم يدعون، ويلحون، وهم في ذلك ساكنون، مطمئنون، ينتظرون مشيئته، فإن أجاب، قبلوا، وإن تأخر، صبروا، وإن منع، رضوا، وأحسنوا الظن، كما قال أبو حبيب البدوي.
955 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد الله الأنطاكي، قال: حدثني أبو الفيض، قال: قال سفيان الثوري: أتيت أبا حبيبٍ البدوي أسلم عليه، وما كنت رأيته قط،(4/264)
فقال: أنت سفيان الثوري الذي يقال؟ قلت: نعم، نسأل الله بركة ما يقال، ثم قال لي: يا سفيان! ما رأينا خيراً قط إلا من ربنا، قلت: أجل، قال: فما لنا نكره لقاء من لا نرى خيراً قط إلا منه؟! ثم قال لي: يا سفيان! منع الله إياك عطاءٌ منه لك، وذلك أنه لم يمنعك من بخلٍ، ولا عدمٍ، وإنما منعه نظراً واختياراً، يا سفيان! إن فيك لأنساً، ومعك شغلاً، سلامٌ عليك، ثم أقبل على غنيمته، وتركني.
فمن شأن أهل الجود: الإعطاء، فذاك أحب إليهم من الأخذ للسؤال، ومعروف في أهل السماحة والجود: أنه يلتذ بجوده وعطائه أكثر مما يلتذ الآخذ بالنوال؛ لأن الأخذ خلق الفقراء، والإعطاء خلق الأغنياء، وهو خلق أهل الجنان، وهو خلق الله الأعظم.
956 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا محمد ابن يزيد بن خنيسٍ، قال: كان من دعاء سفيان الثوري: يا من يحب أن يسأل، ويغضب على من لا يسأله، ويا من(4/265)
أحب عباده إليه من سأله، فأكثر سؤاله، وليس أحدٌ كذلك غيرك يا كريم، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، ولم يطلب إليه، وليس أحدٌ كذلك غيرك يا كريم، ويا من أحب عباده إليه من سأله العظيم، ولم يعظم عليك -وعزتك- عظيمٌ يا عظيم.(4/266)
الأصل الثالث والثمانون والمئة
957 - حدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: حدثنا المسيب بن واضحٍ السلمي، قال: حدثنا ابن المبارك، عن معمرٍ، عن سماك بن الفضل، عن وهب بن منبهٍ، عن عبد الله بن عمرٍو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ القرآن في أربعين ليلةً، فاستزاده حتى رجع إلى سبعٍ.
فالأربعون: مدة الضعفاء، وأولي الأشغال، ينقسم الجميع على الأربعين، فيكون في كل يوم مئة وخمسون آية، وزيادة آيات يسيرة، وفي(4/267)
السنة يبلغ ختمه تسع مرات.
ومدة الأربعين، مرددة في أشياء كثيرة، من ذلك:
أن الإنسان خلق لأربعين نطفةً، ولأربعين علقةً، ولأربعين مضغةً، ولأربعين سنة يتم شبابه، ثم يدبر، وبين النفختين أربعون، ومكث آدم -صلوات الله عليه- في طينته أربعين، ومواعدة موسى بطور سيناء أربعون، وسلطان الدجال في الأرض أربعون، وعدة النفساء إذا رأت الدم أربعون، ووقت إقامة الفطرة في الجسد أربعون، وتمام الرباط أربعون، وبلوغ الأشد واجتماع القوة أربعون.
وأما توقيت السبع: فإنه للأقوياء الذين يقوون على سهر الليل، واحترفوا العبادة، وتفرغوا من أشغال النفس والدنيا.
والمدة الأولى للعامة ييسر عليهم ذلك، وصارت مداومة، وأحب الأعمال إلى الله تعالى ما ديم عليه.
958 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا محمد ابن إبراهيم بن الخطاب الليثي، قال: حدثني أبي، عن إسحاق بن خليفة، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: قال رجلٌ: يا رسول الله! من قرأ القرآن في سبعٍ؟ قال: ((فذلك عمل المقربين)). قالوا: يا رسول الله! فمن قرأه في خمسٍ؟(4/268)
قال: ((ذلك عمل الصديقين)). قال: يا رسول الله! فمن قرأه في ثلاثٍ؟ قال: ((ذلك عمل النبيين، وذلك الجهد، ولا أراكم تطيقونه، إلا أن تصبروا على مكابدة الليل، أو يبدأ أحدكم بالسورة، وهمه في آخرها)). قالوا: يا رسول الله! ففي أقل من ثلاثٍ؟ قال: ((لا، ومن وجد منكم نشاطاً، فليجعله في حسن تلاوتها)).
قال محمد بن إبراهيم: سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث.
فإنما مخرج هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم على المداومة عليه، وإن صيرها عادةً وحرفة، ولو أن رجلاً في بعض أيامه قرأ القرآن في يومٍ واحدٍ، أو ليلةٍ واحدةٍ؛ لكان فاضلاً عظيم القدر.
وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنه ختمه في ركعةٍ واحدة.
فإنما وقت هذه المدد لمن يداوم عليها، ويصيرها موظفة، وكان(4/269)
رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقرؤه في سبع تيسيراً على الأمة، فكان يبتدئ فيه، فيجعله: ثلاث سور حزب، (ثم من بعده خمس سور حزب، ثم من بعده سبع سور حزب، ثم من بعده تسع سور حزب)، ثم من بعده إحدى عشر [ة] سورة حزب، ثم من بعده ثلاث عشرة سورة حزب، ثم من بعده المفصل حزب، فذلك سبعة أحزاب.
959 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيمٍ الفضل بن دكينٍ، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعبٍ الثقفي، قال: حدثني عثمان بن عبد الله بن أوسٍ، عن أبيه، عن جده، قال: احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقلنا له؟ فقال: ((إنه طرأ علي حزبٌ من القرآن، فأحببت أن لا أخرج من المسجد حتى أقضيه))، فقلنا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أنه طرأ عليه حزبٌ من القرآن فكيف تحزبون؟ قالوا: ثلاث سورٍ، وخمس سورٍ، وسبع سورٍ، وتسع سورٍ، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة سورةً، وحزب المفصل: ما بين قافٍ فأسفل.(4/270)
فدلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول على حسن التلاوة؛ فإن القرآن موعظةٌ، والله يحب أن يعقل عنه مواعظه، ونصائحه، ولطائفه.
في غرائز الآدميين موجود: أن من كلم آخر بشيء، أراد بذلك تشريفه وبره وإلطافه، فاستمع إلى كلامه بأذنه، لاهياً عن ذلك بقلبه، أنه يسقط من عينه.
فكيف برب العالمين يخاطب عبيده بشيءٍ، يريد بذلك إظهار ما لهم عنده من الأثرة، والمحبة، ويحب أن يجعل أوائل بره في عاجل محياهم؛ ليتلذذوا به، ويفرحوا، فمر عليه هذا التالي له يهذه هذًّا، وقلبه في عمًى عن ذلك، أو خاطب بعض عبيده بوعيده يريد أن يؤدبه بذلك، حتى ينجع قلبه ويتأدب، فمر على خطابه تالياً له، وهو بهذه المقة؟!
وقد أدب الله عباده، ودلهم على الترتيل فيه، فقال: {ورتل القرآن ترتيلاً}، وقال عز وجل: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكثٍ}، وقال: {كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}.
فإنما دلهم على الترتيل والمكث، والتؤدة فيه، والتدبر؛ ليصل إليهم(4/271)
نفع ذلك، فأفضلهم قراءةً أعقلهم عنه، فمن أسرع القراءة، وعقل عنه؛ كان في نورٍ عظيمٍ، وعلياء منزلة، فذلك لفضل نوره، ومن قصر عن ذلك، فالتفكر والتدبر له خيرٌ وأنفع.(4/272)
الأصل الرابع والثمانون والمئة
960 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا زائدة بن قدامة أبو الجهم الأسدي الكوفي، قال: حدثني أبي قدامة، عن زائدة، عن الأعمش، عن زرٍّ، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فدعا الناس بيده هكذا، قال: ((اجلسوا))، فأقبل الناس، فقال بيده هكذا: ((اجلسوا))، ثم قال: ((إني رأيتكم تطلبون معايشكم، هذا رسول رب العالمين جبريل نفث في روعي: أن لا تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها، فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شيءٍ من الرزق أن تأخذوه بمعصيةٍ؛ فإن الله لا يدرك ما عنده إلا بطاعته)).(4/273)
961 - حدثنا عبد الرحيم بن يوسف، قال: حدثنا يعلى، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن زبيدٍ اليامي، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
فحديث حذيفة أتم حديث في هذا الباب فيما نعلمه، وأغربه، وفيه ما دل على أن هذا كان وحياً، وأنه نطق بهذا الكلام طرياً عند ما جاء به؛ لأنه(4/274)
قال: ((هذا رسول رب العالمين))، يشير إليه كأنه شاهده في ذلك الوقت.
((نفث في روعي)): والروع: القلب، والنفث: هو من الروح مع الروح، والروح أمر عظيم من أمره.
وروي عن وهب بن منبه رضي الله عنه: إن أول ما خلق الله الروح، ثم شق منه الهواء، ثم شق من الهواء النور والظلمة، ثم خلق من النور الماء والنار والريح، وخلق العرش على ظهر الماء، والماء على متن الريح.
فالروح بدو خلقه، فاعلم أن الأرزاق معلومة، فقسط كل نفس واصلٌ إليها، وإن هربت منه، وأنه غير ميت حتى تستوفي ما قسم لها، فحذرهم عن الغفلة عن هذه القصة، وأن يتقوه، ودلهم على جمال الطلب.
فجمال الطلب: أن يحسن نيته في طلبه، وهو أن يطلبه للعفة، ولقوام الدين، وللقيام بما أمر الله في ذلك، وأن يحفظ فيه الجوارح، ويحفظ الأمانة، ويبذل النصيحة، ويتجنب الخيانة، والحلف، والكذب، والغش، وأن يطلبه مع ذكره لآخرته.
وقد وصف الله تعالى في كتابه فقال: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.(4/275)
ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله}، قال: الشفاعة.
فخوف ذلك اليوم طهر قلوبهم، وأذهل نفوسهم عن شهوةٍ تستخفهم، وعن فتنة في طلبها تستفزهم، فلم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، قد أمات خوف العقاب منهم كل حرص كان يعجلهم في أمر دنياهم، وأكسلهم ثقل الحساب غداً في ذلك الموقف العظيم عن طلبه، حتى تخلصوا بذلك من فتنته.(4/276)
الأصل الخامس والثمانون والمئة
962 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا سليمان ابن سلمة بن عبد الجبار الحمصي، قال: حدثنا يعقوب بن الجهم، قال: حدثني عمرو بن جريرٍ، عن عبد العزيز، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله -تبارك اسمه-: إذا وجهت إلى عبدٍ من عبيدي مصيبةً في بدنه، أو في ولده، أو في ماله، فاستقبلها بصبرٍ جميلٍ، استحييت يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً، أو أنشر له ديواناً.(4/277)
فاشترط جمال الصبر في صبره، وهو الرضا، وذلك أن الصبر ثلاثة:
1 - صبر الموحدين.
2 - وصبر المقتصدين.
3 - وصبر المقربين.
وأما صبر الموحدين: بأن لا يسخطوا على ربهم، حتى يجوروه، ولكن على إيمانهم به صبروا أنه عدل عليهم في ذلك، ثم أهملوا جوارحهم في المعاصي لحرقة تلك المصيبة، وهو صبر ممزوج بالجزع، فهو صبر الظالمين لأنفسهم.
وأما صبر المقتصدين: فإنهم صبروا بالقلب، والجوارح، فرضوا بالقلب عن ربهم، وحفظوا جوارحهم عن أن يعصوا الله بجارحة بسبب ما نزل عليهم، وفي النفس كزة، وشدة، ومرارة، وعسرة، فلم يملكوا أكثر من هذا، ولا قدروا على إخراج هذه الأشياء من النفس؛ لأن نفوسهم(4/278)
حية بالشهوات، رطبة حارة، فحفظوا جوارحهم، ورضوا عنه قلباً، ولم يملكوا كراهة النفس، فهذا صبرٌ قد أذهبت النفس شؤمها، وخلفها جمال الصبر.
وأما صبر المقربين: فهو الرضا، لم تجد لوعة المصيبة في قلوبهم مساغاً؛ لما فيها من الحلاوة واللذاذة بقرب الله، وذلك أن النور لما اشتعل في صدورهم بعد أن امتلأ القلب منه، فأحرقت ذات الصدور من شهوات النفس، ومناها، وصار الصدر مستنيراً من نور القلب، فذاك عبد قد شرح الله صدره للإسلام، وهو التسليم، فهو على نور من ربه، فصارت الشهوة ميتة، فلم يبق في النفس عكر، ولا كزة، ولا مرارة، ولا عسرة، انتهت النفس عن نومتها، وخرجت عن سكرها، فأفاقت، فصارت مشيئة الله عندها أحلى من مشيئتها.
وهذا موجود في الطبائع، إذا أحببت عظيماً من عظماء الدنيا، ممن قد سبى قلبك حبه، وملكك وده، صارت لمشيئاته عندك من الحلاوة على قلبك ما يزيف مشيئتك، ويدرسها عن قلبك ذاك؛ لشغوفك به، فكيف يكون هذا عندك موجود [اً] فيما بينك وبين الآدمي؟.
ثم إذا صرت إلى عظيم العظماء، ومالك الملوك، وسيد السادات، نفيت عن هذا ذاك؛ لأن القلب قد خلا من عظمته، وعمي عليك سؤدده، وجهلت ملكه.
فالمقربون: بالقربة نالوا هذا، حتى ذهب الكره من نفوسهم، وصار(4/279)
بدل المرارة حلاوةٌ، وبدل العسرة غنى، فأعينهم مادة إلى صنعه، فأينما برزت مشيئته في شيءٍ من حجب غيبه، وقفت قلوبهم عند مشيئته، وهم الصادقون في قولهم:
((ما شاء الله كان)).
فالمخلطون: صبرهم صبر إيمانٍ، محشوٍّ بالجزع.
والمقتصدون: صبرهم صبر رضاً مع كزة النفس.
والمقربون: بالقربة نالوا هذا، حتى ذهبت الكزة من نفوسهم وأفعالهم، أفعاله منيتهم؛ لأنه قد انكشف لهم أنه قد أوصلهم إلى أشرف الأشياء بعطفه، ورأفته، ومنه، وهو: معرفته، فلم يتهموه بعد ذلك في حالٍ من أحوال أنفسهم، فكيفما دبر لهم من محبوبٍ أو مكروهٍ، وقع ذلك منهم موقع برٍّ، وعطفٍ، ورأفةٍ، ورحمةٍ.
كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أصابه الطاعون، فيغشى عليه، ثم يفيق فيقول: اخنق خنقك رب، فوزعتك! لا تزداد بذلك عندي إلا حبًّا.
963 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد الحميد ابن بهرام الفزاري، قال: حدثنا شهر بن حوشبٍ، قال: حدثني عبد الرحمن بن غنمٍ، قال: سمعت الحارث بن(4/280)
عميرة الحارثي يحدث: أن معاذاً اشتد به النزع في الطاعون، فنزع نزعاً لم ينزعه أحد، فكان كلما أفاق من غمرة، فتح طرفه، ثم قال: اخنقني خنقك رب، فوعزتك ربي! إنك لتعلم أن قلبي يحبك.
964 - حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيلٍ، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة قال: أخذ معاذ بن جبلٍ طاعون في حلقه، قال: يا رب! إنك لتخنقني، وإنك لتعلم أني أحبك.
965 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيسٍ المكي، عن سفيان الثوري، قال: كان الربيع بن خثيمٍ ربما خرج في مرضه ذاك، فيجده إخوانه(4/281)
صريعاً في الطريق، فيرشون عليه الماء حتى يفيق، فيقول: يا رب غط ما شئت أن تغط، فوعزتك! لا تزداد بذلك عندي إلا حباً، فيقال له: إنك لفي سعة أن لا تكلف نفسك هذا، فيقول: فكيف بهذا الذي ينادي: حي على الصلاة، لا أقدر إلا أن أجيبه.
فصبر المقربين: رضا القلب، ورضا النفس، وصبر المقتصدين: رضا القلب مع حفظ الجوارح، وصبر المخلطين: رضا الإيمان فقط.
966 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا محمد ابن مصفى الحمصي، قال: حدثنا بقية، عن إسماعيل بن عياشٍ، عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبي عمران، عن أبي سلامٍ، عن ابن غنمٍ الأشعري، عن أبي موسى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الصبر رضاءٌ)).(4/282)
معناه: أي: إن هذا رضي إذا حفظ جوارحه؛ لأنه لا يملك غير ذلك، فقد أدى وسعه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
رجعنا إلى حديث سليمان بن سلمة قال: ((فإذا أخذ ذلك بصبرٍ جميلٍ استحييت منه أن أنصب له ميزاناً، أو أنشر له ديواناً)).
وهذا من أجل أن هذا العبد إذا صار في هذه الدرجة أن يتلقى أحكامه بالرضا، وهو جمال الصبر، فهو من خاصته وأوليائه، وأنصار حقه.
فالخاصة: لا يحاسبون، ولا يفتشون، ولا يقابلون في الثواب بالأعمال، إنما يرفعون في الجنة إلى معالي الدرجات بالحظوظ التي كانت في قلوبهم؛ لقربهم من ربهم أيام الحياة، فيسامحون بالنوال من الدرجات، كمسامحتهم بنفوسهم، لم يكن لهم شيءٌ أعظم من نفوسهم، فألقوها بين يديه عبيداً كما خلقهم، فثوابهم بغير حسابٍ، ونوالهم بغير مقدارٍ، وقربتهم لا توصف.
967 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن يونس، عن إسرائيل، عن رجلٍ، عن الشعبي، قال: إني لأرجو أن مؤمني هذه الأمة يدخلون مداخل الأنبياء الجنة.
فإنما أراد بقوله: (مؤمني هذه الأمة): المؤمن البالغ في إيمانه، وهم المقربون الذين وصفناهم.(4/283)
ويحقق قول الشعبي:
968 - ما حدثنا به رزق الله بن موسى الناجي، قال: حدثنا معن بن عيسى، قال: حدثنا مالك بن أنسٍ، عن صفوان بن سليمٍ، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغائر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم))، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء، فلا يبلغها إلا هم؟ قال: ((بلى، والذي نفسي بيده! رجالٌ آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين)).
فهم الذين وصفهم الله في تنزيله، فقال -عز من قائل-: {وعباد(4/284)
الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} إلى قوله: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا}، فهم المقربون، قربوا من الأنبياء، حتى دخلوا مداخلهم.
وذكرهم في آية أخرى، فقال تعالى: {وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله}، ثم قال: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}، فهي جنة أعلى من التي ذكرها في آية أخرى، فقال: {وجنةٍ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}.
فالتي عرضها السماوات والأرض [أعدت للمتقين].
وروي عن وهب: إن السماوات والأرض تطوى، ثم تجذب تلك الجنة في الهوى الذي كان فيه السماوات والأرض، والجنة الأخرى التي عرضها كعرض السماء والأرض توضع في هواء عليين، فهي الدرجات العلا.
وإنما ذكر وهب ذلك الحرف الواحد؛ أنها تجذب مكان السماوات؛ لمن يذكر ما أتينا به من الآيات مصداقاً له.
فقال في الحديث: ((بلى، والذي نفسي بيده! رجالٌ [آمنوا بالله و] صدقوا المرسلين)): فهذا إيمان المقربين الصديقين وتصديقهم.(4/285)
ولو كان إيمان المخلطين وتصديقهم، ما نالوا الغرف التي تتراءاهم أهل الجنة من دونهم، فإنما تنصب الموازين، وتنشر الدواوين، لمن عامل الله على المتاجرة بعمل العبودة على اقتضاء الثواب، ويقال لهم كما قال الله في تنزيله: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}.
فالحساب والوزن واقع على هؤلاء.
فأما من عامل الله على العبودة الصافية، يرى تدبيره بيد الله، يقلبه كيف شاء، ويصرف أحواله كيف أراد، خلقه كما شاء لما شاء، فقلبه مبهوت في جلال الله، ونفسه مبهوتة في عظمة الله، يسعى بين يديه سعي العبد في طاعته، بين يديه طاعته، وبين عينيه مرضاته، وأمامه مشيئته، لا يفكر في غير ذلك من نوال أو غيره.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.(4/286)
الأصل السادس والثمانون والمئة
969 - حدثنا إبراهيم بن عبد الحميد الحلواني، قال: حدثنا عمرو بن الربيع المصري، قال: حدثنا يحيى ابن أيوب، عن عيسى بن موسى بن إياس بن بكيرٍ: أن صفوان بن سليمٍ حدثه عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحاتٍ من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوا الله أن يستر عوراتكم،(4/287)
ويؤمن روعاتكم)).
970 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيدٍ الأنطاكي، عن يعقوب بن كعبٍ، عن نائل ابن نجيح البصري، عن عائذ بن حبيبٍ، عن محمد بن سعيد الأنصاري، قال: وجد في قائم سيف محمد بن مسلمة كتابٌ فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لربكم في بقية دهركم نفحاتٍ، فتعرضوا لها؛ لعل دعوةً أن توافق رحمةً، فيسعد بها(4/288)
صاحبها، ثم لا يشقى بعدها أبداً)).
فمثال هذا في تدبيره عند ملوك الدنيا كملك يدر الأرزاق على عبيده وجنده شهراً شهراً، ثم له في خلال ذلك عطية من سماحة وجود؛ فيفتح باب الخزانة، ويعطي منها ما يعم، ويستغرق جميع الأرزاق الدارة التي أخذوها في مدة سنين، فمن وافق ذلك من الملك، استغنى آخر الأبد.
فقوله: (لله نفحات) والنفحة: الدفعة من العطية، فيعطي في دفعة واحدة ما يأتي على كثير من هذه النعم التي يدرها عليهم، فالنفحات من(4/289)
فتحات باب الخزائن، خزائن المنن، وإن خزائن الثواب بمقدار، وعلى طريق الجزاء، وخزائن المنن الواحدة منها تغرق؛ لأنها منةٌ يمن جوداً، وعطفاً، والذي يعطى على الجزاء بمقدار فوقت الفتحة غير معلوم من الساعات، والأيام، والأزمنة، فإن غيب علمه عنهم؛ ليداوموا على طلبها بالسؤال المتدارك، ويكونوا متعرضين له في كل وقت؛ قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً، وفي كل وقت؛ التصرف في أشغال الدنيا، فإنه إذا داوم على ذلك، كان وشيكاً أن توافق دعوته الوقت الذي يفتح، فيكون قد ظفر بالغنى الأكبر، وسعد سعادة الأبد، فإن الذي يتوقع ذلك من الملك لا يدري في أي وقت ينشط الملك، ويسمح ويعطف، فهو يديم الاختلاف في اليوم مراراً؛ رجاء أن يوافق تلك الساعة، فكم من سائل قد حرم فرد، ثم عاد، فوافق المسؤول، قد فتح كيسه؛ وهو يزن دراهم، فإذا هو قد ظفر بمسألته، وقلما يخيب السائل عند حضور الطعام، وعند وزن الدراهم، فإذا كان في غير ذلك الوقت، حرم.
971 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا المعلى بن راشدٍ، عن معتمرٍ، قال: سمعت أبي(4/290)
يحدث: أن لقمان قال لابنه: يا بني! عود لسانك أن تقول: اللهم اغفر لي؛ فإن لله ساعاتٍ لا ترد.
972 - حدثنا محمدٌ، قال: حدثنا المعلى، عن معتمرٍ، قال: سمعت أبا سعيدٍ يقول: سمعت الحسن يقول: أكثروا الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، وأينما كنتم، فإنكم لا تدرون أي حينٍ تنزل المغفرة.(4/291)
الأصل السابع والثمانون والمئة
973 - حدثنا قتيبة، وسفيان بن وكيعٍ، قالا: حدثنا عبد الله بن وهبٍ، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حليم إلا ذو عثرةٍ، ولا حكيم إلا ذو تجربةٍ)).(4/293)
والحليم: المنشرح صدره، الذي يتسع لمساوئ الخلق، ومدانئ أخلاقهم، وسوء سيرتهم.
وروي في الخبر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبر الناس على أقذار الخلق.
فهذا لانشراح الصدر، يتسع فيه ما تضيق به صدور العامة.
وذكر عن الحسن البصري قال: ما سمعت الله نحل عباده شيئاً أقل من الحلم.
974 - حدثنا أحمد بن عبد الرحيم بن خالد بن زيادٍ الحراني، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس، قال: سمعت الحسن يقول: ما سمعت الله نحل عباده شيئاً أقل من الحلم؛ فإنه قال: {إن إبراهيم لحليمٌ}،(4/294)
وقال: {فبشرناه بغلامٍ حليمٍ}.
فإنما عظم حلمهم، واستوجبوا الثناء من ذي العرش بما ابتلوا، فاتسعت صدورهم للأمر العظيم الذي حل بهم من الذبح، فاتسع صدر إبراهيم لذبح ولده، واتسع صدر الغلام من تسليم ذلك لله.
قال الله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا}.
وقال عز وجل: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه}.
فالإسلام: هو تسليم النفس لربه عبودة في جميع ما يأتي، وفي جميع ما يحكم عليه في الأحوال، فهذا الحلم.
والحلم والملح بمعناه، فكما لا تطيب الأطعمة إلا بالملح، كذلك لا تطيب النفس، ولا يتسع الصدر، ولا يصلح إلا بذلك النور الوارد على(4/295)
القلب، فيشرق في الصدر بذلك الحلم، فبه تطيب الأمور في الصدور، فلا تخبث النفس فتخبثها، كما أن الملح لا يترك الأطعمة واللحمان أن تخبث فتنتن.
975 - حدثنا عمر، قال: حدثنا محمد بن الطفيل، عن يعقوب بن الوليد المديني، عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، عن جده، عن حسين بن عليٍّ، قال: قال لي عليٌّ: يا بني! ما العلم: خشية الرب، واعتزال الحب، قال: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ، وملاك النفس.
976 - حدثنا عمر، قال: حدثنا ابن رجاء، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ابن أبزى، قال: قال داود نبي الله:(4/296)
كان أيوب أحلم الناس، وأصبر الناس، وأكظمهم للغيظ.
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حليم إلا ذو عثرةٍ)) يدل على أنه لا يتسع الرجل لما يرى من هذا الخلق إلا بعدما يعثر، فإذا رأى عثرته، رحم الخلق، واتسع لهم، واتقى أن يلوم أحداً، أو يعيره بذنب، لما قد رأى نفسه فيها، ورأى خذلان الله إياه، ورأى شرة النفس وداهيتها، وذهابها بالرقبة إذا أصابت فرصتها، فكما تنظر لنفسه من الله الرحمة، كذلك ينتظر لهم مثل ذلك، وكما ساءه أن يعيره أحد بما كان منه، كذلك يعامل الخلق على العطف والرفق، والستر، والنصيحة، والموعظة الحسنة، فهذا حليم قد استكمل الحلم.
وعثرة داود -صلوات الله عليه- وسعته للخطائين، ومن قبل ذلك(4/297)
كان يشدد عليهم، ولا يجالسهم، حتى روي في الخبر: أنه قال: يا رب! لا تغفر للخطائين؛ من شدة الغيرة لله، والحنق عليهم، فلما عثر، كان ينظر إلى أغمض مجلس في بني إسرائيل، فيذهب فيقعد معهم، يقول: مسكين بين ظهراني مساكين، وكان يقول: رب! اغفر للخطائين كي تغفر لداود معهم.
وقوله: ((لا حكيم إلا ذو تجربةٍ)).
فالعقل: يدل على الرشد. والحكمة: نور يكشف عن مكنون الأمور، ولكنه لا يستكمل حكمته مع كشف هذا الغطاء، واطلاعه بالقلب، مطلع الأمور حتى يطالع الأمور بمباشرة النفس؛ فإن كل شيء تجده القلوب، فمباشرة النفس مع القلوب أثبت، فيتأكد.
فالحكيم: قد كشف له الغطاء، فيرى عواقب الأمور، فيرى شينها وقبحها، فإذا رأى ذلك بالجوارح، كان ذلك عياناً، لا يدفع، ولا ينسى، فهناك بعد التجارب يستكمل الحكمة؛ لأنها كانت قبل التجربة معاينة القلب، فصارت معاينة العين، كان ذلك علم اليقين، فصار الآن عين اليقين.
ألا ترى أن الله تعالى أخبر عن النار فقال: {كلا لو تعلمون علم اليقين. لترون الجحيم}، فهذه رؤية القلب، وهو علم اليقين، {ثم لترونها عين اليقين}؛ أي: يوم القيامة.(4/298)
فهذه رؤية العين، فاعتبر الآن هل يحل بأحد برؤية القلب أمراً مبرماً هناك، ما يحل يومئذٍ برؤية العين ذلك؟
ليعلم أن مباشرة الأشياء بالنفس أقوى وأعظم شأنا من معاينة القلب، وقد سمى الله تعالى ذلك: علم اليقين، وهذا عين اليقين.
ولهذا ما قيل: إن العقل بالتجارب؛ فالعقل انكشافه والتبحر فيه حتى ينفعك في كل مكان، وكل أمر بالتجارب، وقد جعل الله في العقل شفاء القلوب، وفي الأدوية شفاء النفوس.
فالطبيب قد يعلم الطبائع، ويعلم الأدوية بنعوتها وأساميها، وإنما يحذق ويعي إذا جرب الأدوية بالطبائع، فكذلك العقل إذا جرب به الأمور بتجرد معرفة وبصراً.(4/299)
الأصل الثامن والثمانون والمئة
977 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا محمد ابن بشرٍ، عن علي بن صالحٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة، قال: قالوا: يا رسول الله! نراك قد شبت؟ قال: ((شيبتني سورة هودٍ وأخواتها)).
فالفزع: يورث الشيب؛ وذلك أن الفزع يذهل النفس، فتنشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع، ومنه يعرق؛ فإذا انتشف الفزع رطوبته، يبست المنابع، فيبس الشعر، فابيض، كما ترى الزرع اخضر بسقياه، فإذا(4/301)
ذهب بسقياه، يبس فابيض.
فإنما يبيض شعر الشيخ؛ لذهاب رطوبته، ويبس جلده، ألا ترى أن المسرور يسرع إليه الشيب؟ فذلك لانتشاف الماء؛ وذلك أن المرة يابسة، وهي حظ التراب من الجسد؛ لأن الجسد إنما خلق من تراب وماء، وفيه الروح، وهو بارد، والنفس، وهي حارة.
فهو مركب على أربع طبائع: تراب يابس، وماء رطب، وروح بارد، ونفس حارة.
فيبس التراب للمرة السوداء، ورطوبة الماء للمرة الصفراء، وحرارة النفس للدم، وبرد الروح للبلغم، فبيبس المرة تأذت المنابع، فيبست، فابيض الشعر.
والنفس تذهل لوعيد الله، وأهوال ما جاء به الخبر عن الله تعالى، فتذبل، وينشف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي حل بها، فمنه تشيب،(4/302)
وقال الله -جل وعز-: {يوماً يجعل الولدان شيباً}، فإنما شابوا من الفزع.
وأما سورة هود، فإن فيها ذكر الأمم، وما حل بهم من عاجل بأس الله؛ فأهل اليقين إذا تلوها، تراءى على قلوبهم من ملكه سلطانه، ولحظاته بالبطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع، لحق لهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- تلطف لهم في تلك الأحايين، حتى يقرأ كلامه.
ألا ترى كيف وصف الله في تنزيله شأن الجبال فقال: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله}.
فلو نزل على الصخر، لتصدع، وقد تجلى للجبل، فتقعر وساخ واندك وانهار كالرمل، وصار بعضه كالهباء يطير، فلولا أن الله تعالى يلطف بعبده المؤمن حتى يعي وحيه وتنزيله؛ لكان قلبه أسرع تصدعاً من الجبل، فإذا تراءى على قلبه عظمته وجلاله؛ لكان أسرع تقعراً وانقلاعاً وطيراناً، وقد نزل بكثير من عباده نحو من ذلك.
وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الفرق فلذ كبده))؛ أي: قطعه.(4/303)
978 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا محمد بن مطرفٍ، رفعه.
وأما أخواتها؛ أي: أخوات سورة هود، فما أشبهها من السور؛ مثل: {الحاقة}، و {سأل سائلٌ}، و {إذا الشمس كورت}، و {القارعة}، ففي تلاوة هذه السور ما ينكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه، فتذهل منه النفوس، وتشيب منه الرؤوس.
وروي عن محمد بن الحنفية: أنه قال: لله ثلاث مئة وستون لحظة يلحظ بها إلى كل عبد من عباده في كل صباح، فإن أخذ، أخذ بقدرته، وإن عفا، عفا بحلمه.(4/304)
فأهل اليقين: ثارت على قلوبهم لحظاته؛ فالعفو: جانب، لولا ذاك، ما استقر لهم قرار من هول أخذه.
واللحظة: قد شملت القدرة، والحلم، إلا أن أهل اليقين قد اطمأنت قلوبهم به، فارتقت في سعة عفوه.
وروي عن علي بن الحسين رضي الله عنهما: أنه كتب إلى الحجاج جواب كتابه الذي كان قد توعده فيه: إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله في كل يومٍ ثلاث مئةٍ وستين لحظةً يلحظ بها إلى أهل الأرض، فمن أدركته تلك اللحظة، صرف الله عنه شر الدنيا، وشر الآخرة، وأعطاه خير الدنيا، وخير الآخرة))، وأرجو من الله عز وجل أن يدركني بعض لحظاته، فيصرف عني شرك، ويرزقني ما وعدنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأعجب بذلك الحجاج، وكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، وكتب به عبد الملك إلى هرقل ملك الروم، فأرسل هرقل إلى عبد الملك بن مروان رسولاً يطلب ممن خرج هذا الكلام؟ حتى رجع الأمر إلى علي بن الحسين رضي الله عنه، فلما صار إليه،(4/305)
فأخبره، فقال له: ممن أنت؟ قال: أنا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، قال: نعم؛ هذا الكلام لا يخرج إلا من أهل بيت نبوة.
979 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا صالح بن محمدٍ، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عبادٍ -وهو ابن كثيرٍ-، قال: حدثني عبيد الله بن العيزار، قال: حدثني محمد ابن عليٍّ، عن أبيه علي بن الحسين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما حديث ابن الحنفية:
980 - فحدثنا به محمد بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن زيد بن عبد الرحمن، عن محمد بن الحنفية، بذلك.(4/306)
ففي حديث علي بن الحسين رضي الله عنه زيادة حرف: ((فمن أدركته تلك اللحظة، صرف عنه شر الدارين، وأعطاه خيرهما)).
وإنما تلك ثمرة اللحظة.
وفي حديث ابن الحنفية: شأن اللحظة موقوف.
فإذا كان العبد مهدياً رشيداً، أدركته اللحظة على حال مرضية، فوصل إلى الأمل من نوال الخير، وصرف السوء، وإذا كان عادياً، فاللحظة بين القدرة والحلم: فإما بطش جبار، وإما عفو واسعٍ كريم.
وفي حديث ابن الحنفية قال: ((فإن أخذ، أخذ بقدرته، وإن عفا، عفا بحلمه)).(4/307)
الأصل التاسع والثمانون والمئة
981 - حدثنا ابن أبي ميسرة المكي، قال: حدثنا يعقوب بن حميدٍ، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي، قال: حدثني الحسن بن الحر: أنه سمع يعقوب بن عتبة يقول: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اعتز بالعبيد، أذله الله)).
فالاعتزاز بالعبيد من الجهل بالله، وجهله بالله يضعه في كل أموره؛ لأنه مفتون بجميع من دونه.(4/309)
والاعتزاز: هو الامتناع من الأشياء التي تنوبه، فمن امتنع بمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فلما في قلبه من الغرة، وقد دلهم الكريم على ما فيه رشدهم فقال: {واعتصموا بالله هو مولاكم}.
فالاعتصام بالله والاعتزاز به من ذرا الإيمان، ومن اعتصم بالمخلوقين، واعتز بعرض الدنيا، فهو المخذول في دينه، الساقط من عين الله.
982 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني، قال: حدثنا سيارٌ، عن جعفرٍ، عن بكر بن خنيسٍ، عن هشام بن الغاز، عن الزهري، قال: أوحى الله تعالى إلى داود: ((ما من عبدٍ يعتصم بي دون خلقي، فتكيده السماوات والأرض، إلا جعلت له من ذلك مخرجاً، وما من عبدٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني، إلا قطعت أسباب السماء من بين يديه، وأسخطت الأرض من تحت قدميه)).(4/310)
983 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا حيوة بن شريحٍ، عن بقية، عن صفوان بن عمرٍو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفيرٍ، وشريح بن عبيدٍ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله -تبارك وتعالى-: إني والجن والإنس في نبإٍ عظيمٍ، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)).
وسعهم حلمه، وأخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين، مقنعي(4/311)
رؤوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء؛ أي: متحرقة لا تعي شيئاً فقال لهم: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطانٍ}.(4/312)
الأصل التسعون والمئة
984 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا إبراهيم ابن العلاء الزبيدي الحمصي، قال: حدثني عمر بن الحارث، عن عبد الله بن سالمٍ الأشعري، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن يحيى بن جابرٍ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفيرٍ، حدثه: أن أباه حدثه: أن عبد الله بن معاوية الغاضري أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثٌ من فعلهن، طعم طعم الإيمان: من عَبَدَ الله وحده بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه، ولم يعط الجربة،(4/313)
ولا الدرة، ولا المريضة، ولكن من أوسط أموالكم؛ فإن الله لم يأمركم بخيره، ولم يأمركم بشره، فزكى نفسه))، فقال رجل: ما تزكية نفسه؟ قال: ((أن يعلم أن الله معه حيث كان)).
قال أبو عبد الله:
فهذه الثلاث كلها زكاة؛ فزكاة القلب: لا إله إلا الله، وزكاة المال: إخراج ما افترض الله فيه منه، وزكاة النفس: علمها بأن الله معه حيثما(4/314)
كان، فإذا علم ذلك، استوت سريرته وعلانيته، فهابه في كل مكان ووقت، واستحيا الله منه في كل مكانٍ ووقتٍ.
والهيبة والحياء: وثاقان لنفس العبد من جميع ما كره الله سراً وجهراً، وظاهراً وباطناً، والسر: ما كان في الخلاء، والجهر: ما كان في الملأ، والظاهر: ما كان بالأركان، والباطن: ما كان بالقلب.
فالنفس في هذه الأحوال الأربع تخشع لهيبته، وتذل، وتخمد شهواتها، وتذبل حركاتها وانبعاثها، وتنقبض للحياء منه وتخجل، فإذا كان للعبد من الله تأييد بهذين، فاكتنفتاه، فقد استقام.
وإنما أردنا بما قلنا: أنه إذا علم ذلك عِلمَ القلب لا عِلم اللسان؛ فإن علم اللسان أصله من القلب ولا قرار له له؛ لأنه شرارة من شرر الإيمان، وهي حجة الله على ابن آدم، وعلم القلب علم اليقين.(4/315)
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحقق ما قلنا في العلم.
985 - حدثنا بذلك حفص بن عمرو العابد، قال: حدثنا الفضيل بن عياضٍ، عن هشامٍ، عن الحسن رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العلم علمان: فعلمٌ في القلب، فذاك العلم النافع، وعلمٌ على اللسان، فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم)).
وقال الله -تبارك وتعالى- في تنزيله، فأجمل فقال: {وويلٌ للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة}، فقال أهل التفسير: الذين لا يقولون: لا إله إلا الله، وقال: {ورحمتي وسعت كل شيءٍ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة}؛ أي: يتقون الشرك، ويعطون قول: لا إله إلا الله.(4/316)
986 - حدثنا محمد بن الفضل البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر العدني، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: {وويلٌ للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة}، قال: الذين لا يقولون: لا إله إلا الله.
فالزكاة: هي الطهرة والنماء؛ فإذا قال العبد صادقاً من قلبه: لا إله إلا الله، فإنما قوله من النور الذي أحيا الله قلبه به؛ فبذلك النور طهر جميع جسده، ولصدق هذه الكلمة ثلاث منازل:
1 - أوله للظالمين.
2 - وأوسطه للمقتصدين.
3 - وآخره للمقربين.
فالظالمون: زكوا قلوبهم وجوارحهم بهذا القول، ثم دنسوها بالمعاصي، وقد كانت من قبل هذا القول نجسة، فزكت بهذا القول، ثم لما عصت،(4/317)
صارت دنسة، وليست بنجسة؛ لأن الكفر ينجس، والمعصية تدنس، ولا يترك النور الذي في قلبه أن ينجس بالمعصية؛ لأنه طهرة، فهو مع ظلمه نفسه شريف المنزلة، رفيع القدر، لم يخرج بظلمه نفسه من ولاية الله، ولا من رحمته، ولا زالت عنه حرمته، فإن تابوا، زالت الأدناس، وصاروا من أهل النور؛ نور الطاعات.
والمقتصدون: زكوا قلوبهم بهذه الكلمة، وزكوا أموالهم وأجسادهم بالائتمار بأمر الله، والتناهي عن نهيه، ثم ثبتوا على تزكية الأموال والأجساد، ودنسوا قلوبهم بالرغبة، والرهبة، والشهوات، والغفلة، والحرص، والعجلة، والخفة، والهوى، ومحبة الدنيا وأحوالها.
والمقربون: زكوا بها زكاة المقتصدين، وأقبلوا على قلوبهم، فرعوها عن أن تتدنس بشيء مما ذكرنا، فكان مرعى قلوبهم بين يديه، فلم يكن للدنيا ولا للنفس هناك دنو ولا لحاظ، قد بقيت نفوسهم ودنياهم بالبعد من المحل.
فتزكية قلوب الظالمين بنور التوحيد، وجاءت الشهوات بظلمتها، فأحاطت بالقلب، فلم يكن لذلك الذي أعطي ما يحرق هذه الشهوات.
وتزكية قلوب المقتصدين بنور الإنابة، إذا أناب العبد إليه، استنار(4/318)
قلبه بنوره، فأخرجه من سكر الظالمين، فأفاق، وخاف عقابه، ورجا ثوابه، وأبصر به آخرته، فصارت نصب عينيه.
وتزكية قلوب المقربين بنور القربة، فأحرق الشهوات، فامتلأ القلب من نور التوحيد، وأشرق الصدر بنوره، فأيقظه من نومة الغافلين، فانتبه.
وفي المقربين قوم مصطفون مجتبون، هم خاصة المقربين، وهم المجذوبون رؤوس المقربين وصفوتهم، فتزكية قلوبهم بنور وجهه الكريم؛ فهم في قبضته يتصرفون.
فالظالمون علانيتهم أكثر من سريرتهم، وهو الجور.
والمقتصدون استوت سريرتهم بعلانيتهم، وهو العدل.
والمقربون: فضلت سريرتهم علانيتهم، حتى دقت علانيتهم في جنب سريرتهم؛ فللحظةٌ من سرائرهم أعظم من أعمال الثقلين، عمر نوحٍ -صلوات الله عليه-.
ولهذا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن الرجل من هذه الأمة يبلغ عمله يوماً واحداً ما يكون أثقل من سبع سماوات، وسبع أرضين في الوزن.(4/319)
وروي عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نظر إلى جبل أحد، فقال: ((رب رجلٍ من أمتي يعدل الحرف الواحد من تسبيحه هذا الجبل)).
فإنما صار هذا هكذا لأهل القربة بفضل تلك اللحظات التي ليست للملائكة تلك اللحظات؛ فكيف بمن دونها؟
أما قوله: ((أن يعلم أن الله معه حيثما كان))، فهذا تزكية النفس، فإن هذا علم الإنابة، فإنه إذا أناب، استنار، فبقي خوفه معه، فقيده عن المعاصي سراً وجهراً.
والظالم: إنما يعلم علم إيمان أن الله معه، ثم لا تأخذه مخافة هذا العلم، حتى يقيده؛ فذاك هو العلم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((علم اللسان)).
وعلم المقتصد الذي أورثه المخافة، وأبعده عن المعاصي، هو علم القلب الذي قال: ((فذلك العلم النافع)).
وأما المقرب: فعلمه علم أنور من هذا؛ ذاك علم يقارب المعاينة(4/320)
أو كأنه يراه، ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنك تراه))، وصدقه جبريل.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه كلمه عروة بن الزبير في الطواف بشيء من خطبة ابنته، فلم يرجع جواباً، فلما لقيه بعد ذلك، قال: إنا كنا نتراءى الله بين أعيننا في الطواف، فذلك الذي منعني من جوابك.
987 - حدثنا بذلك قتيبة بن سعيدٍ، وإسماعيل ابن نصرٍ، قالا: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيسٍ، قال: أخبرنا عبد العزيز بن أبي رواد، قال: أخبرني نافعٌ، عن ابن عمر رضي الله عنه.
988 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا نعيم ابن حمادٍ، عن عثمان بن كثير بن دينارٍ، عن محمد بن مهاجرٍ، قال: أخبرني عروة بن رويمٍ اللخمي، عن(4/321)
عبد الرحمن بن غنمٍ، عن عبادة بن الصامتٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الفضل إيمان العبد أن يعلم العبد أن الله معه حيثما كان)).
فهذا علم اليقين، لا علم اللسان، فقد علم الموحدون كلهم أن الله معهم، وقد قرؤوا في تنزيله مع علمهم بذلك، فقال: {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم ولا خمسةٍ إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة}.
وقال: {وما تكون في شأنٍ وما تتلوا منه من قرآنٍ ولا تعملون من عملٍ إلا كنا عليكم شهوداٍ إذ تفيضون فيه}.
فالموحدون: قد علموا هذا كله، وقررهم إيمانهم به بأن ذلك كذلك، ثم لم يعمل في قلوبهم وراء ذلك شيئاً، فمن أعطي علم الإنابة، وهو النور الذي إذا أناب أعطي، فوجد المخافة، قيده ذلك الذي ورد على قلبه عما ذكره الله، ووقف به على سبيل الاستقامة؛ لأنه وقف به قلبه(4/322)
بين رجاء ومخافة.
ومتى أعطي علم اليقين، انكشف الغطاء عن قلبه بنوره؛ وهو نور الأنوار، فنظر إلى جلال الله وعظمته، فاندست أعضاؤه بعضها إلى بعض، وصارت نفسه الشهوانية كشجرة رطبة أصابها الحريق، فيبست فصارت جذعاً، ووجد أركانه كوعاءٍ فيه رملٌ أو أشياء من الحبوب مثل الأرز ونحوه، حذراً وضعفاً وعجزاً، ثم أحله مرتبة من مراتبه من هدايته بين يديه، فأحيا قلبه به، فقوي بالله، وحييت شهواته به، ورطب جسده، وانبسطت جوارحه، وانفتقت أعضاؤه، وعاش في غذائه، ونجواه، وبشراه بقية محياه، فهو بين يديه مراقباً لأموره كأنه يراه، فحياؤه منه أكثر من حياء ملأٍ عظيم، ومحفل كبير قد ضم ذلك المحفل وجوه كثير من المسلمين وأشرافهم، بل يدق حياؤه منهم في جنب حيائه منه، وهيبته له أكثر من هيبته من ملك قد ملك ملوك الدنيا شرقاً وغرباً، بل قد تدق هيبته لذلك(4/323)
الملك في جنب هيبته له.
فهذا الذي قد علم حق العلم أن الله معه، فلولا أن الله يلطف بعبده هذا، حتى ينبسط منه، ويؤنسه، ويقويه لاحتمال ذلك، لما قدر عليه، ولا صلح للمعاش والعشرة.(4/324)
الأصل الحادي والتسعون والمئة
989 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا سهل بن تمامٍ البصري، عن عباد بن منصورٍ، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الأرض لتنادي كل يومٍ سبعين مرةً: يا بني آدم! كلوا ما شئتم واشتهيتم، فوالله! لأكلن لحومكم وجلودكم)).
فهذا نداء متسخطٍ فيه وعيدٌ، والأرض لا تتسخط على أنبياء الله(4/325)
وأوليائه، بل تفرح بكونهم على ظهرها، وتفخر وتباشر بقاعها بمتقلبهم عليها، فإذا وجدتهم في بطنها في اللحود، ضمتهم ضم الوالدة الوالهة الواجدة لولدها بعد الوله.
وهذا النداء واقع عندنا على كل من أكل منها شهوة ونهمة وبغفلة؛ لأن الله سخرها لنا للشكر لا للكفر، والشكور محبوب، والكفور ممقوت، ورأس الشكر ذكره عند كل نعمة، وقبولها منه، والحمد لله عليها، فإذا غفل عن هذا كله، فقد أكل منها بغير حق، فأما من أكله بالله، ولله، وفي ذات الله، فالأرض أذل وأقل من أن تجترئ عليه.
وقد جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن بعده من الصحابة أخبار في شأن النار، وشأن المؤمن.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن النار تنادي جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي)).(4/326)
وروي لنا: إن النار تنزوي وتنقبض عند ورود المؤمن.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يجعلها الله على المؤمن برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم -صلوات الله عليه-)).
990 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سليمان بن حربٍ، قال: حدثنا أبو صالحٍ الحراني غالب ابن سليمان، عن كثير بن زيادٍ، عن أبي سمية، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الورود، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الورود: الدخول، لا يبقى برٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم -صلوات الله عليه-، حتى إن للنار -أو قال-: لجهنم ضجيجاً من بردهم، {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًّا})).(4/327)
991 - حدثنا عمر، قال: حدثنا ابن رجاءٍ، عن إسرائيل، عن السدي، قال: سألت مرة عن ذلك، فحدثني عن عبد الله: أنه حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يرد الناس النار، ثم يصدرون بأعمالهم، فأولهم كلمح البصر، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشد الرحل، ثم كمشيه، ثم كحبوه)).
992 - حدثنا عمر، قال: حدثنا مسلم، عن شعبة، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله، قال: يردونها جميعاً، ويصدرون عنها بأعمالهم.(4/328)
993 - حدثنا عبد العزيز بن مسلمٍ، عن منصور بن عمارٍ، عن بشير بن طلحة الجذامي، عن خالد بن دريكٍ، عن يعلى بن منية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تقول النار للمؤمن: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي)).
994 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني،(4/329)
قال: حدثنا سيارٌ، قال: حدثنا بشر بن منصورٍ، قال: حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، قال: إذا جاز المؤمنون الصراط، نادى بعضهم بعضاً: ألم يعدنا ربنا أن نمر على جسر النار؟ فيقولون: بلى، ولكنا مررنا عليها وهي خامدة لممرنا.
فإذا كانت النار تخمد لممر عبدٍ، فكيف تجترئ الأرض على أكله؟.
وإذا كانت النار تضج من تحته لبرده، وكان له من النور ما يطفئ لهب نار الله الكبرى، فما ظنك به إذا ورد المضجع من لحده، كيف يعود عليه من الفسحة والخضرة، وباب الله عليه مفتوح، فليس عليه ضيقة في مكان يحتاج المؤمن أن يكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة)).
فإذا كان العبد هكذا، فهو حافظه وأنيسه وإمامه نصب عينيه، يهيئ له أحواله، ولا يكله إلى أحدٍ من خلقه.
وجاء في الخبر: أن الشهداء لا تأكلهم الأرض.(4/330)
وجاء في الخبر: من أذن سبع سنين، لم يدود في قبره.
فإذا كان الشهيد والمؤذن، وهو الداعي إلى أمر الله، قد امتنعا من الأرض بحالتيهما، فحالة الصديقين الأولياء أرفع من هذا، وأجل؛ إذ كانوا هم الشهداء أيام الحياة، والدعاة إلى الله، قد شهدوا محل القربة، ودعوا إلى الله على بصيرة.
995 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابرٍ، قال: لما أراد معاوية أن يجري العين إلى جنب أحدٍ عند قبور الشهداء، أمر منادياً فنادى فيهم: من كان له قتيلٌ، فليخرج إليه. قال جابر: فخرجنا إليهم، فوجدناهم رطاباً يتثنون، فأصابت المسحاة إصبع رجل منهم، فبدرت إصبعه، فانفطرت دماً.(4/331)
قال أبو سعيد: لا ينكر بعد هذا منكر أبداً.
996 - حدثنا سليمان بن أبي هلالٍ الذهبي، قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد المكي أخو وهيبٍ، عن أبي الزبير محمد بن مسلمٍ، عن جابرٍ، بمثله، إلا أنه قال: فرأيتهم ينثنون على رقاب الرجال، كأنهم رجالٌ نوم، حتى أصابت المسحاة قدم حمزة بن عبد المطلب، فانبعث دماً.
فأما قوله: ((بالله)): فهذا العبد في قبضته قد انفرد به، وخلص قلبه إلى وحدانيته، فبه يقوم، وبه يقعد، وبه ينطق، وبه يصمت، وبه يعقل، وبه يبطش، وبه يبصر، وبه يسمع.
وهو على الصفة التي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه -تبارك وتعالى-: أنه قال: ((إذا أحببت عبدي، كنت سمعه، وبصره، ويده، ولسانه، وفؤاده، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي ينطق، وبي يعقل)).(4/332)
وقد شرحنا هذا الحديث في بابه، ولكني أردت منه هذا الحرف قوله: ((بالله)).
وأما قوله: ((لله)): فهذا عبدٌ دونه بدرجة، وهو من المقربين الأولياء، إلا أن مقامه دونه من بعده، قد ألقى نفسه بين يديه سلماً، يراقب أموره، فهو يمضي فيها كالعبيد، لا يؤثر أمراً على أمر، ولا يدنسه لنفسه، أمراً يراقب تدبيره، ويقبل منه، ويعمل له.
وأما قوله: ((في ذات الله)): فهذا عبدٌ دونه بدرجة، قد شغف بحب الله، وبذكر آلائه، نهمته رضاه، فهو دائباً في عمره، يبتغي في جميع متقلبه رضاه، فهم كلهم أهل ولاية الله وقربته وخاصته، والأرض سخرة، والأرض تمضي في سخرتها، والعبيد يمضون في حقوق الله، جعل الأرض للآدميين ممراً؛ لأنه بعثهم يوم الميثاق؛ ليقطعوا هذه السفرة عبيداً إلى يوم العرض عليه، فيقبلهم، ويبعثهم ملوكاً إلى داره.
ومنهم من يزيفه وينفيه، ويبعث به إلى سجنه؛ لأنه آبق من العبودة، فانتقلوا من صلب إلى صلب، ومن آخر صلب إلى رحم، ومن رحم إلى(4/333)
مستقر العبيد، وإذا الغلة وإخراج الثمرة، فمنهم من أثمر مسكاً وعنبراً، وباناً وياسميناً، ومنهم من أثمر حنظلاً وخرنوباً.
فإن أصل المسك والعنبر كانت من ورقة حملها آدم من الجنة، فأكلتها دابة، ورعت في ذلك الوادي الذي حل به آدم عليه السلام، فصار ذلك الطيب في سرتها، والعنبر كذلك أيضاً، كانت في البر، فصير مسكنها في البحر، فهي ترمى بأحشائها، فهي العنبر، وأصلها من تلك الورقة، وكذلك ولد آدم عنده، منهم من نزع إلى تربته الطيبة، ومنهم من نزع إلى تربته السبخة.
فالأرض هي ممر الآدميين؛ ليأخذوا منها الزاد في هذه السفرة، فهي بلغتهم، قل أو كثرن ضاق أو اتسع.
فالمنتبه اطلع هذا المطلع، فأخذها تزوداً، ووجهه إلى الله، وقلبه مع الله يسير إليه ركضاً، يقطع الليل والنهار، كلما ذكر الموت، ارتاح؛ لما قد علم أن الموت يذهب به إليه، ويقدم به عليه، فأحب الموت حباً لا يوصف، إذ علم أن الملائكة والأنبياء، والخلق والخليقة كلهم عجزة عن هذه الخطة، فليس لأحد أن يذهب به إلى مولاه الذي هو عطشان بلقائه إلى هذا الموت الذي وكله به، وهذا الرسول الذي جعله بيده، فإذا صار إلى ملحده، لم يكن بينه وبين الأرض إلا كل جميل.(4/334)
بل روي في الخبر: أن الأرض تضمه ضم الوالدة التي طالت غيبة ولدها عنها، فاشتد شوقها، فلما وجدته، ضمته إلى صدرها، وتحننت عليه، وتأوهت على طول غيبته.
وجاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها تستأذن ربها في أن تدخل عليه في لحده في صورتها التي خلقت فيها)).
فإن لكل شيء صورة، فيؤذن لها، فتدخل في تلك الصورة، وتؤنسه، وتبشره، وتبش به، وتقول له: طالما كنت تمشي على ظهري، وأنا إليك مشتاقة، ويبكي ظهر الأرض عليه أربعين صباحاً، وتقول في بكائها: يا رب! عبدك كان يذكرك في فجاجي، وبقاعي، آسفاً على ما فاته، فافتقدت من ذلك، والسماء تبكي عليه، وتقول: يا رب! عبدك كان ينزل عليه رزقه مني، ويصعد عمله إلي، فلا يزال ذلك دأبهما في البكاء.
حتى روي عن عمر بن عبد العزيز: أنه لما مات، بكت السماء والأرض عليه أربعين عاماً.
وقد جعل الله هذه الأرض مسخرة للآدمي؛ لتكون له قواماً وقطعاً لعذره، وخلقه للعبودة، وهو إقامة حقوقه، فإذا اشتغل العبد في إقامة حقوقه، وكان ذلك نهمته، وهمته، وهواه، فالسخرة له سليمة طيبة بلا(4/335)
وبال، فإذا أحدث في السخرة حدثاً لم يكن له، عادت عليه وبالاً، وهو أن يشتغل عن إقامة حقه بما سخر له، فتصير عليه فتنة، فقد تحولت العبودة عن الواحد لأولى .. .. عدد.
قال الله تعالى: {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}.
فهذا له ظاهر وباطن، وما من آية إلا ولها ظهر وبطن، فأما ظاهره: فهو الشرك فيه شركاً يدعيه الشيطان والصنم، وكل ما يعبد من دونه.
{ورجلاً سلماً لرجلٍ}؛ أي: موحد لربه.
والباطن منه: {رجلاً فيه شركاء متشاكسون}؛ أي: قلباً فيه شركاء قد سبوه، وادعوه، كل من ناحيته يدعيه.
والشكس: ضيق الخلق، ومن الضيق تكاد تنقطع هممه؛ حتى يصير أشقاصاً، وكل همة لها شقص من قلبه، فقد صارت فيه شركاء أحزاباً، كل حزب فرح بما لديه؛ ففي قلبه أفراح شهوات الدنيا، وأحوالها اللذيذة،(4/336)
كلهم سلطانه قائم على قلبه، تزاحم صاحبتها، فهم يتشاكسون؛ أي: يتشاقصون فيما بينهم، فهو مفتون فكل شهوة قد سبت شعبة من قلبه.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه باع حماراً له، فقال: قد كان لنا موافقاً، ولكنه أذهب شعبة من قلبي، فبعته.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من أشعبت به همومه في دنياه، لم يبال الله في أي وادٍ هلك)).
فهذا قلب فيه فتنة المال، وفتنة الأهل، وفتنة الولد، وفتنة حب الرياسة، وفتنة العلم، وفتنة الثناء، وفتنة المحمدة.
ورجلاً سالماً لرجل؛ أي: قلباً سالماً للواحد الفرد.
فالمخذول من عبيده من قلبه بين هذه الشركاء، فكلهم يدعيه، وكله ساخط عليه؛ لأنه لا ينال غاية نهمته.(4/337)
والمؤيد المجتبى: قد أخذ الله بقلبه، فجذبه إليه جذباً، فأقامه في فردانيته.
وجاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن هذه الدنيا خضرةٌ حلوةٌ، فاتقوها)).
وقال: ((إن هذا المال خضرٌ حلوٌ، فمن أخذه بحقه، بورك له فيه، ونعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه، لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع)).
وقال في رواية أخرى: ((ومن أخذه بشره نفسٍ لم يبارك له فيه)).(4/338)
فالشره: أن يأخذه بشهوة للتمتع، والأخذ بحقه: أن يأخذه بحاجةٍ إليه للتزود.
وقوله: (فاتقوها) أن تغركم هذه الفانية عن الباقية، وأن تغركم لذة نفوسكم فيها عن الله الخالق البارئ المصور، فإنكم كنتم قبضة منها، فبرأكم؛ أي: فصلكم منها، قدر مقداركم، فهو الخالق، وبرأكم، فهو البارئ، وصوركم بأفضل الصور وأجملها، فلذة هذه الأفعال التي وصل إليكم نفعها وشرفها الزمن الذي سخرها لكم، وكنتم من قبل ذلك مثلها تراباً يبساً مواتاً.(4/339)
الأصل الثاني والتسعون والمئة
997 - حدثنا محمد بن عليٍّ الحكيم الترمذي رحمه الله، قال:
حدثنا الفضل بن محمدٍ الواسطي، حدثنا أيوب بن محمدٍ الرقي، قال: حدثنا الوليد بن الوليد أبو العباس الدمشقي، عن ثابت بن يزيد، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، قال: سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مكارم الأخلاق عشرٌ تكون(4/341)
في الرجل، ولا تكون في ابنه، وتكون في الابن، ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد، ولا تكون في سيده، يقسمها الله تعالى لمن أراد به السعادة: صدق الحديث، وصدق البأس، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وحفظ الأمانة، وصلة الرحم، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وإقراء الضيف، ورأسهن الحياء)).
998 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن الإفريقي، عن يزيد بن أبي منصورٍ، عن عائشة، بمثله،(4/342)
ولم يرفعه.
فكل خلق من هذه الأخلاق مكرمة لمن منحها.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الأخلاق مخزونةٌ عند الله، فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً، منحه منها خلقاً)).
فهذه أخلاق الله التي خرجت من أسمائه، والخلق والعادة بمعنى واحد، وأما الأخلاق التي ركب عليها الآدمي، فقد عم الجميع، تلك أخلاق الطبيعة، ثم له منائح من فضله لعبيد من عبيده يختصهم بمشيئته مناً منه عليهم بخلق وخلقين وثلاثة وأكثر من ذلك من المخزونات، وإنما قيل: مخزونات؛ لأنها له، فيعطي بمنه من عنده من أحب من عباده.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)).(4/343)
يدل قوله: على أن الأنبياء قبله قد كانت معهم هذه الأخلاق، وعليهم منها بقية، فبعث محمداً صلى الله عليه وسلم ليتممها.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن لله مئة وسبعة عشر خلقاً، من أتاه بواحدةٍ منها، دخل الجنة)).
وقال: ((إن الله تعالى يحب معالي الأخلاق)).
وإذا جعل من محابه في عبدٍ من عبيده، أنجاه محبوبه.
وروي عنه: أنه قال: ((إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم)).
فكما كان بين الأرزاق تفاوتٌ بعيد، فكذلك في الأخلاق، وإن الله يحب العبد على أخلاقه إذا تخلق بها له؛ فإذا تخلق بها لدنيا، كان من حرمة تلك المكرمة التي أعطيها أن يعقبه منها معروفاً؛ فإن كان(4/344)
ظالماً، تيب عليه، ورزق الإنابة، وإن مات على غير توبة، رحم، وغفر له بحرمة ذلك الخلق، وإن كان كافراً، خفف عنه العذاب.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة: ((ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة)).
وقال: ((إنه لينال بحسن الخلق درجة الصائم القائم)).
وقال في حديث الرؤيا: ((رأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجابٌ، فجاء حسن خلقه، فأدخله على الله)).(4/345)
فتأويل هذه الرؤيا عندنا: أن سوء الخلق حجاب على القلب، ولا يستقر اليقين في قلبه؛ لأن مدانئ الأخلاق تظلم القلب، وتحجبه؛ فحسن الخلق وصفاؤه يوصل القلب إلى الله.
999 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن معن بن عبد الرحمن، قال: قال عبد الله: نجد الرجل فظًّا، فإذا بحثته، وجدت سريرته الإيمان، ونجده حلو الخلائق، فإذا بحثته، لم تجد فيه من الإيمان شيئاً، ومن شاء الله، جمع له حلاوة الدين، وحلاوة الخلق.
1000 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الحميد بن صالحٍ البرجمي، عن زكريا بن عبد الله(4/346)
ابن يزيد الصهباني، عن أبيه، عن كميل بن زيادٍ النخعي، عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: سبحان الله! ما أزهد الناس في الخير! عجبت لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة، لا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كنا لا نرجو جنة، ولا نخشى ناراً، ولا ثواباً، ولا عقاباً؛ لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق؛ فإنها مما تدل على سبيل النجاح، فقام رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وما هو خيرٌ منه، لما أتانا سبايا طيئٍ، وقعت لي جاريةٌ حماء، حواء، لعساء، لمياء، عيطاء، مسنونة الخدين، صلتة الجبين، مقرونة الحاجبين، صغيرة الأذنين، شماء الأنف، مقبوضة الهامة، درماء الكعبين، خدلج الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ممكورة الكشحين، مصقولة المتنين، فلما رأيتها، أعجبت بها، وقلت: لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها من(4/347)
فيئي، فلما تكلمت، نسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها، فقالت: يا محمد! إن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، وإني ابنة سرة قومي، كان أبي يفك العاني، ويحمي الديار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجةٍ قط، وأنا بنت حاتم طيٍّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا جارية! هذه صفة المؤمن حقًّا، لو كان أبوك إسلاميًّا، لترحمنا عليه، خلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق))، فقام أبو بردة فقال: يا رسول الله! آلله يحب مكارم الأخلاق؟ فقال: ((يا أبا بردة! لا يدخل الجنة أحدٌ إلا بحسن الخلق)).(4/348)
قوله: (جارية حماء) ورجل أحم: وهو الذي شفته سوداء، والحواء واللعساء مثله، إلا أن الحماء أشد سواداً، واللعساء: أقل منه سواداً، وباطنها إلى الحمرة، واللمياء: أقل سواداً، وظاهرها سواد، وباطنها إلى لون الشفاه، وفي شفتيها رطوبة.
والعيطاء: طويلة العنق، يقال: رجل أعيط، وامرأة عيطاء، وأجيد وجيداء، وأعنق وعنقاء، كل هذا إذا كان في عنقه طولٌ، والعيط: طول في استدارة فارتواء، والجيد والعنق يراد به الطول فقط.
قوله: (مسنونة الخدين) أي: مصونة الخدين، وهو أن يكون سهلاً في استواء، ليس بالمكلثم الذي قد تراكم اللحم عليه، والسن: الصب، وإنما قيل: مسنونة؛ لاستواء الوجنتين بالخدين، فكأنه شيء واحد من استوائه وهو أحسن الوجوه، يقال: هذا رجل مسنون الوجه؛ أي: منصبٌّ مستوي الخدين، وأما إذا كان لحماً أعالى حر وجهه، فإنه وجيه، فما علا منه أسفل من العين، فهو وجنة، وما كان أسفل من الوجنة، فهو(4/349)
خد، فإذا لم يكن هناك لحم، يقال: مسنون الخد، ومسنون الوجه؛ أي: منصب مستوٍ، فإذا كان هناك لحم، قيل: رجل أوجن، وامرأة وجناء، وذلك الموضع منه يسمى الوجنة، فإذا لم يكن لحم، لا يقال له: وجنة، إنما يقال له: خد.
وقوله: (صلتة الجبين)، فالصلت: الواسع المستوي، والجبين: ناحيتا الجبهة، والجبهة: مسجده، والجبين ناحيته عن يمين الجبهة، وعن شمالها.
وقوله: (مقرونة الحاجبين) أي: متصلة.
وقوله: (شماء الأنف)؛ أي: طويلة في رقة وارتفاع، يقال: رجل أشم، وامرأة شماء.
وقوله: (مقبوضة الهامة)؛ أي: هامتها ليست لها نتق، ولا إفاضة، إنما هي مجتمعة في مستقر واستواءٍ.
وقوله: (درماء الكعبين)، والدرم: اللصوق والقرب، وهو أن يكون(4/350)
ملتصقاً بالساق والقدم، لا فرجة هناك، ولا سعة، كأنه وصف بالضيق والقرب بعضه من بعض.
قوله: (خدلجة الساقين) وهو أن يكون مستديراً في دبر لحم ووفارة؛ كطي الطوامير من الاستدارة، وظهر ساقها كعضلة من الاستواء والتدوير.
وقوله: (لفاء الفخذين)؛ أي: كثيرة اللحم، فقد التفا؛ أي: قرب أحدهما من الآخر من لحامته.
قوله: (خميصة الخصرين) وهو أن ينضم خصراها.
والخصر: ما بين الحجبة والقصرى من الأضلاع.
والخصر والخاصرة بمعنى واحد.
والحجبة: طرف العجز المشرف على مراق البطن.
والحرقفة: طرف العجز عند الصلب.(4/351)
والماكبة: ما بين الحرقفة والحجبة مما أقبل على الخاصرة.
والعجز: ما بين الحجبتين والجاعرتين.
والورك: العظم الذي على طرف الفخذ، فقد وصل بين الفخذ والعجز.
والجاعرة: حد الورك، وهو موضع الكي من الحمار.
والخصر: هو ما ذكرناه.
والخمص: هو اللحوق بالصلب حتى كأنه جائع من خواه وانضمامه.
ويقال: رجل أهيف، وامرأة هيفاء، فهو مثل ما وصفنا إذا كان خصراه قد لحقا عمود بطنه، وكذلك روي في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمصان القدمين.
يقال: رجل خمصان، وامرأة خمصانة، وهو الذي قد لطف خاصرتاه حتى استويا، فلا يرى له نتق، والتزقت ضلوعه، وتدانى صدره، ودق صلبه، فلم يفاوت بعضه بعضاً.(4/352)
قوله: (ممكورة الكشحين) فالممكورة: الممتلئة ريًّا من اللحم، والوفارة.
والكشح: فوق الخاصرة إلى حيال الإبط من الجنبين.
قوله: (مصقولة المتنين) فالعفار: متوسط الصلب والمتنين عن يمين الصلب وعن شماله، وهما ناحيتاه، كأنه يقول: لهما بريق من الصفاء واللين، فكأنه قد صقل متناه، وهما من المنكب إلى الوركين مما قد اكتنفا الصلب.
قولها: (بنت سرة قومي): يقال في اللغة: هذا سرة قومه؛ أي: معتمدهم ومتوسطهم.
قولها: (يفك العاني)؛ أي: الأسير، (ويحمي الديار): يكون حامية قومه، (ومن لجأ إليه).
فأما ما ذكر من مكارم الأخلاق، فعد عشراً منها:
(صدق الحديث): فصدق الحديث من الإيمان، لأن الكذب مجانب للإيمان، وذلك أن الرجل إذا كذب، فقال: كان كذا، ولم يكن ذلك،(4/353)
فقد افترى على الله؛ لأنه زعم: أن الله عز وجل قد كونه، وإن كان ذلك، فزعم أنه لم يكن، فقد افترى على الله.
فمن هاهنا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الكذب مجانب للإيمان.
فصدق الحديث من الإيمان، وصدق الناس من الثقة بالله شجاعة، وسماحة، وإعطاء السائل من الرحمة، والمكافأة بالصنائع من الشكر، وحفظ الأمانة من الوفاء، وصلة الرحم من العطف، والتذمم للجار من نزاهة النفس، والتذمم للصاحب منه أيضاً، وقرى الضيف من سخاوة النفس، والحياء من عفة الروح؛ فكل خلق من هذه الأخلاق مكرمة عظيمة، يسعد بالواحدة منها صاحبها، فكيف بمن جمعت له هذه المكارم كلها؟
والأخلاق الحسنة كثيرة، وكلها تقرب إلى الله، ولكن هذه مكارم تلك الأخلاق، فكل مكرمة منها تمنح العبد؛ فهي له شرف وفضيلة في الدنيا والآخرة، رفعة ووسيلة.(4/354)
الأصل الثالث والتسعون والمئة
1001 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد بن شعيبٍ الأزدي، قال: حدثنا موسى بن عليٍّ بن رباحٍ، قال: سمعت أبي يقول: سمعت عبد الله بن عمرٍو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع خلالٍ إذا أعطي العبد، فلا يضره ما عزل عنه من الدنيا: حسن خليقةٍ، وعفاف طعمةٍ، وصدق حديثٍ، وحفظ أمانةٍ)).
فهذه خصال كلها تطهير للجسد والقلب.
قال الله تعالى في تنزيله: {قد أفلح من تزكى}، وقال في(4/355)
الدرجات العلا: {وذلك جزاء من تزكى}.
فأما (حسن الخليقة): فأن يكون حسن العشرة مع خلقه، حسن الخلق مع أمره ونهيه، حسن العشرة والخلق مع تدبير الله وأحكامه.
وقوله: (عفاف طعمة): فأن يطعم ما لا يشوبه الحرام، ولا الشهوة، ولا المطامع.
قوله: (وصدق حديث): فأن يعف لسانه.
وأما (حفظ أمانة): فأن يحفظ جوارحه وما اؤتمن عليه؛ فإن الكذوب والخائن لا قدر لهما عند الله.(4/356)
الأصل الرابع والتسعون والمئة
1002 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي عبيدة بن الجراح، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس من الصلوات صلاةٌ أفضل من صلاة الغداة يوم الجمعة في جماعةٍ، وما أحسبه شهدها أحدٌ منكم إلا مغفورٌ له)).(4/357)
فيوم الجمعة هو يومه الذي اصطفاه، واستأثر به على الأيام، فختم به آخر الخلق، وهو آدم صلى الله عليه وسلم، وفيه قبضه، وجعله يوم الجزاء، ففيه تقوم الساعة، وفيه فصل القضاء، وفيه زيارة الأحباب إلى الفراديس العلا إلى الله العلي الأعلى.
وأما صلاة الغداة، فإن الله يشهدها، وملائكته، كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً}.
ولذلك قال: ((من صلى الصبح في جماعةٍ، فهو في ذمة الله))؛ لأنه وقع في شهوده وقربه.
1003 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا نصر بن صالحٍ، قال: حدثنا صالحٌ المري، عن ثابتٍ البناني، ويزيد الرقاشي، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من صلى صلاة الصبح، فهو في ذمة الله عز وجل)).(4/358)
فإذا وافق العبد شهوده في اليوم الذي هو يومه، دخل في ستره وذمته.
فالستر: المغفرة، والذمة: الجوار، والحصن من العدو، فرغب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة في تلك الصلاة بما كشف من الغطاء عن الحال فيه، وأجمل الكشف، وفهم عنه أصحابه مجملاً، ثم احتيج من بعده إلى شرحه؛ لأن هذا الخلق قد زالت العصمة عنهم، وتراكمت شدة النفس على قلوبهم، وأحاط رين الذنوب بالقلوب في صدورهم.(4/359)
الأصل الخامس والتسعون والمئة
1004 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد ابن أبي مريم المصري، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني عبد الله بن سليمان، عن دراجٍ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، وابن حجيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه مر ببلالٍ وهو يقرأ من هذه السورة، وهذه السورة، وقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ السورة على نحوها))، ثم قال: ((مثل بلالٍ كمثل نحلةٍ غدت تأكل من الحلو والمر، ثم(4/361)
تمسي حلواً كله)).
معناه: أن النحلة هكذا سبيلها، وهي مأمورة بذلك، وجعل لها كلا الصنفين رزقاً؛ فإن في الحلو شفاء وداء، وفي المر شفاء وداء؛ فأمرت بالجمع بين ذلك كله؛ ليكون الداء بالشفاء، والشفاء بالداء، فيعتدل، فلا يضر، ويكون شفاء، فأوحى إليها.
ثم ذكر ذلك في تنزيله، فقال: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاءٌ}.
فذلت لله مطيعة له، فاتخذت بيوتاً من الأماكن التي أشير لها إليها، وابتغت رزقها من حيث ذكر لها، فالمر من الثمار كريهٌ على كل دابة، وكل(4/362)
نفس منفوسة، ولكنها كما سخرت للآدمي، فذلت وانقادت، كذلك فيما صرف إليها من الرزق حلواً كان أو مرًّا، سخرت لأكلها، وقد تجد سائر الدواب في مرعاهن يتقين كثيراً من الكلأ، ومن ألوان من نبات الأرض، فلا يقربنه، وتجد كثيراً من ذوات الأجنحة يتقين كثيراً من الثمار فلا يقربنه.
وسخرت النحل لأكل كل الثمرات، حلوها ومرها، محبوبها ومكروهها.
وسائر الهوام، والطيور، والدواب تتخذ المأوى والأوكار لنفسها، وقرارها فيها، واتخذت النحل بيوتاً بما أوحي إليها؛ لتكون تلك البيوت أوعية لما يجعل الله في مأكولها من الشفاء للآدميين، فلولا تلك البيوت التي تتخذها النحل؛ لكان الذي يخرج من بطونها يذهب فاسداً، فتلك البيوت، وإن كانت مساكنها، فهي للعسل، ولأمر الله، لا لها، ثم أمرها بأن تأكل من الثمرات حلوها وحامضها، ورطبها ويابسها، وحارها وباردها،(4/363)
ومحبوبها ومكروهها؛ فإن لك ثمرة نفعاً، فإذا أكلت من الكل، فقد جمعت النفع كله في أكلتها، فإذا كان أكلها على هذه الصفة تاركة لشهوتها، قد استوت عندها محبوب الثمار ومكروهها لما ذلت لأمر الله؛ صار هذا الأكل لله، لا لنفسها، ولو آثرت المحبوب على المكروه، لكان أكلها لنفسها، فإنما وصفها الله بالذلة؛ لأنها ذلت لله في أكل كل الثمرات فيما وافقها، وفيما لم يوافقها.
فصار ذلك شفاء بمنزلة الأدوية، يخلط من كل نوع، فصارت في طيرانها سالكة سبل ربها، وصارت هذه كلها سبله حيثما طارت في طلب رزق؛ لأنها رمت بشهوتها، واستوت عندها حالة المكروه والمحبوب من تلك الثمار، ونسبها إلى الذلة، ولم يقل: مطيعة، ولكن: ذللاً، وقد تكون طاعة والنفس كارهة، فإذا ذلت النفس، ذهبت الكراهة، فذكر منها الذلة، فقد انتظمت الطاعة، فلما صفا أكلها في أنها لله لا لنفسها بشهوتها ونهمتها، صار ما في جوفها من المأكول حلواً، وصار شفاءً لأسقام الآدميين.(4/364)
ألا ترى أن البقرة صار لبنها شفاء، ولحمها داء، فإنما صار هكذا؛ لأنها تأكل من كل الشجر، هكذا جاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بألبان البقر؛ فإنها ترم من كل شجرٍ)).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لبنها دواءٌ، وسمنها شفاءٌ، ولحمها داءٌ)).
فإنما صار لبنها دواء؛ لأنها تأخذ من كل شجرة، وصار لحمها داءٌ؛ لأنها تأكل بالنهمة؛ لأنها جعمة، ولذلك تعاودت ألسنة الناس هذه الكلمة،(4/365)
فيشبه الإنسان الشهواني به، فيقال: مثل البقرة الجعمة، فهذه كلمة جارية على الألسنة.
ألا ترى أنها ترعى من كل الشجر حلوه ومره، فهذه لجعامتها، لا لأنها ذلت لله، بأمر ربها كالنحل؛ فإنها لم يلق إليها ما ألقي إلى النحل إلهاماً من الله، فذلت بإلهام الله، ولكن البقرة أكلت من كل الشجر؛ لجعامتها.
ألا ترى أنها ترعى المزابل ومراعي السوء، وترتزق من المقاذير، وتذر الأطايب من الشجر، فهذه آيات الجعومة، فلما صارت تأكل بالنهمة جعامة، صار لحمها داء، واللبن الذي حدث عن أخلاط دواء، والنهمة عليها تنبت لحماتها، فصارت منزوعة البركة، وكل شيء لا يبارك فيه، فهو(4/366)
داء في الدنيا والآخرة، والدواء ضد الداء، والشفاء ثمرة الدواء، وهو البرء.
ويقال في اللغة: دوي يدوى على قالب فعل، فهو من الداء، وداوى يداوي على قالب فاعل، هذا من الدواء، واشتق اسم أحدهما من الآخر، والداء: الهلاك، ومنه سميت المفازة دوية، وهو الاسم الأصلي؛ لأنه موضع الهلاك، وسمتها العرب مفازة تطيراً؛ لأنها مهلكة.
فالداء إذا عرض، أهلك، فإذا عولج بالدواء، أهلك الدواء الداء، فسمي هذا داء، وهذا دواء للهلاك؛ ليعرف هذا من ذاك بالواو الذي زيد فيه.
والشفاء: هو الذي يحدث عن الدواء؛ كالشبع من الخبز، والرواء من الماء، فجعل هذا الأمر منه وحياً إلى النحل، والوحي: القذف إلهاماً، والقذف منه خصوصية لمن قذف إليه، وتقديماً له على نظرائه من أي جنس كان.(4/367)
ولهذا ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن قتل النحلة، والصرد، والضفادع، والهدهد.
فقد كان لكل واحد منهم سالف عمل مرضي، وفي خلقتهم جوهر يتقد من الجواهر، وقد شرحناه في باب قتلهن.
ثم قال في آخر الآية: {شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاءٌ للناس إن في ذلك لآيةً لقومٍ يتفكرون}.
فثمرة هذه الآية لمن صفا فكره فيها يعلمك أن النحلة التي سخرتها لك ذلت لي، فاستوى عندها في المطعم محبوبها ومكروهها، وتركت نهمتها، فجعلت ما في باطنها حلوها ومرها حلواً كله، وجعلته شفاء من الأسقام.
فكيف بالآدمي المسخر له إذا ذلت نفسه، فتركت نهمتها وشهوتها رياضة لها، حتى استوى عندها المكروه والمحبوب من أحوالها؟.
كيف يصير ذلك المكروه كله عنده حلواً محبوباً، فيكون كلامه شفاء للمذنبين، وأفعاله شفاء للناظرين إليه من أهل المعاصي، ورؤيته حياة لقلوبهم؟.(4/368)
فأما تمثيل فعل بلال بالنحلة، فإن بلالاً كان إذا قرأ، قصد لآيات الرحمة، أو لصفات الجنة، فيتلوها نظاماً.
ألا ترى أنه قال: ((أخلط الطيب بالطيب))؟ فكان يقصد من القرآن لما طيب نفسه، فأمره أن يقرأ السورة على نحوها كما جاءت ممزوجة، والله أعلم بدواء العباد وحاجتهم فلو شاء، لصنفهم أصنافاً، كل صنف على حدة، ولكنه مزجها؛ ليعمل على القلوب على المزاج، فنظامه لا يوصف، ولا يفهم نظامه إلا الأنبياء والأولياء، حرام على قلوب التفتت إلى أحوال النفس، أو حجبت عقولها عنه بشهوة أن تفهم نظامه.
ولقد تلوت يوماً سورةً حتى أتيت على هذه الآية: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً. الملك يومئذٍ الحق للرحمن}، فأوقفتني الآية كالمبهوت في فكر ما ذكر من تلك الحال، فقلت: يا لطيف! علمت أن قلوب أوليائك الذين يعقلون هذا الوصف عنك، ويتراءى لهم هول هذه الصفة لا تتمالك، فلطفت لهم، فنسبت الملك إلى أعم اسم من الرحمة، فقلت: للرحمن؛ ليلاقي هذا الاسم تلك القلوب التي يجل بها الهول(4/369)
عند تلاوته، فيمازج تلك الأهوال التي يجل بها، ولو كان بدله اسماً من الأسماء التي تزيد في الهول؛ كقوله: العزيز، الجبار، ثم تفطرت القلوب، كان حقيقاً غير مدفوع.
فنظامه في جميع كلامه نظامٌ يعجز عنه الواصف والمفكر، ومن النظام تخرج اللطائف، فكان بلال رضي الله عنه يقصد لما تطيب النفوس به من آيات الرحمة، فأمره أن يقرأ على نظام رب العالمين، فهو أعلم بالشفاء؛ فإنه سماه: شفاء لما في الصدور؛ فإن في الصدور والنفوس [داء] وهي الشهوات، فإذا جاءت مواعظ الله، جاءت بالشفاء معها، فذهبت بالداء، ثم مثل شأن بلال بالنحلة بقدر تغدو، أفتأكل حلواً ومراً، ثم يمسي كله حلواً.
معناه: أن المؤمن يتلو آية الوعد، فيبشر قلبه ويسره، ثم يتلو آية الوعيد، فينكسر قلبه، ويسوءه ذلك، فهو بين خوف ورجاء، فهذا حلو ومر، ثم يطمئن إلى رحمة الله، وإلى معرفته بربه، فيصير حلواً كله، وقد ذكر في تنزيله، فقال تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}.(4/370)
فإنما اقشعرت الجلود من أهل خشيته من هول الوعيد الذي حل بقلوبهم، فهذه مرارة، ثم اطمأنت قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله؛ لما عرفوه كريماً، رحيماً، ودوداً، سمحاً، جواداً، رؤوفاً، فطابت نفوسهم، ولانت جلودهم، وقلوبهم مطمئنة إلى ذكر الله.
فهذه الأسماء إنما صارت هكذا؛ لأن التوحيد فيه قد استقر قراره، وإنما خرج له التوحيد من خزائن المنة، والمنة من الفضل، والفضل من جماله، والوعد والوعيد كلامه لأهل دينه من أجل أعمالهم وسعيهم.
فإذا تلا العبد وعده، رجا، وإذا تلا وعيده، خاف، فاقشعر منه، وبكى، وجزع، والتوحيد الذي بدا له من منه على ما وصفنا لا يدعه حتى يجذب قلبه إلى ربه، فيطمئن إلى عطفه، فإنه من عطفه عليه نال هذا، فشبهه بالنحلة تأكل حلواً ومراً، ثم تمسي، فعاد كله حلواً.
قال الله تبارك اسمه {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.
فالمطمئن قد استوى عنده المحبوب والمكروه من أحكامه عليه، فقبله منه على سبيل الرضا عنه، فرضي الله عنه، ويخاف من نوائب الدنيا(4/371)
ونوائب الآخرة، ثم يطمئن إلى مولاه، نعم المولى ونعم النصير؛ لأنه صيره عصمته في الأمور والنوائب.
وقد قال: {واعتصموا بالله هو مولاكم}، فمن يجمع هذا القول في قلبه، فهو عصمته في كل نائبة من كل سوء.(4/372)
الأصل السادس والتسعون والمئة
1005 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ليث ابن سعدٍ، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرٍو، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: ((قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني؛ فإنك أنت الغفور الرحيم)).(4/373)
فهذا عبد قد اعترف بالظلم، ثم التجأ إليه مضطراً، لا يجد لذنبه ساتراً غيره، وقد قال عز وجل: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}.
ثم سأله المغفرة، وهي الستر، ثم قال: ((من عندك)).
فالأشياء كلها من عنده، ولكن إذا قيل: من عندك، عرف أنه ليس مما قد بذله العامة، إنما يبتغي من عنده ما قد خزنه عن العامة، ولله رحمة قد عمت الخلق؛ برهم وفاجرهم، سعيدهم وشقيهم في أرزاقهم ومعايشهم وأحوالهم، ثم له رحمة قد خص بها المؤمنين، وهي رحمة(4/374)
الطاعة، وله رحمة قد خص بها الأولياء، وله رحمة قد خص بها الأنبياء، فقال: {ووهبنا لهم من رحمتنا}.
وقال الراسخون في العلم: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب}؛ فإنما سألوه رحمة من عنده.(4/375)
الأصل السابع والتسعون والمئة
1006 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا زيد بن حبابٍ، قال: حدثنا سهيل بن عبد الله أخو القطعي، عن ثابتٍ البناني، عن أنس ابن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة}، قال: ((قال ربكم: إني أنا أهلٌ أن أتقى، ولا يجعل معي إلهٌ، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً، كان أهلاً أن أغفر له)).(4/377)
1007 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا هدبة ابن خالدٍ الأزدي، قال: حدثنا سهيل بن عبد الله أخو خزمٍ القطعي، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة}، قال: ((فقال ربكم: أنا أهلٌ أن أتقى ولا يجعل معي إلهٌ، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً، فأنا أهلٌ أن أغفر له)).
فقد اختلفت الروايتان في اللفظ:
فقال الحماني: ((كان أهلاً أن أغفر له))، وقال هدبة: ((فأنا أهلٌ أن أغفر له)). والمعنى راجع فيهما إلى معنى واحد.
فالعبد إذا اتقى أن يجعل معه إلهاً، فربنا أهل لذلك؛ لأنه لا إله غيره،(4/378)
فإنما اتقى أن يشرك به أحداً، ولو أشرك به أحداً، لفعل محالاً؛ لأنه جعل شيئاً لا يكون، وليس بكائن، فهذا المتقي حين اتقى أن يجعل معه إلهاً، فقد فعل ما ربنا أهله من النفي عنه شيئاً لا يكون، فذلك قوله: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} أهل أن تنفى دعوى الشرك لأحد في ربوبيته وإلهيته.
فمن فعل ذلك، واتقى، كان أهلاً للمغفرة، وأن يستر عليه ذنوبه وعيوبه، وإنما صار كذلك؛ لأن الإنسان ركب فيه الشهوات، والهوى يميل به كذا وهكذا، فليس له نور في قلبه، فمن جعله الله أهلاً لنوره، فإنما اتقى بذلك النور أن يجعل معه إلهاً، فمن من الله عليه بذلك النور والهداية، كان أهلاً أن يغفر له ذنوبه، ويستر عليه عيوبه، ومن وقاه الله ظلمة الشرك، فجعله أهلاً لذلك، كان أهلاً أن يقيه ظلمة النار وحرها.
وقال في تنزيله: {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها}، فجعلهم أحق بهذه الكلمة، وجعلهم أهلاً لها.
وقال: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون. فضلاً من الله ونعمةً والله عليمٌ حكيمٌ}.(4/379)
وفي الرواية الأخرى قال: ((فأنا أهلٌ أن أغفر له)).
فهذا على نسق التنزيل، نسب الأهلية إلى نفسه في الفعلين، فهو أهل أن يتقى، وهو أهل أن يغفر.
والأهل والآل بمعنى واحد، وهو الرجوع، والهاء والواو والهمزة يتبدلون.
معناه: أي: حقيق أن يتقى راجع الأمور إلى أن يتقى؛ إذ لا يوجد إله غيره، وحقيق أن يغفر، وراجع الأمور إلى أن يغفر لمن وحده، واتقى أن يجعل معه إلهاً؛ لأنه شكور، وقد تسمى بالشكور، ولا يضيع أجر المحسنين، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، فإن لم يغفر لمن وحده، فأي شكرٍ لتوحيده، وهو أعظم من أعمال جميع الثقلين؟
ومن قال: إن أحداً من أهل التوحيد يبقى في النار أبداً؛ فقد أعظم الفرية على الله، ونسبه إلى الجور والكفران، تعالى الله عن ذلك.
وإنما قال بعض السلف قولاً في أهل الكبائر، فحملوه على غير(4/380)
جهته، ولم يفهموا عنه، فقال: لا أرى آمن أن يخلد في النار من أذنب ذنباً واحداً على وجه التغليظ، وعلى وجه الخوف عليه، والخلد لا يكون أبداً، إنما الخلد طول المكث في اللغة.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيرني ربي بين لقائه، وبين الخلد في الدنيا، فاخترت لقاء ربي)).
فلا يشك أن الخلد في الدنيا لا يكون أبداً.
وقوله: {أخلد إلى الأرض}؛ أي: أبطأ عن الآخرة إليها، ويقال: هذا رجل مخلد: إذا أبطأ شيبه، فإنما قال ذلك القائل: لا آمن أن يخلد؛ أي: يطول مكثه في النار، ولا نعلم أحداً يجوز لنفسه أن يتكلم بهذا ممن يعقل أن المؤمن يبقى في النار أبداً، ومن قاله، فقد ضل وغوى.
1008 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا سلمة بن حيان الطائي، قال: حدثنا سويد بن عبد العزيز،(4/381)
قال: حدثني نوح بن ذكوان، عن أخيه أيوب، عن الحسن -رحمة الله عليه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع إلي يديه، ثم أردهما، قالت الملائكة: إلهنا! ليس بأهلٍ لذلك، قال الله تعالى: لكني أهل التقوى وأهل المغفرة، أشهدكم أني غفرت له)).(4/382)
الأصل الثامن والتسعون والمئة
1009 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا حوشب ابن عبد الكريم البلخي، قال: حدثنا حماد بن زيدٍ، عن أبان، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في آخر الزمان ديدان القراء، فمن أدرك ذلك الزمان، فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومنهم، وهم الأنتنون، ثم يظهر قلانس للبرود، فلا يستحيا يومئذٍ من الربا، والمتمسك يومئذٍ بدينه كالقابض على جمرةٍ، والمتمسك يومئذٍ بدينه أجره كأجر خمسين))، قالوا: أمنا، أو منهم؟ قال: ((بل منكم)).(4/383)
1010 - حدثنا حميد بن عليٍّ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حدثنا جعفر بن محمد الهمداني، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمانٌ المتمسك فيه بسنتي عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر)).
فديدان القراء: هم هؤلاء الذين تنسكوا في ظاهر الأحوال تصنعاً وتأكلاً للدنيا به، قد رموا بأبصارهم إلى الأرض، ومدوا بأعناقهم تيهاً، وتكبراً، وإعجاباً بظاهر أحوالهم؛ لجهلهم بالله، وغرتهم به، يعدون(4/384)
الخطأ ويقضون المنى، ناظرين إلى أهل الذنوب بعين الازدراء؛ حقارة لهم، وعجباً بأنفسهم، أعطوا القوة على لبس الخشن، وأكل الحشف، والتصبر عن ملاذ الدنيا وشهواتها استدراجاً، واستمروا فيها، وسخت نفوسهم بترك جميع اللذات في جنب لذة ثناء الخلق عليهم، والتعظيم لهم، والنظر لهم بعين الإجلال.
تقول لهم: نفوسهم: إنما تنال الرفعة العظمى عند الخلق بترك ظاهر الدنيا ولذاتها، حتى ينال ملكاً بلا سيف، وجنداً بلا ارتزاق، وغنىً بلا خزانة، وعبيداً بلا ملك، قست قلوبهم بما مناهم، فأقبلوا على جفاء الدنيا وذمها، وذم من تناولها، والطعن على من وسم بالغنى من أئمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أداهم جهلهم إلى أن خرجوا على الرسل طعناً ورمياً، منهم: داود، وسليمان، وأيوب، ومن وسع عليهم هذه الدنيا -صلوات الله عليهم- فخرجوا من الدين مروقاً من حيث لم يشعروا.
وأعظم شيء في أعين هذا الخلق هذه الزينة والحطام، عظمت هذه في نفوسهم، وكبر شأنها في صدورهم، حتى عصوا الله في جنته، ولهوا عن(4/385)
وعيده، وباعوا آخرتهم بدنياهم، فمن تركها، فقد عظم شأنه عندهم، وحسبوا أنه لم يبق وراء هذا شيء، وأن هذا عبد قد بلغ الغاية في الدين، ولا يعلمون أنه ترك شيئاً قليلاً من شيء لا يزن جمعيه عند الله جناح بعوضة، فإذا كان جميعه لا يزن جناح بعوضة، فالذي ترك منه كم هو؟.
بلغنا في الخبر: أن الله -تبارك اسمه- يقول لتارك الدنيا: زهدت في الدنيا راحة تعجلتها، وللعابد: عبدتني، فحملك العباد فوق رؤوسهم، فهل أحببت في ولياً؟ أو هل عاديت في عدواً؟ وزعتي! لاينال رحمتي من لم يوال في، ولم يعاد في.
فهؤلاء الديدان قد تركوها في رأي العين من حيث يظهر للخلق، وأخروها من حيث يخفى عليهم، اتخذوا بتركها في الظاهر عند الخلق منزلة ووجهاً، حتى نالوها في الباطن بتلك المنزلة أوفر مما تركوها، وعلى أسهل ما تناولوها، فقد كانوا من قبل الترك يكدون سعياً في تناولها حتى(4/386)
يصلوا إليها، ومن بعد المنزلة تناولوها على أيدي الراحة بسمة الترك، لما يزدرون على أهل الغنى، ويجفون أهل الريب، ويشمئزون عن مخالطة العامة، العبوس في وجوههم، والتماوت في أركانهم، وعجب النفس في صدورهم، فنية الترك في كلامهم، وسوء الخلق في أفعالهم، وضيق الصدر في عشرتهم الواحد منهم في نفسه أعظم من ملء كورته رجالاً فهم ديدان القراء الذين يقال لهم بالأعجمية: كجل، يهابهم الناس هيبة سوء الخلق، لا هيبة الحق، ولا هيبة الخشية.
فحق لهم أن يكونوا كما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأنتنين؛ لأنهم في نتن من الأمور، وسفالة ودناءة، وصدورهم أنتن من أمورهم؛ لأنهم يموتون على الدنيا عشقاً، ومن أجلها يعادون أهل الدنيا ممن وسم بالغنى، يخادع الله بعمله، ولا يفكر في يوم القيامة، وبتحصيل ما في الصدور، حظه من عمره ما انفرد بأمر آخرته، فإذا خرج منها إلى دنياه، يظل عمره بالغفلة، همته هواه، ودينه مناه، وتبعة غواه، وسعيه شراه، وهم من الصدق عراة، قد(4/387)
ملكوا القلوب من تصنعهم وريائهم، وهجروا الخلق من أجل دنياهم، كأنهم يقولون لهم: ضعوها حتى نرفعها، وتخلوا عنها حتى نملكها.
وصنف آخر: تصنعوا لهذا الخلق؛ بزي أهل المسكنة والفقر من خشن الملابس، وطول القلانس، وطرة اللحى، وحف الشوارب؛ ليتمكنوا في صدور المجالس، وليبتدوا من الملوك الأبالس هذا الحطام على الختل الدامس، والتدريب الدالس، وحمات الهامس، ونصب فخوخ القابض.
فالمتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ظهور هذا الجنس، كالقابض على الجمر؛ لأن هذين الصنفين قد تمكنوا من صدور الخلق؛ لغلبة الجهل عليهم، فهم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فهم عند الخلق علماء، وفي الملكوت جهال.
كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من قلوب الناس، لكن يقبض العلماء، فإذا ماتوا، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فضلوا وأضلوا)).(4/388)
فمن تمسك بالسنة بين ظهراني هذين الصنفين بعد تمكنهم من الرياسة، ونفاذ القول من الخلق، فقد بارزهم بالمحاربة؛ لأن في تمسكه بالسنة هتكاً لسترهم عند العامة، وكشفاً لعوراتهم، وإبانة لكذبهم، وحطاً لرئاستهم، وقطعاً لمأكلتهم، فالمتمسك بالسنة فيه الصدق والوفاء، فإذا عارضته بصدقك ووفائك مستعملاً له، ترصد لك بالعدواة، واستعد لمحاربتك؛ لما يحس به من كشف عورته، فصارت مؤنته عليك أعظم من مؤنة محاربة الكافر؛ لأن الكافر لا حرمة له.
فالقلب والأركان قد تعاونوا عليه بإهلاكه ومبادرة هذا مع حفظ القلب؛ لأن حرمة الإيمان معه، فإذا عاداك مع مخالفته إياك بتركه التمسك بالسنة، احتجت إلى أن تداريه، وتلاطفه، وترفق به، وتتأنى في أمره،(4/389)
وتراقب الله في شأنه، وتحتمل أذاه وعيبه بحرمة الإسلام، وهو ينتقصك، ويطلبك بالغوائل يريد إسقاطك، فتحتاج إلى أن تحفظ جوارحك حتى لا تعتدي، وتحتاج إلى أن تحفظ قلبك حتى لا يجور، وأن تحفظ همتك فيه حتى لا تغش، وتنصح الله في عبده المؤمن، وترحمه في بلائه، وتنتظر الفرج من خالقك، وترى تدبيره فيه وفيك.
فلذلك شبهه بالقابض على الجمر؛ لأن الجمر يحرق اليد، وهذا يحرق القلب، والكبد يحرقك من وجهين:
من وجه تغييره الحق عن جهته، ودرسه على لسانه، واغترار الخلق به.
ومن وجه: أن عمره صار وبالاً عليه، فترحمه.
ولقد جمعني وبعض أهل هذه الصفة مجمع فيها ملاك، فقدمت إلينا أطباق سكر، وغوالي في مداهن فضة، فتناول الغالية من الفضة، وأبيت أن آخذه لمكان الفضة، فغاظ هذا المخالف ما فعلت؛ لما كان فيه من هتكه، فأخذ يهجن فعلي محتجاً، وذلك بمسمع من ذلك الجمع، فقلت: ألم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لباس الحرير والديباج، وعن الشرب في(4/390)
آنية الذهب والفضة؟ قال: بلى، قلت: أفتراه نهاهم من أجل الشراب، أو من أجل الآنية؟ لأنه من زي الفراعنة وأهل الشرك بالله استعمالهم الذهب والفضة أوانياً، فما الفرق بين استعماله شرباً منه، وبين استعماله تدهناً وتغلفاً منه؟ أرأيت حين نهاهم عن لباس الحرير والديباج هل علمت أحداً رخص في افتراشهما؟
1011 - بل حدثنا الجارود بن معاذٍ، قال: حدثنا وهب بن جريرٍ، قال: حدثنا أبي، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه.(4/391)
1012 - وحدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا حماد ابن زيدٍ، عن ابن عونٍ، عن محمدٍ، قال: قلت لعبيدة: افتراش الحرير كلبسه؟ قال: نعم.
1013 - حدثنا سفيان عن ابن عونٍ، عن محمد، عن عبيدة، بمثله.
1014 - قال: حدثنا علي بن حجرٍ، عن شريكٍ، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن بعجة: أن علياً أتي بدابة عليها سرج حرير، فنزع صفنه، ثم ركب.(4/392)
1015 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، حدثنا عمرٌو، قال: سمعت صفوان بن عبد الله بن صفوان يقول: قال سعد بن أبي وقاصٍ: لأن أجلس على جمر الغضى أحب إلي من أن أجلس على مرافق حرير.
فكما حظر علينا الجلوس والافتراش على الحرير والديباج، حظر علينا لبسه، فلذلك حظر علينا اتخاذ الأوعية والأواني من الذهب والفضة، كما حظر علينا لبس الذهب، فالجلوس على سرير الذهب، والجلوس على الحرير والديباج بمعنى واحد، وكذلك المداهن والمجامر والمخاضب، وكل شيء يتخذ وعاء من الذهب والفضة، فذلك كله من زي المجوس، فهل تابعك على هذا الذي قلت أحد من السلف؟.(4/393)
إنما جرى الاختلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- في المفضض.
فقال أبو حنيفة: لا بأس بالقدح يفضض، وبالسرير يضبب بالفضة، واحتج بحلية السيف التي جاءت في الأخبار عن رسول الله في أن قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفضضة، فقال: يضع فاه على العود، ولا يضع على الفضة.
وخالفه أبو يوسف -رحمة الله عليه-، وعامة أصحابه من بعده، فقالوا: هذا كله من زي المشركين، وهو منهي عنه.
وأما إذا كان نفس الشيء من فضة، فلا أعلم أحداً من الصحابة والتابعين، ولا أحد من فقهاء علمائنا، ولا أبو حنيفة، وأبو يوسف إلا وقد كرهوه كلهم، فلما طالبته بفعل أحد من السلف، ترك هذا، وخرج إلى حد السفه هرباً من الحق، وعناداً على الله.
فقلت: قد جاء القبض على الجمر يحتاج أن يعاشر هذا مع هذه المعاملة معاشرة يسلم إيمانك وإيمانه، وإسلامك وإسلامه، والحق الذي به ألف الله العباد به، وعليه جمعهم، ويذب عن الحق ذباً لا يدخل عليه من(4/394)
ناحيةٍ أخرى بما تؤذيه، وتثلمه، وتحفظ قلبك مع الله في هذه الأحوال، فقلت في نفسي: هذا ممن قد غلبه سكرتان: سكرة الجهل بما إليه أشير، وسكرة حب الدنيا، فخطاب السكارى على سبيل العدل والإنصاف أمر من الصبر، وأشد من نقل الصخر والقبض على الجمر.
1016 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني، قال: حدثنا سيارٌ، عن جعفر بن سليمان، عن الصلت بن طريفٍ، قال: حدثنا شيخٌ من أهل المدائن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أنتم اليوم على بينةٍ من ربكم، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله، ثم يظهر فيكم السكرتان: سكرة العيش، وسكرة الجهل، وستحولون إلى غير ذلك، يفشو فيكم حب الدنيا، فإذا كنتم كذلك، لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر، ولم تجاهدوا في سبيل الله، والقائمون يومئذٍ بالكتاب والسنة في السر والعلانية، السابقون الأولون)).(4/395)
قال له قائل: هذه صفة ديدان القراء قد وصفتهم، فصف لنا الصادقين من القراء، وفي أي مرتبة هم من الدين؟.
قال: نعم، أما صفتهم: فهم قوم تابوا، فتاب الله عليهم، وقد يتوب قوم، ولا يتوب الله عليهم.
قيل: ولم ذلك؟.
قال: لأنهم لم يصدقوا الله، وإنما التوبة: الندم بالقلب على كل ما كره الله، وترك العود إليه عزماً، فتكون قد رجعت إلى الله، والتوبة هي الرجعة؛ لأنك عنه انصرفت إلى المعاصي، فلما تركتها، رجعت إليه، فإذا تركت جميع ما نهى الله عنه سراً وجهراً، وظاهراً وباطناً، وعزمت على أن تؤثر حقه على كل أمرٍ اشتهته نفسك مما ليس بحقٍّ، فقد صدقت الله في رجعتك إليه، فيرجع الله عليك بالمغفرة والرحمة، والنصرة، والتأييد، فهذه توبتك، وهذه الأخرى توبته، فتوبتك إليه، وتوبته عليك، كما(4/396)
تقول: رجعتك إليه، ورجعته إليك رجعت إليه عبودة، فرجع إليك شفقة وعطفاً، عدت إليه بالنفس بذلاً، فعاد عليك بمجده كرماً، سمحت له بنفسك طاعة، فجاد عليك بفضله وزيادة، والفضل: ثوابه، والزيادة: النظر إليه.
فالصادقون: قوم تابوا صدقاً، فتاب الله عليهم، فأعطاهم نوراً، وقذفه في قلوبهم، فشرح صدورهم من الذي أشرق في قلوبهم، وبرد وهج نفوسهم، وسكن غليان شهواتهم، فأقبلوا على تصحيح أمورهم فيما بينهم وبين الله عز وجل، وعن التخلي عن كل ما نهى الله عنه، دق أو جل، وجاهدوا نفوسهم في ذات الله حق جهاده، فلم يزل هذا دأب أحدهم يجاهد نفسه في شأن الاستقامة لله على سبيل الطاعة، ويأتيه المدد من الله نور على نور، حتى قوي على ترك كثير من الحلال؛ تحصناً مما نهى الله عنه، حتى دق نظره في الأشياء، وورعه عن دقيق الأمور التي خاف منها النقص غداً، فيثبت على ذلك يرجو الثواب، ويخاف العقاب، ويطلب الإخلاص في إتيان كل ما أمر الله، والتناهي عن كل ما نهى، يعلم أنه لا يثاب غداً إلا على الصدق، فهو مشغول بنفسه، لا يتفرغ لغيره فيعيبه، أو يزري على أحد في ريبه، قد أوثقه خوفه من الله وثاقاً، فشغله عن جميع الخلق برعايته.(4/397)
هذه الجوارح السبع اللاتي اؤتمن عليها الآدمي ووكل برعايتهن، وأخذ عليه العهد والميثاق، فيهن يطلب إلى الله فكاكه مما تعلق به من الأعمال السيئة، والعون على رعايته إياهن فيما بقي من عمره، فالمأتم نهاره، والنوح ليله، والصلاة نحلته، والصوم عادته، وكلما شغله عن أمره، فالهرب منه عزيمة، قد تحصن من الخلق بعزلته، وباينهم بهمته، مبتهلاً إلى الله في طلب المغفرة لجماعته، وأهل ملته.
فهو على مثل هذه الحالة يطلب معيشته، ويقوت عياله، ويحسن إليهم، ويعطف عليهم، فإن كان عنده سعة، أنفق من سعته، وإلا تحرى من وجوه المكاسب أسلمها، وأحمدها عقبى، وجد فيه واجتهد؛ حفظاً للجوارح في طلبها، وأداء أمانة، وإنصاف الخلق في ذلك، واجتزاء باليسير لنفسه، وسعة على العيال، وعفة عن المطامع، وصيانة لوجهه ودينه، ونزاهة عن شبهات الدنيا، والمكاسب الشائنة لدينه، وكان في طلبها كالمضطر الذي لا يجد عنه مندوحة، ومنها على خطر وحذر، يطلبها مخافة أن تدعوه نفسه إلى فتنة وبلية، ويريد أن تطمئن نفسه.
كما قال سلمان: إن النفس إذا أحرزت رزقها، اطمأنت بطلبها على أحسن هيئة، وأجمل طلب، مع قلب واثق بالله تعالى في رزقه، ونفس(4/398)
مطمئنة بربها قنعةٍ، لم يفتنهم حرصهم حتى يدعوهم إلى تناول الدنيا من الشبهة، ومن المكاسب الرديئة طالبين للرخص في ذلك.
وقد أثنى الله عليهم في تنزيله، فقال: {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال. رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله}.
فاعلم: أن الخوف من أهوال القيامة لما عمل على قلوبهم، صار يوم القيامة معاينةً على قلوبهم بالنور الذي شرح به صدورهم، فخافوه، وهالهم ذلك، فلم يقدر حلاوة الأرباح، ولذاذة الغنى أن يفتنهم، ولا يلهيهم عن ذكر الله في حفظ الحدود في بيعهم وتجاراتهم، وعن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فوعدهم مع الجزاء الزيادة من فضله.
فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الزيادة: الشفاعة)).(4/399)
وأما مرتبتهم من الدين: فهم المقتصدون أهل الاستقامة، أعينهم مادةٌ إلى الثواب، والتفاتهم إلى أعمالهم، وعليها يعتمدون، وبها يذلون، حتى إذا وردوا العرصة، وانكشف الغطاء، صارت رؤوسهم بين أرجلهم من الحياء، فلولا رحمة الله التي أرسلها قد شملتهم من الدنيا إلى ذلك الموقف؛ لكانوا من الهالكين.
قيل له: هذه صفة الصادقين، فأخبرنا عن صفة الصديقين؟!!
قال: الصديقون: قوم فتح لهم الطريق إلى الله، والصادقون وقفوا على الطريق، عندما عرضت لهم الجنة، التفوا إليها، فبقوا معها، وانسد عليهم ما وراءه، ففيها يفكرون، وعنها ينطقون، وإياها يطلبون.
والصديقون: لما عرضت لهم في طريقهم إلى الله، لم يلتفتوا إليها، وفروا إلى الله لا يعرجون على شيء، حتى وصلوا إلى الباب، فما زالوا ببابه يرفعون إليه شكواهم حتى فتح لهم، فأشرف على قلوبهم نور جلاله، فشغفوا به، وشغلوا عن كل شيء سواه، فوقفوا بين يديه للعبودة صدقاً، وفوضوا إليه أمورهم، وائتمنوه على نفوسهم، وآثروا مختاره كيفما دبر(4/400)
لهم واختار فرضوا عن الله في الأحوال، رضي الله عنهم في الأمور، يقبلون النعمة منه، ويتلقون أحكامه عليهم بالبشاشة والسماحة، يراقبون أمره، ويقفون عند حكمه.
والصديقون مع الله في كل أمر وحال، والصادقون مع النفوس في كل أمر وحال، يطلبون الصدق في الأمور والأحوال، قد ضاقت عليهم الأمور خوفاً من خيانة النفوس، وخروجها عليهم من مكامنها.
والصديقون: قد فرغوا من هذا الأمر، وجازوا هذه الخطة، فسلطان الله على قلوبهم قد أمات من نفوسهم ما خاف الصادقون؛ لأنها حية عندهم، وعند الصديقين ميتة.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لقي الشيطان عمر إلا خر لوجهه، وما سمع حسه إلا فر))؟
وقول مالك بن دينار: قرأت في بعض الكتب: إن سرك أن تحيا وتبلغ علم اليقين، فاحتل في كل حين أن تغلب شهوات الدنيا، فذلك الذي يفر الشيطان من ظله.
فهؤلاء أهل اليقين، وإنما خر الشيطان لوجهه، ونفر من ظله؛ لأن على قلبه سلطانـ[ـاً] لو تراءى لأهل سبع سماوات، لماتوا، فكيف لأهل(4/401)
الأرض؟ ولا يقدر أحد أن يراه؛ لأنه سلطانه عز وجل.
فالصديقون في هذه المرتبة، وهم الصادقون المقربون {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}. {ذلك هو الفضل الكبير}.(4/402)
الأصل التاسع والتسعون والمئة
1017 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا الوليد ابن محمدٍ الموقري، قال: حدثنا الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى كسرةً ملقاةً، فمشى إليها، فمسحها، وقال: ((يا عائشة! أحسني جوار نعم الله؛ فإنها قلما نفرت عن أهل بيتٍ فكادت ترجع إليهم)).
فالخبز غذاء الجسد، والغذاء قوام الروح، وقد شرفه الله، وجعله من أشرف الأرزاق، وأنزله من بركات السماء نعمة منه، فإذا رمى به، وطرحه مطرح الرفض والهوان، كان قد غمص النعمة وكفرها.
وفي إدرار الرزق على السعة قوة عظيمة على الدين، فإذا جفا نعمة(4/403)
صيرت قواماً للنعمة العظمى، نفرت، فإذا نفرت، لم تكد ترجع؛ لأنها قد وسمتهم بالجفاء.
وروي لنا عن بعض التابعين: أنه قال: الدنيا ظئر، والآخرة أمٌّ، ولكل بنون يتبعها بنوها، فإذا جفوت الظئر، نفرت وأعرضت، فإذا جفوت الأم، عطفت.
لأن الظئر ليس لها عطف الأمهات، وهذه النعمة تخرج من هذه الأرض المسخرة، فهي بمنزلة الظئر تربيك.
وروي في الخبر: أن امرأة نجت صبياً لها بكسرة خبز، وجعلته في جحر، فسلط الجوع على أهل ذلك الزمان من بني إسرائيل، حتى فزعت المرأة إلى تلك الكسرة تطلبها حتى ظفرت بها، فأكلتها.
1018 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا عبد المجيد ابن أبي روادٍ، قال: حدثنا مروان بن سالمٍ، عن إسماعيل(4/404)
ابن فلان ابن الحجاج، عن الحجاج بن علاطٍ السلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكرموا الخبز؛ فإن الله أنزله من بركات السماء، وأخرجه من بركات الأرض)).
وإكرامه: أن لا يوطأ، ولا يطرح.(4/405)
الأصل المئتان
1019 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا الوليد بن محمدٍ الموقري، قال: حدثنا الزهري، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المريض إذا برأ وصح من مرضه كمثل البردة تقع من السماء في صفائها ولونها)).
وذلك لأن المريض قد كان توسخ وتدنس، وكدر طيبته، وقد كانت الرحمة مع هذا تكنفه، فأبى الله أن يضيعه، فداواه وشفاه، كما تداوي(4/407)
الشفيقة من الأمهات ولدها بمر الأدوية البشعة؛ لما تأمل من شفائه من سقمه، فيسلط عليه الأسقام، حتى إذا تمت مدة التمحيص، خرج منها كالبردة في الصفاء واللون، والبياض في الوجه حلاوة وطلاوة، والصفاء في القلب، فيقدم الله إلى العباد أن يحفظوا جوارحهم عن أن يتدنسوا؛ ليصلحوا لدار القدس في جوار القدوس، فنزعوا الرعاية، وضيعوا الحفظ، فدلهم على أن يتطهروا بالتوبة فلم يفعلوا، تابوا من ذنب، وأصروا على اثنين، وتابوا من ثلاث، وأصروا على واحد، على جهد من نفوسهم الشهوانية، ثم دعاهم إلى هذه الفرائض؛ ليتطهروا بها؛ مثل: الصلاة، والزكاة، والحج، وصوم رمضان.
قال تعالى في تنزيله في شأن الصلاة: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات}.
وقال في الزكاة: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها}.
وقال في الحج: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه}؛ أي: مغفور له.(4/408)
وقال: ((الصوم جنةٌ)).
فدلهم على هذه الفرائض ليتطهروا بها، فخالطوها وغشوها، وأدوها مع النقصان والوسوسة والمكاسب الردية، فلم يك هذا مما يطهرهم؛ إذ لا تطهر النجاسة بالنجاسة، ولا ينقى الدنس بالوسخ، فلما رأى الله حالتهم هذه، رحمهم، فداواهم بهذه الأسقام؛ ليمحصهم ويطهرهم.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يقول الله تعالى لملائكته: عبدي في وثاقي)).
1020 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا عاصم بن محمدٍ العمري، عن عبد الله ابن سعيدٍ، عن جده، رفعه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أبتلي عبدي المسلم، فإن لم يشكني إلى عواده، أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحماً هو خيرٌ من(4/409)
لحمه، ودماً هو خيرٌ من دمه، ثم ليأتنف العمل)).
وقال في تنزيله: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثيرٍ}.
فقد قاصه ببعض ما كسبت يداه، وأهله العفو في الباقي، فأخرجه صافياً طاهراً، فشتان بين ما داويت بالصوم والصلاة وأعمال برٍّ تكسبها بجوارحك على الصفة التي ذكرنا، وبين ما داواك ربك؛ فدواؤك قلما يخلو من العجب والريا والتخليط والشبه، وهذا الذي داواك به لا رياء فيه، ولا عجب، ولا صلف، ولا تخليط، إنما هي أسقام حلت بلحمك، ودمك، ومخك، وقواك؛ ليأخذها، ويبدلك بها خيراً منها، أو يقبضك إليه طاهراً، حتى إذا وصلت غداً إلى العرصة، واضطررت لا محالة إلى الجواز على الصراط إلى(4/410)
دار الله عز وجل، وجدتك النار قد تطهرت إما بالتوبة، وإما بالذي محصك الله به من هذه الأسقام والمصائب، فاحتسبته وصبرت عليه، وطهرك وأعطاك نوال الصابرين، وإن حمدته، كتبك في الحمادين، ومن قدم عليه غداً بغير توبة، ولا تمحيص بالأسقام، قدم مع دنس المعاصي وأوساخها، قد لزقت بجوارحه، والنار بالمرصاد قد أعدت منتقمة من الأعداء، ومطهرة للموحدين، فإذا مر عليها، أخذت في الممر من جوارحه تلك الأدناس، فتأكل من لحمه ودمه، ثم تبدل لحماً طرياً، وجسداً يصلح لدار السلام.
ولقد مرضت في سالف أيامي مرضةً، فلما شفاني الله منها، مثلت في نفسي بين ما دبر الله لي من هذه العلة في مقدار هذه المدة، وبين عبادة الثقلين في قدر أيام علتي، فقلت: لو خيرت بين هذه العلة، وبين أن تكون لك عبادة الثقلين في مقدار مدتها إلى أيهما تميل اختياراً؟.
فصح عزمي، ودام يقيني، ووقعت بصيرتي أن مختار الله لي أشرف وأعظم خطراً، وأنفع عاقبة، وهو العلة التي دبرها لي، ولا شوب فيه؛ إذ كان فعله، فشتان ما بين فعله بك لتنجو، وبين فعلك لتنجو، فلما(4/411)
رأيت هذا، دق في عيني عبادة الثقلين مقدار تلك المدة في جنب ما أتاني، فصارت العلة عندي نعمة، وصارت النعمة منة، وصارت المنة أملاً، وصار الأمل عطفاً، فقلت في نفسي: بهذا كانوا يستمرون في البلاء على طيب النفوس مع الخلق، وبهذا الذي انكشف لي كانوا يفرحون بالبلاء.
1021 - حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا مالك بن سليمان الهروي، حدثنا هشام بن سعدٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه: أنه وضع يده على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه حمى، فوجدها من فوق اللحاف، فقال: يا رسول الله! ما أشدها عليك؟ فقال: ((إنا كذلك يشتد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر))، فقلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال: ((الأنبياء))، قلت: ثم من؟ قال: ((ثم الصالحون، إن كان الرجل ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها، وإن كان الرجل ليبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء)).(4/412)
1022 - حدثنا حفص بن عمرٍو، قال: حدثنا زيد ابن حبابٍ، قال: حدثني موسى بن عبيدة، قال: حدثنا زيد بن أسلم، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله، إلا أنه: ((وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى، وإن كان النبي ليفرح بالبلاء)).(4/413)
الأصل الحادي والمئتان
1023 - حدثنا العباس بن أيوب الزبيري، قال: حدثنا قيس بن محمدٍ الكندي، قال: حدثنا طلحة بن كاملٍ، قال: حدثنا محمد بن هشامٍ المدني، قال: بايعت عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنهم، فماكسني، فقلت: أتماكسني يا ابن رسول الله؟ فقال: نعم.
حدثني أبي عن جدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المغبون لا محمودٌ، ولا مأجورٌ)).(4/415)
فهذا من أجل أنه لم يحتسب بما زاد على قيمته فيؤجر، ولا يتحمد إلى بائعه فيحمد، ولكنه استرسل في وقت المبايعة، فاشترى، فغبن، فلم يقع عند البائع موقع المعروف فيحمد، ولكن رجع إلى نفسه، فقال: خدعته، فذهب الحمد، ولم يحتسب بما زاد على قيمته فيؤجر، فقال: أسر قلبه بما أزيده فيؤجر، والكيس فهم فكايس وماكس مستقصياً،(4/416)
فصح ماله الذي اؤتمن عليه، وجعل قواماً له، أن يخرج من يده باطلاً بلا حمد ولا أجر، ونصح نفسه، وهو مع ذلك حافظ للسانه، حافظ لأمانته، حافظ لعهد الله، يماكس غير مستقر ولا حريص ولا مغبون، يحفظ على نفسه وعلى البائع دينه.
وروى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه مر برجلين يتبايعان، وأحدهما يقول: لا أعطيك، وقال الآخر: لا أزيدك، فمر الرجل بالسلعة قد اشتراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد وجب إثم أحدهما)).
وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه ساوم رجلاً سلعة، فقال: لا أعطيك، فانصرف معاذ، فدعاه فقال له: هل لك فيه؟ قال: لا، إني أكره أن أعينك على إثم.
ففي المكاس شرط وثيق: أنه إنما يماكس لا لحرص على الدنيا، ولا لرغبة فيها، وهو مع ذلك حافظ لدينه، وحافظ على صاحبه دينه؛ لئلا(4/417)
يأثم، ولا يؤثم، فهذا مكاس محمود، لم يترك ماله يذهب باطلاً بلا حمد ولا أجر، وقد ائتمنه الله عليه، وجعله قواماً له.(4/418)
الأصل الثاني والمئتان
1024 - حدثنا زيد بن أخزمٍ الطائي، قال: حدثنا أبو عامرٍ العقدي، عن سليمان بن سفيان، عن بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، عن أبيه، عن جده، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال، قال: ((اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله)).
فاليمن والسعادة والإيمان: الطمأنينة بالله، كأنه سأله دوامها،(4/419)
والسلامة والإسلام أن يدوم له الإسلام، ويسلم له شهره؛ فإن لله تعالى في كل شهر حكماً وقبضاً وشأناً في الملكوت، فأما المحرم فشهره، وأما رجب فصفوته، وأما رمضان فمختاره، وأما ذو القعدة فمن شهور الحرم.
وقوله: ((ربي وربك الله))، فإن أهل الجاهلية كان فيهم من يسجد للشمس والقمر من دون الله، حتى جاء الله بالإسلام، فقال في تنزيله: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن}، فكان إذا رأى الهلال قال: ((ربي وربك الله))؛ كأنه يناجيه ويخاطبه بذلك.
1025 - حدثنا الجارود بن معاذٍ، قال: حدثنا الفضل بن موسى، عن الفرج بن فضالة، عن علي بن أبي طلحة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا رأى الهلال، قال: ((إلهنا وإلهك، وربنا وربك الله، الحمد لله الذي سخرك لنا)).
يخاطبه أن الوله إليه والربوبية، وهو الملك له، وأنت مسخر لنا، ويحمده(4/420)
على تسخيره إياه، شكراً لله، فقد سخره؛ ليضيء لأهل الأرض، وقدره منازل؛ ليعلموا عدد السنين والحساب، ويكون معلم مواقيت حجنا وديوننا، وعدة نسائنا، وعند مستهل كل شهر حكم وأمر معلوم.(4/421)
الأصل الثالث والمئتان
1026 - حدثنا أبو العاج أحمد بن سالم بن العلاء ابن نوفل بن ناجية الربعي، قال: حدثنا مالك بن يحيى بن عمرو ابن مالكٍ النكري، عن أبيه يحيى بن عمرٍو، عن جده عمرو ابن مالكٍ النكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لم أر شيئاً أحسن طلباً، ولا أسرع إدراكاً من حسنةٍ حديثةٍ لذنبٍ قديمٍ، {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين})).(4/423)
والحسنة الحديثة، والذنب القديم كلاهما بين يدي من جعلهما كذلك ولي الجزاءات بالحسنات، والمدرك بالعقوبات واحد، والحسنة نور، والسيئة ظلمة، فإدراك النور للظلمة سريع، فالحسنة نور، ومبتدؤه من نور الإيمان، والإيمان هدي الله، فبنور الإيمان يحسن طلبه، وبقوة هدى الله يسرع إدراكه، فلما كان في الحسنة نور ربه، كان هادي الحسنة، حتى يلحق السيئة بسرعة، ومركب الحسنة نيته، والنية من نور التوحيد، فمن كان مركبه نور التوحيد، فلحاقه بمن يطلبه سريع في أسرع من الطرفة، وطلبه أحسن طلب؛ لأن معه هداه، ومن ولي الله هدايته، فهداه في لحظة أن أسرع، ومن ولي الله إبلاغه، فدركه أسرع من الطرفة، والقديم والحديث عند الله بمنزلة، فإنما يتفاوت هذا عند الآدمي وسائر المخلوقين.
ووجه آخر: أن السيئة قد تقدم في الصحيفة موضع تخطيطها منذ(4/424)
أعوام كثيرة، فالحسنة الحديثة لذلك الذنب هي التوبة، فهي طالبة لموضعها من الصحيفة أحسن طلب، وأسرع إدراك، حتى تصير مكتوبة تحت السيئة أنه تاب، ثم تضيء تلك الحسنة في مكانها حتى تجلو الظلمة التي على السيئة.
فروي لنا في الخبر: أنه إذا تناول العبد الصحيفة يوم القيامة، أعطي منها ما يلي السيئات، فيجد تحت كل سيئة مكتوبة: تاب، وتلك حسنة تضيء مكانها، فيستر على السيئة، فيقرؤها العبد، فربما أتى العبد على عظيمة يشتد عليه النظر إليها، فتدركه رحمة ربه في ذلك المكان، فتستر عليه تلك العظيمة، ويقال له: جاوزها؛ لأنه قد كان دعاه أيام الحياة بأحسن التجاوز، فإذا انتهى إلى آخرها، غفر له ما فيها، فيصير جميع ما فيها بياضاً؛ لأن التوبة قد علت السيئة بضوئها، ثم تقلب الصحيفة، فيقرأ الحسنات، والخلق ينظرون إلى صحيفته حسنات، فإذا قبلها، نظروا إلى الوجه الآخر، فرأوها قد علت بضوئها، فيقولون: طوبى لهذا العبد لم(4/425)
يذنب ذنباً قط، فيقبل حسناته، فعند ذلك ينادي: {هاؤم اقرءوا كتابيه. إني ظننت أني ملاقٍ حسابية. فهو في عيشةٍ راضيةٍ. في جنةٍ عاليةٍ}.(4/426)
الأصل الرابع والمئتان
1027 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا إبراهيم ابن حمزة الرملي، عن محمد بن سلمة الحراني، عن أبي واصلٍ، عن شهر بن حوشبٍ، عن عمرو بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرامة الصبي في صغره زيادةٌ في عقله في كبره)).
والعرم: المنكر، وإنما صار منه منكراً؛ لصغره، فذاك من ذكاوة(4/427)
فؤاده، وحرارة رأسه، وأن الناس يتفاضلون في أصل البنية في الفطنة، والكياسة، والحظ من العقل.
والعقل على ضربين:
1 - ضرب منهما يبصر به أمر دنياه.
2 - وضرب منهما يبصر به أمر آخرته.
والعقل الأول من نور الروح، والعقل الثاني من نور الهداية والقربة، والعقل الأول موجود في عامة ولد آدم إلا من علة، أو جن، أو اعتل بعلة يتغير عليه طبعه، وبينهم في ذلك العقل تفاوت عظيم، وهو بالأعجمية: هش، والثاني بالأعجمية: خرد.
فالعقل الثاني موجود في الموحدين، ومفقود من المشركين، وبين الموحدين في ذلك العقل تفاوت عظيم، وإنما سمي العقل عقلاً من كلا الضربين؛ لأن الجهل ظلمة، وعمله على القلب، فإذا غلب النور وبصره في تلك الظلمة، زالت الظلمة، وأبصر، فصار عقالاً للجهل.
فالصبي إذا رئي منه زيادة بصر في الأمور، وذكاوة فهم، قيل: عارم.(4/428)
والعرم بلغة أهل اليمن: المسناة، وهو السد، وهي عربية يمانية، فالصبي يسد أبواب الحمق والبلاهة بزيادة ذلك النور الذي أذكى فؤاده، فتكايس في الأعمال في صغره، واهتدى للطائف الأمور ومحاسنها بالنور الزائد المتقد في دماغه.
وإنما قيل: فلان حار الرأس، ذكي الفؤاد؛ من هذا، فحرارة رأسه من ذلك النور؛ لأن مسكنه في الدماغ.
وأما عقل الإيمان: فمسكنه في القلب، ومعتمله في الصدر بين عيني الفؤاد.
ولذلك روي لنا في حديث داود -صلوات الله عليه-: أنه سأل ابنه سليمان عليه السلام: أين موضع العقل منك؟ قال: القلب.
فهذا عقل الإيمان.
ألا ترى أن هذه كلمة متواترة أن يقال: فلان رجل له دماغ، فإنما يراد به: أن نور الروح متقد فيه اتقاداً يذكي فؤاده، فالصبي إذا كان في مزيد من ذلك، سد بذلك الزائد أبواب الحمق، فقيل له: عارم؛ أي: ساد له،(4/429)
فمن ركب طبعه على هذه الزيادة، ثم أدرك مدرك الرجال، وجاءه نور الهداية من الله، كان كالذي ركب فيه في صغره عوناً له في جميع أموره، فصار بذلك له زيادة في عقله، واللوثة والحمق والبلاهة نقص في العقول الدنيوية، فإذا جاءه العقل الثاني، افتقد العون، ولم يكن له في النوائب هداية الطبع، إنما له هداية الإيمان، والعارم قد اجتمعت له هداية الإيمان، وهداية الطبع، فهداية الطبع من ذكاوة الحياة التي فيه الروح المضموم إليه، فكانت النفس قالباً للروح، والروح قالب الحياة، وتلك الحياة لها ذكاوة تتقد، فبه يعرف أحوال الدنيا خيرها وشرها، فإذا جاء نور التوحيد، أذكى الفؤاد والقلب وكل شيء منه، فأبصر، وكان له أعوان من كل عون.(4/430)
الأصل الخامس والمئتان
1028 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا يزيد بن عبد الله الحمصي، عن بقية بن الوليد، عن عيسى بن إبراهيم، عن الزهري، عن أبي سليمان مولى أبي رافعٍ، عن أبي رافعٍ، قال: قلت: يا رسول الله! للولد حقٌّ علينا كحقنا عليهم؟ قال: ((نعم، حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة، السباحة، والرماية، وأن لا يرزقه إلا طيباً)).(4/431)
فالكتابة: قوة له على الدين والدنيا.
والسباحة: منجاة من الهلاك.
والرماية: دفع عن مهجته وحريمه، وشرف له عند لقاء العدو.
وأن لا يرزقه إلا طيباً؛ كي لا ينبت لحمه على سحت، فينزع منه البركة، وهذه الخصال من رؤوس الأدب.(4/432)
الأصل السادس والمئتان
1029 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا موسى ابن سهلٍ، عن ابن أبي فديكٍ، قال: حدثني يحيى ابن أبي خالدٍ، عن [ابن] أبي سعيدٍ الأنصاري، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والندم توبةٌ)).
فالتائب: حبيب الله؛ {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، والحبيب يستر الحبيب، والحبيب يحب زين الحبيب، فإذا بدا شينٌ، ستره، فإذا أحب الله عبداً، فأذنب، ستره، فصار كمن لا ذنب له، والذنب يدنس(4/433)
العبد، والرجوع إلى الله يطهره، وهو التوبة، فرجعته إليه يصير في محل القربة منه بنوره، ويذهب دنسه.
ألا ترى إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا أذنب العبد، نكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا عاد، نكتت أخرى، فإذا تاب صقل قلبه، فذهبت النكتة، وصارت كالمرآة تتلألأ)).
ومن هاهنا قال الشعبي: إذا أحب الله عبداً، لم يضره ذنبه.
1030 - حدثنا بذلك عبد الله بن الوضاح النخعي قال: حدثنا ابن يمانٍ، عن سفيان، عن عاصمٍ(4/434)
الأحول، عن الشعبي.
واعتبر بهذه الرأفة والرحمة التي وضعها الله في الآباء والأمهات، ثم تراهم كيف محل أولادهم منهم في حال البطالة والفساد؛ من الرحمة عليهم، والشفقة، والرفق بهم، والتأني والانتظار، والاحتراق عليهم فيما يخافون عليهم من الوبال، وفرحهم بالتوبة إذا هم تابوا إلى الله، فاعتبر بهذه الرأفة التي في جميع الأمهات والآباء، لو جمعها فوضعها في أم واحدة أو أب واحد لولد واحد، لكان لا يتراءى له فساد هذا الولد، وسيء عمله؛ من عظيم الشفقة عليه، والمحبة له، وكان ذلك ساتراً له، فكيف بالخالق البارئ الماجد الكريم البر الرحيم، الذي يدق جميع رأفة أهل الدنيا ورحمتهم في جنب رحمته من المئة المخلوقة؟ ثم ماذا تكون تلك في جنب الرحمة العظمى التي شملت كل خير للعبيد؟
فهذا العبد المؤمن له كل هذا الحظ، فإذا تاب، صار في كنفه، وهو في الأصل حبيبه، فتدق ذنوبه في جنب ما له عنده من الرأفة والرحمة.
وإن الله تعالى لما وقعت خيرته وحبابته على عبد من عبيده، أخرجه من بطن أمه إلى الدنيا، فأدركته الهداية بما سلفت منه من الجناية، وكتب(4/435)
عليه هذا الذنب أنه سيصيبه لا محالة، فلما أصابه، لم يتركه حيران، فلم يغلق عنه باب التوبة، وتكرم إن يرجع إليه عبده بصدق الرجوع، أن يقبله، فإذا قبله، صار كمن لا ذنب له في معنى القبول.(4/436)
الأصل السابع والمئتان
1031 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عمرو ابن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينارٍ الحمصي، قال: حدثنا محمد بن حربٍ، عن أبي المهدي، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن ابن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الالتفاع لبسة أهل الإيمان، والتردي لبسة العرب)).
والالتفاع والالتحاف بمعنى واحد، وهو الستر، وإنما قيل: لبسة أهل الإيمان؛ لأنه يقدر مع ذلك على التقنع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر التقنع،(4/437)
وذلك أن الذي يعلوه الحياء من ربه يلجأ إلى ذلك؛ لأن الحياء في العين والفم، وهما من الرأس، والحياء من عمل الروح، وسلطان الروح في الرأس، ثم هو منفس في جميع الجسد.
ألا ترى أنه قال: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنانٍ}، فالضرب على الرأس قتل وحييٌّ.
وروي في الخبر: أن من أخلاق النبيين التقنع.
فهذا من الحياء، وكذلك أهل اليقين من بعدهم، وهم الأولياء، هذا دأبهم وشأنهم، والحياء من الناس من أفعال يحتشم الروح منها بين أيديهم، والحياء من الله من أفعال تحتشم الروح منها بين يدي الله؛ لأنه قد شارك النفس في معايبها مضطراً؛ لأنه قد قرن بها.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني لأدخل الخلاء فأقنع رأسي حياءً من الله.
فهذا لأهل اليقين؛ لأنهم أبصروا بقلوبهم أن الله يراهم، فصارت الأمور كلها لهم معاينة، يعبدونه كأنهم يرونه، ففي الأعمال التي فيها حشمة يعلوهم الحياء، وفي الأعمال التي ينحط بها عند الله يعلوهم(4/438)
الحياء فقال: الالتفاع؛ أي: الالتحاف بالثوب متقعناً لبسة أهل الإيمان، وذلك أن الحياء من الإيمان، وما ازداد عبد بالله علماً إلا ازداد منه حياءً.
والتردي لبسة العرب، توارثوه من الجاهلية من آبائها، كانوا في إزار ورداء، فكانوا يسمونها: حلة.
والالتفاع: ورثها بنو إسرائيل عن آبائهم؛ لأنهم قطعوا أعمارهم بالعبادة، فكانت أصحاب لفاع، وأصحاب برانس، وأصحاب سياحة وصوامع وترهب.
وهذه الأمة أيدت باليقين النافذ لحجب القلوب، فاخترقها، فمن تقنع، فمن الحياء منه تقنع؛ لعلمه بأن الله يراه علم يقين، لا علم تعلم.
والعرب كانت في مجدها، وسماحتها، وطولها، ومحاسن أخلاقها إلى أن بعث الله فيهم رسوله الأمي، فقرينها فيما بينهم هذه الأخلاق، بها يعبدون الله مع شركهم، وبنو إسرائيل يعبدون الله مع شركهم، تبعث الأركان وكدها بالخروج إلى الله من الأموال.(4/439)
الأصل الثامن والمئتان
1032 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد المجيد ابن أبي روادٍ، عن مروان بن سالمٍ، عن صفوان بن عمرٍو، عن شريحٍ بن عبيدٍ الحضرمي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن رجلٍ شدة عبادةٍ، سأل: كيف عقله؟ [فإذا قالوا: حسنٌ، قال: ((أرجوه))] فإن قالوا غير ذلك، قال: ((لن يبلغ))، فذكر له عن رجل من أصحابه شدة عبادةٍ واجتهاد، فقال: ((كيف عقله؟))، قالوا: ليس بشيء، قال: ((لن يبلغ صاحبكم حيث تظنون)).(4/441)
1033 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا جندل بن والقٍ الكوفي، قال: حدثنا عبيد الله بن عمرٍو الرقي، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي فروة، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعجبكم إسلام رجلٍ حتى تعلموا ما عقده عقله)).
فالعقل: هو نور خلقه الله، وقسمه بين عباده على مشيئته فيهم، وعلمه بهم.
فروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
((لما خلق الله تعالى العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: اقعد، فقعد، ثم قال له: انطق، فنطق، ثم قال له: اصمت، فصمت، فقال: وعزتي وجلالي، وعظمتي وكبريائي وسلطاني(4/442)
وجبروتي! ما خلقت خلقاً أحب إلي منك، ولا أكرم علي منك، بك أعرف، وبك أحمد، وبك أطاع، وبك آخذ، وبك أعطي، وإياك أعاتب، ولك الثواب، وعليك العقاب)).
1034 - حدثنا بذلك عبد الرحيم بن حبيبٍ، قال: حدثنا داود بن محبر بن قحذمٍ البصري، قال: حدثنا الحسن بن دينارٍ، قال: سمعت الحسن يقول: حدثني عدةٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ذلك.
1035 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا(4/443)
هشام بن خالدٍ، عن بقية، عن الأوزاعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بمثله.
وزاد فيه: قال: ((لك الثواب، وعليك العقاب، وما أكرمتك بشيءٍ أفضل من الصبر)).
1036 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا هشام ابن خالدٍ الدمشقي، قال: حدثنا يحيى -وهو عندي يحيى الغساني- قال: حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أول شيءٍ خلق الله القلم، ثم خلق النون، وهي الدواة، ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: ما كان، وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة؛ من عملٍ، أو أثرٍ، أو رزقٍ، أو أجلٍ، فكتب ما يكون، وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، وذلك قوله عز وجل: {ن والقلم وما يسطرون}، ثم ختم على في القلم، فلم ينطق، ولا ينطق إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل، فقال: وعزتي! لأكملنك فيمن أحببت،(4/444)
ولأنقصنك فيمن أبغضت)).
فقسم العقل بين خلقه على علمه بهم، ثم قسم بين الموحدين عقل الهداية على علمه بهم، فتفاوت القسم، فكلما استقر في عبد، كان دليله على مقاديره الذي كان منه يومئذ، فكلما أحب الله إقباله في أمر، دلهم على إقباله، وما كره الله [إدباره]، دله على الإدبار، وما أحب الله القول به، دله على القول به، وما كره من ذلك دله على الصمت، وكذلك في كل فعل فعله يومئذ يلهم العقل صاحبه في كل أمر ما أذن له فيه، وما خطر عليه ومحابه ومساخطه، فكلما كان حظه من العقل أوفر، فسلطان الدلالة فيه أعظم وأنفذ، فمن شأنه الدلالة على الرشد، والنهي عن الغي.
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر له عن رجل شدة اجتهاد وعبادة، سأل عن عقله؛ لما قد علم أن العقل هو الذي يكشف لك عن مقادير العبودية، ومحبوب الله ومكروهه؛ لأن العبادة الظاهرة قد تكون من العادة والمساعدة،(4/445)
ترى الرجل في صباه علم هذا، فنشأ عليه، وعلم أنه خير، فثبت عليه معتاداً له قد ألفه، ويسير عليه.
فالرجل يساعد آخر يعمل له، فإذا كان العقل يدله على هذه العبادة الظاهرة، كان علامته أن يتورع عن مساخط الله، ولم يجوز لنفسه أن يترضاه بأعمال مع تضييع فرائضه، أو التوثب في مساخطه، فكان العاقل عندهم الذي عقل عن الله ما أمره ونهاه، فائتمر بما أمره، وازدجر عما نهاه، فتلك علامة العقل.
فإذا رئي أحدهم يتعبد، وهذا فيه، علم أنه من عقل يتعبد، وعن بصيرة، وإذا رئي في خلو من هذا، علم أنه عن عادة ومساعدة، فلم تحسن ظنونهم به، ولذلك قال: ((لا يعجبكم إسلام رجلٍ حتى تعلموا ما عقدة عقله)).
فالإسلام: هو ما ظهر من أعمال العباد من أعمال الشريعة؛ مثل: الصوم، والصلاة، والحج، والجهاد، والصدقة، وسائر أنواع البر، فلا يعجبكم هذا منه حتى تعلموا أي شيء يعتقد في قلبه لما يعمل به.
وعقد العقل: هو وثاق العقل، معناه: أن يقول: ما هو؟ أي: كيف هو؟ لأن كلمة ((ما)) تقع على الجوهر والجنس.
فقال: ((حتى تعلموا ما عقدة عقله))؛ يعني: بأي شيء يعقد عقله؟ فإن العقل قسم للعبد، فأعطي عبد، فعقده بالإيمان بالله، فرشد، وآخر(4/446)
أعطي، فعقده بالهوى، فغوى، فقال: حتى تعلموا بأي شيء عقد عقله، أبالإيمان بالله، أم بالهوى؟
فإن القلب إذا كان مؤمناً، وجاء العقل، ودله على الرشد، فإن عقد عقله بالإيمان، مر به في الطاعة، وإن كان القلب فاجراً، وجاء العقل، فعقد صاحبه بالهوى، مر به في الغي.
والعقد: الوثاق، فكأنه قال: إن كان وثاق هذا العقل الذي أعطي بالإيمان، يستعمله بالإيمان، وإن كان وثاقه بالهوى، فهو أسيره، فاستعمله بالمعاصي، صار الدليل أسيراً مقهوراً في سجن الهوى.
فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعرف ذلك من هذا الوجه، فقال: لا يعجبنكم ظاهر ما ترون حتى تعلموا بأي شيء عقد عقله، فإن كان عقله عقيد هواه لا يتورع ولا يتقي، قال: ((لن يبلغ صاحبكم حيث تظنون))
1037 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا حكامة بنت عثمان بن دينارٍ البصرية، قالت: حدثنا أبي، عن مالك بن دينارٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الورع سيد العمل، من لم يكن له ورعٌ يرده عن معصية الله إذا خلا بها، لم يعبأ الله بسائر(4/447)
عمله شيئاً)).
فذلك مخافة الله في السر والعلانية، والاقتصاد في الفقر والغنى، والصدق عند الرضا والسخط، ألا وإن المؤمن حاكم على نفسه، يرضى للناس ما يرضى لنفسه، والمؤمن حسن الخلق، وأحب الخلق إلى الله أحسنهم خلقاً، ينال بحسن الخلق درجة الصائم القائم، وهو راقد على فراشه؛ لأنه قد رفع لقلبه علم، فهو يشهد مشاهد القيامة، يعد نفسه ضيفاً في بيته، وروحه عارية في بدنه، ليس بالمؤمن حملانه على نفسه، الناس منه في عفاء، وهو من نفسه في عناء، رحيم في طاعة الله، بخيل على دينه، حيي، مطواع، وأول ما فات ابن آدم من دينه الحياء، خاشع القلب لله، متواضع قد برئ من الكبر، قائم على قدمه ينظر إلى الليل والنهار يعلم أنهما في هدم عمره، لا يركن إلى الدنيا ركون الجاهل، لا جرم أنه إذا خلف الدنيا، خلف الهموم والأحزان، ولا حزن على مؤمن، بل فرحه وسروره مقيم بعد الموت.
1038 - حدثنا الحسين بن أبي كبشة البصري، قال: حدثنا أبو عامرٍ العقدي، عن عباد بن راشدٍ، عن داود ابن أبي هندٍ، عن أبي نضرة، قال: سمعت أبا سعيدٍ الخدري رضي الله عنه يقول: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق عندكم من(4/448)
الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
1039 - حدثنا روح بن قرة اليشكري، ونصر بن علي الحداني، ومحمود بن المهدي، قالوا: حدثنا سهل بن أسلم، عن حميد بن هلالٍ، عن عبادة بن قرطٍ، قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
1040 - حدثنا ابن أبي كبشة، قال: حدثنا عبد الملك(4/449)
ابن عمرٍو أبو عامرٍ، عن سعيد بن مسلمٍ، قال: سمعت عامر ابن عبد الله بن الزبير يقول: حدثني عوف بن الحارث بن الطفيل، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة! إياك والمحقرات؛ فإن لها من الله طالباً)).
1041 - حدثنا أبو بكر بن سابقٍ الأموي، قال: حدثنا أبو مالكٍ الجنبي، عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله -تبارك وتعالى- ناجى موسى عليه السلام، فكان فيما ناجى قال: يا موسى! إنه لم يتقرب المتقربون إلي بمثل الورع عما(4/450)
حرمت عليهم؛ فإنه ليس من عبدٍ يلقاني يوم القيامة إلا ناقشته الحساب، وفتشته عما كان في يديه، إلا ما كان من الورعين، فإني أجلهم، وأكرمهم، وأدخلهم الجنة بغير حسابٍ)).
وزاد فيه غيره عن وهب بن منبه، قال: ((أجلهم، وأكرمهم، وأستحييهم)).
1042 - حدثنا عمر، قال: حدثنا نعيم بن حمادٍ، عن عبد المؤمن بن خالدٍ، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ من لم يأت بهن يوم القيامة، فلا شيء له: ورعٌ يحجزه عن محارم الله، وخلقٌ(4/451)
يداري به الناس، وحلمٌ يرد به جهل السفيه)).
1043 - حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثنا أبي، عن هاشم بن القاسم، عن ميسرة، عن عباد بن كثيرٍ، عن محمد بن زيدٍ، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قلت: يا رسول الله! بأي شيء يتفاضل الناس؟ قال: ((بالعقل في الدنيا والآخرة))، قلت: أليس يجزى الناس بأعمالهم؟ قال: ((يا عائشة! وهل يعمل بطاعة الله إلا من قد عقل؟ فبقدر عقولهم يعملون، فعلى قدر ما يعملون يجزون)).(4/452)
1044 - حدثنا أحمد بن عبد الله بن حكيمٍ المهلبي، قال: حدثنا بكار بن عبد الله الربذي، قال: حدثنا عمي موسى بن عبيدة الربذي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي حميدٍ الساعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل لينطلق إلى المسجد فيصلي، فصلاته لا تعدل جناح بعوضةٍ، وإن الرجل ليأتي المسجد فيصلي، صلاته تعدل جبل أحدٍ إذا كان أحسنهما عقلاً)).
قال أبو حميد: وكيف يكون ذلك يا رسول الله أحسنهما عقلاً؟ قال: ((أورعهما عن محارم الله، وأحرصهما على أسباب الخير، وإن كان دونه في العمل والتطوع)).
1045 - حدثنا مهدي بن عامرٍ، قال: حدثنا الحسن ابن حازمٍ، عن عبد ربه، عن عباد بن كثيرٍ، عن غالبٍ(4/453)
الخدري، عن طاوسٍ، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مهاجريٍّ وأنصاريٍّ، فقال المهاجري: يا رسول الله! حقي ثابتٌ، وما قضاني شيئاً، فقال الأنصاري: صدق يا رسول الله، إن حقه لثابتٌ، وما قضيته شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأده إليه))، قال: أما دعواه، فقد أديته، وأما حق ثواب معروفه، فإنه علي أكافئه، فقال المهاجري: صدق يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتاً، إن الرجلين ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما،، ولكنهما يتفاوتان في العقل، كالذرة في جنب أحدٍ، وما قسم الله لخلقه حظًّا هو أفضل من العقل، واليقين)).
1046 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن الحسن -رحمة الله عليه-، قال:(4/454)
كان عقل آدم عليه السلام مثل عقل جميع ولده.
1047 - حدثنا مهديٌّ، قال: حدثنا الحسن بن حازمٍ، عن عبد ربه، عن عباد بن كثيرٍ، عن إدريس، عن جده وهب ابن منبهٍ، قال: أجد في سبعين كتاباً: أن جميع ما أعطي الناس من بدو الدنيا إلى انقطاعها من العقل في جنب عقل محمدٍ صلى الله عليه وسلم كحبة رملٍ وقعت من بين جميع رمال الدنيا.
قال وهب: إن الشيطان لم يكابد شيئاً أشد عليه من المؤمن العاقل، إنه ليكابد مئة ألف جاهل، فيسخرهم، ويكابد المؤمن العقل، فيضعف عنه، وزوال الجبال صخرةً صخرة أهون عليه من مكابدة المؤمن العاقل، وما من شيء أحب إليه من فتنة العاقل، وفتنة العاقل أحب إليه من غواية ألف جاهل، فإنه ليكابد العاقل، فإذا كان ذا بصيرة ويقين، كان كامل العقل،(4/455)
فإذا هو أثقل عليه من صخور الجبال، وأصلب من الحديد، فإذا لم يقدر عليه يقول: يا ويله ماله؟! ولهذا لا حاجة لي فيه، ولا طاقة لي به، فيتحول عنه إلى الجاهل، فيتسخره حتى يركب عنقه، ويغويه حتى يستأثره، ويسلمه إلى المهالك.
1048 - حدثنا مهديٌّ، قال: حدثنا الحسن، عن عبد ربه، عن موسى بن جابان، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يقرب الناس للزلف على قدر عقولهم)).(4/456)
1049 - حدثنا مهديٌّ، قال: حدثنا الحسن، عن منصورٍ، عن الربذي، عن الزهري، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله! رجلٌ يكون قليل العمل، كثير الذنوب؟ قال: ((إن لكل آدمي خطأً، فمن كانت له سجية عقلٍ، وغريزة يقينٍ، لم تضره ذنوبه شيئاً))، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: ((كلما أخطأ، لم يلبث أن يتوب، فتمحى ذنوبه، ويبقى فضلٌ يدخله الجنة)).
1050 - حدثنا مهديٌّ، قال: حدثنا الحسن، عن منصورٍ، عن ثابت بن زيادٍ، عن سيارٍ أبي الحكم، قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ومن أعقل ممن خاف ذنوبه،(4/457)
واستحقر عمله؟.
1051 - حدثنا مهديٌّ، قال: حدثنا الحسن، عن منصورٍ، عن موسى بن جابان، عن لقمان بن عامرٍ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عويمر! ازدد عقلاً، تزدد من ربك قرباً))، قلت: يا رسول الله! من لي بالعقل؟ قال: ((اجتنب مساخط الله، وأد فرائضه، تكن عاقلاً، ثم تنفل بالصالحات من الأعمال، تزدد في الدنيا عقلاً، ومن ربك قرباً، وعليه عزًّا)).
1052 - حدثنا مهديٌّ، قال: حدثنا الحسن، عن منصورٍ، عن عمر، عن مكحولٍ، عن كعبٍ، قال: تجد الرجل يستكثر من أنواع البر، ويحتاط في صنائع المعروف، ويكابد سهر الليل، وشدة ظمأ الهواجر، وهو في ذلك(4/458)
لا يساوي عند الله جيفة حمار، قالوا: وكيف ذلك يا أبا إسحاق؟ قال: ذلك من قلة عقله، وسوء دعته، ولعلك تجد الرجل العاقل نائماً بالليل، مفطراً بالنهار، لا يظهر لك بره، ولا ينسبه إلى صنائع المعروف، وبينهما كما بين المشرق والمغرب، قيل: وكيف ذاك يا أبا إسحاق؟ قال: لأن ربنا افترض على عباده أن يعرفوه، وأن يطيعوه، وأن يعبدوه، وإنما يطيعه ويعرفه ويعبده من يعقل، فأما الجاهل، فإنه لا يعرفه، ولا يطيعه، ولا يعبده.
1053 - حدثنا مهديٌّ، قال: حدثنا الحسن، عن منصورٍ، عن موسى بن جابان، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خلق العقل أكثر من عدد الرمل، فمن الناس من أعطي حبةً من ذلك، ومنهم من أعطي حبتين، ومنهم من أعطي مدًّا، ومنهم من أعطي صاعاً،(4/459)
ومنهم من أعطي فرقاً، وبعضهم وسقاً))، فقال ابن سلامٍ: من هم يا رسول الله؟ قال: ((العمال بطاعة الله على قدر عقولهم، ويقينهم، وجدهم، والنور الذي في قلوبهم)).
1054 - حدثنا مهديٌّ، قال: حدثنا الحسن، عن منصورٍ، عن ابن حاجبٍ، عن زيد بن وهبٍ، قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعنده ابن مسعودٍ، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما، فقال أبو موسى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((رب رجلٍ يعمل بطاعة الله، فلعل الخوف الواجد من تسبيحه وتحميده وسره أثقل من أحدٍ، ثم على قدر ذلك يتفاضل عمله)).
فقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من المؤمنين من يكون عمله يوماً واحداً أثقل من السماوات والأرض، قال عمر رضي الله عنه: وكيف ذاك يا بن أم عبد؟ قال: إن الله -جل ثناؤه- قسم الأشياء بين عباده على قدر ما أحب أن يقسم، وإنه لما خلق العقل، أقسم بعزته أنه أحب خلقه إليه، وأعزهم(4/460)
عليه، وأفضلهم عنده، وأرجح عباده أحسنهم عقلاً، وأحسنهم عقلاً من كانت فيه ثلاث خصال: صدق الورع، وصدق اليقين، وصدق الحرص على البر والتقوى، فبكى عمر رضي الله عنه عند ذلك بكاء نشج منه.
1055 - حدثنا مهديٌّ، قال: حدثنا الحسن، عن منصورٍ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قسم الله العقل ثلاثة أجزاء، فمن كان فيه، فهو العاقل: حسن المعرفة لله، وحسن الطاعة لله، وحسن الصبر لله)).
فحسن المعرفة: الثقة بالله في كل أمرك، والتفويض إليه، والائتمان له على نفسك وأحوالك، والوقوف عند مشيئته لك في كل أمر دنيا وآخرة.
وحسن الطاعة: أن تطيعه في كل أموره، ثم لا تلتفت إلى نوال؛ فتتخذ عدة دون الله.
وحسن الصبر لله: أن تصبر في النوائب صبراً لا يرى عليك في الظاهر أثر النائبة من الاستكانة والاستجداء، وأن تتلقى حكمه بالرضا، كما تتلقى ما يوافق نفسك من ذلك، فيستوي عندك المحبوب والمكروه.(4/461)
الأصل التاسع والمئتان
1056 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا داود ابن عبد الرحمن المكي، عن ابن جريجٍ، عن أبيه، عن أم حميدة بنت عبد الرحمن، عن عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن فيكم المغربين))، قلت: يا رسول الله! وما المغربون؟ قال: ((الذي يشرك فيهم الجن)).
فالجن والإنس ثقلان ابتليا بالعبودة، واقتضيا ذلك، ولهما الثواب، وعليهما العقاب، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنذارة إلى الجن، والرسالة إلى الآدميين، فأنذرهم، وعلمهم القرآن، فللجن مساواة بابن آدم في الأمور والاختلاط، فمنهم من يتزوج فيهم، فكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن.(4/463)
1057 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازمٍ، عن خليل بن أحمد، عن عثمان بن حاضرٍ، قال: كانت أم بلقيس من الجن، يقال لها: بلمقة بنت شيصبان.
وقد كان ذلك في الآدميين في أوقات، وهم من يشركون الجن في نسائهم، وكذلك الجن ربما غلب الآدمي على أهله، فيأخذ بقلبها، ويعذبها بالامتناع منهم باسم الله.
وروي عن رسول لله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ستر بين عورات بني آدم وبين أعين الجن، إذا وضع الرجل ثوبه أن يقول: باسم الله)).(4/464)
فإذا أحب الآدمي أن يطرده؛ فإنما يطرده من مشاركته باسم الله، فإن اسم الله طابع على جميع ما رزق، فلا يستطيع الجن فك الطابع.
1058 - حدثنا محمد بن عمارة بن صبيحٍ الأسدي، قال: حدثنا سهل بن عامرٍ البجلي، عن يحيى بن يعلى، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهدٍ، قال: إذا جامع الرجل ولم يسم، انطوى الجان على إحليله، فجامع معه، فذلك قوله عز وجل: {لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جانٌ}.(4/465)
الأصل العاشر والمئتان
1059 - حدثنا حفص بن عمرٍو، قال: حدثنا محمد ابن عبد العزيز الواسطي، عن بقية، عن معاوية بن يحيى، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث بحديثٍ، فعطس عنده، فهو حقٌّ)).
والعطسة: تنفس الروح وتحننه إلى الله؛ لأنها من الملكوت، فإذا تحرك عاطساً عند حديث، فهو شاهد يخبرك عن صدقه وحقه.
1060 - حدثنا حفص بن عمرٍو، قال: حدثنا آدم(4/467)
ابن أبي إياسٍ العسقلاني، قال: حدثنا ابن أبي ذئبٍ، قال: حدثنا سعيدٌ المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم، فحمد الله، فحق على كل مسلمٍ سمعه أن يشمته، والتثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم، فليرده ما استطاع؛ فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان منه)).
1061 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عمر بن عمرٍو الربعي، عن عثمان بن عطاءٍ، عن أبيه، قال: العطسة الواحدة شاهد عدلٍ، والعطستان شاهدان، وما زاد فبحسابٍ.(4/468)
1062 - حدثنا عمر، قال: حدثنا عبد الغفار بن داود الحراني، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن أبي الخير، عن أبي رهمٍ السماعي، قال: إن مما يسعد به: العطاس عند الدعاء.
فللروح كشف غطاء عن الملكوت، وذكر هناك عنده في القربة، فإذا تحرك لذلك تنفس، وهو عطاسه، فإذا كان في ذلك الوقت، كان ذلك وقت حق يحقق الحديث، ويستجيب الدعاء.
1063 - حدثنا محمد بن عمر، عن أبي قتادة الليثي، عن يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، قال: قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: لعطسةٌ واحدةٌ عند حديثٍ أحب إلي من شاهدٍ عدلٍ.(4/469)
1064 - حدثنا محمدٌ، عن بقية، عن رجلٍ سماه، قال: حدثني الرويهب السلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفأل مرسلٌ، والعطاس شاهد عدلٍ)).
فأما قوله: ((الفأل مرسلٌ))، فمثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تسمع في العسكر رجلاً يقول: يا حسن! قال: ((أخذنا فألك من فيك)).
ومثل قوله حيث استقبله بريدة في طريق الهجرة، فقال: ((ما اسمك؟))، قال: بريدة، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: ((برد أمرنا))، قال: ممن؟ قال: من أسلم، قال: ((سلمنا يا أبا بكرٍ)).
1065 - حدثنا بذلك أبو عمارٌ، قال: حدثنا أوس ابن عبد الله بن بريدة، عن أخيه، عن أبيه، عن جده، عن(4/470)
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقول: (الفأل مرسلٌ)؛ أي: إن هذه الأشياء مما يرسلها الله حتى يستقبلك كالبشير لك، فإذا تفاءلت، فقد أحسنت به الظن، والله عند ظن عبده به.
1066 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا سليمان ابن سلمة بن عبد الجبار الحمصي، قال: حدثنا يعقوب بن الجهم الخراساني، قال: حدثنا عمرو بن جريرٍ، عن عبد العزيز، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: عطس عثمان بن عفان رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عطساتٍ متوالياتٍ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أبشرك؟ هذا جبريل يخبرني عن الله تعالى: أنه ما من مؤمنٍ يعطس ثلاث عطساتٍ متوالياتٍ، إلا كان الإيمان في قلبه ثابتاً)).(4/471)
الأصل الحادي عشر والمئتان
1067 - حدثنا أبو عمارٍ الخزاعي، ومحمد بن ميمونٍ، قالا: ثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد ابن جابرٍ، قال: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، قال: حدثني واثلة بن الأسقع الليثي، عن أبي مرثدٍ الغنوي، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)).(4/473)
فمعنى هذا: إقامة حرمة المسلم بعد موته في أن لا يوطأ، ولا يجلس عليه؛ فإن تلك استهانة به أن تطأه، أو تتخذه موطئاً لقعودك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجتنب ذلك.
1068 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، ثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة الدمشقي، قال: حدثني أبي، ثنا يزيد بن قيسٍ الكندي، قال: أخبرني عبادة بن نسيٍّ، عن ابن غنمٍ، عن معاذ بن جبلٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يطأ القبور؛ إعظاماً للمسلمين، وإكراماً لهم.
وأما قوله: ((لا تصلوا إليها)).
فإنه كره أن تتخذ القبور مسجداً وقبلة يصلى إليها، وكان أهل الجاهلية يفعلونه، فنهوا عن ذلك.(4/474)
وقد ذهب في تأويل هذا الحديث ناس إلى أن الجلوس عليها في الحديث أن يتغوط عليها، وهذا مذهب بعيد، وليس هذا من أخلاق المسلمين؛ حتى يحتاج إلى النهي عنه.
1069 - حدثنا الجارود، ثنا المعلى بن منصورٍ، ثنا ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن زياد بن نعيمٍ الحضرمي، عن عمرو بن حزمٍ، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً جالساً على قبر، فقال: ((انزل عن القبر؛ لا تؤذي صاحبك، ولا يؤذيك)).
1070 - حدثنا أبي رحمه الله، عن الحماني، ثنا وكيعٌ، عن الأسود بن شيبان، عن خالد بن سميرٍ، عن بشيرٍ بن(4/475)
نهيكٍ، عن بشير بن الخصاصية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمشي بين القبور في نعلين، فقال: ((يا صاحب السبتيتين! اخلع)).
1071 - حدثنا أبي رحمه الله، ثنا أبو نعيمٍ، ثنا الأسود ابن شيبان، عن خالد بن سميرٍ، عن بشير بن نهيكٍ الدوسي، قال: حدثني بشيرٌ، قال: بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى على قبور المشركين، فقال: ((قد سبق هؤلاء خيراً كثيراً)) ثلاث مرات، وأتى على قبور المسلمين، فقال: ((قد أدرك هؤلاء خيراً كثيراً)) ثلاث مرات، ثم رأى صاحب السبتيتين، فقال: ((ويحك! ألق سبتيتك))، فنظر، فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلع نعليه، فرماهما.(4/476)
فهذه الأحاديث كلها تدل على إقامة الحرمة، وتعظيم شأن المسلم في أن يتعاظم عند المرء المسلم أن يمشي على أعظمٍ مدفونة قد اختبأها رب العالمين، واختارها لمحبته ملكاً في الجنان في جواره.
وقوله: ((لا تؤذي صاحبك))؛ أي: إن الأرواح تعلم بترك إقامة الحرمة، وبالاستهانة، فيتأذى بذلك.
وروي عن بشير بن الخصاصية في حديثه زيادة حرف أنه قال: ((ألق سبتيتك لا تشغله)).
1072 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابرٍ: أن بسر بن عبيد الله أخبره: أن أبا إدريس الخولاني أخبره: أن واثلة بن الأسقع أخبره: أن أبا مرثدٍ الغنوي أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى إلى القبور، أو يجلس عليها.(4/477)
ولهذا الحديث الذي رواه بشير بن الخصاصية تأويل غير هذا، وذلك أنه أتى على قبر حديث العهد بالوفاة، وكان الميت مشغولاً في قبره بالحساب، فكره أن يشغله خفق نعله من فوقه، فيتأذى به.
ألا ترى أنه قال: ((ألق بسبتيتك لا تشغله)).
1073 - وقال: حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا يحيى بن زكريا، عن مجالدٍ، عن محمد بن المنتشر، عن ربعي بن حراشٍ، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: في القبر حسابٌ، وفي الآخرة حسابٌ، فمن حوسب في القبر، نجا، ومن حوسب في القيامة، عذب.(4/478)
الأصل الثاني عشر والمئتان
1074 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا سليمان بن بلالٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمرو بن العاص، قال: ما نيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نيل منه ذات يوم يطوف بالبيت، فدخلوا عليه، فقطعوا عليه الطواف، وأخذوا بتلبيبه، وقالوا: أنت الذي تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ قال: ((هو ذاك))، وأبو بكر رضي الله عنه ملتزمه من خلفه، وهو يقول: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم} وعيناه تهملان، فخلوا سبيله.(4/479)
فهذه مرتبة أبي بكر رضي الله عنه من الدين، ومحله من الإسلام، عادى المشركين والخلق عامة في الله، وذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ولم يهب شرق الدنيا وغربها، وأثنى الله -تبارك وتعالى- على مؤمن من آل فرعون في تنزيله بما أثنى، وهو في ذلك يكتم إيمانه حيث يقول: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله}، وقال في تنزيله: {وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعون يكتم إيمانه}.
1075 - حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب البغدادي، قال: حدثنا كثير بن هشام، عن الحكم بن هشامٍ ابن أبي عقيلٍ، قال: عاتب الله هذه الأمة، إلا أبا بكر رضي الله عنه، فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار}.
1076 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عبيدٌ الرملي، عن إبراهيم بن بكرٍ الشيباني، قال: حدثنا مبارك ابن فضالة، عن الحسن، قال: لقد عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبي بكرٍ رضي الله عنه، فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله(4/480)
إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} يقول: لما ذكره أخرجه من خطاب المعاتبة كأنه لم يخاطبه بالمعاتبة.
1077 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن سلمة بن نبيطٍ، عن نعيمٍ أراه، [عن نبيط بن شريطٍ]، عن سالم بن عبيدٍ -وكان من أهل الصفة-، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت الأنصار: منا أميرٌ، ومنكم أمير، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سيفان في غمدٍ واحدٍ لا يصلحان، ثم أخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه، فقال: من له هذه الثلاثة: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول} من صاحبه {لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} مع من قال؟ ثم بايعه، فبايع الناس أحسن بيعة وأجملها.(4/481)
1078 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا العلاء ابن مسلمة، عن محمد بن مجيبٍ الثقفي، عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: اجتمعت قريشٌ بعد وفاة أبي طالب بثلاث، فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل هذا يجؤه، وهذا يتلتله، فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، فلم يغثه يومئذ أحدٌ إلا أبو بكر رضي الله عنه، وله ضفيرتان، فأقبل يجأ ذا، ويتلتل ذا، ويقول بأعلى صوته: ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ والله! إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر رضي الله عنه يومئذ، فقال علي رضي الله عنه: والله! ليوم أبي بكر خيرٌ من مؤمن آل فرعون، إن ذلك رجل يكتم إيمانه،(4/482)
فأثنى عليه في كتابه، وهذا أبو بكر رضي الله عنه أظهر إيمانه، وبذل ماله ودمه لله.
1079 - حدثنا عمر، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الوليد بن كثيرٍ، عن ابن تدرس مولى حكيم بن حزامٍ، عن أسماء بنت أبي بكرٍ: أنهم قالوا لها: ما أشد شيء رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان المشركون قعوداً في المسجد الحرام، ويتذاكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقول في آلهتهم، فبينا هم كذلك، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاموا إليه بأجمعهم، فكانوا إذا سألوه عن شيء، صدقهم، فقالوا له: ألست تقول كذا في آلهتنا؟ قال: بلى، قال: فتشبثوا به بأجمعهم، فأتى الصريخ إلى(4/483)
أبي بكر رضي الله عنه، فقال له: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم! {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم}، فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلوا على أبي بكر رضي الله عنه، فرجع إلينا أبو بكر، فجعل لا يمس شيئاً من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام إكرام إكرام.(4/484)
الأصل الثالث عشر والمئتان
1080 - حدثنا ابن أبي ميسرة، قال: حدثنا إسماعيل ابن سويدٍ، قال: حدثنا عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة، قال: حدثني سعيد بن إياسٍ الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا التقى المسلمان، كان أحبهما إلى الله أحسنهما بشراً لصاحبه، فإذا تصافحا، أنزل الله عليهما مئة رحمةٍ، تسعون منها للذي بدأ بالمصافحة، وعشرٌ للذي صوفح)).
فالمؤمن عليه سمة الإيمان ووقاره، وبهاء الإسلام وجماله، فأحسنهما(4/485)
بشراً أفهمهما لذلك، وأعقلهما عن الله، ما من الله به عليهما، فإنما يبشر به، حتى يظهر بشره؛ لعلمه بالله، وبمنة الله على عبده، هذا وجه.
ووجه آخر: أن المؤمن عطشان إلى لقاء ربه، تشوقاً إليه، فإذا رأى المؤمن، أو رأى كلام الله الذي أنزله، أو رأى بيته الكعبة، اهتش إلى ذلك روحه، وتنسم قلبه روح ما يجده من آثار مولاه الذي قد قلق بحياته برماً من أجل حبسه عنه، فيطمئن، ويبشر بذلك، فيظهر بشره، فإنما صار أحب إلى الله بما له من الحظ من الله.
ووجه أخر: أن الذي يظهر البشر لأخيه، يسر أخاه المؤمن؛ لأن العبوس مما يقبضه وينكسر قلبه على رؤيته، فإذا أظهر البشر، قواه؛ لأن في ذلك إظهار المودة له.
1081 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا صالح بن محمدٍ، عن أبي الحسن العسقلاني، عن زيد بن أسلم، قال: كان يحيى بن زكريا -صلوات الله عليهما- إذا لقي عيسى بن مريم عليه السلام، بدأ فسلم عليه، وكان لا يلقى يحيى إلا باشًّا متبسماً، ولا يلقى عيسى إلا محزوناً(4/486)
شبه الباكي، فلقيه يحيى، فبش في وجهه، وتبسم، وسلم عليه، فقال له عيسى: إنك تبسم تبسم رجل، وتضحك كأنك آمنٌ، فقال له يحيى: إنك لتعبس تعبس رجلٍ، وتبكي كأنك آيسٌ، فأوحى الله إلى عيسى عليه السلام: إن أحبكما إلي أكثركما تبسماً.
فأما الصفاح: فهو الأخذ باليد، وهو كالبيعة؛ لأن من شرط الإيمان والإسلام الأخوة أن يكون كل واحد منهما أحبه صاحبه.
وقال تعالى: {إنما المؤمنون إخوةٌ}، وقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ}.
فهذا شرط الله فيما بينهم الأخوة والولاية، وإذا لقيه، فإنما يريد بمصافحته كأنه يبايعه على هاتين الخصلتين، ففي كل مرة يلقاه يجدد بيعته، فيجدد الله له ثوابها، كما يجد المصاب الاسترجاع، فيجدد له ثواب المصيبة، وكما يجدد صاحب النعمة الحمد، فيجدد له ثواب شكرها؛ لأنه إذا فارقه بعد ما صافحه، لم يخل من دخول خلل الأحداث(4/487)
والنوائب، فيجدد له عند لقائه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جددوا إيمانكم))، قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: ((بلا إله إلا الله)).
فالسابق إلى تجديده له من المئة تسعون رحمة، وفي التمسك بالأخوة والولاية إقامة حرمة لا إله إلا الله، وتعظيم ذلك النور الذي جعله في قلبه، وزينه فيه، وأول ما ظهرت البيعة يوم الميثاق.
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: الركن يمين الله، يصافح بها عباده.
ولأنهم يوم الميثاق بايعوا الله، فصافحوا الحجر، فلما أنزل من الفردوس، ووضع في ركن البيت، دعوا إليه؛ ليجددوا بيعته، وهو الاستلام في أمر الحج والطواف.
وإنما قيل: استلام؛ لأنهم بايعوه يوم الميثاق على الإسلام، فلما جددوا بيعته يوم وافوا الركن، جددوا الإسلام، وهو تسليم النفس، وكلما تمسحوا به، فذاك منهم بيعة مجددة، وهو استلام منهم على قالب الافتعال.(4/488)
الأصل الرابع عشر والمئتان
1082 - حدثنا نصر بن فضالة، وعبد الكريم بن عبد الله اليشكري، قالا: حدثنا عبد الله بن نافعٍ الصائغ المدني، قال: حدثنا أيوب بن سليمان بن مينا، عمن حدثه عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وسع على أهله في يوم عاشوراء وسع الله عليه في سنته كلها)).(4/489)
1083 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا جعفرٌ الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، قال: بلغني أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر سنته.
قال سفيان: جربناه منذ أربعين سنة، فلم نر إلا خيراً.
والأصل في ذلك: أن نوحاً -صلوات الله عليه- استوت سفينته على الجودي يوم عاشوراء، فقيل له: {اهبط بسلامٍ منا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممن معك}، وهم الموحدون إلى آخر الدهر.
{وأممٌ سنمتعهم ثم يمسهم منا عذابٌ أليمٌ}.
وهم المشركون، وكانوا كلهم في صلبه، وكان هذا السلام وهذه(4/490)
البركات عليه وعلى الأمم الموحدة التي معه في صلبه.
فإنما قيل له: اهبط من السفينة؛ لتبوئ لأهلك وولدك مبوأً ومستقراً لمعاشك بهذا السلام وهذه البركات، فمن أراد أن يأخذ بحظه من تلك البركات، فوافى ذلك اليوم في كل وقت وزمان، كان في تلك الهيئة، هيئة من تبوأ لعياله، مرمة معاشهم، ويزيد في وظائفهم، ويهيئ لهم؛ لينال حظه من ذلك السلام، وتلك البركات، كما كان من أراد أن يأخذ بحظه من ذلك، فليدخل فيما دخل فيه تلك الأمم من الإيمان بالله، ويفارق الأمم التي وعدت المتعة والعذاب، فاستقبل الله -تبارك اسمه- بالدنيا استقبالاً بعد أن غرقها وحرقها شرقاً وغرباً، فلم يبق في جميع الدنيا إلا سفينة نوح بمن فيها، فرد عليهم دنياهم يوم عاشوراء، وأمروا بالهبوط للتبوئة، والتهيؤ للعيال أمر معاشهم، مع السلام والبركات عليهم، وعلى الأمم التي في صلبه من الموحدين.
فمن خرج من الموحدين من الأصلاب في كل زمان، فأتى عليه ذلك اليوم، فكأنه في يومه في وقته يهبط من السفينة، ويهيئ لعياله معاشاً،(4/491)
ويناله سلامه وبركاته كذلك، وإنما أوجب البركات له وللأمم معه؛ لاتخاذ الموطن والمعاش لعياله، وعلى هذا السبيل ما جاء في الكحل أيضاً.
1084 - حدثنا نصر بن فضالة، قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي أسنده إلى يحيى بن أبي كثيرٍ، قال: من اكتحل يوم عاشوراء بكحل إثمدٍ فيه شيءٌ من مسك، لم تنجع عينه تلك السنة، وعوفي من الرمد.
فالاكتحال مرمة العين.
وفي الكحل تقوية للبصر، ومدد الروح؛ لأن بصر الروح يتصل ببصر العين، والعين قالبه، فأما مرمة العين، فإنه جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: من خير أكحالكم الإثمد؛ فإنه ينبت الشعر، ويجلو البصر))
1085 - حدثنا بذلك عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق، ثنا يحيى بن سليمٍ الطائفي، عن عبد الله بن(4/492)
عثمان بن خثيمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنبات الشعر مرمة العين؛ لأن الأشفار ستر الناظرين، ولولا الأشفار، لم يقو الناظران على النظر، فإنما يعمل ناظر العين من تحت الشفر، فالكحل ينبته، وهو مرمته.
وأما تقوية البصر، فإنه يجلوه، ويذهب الغشاوة وما يتحلب من الموقين من فضول الدموع، والبلة الطبيعية ينشفه الإثمد، ولم يدعه بتلبث، فيصير غشاوة وغيماً على حدقته.
وأما مدد الروح، فإن بصر الروح في الباطن متصل ببصر العين، فإذا(4/493)
ذهبت هذه الغشاوة التي ذكرنا، وصل النفع إلى بصر الروح، ووجد لذهابه راحة وخفة، ففي مرمة المعاش مرمة النفس، فإذا كان ذلك منه في هذا اليوم، نال البركة، فعوفي من الضيق، ووسع عليه سائر سنته، فإذا كانت مرمة الروح، عوفي من الرمد؛ لأنه يشغل الروح إذا رمد.(4/494)
الأصل الخامس عشر والمئتان
1086 - حدثنا الجارود بن معاذٍ، قال: حدثنا الفضل ابن موسى، عن شريكٍ، عن ليثٍ، عن بشير بن نهيكٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون} قال: ((عن لا إله إلا الله)).(4/495)
معناه عندنا: أي: صدق لا إله إلا الله ووفائها.
وذلك أن الله تعالى ذكر في تنزيله العمل، فقال: {عما كانوا يعملون}، ولم يقل: عما كانوا يقولون، وإن كان يجوز أن يكون القول أيضاً عمل اللسان، فإنما المعنى ما يعرفه أهل اللغة: أن القول قول، والعمل عمل، فإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عن لا إله إلا الله))؛ أي: عن الوفاء بها، والصدق بمقالتها.
كما قال الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال.
ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله مخلصاً، دخل الجنة))، قيل: يا رسول الله! وما إخلاصها؟ قال: ((أن تحجزه عن محارم الله)).
1087 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا الهيثم بن جمازٍ، عن أبي داود الدارمي، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من(4/496)
قال: لا إله إلا الله مخلصاً، دخل الجنة))، قيل: يا رسول الله! وما إخلاصها؟ قال: ((أن تحجزه عن محارم الله عز وجل)).
1088 - حدثنا عمر، قال حدثنا عمر بن عمرٍو الربعي، قال: حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن أبي بكرٍ الحنظلي، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عهد إلي أن لا يأتيني أحدٌ من أمتي بلا إله إلا الله، لا يخلط بها شيئاً، إلا أوجبت له الجنة))، قالوا: يا رسول الله! وما الذي يخلط بلا إله إلا الله؟ قال: ((حرصاً على الدنيا، وجمعاً لها، ومنعاً لها، يقولون قول الأنبياء، ويعملون أعمال الجبابرة)).(4/497)
وإنما ثمرة هذه الكلمة لأهلها، وأهلها من رعاها حتى قام بوفائها، وصدقها.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ليس على أهل لا إله إلا الله وحشةٌ في القبور، ولا في النشور))
1089 - حدثنا بذلك علي بن عيسى بن يزيد البغدادي، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس على أهل لا إله إلا الله وحشةٌ في القبور، ولا في النشور، وكأني أنظر إليهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم وهم يقولون: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفورٌ شكورٌ}.(4/498)
وإنما ذهبت عنهم الوحشة في القبور والنشور؛ لأنهم بشروا بالنجاة من العذاب والحساب، والفوز يوم القيامة، ولقوا روحاً وريحاناً عند الموت، وفي الآخرة نضرة وسروراً، ومن قدم على ربه مع الإصرار على الذنوب، فليسوا من أهل لا إله إلا الله، إنما هم من أهل قول: لا إله إلا الله.
والأهل والآل بمعنى واحد، والهاء والهمزة تبدلان، ألا ترى أنه يقال لأهل مكة: آل الله، وأهل الله.
وقد جاءت الرواية في حديث عتاب بن أسيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((إني باعثك إلى آل الله)).(4/499)
فإنما قيل لهم هذا؛ لأنهم يؤولون إلى بيته في الوطن، ويقال: آل فلان؛ لأنهم يؤولون في السبب إليه، ويقال: آل يؤول أولاً، بمعنى رجع يرجع رجوعاً.
فأهل قول لا إله إلا الله: من يكون مرجع أمره إلى القول والعمل بهواه، وأهل لا إله إلا الله: من كان مرجعه إلى إقامة هذا القول وفاءً وصدقاً.
وروى أبو أسامة، قال: حدثنا عمر بن حمزة العمري، عن نافع ابن مالك أبي سهيل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله، ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم، فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم، ثم قالوا: لا إله إلا الله، ردت عليهم، وقال الله تعالى: كذبتم)).
1090 - حدثنا علي بن أحمد العسقلاني، قال: حدثنا عبد الأعلى بن سليمان العبدي، قال: حدثنا أبان بن(4/500)
أبي عياشٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال قول لا إله إلا الله يدفع سخط الله عن العباد، حتى إذا نزلوا بالمنزل الذي لا يبالون ما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم، فقالوا عند ذلك، قال الله تعالى لهم: كذبتم كذبتم)).
ومما يحقق ذلك أيضاً: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الموحدين ليسوا من أهل النار، وأن أهل النار هم الأعداء.
1091 - حدثنا بذلك عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: حدثني أبي، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {فإن له جهنم لا(4/501)
يموت فيها ولا يحيى}، قال: ((أما الذين هم أهلها، فإن لهم جهنم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا من أهلها، فإن النار تميتهم إماتةً، ثم يجعلون ضبائر، ويقوم الشفعاء)).
قال له قائل: وما صدق لا إله إلا الله ووفاؤها؟.
قال: هما منزلتان، إحداهما أعلى من الأخرى، فأما المنزلة الأدنى، فمن صدقها أن يقف عند صنعه كالعبد، ويقف عند أمره كالعبيد.
فأما صنعه، فهو أحكامه عليك، وتدبيره فيك؛ مثل: العز والذل، والصحة والسقم، والفقر والغنى، وكل حال محبوب ومكروه، فتقف هناك كالعبيد، لا تعصي الله في جنب ما حكم عليك، ودبره لك، وهو أن تحفظ جوارحك السبع عن كل حكم يدبره لك، ويحكم به عليك.
وأما أمره، فهو أداء الفرائض، واجتناب المحارم، فلا تعصيه في ترك فريضة، ولا انتهاك محرم، فهذا صدق لا إله إلا الله، والوفاء به، وهذه أدنى منزلة؛ لأنه بعد في حفظ الجوارح.(4/502)
وأعلاه منزلة: أن يكون في هذين حافظاً لقلبه، قد راض نفسه، وماتت شهواته، فما ورد عليه من أحكام الله، رضي بها، واهتشت نفسه إلى قبولها؛ حباً لله، وإعظاماً له، وشغوفاً به، وما أعطي من الدنيا، قنع به، وكان كالخازن الذي يعطيه مولاه شيئاً يأتمنه عليه، فهو يمسكه بالأمانة، يرقب متى يومئ إليه، حتى يبذله من غير تلجلج، وما ورد عليه من أمره ونهيه، أنفذه من غير أن يلتفت إلى عوض عنها في عاجل، أو ثواب في آجل.
وكذلك تجد في العبيد، لو أن رجلاً أعطى عبداً له مئة درهم عطية ينتفع بها، ثم قال: أعط فلاناً درهماً، فإن أعطى هذا العبد على أنه يعوضه مولاه مثله، أو يعطيه بدله درهمين، فليس هذا صدقاً في الباطن، إنما بذل ذلك على طمع نوال، فهذه متاجرة.
وإن الله -تبارك وتعالى- خلق العبد ذا شهوات، والسابقون راضوا نفوسهم، وفطموها عن الشهوات، فلما جاءهم أمر الله وأحكامه؛ انقادوا، وذلت نفوسهم لأمره؛ إعظاماً لجلاله، ذلة العبيد الذين قد استسلموا لسيدهم، فهم المبهوتون في طاعة الله، ولا يقنعون، أمور الدنيا والآخرة قد استوت لهم؛ لأنهم لله، وبالله، لا يخطر على بالهم عند تصرفهم في الأمور اختبار الأمور والأحوال.(4/503)
فإن كان في مرمة نفس أو معاش، فهو لله، فإن كان في مرمة أمر الآخرة؛ من الصوم، والصلاة، وأنواع البر، فهو لله، وأعمارهم غير معطلة كلها عبادة لمليكهم؛ لأنهم عبدوا الله بنومهم كما عبدوه بسهرهم، وعبدوه بأكلهم كما عبدوه بجوعهم، وعبدوه بأخذ الدنيا وتناولها كما عبدوه بتركها، إنما نظرهم إلى تدبيره لهم، فعلى أي حال ساروا بهم إليه، ساروا طيبة بذلك نفوسهم، حسنة أخلاقهم.
والآخرون: هم المقتصدون، لم يروضوا أنفسهم، ولا فطموها عن الشهوات، فلا ذلت نفوسهم، ولا انقادت إلا لما هويت واشتهت، إلا أن خوف الوعيد حال بين نفوسهم وبين المعاصي، فحجزهم عن أعمال الهلكى، وحملهم على أعمال أهل النوال لما طمعوا من الثواب.
ألا وقد نجد مثل هذا الفعل من الدواب أنها تتلكأ وتتبطأ في السير، حتى إذا أحست بالدنو من المنزل، استقلت بالحمولة، وجدت السير تحنناً إلى الأداري، وربما رأى أنثى، فيهتاج لذلك تراها في سيرها مستقلاً بحمولة مجدة.
وربما أحست بالسوط في جنبها من واليها، فتهتاج في السير، فإذا نظر المنتبه إلى هذا من فعل الدواب، استحيا من أن يكون شيبهاً بهم،(4/504)
لأن هذه معونة قد أتتهم من الله، خلق لهم دار الثواب، ووصفها لهم على ألسنة الرسل؛ كي إن تلكأت نفوسهم على الانبعاث لأعمال البر، طمعت لدار السلام وما فيها، فسلست، وأعطت بزمامها، فإن جمحت على الوثوب فيما زجرت عنه، ذلت وانقبضت وانخشعت.
فهؤلاء قوم انقادوا لله من أجل نفوسهم، وليس هذا بخالص العبودة، وإنما خالص العبودة لقوم هامت قلوبهم في حب الله، وهانت نفوسهم في جلال الله وعظمته، فانبعثوا لأعمال البر شغوفاً به؛ إذ علموا أنه يحب ذلك، فامتنعوا من الآثام هيبة له، وإجلالاً؛ إذ علموا أنه مساخطه ومكروهه.
فأما قوله: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن}، والناس في هذا الحزن ذوو درجات، كلٌّ إنما يحمده على إذهاب حزنه.
فأما المتقون: فكان حزنهم قطع النار، وفوت الجنة، وأيام الحياة مجاهدة النفس.
والصديقون: حزنهم تقصير ما لزمهم من شكر العصمة والتوفيق؛ بأن وفقهم للطاعات، وعصمهم من الآثام، فوجدوا أنفسهم مقصرين في شكره ينتظرون العفو.(4/505)
والعارفون على صنفين، وحزنهم على وجهين:
فكل واحد منهما واجد من الحزن على قلبه ما هو الغالب.
وأما صنف منهم: فحزن العاقبة، وحزن القلق، وحزن العاقبة هو الغالب على قلبه.
وأما الصنف الآخر: فحزن القلق، وحزن العاقبة، وحزن القلق هو الغالب على قلبه، وهذا أعلى.
قيل له: كيف هذا؟.
قال: هذا خفي.
والمشهور في أيدي هؤلاء غير هذا، وذلك أنهم يحكون أنه قيل لفلان: أما تشتاق؟ فقال: إنما يشتاق الغائب، فاستعظموا هذا، وصيروه غاية الأمر، ولا يعلمون أن من وراء هذا درجة، فيها تنافس الأنبياء، وللأولياء المجذوبين المحدثين حظ.
وقائل ذلك القول رجل مشتاق رقي به إلى درجة الجلال والجمال، فسكن شوقه؛ لعظيم ما نال من لذة القربة، فمر في العبودة بقوة حظ من الجلال، وعظم أمله بعد قوة حظه من الجمال، فهو مطمئن ساكن،(4/506)
فمن نظر إلى ذلك، قال في نفسه: فأي شيء بقي؟ ولا يعلم أن من وراء هذا درجة الأولياء المحدثين، تقلقل أحشاءهم إلى آخر رمق من الحياة، حتى تخرج أرواحهم بغصة من الكمد؛ لأنهم خلصوا إلى فردانيته، وتعلقوا بوحدانيته، فظمئت أكبادهم عطشاً إلى لقائه، وهل نال أحد في الدنيا ما نال موسى -صلوات الله عليه- من أن سمع كلامه، أفليس زاده ذلك قلقاً، حتى حمله على سؤال الرؤية، ثم عاش أيام الدنيا عطشان إلى لقائه؟.
فمحال أن يستقر العارف حتى ينكشف له الغطاء يوم الزيادة، ويصل إلى ما سأل كليم الله في الدنيا، فكلما ازداد العبد إليه قرباً، زاده مولاه دنواً، فازداد هيماناً وولهاً حتى يقلق، فيكمد، ويحترق من نيران الشوق، فهذا الغالب عليه حزن القلق، فما بينه وبين مولاه من الأسرار ما سكن عنه خوف التحويل، لا أنه ذهب عنه، ولكنه غاب عنه كما غاب خوف العقوبة عن الصديق؛ لغلبة الهيبة على قلبه.
فإذا نظر إلى قلبه، وجده كالآمن، فإذا نطق، نطق بلسان الخائف للتحويل، فأسراره تعلمه أنه مقبول عنه، وهو في حكمه فيما بينه وبين العباد؛ لأنه لا يدري ما يكون، وأن الله -تبارك اسمه- ركب هذه الشهوات في نفوس بني آدم، فهن أبداً يهوين بصاحبهن عن الله إلى الإخلاد والركون، والنظر، فكلما انكشف الغطاء له عنه، تلاشى هذا الهوى، وهذه الشهوة، حتى تموت نفسه وشهواته، فيطهر، فإن بقي ظله، فعلى حساب(4/507)
ما بقي يخاف ضرره، وهو حال النفس، والأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- لم يبق لهم ظل الهوى، فانكشف لهم الغطاء كله، فبشروا بالنجاة، فلم تضرهم البشرى؛ لأنه لم تبق لهم نفوس فتستبد وتجور إذا أمنت السقوط، ومن بعدهم بقي لهم في نفوسهم شيء، فمنعوا البشرى، وأبهم الأمر عليهم صنعاً لهم ونظراً؛ لتكون نفوسهم منقمعة بخوف الزوال، فهذا هو الأصل، فافهمه، فالخلق كلهم منه في الدنيا في سبعة حجب:
حجاب القدرة، وحجاب العزة، وحجاب الجبروت، وحجاب السلطان، وحجاب الكبرياء، وحجاب الجلال، وحجاب العظمة.
فالصديقون منه في حجاب القدرة، والمجذوبون في حجاب الجلال، والأنبياء في حجاب العظمة.(4/508)
الأصل السادس عشر والمئتان
1092 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا موسى ابن إسماعيل أبو سلمة، عن سعيد بن زربي، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داود)).
فبلغ ذلك أبا موسى، فقال: يا رسول الله! لو علمت أنك تستمع لقراءتي، لحبرته لك تحبيراً.
فالرمز والزمر: بمعنى واحد، إلا أن الرمز بالشفتين، والزمر بالحنجرة،(5/5)
وهو تحريك التركيب من ذلك الموضع على التلوين، والشفتان تركيبهما كما ترى، وإذا رمزت، فهو تحريك الشفتين على الصورة التي ركبت؛ لتخرج تلك الألفاظ، فإذا كان بصوت، فهو كلام، وإنما قيل: كلام؛ لأنه يدخل الأسماع، فيكلم الصوت القلب؛ أي: يؤثر عليه.
ومنه قيل للجراحة: كلم؛ لأنه قد أثر، فإذا دخل الصوت الأسماع، ولج الصدور، فتصورت معاني ذلك الصوت الذي نطق به في الصدور، وإذا كان بغير صوت، فهو رمز؛ لأنه إشارة إلى حروف بشفتيه؛ ليفهم، فيقوم مقام الصوت.
فهذا بالعين يدركه القلب علماً، وذلك بالسمع يدركه القلب كلماً، فلذلك لا يقال للرمز: كلام.
وأما الزمر: فإذا خرج الصوت من الجوهر الصدر إلى جو الرأس، حرك الحنجرة المركبة بعضها على بعض، حتى يردد الصوت ويرجعه، فإذا تردد على هذه الصفة في ذلك التركيب من الحنجرة، وصارت له أصداء،(5/6)
فبذلك الصدى: يتلون الصوت، فيصير ألواناً، وكل شيء صار للآدمي ألواناً، فقد تلذذ به؛ لأن بين اللونين سراً من أمر الله، وتدبيراً من تدبيره، ولطفاً من لطفه لا يدركه إلا لحظات أهل اليقين، ففصل بين اللونين، حتى إذا سمعت الأول، ورد الثاني، ثم عاد الأول، فورد على السمع طرياً، ثم عاد الثاني، فورد طرياً، فبتلك الطراوة على السماع، وجود اللذة، ألا ترى: أنه إذا أدام اللون، سمج، وفقدت لذته؟
وكذلك تجد هذا في الألوان التي تدركها الأبصار، إنما تجد اللذة بالانتساخ، فإذا انتسخت الألوان بعضها على بعض، عمل البصر فيها ما ذكرنا من الطراوة، وعملت الألوان عليها، ولذت العين.
فالمدبر الحكيم اللطيف له في خلقه عجائب، جعل بين كل شيئين برزخاً من أمره، كما جعل بين البحرين حاجزاً، وبين الليل والنهار، وبين النور والظلمة، وبين الكفر والإيمان، وبين الدنيا والآخرة.
والمزمار: على قالب: مفعال، وهو الموضع الذي يزمر به.
فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الأصوات الزائدة على أصوات العامة إنما هو من التراكيب الزائدة في الحنجرة، وأن ذلك عن عطاء ربنا وفضله(5/7)
وخلقته، وإنما يؤثر من يشاء برحمته، فلما بلغ ذلك أبا موسى، عظمت منة الله عليه أن ركب في جسمه وخلقته شيئاً له موقعُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم موقع جلالةٍ، وأنه من عطايا ربه وفضله، فهذا شأن التركيب.
وأما علم أهل اليقين: فإنهم خصوا بهذا أيضاً من أجل أن ذلك النور يفتح سدد تلك الطرق التي هي مخارج الصوت، فيصفو، وأوفرهم منه حظاً أكثرهم منه قوة، وهذا خارج من شأن التركيب.
ألا ترى: أنه روي في الخبر: أنه قال: ((لم يبعث نبيٌّ إلا حسن الصوت حسن الصورة)).
فقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع لقراءتي، لحبرته تلك تحبيراً.
والتحبير: تلوين الصوت؛ أي: لو علمت، كنت أزيد في تحريك هذا التركيب في الحنجرة لمكانك يا رسول الله، ومنه قيل: برد حبرة: إذا كان ذا ألوان.(5/8)
ومنه ما روي عن قتادة: أن رجلاً قال: يا رسول الله! قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: ((انعته لي))، قال: رأيته كالبرد المحبر، طريقة حمراء، وطريقة سوداء.
فأصل الحبرة: الألوان، ومنه سمي الربح ربحاً، على القلب من قالبه؛ لأنه ألوان، ومنه قوله: {في روضةٍ يحبرون}، فالروضة لون واحد، ثم تلون عليهم الفرش والخدم والكسوة والأطعمة في تلك الروضة.
فأبو موسى رضي الله عنه كان غنياً بالله، لا تأخذه الأحوال، والأقوال، والأعين، والأشخاص، أتفرس فيه أنه من أولياء الله تعالى المشتغلة قلوبهم بنور الله الذين لا تملكهم نفوسهم، ولو حصلت ذلك من طريق الأخبار، لحققت فراستي عند من يجهل الفراسة، ويعقله من طريق الخبر، وذلك أنه لما نزل قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه} الآية.
وروي في الخبر: أنها نزلت في الأشعريين.
فما لبثوا إلا يسيراً حتى قدمت سفائن الأشعريين وقبائل اليمن من طريق البحر، وكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يد قبائل اليمن.(5/9)
1093 - حدثنا عمر، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله ابن بكيرٍ المصري، قال: حدثني الليث بن سعدٍ، عن خالد ابن يزيد، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن زيد بن أسلم: أن الأشعريين: أبا موسى، وأبا مالك، وأبا عامر في نفر منهم لما هاجروا، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في فلك، وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا رجلاً منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعه يقرأ هذه الآية: {وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌّ في كتابٍ مبينٍ}، فقال الرجل: ما الأشعريين بأهون الدواب على الله؟ فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأصحابه: أبشروا، أتاكم الغوث، ولا تظنوا إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، فوعده، فبينما هم كذلك، إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزاً ولحماً، فأكلوا منها ما شاؤوا.(5/10)
ثم قال بعضهم لبعض: لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته، فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنا قد قضينا حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! ما رأينا طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به، قال: ((ما أرسلت إليكم شيئاً))، فأخبروه بأنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره ما صنع، وما قال لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك شيءٌ رزقكموه الله)).
1094 - وحدثنا إسماعيل بن نصرٍ، عن النضر، عن شعبة، عن سماك بن حربٍ، قال: سمعت عياضاً -رجلاً من الأشعريين-، قال: لما نزل قوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هم قوم هذا)) -وأشار إلى أبي موسى الأشعري-.(5/11)
1095 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن حميدٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقدم عليكم قومٌ هم أرق أفئدةً منكم))، فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى، فجعلوا يرتجزون ويقولون:
غداً نلقى الأحبة ... محمداً وحزبه
فأبو موسى من أهل هذه الصفة فيما تفرسنا به فيه ممن لا يخافون في الله لومة لائم، ومن أهل محبة الله، بل هو أوفرهم حظاً -إن شاء الله تعالى-، فلم يكن تأخذه محمدة الخلق فتملكه.(5/12)
فلذلك أمكنه أن يقول: لو علمت أنك تستمع لقراءتي، لحبرته لك تحبيراً.
أي: يبتغي بذلك مساره، فيخلص في ابتغاء ذلك، وهذا لمن سقط عن قلبه محمدة الناس.
وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((المخلص: لا يحب أن يحمده الناس في شيءٍ من عمله)).
والإنفاق من الصوت كالإنفاق من المال، فمن أمكنه أن يصدق الله في الإنفاق من ماله، فهذا أمكنه أن ينفق من صوته الميمون عليه جهراً، وأحقهم أن ينفق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصوت الحسن حلية القرآن.
وكذلك جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لكل شيءٍ حليةٌ وزينةٌ، وحلية القرآن: الصوت الحسن)).(5/13)
وأحسنهم صوتاً أحسنهم حلية، فحلية تدرك بالعين، وحلية تدرك بالسمع، ومرجع ذلك كله إلى أن يحل القلب، فأولاهم أن ينفق عليه من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال: لحبرته لك تحبيراً.
1096 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا فرج ابن فضالة، قال: حدثنا أبو هريرة الدمشقي، عن صدقة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: كان داود عليه السلام يقرأ الزبور سبعين صوتاً يلون فيها، وكان يقرؤه قراءة يطرب منها المحموم، وكان إذا أراد أن يبكي نفسه، لم تبق دابة في برٍّ ولا بحرٍ إلا استمعن لصوته.
1097 - حدثنا نصر بن فضالة، قال: حدثنا عمرو ابن الحسن الجزري، قال: حدثنا أبو عاصمٍ النبيل، عن ابن جريجٍ، قال: سألت عطاءً عن القراءة على ألحان المغنى، فقال: حدثني عبيد بن عميرٍ: أن داود عليه السلام(5/14)
كان يأخذ المعزفة، فيضرب بها عند قراءة الزبور، يريد أن يبكي ويبكي.
1098 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا عمر ابن هارون، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاءٌ، قال: سمعت عبيد بن عميرٍ يقول: كان داود عليه السلام يأخذ المعزفة فيضرب بها، ويبكي.
فالمعزفة تهيج من معدن السرور، وما فيه من معدن الحزن، هكذا الظاهر من التدبير: أن المعازف إنما تكون في مواضع السرور، وفي أوقاتها، والنوائح في أوقات الأحزان، فذكر عند هاهنا شأن المعزفة، ثم ذكر البكاء.
فدل ذلك أن هذا بكاء للشوق؛ لأن المشتاق الهائم من طول الغيبة والحبس عمن اشتاق إليه يشتد حزنه، وفي باطن حزنه سرور؛ لأن الحب أصله، والسرور من الحب، والشوق من السرور، والحزن من أجل الشوق، فإذا لاقى قلبه أصوات السرور، بكى، فكان هذا دليلاً من فعله أنه كان يضرب بالمعزفة، يريد أن يبكي، ويبكي المشتاقين.(5/15)
الأصل السابع عشر والمئتان
1099 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الحسن ابن علي الخلال الحلواني، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا هاشم بن سعيدٍ الكوفي، قال: حدثنا زيدٌ الخثعمي، عن أسماء بنت عميسٍ، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بئس العبد عبدٌ تجبر واعتدى، ونسي الجبار الأعلى، بئس العبد عبدٌ سها ولها، ونسي المبتدأ والمنتهى، بئس العبد عبدٌ بغى وعتا، ونسي المقابر والبلى، بئس العبد عبدٌ يختال بالدين الدنيا، بئس العبد عبدٌ يختال الدنيا بالشبهات، بئس العبد عبدٌ يذله الرعب عن الحق، بئس العبد عبدٌ طمعٌ يقوده، بئس العبد عبدٌ هوى يضله)).(5/17)
فأما قوله: ((تجبر واعتدى))، فهذا صنف في الناس احتشى من الشهوات، وجبر الخلق على هواه فيها، وصار ذلك له عادة، واعتدى في جبريته فيها، فمن خالف هواه، قهره، إما بقتل، أو نحوه.
والعدو: هو أن يأبق العبد من ربه إباقاً يقع في العدو، وكالركض في السرعة هرباً، فإذا وصف عدوه، فالبالغ من الصفة، قيل: عدوان على قالب: فعلان، فإذا وصف ببعضه، قيل: عادى، فإذا صار ذلك له عادة، قيل: اعتدى، على قالب: افتعل، كأن العادة صارت له دأباً، فوصف أن هذا عبد عمل بهواه، وجبر الخلق على ذلك، ونسي الجبار الأعلى الذي له الجبر، وقد صغرت الدنيا بمن فيها من الخلق والخليقة، والملكوت علواً وسفلاً في ملك جبروته، ودق.
وقوله: ((عبدٌ سها ولها، ونسي المبتدأ والمنتهى))، فسهوه بالأماني، ولهوه بالشهوات، ونسي المبتدأ، من أين خلق؟ ونسي المنتهى، إلى أين يرد؟ نسي من أين بدأ، وإلى أين يعاد؟(5/18)
وقوله: ((عبدٌ بغى وعتا، ونسي المقابر والبلى)) والبغي: طلب العلو، وكلما رأى في الدنيا درجة، أحب أن ينال ذلك، ويسلب غيره، فهو باغ للمنازل؛ يحب أن ينفرد بها دون نظرائه.
وعتا: أي؛ يبس قلبه، انتشفت حرارة شهوته رطوبة قلبه، وما ركب فيه من الرأفة والرحمة الخلقية الطبيعية، وإذا يبس ذاك، وصار إيمانه محجوباً، فلا إيمانه عَمِلَ عَمَلَ الرأفة والرحمة، والعطف، والبر، والرفق، والسخاوة، ومحاسن الأخلاق، ولا الذي ركب في طبائع الآدميين من ذلك بقيت رطوبته، فيعمل عمله، فهذا قلب قاسٍ عاتٍ يابسٌ من الخير، قد انتشفت منه ماء الرحمة، فهذا متكبر، فمن الكبر طلب العلو، ومن الكبر عتا، فذهب رفقه، وصبره، وتأنيه، وحلمه، وحياؤه، ورأفته، وعطفه، ورحمته، ونسي أن القبر متضمنه يوماً، ويحتوي على أركانه، ومبلٍ لحمه، ودمه أكلاً أكلاً، حتى يصير من اللحد فقيداً.
وقوله: ((عبدٌ يختال بالدين الدنيا)) فهذا عبد متصنع، مداهن، قلت مبالاته بنفسه على الحقيقة، إنما يبالي بما يعرض له في العاجل من النهمة لما ينالها؛ لبعد قلبه عن الآخرة، ومن بعد قلبه عن الآخرة، فهو من البر أبعد وأبعد، فقد ترصد للتوثب على الدنيا؛ ليظفر بها منتهزاً لفرصتها(5/19)
يتحلى بظاهر الإيمان؛ ليصطاد بها الدنيا، صير معالم الإيمان شبكة لحطام الدنيا وأوساخها، يظهر الخشوع بالتماوت كي يحظى عند أهل الدنيا، فينال من عزها وجاهها؛ كي ينال بها مناه وشهواته، يتحازن عند لقاء الخلق، ويتنفس الصعداء، يظهر بذلك الاهتمام لدينه، والتحسر على إدبار أمره، وإنما هو آسف منه على ما يفوته من الدنيا، يمتنع من قبول الشيء اليسير من الدنيا؛ ليكون في هيئة الزاهدين عند الخلق، يخاف إن قبله أن ينكسر جاهه عند الخلق ورياسته؛ لأنه يصير عندهم في صورة الراغبين، فهو مع الحاجة هكذا ينتظر فريسته، فكل باب من الأبواب المنالات الدنياوية قد هيأ له باباً من أبواب الدين؛ ليختله من أيديهم بذلك، يظهر الزهادة؛ ليختال عليه بالدنيا، ويظهر العبادة؛ ليهيأ له، ويكفى مؤنه، ويظهر الورع؛ ليؤتمن على الأموال، ويظهر الانقباض؛ ليهاب، ويظهر الشدة على أهل الريب؛ ليشار إليه بالأصابع ويطلب الرياسة؛ ليحكم بين الخلق في معاملته بحكم الملوك، ويطلب العز؛ لنفاذ مشيئاته فيهم، كل ذلك ختلاً لنوال هذه الدنسة التي خلقت من تراب، ثم يتخلى عنها أوفر ما كانت، حتى تكون فريسة الأسد والذئاب والثعالب.
قوله: ((يختل الدنيا بالشبهات)): فهذا أيسر من الذي يختله بالدين،(5/20)
فهذا رجل فر من الحرام، وتغمص في الشبهة، فهو يخادع الله بذلك، يقول: أفر من الحرام.
قوله: ((عبد يذله الرعب عن الحق)) إذا استقبله حق من حقوق الله تعالى، فأراد أن يقيمه، جاءت النفس بسوء ظنها، فخوفته وجوه المهالك حتى ترغبه، فتذله، وقد ندب الله تعالى في تنزيله، فقال: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}، فهذا العبد من سوء الظنون علاه الرعب، فانكسر قلبه، وانخلع جبناً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شر ما في الإنسان: حرصٌ هالعٌ، وجبنٌ خالعٌ)).
فالحرص: يورث القلب هلعاً، وهو: أن لا يشبع، كلما وجد شيئاً، بلعه، ولا قرار له، ولا يرى في جوفه ذلك، والجبن إذا انتفخت الرئة منه(5/21)
من الفزع، خلع القلب من مكانه.
قوله: ((عبدٌ طمعٌ يقوده))، فالطمع: هو أن يتمنى أمراً من شهوات الدنيا، فلا يزال يتمنى، ويفكر حتى يجد طمعه من الفكر الذي حاك في صدره، فإذا وجد القلب طمعه، قادته تلك الشهوة.
قوله: ((عبدٌ هوًى يضله))، فالهوى المضل: ترك الحق في أموره، وترك الحق في السير إلى الله، حتى يقع في الباطل، وحتى يقع في الأهواء والزيغ عن سواء السبيل.(5/22)
الأصل الثامن عشر والمئتان
1100 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا أبو همامٍ الدلال، عن إبراهيم بن طهمان، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيشٍ، عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أتاه جبريل عليه السلام، فبينا هو عنده، إذ أقبل أبو ذرٍّ رضي الله عنه، فنظر إليه جبريل عليه السلام، فقال: هو أبو ذرٍّ. قال: فقلت: يا أمين الله! وتعرفون أنتم أبا ذرٍّ؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق! إن أبا ذرٍّ أعرف في أهل السماء منه في أهل الأرض، وإنما ذلك لدعاءٍ يدعو به كل يومٍ مرتين، وقد تعجبت الملائكة منه، فادع به، فسله عن دعائه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذرٍّ! دعاءٌ تدعو به كل يومٍ مرتين؟))، قال: نعم فداك أبي وأمي، ما سمعته من بشر،(5/23)
فإنما هو عشرة أحرف ألهمني ربي إلهاماً، وأنا أدعو به كل يومٍ مرتين: أستقبل القبلة، فأسبح الله ملياً، وأهلله ملياً، وأحمده ملياً، وأكبره ملياً، ثم أدعو بتلك العشر كلمات: اللهم إني أسألك إيماناً دائماً، وأسألك قلباً خاشعاً، وأسألك علماً نافعاً، وأسألك يقيناً صادقاً، وأسألك ديناً قيماً، وأسألك العافية من كل بليةٍ، وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية، وأسألك الشكر على العافية، وأسألك الغنى عن الناس.
قال جبريل عليه السلام: والذي بعثك بالحق! لا يدعو أحدٌ من أمتك هذا الدعاء إلا غفرت له ذنوبه، وإن كان أكثر من زبد البحر، وعدد تراب الأرض، ولا يلقى الله أحدٌ من أمتك وفي قلبه هذا الدعاء إلا اشتاقت إليه الجنان، واستغفر له الملكان، وفتحت له أبواب الجنة، ونادت الملائكة: يا ولي الله! ادخل من أي بابٍ شئت.
قوله: ((إيماناً دائماً)) فالدوام على وجهين:
وجه: أن يدوم له توحيده حتى يختم له بذلك، فلا يسلبه، فيلقى ربه(5/24)
بإيمانه، فيدوم ذلك أبداً.
والوجه الآخر: أن يكون له يقين يصير أموره على المعاينة، ولا ينقطع ذكر الله عن قلبه على كل حال.
ومنه قول أبي الدرداء رضي الله عنه حين بلغه أن فلاناً أعتق مئة رقبة، فقال: إيمان ملزوم بالليل والنهار، ولسانك رطب بذكر الله تعالى أفضل من ذلك.
وقال ابن رواحة: مثل الإيمان مثل قميصك، بينا أنت لبسته، إذ أنت نزعته، وبينا أنت نزعته، إذ أنت لبسته.
فإذا دام الإيمان على القلب، دام الذكر.
ومن هاهنا قال معاذ -رضي الله عنه-: تعال حتى نؤمن ساعة.
فكانوا يطلبون دوام الإيمان على قلوبهم.
ومن هاهنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشد الأعمال: ذكر الله على كل حالٍ)).
فكان القوم يتفقدون هذا من أنفسهم أن يكونوا كما آمنوا، فإن النعمة(5/25)
من الله أن يجدوا دوام ذلك الإيمان على قلوبهم في وقت النعمة، وكذلك في البؤس والشدة، فيكونوا عند أحكامه عليهم في الأحوال مطمئنين به، كما اطمأنوا به رباً، فهذا دوام الإيمان.
وقال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: ليأتين على الرجل أحايين وما على جلده موضع إبرة من النفاق، وليأتين عليه أحايين وما على جلده موضع إبرة من الإيمان.
1101 - حدثنا بذلك قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ابن لهيعة.
معناه على ما وصفناه بدءاً: أنه يصير قلبه خالياً عن ذكر كل شيء، ويتفرد للفرد الواحد، فيأنس به، ويطمئن إلى حكمه، فلم يبق فيه شيء من النفاق، فإذا غلبت شهوة أو رغبة، أو رهبة أو غضبة، فملكته نفسه، صار إيمانه في قلبه كشمس قد انكسفت، فذهب ضوءها، فجاءت النفس، فطالبها بظلمها وداهيتها، فإنما سأل إيماناً دائماً؛ أي: يدوم له شمسه،(5/26)
فلا ينكسف حتى يكون صدره مستنيراً بنور اليقين في كل أمر.
قوله: ((قلباً خاشعاً))، فهو الذي قد ماتت شهواته، فذلت النفس لله تعالى، وخشع القلب بما طالع من جلال الله وعظمته.
وقوله: ((علماً نافعاً))، فهو العلم الذي قد تمكن في الصدر، وتصوره، ذلك أن النور إذا أشرق في الصدر، تصورت الأمور حسنها، وسيئها، ووقع لذلك ظل في الصدر، فهو صورة الأمور، فيأتي حسنها، ويجتنب سيئها، فذلك العلم النافع من نور القلب، خرجت تلك العلائم إلى الصدر، وهي علامات الهدى والعلم الذي قد تعلمه، فذاك علم البيان إنما هو شيء قد استودع الحفظ، والشهوة غالبة عليه، قد أحاطت به، وأذهبت بظلمتها ضوءه.
قوله: ((ويقيناً صادقاً))، فاليقين على وجهين:
وجه: أن يوقن يقيناً ينفي الشك، ولا يغلب الشهوة، وهو يقين التوحيد.
واليقين الآخر: نور مشرق للصدر، غالب للشهوات، صارت له(5/27)
أمور الدنيا والآخرة، وأمر الملكوت معاينة، قد ورث قلبه الخشية، والمحبة، والهيبة، والتعظيم لله.
قوله: ((وديناً قيماً))، والدين: الخضوع لله بأمره ونهيه، وأن يكون سيره إليه في الشريعة على سبيل الاستقامة، لا زيغ فيه ولا بدعة، وهو كما وصف الله عز وجل في تنزيله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}.
فأمروا أن يعبدوا الله، فيحلوا ما أحله، ويحرموا ما حرمه، ويؤدوا الفرائض، ويجتنبوا المساخط، فإذا دان الله بغير ما شرع الله له في الشريعة، لم يقبل منه، وليس ذلك بالدين القيم، بل هو ساقط، هذا أدناه.
وأعلاه: أن يدين لله، حتى لا يلتفت إلى أحد سواه، فيكون هو ثقته وملجأه ومفزعه، ولا يطمئن إلى أحد سواه، فيكون هو متعلق قلبه، فهذا أعلا الدين القيم.
قوله: ((والعافية من كل بلية))، فالبلاء على ثلاثة أضرب:
منها: تعجيل عقوبة للعبد.
ومنها: امتحان ليبرز ما في ضميره، فيظهر لخلقه درجته، أين هو من ربه.(5/28)
ومنها: كرامته؛ ليزداد عنده قربة وكرامة.
فأما تعجيل العقوبة، فمثل ما نزل بيوسف عليه السلام من لبثه في السجن، بالهم الذي هم به، ومن لبثه بعد مضي المدة في السجن بقوله: {اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين}.
وأما الامتحان: فمثل ما نزل بأيوب عليه السلام، قال: الله عز وجل: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوابٌ}.
وأما الكرامة: فمثل ما نزل بيحيى بن زكريا عليه السلام، الذي لم يعمل خطيئة، ولم يهم بها، فذبح، وأهدي رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، فسأل العافية من ذلك كله.
والعافية: أن يكون في كل وجه من هذه الوجوه إذا حل به شيء من ذلك أن لا يكله إلى نفسه، ولا يخذله، ويكلأه، ويرعاه في كل هذه الوجوه، هذا وجه.
والوجه الآخر: أنه يسأله أن يعافيه من كل شيء فيه شدة؛ فإن الشدة إنما يحل أكثرها من أجل الذنوب، فكأنه سأل أن يعافيه من البلاء، ويعفو عنه الذنوب التي من أجلها تحل الشدة بالنفس، فقد قال عز وجل:(5/29)
{وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم}، وقال: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر}.
قوله: ((ودوام العافية)) بأن تدوم، له، ولا تنقطع.
وقوله: ((وتمام العافية))، فأن تكون عافية لا شوب فيها.
وقوله: ((والشكر على العافية))؛ فإن الشكر به ترتبط النعمة، وتجلب المزيد.
قوله: ((والغنى عن الناس))، فإنما يستغني عن الناس إذا استغنى بالله، ففيه الخروج من الرق إلى الحرية، ومن لم ينقطع طمعه عن الخلق، فهو على خطر عظيم من أمر الله عز وجل، وهو مفتون.(5/30)
الأصل التاسع عشر والمئتان
1102 - حدثنا محمد بن أيوب السمناني، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا وهيبٌ، قال: حدثنا ابن طاوسٍ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العين حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابقاً للقدر، لسبقته العين، وإذا استغسلتم، فاغسلوا)).
فأما قوله: ((العين حقٌّ))، فإن الله -تبارك وتعالى- كان ولا شيء، ثم أبدى ملكه وربوبيته، ثم خلق الخلق لإظهار ملكه وربوبيته على أعين(5/31)
الخلق؛ ليدينوا له عبودة، لا ليشتغل الخلق بالأشياء عن صانع الأشياء، فتلهيهم الأشياء عنه، ويفتتنوا بها، فإذا فعل ذلك أحد من خلقه، فأعجب بشيء من خلقه، غير ذلك الحال ليفسد إعجابه، وكان هذا من فعله حق؛ لأن من شرطه لما خلق الخلق: أن ينظروا إلى صنعه، ويروه محموداً.
ألا ترى إلى آدم -صلوات الله عليه- حين فتح عينيه، فنظر إلى خلق نفسه، وعطس، فقال: الحمد لله، فرضي الله ذلك من فعله، ورضي عنه رضاً لم يضره معه ذنب، فأذنب، فرزقه التوبة والرحمة والمغفرة، ورده إلى جواره.
وأما قوله: ((لو كان شيءٌ سابقاً للقدر، لسبقته العين)): فإن الله -تبارك وتعالى اسمه- قدر المقادير قبل الخلق بخمسين ألف سنة، فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبرز الخلق، وليس شيء من الخلق يسبق القدر؛ لأنهم بعد القدر خلقوا، وإنما قدر الخلق؛ ليخلق، وليظهر ملكه وربوبيته، فيحمدوه ويعبدوه، ويضيفوا الأشياء إلى وليها وصانعها.
وروي لنا في الخبر: عن وهب من منبه: أنه قال فيما يحكي عن الله -تبارك اسمه- في الكلام الذي أقبل به على خلقه يوم السبت حين فرغ من(5/32)
جميع خلقه، فقال في آخره: ((وما خلقت الخلق لحاجةٍ كانت بي إليه، ولكن لأبين به قدرتي، ولأعرف به للناظرين نفسي، ولينظر الناظرون في مملكتي، وتدبير حكمتي، ولتدين الخلائق كلها لعزتي، وليسبح الخلق كله بحمدي، ولتعنو الوجوه كلها لوجهي)).
فالغافل عن الله ينظر إلى الأشياء بعين الغفلة، فيعجب بها، وتصير عليه فتنة، ومن شرط الله على العباد أن يعتبروا، والاعتبار: هو العبور عن الأشياء إلى خالق الأشياء، فإذا لم يعتبروا، وبقوا مع الأشياء عجباً وفتنة، أفسد ذلك الشيء عليهم نيتهم، وتغير عليهم عجبهم، فقد تقدم الشرط قبل خلق الخلق، فهم مقرون بالقدر أنه قدر الخلق؛ لينظروا إلى تدبيره وملكه، فلو كان شيء سابقاً للقدر، لسبقته العين؛ لقربه منه وجواره، ولا يسبقه؛ لما سبق من الشرط قبل أن يخلق الخلق.
وأما قوله: ((وإذا استغسلتم فاغسلوا))، فإنه كذا جرت به السنة عن(5/33)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخبار: أن العائن يتوضأ، أو يغتسل، فيغسل بتلك الغسالة، هذا المعاين، فيخف ما به، وينحل من ثقله كما ينحل صاحب الإخذة من سحره، فإن إخذة العائن من قبل الخلق، وإن الحق لا يرضى أن تضاف الأشياء إلى غير خالقها، ومن أول ما يقتضي الحق: أن تنسبوا الأشياء إلى مالكها ووليها، فهذا أول شأنه، فإذا أخذت الأشياء تناولاً عن الأسباب في حال غفلة عن الله، اقتضى الحق شكرها لولي الحق، فإذا نظروا إلى الأشياء، فأعجبوا بها، ناشد الحق وليها في إفساد ما به أعجبوا؛ لأن تلك نعمة حدثت من الملك والربوبية من خزائن المنة على أيدي لطفه، فغيرها العباد بعمى النفوس عن جهتها، فغير الله ما بهم، وهو قوله عز وجل: {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}، فهذه إخذة الحق.
وأما الغسلة فيه: فإن العين إنما جاءت من قبل النفس الغافلة المحجوبة عن الله عقلها، التي لما نظرت إلى صنع الله، وفيها إعجاب بالأشياء؛ للشهوة التي قد ركبت فيها بجميع ما يلائمها،(5/34)
أعجبت بذلك، وعجزت لما فيها من الحجب المظلمة التي احتوشتها عن درك رؤية عظيم صنع الله، ولطفه في صنعه، وبره بالعبد، وعطفه عليه، فافتتنت بذلك الشيء، فكره الله ذلك من فعلها، فأفسد عليها إعجابها، وغير الحال، رحمة للناظر والمنظور إليه؛ ليكون للناظر عبرة، وللمنظور إليه خروجاً من أن يكون سبباً لما كره الله من فتنة العباد بمن دونه، وكذلك الأصنام والأوثان، عبدت من دون الله، فهي، وإن لم يكن لها ذنب، فهي مزجورة.
ألا ترى: أن سليمان -صلوات الله عليه- لما شغلته الخيل الصافنات الجياد -حين عرضت عليه- عن صلاة العصر، فطفق مسحاً بالسوق والأعناق، فعرقبهن بالسيوف، وضرب أعناقهن؛ لئلا يبقى على ظهر الأرض من صار له فتنة، وشغله عن أمر الله تعالى، وكان ذلك من زينة الحياة الدنيا، فلما فتنته أبادهن، فإنما اجترأ سليمان عليه السلام في ذلك على ما علم من تدبير الله، فأمر هذا الناظر العائن أن يغتسل، فإن الغسالة هي مرفوضة.(5/35)
وهكذا في شأن النفس: أنها تعاف غسالتها، وترى بها رفضاً، ليجعل الله الشفاء فيما رفضت نفسها وعافته؛ لأنه ليس شيء في الأرض مما يلائم النفس إلا ولها فيه شهوة إليها تروع ومد عين، وتلك آفة، فاستشفاء هذا المعان بما قد رفضت نفس العائن وعافته، وتخلصت من آفة النفس؛ تقرباً إلى الله عز وجل بخلافها، وبالرد عليها؛ تأميلاً للشفاء، وحسن ظن به.
فحقق الله الأمل، ووفى بالظن، فعافاه، وصارت النفس مزجورة مذمومة بفعلها، ولم يوجد في ذلك الوقت شيء مما حضر إلا وللنفس فيه شهوة ومراد، فأمرت تلك النفس التي فعلت ذلك أن تعمد إلى شيء ليست لها فيه شهوة، ولا إرادة، فتزايل ذلك الشيء، وللشيء عندها مرفوض ثقيل وخيم، فيكون في ذلك الشفاء الذي حل به منها ما حل من سقم النظر، وسوء استعمال البصر الذي أكرمه الله عز وجل.
1103 - حدثنا محمد بن أبان الهلالي، قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي، قال: حدثنا طالب بن حبيبٍ المدني الأنصاري، عن عبد الرحمن بن جابرٍ، عن أبيه،(5/36)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر من يموت من أمتي بالنفس بعد كتاب الله وقضائه يعني العين)).
1104 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، قال: حدثنا يوسف بن السفر، قال: حدثني مالك بن أنسٍ رضي الله عنه، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيمٌ مريضٌ، فسأل عنه يوماً، فقالوا: إنه لمثبت يا رسول الله، قال: ((أفلا استرقيتم له؛ فإن ثلث منايا أمتي من العين)).(5/37)
فإنما صار أكثر من يموت بذلك؛ لأن هذه الأمة فضلت باليقين على سائر الأمم، فحجبوا أنفسهم بالشهوات، فعوقبوا بآفة العين، فإذا نظر أحدهم بعين الغفلة، وقد فضل باليقين على الأمم قبله، كان عيبه أعظم، والذم له ألزم.
وهو قوله عز وجل في تنزيله: {قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم}؛ أي: لن يؤتى أحد من الهدى؛ أي: من اليقين مثل ما أوتيتم، ثم قال: {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء}، ثم قال: {يختص برحمته من يشاء}.
فهذه رحمة من الله لهذه الأمة، فلما فضلهم باليقين، وهو التأييد الأعظم من الله، لم يرض منهم بأن ينظروا إلى الأشياء بعين الغفلة، وتتعطل منة الله عليهم، وتفضيله إياهم.(5/38)
الأصل العشرون والمئتان
1105 - حدثنا أبي رحمه الله تعالى، قال: حدثنا عبد الله بن عاصمٍ الحماني، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استعاذ بالله، فأعيذوه، ومن سأل بالله، فأعطوه، ومن استجار بالله، فأجيروه، ومن أتى إليكم معروفاً، فكافئوه، فإن لم تجدوا، فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه)).(5/39)
فأما الاستعاذة بالله: دخوله في مأمنه وحرمه، ولو أن أحداً التجأ إلى ملك من ملوك الدنيا، لما طالبه أن يتكلف منه أذى، ولكف عنه؛ إعظاماً لمن التجأ إليه، ولو التجأ إلى حرم الله، لاستحق أن يكف عنه حتى يخرج منه، فكيف بمن دخل في عباده، وصيره ملجأ ومفزعاً وكهفاً؟
ولو أن ملكاً التجأ إليه أحد من طالب يطلبه بسوء، لم يرض الملك أن يتكلف الطالب منه بعد ذلك مكروهاً، وعد ذلك منقصة أن يخذله، ووجد على طالبه بسوء بعد أن صيره المطلوب ملجأ، وكان ذلك من الطالب جرأة على الملك، واستخفافاً بحقه، وتضييعاً لحرمته، فكيف بمالك الملوك؟!
ولو أن رجلاً له حرمة ووجاهة وقد فزع هذا المطلوب إليه، فأوى إلى حجره، أو دخل في قميصه تحرزاً من هذا الطالب له بسوء، لكف طالبه عنه، واستحيا من ذلك الجليل أن يتناوله من قربه بسوء، فكيف من دخل في عياذ الله؟!(5/40)
وكذلك قوله: ((من استجار بالله، فأجيروه))، فهو من الاستعاذة قد دخل في جواره، وجار الله لا يؤذى.
وقوله: ((ومن سألكم بالله، فأعطوه))، فالسؤال بالله بوجهه أن يقول: سؤالي هذا بلساني في الظاهر، ولكن في الباطن كأنه يؤدي إلى أن يقول: أسأل ربي أن يسألك هذه الحاجة لي، فكأنه صير الرب هو السائل بينه وبين صاحبه، فالله لا يرد، وهذا إذا سأل بحق، وإذا سأل بباطل، فإنه لم يسأل بالله، إنما يسأل بالشيطان.
وروي عن علي رضي الله عنه: أنه قال له رجل: أسألك بوجه الله تعالى، فقال: إنما سألتني بوجهك الخلق.
1106 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا سليمان ابن عمرو، عن سالمٍ الأفطس، عن الحسن، وسعيد بن جبيرٍ، عن علي رضي الله عنه: أن رجلاً سأله، فلم يعطه شيئاً، فقال: أسألك بوجه الله تعالى، فقال له عليٌّ: كذبت، ليس بوجه الله سألتني، إنما وجه الله الحق ألا ترى إلى قوله: {كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه} ما أريد به وجهه، ولكن سألتني بوجهك الخلق.(5/41)
1107 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا إبراهيم ابن الوليد بن سلمة الدمشقي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يزيد بن قيسٍ الكندي، قال: أخبرني عبادة بن نسيٍّ، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عنمٍ الأشعري، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سألكم بالله، فأعطوه، وإن شئتم، فدعوه)).
قال معاذ رضي الله عنه: وذلك أن يعرف أنه غير مستحق، فإن عرفتم أنه مستحق وسأل فلم تعطوه، فأنتم ظلمة.
معنى قوله: ((فإن شئتم، فدعوه)) إذا عرف أنه غير مستحق، أو اشتبه عليه، فلم يعرف أنه سأل بحق، ألا ترى: أن معاذاً رضي الله عنه قال: إن عرفتم أنه مستحق، فلم تعطوه، فأنتم ظلمة.
وأما المعروف، فإنه يكافأ، فإن لم يجد المكافأة، فالدعاء أكثر من المكافأة بالشيء، ذاك أعطاه عرضاً من الدنيا، وكافأه، وهذا بالمسألة من الله له نوالاً، فنوال العبد يدق في جنب نوال الله تعالى.(5/42)
والعبد إذا صنع إليه معروف، فأراد أن يكافئ، فلم يجد، فاشتد عليه، فإنما يشتد عليه لكرم طبعه؛ لأنه قد نجع فيه معروفه؛ لأنه عارف بالصنائع، شاكر له، فأثقله معروفه، فاشتد عليه، فطلب ما يجد الخلاص به من تلك الأثقال، فأعوزته الحاجة، ففزع إلى الله عز وجل من أثقال معروفة يسأله أن يكافئه عنه، والله يحب هذا الخلق من المؤمن، وهو محض الشكر، فهذا قمنٌ أن يستجيب له؛ لأن هذا فعل من أري أفعال محاب الله.(5/43)
الأصل الحادي والعشرون والمئتان
1108 - حدثنا حميد بن علي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حدثنا جعفر بن محمدٍ الهمداني، قال: حدثنا ابن مباركٍ، عن حماد بن سلمة، عن الزبير بن عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله الفهري، عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مر لقمان على جاريةٍ في الكتاب، فقال: لمن يصقل هذا السيف؟)).
قال أبو عبد الله:
فهذه كلمة تمثيل خرجت من معدن الحكمة، وعامة الحكمة هي أمثال؛ لأن الأمثال أنموذج الآخرة، وأنموذج الملكوت،(5/45)
فبالخلق حاجة إلى معاينة الآجل، وإنما يعاينونه بالعاجل، ولهذا ضرب الله الأمثال في تنزيله، وعجل لأهل الدنيا من نعيم الجنان أنموذجاً، وهو: الأنوار، والطيب، والذهب، والفضة، واللؤلؤ، والزبرجد، وسائر الجواهر، فلو لم يرهم ذلك في دار الدنيا، ثم وصف لهم الجنان بهذه الأشياء، لم يفهموا عنه تلك الصفة.
ألا ترى أنه وصف ثلاث درجات: درجة فضة، ودرجة ذهب، ودرجة نور، وهي مئة درجة، فإنما أمسك عن وصف سائر الدرجات؛ لأنه ليست عندهم أنموذجاتها، فيفهمون بها عنه ما يصف، وذلك قوله تعالى: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ}؛ لأن النفوس لم تعاين شيئاً من ذلك في الدنيا، فلو سميت لهم، لم يعقلوها، ولم يعلموا من ذلك إلا الاسم، فالسيف أمره لا يكاد يلبث صاحبه، فكذلك المرأة شهوتها من بين الشهوات كالسيف من بين الأسلحة.(5/46)
وذكر لنا: أن إبليس لما خلقت المرأة، قال: أنت نصف جندي، وأنت موضع سري، وأنت سهمي الذي أرمي بك فلا أخطئ.
وذكر الله في تنزيله حب الشهوات، وبدأ بذكر النساء، فقال: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك}؛ ليعلم أنها أقوى الشهوات.
وقال في آية أخرى: {وخلق الإنسان ضعيفاً}؛ أي: في شأن النساء، وذلك أنها ركبت فيه شهوة أزعجته.
وقال: {خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وجعل منها زوجها ليسكن إليها}، فهل يكون السكون إلا من الاضطراب والجولان؟
وإن الله تعالى اقتص في تنزيله شأن ثلاثة من أنبيائه، وأعلام أرضه: يوسف، وداود، ومحمد -صلى الله عليهم وسلم- أجمعين.
فأما يوسف -صلوات الله عليه-:
فابتلي بامرأة العزيز، فلما تزينت له، وراودته، قال: {معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي}، ولم تزل في مراودته ومخادعته، حتى خلت به في بيت، وغلقت الأبواب.(5/47)
بلغنا في الخبر: أنها قالت له: يا يوسف! ما أحسن صورة وجهك! قال: في الرحم صورني ربي، فقالت: يا يوسف! ما أحسن شعرك! قال: هو أول شيء يبلى مني في قبري، قالت: يا يوسف! ما أحسن عينيك! قال: بهما أنظر إلى ربي، قالت: يا يوسف! ارفع بصرك، فانظر في وجهي، قال: أخاف العمى في آخرتي، قالت: يا يوسف! أدنو منك وتتباعد عني؟! قال: أريد بذلك الاقتراب من ربي، قالت: يا يوسف! القيطون [فرشته]، فادخل معي، قال: القيطون لا يسترني من ربي، قالت: يا يوسف! فراش الحرير قد فرشته، قم فاقض حاجتي، قال: إذاً يذهب من الجنة نصيبي، قالت: يا يوسف! إنك لجريء على سخطي، قال: أريد بذلك مرضاة ربي، قالت: يا يوسف! أنت عبدي، اشتريتك بمالي، فتتعظم علي؟! قال: بجرمي وخطيئتي اشتريتني، قالت: يا يوسف! ليتني لم أعرفك، و [لو] لم تكن قربتني بطول صحبتك، رجوت أن تقر بك عيني، قال: إن الموت موكل بي.
قالت: يا يوسف! ضع يدك على صدري، قال: إنه لا صبر لي على احتراق جسدي إذا زرعت في أرض غيري، قالت: يا يوسف! الخبيثة قد عطشت، قم فاسقها، قال: الذي بيده مفاتيحها أحق بسقيها، قالت: يا يوسف! أعتقتك من الرق، وجعلتك بمنزلة زوجي، فبأي حيلة امتنعت مني؟! قال:(5/48)
بحول ربي الذي في السماء عرشه، ومكان سيدي الذي في الأرض سلطانه أخافه على نفسي.
قالت: يا يوسف! إني مسلمتك إلى المعذبين، فيسلى جسمك كما أسليت جسمي، قال: ذاك فعل إخوتي بي، قالت: يا يوسف! النار قد التهبت، قم فأطفئها، قال: أخاف أن يحرقني بها ربي، فلم تزل تخدعه وتردده حتى هم بها، فلما حل سراويله، ورد يده إلى جيب قميصه ليخلعه، ويدخل معها في فراشها، ناداه منادٍ من السماء ثلاث مرات: مهلاً يا يوسف؛ فإنك إن واقعت الخطيئة، محي اسمك من ديوان النبوة، فلم يكترث لذلك الصوت، وغلبه ما وجد فيه من الشهوة، فمثل الله له أباه في مثل صورته التي عهده فيها، فنظر إليه غضبان عاضاً على أنملته التي تدعى المسبحة يوعده، ويحمل عليه ليقتله، فلما رأى ذلك يوسف عليه السلام، كف، وهرب مولياً نحو الباب، واتبعته سيدته، فتداركا عند الباب، واتبعته سيدته ينازعها ليخرج، وتجره من خلفه ليرجع، فانقد قميصه من دبر {وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذابٌ أليمٌ}.(5/49)
فلما رأى ذلك يوسف -صلوات الله عليه-، أفشى عليها، فقال: {هي راودتني عن نفسي}، حتى آل الأمر إلى أن شاع أمرها في النساء، وقبح عليها الأمر، فجمعت النساء، واتخذت عيداً، واستعانت بهن عليه، وأوعدته وتهددته إن لم يفعل ذلك: {ليسجنن وليكوناً من الصاغرين. قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}، قال الله تعالى: {فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم} السميع: لمقالته، العليم: بقلبه، وبتعلقه، فلبث في السجن عشر سنين، فلما انتهت مدة عقوبة الهم، وحان أوان الخروج منه، قال لذلك الذي كان حبسه الملك ثم أخرجه: {اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين}.
فروي في الخبر: أنه كان ثلاث سنين، فلما انتهت المدة مدة عقوبة قوله: {اذكرني عند ربك}، جاءه جبريل عليه السلام، فدخل عليه السجن، فقال له: يا يوسف! إن الله يقول لك: أتحب أن يكلك الله في شيء من أمرك إلى فرعون وجنده؟
قال يوسف عليه السلام: أعوذ بالله من ذلك، برأفة ربي ورحمته، قال الملك:(5/50)
لم؟ قال: لأنهما لا يملكان لي ضراً ولا نفعاً، قال له الملك: فما الذي حملك على أن تستغيث بهما، وتطلب إليهما حاجتك، وأنت تعلم أنهما لا يملكان لك من الله شيئاً؟ قال: ظلمتني سيدتي، ولم يتبين سيدي في أمري، فرجوت أن ينصفني فرعون حتى يعلم علمي، قال له الملك: أفترضى بفرعون حكماً دون الله في شيء من أمرك؟ قال يوسف عليه السلام: معاذ وجه ربي، قال له الملك: فما أنساك ذكر ربك حين طلبت إلى غيره، وأنت تعلم هذا الذي ابتلاك؟ اذهب؛ فإن الله قد وكلك إلى من اتكلت عليه ثلاث سنين.
ثم قال له: يا يوسف! انظر، فنظر إلى الأرض، فقال لها الملك: يا أرض انفرجي، فانفرجت، فقال: يا يوسف! ما ترى؟ قال: [أرى] أرضاً أخرى، فقال لها: يا أرض انفرجي، فانفرجت، فلم يزل كذلك حتى انفرجت عن الصخرة، فإذا علينا دودة حمراء بين يديها طعام، فقال: يا يوسف! ما ترى؟
قال: أرى دودة على الصخرة بين يديها طعام، فقال الملك: فإن ربك يقول: لم أغفل عن دودة تحت سبع أرضين حتى هيأت لها رزقها، وغفلت عنك، وأنت يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليلي، فاتخذت من دوني وكيلاً؟! لأطيلن حبسك، فبكى يوسف عليه السلام، وقال:(5/51)
انتشى قلبي من كثرة البلوى، فقلت: كلمه، فقال: يا يوسف! من خلصك من أيدي إخوتك؟ قال: الله تعالى، قال: فمن أضاء لك الجب؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف كيد النسوة؟ قال: الله تعالى، قال: فكيف استعنت بالمخلوقين وتركت الخالق؟! قال: ((اللهم اجعل لي من كل أمر أهمني وكربني من أمر ديني ودنياي فرجاً ومخرجاً، واغفر لي ذنوبي، وارزقني من حيث أحتسب، ومن حيث لا أحتسب، وأثبت رجاءك في قلبي، واقطعه ممن سواك، حتى لا أرجو أحداً غيرك)).
فخرج من السجن، وآتاه الله ملك مصر، وخوله خزائن أرضها، حتى جمع بينه وبين يعقوب -صلوات الله عليهما-، وجمع شمله في إخوته وأهل بيته، وانتقلوا إلى مصر.
وروي لنا في شأن تلك المرأة.
1109 - ما حدثنا به عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا(5/52)
عصام بن المثنى الحمصي، عن أبيه، عن وهب بن منبهٍ، قال: أصابت امرأة العزيز حاجةٌ، فقيل لها: لو أتيت يوسف ابن يعقوب، فسألتيه، فاستشارت الناس في ذلك، فقالوا لها: لا تفعلي؛ فإنا نخاف عليك، قالت: كلا، إني لا أخاف ممن يخاف الله تعالى، قال: فدخلت عليه، فرأته في ملكه، فقالت: الحمد لله رب العالمين الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته، ثم نظرت إلى نفسها؛ فقالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بمعصيته، قال: فقضى لها جميع حوائجها، ثم تزوجها، فوجدها بكراً، فقال لها: أليس هذا أجمل مما أردت؟ قالت: يا نبي الله! إني ابتليت فيك بأربعٍ: كنت أجمل الناس كلهم، وكنت أنا أجمل أهل زماني، وكنت بكراً، وكان زوجي عنيناً.
قال: وكتب يعقوب إلى يوسف عليه السلام وهو لا يعلم أنه يوسف: من يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز آل فرعون،(5/53)
سلام عليك: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
فإنا أهل بيت مولعٌ بنا أسباب البلاء، كان جدي إبراهيم خليل الله في حداثة سنه ألقي في النار، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأمر الله جدي إبراهيم أن يذبح له ابنه إسحاق، ففداه الله بما فداه، وكان لي ابن من أحب الناس إلي كلهم، ففعل به ما أذهب حزني عليه بصري، وألصق جلدي بعظمي، وكان له أخ لأمه، وكنت إذا ذكرته ضممته إلى صدري، فأذهب بعض وجدي، وهو المحبوس عندك في السرقة، وإني أخبرك أنه لم يسرق قط؛ لأني لم أكن سارقاً، ولم ألد سارقاً قط.
فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب، بكى وصاح، وقال: اذهبوا بقميصي هذا، فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً.
وأما داود عليه السلام:
فإنه لما قعد في المحراب، والزبور في حجره يقرؤه، إذا طائر بين(5/54)
يديه عليه من الألوان ما لا يوصف، فلما أهوى ليأخذه، طار إلى كوة المحراب، وهو سبب البلاء، فوضع الزبور، وقام إليه ليأخذه، فطار من الكوة، فأخرج داود رأسه من الكوة، فوقع بصره على امرأة تغتسل على رأس بركة في بستانها تحت محراب داود عليه السلام، فرأت ظله، وأنه قد اطلع عليها إنسان، فقالت بشعرها، فجللت جميع جسدها بشعرها، فرجع من الكوة بجسده، وبقي القلب هناك عند البركة، فما يصنع العبد بلا قلب؟ وإنما القلب ملك، فسبي الملك، وانهزم الجند، وهم الجوارح؛ لأن الهوى هزمهم، فخرج من المحراب، وقصد لبيت المرأة لينقلها إلى نسائه؛ ليكون لنفسه في ذلك شفاء مما حدث، حتى يقدم زوجها، أو ينتظر ما يكون.
فروي في الخبر: أنه وقف على مدرجته ملكان يقول أحدهما لصاحبه: لقد أكرم الله عز وجل عن مثل هذا الشيء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فلم ينتفع بما سمع، حتى صار من أمره، إلى أن كتب إلى صاحب البعث: أن يقدم زوجها إلى التابوت، وكان من قدم لذلك لا يرجع حتى تفتح المدينة، أو يقتل، فقدم زوجها في نفر إلى التابوت، فقاتلوا حتى قتلوا، فاعتدت المرأة، فخطبها، وتزوجها، واشتغل عنها بالتوبة.(5/55)
وأقبل على العبادة معتذراً فيها نادماً، متداركاً لما سلف منه، حتى شغل عن النظر في أمور بني إسرائيل، وجعل يأكل قويهم ضعيفهم، فلا يجد الضعيف غياثاً، يقيم الشهر ونحوه ببابه، فلا يصل إليه؛ لشغله بما أحدث من الأمر، حتى طمع فيه سفهاء بني إسرائيل، وائتمروا في خلعه، وكان قبل ذلك لا يرام؛ لقوله تعالى: {وشددنا ملكه}.
فانطلقوا إلى ابن له أكبرهم سناً، وأعزهم عليه، وهو بكره، فخدعوه، ومنوه الملك، فقالوا: أنت أكبر ولد أبيك، وقد كبر أبوك، وشغل، وعجز عن السياسة، وضاعت حقوق الناس، وأحكامهم، وأنت أحق من يدارك ذلك، ولا نراه يكره ذلك، ولا يباليه، فإن هو عاتبك من ذلك، أخبرته: أنك إنما فعلت ذلك نظراً له، وشفقة عليه، حيث خشيت الإثم، وضياع الناس، وخشيت على ملكه الأعداء، فلم يزالوا يخدعونه حتى بايعهم، وإنما فعل ذلك السفهاء منهم؛ رجاء أن يملك، فيملكهم.
فلم يشعر داود عليه السلام حتى خلع، وأصبح ابنه يبايع الناس، ويدعو إلى نفسه، فلما بلغ ذلك داود عليه السلام، عرف أنه عقوبة لذنبه، فخاف الفتنة، والبلاء،(5/56)
والسفهاء، فهرب بنفسه، ومعه رجلان: أمير جنده، وصاحب مشورته، حتى إذا كان ببعض الطريق، وهو يريد جبلاً يتحصن فيه، وكان في بني إسرائيل رجل قد غلب القضاة والحكام قبل داود عليه السلام، فلما وليه داود، أنصف منه الضعيف، وأقام عليه الحدود، وكان جلده حدوداً مراراً، فلما سمع ببيعة ابن داود، أسرع إليه، فلقي داود عليه السلام في بعض الطريق، فلما نظر إليه في مذلة البلاء، قال: أداود؟ قال: نعم، فقال: الحمد لله الذي نزع ملكك، وأهانك، وأذلك، وأفردك إلى نفسك، وفرق عنك جموعك، فلما سمع ابن أخت داود عليه السلام مقالة الرجل، وهو أمير جنده الذي كان معه، سل سيفه ليضربه، فقال داود عليه السلام: مهلاً، فإن هذا ليس هو الذي يسبني، وإنما الله هو الذي يسبني على لسانه بذنبي، وخطيئتي، ومتى كان يطمع هذا وأمثاله حتى يأذن الله له، فلم يظلمني ربي، ولكن أنا الذي ظلمت نفسي، ثم انطلقوا هاربين، حتى كمنوا في تلك الجبال خائفين لا يأمنون القتل.(5/57)
وكان لداود عليه السلام: صاحب شورى يقال له نوفيل، فغضب عليه، فعزله، واستبدل به، فقال ابنه لنوفيل: من أجل أي شيء غضب عليك أبي داود، وقد كان ينتصحك، ويعمل بمشورتك؟ قال نوفيل: إنه لما نزلت به البلية، وعرف فيه الوهن، كنت أول من فطن له، فأخبرت بني إسرائيل حتى خاضوا فيه، فأكثروا أن داود عليه السلام لم يهن، ولم يستكن إلا لجرم أجرمه فيما بينه وبين الله، وحدثٍ أحدثه، فعرفت حين رأيت الوهن والخلل أن الرجل مذنب، وأن ذنبه هو الذي فله وأضعفه، فغضب حين لم أستر عليه ذلك.
قال: كيف الرأي في أمره؟
قال: أن تطأ فراشه حتى يستيقن الناس أنه ليست لداود تقية عندك.(5/58)
قال: كيف الرأي في قتالي له؟ قال: إن كنت تريده في يوم من الأيام، فعاجله اليوم ما دام مخذولاً مسخوطاً عليه، فإني أعلم أنه لم يترك هذه المنزلة إلا لذنب، فالله عنه معرض، وهو بعد لم يتدارك التوبة، ولن يعترضه بمثلها، وإن أخرت أمره حتى يتوب الله عليه، ويغفر له، لم تطقه، فهو الذي قتل جالوت، ونزع طالوت ملكه، وأذل رقاب الملوك.
واستشار الآخر، فقال له: هل سمعت بابن نبي قتل أباه؟ أم هل سمعت بنبي أذنب فلم تقبل توبته؟ أم لعلك تطمع أن تبلغ المعشار مما صنع الله لداود في علمه وحكمه وقسطه؟ أم ماذا تقول لربك يوم القيامة وقد قتلت أباك ونبيه، ووطئت فراشه؟ وما وجه التوبة من قتل نبي ووالد ونكاح أمهاته؟ ما أعلم يقبل ممن فعل هذا صرفاً ولا عدلاً، فإن كان لا محالة أنت ضابط هذا الملك، وبما أجمعت عليه من عقوق أبيك وخلعه، فلا تطلبه، ولا تقتله، فإن كان الله قد أذن بفنائه وهلاكه، فما أكثر معاريض(5/59)
البلاء التي تكفيك ذلك منه، وإن كانت بقيت له حياة يستكملها، ألفيتك لم تأثم بربك، ولم تفرط بوالدك.
فقال: الرأي رأيك، وما أسمعك عرضت بغشٍّ، ولا ادخرت نصيحة، وأنا متابعك على ما في قلبك، وكافٍ عن داود ما كف عني، فإن قاتلني، حميت نفسي مخافة أن يظفر بي فيقتلني.
قال الرجل: كف عن داود حتى يقاتلك.
واعلم: أنه لن يقاتلك أبداً ما كان ذنبه له مهيناً، ولن يفعل ذلك حتى يقبل الله توبته، ويأذن له بقتالك، فإذا جاءه الأمر من الله، والقائم به داود، فأنت لا طاقة لك به، فأقصر عندها، إني لك نذير مبين، وإنه إن ظفر بك أبوك، أحياك وأمنك، وإنه أعظم حلماً وعفواً من أن يقتل ولده.
ولبث داود عليه السلام من يوم خرج إلى أن رجع إلى ملكه سنتين، وانقطع الوحي، فلما رد الله إليه ملكه، سرح ابن أخته، وهو أمير جنده، فأمره أن يدخل المدينة، ويدعو إلى داود عليه السلام، ويخبر بني إسرائيل: أن الله عز وجل قد(5/60)
قبل توبته، ورد إليه ملكه، فاتبعوه إلا قليلاً منهم انحازوا إلى ابن داود عليه السلام، ولم يجرؤوا أن ينظروا إلى وجه داود عليه السلام بعد الذي كان منهم، فاستقبلوه، فقاتلوا قتالاً شديداً، حتى قتلوا.
وكف ابن داود، فلم يقاتل حتى قتل أصحابه، ثم إنه هرب حياءً من أبيه، وكان يريد أن لا يرى أبوه له وجهاً، فتبعه ابن أخت داود، وعهد إليه داود عليه السلام، فقال: أحذرك أن تقتله، فإياك ثم إياك أن تقتله، فإني قاتلك به إن خالفت أمري؛ فإن ابني بكري، وأعز ولدي علي، وأحبهم إلي توبة، وبقاء، وصلاحاً ابتلاني الله بأحب أولادي إلي، وأعزهم علي؛ ليغيظني، ويذلني، ويغمني بذنبي، ويهينني بخطيئتي، وينزع ملكي، ثم تداركني عفوه، ورحمته، فعفا عني، وقبل توبتي، فينبغي لي: أن أعفو كما عفا عني، وأرجو له من التوبة والرحمة ما رجوت لنفسي، فليس هو بأعظم جرماً مني، فالحذر على دمه.
فلحقه، فوجده قد علقته شجرة، دخل منها عود في برنسه، فاقتلع(5/61)
من السرج، وزالت الدابة من تحته، حين اقتلع العود، فبقي معلقاً، وذهبت الدابة، فوقف عليه ابن أخت داود، فلما دنا منه، ناداه، قال: لبيك، قال: أخي أنت؟ قال: نعم، فأدركني إن كان لداود في حاجة، فإني قد أشرفت على الموت، فلما قال هذا، طعنه بالرمح حتى اعتدل فيه، وترك وصية داود عليه السلام، ثم انصرف وتركه حتى مات معلقاً، فلما رجع إلى داود عليه السلام، غضب عليه، قال له: أما إني قاتلك إما عاجلاً، وإما آجلاً، فوطن نفسك على ذلك، فقال: ما فعلت فعلي إلا وقد وطنت نفسي على أنك قاتلي، فاستبقاه داود عليه السلام؛ لأنه كان رجلاً منصوراً، لا ترد له راية، وكان بعيد الصوت والنكاية في العدو، فكره داود عليه السلام أن يعجل قتله، وأحب أن يمتع به المجاهدين في سبيل الله تعالى ما دام حياً، فلما حضره الموت، أوصى سليمان عليه السلام بقتله، فقتله ساعة رفع يده من قبره.
فلما تيب عليه التوبة الظاهرة، ورد الله إليه ملكه، واطمأن، نزل عليه ملكان، فتسورا المحراب، فكان من خبره ما اقتص الله في تنزيله، وانكشف(5/62)
له الغطاء عن فعله، فبدر إلى البراز صارخاً متململاً، وسجد سجدة العويل، والنوح، دام في ذلك أربعين صباحاً، حتى نبت العشب حول رأسه.
1110 - حدثنا عبد الوهاب بن فليح بن رباحٍ المكي، قال: حدثنا جدي اليسع بن طلحة، عن عطاء بن أبي رباحٍ، قال: طالت السجدة من داود عليه السلام، واحتال الخضرة على رأسه من دموع عينيه، وبدا العظم شكا إلى ربه، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا داود! ارفع رأسك، فقد غفر لك، قال: يا جبريل! فكيف بالرجل؟ قال: فإن الله قد أعاضه الجنة، وقد غفر لك، فارفع رأسك.
فهكذا سبيل الآدمي يزل ويخطئ، ثم يهتدي إلى ما هدي له من(5/63)
طريق التوبة، فيتوب، ويطمئن بموعود الله أنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ولكن من أراد الله به خيراً، يصطفيه، ويبرئه من دنسها في عاجل الدنيا، صيرها كية على قلبه أيام الدنيا، ويكشف له عن الغطاء، حتى يرى قبحها، ويحجبه عن منزلته قلباً حتى يصرخ إليه، ويمرر عيشه حتى يتململ ويتلوى توجعاً، ثم يرحمه، فهذا أدبه للخاصة، فأدبه بأدب العامة، وتاب عليه، ثم أدبه بأدب الخاصة، ورده إليه.
ولنا مجلس في ذكره وأحواله، ونجواه في سجدته ضممناه إلى هذا الباب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين:
يا خليفة الرحمن! ماذا لقيت من خطيئة واحدة ارتجت بها الأصوات في العلا؟ وتناسخت القرون في الأمم حديثها لأهل البلوى؟ وكم من طعنة وكلمة ذات مرارة، ذقت طعم مرارتها من أجل تلك الخطيئة أيام الدنيا!
بينا أنت في المحراب في مناجاة إلهك الرحمن تقرأ الزبور بإطراب،(5/64)
وألوان وألحان بنغمة برزت بها على الأنام، تغمر الأصوات، وتنير منابع قلوب الصديقين إلى كرامة ذي الجلال والإكرام، وتنعم أرواح المقربين إلى وسائلهم بالحنان المنان، ذي اللطف والإنعام، إذا أنت مخذول سلس القياد، قد زلت قدمك من المحراب، أبعد مما بين المشرق والمغرب، طار فؤادك، وأحاطت بك الفتنة، وسكنت عنك الأحوال، وانقطعت المناجاة، وسهوت عما أنت فيه بطائر طار بين يديك في كوة المحراب سبباً للفتنة والبلاء عليها من كل زينة وبهجة من بهجات الدنيا، فلم تتمالك أن هويته، وقمت إليه، فيا ويح من وكل إلى نفسه كيف يأمن ساعة من عمره، فوقعت في فتنة بعد فتنة تداولتك أيديها وأنت في غمراتها، حتى إذا تناهت بك منتهاها، ووصلت إلى نهمتك منها، شهد لك الصدق بما اضطرب عليه قلبك، واقتضاؤك الوفاء اللطيف بك، الكريم المتحبب إليك بما كنت عاهدته، وقبلت عليه ميثاق النبوة، فاعتذرت في التوبة والاستغفار، واعتزلت النساء والأهلين معتذراً إلى العزيز الغفار، ولم تتهنأ بما ملت إليه، ولا وصلت النفس إلى منيتها القصوى توبة علم ومعرفة بما قابلتها(5/65)
روحك وعقلك، متأدباً للصدق والوفاء لمولاك حتى قال لك: يا داود! عاد نفسك، وودني بعداوتها.
فما زلت تدأب في العبادة مقبلاً على صلاتك قد أهمك شأنك، وندمت على ما فرط منك، حتى شغلك ذلك عن الحكم بين بني إسرائيل، والنظر في أمورهم، حتى أكل قويهم ضعيفهم، وضاعت أحكامهم وأمورهم، فأدركتك رحمة الله التي تعطف بها على أوليائه، ويطهرهم عن المقام بمحل الاغترار، وانكشف الغطاء، وبرز الأمر، ورفع الحجاب، وظهرت الهنات والغفلات بتسور الملكين عليه في متعبده، وهو مشغول في تلافي ما فرط منه، فأنكرهما، وأقبل عليهما باللائمة، وقال: ما أنتما؟ ومن أدخلكما بغير إذن علي؟ قالا: {خصمان بغى بعضنا على بعضٍ فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط}.
فضربا له مثلاً بقوله: {إن هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب}.
أي: غلبني، وامتنع مني أن ينصفني، فأجبت رسل رب العالمين،(5/66)
وأنت لا تشعر من تجيب، وخاطبت خطاب من لا يفكر بمرجوع جوابه.
فقلت: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعضٍ}، فقال الملكان: وغير الخلطاء قد يبغي كما بغيت على جارك في امرأته، ولم يكن لك بخليط ولا شريك، وقد حصرت نفسك في هذا البيت، واحتجبت فيه، فلا يوصل إليك، حتى ضاع الناس، وكاد يأكل بعضهم بعضاً، يأتيك ذو الحاجة من الشقة البعيدة، فلا يصل إليك، حتى تطول مدته، وتشتد مؤنته، ويضيع حقه، ويأتيك الضعيف، فيحجب عنك حتى يأكله القوي، فإن كانت الصلاة هي التي شغلتك عنه، فقد كان في الحكم بين الناس ما تجد لك عنها عوضاً، والقيام به أفضل من الصلاة، وإن كان اشتغالك هذا في طلب التوبة مما فعلت بامرأة جارك، فترك الخطيئة كان أهون عليك من طلب التوبة.
ثم تحولا عنه في صورتهما، وطارا، فلما انكشف الغطاء، وعرج(5/67)
الملكان، ونظر عظيم ما أتى، ورفع الحجاب عن قلبه، وثب من مكانه وثبة ملدوغ جرى السم في عروقه، والتهب جوفه نيراناً، فرمى بثيابه، ولبس المسوح، وافترش التراب، والتجأ إلى البراز صارخاً بالعويل، ولزق بالأرض، وخر على محاسن وجهه بسجدة، يا لها من سجدة! لقد طال سقوطه بين يدي ربه منقبض الأعضاء، متحاملاً بجميع جوارحه على عرنينه، لقلبه وجيف، ولفؤاده خفقان، وبالدموع عيناه تنهلان، يجأر إلى الله متسكيناً، ويعتب إليه من فيح ما انكشف له معتذراً، حتى نبت العشب حوله من دموع عينيه، وهو ينادي في سجوده: إلهي! أين أفر من الموقف بين يديك غداً؟ ومن ينقذني من ظلمة خطيئتي وسوادها؟ فقد خفت أن تحول ظلمتها بيني وبين النظر إليك غداً، سبحان خالق النور إلهي!
ولزمته استكانة البلاء، ودخله الوهن والضعف، وانقطع الجواب، وضاقت عليه الأرض برحبها، وضاقت عليه نفسه، وقلق في سجوده، ونادى:
إلهي! خليت بيني وبين عدوي، فلم أطق لفتنة نزلت بي دفعاً. سبحان خالق النور إلهي!
قرح الجبين، وفنيت الدموع، ودبرت الركبتان، وخطيئتي ألزم لي من جلدي.(5/68)
فنودي: ما لك يا داود؟ أجائع أنت فتطعم؟ أظمآن أنت فتسقى؟ أمظلوم فتنصر؟ أعارٍ فتكسى؟ فزفر زفرة وهاج ما في جوفه من اللهبان، فأحرق العشب الذي كان نبت عند رأسه فيه، ثم قال: أما نظر في خطيئتي بعد؟ لقد عرفت إلهي أن رحمتك واسعة، ولولا رحمتك، لفضحتني، ومن هذا الذي ينصرني إن خذلتني؟ ومن ذا الذي يغفر لي خطيئتي إن لم تمحها من كتابي؟
إلهي! يقشعر جلدي إذا نظرت إلى خطيئتي التي مع ملائكتك، فهم حافظون لها، أمن هذا الذي يتداركني برحمة إن لم تتجاوز عني، وتمن بها علي؟ تصدعت الخدود، وانقطعت الأشجار، وارتجت البحار، وفزعت الجبال والآكام من عظم خطئي، لا أطيق حمل خطيئتي إن لم تحملها عني.
إلهي! ينام كل ذي عين، ويستريح في موطنه، وقد شخصت عيناي تنتظران رحمتك، إلهي! فتقبل دعائي، وارحم شمطي، وتجاوز عن ذنبي، سبحان خالق النور إلهي!(5/69)
تبكي الثكلاء على ولدها إذا فقدته، وداود يبكي على ذنبه العظيم، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي طوبى لداود إذ منع بالبكاء على ذنب واحد، فنال من قربك ما نال، الويل الطويل لي إذ حرمت البكاء على ذنوب عظام جسام، سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! خليت بيني وبين عدوي، فلم أطق لفتنة نزلت بي دفعاً، فقل أنت الآن: هذا حال داود مع جلال قدره ورفيع رتبته، فكيف يكون حالي، وقد سباني وأرداني، وأحاطت بي شبكات فتنته؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! خلقتني، وكان في سابق علمك أني صائر إلى ما صرت إليه، أخرجتني من بطن أمي وليس لي خطيئة أعذب عليها، فلم أرع وصيتك، فأين أفر من خطيئتي؟ وأين أهرب من عملي؟ هذا مكان العائذ بك، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! أفكان يظهر لنبيك وصفيك وخليفتك في أرضك من مكنون قضائك المحتوم، ما يظهر، فما الذي يظهر لي؟ كيف(5/70)
لا تنقطع أعضائي؟ ولا أموت كمداً خوفاً مما لعله يظهر لي الكفر بعد الإيمان بك سيدي؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! من أين يطلب العبد المغفرة إلا من سيده؟ حثوت على رأسي التراب، وألزقت به خدي، ودسست فيه وجهي؛ خشيةً من عذابك، وأليم عقابك، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! ما طلب داود المغفرة والتوبة حتى فتح له باب الرحمة، فكيف أصنع بذنوبي وخطاياي وبابي منغلق، قد كبلتني خطيئتي، وانغلقت أبواب ضرعي إليك؟ (والتففت في المعاصي التفاف الدود بقزها والتفت بي المعاصي التفافاً حتى لا أجد) مسلكاً إلى التوبة؟
سبحان خالق النور إلهي! يقول داود: إلهي لم ينفعني الزبور ولم تعافني مما ابتليتني به.(5/71)
سبحان خالق النور إلهي! فقل أنت الآن: إلهي! يا راحم الضعفاء الجهلة: إذا كان صفيك داود لم ينج من الفتنة مع نبوته، فكيف بالجهلة الضعفاء؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! يغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه، والخطيئة لازمة لي لا تذهب عني، وثوبي يبلى، وجسمي يفنى، وخطيئتي لا تبلى، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! إن كانت الخطيئة لازمة لداود، فهي لنا ألزم وألزم، أخاف أن لا يطهرنا منها إلا حريق النيران، سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهيّ ويل للخطائين يوم القيامة كيف يحشرون غداً حفاة عراة؟ ويل للخطائين حين يأتيهم ملائكة غلاظ شداد، أعينهم كالبرق الخاطف، ولهب النار يخرج من أفواههم، ليست لهم رأفة ولا رحمة، فيبطشون بهم، ويل للخطائين حين يعلو جهنم زفيرها، ويشتد تلظيها، وتنشر أغلالها، ويتطاير شررها، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! لقد أرعب داود قلوب العصاة المذنبين، أنطقه لسان الخوف، وسخطك أشد على عارفيك، وفراقهم رضوانك من جميع ما حوته جهنم من ألوان العذاب، فليت شعري ما الذي يظهر لنا من جودك(5/72)
يومئذ سيدي؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! أنا الذي لا أطيق حر شمسك، فكيف أطيق حر نارك؟ سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! لا داود يطيق حر نارك، ولا أحدٌ من خلقك، فكما تفضلت على داود بالمغفرة، فتفضل علينا معشر العصاة المذنبين الذين قعدوا يتحازنون على الذنوب، وإن لم يجدوا الحزن، سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! أنا الذي لا أطيق صوت رعدك، فكيف أطيق صوت جنهم إذا دمدمت وتغيظت على العصاة؟ أسمع صوت الرعد، فيكاد يذهب قلبي، وتزهق نفسي، فكيف إذا أخذت النار في جسدي؟ سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! ليس لجهنم سبيل على داود، وإن له عندك لزلفى وحسن مآب، الشأن فينا معشر الخطائين الذين بارزوك بالعظائم، وتلوثوا في المعاصي. سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! كيف يستتر الخطاؤون من خطاياهم، وأنت شاهدهم حيث كانوا؟ سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! تفضلت على داود مع المغفرة بالحياء منك(5/73)
سيدي، فما لنا نجترئ على معاصيك، ثم لا يأخذنا منك الحياء؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! قرح الجبين، وجمدت العينان من البكاء مخافة الحريق على جسمي، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! طال سجود نبيك داود حتى قرح منه الجبين مناً منك عليه، وإكراماً له فأنى لي بالسجود، وأنا المقصى من بابك بما كسبت يداي؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! الويل لداود حين يكشف الغطاء عنه، فيقال: هذا داود الخاطئ. سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! إنما يكشف الغطاء عن داود لداود لنفسه لا لغيره في تلك الحجب الخفية، وأنا أخاف أن يكشف عن غطائي على رؤوس الأشهاد للخلق والخليقة، ثم يؤمر بي إلى النار، سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! إذا ذكرت ذنوبي، يئست من كل خير، وإذا ذكرت(5/74)
رحمتك رجوتها. سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! رحمتك الواسعة جعلت داود لها أهلاً، فإن لم يكن معشر العصاة المذنبين أهلاً لرحمتك أن ينالها، فرحمتك الواسعة أهل أن تنالنا، سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! أبكي أيام الدنيا أهون علي من أن أبكي وقد جعلت في النار، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! من وجد إلى البكاء سبيلاً، فقد رحمته، ومن رحمته، بكى بين يديك، فكيف لنا بالبكاء سيدنا، وإنما يبكي من خلص إلى قلبه أوجاع الذنوب، فكيف لنا بوجع الذنوب ولا ننالها؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! زعمت أني أفزع إلى المحراب، وأغلب الشياطين بقوتي، فوكلت إلى نفسي، فزلت قدمي أبعد ما بين المشرق والمغرب، سبحان خالق النور إلهي!(5/75)
فقل أنت الآن: إلهي! تزل قدم داود صفيك من المحراب، فكيف أجد القرار؟ أم كيف آمن وأنا متردٍّ في أودية الفتن، وسكك البلاء من ذلك القدم؟ أسألك الأمان من الخذلان، سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! دعوتك حتى انقطع صوتي، وأثقلت ظهري، وألبس علي أمري، وضاقت بي دنياي، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! واشؤم معصيتاه خطيئة تقطع صوت داود عنك، وتصيره كالطير لا ريش لها، فكيف صنعت بنا في تلك العجائب التي رأيتها منا يا حليم؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! كنت أبغض الخطائين وأمقتهم، فأنا اليوم أرحمهم؛ لعلك أن تغفر لهم، فتغفر لداود الخاطئ معهم، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! كان داود يبغض الخطائين، ويحمله على مقتهم غيرةً لك، وإن الحبيب يغار للحبيب، فحل به ما حل، حتى صار يدعو لهم، فكيف بمن أبغضهم إعجاباً بنفسه وعقله عن حال صاحبه، وتيهاً وتعظماً على عبيدك؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! بعثتني بالنبوة، وألبستني لباس الملوك بعد الثياب(5/76)
الخشنة، ومنعتني بالمهابة من خلقك، فحدثت نفسي أن أتفرغ لك في المحراب، وأعبدك، وقلت: إني سأغلب نفسي إن وكلت إليها، ولم يكن ينبغي لي أن أقول هذا، فلما وكلت إلى نفسي، أتتني الهلكة، فهلكت حين خذلتني، سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! لم يحتمل هذا عن صفيك داود، فوكلته إلى ما أعطيته، فلم ينفعه العطية حين تخليت عنه، فكيف بمن ركن في جميع عمره إلى الأسباب؟ واعتصم بالمخلوقين، وشخصت آماله لدى العبيد المربوبين؟ سبحان خالق النور إلهي!
يقول داود: إلهي! لا ينقضي ما أنت معطي النبيين والصديقين من أجل خطيئتي، إنما أنا من ولد آدم المذنب الخاطئ التائب. سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي داود يخاف على نبوته من أجل خطيئته، فكيف يكون خوفي على توحيدي من أجل جرائمي فيك؟ أعوذ من وبال ما كسبت يداي أن يكون رجعاه سلب إيماني، سبحان خالق النور إلهي!(5/77)
يقول داود: إلهي! يسبح لك الطير بأصوات ضعاف من خشيتك، وليست لها ذنوب، وأنا العبد المذنب الذي لم يكن للساني ولا لقلبي أن يفترا من ذكرك والتسبيح بحمدك، فارحم ضعفي ورقة جلدي من النار التي تعذب بها أعداءك، فلا تجعلني لك عدواً بعد إذ توليتني بأني أعمل عملاً أستحق رضوانك، أو ماذا أقول وقد أحصيت عملي كله، وهو مكتوب عندك في أم الكتاب؟ سبحان خالق النور إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! تخلصت الطيور في الجو، والوحوش في البراري والقفار، والحيتان في البحار من النار والعار، وتخلص داود بالغفران والرحمة السابقة من الحنان المنان بما سبق له منك من الحظ وقرب المكان، فكيف يخلص من أكرمته بالإيمان، فدنس جسمه، وأخلق وجهه، وآثر على ما دعوته إليه الفتن والخسران؟
يقول داود: إلهي! امدد عيني بالدموع، وقلبي بالخشية، وضعفي(5/78)
بالقوة حتى أبلغ رضاك عني، لك القدرة في أمرك كما تشاء، أنت الحق، وخالق الخلق، ناصيتي بيدك، إن عجز عني عملي في الدنيا، فكيف يغني عني في الآخرة ما قد عجز عني في الدنيا؟ لا أثق بعملي وأنا منه خائف، وأسألك رأفتك يا أرحم الراحمين، سبحان خالق النور إلهي!
ما أعظم ملكك، وأشد سلطانك، وأصدق قولك! من يقوم لغضبك؟ إلهي!
فقل أنت الآن: إلهي! داود محتاج إلى مدد الدموع مع غزارة منابع دموعه، ومحتاج إلى مدد الخشية والقوة مع سلطان النبوة، فكيف تكون حاجة من قلبه أسير شهواته؟ وتابع نفسه الأمارة بالسوء، وإن لم تداركه بالرحمة التي تنال بها عصمتك، وإلا، فهو أسير عدوه اليوم، وغداً أسير نارك الكبرى.
يقول داود: إلهي! تبت إليك، فتب علي، وتضرعت إليك، فارحم تضرعي، طمح الشيطان بنفسي إلى ما لا ينبغي لي، فإن لم ترحمني، فارحم دموعي.(5/79)
فنودي: يا داود! أتذكر دمعك، ولا تذكر ذنبك؟
فنادى: أعوذ بنور وجهك من ظلمة خطيئتي، ومن العمى والصمم يوم يتجلى نورك لمن شئت من خلقك، ويسمع كلامك من رحمت من خلقك، هذا مكان العائذ بك، أعوذ برأفتك من شدة عقابك، وبرحمتك من عذابك، وبعزتك من الذل والخزي يوم تجمع خلقك لفصل القضاء.
إلهي! أصبح الشيطان يعيرني، ويقول: يا داود! أين كان منك ربك حين واقعت الخطيئة؟
إلهي! نحل جسمي من خشيتك، واشتد خوفي من قضائك، ولا أجد لي أسوة فيمن خلقت، من أجل أنك سميتني نبيك وخليفتك، وأنزلت علي الزبور نوراً للبصر، وربيعاً للقلب، وأمرتني فيه أن أكون لليتيم كالأب الرحيم، وأن أكون عضداً للضعيف والمظلوم، فلم أبطئ على الفتنة إذ عرضت لي، بل أسرعت إليها، سبحان خالق النور إلهي!
إلهي! هذا مكان العائذ بك، إني أخطأت، وكنت في خطيئتي كالأعمى في الظلمات، وكالأصم مع البكم، قد علمت أن مصيري ومرجعي إلى(5/80)
حسابك، وأنت تدين بالحق إله الخلق، شديد الملك، عظيم السلطان، ظاهر الجبروت، عزيز جبار لا يكلمك إلا من أذنت له، سبحان خالق النور إلهي!
إلهي! إنما أنا من ولد آدم الذي أصاب الذنب وهو في الجنة، فأكل من الشجرة التي نهيته عنها، ونزع عنه لباسه الذي كسوته، ونظر بعينه إلى عورة زوجته، وعاين ما كتب عليه من مرارة العيش، ثم استنقذته بالتوبة بكلماتك التي علمته، فجليت بهن عن بصره، وواريت بهن عورته، ووعدته الرجوع إلى الجنة، وافترضت عليه التوبة وعلى ذريته من بعده، سبحان خالق النور إلهي!
إلهي! بأي فم أتكلم بين يديك؟ أفبالفم الذي به أخطأت؟! وبأي لسان أنطق، وأنت إله الحق والصدق؟! وعلى أي رجلين أقوم قدامك يوم القيامة؟ وكيف يقوم من كان الباطل عمله، والكذب قوله؟ وأي قدم تحمل ما جنيته؟
إلهي! أين أهرب من غضبك إلا إلى رحمتك، وبمن أستغيث إلا بك؟ سبحان خالق النور إلهي!
فنودي: يا داود! ارفع رأسك، فقد غفرنا لك، وجاءه جبريل عليه السلام، فأسنده إلى صدره، وقد سقطت فروة وجهه، وبقي في ذلك الطين الذي(5/81)
ابتل من دموعه، وبشره: أن الله قد تغمد بعفوه زلته، فقال: إلهي! إن لي حاجة إلى السماوات والأرض، وإلى هذا الخلق أن ينصتوا لي، فأمر الله -تبارك وتعالى- السماوات السبع والأرض بمن فيهن من الخلق، فأنصتن لداود، فنادى: إلهي! كيف وأنت حكم عدل؟ وأنا الذي قدمت أوريا بن حنان في مقدمة الخيل إلى التابوت حتى يقتل، فهو يطلبني بدمه يوم القيامة، فنودي: يا داود! اذهب إلى الصخرة، وضع جبهتك عليها، وناد أوريا، وسله عن ذلك.
فذهب داود عليه السلام حتى وضع جبهته على الصخرة، ونادى: يا أوريا! فأجابه، قال: لبيك يا نبي الله، لم دعوتني وأخرجتني من النعيم الذي كنت فيه؟ قال: إني أذنبت إليك ذنباً، قال: قد تجاوزت عنك يا نبي الله، فخرج مستروحاً إلى ذلك، فاستقبله جبريل عليه السلام، فقال: ما صنعت؟ قال: قد تجاوز عني، قال: هل أخبرته بما أتيت إليه؟ قال: لا، قال: فإنك لم تصنع شيئاً، اذكر له الذنب الذي أتيت إليه، فرجع داود عليه السلام، فنادى:(5/82)
يا أوريا! قال: لبيك يا نبي الله، لم أخرجتني من النعيم؟ قال: إني أذنبت إليك ذنباً، فتجاوز عني، قال: أوليس قد فعلت ذلك؟ قال: ألا تسألني عما أتيت إليك؟ قال: وما هو يا نبي الله؟ قال: بسبب بتشابع امرأتك، فقص عليه القصة، فسكت أوريا، وانقطع الجواب عن داود عليه السلام، قال: أجبني يا أوريا، وتجاوز عني، قال: يا نبي الله! ما هكذا تفعل الأنبياء يا نبي الله؟ نعم حتى أقوم بين يدي الله أنا وأنت، فصاح داود صيحة أفزعت الخلق والخليقة، وخر لوجهه ينادي: إلهي! قد فني الدمع، وانقطع عني، وطال حزني، ورق عظمي، وبلي لحمي، ونحل جلدي، وبقي ذنبي على ظهري، إليك أشكو فاقتي وضعفي وقلة حيلتي، سبحان خالق النور إلهي!
إلهي! لو أتيت أطباء عبادك في بلادك، فكانوا كلهم عليك يدلني، إلهي! لو تؤاخذ كل من في الأرض جميعاً بذنبي، لم يكن لهم في ذلك حجة، ولا معذرة، فكيف لي في مثل ضعفي؟ وكيف أطيق ذلك وحدي؟
إلهي! زل داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب، حتى خفت أن يجعل ذنبه حديثاً للخلوف بعد الخلوف، فارحم ضعف داود، إلهي! من يسأل(5/83)
العبد إلا ربه؟ وأنت ربي، وأنا عبدك، وأنت الغني، وكلٌّ إليك فقير، ومن يسأل الفقير إلا الغني؟ وأنت واجد لكل ما سألت عنه، يغنيهم فضلك، وليس بك فقر إلى أحد، سبحان خالق النور إلهي!
إله إبراهيم الذي أنجيته من أيدي الجبابرة، وبعظمتك أنجيته من حريق النيران، وإله إسحاق الذي أكرمته بالبلاء، فكشفت عنه بالصبر واليقين، وجعلته قرة عين لوالديه، وإله يعقوب الذي أكرمته، وجعلت منه أنبياء، وابتليته بيوسف، فرددت عليه بصره، بعد صبره، ويقينه، أنا من سبطهم وذريتهم، فارحمني بفضل رحمتك إياهم، فنودي: يا داود! ارفع رأسك، أما الخطيئة، فقد غفرناها لك، وأما خصمك، فأمكنه منك يوم القيامة، ثم أستوهبك منه، فيهبك لي، وأعطيه حتى يرضى، وأما المودة، فقد انقطعت بيني وبينك، وما أسرع ما نسيت عهد ربك يا خليفة الرحمن؛ حيث قال لك: يا داود! عاد نفسك، وودني بعداوتها، جاءت الفتنة، فحالت بينك وبين الوفاء بها، وجرت النفس بك في ميدان القضاء في قضاء(5/84)
ما عرض لك من المنى، فإن كانت المودة قد انقطعت، فالمحبة قائمة، والحظ باق، فمنها حديث المودة، وإنما كانت المودة التي انقطعت ما شارطه ربه أن قال: ودني بعداوة نفسك.
فعادى نفسه، فجعل له وداً بعداوته نفسه، فلما أعطاها منيتها انقطع الود، فلما تاب عليه، وقبله، جعل له بدل الود عطفاً وشفقة، فلم يزل داود يزداد بذلك العطف والشفقة قرباً، وكلما ازداد منه بذلك قرباً، ازداد بقلبه وجعاً، وفر من ربه حياء، وكلما ازداد من ذلك، ازداد من الله عزاً، ومنةً، وشرف محلٍ، وعظيم قدرٍ، وازداد كرامة ونيلاً حتى صار رأس البكائين، ومسعد الخطائين على الذنوب نوحاً وعويلاً بعد أن كان يتغيظ عليهم حنقاً، فلم يزل باكياً منكساً رأسه من الحياء، حتى كادت نفسه تزهق من الوجد والأسى، وأقسم أن لا يشرب شراباً إلا مزجه بدموع عينيه، ولا يطعم طعاماً إلى خلطه بالرماد؛ لئلا تصل إلى نفسه لذة الطعام والشراب، وكان إذا خرج إلى الناس، ألقى نفسه بين الخطائين، ويقول: مسكين بين ظهراني مساكين، وسأل ربه أن ينقش له خطيئته في يده اليمنى، فكان لا ينظر إليها إلا(5/85)
رجفت يده، حتى سقط ما تناوله، وكان إذا علا المنبر، رفع بيمينه، فاستقبل بها الناس؛ ليريهم نقش خطيئته، فكان ينادي: إلهي! إذا ذكرت خطيئتي، ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك، ارتد إلي روحي، رب! اغفر للخطائين كي يغفر لداود معهم، فكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فكان تستنقع دموعه تحت جنبه، حتى تنفذ الأفرشة كلها، وكان إذا كان يوم نوحه، نادى مناديه في الطريق والأسواق والأودية والشعاب، وعلى رؤوس الجبال، وأفواه الغيران: ألا إن هذا اليوم يوم نوح داود، فمن أراد أن يبكي على ذنبه، فليأت داود، فيسعده، فيهبط السياح والعباد من الغيران والأدوية، وترتج الأصوات حول منبره، والوحوش، والسباع، والطير عكف، وبنو إسرائيل حول منبره، فإذا أخذ في العويل والنوح، وأنارت الحرقات منابع دموعه، صارت للجماعة ضجة واحدة نوحاً وبكاء، حتى يموت حول(5/86)
منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم.
وكان ينادي في جوف الليل: إلهي! هدأت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم، ذنبي عظيم، وأنت الرب العظيم، قد علمت سري، فاقبل معذرتي، وقد علمت ما في نفسي، فأقلني عثرتي، إليك رفعت رأسي، يا ساكن السماء! نظر العبيد إلى أربابها يا عامر السماء تساقطت القرى، وأبطل ذكرهم، وأنت دائم الدهر مستغني كرسي القضاء.
ولما أصاب الخطيئة، نفرت الوحوش عنه، فنادى: إلهي! رد علي الوحوش كي آنس بها، فرد الله عليه الوحوش، فأحطن به وأصغين بأسماعهن نحوه، فرفع صوته بقراءة الزبور، والبكاء على نفسه، ونادينه: هيهات هيهات يا داود، ذهبت الخطيئة بحلاوة صوتك.
قال: وقال الله تعالى له: قد غفرت لك يا داود، وألزمت عارها بني إسرائيل، قال: وكيف ذلك يا رب وأنت الحكم العدل لا تظلم أحداً، أنا أعمل الخطيئة، ويلزم عارها غيري؟
فأوحى الله إليه: إنك لما اجترأت علي بالمعصية، لم يعجلوا عليك بالنكرة.(5/87)
وأما محمد صلى الله عليه وسلم:
فإنه وافى باب زيد بن حارثة، ووقع بصره على امرأة زيد، وهي زينب بنت جحش، وهي في خمار أسود، وكانت وسيمة ذات هيئة، وهي واقفة في صحن الدار، فوقعت في نفسه، فقال بكفيه على عينيه، وتولى، وقال: سبحان مقلوب القلوب! فرجع إلى منزله.
فروي في الخبر: أنه لما أوى زيد إلى فراشه تلك الليلة، عجز عنها، فقالت زينب: أرادني ما يستطيعني، وما امتنعت، فعلمت أن هذا من أمر الله.
وروي في الخبر: أن زيداً أصابه هناك ورم حتى حيل بينه وبينها، فلما رأى ذلك، أحس بأمر حادث من الله، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلقها، فاعتل بعلل؛ تطييباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن زينب لا تأتي ما أحب، ولا تبرني، ولا تطيعني في أشياء؛ كهيئة الشكوى، فقال: اتق الله يا زيد، وأمسك عليك زوجك.(5/88)
فلم يزل زيد على عزمه الذي عزم لله على قلبه، فكما قلب قلب صفيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهواها، فكذلك قلَّب قلب عبده زيد حتى طلقها، وانقضت عدتها، فنزل القرآن بتزويجها منه، وولي الله تزويجها منه على لسان الروح الأمين، فكانت تفتخر على سائر أزواجه فتقول: إن الله أنكحني من العرش، وهو وليي من دون الخلق، والسفير في ذلك جبريل عليه السلام، فلما نزل قوله تعالى: {فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها}، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها، وهي لا تعلم بشيء، فقعد عندها.
1111 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ -رضي الله تعالى عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى زينب حين انقضت عدتها، فخطبها، فقالت: حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن بتزويجها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن.(5/89)
وأما الأول: وهو يوسف -صلوات [الله] عليه-، فقال حين شخص له البلاء: {معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي}، اعتصم بالله، وأخذه العدة من التعوذ به، وذكر إحسان من ملكه، وأن هذا كفران النعمة أن أخونه في أهله.
والثاني: وهو داود عليه السلام حين شخص له البلاء، اعتصم بالحيل للنفس، فنقل تلك المرأة إلى نسائه؛ لتطمئن النفس به.
والثالث: وهو محمد صلى الله عليه وسلم فزع إلى الله فرداً حين شخص له البلاء، واعتصم بفرديته.
ألا ترى أنه قال: سبحان؟ فذكر نزاهة الفردية، ثم انظر بأي شيء وصفه، وبأي شيء نطق، فقال: مقلب القلوب؛ فإن التقليب إنما خرج من مشيئته، ولأن القلوب لم يكلها إلى أحد، وهو الذي يقلبها كيف شاء، فهذه أظهر كلمة، وأبرأها من الأسباب ذكر نزاهته، ثم ذكر مشيئته، فتعلق بها، وتضرع إليه أن لا يقلبها إلى ما لا يليق بها، ولا يحسن عنده، فكان عقبى تعلق يوسف عليه السلام أن ترك حتى هم بها، وكاد الأمر أن يكون،(5/90)
ثم تداركه الرحمن برحمته حتى نال بها الاستخلاص.
ألا ترى أنه قال: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء}؟ ثم قال: {إنه من عبادنا المخلصين}، فنسب فعل الإخلاص إلى نفسه، لا إلى يوسف، ولم يقل مخلِصين، وإنما قال: مخلَصين، وصرف عنه بالبرهان، وهو جبريل عليه السلام في صورة يعقوب عليه السلام، وهو سبب من الأسباب.
وكان عقبى تعلق داود عليه السلام: أن تركه حتى هم بما هم من شأن أوريا، حتى مضى الأمر إلى آخره، ثم نبهه بالملكين، وملأ الشرق والغرب بكاء وعويلاً وصراخاً، حتى عجبت الملائكة وخليقة الأرض من الطيور والوحوش والدواب جزعاً على مأثمه للمصيبة التي حلت به، والحرقات التي هاجت منه، وصارت إنابته وتوبته حديثاً للعالمين يكون مدد التوابين أيام الدنيا.
وكان عقبى تعلق محمد صلى الله عليه وسلم أنه ولي خلاصه من ذلك بنفسه فرداً، كما فزع إليه فرداً، فمنع زيداً من إتيانها، وأخذ بقلبه عنها، حتى عجز عنها، فطلقها، وهذه من الربوبية خرجت له، ثم ولي تزويجها منه فرداً، وأنبأه من(5/91)
طريق الوحي أن قد زوجناكها.
أخرجه من تدبير أهل الدنيا، فإنما تدبيرهم أن يزوجوا بولي، ورضا المرأة، وشاهدين، وصداق، فأخرجه من تدبير جمع خلقه، قال: {فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها}، وليس هاهنا صداق، ولا شهود، ولا ولي، ولا رضا.
فمن هاهنا قال العلماء: إذا زوج الرجل عبده أمته، ولم يفرض لها صداقاً، جاز؛ لأنه ملكه، فهذه مرتبة رفيعة لمحمد صلى الله عليه وسلم أن أخرج شأن تزويجه لزينب من تدبيره لعامة خلقه، زوج أمته من عبده، فولي ذلك بكرمه ورحمته، وأشهد الوحي على ذلك، وجعل مرتبته صداقاً لها منه، فأعلم الأمة محل هذه القلوب الثلاثة أين كانت منه، وبروز قلب محمد صلى الله عليه وسلم على سائر القلوب -صلوات الله عليهم أجمعين-.(5/92)
الأصل الثاني والعشرون والمئتان
1112 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن الشعبي، عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجسد مضغةٌ إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
1113 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الفضل بن(5/93)
دكينٍ، قال: حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
فالقلب: ملك، والأركان عبيد، إنما يعمل كل ركن في معمله بمشيئة القلب وأمره والقلب في مشيئة الله يشاء، لم يكلها إلى أحد سواه، ولم يطلع على القلب أحداً، يضع منها ما شاء، ويرفع منها ما يشاء، فالنور فيه، والتوحيد فيه، والطاعات منه، وفكر ذلك كله في الصدر، وعن الصدر تصدر الأمور، ولذلك سمي الصدر صدراً، والقلب لتقلبه، والفؤاد لتفييده، وهي بضعة واحدة، فالفؤاد: البضعة الظاهرة، والقلب: البضعة الباطنة التي في جوف الفؤاد، وفي الفؤاد العينان والأذنان.
ألا ترى إلى قوله عز وجل: {ما كذب الفؤاد ما رأى}، فنسب الرؤية إلى الفؤاد، ومنه قيل لخبز الملة: خبز فئيد؛ لأنها خبزة في جوف خبزة،(5/94)
وما ظهر منها وقايتها من الرماد والحريق، فالقلب معدن النور، ومنظر الرب -تبارك وتعالى-، ومستقر التوحيد، والصدر موضع التدبير والفكر، والنفس معدن الشهوات، فإذا وجدت النفس طريقاً إلى القلب، مرت بشهواتها إلى القلب، فدنست الإيمان، وكان كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له رجل: أخبرني يا رسول الله بوصية قصيرة فألزمها؟ قال: ((لا تغضب؛ فإن الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل)).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإيمان حلوٌ نزه، فنزهوه)).
فنزاهته: أن تعظم نفسك عن الشهوات، حتى لا يصل إلى قلبك منها أذى، فيكون بمنزلة ماء صاف جرى إليه ماءٌ كدر، فذهب بصفائه، أو عسل ماذي وصل إليه غبار الحنظل المر والصبر، فغيره عن حلاوته، وذلك: أنه استقر في قلبك بذلك النور توحيد رب واحد ليس له نظير، ولا مشارك في شيء، وهو رب ودود كريم، فوجدت حلاوة شعورك بإلهك أكثر من عبد يشعر بأن له سيداً يسود السادات في الدنيا، ويملك سادة(5/95)
الملوك بغناه وملكه وسؤدده، فصال به على أهل الدنيا أن له سيداً هكذا، فامتلأ قلبه بذاك سروراً وفرحاً، ولكل سرور وفرح حلاوة، فهذا في عبيد الدنيا، فكيف رب العالمين، ومالك الملوك، وسيد السادات إذا شعر الموحد بذلك من ربه إذا ظهر له وداده وكرمه، وبره وحبه لعبده، فأي شيء بقي للعبد مما به إليه حاجة إذا تم له هذا منه؟ فهذه حلاوة التوحيد ونزاهته، فجاءت شهوة النفس، ووجدت سبيلاً إلى القلب، خالطته وكدرته، ومازجت حلاوته، فدنست وكدرت، فلا خسران أعظم من هذا.
فما ظنك بمن خلع على بعض قواده -وهو ملك من الملوك- خير خلعة في خزائنه، فذهب فدنسها، وأخلقها بقلة التوقي بلبسها لها عن مواضع الدنس؟ ألم يك محقوقاً أن يسلب ويهان؟ أوليس على حياء من فعله في يومه الذي يدخل فيه على الملك بتلك الخلعة؟ فانظر ماذا حل للموحدين من هذا الذي وصفت؟ وأي شيء عملت هذه النفوس بأهلها؟ وهي لباس التقوى الذي ذكر الله في تنزيله، ثم قال: {ذلك خيرٌ ذلك من آيات الله}.(5/96)
وأي آية أعظم من رجل أعطى قلبه خلعة، فإذا جاء يوم القيامة غشي بها، ووقي حتى يجوز النار كلها وهي خادمة من سلطان تلك الخلعة، فمثل القلب مع قلة اليقين، وكثرة صور الطاعات مثل ملك له عبيد، لهم هيئة، وشارة ومراكب، وزي الأغنياء، والملك فقير معدم، ليست له مادة، ولا كنز، إنما ملكه على ما ظهر منه، فالعاقل إذا نظر إليه، يقول في نفسه: ليس لهذا الأمير نظام، ولا له دوام، فإنه معدم، وهذه الهيئات التي أراها لا تدوم، وسيحتاج إلى مثلها، وليس له مدد، وإن برز له مناوئ، فإنما زوال ملكه، وضياع هؤلاء العبيد، وتغيير أحوالهم، بأدنى مناوشة من هذا المناوئ العارض له.
وإذا كان الملك ذا كنوز ومادة، والعبيد في هيئة بزةٍ، لم يجسر على مناوءته ولم يعزه ذلك من فعله يقول في نفسه: له بيوت أموال من الكنوز، ففي ساعة واحدة يصيرهم فرساناً يجمع آلة الفرسان، ويكسوهم من الكسوة، ويعطيهم من العدة ما يعرفهم بغناه، فكذلك الذي قلبه بين يدي الله في غناه وسلطانه، قد احتظى منه الحظ الأوفى من جلاله، وعظمته، وكبريائه، ومجده، فهو بتلك الأنوار مشرق صدره بها.
فإن رأى أركانه معطلة من أعمال البر، لم يضره ذلك؛ لأن الملك(5/97)
غني، قوي الأركان لم يضره، فإنه لا يترك فرضاً، إنما يترك فضلاً، وأي شيء يستبين من فضائل الأركان في جنب ما تفضل الله به عليه، ومن به من معرفته التي برز بها على خلقه، فلو زالت الجبال، لم تزل، قد عرف الله معرفة، قد وثق به في جميع أحواله، وفوضها إليه، ناظراً إلى تدبيره، ومراقباً له، قابلاً أحكامه، قنعاً بالذي يؤتى من الدنيا، مؤتمراً بأمره، مطمئناً له، ليست له همة، ولا نهمة، ولا قرار، إلا الخلاص من هذا السجن الذي أخذ بنفسه، قد ضاقت عليه الدنيا، وصارت له سجناً بطول احتباسه؛ لأنه ظمآن إلى لقاء الصفاء، وأي شيء ألذ من لقاء العبد سيده الذي كان أمله من الدنيا والآخرة؟
وإنما فقدت هذه اللذة العبيد الإباق الذين جهلوا سيدهم، ومتى سمعت بعبد شهوته في الإباق، ومنيته الإباق من سيده أنه يحب لقاء سيده؟ وهل شيء أثقل عليه من لقاء سيده؟ وإنما أبقوا من مولاهم، لأنهم تعجلوا حرية النفس، وتقلبهم في دنياهم وشهواتهم، استبطؤوا الحرية، فتعجلوها، فهربوا من العبودة، ولو وجدوا لذة العبودة، لم يهربوا، وإنما(5/98)
فقدوا لذة العبودة؛ لأنهم جهال، بمنزلة العبودة، فقد عرفوا وهم به جهال، لم ينكروه بعد أن عرفوه، ولم يشكوا فيه بعد أن أيقنوا، وعلموه علم اللسان أنه عظيم، وأنه جليل، وأنه كبير، وأنه ماجد بهي، وأنه كريم واحد علي، وأنه حنان منان، وأنه محسن مفضل.
ولكنه لم يتراء على قلوبهم نور جلاله، ولا حل بقلوبهم عظمة الله، ولا تجلل عليهم كبرياء الله، ولا عارضها سلطانه، ولا طالعت مجده وبهاءه، ولا عاينت مننه وإحسانه وأياديه، ولا فهمت تدبيره ولطفه في الأمور، ولا انتبهت لربوبيته التي قد ملكت الخلق، ولا شربت بالكأس الأوفى من محبته، ولا ظمئت من الشوق إليه، ولا ولهت وله العكف ببابه، ولا حملت حمل الوفد من مهابته، ولا تفسحت في ساحات توحيده مستأنسة بجماله، ولا انفردت لأحدية الأحد الصمد، ولا حييت بحياة الحي القيوم، ولا خلصت لواحدية الواحد، ولا طابت بنسيم قربه، ولا انشرحت صدورهم بذلك من قلوبهم، إنما علموا جميع ما ذكرنا علماً مجملاً، اقتضاهم الإيمان الإقرار بذلك قولاً، والاعتقاد له قلباً، وصدورهم غير منشرحة بباطن علمه، فمن جهل هذا، اكتفى بهيئة العبيد، والملك فقير معدم.
فالغافل ينظر إلى صلاته، وصيامه، وحجه، وجهاده، وأعمال بره؛ من الصدقة، وعتق الرقاب، وبناء الرباطات والقناطر، وغسل الموتى، وحفر(5/99)
القبور، وتشييع الجنائز، وعيادة المرضى، فكأنه نظر إلى أركان، وجوارح كهيئة عبيد عليهم ثياب جدد، وهيئة مرتفعة، ومراكب سرية، وأسلحة وافرة.
فإذا نظر إلى باطن أحدهم، وجد خوف الرزق على قلبه كالجبال، كاد يموت من همه، وخوف الخلق، وخوف سقوط المنزلة من قلوبهم، والفرح بمدحهم والثناء عليه، وحب الرياسة، فطلب العلو، والتبصبص للأغنياء، والاستحقار للفقراء، وتناول النعمة على أيدي الغفلة، والأنفة من الفقراء، والاستكبار في موضع الحق، والحقد على أخيه المسلم، والعداوة، والبغضاء، وترك الحق لمخافة ذل ينزل به، والقول بالهوى، والحمية والرغبة في الدنيا، والحرص عليها، والشح، والبخل، وطول الأمل، والأشر، والبطر، والغل، والغش، والمباهاة، والرياء، والسمعة، والاشتغال بعيوب الخلق، والمداهنة، والإعجاب بالنفس، والتزين للمخلوقين، والصلف، والتجبر، وغرة النفس، والقسوة، والفظاظة، وغلظ القلب، والغفلة، وسوء الخلق، وضيق الصدر، والفرح بالدنيا، والحزن على فوتها، وترك القناعة، والمراء في الكلام، والجفاء، والبطش، والعجلة، والحدة، والجرأة،(5/100)
وقلة الرحمة، وقلة الحياء، والاتكال على الطاعات، والأمن لسلب ما أعطي، وفضول الكلام، والشهوة الخفية، وطلب العز، واتخاذ إخوان في العلانية على عداوة في السر، واختبار الأحوال، والتملك، والاقتدار في الله، وذهاب ملك النفس إذا رد عليه قوله، والتماس المغالبة لا لله، والانتصار للنفس، إذا نالها الذل، والأنس بالمخلوقين، والوحشة إذا عجز عن رؤوسهم، والتعظيم للأغنياء من أجل غناهم، والاستهانة للفقراء من أجل فقرهم، والحسد، والغيبة، والنميمة، والجور، والعدوان.
فهذه كلها مزابل قد انضمت عليها طوايا صدره، وظاهره: صوم، وصلاة، وزهادة، وأنواع أعمال البر، فإذا انكشف الغطاء بين يدي الله عز وجل عن هذه الأشياء، كان كمزبلة فيها أنواع الأقذار، غشيت بالديباج، فلما رفع الغشاء، أخذت بالأنف من نتنها، وأعرض الناظرون إليها من قبحها، فهذا عبد مراءٍ، مداهن، متصنع، عبد شهواته، فلم يقدر أن يخلص من عمله، فإنه لا ينفك من عمل يحتاج إلى أن يجتهد فيه، فكما احتاج أن(5/101)
يجتهد في صلاته فيخلصها، فكذلك هو محتاج إلى أن يخلص في مشيه، وركوبه، ونزوله، وأكله، وشربه، ومنطقه، وصمته، وأخذه، وإعطائه، وجميع معاملاته، وجميع سعيه، فلم يقدر أن يخلص بهذا الجهل لربه سعيه، ونفسه متقدة بنار الشهوة، وقلبه مشحون بهوى نفسه، ولو أنه اجتهد حتى أخلص في هذا كله أليس هذه المزابل معه، فهذه كلها عيوب، والعبد إذا كثرت عيوبه، انحطت قيمته.
فالعاقل: لا يغره ما رأى من ظاهر أقواله، وتقلبه في أعمال البر، إذا اطلع على باطنه، فوجده على ما وصفناه، وقال في نفسه: هذا كملك له عبيد في زي، وهيئة، ومراكب، والملك بنفسه ليس له مادة من الكنوز، ولا من القوة ما يدوم لعبيده هذا الذي أرى، فلم يعبأ بما عاين من عبيده، وعلم أن الملوك إذا اجتمعوا، وهذا معدم فيما بينهم، تبين عدمه عند محاولتهم ومشاكلتهم الأمور، وأنه إذا ناب نائب فالملوك على مراتبهم، وقواهم، وعدتهم، وهذا فيما بينهم أسير، أو رجل ناديته من عرض الناس.
وإذا رأى عبيداً في هيئة رثة، والملك صاحب كنوز وجواهر، وقد ملأ من الجواهر بيته، وملأ الخزائن من الأموال، علم هذا العاقل: أن هذه الهيئة لا تضر عبيده؛ لأنه متى عرض أمر، فتح لهم باباً من خزائنه فعرفهم، فكذلك إذا رأى عبداً أركانه معطلة من هذه الأشغال التي ذكرنا من أعمال(5/102)
البر؛ من غسل الموتى، وبناء القناطر، واتخاذ الرباطات، وعيادة المرضى، وصلاة الضحى، وتشييع الجنائز، وعتق الرقاب، وما أشبه ذلك، وقلبه ملك من الملوك، مملوءة خزائنه أموالاً، وبيته جواهر.
فأما الأموال: فهي غناه بالله، وأي غنى أغنى ممن استغنى بالله تعالى؟! فالأموال كلها مددها منقطع، والله حي دائم لا يزول، فالغنى بالله دائم، والغنى بالأموال منقطع.
وأما الجواهر: فحكمة صفاته، وهي الحكمة العليا، وهي حكمة الحكيم، قد عجز عن دركها الخلق، وإنما خص بها الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، وخاص الأولياء أهل خدمة الله، فموجود عند هذا القلب الهيبة والحياء والخشية والمحبة، فقد انفرد للفرد الواحد، واحتظى من جلاله، وعظمته، وكبريائه، ومجده، وجماله، فتواضع لله، وخشعت جوارحه بخشوع قلبه، وعظم أمر الله، وحفظ حدوده، وراقب تدبيره؛ إعظاماً لجلال الله، وهيبة له، وتذللاً لربوبيته، فعنده الرأفة بالخلق، والرحمة لهم، واللين، والرفق، والحلم، وسعة الصدر، وتعظيم أمر الله، والإخلاص له، وحراسة القلب، ودوام الفكر، والقناعة، والرضا، والإنابة، والشوق إليه، والتبرم بالحياة، ورؤية المنة، واليقظة في الأمور، والمعاينة لها، والرزانة، والصيانة، والنزاهة، والشفقة، والعطف، والتأني، والوقار، والسكون، والذكر الدائم، والرهبة، والرغبة، والخوف، والرجاء والأنس بالله،(5/103)
والسرور به، والسخاء، والجود، والبشاشة، والنصيحة، وسلامة الصدر.
فهذا قلب قد امتلأ خيراً، وامتلأت جوارحه من هذا الخير، فلساعةٌ من عمره بهذه الصفة أفضل من عبادة الثقلين دهراً، فإن تعطلت أركانه عن كثير من أعمال البر، فهذا الخير كله دائم عليه، بدوام قلبه على ذلك، وقليل من عمله أزكى من عمل ذلك المخلط سنين كثيرة.
1114 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيسٍ، قال: سمعت وهيب بن الورد يقول: بلغني: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ما به من الضر، قال: ((ما بلغ بك ما أرى؟))، قال: بأبي أنت وأمي، السقم والحاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أعلمك كلماتٍ إذا أنت قلتهن، أذهب الله عنك كل ما بك؟))، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحب أن لي بما ترى بي وقيعة بدر وأحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أخا الأنصار! وأين تقع وقيعة بدرٍ(5/104)
وأحدٍ من موقع الفقير القانع؟!)).
1115 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثني سيارٌ، قال: حدثنا بشر بن منصور، عن عبد العزيز بن أبي روادٍ، رفعه: أن رجلاً شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلم ير له صوم ولا صلاة، فقيل له في ذلك، فقال: ((إني أبيت وليس لأحدٍ في قلبي غلٌّ، ولو أعطيت الدنيا، ما فرحت بها، ولو أخذت مني، لم أحزن عليها)).
1116 - حدثنا أبي رحمه الله تعالى، قال: حدثنا محمد بن الحسن، عن ابن المبارك، عن معمرٍ، عن الزهري، عن(5/105)
أنسٍ -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه.
1117 - حدثنا مؤمل بن هشامٍ، قال: حدثنا إسماعيل ابن إبراهيم، عن غالبٍ القطان، عن بكر بن عبد الله المزني: أن أبا بكرٍ الصديق -رضي الله تعالى عنه- لم يفضل الناس بكثرة صلاةٍ ولا صوم، وإنما فضلهم بشيء كان في قلبه.
1118 - حدثنا أبي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا الحسن بن سوارٍ، قال: حدثنا المبارك، عن الحسن، قال: إن عمر رضي الله عنه لم يغلب الناس بالأعمال، إنما غلبهم بالصبر واليقين والزهد.
1119 - حدثنا أبو السائب سلم بن جنادة السوائي،(5/106)
قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عميرٍ، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: أنتم اليوم أكثر صلاةً وصياماً وجهاداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: بما ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة.
فالزهادة في الدنيا والرغبة في الآخرة إنما تؤتى العبد من فضل اليقين، وإشراق الصدر بنوره.
1120 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا عون بن موسى الليثي، قال: تذكروا عند الحسن: أي الأعمال أفضل؟ فكلهم اتفقوا على قيام الليل، فقال معاوية بن(5/107)
قرة: ترك المحارم، فقال الحسن رحمه الله: أصبت.
1121 - قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قال: حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيدٍ، وعلي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب: أن عبد الله بن سلامٍ رأى سلمان في المنام بعد موته، فقال: كيف أنت يا أبا عبد الله؟ قال: بخير، أبشر، فإني وجدت الأعمال فلم أر شيئاً أفضل من التوكل.
1122 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا أبو معشرٍ، عن محمد بن كعبٍ القرظي، عن المغيرة(5/108)
ابن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سلامٍ، بمثله، قال له: وجدت التوكل شيئاً عجيباً.
1123 - حدثنا أبو بكر بن سابقٍ الأموي، قال: حدثنا أبو مالكٍ الجنبي، عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه -تبارك وتعالى- أنه قال: ((يا موسى! لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا، ولم يتقرب المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم، ولم يتعبد العابدون بمثل البكاء من خشيتي. فأما الزاهدون، فأمنحهم الجنة حتى يصيبوا منها حيث شاؤوا، وأما الورعون عما حرمت عليهم، فإنه ليس عبدٌ يلقاني يوم القيامة إلا أناقشه الحساب، وفتشته عما في يديه، إلا ما كان من الورعين، فإني أجلهم،(5/109)
وأكرمهم، فأدخلهم الجنة بغير حسابٍ، وأما البكاؤون من خشيتي، فلهم الرفيق الأعلى لا يشركون فيه)).
1124 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا حكامة بنت عثمان بن دينارٍ، قالت: حدثنا أبي، عن مالك بن دينارٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الورع سيد العمل من لم يكن له ورعٌ يرده عن معصية الله تعالى إذا خلا بها، لم يعبأ الله بسائر عمله شيئاً، فذلك مخافة الله في السر والعلانية، والاقتصاد في الفقر والغنى، والصدق عند الرضا والسخط، ألا وإن(5/110)
المؤمن حاكمٌ على نفسه، يرضى للناس ما يرضى لنفسه)).
فهذه الخصال لا تكون إلا لأهل القلوب، فأما أهل الأعمال، فإنهم أعجز من أن يكون هذا لهم.
1125 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا خالد بن مخلدٍ القطواني، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن الأعمش، عن مصعب بن سعدٍ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)).(5/111)
لأن فضل العلم بالله يحكم العبادة، ويخلصها إلى الله، ويصيغها إلى صاحبه غداً، وخير الدين الورع، والدين الخضوع، فخير ما خضع العباد لله عند محارمه ونهيه، فانتهوا، وتركوا شهواتهم خضوعاً وذلة.
وما هاهنا قال أبو الدرداء: ((ما أعرف من أمر أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أنه يصلون جميعاً)).
1126 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، عن ابن نميرٍ، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء -رضي الله عنها-، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.(5/112)
وإنما نظر أبو الدرداء إلى القلوب، فرآها خربة، قد سقطت عنها هذه الأشياء التي ذكرناها، فلم يعبأ بأعمال الأركان منهم.
1127 - حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيلٍ، قال: حدثني أبي، عن جدي، عن سلمة ابن كهيلٍ، قال: لقيني أبو جحيفة السوائي، فقال: يا سلمة! ما نعرف اليوم شيئاً إلا أنهم يتوجهون إلى الصلاة.
1128 - حدثنا عتبة بن عبد الله اليحمدي، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرني عيسى بن عمر، قال: حدثني سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيفٍ، قال:(5/113)
قال أبي لأنس بن مالكٍ رضي الله عنه: يا خال! ليسوا بالناس الذين كنت تعهدهم، إنما هم الذئاب عليهم الثياب، فاحذرهم، قال: أما والله! لئن قلت ذاك، لقد رأيتني منهم هنيهة، إني أحدثهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولوا أنت سمعت هذا بأذنيك.
1129 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا علي بن الجعد، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، قال: ما أعرف اليوم فيكم شيئاً عهدته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس قولكم: لا إله إلا الله.(5/114)
فصلاح القلب صلاح الجسد، وعمارته عمارة دينه.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من كان له قلبٌ صالحٌ، تحنن الله عليه)).
وروي عن عيسى عليه السلام: أنه قال: ((بالقلوب الصالحة يعمر الله الأرض، وبها يخرب الأرض، إذا كانت على غير ذلك)).
1130 - حدثنا بذلك أبو سنان، قال: حدثنا الحكم ابن نافعٍ، عن صفوان بن عمروٍ، عن شريح بن عبيدٍ، عن يزيد ين ميسرة.(5/115)
الأصل الثالث والعشرون والمئتان
1131 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا يوسف ابن عطية، عن ثابتٍ البناني، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدون في صدورهم من الوسوسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنتم وربكم؟))، قالوا: لا نشك في ربنا، ولأن يقع أحدنا من السماء، فيتقطع أحب إليه من أن يتكلم بما يجد في صدره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر! ذاك محض الإيمان)).
وكان ثابت يقول: ((اللهم أكثر لنا منه)).(5/117)
وقال عطاء السلمي: اللهم اذهب به عني؛ فإني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال لي عطاء: ليتك سألت ثابتاً: لم يقول هذا؟ فانتهيت إلى ثابت وهو يقول: ألا أقول لشيء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو محض الإيمان)) أن يزيدنا الله منه.
فقد أحكم الله الإيمان في قلوب من اجتباهم وهداهم، ووقعت مشيئته عليهم يوم اختارهم في سابق علمه، وأبرز أسماءهم بالسعادة في اللوح المحفوظ، وأخرجهم في أصحاب اليمين يوم الميثاق، وفزع الشيطان من أين يوسوس إليهم في توحيدهم ما يبطله عنهم، وكيف يجوز ذلك، وقد أخذ الله بقلبه وناصيته، وفي قلبه نوره؟ فكيف يقوم العدو لنوره حتى يطفئه؟ وليس أحد ينشرح صدره بالله، ولم ينطق بلا إله إلا الله إلا بمنة الله عليه، والله أكرم من أن يرجع في منته، فيسلط عليه العدو حتى يبطله.
ألا ترى إلى قوله تعالى للعدو: {إني عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ(5/118)
وكفى بربك وكيلاً}؛ أي: لم أعطك عليهم من السلطان ما يدخل عليهم في قلوبهم، فتفسد عليهم توحيدهم، وإنما سلطانه في الصدر؛ لأن الصدر بيت القلب، والنفس معدن الشهوات.
ألا ترى إلى قوله عز وجل: {يوسوس في صدور الناس}، والشيطان يزين، ويشهي، ويمني، ويحدث في هذا الصدر بهذه الشهوات التي في النفس حتى يضله ويفتنه، فأما القلب، ففيه نور الله، وقد استقر فيه توحيده، وهو الإيمان به، فليس للكفر فيه شهوة، فيدخل الشيطان هناك بظلمته، فيزين له الشرك حتى يفسد توحيده، ولا له إليه سبيل، إنما سبيله فتنة الصدر لهذه الشهوات.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وكفى بربك وكيلاً}؛ أي: مانعاً شيطانه من أن يدخل قلبه، والقلب إذا جعل الله فيه نوراً، وأحياه، فقد توكل له بالعصمة، والحفظ، والستر، والتأييد، فهو يكلؤه ويرعاه، والشيطان أخسأ، وأذل، وأقل من يقدر إليه لحاظاً، إنما حديثه على أذن القلب في صدره.
فأما قلبه، فقد كفاه الله وكيلاً له، وقال: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}؛ أي: وصل نوره إلى حبة قلوبكم، وحبة القلب هو بضعة اللحم الباطنة، وهذه البضعة الظاهرة يقال لها: فؤاد، وفيها العينان(5/119)
والأذنان، وباب القلب، والبضعة التي في جوفها هو القلب، يقلبها من لم يكلها إلى أحد، ولم يطلع عليها أحد من خلقه، فنزع شهوة الكفر والفسوق والعصيان من ذلك القلب حين أوصل إلى حبة قلبه الإيمان، فليس يعصي مؤمن يريد بذلك أن يعصي الله أو يفسق، إنما يريد قضاء نهمته، والكافر عدو لله، يعصي، ويريد معصية الله، والفسق هو الذهاب بالرقبة، والخروج من أمره، والرد عليه والجحود، فحبب الإيمان، وزينه، وكره الكفر والفسوق والعصيان.
فليس يجد المؤمن في نفسه شهوة الكفر؛ لأنه نزعها بإيصال الإيمان إلى حبة قلبه، وهو النور حتى أمن، ثم بقي شهوة الأشياء في قلبه، ثم حرم وأحل، ليبلوه، وقال له: جاهد نفسك في هذه الشهوات الباقية، فقد كفيتك الشهوة العظمى التي تدمر وتهلك، وهذه الشهوات الباقية لي أن أحرم وأحل، ولن أجوز أن أحل تلك الشهوة العظمى، وهي الشرك، فما لم أجوزه أن أحله، فقد كفيتك مؤنته؛ بأن نزعت عنك شهوته، وكرهته إليك، وما جاز أن أحله وأحرمه، فقد أمرتك بمجاهدة نفسك؛ لتحل حلالي، وتحرم حرامي، وتجتنبه، فالمؤمن قد جلاه الله بالإيمان، وطهره، وطيبه وزين قلبه، فإذا وسوس في صدره، أنكر القلب بما فيه من النور، فإنكاره محض الإيمان، وإنما صار محضاً؛ لأنه اهتاج واستنار، ومثل ذلك مثل(5/120)
جمرة قد علاها الرماد بخمودها، فلا يكاد يضيء مما علاها، فوصلت إليها نفخة، فطار عنها رمادها، فتوقدت، وتلظت، واستضاء البيت بتوقدها، فازدادت تلك الجمرة، فصارت محضة بما طار عنها [من] الرماد.
فكذلك القلب فيه الإيمان، فقد أسقم، وعلاه رماد حريق الشهوات، من أجل ذلك يضعف، حتى آثر شهواته على أمر الله، وآثر رضا نفسه على رضا ربه، فلما جاءه الوسواس بحديثه وكيده، يريد به نقض توحيده، كان ذلك كمن ينفخ في تلك الجمرة؛ لتتقد، ويطير عنها الغبار، وتلك النفخة هو أمن من الله، حتى يلطف لعبده من لطفه؛ ليفي له بما توكل له من قوله: {وكفى بربك وكيلا}.
ولذلك قال عبد الله حيث سئل عن الوسوسة، قال: ذلك برزخ الإيمان، والبرزخ ما بين الشيئين، فلما صار إيمانه ذا غبار، رحم الله عبده، ولطف به في تسليط الوسواس عليه، ثم لطف به من حيث خفي على العباد بالعصمة، فمنع كيده من أن يفسد عليه توحيده، واهتاج الإيمان منكراً لما جاء به، ونافراً عنه، فطار عنه رماد الشهوات، وغبارها، ودخانها، واستوقدت جمرة الإيمان، فأضاءت الصدر، فلذلك صار محض الإيمان؛ لأنه في(5/121)
ذلك بلا رماد، ولا غبار، ولا دخان، ففهم هذا المعنى الذي ذكرنا ثابت البناني رحمه الله، فما أحسبه، فلذلك قال: اللهم زدنا منه.
فإنما سأل الزيادة من ذلك اللطف الذي يلطف الله لعبده، والبرزخ الحاجز بين الشيئين، فقد كان الإيمان ثابتاً في القلب، فلما جاءت الوسوسة، كان أمر الله أسرع، فدخل بين الوسوسة، وبين الإيمان؛ ليكون حاجزاً؛ ليكون كما دخل بين البحرين حاجزاً: بحر العذب، وبحر المالح، وكلاهما ملتصقان في رأي العين، فلا يعذب المالح، ولا يملح العذب، وهو قوله تعالى: {مرج البحرين يلتقيان. بينما برزخٌ لا يبغيان}، وقال: {وجعل بين البحرين حاجزاً}، فإنما هو بلطفه حجز بينهما، وقال عز وجل: {وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً}.
فإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك محض الإيمان))؛ لقولهم: لأن يقع أحدنا من السماء أحب إليه من أن يتكلم بما يجد في صدره، فصير ذلك الذي وجدوا في صدورهم من الإنكار محض الإيمان، فبان بما قلنا: أن صاحب الوسوسة إنكاره لما جاء به الوسواس فيه كفاية له؛ لأن من شأن المعرفة أن ينكر غيره، ومن شأن الإيمان أن ينفي الكفر، ومن شأن التوحيد أن ينفي الشرك، ومن شأن النور أن ينفي الظلمة، ومن شأن الرب أن ينفي عدوه من حريمه.
فإنما يجد المؤمن الإنكار على قلبه من أجل أن في قلبه معرفته،(5/122)
وتوحيده، والإيمان به، وذلك من النور الذي استقر في قلبه، وأن قلبه حريم الله، وحوزه، وبيته، ومنظره، ولم يكل القلوب إلى أحد من خلقه، ولا لهم أن يطلعوا على ما فيها، ولا يعلم مخلوق ما فيها، ولا يعلم بذلك أحد إلا الله، ثم صاحبها؛ بالإحساس، ووجود البشرية، فإذا جاء العدو بالكفر، فإنما جاء بظلمة يريد أن يمزجها بالنور، فلا يطفئه، ولا سبيل له إلى ذلك، وجاء شك يريد أن يمزجه باليقين، فلا سبيل له إلى ذلك، كما لا سبيل إلى من ينظر إلى شمس تضيء، فقيل له: إن هذا كوكب، أو إلى نهار مبصر، فقيل: هذا ليل، فكذلك، ولا سبيل للشيطان أن يدخل على التوحيد بشركه، ولا على نور الله بظلمته، ولا على حباله بحبالته.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن مثل الفرس في آخيته، يجول ثم يرجع إلى آخيته)).(5/123)
فالمؤمن يسهو ويسهو، ثم يعود إلى إيمانه؛ لأن الله تعالى أخذ بقلبه، وعرفه، ولا ينكر القلب من عرف إذا كانت المعرفة صحيحة، فإنكار المؤمن من نفار قلبه بما فيه من النور، ومن ظلمة ما جاء به العدو، فلذلك محض الإيمان؛ لأنه إنما هاج إنكاره من اهتياج إيمانه، وإذا اهتاج، استنار وأشرق، فلذلك صار محضاً، فيحق للمؤمن أن يقل عناه بوسوسته، فأخسأ ما يكون إذا استحقرته، ولم تعبأ به، فمن اعتراه ضعف في قلبه، حتى يحزن ويخاف على نفسه، فذاك لضيق صدره، وقلة انشراح صدره، وظلمة الشهوات والذنوب.
فإن وسوس إليه في التشبيه، فالرد عليه أن يقول في نفسه: كل ما تصور في صدري، فربي بخلافه؛ لأنه لا يتصور في صدري إلا مخلوق، أو نعته؛ لأن ما تصور في الصدر فله كيفية، وربي لا يدرى كيف هو، ولا مثل له، فإذا تمثل في الصدر، فهو غير ربي، وإذا كان رجلاً مبتلًى بهذا، ومن كثرة ما يتردد في صدره يخاف على نفسه، ولا يطمئن إلى السكوت، فليقل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله ربي لا أشرك به شيئاً)).(5/124)
وإنما هذه كلمة تطيب بها نفسه لما ضاق منه صدره؛ ليخرج من ضيقه، بهذه الكلمة إلى السعة.(5/125)
الأصل الرابع والعشرون والمئتان
1132 - حدثنا أبي رحمه الله تعالى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا ابن نميرٍ، عن موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة ابن الأكوع، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النجوم أمانٌ لأهل السماء، وأهل بيتي أمانٌ لأمتي)).
قال أبو عبد الله:
فالنجوم: هن الطوالع السوائر الغوارب، وهن خمس: عطارد، وبهرام، وهو الذي يقال له: المريخ بلغةٍ أخرى، وزحل، ومشتري،(5/127)
والزهرة، وهن اللاتي ذكرن في التنزيل في قوله: {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس} ينخنسن في ضوء النهار، ويظهرن في سواد الليل، ويكنسن؛ أي: يغبن في مغاربهن، ولذلك سمين نجوماً، لأنها تنجم؛ أي: تطلع من مطالعها في أفلاكها، كالشمس والقمر، وسائرها كواكب، قال الله تعالى: {إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت}؛ أي: تناثرت، وذهب ضوءها، وقال: {جعل لكم النجوم لتهتدوا بها}، فالاهتداء بالنجوم، وجعل الكواكب زينة، وقال: {إنا زينا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكب}، وقال: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين}.
فالكواكب معلقات من السماء كالقناديل، والنجوم لها مطالع ومغارب، تنجم وتغرب، فهي أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت، أتى السماء ما توعد؛ لأنه قد ذكر في تنزيله فقال: {وإذا النجوم انكدرت}، {وإذا السماء كشطت}؛ أي: نزعت، فقد ذهبت مقاومهم ومصافهم.
وعلى هذا تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أصحابي مثل النجوم، بأيها اقتديت اهتديت)).
فليس كل من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه، أو رآه رؤية واحدة يدخل في الصحبة، إنما أصحابه من لازمه غدوة وعشية، وعرف بصحبته، فكان يتلقى الوحي منه طرياً، ويأخذ عنه الشريعة التي جعلت منهجاً للأمة،(5/128)
وينظر منه إلى أدب الإسلام وشمائله، فصاروا من بعده أئمة أدلة، فبهم الاقتداء، وعلى سيرتهم الاحتذاء، فكانوا يمسون عنده ويصبحون عنده، يدعون ربهم بالغداة والعشي، وأثنى عليهم في تنزيله، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر معهم، فقال: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}.
1133 - حدثنا الجارود، ثنا يحيى بن الحكم، ثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي}، قال: المخاطبة في الحلال والحرام.
فقوله: ((مثل أصحابي مثل النجوم)).
تأويله عندنا -والله أعلم-:
أنه إنما عنى به أولئك الذين صحبوه بدوام الصحبة، ولزموه في الحضر والسفر، وفقهوا في دين الله، وعرفوا الناسخ والمنسوخ والسنن، حتى صلحوا من بعده للخلافة، فكانوا خلفاء مهديين، وأمراء في الأمصار مرضيين، فهم الذين بأيهم اقتديت اهتديت؛ مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وأبي عبيدة، ومعاذ، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وأشباههم ممن قد عرفوا(5/129)
بالفقه في دين الله، والصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم النجوم الأدلة، فإنما شبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجوم، والكواكب ليست بأدلة، ولا بهم اهتداء، وهؤلاء القوم من أصحابه هم قليل عددهم كالنجوم، لأنهم أهل بصائر ويقين، وإنما جاز لهم اجتهاد الرأي بفضل اليقين والبصائر، فلما اختلفوا في اجتهادهم، كان كل من أخذ بقول من أقوالهم تقليداً له، كان مهتدياً إذا لم يكن من أهل النظر والتمييز، فمن كان من أهل النظر، فاستنبط واختار قولاً من أقوالهم مجتهداً، كان له ذلك، فأما من لم يكن له صحبة، وإنما رآه رؤية واحدة؛ مثل: طارق بن عبد الله المحاربي، ومثل: رويفع بن ثابت البلوي، ومثل: نبيشة الهذلي، فهؤلاء مثل الكواكب يضئن لأنفسهن، وليسوا بأدلة، ولا بأئمة.
وأما قوله: ((أهل بيتي أمان لأمتي)).
فإن أهل بيته من خلفه من بعده على منهاجه، وهم الصديقون.
وروي في الخبر: أن الأرض شكت إلى ربها انقطاع النبوة، فقال: سوف أجعل على ظهرك أربعين صديقاً، كلما مات منهم رجل، أبدلت مكانه رجلاً.
ولذلك سموا: أبدالاً، بدل الله أخلاقهم، فطيبها، وطهرها، وصفاها، وكلما مات رجل، أبدل مكانه مثله، قد هيأه لذلك، ورباه، وهذبه، وأدبه حتى يقوم مقامه، فهم أوتاد الأرض، وبهم تقوم الأرض، وبهم تمطرون.
1134 - حدثنا عمر بن يحيى بن نافعٍ الأبلي، ثنا العلاء بن زيدلٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: الأبدال أربعون(5/130)
رجلاً، كلما مات واحد، بدل آخر، فإذا كان عند القيامة، ماتوا كلهم، اثنان وعشرون منهم بالشام، وثمانية عشر بالعراق.
1135 - حدثنا حميد بن الربيع اللخمي، ثنا يزيد بن حيان، حدثني عمر البزاز جليس حماد بن سلمة، ثنا الحسن بن ذكوان، عن عبد الواحد بن قيسٍ، عن عبادة ابن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأبدال ثلاثون رجلاً، قلوبهم على قلب إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، إذا مات رجلٌ منهم، أبدل الله مكانه آخر)).
فليس في الحديثين اختلاف، وإنما هم أربعون رجلاً، فثلاثون منهم قلوبهم على قلب إبراهيم.
وكذلك روي لنا عن أبي الدرداء:
1136 - حدثنا بذلك عبد الرحيم بن حبيبٍ الفاريابي، ثنا داود بن محبرٍ، عن ميسرة، عن أبي عبد الله الشامي، عن(5/131)
مكحولٍ، عن أبي الدرداء، قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة، أبدل الله مكانهم قوماً من أمة أحمد يقال لهم: الأبدال، لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بحسن الخلق، وصدق الورع، وحسن النية، وسلامة القلوب لجميع المسلمين، والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله، بصبر وحلم ولب، وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء عن الأنبياء، قوم اصطفاهم الله لنفسه، واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقاً، منهم ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، بهم يدفع المكاره عن أهل الأرض، والبلايا عن الناس، فبهم يمطرون، ويرزقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من خلقه من يخلفه.
1137 - حدثنا أبي رحمه الله، ثنا عبد العزيز بن المغيرة البصري، ثنا صالح المري، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة صومٍ ولا صلاةٍ، ولكن دخلوها برحمة الله، وسلامة الصدور،(5/132)
وسخاوة الأنفس، والرحمة لجميع المسلمين)).
1138 - حدثنا علي بن حجرٍ، ثنا إسماعيل بن عياشٍ، قال: حدثني صفوان بن عمرٍو، عن شريح بن عبيدٍ الحضرمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الأبدال يكونون بالشام، وهم أربعون رجلاً، كلما مات منهم رجلٌ، أبدل الله مكانه رجلاً، يسقى بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الأرض بهم البلاء)).
فهؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمان هذه الأمة، فإذا ماتوا، فسدت الأرض، وخربت الدنيا، وهو قوله -تبارك وتعالى-: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض}، فبهم يدفع الله عن أهل الأرض، وهو قوله تعالى: ((يا موسى! لولا من يحمدني من خلقي، ويوحدني، لسبلت جهنم على الأرض تسبيلاً)).
فخالص الحمد، وخالص التوحيد على الحقيقة لهؤلاء الأربعين.(5/133)
والبيت من تبوئة الذكر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ليبوئ ذكره في الأرض، فطرد من حرمه، ولم يؤووه، فجعل الله له مهاجراً ومستقراً، فمن هاجر إليه، فأووا إليه، ولزموه، فصاروا أهل الذكر، فهم أهل بيته، ومن أوى إليه، ولم يصر من أهل الذكر، فهم ليسوا من أهل البيت، وهم من أصحابه وتباعه، وإنما يكون من أهل التبوئة؛ من بوأ لذكره على طريقه.
قال له قائل: وكيف ذلك.
قال: إن الذكر قد اشترك فيه الجميع، حتى المنافق، قال الله تعالى: {ولا يذكرون الله إلا قليلاً}.
وقال الحسن البصري: إنما قل؛ لأنه كان لغير الله، فذاك وإن كثر منه، فهو قليل، فكذلك من المخلط، وإن كثر، فهو ضعيف سقيم، وكل إنما يصفو ذكره على قدر صفاء خلقه، وطهارة قلبه، والذكر المغشوش من الإيمان المغشوش.
قال له قائل: وكيف يكون الإيمان مغشوشاً؟ قال: كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان: ((قل: اللهم إني أسألك صحةً في إيمانٍ))، فهل يسأله الصحة إلا من السقم؟ فسقم الإيمان أن يمازجه الهوى، وهو شهوة النفس حتى يميل به عن الله، وينقله عن أمره، ويشغله عنه، ويلهيه(5/134)
عن ذكره، قال الله تعالى: {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
والإيمان: هو طمأنينة القلب إلى ذكر الله في كل أموره، فإذا ذكر، أمن به جملة، ثم مال يميناً وشمالاً ليطمئن إلى الأسباب والخلق، فذاك غش الإيمان، قد خلط به ما ليس منه، والأنبياء -صلوات الله عليهم-، والأولياء من بعدهم قد اطمأنوا إليه، فأقدامهم بين يديه كالجبال الرواسي، وهو نصب أعينهم، يراقبون ما يخرج من حجب الغيب من مشيئته وتدبيره، فإنه كل يوم هو في شأن، فيقبلون منه اهتشاشاً، وتسارعاً، ونفوسهم ألين لمشيئته وأحكامه وتدبيره من الدهن باللبن، قد أخبتوا إليه، وانخشعت نفوسهم؛ لأن شهواتهم قد ماتت من هيبة جلاله، (والمستحقون للذكر هم أهل الذكر.
قال له قائل: ومن المستحقون للذكر؟
قال: من ذكره) بحقيقة الذكر.
قال: وكيف حقيقة الذكر؟ قال: أن لا يبقى على قلبه مع ذكره في ذلك الوقت ذكر نفسه، ولا ذكر مخلوق، فذلك الذكر الصافي.
قال: ويكون هذا؟(5/135)
قال: وكيف لا يكون، وإنما هو قلب واحد؟ فإذا شغل بشيء، ذهل عما سواه.
هذا موجود في المخلوقين: لو أن رجلاً دخل على بعض ملوك الدنيا وسلاطينها، لأخذه من هيبته ما لا يذكر في ذلك الوقت غيره، ولو سئل: من كان معه في المجلس؟ فقال: لا أدري، لعذر في ذلك، هذا في سلطانٍ كائن موجود، فكيف بمالك الملوك إذا انكشف لك الغطاء عن جلاله، وحل بقلبك هيبته، وعمل في صدرك سلطانه، وطالع قلبك كبرياءه وعظمته، لو كان فيك عقل مئة، ثم شغل عن ذلك كله به حتى لها عن سواه، ما كان بمستنكر، فكلما كان عقله أوفر، كان الاشتغال به أشد وأكثر، فهذا هو الذكر الصافي.
يحقق ما قلنا: حديث عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله -تبارك وتعالى-: من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)).
هذا فيمن شغله ذكر الخالق، فكيف بمن شغله الخالق بأنسه؟!(5/136)
هذا فيمن شغله الخالق بأنسه، فكيف بمن شغله الخالق بجلاله وجماله؟!
هذا فيمن شغله الخالق بجلاله وجماله، فكيف بمن شغله الخالق في فردانيته بنفسه في وحدانيته؟!
ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيروا، سبق المفردون))، قالوا: يا رسول الله! ومن المفردون؟ قال: ((الذين أهتروا في ذكر الله، يأتون يوم القيامة خفافاً، يضع الذكر عنهم أثقالهم)).
فالمهتر: الذي إذا نطق عن ربه، يشبه كلامه كلام من لم يستعمله عقله؛ لأن العقل يخرج الكلام على اللسان بتدبير وتؤدة وتأن، وهذا المهتر إنما ينطقه ربه، فكأنه الماء على لسانه يجري، حتى يشبه الهذيان في بعض أحواله عند العامة، وهو في الباطن مع الله من أصفى الناطقين، وأطهرهم، وأصدقهم، ومن ذلك قيل: التهاتر: إذا قال قولاً بالعجلة بلا نظام يشبه الجزاف.
والمهتر في اللغة: الشيخ الكبير الذي قد أفسد عقله، فهو يهتر في الكلام كالخرف، فهذا قد أفسد عقله الكبر الذي حل به، فلا يعمل عقله ذلك العمل، فالذي خمد عقله الكبر لا يستوجب العصمة، والحفظ، والتأييد،(5/137)
والذي خمد عقله القرب والدنو قد استوجب من الله كرامة، أنطق لسانه، وحفظ عليه شأنه، وأيده، وعصمه، فالذي خمد عقله الكبر بمنزلة قمر حل به الكسوف، فذهبت منفعته، والذي خمد عقله للقربة والنور الذي حل به بمنزلة قمر فيمن طلعت عليه شمس، فخمد نور القمر لضوء الشمس، ولم يعمل شيئاً، فبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مستقره، وسواد ذكره، وهو كما قال الله تعالى في تنزيله: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدقٍ}، وهي الأرض المقدسة.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبوئ الذكر في أرض الله، فبدأ بمكة، فطرد وبقي الذكر، قال الله -جل ذكره-: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين}، وهم المهاجرون والأنصار، فتبوؤوا الذكر والإيمان، فصار أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتبوئه الذكر.
والأهل والآل: بمعنى واحد، والهاء والهمزة أختان تجزي إحداهما عن الأخرى، وإنما قيل: أهل؛ لأنه حيثما ذهب، فهو راجع إلى ذلك المستقر، وكذلك الآل؛ حيثما تفرق، فالنسبة تؤول إلى الأصل،(5/138)
وأهل البيت: كل من رجع نسبه إليك من الأصل، وأما أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كذلك أيضاً، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذه الله من خلقه، فاختصه لنفسه، واصطنعه، واصطفاه لذكره، فكان في كل أمرٍ قلبه راجع إلى الله، من عنده يصدر، ومعه يدور، وإليه يرجع، فكان هذا البيت أشرف، وأعلى من البيت الذي هيئ له في أرضه من النسب، فكان أهل هذا البيت غالباً على ذلك البيت.
ألا ترى أنه غلب على نفسه ما أكرمه الله به من النسبة، فمن قبل ذلك كان يقال: محمد بن عبد الله، فإذا نسب إلى فعل، قيل: محمد الأمين، فلما جاءت الكرامة، غلب على اسمه هذا الاسم، فقيل: نبي الله، ورسول الله، فكذلك هناك كان له بيت النسبة، فلما جاءه بيت الكرامة والنبوة، فغلب على ذلك البيت، كان كل من كان قلبه راجعاً إلى الله تعالى طريقه من أهل ذلك البيت، فأهل بيته هم الأربعون الذين خلفوه من بعده حتى تقوم بهم الأرض، و [بهم] يمطرون ويرزقون، قاموا مقامه، ولو كان كما ذهب إليه هؤلاء المفتونين بخدع الشيطان في صدورهم، إذاً لاستحال.(5/139)
وذلك أنه روي في الحديث: ((فإذا ذهب أهل بيتي، أتى أمتي ما يوعدون))، فكيف يذهب أهل بيته حتى لا يبقى منهم أحد، وذريتهم ونسلهم أكثر من أن تحصى في الأرض، وبركة الله عليهم دائمة، ورحمته مظلة من فوقهم؟!
ذلك ليعلم أن أهل بيته هؤلاء الأربعون الذين هم أهل الذكر الصافي، بهم تقوم الأرض، وهم أوتاد الأرض، وخلفاء النبيين، فإذا كان في دنو الساعة، أماتهم في يوم واحد، فذهب نورهم من الأرض، وذهبت الأدلة والأعلام، فأتى أهل الأرض ما يوعدون، كما أن النجوم إذا تهافتت وانكدرت، أتى أهل السماء ما يوعدون.
وقال له قائل: قد ذهب قوم إلى أن أهل بيته الذين عناهم في الحديث هم أهل بيته في النسب.
قال: هذا مذهب لا نظام له، ولا وفاق، ولا مساغ، وذلك أن أهل بيته بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وبنو أمية، وبنو عبد مناف، فمتى كانوا هؤلاء أماناً لهذه الأمة، حتى إذا ذهبوا ذهبت الدنيا؟
إنما يكون هذا لمن بهم تقوم الدنيا، وهم أعلامه، وأدلة الهدى في(5/140)
كل وقت، فإذا ماتوا، لم يبقى لأهل الأرض حرمة، فيعمهم البلاء، فمن قال: إن أهل بيته ذريته، فموجود في ذريته صلى الله عليه وسلم الميل والفساد، كما يوجد في غير ذريته، فمنهم المحسن، ومنهم المسيء، فبأي شيء صاروا أماناً لأهل الأرض؟
فإن قال: بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيمة جليلة، وفي الأرض ما هو أعظم حرمة من حرمة ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب الله، فلا نجد ذكره في الحديث، فإنما الحرمة لأهل التقوى، فإنما عظمت حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل النبوة، وما أكرمه الله به.
1139 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا أبو صيفي الواسطي، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة -رضي الله عنها-، وعندها صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب! يا فاطمة بنت محمدٍ عليه السلام! يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم! اشتروا(5/141)
أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم، واعلموا: أن أولى الناس بي يوم القيامة: المتقون، فإن يكونوا أنتم مع قرابتكم، فذاك، لا يأتيني الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا تحملونها على أعناقكم، فتقولون: يا محمد! فأقول هكذا، ثم تقولون: يا محمد! فأقول هكذا، أعرض بوجهي عنكم، فتقولون: يا محمد! أنا فلان بن فلانٍ، فأقول: أما النسب، فأعرف، وأما العمل، فلا أعرف، نبذتم الكتاب، فارجعوا، فلا قرابة بيني وبينكم)).(5/142)
1140 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، قال: حدثنا يحيى بن معينٍ، قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ، قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حازمٍ، عن عمرو ابن العاص رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهاراً غير سر: ((ألا إن أوليائي منكم ليسوا ببني فلانٍ، ولكن أوليائي منكم المتقون، من كانوا، أو حيث كانوا)).
1141 - حدثنا أبو بكر الواسطي، ويعقوب بن إسحاق القشيري، ومحمد بن أبان، عن أبي خالدٍ الأحمر، عن ابن سوقة، عن علي بن [أبي] طلحة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النجوم أمانٌ لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمانٌ لأصحابي، فإذا ذهبت، أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمانٌ لأمتي، فإذا ذهبوا(5/143)
أتى أمتي ما يوعدون)).
فأصحابه أولياؤه، وأولياؤه المتقون من كل قرن، وهم على سنته، وهديه، وخلقه، كما قال في حديث عمرو بن العاص، فافهم.
1142 - حدثنا أبو عبد الله الحسن بن حامدٍ، قال:(5/144)
حدثنا محمد بن محمد بن عفان الجررجائي، قال: حدثنا محمد بن يعقوب، عن عبد الحميد العمري، عن خليد بن دعلجٍ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمان أهل الأرض من الغرق القوس، وأمان أهل الأرض من الاختلاف الموالاة لقريشٍ، إذا صير الناس قريشاً قبيلةً من العرب، صاروا حزب إبليس)).
قال أبو الحسن: فإذا صاروا حزب إبليس، انقطعت العصمة عنهم، وأتاهم ما يوعدون.
وروى ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اللهم ارحم خلفائي))، قلنا: من خلفاؤك(5/145)
يا رسول الله؟ قال: ((الذين يأتون بعدي يروون أحاديثي وسنتي يعلمونها للناس)).
ومعنى هذا الخبر واضح، فافهم.
1143 - حدثنا أبو عبد الله محمد بن عامرٍ البراجاني، قال: حدثنا أخي الليث، قال: حدثنا أبو القاسم بن المختار الزبيدي ببغداد، قال: حدثنا الفضل بن جبيرٍ الوراق، قال: حدثنا أبو هاني الأوقص، عن هشام بن حسان، عن عمران بن حصينٍ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم لا تجعل الخلافة في ولد عليٍّ)).(5/146)
ومن حديث آخر: ((ويلٌ لأمتي من آل أبي طالبٍ، ويلٌ لآل أبي طالبٍ من أمتي)).
وإن هذه الطائفة الزائغة قلوبهم، المفتونة بحب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً، ما زالت بهم فتنتهم حتى عمدوا إلى كل شيء من مثل هذه الأشياء، فنسبوه إليهم، وحرموا غيرهم ذلك إعجاباً بهم وفتنة، وأن الله تعالى فضلهم بأن طيب عنصرهم، وطهر أخلاقهم، فاختار قبيلتهم على القبائل بذلك، فلهم حرمة التفضيل، والأثرة، ولهم حرمة الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحق علينا أن نحبهم حباً لا يرجع علينا بوبال، وظلمة، فإن النفس قرينها الشيطان، وهي أرضية شهوانية تخف بزينتها وهواها، فتميل مع كل ريح شهوة، فجاءت بأحاديث مختلفة، وأكاذيب منكرة تنكرها عقول الصادقين، حتى أداهم ذلك إلى أن طعنوا في إمارة الشيخين المهديين المرضيين اللذين كان علي رضي الله عنه يؤدب وينكل بمن فضله عليهما، ويقول: لا أجد أحداً يفضلني عليهما، إلا جلدته حد المفتري.
فبلغ من إفراط هذه الطائفة أن رووا أحاديث مختلفة، حتى رووا(5/147)
أن محمداً صلى الله عليه وسلم يبعث لمقام الشفاعة على ألف مرقاة من منبره، وعلي إلى جنبه دونه بمرقاة، فيناوله الله مفاتيح الجنان، فيناولها علياً ليدخل من يشاء، فبمثل هذا يريدون أن يقيموا لعلي رضي الله عنه فضيلة، وقد فضل الله علياً بأشياء كثيرة قد أغناه الله عن مثل هذه الأكاذيب، فتركوا لظلمة قلوبهم تلك الأشياء، وأقبلوا على الكذب والزور بشقاء جدهم، وزيغ قلوبهم، وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}: أن أهل البيت إنما هم علي وفاطمة، والحسن والحسين رضي الله عنهم، فكيف يجوز هذا؟ ومبتدأ الخطاب بين، وهو كلام منسوق بعضه على إثر بعض إلى آخره، فكيف ينصرف في الوسط إلى غيرهم، وهو على نسق ونظام واحد؟.
فقال: {يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراجاً جميلاً. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً}.
ثم قال: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشةٍ مبينةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً. ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً}.
ثم قال: {يا نساء النبي لستن كأحدٍ من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن(5/148)
بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضٌ وقلن قولاً معروفاً. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً}.
ففي أوله ذكر، فقال: {يا نساء النبي لستن كأحدٍ من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضٌ وقلن قولاً معروفاً} فقال: {وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}.
فقال من بعده: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات} فكيف صارت هذه المخاطبات كلها لنساء النبي صلى الله عليه وسلم قبلاً وبعداً، وصار في الوسط كلاماً منفصلاً لغيرهن، والكلام منسوق متصل بعضه ببعض؟! أليس هذا عناداً ومكابرة واستبداداً؟! وإنما ينظر في مثل هذا إلى اللغة المعقولة، وما عليه بني الكلام، فلا ينبغي أن يترك الأصل المنير بقول الكلبي وأشباهه من هؤلاء المفتونين، فإنا نجد الكلبي [أتى] بأشياء في هذا التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح، لمنعوه عن ذلك، وحجروا(5/149)
عليه، وإنما يروج الكلبي وأشباهه مثل هذا على هؤلاء الأغنام من منتحلة العلم الذين جل علمهم هذا السواد في البياض، اقتصروا عليه، وغاب عنهم ما في باطن ذلك السواد، فرب كلمة منها معان بما فيها يملأ وادياً، فيصير نهراً، وما من علم ظاهر إلا وله حكمة، والحكمة ما بطن، يؤتيه من يشاء، قال الله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}.
فالعلم الظاهر هو الذي سودوه من هذا البياض بالتخليط، وغاب عنهم أصل العلم، وعجزت أفهامهم، وإلا، فكيف يجوز أن يروج عليهم مثل هذه الأشياء، فيقال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}: إنها نزلت في علي، وفاطمة، والحسن، والحسين خاصة، والخطاب موصول بعضه ببعض من قوله: {وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}.
فقوله: {عنكم} هذه الكاف كاف الخطاب على من يقع، ثم قال على إثره: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن} فكيف صار ذلك الكاف الثاني خطاباً للنساء، والكاف الأول خطاباً لعلي وفاطمة، وأين(5/150)
ذكرهما في هذه الآيات؟ وإنما هذا شيء جرى في الأخبار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية، دخل عليه علي، وفاطمة، والحسن، والحسين رضي الله عنهم، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء، فلفه عليهم، ثم ألوى بيده إلى السماء، فقال: ((هؤلاء أهلي، اللهم أذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً)).
وهذه دعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج، فذهب المفتون، فصيرها لهم خاصة، وهي في الأصل دعوة لهم خارجة من التنزيل.
1144 - حدثنا بذلك صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد الحميد بن بهرام، قال: حدثنا شهر بن حوشبٍ، قال: سمعت أم سلمة تذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/151)
قال له قائل: فإن كان الخطاب لنسائه، فكيف قال: ليذهب عنكم الرجس، ولم يقل: عنكن، فأخرج الكلام على مخرج التذكير؟.
فالجواب له في ذلك: أنه إنما ذكره، وقال: {عنكم أهل البيت}، وإنما ذكره؛ لقوله: أهل، والأهل مذكر، فسماهن، وإن كن إناثاً. باسم التذكير، فلذلك قال: {عنكم}.(5/152)
الأصل الخامس والعشرون والمئتان
1145 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سهل ابن تمامٍ البصري، عن سوار أبي حمزة، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتمع القوم في سفرٍ، فليجمعوا نفقاتهم عند أحدهم؛ فإنه أطيب لنفوسهم، وأحسن لأخلاقهم)).
فهذه النفوس فيها ضيق، وجهد، ووسواس، وللشيء عندهم قدر، وذلك لضعف يقينهم، وظلمة صدورهم، وما أوتي الشح، والبخل، والدقة، والتعظيم للشيء إلا من قلة اليقين، وذلك أن اليقين يريك ما في الملكوت، فتصغر عندك الدنيا بما فيها، وتدق في جنبه، وضعف اليقين(5/153)
يعجزك عن رؤية الآخرة، وعن رؤية عظيم ما في الملكوت، واليقين نور من نور الله في قلبك، فإذا تمكن في قلبك، صارت عين قلبك ذات بصيرة، فأبصرت الغيب بذلك النور، كما أن بصر عين الرأس يريك الأشياء في الدنيا، وبين اليقين تفاوت للعباد، كما قد ترى الرجل يبصر الكواكب بالنهار، وآخر لا يراها إلا بالليل حين يظلم، فهذا لضعف بصره، وذاك لقوة بصره، فلذلك بصر عين القلب إنما يتقوى بنور اليقين الذي في قلبه.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((وخير ما ألقي في القلب اليقين)).
وقوله في حديث أبي بكر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من اليقين والعافية، فاسألوهما الله)).
وأوفرهم حظاً من اليقين أكثرهم معرفة، وأغزرهم علماً بما في(5/154)
الملكوت، وأخشاهم لله، وأعلمهم بتدبير الله، وأغناهم بغنى الله.
هذا قليل في الناس، والعامة من الناس قد عجزت عن هذا؛ لما يرون الأشياء بالأسباب، وبذلك تعلقت قلوبهم، ومنها افتتنوا حتى عصوا الله في جنبها، فمحال أن لا يكون للشيء عندهم قدر، وإنما لهم عصمة عن تناول حرامها وأوساخها، ثم هم مع ذلك في الفتنة، ومن أجلها يحرمون عظيم قدر ما في أيديهم من هذا الحطام عندهم، حتى لا تسخو نفس أحدهم أن يخرج مما في يديه فلساً إلا بعربون.
قال له قائل: وما العربون؟ قال: الديون بالأعجمية، ألم تر إلى الرجل يستصنع صانعاً شيئاً، ويبين له المقدار ليتخذه له، فيعطيه العربون، فإنما أخذ منه العربون؛ لأنه لما لم يسكن قلبه على ما واصفه عليه،(5/155)
خاف أن يترك عليه، فأخذ منه العربون وثيقة ليأمن من تركه، كأنه قد عجل له بعض ثمنه، فكذلك هذه الطبقة لا تسخو نفوسهم على إخراج درهم مما في يده إلا على ذكر الخلف من الله يخلفه له في دنياه، كما وعد في تنزيله من قوله: {وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه}، وعلى ذكر الثواب أن يعطيه في الآخرة قصوراً، ودوراً، وحوراً، وحبوراً، وسروراً، فهذا عربون أهل الهمة، ثم لا تسخو نفوسهم على إتعاب جوارحهم وأعمالها لله من شيء من أعمال البر إلا على طمع نوال الثواب غداً من الله، ولم ينتهوا عن محرم إلا على خوف العقاب من الله عز وجل.
فهؤلاء عبيد عبدوا الله عز وجل من أجل نفوسهم، لم تأخذهم هيبة عظمته، وسلطان كبريائه، فتركض بهم في ميدان الطاعة ركضاً، وتركض بهم في ميدان الهرب عن مساخطه ركضاً، إجلالاً لرؤية الله إياهم على(5/156)
الأحوال، وترجياً لمحابه، وتلذذاً لعبودته، فإذا اجتمعت هذه الطبقة التي للشيء عندها قدر في سفر، فانفرد كل واحد منهم بطعامه، كانت في ذلك وحشة، ونزعة البركة، وليس ذلك من خلق الإسلام، وفيه ذهاب الألفة، وظهور الفرقة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحب الطعام إلى الله تعالى ما كثرت عليه الأيدي)).
وروي عن أبي أمامة في قوله تعالى: {إن الإنسان لربه لكنود}، قال: ((الكنود: الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده)).
1146 - حدثنا بذلك الجارود، قال: حدثنا أبو قطنٍ عمرو بن الهيثم، قال: حدثنا حريز بن عثمان، عن حمزة بن هانئٍ، قال: سمعت أبا أمامة يذكر نحوه.(5/157)
1147 - حدثنا عبد الوهاب بن فليحٍ، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، قال: حدثنا هشامٌ أبو المقدام، عن محمد بن كعبٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بشراركم؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((من أكل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده)).(5/158)
فالأكل وحده في صورة أهل البخل والدناءة، فإذا أنفق على الجماعة، ولم يقم لذلك، وعجز عنه، فالسبيل في ذلك ما ندبهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا نفقاتهم إلى أحدهم حتى ينفقها عليهم، فيكون أطيب لنفوسهم، وأحسن لأخلاقهم، فكل أحد إنما أخرج من يده مقدار كفايته لم يرد على ذلك، وهو طيب النفس بذلك، ولا يحتشم من الأكل؛ لأنه إنما هو من عند نفسه أكل منه، ولو أنفق واحد واحد، لاحتشم أحدهم من صاحبه، واستحيا، وثقل عليه، حتى تجيء نوبته، وربما ذهبت النوبة، وانقطع السفر، فيبقى ما دل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسكين للنفوس من الوجهين جميعاً: من وجه الحشمة، ومن وجه التثاقل.
فالنفوس ساكنة، والأيدي مجتمعة، والألفة باقية، والبركة نازلة، وخلق الإسلام باقٍ قائم، وإنما سمي بهذا؛ لنهود النفوس إليها، وينهد؛ أي: يتسارع، ويخف إلى هذا الفعل، وإنما بعث الله الرسل؛ ليدلوا الخلق إلى(5/159)
أشرف الأمور وأكرمها، وقد سبق ذكر هذا النهد في التنزيل مما اقتص الله علينا في شأن أصحاب الكهف من قوله: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه}.
فنسب الرزق إليهم كلهم، فكأنه دل على أنهم اجتمعوا على النفقة، فبعثوا واحداً منهم بورقهم في شراء ما بهم إليه الحاجة من الطعام، وفي هذا دلالة لصحة الوكالة أن الوكيل قد يجوز أن يشتري لغيره، ويتوكل له في أموره، فيجوز عليه، وإنما هذا القول في شأن النهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعامة من عنده، فأما الكرام الذين [هم] ملوك الدين، فهم أرفع شأناً من أن يتناهدوا؛ لأن قدر الشيء عن قلوبهم ساقط، ومن طبيعتهم السخاء، فقلما يجري فيما بينهم إذا انفردوا عن العامة وزن وعدد وتفقد، إنما الوزن والعدد والتفقد للعامة الذين عظم شأن ذلك عندهم، وحل من قلوبهم محل الفتنة.
فأما أهل اليقين والقربة: فهم في خلو من هذا فيما بينهم إذا تفردوا عن الناس، وعلى صدق الأخوة تجري أمورهم، يأخذ أحدهم من مال أخيه عند الحاجة، وإنما طابت نفوسهم بذلك؛ لأنه لا يمد أحدهم يده إلى مال أخيه لرغبة فيه، ولا لشهوة، ولا لقضاء نهمة، إنما يجده(5/160)
ويتناوله لله عز وجل، فقد عرف أخوه ذلك منه، وأمنه على نفسه وماله، وشهد له قلبه بالشفقة، والعطف، والرحمة، فلا يتهمه في نفقته، ولا على إمساك.
1148 - حدثنا أبو هشامٍ الرفاعي، قال: حدثنا ابن يمانٍ، قال: حدثنا عمار بن عمر، عن الحسن، قال: إن الرجل ليدخل يده في كيس أخيه، فما يسأله: كم أخذت؟
1149 - حدثنا أبو هشامٍ الرفاعي، قال: حدثنا ابن يمانٍ، قال: حدثنا شيخٌ، قال: قال لنا أبو جعفرٍ: أيدخل أحدكم يده في كيس أخيه؟ قلنا: لا، قال: لستم بإخوة.
1150 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا ثابت بن محمدٍ الزاهد، قال: حدثنا ابن إدريس، عن خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفرٍ، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ليس لي ثوبٌ أتوارى به، قال: ((فما لك(5/161)
جيرانٌ؟))، قال: بلى، فقال: ((فهل منهم أحدٌ له ثوبان؟))، قال: نعم، قال: ((فيعلم أن لا ثوب لك؟))، قال: نعم، قال: ((فلا يعود عليك بأحد ثوبيه؟))، قال: لا، قال: ((فما ذلك بأخٍ)).
وروي عن عبد الرحمن بن عوف: أنه دخل على عمر وهو يصلي، فعمد إلى مزوده، فأخذ منه سويقاً، أو تمراً، فأكله، فأعجب ذلك عمر رضي الله عنه.
وروي عن الحسن البصري: أنه فعل ذلك.
وروي عن أيوب السختياني: أنه دخل كرم صديق له، فأكل منه بغير إذنه، وتأول قول الله عز وجل في كتابه: {ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ ولا على المريض حرجٌ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} إلى قوله {صديقكم}.(5/162)
فإنما كف الناس من بعد مضي السلف من أجل تغير القلوب، فلم يأمن بعضهم بعضاً؛ لفقد الرحمة والعطف، وذهاب الألفة، وظهور الحسد، والآفات، فامتنعوا عن أن يتناول أحد شيئًا من صاحبه إلا بإذنه، ومن بعد الإذن أيضاً تأن ونظر، واحتياط وحذر، ولم يبق لأحد على أحد أمنٌ، ولا به ثقة في زماننا هذا، وما أعلمه إلا لأولئك الأربعين الذين بهم تقوم الأرض، وهم البدلاء العارفون المبرؤون من الآفات، الذين دقت الدنيا في جنب الآخرة في أعينهم، فدقت الآخرة في جنب ملك الله، وعظيم ما أبرز من غيبه، ودق ما أبرز من ملكه في جنب عظمته وجلاله، فهم الذين لا قسمة بينهم، ولا وزن، ولا عدد، يتناول أحدهم من ملك أخيه ما شاء من غير إذن؛ لأن إذنه قد ظهر منه له مرة، وإنما ابتغى الإذن من أجل طيب النفس، فإذا كانت منية نفسه بتناول أخيه من ماله، فالإذن قد عم وظهر.
1151 - وحدثنا الجارود، قال: حدثنا جريرٌ، عن(5/163)
مغيرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في مال أبي بكر كما يعمل في مال نفسه.
فإنما كان يفعل ذلك؛ لما قد عرف منه.
ألا ترى أنه لما قال لهم: ((تصدقوا))، فجاء أبو بكر بماله كله، فقال: ((يا أبا بكر! ما تركت لأهلك؟))، قال: الله تعالى ورسوله.
فهل كان يفعل في مال غيره مثل ذلك؟ فإنما صارت مخالطة المطبوع على السخاء أطيب، والتناول من شيئه أشهى، والأكل من طعامه أحلى وأطيب، من أجل سقوط قدر ذلك عن قلبه، ولا يكاد أهل الانتباه واليقظة يدخلون لبيوت البخلاء، ويتناولون من أطعمتهم، إلا ويجدون ثقل ذلك على قلوبهم، ويفتقدون ذلك الطيب، وتلك الحلاوة واللذة من طعامهم، والقلوب تحس بما في نفوسهم من قدر ذلك الشيء عندهم، فيذهب طعمه وطيبه منهم.
ألا ترى إلى ما جاء عن قوم موسى عليه السلام من تلك الأمة التي ذكرها الله في(5/164)
تنزيله فقال: {ومن قوم موسى أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون}.
فروي في الخبر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري به، نزل عليهم حين رجع حتى أقرأهم عشر سور من القرآن، وعلمهم الشريعة، ومستقرهم بأرض الصين من وراء نهر الرمل، فذكر أنه سألهم عن معاشهم، فقالوا: نزرع ونحصد، ونجمعه في برية من الأرض، فيخرج كل من احتاج إلى شيء، فيأخذ منه، وسائره متروك هناك.
فهذا صدق الأخوة في أهل الهداية بالحق، وأهل العدل به، فقد صار العدل بقومهم، والحق هاديهم، فقد كانت أوائل هذه الأمة على هذا السبيل، وقد أثنى الله عليهم في تنزيله، فقال: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ} {ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا}.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر، فقسم الغنائم للمهاجرين دون الأنصار، وأثنى الله عليهم حين لم يجدوا في صدورهم ضيقاً، ولا حسداً، ولا شكاً، ولا وجدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعله، حيث ضربوا(5/165)
بالسيوف حتى فتحوا وغنموا، ثم أعطى الغنيمة المهاجرين دونهم، فأثنى الله عليهم، وشهد لهم بالصدق، وسقوط قدر الشيء عن قلوبهم، فقال: {يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا}؛ يعني: المهاجرين، ثم قال: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ}.
وهذا غاية الطهارة من قدر الشيء، وسقوطه من القلب، فيظن بمثل هذا، ومن هذه صفته أن يتناول من شيئه على طريق الترفق، والمخالطة أن يكون ذلك مكروهاً، وهذا ما أجرأ عبد الرحمن بن عوف، حتى أكل من مزود عمر بن الخطاب بغير إذنه.
وقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه: {أو صديقكم} إذنٌ بالغ، ولكن الصديق له حقيقة، فما لم تعرف له حقيقة صداقته لم يغرر المتقي المتورع بنفسه في ذلك، وأول حقيقة الصداقة في سقوط قدر الشيء من قلبه، فإذا لم يعرفه بهذا، فهو -وإن صادقه بكل قلبه- فهو مجتهد في صداقته، ومن يجتهد في صداقته، فلا يخلو من كراهة وثقل إن تناولت من ملكه شيئاً؛ لأنه في جهد من ذلك، وإنما صار في جهد؛ لأن نفسه لا تطاوعه؛ لقدر(5/166)
ذلك الشيء على قلبه، فهو يجاهد نفسه، فصاحب هذا مغرور إذا عامله على ذلك، وإنما أذن الله في الأموال عن طيب النفس.
ألا ترى في قوله تعالى في شأن المهور: {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً}، ولم يقل: فإن طبن لكم عن شيء منه قلباً، ولكن قال: {نفساً}؛ لأن القلب ربما رضي، فطاب بما فيه من الإيمان، والنفس تكره بما فيها من الشهوة، فشرط في شأن المهر طيب النفس.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا يحل لامرئ من عطاء أخيه إلا بطيب نفسه، وذلك لشدة ما حرم الله من مال المؤمن)).
1152 - حدثنا بذلك أبي، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا سليمان بن بلالٍ، عن سهيلٍ بن أبي صالحٍ، عن عبد الرحمن بن سعيدٍ، عن أبي حميد الساعدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا يحل لامرئٍ أن يأخذ من عطاء أخيه إلا بطيب نفسه، وذلك لشدة ما حرم الله من مال(5/167)
المسلم على أخيه المسلم)).
فاليوم الإقدام على هذا جرأة عظيمة، ولا أعلم في هذا ثقة إلا لأولئك الذين خلت قلوبهم من نفوسهم، وتعلقت بالخالق البارئ الماجد الكريم، فلا يبالون ما أقبل وما أدبر، ومن أخذ، ومن أعطى، يتناولون من الدنيا لله، ويمسكونها لله على نوائب الحق، ويعطونها لله، فإن تناولت من أموالهم، لم يرجع عليك وبال منهم إذا أخذتها لله، وهذا فيما بينهم يجوز، وأما غيرهم، فالأخذ من أموالهم فلا؛ لأن الذي يتناوله بغير حق، يتناوله، فيثقل عليه فعله.
ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم، وهو من أسخى البشر، والدنيا ساقطة عن قلبه: ((إنما أنا خازنٌ، يعطي، وأنا أقسم، فمن أخذ مني(5/168)
شيئاً بطيب نفسٍ، بورك له فيه، ومن أخذ مني شيئاً وأنا له كارهٌ، فإنما يتأبطها ناراً)).
أي: يأخذ تحت إبطه، فعياذاً بالله أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كره ذلك من أجل قدر الشيء؛ فإن ذلك بخل، ولكن إنما كان تطيب نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعطاء لمن سأل بحق، وأخذه بحق.
فأما من أحس به أنه يأخذه أشراً، وبطراً، وحرصاً، وجمعاً، فكان يعطيه على كراهة نفس، ويخبرهم: أنه لا يبارك له فيه؛ لأنه أخذه بغير حق، فقيل له: يا رسول الله! فلم تعطه؟ قال: ((يأبى الله لي البخل)).
كأنه كره أن يرى أحد من خلق الله أن الدنيا عنده مما يزن جناح بعوضة، لأنه كذا أخبر عن الله: أنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، فأبى الله له أن يراه الخلق مانعاً لها أحداً، فيكون عند الخلق في صورة ما يعبأ بالدنيا، وتزن عنده شيئاً، فيكون على خلاف ما وصف عن الله -تبارك وتعالى-.(5/169)
ألا ترى أنه كان لا يزن، ولا يحصي، وقال لعائشة: ((لا توكي فيوكى عليك)).
((ولا تحصي فيحصى عليك)).
((وكان لا يدخر شيئاً لغدٍ)).
ليرى الخلق قدره عنده، ويعلمهم صدق موافقته لله فيها.
1153 - حدثنا بذلك صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا المنكدر بن محمدٍ، عن أبيه، عن جابرٍ، قال: ما سئل(5/170)
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط، فقال: لا.(5/171)
الأصل السادس والعشرون والمئتان
1154 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، عن مالك بن أنسٍ، عن ابن شهابٍ، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تصبر، يصبره الله، ومن يستعفف، يعفه الله، ومن يستغن، يغنه الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً هو خيرٌ وأوسع من الصبر)).
فأما قوله: ((من تصبر، يصبره الله، ومن يستعفف، يعفه الله، ومن يستغن، يغنه الله)).(5/173)
فإن الله -تبارك اسمه- أعطاهم العقول، ومن عليهم بالإيمان، فالصبر والعفة والغنى إنما يخرج كله من الإيمان، فإذا أعطي الإيمان، فقد أعطي هذا كله.
فبقوة الإيمان يصبر على طاعة الله، ويستعف عن محارم الله، وعن تناول شبهات الدنيا، ويقوم في العبودة على سبيل الاستقامة، ثم لا يتم له ذلك إلا بعون من الله؛ لأن النفس تقوم بهدم ذلك كله، وتدعو إلى خلافه، فوقع العبد في مجاهدة معها، فلولا عون الله للعبد، لمالت به النفس، ولكن سبيل العبد أن لا يتخير، فإذا جاءه موضع الصبر، فصبر، وعزم عليه، فوشيكاً يجيئه العون من الله، فوجد اليسر في أمره، فذاك عون الله، ومن قبل ذلك كان عليه ثقيلاً، دخل في الأمر مع الجهد؛ لأن النفس تأبى ذلك، فدخلت فيه بإكراه صاحبها لها على ذلك، فجاءه العون من الله، فيسير عليها، وعلى ذلك دل عباده بقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين}.
فأمره بالعبادة، وسؤال العون، فما لم يقدم العبد على ذلك، فسؤاله المعونة كالمحال، وذلك أنه أعطي القوة على القيام بما أمره الله، إلا أن النفس(5/174)
قامت تدعو إلى خلاف ذلك، فجاءت بشهواتها تريد أن تغلب القلب على ما أمن، فاحتاج عند مجاهدة النفس إلى عون من الله، وهو نور يرد على القلب، فيستنير الإيمان، ويمتزج به النور، فيقوى القلب، وتذل النفس، وتخمد شهواتها؛ لأن الخوف يحل بها من النور الوارد، فتذل النفس.
فينبغي للعبد أن يقدم على كل أمر أمرَ به، وأن ينتهي عن كل ما نهي عنه بما أعطي من العلم، والعقل، والإيمان بالله، وذلك مع جهد شديد، وينتظر العون من الله، ولا يلقي بيديه إلى التهلكة، وكذلك التوبة، يخرج إلى الله من جميع ما نهي عزماً بالقلب، وجهداً على النفس، وتخلياً بالأركان مع عسر، وشدة، وجهد، فإذا العون من الله قد جاء، فيسر عليه كل ذلك، ولم يأمرنا الله أن نقول: {إياك نعبد وإياك نستعين} على العبودة، ثم يحبس عنا العون، ما هذا بمظنون به، وقال: {فإن مع العسر يسراً}، فأخرج العسر مخرج المعونة، واليسر نكرة؛ كأنه يقول: {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} آخر، لا هذا، فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يغلب عسرٌ يسرين)).(5/175)
فاليسر الأول: هو ما أعطي العبد من الآلة، والعلم، والمعرفة، والقوة، فلولا النفس التي تحارب صاحبها بدفع ما يريد، وإفساده عليه، لكان الأمر قد تم، فإنه قد أعطي يسراً بأنه يقوم بالأمر الذي قد أمر، ولكن جاءت النفس بشهوتها، والعدو بكيده، فاحتاج العبد إلى يسر آخر، فوعده، فقال: عسر عليك الأمر، فأعطيتك مع العسر يسراً.
ثم قال: {إن مع العسر يسراً} فيسراً قبل الأمر، وهو اليسر الأصلي، وهو حجة الله على عبده، وقال الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ويسراً بعد الأمر حين يأخذ فيه، وهو العون له، فإذا جاء العون، انهزمت النفس، وخمدت الشهوة، وهرب العدو، وبطل كيده، فهذا يسر، فهما يسران لن يغلبهما هذا العسر الذي بينهما، وهو مجاهدة النفس حتى يأتيك بحربها وجهادها؛ ليصدك، ويقهرك بشهواتها، فذلك عسر قد حل بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يغلب عسرٌ يسرين)).
فبشرهم أن العبد إذا لم يلق بيديه وبصره، واستعمل ما أعطي من اليسر في وقت هذا العسر الذي عارضت النفس به، جاءه اليسر الثاني،(5/176)
ولن يغلب هذا العسر هذين اليسرين، واليسر الثاني هو عونه، وهو عطف الله على العباد ورحمته، وإذا عطف على عبده، لم يبق للنفس عليه سبيل، ولا للعدو فيه مطمع؛ لأنه قد جاءه من العطف مدد، وجند عظيم، وهو نوره الذي قد أثار نور التوحيد، فصار كجمرة قد طار عنها غبارها، فأخذت تتوقد وتضيء.
فقوله: ((من تصبر، يصبره الله))؛ أي: يستعمل ما أعطي من الصبر الذي يخرج له من الإيمان، فإذا فعل ذلك، صبره الله؛ أي: جاءه المدد والعون، حتى يتم له صبره في يسر.
وكذلك قوله: ((من يستعفف، يعفه الله)).
وأما قوله: ((من يستغن، يغنه الله))؛ فإن التجأت إليه في الحوائج صدقاً، فهو أكرم من أن يردك ويلجئك إلى عبيده.
1155 - حدثنا ابن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ، عن جعفرٍ، عن ثابتٍ، قال: حبس ابن أخٍ لصفوان بن محرزٍ،(5/177)
فلم يبق بالبصرة رجلٌ له وجهٌ عند الأمير إلا تجمل به عليه، فلم يزده إلا شدةً، فبات ليلةً، فقيل له في منامه: يا صفوان! اطلب الأمر من وجهه، فقام فتوضأ، وصلى ركعتين، وسأل ربه، ثم عاد إلى مضجعه، فنودي بالباب: يا صفوان! إن هذا ابن أخيك قد جئنا به، فصار إلى الباب، فإذا ابن أخيه، فقال له: نبه الأمير في جوف الليل حتى بعث إلى السجون، فنودي: أين ابن أخي صفوان؟ فطلب حتى جيء به، فها هو ذا.
1156 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحكم بن المبارك، قال: حدثنا بقية، قال: حدثني بكر بن حذلمٍ الأسدي، قال: حدثني وهب بن أبان، عن عبد الله بن عمر: أنه خرج في سفرٍ له، فإذا بجماعة على طريق، فقال: ما هذه الجماعة؟ فقالوا: أسدٌ قطع الطريق، قال: فنزل، فمشى إليه حتى قفده بيده، ونحاه عن الطريق، ثم قال: ما كذب عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنما يسلط على(5/178)
ابن آدم من يخافه ابن آدم، ولو أن ابن آدم لم يخف غير الله، لم يسلط الله عليه غيره، وإنما وكل ابن آدم لمن رجا ابن آدم، ولو أن ابن آدم لم يرج إلا الله، لم يكله الله إلى غيره)).
وقال الله -جل ذكره- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر وما صبرك إلا بالله}، يعلمه أنه لا يتم له ذلك إلا بعون من الله، وغياث منه.
وأما قوله: ((وما أعطي عبدٌ عطاءً هو أوسع من الصبر))؛ لأن الصدر قد انشرح، واتسع للنور الوارد على قلبه، فإذا اتسع الصدر، يسرت عليه الأمور كلها، وهو قوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه}، فإذا استقر النور في القلب، انفسح الصدر وانشرح، وألقى بيديه سلماً لمولاه في أمره ونهيه، وجميع أحكامه عليه، وتدبيره له، ولم يبق للقلب منازع؛ لأن النفس إنما تذل، وتنقمع، وتموت شهواتها، وتلقي بيديها حين يشرق الصدر، فيحل بها من ذلك الإشراق خوف الله، وخوف عقابه.(5/179)
ثم يزداد النور، فتدخله الخشية، وهو نور القربة، فيحل بها الرهبة من الله، ثم يزداد النور، فتدخله العظمة، فتحل بها الهيبة من الله، والخوف الخالص منه، فتيبس، وتذهب شهواتها، وتخشع لله، وتصير تابعة للقلب، فمنه بدأ أول النور، فوجد العبد متسعاً في صدره، فقيل: صابر، ثم زيد، فهو صابر قانع، ثم زيد، فهو صابر راضٍ مراقب، ثم زيد، فهو صابر راضٍ مراقب واله، ثم زيد، فهو منفرد، قد انفرد لربه، ولها عن الصبر والرضا، والمراقبة، والوله، وهذا كله له، والانفراد غالب عليه، فهو في قبضته يستعمله، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن الله عز وجل حيث يقول: ((كنت سمعه وبصره، ويده ورجله، ولسانه وفؤاده، فبي ينطق، وبي يعقل، وبي يمشي، وبي يبصر، وبي يبطش)).
وهو قول عمر -رضي الله عنه- حيث شج عليٌّ رضي الله عنه ذلك الرجل، فأتى عمر رضي الله عنه، فقال: من فعل بك ويحك؟! قال: علي، فسأل علياً، فقال: إني مررت به، فأصغيت إليه بسمعي، فإذا هو يكلم امرأة بكلام، فلم أملك حتى ضربته، فقال عمر: أيها الرجل! أصابتك عين من عيون الله عز وجل،(5/180)
وإن لله في الأرض عيوناً.
والصبر: هو ثبات النفس على حكم الله، وتدبيره، وأمره، ونهيه، ويرمي بشهوته، ومنيته، والنفس لا ترمي بذلك، حتى تبصر ما هو أفضل من شهواتها ومنيتها، وإنما يبصر ذلك بذلك النور الوارد على القلب فتطيب، وتستقر، وتوقن، فأي شيء أوسع منه، وبذلك يثقل ميزانه، ويملأ منه ميزانه، وسعة كفة الميزان سعة السماوات والأرض.(5/181)
الأصل السابع والعشرون والمئتان
1157 - حدثنا حميد بن عليٍّ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حدثنا جعفر بن محمدٍ الهمداني، قال: حدثنا ابن مباركٍ، عن حماد بن سلمة، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله الفهري، عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسكنوا النساء الغرف، ولا تعلموهن الكتابة)).(5/183)
فإنما حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن في إسكانهن الغرف تطلعاً إلى الرجال، وليس في ذلك تحصين لهن، ولا ستر، وذلك أنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجال، فتحدث الفتنة والبلاء، فحذرهم أن يجعلوا لها ذريعة إلى الفتنة، وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس للنساء شيءٌ خيرٌ لهن من أن لا يراهن الرجال، ولا يرين الرجال)).
وذلك أنها خلقت من الرجل، فنهمتها في الرجل، والرجل خلق فيه الشهوة، وجعلت سكناً له، فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه، وكذلك تعلم الكتابة، ربما كانت سبباً للفتنة.
وذلك أنها إذا علمت الكتابة، كتبت إلى من تهوى، والكتابة عين من العيون، به يبصر الشاهد الغائب، والخط هو آثار يده، وفي ذلك تعبير(5/184)
عن الضمير بما لا ينطق به اللسان، فهو أبلغ من اللسان، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عنهن أسباب الفتنة؛ تحصيناً لهن، وطهارة لقلوبهن، والله سبحانه أعلم.(5/185)
الأصل الثامن والعشرون والمئتان
1158 - حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الحسن بن عمارة، عن عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة، عن أبيه، عن عبد الله ابن مسعودٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأس الحكمة مخافة الله)).(5/187)
فمخافة الله هي التي ألهته عن الأشياء حتى صارت رأس الحكمة وهو تعلق القلب بمشيئة الله لما صار إلى المشيئة، أبهم الأمر عليه، فقد علم أنه شاء فخلقه، ولا يدري لماذا خلقه، فظهر له بعض المشيئة، وخفي عليه آخر شأنه من مشيئة الله، فأقلقه، وألهاه، فهذا رأس الحكمة، ومن هاهنا مبتدأ تدبيره له بالحكمة البالغة، وقال في تنزيله: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} إلى قوله: {فضلاً من الله ونعمةً والله عليمٌ حكيمٌ}.
فهو حكيم بالحكمة دبر له: أموره من مبتدئها إلى آخرها، فخوف المشيئة أذهله عن النفس، وعن دنياه، فلما زايلته نفسه ودنياه، انشرح صدره، واتسع في الحكمة.(5/188)
الأصل التاسع والعشرون والمئتان
1159 - حدثنا إبراهيم ابن عبد الحميد الحلواني، قال: حدثنا عبد الله بن صالحٍ كاتب الليث، قال: حدثنا معاوية بن صالحٍ، عن راشد بن سعدٍ، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله تعالى)).
فالفراسة: هي مشتقة من الفروسية، فركضه بالجوارح على الفرس هو فروسية، وركضه ببصر قلبه بنور الله هو فراسة، فبالفرس تقطع مسافة(5/189)
الدنيا، وبنور الله تقطع مسافة الغيب، وذلك: أن على الأشياء دلائل وسمات، قد وسم الله خلقه بها، وبنوره تدرك تلك السمات حتى يدرك ما لم يأت بعد.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه تفرس.
1160 - حدثنا بذلك يعقوب بن شيبة، حدثنا بشر ابن موسى، قال: حدثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدثنا شعبة، قال: أنبأني عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: دخلنا على عمر -معاشر وفد مذحج-، وكنت من أقربهم منه مجلساً، فجعل عمر ينظر إلى الأشتر، ويصوب ببصره، فقال لي: أمنكم هذا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين! هذا مالك بن الحارث، قال: ما له قاتله الله! كفى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم شره!، والله إني لأحسب أن للمسلمين(5/190)
منه يوماً عصيباً.
1161 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا الفضل بن موسى، عن زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن إبراهيم، عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: ما حذر عمر رضي الله عنه شيئاً قط، فتكلم به، إلا كان.
1162 - حدثنا عبد الأعلى بن واصلٍ، قال: حدثنا سعيد بن محمدٍ المخزومي، قال: حدثنا عبد الواحد بن واصلٍ، قال: حدثنا أبو البشر المزلق، عن ثابتٍ البناني، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)).(5/191)
1163 - حدثنا صالحٌ، قال: حدثنا محمد بن مروان، عن عمرو بن قيسٍ الملائي، عن عطية، عن أبي سعيدٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {إن في ذلك لآياتٍ للمتوسمين}، قال: ((للمتفرسين)).
فالتوسم: هو مأخوذ من السمة؛ أن تعرف سمات الله، وعلائمه في الأمور.
والتفرس: أن يركض قلبه فارساً بنور الله، إلى أمر لم يكن بعد،(5/192)
فيدركه مثلما أدركه عمر.
وروي عن الحسن البصري رحمه الله: أنه قال لعمرو بن عبيد: هذا سيد فتيان أهل البصرة (إن لم يحدث.
وقال لأيوب: هذا سيد فتيان أهل البصر)، فلم يستثن.
وروي عن الشعبي: أنه قال لداود الأودي وهو يماريه: إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك، وكان كذلك.
فإذا امتلأ قلب العبد من نور الله، نظرت عينا قلبه بنور الله، فأبصر في صدره ما لا يحاط به وصفاً.
فالفراسة من الله تعالى لعبده كائنة.(5/193)
الأصل الثلاثون والمئتان
1164 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا ابن الأصبهاني، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن واصل بن السائب الرقاشي، عن أبي سورة، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: قلنا: يا رسول الله! هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: ((يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة، أو يتنحنح، فيؤذن أهل البيت)).(5/195)
فالاستئناس: تنبيه، والاستئذان: عهد، فندب إلى أن يبدأ بالتنبيه، ثم بالعهد، فيكون آكد للعهد، وأقوى للحجة، فإنه إذا فوجئ بالسلام، والإنسان في غفلة، والعقل عازب عنه، مشغول بغير ذلك، كانت الحجة عليه غداً أضعف أن يقول: فوجئت بالسلام، وعوجلت به، فلم أقبله بالتثبت.
ألا ترى أن الله -تبارك وتعالى اسمه- (خاطب الخلق، فدعاهم مرة بأسمائهم، ومرة بكناهم، فقال: {يأيها الناس}، فهذه أسماؤهم)، ثم قال: {يأيها الذين آمنوا}، وهذه كناهم، فقدم على الدعوة تنبيهاً، فقال: {يأيها}، وإنا هو: يا، ويا: كلمة تنبيه، إنما هل حروف ذات أصداء؛ لينبهك عما أنت به مشتغل؛ ليرجع إليك عقلك بصوته.
ثم قال: أي، وهي كلمة الفتش مضمر فيها من.
ثم قال: ها، فهو تنبيه آخر، مشيراً إلى شيء معلوم عينه.(5/196)
ثم قال: {الذين آمنوا}، فكناه كأنه يعني بها: ذا؛ أي: بقولي ما دعوت دعوة تنبيه، ثم قلت: أي؛ أي: أيهم أريد بدعوتي.
ثم قلت: هذا؛ أشير إلى من أذكر اسمه أني أريده بدعوتي، ثم أبرزت اسمه، أو كنيته، فقلت: الناس، أو الذين آمنوا، فهذه التنبيهات من إلقاء العذر، وإتمام الحجة: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون}، و ((لا أحد أحب إليه العذر من الله، ولذلك بعث الرسل)).
وروي لنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أيضاً: أنه قال: ((يعتذر الله إلى آدم بثلاثة معاذير يوم القيامة)).
وروي عنه أيضاً أنه قال: ((إن الخلق يعرضون ثلاث عرضاتٍ،(5/197)
فعرضتان جدال ومعاذير، وفي العرضة الثالثة تطاير الصحف)).
فقال هاهنا: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}.
فالاستئناس: تنبيه، ثم يكون التسليم بعده، والتسليم كان عندهم الاستئذان، فإذا رؤوا، جاء الإذن بعد ذلك، {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا}.
وأدنى الاستئناس: النحنحة، وأعلاه: ذكر الله، فيسر عليهم الأعلى، والأدنى، فقال: تسبيحة أو تكبيرة أو تحميدة، ثم ذكر الأدنى.
وإنما قيل: استئناس؛ لأن الحس حس المجيء قد يختلف، فإذا سمع الحس، لم يدر السامع ما هو، ولعله سبع من السباع، أو بهيمة، أو داهية من الدواهي، فإذا تنحنح، عرف هذا أنه من جنسه، فأنس به؛ لأن الآدمي إنما يأنس بجنسه، ويتوحش من غير جنسه، فأعلاه: تسبيحة، أو كلمة نحوها؛ ليعلم هذا السامع أنه أخوه المسلم، فذاك أفضل، فربما كان تنحنح ذا شبهة لا يعرف السامع مسلم هو أو كافر، ولي هو أو عدو؟ فدخله روعة لمجيئه، فإذا ذكر الله، كان أوفر للاستئناس.(5/198)
وإنما قيل: استفعال؛ كأنه يدل على أنه يفعل فعلاً يستدعي أنسه إلى نفسه حتى يأتلفا.
والعجب من هؤلاء الرواة، أحدهم يروي عن ابن عباس: أنه قال في قوله: {حتى تستأنسوا وتسلموا}: هو خطأ من الكاتب، إنما هو: حتى تستأذنوا وتسلموا.
وما أرى مثل هذه الروايات إلا من كيد الزنادقة في هذه الأحاديث، إنما يريدون أن يكيدوا الإسلام بمثل هذه الروايات، فيا سبحان الله! أكان كتاب الله بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مضيعة، حتى كتب الكتاب فيها ما شاؤوا، أو زادوا، أو نقصوا؟!
وروي عنه أيضاً: أنه قال: هو خطأ من الكاتب قوله: {أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً}، إنما هو: أفلم يتبين.
فهذه كلمات إنما تتغير معانيها بزيادة حرف، ونقصان حرف، أفيحسب ذو عقل أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أهملوا أمر دينهم، حتى فوضوا عهد ربهم إلى كاتب يخطئ فيه، ثم يقرؤها أبو بكر، وعمر، وأبي بن كعب -رضي الله عنهم أجمعين- حيث جمعوه في خلافة أبي بكر، ثم من(5/199)
بعده مرة أخرى في زمن عثمان رضي الله عنه فقاروهم على الخطأ.
هذا كلام أحد رجلين: جاهل لا يعرف ما وراء هذه الكلمة، أو ملحد يريد أن يكيد الدين، فليس فيما رواه أبو أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الاستئناس ما يبطل رواية من روى عن ابن عباس رضي الله عنه أن هذا خطأ من الكاتب.
قال له قائل: فقد روى شعبة هذا الحديث عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الكاتب أخطأ في ذلك، وإنما هو: حتى تستأذنوا.
قال: هؤلاء رواة إنما ينكر هذه الأشياء ويدفعها الرعاة، والرواة كالطواف والخدم، ليس لهم من الطعام إلا الشم، إنما الحظ من الطعام للأكلة، والعارف بالطعام الطهاة، وصاحب المطبخ، فأما الذين يتداولون القصاع على أيديهم طوافاً وخداماً، فهم جياع، ليس لهم إلا المشام، فكذلك الرواة، ما يدري مثل شعبة ما غور هذا، وإنما هو(5/200)
نقال، فإذا خرج من نقله، لم يبق معه إلا ذرو الكلام، وأين مكان أبي بشر من هذا الدين والعلم حتى تصغي إليه الأذن؟! هؤلاء شيوخ منسوبون إلى العبادة، فللزنادقة وأهل كيد الدين فيهم مطمع أن يدسوا إليهم مثل هذا، كما دس الكلبي، وأبو صالح تلك المناكر في تفسير ابن عباس.
قال له قائل: فإن كان هؤلاء رواة من الرعاة؟
قال: الذين عن الله عقلوا، وعن تدبيره فهموا، أو هم المقربون أهل اليقين، وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن الله -تبارك وتعالى-: أنه قال: ((فإذا أحببت عبدي، كنت سمعه وبصره، وفؤاده ولسانه، فبي يعقل، وبي يبصر، وبي يسمع، وبي ينطق)).(5/201)
فهذا الذي ينفي مثل هذه الأشياء، ويدفعها، فإذا نفاه ودفعه، فبه ينفي، وبه يدفع؛ لأنه به يعقل، وبه ينطق، فهو حجة الله على خلقه، وراعي غنمه، وطبيب عباده، فمن عارضه، هلك وهو لا يشعر.
فكم من منتحل لهذا العلم الظاهر عارض هذه الطبقة التي ولي الله أمرها، ولم يعرفها بالتيه الذي فيه، فاستخف بها، ولم يعلم أن صفوة العلم الذي في يديه عند هذه الطبقة، وأنهم قد طالعوا تدبير الله في هذا العلم الذي عندهم، فقبلوه على بينة من ربهم، فلم يخرج المعارض من الدنيا حتى صغره الله، وحل به عاقبة السوء، ولهذا ما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عن ربه -تبارك وتعالى-: ((من آذى لي ولياً، فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيءٍ نصرةً لأوليائي، أفيظن أن يفوتني كيفٌ، وأنا الثائر لهم؟)).
1165 - حدثنا سليمان بن منصورٍ، قال: حدثنا بقية، عن معان بن رفاعة السلامي، عن القاسم بن(5/202)
عبد الرحمن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)).
فهذا فعل العدول، من استقام قلبه بعدل الله، فهم حملة هذا العلم، وأما هؤلاء النقلة الرواة، فليسوا من العلم في شيء إلا الأداء، فعليهم التثبت حتى لا يكيدهم الزنادقة، فيلقون في كتبهم، أو على ألسنتهم الكذب، والخطأ، والإلحاد.(5/203)
الأصل الحادي والثلاثون والمئتان
1166 - حدثنا رزق الله بن موسى الناجي، قال: حدثنا معن بن عيسى، قال: حدثنا مالك بن أنسٍ، عن صفوان بن سليمٍ، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم))، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء فلا يبلغها إلا هم؟ قال: ((بلى، والذي نفسي بيده! رجالٌ آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين)).(5/205)
فأهل الغرف: أهل عليين الذين قد ارتفعت درجاتهم إلى قرب العرش، فالاغتراف: الارتفاع، ويقال في اللغة: اغترف؛ أي: رفع بيده، قال في تنزيله: {إلا من اغترف غرفةً بيده}.
فالغرفة: ما ارتفع، والغرف جمعه، وهذه التعالي: الغرف، ومنها سميت؛ لارتفاعها عن الأرض.
فالجنة ثلاثة أثلاث: أعلاها للسابقين المقربين، وأوسطها للمقتصدين، وأدناها للمخلطين، وما فيها دني، وعدن: مقصورة الرحمن، خلقها بيده، وزينها ونجدها، وهي معدن النعيم، وجنة عدن: محل الرسل، وجنات عدن: محل الأنبياء -صلوات الله عليهم أجمعين-، والفردوس: محل الصديقين والأولياء، وهي الغرف، وهي سدة الجنة بحيال باب العرش، فوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أهل الجنان من دونهم يتراءون أهل الغرف من البعد، كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء، فتوهم أصحابه أن تلك منازل الأنبياء -عليهم السلام-، فلا يبلغها غيرهم، فأعلمهم بقوله: ((بلى، والذي نفسي بيده!)): أنه يبلغها من ليسوا بأنبياء.(5/206)
وفي هذه الكلمة ما يؤدي أن تلك الغرف ليست بمنازل الأنبياء، وأن الأنبياء فوقهم؛ لأن الأنبياء والأولياء لا يجتمعون في درجة واحدة؛ لأن درجة النبوة فوق درجة الولاية، فالأولياء فوق الغرف في جنات عدن، وعدن كالمدينة، وجنات عدن كالقرى حولها، والفردوس حول جنات عدن كعوالي القرى، والفردوس مضموم إلى جنات عدن، ومنسوب إليها، وما دونها من الجنان كالخيام، والمحلات حول عوالي القرى، وكذلك نجد المساكن في الدنيا إنما هي مدينة، ثم قرى، ثم عوالي القرى، ثم محلات، وخيام، ومراعي في براري.
فأعلم في هذا الحديث شأن الغرف؛ لأنها درجة من اتقى، فقال: ((رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين))، وهذا إيمان الصديقين، لا إيمان الموحدين المخلطين، ولم يعلم للمخلطين في الغرف حظاً، إنما أهل الغرف أهل الدرجات العلا، وقد وصف الله –جل ذكره- في كتابه فقال: {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى. جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى}.
ثم قال: {وذلك جزاء من تزكى}؛ أي: تطهر من مساخط الله قلباً(5/207)
وقولاً وفعلاً، فإيمان الصديقين إيمان طمأنينة به، وبجميع أحكامه، وتصديقهم المرسلين تصديق ثقة وسكون.
1167 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا سليمان بن عمرٍو، عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعدٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا}، وقوله: {وهم في الغرفات آمنون} قال:
((الغرفة من ياقوتةٍ حمراء، وزبرجدةٍ خضراء، ودرةٍ بيضاء، ليس فيها فصمٌ ولا وصمٌ، فإن أهل الجنة ليتراءون الغرفة منها، كما تتراءون الكوكب الدري الشرقي، أو الغربي في أفق السماء، وإن أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما منهم وأنعما.(5/208)
1168 - حدثنا صالح بن عبد الله، وقتيبة بن سعيدٍ، وعلي بن حجرٍ، قالوا: حدثنا خلف بن خليفة، عن حميدٍ الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المتحابين في الله تعالى على عمودٍ من ياقوتة حمراء، في رأس العمود سبعون ألف غرفةٍ، يضيء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا، يقول أهل الجنة بعضهم لبعضٍ: انطلقوا بنا حتى ننظر إلى المتحابين في الله، فإذا أشرفوا عليهم، أضاء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا، عليهم ثيابٌ خضرٌ [من] سندسٍ، مكتوبٌ على جباههم: هؤلاء المتحابون في الله)).
فهؤلاء أهل الغرف، وهم أهل محبة الله، وإنما تحابوا في الله(5/209)
لمحبة الله، وهو قوله: ((حقت محبتي للذين يتحابون بجلالي)).
فمن تحاب في أموره، ومن أجل أموره، ودخل التقصير في أعمالهم، درس ذلك منهم فيما بينهم، ومن تحاب لجلاله ومحبته، لم ينظر إلى تقصير من أحبه، إنما ينظر إلى ما يجد من قلبه، وإنما آلفهم بروحه، فما دام روحه بينهم، فإنما موصلتهم قائمة، ولا يلتفتون إلى الأعمال، فقد وصف الله أهل الغرف في تنزيله، فقال: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض}، فنسبهم إلى اسمه الرحمن، يوهمنا أنه خرج لهم ذلك من اسمه حتى نالوا ذلك، فقال: {يمشون على الأرض هوناً} إلى قوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماماً}.
فوصف مشيهم، وخطابهم، وانتصابهم له، ودعاءهم، ونفقاتهم، ونزاهتهم، ويقظتهم، وانتباههم، وصدقهم، ومحبتهم، ونصحهم، ثم قال: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا}.
والصبر: بذل النفس، والثبات له وقوفاً بين يديه بالقلوب عبودة، فهذه صفة المقربين، وقال في آية أخرى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي(5/210)
تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}.
فذكر شأن القربة أنها لا تنال بالأموال والأولاد، إنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، ثم بين أن لهم جزاء الضعف، ومحلهم الغرفات، يعلمك أن هذا إيمان طمأنينة، وتعلق قلب به مطمئناً به في كل ما نابه، وبجميع أموره وأحكامه، وإذا عمل عملاً صالحاً، ولا يخلطه بضده، وهو الفاسد، فلا يكون العمل الصالح الذي لا يشوبه فاسد إلا مع إيمان بالغ، مطمئن صاحبه بمن آمن، وبجميع أموره وأحكامه، والمخلط معه إيمان الموحدين، غير مطمئن بأموره، وأحكامه، مقر بربه، موحد له، تابع لهوى نفسه، يعمل على شهوته، ويقضي منيته، فهذا إيمان الموحدين، وذاك إيمان المطمئنين المخبتين، وكلاهما إيمان واحد برب واحد.
إلا أن ذلك قد جثمت على قلبه شهوات نفسه، فأظلمت صدره، وانكمن نوره، فلا يعمل شيئاً من الإشراق والإنارة، وهذا البالغ من الله تعالى عليه بنوره فهتك هذه الحجب من الظلمات، وأمات منه الشهوات مما حل بقلبه من الخشية؛ فأورثه ذلك النور والعلم بالله، وولج قلبه من(5/211)
عظمة الله وجلاله، فأذهل نفسه، واستقام القلب لله، وهو قوله تعالى: {وبشر المخبتين. الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}.
فإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن أهل الغرف، فقال: ((رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين))، فلم يذكر هاهنا عملاً، ولا شيئاً سوى الإيمان والتصديق للمرسلين، ذلك ليعلم أنه إنما عنى الإيمان البالغ، وتصديق المرسلين من غير سؤال آيةٍ أو تلجلجٍ، وإلا فكيف ينال الغرف بالإيمان والتصديق الذي للعامة، ولو كان كذلك، لكان جميع الموحدين في أعالي الدرجات، فهذا محال.(5/212)
الأصل الثاني والثلاثون والمئتان
1169 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الفضل بن دكينٍ، قال: حدثنا سلمة بن وردان الكناني الجندعي، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الكذب وهو باطلٌ، بني له في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محقٌّ، بني له في وسط الجنة، ومن حسن خلقه، بني له في أعلاها)).
فترك الكذب هو ترك الشرك، ولا كذب أعظم من الشرك، فمحل تاركه في ربض الجنة، وهو أدانيها، وهذا الصنف هو الظالم.(5/213)
وترك المراء إذا اقتضاه الحق أمراً لله؛ من أداء فرائضه، واجتناب محارمه: أن يخضع للحق، ولا يماريه، فيذهب برفضه فرض الله تعالى في أمره ونهيه، فهذا مقتصد محله في وسط الجنة.
وأما حسن الخلق، فإن الله -تبارك وتعالى- دبر لعبده من قبل أن يخلقه شأنه من الرزق، والأحوال، والآثار، كل ذلك مقدر موقت، يبرزه له في وقته كما قدره، والعبد ذو شهوات قد اعتادها، وتخلق بها، ودبر الله لعبده غير ما تخلق به من الشهوات، فمرة سقم، ومرة صحة، ومرة غنى، ومرة فقر، ومرة عز، ومرة ذل، ومرة مكروه، ومرة محبوب.
فأحوال الدنيا تتداوله، ولا ينفك من قضائه وتدبيره، والعبد يدبر ما وافقه واشتهاه، وتدبير الله فيه غير ذلك، فإذا راض نفسه وقمعها، وخشعت لله بما أيده الله من نور اليقين، حسن خلقه، واستقام قلبه، فقد ترك جميع مشيئاته لمشيئة الله تعالى، ينتظر ما يبرز له من تدبير الله في جميع أحواله، فيتلقاه بهشاشة قلب، وطيب نفس، فهذا أحسن الخلق، فمحله في أعالي الدرجات.
فالأول: ظالم، والثاني: مقتصد، والثالث: مقرب.
وسوء الخلق حجاب بين العبد وبين ربه؛ لأن سوء الخلق من نفس(5/214)
شهوانية، والنفس ما لم تمت شهواتها لا تنقاد للحق، ولا يتخلص القلب من مخاليبها، ولا يبرأ الإيمان من سقمه، وهوى النفس سقم الإيمان.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا: أنه قال: ((رأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه، وبينه وبين الله حجابٌ، فجاءه حسن خلقه، فأدخله على الله تعالى)).
فحسن الخلق على ثلاث منازل:
أولاها: أن يحسن خلقه مع أمره ونهيه.
والمنزلة الثانية: أن يحسن خلقه مع جميع خلقه.
والمنزلة الثالثة: أن يحسن خلقه مع تدبير ربه، فلا يشاء إلا ما يشاء له ربه.
ومن أسوأ خلقاً من رجل دبر الله -تبارك وتعالى اسمه- سقيا لعباده وبلاده من بركات السماء، فجعل فيه أرزاقهم، وأرزاق حيوانهم، ومعاشاً لهم، فهو بتدبيره ولطفه يحيي بذلك أمة من الأمم، والعبد يكرهه ويأباه من أجل أنه في أرض براز، فتبتل ثيابه، أو ينفى عن سفر يريده، فهذا العبد إنما ثقل عليه تدبير الله لهذا الخلق؛ لشهوته لذلك العمل الذي هو(5/215)
فيه، ولو كان ميت الشهوة، أعماله عبودةٌ لله تعالى، ما كان ليثقل عليه تدبيره.
1170 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، عن مؤمل بن عبد الرحمن الثقفي، قال: حدثنا أبو أمية بن يعلى، عن سعيد بن أبي سعيدٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام: أن يا إبراهيم خليلي! حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله في عرشي، وأن أسكنه حظيرة قدسي، وأن أدنيه من جواري)).(5/216)
وإن محاسن الأخلاق جاءت من الله عز وجل، قد خزنها الله عن خلقه، فلا يعطيها إلا من أحبه، فسعد جده، فيمنحه خلقاً من تلك الأخلاق، وبخلقٍ واحدٍ منها، يرى عليه بهجة ذلك في شمائله، وفي منطقه، وفي معاشرته، حتى في سيماء وجهه.(5/217)
الأصل الثالث والثلاثون والمئتان
1171 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا هشام بن الغاز، عن حيان أبي النضر حدثه، قال: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله -تبارك وتعالى-: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)).(5/219)
فالظن: هو ما يردد في الصدر، وإنما يحدث من الوهم؛ لأن النفس ركبت على وجود الأشياء بحواسها، فلقريحة الوهم، وهي غريزتها هواجس، فالظن هاجسه النفس، وللنفس إحساس بالأشياء كلها، عليها نشأ منذ لدن بدأ من بطن أمه، فإنما علمها الحسن، فإذا عرض أمر، دبرت له الحسة ببيان الأمر العارض، ممتثلة ما تقدم من الأمر بما يشبهه، فما خرج لها من التدبير، فهو هاجس النفس.
فأيد الله المؤمن بنور التوحيد في القلب، ونور في الصدر يطوف حول القلب حجاباً لذلك النور الأعظم، فأصل هذا النور هو النار، فهو حجاب لذلك النور الأعظم.
وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((إن الله تعالى لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، باسطٌ يده لمسيء النهار أن يتوب، ولمسيء الليل أن يتوب، بيده الميزان، يرفع أقواماً، ويخفض أقواماً، حجابه النار، ولو كشفها، لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره)).(5/220)
1172 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، حدثنا الفضل بن دكين قال: حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحجابه النار هناك، وكذلك هاهنا نوره في القلب، فيه هداه، وحجابه في الصدر نور، أصله من النار، يطوف حول الفؤاد، فإذا هجست النفس بعارض أمر، ونور الصدر بمكانه يضيء في صدره، استقرت النفس، واطمأن القلب، وحسن الظن، كمن ذلك النور الذي(5/221)
في صدره، يريه من علائم التوحيد وشواهده في صدره ما تسكن إليه النفس، ويطمئن القلب؛ لأن النور الذي في قلبه يؤدي إلى القلب حسه، وحسة القلب أن الله كافيه، وحسبه في كل أموره، وأنه كريم رحيم عطوف، يكفيه، ويرحمه، ويعطف عليه، ويتكرم لعبده في كفايته.
فهذه حسة العبد إنما وجدها من نور التوحيد، فأداها إلى النفس من الصدر، فإذا كان الصدر مضيئاً بذلك النور الذي يطوف حول قلبه تصور لعيني الفؤاد في الصدر ذلك الأمر على الثقة بصنائع ربنا، وبكرمه، ومجده، وعلى أحسنه وأجمله، فإذا تصور للفؤاد هكذا، علمت النفس بذلك؛ لأنها مقرونة بالفؤاد، فاستقرت، فإذا استقرت، لم تزعزع القلب، فاطمأن القلب بما فيه من النور، فهذا حسن الظن بالله.
فإذا كانت النفس جديدة ذات شره، وحدة، وشهوة غالبة، فارت بدخان شهواتها كدخان الحريق، فأظلمت الصدر، فإذا التفت هذا النور الطواف في الصدر إلى ذلك الدخان الذي جاءت به النفس مصغياً إلى(5/222)
ما جاءت به، عوقب وخذل، فانكشف في تلك الظلمة، فلم يبق له ضوء؛ بمنزلة قمر ينكسف، فصار الصدر مظلماً، فجاءت النفس بهواجسها، واضطربت، فذلك سوء ظنها بالله.
فإذا اضطربت النفس، زعزعت القلب عن استقرارها واستقرها، وفقد القلب طمأنينته وسكونه بالله، ولم تقبل النفس ما تؤدي التوحيد إلى الفؤاد؛ لأن الفؤاد قد صارت عيناه في ظلمة الصدر، فضعف، وفقد ضوء ذلك النور.
فإذا أراد الله بعبد خيراً، أعطاه حسن الظن، وهو أن يزيده نوراً يقذف في قلبه، ليقوى ذلك النور الذي كان يطوف حول القلب، وتنقشع ظلمة الصدر كسحابة تنقشع، ويصفو ضوء القمر، فهذا حسن الظن من طريق العطاء.
ولذلك قال عبد الله بن مسعود:
((والله الذي لا إله إلا هو! ما أعطي عبدٌ عطاءً هو خيرٌ من حسن الظن بالله تعالى)).
1173 - حدثنا بذلك إبراهيم بن يوسف، قال:(5/223)
حدثنا عبد الواحد بن زيادٍ، عن الأعمش، عن خيثمة، عن عبد الله.
وهو كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من أعطي الشكر، لم يمنع الزيادة، ومن أعطي الدعاء، لم يحرم الإجابة، ومن أعطي التوبة، لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستغفار، لم يمنع المغفرة)).
فإنما صار هكذا؛ لأنه لما أعطي النور، وصل العبد إلى حقيقة الشكر، وحقيقة الدعاء، وحقيقة الاستغفار، ولم يمنع المغفرة، وإنما وعد الله العباد على حقائق أعمالهم، فقال: {ادعوني أستجب لكم}، وقال: {لئن شكرتكم لأزيدنكم}.(5/224)
وإنما وقع هذا على أن يشكره بحقيقة الشكر، ويدعو بحقيقة الدعاء، فإذا أعطي النور، وصل العبد إلى حقيقة الشكر، وحقيقة الدعاء، فأعطي ما وعد عليه، فلذلك قيل لذلك: عطاء.
وقد فسرنا ذلك على وجهه مشروحاً في بابه فيما تقدم من هذا الكتاب، فكذلك حسن الظن، إذا كان عطاء، فإنما يأتيه نور من الله مدداً لذلك النور، فاستنار الصدر، وانقشعت الظلمة، وبرز ما أداه نور التوحيد، وهي حسة القلب إلى الفؤاد أدى ذلك إلى الصدر على الثقة بصنائع ربنا كرماً، وجوداً، ومجداً، وعلى أحسنه وأجمله، فاستقام القلب، فتصور في الصدر صنائع ربنا بالعبد من كرمه، ومجده ولطفه، وعطفه، فاستقرت النفس، واطمأن القلب.
فذلك حسن الظن بالله الذي من طريق العطاء.
فإذا لم يكن من طريق العطاء، فهو النور الطواف حول القلب، فإذا هجست النفس بحسها، والصدر مضيء بذلك النور، جاءت حسة القلب مخبرة عن نور التوحيد بكرم ربنا، ورحمته، وعطفه، وصنائعه، فتصور في ذلك الضوء، واستقرت النفس، وقبلت ذلك، وذلك بمشيئة الله، فإذا كانت مشيئة الله في العبد غير ذلك، وفارت النفس بفور شهواتها، ودخان(5/225)
حريقها، والتفت النور إلى ما جاءت به النفس، فخذلت فغاب ذلك النور في ظلمة هذا الصدر، وبقيت هواجس النفس عاملة على القلب، فقال الله -تبارك اسمه-: ((أنا عند ظن عبدي بي)).
معناه: أن القلوب بيدي، لم أكلها إلى أحد سواي، فأنا عند قلوب عبادي، وعند ظنونهم، فإذا ظن بي حسناً، حققت له ذلك، ولم أخيبه، فإذا ظن بي سيئاً، وكلته إلى سيئ ظنه، وتخليت عنه؛ لأني قد أعطيته من النور في القلب ما يؤدي إلى الصدر، وأعطيته في الصدر ما يضيء له، فيتصور له ما يؤدي القلب إليه، فإنما ضاع ذلك الضوء؛ لقوة ما أتت به النفس من دخان شهواتها، فالعبد ملوم على تقوية الشهوات؛ لأن تقوية الشهوات من استعمالها، فإذا استعملها، فقد قواها، وذلك بمنزلة أتون أو تنور، كلما ألقيت فيه الحطب، ازداد تلظياً ودخاناً، وإذا أمسكت عنه الحطب، انقطع الدخان، وسكنت الحرارة.
ألا ترى إلى قوله: {يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله}، ثم قال: {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}، فنسب الفعل في مبتدئه إلى الأموال والأولاد، فهما يلهيان القلب، ثم قال: {ومن يعمل ذلك فأولئك هم الخاسرون}، فعوقب العبد عليه،(5/226)
ونسب إليه بتركه تعاهد القلب حتى استولت النفس عليه، وألهته عن ذكر الله.
فالظن ظنان:
ظن عطائي: فذلك الذي تستقر عليه النفس، ويطمئن القلب، ويوفي له بذلك، ولا يخيبه.
والظن الآخر: ظن خالطه تهمة، فلم يطمئن القلب، فإن خيب، فغير مستنكر.
قال له قائل: كيف يكون قرار القلب عند ذلك الظن؟
قال: أضرب لكم مثلاً كي تفهموه -إن شاء الله-: رجل خرج في مفازة، وبه حاجة إلى الماء، فوجد على طريق المفازة رجلاً يعرفه باسمه وشخصه، معه ماء، فسقاه ماء، ثم خرج مرة أخرى كذلك، وبه حاجة إلى الماء، فأبصر ذلك الرجل في ذلك المكان من بعيد، فطمع أن يسقيه، بحسن ظنه به، ثم وجد في نفسه حزازة مخافة أن لا يسقيه، فلم يستقر قلبه على حسن الظن به، حتى مازجه بسوء الظن، فعرف هذا الرجل ذلك منه، فخيبه، فكان حقيقاً.
ورجل خرج في مفازة، وبه حاجة إلى الماء، فوجد على طرف المفازة(5/227)
أمه، وبيدها ماء، فسقته، ثم خرج مرة أخرى كذلك، فوجدنا كذلك على طرف المفازة، فلما نظر إليها، لم يجد في نفسه حزازة، وسكنت نفسه إلى علمه برأفة أمه، وتحننها عليه، فلو خرج على هذه الصفة مئة مرة، فوجدها كذلك، لم تحز نفسه، ولم تدخله تهمة في أمه أن لا تسقيه، فذاك لعلمه برأفة أمه، قد اطلعت نفسه على ذلك من رأفتها مطلعاً لو قيل له غير ذلك، لم يصدق، ولم تضطرب نفسه على ذلك منها، فإنما وثق بها من قبل علمه برأفتها به.
فالعبيد الموحدون إنما ظفروا بتوحيده لما أدركتهم رأفته، ورحمته، فوحدوه، ثم مع رأفته ورحمته عليهم، ستر عنهم رأفته ورحمته، ولو كشف عن القلب ذلك الغطاء حتى يعاينوا رحمته ورأفته معاينة اليقين منهم، ومعهم شهواتهم التي ركبت فيها، إذاً لاستبدوا، وجمحت بهم شهواتهم، فركبوا العظائم من الأمور، وضيعوا الحدود، فإذا ضيعوا الحدود، فسد التدبير في معاشهم، وخلق النار لأعدائه، ثم أشاع في المؤمنين خبرها ووصفها، كي يكون زجراً لنفوسهم، وقمعاً لشهواتهم، وستر عنهم الرأفة والرحمة التي ينالونها بحظوظهم منه، كي لا يستبدوا ويفسدوا.(5/228)
فمن أدب نفسه، وقمعها، وراضها، ورفض شهواتها، انكشف الغطاء عن قلبه، فبالمعرفة استنار قلبه، ونظر إلى رأفته، ورحمته، وعطفه، وشفقته لم يكن بقي في نفسه من قوة الشهوة ما يستبد، ويجمح على حق الله تعالى، ففي النوائب يحسن ظنه بالله، ثم لا يحيك في نفسه شيء لمعرفته برأفته ورحمته، فاستقر قلبه، فهو الذي يقول له: ((أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)).
معناه: أنه يجدني قريباً وفياً بما أمل ورجا، وإنما يحسن ظن من انفرد له بين يديه، وأعرض عن نفسه، ورفع عنه بالها، وانكشف له الغطاء عن رأفته ورحمته، فاستقر قلبه، والآخر صاحب شهوات، واشتغال بنفسه، لو انكشف له الغطاء عن رأفته عليه، لأفسد أمره، وضيع حدوده، وركب شهواته، واستبد، واجترأ، فستر رأفته عنه، حتى يكون في مخافة وحذر.
ألا ترى أن الأنبياء -صلوات الله عليهم- لما سكنت شهواتهم، وماتت نفوسهم، وحييت بالله قلوبهم، بشروا بالنجاة، وبشر رسولنا صلى الله عليه وسلم بالمغفرة؛ للزائد من الخوف له من الله، والهيبة له والتعظيم، فلم تضره البشرى، بل زاده ذلك حتى تورمت قدماه من القيام بين يدي الله تعالى؛(5/229)
شكراً لله تعالى، فأثقال المنة عملت فيه حيث من الله عليه بالبشرى ما لم تعمل قبل ذلك في غيره.(5/230)
الأصل الرابع والثلاثون والمئتان
1174 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن ثابتٍ، عن أنسٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً: ((هل تدرون من المؤمن؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((المؤمن من لا يموت حتى يملأ الله مسامعه مما يحب، ولو أن عبداً اتقى الله في جوف بيتٍ إلى سبعين بيتاً، على كل بيتٍ بابٌ من حديدٍ، ألبسه الله رداء عمله حتى يتحدث الناس به، ويزيدون))، قالوا: وكيف يزيدون يا رسول الله؟ قال: ((إن التقي لو يستطيع أن يزيد في بره، لزاد، وكذلك الفاجر يتحدث الناس بفجوره، ويزيدون؛ لأنه لو يستطيع أن يزيد(5/231)
في فجوره، لزاد)).
وكان ثابت إذا حدث بهذا الحديث يقول: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((نية المؤمن أبلغ من عمله)).
1175 - حدثنا عمر بن أبي عمر، عن نعيم بن حمادٍ، عن عبد الوهاب بن همامٍ الحميري، قال: سمعت أبي يقول: سمعت وهباً يحدث، عن ابن عباس: أن رجلاً قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما أفضل العمل؟ قال: ((النية الصادقة)).
1176 - حدثنا عمر،، عن عمر بن عمرٍو الربعي، عن ابن جريجٍ، قال: قلت لعطاءٍ: ما نية المؤمن خيرٌ(5/232)
من عمله؟ قال: لأن النية لا يكون فيها رياء فيهدرها.
1177 - حدثنا عمر، عن فهد بن سلامٍ، عن يزيد، عن مالك بن دينارٍ، قال: رأيت رجلاً بمكة يقول: اللهم كما قبلت حجاتي الأربع، فاقبل هذه الحجة، فتعجبت منه، وقلت: كيف علمت أن الله قبلها منك؟ قال: أربع سنين كنت أنوي كل سنة أن أحج، وعلم من نيتي، وحججت من عامي، فأنا خائفٌ أن لا يقبل مني، قال مالك: فيومئذ علمت أن النية أفضل من العمل.
قال أبو عبد الله:
وجدنا من طريق الاعتبار عندما مثلنا بين النية والعمل: أن العمل منقطع، والنية دائمة، وتصديقه في حديث ثابت عن أنس.
والعمل علانية، والنية سر، وتصديقه في حديث عطاء.(5/233)
أعمال السر مضاعفة، والعمل سعي الأركان إلى الله، والنية سعي القلوب إلى الله تعالى، والقلب ملك، والأركان جنوده، ولا يستوي سعي الملك، وسعي جنوده، والعلم يوضع في الخزائن، والنية عنده؛ لأنه الذكر الخفي، والعمل موقوف على نهايته، والنية لا تحصى نهايتها، والعمل تحقيق الإيمان وإظهاره، والنية فرع الإيمان بمنزلة الشجرة؛ لأن الشجرة هي خشبة منصوبة، فبظهور ورقها هي شجرة، وليس للورق ثمر، إنما هي زينة الشجرة، والثمرة من الفرع، والفرع سقياه من الأصل، وذلك قول الله -تبارك وتعالى- في كتابه: {كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء}، فالأصل هو الإيمان الذي في القلب، والنية هي فروعها في السماء، والعمل هو الأكل: {تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها}، والعمل موكل به الحفظة، والنية لم يطلع عليها الحفظة، والعمل في ديوان الملائكة، والنية في ديوان الله.
ألا ترى إلى قوله: ((أنتم حفظةٌ على عبدي، وأنا رقيبٌ على ما في نفسه)).(5/234)
والعمل الواحد لا يعدو نفس ذلك العمل، ولا ينتظم غيره، والنية تنتظم بالأعمال، والعمل ثوابه من الجنة، والنية ثوابها من منازل القربة، والعمل أجناس لا يشبه بعضها بعضاً، فلا يقدر العبد أن يعمل عملاً ينتظم جميع الأعمال، والنية تشمل الأشياء، وذلك إذا نوى بلوغ مرضاته، فمرضاته جميع الطاعات، فهو في ذلك الوقت كأنه قد أخذ يعبده بالطاعات كلها، فهو كالعامل بجميع الطاعات، وهذه النية كلها للصادقين من عمال الله يحتاجون إلى نية في كل أمر؛ لأن قلوبهم مع الأشياء، فيحتاجون إلى أن ينووا إلى الله عند مبتدأ كل أمر.
وكذلك جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات))، وقال: ((لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسنة له)).
وأصل النية من طريق الإعراب هو النهوض بقول ما ينوء؛ أي: نهض ينهض، فإذا كان القلب في حبس النفس، فإنه يحتاج إلى النهوض إلى الله عند مبتدأ كل أمر، وهو الإرادة والقصد إليه، وإذا تخلى القلب من حصار النفس، فصار إلى الله، وتعلق به، وجيء به، فمحال أن يقول: نهض إليه؛ لأنه عنده، ولا يحتاج إلى نية، هو في كل أموره عند ربه، فقد سقط عنه(5/235)
هذا النظر، وهذا عنده محال بعد أن استقام لله قلبه عبودة، وقام بين يديه، فهذا دائم له في كل حالة.(5/236)
الأصل الخامس والثلاثون والمئتان
1178 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصابه الرمد، أو أحداً من أهله، أو من أصحابه، دعا بهؤلاء الدعوات: ((اللهم أمتعني ببصري، واجعله الوارث مني، وأرني ثأري فيه، وانصرني على من ظلمني)).
قال أبو عبد الله:
فالمتعة بالبصر: استعماله فيما له ركب في العين، فإن الله -تبارك(5/237)
وتعالى- جعل البصر من هذا الجسد بمكان علي، ومحل رفيع.
ألا ترى أنه قد جاء في الخبر: ((إن العبد يؤخذ يوم القيامة بنعمة البصر، فيوجد قد استفرغ جميع حسنات العبد، وبقي سائر النعم عليه مع التبعة)).
ومن رفيع درجة البصر على سائر الجوارح: أنه به ينظر إلى الله في داره يوم الزيادة، وبه يلذ تنعماً برؤيته، فمن يقدر أن يحيط بكنه هذه المرتبة؟ وبه ينظر إلى العبيد في الدنيا، فالعين قالب البصر، والبصر من نور الروح، ولكل ذي جسم لطافة، والروح مسكنه في الدماغ، ومقامه في الوتين، وهو نياط القلب، ثم هو متفشٍّ في سائر الجسد، من الظفر إلى شعر الرأس، فنفخ فيه الروح من طرف إبهامه في المبتدأ، ثم يخرج منه عند القبض من طرف لسانه؛ لأنه -تبارك وتعالى- اسمه رفع درجة(5/238)
اللسان على سائر الجوارح بالتوحيد، فبه يظهر ما في القلب.
وروي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: أنه قال: ((ما من شيءٍ أحب إلى الله من بضعة لحمٍ، وذلك لسان المؤمن، وما من شيءٍ أبغض إلى الله من بضعة لحمٍ، وذلك لسان الكافر)).
فجعل سبيل الروح عند خروجه من طرف لسانه؛ ليكون آخر الجوارح موتاً، فتكون حركة لسانه عند خروج الروح منه بالتوحيد، فإن التوحيد والحياة مع العقل والمعرفة، وبالحياة يتحرك، وكما أن النفس قالب للروح، فكذلك الروح قالب للحياة، فإذا خرج الروح، كان ما لطف منه، باقياً مع الحياة والمعرفة والعقل، فبالحياة حركة لسانه، والمعرفة والعقل معه، فيمتلئ الجسد من تلك الحركة نوراً يصعد بذلك النور ما لطف من الروح إلى الله، فيلحق بما خرج منه من المتجشم.
ألا ترى أن الميت قد تراه يهدأ ساعة بعد اضطراب شدقيه،(5/239)
وخروج الروح، حتى تظن أنه لم يبق شيء، ثم تجده يحرك لسانه، ويتحرك بعض جوانب شدقيه، فذاك الباقي ما لطف من روحه، يلتمس من المؤمن نوراً من ذكر في نفسه ربه بباقي الحياة والعقل والمعرفة، فالروح نور، والعقل نور، والمعرفة نور، ولكل نور بصر، (وللعقل بصر)، والمعرفة بصر، وبصر العقل متصل ببصر الروح، ولطافة الروح ما رق منه وصفا، فهو في العين، فإذا نظر الناظر إلى حدقة عين، أبصر تلك الرقة واللطافة في الحدقة في ذلك السواد، فتلك لطافة الروح كالماء، وبصر الروح في تلك الإنسانة التي في الحدقة، فذلك النور المشرق فيه، فهو بصر الروح، والضوء من خارج، وإدراك الألوان من بين هذا النور الذي في الإنسانة، وبين هذا الضوء الذي من خارج، وإدراك الألوان من بين هذا النور الذي في الإنسان، وبين هذا الضوء الذي هو خارج، ضوء نهار كان أو ضوء سراج بالليل، وحين لا يجتمعان، لا يدرك الناظر بعينيه الألوان، فهذا لعامة الآدميين.
ثم خص الموحدون من ولد آدم عليه السلام بأن أرواحهم من النور أصله، وأرواح الكفار من نار، ليس للكافر عقل، فخلص الموحد بالعقل، فاجتمع نور التوحيد، ونور العقل، ونور الروح في تلك الإنسانة، فإن لكل نور بصراً، فاجتمعت هذه الأسرار في هذه الإنسانة المركبة في هذه(5/240)
الحدقة، فبها يبصر العبد نور الدنيا، وسهل له أمور الآخرة، ثم خص الأولياء من الموحدين بنور القربة، ولذلك النور أيضاً بصر، فالنور في القلب، وبصره في بصر العين؛ فبقوة ذلك يتفرس، والفراسة هي شبيهة بالغيب.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه دخل عليه الأشتر في زمانه من قبل أن يظهر منه ما ظهر يوم الجمل وصفين، قدم على عمر في وفد اليمن، فصعد فيه البصر وصوبه، فقال: أيكم هذا؟ قالوا: هذا مالك بن الحارث، فقال عمر: ما له قاتله الله؟! كفى الله أمة محمد شره، إني لأحسب أن للمسلمين منه يوماً عصيباً.
1179 - حدثنا بذلك يعقوب بن شيبة، ثنا بشر بن موسى، ثنا يزيد بن زريعٍ، عن شعبة، قال: أنبأني عمرو ابن مرة عن عبد الله بن سلمة، قال: دخلنا على عمر رضي الله عنه.
فذكر ما وصفنا، فظهر الذي قال عمر، وتفرس فيه بعد عشرين سنة، أو نحوه، فإنما نظر إليه عمر بعينه، فأبصر بالنور الذي أشرق من نور القربة في إنسانة العين ما كان بعد عشرين سنة أو نحوه.
ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)).(5/241)
1180 - حدثنا بذلك إبراهيم بن عبد الحميد الحلواني، ثنا عبد الله بن صالحٍ المصري، ثنا معاوية بن صالحٍ، عن راشد ابن سعدٍ، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فليس هذا نور الروح، ولا نور العقل، إنما هذا نور الله من القربة، له إشراق في إنسانة أعين أولياء الله، وذلك قوله في كتابه: {إن في ذلك لآياتٍ للمتوسمين}.
1181 - حدثنا صالح بن محمدٍ، ثنا محمد بن مروان، عن عمرو بن قيسٍ الملائي، عن عطية، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((للمتفرسين)).
1182 - وحدثنا عبد الأعلى بن واصلٍ الكوفي، ثنا سعيد بن محمدٍ الجرمي، ثنا عبد الواحد بن واصلٍ، ثنا أبو بشرٍ المزلق، عن ثابتٍ البناني، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)).(5/242)
وروي عن الحسن البصري: أنه دخل عليه عمرو بن عبيد، فقال: هذا سيد فتيان البصرة إن لم يحدث، فكان من أمره ما كان حتى هجره عامة إخوانه.
وروي عن جندب بن عبد الله البجلي: أنه أتى على رجل يقرأ القرآن، فوقف فقال: من سمع، سمع الله به، ومن راءى، راءى الله به، فقلنا له: كأنك عرضت بهذا الرجل؟ فقال: إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم، ويخرج غداً حرورياً، فكان رأس الحرورية، واسمه: مرداس.
1183 - حدثنا بذلك صالح بن محمدٍ، ثنا الربيع بن بدرٍ، عن الجريري، عن أبي تميمة، وسيار بن سلامة، عن خالدٍ الأحدب ابن أخي صفوان بن محرزٍ، عن جندبٍ البجلي.
فالفراسة أمر جليل من أمور الغيب خص بها الأولياء، ينظرون بنور الله إلى سمات القدرة على عبيد الله في الغيب، فتوسمهم: نظرهم ببصر ذلك(5/243)
العين الذي اتصلت الأبصار فيها بعضها ببعض، وغشيها نور القربة، فيدركون سمات القدرة والتدبير، فيتحيرون بالعجائب، فهذا بصر للأولياء، ثم للأنبياء -عليهم السلام- زيادة نور في أبصارهم، وهو بصر النبوة، ثم للرسل -عليهم السلام- بصر الرسالة، ثم لرسولنا -عليه الصلاة والسلام- بصر قيادة الرسل وسيادتهم، وذلك أنه سيد المرسلين وقائدهم، فاجتمعت هذه الأبصار كلها له في إنسانة تلك الحدقة من عينه صلى الله عليه وسلم.
فروي عنه أنه قال: ((ليلة أسري بي رأيت من العلا الذرة تدب على وجه الأرض من سدرة المنتهى))؛ لاحتداد بصره.
فكان يقول: ((اللهم أمتعني ببصري)).
فالإمتاع بالبصر: أن ترى هذه العجائب التي ذكرنا من تدبير الله في أمور الدنيا والآخرة، وترى كل شيء كما خلقه الله.
بلغنا: أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- قال: يا رب! أرني الأشياء كما خلقتها.
فمن يقدر أن يرى هذا إلا بأمر عظيم في ذلك العين الذي كان قالباً للروح، فسأله الإمتاع ببصره؛ ليتقرب إلى الله بما ينظر إليه من العبر.
ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وأنبتنا فيها من كل زوجٍ بهيجٍ}، أي: من كل لون بهيج، ثم قال: {تبصرةً وذكرى لكل عبدٍ منيبٍ}.
فوصف الله تعالى نبات الأرض وألوانها بالبهجة، فأين البهجة من(5/244)
قلوب العباد عند نظرهم إلى هذه الألوان؟ هل هو إلا سخنة عيونهم؟ وكيف لا تسخن عيونهم، وهم عميٌ عن لطائف الله، وبره وتدبيره ورحمته؟.
فلو نظر العبد إلى ورقة؛ لحار عقله فيها من العجائب التي في تلك الورقة؛ في رطوبتها، ولونها، وطعمها، وريحها، وقشرها، ولبها، ومقدارها، وتقطيعها، وهيئتها، ونقوشها، وتخطيطها، واللطف الذي حواها على هذه الصفة، هذه ورقة واحدة، فكيف بالثمرة؟ ثم كل شجرة لها ورق لا يشبه الأخرى.
فللمؤمن في هذا البصر بهجة، وأن تكون البهجة للمنيب، والمنيب الذي قد أناب بقلبه، فأقبل على الله، وفرغ قلبه لله من حشو الدنيا، وطهر قلبه من أدناس المعاصي، وكدورة الأخلاق، وفضول الدنيا، فقربه ربه وأدناه، ونقى قلبه بنوره، فاحتد بصره في خلقه، وفي صنعه وتدبيره، والمكب على نفسه في خلوٍّ من هذا الأمر إنما به شغل نفسه ماذا ينال منها من عاجل النفع أكلاً وتمتعاً واعتداداً؛ لما فضل منه؛ حرصاً على الدنيا، وجمعاً لها، قد اتخذ لنوائبه عدة دون الله، واعتمد عليه، كما وصف الله في تنزيله أعداءه فقال: {واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً. كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً}.
فهذه الطبقة من الموحدين قد شبهت سيرتهم، أولئك [الذين] حرصوا على جميع ما نالوا من هذه الدنيا، فاستولت عليهم بهجة النفوس؛ لينالوا بها عزاً، فجمعوا ومنعوا، ولهوا وسهوا، وقد تقدم إليهم فقال: {يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادهم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.(5/245)
فوقعوا في الخسران، وحرموا رؤية البهجة، فصار عاقبة أمرهم إلى الخسران والكفران، وقال في تنزيله: {أحسن كل شيءٍ خلقه}.
ثم وصف على إثرة خلق الإنسان، ثم ذكر أنه أعطاه السمع والبصر والفؤاد، ثم نسبه إلى قلة الشكر، يعلم العباد أنه إنما خلق ما في الأرض جميعاً لهذا الآدمي بقوله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً}.
وأنه أحسن كل شيء خلقه؛ لتنظر إلى خلقه الذي خلقه لك، وتعقل بقلبك، وتبصر بفؤادك حسن كل شيء في باطنه، وقلدك شكر ذلك كله، فإذا أظلم صدرك، غابت عنك رؤية حسن الأشياء، وافتقدت البهجة؛ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتعه ببصره الذي به ينال هذه الأشياء، وأن يجعله الوارث منه؛ أي: يختم له بالنبوة والتوحيد والعقل، وأن لا يسلبه ذلك؛ فيكون بحال إذا خرج الروح منه كان الذي يرثه بصره الذي اجتمعت فيه هذه الأبصار.
فإن الروح إذا خرج، فإنما يخرج المتجشم منه أولاً، ثم ما لطف منه، وكذلك كل شيء في وعاء إذا صببته؛ فإنما يخرج منه المتجشم منه، ثم ما لطف يبقى بدقته ورقته على الوعاء، فكذلك الروح لما خرج، فإنما لطافة الروح في العين، ثم البصر في تلك اللطافة ألطف منه؛ فهي تنتظم هذه الأبصار التي ذكرنا بدءاً.
1184 - حدثنا عبد الجبار، ثنا سفيان، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الروح إذا فارق الجسد، تبعه البصر، ألا ترى إلى(5/246)
شخوص عينيه)).
1185 - حدثنا صالح بن محمدٍ، ثنا داود بن عبد الرحمن المكي، عن ابن أبي ذئبٍ، عن ابن شهابٍ، عن قبيصة بن ذؤيبٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الروح إذا عرج به، يشخص البصر)).
فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتعه أيام حياته حتى يتوسم فيه آيات الله التي ذكرها في تنزيله، فقال: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين}، فينظر به إلى سمات القدرة، ويكون ممن يعبد الله بكل نظرة، فإنما أعطي العباد هذه الأبصار؛ ليعبدوا الله بها، لا ليتمتعوا بها تمتع الكفار.
ألا ترى إلى قوله: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم}، وقال: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}.(5/247)
فالمؤمن يتزود في جميع نظره وسعيه وعقله، والكافر يتمتع، فإذا نظر بعين الغفلة والشهوة، كان تمتعاً، وإذا نظر بعين العبرة والفكرة في أمر الله، كان تزوداً يتقرب إلى الله به، ويتزود لآخرته.
فالأول: عبد بطال شهواني عبد نفسه.
والثاني: عبد ذا كبر كثير، يتقلب في العبودة، فعارٌ على المؤمن أن يأخذ من الدنيا على التمتع أشراً وبطراً.
فالعاقل المنتبه كلما نظر إلى شيء، ازداد علماً، وكان بصره في رأس ماله، والمزيد من العلم ربحه، وإنما استعمل تلك الآلة التي ركب فيها، والنور الذي استقر في الآلة.
ألا ترى إلى ما جاءت به الأخبار، وأن النظر إلى البحر عبادة، والنظر إلى العالم عبادة، والنظر إلى الكعبة عبادة، والنظر إلى وجه الأبوين عبادة، فإنما صارت عبادة؛ لأنه عبد الله بتلك النظرة، نظر إلى البحر، بعين: القدرة إلى سعته وعرضه وأهواله، وعظيم ما أعطي من السلطان، وحفظ حده الذي حد له، فلم يجاوزه، فاعتبر ونظر إلى العالم، وإلى ما ألبس من نور العلم، فأجله، ووقره في ذاته، ونظر إلى الكعبة، فتلذذ بها شوقاً إلى ربها، ونظر إلى أبويه؛ فذل لهما، ورق وأشفق شكراً لتربيتهما إياه، وتعظيماً لحرمتهما.
وقد كان السلف الصالح يستمعون إلى النوح، وهذا أمر منهي عنه؛ يلتمسون بذلك رقة قلوبهم، ومنهم من يستمع إلى المزمار، وهذا أمر منهي عنه؛ يعتبر بذلك لنفخ الصور.
بلغنا ذلك عن محمد بن المنكدر.
فكانوا لا يرضون بذلك من فعلهم، ويحتظون من أفعالهم الاعتبار بذلك.(5/248)
وبلغنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع نعيق راعٍ بغنمه، وهو ينفخ في قصبة، فخرج يجر رداءه فزعاً، يظن أن القيامة قد قامت، وذلك أنه قد قيل: {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريبٍ}، فظن أنها تلك.
فسأل الإمتاع ببصره كي يعتبر.
ثم قال: ((واجعله الوارث مني)) لم يقل: واجعله وارثي، ولو كان هكذا؛ لكان يقول: فصلاً بين خروج الروح وخروج البصر، فإنه إنما يرثه من خلفه، ولكنه قال: ((اجعله الوارث مني)).
أي: اجعل بصري آخر ما يخرج مني، فتكون قد ختمت لي بالنبوة والسعادة، فيكون بصري هو الوارث لجوارحي من بين جوارحي؛ فإن هذه الأبصار قد اجتمعت في هذا البصر، فإني إن سلبتني النبوة والعقل والتوحيد، كان آخر ما يخرج مني لطافة الروح، وهو بصر العين فقط، وقد سلبتني قبل ذلك تلك الأبصار التي اجتمعت في ذلك البصر، وذلك لا يغني عني شيئاً؛ لأن نور الروح لا يعمل شيئاً دون نور العقل، والنبوة إذا كانت المعرفة مع نور العقل، فالسعيد من قبض روحه، وكان آخر ما يخرج منه بصر روحه فقط.
فلذلك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمتاع ببصره؛ أي: يديم له ذلك إلى أن يفارقه روحه، وكان آخر ما يخرج منه بصره؛ لأنه كان متصلاً ببصر العقل، وبصر التوحيد، وبصر الولاية، وبصر النبوة، وبصر الرسالة، وبصر القيادة، حتى يكون ذلك ختاماً لأمره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمن من مكر الله، ولا يقنط من رحمة الله، فإنما آمن بعد ما أمن، وبشر بالمغفرة بما كان ويكون، ووضع عنه وزره، فأما في بدء الأمر، فكان يخاف، وكيف لا يخاف وهو الذي يقال له: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}.(5/249)
وقيل له: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك}، وقيل له: {فإن يشأ الله يختم على قلبك}، وقال: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.
فجرت هذه الدعوة على سبيل ما هو ماضٍ إليه؛ حتى إذا بشر بأن قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطاً مستقيماً، أمن، وهذا في آخر عمره.
ولهذه الدعوة وجه آخر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يثقل عليه شأن هذا الملك كاتب السيئات، وقد علم أنه لابد له من أن يرفع ما كتب إلى الله، فهاب ذلك؛ لتعظيم عظمة الله في قلبه، وإجلاله لجلاله، فكان يشتهي أن يكون آخر من يكون مصيره إلى الله كاتب السيئات؛ حتى تكون على مقدمته حسناته، وكاتب حسناته، وخليفته الروح، وبقي لتلك اللطافة التي ذكرنا بدءاً.
فإن السمع والبصر من تلك اللطيفة، فأحب أن يكون الخليفة منها السمع والبصر، وإرثه الذي يرثه، لا الملك الذي يكتب السيئات، فيكون خروج الروح على إثره، ووارثه، وهو خليفة الروح، وهي اللطافة، ثم هذا [ن] الملكان: كاتب الحسنات، وكاتب السيئات، فيكون الذي يؤديه خليفة الروح بعد خروج الروح، والاشتياق إليه قبل مقدم كاتب السيئات على الله تعالى.
وفي بعض الروايات: ((اللهم متعني بسمعي وبصري)).(5/250)
فإنما قرن السمع والبصر؛ لأن السمع أيضاً من لطافة الروح، فإنما يحمل السمع أخف الأشياء، وهي الصوت، والريح ذرو الكلام، كلاهما من شيء واحد.
وأما قوله: ((أرني ثأري فيه)).
أي: في البصر، والثأر: النصرة والانتقام، كأنه يقول: أرني ببصري هذا ما يكون في أمتي إلى آخر الدهر من النصرة لما جئت به؛ فاستجيب له، فأري ملك فارس والروم، وأري الصديقين في أمته، ومنازلهم، والحكماء، والعلماء، والأئمة الهادية بالحق، والقائمة بالعدل، وعرضت عليه الفتن التي هي كائنة في أمته، ثم أري الرحمة التي عمتهم، حتى قال: ((أمتي مرحومةٌ، عذابها بأيديها: القتل والزلازل)).
وأما قوله: ((انصرني على من ظلمني)).
فإن ظلم الرسول صلى الله عليه وسلم: أن يكذب، وأن ينفى عنه منة الله العظيمة عليه في شأن النبوة، فليس هذا ظلم النفس، ولا ظلم المال، إنما ظلمه في أعظم الأشياء؛ حيث برأه من سمة الله، ونفى عنه منة الله، ووسمه بالكذب؛ فسأله إظهار حقه الذي جاء به من عنده؛ حتى يغلبه وينصر حزبه، فتكون كلمة الله هي العليا، وحقه الغالب، وحزبه المنصور، فقد قال: {وكان(5/251)
حقاً علينا نصر المؤمنين}.
فكانت تلك نصرة النبوة، فإنما كان يستعدي على من ظلمه في نبوته، لا على من ظلمه في ماله أو عرضه، فكان المستعدي عليه على أحد أمرين: إما أن يهديه الله، وإما أن يقتله.(5/252)
الأصل السادس والثلاثون والمئتان
1186 - حدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، ثنا عمر بن حفص بن غياثٍ، ثنا أبي، عن الحجاج بن أرطأة، عن قتادة، عن شهر بن حوشبٍ، عن عبد الرحمن بن غنمٍ، عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو خفتم الله حق خيفته، لعلمتم العلم الذي لا جهل معه، ولو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال)).
قال أبو عبد الله:
فحقيقة الخوف لمن وصل قلبه إلى فردانيته، فامتلأ من عظمة الفردية فيه يعقل الأشياء، بهت في جلاله، فأينما وقع بصره على شيء، وأينما دارت فكره، واطلعت نفسه تلك المطالع، علم العلم الصافي الذي لا يمازجه شبهةٌ، ولا جهلٌ، بمنزلة الشمس إذا أشرق على أهل الدنيا، فضوءه يريك الأشياء كلها، من اللون والهيبة والمقادير، فحيثما وقعت من بلاد الله،(5/253)
فضوءه، معك يريك الأشياء؛ حتى لا يخفى عليك منه شيء، فإنما تمت لك هذه الرؤية بعموم إشراقه على الأشياء كلها، فكذلك شأن القلب، إذا كمل علمه، أشرق نور الله في صدره، وذلك الضوء يريك أمور الملكوت، وأمور الدنيا والآخرة، فذلك قوله: ((لعلمتم العلم الذي لا جهل معه)).
فإنما نال هذا العلم بنور الخوف، ونور الخوف: هو ما أشرق في صدره من نور عظمة الفردية، فخاف حق خيفته، وعلم العلم الذي لا جهل معه؛ لأنه يريك ذلك النور باطن الأمور والأسرار التي في الغيوب التي خص الله بالكشف عنها الأنبياء والأولياء.
وأما قوله: ((لو عرفتم الله حق معرفته)).
فحق المعرفة: أن تعرفه بصفاته العلا، وبأسمائه الحسنى معرفة يستنير قلبك بها، فإذا عرفته بذلك؛ كان دعاؤك عن معرفةٍ، وحسن ظن به، وقد قال: ((أنا عند ظن عبدي بي)).
والكريم يستحيي أن يعرف بشيءٍ، ثم لا يكون من ذلك الشيء منه نوالٌ، فما ظنك بعبدٍ يعرف ربه بالكريم، ثم يدعوه فيقول: يا كريم! هل يخيب العارف له بذلك، وقد عرفه بالكلام معرفة يقين، لا معرفة خبر وعلم؟ وقد عرف الموحدون كلهم أن ربهم كريمٌ، ولكن تلك معرفة التوحيد، لا معرفة أهل اليقين.
ألا ترى أنهم يعاملونه معاملة اللئام، ولا يأتمنونه على أحوالهم، من ائتمن الله على أحواله، لم يتخير الأحوال، وألقى مفاتيح الأمور إليه، حتى(5/254)
يكون الله هو الذي يختار له.
فإذا اختار له ما تكره نفسه، ويثقل عليها، راض نفسه، وأدبها، حتى إذا اختار الله له ذلك، اهتش إلى المكروه، كما يهتش إلى المحبوب؛ ثقةً به، وتفويضاً إليه، فهؤلاء الراضون عن الله، {رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهر خالدين فيها أبداً}، {رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه}، فهم أهل الخشية.
والذين عرفوه بالكرم معرفة التوحيد، يتخيرون الأحوال، فيهربون من الفقر والذل، ويختارون لأنفسهم أحوال المحبوب، ويطلبونها، ويدبرون لأنفسهم أموراً، فمنها ما يقضى لهم، ومنها ما لا يقضى، فإذا جاءهم المكروه من الأمور، وذلك له صنعٌ من الله جميلٌ، رأيت له نفساً دنيةً لئيمةً وخلقاً شكياً، وظناً سيئاً، فلا يزال ذلك السوء يتردد في صدره حتى يتكدر عليه عيشه، فإن كان صاحب تقوى، اتقى الله بجوارحه وصدره بهذه الصفة، وإن خذل، فترك تقواه، خرج ذلك من صدره إلى الجوارح، فافتضح عند الملائكة، وعند عقلاء خلقه في أرضه.(5/255)
الأصل السابع والثلاثون والمئتان
1187 - حدثنا يحيى بن المغيرة بن سلمة المخزومي، ثنا ابن أبي فديكٍ، عن يزيد بن عياضٍ، سمع معن بن محمدٍ الغفاري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)).
1188 - حدثنا عمرو بن علي الصيرفي، ثنا عمر بن علي بن مقدم، ثنا معن بن محمدٍ الغفاري، قال: سمعت حنظلة بن علي الأسلمي يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم بهذا الوادي يقول: ((الطاعم الشاكر كالصائم الصابر)).(5/257)
وقال: ((الصوم لي وأنا أجزي به)).
قال أبو عبد الله:
فقوله: ((الصوم لي)) هذا فيما يحكي عن مقالة ربه، وقد جاءت أحاديث فيها: أنه قال: ((قال ربكم: الصوم لي)).
فالأعمال كلها لله، وإنما صار الصوم مختصاً من بين الأعمال بأنه نسبه إلى نفسه؛ لأن الصوم ليس بعمل الأركان فتكتبه الحفظة، ويصير علانية، ولكنه سرٌّ فيما بينه وبين ربه، وهو أن يعزم على أن يكف عن الطعام، والشراب، ومباشرة النساء إلى الليل.
فهذا يسمى: صوماً، وفي اللغة السائرة: إذا كف عن شيء، يقال: صام عنه، ومنه قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوماً}؛ أي: صمتاً، فإنما صار الكف عن الكلام لها صوماً؛ أي: صمتاً؛ لينطق عيسى عليه السلام بحجة الله حين أنطقه في المهد صبياً.(5/258)
فالصائم كل ساعة يتردد فيه شهوة من طعام، أو شراب، أو غير ذلك مما هو ممنوع، فرد شهوته، وتجرعت نفسه مرارة الرد، فهو صابر، يتجدد عليه الصبر ساعة بعد ساعة.
فلذلك قال: ((الصائم الصابر)).
لأنه يتجدد عليه الصبر عند تحرك كل شهوة في نفسه، ومنع منها، فهو يؤديها، ويثبت على الوفاء بنذره.
فلذلك قال: ((هو لي، وأنا أجزي به)).
لأن الحفظة لا تعلم ذلك، ولا تطلع عليه، إنما ذلك بينه وبين ربه، وخفي على الحفظة أن يعلموا جزاءه، ومقدار ثوابه، فولي الله ذلك لعبده؛ لأنه كلما ترددت شهوة، تجددت للعبد عزمةٌ على الثبات، فله بكل عزمة ثواب جديد.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نعمةٍ، وإن تقادم عهدها، فذكرها العبد، فحمد الله عليها، إلا جدد الله له ثواب شكرها كيوم شكره، وما من مصيبةٍ، وإن تقادم عهدها، فذكرها العبد، فاسترجع، إلا جدد الله له ثوابها كهيئة يوم أصيب بها)).
فللصائم بكل عزمةٍ في ساعات يومه استئناف صبر، وقال الله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ}، فقد خرج هذا من عمل الحفظة وإدراكهم.
ولذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الأعمال كل حسنةٍ(5/259)
بعشر أمثالها إلى سبع مئةٍ، إلا الصوم، فإنه لا يعلم ثواب عامله إلا الله)).
1189 - حدثنا نصر بن يحيى، ثنا سعيد بن سليمان، ثنا أبو عقيلٍ، ثنا عمر بن محمد بن زيدٍ، عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأعمال عند الله سبعةٌ: عملان موجبان، وعملان بأمثالهما، وعملٌ بعشرة أمثالهما، وعملٌ بسبع مئة ضعفٍ، وعملٌ لا يعلم ثواب عامله إلا الله، فأما الموجبان: فمن لقي الله يعبده مخلصاً، لا يشرك به شيئاً، وجبت له الجنة، ومن لقي الله قد أشرك به، وجبت له النار، ومن عمل سيئةً، جزي بمثلها، ومن أراد أن يعمل حسنةً، ولم يعملها، جزي بمثلها، ومن عمل حسنةً، جزي عشراً، ومن أنفق ماله في سبيل الله، ضعفت بسبع مئةٍ، فالدرهم بسبع مئةٍ، والدينار بسبع مئةٍ، والصيام الذي لا يعلم ثواب عامله إلا الله)).(5/260)
فالموجبان هما: الإيمان والشرك، فإنما ذكر مخلصاً؛ لأنه قد يكون مؤمن مشرك.
ألا ترى إلى قوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}، ليس من مشرك فيها، إلا وهو يعرف ربه معرفة الفطرة، ويؤمن به، ثم يجد العدو إليه سبيلاً، فيغويه حتى يشرك به؛ لأنه لم يمن عليه بمعرفة التوحيد.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال ربكم: خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي)).
فإنما قال: ((من لقي الله يعبده مخلصاً))؛ أي: لقيه بإيمان خالص، لا شرك فيه لأحد، فهو موجبه للجنة، ثم من قبل وصوله إلى الجنة حساب بالأعمال التي هي وفاء الإيمان.
وأما قوله: ((عملان بأمثالهما)).
فصير السيئة مع إرادة الحسنة؛ لأن إرادة الحسنة هو عمل القلب وحده، لم تنحط تلك الإرادة إلى النفس فتقهرها، حتى تستتم الجوارح ذلك العمل؛ لأن الجوارح هي للنفس، والنفس غالبة عليها.
ألا ترى أنها إذا خرجت النفس في حال منامها، ذهب السمع والبصر واللسان، وقوة كل شيء من جوارحه، فالحسنة الواحدة قد اشترك فيها مع(5/261)
القلب تسعة: الروح، والنفس، والجوارح السبعة اللاتي أخذ عليهن العهد والميثاق، وألزمت التزكية بالأعجمية، فحسب له بعشر أمثالها، والسيئة اشترك فيها التسعة، فأنكر القلب.
فالروح، والنفس، والجوارح، عوامل بتلك السيئة، والقلب منكر لذلك بما فيه من الإيمان، فبالإنكار له حسبت له بواحدة، ووجدنا أعمال العباد على ثلاث منازل، فحسنة بعشر أمثالها، ذلك للعامة، وقد بين ذلك في تنزيله فقال: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، فعم الجميع بقوله: {من جاء}.
فدخل فيه أهل التخليط من الموحدين.
ومنزلة أخرى: الحسنة فيها بسبع مئة، وذلك للصادقين؛ لأن أبدانهم قد صارت سبيلية، فكل حسنة إنما خرجت من بدن عليه سبع جوارح، فحسبت له كل حسنة بسبعة، ثم ضوعفت بسبعة، ثم ضوعفت كل واحدة بمئة، فصارت سبع مئة، فقال في تنزيله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ}.
فهذا مثل كأنه ضرب للجوارح السبع، هاجت تلك الحسنة من حبة القلب، فأعملت الجوارح؛ حتى عملت جارحة منها، وأعانتها عليها سائر الجوارح، فصارت بمنزلة السنابل السبع، فضوعفت بمئة، فالقلب والنفس قد استقاما لله، فالقلب أمير، والنفس عريف الأمير.
والعوامل سبع جوارح؛ فالحياء والكرامة للقلب وللنفس من مزيد الله، والجزاء للجوارح السبع، فإنما صارت كل واحدة بمئة من المزيد الذي ناله القلب والنفس، وأن الجارحة الواحدة إذا عملت، فمادتها من الجوارح الباقية؛(5/262)
لأن العهد المقبول قد تمكن فيهن، وبذلك العهد يعين بعضها بعضاً.
ومنزلة أخرى: وذلك أن الحسنة فيها بأضعاف، ثم الأضعاف مضاعفة، فأما الأضعاف فهي السبع مئة المذكورة، وأما المضاعفة لتلك الأضعاف؛ فقد انقطع عن الملائكة أن يحصوه، فهذا للمحسنين أهل الصفاء الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سأله جبريل –عليه الصلاة والسلام-: ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه)).
فالحسنة من هذا الصنف؛ تضاعف بسبع مئة، وهو العلم الذي أعطي الملائكة، ثم يضاعف الله تلك الأضعاف من عنده بما ينقطع العلم عنه، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه قال: ((الصيام الذي لا يعلم ثواب عامله إلا الله)).
وإذا بلغ العبد منزلة المحسنين، وصارت أعماله كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يعبد الله كأنه يراه؛ ولي الله جزاءه؛ لأن الملائكة تعجز عن أن تطلع في قلبه من أين هاجت هذه الحسنة؟ وأما طريق الجنة والجزاء فيها؛ فقد أعطي الملائكة علم ذلك.
وأما قوله: ((الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)).
فالإيمان: ينقسم على الشكر والصبر.
فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان نصفان: نصفٌ للشكر، ونصفٌ للصبر)).(5/263)
لأن العبد في جميع عمره بين محبوب ومكروه.
فالإيمان يقتضيه: الشكر عند المحبوب، والصبر عند المكروه، وإذا وفى بهما، وفر إيمانه، فإذا طعم، فقد أتى بمحبوب النفس، فإذا شكرت، فقد أتت بنصف وفاء الإيمان، وإذا جاعت، فذلك مكروهها، فإذا صبرت، فقد أتت بالنصف الباقي، ثم هو في جميع الأعمال كذلك.
وإن العبد لما آمن بقلبه، واعترف بلسانه، امتحن صدق ما في قلبه، وامتحن طمأنينة نفسه بالإيمان بهذا المحبوب والمكروه، فإن أبرزهما بالجوارح في كل أمر، فأبرز عند المحبوب شكراً، وعند المكروه صبراً، فقد أتى بوفاء الإيمان، وهو قوله تعالى: {الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}.
فقوله: {الم} كأنه يقول: أنا أعلم بالناس، ولم أمتحنهم، وأنا أعلم بسرائرهم، فلم أتركهم وسرائرهم، وإن أظهروا القول حتى أبرز بالأعمال ما أعلم أنا منهم.
ثم قال: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}.
فهذا علم الظاهر، وقد علم من قبل علم السرائر، والفتن: الحرق، وذلك أن الشهوة التي في بني آدم من المحفوف بباب النار فيها حرقة، فإذا أثارها محبوب من الأمور، فهي حرقة يقتضي عليها الشكر، وهو رؤيتها من خالقها، والمقدر لها، وإذا أثارها بمكروه، فهي حرقة يقتضي عليها الصبر للمقدر الحاكم القاضي عليه بذلك؛ ليظهر صحة إيمانه، فيباهي الله به يوم الموقف ملائكته وجنوده، إذا أتى الله بالشكر والصبر.(5/264)
الأصل الثامن والثلاثون والمئتان
1190 - حدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، ثنا الحارث ابن عبد الله، عن أبي معشرٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا شربتم، فاشربوا بثلاثة أنفاسٍ، فالأول: شكرٌ لشرابه، والثاني: شفاءٌ في جوفه، والثالث: مطردةٌ للشيطان، وإذا شربتم، فمصوه مصاً؛ فإنه أجدر أن يجري مجراه، وإنه أهنأ وأمرأ)).
قال أبو عبد الله:
فإنما صار الأول شكراً للمنتبهين عن الله، لما خلص إليه عذوبة الماء ورطوبته، وبرده، تراءى لقلبه لطف الله له في ذلك الماء، كيف جرت ربوبيته(5/265)
في ذلك الماء، حتى رطبه وأعذبه وبرده، فكانت رؤيته لذلك شكراً.
وأما النفس الثاني: إنما صار شفاء؛ لأن النفس الأول لما كان بهذه الهيئة، أذهب بالداء، وإذا ذهب الداء، جاءت نوبة الشفاء، فلما شكر هذا العبد في النفس الأول، استوجب من الله المزيد، وهو قوله: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، فاجتلب في النفس الثاني المزيد، فصار شفاء؛ لأن البركة قد اشتملت على المزيد.
وأما النفس الثالث: فإنما صار مطردة للشيطان؛ للوترية التي فيه، فإن الله تعالى وترٌ يحب الوتر.
فالنفس الثالث: محبوبه، والنفس الثاني: شكره لعبده، وهو بمزيده، والنفس الأول: رحمته، فإنما انطرد الشيطان من صدره وقلبه؛ للوترية التي في النفس الثالث.
فعلى النفس الأول: سمة رحمته، وعلى النفس الثاني: سمة مزيده، وعلى النفس الثالث: سمة الوتر الذي هو فرد أحدٌ واحد، فوتريته نفت كل خلط في الأعمال مما يريد الشيطان أن يزاوجه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- أبدى وتريته؛ لتكون الأعمال لله خالصاً، والشيطان مستعد لأن يزاوج الأعمال بما يورد على القلوب في تلك الصدور، والموحد ينفي مزاوجته بحظه من وترية الله تعالى، حتى يبطل كيده، ويصفو عمله للوتر.
ولذلك كانت العلماء تتوخى الوتر في كل شيء.
فأهل الباطن نالوا هذا العلم من الذي وصفت في الأصل، وأهل الظاهر اقتدوا بالظاهر من أمر الله -تبارك وتعالى-، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فأما قول الله تعالى في تنزيله: {ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم(5/266)
تذكرون}.
ثم لما صار إلى حد العدد، أبدى محبوبه في خلقه الذي خلق، فجعل سرير الملك واحداً، وكرسي القضاء واحداً، وقلم المقادير واحداً، ولوح الأعمال واحداً، والجنة دار الأحباب واحداً، والسجن دار الأعداء واحداً، ثم جعل للجنة سبعة أبواب، وللنار سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، وجعل باباً واحداً، وهو باب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو باب الرحمة، فهو باب التوبة، فهو منذ خلقه الله مفتوح لا يغلق، فإذا طلعت الشمس من مغربها، أغلق، فلم يفتح إلى يوم القيامة، وسائر الأبواب باب الأعمال مقسومة على أعمال البر، فباب منها للصلاة، وباب للصوم، وباب للزكاة والصدقة، وباب للحج، وباب للجهاد، وباب للصلة، وباب للعمرة.
وأما أبواب النيران: فلكل باب من الكفار جزء مقسوم، فباب منها للشرك، وباب للشك، وباب للغفلة، وباب للشهوة، وباب للرغبة، وباب للرهبة، وباب للغضب.
فأما باب التوبة من الجنة الزائد على الأبواب، فليس هو باب عمل، إنما هو باب الرحمة العظمى الذي منه تدخل توبة العباد إلى الله، فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا نبي التوبة، ونبي الملحمة)).
1191 - حدثنا بذلك علقمة بن عمرٍو التميمي، ثنا أبو بكر بن عياشٍ،(5/267)
((وأنا رحمةٌ مهداةٌ)) بإسناد له.
وقال: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} لنفس محمد صلى الله عليه وسلم: كانت رحمة للعالمين، وسائر الأنبياء -عليهم السلام- يبعثهم رحمة للعالمين، فمن كان من الأنبياء مبعثهم رحمة للعالمين، فيبعث بالهدى والنبوة والرسالة إليهم، فمن أجابهم، سعد، ومن أعرض عنهم، عوجل بالعذاب.
ومحمد صلى الله عليه وسلم مولده ونفسه كانت رحمة للعالمين، فصار مولده وخروجه إلى الدنيا أماناً للعالمين، فمن أبى وأعرض، لم يعاجل بالعذاب، وأخر إلى يوم القيامة؛ لحرمة خروجه إلى الدنيا من الأصلاب والأرحام، ولدفنه حيث دفن إلى نفخ الصور؛ فحرمه تلك الرحمة، وأمانه قائم.
فروي في الخبر أنه: ما من فجر يوم يطلع إلا نزل قبره سبعون ألف ملك يحفون بالقبر.
عدنا إلى ما ذكرنا من الوترية:
فالسماوات سبع، والأرضون سبع، والأيام سبع، والسجود على سبع، والجوارح المثاني والعاقب سبع، والرزق من سبع، وخلق الإنسان من سبع، وأيام الدنيا كلها سبعة، فهذه الأشياء كلها وتر، وأمر بصلاة المغرب وتراً؛ ليرفع عمل النهار إلى الله وتراً، وإذا صلى العشاء أمر بالوتر؛ ليرفع عمل الليل(5/268)
إلى الله وتراً؛ لأن ملائكة الليل غير ملائكة النهار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وتراً، وإذا تكلم فأعاد الحديث أعاد وتراً، وكان متوخياً للوترية في كل شيء.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه كان يتوخى الوترية في كل شيء؛ حتى إنه كان يقرأ في صلاته أم القرآن بثلاثة أنفاس.
وكان ابن سيرين يتفقد ذلك، حتى يأمر الخادم أن تضع على مائدته من كل شيء وتراً، يتوخون بذلك محبوب الله، والتماس البركة، وانطراد الشيطان ونفوره، وإذا انطرد الشيطان في النفس الثالث، كأنما ينطرد لتوخي هذا الشارب بتلك الوترية في هذا النفس، وبقي الشفاء على هيئته، وثبت الشكر لصاحبه في النفس الأول، فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله ليرضى عن العبد بالشربة الواحدة، وبالأكلة الواحدة، يشربها، أو يأكلها، فيحمد الله عليها)).
1192 - حدثنا بذلك الجارود بن معاذٍ، ثنا إسماعيل ابن أبان الأكبر، عن زكريا بن أبي زائدة، قال: حدثني سعيد ابن أبي بردة، عن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/269)
1193 - وحدثنا الجارود، ثنا وكيعٌ، عن يوسف أبي خزيمة، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنعم الله على عبدٍ من نعمةٍ صغيرةٍ ولا كبيرةٍ، فحمد الله عليها، إلا كان قد أعطي خيراً مما أخذ)).
1194 - قال الجارود: قال وكيعٌ: كان يقال: الحمد لله شكر لا إله إلا الله.
قال أبو عبد الله:
فيا لها من كلمة لوكيع؛ لأن لا إله إلا الله أعظم النعم، فإذا حمد الله عليها، كان في كلمة الحمد قول: لا إله إلا الله متضمنة مشتملة عليها الحمد لله.
فالنفس الأول: للشكر، وإنما ثبت له هذا الشكر بهذه الوترية في الثالثة؛ لانطراد الشيطان؛ لأنه إذا لم يكن مطروداً، أدخل عليه بوسوسته ما يبطل شكره، وذلك أنه يوسوس إليه في عذوبته، أو في صفائه، أو في برده خللاً ينغص عليه النعمة، حتى يغيب عن قلبه لطف ربوبية الله في ذلك(5/270)
الماء، فربما أولج في الماء خللاً حتى يشغله عن رؤية اللطف والربوبية.
فإنما ثبت له شكر النفس الأول بتوخيه الوترية، حين قطع النفس في الثانية طالباً لوترية الله فيه بالنفس الثالث، فإنما استوجب العبد رضا الله عنه في شربةٍ واحدة، لهذه الآداب التي دأب عليها مطيعاً لله، طالباً فيها حسن العمل، فإن الله -تبارك اسمه- قال: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}.
فأعلم أنه يبلونا أينا أحسن عملاً في الحياة؛ ليجزينا به بعد الممات، يبتغي منا حسن العمل، لا الكثرة والتخليط؛ فإن الكثرة في العدد إنما تكثر عند من يجوز أن يموه عليه ويخادع، والله تعالى لا يخادع، ولا يموه عليه، فقليل العمل إذا كان حشوه الحسن، فهو كثير؛ لأنه إنما حسنه العبد من حب الله تعالى وهيبته وإجلاله، فحسن العمل في كل شيء: أن لا يلتفت إلى رشوة من ربه، وطهارته: أن يكون لله خالصاً.
فهذه الشربة الواحدة إنما رضي الله عن العبد بها؛ لأنه يسمي في أولها، ويتنفس حين قطع الشرب للمزيد ليجتلبه؛ فإن المزيد أكثر من الشكر، ثم تنفس، فقطع؛ ليجتلب الوترية، فيتقي العدو الحاسد الذي قد أعد له في كل شيء حسداً، فيثبت له الشكر، ويدوم.
فإذا حمد الله، فقد ختمه بكلمة الصدق، فرضي عنه بتلك الكلمة الصادقة، وإذا حمده حمداً، مع تركه الأدب الذي وصفنا، كانت كلمته بالحمد مدخولة، يخاف ألا يستوجب الرضا، فإن رضا الله عن العبد له خطبٌ جليل، وشأن رفيع، وإذا رضي الله عن عبده، أثنى عليه في سمائه على عرشه،(5/271)
وأحبه جبريل والملائكة -عليهم السلام-، فإذا حمد مع ترك الأدب باستيلاء الغفلة، كان حمده حمد السكارى.
1195 - حدثنا عمر، ثنا سليمان بن شرحبيل، عن البختري بن عبيدٍ، ثنا أبي، ثنا أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شرب ماءً بثلاثة أنفاسٍ، بدأ فسمى في كل مرةٍ، وحمد بعد كل مرةٍ، سبح ذلك الماء في جوفه حتى يشرب ماءً غيره)).
قال أبو عبد الله:
فإن صار الماء بعد ما صار مواتاً بالشرب، والاستهلاك حياً في جوفه، فإنما حيي بتلك التسمية، وذلك الحمد بحياة قلب العبد الشارب له.
وأما قوله: ((إذا شربتم فمصوه)).
لأن اللهاة تيبس من حرارة الجوف، ولهبان الكبد، فتعطش اللهاة، فإذا مص الماء، كان لبث البرودة على اللهاة، وتمكث الروح الذي تضمنه الماء بوروده على اللهاة أكثر، فتسكن العطش، فاستغنى به عن كثرته، وكثرة الماء تتخم، وتبقى تلك التخمة في العروق، فتحدث داء كبيراً،(5/272)
فكثرة شرب الماء ليس محمود عند العلماء بالدين، ولا عند العلماء بالطب؛ لأنه إذا أكثر شرب الماء، امتلأت العروق، فثقلت، وخلص ذلك إلى عروق القلب، فأورثت النوم، فإذا مصه أسرع برودة الماء إلى تسكين عطش اللهاة، فاستغنى عن الازدياد.
وأيضاً خلة أخرى: إذا شربه مصاً، كان أرفق لمجراه في العروق، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل عليه أن يرى أحداً يشرب بنفس واحد، وكان يقول: ((لا تعبه عباً؛ فإن الكباد من العباب)).
معناه: إذا عب، أضر بالكبد، وذلك أن مجمع العروق عند الكبد، ومنه ينقسم في العروق، فإذا عبه في دفعة واحدة؛ أي: أحدره وصوبه واحدة، فقد أوعب، وكان ذلك بمنزلة نهر فتحت مفتحه، فإذا فتحت بمرة واحدة، فدخل الماء جملةً، لم يؤمن البثق، والفساد، وخرب عضادتي النهر، ففاض وأفسد، فكذلك إذا شربه عباباً في دفعة واحدة صباً لا مصاً، لم تحتمل العروق ذلك، وفاضت من المعدة إلى العروق، فربما كان على الطريق سدد في العروق، واحتبس الماء هناك، من أجل السدة، فروي، فصار خاماً، وقوي البلغم، فحدثت منه أدواء، وأورث ذلك البلغم كسلاً عن عبادة الله وفتوراً، ففيه ضرر للدين، وهذا من حقوق النفس التي أوصاك الله بها في تنزيله فقال: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً}، ثم قال: {ومن(5/273)
يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً}.
فمن لها عند تفقد إقامة مثل هذه الحقوق التي وصفنا، يوشك أن يؤديه إلى ما أكثر منه، وكان آخذاً بحظه من الظلم والعدوان في هذا القدر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفيقاً على الأمة، ولله ناصحاً، وبالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، عزيز عليه ما عنت الأمة، حريص بالمؤمنين أن يؤديهم إلى الله، مع ذروة الإسلام، وبهاء الإيمان، فعلمهم تناول الشراب والطعام واللباس، وكل شيء للنفس فيه حق، وقال الله تعالى في تنزيله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر}.
فطهره الله وأدبه، وأحيا قلبه ونفسه، فقبل أدبه، وصار مهذباً، فأمر بالاتساء به، لمن رجا الله ورجا اليوم الآخر، وجعل الاتباع له علامة محبة الله في قلوب العباد، فقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، فأوجب الله محبته لم اتبعه.(5/274)
الأصل التاسع والثلاثون والمئتان
بسم الله الرحمن الرحيم
1196 - نا يعقوب بن شيبة، قال: نا موسى بن إسماعيل، قال: نا عبد العزيز الدراوردي، عن إسماعيل بن رافعٍ، عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان، عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من الرغب)).(5/275)
قال: وكانت له ابنةٌ رغيبةٌ، فدعا الله عليها، فماتت.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالرغب: كثرة الأكل، والشبع مفقود، حتى يحتاج صاحبه إلى أن يثابر عليه في اليوم مرات، وصاحب هذا هو ممن الحرص عليه غالب، فلهبان نار الحرص يهضم ذلك الطعام، وينشف رطوبته حتى يسرع في يبسه، فيصير ثفلاً يحتاج إلى أن ينفضه نفضاً.
وزاد في هذا الحديث في رواية أخرى أنه قال: ((الرغب شؤمٌ)).
فإنما شامه هذا الحريق الذي فيه من الحرص الغالب عليه، والحرص على الطعام جعامة النفس، وإذا كانت النفس جعمة، فصاحبها مفتون، وابتلى الله هذا الآدمي بهذه الشهوات واللذات، فإنما ظهرت جعامة النفس من قلة حظه من الله، وبعد قلبه منه، فربت نفسٍ مالت جعامتها بها إلى بطنه، وربت نفسٍ مالت جعامتها إلى فرجه، فلذلك تجد الناس على ذلك، ترى أحدهم مفتوناً ببطنه ولذة حلقه، هالعاً لا يدع رطباً ولا يابساً إلا ابتلعه، وآخر مفتوناً بفرجه، مهتماً بشأنه، فإذا عجز عنه فعلاً؛ لكبر، أو ضعف، فقلبه منهوم، ولسانه رافث، وعينه طماحة خائنة، ولذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1197 - نا بذلك صالح بن عبد الله، قال: نا ابن إدريس،(5/276)
عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة، قال: قيل: يا رسول الله! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله، وحسن الخلق)). قيل: ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال عليه السلام: ((الأجوفان: البطن، والفرج)).
قال: وتصديق مجيء هذا الخبر عن رسول الله في كتاب الله قوله تعالى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما تفسقون}.
فعير الله الكافرين عند المؤمنين، فلم يعيرهم بالكفر، إنما عيرهم بالاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا، والطيبات هي الشهوات التي تلتذ بها النفس ببطنه وفرجه بلا ورع ولا شكر، فهذا كله من الحرص، وقد حذر الله على ألسنة الرسل هذا الشأن.
1198 - نا أبي رحمه الله، قال: نا أبو نعيمٍ، قال: نا موسى(5/277)
ابن علي بن رباحٍ اللخمي، عن أبيه، عن عبد العزيز بن مروان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشر ما في الإنسان: شحٌّ هالعٌ، وجبنٌ خالعٌ))
فالشح الهالع عندنا: هو الحرص الذي له حريق في الجوف، وصاحبه لا يشبع.
والجبن الخالع: هو الذي إذا وقع الخوف في الرئة، انتفخ من الجبن، وسوء الظن، حتى يرحل القلب من مكانه، فيبقى القلب معلقاً كالمنخلع من مكانه.
فالرغب: مشتق اسمه من الرغبة، وهو شعبة من الرغبة، والرغبة خلق من أخلاق الكفر.
1199 - نا الجارود، قال: نا عمر بن هارون، عن صالحٍ المري، عن أبان، عن وهب بن منبهٍ، قال: وجدت في الحكمة مكتوباً: بني الكفر على أربعة أركانٍ: على الرغبة، والرهبة،(5/278)
والشهوة، والغضب)).
قال أبو عبد الله:
فعلى قول وهب الرغبة ربع الكفر، والمؤمن لا يرغب، بل يتناول على الحاجة، والمؤمن لا يستمتع، بل يتزود؛ لأن المؤمن مسافر قد أيقن بالبعث، فهو في السير إلى ربه، فما أخذ من الدنيا، أخذه تزوداً، ليقطع مسافة أيام الدنيا إلى يوم مقدمه عليه بالموت الذي حل به، فأورده على الله، والكافر قد ركن إلى الدنيا ونعيمها، ولم يقر بالبعث، ولا اطمأن إلى أنه صائر إلى الله؛ لأنه لم يعرفه معرفة التوحيد، فيرجوه ويأمله، ومن التوحيد امتدت عيون الموحدين إلى الله بالرجاء العظيم، والأمل الفسيح؛ لأن في حشو التوحيد ما يصيرهم بهذه الصفة.
قال له قائل: وما في حشوه؟
قال: أجمل أو أطنب؟
قال: بل أجمل.
قال: حب الله في حشو توحيد كل مؤمن، فحبه لا يدعه حتى يمد عينه إلى رجاء عظيم، وأمل فسيح، وكذلك تجد نفسك في الدنيا كل من أحببته وثقت به، واطمأننت إليه، وعلى حسب ذلك يعظم رجاؤك لديه،(5/279)
وينفسح أملك، وربنا أحق بالوفاء بالعهد، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنٍ، بحسب ابن آدم لقيماتٌ يقمن صلبه، فإن كان لابد، فثلث طعامٌ، وثلثٌ شرابٌ، وثلثٌ نفسٌ)).
1200 - نا بذلك علي بن حجرٍ، قال: نا إسماعيل ابن عياشٍ، قال: حدثني سليمان بن سليمٍ، وحبيب بن صالحٍ، عن يحيى بن جابرٍ، عن المقدام بن معدي كرب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.(5/280)
وقال لأبي جحيفة حيث تجشأ: ((يا أبا جحيفة! أقصر من جشائك؛ فإن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا)).
ولذلك كان يقال: الشبع أبو الكفر؛ لأن الإنسان إذا امتلأ، حدث عن امتلائه الأشر والبطر، ومنها يتجبر ويتكبر.
وقال فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب القس من أمتي))، قيل: يا رسول الله، وما القس؟ قال: ((قليل الطعام)).
وما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام: أنه قال لإبليس: هل وجدت مني شيئاً قط؟ قال: لا، إلا أنك ربما شبعت، فثقلت عن الصلاة.
فعاهد الله أن لا يشبع حتى يخرج من الدنيا، فإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بالله من الرغب كي يعافى من هذه الآفات التي وصفنا، والله أعلم.(5/281)
الأصل الأربعون والمئتان
1201 - نا محمد بن عليٍّ، قال: نا صالح بن محمدٍ، قال: نا جريرٌ، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن نبيٌّ قبلي، ولا أفخر: بعثت إلى الأحمر والأسود، وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهرٍ، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحدٍ قبلي، وأعطيت الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي نائلةٌ -إن شاء الله- لمن لا يشرك بالله شيئاً)).(5/283)
1202 - نا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة ابن كهيلٍ، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيلٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله، ولم يذكر ابن عباس.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالرسول مبعوث إلى الخلق بمنزلة الأمير المؤمن يعطى الولاية والإمارة والرعاية، فهو بمنزلة الراعي يرعى غنمه في مراعي شتى، ويوردهم صفو الماء، ويرتاد لهم في الصيف مشتاهم، وفي الشتاء مصيفهم، وقد أعد لهم لكل ليلة مأوى قبل هجومه، ويفر بهم عن مراتع الهلكة، ويجنبهم الأرض الوبئة، ويحرسهم من السباع، ويحوطهم عن الشذوذ، ويلحق شذاذهم بهم، ويجبر كسيرهم، ويداوي مريضهم، ويجمع رسلهم من الألبان والصوف لرب(5/284)
الغنم، فهذا راعٍ ناصحٌ لمولاه في غنمه، وأجره موفور عليه يوم الجزاء، ومتوقع من رب الغنم فضل هدية على قدر ملكه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو راعي الخلق، والخلق غنمه، بعث ليرعاهم، فيشرع لكل جارحة في واديها ماذا تباشر؟ وماذا تجتنب؟ فأحل من كل جارحة بعضاً، وحرم بعضاً، وأوردهم من المياه أصفاها، وهو العلم الصافي، وينزلهم المشتى والمصيف، وهو الاستعداد في الحياة، وأيام الحصة والقوة قبل الهرم، والمرض والموت، وأعد لهم المأوى، فبين لهم عند حدوث الفتن كالليل المظلم، إلى أين يأوون، وبمن يعتصمون؟ ويفر بهم عن مراتع الهلكة، وهي الشهوات الدنياوية المشوبة بالحرص، ويجنبهم الأرض الوبئة، وهي الأفراح التي يحل بالقلب سمها فيوبأ ويمرض منها القلب، ويحرسهم عن الشذوذ مخافة الذئاب، وهو العدو، ويجبر كسيرهم، ويداوي مريضهم، وهو أن يعظ مفتونهم حتى يخلصهم بالمواعظ من فتن النفوس، ويحمل شذاذهم، وهو أن يتولى رعاية أطفالهم بالتأديب.
ويجمع رسلهم وألبانهم، وهو أن يدعو لهم، ويستغفر لهم، ويسأل الله تعالى قبول أعمالهم، فهذا راعٍ، وهو مع ذلك أمير، يؤدبهم، ويحملهم على المكاره، ويسوقهم، ويسيرهم بسوط الأدب على شارع الاستقامة؛ ليوافي(5/285)
بهم الموقف بين يدي الله سبحانه، فكل راعٍ ومعه عصاً يهش بها على الغنم ويؤدبهم بها.
وقد ذكر الله تعالى عصا موسى في تنزيله، فكل راع مؤنته على قدر غنمه، وكل أمير مؤنته على قدر رعيته، فالأمير المبعوث إلى كورة محتاج على قدر ولايته إلى آلة الولاية، من الخدم، والدواب، والمراكب، والكنز؛ لينفق في إمارته.
فمن أمر على طخارستان، فهو أقل حظاً من هذه الأشياء التي وصفنا، ومن أمر على خراسان، كانت حاجته إلى ما ذكرنا أكثر، ومن كان أمير المؤمنين، احتاج إلى كنز عظيم.
ومن ملك المشرق والمغرب، والأرض كلها، احتاج إلى خزائن الأموال، حتى يضبط ذلك الملك، فكذلك كل رسول بعث إلى قومه، أعطي من كنز التوحيد، وجواهر المعرفة، على قدر ما حمل من الرسالة.
فالمرسل إلى قومه في ناحية من الأرض إنما يعطى من النبوة من هذه الكنوز على قدر ما يقوم به في شأن نبوته، ورعاية قومه.
والمرسل إلى جميع الأرض كافة إنسها وجنها أعطي من المعرفة بقدر ما يقوم بها في شأن النبوة إلى جميع أهل الأرض كافة.(5/286)
فحظه من قوله: ((بعثت إلى الأحمر والأسود))، ومن قول الله له: {وما أرسلناك إلا كافةً للناس} كحظ من ولاية ملك يملك الدنيا شرقها وغربها وما بينهما، ومن ملك الأرض كلها، وجواهر الأرض كلها ومعادنها له، والملك الذي يملك ناحية من الأرض ليس له إلا معدن ناحيته، وجوهر ذلك المعدن فقط، فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اختصر لي الحديث، وأوتيت جوامع الكلم)).
ولذلك صار كتابه مهيمناً على الكتب، ولذلك صار القرآن مشتملاً على التوراة، والإنجيل، والزبور، وبقي المفصل نافلة لهذه الأمة خاصة، وأوحي إليه بالعربية، واللغات كلها فيها موجودة، وبذلك اتسعت بالوفارة حتى برزت على سائر اللغات، وهي لسان أهل الجنة لسان الأنبياء.
فلما أعطي الرسالة إلى أهل الأرض كافة إنسها وجنها، أعطي من الكنوز بمقدار الكفاية للجميع، ومن الجنود كذلك، فأوتي من الحكمة العليا، وأوتي جواهرها كلها بمنزلة الملك الذي ملك الأرض بما فيها من الجواهر، وأوتي ختم الرسالة، وأوتي الرعب، ولم يؤت أحد قبله جواهر الرسالة كلها، ولا ختم الرسالة، ولا الرعب، فبجواهر الرسالة قوي على علم مختصر الحديث وجوامع الكلم.(5/287)
وروي في الخبر أن التوراة كان يحملها سبعون جملاً موقرة، والزبور من بعدها، والإنجيل من بعده.
فجمع الله لمحمد عليه السلام ذلك كله في الفرقان، ثم جمع الله الفرقان كله في فاتحة الكتاب، ولذلك سميت: أم الكتاب؛ لأن القرآن كله منها تولد، وخرج، ولذلك قال الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العليم}.
فسماها: القرآن العظيم، وهي سبع آيات، سميت مثاني؛ لأن الله كتب جميع الكتب كلها في اللوح المحفوظ، ثم أنزل منها على الرسل -عليهم السلام- على كل رسول ما علم أنه محتاج إليه ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته فاستثنى فاتحة الكتاب من جميع ذلك، وخزنها لهذه الأمة، فقيل: مثاني؛ لأنه استثناها لنا.
فجميع علم التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، مستخرج من أم القرآن، فالقرآن مستخرج من أمه، وسائر الكتب في الفرقان.
ومما يحقق ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما:
1203 - نا به قتيبة بن سعيدٍ، قال: نا عبد الوهاب،(5/288)
قال: نا أيوب، عن أبي قلابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((أعطيت السبع -يعني: الطول- مكان التوراة، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل، وأعطيت المئين مكان الزبور، وفضلت بالمفصل)).
قال الله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} أي: ينظرن إليك بعيون رؤوسهم، وهم لا يبصرونك بعيون قلوبهم.
فمن عمي قلبه عن الله، ولم يكن في قلبه نور الهداية، لم يبصر آثار النبوة على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يبصر منه شخص الجثة، ومن هداه الله تعالى لنوره، فانفتح عين قلبه بذلك النور، واستقرت المعرفة في قلبه، أبصر من محمد صلى الله عليه وسلم شخص النبوة بارزاً، وعلى شخص النبوة شخص الرسالة فائقاً.
قال له قائل: وما شخص النبوة؟
قال: الحياة، والذكاء، واليقظة، والإنفاذ، والسرعة، والبدار، والسبق، والسماحة والكرم، والسعة والجود، والحياء والسكينة، والوقار والحلم.(5/289)
ومن الأفعال: السواك، والحجامة، والتعطير، والجماع.
قال: وما شخص الرسالة الذي فاق على شخص النبوة؟
قال: الجلال والبهاء، والنزاهة، والحلاوة، والطلاوة، والملاحة، والمهابة، والسلطان، وأصل هذا كله من ثلاثة أشياء: من اليقين، والحب، والحياة.
فإنما نال المؤمنون من معرفة محمد صلى الله عليه وسلم على قدر معرفتهم بالله، وعلمهم به، فمن صدق محمداً صلى الله عليه وسلم في الصحبة له، كان صدق صحبته على قدر معرفته إياه، وعلمه به، وعلى حسب ذلك كان يتراءى لبصر عينه في الظاهر ما ذكرنا من الخلال التي عددنا، فأوفرهم حظاً من نور الله: أوفرهم علماً بمحمد عليه السلام، وقدره، وجلالته، وحظه ومنزلته، فأوفرهم علماً به: أسرعهم إجابة لدعوته، وأبذلهم له نفساً ومالاً.
ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه لما أفشى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رسول مبعوث، صدقه على المكان، ولم يتردد، ولم يضطرب؟
قال علي -كرم الله وجهه-: حتى أسأل أبي، ثم رجع من الطريق، وصدقه.
وعمر صدقه بعد مدة، وبعد ما أسلم تسعة وثلاثون نفساً، فتم بإسلامه عدد أربعين، بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسلم عمر رضي الله عنه من الغد:
((اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب، أو بعمرو بن هشامٍ -يعني: أبا جهلٍ-)).(5/290)
فجرت الدعوة من عمرٍو عدو الله إلى عمر بحق الله، فسعد عمر، وشقي عمرٌو، ودل أسماؤهما على حظيهما من الله تعالى، والمقدار الكائن من أمريهما، لأن عمر أول اسمه عين مضموم مثقل، وعمرو أوله اسمه عين مفتوح مخفف، والمضموم الذي قد آواه الله وضمه إلى باله، والمفتوح هو الذي أهمله الله، وأخرجه من باله، وكلا الاسمين مشتق من العمر، والعمر حجة الله على ابن آدم، والأسماء من علم آدم الذي برز به على الملائكة، وورثته الأنبياء، والأولياء من ولده.
قال له قائل: ما العمر؟
قال: إنما هي ثلاثة أشياء: مهلة، وأجل، وعمر.
فالمهلة: أنه أعطاه القرار حين خرج من بطن أمه على جديد الأرض.
والعمر: ما يخلص إليه من تدبير الله في جميع متقلبه من التربية.
والأجل: هو الغاية التي إذا بلغها، انقطع القرار والتربية، وتبدد المجتمع من الروح والنفس، والحياة والذهن، والعقل والعلم والملك، فرجع الروح إلى معدنه، والنفس إلى جوهرها، والذهن إلى مجراه، والعقل إلى أصله، والعلم إلى معدنه، والملك إلى موضع الميراث ميراث الله تعالى حيث قال: {ولله ميراث السماوات والأرض}.(5/291)
فضمة الاسم الأول دليله إلى أنه كان مضموماً إلى بال الله، وقد كان الله به عليماً، فوضع مبتدأ اسمه من القالب في موضع ضمة يعلم ورثة آدم عليه السلام قصة شأنه في مبتدأ خلقه؛ ليدركوا به ما يكون من شأنه في جميع متقلبه، ومحياه من طريق علم الفراسة.
فأعز الله به الإسلام عزاً حتى صار بمحل أن جاء جبريل عليه السلام فقال: ((يا محمدّ أقرئ عمر السلام، وأخبره: أن غضبه عزٌّ، ورضاه حكمٌ)).
1204 - نا بذلك حسين بن الحسن المروزي بمكة، قال: نا إبراهيم بن رستم، عن يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/292)
1205 - حدثنا أبي رحمه الله، ثنا يوسف بن واقدٍ، عن يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يذكر فيه أنساً.
كأن معناه: أن قلب عمر في الاستقامة لله، وبين يديه بمحل إذا غضبت، أمضى الله غضبك، وجعل له سلطاناً يعز به دين الله، وإذا رضيت، كان رضاك ماضياً، ورضي الله به، كأنك إذا حكمت على الله يرضى لشيء، أو عن عبد، أمضى حكمك، ورضي بما حكمت، وهذا موضع القسم، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)).
ففي القسم درجات في السرعة والبطء، وفي الانبساط والانقباض،(5/293)
وفي الاتساع في الدالة، وفي التقرر.
وأما فتحة الاسم التي دلت على أن عمرو بن هشام خرج من بال الله، فقد انكشف الغطاء عن شأنه، وكانت كنيته في قريش أبا الحكم، فجرت كنيته في الإسلام بأبي جهل؛ لعظيم جهله، وكثرة بلاهته، وشرة نفسه الخبيثة، فعلى حسب خروجه من بال الله عظمت آفته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الإسلام، حتى قتله الله أذل قتلة، وسحب برجله، فألقي في قليب بدر، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القليب فقال: ((يا أبا جهل بن هشامٍ، ويا عتبة، ويا شيبة! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟)).
فلم يلق رسول الله من جميع المشركين من الأذى والعداوة ما لقي منه وحده، ولم يعمل في الصد عن الإسلام قولاً وفعلاً، ونفقة في الحروب ما عمل هو، وهو الذي حرض الناس يوم بدر على الحرب، وقد هم الناس بالرجوع لما وصل الخبر إليهم أن العير قد سلم، فما زال يسلبهم، ويعير قومه بالجبن حتى نصب الحرب لهم، حتى وافته لعنة الله والخزي الذي حل به، وكان يقول: إني لأعلم أنه نبي، ولكن قالت بنو عبد مناف: لنا السقاية والحجابة واللواء، فأطعمنا ونحرنا، وقلنا: لنا المجد، حتى إذا تماست الركب، قالوا: منا نبي، ومتى كنا تبعاً لبني عبد مناف، فوالله! لو ينزل علي(5/294)
من فوق سبع سماوات، لجاهدته.
وضم الله عمر إلى باله، فخرج من تقدير الله له اسمٌ مضمومٌ مثقل على تقدير فعل، وكان له حظ من البال حتى أعز به الدين، ونصر به الرسول، ودعم ظهر الإسلام، فبه فتح الفتوح، وبه مصر الأمصار، وبه أحيا سنن المرسلين، وترك المسلمين على الواضح من الطريق، فلم يقم أحد مقامه إلى يومنا هذا، فأكرم الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وأبرز كرامته وفضيلته بأن جعل لكل نبي من الأنبياء وزيراً، وجعل لمحمد صلى الله عليه وسلم أربعة من الوزراء، فأبو بكر وعمر وزيرا الرسالة، وعلي وعثمان وزيرا النبوة، ثم نحلهم من الحظوظ من عنده، فحظ أبي بكر منه: العظمة، والحياء، وحظ عمر منه: الحق، والوكالة، وحظ علي منه: الحرية، والخلة، وحظ عثمان: النور، والحياء.
قال له قائل: نور ماذا؟
قال: نور الحق، فتفاوت أعمالهم في صحبتهم الرسول أيام الحياة، وفي سيرتهم في الأمة بعده على قدر حظوظهم.
فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالارتحال إلى الله من الدنيا، وابتدئ له في وجعه، وعجز عن الخروج إلى الصلاة بالأمة، أمر أبا بكر بالصلاة.(5/295)
تتابعت الروايات بذلك من وجوه شتى، كلهم ثقات، وتداولته ألسنة العامة خبراً متفقاً: أنه هو الذي ولي الصلاة، وكان من صنع الله للأمة: أن خفف الله عنه يوم قبض، فخرج، والمسلمون في صلاة الغداة، ورجلاه تخطان في الأرض، حتى جلس إلى جنب أبي بكر، فصلى؛ ليعلم الجميع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي بذلك من فعله؛ لئلا يبقى لمعاندٍ، أو طاعنٍ مقالٌ أنه لم يأمر بذلك في مرضه، وأنه كان مغلوباً على عقله؛ لشدة غلبة المرض، فأظهر الله ذلك بما خفف عنه، حتى خرج وقعد إلى جنبه، فصلى من حيث انتهى أبو بكر.
ثم صار المتأولون لذلك على صنفين: فقال قائلون: صلى بصلاة أبي بكر، وأبو بكر الإمام، وقال قائلون: بل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام، وأبو بكر المقتدي.
1206 - نا صالح بن عبد الله، قال: نا إسماعيل بن جعفرٍ، عن حميدٍ، عن أنسٍ، قال: ((آخر صلاةٍ صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلف أبي بكرٍ رضي الله عنه)).(5/296)
1207 - نا محمد بن الفضل السمسار، قال: نا محمد بن عمر الواقدي، قال: نا الضحاك بن عثمان، عن حبيبٍ مولى عروة، عن أسماء بنت أبي بكرٍ، قالت: سمعت أبي يقول: ((آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفي في ثوبٍ واحدٍ)).
فهذا أوضح حديث في هذا الباب؛ إذ حكاه أبو بكر، وهو أعلم بهذه القصة من جميع من كان في المسجد، فالصلاة عماد الدين، وأول شيء فرضه الله على المسلمين يوم أوحي إليه، والصلاة إقبال الله على العبيد؛ ليقبلوا إليه في صورة العبيد تذللاً وتسلماً وتبذلاً وتخضعاً وتخشعاً وترغباً وتملقاً.
فالوقوف تذلل، والتكبير تسلم، والثناء والتلاوة تبذل، والركوع تخضع، والسجود تخشع، والجلوس ترغب، والتشهد تملق.
فأقبل العبيد إلى الله بهذه الصورة؛ ليقبل الله عليهم بالترحم والتقبل،(5/297)
والتكرم والتقرب والتكنف، فليس شيء من أمر الدين أعظم من هذا.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة عماد الدين)).
وقال في حديث آخر: ((الصلاة نورٌ)).
وقال: ((لا يزال الله تعالى مقبلاً على العبد بوجهه ما دام العبد في صلاته، وإن الله لينصب لأحدكم وجهه ما دام العبد مقبلاً عليه)).
وقد رخص في الدخول في أعمال البر كلها، والعبد محدثٌ على غير وضوء، وجوز له ذلك، إلا الصلاة، فإنها لا تجوز بغير طهور، وأنزل من السماء ماء طهوراً؛ ليتطهر العبد للقيام منتصباً بين يديه، مقبلاً بما ذكرنا من الخلال، لينال من الإقبال عليه ظاهر ما وصفنا، ولم نصف بعد شيئاً مما ينال من إقباله عليه في الباطن، فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(5/298)
((إن الله جعل قرة عيني في الصلاة)).
وكان ينشر من منة الله عليه في أمر الصلاة:
1208 - ما نا به الجارود، عن عمر بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباسٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((أتاني جبريل عليه السلام، فقال: إنه حبب إليك الصلاة، فخذ منها ما شئت)).
قال أبو عبد الله:
فقد حببت الصلاة إلى الأنبياء كلهم، ولكن من حظه حببت إليه،(5/299)
فإبراهيم عليه السلام من الخلة، وموسى من المناجاة، وعيسى من الروح، ويحيى من الحياة والحنان، ومحمد من الحب -عليهم صلوات الله-، فلذلك قال له: خذ منها ما شئت، فلكل ممن تقدم شيء مقدر، وأبيح لمحمد كلها، وكذلك وجدنا فيما سواها: أن لمحمد صلى الله عليه وسلم من ربه بحر المشيئة، ولمن سواه منه من المشيئة أنهار وأودية، فكل واحد إنما ينال من الصلاة من مقامه.
فالأنبياء والأولياء من بعدهم له مقاوم، ينالون من الصلاة من مقاومهم، وليس للزهاد ولا للعباد ولا للمتقين مقام إلا مقام الصدق، ومجاهدة الوسوسة، ومن بعدهم من المسلمين عامة، فلهم مقام التوحيد في الصلاة، والوسواس معهم بلا مجاهدة، فالأنبياء والأولياء في مفاوز الملكوت، وليس للشيطان أن يدخل في تلك المفاوز، وما وراء المفاوز حجب وبساتين شغلت القلوب بما فيها عن أن يخطر ببالهم ما وراءها.
فذلك الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكره قرة العين.
فأبو بكر وعمر لهما وزارة الرسالة، وعثمان وعلي لهما وزارة النبوة،(5/300)
وحاجة الخلق إلى الرسالة.
ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهما.
1209 - نا بذلك إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيلٍ، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيلٍ، عن أبي الزعراء، عن عبد الله بن مسعودٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكرٍ، وعمر)).
1210 - نا زياد بن الخزاعي البصري، عن سفيان، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن ربعي بن حراشٍ، عن حذيفة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكرٍ وعمر)).(5/301)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالحاجة بالخلق إلى الاقتداء بالرسالة، فلو أعطى وزارة الرسالة غيرهما، لأمر بالاقتداء بمن سواهما، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عليه مدار الدين، وهو عماد الدين أبا بكر أن يتقدم؛ لتتبعه الأمة، وتقتدي به، فكل شيء من الشريعة من الحدود والأحكام والرعاية، فهو دون الصلاة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإمام ضامنٌ)).
فمن ذا الذي يعلم كنه هذا الضمان؟ ماذا ضمن هذا الإمام عن المأمومين؟ وماذا ضمن هذا الإمام للمأمومين؟
هذا باب لا ينكشف غطاؤه إلا للعارفين.
فلما رأى أبو بكر رضي الله عنه قوة ما أعطي من تقلده لضمان الصلاة عن الله لعبيده، وعن العبيد لله، ثم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، علم أن الله مؤيده فيما دون الصلاة من أمور الشريعة، وتقلده خلافة رسول الله لأمته، ولذلك قال المهاجرون والأنصار في وقت المشورة: قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة،(5/302)
فمن يؤخرك؟
وقال عمر رضي الله عنه: يقول الله تعالى في كتابه: {ثاني اثنين} من هو؟ {إذ هما في الغار} من هما؟ {إذ يقول لصاحبه} من صاحبه؟ {لا تحزن إن الله معنا} مع من؟ ابسط يدك، فبايعوه.
1211 - نا أبي رحمه الله، قال: نا يحيى بن يعلى المحاربي، قال: نا زائدة بن قدامة الثقفي، قال: نا عاصم بن أبي النجود الأسدي، عن زر، عن عبد الله، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت الأنصار: منا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، فبلغ ذلك عمر، فأتاهم، فقال: يا معشر الأنصار! ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مروا أبا بكرٍ فليصل بالناس))؟(5/303)
فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.
1212 - نا إبراهيم البغدادي قال: نا حسينٌ الجعفي، عن زائدة، عن عاصمٍ، عن زرٍّ، عن عبد الله، عن رسول الله، بمثله.
1213 - نا أبي رحمه الله، قال: نا أحمد بن يونس، عن زائدة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: دخلت على عائشة، فحدثتني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم،(5/304)
فقالت: إنه لما ثقل، أرسل إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، قال عبيد الله: فدخلت على ابن عباسٍ، فعرضت عليه حديثها، فما أنكر منه شيئاً، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يومٍ، وأبو بكر في الصلاة، فذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي عليه السلام أن لا يتأخر، وقال للعباس ولرجلٍ آخر: ((أجلساني إلى جنبه))، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي وهو قائمٌ بصلاة النبي عليه السلام، والنبي قاعدٌ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
1214 - نا سفيان بن وكيعٍ، قال: نا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، جاءه بلالٌ يؤذنه بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مروا أبا بكرٍ فليصل بالناس))،(5/305)
فقلت: إن أبا بكر رجلٌ أسيفٌ، ومتى ما يقوم مقامك يبكي، فلا يستطيع، فلو أمرت عمر يصلي بالناس، قال: ((مروا أبا بكرٍ يصلي بالناس؛ فإنكن صواحبات يوسف)). قالت: فأرسلنا إلى أبي بكر، فخرج فصلى بالناس، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفةً، فخرج وهو يهادى بين رجلين: ورجلاه تخطان بالأرض، فلما أحس أبو بكر، ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي عليه السلام: أن مكانك، فجاء النبي حتى جلس إلى جنبه، فكان أبو بكر يأتم بالنبي، والناس يأتمون بأبي بكرٍ.(5/306)
1215 - نا قتيبة بن سعيدٍ، قال: نا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن سلمة بن نبيطٍ، عن نعيمٍ، أراه عن نبيطٍ، عن سالم بن عبيدٍ، وكان من أهل الصفة، قال: أغمي على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، فأفاق، وقال: ((حضرت الصلاة؟)). قالوا: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: ((مروا بلالاً فليؤذن، ومروا أبا بكرٍ فليصل بالناس)). قالت عائشة: إن أبي رجل أسيفٌ، فقال: ((إنكن صواحبات يوسف، مروا بلالاً فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس)). ففعلوا، فلما أقيمت الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ادع لي إنساناً أعتمد عليه)). فجاءت بريرة، وآخر معها، فاعتمد عليهما، وإن رجليه لتخطان بالأرض، وأبو بكر يصلي بالناس، فجلس إلى جنبه، فذهب أبو بكر ليتأخر فحبسه حتى فرغ من الصلاة، ثم توفي صلى الله عليه وسلم.
1216 - نا صالح بن عبد الله، قال: نا إسماعيل(5/307)
ابن جعفرٍ، عن حميدٍ، عن أنسٍ، قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبٍ واحدٍ، وقعد متوشحاً خلف أبي بكر رضي الله عنه.
قال أبو عبد الله:
فحديث عائشة -رضي الله عنها- حيث قالت: فجعل أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد لجنبه ظنٌّ من عائشة، هكذا حسبت، وهي في البيت، وأنسٌ خارجٌ مع رسول الله على رأي العين، والدليل على ذلك: أن القول قول أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، فجلس إلى جنب أبي بكر، فذهب أبو بكر يتأخر، فحبسه، فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام، لكان لا يحبسه عن التأخر، وكان يقوم مقام الأئمة.
ومما يحقق ذلك:
1217 - ما نا به محمد بن الفضل السمسار، قال: نا محمد بن عمر الواقدي، قال: نا الضحاك بن عثمان، عن حبيب مولى عروة، سمع أسماء بنت أبي بكر تقول: رأيت أبي يصلي في ثوب واحد، وثيابه موضوعة، فقلت له في ذلك، فقال: آخر صلاة صلاها رسول الله خلفي في ثوب واحد.(5/308)
قال أبو عبد الله:
فأبو بكر رضي الله عنه أعلم بهذه القصة من كان الإمام، ومن المأموم من عائشة، ومن أنس، ومن الجميع، فاستحكم تقديم أبي بكر على جميع أصحابه في الصلاة من هذه الوجوه، وبخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي قبض فيه، وقوله لعائشة: ((إنكن صواحبات يوسف))، فعد ذلك القول منها زيغاً وفتنة عن الطريق، وأنكر عليها.
1218 - نا عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني، قال: نا يعقوب بن إبراهيم بن سعدٍ، قال: نا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الملك بن أبي بكرٍ، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب، قال: لما استقر برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن عنده في نفر من المسلمين، وبلال يؤذنه بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مروا من يصلي بالناس))، فخرجت، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر! صل بالناس، فقام، فلما كبر، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً، فقال: ((هذا صوت ابن الخطاب، فأين أبو(5/309)
بكرٍ؟ يأبى الله ذلك، والمسلمون))، فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فقال عمر: ويحك يا ابن زمعة! ماذا صنعت بي؟ ما ظننت إذ قلت لي إلا أن رسول الله أمرك بذلك، ولولا ذلك، ما صليت بالناس، فقال: والله! ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم أر أبا بكرٍ، فرأيتك أحق من حضر بالصلاة.
قال أبو عبد الله:
فهذا في مبتدأ علته في بيت ميمونة من قبل أن يحول إلى بيت عائشة، ثم كان الكلام الذي كان من عائشة بعد ذلك.(5/310)
ومما يحقق ما قلنا: أن أبا بكر وعمر وزيرا الرسالة، ومن بعدهما وزيرا النبوة:
1219 - ما نا به أبي رحمه الله، قال: نا الحماني، قال: نا أبو بكر بن عياشٍ، قال: نا أبو المهلب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني رأتني أدخلت الجنة، فلما خرجت منها، أتيت بكفةٍ، فوضعت فيها، ووضعت أمتي في الكفة الأخرى، فرجحت بأمتي، ثم رفعت، ثم جيء بأبي بكرٍ، فوضع في كفة الميزان، وجيء بأمتي، فوضعت في الكفة الأخرى، فرجح بأمتي، ثم رفع أبو بكرٍ، وجيء بعمر، فوضع في كفة الميزان، وجيء بأمتي، فوضعت في الكفة الأخرى، فرجح بها، ثم رفع الميزان إلى السماء)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:(5/311)
فرؤيا الأنبياء كلها حق، ليس يخالطها من العدو شيء، فكأنه أعلم الأمة ما أعطي أبو بكر من قوة الوزارة حتى قابل بها جميع الأمة، وعمر في الأمة، ثم أعلم قوة وزارة عمر بما قابل به الأمة، وأبو بكر خارج من الأمة؛ لأنه قد كان رفع من الكفة وعمر في الأمة شيء، ثم رفع الميزان، يدلك على أن وزارة الرسالة كانت فيهما.
1220 - نا رزق الله بن موسى الناجي البصري، قال: نا مؤمل بن إسماعيل، قال: نا حماد بن سلمة، قال: نا سعيد بن جمهان، عن سفينة مولى أم سلمة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح، أقبل على أصحابه، فقال: ((أيكم رأى الليلة رؤيا؟))، قال: فصلى ذات يوم، ثم أقبل على أصحابه فقال: ((أيكم رأى الليلة رؤيا؟))، فقال رجل: أنا يا رسول الله، رأيت كأن ميزاناً أدلي من السماء، فوضعت في كفة الميزان، ووضع أبو بكر في كفةٍ أخرى، فرجحت(5/312)
أنت بأبي بكر، فرفعت، وترك أبو بكر، فجيء بعمر، فوضع في الكفة الأخرى، فوزن بأبي بكر، فرجح أبو بكر بعمر، ورفع أبو بكر، وترك عمر مكانه، فجيء بعثمان، فوضع في الكفة الأخرى، فرجح عمر بعثمان، ورفع عمر، وترك عثمان مكانه، فجيء بعليٍّ، فوضع في الكفة الأخرى، فرجح عثمان بعليٍّ، ورفع الميزان. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((خلافة نبوة ثلاثين عاماً، ثم يكون ملكاً)).
فقال لي سفينة: أمسك سنتي أبي بكر، وعشر عمر، وثنتي عشر عثمان، وست علي.
قال أبو عبد الله:
فمضى أبو بكر رضي الله عنه محموداً بنعمة الله عليه في الخلافة، ثم نظر بحظه من الله، وبما وجد من تأييد الله بعد الرسول عليه السلام نظراً شافياً لحق الله،(5/313)
ثم لنفسه، فلم يجد أحداً أحق بأن يخلف خلافة رسول الله من عمر، فقد كان وزراء النبوة وأنصار النبوة حوله، فاختار منهم عمر، ورأى الحق له حتى جادلوه فقالوا له: استخلفت علينا فظاً غليظاً، فماذا تقول لربك؟ قال: أتهددوني وتخوفوني بربي؟ أقول: استخلفت عليهم يا رب خير أهلك.
فانظر إلى صلابة قلبه، وانبلاج الحق في صدره في وقت حضور أمر الله، وإشرافه على المقدم على الله ماذا خرج من لسانه؟ يحكم أنه يقول لربه: خير أهلك، فإنما أنطقه لسان الحق باليقين الواضح، فمضى لسبيله، وولي الصلاة عمر، وما بعد الصلاة من أمور الأمة، فحقق الله فراسة أبي بكر وإلهامه، فوطأ الإسلام، ومهده وزينه، وملأه زياً من العز.
وكان الإسلام بمنزلة ضيف بعثه الله إلى الخلق على يدي أحب خلقه إليه، وأطهرهم وأنزههم، وأعظمهم أمانة، فآواه طائفة قليلة مستضعفة، فلم يتهيأ لهم إيواؤه، وطردته العامة، فنصر الله هذه الطائفة المستضعفة، وهيأ لهم دار الهجرة، وأنشأ لهم علم النصرة بالأنصار، فتبوؤوا الدار والإيمان، وأحبوا من هاجر إليهم، وآثروهم على أنفسهم، حتى صارت الفئة القليلة المستضعفة كثيرة مؤيدة منصورة، وكسر الله قرن الكفر،(5/314)
وأكمل الله الدين بالوحي المنزل.
وقبض الرسول عليه السلام إلى ما عنده، فامتحن الله المؤمنين بجولة الباطل أن ارتدت العرب، فقام أبو بكر رضي الله عنه، وسل سيف الله، وتحرك لأمره حتى رد هذا الضيف الذي أنكروه، فلم يزل في مدته متجرداً لأمر الله، يبعث السرايا حتى رد هذا الضيف إلى السرر والمهاد، فلم يمهل، وقبضه الله إلى ما عنده، وتوسم في عمر رضي الله عنه سمات الله، فاستخلفه.
وقد تقدم القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقال: أنه قال: ((ما من أمةٍ إلا وفيها محدثٌ، فإن يكن في أمتي، فعمر منهم)).
1221 - نا بذلك عبد الجبار، عن سفيان، عن ابن عجلان، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/315)
1222 - ونا أحمد بن أبي بكرٍ العمري، قال: نا ابن أبي أويسٍ، عن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيمٍ المقرئ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)).
وما روي عنه عليه السلام: أنه قال: ((الحق بعدي مع عمر حيث كان)).(5/316)
1223 - نا أبي رحمه الله، قال: نا أبو نعيمٍ الطحان، قال: نا معن بن عيسى القزاز، عن الحارث بن عبد الملك، عن القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيطٍ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن عباسٍ، عن أخيه الفضل بن عباسٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم في شكواه الذي توفي فيه، فقال في خطبته: ((الحق بعدي مع عمر حيث كان)).
وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو كان بعدي نبيٌّ، لكان عمر بن الخطاب)).(5/317)
1224 - نا بذلك سليمان بن نصير، قال: نا المقرئ، عن حيوة بن شريحٍ، عن بكر بن عمرٍو المعافري، عن مشرح ابن هاعان، عن عقبة بن عامرٍ الجهني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لو كان بعدي نبيٌّ، لكان عمر بن الخطاب)).
فهذه الأشياء قد امتثلها أبو بكر مع إلهامه وفراسته، فاستخلفه، ففتح الله الفتوح على يده، ومصر الأمصار، ودرر الأرزاق، وبث السرايا وجنود الله في نواحي أقطار الأرض، حتى تمهد الإسلام في الوطن الذي منه بدأ، وصار(5/318)
كالجبال الرواسي، وارتبع وانبسطت أكارعه، وامتدت ثغوره، وانفسحت مقاومه، فأكرمه الله بالشهادة، ففوض ذلك إلى ستة نفر؛ إذ كمن فيهم كل أركان من الخير، وأحسن بهم الظن.
ولو وجد في واحد منهم مساغاً للفراسة، أو حظاً من الإلهام، لنصه باسمه، ولكنه انسد عليه باب الفراسة، وانقطع حظ الإلهام، فرأى التفويض إلى هؤلاء خيراً من الإهمال لأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ورأى أن في الستة إذا اجتمعوا بحظوظهم من الله ما يفي بذلك الحظ أن يريهم الحق، ومن يصلح للأمة، فقبض إلى الله، وترك الأمر شورى بينهم، فاختاروا من بينهم واحداً بعد الاحتياط والتأني والتشاور.
وافتقدت الأمة وزارة الرسالة، وحضرت نوبة وزارة النبوة، فاتفق أمر الستة على أحد وزيري النبوة، إذ لم يبق في الستة إلا هذان من(5/319)
الأربعة الوزراء علي وعثمان، فلم يزالوا يستخيرون الله، ويميلون بين الصفقتين، حتى اتفقوا على عثمان.
ثم أقبلت الدنيا، وجاء كفران النعمة، وهاجت الفتنة، وعز اليقين، وأدبر الحق راجعاً إلى الله عند إقبال الدنيا، وذهبت حياة القلب بكفران النعمة، وتبديل الأمور، وغلبة الهوى، حتى قتل عثمان رضي الله عنه، فجاءت نوبة علي، والزمان بتلك الحالة، فلم يكن لوزارة النبوة من القوة ما يقوم مقام أبي بكر، ولا مقام عمر، بايعوا أبا بكر، وسلوا على أهل الردة سيوفهم، فلم يغمدوها، ولم يخذلوه، ولم ينكثوا البيعة.
وبقي السيف مسلولاً إلى انقضاء وزارة الرسالة بموت عمر، وبايعوا علياً في وقته، ثم نكثوا بيعته، وسلوا السيوف له، ثم خرجوا عليه مارقين حرورية، وآخرون بايعوه، وسلوا السيوف، وهم أكل الكوفة، ثم خذلوه.
وآخرون: امتنعوا من بيعته، وحاربوه، وأبوا خلافته، ولو كانت له وزارة الرسالة، لأتته نصرة الرسالة، فصارت القلوب كلها له كقلبٍ واحد، وكانت الفئة المستضعفة غالبة على الفئة الكثيرة، كما كان في زمن أبي بكر، فمن خفي عليه هذا السبيل الذي شرحنا، وهذه الصفة التي وصفنا يلحظ إلى علي بسبب القرابة والختونة، وإلى معانٍ ليست من هذا الأمر(5/320)
في شيء، إنما هذا أمر الرسالة، وأمر الأمة إنما يقوم بها القائم، ويقوى بها بحظه من الله الذي ضمن حشو الرسالة.
فمن لحظ إلى القرابة والميراث، وإلى مقالات جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه، فعليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه))، فقد أخذ سبيل المتجبرين، ولعلي من الفضائل والمناقب ما يستحق أن يوالي من والاه، ويعادي من عاداه، فليس في هذا القول من الموالاة والمعاداة ما يثبت له الخلافة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمة، ويختار على أبي بكر، وقول الله تعالى: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم}.
والله مولى المؤمنين، ورسول الله مولى المؤمنين، وكل من مضى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيله، وكان له تابعاً على سبيله، فهو مولى المؤمنين، فهذه كلمة جامعة، وإن كان قد خص بها علي -كرم الله وجهه- في وقت من الأوقات.
1225 - نا أحمد بن الحنظلي، قال: نا شبابة بن(5/321)
سوارٍ المدائني، قال: نا فضيل بن مرزوقٍ، قال: سألت عمر ابن علي، فقلت: هل فيكم إنسانٌ مفترضةٌ طاعته، ومن لم يعرفه، ومات، مات ميتة الجاهلية؟ قال: لا، والله! ما هذا فينا، من قال فينا، فهو كذاب، قلت لعمر: رحمك الله! إن ناساً يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إلى عليٍّ، وإن علياً أوصى إلى الحسن، وإن الحسن أوصى إلى حسين، وإن الحسين أوصى إلى علي بن الحسين، قال: والله! لقد مات أبي، وما أوصى بحرفين، والله! إن هؤلاء لمتأكلين بنا.
1226 - قال الفضيل: وسمعت الحسن بن الحسن أخا عبد الله بن الحسن وهو يقول لرجلٍ ممن يغلو فيهم: ويحكم! أحبونا في الله، فإن أطعنا الله، فأحبونا، وإن عصينا الله،(5/322)
فأبغضونا، قال الرجل: إنكم لذو قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله! لو كان الله نافعاً بقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنفع بذلك من هو أقرب منه: أباه، وأمه، والله! إني لأخاف أن يضاعف العاصي منا العذاب ضعفين، وإني لأرجو الله أن يؤتى المحسن منا أجره مرتين، ولو كان الأمر على ما تقولون؛ أن رسول الله أوصى إلى علي، وأمره بقيام الناس، ثم ترك عليٌّ ما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان علي في ذلك أعظم الناس خطيئة وجرماً؛ إذ ترك ما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الرافضي: ألم يقل رسول الله: ((من كنت مولاه، فعليٌّ مولاه))؟ فقال: والله! لو عناه الإمرة والسلطان، لأفصح لهم كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة، ولقال لهم: يا أيها الناس! هذا عليٌّ أميركم بعدي، فما كان من وراء هذا، فإن أنصح الناس للناس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/323)
وروي عن زيد بن علي أنه قال لبعضهم: ويلك! من كان يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعرض بالخلافة؟ فيقول: ((من كنت مولاه فعليٌّ مولاه))؟ ألا قال: هذا خليفتي من بعدي؟
قال أبو عبد الله:
فهؤلاء البهم تعلقوا بمثل هذه الأشياء حتى تردوا منكوسين في بئر الهلاك، حتى خرجوا إلى شتم وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسبوهما إلى الاغتصاب لحق الله.
1227 - نا صالح بن محمدٍ، قال: نا المعلى بن هلالٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لي وزيرين من أهل السماء، ووزيرين من أهل الأرض، فوزيراي من أهل السماء: جبريل وميكائيل، ووزيراي من أهل الأرض: أبو بكرٍ، وعمر)).(5/324)
1228 - نا بشر بن خالدٍ، قال: نا سعيد بن مسلمة، عن إسماعيل بن أمية، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم، ويمينه على أبي بكر، وشماله على عمر، فقال: ((هكذا نبعث يوم القيامة)).
1229 - نا صالح بن عبد الله، قال: نا أبو بكر بن عياشٍ، عن أبي البختري، عن عبيد الله، عن نافعٍ، عن(5/325)
ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحشر أنا وأبو بكر وعمر ونحن مشرفون على الناس هكذا -وأشار بأصابعه الثلاث: السبابة، والوسطى، والبنصر-)).
وروي عنه عليه السلام: أن سبابته كانت أطول من الوسطى، فدل معنى هذا القول أنهم في الإشراف على الناس بمنزلة هذه الأصابع.
1230 - نا أحمد بن مصعبٍ الحنظلي، قال: نا عمر ابن إبراهيم بن خالد بن مهران البصري، قال: نا إسماعيل ابن عياشٍ، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن أسيد بن صفوان، وكان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لما قبض أبو بكر الصديق، ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسجوه، وجاءه عليٌّ -كرم الله وجهه- باكياً مسرعاً مسترجعاً، وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر مسجًّى، فقال:
رحمك الله أبا بكر! كنت إلف رسول الله وأنيسه،(5/326)
ومستراحه، وثقته، وموضع سره، ومشاورته، كنت أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأخوفهم لله، وأعظمهم عناءً في دين الله، وأحوطهم على رسول الله، وأحدبهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقباً، وأفضلهم سوابقاً، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسوله هدياً، وسمتاً، ورحمةً، وفضلاً، وخلقاً، أشرفهم منزلةً، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام، وعن رسوله وعن المسلمين خيراً، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، فسماك الله في تنزيله صديقاً، فقال: {والذي جاء بالصدق}: محمد، {وصدق به}: أبو بكر.
واسيته حين تخلوا، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا، وصحبته في الشدة أحسن صحبة؛ ثاني اثنين، وصاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في(5/327)
الهجرة، خلفته في دين الله وأمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس، وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبيٍّ، نهضت حين وهن أصحابك، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله إذ هموا، كنت خليفته حقاً، لم تنازع، ولم تصدع برغم المنافقين، وكبت الكافرين، وكره الحاسدين، وصغر الفاسقين، وغيظ الباغين، قمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، مضيت بنور إذ وقفوا، فاتبعوك، فهدوا، كنت أخفضهم صوتاً، وأعلاهم فرقاً، أقلهم كلاماً، وأصوبهم منطقاً، أطولهم صمتاً، وأبلغهم قولاً، أكثرهم رأياً، وأشجعهم نفساً، وأعرفهم بالأمور، وأشرفهم عملاً.
كنت والله! للدين يعسوباً أولاً حين نفر الناس عنه، وآخراً حين قبلوا، كنت للمؤمنين أباً رحيماً إذ صاروا عليك عيالاً، فحملت أثقال ما ضعفوا، ورعيت ما أهملوا،(5/328)
وحفظت ما أضاعوا لعلمك ما جهلوا، شمرت إذ ضيعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، فأدركت أوتار ما طلبوا، وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا، ونالوا بك ما لم يحتسبوا.
كنت على الكافرين عذاباً صباً ونهباً، وللمؤمنين رحمة وأنساً وخصباً، فظفرت والله! بعنانها، وفزت بخبائها، وذهبت بفضائلها، وأدركت سوابقها، لم تغلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، ولم يزغ قلبك ولم تخن، كنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، وكنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن الناس عليه في صحبتك، وذات يدك.
وكما قال، ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، جليلاً في أعين المؤمنين، كبيراً في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لقائل مهمز، ولا لأحد مطمع، ولا لمخلوق عندك(5/329)
هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، والقريب والبعيد عندك في ذلك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله، وأتقاهم له، شأنك الحق، والرفق، والصدق، قولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم.
فأقلعت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت النيران، واعتدل بك الدين، وقوي الإيمان، وثبت الإسلام والمسلمون، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، فجليت عنهم فأبصروا، فسبقت والله! سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إتعاباً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك في السماء.
وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، فوالله! لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً.
كنت للدين عزاً وحرزاً وكهفاً، وللمؤمنين فيئة وغيثاً(5/330)
وحصناً، وعلى المنافقين غلظةً وكظماً وغيظاً، فألحقك الله بنبيه، وجمع بينه وبينك، ولا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال: وسكت القوم حتى انقضى كلامه، فبكى أصحاب رسول الله حتى علت أصواتهم، وقالوا: صدقت يا ختن رسول الله.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)): فهذا بوفارة الحظ البارز له على الرسل كلهم من الله تعالى، ولأمته من بعده من حظه ما برزوا به على سائر الأمم، فحيثما انتصبوا لله قياماً، كان لهم من النور ما يتهيأ لهم الإقبال على الله.
فإذا كان ذلك منهم، أقبل الله عليهم، فبإقبال الله عليهم طهرت بقاع الأرضين حيثما انتصبوا، فإذا كبروا، رفعت الحجب، ودخلوا في ستره، فطهرت البقاع لهم حيثما وقفوا، ولم يكن هذا النور الذي به يقوون على(5/331)
الإقبال بقلوبهم في الأمم قبلنا، إنما كانوا يتكلفون في الظاهر الانتصاب له مع الإيمان به.
فأما نور الإيمان: فعز وجوده في الأمم، فوفر الله حظ الرسول صلى الله عليه وسلم وفارةً برز بها على الرسل -عليهم السلام-، واحتوت الأمة من حظه، فصارت الأرض له ولهم مسجداً.
وأما قوله: ((طهوراً)): فإنهم إذا لم يجدوا الماء الذي جعله الله طهوراً للخلق، وكانوا سفراً، فتعذر عليهم وجوده، أمرهم أن يتطهروا من أحداثهم بالصعيد الطيب، وهو التراب، وإنما سمي صعيداً؛ لأنهم يصعدونه، ويمشون عليه، فجعل ما تحت أقدامهم طهوراً لهم إذا لم يجدوا ما يصبون فوق رؤوسهم من الماء، وهو ماء الحياة الراكد تحت العرش من أجلهم.
وأن الله تعالى قال في تنزيله: {وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً} أي: فعولاً للطهر {لنحيي به بلدةً ميتاً}، فالماء الذي ينزل من السماء هو ماء الحياة من تحت العرش، خلقه الله حياة لكل شيء، فقال تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي}.(5/332)
فمنه حياة القلب، ومنه حياة الأرواح، ومنه حياة قلوب الموحدين، ومنه حياة قلوب المطيعين، ومنه حياة قلوب الأنبياء والأولياء، ومنه يحيون في قبورهم يوم النشور، ومنه يحيون إذا دخلوا الجنة، اغتسلوا بباب الجنة، حتى يكون لهم طهوراً من اللوث والأذى والأدران، وتصير أجسادهم أجساد أهل الجنة، من شرب منه شربة من حوض الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يظمأ أبداً، ثم إذا شربوا بباب الجنة، زايلهم كل أذى في أجوافهم، وصفت ألوانهم، وجرت النضرة في أجسادهم ووجوههم، وأمنوا الموت، ولا يجري عليهم سلطان الموت أبداً؛ لقوة الحياة التي في ذلك الماء.
فجعل الله جميع أرزاق العباد من ذلك البحر بقدر الله في ليلة الحكم، وهي ليلة القدر، وأرزاق جميع المرتزقة من خلقه في تلك الليلة إلى مثلها من قابل، فإذا نفد ذلك البحر، نفخ في الصور، وذلك قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون. فورب السماء والأرض إنه لحقٌ مثل ما أنكم تنطقون}.
فأنزل الله تعالى هذا الماء، وسماه طهوراً؛ أي: فعولاً للطهر، وإن هذا العدو لرجاسته ونجاسته قد وجد السبيل إلى الولوج إلى جوف ابن آدم.(5/333)
وبدؤه: أنه لما أكل آدم من الشجرة بما أشار عليه العدو، وجد العدو السبيل إلى المعدة، فجعل له هناك موطناً، فلذلك نتن ما في جوفه حين أخرج من الجنة؛ لرجاسة العدو ونجاسته، ثم ورث ذلك ولده.
وروي في الأخبار: أنه قال: يا ربّ أين مسكني؟ قال: صدور بني آدم، وهو قوله: {من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس}.
فإنما نتن ما في المعدة حتى صار روثاً؛ لنجاسته، وأمر آدم وولده بالوضوء لذلك، وأمر بغسل أطرافه، والأطراف أربعة: الجناحان، والرأس، والقدمان.
فأعلم العباد أن هذا طهور لكم؛ أي: يطهركم من آفاته الظاهرة والباطنة، فآفاته الظاهرة: ما يخرج منك من الأذى من البول والغائط ورائحتهما، وهي النفخة التي تخرج منها، فهذه كلها آفاته، وبلغ من خبثه وعداوته لك أن معدنه في ذلك الموطن الذي صير له منك معدناً هو مجمع الطعام، فإذا انطبخ، صار روثاً ودماً، فالدم غذاؤه، وموضع الروث مجلسه منك، فبلغ من عداوته أنه ينفخ عليك، فإذا خرج منك الصوت، هيج عليك الضحك من الطحال؛ فإن الطحال بيته، ومنه يسخط الآدمي في أموره، وفيه مجمع نفاية البدن من كدورة الدم وغيره.(5/334)
ألا ترى أن أكله من ذوات الأربع مما قد يعافه الآدمي، وإن كان قد أطلق له؛ لأنه سفالة الكبد، ومجمع ثفله من الدم، فذلك الضحك الذي يهيجه منك، وممن سمعه من الناس من أجل ذلك الصوت هو سخرية بك منه وشماتة، يريد أن يعلمك أني هاهنا؛ كي يصغرك عند نفسك، ويريك من باطنك ما ستر عنك؛ ليفسد منن الله عليك في جسدك الذي خلقه لك، وقد قال: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ}.
فالعدو حاسد لك، يحسدك في كل شيء، ويريد أن يكدر منن الله عليك، ولذلك صار الضحك حدثاً في الصلاة؛ لأنه من تهيج الشيطان من معدنه.
فالضحك في الصلاة حدث، والبلل ورائحة البلل من ذلك حدث، فهذا واجب الوضوء، ثم كان الرسول صلى الله عليه وسلم وكثير من الصحابة يتوضؤون لكل صلاة، منهم: علي بن أبي طالب، وعدة، يتوخون بذلك تجديد الطهارة؛ لقوله: {وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً}؛ لأن الآدمي يصيبه ساعة بعد ساعة آفة من آفاته من همزه ونفثه ونفخه ونزغه.
ألا ترى: أنه أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منه، فقال تعالى: {وقل رب أعوذ بك(5/335)
من همزات الشياطين}.
وقال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزعٌ فاستعذ بالله}.
وقال: {قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس}.
فهل أمر أن يتعوذ منه إلا من تتابع الآفات وتواليها؟
وآفاته تذهب بحياة القلب، وحياة القلب بالله يشد عقد الإيمان، ويؤكد عراه، فجعل الله هذا الماء طهوراً لهذا الآدمي المؤمن من هذه الآفات التي تعتوره من هذا العدو الذي لا يفارقه.
وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحدٍ من الآدميين إلا وله قرينٌ من الشيطان موكلٌ به))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخيرٍ)).
قال أبو عبد الله:
فوسواسه ونزغاته وهمزاته ونفخاته ونفثاته تطمس وجه القلب، وتذهب بحياته، كل على قدره، وذهاب حياة القلب يوهن العقد ويرخي عراه، ويخمد توقده، فبما وصفنا يجد العدو سبيلاً إلى إهاجة النفس بشهواتها(5/336)
وخدائعها وأمانيها، واغترارها بقول العدو الغرور، فإذا هاجت النفس، هاجت رياح الهوى بهبوبها، فنسفت النفس والقلب في الأركان، فرمته في آبار المعاصي، فضرره أعظم من أن يوصف.
ولذلك أمر الله تعالى عبيده أن يتخذوه عدواً، فقال تعالى: {إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}، وحذر العباد أن يغتروا به، فقال: {ولا يغرنكم بالله الغرور}، فمن لم يدخل في مأمن الله، وحرزه، ووكالته، ومعاقله، فهو أسيره، وكان ممن أغار عليه العدو فسلبه عطايا ربه.
قال له قائل:
وما مأمنه؟ وما حرزه؟ وما وكالته؟ وما معاقله؟
قال: مأمنه: حجبه الربانية، وحرزه: الوصول إلى قربه، ووكالته: قبوله ترقي نفسك إليه، ومعاقله: ترادف ذكره الذي هو ذكره، وهذه صفة الأولياء.
وقال الله في تنزيله: {الله ولي الذين آمنوا}، وقال في آية أخرى: {والله ولي المؤمنين}، فإنما والاهم ليوالوه، فمن والاه، فالله وليه في جميع أحواله ديناً ودنيا، وفي البرزخ، وفي المنشر، وفي المحشر، وفي الموقف، وفي الممر، وفي العرض، وفي داره،(5/337)
ومن والى نفسه، فقد ضيع نفسه عن هذه الأشياء، وبقيت معه ولاية الله له في التوحيد الذي ابتدأه به، ثم العسرة كائنة في جميع أحواله إلى باب الجنة إن سلم له توحيده، فجعل الله هذا الماء طهوراً لهذا المؤمن من آفاته الظاهرة والباطنة.
فأما في الظاهر، فليطهر جوارحه من تلك الأحداث التي حدث عليها، وفي الباطن يرد عليه ما ذهب من حياة القلب بطهارته.
ألا ترى أنه قال تعالى: {لنحيي به بلدةً ميتاً}، فالبلدة في الظاهر هذه الأرض التي إذا وصل إليها الماء، {اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيجٍ}، وكذلك قال تعالى في تنزيله: {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعةً}؛ أي: ميتة، {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} اهتزت: أي: تحركت، وربت: أي: انتفخت {إن الذي أحياها لمحي الموتى}، والبلدة في الباطن: القلوب تخلص إليها آفات العدو، فتموت عن الله، فيحييها الله بذلك الوضوء.
كذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:(5/338)
{اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها}، قال: يلين القلوب من بعد قسوتها.
فالقسوة من موت القلب، واللين من حياته.
ومما يحقق ما قلنا بدءاً: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يحافظ على الوضوء إلا مؤمنٌ)).
معناه: أن المؤمن البالغ إيمانه إذا أحدث، لم يقدر أن يدوم على الحدث، ولم يطمئن حتى يتوضأ، فيكون أبداً على الوضوء؛ لأن قلبه في وقت الحدث يفتقد نزاهة الإيمان وطيبه، ووساوسه تصير عاملة على القلب في وقت الحدث؛ لأن طهارة الماء بالتوضؤ قد انقطع عنه، فقوي وسواسه، وكثرت وساوسه، فالتفت القلب إلى بعض تلك الوساوس، فانطفأ بعض توقد نار القلب، وأذهب بعض ذكاء حياة القلب، فشعر به المؤمن، فأسرع إلى الوضوء؛ ليجد بعض ما افتقد، ويعود إلى الحالة الأولى.
معناه: أن هذا الفعل من علامة المؤمن البالغ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما أوصى به أنساً: ((يا بني! حافظ على الوضوء)).
1231 - نا مسلم بن حاتمٍ الأنصاري، قال: نا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن علي بن زيدٍ،(5/339)
عن سعيد بن المسيب، عن أنس بن مالكٍ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني! إن استطعت أن لا تزال على الوضوء، فافعل؛ فإن من أتاه الموت وهو على وضوءٍ، أعطي الشهادة)).
وأما قوله: ((طهوراً))، فإنهم إذا لم يجدوا الماء، وكانوا سفراً، صار هذا الصعيد لهم طهوراً بدل الماء، وإنما هذا لهذه الأمة خاصة، وكان لسائر الأمم الماء طهوراً على ما وصفنا بدءاً، فصار تراب هذه الأرض لهذه الأمة طهوراً يوازي ذلك الماء الذي جعله الله طهوراً للخلق، وجعله بحراً تحت العرش، أعده للعباد كما وصفنا بدءاً، وإنما صارت الأرض هكذا من أجل أنها لما أحست بمولد محمد صلى الله عليه وسلم، وبظهوره من بطن أمه على جديد الأرض، انبسطت الأرض، وتمددت، وتطاولت، وازدهرت، وأينعت، ولبست ثياب الدالة، وافتخرت على السماوات وسائر الخلق بأنه مني خلق، ومني تربى جسده، وعلى ظهري تأتيه كرامات الله، ومني يمشي يتقلب نبياً رسولاً، يعبد ربه، ويختلف إليه الرسل، وعلى بقاعي(5/340)
يسجد جبهته لله، وفي الجبهة ما فيها، وفي خلال أوديتي يتنزل كلام الله ووحيه البارز على الكتب كلها، وفي بطني مدفنه، وأنا الذي أتضمن أعظمه وجسده، وعلى ظهري يكون خاصة الله في أمته، وورثة ميراثه من الحكمة العليا، فجرت الأرض رداء فخرها ودالتها، وحق لها ذلك، فجعل ترابها طهور الأمة؛ لمجيء محمد صلى الله عليه وسلم على ما وصفنا، فبالأرض يتطهرون، وينتصبون بين يدي الله تعالى، سجداً، وحيثما ضربوا بأقدامهم بين يدي الله تعالى، صارت الأرض من تحت أقدامهم مسجداً.
وقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنك إذا دخلت، صليت في مواضع من البيت، أفلا نهيئ لك موضعاً تصلي فيه؟ فقال عليه السلام: ((يا عائشة! أما علمت أن المؤمن إذا وضع جبينه لله، طهرت تلك البقعة إلى سبع أرضين؟)).
فإنما صار التيمم لهذه الأمة دون سائر الأمم، لأنه بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم(5/341)
طهرت الأرض، فلما جاء بالتيمم عن الله إلى الأمة، قبلوه، فإنما قبلوا عن الله على يدي محمد عليه السلام، فحيثما مدوا أيديهم إلى بقعة، صار ذلك التراب طاهراً بمد أيديهم، وزالت أنجاس الشرك والمعاصي التي عليها، فإنما صارت طاهرة بمد أيديهم على ذلك القبول الذي قبلوه عن الله تعالى.
ألا ترى أنه قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً}؟ فلا يجزئ أحداً أن يتمعك في التراب، ثم يكتفي به عن التيمم، كما يجزئ الذي يقع في الماء، فيسبح فيه من غير قصد للوضوء، فيجزئه عن غسله ووضوئه به، وفي التيمم لو تمعك في التراب من غير قصد للتوضؤ به والتطهر، لم يجزه وهو محدث، فإنما ابتغى منه التيمم، وهو القصد بالقلب؛ ليطهر بذلك القصد، ومد اليد إليه، قابلاً لما جاء به الهدية، وهو محمد صلى الله عليه وسلم من المهدي، هذه النحلة في شأن التيمم كالطرفة والتحفة يتحف بها الملك عبده، يريد بذلك لطفه وبره وسروره، فيطهر ذلك التراب بمد اليد إليه، وقبوله للهدية، فلذلك خرج اللفظ بهذه الكلمة على التيمم، لتقصد القلوب للهدية، والهدية محمد صلى الله عليه وسلم، صار يطهر ما جاء به تراب الأرض طهوراً، كطهور الماء الذي أنزله الله من بحر الحياة.
وقد قال في شأن التيمم في تنزيله: {وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديهم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم(5/342)
لعلكم تشكرون}.
فالحمد لله الذي عطف علينا بأن أكرمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ من طهره بطهر الله الذي حشاه به: أنه لما وقعت على ظهر الأرض طهرة رسالاته، صارت تربة الأرض له ولأمته الذين نالوا من طهره طهراً حظاً وافراً بقبولهم له طهوراً تطهروا به، ووضوءاً توضؤوا به، وغسلاً تغسلوا به، فيسيل عن أجسادهم آثار العدو.
فأما قولنا في الهدية: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت إليكم، فإنما أنا رحمةً مهداةٌ)).
فمحمد صلى الله عليه وسلم من الله لنا هدية، والهدية ليست كالعطية، ولا كالحجة؛ فإن الرسل -عليهم السلام- بعثوا من قبله على الأمم حجة وعطية، فمن(5/343)
قبل العطية، بورك له، ومن لم يقبل العطية، تأكدت عليه الحجة، وعذب، ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان عطية وهدية، فمن قبل محمداً عطية وهدية، سعد، ورشد، وصار سابقاً ومقرباً، ومن قبل محمداً صلى الله عليه وسلم عطية، ولم يفطن للهدية، ولم يقبله قبول الهدية، سعد، ولم يصب ثمرة الرشد، ونجا بالسعادة، ومن أباه، وكفر، النعمة، وجحدها، كان حظه من السعادة النجاة من عقوبات الأمم التي عوجلوا بها في الدنيا، فسعدوا بهذا القدر، وتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة، والأولون عوجلوا بالعقوبة في الدنيا، وبالعذاب إلى أن التحقوا بعذاب الآخرة، فالعطية تغني ولا تمد، والهدية تغني وتمد، فمن قبل محمداً عطية وهدية، اجتباه الله، ومن قبله عطية، هداه الله إليه بالإنابة، وذلك قوله تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
قال له قائل: ما الفرق بين العطية والهدية؟
قال: العطية من الرحمة، والهدية من المحبة، وكذلك تجد الرجل يعطي عبداً من عبيده إذا رق له، ورحمه، إذا رآه في بؤس، أو ضعف قواه، وجبره بدريهمات وكسوة، يجبره بها، ويذهب عنه بؤسه، فهذه عطية من الرحمة، فإذا أحبه، أهدى إليه خلعاً، وحملان دنانير، يريد بذلك أن يستميل(5/344)
قلبه، ويختصه، ويتخذه لنفسه خادماً صفياً، وإنما سميت الهدية هدية؛ لاستمالة القلب بها.
ولذلك قيل: فلان يهادى في مشيته؟ أي: يتمايل، ومن ذلك قوله تعالى: {إنا هدنا إليك}؛ أي: ملنا.
فالرسل إلى الخلق عطايا من ربنا ورحمته، فبعث إليهم من يهديهم، ويذهب عنهم بؤس فقر الكفر، ويجبر كسرهم، ورحمنا ربنا، فبعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم عطية وهدية. العطية من الرحمة، والهدية من المحبة، فجعل الإيمان والإسلام في العطية، وجعل حكمة الإيمان والإسلام في الهدية، وذلك قوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته} ثم قال: {ويزكيهم}، ثم قال: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}. فحكمة الإيمان والإسلام هدية لهذه الأمة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم خاصة فضلاً على الأمم.
قال له قائل: وما تلك الهدية؟
قال: كنوز المعرفة من خزائن السبحات، فاحتظينا -معاشر الأمة- من تلك الكنوز حظاً وافراً برزنا به على سائر الأمم، حتى صرنا موصوفين لبني إسرائيل في التوراة والإنجيل.
وروي في الخبر: أن صفة أمة محمد عليه السلام في التوراة: صفوة الرحمن.(5/345)
وفي الإنجيل: حكماء، علماء، أبرار، أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء.
فإنما ورثنا هذا من حظ محمد صلى الله عليه وسلم البارز به على حظوظ سائر الرسل -عليهم السلام-، فتلك هدايا الله إلى محمد، ثم صير محمداً عليه السلام لنا هدية.
1232 - نا إبراهيم بن عبد الله العبسي، قال: نا وكيعٌ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس! إنما أنا رحمةٌ مهداةٌ)).
فهذا يحقق ما قلنا بدءاً: أن الرسل -عليهم السلام- للأمم عطية، ورسولنا صلى الله عليه وسلم للأمة عطية وهدية، ورقي بتلك الهدية حتى تراءى له محل الدرجة الوسيلة، وقال: ((إني لأرجو أن تكون لي)).
وأمرنا -معاشر الأمة- بما أصبنا من الحظوظ من حظه حتى صرنا(5/346)
بارزين على الأمم، فمنا السابقون، ومنا الأولياء، ومنا الأصفياء، ومنا خاصة الله تعالى.
وقال في تنزيله: {قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم} أي: أن يعطى أحد مثل ما أعطيتم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: ((ما أعطيت أمةٌ من اليقين ما أعطيت أمتي)).
وليس في الأرض شيء أعز من اليقين ولمقدار رأس إبرة من اليقين يوسع الله خيراً وبركة، وأقل شيء منه ينفي الشك عن القلوب، ويبلغ به العبد منازل الكرام السادة، فإنما صير محمداً صلى الله عليه وسلم لنا هدية؛ ليهدينا إلى أعلى درجات الدنيا عبودة؛ لنكون غداً في أعالي درجات الجنة، بالقرب من رسولنا عليه السلام؛ لتقر عينه بنا؛ فإن ربنا يحب أن يقر عينه بنا؛ لأنه من بين الرسل حبيب، وقد جرت الأخبار عنه بهذه الكلمة.
1233 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا سعيد بن أبي مريم، قال: نا مسلمة بن علي، قال: حدثني زيد بن واقدٍ، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وموسى نجياً، واتخذني حبيباً،(5/347)
ثم قال: وعزتي! لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي)).
فالحبيب: يحب أن يقر عين الحبيب بأمته، فقد أعلمنا في تنزيله كيف محلنا من قبله، فقال تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم}؛ أي: يعز عليه، ويشتد عليه أن نقع في إثم، وحريص على هدانا وطاعتنا لله تعالى، ثم ذكر رأفته ورحمته علينا، فقال: {بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ}، فمن أصدق من الله قيلاً؟
فالله أخبرنا بهذا عن باطن قلبه لنا، فهو يحب أن يقر عينه غداً بنا في الموقف، وفي درجات الجنان، فأعطانا من حظه، ما يمد بنا إلى نفسه قرباً بتلك الكنوز، حتى تكون طاعتنا لله، وقلوبنا له، ونفوسنا أكثر انقياداً وتذللاً وعبودة، ومعرفة بالله وعلماً به من سائر الأمم، ويباهي الله بهذه الأمة في سمائه، فيري ملائكته بها ما يصعد إليه من أعمالهم وبرهم، ووفائهم ويقينهم وصدقهم، وجدهم وجهدهم، واستقامتهم وحبهم له.
عدنا إلى ما كنا فيه من ذكر التيمم، فرد محمد بن علي السؤال على بعض من حضره، فقال: أرى بعض علمائكم يقولون: إذا وقع في الماء(5/348)
وخرج منه غير ناوٍ للوضوء، أجزأه ذلك من الوضوء.
وقالوا: إذا تمعك في التراب، أو نثر عليه حتى أصاب مواضع الوضوء ذلك الغبار، أنه لا يجزئه حتى ينوي التيمم، فسألوا عن الفرق بينهما، فقالوا: لأن الله تعالى قال: {فتيمموا}، والتيمم هو القصد للصعيد، والقصد لا يكون إلا بالقلب، فلذلك قلنا: إنه لا يجزئه حتى ينوي؛ أي: يقصد.
قلنا: فقد قال هاهنا: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا}، فهذا الذي وقع في الماء لم يغسل أيضاً، فإن قلتم: إنه لما وقع في الماء، انغسل، فكذلك لما تمعك في التراب، انغبر، فإن كان أريد في الوضوء منه سيلان الماء على مواضع الوضوء، فقد أريد منه في التيمم اغبرار مواضع الوضوء، فكما سال الماء عليه بغير إسالة، فأجزأه، فكذلك إذا أهالوا عليه التراب من غير فعل منه، وانغبر، أجزأه ذلك، فالقياس في كليهما مستمر بهما يتساويان.
فإما أن يقول: لا يجزئ ذلك عنه في الوضوء حتى يغسله بفعل منه؛ لأنه أمر بالفعل، فقال: اغسلوا؛ كما قال هاهنا: اقصدوا.(5/349)
وإما أن يقول: كلاهما جائز على مذهب ما ذهبت إليه أنه ابتغى منه سيلان الماء عليه بأن الماء جعل له طهوراً، فإذا جرى عليه، فقد طهر، سواء أجراه بنفسه، أو جرى عليه الماء من غير فعله.
قلنا: فكذلك خص رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الرسل، وأمته من بين الأمم بهذه الهدية بأن جعل تراب الأرض له طهوراً، فإنما ابتغى منه الطهارة بذلك التراب، فسواه عليه هو ترب نفسه يريد به الطهارة، أو تربه غيره، فلم نجدهم التجؤوا إلى شيء يكون بين المسألتين فرقاً مزيلاً، كلما راموا فرقاً، وجدناه متصلاً، فكل حالة من الوضوء بالماء قابلناه بحالة الوضوء بالتراب وجدناها مستوية، ووجدنا مفزعهم إلى هذه الكلمة: أن الله تعالى قال هاهنا: {فتيمموا}، والتيمم: هو القصد بالقلوب.
فقلنا: أي شيء يقصد؟
قالوا: يقصد إلى أن يتطهر به من الحدث.
فقلنا لهم: أمر هاهنا بالقصد للتراب ليمسح، ولم يأمر هناك بالقصد(5/350)
للماء ليغسل، فقال هاهنا: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم}، ولم يقل: اقصدوا ماء، واغسلوا وجوهكم وأيديكم؛ لأن الغسل كان متعارفاً في الأمم، وفي الجاهلية: أن الأقذار والنجاسات والأدناس إنما تغسل بالماء، فكان ذلك معروفاً عندهم، فلما جاء الله بالإسلام، وأمرهم بالانتصاب بين يديه مصلين، ولم يخل أحدهم من أدناس الخطايا، لم يرض لهم أن يقوموا بين يديه مصلين، مترضين له، معتذرين إليه، ومعهم غبار العدو وأدناسه، وإن لم يكن على أجسادهم في الظاهر أقذار ونجاسات، فأمرهم أن يغسلوا أطرافهم، وسماه وضوءاً، يعلمهم أن هذه الأطراف تصير وضيئة بهذا الغسل، ويذهب غبار العدو عنها، فيطهروا، وقد قال في تنزيله: {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم}، ثم قال: {لعلكم تشكرون}.
يطهركم بالماء حتى تزول الأدناس، وغبار العدو، فإذا زالت، حيي القلب، فتلك الحياة تمام النعمة، فقاموا لله منتصبين بحياة قلب، يعقلون ما يعبدون به، وأنهم بين يدي الله، فذلك منهم شكر، فلما جاءت هذه الأمة، وعطف الله عليهم بكرامته إياهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، كان التوضؤ بالتراب غير متعارف عندهم، ولم يكن عندهم أن التراب فيه طيب وطهارة، وإنما عرفوا الطهارة في الماء، فأمرهم بالقصد للتراب؛ ليتمسحوا به، فكانوا(5/351)
لا يحتاجون إلى قصد الماء؛ لأن الماء لهذا أنزل؛ ليزال به الأقذار والتراب؛ ليطرح عليه الأقذار، فهكذا كان المتعارف في ولد آدم عليه السلام منذ خلقهم الله، فلما جاءت نوبة هذه الأمة، أهدى الله محمداً عليه السلام إلى الأمة، مع كنوز المعرفة، ووفارة الطهارة، وطهرت الأرض، فصارت بقاعها مساجد للأمة، وصعيدها طهور للأمة، يتوضؤون به.
فقيل للأمة في الظاهر: تيمموا؛ أي: اقصدوا التراب؛ لأنه كان من شأنكم وعادتكم التطهر بالماء، فإذا فقدتم الماء أنتم -يا معشر أمة محمد-، فاقصدوا التراب عند فقد الماء، فتطهروا بالتراب.
وقيل لأهل الباطن من الأمة: اقصدوا للهدية التي في باطن هذا الأمر، فبحرمة قصد أهل الباطن قبل الله قصد أهل الظاهر للتراب، فوجدنا علماءكم قد تعلقوا بهذه الكلمة في شأن الفرق بينهما: أن الله تعالى قال في شأن الوضوء: {فاغسلوا}، ولم يقل: اقصدوا للماء، واغسلوا.
وقال هاهنا: {فتيمموا}؛ أي: اقصدوا التراب، وامسحوا، والباب(5/352)
عنهم منغلق، ليس وراء هذا عندهم شيء، فيحتجوا به على الأمم، ويستبشروا بالفضل الذي حباهم الله به.
فقلنا لهم: إن الحجة القاطعة في الفرق بينهما في نفس الآية، ولكن لم يفتح لكم الباب فتفهموا عنه، وصرفتم عنه، فانظروا ما آية هذا الصرف؟ فإنه قال: {سأصرف عني آياتي}.
فقال أهل التفسير: صرف الله عن آياته قلوب المتكبرين بغير الحق، فلا يفهمونه، ولا يجدون حلاوته ولا لذاذته، ولا لطائفه ولا دقائق حدوده، فأما الحجة القاطعة في نفس الآية، فإنه قال: {فتيمموا صعيداً}.
فالصعيد: هو التراب الذي يصعد الناس عليه بأقدامهم، فيطؤونه.
ثم قال: {طيباً}، فأعلمنا أن الخبث الذي حل بالأرض من نجاسة الشرك، ورجاسة العدو، وارتفع، وزال، وعاد الصعيد الذي تقصدون لتناوله، فتمسحون به مواضع الوضوء طاهراً، وزايله الخبث؛ لعظيم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عندي، فإنما أمرنا بقوله: {تيمموا}؛ أي: اقصدوا تلك(5/353)
الهدية التي بها طاب هذا الصعيد، فإنما القصد للهدية في التراب، لا للتراب، فإذا كانت الهدية مفقودة عن القلب، والقلب بها جاهل، فماذا يغني؟
فالرسول عليه السلام يقول: ((أعطيت هذا، ولم يعط أحد من الأنبياء قبلي)).
فسماه الله في تنزيله: طيباً، فإنما فرق بين الوضوء والتيمم هذه النكتة أن يقصد للهدية في التراب، فيقبلها من الله؛ فإن الأرض قد عادت لك طيبة، قامت لك مقام الماء الذي جعله الله طهوراً لك.
فالطهر يجمع المتفرق، والطيب يحيى، ويثبت، ويدوم أصله، فالطهور بالماء للأمم كلها، والطيب بالتراب لهذه الأمة خاصة، فاجتمع الطهر والطيب في التيمم، وتمت نعم الله علينا به، فإنما طابت الأرض لمجيء الكنوز مع محمد عليه السلام، وكذلك الغنائم كانت نجسة؛ لأنها أخذت من العدو، وملك العدو كله نجس.
ألا ترى أن الله تعالى ذكر حلي آل فرعون أوزاراً، فقال: {أوزاراً من زينة القوم}، وكانت لا تحل لهم؛ لنجاستها، فكانوا(5/354)
يضعونها، فتجيء نار من السماء فتأكلها، وكان هارون عليه السلام أمرهم أن يقذفوا ما في أيديهم من تلك الحلي التي استعاروها من آل فرعون، فقال لهم هارون: تطهروا منها، فرموا بها، فجمعها السامري، فاتخذها عجلاً، فقذف فيها التراب الذي كان رفعه من حافر فرس جبريل عليه السلام فرس الحياة؛ للفتنة التي كتب الله عليهم بلواها، فذلك قوله تعالى: {ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم}، فإنما يسمى أوزاراً؛ لرجاسته.
فقال الله لهذه الأمة: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً}؛ أي: أحلت لكم الجزية، ثم قال: {طيباً}، وإنما طابت هذه الغنيمة لمحمد عليه السلام وأمته؛ لأنهم ضربوا بالسيوف بحرارة حمية حب الله وزايلتها، رجاسة الكفر وأهله؛ لأن حرارة الحب تقطع علائق النفس، وتخرق أسبابها، وعلائق النفوس من أسباب الشرك، وسائر الأمم لم يعطوا هذا، فلم تطب لهم الغنائم.
ولم تزل رجاسة أهل الكفر من تلك الأشياء، فلم تحل لهم، فبنو إسرائيل إنما قاتلوا على الديار، وعلى الأرضين المغتصبة التي كانت لآبائهم، وهي الأرض المقدسة أرض إبراهيم عليه السلام، فقاتلوا عليها، ليردوها إلى ملكهم، فأنبياؤهم بعثوا للدعوة إلى الله، ونبينا عليه السلام بعث للتوبة والملحمة، يعني: إن لم يتوبوا، لحموا بالسيوف، فلذلك قال عليه السلام: ((أنا نبي التوبة، ونبي الملحمة)).(5/355)
1234 - نا بذلك علقمة بن عمرٍو التميمي قال: نا أبو بكر بن عياشٍ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا نبي التوبة، ونبي الملحمة)).
قال أبو عبد الله:
معناه عندنا: أن الأنبياء قبلي أمروا بدعوة الخلق إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، فإن أجابت الأمة، وإلا، عذبت، وبعثت إلى الأمة بأن أدعو إلى: لا إله إلا الله، فإن أجابت، وإلا أمهلتهم حتى يتوبوا، وللتوبة انتظار ومدة، والعذاب مأمون، فهم يتقلبون في الشرك مع المدة، وأنا صاحب التوبة، فإن تابوا، قبل الله ذلك منهم بأن جعلني نبي التوبة، ومن تمادى في ذلك، لحمت أجسادهم بالسيف؛ أي: ضربتهم حتى صاروا لحوماً بلا أرواح، فكما صارت الغنائم طيبة من رجاسة الكفر بما ذكرنا من حرارة الحب التي فضلت هذه الأمة بها، فكذلك طابت الأرض من رجاسة الكفر والمعاصي بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الأنوار المقدسة، فصارت الأرض لهم مسجداً(5/356)
وطهوراً، وطابت أيضاً بليلة القدر، وشهادة الرب لأهل الأرض بالقربة، وإنما كانت تكون المشاهدة للنبيين على أجسادهم، وأعطيت هذه الأمة على أرضها حتى يراها من سبقت له الحسنى من الله بعينه إشراق المشاهدة.
وقد روي في الأخبار: أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((هذه ليلةٌ كشف غطاؤها)).
ولذلك قال علي رضي الله عنه: أنا أشرت على عمر رضي الله عنه في أن يقيم للناس إماماً في شهر رمضان، ليصلي بهم صلاة التراويح، وأعلمته أن لله ملائكة في حظيرة القدس يقال لهم: الروح، فإذا كانت ليلة القدر، استأذنوا ربهم في النزول إلى الأرض.
1235 - نا بذلك عبد الأعلى بن واصلٍ الأسدي،(5/357)
قال: نا عبيد بن إسحاق العطار، قال: نا سيف بن عمر التميمي، عن سعد بن طريفٍ، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي، ((فإنما استأذنته ملائكة الروح في النزول إلى الأرض؛ طمعاً أن ينالوا ما لم يكن عندهم في مقامهم)).
ومما يحقق ذلك: قول الله تعالى: {تتنزل الملائكة والروح فيها}، يعني: في تلك الليلة، ثم قال: {من كل أمرٍ. سلامٌ هي}؛ أي: تلك الليلة سلام من كل آفة {حتى مطلع الفجر}.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرمى في تلك الليلة بنجمٍ؛ لأن الشياطين قد اختنست من أجل المشاهدة، وقال: ((لا يحدث فيها داءٌ))؛ لأن الخلق صاروا في مأمن من مشاهدة السلام المؤمن المهيمن، فبقيت طهارة المشاهدة وطيب سلام السلام على الأرض، فهذا كله لهذه الأمة، فكيف لا يعود ترابها طهوراً؟
وأما نفس هذه الكلمة من قوله: {تيمموا}، فإن ترجمتها(5/358)
هي: التوجه، وذلك أن كل شيء توجهت إليه، فقد جعلته أمامك.
يقال في اللغة: أم الشيء يؤمه؛ أي: توجه ما أمامه، فإنما هو تأمم على قالب تفعل، فإذا أبدلوا بالألف أو الهمزة ياء، قيل: تيمم، فهذا أصل هذه الكلمة، فإنما أمرت بالتوجه إليه بالقلب، ولو كان ذلك يراد به التوجه بالبدن، لكان في كل عمل من الغسل وغيره لا يتهيأ له حتى يتوجه، فإنما خص التيمم بذلك التوجه؛ ليكون فرقاً بينه وبين الغسل.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالرعب)): فإن الرعب أصله من فورة سلطان الله من باب النار، فإذا جعل نصرته من الرعب، فقد أعطي جنداً لا يقوم له أحدٌ، ولم يعط أحدٌ من الرسل ذلك، فكان أينما ذكر من مسيرة شهر، وقع ذلك الرعب في قلب عدوه، فذل بمكانه.
وأما قوله عليه السلام: ((أحلت لي الغنائم)): فقد دخل تفسير هذا فيما بيناه بدءاً من شأن التيمم.
وأما قوله عليه السلام: ((أعطيت الشفاعة، فادخرتها لأمتي)): فإن تلك دعوة كانت لكل نبي، فتعجلها الأنبياء في الدنيا، وأخرها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذخراً لأمته، ونصيحة لله في عباده، فاستوجب بنصيحة الله وبرأفته على عبيده: أن وضع دعوته في محل التربية حتى تربو، وتتضاعف حتى يخرج له يوم(5/359)
القيامة تلك الدعوة بهيئة يحتاج الخلق كلهم إليها، حتى إبراهيم خليل الله، كذلك روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1236 - نا بذلك عبد الرحيم بن يوسف، قال: نا يعلى بن عبيدٍ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن عبد الله بن عيسى، عن جده عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعبٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لما أتاني جبريل عليه السلام بهذه الدعوة، قلت: إني ادخرتها لأمتي، فيحتاج الخلق كلهم إلي في هذه الدعوة، حتى إبراهيم خليل الله)).
وفي الحديث قصة، اختصرنا هذه الكلمة التي احتجنا إليها في هذا الموضع مسألة لاحقة بمسألة التيمم.
1237 - نا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة ابن كهيلٍ، قال: حدثني أبي، [عن أبيه]، عن سلمة بن كهيلٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن نبيٌّ قبلي، بعثت إلى الناس كافةً الأحمر والأسود، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، ونصرت(5/360)
بالرعب، يرعب مني عدوي على مسيرة شهرٍ، وأطعمت المغنم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت الشفاعة، فادخرتها لأمتي إلى يوم القيامة)).
1238 - نا صالح بن محمدٍ، والجارود بن معاذٍ، قالا: نا جريرٌ، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن نبيٌّ قبلي، ولا فخر)).
فذكر مثل حديث سلمة، عن مجاهد، عن ابن عمر.
1239 - ونا قتيبة بن سعيدٍ، قال: نا بكر بن مضر، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن(5/361)
شعيبٍ، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجالٌ من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى، وانصرف إليهم، فقال لهم: ((لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحدٌ كان قبلي، أما أنا، فأرسلت إلى الناس كلهم، وكان من كان قبلي يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان مسيرة شهرٍ بيني وبينهم لملئ مني رعباً، وأحلت لي المغانم كلها، وكان من كان قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة، تمسحت، وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة هي ما هي؟ قيل لي: سل؛ فإن كل نبيٍّ سأل، فادخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد(5/362)
أن لا إله إلا الله)).
وقال الله في تنزيله: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجهكم وأيديكم منه}، ثم قال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}.
فأعلم العباد أن في التراب طهوراً إذا لم يجدوا الماء بقوله: {ليطهركم به}، فأقام التراب مقام الماء، وأعلم العباد حظهم من مشيئته: أن مشيئتي قد انقسمت على من مضى، وعليكم، فكان وفارة حظوظكم من مشيئتي أن خرجت لكم إرادتي أن جعلت لكم التراب بدل الماء طهوراً، وأن هذه هدية مني لكم، واختصصتكم بالهدية دون سائر الأمم، فاشكروني عليها، وأن الأمر قد يجيء من الله حكماً وحتماً، ويجيء الأمر حكماً مع البر واللطف، ففي ذلك يكون(5/363)
يسراً عليهم، فيسر عليهم بأن أقام لهم التراب طهوراً يتطهرون به كالماء، ثم ألقى إليهم بعقب الأمر لطفاً ينبئ عن إرادته ومشيئته، ويقتضيهم شكر هذا اللطف والبر، فقال: {ولعلكم تشكرون}.
فجرى حكم التيمم في الواجبات من الأمور أنه إذا فقد الماء، فقد جاءت ضرورة، فإذا تيمم، فقد زالت عنه الجنابة والأحداث، وكذلك كل ضرورة إذا جاءت سوى فقد الماء، فإنه يقوم التراب مقام الماء، وذلك إذا كان مجروحاً، أو محصوراً، أو برداً شديداً يخاف على نفسه منه، كانت تلك الضرورة كفقد الماء، وقد ذكر في الآية ضرورة المرض، فقال: {وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ}، فجعل المرض وفقد الماء ضرورتين.
وروي عن رسول الله في شأن البرد:
1240 - نا بذلك محمد بن عبد الله بن يزيد القرشي، قال: نا أبي، قال: نا ابن لهيعة، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيبٍ، عن عمر بن أبي أنسٍ، عن عبد الرحمن بن جبيرٍ، عن عمرو بن العاص، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة(5/364)
ذات السلاسل، فاحتلمت في ليلة باردةٍ شديدة البرد، فخشيت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرت ذلك له، وقلت: يا رسول الله! أشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً}، فتيممت، ثم صليت بأصحابي فضحك رسول الله.
1241 - نا قتيبة بن سعيدٍ، قال: نا الليث بن سعدٍ، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن رسول الله، بنحوه.
وقال: ((ما أحب أنك تركت شيئاً مما فعلت)).
قال أبو عبد الله:
ثم جرى في الأخبار ذكر سائر الضرورات، من ذلك: أن تموت المرأة ليست معهم امرأة تغسلها.(5/365)
1242 - نا محمد بن عبدة بن سليمان، قال: نا أبو بكر بن عياشٍ، عن محمد بن أبي سهلٍ، عن مكحولٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة تموت في السفر مع رجالٍ ليس معهم امرأةٌ، وفي الرجل يموت في السفر ومعه نساءٌ ليس معهن رجلٌ، فقال: ((ييممان بالصعيد)).
قال محمد بن عبدة: سمعته من أبي بكر بن عياش مع أبي، ووكيع، ويحيى بن آدم.
1243 - نا أحمد بن مصرفٍ المامي، قال: نا أبو يحيى الحماني، عن أبي سعيدٍ، عن مكحولٍ، عن رسول الله بمثله.
ومن ذلك صلاة الجنازة إذا حضرت، فخاف فوتها، فأجازوا له التيمم.(5/366)
1244 - نا محمد بن أبي مذعورٍ، قال: نا ابن نميرٍ، قال: نا إسماعيل بن مسلمٍ، عن عبيد الله، عن نافعٍ، عن ابن عمر: أنه أتي بجنازة، وهو على غير وضوء، فتيمم، وصلى عليها.
1245 - نا إسحاق بن إبراهيم بن الشهيد، قال: نا عمر بن أيوب الموصلي، عن المغيرة بن زيادٍ، عن عطاء ابن أبي رباحٍ، قال: مرت بابن عباسٍ جنازةٌ، وهو على غير طهر، فتيمم بالصعيد، وصلى عليها.
قال أبو عبد الله:(5/367)
فهذه ضرورة خوف الفوت، ثم من بعد ذلك أحوال تأتي على المؤمن ما يجب أن يجدد وضوءاً، والماء موجود في الحضر، فتيمم مخافة الفوت.
وذلك مثل ما:
1246 - حدثني به أبي رحمه الله، قال: نا محمد بن الحسن، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عبد الله ابن هبيرة، عن حنشٍ، عن ابن عباسٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج، فيهريق الماء، فيتمسح بالتراب، فأقول: يا رسول الله! الماء منك قريبٌ، فيقول: ((ما أدري، لعلي لا أبلغه)).(5/368)
1247 - حدثني أبي، قال: نا الفضل بن دكينٍ، عن سفيان، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: إن كان أحدهم ليبول، ثم يمسح بالتراب؛ مخافة أن تقوم الساعة.
1248 - ونا محمد بن موسى الحرشي، قال: نا محمد بن ثابتٍ العبدي، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: سلم رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه حتى دنا إلى حائط، فضرب بيده ضربةً، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح بها ذراعيه إلى المرفقين، ثم رد عليه السلام.
1249 - نا محمد بن بشار العبدي قال: نا محمد بن(5/369)
جعفر، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب: أن رجلاً سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بال، فلم يرد عليه حتى أتى حائطاً، فقال بيده على الحائط؛ يعني: أنه تيمم.
1250 - نا سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه، عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاري، عن سليمان بن يسارٍ، عن رسول الله، بنحوه.
1251 - نا عبد الكريم بن عبد الله اليشكري، قال: نا أبو معاذٍ النحوي، قال: نا أبو عصمة، عن موسى بن علقمة، عن الأعرج، عن أبي جحيفة، قال: أقبل(5/370)
رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر جملٍ، إما من غائطٍ، أو بولٍ، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى ضرب الحائط بيده، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب أخرى، فمسح ذراعيه إلى المرفقين ثم رد علي السلام.
قال أبو عبد الله:
فهذه ضرورة مخافة الفوت؛ لأن رد السلام فريضة، ثم من بعد ذلك أحوال ما يشبه هذا.
1252 - نا الجارود بن معاذٍ، قال: نا جريرٌ، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن الحارث بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشامٍ، عن أبيه، قال: أتى ابن الحمامة السلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أثنيت على ربي، ومدحتك، فقال: ((أمسك عليك))، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج به من المسجد، فقال: ((أما ما أثنيته على ربك فهاته، وأما ما مدحتني به، فدعه عنك))، فأنشده، حتى إذا فرغ، دعا بلالاً، فأمره أن يعطيه شيئاً، ثم أقبل(5/371)
رسول الله على المسجد، فوضع يده على حائط المسجد، فمسح به وجهه وذراعيه، ثم دخل.
قال أبو عبد الله:
فهذا تيمم من أجل أنه استمع إلى شعرٍ؛ فذاك، وإن كان ثناء على الله، فإنه سجع وتكلف، فإنما أثنى على الله؛ طمعاً في نوال عرضٍ من الدنيا، فداراه رسول الله، ولم يرده، ولم يخيبه من طمعه.
ألا ترى أنه أمره بالإمساك حتى خرج من المسجد؛ لأنه كره أن يذكر الله أحدٌ يطمع في نوال، وإنما أعطاه وقايةً لعرضه.
1253 - نا سفيان بن وكيعٍ، قال: نا زيد بن حبابٍ، عن مسور بن الصلت، عن محمد بن المنكدر، عن جابر ابن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه شاعرٌ، فأمر له بشيء، ثم قال: ((ما وقى به المرء عرضه، فهو له صدقةٌ)).(5/372)
فكذلك هناك في ذلك الحديث أعطاه؛ ليقي عرضه، فلما فرغ وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى المسجد، تيمم، وعد ذلك حدثاً، فتيمم؛ ليعود إلى الحالة الأولى، وأيضاً ضرورة أخرى احتياط من حيث لا يدري، وذلك إن تفكر المرء في نفسه ما جاء في تشديد البول، وما جاء فيه من عذاب القبر، فيخاف أن يكون قد أصابه منه شيء من حيث لا يدري، فأمر بالتيمم.
1254 - نا بذلك عبيد الله بن يوسف الجبيري، قال: نا عثمان بن عبد الرحمن الحراني، قال: نا عبد الحميد ابن يزيد، عن آمنة بنت عمر، عن ميمونة، أنها قالت: يا رسول الله! أفتنا عن عذاب القبر، قال صلى الله عليه وسلم: ((أثر البول، فمن أصابه منه شيءٌ، فليغسله، ومن لم(5/373)
يجد، فليمسح بترابٍ طيبٍ)).
فصير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد علمه؛ لأنه لا يدري أصابه أم لا، كفقده الماء.
وروي عن الأعمش: أنه كان إذا أراد أن يحدث، تيمم.
وروي عن السلف: أن أحدهم كان إذا انتبه من النوم، تيمم في فراشه؛ ليعود إلى النوم على طهارة جديدة، وكانوا يستحبون إذا نام الرجل في المسجد، فاستيقظ من منامه، أن يتيمم على مكانه؛ لكي يكون ممره في المسجد إذا أراد الخروج على طهارة، فهذا التيمم هدية من الله لهذه الأمة خاصة دون الأمم؛ لتدوم لهم هذه الطهارة في جميع أحوالهم ليلاً ونهاراً؛ لإتمام النعمة عليهم، وليشكر العباد على هديته، فأقاموه مقام الماء في كل نوع من أنواع الضرورات، والله محمود على كل حال.(5/374)
الأصل الحادي والأربعون والمئتان
1255 - نا نصر بن عليٍّ، قال: أخبرني عويد بن أبي عمران الجوني، قال: حدثني أبي، عن أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني! أسبغ الوضوء يزد في عمرك)).(5/375)
قال أبو عبد الله:
فزيادة العمر تتجه على وجهين:
وجه منها: أن العبد إذا عمر بالإيمان، وبحياة القلب بالإيمان، فذاك كثير، وإن قل في عدد الأيام والمدة؛ لأن القصير من العمر إذا احتشى من الإيمان، أربى على الكثير، وإنما يبتغي من العمر العبودة لله؛ كي يصير غداً عند الله وجيهاً.
ألا ترى أن المعمرين من الرسل -عليهم السلام- مثل نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وموسى -عليهم السلام- كلهم عمروا ما بين المئتين إلى الألف، ومحمد عليه السلام إنما لبث في النبوة نيفاً وعشرين سنة، فأربى على الجميع، وتقدمهم؛ لعظيم حشوه، ووفور حظه، ودنو قربه، وقال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)).
ولذلك قال: ((إن الله أعطاني خصالاً لم يعط أحداً قبلي: سميت أحمد، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم)).(5/376)
1256 - نا بذلك الفضل بن محمدٍ، قال: نا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، عن عاصم بن علي بن عاصمٍ، عن قيس بن الربيع، عن عبد الله بن محمد بن عقيلٍ، عن الطفيل بن أبي بن كعبٍ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فكل واحدة من هذه الخلال لو حملت السماوات السبع والأرض ما في حشو كل خصلة منها، لأثقلتهما.
فأما قوله: ((سميت أحمد))، فمنه نال لواء الحمد؛ لأنه هو الذي وصل إلى عش الحمد من بين الرسل، وكانت الرسل تحمد ربها من جو الآلاء، ومحمد من جو الرحمة العظمى الذي منه بدأ الآلاء، فلذلك جعل أحق الرسل بلواء الحمد؛ لأن حمده أخلص وأوفر.(5/377)
وأما قوله: ((نصرت بالرعب)) وما بعده من هذه الخصال، فقد تقدم تفسيره.
ووجه آخر: أن الله تعالى قدر الآجال والأرزاق والحظوظ بين أهلها، فجعل بعضها واجبة، وبعضها هدية، ثم أثبت ذلك كله في أم الكتاب الذي عنده، الذي لا يطلع عليه أحد، ومنه نسخ إلى اللوح المحفوظ، فيمحو من ذلك الأم ما شاء، ويثبت ما شاء، فأما الواجبات، فقد وجبت لأهلها، والهدايا تمحى بالأحداث التي تكون من أهلها في الأرض، فإذا حافظ المؤمن على الوضوء، وأسبغ الوضوء، فإنما يدوم هذا الفعل للعبد؛ لوفارة إيمانه، ولاتساع صدره شرحاً للإسلام، فهداياه في أم الكتاب مثبتة تتربى له وتربو؛ لحفظه وصونه للهدايا، فإذا استخف بها، دخل في التخليط في إيمانه، وذهبت الوفارة، وانتقص من كل شيء؛ بمنزلة الشمس التي ينكسف طرف منها، فبقدر ما انكسف، ولو بقدر رأس إبرة، انتقص شعاعها وإشراقها على أهل الدنيا كلهم، وخلص ضرر النقصان إلى كل شيء في الأرض.(5/378)
فكذلك نور المعرفة، بقدر ما ينكسف من شمسها، ولو بمقدار رأس إبرة، ينتقص من جميع أعماله وأخلاقه وسيرته في الدين بين يدي الله تعالى؛ لأن القلب صار محجوباً، فمن حجب عن الله بمقدار رأس إبرة، فزوال الدنيا بكليتها أهون من ذلك، فلا يزال العبد ينتقص ويتراكم نقصانه، وهو أبله لا ينتبه لذلك حتى يستوجب الحرمان، فتمحى الهدية، ويبقى العبد خالياً، فإنما بلهته نفسه حتى صار أبله، ولو عقل، ثم انتبه لما حل به، لم ينم، ولا يزال صارخاً إلى الله يتردد في الأرض ولا يستقر.
فقوله: ((يزيد في العمر))؛ أي: يثبت له الهدية حتى يزاد في العمر، فيؤخر أجله، ويزاد في رزقه، ويزاد في قوته في أعمال الدين والدنيا، ويزداد في البركة في كل الأشياء منه.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الرجل ليبقى من أجله ثلاثة أيامٍ، فيصل رحمه، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
وكيف لا يزاد له في عمره، وقد تعلق بقميص الرحمة، والأخبار(5/379)
مستفيضة في أشياء من أعمال البر أنه يزاد له في عمره ثواباً لتلك الأعمال، فذاك عاجل الثواب بشرى لما أعد له في الآخرة من الثواب.
1257 - نا عبد الرحيم بن حبيبٍ الفاريابي، قال: نا بقية بن الوليد، قال: نا عيسى بن إبراهيم القرشي، قال: ثنا سليمان أبو عمر القرشي، قال: سمعت مسلمة بن عبد الله الجهني يحدث عن عمه، عن أبي الدرداء، قال: تذاكرنا زيادة العمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، زيادة العمر ذريةٌ صالحةٌ يرزقها الله العبد، يدعون له بعد موته، يلحقه دعاؤهم، فذلك الزيادة في العمر)).(5/380)
1258 - نا عمرو بن محمد العثماني، قال: نا ابن أبي أويسٍ، عن سليمان بن بلالٍ، عن يونس، عن الزهري، عن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يريد أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)).(5/381)
الأصل الثاني والأربعون والمئتان
1259 - نا أبي رحمه الله، قال: نا عصمة بن حميمٍ أبو أمية، قال أبو هلال الراسبي: عن قتادة، عن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)).(5/383)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالإيمان عش الأمانة، والأمانة في جوفه كالفرخ الذي يتفقأ عن البيضة، ووكل العباد بتربيتها، كما يربي الطير فرخه في عشه، ويزقه، ويغدو في طلب تربيته، حتى ينقل إليه من أقطار الأرض، ويكتنفه، ويذب عنه، ويقاتل عنه من يرومه في عشه؛ تحنناً عليه، وشفقة وصيانة، حتى ينبت له جناح، ويطير معه.
فالمؤمن موكل بحفظ الأمانة، وقد قبلها مع قبول الإيمان، ولم يتم له الإيمان إلا بقبول الأمانة، وكانت مستورة، فأحب الله أن يبرزها حتى يقبلها آدم بارزاً ظاهراً، فيباشر قبولها بيده ولسانه، فمثلها له درةً بيضاء، وجعلها مستورة في جوفه، فعرضت على السماوات والأرض والجبال، فهبنها، وأشفقن منها؛ لأنه انكشف الغطاء لهن عن ذلك، وستر عن آدم عليه السلام.
وإنما عرضت على السماوات والأرض والجبال؛ لمكان آدم، والمقصود بذلك آدم، ولو قصد بذلك غير آدم، فأمر بقبولها، ولم يك عرضاً، فكان إذا قبلها، ثم ضيع منها شيئاً هو أو ولده، لكانوا يكفرون، ولكن الله تعالى لطف لآدم وولده، فجعلها عرضاً على السماوات والأرض، وعرض لذلك آدم حتى قبلها، وإنما قبلها؛ لأنه تحرك ما في قلبه من المتضمن(5/384)
في إيمانه، وهاج، فلم يملك أن سارع إلى القبول مقتدراً، فابتلي باقتداره، فسمي ظلوماً؛ لقبوله على الاقتدار، جهولاً بما في باطن تلك الدرة، فهو في الظاهر بها جاهل، وفي الباطن مستعمله لما في باطن إيمانه يزعجه على القبول حتى وضعها على العاتق.
وقال: هي لك بين أذني وعاتقي، وبين الأذن والعاتق العنق، وفيها الرقبة، فألزم الأمانة عنقه كطوق العبيد، وذلل لله رقبته، فلولا ما جرى فيه من الاقتدار؛ لكان أمراً عجيباً، فتكدر عليه الأمر للاقتدار، وانقطعت المادة، وإنما عمل فيه الاقتدار، وانسد عليه باب التعلق بالله؛ لما كان في ظهره من الأعداء، فأحب الله أن يزايله الأعداء، فإن الأحباب والأعداء قد ضمهم صلبه، فابتلاه بقبول الأمانة؛ ليميز الخبيث من الطيب، فقبله على الاقتدار، فصار القبول حظ الأحباب، وصار الاقتدار حظ الأعداء، وذلك قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}.
ثم أعلم العباد لم فعل هذا؟ فقال: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً}.
كأنه يقول: إنما فعلت هذا؛ لأعذب الأعداء، وأتوب على الأحباب، وأغفر لهم بسيئ ما عملوا، وأرحمهم في تقصيرهم؛ حتى تؤديهم الرحمة إلى(5/385)
دار رحمتي، فتقلد حفظ هذه الأمانة، فجرى قبوله لها من القلب إلى الجوارح السبع، فيجري عمله على هذه الجوارح، فللعين جزءٌ، وللسان جزءٌ، وللسمع جزءٌ، ولليد جزءٌ، وللرجل جزءٌ، وللبطن جزءٌ، وللفرج جزءٌ، وجعل أمانة الفرج من بين الجوارح كلها مستورة، ولذلك سميت فاحشة إذا كشف عنها بغير حقٍّ، والاستعمال لها بغير حقٍّ هلكة، والأدب لمن أتاها بغير حقٍّ القتل بالحجارة والتنكيل، والناظر إليها عامداً ملعون، والكاشف عنها منزوع الحياء، وإذا نزع الحياء، هتك الله ستر الحياء منه، فمقته، فلا تلقاه إلا مقيتاً شيطاناً لعيناً، فبهذا جاء الخبر.
1260 - نا صالح بن عبد الله، قال: نا جريرٌ، عن ليثٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرٍو، قال: أول ما خلق الله من الإنسان فرجه، ثم قال: هذه أمانة خبأتها عندك، فلا تبسل منها شيئاً إلا بحقها، فالسمع أمانة، والبصر أمانة، والفرج أمانة، والبطن أمانة، واللسان أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة.(5/386)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
والذي يكشف عما خبأه الله إهمالاً واستعمالاً بغير حق؛ استوجب هذه العقوبات البارزة في الدنيا والآخرة على سائر العقوبات، أما في الدنيا، فالنكال والرجم، وأما في الآخرة: فإن أهل النار يتأذون من نتن فروج الزناة، ويزدادون بذلك عذاباً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان: البطن والفرج)).
فقد قلد كل جارحة الأمانة بقسطها، فمن استبدل بالأمانة في كل جارحة خيانةً، انتقص من وزن إيمانه حين يوزن، ومن ضوئه ما دام حياً، فإن ضوء الإيمان رأس مال الموحدين، به يستضيئون في السير إلى الله تعالى في الطاعات، فإذا غاب الضوء، ضل القلب؛ بمنزلة قمر وقع في الكسوف، فضل المسافر الذي أظلم عليه الطريق عن المسير، فكسوف ضوء الأمانة في ظلمة الخيانة.
فلكل فعل حرم الله تعالى على كل جارحة من الجوارح ستر، فإن(5/387)
هتكته تلك الجارحة، انهتكت تلك الحرمة برفع حجابها، فقد خان الأمانة، ومثل ذلك مثل راكب يسير إلى الملك على راحلة نجيبة من النجائب، فإذا هو ساعةً بساعة ينيخها، فمن كثرة الإناخة صارت النجيبة صعبة، فحرنت، وخلأت، وصالت، واستبدت، فتركت نجابتها من كثرة الإناخة، فكذلك صاحب الأمانة إذا نزهها عن الخيانة، فهي نجيبة تطير به إلى الله، وفيها منجاة لكل نائبة تنوبه في الدنيا، وفي البرزخ، وفي المحشر، وعند الميزان، وعلى الصراط.
فالمتقون فهموا هذه القصة، فخرسوا ألسنتهم عن أن تنطق بما نهى الله عنه، والسمع عن الاستماع إلى ما نهى الله عنه، والبصر واليد والرجل والبطن، والفرج كذلك، وحفظوا القلب وساحته، وهي الصدر مع الله فيما بينه وبين الخلق، فكلما زلت جارحة من جوارحك بفعل حظره الله عليك، فقد ضيعت من الأمانة بقدرها، وانكسف من ضوء نورك بقدرها، ونقص من وزن إيمانك غداً بقدرها، فإذا أحكمت شأن هذه الجوارح السبع، وجعلتها في وثاق الأمانة، فقد نجوت من اقتضاء الأمانة جوارحك ما قلدت.
وإن كنت ممن فتح له الطريق، فسار إلى الله، صار حفظ الأمانة أصعب وأعظم خطراً، وأوفر حظاً من ثمرته؛ لأن العبد حتى الآن كان في كسب الجوارح عملاً ينال به أجراً، والآن قد وقع في كسب القلب سعياً إلى الله تعالى ينال به القربة، والحراسة هاهنا للأمانة من الخواطر، فإن(5/388)
حرسها بحقها وصدقها، تحول الضوء الذي كان بدءًا شعاعاً يتوهج، يخطف بصائر النفس، فضوء الإيمان للصادقين مع جهدهم، وشعاع الإيمان للصديقين مع تفويضهم؛ لأنهم خرجوا من قمر الإيمان إلى شمسه، فإن الكفر كليلٍ مظلم، فإذا أضاء الإيمان في الصدر، كان كليلٍ طلع قمره، فليلة يقمر بربعه، وليلة بثلثه، وليلة بنصفه، وليلة ببدره كملاً.
فالموحدون كلٌّ يأخذ من ذلك القمر بقدره، وكل مطيع يأخذ بقدره من الضوء، فمؤمن مخلط إنما يقمر له من إيمانه بمقدار ما يقمر الليلة الثالثة من الشهر، ويغيب عنه ما سوى ذلك؛ لظلمة خيانته، وعامل يقمر ليله من إيمانه الثلث، ويغيب عنه ما سوى ذلك، وكذلك الورع والمتقي والزاهد والناسك، كلٌّ على قدر صدقه، حتى إذا انتهى الصدق منتهاه من هؤلاء الأصناف، استحق اسم الصدق، فسمي صادقاً؛ لأنه يصدق الله، مطيعاً له في كل جارحة.
فالظاهر مستقيم، والباطن ذو تخليط كثير، فمن أقمر ليله بدراً، فصار ضوء إيمانه كالقمر ليلة البدر، والضوء ليس له شعاعٌ ولا حريقٌ؛ لأنه ممحو، فكذلك الصادق محجوب قلبه عن الله، فاسد الباطن، مجهود، ومن فتح لقلبه الطريق إلى الله؛ فصار على منهج الصدق، وهو البذل لنفسه لله، غير ملتفتٍ إليها؛ تحول قمره شمساً.(5/389)
فإنما يبدو لقلبه من شعاع ذلك الشمس بمقدار ما كان يبدو من القمر في مبتدأ أمره، فلا يزال يسير حافظاً للأمانة في العطايا، حتى تزول عنه الخيانة، ويتبرأ من النفس، وينساها، فإذا وصل إلى هذه الحظة، وافتقد مشيئته لمشيئة مولاه، ونسي أحوال نفسه لما طالع من العظائم، واشتغل بالمرعى، أشرقت شمسه بتمامها بجميع شعاعها، ولذلك قوله لداود عليه السلام: ((يمشي تماماً، ويقول صواباً))، وقوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن}.
فالحافظ لهذه الأمانة بحقها وصدقها في أمان الله يوم المقدم على الله عند معالجة سكرات الموت، وفي البرزخ عند فتاني القبر، ويوم المنشر، وفي ساعات المحشر، وهناك في الموقف عند الجواز على الصراط، وعند الوزن، وعند قراءة الصحيفة، وعند العرض الأكبر، حتى يوافي دار الأمن والأمان، فاتصلت أمانة هذا العبد من هاهنا بدار الأمان، وهذا هو المؤمن المستكمل لوفارة الإيمان وبهائه.
ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وددت أني شعرة في صدر مؤمن.
وروي في الخبر: أن الله تعالى إذا أثنى على عبد، فأبلغ في الثناء، سماه مؤمناً، وقال إبراهيم حين أثنى عليه: {إنه من عبادنا المؤمنين}.(5/390)
1261 - نا أبي رحمه الله، قال: نا الحماني، قال: نا زيد ابن حبابٍ، قال: أخبرني كثير بن عبد الله، قال: أخبرني الحسن بن عبد الرحمن بن عوفٍ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ تحت العرش: القرآن له ظهرٌ وبطنٌ يحاج العباد، والرحم تنادي: صل من وصلني، واقطع من قطعني، والأمانة)).
1262 - نا الحسين بن علي بن الأسود العجلي، قال: نا محمد بن فضيلٍ الضبي، قال: نا أبي، ورقبة بن مسقلة العبدي، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((انطلق ثلاثة نفرٍ، فدخلوا غاراً، فأرسل الله صخرةً، فأطبقت الغار عليهم، فقال بعضهم لبعضٍ: قد ترون ما نحن فيه، وما قد ابتلينا به، فلينظر كل رجلٍ منكم أفضل عملٍ عمله فيما بينه وبين ربه، فليذكره، ثم يدعو الله تعالى؛ لعل الله يفرج عنا ما نحن فيه، ويلقي عنا هذه الصخرة.
فقال رجلٌ منهم: اللهم إنك تعلم أنه كانت لي بنت(5/391)
عمٍّ وكانت من أحب الناس إلي، فطلبت منها نفسها، فأبت علي إلا أن أعطيها مئة دينار، فجمعتها من حسي وبسي حتى جئتها بها، فدفعتها إليها، فلما قعدت منه مقعد الرجل من امرأته، ارتعدت وبكت، وقالت: يا عبد الله! اتق الله، ولا تفتح هذا الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، وتركت الدنانير لها، اللهم إن كنت تعلم أني إنما تركتها، وتركت الدنانير لها من مخافتك، فافرج لنا من هذه الصخرة فرجةً نرى منها السماء، ففرج الله عنهم فرجةً، فنظروا منها إلى السماء.
وقال الثاني: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان، وكانت لي صبيةٌ صغارٌ، وكنت أرعى على أبوين، فكنت أجيء بالحلاب، فأبدأ بأبوي، فأسقيهما، ثم أجيء بفضلهما إلى(5/392)
الصبية فأسقيهم، وإني جئت ذات ليلةٍ بالحلاب، فوجدت أبوي نائمين، والصبية يتضاغون من الجوع، فلم أزل بهم حتى ناموا، ثم قمت بالحلاب على أبوي ليلتي حتى قاما وشربا، ثم جئت بفضلهما إلى الصبية، فأسقيتهم، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك من مخافتك، فافرج عنا منها فرجةً، ففرج الله عنهم منها فرجةً.
وقال الآخر: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أجيرٌ يعمل عندي، فأعطيته أجره، فغمصه، وذهب وتركه، فعملت له بأجره حتى صار له بقراً وغنماً، ثم أتاني بعد حينٍ يطلب أجره، فقلت له: دونك هذا البقر والغنم وراعيها، فخذها، فهي لك، فانطلق فأخذها، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك من مخافتك، فألقها عنا، فألقى الله عنهم، فخرجوا يمشون)).(5/393)
وروي عن إسماعيل بن جعفر، عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، قال: كان رجل من بني إسرائيل له مكان من الملوك، ليس منهم ملك يموت فيخلفه ملك إلا أنزله منه بمنزلته من الملك الأول، فبعث على بني إسرائيل ملك صالح، فدعا الناس إلى أداء الحقوق والمظالم، فارتحلت الأحياء إليه، حيٌّ حيٌّ، حتى ليس منهم أحد إلا وهو ينظر في شأنه، ومن كانت له مظلمة، رد عليه مظلمته، ومن كان له حق، أنصفه من حقه، ومن كانت له حاجة، قضى له حاجته، حتى ارتحل حي الفتى، وارتحل فيهم، وهم يظنون أن الملك سينزله منه منزلته من الملوك قبله، فدخل على الملك بعض قومه، فقضى حوائجهم، ورد عليهم مظالمهم، حتى دخل الفتى، فكلمه بمثل ما كان يكلم به الملوك قبله، فيعجبهم ويقربونه.
فقال له الملك: أولا تتقي الله، وتؤدي الأمانة؟ قال: أية أمانة؟ فأخذ رجل من خدمه بيده، فأخرجه، فانصرف إلى قومه، فقال: لعل بعضكم سبقني عند الملك، فحلفوا له، فصدقهم، فانصرف إلى أهله، فمات ذلك الملك، وبعث عليهم ملك صالح، فدعا الناس إلى ما دعاهم إليه الملك قبله، فارتحل الناس إليه، وارتحل الفتى مع حيه، فلما دخلوا عليه، كلمه الفتى بالكلام الذي يكلم به الملوك قبله فيقربونه، فقال له الملك:(5/394)
أولا تتقي الله، وتؤدي حق الأمانة؟ فقال: أية أمانة؟ فأخذ بيده فأخرج، فانصرف إلى قومه، فقال: لعل بعضكم سبقني عند الملك، فحلفوا له، فصدقهم، فانصرفوا، وانصرف الفتى إلى أهله، فقال: لا أحسب هذا إلا لما كنت أصيب مما لا يصلح لي، فوضع يده اليمنى على اليسرى، ثم قال: اللهم إني أبايعك على أن لا أسأل أحداً شيئاً أبداً.
فمكث بذلك، ثم قال: لا حاجة لي بقرب الناس ومخالطتهم، فانطلق إلى برية، فتعبد فيها، فتخرقت عنه ثيابه، وصار كهيئة المسمار المحترق، وجعل يأكل من نبات الأرض، فبينما هو على ذلك، إذا هو بشيخين بين أيديهما طعام يأكلانه، فتعرض لهما، فرفعا رؤوسهما، فنظرا إليه، حتى إذا علما أنه قد علم أنهما قد نظرا إليه، أكبا على طعامهما، ثم رفعا رؤوسهما، فدعواه، فأقبل، فإذا هما يأكلان خبز شعير، فنظرا إليه، ثم أكبا على طعامهما، ثم قالا: اجلس، فجلس، ثم مد يده إلى كسرة، فأمسكها، فنظرا إليه، ثم أكبا على طعامهما، ثم قالا: كل، فكبر، فأمسكا بيده، وقالا: لم كبرت على طعامنا؟ قال: إني كنت حلفت أن لا أسأل أحداً شيئاً، ولولا أنكما قلتما لي: كل، لم أتناول طعامكما، قالا: أولا تتقي الله، وتؤدي الأمانة؟ قال: وأية أمانة؟ فوالله! ما أخرجني من بين الناس إلا هذه الكلمة، ولا لقيت ما تريان إلا لها، قالا: أشرف [على] هذا الشرف، فانظر ما ترى(5/395)
وراءه، ثم ارجع إلينا.
فأشرف، ثم رجع إليهما، فقال: رأيت خمس مئة ضائنة، أو ست مئة لم أر مثلها حسناً، قالا: ألا تأخذها بأمانة الله على أن تردها إلينا إذا نحن سألناكها صحاحاً شق الشعرة شطرين؟ قال: نعم، فدفعا إليه الغنم، وانطلقا، فنمت، وبارك الله فيها، فنزل قرية من القرى، وباع منها، فاشترى رعاءً، فجعلت ترعى جناب القرية، وتأوي إليها، فكثرت، ونمت، وبارك الله فيها، وجعل لا يبيع منها، فيتخذ صنفاً من أصناف الأموال إلا بارك الله فيها ونما، فتزوج النساء، واتخذ السراري، وكثر له من الولد، وكان في ذلك: رجلاً صالحاً، يقري الضيف، وينزل ابن السبيل، ويعطي السائل، فبينما هو على ذلك، وقد أتى على ذلك سنون، إذا هو بشيخين يقرعان عليه باب داره، فنادى غلامه، فقال: انظر من يقرع باب الدار؟ فخرج غلامه، فإذا هو بشيخين، قال: ما حاجتكما؟ قالا: حاجتنا إلى سيدك، فرجع إلى سيده فأخبره، فقال: انطلق بهما، ففرغ لهما بيتاً في ناحية الدار، ثم أفرشهما، وأتحفهما، وأطعمهما، واسقهما، فيبيتا بخير، ثم يغدوا على حاجتهما، وهو يحسب أنه كان كمن كان يضيف، فرجع إليه الغلام، قال: إن سيدي أمرني أن أفرغ لكما بيتاً، وأن أفرش لكما، وأتحفكما وأطعمكما وأسقيكما، فتبيتا بخير، ثم تغدوا على حاجتكما،(5/396)
فقالا: هذا مكاننا، أو تأذن لنا عليه؟ قال: وهي ليلة قرة باردة، شديدة البرد، فرجع إلى سيده فأخبره، فقال له: قل لهما: إني وضعت ثيابي، وخلوت بأهلي، فبيتا، ثم اغدوا على حاجتكما، فرجع الغلام إليهما فأخبرهما، قالا: هذا مكاننا، أو يأذنا لنا؟ فغضب العبد، فأغلق الباب دونهما، وانصرف إلى مضجعه، فلما أصبح، دعا غلامه، فقال: ويحك! ما فعل ضيفاي؟ قال: عرضت عليهما ما أمرتني به، فأبيا، فأغلقت الباب، وانصرفت، فقال: ويحك! تركت ضيفي في صقيعٍ بغير عشاء! لا جرم لأفعلن بك ولأفعلن، ائذن لهما، فدخلا عليه، فجعل يعتذر إليهما: أتيتماني في ساعة لا يدخل علي فيها، فأمرت الغلام بقراكما، فغمصتما ذلك، فذكر لي أنه أغلق الباب دونكما، لا جرم لأفعلن به، ولأفعلن، قالا: إن لنا حاجة، فأخلنا لحاجتنا، فأمر من حوله فارتفع، حتى إذا خلوا به، قالا: هل تعرفنا؟ قال: لا.
قالا: أتذكر شيخين أتيتهما ببرية كذا وكذا، وبين أيديهما خبز شعير يأكلانه، وأنت كالمسمار المحترق؟ قال: أذكر، قالا: فما فعلت الغنم؟ قال: فعلت خيراً، ونمت وكثرت، واتخذت أصناف الأموال، قالا: ألست قد عرفت شرطنا عليك؟ قال: بلى، صحاحاً شطرين، قالا: فادع لنا بمالنا، قال: فدعا بدواوينه، وإذا الأموال أكثر من أن تحصى إلا بكتاب، فدعا بالغنم، فقسمت شطرين، ثم دعا بالإبل والبقر وسائر الأموال، فقسمت شطرين، فقال: قد فعلت، ووفيت لكما بالشرط، قالا: ائتنا بأمهات(5/397)
أولادك، قال: وما لكما ولأمهات أولادي نساء قد ولدن وعتقن؟.
قالا: إن أثمانهن من مالنا، قال: لا أفعل، قالا: اتق الله، وأد الأمانة، تعلم أنا لسنا نأخذك بسلطان، وليس لنا عليك بينة، وإنك إن تجحد، يصدقك الناس، ويكذبونا، قال: فبات على فراشه يتسلق: أيتها النفس! اصبري، واذكري الحال الذي كنت عليه صدقاً، لعمري! إن أمهات أولادي، والنفقة عليهن لمن مالهما.
فلما أصبح، قال: ادعوا بأمهات أولادي، فدعا بهن، فقسمهن شطرين، فجعل يبكي بعضهن إلى بعض، قال: قد فعلت، قالا: ائتنا بنسائك، قال: وما شأن نسائي؟ بنات قوم أحرار، فأما أمهات أولادي، فكن من مالكما، قالا: إن صدقاتهن، والنفقة عليهن من مالنا، قال: لا أفعل، قالا: اتق الله، وأد الأمانة، تعلم أنا لسنا نأخذك بسلطان، وليست لنا عليك بينة، وإنك إن تجحد، يصدقك الناس، ويكذبونا، قال: يا نفس! اذكري الحال الذي أتيتهما عليه، صدقاتهن، والنفقة عليهن من مالهما، ائتوني بنسائي، فأتي بهن، فقسمن شطرين، قال: قد فعلت، قالا: ائتنا بولدك؟ قال: وما شأن ولدي؟ أما أمهات أولادي، فالثمن والنفقة من مالكما، وأما نسائي، فالصدقة والنفقة من مالكما، وأما ولدي، فخرجوا من صلبي، فلم أكن لأفعل، قالا: اتق الله، وأد الأمانة، تعلم أنا لسنا نأخذك بسلطان، وليست لنا عليك(5/398)
بينة، وإنك إن تجحد، يصدقك الناس، ويكذبونا، قال: أيتها النفس! اصبري، واذكري الحال الذي أتيتها عليه، أرأيت كسوة الولد والنفقة عليهم، أليست من مالهما؟ ائتوني ببني، فأتي بهم، فقسموا شطرين، وإذا منهم غلام لا يعدل به أحداً من الولد، قال: قد قسمت ولدي، وهذا غلام، فإن أحببتما أن تقوما قيمته، ثم أرد عليكما الشطر، فعلت، قالا: ما نريد أن تشتري منا شيئاً، قال: فهبا لي نصيبكما منه، قالا: ما نريد أن نعطي أحداً من حقنا شيئاً، قال: فأنا واهب لكما نصيبي، قالا: ما نريد أن تكون لك عندنا منةٌ، قال: فماذا؟ قالا: قد عرفت شرطنا عليك صحاحاً كشق الشعرة، قال: أفأشقه؟ قالا: أنت أعلم، قال: والله! لا أفعل هذا أبداً.
قالا: اتق الله، وأد الأمانة، تعلم أنا لسنا نأخذك بسلطان، وليست لنا عليك بينة، وإنك إن تجحد، يصدقك الناس، ويكذبونا، قال: يا نفس! اصبري، واذكري الحال الذي أتيتهما عليه، قربوا المنشار، فأتي بالمنشار، فقال: خذا بناحية وآخذ بناحية، قالا: نعم، ذاك لك، قال: فأخذا بناحية المنشار، وأخذ بناحيته، ثم أدركته رقة الولد، فقال: ابدءا فأشعراه به،(5/399)
فقالا: أنت أحق من بدأ، قال: إني أجد له ما لا تجدان، فأشعراه لي، قالا: أنت أحق من بدأ، فتقاعس في المنشار لينشره، فرفعاه، قالا: إن كنت لفاعلاً؟ قال: نعم، والله! حتى أوفي لله بما جعلت له، وأؤدي الأمانة، قالا: اذهب، فلك أهلك، وبارك الله لك، ولسنا من البشر، كان هذا بلاء قضاه الله عليك، فبررت، وأوفيت، ونحن منعنا ملكي بني إسرائيل أن يعطياك شيئاً؛ لما قضاه الله عليك من الابتلاء، فاطمأنن في مالك.
وعنه: عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، قال: لما أعتق لقمان، أعطاه مولاه مالاً، فبارك الله للقمان في ذلك المال، فكثر ونما، وجعل لا يأتيه أحد يستقرضه قرضاً إلا أقرضه، ولا يأخذ عليه حميلاً ولا رهناً، إلا أنه إذا أراد أن يدفع إليه المال، قال: تأخذه بأمانة الله؛ لتؤديه إلي عاماً قابلاً، فإذا قال: نعم، دفعه إليه، فجعل الناس يأخذون ويؤدون، فذكر فعل لقمان لرجل يسكن ساحل البحر، تجارته في البحر، لصٌّ ملطٌ فاجرٌ، فقال: والله! إن رأيت مالاً أضيع من هذا، ما يأخذ مني رهناً، ولا حميلاً، والله! لآتين هذا الرجل، فلأقتطعن من ماله مالاً عظيماً، فأقبل إليه، فقال: يا لقمان! ذكر لي معروفك، وأنا رجل أسكن كذا وكذا من ساحل البحر، وتجارتي فيه، فإن رأيت أن تقرضني قرضاً أصبت فيه ثم أؤديه إليك، فعلت، قال: نعم، وكم تريد؟(5/400)
قال: فسمى له، فأكثر، قال: نعم، أما إني لست أسألك حميلاً، ولا آخذ منك رهناً، أتأخذه بأمانة الله أن تؤديه إلي عاماً قابلاً في هذا اليوم؟ قال: نعم، فدفع إليه ما سمى، وكتب عنده اسمه، واسم أبيه، ومنزله الذي سمى، فذهب بالمال، فوضع يده فيه، وخلطه بماله، وأجمع على أن لا يؤديه إليه، وأدرك للقمان ابنٌ له، فقال: يا أبت! إني أريد أرض كذا وكذا، فإن رأيت أن تأذن لي، فعلت، قال: نعم يا بني، اذهب فاحمل على دوابك، وشد عليك ثيابك، ثم ائتني أوصيك بوصيتي، قال: نعم، ففعل ذلك ابنه، ثم أتاه، فقال: قد فعلت يا أبت، قد حملت على ظهري، وشددت علي ثيابي، فأوصني، قال: نعم، يا بني! إن في طريقك مفازة، فأبكر فيها الدلجة، فإنه ستعرض لك شجرة واسعة الظل تحتها عين، فلا أعلمن ما قربت الشجرة، ولا نزلت تحتها، يا بني! إني أرجو أن يخرجك الله منها سالماً، فتأتي حي بني فلان، وهم لنا صديق، وقد أعلم أنهم سيكرمونك، وفيهم امرأة شابة كريمة الحسب، كثيرة المال، وقد أعلم أنهم سيعرضونها عليك، فلا أعلمن ما نكحتها، ولا طمعت في شيء من أمرها.
يا بني! إني أرجو أن يسلمك الله منها، وإن رجلاً يسكن ساحل البحر بكذا وكذا، وقد أتاني منذ حينٍ، فاقتطع من مالي كذا وكذا، وهذا اسمه واسم أبيه ومنزله، فائته، فاقبض ما عليه، ولا تبت عنده ليلة، ويا بني!(5/401)
انظر الذي أوصيتك به، فافعله، قال الفتى: نعم.
قال: يا بني! إن من أفضل ما أوصيك به: إن صحبك في طريقك هذا رجل هو أكبر منك عقلاً، فلا تعصه حتى ترجع إلي، قال: أفعل.
فسار ابن لقمان، حتى إذا انتهى إلى المفازة، فأبكر فيها الدلجة، فإذا هو أبعد من ذلك وأسحق، فقام قائم الظهيرة، واشتد الحر، وهو في وسط منها، فبينا هو يسير، إذ عرضت له الشجرة، فلما نظر إليها، عرفها بنعت أبيه، وإذا تحتها شيخ جالس، فعدل عنها، فقال له الشيخ: ما الذي تريد يا فتى؟ قال: أريد أن أسير، قال: لا تفعل، فقد قام قائم الظهيرة، وتوقد الحر، ولكن انزل واستظل في ظل هذه الشجرة، وضع عن دوابك، واشرب من الماء، فإذا أبردت، فارتحل.
فقال الفتى في نفسه: هذه الشجرة التي نهاني عنها أبي، ما أريد أن أفعل، قال: أقسمت عليك لتنزلن، قال: ووافق ذلك منه هوى، وذكر أن أباه قال: إن صحبك رجل هو أكبر منك، فلا تعصه، فنزل الفتى، ووضع عن دوابه، فاستظل، وأكل، وشرب، ثم رقد، وأبى الشيخ أن ينام، فلما استثقل ابن لقمان، انحطت حية من رأس الشجرة، فلما نظر إليها الشيخ،(5/402)
رماها فقتلها، ثم قطع رأسها، فجعله في قرابه، وغيب الحية، حتى إذا برد النهار أيقظ ابن لقمان، فقام، فلم يستنكر من نفسه شيئاً، فحمل على دوابه.
وقال له الشيخ: أين تريد؟ قال: أريد أرض كذا وكذا، قال: وأنا أريدها، فهل لك في صحابتي، فقال ابن لقمان: أنت أحب صاحب، فلما نزلوا بالحي الذي سماهم له لقمان، قالوا: ابن لقمان، فأنزلوه وأكرموه، فبينما هم يأكلون عنده ويشربون، إذ قال له رجل منهم: يا ابن لقمان! هل لك في امرأة شابة، كريمة الحسب، كثيرة المال تنكحها؟
قال ابن لقمان في نفسه: هذه التي منعنيها أبي، ما لي حاجة بالنكاح، قال الشيخ: ما تعرضون عليه؟ قالوا: نعرض عليه امرأة شابة، حسناء جميلة، كريمة الحسب، كثيرة المال، قال الشيخ: أشباب وجمال ومال؟ ما يترك هذا أحد، انكحها يا بني، قال ابن لقمان: ما أريد النكاح يا عم، وإني لعلى وجلٍ، قال: أقسمت عليك لتفعلن، فوافق ذلك منه هوى، وذكر الذي عوفي في الشجرة، وأن أباه قال: إن صحبت رجلاً هو أكبر منك، فلا تعصه، فنكحها، فلما ملك عصمتها، أتى بعض صديق أبيه فقال: ما صنعت؟ هذه امرأة قد نكحت قبلك تسعة، ليس منهم رجل إلا يصبح ميتاً على فراشها، وأنت العاشر، فدخل الشيخ على ابن لقمان وهو مهموم حزين، فقال: ما يحزنك؟ قال: المرأة التي أمرتني أن أنكحها، نكحت قبلي تسعة، ليس منهم رجل إلا يصبح ميتاً على فراشها، وأنا الشاعر، وأنا أكره الموت.
قال: انظر الذي آمرك به فافعله، إذا دخلت عليك، فلا تقربها حتى تأتيني، فأقبلوا بها إليه حتى أدخلوها عليه، وكان من خلق أهلها وغلمانها:(5/403)
أنهم إذا أدخلوها على الزوج، حفوا بالبيت، فإذا صاح، كان علامة موته، فدخلوا، فاحتملوا صاحبتهم وما معها، وتركوه، فحفوا بالبيت كما كانوا يصنعون، فقال ابن لقمان للمرأة: إن لي حاجة، فخرج إلى الشيخ فقال: المرأة في البيت، وأنا عندك، قال: ائتني بمجمرة فيها جمرة، فأتاه بها ابن لقمان، فعمد إلى رأس الحية التي قتل عند الشجرة، فجعلها على الجمرة، ثم قال: انطلق بهذا، فاجعله تحت المرأة، فإذا برد، فائتني به، ففعل بها ابن لقمان، فقال: اجعلي هذا تحتك، ففعلت، فلما طفئت الجمرة، أخرجها، فذهب بها إلى الشيخ، فإذا شبه الدودة محترقة في المجمرة، فقال: اذهب إلى أهلك، فلا بأس عليك، فإن هذه التي كانت تقتل الرجال، فانطلق إلى أهله، فأصبح قرير العين، وأصبحت المرأة فرحة، وتفرق الذين كانوا حفوا بالبيت.
فلما أراد ابن لقمان أن يرتحل، قال له الشيخ: أين تريد؟ قال: غريماً لنا في ساحل كذا وكذا، أريد أن آتيه، فأقبض حقنا قبله، قال: فهل لك في صحابتي؟ قال: أحب صاحب، فانطلق معه، حتى إذا قدما الساحل، سألا عن غريمهما، فقال أهل البلد: ذاك لص ملط فاجر، وكان قد عمد إلى قصر فبناه على ساحل البحر، يمد البحر حين يمد، فلا يترك حول القصر شيئاً إلا احتمله، لا يخلص إلى القصر، ولا إلى من فيه، فأتاه ابن لقمان فقال: أنا ابن لقمان، وأحقنا عليك، قال: مرحباً، بيتا الليلة، ثم اغدوا(5/404)
على مالكما، قال ابن لقمان في نفسه: هذا الذي منعني منه أبي، ما أريد أن أبيت الليلة.
قال الشيخ: ما تعرض عليه؟ قال: أعرض عليكما أن تبيتا الليلة، ثم تغدوا على مالكما، قال: افعل يا بني، قال: ما أريد ذلك، قال: أقسمت عليك لتفعلن، قد أنسأته أطول من ليلة، أفلا تنسئه ليلة، فوافق ابن لقمان هوى، وذكر الذي عوفي في سبب الشيخ من الشجرة والمرأة، فباتا، فلما فرغ من عشائهما، عمد إلى وطاء تحت القصر، ففرش لهما فيه على سريرين، وقد علم: أن الماء إذا جاء، احتملهما، وعمد إلى ابن له، فأضجعه على سرير فوقهما في مكان قد علم أن الماء لا يبلغه، فرقد ابن لقمان، وأبى الشيخ أن ينام، فلما كان في جوف الليل: أقبل البحر، فلما رآه الشيخ، أيقظ ابن لقمان، فاحتملا سريرهما، فجعلاه في مكان سرير الغلام، وحملا سرير الغلام وهو نائم، فوضعاه موضع سريرهما، وأقبل البحر، فاحتمل الغلام بسريره، فذهب به، ولم يخلص إليهما، فلما أصبحا، اطلع صاحب القصر ينظر ما فعل غريماه، فإذا هما نائمان، وإذا ابنه قد ذهب، فناداهما فقال: إني مكرت بكما، وحاق بي المكر، فاغدوا على مالكما، فغدوا على مالهما، فانتقداه، ثم انصرفا إلى المرأة، فأمرها ابن لقمان بالرحيل، فارتحلت، فإذا أكثر مال قدمها لها مما كانت تصيب من الأزواج، فارتحلت بمال عظيم من أصناف الأموال.
وأقبل معه الشيخ، حتى إذا شارفا منزل لقمان، قال الشيخ لابن لقمان: أي صاحب وجدتني في سفرك؟ قال: خير صاحب، كف الله بك ورزق، قال:(5/405)
أفما لي فيما أصبت نصيب؟ قال: بلى، نصفه طيبةً لك به نفسي، قال: فإما أن تقسم وتخيرني، وأما أن أقسم وأخيرك.
قال ابن لقمان: لا، بل اقسم وخيرني، فعرف الشيخ هوى ابن لقمان في المرأة، فعمد إليها، وإلى شيء يسير من مالهما، فعزله، وعمد إلى عظيم المال فتركه، ثم قال لابن لقمان: اختر، قال ابن لقمان: أما إنك عدلت وأنصفت حين خيرت، وإن كنت فعلت ما فعلت، أختار المرأة وما معها، فارتحل ابن لقمان بالمرأة وما معها، وقام الشيخ في عظيم المال، فلما سار ابن لقمان، وكاد يتغيب عن الشيخ، أدركه فقال: أعطيتني مالك، فبم ذلك؟ لعلك تخوفت مني شيئاً؟
قال له ابن لقمان: وما عسيت أن أتخوف منك؟ ولكن لا يذكر صاحب من صاحب أفضل مما أذكر منك، وسألتني. قال: أتعطيني ذلك طيبة به نفسك؟ قال: نعم، قال: فاذهب، فلك أهلك، ومالك، فبارك الله لك، لست من البشر، أنا أمانة أبيك التي كان يأتمن بها الناس، بعثني الله تعالى لأصحبك في طريقك، ثم أردك إلى أبيك سالماً صالحاً، فاطمأنن في مالك مباركاً فيه.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذا قولنا الذي قلنا بدءاً: أن صاحب الأمانة المحافظ عليها في أمان الله حيثما تقلب.(5/406)
وروي في الخبر: أن بختنصر لما سبى بني إسرائيل، وقتل من قتل منهم، قيل له: إن هاهنا رجلاً كان يخبرهم بما حل بهم، فسجنوه، قال: وأين هو؟ قالوا: في السجن، فأخرجه، فقال: أنت الذي أخبرتهم بما حل بهم؟ قال: نعم، أخبرني به ربي، قال: هل لك أن تصحبني؟ قال: لا حاجة لي فيها، قال: فأكتب لك أماناً، فحيثما ذهبت، كان أماني معك، قال: إني لم أخرج من أمان الله منذ دخلت فيه، فتركه.
1263 - نا أبي رحمه الله، عن صالح بن محمدٍ، عن القاسم العمري، عن عمرو بن أبي عمرٍو، عن خارجة بن زيد بن ثابتٍ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصلٍّ لا خلاق له عند الله)).
قال أبو عبد الله:
فالأمانة من الإيمان بمنزلة القلب من الجسد، فإذا مال القلب إلى شيء، مال الجسد إلى ما مال إليه القلب، فالإيمان يشدد عقد القلب،(5/407)
ويؤكد عزمه، ويقوي ضميره، والأمانة في الإيمان بمنزلة العماد، فإذا وهن العماد، يتضيع صاحبه بسقم إيمانه، والسقيم ضجيع سقمه، قد خالطه الداء، وذهب بقواه، وكذلك الخيانة إذا جاءت، رفعت الأمانة؛ لأنها ضدها، ولن يجتمعا، بمنزلة الإخلاص والشرك لا يجتمعان، والإيمان والكفر لا يجتمعان، إذا جاء أحدهما، ذهب الآخر، فكذلك الخيانة إذا جاءت، رفعت الأمانة، فيسقم الإيمان.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: ((يا سلمان! قل: اللهم إني أسألك صحةً في إيمانٍ، وإيماناً في حسن خلقٍ، ونجاحاً يتبعه فلاحٌ)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فقد أنبأك في هذا الحديث أن الصحة لا تسأل إلا من سقم، فإذا سقم، فإنما يسقم لعلة باطنة، فإذا صح، فقد اشتمل الإيمان على تلك الصحة، وهو العماد الذي به يقوم الإيمان، ثم الإيمان قد اشتملت عليه الأسماء التي خرجت للعباد، ومنه خرج حسن الخلق، وهي تسعة وتسعون اسماً.
فأما قوله: ((نجاحاً يتبعه فلاح)).
فقد كتبناه في بابه، والإيمان للعباد عطية من المنة، والأمانة في الإيمان هدية من الجود، فإذا ضاعت الهدية، ذهب بهاء العطية، فإذا ذهب بهاء(5/408)
الشيء، افتقد صاحبه زينته، وحلاوته، ولذاذته، وذبلت النفس، واسترخت لافتقادها، وثقلت عن المحافظة عليها، وذهبت قوة القلب؛ لذبول النفس وثقلها، وإنما سميت الخيانة خيانة؛ لأنها سرٌّ من القلب والإيمان الذي فيه.
والخيانة: مكر النفس، لما لم تقدر على أن تستقبل القلب جبراً بالذي هويت من المعصية، أسرته عن القلب، والتمست الغرة، وتحينت الغفلة من القلب، فإذا وجدت ذلك من القلب، وثبت وثبة بالذي هويت، فخالطت به القلب، فأوجدته اللذة التي وجدت، فاستولت على القلب بسلطان اللذة في وقت غفلة القلب عن الله تعالى.
فالغافل كاليتيم المتحير على قارعة الطريق، لا أب له، ولا أم يأوي إليهما، فالغافل عن الله في وقت غفلته كاليتيم عن رأفة الله، وإقباله عليه بأسباب العصمة، فإنما تلتمس هذه النفس بمكرها تلك الآفات، فإذا وجدت القلب يتيماً، أمكنته أسره إياها؛ لأن القلب أضعف ما يكون في وقت الغفلة، وانقطاع المدد من الله تعالى، فغرت القلب بتلك اللذة التي أوجدته، فتلك الخيانة.
وفي لغة العرب: كل شيء يعمل من وراء، فاسمه عندهم: الخيانة.
يقال في اللغة: خانه يخونه، هذا في الباطن، ونخه ينخه؛ أي: يسوقه(5/409)
من ورائه، ومنه قول الراجز في زجر الإبل:
لا تضربا ضرباً ونخا نخا ... لم يدع النخ لهن نخا
وهو أن يسوقها من ورائها.
ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نحسبه: ((ليس في الجبهة، ولا في النخة، ولا في الكسعة صدقةٌ)).
فأما الجبهة: فهو عندنا: الخيل تجبه للقتال، فيقاتل بعضها بعضاً بالجباه.
والنخة: الرقيق؛ لأنها إذا سبيت، سيقت من ورائها، ودفعت دفعاً سوق الأسراء على العنف.
والكسعة: الحمير؛ لأنها تساق من ورائها، وتكسع، ومن ذلك يقال: كسع فلاناً: إذا ضرب مؤخره برجله.
وفيما حكي عن الفراء: أن النخة هي: أن يأخذ المصدق ديناراً بعد فراغه من أخذ الصدقة.
فهذا من ذلك أيضاً أن يأتي الآخذ من ورائه، فالخيانة مشتقة من هذا، وإنما هي في الباطن تلك اللذة التي تأتي بها النفس إلى القلب، فتوجده سراً مكراً تخادعه بها، وتزين له، وتموه عليه، فالأمانة قرينها اليقين، فإنما ضاعت الأمانة من العبد من قبل اليقين، وليس شيء في الأرض أعز من اليقين، ولا أقل منه.(5/410)
1264 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا عصام بن المثنى ابن وائلٍ الحمصي، عن أبيه، عن وهب بن منبهٍ، قال: أتي داود عليه السلام بصحيفة مختومة بالذهب من السماء، فيها عشر مسائل، وأمر أن يسأل ولده عنها، فمن أجابه بما فيها، فهو الخليفة، فدعا سليمان عليه السلام من بين ولده، فسأله: أي شيء أقل في الأرض؟ قال: اليقين، قال: وأي شيء أكثر في الأرض؟ قال: الشك، قال: فأي شيء آنس؟ قال: الروح في الجسد، قال: فأي شيء أوحش؟ قال: الجسد إذا خرج منه الروح، قال: فأي شيء أحسن؟ قال: الإيمان بعد الكفر، قال: فأي شيء أقبح؟ قال: الكفر بعد الإيمان، قال: فأي شيء أمر؟ قال: الفقر، قال: فأي شيء أقرب؟ قال: الآخرة إذ هي آت، قال: فأي شيء أبعد؟ قال: الدنيا إذا زالت عنك، قال: فأي شيء أشر؟ قال: المرأة السوء، قال: ففك داود خاتم الصحيفة، فنظر فيه، فإذا هو تفسيرها في الكتاب، لم يغادر منه حرفاً فاستخلفه.(5/411)
فإذا عز اليقين، وقل، وكثر الشك، وتذبذب القلب، وارتحلت الأمانة إلى المبدأ، وحلت الخيانة محلها، فكيف ينتفع العبد بعد هذا بإيمان أجوف، والخيانة في جوفه مكان الأمانة، والشك علاوته الإيمان كما كان اليقين علاوته؟ فما ظنك بشيء ذهبت علاوته؟ وما ظنك بجسد قطعت رأسه؟
أليس قد ذهب السمع والبصر، واللسان والشم، لا يسمع ولا يبصر، ولا ينطق، ولا يجد رائحة، فكذلك من افتقد اليقين، لم يسمع عن الله ما خاطبه، ولا أبصر ما كشف له وأراه، ولا فطن عن الله حكمته، ولا وجد ريح الطيب الذي طيبه الله به، فقال تعالى: {والطيبات للطيبين}، وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح}.
وكل طيب له ريح، وإنما يجد الريح من كان قلبه ذكياً، وإنما يذكى القلب باليقين، فإذا ذهب اليقين، فقد مات القلب عن الله، ولم يمت عن توحيده، ولذلك تجده مخلطاً، يعمل عمل الموحدين، وعمل المشركين، وعمل الموقنين، وعمل الشاكين، وعمل الجادين، جداً، وعمل اللاعبين(5/412)
هزلاً، وإنما يعمل عمل الجد بقوة اليقين الذي في التوحيد.
فأما اليقين الذي هو عماد القلب، وهي الأمانة في جوف الإيمان، فقد فاته بتضييعه، فلذلك صار مخلطاً.
1265 - نا ابن أبي ميسرة، قال: نا عبد الله بن يزيد المقرئ قال: نا علي بن مسعودٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((خير ما ألقي في القلب اليقين)).
1266 - نا أبي رحمه الله، قال: نا عبد الله بن نافعٍ الزبيري، عن عبد الله بن مصعب بن زيد بن خالدٍ الجهني، عن أبيه، عن جده، قال: استلقفت هذه الخطبة من فم(5/413)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، مثله: ((خير ما ألقي في القلب اليقين)).
1267 - نا صالح بن محمدٍ، قال: نا زافر بن سليمان، رفعه إلى رسول الله: ((أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يمشي على الماء -ثم قال-: ولو ازداد يقيناً، لمشى في الهواء)).
1268 - ونا عمر بن أبي عمر، قال: نا عبد الغفار بن داود، عن ابن لهيعة، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن سعد بن مسعودٍ التجيبي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم(5/414)
يقول: ((ما أعطي أحدٌ من اليقين ما أعطيت أمتي)).
قال: ((وكان عيسى بن مريم يقول: ما أنزل في الأرض شيءٌ أقل وأجل من اليقين)).
1269 - نا مؤمل بن هشامٍ اليشكري، قال: نا إسماعيل بن إبراهيم، عن غالبٍ القطان، عن بكر بن عبد الله المزني: قال: إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صومٍ ولا صلاةٍ، وإنما فضلهم بشيء كان في قلبه.
وروي عن الحسن: أنه قال: إن عمر لم يغلب الناس بكثرة صوم(5/415)
ولا صلاة، إنما غلبهم بالصبر واليقين.
1270 - نا عبد الجبار بن العلاء، قال: نا الوليد بن مسلمٍ: قال: نا عبد الرحمن بن يزيد بن جابرٍ، قال: سمعت ابن عامر يقول: سمعت أوسط البجلي يقول: سمعت أبا بكر الصديق على المنبر وهو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المنبر يقول عام أول، والعهد قريبٌ: ((سلوا الله اليقين والعافية؛ فإن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من اليقين والعافية)).
1271 - حدثنا أبي رحمه الله، ثنا القعنبي، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنشٍ، عن ابن مسعودٍ، أنه مر بمصابٍ، فقرأ عليه، فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما قرأت؟))، قال: قرأت: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قرأها موقنٌ على جبلٍ، لزال)).
1272 - نا محمد بن علي الشقيقي، قال: نا عبد الله(5/416)
ابن عثمان، قال: أنا عبد الله بن المبارك، قال: أنا معمرٌ، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، قال: لما استخلف عثمان، سار عبد الرحمن بن عوف حاجاً، ومرض عثمان، فكتب بالبيعة لعبد الرحمن بن عوفٍ، ولم يطلع على ذلك أحداً غير مولاه حمران، فلما قدم عبد الرحمن، وصح عثمان من مرضه، قبض ذلك الكتاب من حمران، فجاء حمران إلى عبد الرحمن، فأخبره أن عثمان قد جعل البيعة لك، فقال عبد الرحمن: ما أراك إلا وقد خنته، وما أدري هل يسعني ألا أخبره بذلك -أي: إنه صاحب سره، فأفشاه عليه-.
فقال حمران: فإن فعلت فخذ لي منه -أي: أن لا يعاقبه-، قال: فذهب عبد الرحمن إلى عثمان، فأخذ لحمران منه، وأخبره بصنيعه، فقال: لقد خان، ثم وجهه إلى البصرة؛ أي: كأنه يقول: نفاه إليها.(5/417)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فأوفر الناس حظاً من اليقين: أوفرهم حظاً من الأمانة، وأشدهم لها حفظاً وحراسة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن العبد حتى يأمن الناس بوائقه)).
وقوله: ((فالمؤمن: الذي يأمنه الناس)).
1273 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا سعيد بن عفيرٍ المصري: قال: نا عبد الله بن عقبة، وهو ابن لهيعة، عن دراجٍ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال(5/418)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن في الدنيا على ثلاثة أجزاءٍ: {الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}، ثم الذي يأمنه الناس على أموالهم، ثم الذي إذا أشرف على طمعٍ، تركه لله)).
قال أبو عبد الله:
فهذه ثلاثة منازل للإيمان:
فالمنزلة الأولى: نزلها صنف آمنوا بالله إيمان طمأنينة لا ريب فيه، وجاهدوا أنفسهم في سبيل الله في الأمر والنهي، فقاموا بأداء الفرائض، واجتناب المحارم، فهذه أول منزلة المؤمنين، والرغبة فيهم باقية، ومن كانت الرغبة فيه باقية، فالخيانة فيه كائنة؛ لأن الله تعالى أعطى الخلق الأرواح بما فيها من الحياة عارية، وأعطاهم دنياهم عارية.
فالروح وضعه فيهم للارتحال، والدنيا للزوال والانتقال عنها، فمن تشبث بالحياة لا يريد مفارقتها، وفر من الموت، فقد خان، فإن العارية إذا امتنع صاحبها من الخروج منها إلى وليها ومالكها؛ قهر وسلب، وسمي(5/419)
بامتناعه وفراره خائناً، وكذلك الدنيا إنما وضعت ممراً للعباد ومتزوداً، فمن اشتغل قلبه بالتمتع، صيره كالمستقر، فسلب يوم الخروج منها، وهو خائن لما وضع بيده منها، فهم مع هذه الخيانة يقومون بأداء الفرائض بلا توفير به، ويقومون باجتناب المحارم بلا صيانة ولا تقوى، إنما التقوى إذا خرجت شهوة تلك الأشياء من قلبه، فهذا الصنف الأول هم في أول منزلة من منازل الإيمان، فهم بعد في سفح الجبل، والرغبة معهم، فبالرغبة وقعوا في الخيانة.
ألا ترى أنهم لا يوفرون الفرائض، وإنما افترضت عليهم الفرائض؛ ليسد ما انثلم من العبودة التي قبلوها، فلما جاءت السيئات، كانت ثلمة يحتاج إلى سدها، فسدت بالفرائض، ولذلك قال: {يكفر عنكم}.
ألا ترى أنهم يجتنبون المحارم بلا صيانة ولا تقوى، وأنهم إن اجتنبوها، فعلوا ذلك من خوف العقاب غداً، ولم يلتفتوا إلى صيانة المعرفة التي في قلوبهم، فإن قال له علام الغيوب غداً: إن معرفتي كانت خلعتي على قلبك، فاجتنبت محارمي، شفقةً على جلدك ولحمك، ولم تلتفت إلى خلعتي، فتخاف عليه الدنس والغبار، وإنما عظم شأن جسدك، وجل قدره بهذه الخلعة التي بها طاب جسدك، فباليت بالجسد، فاجتنبت المحارم؛ توقياً عليه، لا توقياً على خلعتي، فماذا يقول هذا العبد؟
فهذا من دناءة المنزلة، فإنما عم ما قلنا على أهل الرغبة في الدنيا،(5/420)
ولا يرغب فيها إلا أبله؛ لأن الذي كتب له في اللوح لاحقٌ به، ولو هرب منه، والذي لم يكتب له، فقد فاته أبداً، فهل تكون الرغبة بعد هذا إلا لأبله متحير؟
وأما الصنف الذين هم في المنزلة الثانية من الإيمان:
فهم قوم قد زالت عنهم الرغبة في الدنيا، واشتاقوا إلى دار الله، فاطمأنت نفوسهم، وطابت أرواحهم، فأمنهم الخلق على أموالهم وأنفسهم، ولم يأمنوهم على أديانهم، فلا تقبل القلوب منهم مواعظهم، وإشاراتهم إلى الله، وإنما أمنهم الناس على أموالهم وأنفسهم، لأن القلوب بما فيها من الإيمان شهدت لهذا الصنف بالأمانة التي في جوف إيمانهم، وذلك لأن الإيمان له نسيم، فإنما يدرك نسيمه إيمان العباد، فاستطابوه، واستحلوه، واطمأنوا إليه.
وخلةٌ أخرى: أن أرواح المؤمنين تتلاقى في الهواء، فيتعارفون، وإنما يعرف بعضها بعضاً بما تضمنه من روح الإيمان.(5/421)
وما روي في الخبر: أن على الحق نوراً، وعلى الإيمان وقاراً.
وقال الربيع بن خثيم: إن للحق نوراً كضوء النهار، وللباطل ظلمة كظلمة الليل.
فالصادقون إذا عاينوا الحق في فعل عامل به، استنارت له قلوبهم، وعرفوا أنه الحق، والمخلطون لا تستنير قلوبهم له، ولكن يذلون وينقادون؛ لأن نور الحق إذا لاقى قلب المخلط، استقبلته ظلمة، ومن وراء الظلمة نور الإيمان، فلا يقدر نور الحق الذي أتى به هذا أن يصل إلى نور الإيمان من هذا الآخر؛ لأن ظلمته تحجبه، ولكن إيمانه الذي في قلبه يعرف ذلك، فيذلل القلب، ويجعله منقاداً للذي أتى به، فالصادق مستنير القلب، يعمل على قوة وحزم، والمخلط يعمل على حيرة وقهر، منقاد للحق؛ لقوة ما جاء به هذا المحق.
فالصادقون في وقار الإيمان يتخشعون لصاحبه، ويلقون بأيديهم سلماً، ويتوقرون، والمخلطون يخمدون ويسكنون، وفي الباطن ليس لهم خشوع، ولا سلم، فهذا شأن الإيمان والحق.
فكذلك الأمانة، إذا حلت في قلب العبد على ما وصفنا، أمنت قلوب(5/422)
الخلق، واطمأنت نفوسهم إلى ما عنده، فالخلق قد أمنوهم على النفوس والأموال، ولم يأمنوهم على الدين.
وأما الصنف الثالث في المنزلة الثالثة من الإيمان:
فهم قوم قد بلغوا ذروة الإيمان، وإنما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذروة؛ لأنه شبيهٌ بالجبل، والنفس كريشةٍ طياشة تهب بها الريح، فكلما كان الجبل أثقل، كانت الريشة أسكن، حتى إذا بلغ العبد ذروة الإيمان، كان على قلبه جبل، والنفس تحته مضغوطة لا تقدر على التحرك، فلا يزال كذلك تحت أثقال المعرفة، حتى تصفو من عصارتها، وتسيل منها تلك الفضول، حتى تيبس عن رطوبة الشهوات، كما ييبس الكسب الذي قد عصر تحت الأثقال حتى سال دهنه، وبقي ثفله يابساً، فعند ذلك تجدها قد ماتت شهواتها، وخمدت نيرانها خموداً، افتقد حرها، فهذا الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنزلة الثالثة من قوله: ((ثم الذي إذا أشرف على، طمعٍ تركه لله)).
فالغني بالله في ذروة الجبل، وهو أعلى الإيمان، أولئك الذين يأمنهم الخلق على دينهم، فتقبل القلوب مواعظهم، وإشاراتهم إلى الله؛ لأنهم يسيرون إلى الله، وقلوبهم بين نور الحق، ووقار الإيمان، فإذا نطق أحدهم،(5/423)
استنارت القلوب لنور مقالته، وإذا شخصت أبصارهم إليه، توقرت النفوس لوقاره، وهدأت [الأركان] منهم، وسكنت منهم الأصوات.
1274 - أنا الفضل بن محمدٍ، قال: نا علي بن سهلٍ الرملي، قال: نا حجاج بن محمدٍ الأعور، قال: نا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنسٍ، عن أبي العالية الرياحي، عن أبي هريرة، أو غيره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه لما صعد إلى السماء السابعة، إذا هو برجلٍ أشمط جالسٍ على كرسيٍّ عند باب الجنة، وعنده قومٌ جلوسٌ، بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقومٌ في ألوانهم شيءٌ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيءٌ، ثم دخلوا نهراً آخر، فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم، فصارت مثل ألوانهم، فجاؤوا فجلسوا إلى أصحابهم،(5/424)
فقلت: يا جبريل! من هذا الأشمط؟ ومن هؤلاء، وما هذه الأنهار التي دخلوها؟ قال: هذا أبوك إبراهيم، أول من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه، فقومٌ لم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيءٌ، فقوم خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً، فتابوا، فتاب الله عليهم، وأما الأنهار، فأدناها: رحمة الله، والثاني: نعمة الله، والثالث: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً}.
قال: والمؤمن أمين الله على معرفته في دنياه وآخرته، والخيانة في الدنيا كائنة، وقد رفعت الخيانة في الآخرة.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
تأويل هذه الأنهار عندنا -والله أعلم-:(5/425)
أن الأول: نهر التوبة، والثاني: نهر الطاعة، والثالث: نهر الحياة، من شرب منها، حيي قلبه بالله، فهذا مقابل للحديث الأول الذي قال: ((الإيمان على ثلاثة أجزاءٍ)).
فإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يرفع من الناس الأمانة))؛ لميل الناس عن الله إلى النفوس، على سبيل ما وصفنا المؤمن أمين الله على معرفته في دنياه وآخرته، والخيانة في الدنيا كائنة، وقد رفعت الخيانة في الآخرة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا دين لمن لا عهد له)).
فالدين: اسم جامع منتظم لجميع الإسلام، إلا أن ترجمة الإسلام هو: تسليم النفس إلى الله تعالى عبودة، وترجمة الدين هو: الخضوع، وأن تجعل نفسك دون أمره، فأمره عالٍ، ونفسك دونه، فهذا الدين، فمن تمكن الدين فيه، فهذه صفته، ومن قبله في مبتدئه فهذا شرطه مع الله أن يكون كل أمره عالياً على قلبه ونفسه، وشهواته وإرادته كلها تحته، فمن وفى بهذا في جميع الأوقات، فهو صادق مطيع قد وفى إليه بما قبل منه، ومن وفى ببعضها، وضيع بعضاً، فقد خلط، ودينه منقوص، وعلى حسب ذلك يقتضي الجزاء من الديان يوم الدين، فقد أخبر سبحانه أنه مالك(5/426)
يوم الدين؛ أي: أن هذا يوم لا أملك فيه أحداً شيئاً كما فعلت بهم في دنياهم، وذلك قوله تعالى: {يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذٍ لله}.
وأما العهد: فهو تذكرة الله الذي وضعه فيما بينه وبين العباد يوم أخذهم للعبودة قبل خلق السماوات والأرض، فلما خرجوا إلى الدنيا، نسيه الأعداء، وحفظه الموحدون، ثم علت الموحدين غفلةٌ على ذلك الحفظ، فذهلوا، فأوفرهم حظاً، من الحفظ أوفرهم حظاً من الذكر، فالأعداء في غفلة، وفي الغفلة النسيان، والأحباب في غفلة، ومن الغفلة تكون الوهلة، ومن الوهلة الخطايا، ونقضان العهد، ودروس ذكر العهد، وذلك قوله تعالى: {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم}.
فبطول الأمد يدرس ذكر العهد، فإذا درس، اغبر، وإذا اغبر، التبس وتغشى، وإذا ذكر تجلى، وإذا غفل، التبس، وفي وقت التجلي هو مطيع متهلل مسرع، وفي وقت التغشي والتلبس عاصٍ متحلل مبطئ، فأوفرهم حظاً من العهد أوفرهم حظاً من الدين، وأشدهم انقياداً، فالكافر ينسى، والمؤمن يغفل.
قال الله تعالى في شأن الكفار: {نسوا الله فأنساهم أنفسهم}،(5/427)
وقال تعالى: {نسوا الله فنسيهم}.
فالكافر ناسٍ لربه، ناسٍ لنفسه، من أين؟ وإلى أين؟ والمؤمن يتردد بين الغفلات والذكر.
فالمؤمن: أمين الله في أرضه، ائتمنه على معرفته، ووضعها في قلبه، وجعل قلبه خزانة لها، وائتمنه عليها بما فيها من كنوز المعرفة، ووكله بحراستها من النفس الأمارة بالسوء، ومن العدو الحاسد القائم في ظل النفس، ومن ورائها، يرمي بالشيء بعد الشيء إلى النفس، ينتظر متى يعترض من النفس فرصتها من القلب.
وليس أحدٌ بباب الملك أعز عليه، ولا أصفى حباً له من أمينه الذي ائتمنه على ملكه، وعلى خزانته، وعلى حرمه وأسراره، وعلى خوله، وعلى رعيته، فهذا بهذه الصفة أعز من يدخل ذلك الباب، فإذا أقام العبد الأمانة، فهو أمين الله في أرضه، قد ائتمنه على معرفته وحقوقه، وعلى معرفته وأسراره، ودنياه ونفسه، وجميع خلقه، فإذا وفى العبد بالقيام بذلك، وصدق الله في القيام، فعين الله ترعاه، وهو المستحق لاسم الإيمان، فيقال: هذا مؤمن، ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وددت أني شعرة في صدر مؤمن.
فكانوا يشيرون إلى مثل هذه الصفة، فيسموا أهلها مؤمنين، فجهد الأكياس في هذا الباب أن يحافظوا على هذه الأمانة، ويبقوا على صيانتها،(5/428)
ويحرسوا خزانتها، والحمقى غفلوا عن هذا الباب، فأقبلوا على عمل الأركان على التخليط، والصدق المجهود، وذلك قوله: {إن المتقين في مقامٍ أمين}.
فهو واحد الله في أرضه في كل وقت، وإنما سمي جبريل: أمين الله، وبذلك أثنى عليه في تنزيله، فقال: {عند ذي العرش مكينٍ. مطاعٍ ثم أمينٍ}.
فقال أهل التفسير: حل من الأمانة أن يدخل سبعين ألف حجاب من نور بغير إذن، ائتمنه الله على وحيه، فبرز اسمه في السماوات بأنه أمين، واستحق دخول الحجب بلا إذن، وفي كل حجاب سر، فإذا أطلق لأحد دخول الحجاب بلا إذن، فقد ائتمن على ذلك السر، ومن لم يؤتمن، احتاج إلى إذن، وكذلك تجد عند ملوك الدنيا، لا يطلق الدخول لأحد بغير إذن متى ما شاء إلا لمن ائتمن على أسرار ما وراء الحجب.(5/429)
الأصل الثالث والأربعون والمئتان
1275 - نا عمرو بن زيادٍ الحنظلي، قال: أنا عبد الله ابن المبارك في مجلس حماد بن زيدٍ سنة سبعين ومئة، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نظر إلى محاسن امرأةٍ، فغض طرفه في أول نظرةٍ، رزقه الله عبادةً يجد حلاوتها في قلبه)).(5/431)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فمحاسن المرأة مجالس الشيطان، وموضع زينته الذي قال: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض}.
فتلك الزينة يلقيها على المحاسن، فإذا وجد العبد في النظرة على غفلة، عملت الزينة التي بيده على عين الناظر، عملاً ينفذ إلى القلب، فيأخذ القلب؛ بمنزلة السهم المسموم إذا خلص إلى الجسد، نفذ سمه من طرف السهم، فدب في جميع الجسد، فقد يبرأ المجروح من جراحاتٍ كثيرة، ويسلم ولا يسلم المسموم، ولا يبرأ حتى يقتله؛ لدبيب السم في جسده، وأخذه بالقلب حتى يجمد العلقة التي في جوف القلب، فعندها يموت، فذلك من حريق برد السم؛ لأن للبرد حريقاً كحريق النار، أو أشد منه حدة ونفوذاً، فتلك الزينة التي يبدأ العدو لها سم.
فإذا ألقاها على محاسن المرأة، فإنما يلقيها بتهيج نفوس الآدميين، والنفوس ساكنة، حتى إذا نظرت العين، وحظ العين من الدنيا زينة الأشياء وألوانها، فإذا أخذت الزينة وألوانها على غفلة، وتخطى إلى ما لم يؤذن له في النظر إليها، أو فيما أذن له وهو غير ذاكر لله، خلصت تلك الزينة التي بيد العدو إلى النفس، فهيجتها، فصارت بمنزلة السم يدب في جميع الجسد؛ لأن تلك الزينة لها حلاوة وحرارة، فإذا تأدت إلى القلب، خالطت(5/432)
حلاوة الإيمان، وحرارته، فتكدر الإيمان، وانكسفت المعرفة، فصارت بمنزلة شمس صارت في كسوف، فعلق القلب بتلك النظرة بالمنظور إليها، وصارت كجراحة مسمومة بقلبه، والذي حل بداود عليه السلام: إنما كان من نظرة، فالعبد أعطي جفون الناظرين حجة عليه، وقطعاً لعذره، وإخراساً للسانه.
وقد جاء في الخبر: أن الله تعالى يقول: ((يا ابن آدم! إن نازعتك عينك، فأطبق؛ فقد جعلت لهما طبقاً، وإن نازعك لسانك، فأطبق، فقد أعطيتك طبقاً -يريد: اللحيين-، وإن نازعك فرجك، فأطبق؛ فقد أعطيتك طبقاً -يريد به: الفخذين-)).
فهذا من تأييد الله لعبده، فإذا استعمل زينة الشيطان التي أعدها لغوايته بها، بتأييده الذي أيده الله، جاءت العصمة بعد التأييد، وسكنت النفس، وبطل كيد العدو، وأثابه الله في عاجل الدنيا ثواباً: أن رزقه عبادة يجد حلاوتها مع ما يدخر له من ثواب الأجل.
ولذلك ما روي في الخبر:
((ما ترك عبدٌ شيئاً من الدنيا لله، إلا آتاه الله خيراً منه وأفضل)).(5/433)
1276 - نا بذلك إبراهيم بن يوسف الحضرمي، قال: أنا ابن مباركٍ، عن الربيع بن أنسٍ، عن أبي بن كعبٍ.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
واعتبر بما قص الله عليك من نبأ سليمان بن داود عليه السلام كيف ترك في جنب الله ما أوتي؟ وبماذا أثابه الله؟ فقال في تنزيله: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد}، ثم أثنى عليه فقال: {نعم العبد إنه أواب}.
ثم وصف أوابيته، فقال: {إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد. فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. ردوها علي فطفق مسحاً بالسوق والأعناق}.
وقال الله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب} يقول: لينة حيث أراد، فهذا ثواب عاجله، ثم ذكر ثواب الآجل، فقال: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مئابٍ}.(5/434)
1277 - فحدثنا صالح بن محمدٍ، عن محمد ابن مروان، عن جويبرٍ، عن الضحاك، قال: أخرجت لسليمان خيلٌ من البحر منقوشةٌ ذوات أجنحة، وهي التي عرضت عليه.
وروي عن إبراهيم التيمي: أنها كانت عشرين ألفاً.
فعرضت عليه بالعشي، فشغل عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فدخلت عليه حرقة الفوت، ووجد من ذلك وجداً شديداً حتى قال: ردوها علي، فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيوف.
قال الله تعالى: {فسخرنا له الريح} فإنما سخر له الريح؛ شكراً لما أتى من العقوبة بالخيل التي شغلته، وذلك قوله: ما ترك عبد شيئاً لله، إلا آتاه الله خيراً منه.
فهذا الذي غض بصره، إنما رد حلاوة هاجت منه، حين أحست نفسه بالنظرة الأولى التي كانت له، فرد تلك الحلاوة على النفس، فرجعت(5/435)
النفس قهقرى على عقبيها، وبقيت خزانة الله مصونة، فأعقبه الله في عاجل دنياه؛ بما صان خزانته فأهاج من الخزانة من شرارات المعرفة حلاوة عبادة طرية، وخلصه من وبال النظرة، وجعل تلك العبادة حصنه، وتلك الحلاوة زاد قلبه، يقطع بها مسافة العبودة أيام الحياة؛ فإن العبودة كائنة من العبادة، وأصلها من العلم، وحلاوة العبادة تحف من الله، وأصلها من هيجان المعرفة، فالعبادة موجودة كثيرة من العباد، وحلاوة العبادة عزيزة لا تنال إلا من طريق التحف، وهي زاد قلوب العابدين، وبالزاد يقطع الأسفار أسفار الملكوت.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أحب العيون إلى الله عينان: عينٌ غضت عن محارم الله، وعينٌ حرست في سبيل الله)).
1278 - نا بذلك أبي رحمه الله.
وقال في تنزيله: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}.(5/436)
فخرجت هذه الآية مخرج النصيحة والعطف والتأييد، وقال في سائر الأشياء: افعلوا ولا تفعلوا، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وأمر، وبين القول والأمر بون بعيد، أيد الله المؤمنين بهذه الكلمة من قوله: {قل}؛ ليقووا على غض الأبصار، فيجد السابق سبيلاً إلى صفاء الانتهاء، والمقتصد يجد السبيل إلى الانتهاء مع التنازع.
وقال الله في تنزيله: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}، فالسابق حظه من قوله: {قل للمؤمنين} الخلاص من خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
1279 - نا إبراهيم بن عبد الله الخلال، قال: أنا عبد الله بن المبارك، قال: نا يونس بن يزيد، عن ابن شهابٍ، عن نبهان مولى أم سلمة: أنه حدثه: أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته: أنها كانت عند رسول الله وميمونة، قالت: فبينما نحن عنده، أقبل ابن أم مكتومٍ، فدخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال رسول الله: ((احتجبا منه)) فقلنا: يا رسول الله! أليس هو أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفعمياوان أنتما؟!(5/437)
ألستما تبصرانه؟!)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فقد تقدمت موعظة الله العباد في تنزيله من قوله: {وإذا سألتموهن متعاً فسألوهن من وراء حجابٍ}، ثم قال: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}.
يعلم العباد أن المبتغى منهم طهارة القلوب، وإنما تطهر القلوب بحفظ الحواس المؤدية أخبار الظاهر، وقد حذر الله عباده، وعظم شأن الزنا في تنزيله، وبين عقوبته، ثم وجدنا الزنا مقسوماً على جوارح المرء، وقد نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم: أن لكل جارحة منه حظاً.
1280 - نا قتيبة بن سعيدٍ، قال: نا ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العين تزني، واليد تزني، والرجل تزني، والسمع يزني، واللسان يزني، ويصدق ذلك كله ويكذبه الفرج)).(5/438)
قال: تكذيب الفرج إياهن: أن لا يوجب حداً، فأما الأدناس والآثام، فقد أصابت الجوارح، وحلت بها.
1281 - نا إبراهيم بن عبد الله، قال: أنا عبد الله، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني عبيد الله بن زحر، عن خالد بن أبي عمران، قال: لا تتبعن النظرة النظرة، فربما نظر العبد نظرةً ينغل منها قلبه كما ينغل الأديم في الدباغ، فلا ينتفع به.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهو ما ذكرنا بدءاً من السهم المسموم.
1282 - نا أبي رحمه الله، قال: نا محمد بن حميدٍ الأصباغي، قال: نا عنبسة بن عبد الرحمن القرشي، عن(5/439)
أبي الحسن المدائني، عن عليٍّ بن أبي طالبٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النظر إلى محاسن المرأة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، فمن صرف بصره عنها، رزقه الله عبادةً يجد حلاوتها)).
1283 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: أنا سعيد بن أبي مريم المصري، قال: نا نافع بن يزيد، قال: حدثني خالد بن يزيد، عن عمار بن سعدٍ، قال: لقي يحيى بن زكريا عيسى بن مريم -صلوات الله عليهم-، قال يحيى(5/440)
لعيسى: يا روح الله وكلمته! حدثني، قال عيسى: بل أنت فحدثني، أنت خيرٌ مني، جعلك الله سيداً وحصوراً، ونبياً من الصالحين.
قال يحيى: أنت خير مني، أنت روح الله وكلمته، فحدثني: ما يبعد من غضب الله؟ قال له عيسى: لا تغضب، قال: يا روح الله! ما يبدئ الغضب وينشئه؟ قال: التعزز والفخر، والحمية والعظمة، قال: يا روح الله! هؤلاء شداد كلهن، فكيف لي بهن؟ قال: سكن الروح، واكظم الغيظ. ثم قال له: وإياك واللهو، فيسخط الله عليك، وإياك والزنا؛ فإنه من غضب الرب، قال: يا روح الله! ما يبدئ الزنا ويثيره ويثنيه ويعيده؟ قال: النظر والشهوة، وإتباعهما، لا تكونن حديد النظر إلى ما ليس لك؛ فإنه لن يزني فرجك ما حفظت عينك، فإن استطعت أن لا تنظر إلى ثوب المرأة التي لا تحل لك، فافعل، ولن تستطيع ذلك إلا بالله.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
ولذلك حسم عليك العلماء النصحاء باب فضول النظر؛ لأن النظر بمنزلة بذر تبذره في الصدر، فإذا كانت النظرة نظرة عبرة، فالصدر بستان، وإذا كانت نظرة شهوة مشتملة عليها الغفلة، فالصدر مشاكةٌ.
1284 - نا محمد بن علي الشقيقي، قال: نا أبو(5/441)
مالكٍ سعيد بن هبيرة، قال: نا حماد بن سلمة، قال: نا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن سلمة ابن أبي الطفيل، عن عليٍّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لك في الجنة كنزاً، وإنك ذو قرنيها، فلا تتبعن النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى، وليست لك الأخرى)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالكنز عندنا معناه: فاطمة، وقرنيها: الحسن والحسين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أربع نسوة سيدة نساء العالمين في الجنة: مريم، وآسية، وخديجة، وفاطمة)).(5/442)
وقال عليه السلام: ((إنما فاطمة بضعةٌ مني)).
وقال لها عند موته: ((إنك أسرع الناس بي لحوقاً))، فضحكت.
فبشر علياً: بأنها لك في الجنة، وصيرها بمنزلة الكنز؛ لأن الكنز موضوع مستور، إليه المؤمل، وسائر المال ظاهر يذهب ويجيء ويفوت، والكنز أصل المال، فشبه فاطمة من نعيم الجنة وإزواجها لعلي بالكنز من المال، ثم قال: ((وإنك ذو قرنيها))، فنسب القرنين إلى فاطمة أن الحسن والحسين قرناها، وإنك يا علي ذو القرنين؛ أي: تجد الحسن والحسين، وهما سيدا شباب أهل الجنة لك ولداً، وذو: كلمة الاتصال واللصوق؛ كالشيء من الشيء.
فأعلمه قرب منزلتهم منه في الجنة، وأنهم لا يفرقون، كما جمعهم الله في الدنيا، كذلك يجمعهم في الدرجة، ثم أوصاه على أثر البشرى وصية الرسل على التلطف، يحذره إتباع النظرة النظرة؛ لئلا يطمس وجه الكنز، ولا يغير ما به من نعمة الله؛ فإنه يحتاج إلى التطهير في شأن الوصول إلى الكنز.(5/443)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خص أحداً من أصحابه بموعظة وتحذير، فإنما يقصد قصد النكتة التي يخاف عليه منها، وكان عليٌّ رجلاً يغلب على قلبه محبة الله تعالى، والمحبة تسير إلى الله تعالى في ميدان السعة، والتشجع في الأمور والتذرع، والمحبة لها حلاوة وحرارة تهيج الشهوة، وتزيد ماء الصلب، فحذره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يخاف عليه؛ كأنه خاف أن يطمح الذي فيه مما ذكرنا بنظره إلى ما ليس له، فبشره بالكنز والقرنين، ثم أتبعه الوصية، وحذره؛ كي يشفق على البشرى الذي بشره بما له في الجنة، فيكون ذلك الأمل الذي يأمل في ذلك الكنز عوناً له على غض بصره، ورد نفسه.
ومما يحقق ما ذكرنا من شأن الحب الغالب عليه: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)).
فشهد له الرسول عليه السلام بحب الله إياه، وبحبه لله، ونسب هذه الخصلة إليه من بين الجميع، وقد كان هناك أبو بكر، وعمر، والنجباء، وإنما ينسب(5/444)
المرء إلى ما يكون الغالب عليه من الأمور والأعمال، فكذلك في الحظوظ، إنما ينسب أصحاب القلوب كل إلى ما وفر له من الحظ من ذلك الشيء.
فأبو بكر منسوبٌ إلى الرحمة والرأفة والحياء.
وعمر منسوب إلى الحق.
وعلي منسوب إلى المحبة.
فإنما ينسب كل واحد منهم إلى ما هو الغالب عليه.
ومما يحقق ذلك أيضاً: أن علياً كان بارز الأمر في شأن الثناء على الله تعالى، وذكر الصفات، ونشر الآلاء من بين جميع الأصحاب، وهذا علم المحبين، وكان معروفاً بالانبساط والانطلاق، والهشاشة إلى الخلق والمزاح.
حتى قال عمر في شأن الخلافة عندما ذكر له علي، قال: إن علياً رجلاً تلعابة.
وقال مرة أخرى: به دعابة.
والدعابة: المزاح، والتلعابة: من الملاعبة، وهذا لمن الغالب على قلبه(5/445)
محبة الله كائنة؛ لأن القلب ينبسط عند المحبة، وينقبض عند المخافة، فإذا غلبت المحبة على الخوف، انبسط، وإذا غلب الخوف على المحبة، انقبض؛ لأنه يلاحظ العظمة، وفي وقت الانبساط يلاحظ جوده وكرمه، وكأن انبساط علي إلى الخلق ومعاملته إياهم على حسب ذلك من السعة والبشر والهشاشة، وبتلك القوة أمكنته المحاربة، وتشجع، وصلى على قتلى الفريقين.
وقال: رحمكم الله! دعيتم فأجبتم، وأمرتم فأطعتم.
ومن كانت هذه صفته كانت شهوته هائجة، وكان قوياً في أمر النساء.
وكان يقول: كنت رجلاً مذاءً، فكنت أغتسل في اليوم مرات حتى شحبت، وكنت أستحي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل ابنته، فأمرت المقداد أن يسأل لي رسول الله، فسأله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يجزئك الوضوء)).
وكان قد هم أن يتزوج على فاطمة، حتى خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: ((إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم من عليٍّ، وإن فاطمة بضعةٌ مني، يؤذيني ما آذاها، ألا فإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن)).(5/446)
1285 - نا بذلك سليمان بن منصورٍ الذهبي، قال: أنا عبد الجبار بن الورد، عن ابن أبي مليكة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1286 - نا أبي رحمه الله، قال: نا الحسن بن سوارٍ البغوي، وأحمد بن يونس، عن ليث بن سعدٍ، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، عن رسول الله، بمثله.
1287 - نا عبد الجبار، عن سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن أبي جعفرٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن علياً يريد أن يخطب العوراء بنت أبي جهلٍ، وما كان لعليٍّ أن يجمع بين بنت نبي الله، وبنت عدو الله؛ فإن فاطمة بضعةٌ مني(5/447)
يغضبني ما أغضبها)).
ومرة أخرى يوم فتح مكة وقعت في سهمه جارية من سبي هوازن، فذهب بها مستعجلاً إلى أخته أم هانئ لتزينها، فهم في ذلك، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلوا عن السبايا، فبقي عليٌّ على قارعة الطريق.
ومرة في بعض السرايا نكح جارية من الخمس، فأنكروا ذلك عليه فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرين عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تؤذوني في عليٍّ)).
1288 - ونا عبد الجبار، عن سفيان، عن عمرٍو، عن أبي جعفرٍ، قال: دخلت أم أيمن على فاطمة، فرأت في وجهها شيئاً، فأنكرته، فسألتها، فأبت أن تخبرها، فقالت: أما إن أباك لا يكتمني شيئاً، فقالت: جاريةٌ وهبها أبو بكر لعليٍّ، فخرجت أم أيمن، فنادت: أما لرسول الله حقٌّ أن يحفظ في أهله؟ فقال عليٌّ: ما هذا؟ قالوا: أم أيمن(5/448)
تقول كذا، فقال عليٌّ: الجارية لفاطمة.
ومات يوم مات رضي الله عنه عن سبع عشرة من بين حرة وأم ولدٍ، فكان هذا كله من غلبة ما ذكرنا على قلبه، فإنما حذره رسول الله صلى الله عليه وسلم النكتة التي عرفها فيه، وحذره خطرها ووبالها، وكذلك كان من شأنه، إذا عرف من رجل شيئاً يخاف عليه منه، وعظه من ذلك الباب.
ومن ذلك قال للزبير، وهو آخذ بطرف عمامته: ((يا زبير! إني رسول الله إليك خاصةً، وإلى الناس عامةً، يا زبير! إن الله يقول: أَنفق أُنفق عليك، ولا تصر فأصر عليك)).
فذكر الحديث إلى آخره.
فإنما قصده لهذا؛ لأن الزبير كان يزن ببخل، وبلغ من إمساكه أنه كان يوصي إليه أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعلمهم بإمساكه.(5/449)
الأصل الرابع والأربعون والمئتان
1289 - نا نصر بن علي بن نصر بن علي بن صهبان الجهضمي، قال: حدثني أبي، عن جدي، عن النضر بن شيبان: أنه لقي أبا سلمة بن عبد الرحمن، فقال: حدثني بأفضل شيء سمعته يذكر -يعني: أباه- في رمضان؟ فقال: نا عبد الرحمن بن عوفٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن شهر رمضان شهرٌ فرض الله على المسلمين صيامه، وسننت لهم قيامه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه)).(5/451)
1290 - نا سعيد بن عبد الله التمار، قال: نا الفضل ابن دكينٍ، قال: نا نصر بن عليٍّ بن صهبان، عن النضر بن شيبان، عن أبي سلمة، عن أبيه، عن رسول الله، بمثله.
1291 - نا قتيبة بن سعيدٍ، وصالح بن عبد الله، قالا: نا نوح بن قيسٍ الحداني، عن نصر بن عليٍّ، عن النضر بن شيبان، قال: قلت لأبي سلمة بن عبد الرحمن: ألا تحدثني بشيء سمعته من أبيك سمعه أبوك من رسول الله؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
ونصر هذا هو جد نصر بن علي الذي لقيناه بالبصرة.
1292 - نا الجاورد، قال: نا النضر بن شميلٍ، قال:(5/452)
نا القاسم بن الفضل الحداني، قال: نا النضر بن شيبان، قال: لقيت أبا سلمة، فقلت له: حدثني حديثاً سمعته من أبيك عن رسول الله، ليس بينك وبينه أحدٌ، فقال: سمعت أبي، أو أخبرنا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((صامه إيماناً))؛ أي: آمن بما افترض الله عليه، ثم صامه على نية أنه افترضه الله عليه؛ لأنه قال: {يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام}.
والصوم: إنما هو: عزم على كف عن كل شيء يطعم أو يشرب، وعن إتيان النساء، فهذا العزم بينه وبين ربه، لا يطلع عليه أحد، وهو في كل ساعة من يومه إذا اعترضت له شهوة، فإنما يمتنع منها؛ لإيمانه بأن الله مطلع على سره وإضماره، فذلك منه إيمان في نفسه بأن الله تعالى يعلم عزمه وضميره في هذا الكف، فيستقر لذلك قلبه، ويعظم أمله، ويرجو من الله تعالى عليها خيراً، هذا كله إيمان، فإذا لم يجمع من الليل، ولم(5/453)
يعزم على ذلك، لم يجزئه صومه هذا في الذي افترض الله عليه؛ لأنه قد كتب عليه ذلك من أول ما ينفجر الصبح إلى غروب الشمس وإقبال الليل، فأمر بإتمامه إلى الليل، فأما التطوع، فله أن ينوي قبل الزوال، فيكتب له أجر اليوم تاماً؛ تفضلاً من الله على عبده.
وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا عزم على الصوم قبل الزوال، فقد بقي عليه أكثر النهار، فإذا افترض من ذلك الوقت على نفسه، حسب له صيامه من أول النهار؛ لأن حكم أكثر الشيء حكم الكل، وجدنا ذلك سائراً في كثير من الأحكام.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل)).
فهذا لمن فرض الله عليه، فإذا لم يجمع، فأصبح، فهو في تلك الساعة(5/454)
التي أصبح غير مؤدٍّ للفرض.
فروي عنه: أنه قال: ((الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار))، فهذا في التطوع.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((إيماناً واحتساباً))، وكل عمل ابن آدم فإنما يقوم بالنية والحسبة، والنية والحسبة: قرينتان تجريان في الأعمال معاً، فإذا انقطعت النية، انقطعت الحسبة.
فالنية: نهوض القلب إلى الله، وبدؤها الخاطر، ثم المشيئة، ثم الإرادة، ثم النهوض إلى الله مرتحلاً بفعله، وعمله، وذهنه، وهمته، وعزمه، وإضماره، فهاهنا تتم النية، فيقال: نوى، ومن هاهنا تخرج إلى الأركان،(5/455)
فيظهر على الجوارح فعله، ومبتدأ النية الذي لزمه هذا الاسم: نهوض القلب، وتحركه من مكانه.
يقال في اللغة: ناء ينوء؛ أي: نهض ينهض.
وقيل: النية كانت خاطرة، ثم مشيئة، ثم إرادة، حتى إذا صار القلب إلى فعل ظاهر في صدره، قيل: نية؛ لأنه قبل ذلك كانت الأشياء خفية في الصدر، فلما ظهرت، نهضت، فمبتدأ النية نهوض، ومنتهاها عزمة، ثم الارتحال.
فالعزم: عقد القلب، ولا تكون النية إلا بالعقد، والتوجه إلى العبادة مع العزم؛ لذلك ثبتوا عليه، والفرائض منتظمة فيه، فأما سائر الطاعات المرغوبة، فيحتاج إلى عزم يشاكل ذلك حتى يمكنه الثبات عليه مثلما ثبت في الأول، فإذا صح العزم، خرج الرياء، والفخر، والخيلاء من جميع أحواله، وبلغ مقام الأولياء، ثم الناس بعد ذلك على طبقات.
فالعامة: في جميع أعمال البر هذا صفتهم، لابد لهم من أن يأتوا(5/456)
بهذه الصفة في كل عمل يلتمسون ثوابه غداً، وهذا موجود في العامة من الموحدين في كل عمل أخلصوه لله، فهذه الخصال موجودة في ذلك العمل؛ لأنه لا يحسن أن يميز هذا الاسم، ويطالعه بقلبه في صدره؛ لأن صدره مرج من المروج ملتف فيه من النبات ما إذا تخطى فيه، لا يكاد يستبين موضع قدمه أين يضعه من كثرة التفات ما فيه من البردي والأشجار والحطب.
فهذا صدر فيه إشغال النفس وفتنتها، ووساوس شهواتها، فمن أين يبصر في صدره الخواطر والمشيئات، والإرادات والنهوض، والارتحال وجنود المعرفة؟ ولكن الله تعالى لما رحم الموحدين، ومن عليهم بالتوحيد، ضمن هذه الأشياء توحيدهم، وأودعها قلوبهم، فهم بتلك القوة يعملون أعمال البر، وربما أخلصوا، وربما خلطوا، وربما اطمأنوا، وربما نافقوا، ولذلك وضع الحساب في الموقف؛ لتخليط الإيمان بالنفاق، والصدق بالكذب، والإخلاص بالشرك؛ أعني: شرك الأسباب، وإنما يستبين الذي وصفنا لقلبٍ أجرد أزهر في صدر فسيح قد شرحه الله للإسلام، فهو على نورٍ من ربه، رطب بذكر الله، قد لان بلطف الله، ورطب برحمة الله، وصلب بآلاء الله، وبذلك وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((قلب المؤمن أجرد أزهر)).(5/457)
فصدره كمفازة جرداء فيها شمس تزهر.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله في الأرض أواني، ألا وهي القلوب، فخيرها: أصفاها، وأرقها، وأصلبها)).
فأصفاها من كدورة الأخلاق، وأرقها للإخوان، وأصلبها في ذات الله تعالى.
فالناس في هذه النية على طبقات:
فأما نية العامة: فارتحالهم إلى الله بهذا العقل والعلم، والذهن، والهمة، والإضمار، والعزم، فمبلغ ارتحالهم: الجو.
ثم ليس لقلوبهم من القوة ما يرتحلون، فيطيرون؛ لأنه لا ريش لقلوبهم، فيطيرون، والجو مسدود؛ لأن القلوب لما مالت إلى النفوس، فأطاعتها، انسد طريقها إلى ربها؛ لأن القلوب إنما أعطيت معرفة التوحيد، ومن عليها بذلك، فقويت بقوة وافرة بالغةٍ؛ لتمد النفس بما فيها من الشهوات إلى الله، فتطيعه، فتمت حجة الله على القلوب بما أعطيت، فلما ضعفت، ولم يتشمر لأمر الله بما أعطيت من الجنود، ولم يجاهد النفس حتى يغلبها، ويأسرها بجميع ما فيها من الشهوات فيذلها.(5/458)
وقد قيل لها: {وجاهدوا في الله حق جهاده}، ثم قال: {هو اجتباكم}؛ أي: رفعكم من بين الأعداء؛ جباية منه لكم؛ ليتخذكم أحباباً، وإنما جباهم من بين الأعداء، ووضع في قلوبهم التوحيد بحلاوته؛ كي إن جاءت النفس بحلاوة شهواتها إلى القلب، ضرب بتلك الحلاوة وجهها، وردها بقوة هذه الحلاوة الممنون عليه بها؛ بمنزلة ملك قاعد على سرير الملك، والتاج على رأسه، والإكليل على جبينه في سماطي جنوده، وبين يديه قعبٌ من عسل وشهد، فهو يلعق العسل، ويطعم الشهد على أثره؛ كي يقوى على لعق العسل عوداً، فجاءه عبد حبشي في وسخ ذو خيانة، قد ابتلي به؛ لأنه دبره على شريطة أن يعتقه بعد كذا وكذا من العمل والخراج، فلا يقدر أن يبيعه، ولا يغصبه ممن يملكه، فبينا هذا الملك على هذا الحال الذي وصفنا، إذ أتاه هذا العبد بطبق عليه فرصاد، أو مشمش، يظهر بذلك شفقته على الملك؛ ليتناول من هذه الحلاوة التي جاء بها، أفلا يحق على هذا الملك أن يأمر بطرده بما جاء به؛ لأنه سخر بأمره، فإذا كان الملك أبله، أعرض عن العسل، وأقبل على هذا الفرصاد.(5/459)
فهذا الموحد الذي أعطي التوحيد بما فيه من الحلاوة إذا انخدع لنفسه، وبما تأتي به النفس بمنزلة هذا الملك الأبله، فإذا وجد الجنود الملك أبله، تحيروا، وتعطلت أعمالهم التي بها وكلوا، ورفع التاج عن رأسه، ونزع الإكليل، وأنزل عن السرير، ووضع في يد هذا العبد القذر حتى يدوسه في المزابل حتى يمتلئ منخراه ودماغه من كل نتن، فهناك تجده لا يلتذ بطاعة، ولا يستروح إلى ذكر الله؛ لأنه لا يجد رائحة الذكر؛ لأنه يخرج من صدر كالمزابل، محشو بالخبث، والخيانة، والظلم، والعدوان، والرغبة، والتجبر، والتعزز، والتكبر، والاستبداد، والحقد والغلو، وحب الأشياء التي يضاهي الله بها، وينازع رداءه، أفيرجو بعد هذا صاحب هذا أن يلتذ بطاعة، أو يستروح إلى ذكر، أو يجاوز قلبه في عمله رأسه؟ فإن اجتهد، فأخلص في شيء واحد بحرمة ذلك التوحيد وبقوته، فبجهد شديد، ولا يجاوز قلبه الحق، فهذا شأن العامة.
وأما الصادقون: وهم العباد، والزهاد، والقراء، فنياتهم صاعدة بهذه الأشياء التي ذكرنا من العقل، والعلم، والهمة، والإضمار، والعزم، فإذا بلغ المحل الذي هناك، استقر القرآن في بيت العزة في السماء الدنيا، ضعفوا عن تجاوز ذلك إلى ما فوقه؛ لأنه لا يقدر قلبه على الطيران إلى العلا، وعلى(5/460)
قدر عقله وعلمه، وذهنه، واستعماله لهم، يمكنه أن يطير فتحتظي تلك النفوس من ذلك المحل، وتأخذ قوتها، وتستمر في الطاعة.
وأما العارفون: وهم الصديقون، فإن نياتهم قد صارت كلها نية واحدة؛ لأن القلب قد ارتحل إلى الله بمرة، ووجد الطريق فمر، واشتغل بالنفس بما فيها من الشهوات، لينة منقادة، قد تحولت من الخيانة إلى الأمانة، وانقاد [ت] للقلب، فالقلب: أمير، والنفس: أسيرة حتى صارت أمينة بعد الأسر، والقلب قرينة أكرمت بكرامة القلب، فهذا صاحب العسل والشهد، فارتحال قلوبهم إلى المعسكر عند ذي العرش، ولهم مطاف، وأعمالهم معروضة على الله في كل مفرج، ولا توضع في الخزائن حتى تعرض، وينظر إليها الرب -تبارك اسمه-، ويتقبلها، ثم توضع بعد القبول في خزائن الخاصة.
وأما العارفون الحكماء: حكماء الله لا حكماء التدبير، فهم الذين اطلعوا على بدو الربوبية، ومحل القربة، فهم خاصة الله في بحور الله، يعملون(5/461)
بجميع الأعمال، والأعمال غائبة عن قلوبهم؛ لأن الله نصب أعينهم في مجالس الملك، فأجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر النية فقال: ((الأعمال بالنيات، وإنما لامرئٍ ما نوى)).
يعلمك بقوله: ((وإنما لامرئٍ ما نوى)): أن للنية درجات، كلٌّ على درجته ينال ثمرتها.
1293 - نا سليمان بن منصورٍ الذهبي، قال: نا عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن سعيدٍ، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاصٍ، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأعمال بالنيات، وإنما لامرئٍ ما نوى)).
وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له)).
وأما الحسبة: فإن العبد لما انتبه، علم أنه في رق العبودة إلى يوم(5/462)
خروجه من الدنيا؛ لأنه خلقه عبداً ليعبده، ثم وعده أن يحرره يوم الموقف إذا أتاه بالعبودة، فيقعده في داره دار السلام، وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
فنحن نسعى في هذا الرق إليه إلى يوم اللقاء، وهو خروج الروح، وقبض النفس عن الدنيا: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ فأولئك كان سعيهم مشكوراً}: شكر الله لهم بمغفرة الذنوب، والرضا عنهم، وتملكهم الجنان، وقضاء المنى والشهوات أبداً، {ورضوانٌ من الله أكبر}، فلما آمن العبد بربه، ألقى بيديه إليه سلماً، وقبل أمره وعبوديته، فقبله الله، وأقبل عليه بالمعونة له.
وقد قال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}؛ أي: في العون والنصرة، فما دام العبد مقبلاً على الله تعالى، فإقبال الله عليه، ومن ذا يعلم ما في حشو هذا الإقبال إلا أهله؟ فإذا أعرض العبد مغتراً بخدائع النفس وأمانيها وأكاذيبها، فأقبل على النفس، وقبل منها ما تأتي به، فقد أعرض عن الله، ومال عنه، فأعرض الله عنه، وعذب قلبه، ورث عليه(5/463)
أشغال الدنيا رثاً حتى يغرق فيه قلبه، وانقطع المدد والعون، فإذا تاب إلى الله، ونزع، خرج من هذا الغرق برحمة أدركته من الله، وغوثٍ أغاثه.
ولم يحب أن يضيع صنائعه، فجاد وتفضل، وفتح باب الرحمة نظراً منه لمنته وأياديه التي كانت له عند العبد، فوجد القلب خلاصاً، وعاد العون والمدد، فلم يزل العبد يترقى درجة درجة، وتفضل الله عليه بالكرم، وجاد بالإقبال، فانتعش بعد النكس، وحيي بعد الموت، حتى توردت بساتين توحيده، وانفطرت مكنون جواهره كانفطار الينابيع، وانفلاق الحبوب عن بذورها، وأزهرت فأينعت، وذلك قوله تعالى: {فالق الحب والنوى}، و {فالق الأصباح}، {يخرج الحي من الميت}.
فأخذ العبد يسعى في الرق والعبودة، وكلما عمل شيئاً من الأعمال، احتسب به على الله في العبودة التي قبل منه، بمنزلة رجل دين في عنقه بأمانة، فهو يفك رقبته بأدائه شيئاً بعد شيء، إذا أدى عشرة، احتسب بها على صاحب الدين قضاء ووفاء، وإذا أدى مئة، فمثل ذلك، وإذا أدى ديناراً، احتسب به قضاءً من ذلك الدين، وإذا أدى جوهراً، احتسب به قضاءً، وإذا(5/464)
أدى عقاراً أو عرضاً من العروض، فمثل ذلك، وكل شيء يؤديه إلى صاحب الدين احتسبه عليه في قضاء الدين الذي في عنقه.
وإنما قيل: احتسب على قالب افتعل، ولم يقل: حسب؛ لأن هذا فعل في الذات مقرون بالنية، وإنما يقال لفعل الأركان: حسب، وهذا احتسب، ومعناهما يرجعان إلى الحساب أن هذا العبد يحتسب في نفسه، وفي ذاته بهذا الفعل، يحتسبه على الله من قضاء دينه، ودينه العبودة التي قبلها، فإذا قوي واحتسب، فقد أخلص، وعقد إخلاصه بالنية وعبودته بالاحتساب، فقد أتى بالأمرين جميعاً، وبذلك أمر في تنزيله فقال: {ليعبدوا الله مخلصين له الدين}.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذكر شهر رمضان: ((فمن صامه إيماناً واحتساباً)).
يعني: إيماناً بما كتبه الله عليه، فهو يؤدي الفرض، وإيماناً بأنه مطلع على عزمه في صومه، ورد شهواته في ساعات يومه.
فذلك كله من العبد إيمان يتجدد عليه في كل ساعة، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ أحدهم بيد صاحبه؛ مثل: معاذ بن جبل، وعبد الله(5/465)
ابن رواحة، فيقول أحدهما لصاحبه: تعالى حتى نؤمن ساعة.
فإنما يريدون بذلك تجديد الإيمان بما يتجالسون على ذكر الله، وذكر أياديه ومننه، فكذلك هذا الذي يتردد في صدر هذا الصائم من شهوات النفس التي تفطره، فيردها، ففي كل ردة هو مجدد لإيمانه، لأن ذلك سرٌّ بينه وبين ربه، لا يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولذلك قال تعالى: ((الصوم لي، وأنا أجزي به)).
لأنه فيما بينه وبينه، ففي كل ردة من العبد لشهوة تعرض له جزاءٌ من ربه، وهذا شيء لا يدركه الحفظة الكتبة.
وأما قوله: ((قامه احتساباً))، فإنما يقوم في صلاته التي لم يفترض عليه، يحتسب بقومته على الله قضاء للعبودة التي لها خلق، فيكتب له أجر العبودة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أجر لمن لا حسبة له)).
فرب رجل يعمل أعمال البر على العادة، لا على يقظة العبودة، ولا يكون(5/466)
له احتساب أن يحتسبها قضاء عن العبودة التي في عنقه.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((وفي غشيانك أهلك صدقةٌ))، قالوا: يا رسول الله! نأتي شهواتنا ونؤجر؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أرأيت لو وضعتها في حرامٍ، أكنت تؤزر؟))، قال: بلى، قال: ((فتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير؟!)).
فقد أعلم في هذا الحديث أنه لما زنى، إنما قصد قضاء الشهوة، فاحتسب على النفس بإعطائها منيتها، وقضاء للنفس شهوتها؛ لأنه عبد نفسه، وعبد شهواته، وإذا وضعها في حلال، فأراد العفة عن الحرام، فاحتسب بها قضاءً عن العبودة التي لزمته، وقبلها، أجر فيها، وصار ذلك صدقة منه على أهله.
ولذلك قال معاذ لأبي موسى: إني أنام نصف الليل، وأقوم نصفه،(5/467)
فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
فإنما نام تلك النومة؛ ليأخذ العدة للقومة، فاحتسب بالنومة قضاءً عن العبودة التي قبل من ربه أنه إنما خلقه عبداً وخلقه ليعبده، فإذا نام، تلذذ بنوم، وأتى أهله تلذذاً لم يحتسب بها قضاءً عن العبودة، فبطل أجره، وبقيت العبودة في عنقه، فلقي الله، وقد خسر أجر العبودة في ذلك الوقت الذي عطله، فإن شاء الله، عفا عنه، وإن شاء، حبسه للحساب الطويل، والهول العظيم، وإذا مال بهذه الشهوات إلى الحرام، فإنما يقضي عبودة النفس، فما ظنك بعبد خلقه الله تعالى عبداً، وقبل هذا العبد هذه العبودة، ثم ذهب فصير نفسه عبداً لنفسه وشهواته، وذهب بعبودته عن الله إليها؟
ولذلك استوجب اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم البرية، وأرأفهم بالأمة.
1294 - نا بشر بن هلالٍ الصواف، قال: نا عبد الوارث ابن سعيد، عن يونس، عن الحسن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن عبد الدينار، لعن عبد الدرهم)).(5/468)
وزاد غيره في حديثه: ((ولعن صاحب الخميصة، وتعس وشيك، فلا انتقش، حبذا عبد الله، وعبيد الله)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذا عار عظيم على مؤمن سمي بعبد الله، ثم صار عبد نفسه، وعبد شهوته، وعبد بطنه، وعبد فرجه، وعبد هواه.
1295 - نا الفضل بن محمدٍ، قال: نا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، قال: نا عمرو بن بكرٍ، قال: نا أبو بكر محمد بن عبد الواحد الأفطس، عن أبيه عبد الواحد بن قيسٍ، قال: سمعت أبا أمامة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما لامرئٍ ما احتسب، وعليه(5/469)
ما اكتسب، والمرء مع من أحب، ومن مات على ذنابى طريقٍ، فهو من أهله)).
قال أبو عبد الله:
فقد كشف لك هذا الحديث عما قلنا: أن ما احتسب قضاءً للعبودة، فهو له، وما لم يحتسب ذلك، ولكن، اكتسب، فهو عليه؛ لأن الكسب فعل الأركان، والاكتساب فعل الذات، فإذا كان فعل الذات اكتساباً، لم يكن احتساباً؛ لأن اكتساب الذات للنفس، فإذا جاء الاحتساب، ذهب الاكتساب؛ لأن الاكتساب حظ النفس، تكتسب اتباع الهوى فيما تقضي النفس من مناها، وشهواتها، ولذاتها، فذاك عليه، فإذا جاء الاحتساب من قوة القلب بذكر العبودة مع النية الصادقة، فبتلك النية تحول العمل، فصار لله، لا للهوى، وكذلك الاحتساب الذي يحتسب به على الله قضاء للعبودة،(5/470)
لا قضاء النهمة والشهوة، وقال في تنزيله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
فإنما صار لها ما كسبت؛ لأن بدو الكسب حسبة، ثم خرج إلى الأركان، فصار كسباً للقلب، والاكتساب في الذات، تكتسب النفس لهواها ما أورد الهوى به عليها من باب النار من تلك الشهوات التي حفت النار بها.(5/471)
الأصل الخامس والأربعون والمئتان
1296 - نا صالح بن محمد، قال: نا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، قال: سمعت أبا هريرة يقول: ((أوصاني حبيبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، وأن لا أنام إلا على وترٍ، وركعتي الضحى)).(5/473)
1297 - نا عمر بن أبي عمر قال: نا إسحاق بن إبراهيم بن يزيد القرشي، قال: نا خالد بن يزيد المري، قال: حدثني العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن كثير، قال أبو عبد الله رحمه الله: وهو ابن مرة عندي-، عن أبي الدرداء، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عويمر، حافظ على أن لا تبيت إلا على وترٍ، وركعتي الضحى، مقيماً أو مسافراً، وصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، تستكمل الزمان كله -أو قال-: تستكمل الدهر كله)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالعبد: محسوب عليه عمره، معدود له أنفاسه، مقتضياً منه العبودة في هذا العمر في كل نفس، فأمر بالجملة، فقبلها، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وقبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عنده على صدق الاعتقاد من قلبه،(5/474)
ثم اقتضى ما قبل مجملاً في جميع عمره سنةً سنة، وشهراً شهراً، ويوماً يوماً، وساعةً ساعةً، ونفساً نفساً، فمنه ما اقتضي في وقت دون وقت، ومنه ما اقتضي في الأوقات كلها.
فأما ما اقتضي في وقت دون وقت، فالفرائض، وأما ما اقتضي في الأوقات كلها، فالعبودة في كل نفس، فأجمل الله تعالى بعطفه وكرمه للعباد أمراً أجمل به العبودة، كي إذا فعلوها، استكملوا الدهر كله عبودة، فدلهم لعبودتهم في النهار على ركعتي الضحى بعد أداء الفرائض، واجتناب المحارم، فإذا أدى فرضه من صلاة الفجر، انتظر طلوع الشمس، وتحليل الصلاة، فإذا أضحت، صلى ركعتين على سبعة أجزاء، بسبع جوارح مقسومة على هذه الأجزاء بما ضمت، وحسبت على ثلاث مئة وستين جزءاً؛ ليخرج إلى الله من صدقة النفس، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن على كل آدميٍّ ثلاث مئة وستين سلامى، على كل سلامى منها صدقةٌ، ركعتا الضحى تجزئك من ذلك كله)).
فهذه صلاة يومه للعبودة.
وأما صيام ثلاثة أيام من كل شهر: فالحسنة بعشر أمثالها، فاليوم(5/475)
الواحد بعشرة أيام، فصيام ثلاثة أيام من كل شهر هو ستة وثلاثون يوماً للسنة كلها، والسنة ثلاثة مئة وستون يوماً، فقد صار العبد في جميع عمره صائماً، وبركعتي الضحى في جميع عمره قائماً، هذا في نهاره، فأما في ليله، فالفوز بصلاة الوتر، فإذا كان صائماً قائماً في نهاره، وبوتره فائزاً، فقد استكمل الزمان كله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه دلالة لله لأهل السعادة على ما به يستكملون العبودة بعد أداء الفرائض، واجتناب المحارم، فمن داوم على هذا، كان اسمه في ديوان الصائمين، القائمين، الفائزين، وهو طاعم، شارب، ونائم، ذلك ليعلم يسر الله لهذه الأمة، ورفع الحرج عنهم في دينهم، وسماحته فيما اقتضاهم مما له خلقهم.
فأما شأن الوتر: قال الله تعالى: {ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}.
إن الزوجين متضادان متنافيان، ينفي أحدهما الآخر؛ مثل: الليل والنهار، والنور والظلمة، والحر والبرد، والرطب واليابس، فيتذكرون بأن لا أحد يزاوجني أو يضادني، وأنا الفرد الوتر، ثم خلق الأشياء على محبوب الوترية واحداً وثلاثاً وخمساً وسبعاً، فالعرش واحد، والكرسي واحد، والقلم(5/476)
واحد، واللوح واحد، والدار واحدة، والسجن واحد، وأبواب الدار سبعة، ثم زيد في العدد واحد لمحمد صلى الله عليه وسلم: باب الرحمة، وهو باب التوبة، وهو أصل الأبواب.
وأبواب السجن سبعة، وعمال الله مقسومون على سبعة أجزاء، وأهل النار مقسومون على سبعة أجزاء، وظلال الآدميين سبع، وهي السماوات، ومهادهم سبع، وهي الأرضون، والأيام سبعة، وخلق الآدميين من سبع، وأرزاقهم من سبعة، وعبودتهم على سبع جوارح.
ثم افترض على العباد من الصلوات خمساً، فالخمس وتر، وعدد ركعاتها سبعة عشر، وهن وتر، وأم القرآن وتر، وهي سبع آيات، وأدنى القراءة وتر، وهي آية، وأدنى التسابيح في الركوع والسجود وتر، وهي ثلاث، وركعة وسجدتان وتر، وفرض الحج في يوم تاسع ذي الحجة، وفرض الزكاة في كل مئتي درهم خمسة دراهم، والعشرة من كل عشر واحدة، وافترض على العباد حفظ سبع جوارح، وجعل التقوى في سبع، وأسماؤه التي هي حظوظ العباد وتر تسعة وتسعون اسماً، والقلب وتر، وخالقه وتر.
فأظهر الله محبوبه في هذه الأشياء، وفي عامة الأشياء اقتصرنا على ما ذكرنا، فجعل الله للعباد في ليلهم -بعد أداء فرائضهم- الوتر في(5/477)
الركعة الثالثة التي هي وتر موقفاً، فهما موقفان: موقف في كل سنة في تاسع ذي الحجة، وموقف في كل ليلة بعد صلاة العشاء في الركعة التي وسمها بالوترية، تلك ركعة عليها سمة الله تعالى بأن فضلها على الأعمال، فموقف الحج نطق به لسان الكتاب، وموقف الوتر نطق به لسان الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي كل موقف نصه الله لعباده على لسان الكتاب، أو على لسان الرسول، فللعباد في ذلك الموقف من الله نوال، وقرات عين لا يخطر على قلب بشر، وإن ذهب الواصف يصفه من طريق الحكمة، عجز عنه؛ فإن الله تعالى لم يشر للعباد إلى شيء إلا ولهم فيه نوال موضوع، فكيف إذا أشار لهم إلى الوقوف بين يديه؟
فقد كتب عليهم الخمس المفروضات غياثاً لهم، وليطفئوا بها حريقهم، وما من صلاة يدخل وقتها إلا قال أهل السماء: يا بني آدم! قوموا إلى نيرانكم، فأطفئوها.
فصرن هذه الخمس مكتوبات، والعهد في الكتاب، وليس شيء من الفرائض كمثلها، فإذا وافوا عرضة الثواب بالعهود التي خرجت لهم من في(5/478)
مواقيت الصلوات، جاء العبيد بالعهود، فأوجب لهم الجنة، ثم كان من عطف الله الجليل أن زادهم بجود جلاله هذه الصلاة بعد صلاة العشاء، وسن لهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فيها موقفاً يدخلون في ذلك الموقف على الله بالتكبير المجدد، فيكون كمن دخل الدار، ثم تخطى من الدار إلى محل الملك من السرير، والمجلس بين يديه واقفاً يرفع إليه رغباته، ويعتذر إليه من عمل نهاره، ومن تقصيره وتفريطه، ويفتقر إلى الله، ويبتئس، ويتمسكن، ويتخشع، ويتضرع، ويتعوذ من الأهوال، والأخطار التي هو عليها، فإنما استأنف التكبير، ورفع اليدين في الركعة الثالثة، وهو في الصلاة؛ لأنه انتقل من موقف إلى موقف أجل منه، فالصلوات الخمس تكفير لسيئاتهم.
في ذلك الموقف من الوتر: نوال يملأ منه رغباتهم، ومركز يجدون فيه سعاداتهم، فالنوم بعد النوال أفضل من أن يؤخرها إلى آخر الليل، وإذا أوتر أول الليل، عرجت نفسه إلى الله في منامها مع الفوز بالنوال والمعاد، فترجع مع المزيد، فلذلك أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينام إلا على وتر.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يوتر قبل أن ينام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((متى توتر يا أبا بكرٍ؟))، قال: أول الليل أحرزت نهبي، وأبتغي النوافل، قال: ((أخذت بالحزم))، وقال لعمر رضي الله عنه: ((متى توتر يا عمر؟))، قال: آخر الليل،(5/479)
قال: ((أخذت بالقوة)).
فالحزم احتياط وثقة.
والقوة ملك النفس، ومدد الوكالة.
فأبو بكر لاحظ كنه الوتر، وعمر لاحظ الساعة التي يؤدى فيها الوتر، ولم يلاحظ الكنه.
ألا ترى إلى قول أبي بكر حيث قال: أحرزت نهبي، فصير موقف الوتر موقفاً فيه نثار وغنيمة، فينتهبه، فما ظنك بنثار الله وغنمه؟! ثم يبتغي فيما بقي من الليل نوافل الرب، وعمر رضي الله عنه ذهب إلى الساعة التي آثرها الله تعالى من ساعات الليل، فهبط إلى السماء الدنيا، واطلع إلى عباده وناداهم، وهي ساعة اهتز لها العرش، واشتغلت الملائكة في صفوفها، وانقطعت صلواتهم لما رأوا من هبوط الرب إلى السماء الدنيا، سماء العبيد، واطلع إليهم، وناداهم.(5/480)
فإنما سبى قلب عمر هذا المعنى حتى لهى عن نهب موقف الوتر، فاستكمل أمة محمد عليه السلام شأن دين الإسلام، وشأن العبودة بعد أداء الفرائض، واجتناب المحارم بهذه الثلاث خصال حتى وفرت العبودة لهم.
فصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهو ستة وثلاثون يوماً، محسوب لهم كل يوم بعشرة، فذلك ثلاث مئة وستون يوماً، فهم السنة كلها صيام.
وأن لا ينام إلا على وترٍ حتى ينال في ذلك الموقف نثار الله ونهب العبيد.
وركعتي الضحى حق السلامى، وهي ثلاث مئة وستون مفصلاً، فموقف الحج موقف المباهاة، وموقف الإسلام.
ألا ترى أنه يقال: حجة الإسلام وقف العبد ليسلم إليه رقبته عبودة؛ ليتخذه عبداً، فيباهي الله به في سمائه، وهبط إلى سماء العبيد؛ ليطلع إليهم، ويباهي بهم ملائكته.
والمباهاة: أن يريهم بهاء الإسلام الذي على عبيده في تسليمهم النفوس إليه معتذرين باكين، متضرعين ملقين بأيديهم سلماً، رافعي أيديهم إليه طمعاً، فيقول للملائكة: انظروا إلى عبيدي، فتلك المباهاة.
وموقف الوتر: موقف هدايا المعرفة، ومزية الإسلام، ورحمة العامة، فهدايا المعرفة في هذا الموقف للأولياء والأصفياء، ومزية الإسلام للصادقين المجتهدين، والرحمة للعامة، تخرج لهم من تلك الرحمة(5/481)
بركات وعصمات، ويتجدد عليهم دينهم، فسمي ذلك الموقف: قنوتاً؛ لأنه قنت لربه بما هيأ له من الموقف في مقامه؛ لأن المقام للصلاة، والموقف للركعة الثالثة، والقنوت للموقف، وهو بمنزلة بيت في بيت، والجواهر في البيت الأقصى، وحشو ذلك القنوت رغبة العبد، وعلى قدر الرغبة يخرج من العبد ثناءه على ربه، ومحامده له، وذكر آلائه، وبث مننه، ونشر صنائعه، واعترافاً بمساوئه، وتوبة إليه، واعتذاراً إليه، وتنصلاً بالاستغفار، وترضياً وتملقاً وتضرعاً، واستعاذة بالمعاذ، واختتاماً بالكلمة التي بها يستجاب، ويجاب مما خص الله به هذه الأمة، وحسدتنا عليه اليهود من أنه أعطى نبيهم موسى وهارون عليهما السلام، ولم يعطوا، وأعطى محمد عليه السلام، وأعطينا معاشر الأمة كرامة لمحمد عليه السلام.
وروي عن رسول الله: أنه قال: ((أمرني جبريل عليه السلام، ولقاني عند فراغي من فاتحة الكتاب: آمين، وعند الدعاء، وقال: إنه كالطابع على الكتاب)).
1298 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا عبد الملك ابن مسلمة القرشي، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذلك.(5/482)
1299 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا أبو عمير بن النحاس الرملي، عن محمد بن يوسف الفريابي، قال: حدثني صبيح بن محرز الحمصي، قال: حدثني أبو مصبح المقرائي، قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري، وكان من الصحابة، فيتحدث بأحسن الحديث، فإذا دعا رجل منا بدعاء، قال: اختموا بآمين؛ فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة.
قال أبو زهير: وأحدثكم عن ذلك: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة نمشي، فأتينا على رجل في الخيمة قد ألحف في المسألة، فوقف رسول الله يستمع منه، فقال: ((إن ختم، فقد أوجب))، فقال له رجل: بأي شيء يختم؟ فقال: ((بآمين؛ فإنه من ختم بآمين، فقد أوجب))، فانصرف الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى الرجل وقال: يا فلان! اختم بآمين وأبشر.
قال: فإذا ختم الدعاء بآمين، صار الدعاء كالكتاب مطوياً مصوناً عن(5/483)
الآفات، وعن تناوله واطلاع ما فيه، وإنما ختم الكتاب؛ لئلا ينشره أحد، ولا يطلع فيه أحد، وصعد إلى الله بالختم مطوياً عن جميع الخلق، فأجاب.
وذلك أن الكريم قد قال لعبيد هذه الأمة خاصة من بين الأمم: {ادعوني أستجب لكم}، وإنما كان يقال هذا للأنبياء -عليهم السلام-، فأعطيت هذه الأمة، ولم يعط أمة قبلنا.
1300 - نا بذلك أبي رحمه الله، عن صالح بن محمد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عباد بن كثير، عن ليث، عن شهر ابن حوشب، عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أعطيت هذه الأمة ما لم يعط أحدٌ: قوله: {ادعوني أستجب لكم}، وإنما كان يقال هذا للأنبياء -عليهم السلام-، وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ}، وإنما كان يقال هذا للأنبياء، وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}، وإنما كان يقال هذا للنبي: أنت شهيدٌ على قومك)).(5/484)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فإنما أعطاهم آمين، وخزنها عن سائر الأمم؛ لأنه قد سبق منه القول بالخصوصية لأمة محمد عليه السلام أن قال: {ادعوني أستجب لكم}، وفيهم ما فيهم من قلة الشكر، وقلة الوفاء، وكثرة التخليط والاستخفاف بأمر الله، والإعراض عن حق الله، فلو لم يعطهم الختم حتى يختموا دعاءهم بآمين فيصير الختم مانعاً لجميع الخلق بين العبد وبين الله إلى العرش من الهواء، والسحاب، والشمس، والقمر، والنجوم، والرياح، والجنود التي في الهواء، وما وراء ذلك في السماوات إلى العرش، فكان ممر دعائنا إلى العرش إلى محل الدعاء ومعدن الإجابة، والقضاء على هؤلاء كلهم، فكان لا يخلو من أن يتعرض متعرض لإفساد ذلك حميةً لله؛ لأن هؤلاء الخلق كلهم، مطيعون، فإذا مرت دعوة العصاة عليهم، لم يؤمن أن يرموا فيها شيئاً يكون فيه فساد، فذلك منهم حق.
وقد جاء في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن على أبواب السماء حجاباً يردون أعمال أهل الكبر والحسد والغيبة)).(5/485)
1301 - نا الفضل بن محمد، قال: نا سلم بن يحيى الطائي، عن الحسن بن ذكوان، عن أخيه أيوب، عن الحسن، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليقول: يا رب! اغفر لي، وقد أذنب، فتقول الملائكة: يا رب! إنه ليس لذلك بأهلٍ، قال الله تعالى: لكني أهلٌ أن أغفر له)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهؤلاء الملائكة فمن دونهم في هذا الجو يشتد عليهم ما يكون من هؤلاء الآدميين، فلما سبقت من الله هذه الكرامة والخصوصية لأمة محمد عليه السلام من إعطائهم ما أعطي الأنبياء من قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم}، ومنع الأمم كلها، وأعطاهم كلمة الختم، وهي آمين؛ لتصعد دعوتهم إليه مختومة، لا يطلع على ما فيها أحد، حتى لا يجد أحد من هؤلاء سبيلاً إلى التطعن فيها، ودعوة كل رجل من الأمة إنما(5/486)
تخرج على قدر ما عنده من قوة القلب في الدعاء، فرب دعاء من داع يخرج مع نور وافر بمنزلة شمس تطلع، ودعاء يخرج مع تقصير، فنوره بمنزلة قمر يطلع، ودعاء يخرج مع تقصير كثير، فنوره بمنزلة كوكب، فإنما تفاوت دعاء الموحدين وتباين؛ لاختلاف مخارجه من المعادن.
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن القلوب أوعيةٌ، وبعضها أوعى من بعضٍ، فإذا دعوتم الله، فادعوه وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن الله لن يستجيب دعاءً عن ظهر قلبٍ غافلٍ)).
فظهر القلب: هو دعاء قد تعلمه، فهو يدير الكلمات بمضغة لسانه في حنكه، وفي لهاته، وليس عنده وراء ذلك شيء إلا تلك الإرادة التي في القلب يبتغي بها خيراً من عند ربه، وهو لا يدري ذلك الخير، وهو عنده كالجزاف غير مفتقر إلى تلك الحاجة، فهو كصبي لقن شيئاً،(5/487)
فتلقن، نطق من غير عقل، أو كسكران لقن شيئاً، فالتقن فليس لكلام الصبي والسكران بالٌ عند الخلق، ولا عبوء به، إلا أن الكريم لما علم إرادة الخير من الداعي، أعطاه على ذلك أجراً، إن دعاه على رجاء أن ينال منه معروفاً.
فأما الاستجابة: فهو بعيد منها؛ لأنه لم يخرج منه الدعاء على الجد والاجتهاد، ولو كان ذلك منه جداً، لترك الإباق من ربه بالذنوب، والمعاصي، والبطالات، والإكباب على الدنيا، والاستخفاف بحق الله، وبداره، وبيوم الحساب، وبوعده، ووعيده، ومواعظه، والموت الذي جعله آية من آياته يأتيه عياناً، فإذا نفسه ملقاة تغط غطيط البكر المخنوق حتى يفارق الروح الجسد، فالآبق يأبق في دار الدنيا من مولاه، ويدعو في حال إباقه، ويراسله، فيستوجب المقت من سيده؛ لأنه في صورة المستهزئين بسيدهم.
فالكريم الجواد واسع لعبيده الذي عاد عليهم بأعظم الأشياء، وهي المعرفة، فلم يترك هذا العبد خالياً صفر اليدين إذا مد يديه إليه حتى يأجره على ذلك؛ لأنه سبحانه دعا العبيد إلى أن يأتوه بقلوبهم، فيقرعوا الباب(5/488)
بالدعاء، فهذا الذي أوقر نفسه، وأثقل ظهره من الخبائث، صار كسلاناً لحماً، ودماً، ملقًى بالأرض، وخيماً، جلفاً، جافياً، فيعلم على ألسنة الناس هذه الدعوات ملتمساً بها من عنده نوالاً، لا عن فاقة وافتقار، خرجت من جوفه تلك الكلمات، ولا علم بالبيان، وإن كان أعلم الناس باللغة، فهو عالم بالكلمات من طريق اللغة، جاهل بغور الكلمة، جاهل بمعدنها، جاهل بوضعها.
فلو قال: اغفر لي، لم يدر ما المغفرة، وإن سئل عن ذلك، قال: المغفرة حط الذنوب، وهو جاهل بها.
وإن سئل عن قوله: اعف عني، لم يدر ما العفو، وقال: هو أن لا يؤاخذني بذنبي، فأنت تسأله عن تفسير العفو، وهو يجيبك عما يحدث عن العفو.
وإن قال: استرني، لم يدر ما الستر، وإن أثنى، لم يدر ما ذلك الثناء، وإن مدح، لم يدر ما ذلك المدح، وإن حمد، لم يدر ما ذلك الحمد، فهو عارف باللغة، بصير بالعربية، جاهل بالمعنى، أعمى عن حشو المعنى، فصاحب هذا لا يصيب في دعائه جداً ولا اجتهاداً، واليقين منه بعيد، وإنما يدعو عن ظهر قلب، فهذا عبد يجاب ولا يستجاب، وإنما يجاب؛ لأنه مؤمن، فالإجابة للمؤمنين، والاستجابة للجادين المجتهدين، المفتقرين،(5/489)
المرتعبين، المتبائسين، المتمسكنين، المتخشعين، الموقنين.
1302 - نا الفضل بن محمد، قال: نا هشام بن خالد الدمشقي، قال: نا بقية، قال: نا محمد بن سعيد، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: بينا نحن جلوساً يوماً عند معاذ بن جبل، إذ دعا بدعاء لم أسمع أحداً يدعو بمثل دعائه، فقلت له: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن! لو علمتني بعض ما تدعو به، فقال: لو كنت أعلم لك فيه خيراً، كنت علمتك، قال: سبحان الله! لم لا تعلم لي فيه خيراً؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بالدعاء الكثير، الحسن الجميل، الذي لا يستطيع أحد أن يقول مثله، فقلت له يوماً: يا رسول الله! لو علمتني بعض ما تدعو به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أعلم لك فيه خيراً، لعلمتك))، قلت: سبحان الله يا رسول الله! لم لا تعلم لي(5/490)
فيه خيراً؟ قال: ((لأن أفضل الدعاء ما خرج من القلب بجدٍّ واجتهادٍ، فذلك الذي يسمع ويستجاب، وإن قل)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالجد: أن يقف العبد بقلبه في محل الدعاء، والاجتهاد: افتقار القلب إلى الله، وتباؤس النفس، فذاك منه جهد، وإنما شرط الله تعالى الإجابة للداعين في تنزيله، فقال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إلى دعاني}.
فهذه إجابة تلبية، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال العبد: يا رب! قال الله: لبيك)).
فهذه إجابة الرب تعالى.
وأما الاستجابة، فقال: {ادعوني أستجب لكم}، ثم بين في أية أخرى لمن الاستجابة، فقال: {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله}.(5/491)
فوعد الله الاستجابة والمزيد لهؤلاء.
فأما ما ذكرنا من قنوت الوتر فإنه ينبغي أن يكون مع ما يجد من الرغبة والجد على أدب وهيئة، فإن لكل أدب ثمرة، ولكل هيئة زينة، وأحق ما يفتقد العبد هذه الآداب.
وهذه الهيئة في هذا الموقف الذي ذكرنا أنه من الله هدية لهذه الأمة خاصة، فيبدأ بمدائحه، ثم ثناء عليه، وتنزيهاً له، ثم محامده، وذكر آلائه، وبث مننه، ونشر صنائعه، والاعتراف بالمساوئ، والتوبة إليه، والاعتذار منها إليه، والتنصل والاستغفار والترضي، والتملق، والتضرع، والاستعاذة بالمعاذ، والاختتام بآمين.
وسألتموني أن أنسق لكم ذلك على ما تهيأ، ويوفق الله بإذنه، فقد أجبتكم إلى ذلك:
اللهم يا قديم، يا أبد يا أبدي، يا دائم يا ألله يا رب يا حي يا قيوم، يا قدير، يا قادر، يا واحد، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد، يا ماجد، يا كبير، يا عظيم، يا جليل، يا حميد، يا علي، يا عالي، يا أعلى يا متعال، يا حق يا مبين، يا سبوح يا قدوس يا قيوم، يا نور يا منير،(5/492)
يا ملك يا عزيز، يا جواد يا رحمن يا رحيم، يا سلام يا مؤمن يا مهيمن، يا وهاب يا علام يا قوي، يا كريم يا لطيف، يا حنان يا منان، يا قريب يا مجيب يا تواب، يا أول يا آخر، يا ظاهر يا باطن، يا عفو يا غفور، يا ودود يا شكور، يا حليم، يا رؤوف يا جبار يا قهار، يا خالق يا بارئ يا مصور، يا شهيد يا وكيل يا كفيل، يا كافي يا بديع يا حبيب، يا مبدئ يا معيد يا رزاق يا فتاح، يا حكم يا عدل يا قاضي، يا من له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم.
يا ذا الأمثال العلى، والأسماء الحسنى، يا ذا المن والطول، والآلاء الكبرى، يا من علا فقهر، يا من ملك فقدر، يا من نظر فجبر، يا من أمات وأحيا، يا قريباً غير بعيد، يا شاهداً غير غائب، يا غالباً غير مغلوب، يا من على العرش وقاره، وفي الحجب جلاله، وفي السماوات ضياؤه، وفي الجنة رحمته، وفي النار سلطانه، وفي المقادير أمره، وفي النور بهجته، وفي الروح برهانه، وفي البحر سبيله، وفي القبور قضاؤه، وفي الأرض موطئه، التسبيح لجلالك، والحول لقوتك، والكبرياء لعظمتك، والجلال لمهابتك، والجبروت لعظمتك، والتهليل لعلمك، والرضا لأمرك، من حمدك فبنعمتك، ومن عبدك فبقدرتك، ومن أطاعك فبمنك،(5/493)
ومن أدى فرائضك فبعطيتك، ومن امتنع من سوء فبعصمتك، أنت الأول فلا شيء قبلك، وأنت الآخر فلا شيء بعدك، وأنت الظاهر فلا شيء فوقك، وأنت الباطن فلا شيء دونك، يا منيع القدرة، يا لطيف المنحة، يا عزيز النصرة، يا قريب الرحمة، يا واسع المغفرة، يا عريض البركة، يا فارج الكربة، يا قابل التوبة، يا مجيب الدعوة، يا مقيل العثرة.
سبحانك عدد خلقك، سبحانك زنة عرشك، سبحانك مداد كلماتك، سبحانك رضا نفسك، سبحانك وبحمدك منتهى علمك، سبحانك عدد ما علمت، سبحانك ملء ما علمت، لك الحمد بجميع محامدك كلها، على جميع نعمائك كلها، على جميع خلقك كلهم، لك الحمد حمداً يوافي نعمك، ويكافئ مزيدك، لك ذلك الحمد إليك، لك الحمد حمداً يفضل على كل حمد كفضلك على جميع خلقك، لك الحمد كما ينبغي لكرم وجهك وعز جلالك، ونور كبريائك على حلمك بعد علمك، وعلى عفوك بعد قدرتك، وعلى جميع مننك، وعلى جميع إحسانك، وعلى جميع عطاياك، وعلى جميع نعمك علينا وعلى جميع خلقك، لا إله إلا أنت الحليم الكريم، لا إله إلا أنت العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، وتبارك الله الذي لا إله إلا هو، لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين.(5/494)
اللهم تم نورك فهديت فلك الحمد، وعظم حلمك فعفوت فلك الحمد، وبسطت يدك فأعطيت فلك الحمد ربنا، وجهك أكرم الوجوه، وجاهك خير الجاه، وعطيتك أنفع العطايا وأهنؤها، تطاع ربنا فتشكر، وتعصى ربنا فتغفر، تجيب دعوة المضطر، وتكشف السوء، وتنجي من الكرب، وتشفي من السقم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، لا يجزي بآلائك أحد، ولا يحصي نعماءك قول قائل: لا إله إلا أنت.
اللهم صل على محمد صلاة زكية تبلغه الدرجة الوسيلة، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، إلهاً واحداً أحداً صمداً فرداً باقياً أبداً، تباركت يا ذا الشرف والسلطان، والبسطة التي بها ترحم العباد، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير.(5/495)
وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل رحمتك لي عندك عهداً تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، وأنا عبدك، فارحمني، واغفر لي، أنت الغفور الرحيم، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، وأنا عبدك فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، وأنا عبدك، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك وفي قبضتك، ناصيتي بيدك، عدلٌ في حكمك، ماضٍ في قضاؤك، أسألك بكل حق هو لك، وبكل اسم سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وشفاء ما في صدري، وذهاب همي وجلاء أحزاني.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وأزواجنا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات أصلحهم وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، وأنزل عليهم رحمتك، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وأوزعهم أن يشكروا نعمتك التي أنعمت عليهم،(5/496)
وأن يوفوا لك بالعهد الذي عاهدتهم عليه، وثبتهم على ملة رسولك، إله الحق رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، ربنا هب لنا إسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، وانصرنا على أنفسنا، وعلى من ظلمنا وبغى علينا، وأرنا ثأرنا فيهم.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى آبائنا وأمهاتنا، واجعلنا نعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت، اللهم اشرح لنا صدورنا،(5/497)
ويسر لنا أمورنا، وحسن أخلاقنا، ونور قلوبنا، وارزقنا تقواك الذي هو تقواك، وارزقنا توبة نصوحاً تديمها لنا إلى يوم لقائك، وافتح لنا طريقنا إليك، وخذنا من نفوسنا إليك، وثبتنا على طاعتك بين يديك، وتب علينا، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم ارزقني إيماناً دائماً، وديناً قيماً، ويقيناً صادقاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً طيباً، وعملاً متقبلاً، وثباتاً على أمرك، وعزيمة على الرشد، وشكر نعمتك، وذكرك وحسن عبادتك، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم ارزقني قلباً خاشعاً، شاكراً، سليماً، صالحاً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على طاعتك صابراً، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم فرغ فؤادي لذكرك، وأغن قلبي عن مفاقر الدنيا، واجعل علانيتي صالحة، واجعل سريرتي خيراً من علانيتي، وارزقني الراحة عند الموت، والمعافاة عند الحساب، والنجاة من النار، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم ارزقني صدق اليقين، وصدق الورع، وصدق الحرص على البر والتقوى، وصدق التوكل عليك، وحسن الظن بك، والتوفيق لمحابك من الأعمال، وكفاية كل مؤنة في الدنيا، وكل هول دون الجنة حتى تبلغنيها برحمتك، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.(5/498)
اللهم أذقني برد عفوك، وحلاوة رحمتك، وأعني على آخرتي بمنك، وأعني على دنياي بتقواك، وهب لي قوة في طاعتك، وفقهاً في دينك، وزهادة فيما زهدت فيه أولياءك، ورغبة فيما رغبتهم فيه، والعافية في قدرك، والسعة من طيب رزقك، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وبارك لي فيهما، واجعل حياتي زيادة لي في كل خير، واجعل وفاتي راحة لي من كل شر، واجعل خير أعمالي خواتيمها، وخير عمري آخره، وخير أيامي يوم ألقاك، واجعل نفسي لك، مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم بك أنزلت فقري ومسكنتي، وأنا لمغفرتك ورأفتك ورحمتك راجٍ، اللهم اغفر لنا فإنك بنا عالم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، وارزقني الهدى والتقى والعفة والغنى، ودوام العافية وتمام العافية، وشكر العافية، وأجرني من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم استرنا وأجرنا، وانصرنا وارزقنا خير الدنيا وخير الآخرة، واصرف عنا شر الدنيا وشر الآخرة، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها،(5/499)
وأحرز لنا ديننا، وسلمه لنا، وتقبله منا، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم اصرف عنا الهم والغم والحزن، والسقم والجوع والعري، والذل والضغائن والفواحش ما ظهر منها وما بطن، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم اجعلني ممن يخاف مقامك، ويخاف وعيدك، ويرجو لقاءك، ويذكر أيامك، واجعل لنا عندك وليجة وزلفى وحسن مآب، ولا تنزع مني صالح ما أعطيت، فإنه لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم أقلنا عثراتنا، وآمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واكفنا ما أهمنا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا، واجعلهما الوارث منا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم آت نفسي تقواها، وزكها فأنت وليها ومولاها وخير من زكاها، أنت تحول بين المرء وقلبه، فحل بيني وبين كل شيء ينقضني عندك، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
اللهم ارزقنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن(5/500)
طاعتك ما تبلغنا رضوانك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، جل وجهك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، يا عظيم يرجى لكل عظيم فاغفر لنا، واستجب لنا دعاءنا، وأعطنا سؤلنا، واقض حوائجنا، تبارك الله الذي لا إله إلا هو.
أعوذ بك من النار، أعوذ بك من عذاب القبر، أعوذ بك من شر فتنة المحيا والممات، أعوذ بك من فتنة الصدر، أعوذ بك من شتات الأمر، أعوذ بك من زوال النعم، أعوذ بك من فجأة النقم، أعوذ بك من العمى بعد الهدى، أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأن أشرك بك وأنا لا أعلم، وأستغفرك من جميع ذلك.
اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، وأعوذ بك من فظيع البلاء، وأعوذ بك من درك الشقاء، وأعوذ بك من شماتة الأعداء، وأعوذ بك من أن أقترف سوءاً أو أجره إلى مسلم، وأعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، وأعوذ بك مما استعاذ بك منه عبادك الصالحون، وأسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، تبارك الله الذي لا إله إلا هو، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار آمين رب العالمين.(5/501)
فهذا الذي نسقناه لكم من الدعاء بعد قولنا: إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك، ونثني عليك الخير كله نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق.
اللهم عذب الكفرة، وخالف بين كلمتهم، وأنزل عليهم رجزك وعذابك، وبأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.
اللهم قاتل كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، ويجحدون آياتك، ويجعلون معك إلهاً، لا إله إلا أنت، تباركت وتعاليت عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
1303 - نا أبي رحمه الله، قال: نا الفضل بن دكين، عن سفيان، عن جابر، عن أبي معمر، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال: وجب القنوت في الوتر على كل مسلم.(5/502)
الأصل السادس والأربعون والمئتان
1304 - نا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: نا مسلم ابن إبراهيم، عن الحارث بن عبيد الإيادي، قال: نا مسلم ابن شقير اليشكري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن مالك بن أوس، قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من خشوع النفاق))، قيل: يا رسول الله! وما خشوع النفاق؟ قال: ((خشوع البدن، ونفاق القلب)).(5/503)
1305 - نا صالح بن محمد، قال: نا سليمان بن عمرو، عن محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لو خشع قلبه، لخشعت جوارحه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فخشوع القلب من المعرفة، فكلما كان أوفر حظاً من العلم بالله، ومن المعرفة بآلائه كان أخشع، فأثقال المعرفة حلت بالقلب، فأدت القلب إلى ثلاث: خشعة، وخضعة، وذلة.
فالذلة: الحذر، والخضعة: اللين، والخشعة: الانكسار والانحناء، فهذه صفة القلب.
وأما صفة النفس تحت أثقال القلب، فلها الخمود مكان ذلة القلب، والانثناء مكان الخضعة، والتهافت والتناثر كالرمل مكان الخشعة، كما وصف الله تعالى في كتابه الجبال فقال: {وكانت الجبال كثيباً مهيلاً}، أي: رملاً ينهار ويتساقط، فإذا صارت النفس هكذا، وصار القلب كما وصفنا بدءاً، فقد لزمه اسم الخشوع على الحقيقة، وذلك قوله تعالى:(5/504)
{وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً}، ذهب الصوت، وقوة ذرو الكلام.
وقال تعالى: {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعةً}؛ أي: ساقطة هامدة، فمن لم يكن في قلبه تراكم أثقال المعرفة، فيخشع بأركانه، فذاك نفاق؛ لأنه تماوت وهو حي، فالتماوت مراءاة ونفاق، مرة يرائي الله، فيبتغي عنده قبولاً ومدحاً، ومرة يرائي عبيده يبتغي جاهاً عندهم ومدحاً، فيتخشع وليس بخاشع.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رآه يعبث في صلاته ذكر خشوع قلبه يعلمك أن الخاشع: ((إذا قام بين يدي الله لا يتفرغ للعبث في الصلاة)).
وأنه كما انتصب لله جسده في الظاهر، فقد انتصب قلبه في الباطن، وكما رمى ببصره في الظاهر حيث يقع من الخلقة، وكذلك رمى ببصر قلبه إلى المقام الذي رتب له إن كان من أهل المرتبة، وإلا ففي متعبده إن لم يكن من أهل المرتبة.
قال له قائل: وأين المراتب، وأين المتعبد؟
قال: الصديقون في مراتبهم من العرش على أصنافهم: عسكر دون العرش، وعسكر على العرش، وعسكر في الملكوت، والخاصة في ملك الملك بين يديه، فأبصار قلوبهم هناك، وأبصار وجوههم في مواقع الخلقة.
قيل له: وما موقع الخلقة؟.(5/505)
قال: إن العبد إذا قام على الخلقة، ثم رمى ببصره على الخلقة، فإنما يقع من الأرض بمكان لو خر ساجداً، لوقعت جبهته على تلك البقعة، ولم يقصر عنها، وإذا ركع، فرمى ببصره على الخلقة، فإنما يقع على موضع القدمين، وإذا سجد، فرمى ببصره، فإنما يقع على موضع الصدر، وإذا قعد للتشهد، فإنما يقع على رأس ركبتيه وطرف فخذيه، فهذا كله رميٌ بالبصر حيث وقع ليس فيه تكلف ولا استعمال للبصر، وإنما الاستعمال في وقت النظر، فهذا رميٌ خرج من سلطان البصر وليس بناظر، والقلب رامي ببصره حيث وصفنا من العلى في مراتبهم مراتب الأولياء والصديقين، ومن لم يكن من أهل المراتب، ففي متعبده.
والمتعبد: هو بيت العزة حيث استقر القرآن في وقت نزوله جملةً في شهر رمضان في السماء الدنيا، فذاك محل التعبد، فمنها قبلوا القرآن بما فيه من العبودة، علم العباد هذه الصفة، أو لم يعلموا، فإنهم داخلون في هذا الباب، كما تجد المسلمين كلهم قد دخلوا في الميثاق يوم استخرجهم من الأصلاب، علموا أو لم يعلموا، فإنما يجزون وتجزى أرواحهم وعقولهم بتلك الأشياء التي مرت وسبقت.
فوجدنا الصلاة ثلاث مراتب عليها رتب أهل الصلاة، وقد ذكرهم الله في تنزيله تعالى، فمحافظون، ومداومون، وخاشعون، فقال: {والذين هم على صلاتهم يحافظون}، {الذين هم على صلاتهم دائمون}،(5/506)
فوعدهم عليها الكرامة في الجنة، فقال: {أولئك في جناتٍ مكرمون}.
وقال تعالى: {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون}، فوعدهم على ذلك الفلاح.
والفلاح: اسم ينتظم الكرامة والترقي في الدرجات، والأخذ من الجنة بغير حساب، والأثرة في دار الله، فالمحافظة على الوقت، والمداومة على استعمال الأركان بحدودها في الصلاة، وهو أن لا يلتفت في وقت الانتصاب، ولا يتمايل، ويسكن الجوارح، ولا يستعمل منه شيئاً إلا بضرورة وعلة من مثل التراوح على إحدى القدمين، ومثل حك شيء من جسده، ومثل ذباب مؤذي، أو بعوضة تشغله عن الصلاة، فتلك ضرورةٌ، أو بزاق أو مخاط، فهذه كلها علل يعذر فيها، فإذا ركع، سوى ظهره بركوعه، فيكون مقدمه كمؤخره، وإذا سجد، خوى وجخى.
فالتخوية: لإعطاء كل مفصل وعضو حظه من الانتكاس للسجود.
والتجخية: توقياً للانبساط؛ ليكون كهيئة الساجدين، لا كهيئة المنبطحين على الأرض ببطونهم وصدروهم؛ فإن تلك ضجعة أهل النار على وجوههم، فإذا جخى، توقى تلك الهيئة وتلك الصورة، وإذا خوى أراد تركيب السجود بعضاً على بعض، فإنما سمي سجوداً؛ لتركب الأعضاء(5/507)
بعضها بعضاً، فإذا رفع رأسه، لم يعد إلى السجدة الأخرى حتى يستوي، ويرجع كل عضو إلى مكانه، وإذا سجد، فرفع رأسه، لم يعد إلى السجود حتى يعود قاعداً كما كان، ويرجع كل عضو إلى مكانه، فذلك إتمام الركوع والسجود، وإذا قعد، جثا على ركبتيه، وانتصب اليمنى منه، وافترش اليسرى معتمداً بجلسته عليه، فالمداومة على الصلاة ما وصفنا.
وأما الخشوع: فهو على القلب، ومن عنده يبتغى، فإذا لم يكن هناك، فليس ذاك بخشوع، إنما هو مداومة، فالمحافظة من الخشية، والمداومة من الخوف، والخشعة من التجلي، فإذا خشي القلب، حافظ، وإذا خاف، داوم، وإذا خشع، فالأركان مستعملة منقبضة، ثم تتحول صفات الخشعة على اختلاف صور الأفعال فيها، فأولها خشعة في صورة الأسر، ثم بعدها خشعة الخدم، ثم من بعدها خشعة العبودة، ثم من بعدها خشعة الرق، ثم من بعدها خشعة الحمد، ثم من بعدها خشعة التعلق، ثم من بعدها خشعة الخضوع والملق مع الأمل، ويتشهد في جلسته؛ لأنه قد جعل للأحباب السبيل إلى ذلك، وقال في تنزيله: {ادعوني أستجب لكم}.(5/508)
1306 - نا محمد بن بشار، قال: نا معاذ بن معاذ، وسهل بن يوسف، وابن أبي عدي، قالوا: حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن أنس بن أبي أنس، عن عبد الله ابن نافع بن العمياء، عن عبد الله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((الصلاة مثنى مثنى، وتشهد في كل ركعتين، وتبؤسٌ، وتمسكنٌ، وتقنعٌ بيديك، وتقول: اللهم، اللهم، فمن لم يفعل ذلك، فهو خداجٌ)).
1307 - نا محمد بن حسين، قال: نا نعمان بن بشير، عن ابن المبارك، قالا: نا الليث بن سعد، قال: أخبرني عبد ربه بن سعيد، عن عمران بن أبي أنس، عن(5/509)
عبد الله بن نافع، عن ربيعة بن الحارث، عن الفضل بن العباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة مثنى مثنى، تشهدٌ في كل ركعتين، وتضرعٌ، وتخشعٌ، وتمسكنٌ، ثم تقنعٌ بيديك يقول: ترفعها إلى ربك مستقبلاً ببطونهما وجهك وتقوك: يا رب يا رب! فمن لم يفعل ذلك، فهو خداجٌ)).
قال أبو عبد الله:
فقوله: ((تبؤس)) مأخوذ من البؤس، وهو أن تفتقر إلى ربك افتقار من كان تراباً، فخلق بشراً، والتبؤس والتخشع قريبٌ أحدهما من الآخر.(5/510)
الأصل السابع والأربعون والمئتان
1308 - نا قتيبة بن سعيد، قال: نا المفضل بن فضالة المصري، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه، ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما: {قل هو الله أحدٌ}، , {قل أعوذ برب الفلق}، و {قل أعوذ برب الناس}، ويمسح بهما ما استطاع من جسده، ويبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.(6/5)
1309 - نا قتيبة، عن مالك بن أنس، وحدثنا يحيى بن الأحمر الطائي، قال: أملى علينا مالك بالرقة مع ولد المهدي، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا اشتكى، نفث على رأسه بالمعوذات، فمسح بيديه، فلما اشتكى وجعه الذي قبض، طفقت أنفث عليه المعوذات، وأمسح عليه بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رجاء بركتها.
1310 - حدثنا أبي رحمه الله، ثنا الحماني، ثنا سليمان ابن بلال، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى(6/6)
فراشه، نفث في كفيه بـ: {قل هو الله أحدٌ}، والمعوذتين، ثم يمسح بهما وجهه وعضده وصدره حيث بلغت من جسده، فلما اشتكى، أمرني أن أفعل ذلك، فكنت أقول: أعطني كفيك أمسح بهما؛ رجاء بركتهما.
قال يونس: فكنت أرى ابن شهاب يفعل ذلك إذا أوى إلى فراشه.
1311 - حدثنا سفيان بن وكيع، ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد: أن ابن شهاب حدثه عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-: أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى، نفث على نفسه بالمعوذات، فمسح بيديه، فلما اشتكى وجعه الذي قبض فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات، وأمسح عليه بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
ففي حديث عقيل يخبر أنه بدأ فنفث فقرأ، كأنه دل على أن النفث(6/7)
قبل القراءة، وفي حديث مالك بدأ بذكر القراءة ثم النفث، وفي حديث يونس بدأ بذكر النفث بلا تلاوة، قال: نفث بـ {قل هو الله أحدٌ}، ولا يكون هذا النفث إلا بعد القراءة، وإذا فعل الشيء بشيء، كان ذلك الشيء مقدماً حتى تأتي الشيء الثاني.
فقال في حديث يونس: نفث بـ {قل هو الله أحدٌ} يدل على أن القراءة مقدمة، ثم نفث ببركته؛ لأنه يبتغي من قراءة هذه الأشياء أن يصل على الجسد نورها وبركتها، ولا يقدر على الإيصال إلا بمثل هذا، وذلك أن العبد إذا قرأ، استنار صدره بنور هذا الكلام الذي يتلوه كل قارئ على قدره، فإذا نفث، فإنما ينفث من الصدر، والنفث من الروح، والنفخ من النفس، وعلامة ذلك: أن الروح باردة، والنفس حارة، فإذا قال: نفث، خرجت الريح باردة فذاك من برد الروح، وإذا قال: ها، خرجت الريح حارة، فتلك من النفس، فالأولى نفثة، وهذه الثانية نفخة، وإنما صار هكذا، لأن الروح مسكنها في الرأس، ثم هي متفشية في جميع الجسد، والنفس مسكنها في البدن، ثم هي متفشية في جميع الجسد، وفي كل واحدة منهما حياة، بهما تستعملان الجسد بالحركات،(6/8)
والروح سماوية، والنفس أرضية، والروح عادتها الطاعة، والنفس عادتها الشهوات.
فإذا ضم شفتيه، اعتصرت الروح في مسكنها، فإذا قصد لإرسالها، خرجت على شفتيه مع البرد، فذلك النفث، وإذا فتح فاه، اعتصرت النفس، فإذا أرسلت، خرجت ريح حارة، فإنما جاء الخبر بالنفث؛ لأن الروح أسرع نهوضاً إلى نور تلك الكلمات إذا تلاها العبد، وأوفر حملاً من النفس، والنفس ثقيلة بطيئة عاجزة، فأدى الروح إلى الكفين بذلك النفث ريحاً قد باشرت أنوار الصدق التي أثارتها تلك الكلمات، واستقبلتها بما جاء به من المزيد، فإن في كل كلمة منها نور [اً]، وفي كل حرف من تلك الكلمة نوراً، فإذا صار الريح إلى الكفين بالنفث، مسح بهما وجهه، وما أقبل من جسده؛ لأن الحق للوجه؛ لأن الصورة منها، ثم الحق بعد ذلك لما أقبل من جسده؛ لأن قبالة المؤمن حيث ما كان فهو لقبالة الله، وكذلك قلبه في الباطن، فالحق له في النفث أن يبدأ بالوجه، وبما أقبل من جسده، وتفاوت النفثات من أهلها على قدر نور قلوبهم، وعلمهم بتلك الكلمات، فإذا فعل ذلك بجسده(6/9)
عند إيوائه إلى فراشه، كان كمن اغتسل بأطهر ماء وأطيبه، فما ظنك بمن يغتسل بأنوار كلمة الله؟
وكان ذلك أيضاً كثوب نفض من غباره، وخلص من شوكه، وتباعد من الزهومات، فعاد طرياً طيباً، فخرجت نفسه إلى الله في منامه، كذلك هذا سوى الاستغفار والتوبة، والتسبيح والدعاء الذي أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة إليه عند منامهم، فإنما اختار هذه القلاقل الثلاث؛ لأن في إحداهن مدحة الله ونعته، فبه يطهر سره ويطيب، وبالمعوذتين يتخلص من الشرك والعلائق؛ لأن على ابن آدم عدوين عظيمي المؤنة: النفس، والشيطان، يأتيان بالشك والشرك في اليقظة، ويأتيان بالعين الحاسدة التي تهدم أركان النعمة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العين حقٌّ، وأكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله بالعين)).(6/10)
وإنما صار هكذا؛ لأن هذه الأمة أيدت باليقين، وفضلوا به، وطريقهم إلى الله واسعة، وطولبوا بما فضلوا أن ينسبوا كل شيء يستحسنونه إلى خالقه، ويتبركوا فيقولوا: تبارك الله، فإذا تركوا ذلك إعجاباً بذلك الشيء، تهافت ذلك الشيء، وذهب حسنه وهلك، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سبق ناقة الأعرابي ناقة رسول الله حيث استبقا، فقال: ((حقٌّ على الله أن لا يرفع الناس أعينهم إلى شيءٍ إلا وضعه الله)).
فإنما ذم رسول الله تلك العيون الغافلة عن الله.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من شر تلك العيون، فسماها: حاسدة، فقال: {ومن شر حاسدٍ إلى حسد}؛ فإنما سمي حاسداً؛ لأنه يحصد الأشياء حصداً، ويستأصلها بشؤم نظرته الفاجرة عن الله، والسين والصاد يعتقبان يجزئ أحدهما عن الآخر؛ كقولك: صراط، وسراط.
قال له قائل: فإن كان هذا الناظر لغفلته هو الجاني، فما بال المنظور إليه حيث لحقته العقوبة؟
قال: ليس ذاك عقوبة، ولكن هذا تدبير الله في عباده.(6/11)
ألا ترى أن الساحر يسحر بأخذته، فيخلص الضرر إلى من سحره حتى يعالج، وكذلك فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت عليه المعوذتان، فكان جبريل عليه السلام يقرأ كل آية، ويحل عقدة، وذلك قوله تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد}.
فالساحر يعقد وينفث، فيؤخذ بها أعضاء من يقصده بذلك، فكذلك هذا يخلص إليه ضرر نظرته المشؤومة بالإعجاب حتى تلحده.
عدنا إلى حديث يونس عن الزهري.
قلنا: فمن اتخذ هذا الفعل عندما يأوي إلى فراشه عادة، رأى النفع الظاهر في جسده، وسائر أموره؛ لأن النفس تعرج إلى الله في منامها مع البركة، والنزاهة والطهارة، والتخلص من الشرك بقراءة: {قل هو الله أحدٌ}، فتسجد تحت العرش، وهي بهذه الصفة قد اغتسلت بهذه الأشياء، فتنال من حب الله، وكرامته، ما يرجع إلى الجسد بالخير الكثير، والمزيد الشافي، فإذا عرجت إلى الله بغير هذه الصفة، سجدت، وهي خالية عن هذه الأشياء، فتنال من الحب، والكرامة على قدر نورها.(6/12)
1312 - نا قتيبة بن سعيد، قال: نا ابن لهيعة، عن واهب بن عبد الله المعافري، عن عبد الله بن عمرو، قال: تعرج الأرواح إلى الله في منامها، فما كان طاهراً، سجد تحت العرش، ما لم يكن طاهراً، سجد قاصياً.
فلذلك يستحب أن لا ينام الرجل إلا وهو طاهر.
فإنما ذكر عبد الله بن عمرو في حديثه الأرواح، وإنما هي النفوس، وقد يسمى الشيء باسم قرينه، كما قيل: قلب وفؤاد.
فالقلب: ما بطن، والفؤاد: ما ظهر، وفيه: العينان، والأذنان، فالخروج في منامها: للنفوس، وذلك قول الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمًى}.
1313 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا عبد الغفار بن داود، عن ابن لهيعة، عن عثمان بن نعيم، عن أبي عثمان الأصبحي، عن أبي الدرداء، قال: إن النفوس تعرج إلى الله في منامها، فما كان طاهراً، سجد تحت العرش، وما كان غير طاهر، تباعد في سجوده، وما كان جنباً، لم يؤذن لها(6/13)
في السجود.
فإذا كان بطهارة الوضوء ينال القربة تحت العرش حتى يسجد هناك، فكيف إذا أتى بطهارة، قد وضئ وتوضئ، ونزه، وطاب، وطهر بأنوار كلام الله الذي تردد في صدره، ونفث منها على جسده، إن هذه لسجدة لها عند الله خطرٌ عظيم.(6/14)
الأصل الثامن والأربعون والمئتان
1314 - نا سليمان بن منصور الذهبي، قال: نا أبو حفص العبدي، عن أبان، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصوم والصلاة)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فدرجة الصوم: درجة الصابرين، ودرجة الصلاة: درجة الشاكرين.(6/15)
ثم إذا وصل العبد درجة الشاكرين، والصابرين، فقد جمع الإيمان، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان نصفان: نصفٌ للصبر، ونصفٌ للشكر)).
وإذا جمع العبد الإيمان كله، انقطع بقوة هذا الإيمان إلى الله، وإذا انقطع إلى الله، نجا من شرور النفس وخدعها، وأمانيها، وصار في معاذ الله من وساوسها.
وروي عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من انقطع إلى الله، كفاه مؤنته، ورزقه من حيث لا يحتسب)).
وبذلك أمر الله نبيه عليه السلام بقوله: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً. رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً}.
فالتبتل: الانقطاع إليه، ثم أمره أن يتخذه وكيلاً، فمن تمسك بهذه الآية، عاش حراً كريماً، ومات حراً كريماً، ولقي الله عبداً صافياً خالصاً.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال في حديث الرؤيا: ((ورأيت رجلاً من أمتي بينه وبين الله حجابٌ، فجاءه حسن خلقه، فأدخله على الله)).
فهذا يحقق ما قلنا بدءاً: أن حسن الخلق يؤديه إلى الله انقطاعاً إليه(6/16)
عن النفس وفتنتها.
وحسن الخلق على ثلاثة منازل:
أول منزلة منها: أن يحسن خلقه مع أمره ونهيه، فيأتمر بأمره، وينتهي عن مناهيه، فإذا أحكم هذا، تخطى إلى المنزلة الثانية، وهو أن يحسن خلقه مع جميع خلقه على سبيل المساعدة والمقاربة والمساهلة، واللين والرفق والمواتاة، والتداري ومعاشرة الجميل، فإذا أحكم هذا، تخطى إلى المنزلة الثالثة، وهو أن يحسن خلقه مع تدبير الله في كل أموره، ولا يريد إلا ما يريد، ولا يشاء إلا ما يشاء، فعينه مادة إلى ما يبرز له ساعة فساعة من نفحات الملكوت من تلك الغيوب من تدبيره، فيتلقاه مهتشاً راضياً، فقد ائتمن الله على نفسه وأحوالها، فهذا رجل قد استكمل حسن الخلق، فاستراح قلبه، واطمأنت نفسه، واستقامت جوارحه، وألقى بيديه إلى الله سلماً، ووجده كافياً، كريماً، حسيباً، مولًى ناصراً، فنعم المولى، ونعم النصير.
وإذا قال حينئذٍ: حسبي الله، صدقه الله على عرشه، وإذا قال: كفى بالله وكيلاً، كفاه الله، وإذا توكل عليه، هيأ له، وإذا اتكل على كرمه، وفى له بما هو سأله، ولو كان ذلك طي الأرض، والمشي في الهواء، ولو سأله(6/17)
يوم القيامة أمة، لشفعه فيهم، وكان مسكنه في أعلى الجنان.
يحقق ذلك ما:
1315 - نا به أبي رحمه الله، قال: نا أبو نعيم، قال: نا سلمة بن وردان الكناني، قال: سمعت أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الكذب، وهو باطلٌ، بنى الله له في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محقٌّ، بني له في وسطها، ومن حسن خلقه، بني له في أعلاها)).
فالذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء: ((إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)).
هو عندنا درجة المعاشرة مع خلقه، مع الائتمار بأمره، والتناهي عما نهى عنه، فهذا عبد نزل من حسن الخلق درجتين، فصار كمن صام نهاره، وقام ليله، فهو صابر شاكر، وإنما بقيت له الدرجة العليا، فتلك درجة المقربين خاصة الله.(6/18)
الأصل التاسع والأربعون والمئتان
1316 - نا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم الصائغ، ثنا أبو سفيان، عن سالم، عن الحسن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مرض ليلةً، فصبر ورضي بها عن الله: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
جاد العبد بنفسه على الله ليلةً واحدةً، فجاد الله عليه بمغفرة طهرته(6/19)
من جميع الذنوب، فصار كمن لم يذنب، فهكذا شأن الكريم مع المؤمنين، هذا فيمن جاد عليه بنفسه ليلة واحدة، فكيف بمن جاد عليه بنفسه في جميع عمره، بماذا يجود عليه غداً؟
يجود عليه بوجهه الكريم، حتى يصير بالصفة التي ذكرها في تنزيله، فقال عندما ذكر لظى -نعوذ بالله منها-: {وسيجنبها الأتقى. الذي يؤتى ماله يتزكى}.
فوصفه أنه في جانب وبمعزل من النار، ثم سماه الأتقى، ثم وسمه بالزكاء، وهو الامتلاء والاحتشاء، ثم ذكر صفاءه وإخلاصه، فقال: {وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى}.
ثم أنبأ عن سره ماذا يبتغي بفعله، فقال: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي: ابتغى بهذا التقوى والصفاء والإخلاص أن يلقى وجهه الكريم.
قلنا: ويلقى غداً في الموقف رؤية، ويلقاه في الفردوس نظراً، وذلك منتهى المنى، والنظر أكبر من الرؤية؛ لأنه يراه في الموقف رئي الديان عرضاً، وقبولاً وجزاء، وفي الفردوس رؤية الجنان نظراً وبهجة وسروراً ولذة، ثم ختمه بقوله: {ولسوف يرضى}؛ أي: يعطى حتى(6/20)
يرضى، وإنما يعطى ما يعقل العبد، ثم من وراء ذلك ما لم يعقله.
1317 - نا الجارود بن معاذ، قال: نا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله -أظنه رفعه-، قال: ((يقول الله تعالى: يا أهل الجنة! بقي لكم شيءٌ لم تنالوه؟ فيقولون: وما هو يا ربنا؟ فيقول: رضواني)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:(6/21)
فالرضوان آخر ما ينال أهل الجنة؛ لأنه لا شيء أكبر منه، ذكر الله تعالى جنات عدن في تنزيله، ثم قال: {ورضوانٌ من الله أكبر}، فكل عبد من أهل الجنة حظه من الرضوان هناك فيها على قدر جوده بنفسه على الله في الدنيا.
ألا ترى إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حيث بايعوا رسول الله على الموت، حتى قال جابر بن عبد الله: بايعناه على أن لا نفر.
فسر قوله: بايعناه على الموت، وكانت البيعة تحت الشجرة في ذلك الوادي، فأنزل الله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم} إلى آخره، فأوجب لهم الرضا في بذلة واحدة بذلوا نفوسهم لله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن بذل نفسه في جميع عمره لله؟ فمن أوجب الله له الرضا عنه في الدنيا، فحظه في الجنة الرضوان كله.(6/22)
الأصل الخمسون والمئتان
1318 - نا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: نا إبراهيم بن موسى الفراء، عن هشام بن يوسف قاضي صنعاء، عن عبد الله بن بحير، عن هانئ البربري مولى عثمان بن عفان، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن ميتاً، وقف وسأل له التثبيت، وكان يقول: ((ما يستقبل المؤمن من هول الآخرة إلا والقبر أفظع منه)).(6/23)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالوقوف على القبر، وسؤال التثبيت للمؤمن في وقت دفنه مدد للميت بعد الصلاة؛ لأن الصلاة بجماعة المسلمين كالعسكر، قد اجتمعوا بباب الملك يشفعون له، والوقوف على القبر لسؤال التثبيت مدد العسكر، وتلك ساعة شغل المؤمن؛ لأنه يستقبل هول المطلع وسؤال، وفتنة فتاني القبر منكر ونكير.
فإنما سميا: فتاني القبر؛ لأن في سؤالهما انتهار [اً]، وفي خلقهما صعوبة.
ألا ترى أنهما سميا منكراً ونكيراً، فإنما سميا بذلك؛ لأن خلقهما لا يشبه خلق الآدميين، ولا خلق الملائكة، ولا خلق الطير، ولا خلق البهائم، ولا خلق الهوام، بل هما خلق بديع، وليس في خلقتهما أنسٌ للناظرين إليهما، جعلهما مكرمة للمؤمن؛ ليثبته وينصره، وهتكاً لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحل عليه العذاب، وإنما صارت مكرمة للمؤمن؛ لأن العدو لم ينقطع طمعه بعد، فهو يتخلل السبيل إلى أن يجده في البرزخ.
ومما يحقق ذلك:
1319 - ما نا به صالح بن محمد، عن حماد بن(6/24)
عبد الرحمن، قال: نا إدريس بن صبيح الأودي، عن سعيد بن المسيب، قال: حضرت عبد الله بن عمر في جنازة، فلما وضعها في اللحد، قال: ((باسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله)). فلما أخذ في تسوية اللحد، قال: ((اللهم أجرها من الشيطان، ومن عذاب القبر، ومن عذاب النار)). فلما سوى الكثيب، قام جانب القبر، ثم قال: ((اللهم جاف الأرض عن جنبها، وصعد روحها، ولقها منك رضواناً)). فقلت لابن عمر: أشيئاً سمعته من رسول الله، أم شيئاً قلته من رأيك؟ قال: إني إذاً لقادرٌ على القول، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/25)
1320 - نا أبي رحمه الله، قال: نا الفضل بن دكين، عن سفيان، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، قال: كانوا يستحبون إذا وضع الميت في اللحد أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان الرحيم.
فإنما كانوا يتخوفون من فتنة الفتانين من قبل العدو أنه يشبه على من كان في قلبه زيغ أيام الحياة.
وروي عن سفيان الثوري: أنه قال: إذا سئل الميت من ربك؟ تراءى له الشيطان في صورة، فيشير إلى نفسه؛ أي: أنا ربك.
فهذه فتنة عظيمة، جعلها الله مكرمة للمؤمن إذا ثبته، ولقنه الجواب، فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بالثبات، فيقول: ((اللهم ثبت عند المسائل منطقه، وافتح أبواب السماء لروحه)).(6/26)
فلو لم يكن للشيطان هناك سبيل، ما كان ليدعو له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيره من الشيطان.
فهذا تحقيق لما روي عن سفيان.
وإنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة؛ لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة، فإذا أبوا، كفت الرسل، واعتزلوا، وعوجلوا بالعذاب، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة وأماناً للخلق، فقال: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}.
فأمسك عنهم العذاب، وأعطي السيف حتى يدخل في الإسلام من دخل لمهابة السيف، ثم يرسخ في قلبه، فأمهلوا، فمن هاهنا ظهر أمر النفاق، فكانوا يسرون الكفر، ويعلنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر؛ ليستخرج سرهم بالسؤال.
فروي في الحديث: أنه إذا سئل عن الرسول عليه السلام، قال: لا أدري، فيضرب بالمقامع، ويقال: لا دريت.
و {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا}،(6/27)
فشكر الله لعبده ما كان يضمر لله من الصدق واليقين، فيثبته للجواب، وخذل الآخر؛ ليظهر سره، فيهال عليه العذاب.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((كيف أنت يا عمر إذا أتاك في قبرك أسودان أزرقان يطآن الأرض بشعورهما، ويحفران الأرض بأنيابهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأعينهما كالبرق الخاطف؛ فيسألانك عن ربك ودينك ونبيك؟))، فقال عمر: كيف عقلي يومئذ؟ قال: ((كهيئته اليوم))، قال: إذاً أكفيكهما.
فدل قول عمر: أن الجواب من المؤمنين على قدر عقولهم التي كانت في الدنيا.
1321 - نا محمد بن زنبور المكي، قال: نا أبو بكر ابن عياش، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذه الأمة تبتلى في قبورها)).(6/28)
وأما قوله: ((ما يستقبل المؤمن من هول الآخرة إلا والقبر أفظع منه))، فهذا للمؤمن خاصة، فأما الكافر، فما يستقبله من شيء إلا وهو أفظع مما مضى؛ لأن المؤمن كلما قرب من ربه، يسر عليه الأمر، وكان أقرب إلى الرحمة؛ فإنما يحاسب المؤمن في قبره؛ ليكون أهون عليه غداً إذا وقف بين يديه؛ لأن الله تعالى أنزل عبده المؤمن من نفسه أنه يستحيي منه، وأنه أوجب له محبته، ورأفته، ورحمته، فإذا كانت هذه منزلته منه، ثم كان من العبد جفاء، أو انتهاك شيء حرمه الله، واغترار بقول العدو، فاستوجب بذلك العقوبة لرضا الحق، أنى له ذلك، وهو بعد في البرزخ يمحصه ليخرج من القبر، وقد اقتص منه، وأرضى الحق.
1322 - نا صالح بن عبد الله، قال: نا يحيى بن زكريا ابن [أبي] زائدة، عن مجالد، عن محمد بن المنتشر، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، قال: في القبر حساب، وفي الآخرة حساب، فمن حوسب في القبر، نجا، ومن حوسب(6/29)
في القيامة، عذب.
وكذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن أهل التوحيد الذين تأخذهم النار، يميتهم الله إماتةً، حتى تحرق النار منهم ما تحرق، ثم يحييهم فينجيهم)).
1323 - نا عبد الوارث بن عبد الصمد، عن أبيه، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذلك.
فلا نعلم للإماتة سبباً أكشف عن المعنى الذي ذكرنا أن الله تعالى بعدما أوجب لعبده محبته، ورأفته، ورحمته، وبذلك: جعله أهلاً للكلمة العليا: لا إله إلا الله، وكان ممن دخل اسمه في الآية في التنزيل حيث يقول: {وألزمهم كلمة التقوى}، ثم قال: {وكانوا أحق بها وأهلها}.
فمن دخل اسمه في هذا المديح، وفي مثل هذه المرتبة، ثم حبسه في النار حقوق الله حتى يحترق منه ما يرضي الحق، كان غير مدفوع أن الله(6/30)
تعالى يستحي من العبد، فيميته في تلك النار، حتى يقضى للحق ما وجب له ورضيه، ثم إذا أحياه أنجاه.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليستحي من عبده وأمته أن يشيبا في الإسلام شيبةً فيعذبهما بالنار)) وفي حديث آخر: ((إن الله تعالى ليستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً)).(6/31)
الأصل الحادي والخمسون والمئتان
1324 - نا أبي رحمه الله، قال: نا عبد الله بن نافع، قال: حدثني ابن أبي فديك، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة، فقال: ((إني رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه، فرده عنه)).(6/33)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فبر الوالدين شكر؛ لأنه تعالى قال: {اشكر لي ولوالديك إلي المصير}، فإذا برهما، فقد شكرهما، وقال في تنزيله: {لئن شكرتم لأزيدنكم}.
فإنما وجد العبد من ربه في وقت انفصاله من أمه العمر، وقد كان في البطن حياةً، ولم يكن عمراً، فلما خرج، أعطي العمر بمقدار، فإذا وصل والديه ببرٍّ، كان قد وصل الرحم الذي منه خرج، والصلب الذي منه جرى، فكان بفعله ذلك شاكراً، فزيد من ذلك العمر الذي شكر من أجله، فرد عنه ملك الموت.
يوهمك في هذا الحديث: أن العباد إذا وصلوا أرحامهم زيد في أعمارهم؛ لأنهم بالصلة صاروا شاكرين، فشكر الله لهم، ووفى لهم بما وعد في تنزيله: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، فزاد في أعمارهم.
1325 - نا أبي رحمه الله، قال: نا الفضل بن دكين، عن سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القضاء إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)).(6/34)
((ورأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوءه فاستنقذه من ذلك)).
قال أبو عبد الله:
فعذاب القبر من البول والنجاسة، كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن عامة عذاب القبر من البول والنميمة)).
وإنما صار كذلك؛ لأن البول من معدن إبليس، من جوف الآدمي، فإذا لم يتنزه العبد من ذلك، دخل قبره بنجاسات العدو، فعذب في القبر، وعذاب المؤمنين في البرزخ، وعذاب الكفار في القيامة.
1326 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا إبراهيم بن موسى الرازي، عن هشام بن يوسف قاضي صنعاء، عن(6/35)
عبد الله بن بحير، عن هانئ البربري مولى عثمان بن عفان، قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن ميتاً، وقف عليه، وسأل له التثبيت، وكان يقول: ((ما يستقبل المؤمن من هول الآخرة إلا والقبر أفظع منه)).
وإنما صار هذا هكذا؛ لأن المؤمن في ستر الله، ومن أحبابه؛ فإذا قبض من الدنيا؛ حوسب من وراء ظهره، حتى يكون أهل عليه من أن يكون بين يدي الله، فحاسبه الله على ألسنة الملائكة، كأنه يستحي من عبده المؤمن، إذ كان في الأصل حبيبه أن يحاسبه بين يديه، فقدم حسابه في البرزخ وتمحيصه؛ ليخرج من القبر إلى الله يوم القيامة طاهراً لم يبق للحق عليه دعوى.
1327 - نا محمد بن علي رحمه الله، قال: نا صالح ابن عبد الله، قال: نا يحيى بن زكريا، عن مجالد، عن محمد بن المنتشر، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، قال: في القبر حساب، وفي الآخرة حساب، فمن حوسب في القبر، نجا، ومن حوسب في الآخرة، عذب.(6/36)
فجعل الله هذا الماء طاهراً، يطهر النجاسات الدنيوية، وأدناس الذنوب، فإذا كان العبد مداوماً على الوضوء، فهو أبداً في إزالة الأنجاس، ونفض الغبار عن دينه، فإذا كان يوم البرزخ، وجاء عذاب الأدناس التي اكتسبها بالسيئات، جاءه وضوءه، فاستنقذه من النار.
1328 - نا عبيد الله بن يوسف الجبيري، قال: نا عثمان بن عبد الرحمن الحراني، قال: نا عبد الحميد ابن يزيد، عن آمنة بنت عمر، عن ميمونة: أنها قالت: يا رسول الله! أفتنا عن عذاب القبر، قال: ((من أثر البول، فمن أصابه منه شيءٌ، فليغسله بماءٍ، فإن لم يصبه، أو لم يجده، فليمسحه بترابٍ طيبٍ)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالغسل لما يعلمه، فإذا خفي عليه أن يكون أصابه شيء، وخاف من حيث لا يدري، وهاب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن عذاب القبر، دله على التيمم، فإنما سألت ميمونة رسول الله عن الفتيا في عذاب القبر ما الحيلة في الخلاص منه إن أصابه البول من حيث لا يعلم، وقد جاء فيه في التشديد ما جاء، فرأى أن الجهل به ضرورة، وفقد الماء ضرورة، وقد تفضل الله(6/37)
على عبيده عند فقد الماء بالتيمم، وصيره كافياً، ومزيلاً للجنابة والأحداث عنه، فرأى أن التيمم هاهنا في حال الشك والتخوف أن يكون قد أصابه من حيث لا يعلم، يكون كافياً، ومزيلاً للنجاسة عنه؛ لينجو من وباله غداً في القبر.
وما روي عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني معاذ بن رفاعة بن رافع، قال: حدثني محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر بن عبد الله، قال: لما توفي سعد بن معاذ، ووضع في حفرته، سبح رسول الله، وسبح القوم، ثم كبر، وكبر القوم معه، فقالوا: يا رسول الله! لم سبحت؟ قال عليه السلام: ((هذا العبد الصالح تضايق عليه قبره حتى فرجه الله عنه))، فسئل رسول الله عن ذلك، فقال: ((كان يقصر في بعض الطهور من البول)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فلما كان شأن عذاب القبر هكذا، وقد قال: ((عامة عذاب القبر من البول، دلهم على التيمم لما لا يعلم على الاحتياط بذلك، ولما(6/38)
يعلم غسلاً.
((ورأيت رجلاً من أمتي احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله، فخلصه من بينهم)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالشيطان وجنوده قد أعطوا السبيل إلى فتنة الآدميين، وتزيين ما في الأرض لهم طمعاً في غوايتهم، وقد قال: {بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين}، فلو لم يجعل بيده شيء، ما قدر على أن يزين، ولكن قد أعطي سلطاناً بتلك الزينة التي قد أعطيها حتى يوصلها إلى النفوس، ويهيجها تهييجاً يزعزع أركان البدن، ويستفز القلب حتى يزعجه عن مستقره، فلا يعتصم الآدمي بشيء أوثق، ولا أحض من الذكر؛ لأنه إذا هاج الذكر من القلب، هاجت الأنوار، فاشتعل الصدر بنار الأنوار، وهيج العدو من نفسه نار الشهوات بنفخه ونفثه، ونار الأنوار تحرق نار الشهوات، وتحرق العدو، فإذا رأى العدو هيج الذكر من القلب، ولى هارباً، فترك النفخ، والنفث، وخمدت نار الشهوة، وامتلأ الصدر نوراً، فبطل كيده، وذلك قوله تعالى: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً}.
وقال تعالى: {إنا زينا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكب. وحفظاً من كل شيطانٍ ماردٍ}، وقال: {وحفظناها من كل شيطانٍ رجيمٍ. إلا من استرق(6/39)
السمع فأتبعه شهابٌ مبينٌ}، وقال: {إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهابٌ ثاقبٌ}.
فهذه قصة السماء حرسها بشهب الكواكب، ثم جعل صدور المؤمنين كذلك، فجعل قلب المؤمن خزانة لكنوز معرفته، وجعل أعلام الكنوز في الصدور مرفوعة لعين الفؤاد، حتى تري عين الفؤاد العلم الذي رفع له ففي كل وقت علم؛ لأن الكنوز أنواع، ولكل نوع علم، فما يرفع العلم في الصدر لعين الفؤاد، حتى يتبع العلم، فالأعلام زينة الصدر ومصابيحه.
وهؤلاء حراس السماء، يحرسون أخبار السماء حتى لا يسترق العدو سمع ما في السماء، فإذا دنوا للسمع، رموا بشهب الكواكب، وهؤلاء حراس الخزنة، يحرسون كنوز المعرفة حتى لا يسترق العدو سمع ما في الصدر، من ترائي عين الفؤاد، وتدبير ذات الصدر، فإذا هاج الذكر، فإنما يهيج من هذه الأعلام التي في الصدور، من تلك الكنوز التي في القلب، فاشتعل الصدر نوراً، ولكل شعلة حريق، فإن تراءى العدو في ذلك الوقت، أحرقته تلك الشعلة برمي شعاعها، فلذلك يهرب، ويتخلص العبد.
فعلم العدو أن لله عباداً قد امتحنهم للتقوى، واستخلصهم للكرامة، فاستثناهم، فقال: {إلا عبادك منهم المخلصين}، فإنما استخلصهم الله تعالى للذكر، فأصفاهم ذكراً، وأطيبهم معدناً للذكر: أقواهم على العدو، والعدو أشد نفاراً منهم.(6/40)
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ليفر من حس عمر، وما رأى الشيطان عمر، إلا خر لوجهه)).
وقال في تنزيله: {من شر الوسواس الخناس}، فإنما سماه خناساً؛ لأنه إذا جاء الذكر، انخنس، وذهبت قوته، وإن تعرض في ذلك الوقت، احترق.
وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يحيى بن زكريا عليه السلام آخر ما كان يأمر قومه بخمس خصال، ويضرب لهم مثلاً، فكانت إحدى الخصال: أن أمرهم بذكر الله، فضرب لهم في ذلك مثلاً، فقال: رجل أتاه العدو من ناحية فقاتله، وأتاه آخر من ناحية فقاتله، فلما رأى أنهم أتوه من النواحي، دخل الحصن، وأغلق الباب، فاستقر آمناً بالحصن، وبقي العدو خارجاً.
فالعبد إذا قاتل الشيطان بنوع من أنواع البر، جاءه من نوع آخر، فإذا جاء الذكر، هرب وتركه؛ لأن الذكر نور يحرق، وليس لأعمال البر تلك القوة التي يحترق منها العدو.
((ورأيت رجلاً من أتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته، فاستنقذته من أيديهم)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالعذاب إنما يقصد العبيد الأباق الذين هربوا، وذهبوا برقابهم من الله، وأهل الصلاة كلما أبقوا، عادوا إلى الله في وقت كل صلاة،(6/41)
ووقفوا بين يديه تائبين، نادمين، معتذرين، مسلمي نفوسهم إليه، مجددين لإسلامهم، يترضونه بالتكبير، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والركوع، والسجود، والرغبة، والتضرع إلى الله في التشهد، فسقطت عنهم عيوب إباقهم وهربهم، وزالت عنهم العقوبات التي استوجبوها.
((ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً، كلما ورد حوضاً منع، فجاءه صيامه، فسقاه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذا عبد اتبع هواه، وأمعن في شهواته، حتى بعد من الرحمة، وإذا بعد القلب من الرحمة، عطش، وإذا عطش، يبس، وإذا يبس، قسا، ولذلك قال تعالى: {فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله}، وقال تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً}.
فبالرحمة يرطب القلب، ويروى، وببعده من الرحمة يعطش، فأورثه عطش القلب عطش القيامة، حتى رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه في القيامة في تلك الحالة، فإذا ترك العبد اتباع الهوى، وامتنع من منهي الشهوات، عادت الرحمة إليه، وقرب القلب منه، وتوسع في سقياه، فروي؛ لأن برد الرحمة يسكن حرارة الشهوة التي تؤدي النفس إلى العطش، والصيام:(6/42)
هو ترك الشهوات والمنى، ورفض الهوى، وإنما جعل الحوض حوض الرسول عليه السلام غياثاً لأهل الموقف؛ لأنهم يقومون عطاشاً من قبورهم؛ لأنهم دخلوها مع الهوى والشهوات، لم يفارقوها إلا بمفارقة الروح، وخروج النفس، فخرجوا من الدنيا عطاشاً، فاحتاجوا إلى الحوض، ومن خرج من الدنيا، وقد فارق الهوى والشهوات، فإنما سكن عطشه، وروي برحمة الله من قرب الله، فدخل القبر رياناً، وخرج منه يوم القيامة إلى الله رياناً من كل ماء، عطشاناً إلى لقاء الله، فأولئك الذين يسقون قبل دخول الجنة، حتى يرووا من حيث عطشوا.
روي لنا عن مالك بن دينار: أنه قال: ينادي منادٍ يوم القيامة: أين أهل العطش؟ فأول من يقوم داود -عليه الصلاة والسلام-، فيسقى على رؤوس الخلائق، فذلك قوله تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مئابٍ}.
فإنما خص داود بالأولية؛ لأن الخطيئة عطشته، وهو وإن تاب، وقبلت توبته، وغفر الله له ذلك، فذلك العطش باقٍ إلى ذلك اليوم.
((ورأيت رجلاً من أمتي والنبيون قعودٌ حلقاً حلقاً، كلما دنا لحلقةٍ، طرد، فجاءه اغتساله من الجنابة، فأخذ بيده، فأقعده إلى جنبي)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالجنابة إنما سميت جنابة؛ لأن الماء الذي جرى من صلبه قد كان جاور في الأصل مياه الأعداء في ظهر آدم عليه السلام، فأصابته زهومة تلك المياه(6/43)
بجواره، وممره من الصلب إلى مستقر العدو من الجوف، ومستقره من المعدة إلى مواضع الحدث، هو كله معدنه، فإذا خرج من العبد في يقظته، أوجب غسلاً، وإذا خرج منه من منامه حلماً، أوجب غسلاً، وإذا خرج منه عند خروج الروح منه يوم الموت، أوجب عليه غسلاً بعد الموت، ولذلك يغسل الميت، ولا يصلى عليه حتى يغسل، كما كان الحي لا يجزئه الصلاة إلا بعد الغسل.
فالغسل: تطهير من أثر العدو.
والجنب ممنوع من قراءة القرآن، ومن أن يمسه بيده، ومن أن يتخذ المساجد مجلساً؛ لأن الطهارة مفقودة، وآثار العدو موجودة، وإذا كانت هكذا، فهو ممنوع من حلق النبيين -عليهم السلام-، ومجالستهم في الموقف؛ لأن حلقهم في الموقف على مراتب، لا كحلق أهل الدنيا لمن ينتابهم في حاجة.
فالرسل -عليهم السلام-: مراتبهم معلومة في الموقف، مقامهم، وقعودهم، ومن يحبونهم، والأنبياء: دونهم، والأولياء: دونهم، كل صنف على مرتبته، فهذا الجنب لو لم يكن يغتسل في الدنيا، لمنعه فقد طهارته عنهم، فلما اغتسل في الدنيا، صارت منزلته بطهارته بحيث صلح، وجاز(6/44)
إلى أن يقعد إلى جانب سيد الرسل عليه السلام، وبالطهارة وجد السبيل إلى ذلك، وإنما وجد السبيل إلى ذلك، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الرسل، إجلالاً بمحله؛ لأن أصل الجنابة من الفرج، فوجد المغتسل السبيل إلى أصل الفرج، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
((ورأيت رجلاً من أمتي بين يديه ظلمةٌ، ومن خلفه ظلمةٌ، وعن يمينه ظلمةٌ، وعن شماله ظلمةٌ، ومن فوقه ظلمةٌ، ومن تحته ظلمةٌ، متحيرٌ فيها، فجاءته حجته وعمرته، فاستخرجاه من الظلمة، وأدخلاه النور)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فقد وعد الله في تنزيله في شأن الحج حط الآثام عنه، فقال: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} الآية؛ أي: رجع مغفوراً له، وقد سقط عنه الإثم، فتلك الظلمات كانت آثام العبد، فإذا قضى حجته، وفى الله بما وعده.
وأما العمرة: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عنه: أنه قال: ((العمرة الحج الأصغر)).(6/45)
((ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءته صلة الرحم، فقالت: يا معشر المؤمنين! كلموه، فكلموه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالرحم أصل المؤمنين كلهم، فمن تمسك بصلته، فقد أرضى المؤمنين كلهم، ما بينه وبين آدم صلى الله عليه وسلم، ومن تهيأ له صلة الرحم، تهيأ له رضا المؤمنين كلهم، ومن كان قاطعاً للرحم، أيس المؤمنون من خيره.
ولذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الرحمة لا تنزل على قومٍ فيهم قاطع رحمٍ)).
قال: فإنما صار هكذا؛ لأن الرحمة منقطعة عنه، وهو في سخط الله، وأن الله خلق الرحم بيده، وشق لها اسماً من اسمه، فقال: ((أنا الرحمن، وأنت الرحم، خلقتك بيدي وشققت لك اسماً من اسمي)).
ثم أرسل حواشي قميص الرحمة، فتعلق الخلق بها، فمن وصل الرحم، فقد تعلق بحاشية القميص، ومن قطعها، قصرت يده عن حاشية(6/46)
القميص، فانقطع عن رحمة الله، ولم يبق له إلا رحمة التوحيد، فهذا الواصل للرحم كان رجلاً قد عمل السيئات الكثيرة، وضيع الحقوق، فلما وصل الرحم، نالت يده حواشي القميص، فتعلق بها، فنال الرحمة، فلما جاءته الصلة، فأخبرت المؤمنين في القيامة: كلموه. معناه: أنه دخل في رحمة الله التي يرحم بها المؤمنين، فصاروا كلهم له، بعد أن كانوا عليه.
((ورأيت رجلاً من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه فجاءته صدقته، فصارت ستراً على وجهه وظلاً على رأسه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالصدقة إنما صارت ستراً للمؤمن من النار؛ لأنه إذا تصدق، فإنما يفدي نفسه، ويفك غرامة جنايته.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن يحيى بن زكريا عليه السلام أمر قومه بالصدقة، وضرب لهم مثلاً، فقال: كمثل رجلٍ قتل قتيلاً، ثم هرب، فسأل أولياءه أن يجعلوا دية القتل عليه نجوماً، ففعلوا، فأداها نجماً نجماً، ففك رقبته، وصار إلى أهله مطمئناً)).
والنار إنما تطلب وجوه الجناة في الموقف لتلفحها، فإذا أدى الجاني غرمه، صار الأداء ستراً على الوجه، وظلاً على الرأس، وهكذا شأن الفدية، تأخذ بالحذاء من فوق، فتقيك بنفسها من كل ناحية.(6/47)
((ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكانٍ، فجاءه أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، فاستنقذاه من أيديهم، فأدخلاه مع ملائكة الرحمة)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالزبانية من شرط الملائكة، والشرط لمن جاهر بالمعاصي من أهل الريب، يلتمسونهم في الطرق والمسالك، ليأخذوهم، فمن استتر بستر الله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فهو -وإن استعمل أعمال أهل الريب بعد أن يكون مستوراً- لا ينهتك.
فالشرط في الدنيا منتهون عن أخذه، وغير ملتمسين أشباه هؤلاء؛ لحرمة ذلك الستر، فكذلك في الآخرة، إذا طلب الزبانية في عرصة القيامة أهل المجاهرة بالمعاصي، فوقع هذا المستور في أيديهم، نفعه ذلك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وكل من عمل بالمعاصي في الدنيا سراً لا يجاهر به، فكائن منه أن ينهى عن المنكر إذا لقيه، وإذا فعل ذلك، كانت ملائكة الرحمة أحق به من ملائكة العذاب، ومن استحقته ملائكة الرحمة في الموقف، فقد نجا.
((ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه، بينه وبين الله حجابٌ،(6/48)
فجاءه حسن خلقه، فأخذ بيده، فأدخله على الله)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
ينبئك في هذا القول: أن العبد تحجبه ذنوبه عن الله في الدنيا قلباً، وفي الموقف غداً بدناً، وأنا حسن الخلق منحة من الله لعبده؛ لأن الأخلاق في الخزائن، فإذا أحب الله عبداً، منحه خلقاً منها؛ ليدر عليه ذلك الخلق كرائم الأفعال، ومحاسن الأمور، فيظهر ذلك على جوارحه؛ ليزداد العبد بذلك محبة، فوصله إليه في الدنيا قلباً، وفي الآخرة بدناً، وحب الله عبده يمحق الذنوب محقاً، ويتركه من آثامه عطلاً، وإذا أحب الله عبداً، أهدى إليه خلقاً من أخلاقه، وإذا رحم الله عبداً، أذن له في عمل من أعمال البر، فهذه ثمرة الرحمة، وتلك ثمرة المحبة.
((ورأيت رجلاً من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله، فأخذ صحيفته، فجعلها في يمينه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فأعظم الأهوال في القيامة في ثلاث مواطن: عند تطاير الصحف، وعند الميزان، وعند الصراط، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: أنه قال:
((لا يذكر أحدٌ أحداً في هذه المواطن)).(6/49)
فإذا وقعت الصحيفة في يمينه، أمن، وبانت سعادته.
قال الله تعالى في تنزيله: {فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً. وينقلب إلى أهله مسروراً}.
1329 - نا يحيى بن حبيب بن عدي، قال: نا بشر ابن المفضل، عن عوف، عن الحسن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال ربكم تعالى: لن أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، من أخفته في الدنيا، أمنته في الآخرة)).
فمن قاسى خوفه في الدنيا، أوجب له الأمن يوم القيامة، فإذا جاءه الهول عند تطاير الصحف، جاءه الخوف، فنفعه؛ بأن جعل صحيفته في يمنيه حتى يأمن.
((ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه، فجاءته أفراطه، فثقلوا ميزانه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالأفراط: أولاده الأطفال، الذين لم يبلغوا الحلم، فإنما ثقل ميزانه؛ لأنهم أطفال موحدون، قدموا على ربهم بلا شرك، ولا ذنب، قد برأ الله خلقهم من صلب موحد، فهم من أهل رحمة الله، وإنما يثقل(6/50)
الموازين بالرحمة.
وقال في حديث آخر: ((من مات له ثلاثة أولادٍ لم يبلغوا الحلم، أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)).
فهذا الوالد إنما يدخل الجنة بما يفضل من رحمة الله هؤلاء الأطفال، فكيف برحمته لهم؟
فالحسنات تثقل الموازين، وأصل الحسنات: من الرحمة بدءاً حتى ظهرت على العبد، ومن أحسن الحسنات: ذرية يخرجها الله من صلب موحد، ثم يقبضهم، ولم يتدنسوا بمعصية.
فإذا العبد قد قدم طائفة من جسده طاهرة لم تتدنس، فإذا وضع في الميزان، ثقل.
((ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم، فجاءه وجله من الله، فاستنقذه من ذلك، ومضى)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالوجل: هو في وقت انكشاف الغطاء لقلب المؤمن، فإذا كان ذلك، فتلك خشية العبد، فاقشعر جلده، وإن جهنم حائلة يوم القيامة(6/51)
بين العباد وبين الجنة، حتى تضرب الجسور، وتهيأ القناطر، فعندها يستبين الصراط، وهو الطريق لأهلها، فالخلق كلهم على شفير النار وقوف، هائبين لها، فوجل العباد يجعل لهم السبيل ليقطعوها؛ لأن الخشية ثوابها المغفرة.
وقد قال في تنزيله: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبيرٌ}.
فالمغفرة: نورها ساطع، وهو نور الرأفة، فإذا جاءت الرأفة، وجد العبد قلباً، وذهبت الحيرة، وتشجعت النفس ومضت.
((ورأيت رجلاً من أمتي هوى في النار، فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا، فاستخرجته من النار)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذا عبد استوجب النار بعمله، فأدركته رحمة الله ببكائه من الخشية، فأنقذته؛ لأن دمعة الخشية تطفئ بحوراً من النار.
((ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة، فجاءه حسن ظنه بالله، فسكن رعدته، ومضى)).(6/52)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فحسن الظن من المعرفة بالله، [و] عظم أمل العبد ورجاؤه لربه من المعرفة، فلم يضيع الله معرفة العبد؛ لأنه هو الذي من عليه بها، فلم يرتجع في منه، ووفى له؛ بأن أعطاه حسن الظن به في الدنيا من تلك المعرفة الممنونة بها عليه، ثم حقق ظنه في ذلك الموقف؛ أي: كما عرفتني، ثم ظننت من معرفتك بي أني أنجيتك، فلك النجاة، والأمان، فسكن رعدته.
((ورأيت رجلاً من أمتي يزحف أحياناً، ويحبو أحياناً، ويتعلق أحياناً، فجاءته صلاته علي، فأخذت بيده، وأقامته، ومضى على الصراط)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم من العبد بنوة لأبيه، يريد أن يري أباه مقام الولد للأب، ولذلك أمر الله العباد أن يصلوا عليه، فذاك حق الرسول -عليه الصلاة والسلام-، يقضونها بمنزلة الأولاد يقضون حق آبائهم، فإذا كان الولد هكذا، فمن شأن الوالد أن يأخذ بيد الولد في وقت عثراته؛ بمنزلة الطفل الذي إذا مشى، فعثر في مشيته، عجل إليه أبوه، وتبادر حتى يأخذ بيده، فيقيمه، فصارت صلوات العباد للرسول عليه السلام(6/53)
بمنزلة ذلك الأب العطوف الذي كلما عثر الولد، بادر بعطفه، فأخذ بيده فأقامه.
((ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة، فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة: أن لا إله إلا الله، ففتحت له الأبواب، فأدخلته الجنة)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذه كلمة جعلت مفتاحاً لأبواب الجنة، وإنما غلقت دون هذا العبد، كأنه جاء بمفتاح ليس له أسنان، وقد نجد في دار الدنيا أن يجيء الرجل بمفتاح الباب، وقد ضاع بعض أسنانه، فلا يزال يردده، ويحركه، حتى يفتحه، فإذا لم يكن بيده مفتاح، لم يفتح، فهذا عبد قد ضيع الأسنان، فأغاثه الله بما جاء به.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمنين يدعون من أبواب الجنة، وإن أبوابها مقسومةٌ على أعمال البر، فبابٌ للصلاة، وبابٌ للصيام، وبابٌ للصدقة، وبابٌ للحج، وبابٌ للجهاد، وبابٌ للأرحام، وبابٌ لمظالم العباد، وهو أخيرها)).
فهذه سبعة أبواب مقسومة على أعمال العباد.
وكذلك أبواب النيران مقسومة على أعمال أهلها، {لكل بابٍ منهم جزءٌ مقسومٌ}.(6/54)
وباب للجنة زائد لأهل الشهادة يسمى: باب التوبة، فأري رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه هذه الرؤيا؛ ليعلم العباد قوة هذه الأفعال التي ذكرها من العبيد أيام الدنيا، ماذا لكل نوع من هذه الأعمال من القوة هناك في الموقف، وفي أي موطن يعينه؛ ليعلم العبد أجناس هذه الأفعال؛ ليكثر منها كي إذا استقبله أهوال القيامة، وتارات الموقف، ناله عونها وقوتها، والله سبحانه أعلم.(6/55)
الأصل الثاني والخمسون والمئتان
1330 - نا علي بن سعيد بن مسروق الكندي، قال: نا عيسى بن يونس، عن عمر مولى غفرة، قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي بن أبي طالب، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى، تقلع كأنما يمشي في صببٍ)).(6/57)
1331 - نا سفيان بن وكيع، قال: أنا جميع بن عمر العجلي، قال: نا رجل من بني تميم من ولد أبي هالة، عن ابنٍ لأبي هالة، عن الحسن بن علي، عن خاله هند بن أبي هالة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطو إذا مشى كأنما ينحط من صببٍ)).
وفي حديث حميد عن أنس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى، كأنما يتوكأ على شيءٍ)).(6/58)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالمشي بالقلب، ومن القلب يتأدى قوة المشي إلى الساقين.
ألا ترى أن القلب إذا فزع وارتاع، وقع القائم، وذهبت قوة رجليه؟! ألا ترى أن السكران إذا غاب ذهنه وعقله عن قلبه، استرخت رجلاه، فاختلفتا، فربما يقع، فإذا ثاب إليه عقله وذهنه، قوي؟! ليعلم أن قوة جميع الأركان بالقلب، إذا كان العقل والذهن معه، فكان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشحون بكنوز المعرفة؛ كشحن السفينة إذا أثقلت، حتى غابت في الماء إلى منطقتها، وكانت كنوزه على صنفين: عن اليمين أسرار الله، وعن اليسار سمات الله.
فالرحمة: مع الأسرار، والحق: مع السمات، وحب الله له أمامه جؤجؤ السفينة، وشوق الله شراع السفينة، وفرحه به رياح الشراع.
فكان إذا مشى، مالت به الصنفان، فمرة: أثقال أسرار الله تميل به، ومرة أثقال سمات الله تميل به، فإذا استقر قائماً على المنبر، أو قاعداً في مجلس، استقرت به أثقال الحب، فإذا هبت رياح الأفراح، وهاج الشوق، قام إلى الصلاة، فقرت عينه.
فذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(6/59)
((حبب إلي الصلاة، قيل لي: خذ منها ما شئت))، ((وإن الله جعل قرة عيني في الصلاة)).
فأثقال الأسرار: مطوية عن الخلق أجمعين، إلا عن أهل خدمة الله، الذين أدرجهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعلهم قرة عينه، فسار بهم على طريقه، وجعل سقياهم من مشربه، ومرعاهم من ملك الملك بين يديه على مائدته، تلك ضيافة محمد صلى الله عليه وسلم لقرات عينه في عرش الله، وهو بدء الربوبية، وبدء التدبير، وذلك حكم الله.
ولا يعدل السمات حشوها في الأثقال العلا، والأسماء الحسنى، فتلك حكمة الخلق، فالحق موكل بهذه، والرحمة العظمى منهضة بذلك، فصار هذا القلب كسفينة موقرة من كنوز المعرفة، مشحونة بعلم الله، محفوفة بآلاء الله، تجري في بحر غيب الله، وهو بحر الذكر، الذي من شرب منه شربة، نسي نفسه، ولم يلتفت إليها إلى يوم اللقاء.(6/60)
فذهبت في شوق الله إلى عبده، ورفعت السفينة بما فيها من الكنوز، وميلانها مرة هكذا، ومرة هكذا، فالحق يمسكها عن الانقلاب من جانبه، والرحمة تمسكها عن الانقلاب من جانبها، والعدل على كوثل السفينة يستقيم بسيرها بمجدافها، ومجدافها مشيئة الله، فلولا المجداف، لكان الشراع ورياحها تطير بها، فيضرب بها صخرة حتى تنكسر، أو تغرق، أو يعدو بها إلى جزيرة يابسة، فتلقيها على الأرض لوحاً لوحاً، ولكن المجداف، والموكل به على كوثله يستقيم بصدرها.
فالثبات من المشيئة يخرج إلى العبد، فلولا الثبات من الله لعبده، لرمى أهبوب هذه الرياح بهذه السفينة، وطار بها كل مطير، حتى يصدم بها جبال البحر، فتكسر كالزجاجة قطعة قطعة، وتذهب الكنوز في ذلك الماء غرقاً.
ولكن ولي السفينة وكل بالسفينة في الأمواج، وفي السواكن من البحر مجدافاً، وهو مشيئة الله ووضع المجداف في يد العدل حتى يستقيم صدر السفينة، فتبقى مستوية، وما فيها مستقر، فالحب غالب على الأشياء التي في قلب المؤمن، فإذا قوي الحب، فصار إلى حب الله له، فناله من هناك، فلولا الثبات من الله بالمشيئة، لطار الحب به كل مطير،(6/61)
ورمى به في واد قفر، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً} {إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات}.
فانظر أي وعيد هذا؟! فإنما هاج من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحب حتى حرصه على دخولهم في الإسلام، وقبولهم ما جاء به، فأجابوه إلى الدخول في الإسلام، على شريطة أن لا يركعوا في صلاتهم، وأن يتركهم حتى يتمتعوا باللات سنةً.
فكان رسول الله يكاد يحترق من حريق الحب لله، فيحرص على دخولهم في الإسلام، وأن يوافقهم في أشياء مما يجوز على التداري منه لهم، فلما جاؤوا بهذه الكلمة، وهم ثقيف أهل الطائف، وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الكلمة وجداً شديداً، فاشتعل ناراً، ودعا بوضوء كالمبرد؛ حتى قال عمر: أحرقتم رسول الله، أحرق الله أكبادهم.
وإنما احترق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنهم طمعوا فيه أن يجيبهم إلى ذلك؛ لما رأوا من رفقه، وعطفه، ولينه، وبشاشته وسروره بمجيئهم، بعد أن كان قد حاصرهم شهراً، فهال رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعهم فيه، وخاف أن يكون قد أفرط في تعظيم مجيئهم، وسروره بهم، فدعا بماءٍ، وتوضأ، وقال عمر: أحرقتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً}،(6/62)
وذلك أنهم كانوا سألوه أن يمتعهم باللات سنة، فإن سأله المسلمون عن ذلك، قال: إن ربي أمرني أن أرخص لهم، فأنزل الله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك}، ثم قال: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً}؛ فلم ينسبه إلى أنه: هم بالركون، أو مال إليهم، وأعلمه أن الثابت هو الذي عصمه، يعلمه أن حبه هذا يهيج حرصه، حتى تجد النفس إلى القلب سبيلاً، فشاركه في المحبة؛ لأن الحب في القلب، والحرص في النفس.
فلولا الثبات، لافتتن، فأعلمه المنة عليه، وأنه لولا ذلك الثبات، لقد قربت من الفتنة، والركون إليهم فيما سألوك، فعصمتك بمشيئتي، فأعطيتك الثبات، يعلمه خطر الحب أن شأنه عظيم، وأنه يسبي القلب، فإذا لم يكن له ثبات، ذهبت قوة القلب، فطارت به؛ لغلبة الفرح الذي في الحب بمنزلة السفينة التي طارت، فصدمت به جبلاً، فتكسرت قطعاً قطعاً، وتبددت كنوزه في بحر الغيب غرقاً، فلا حق بقي، ولا رحمة.(6/63)
الأصل الثالث والخمسون والمئتان
1332 - نا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة ابن كهيل، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأشربة من خمسٍ: من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل، فما خمر، فهو خمرٌ)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
قوله: ((الأشربة من خمسٍ))؛ أي: إن هذه أشياء ينبذ عليها الماء، فيستخرج بالماء ما فيهن من القوة.(6/65)
((فإذا خمرته، فهو خمرٌ))! يعني: إذا تركته نيئاً على هيئته التي خرج، فلم يأخذ قوته بالنار، فشربته، خالطت القوة التي فيها قوة العدو الذي أعطي؛ لأنه موكل بما أعطي بهذه الأشربة، فإذا تركتها بقوتها، جاء العدو بما نبذه، فخلطها به، ثم وجد السبيل إلى المعدة بنصيبه، فإذا دخل الجوف، خمر القلب؛ أي: غطاه، وحال بين القلب والعقل؛ لأن العقل في الرأس، وشعاعه في الصدر.
فالتدبير للعقل مع القلب في الصدر؛ لأن عيني الفؤاد في الصدر، وشعاع العقل يشرق في الصدر، فبذلك الإشراق يهتدي القلب لما حسن من شأن وما قبح، وإنما نزل القرآن بتحريم الخمر.
فالخمر: اسم فيه صفة الفعل الذي يظهر منه الفساد؛ لأنه يخمر الفؤاد؛ أي: يغطيه، ويحول بينه وبين شعاع القلب، فكل شراب كانت فيه هذه الصفة، فقد لزمه اسم الخمر، ولزمه التحريم.
ولذلك قال عمر: الخمر ما خامر العقل.(6/66)
أي: غطاه.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكرٍ حرامٌ، وكل خمرٍ حرامٌ)).
ذلك لتعلم أن الخمر اسم لزم أنواع الأشربة، ولو لم يكن كذلك، لم يقل: كل، ثم بين أن علامة الخمر: كل شيء أسكر، والمسكر هو المفعل للسكر.
والسكر: سد العقل، ومنه يقال لسد النهر: سكر، ومنه قوله تعالى: {سكرت أبصارنا}؛ أي: سدت.
فهذا الماء جارٍ في النهر، فإذا ألقي في بعض طريقه كيس من التراب، أو غيره، بقي الماء إلى حيث انتهى، وصار ما أسفل من الكيس من بطن النهر خالياً. فكذلك العقل: قراره في الدماغ، ثم شعاعه جار إلى الصدر، إلى عيني الفؤاد؛ لتدبير الأمور، وتمييز الحسن والقبيح، والضرر والنفع، فإذا شرب هذا الشراب، ولم يكن أخذ قوته بالطبخ، فالعدو معه بتصببه يخلص إلى الصدر برجاسته، ونجاسته، فإذا وقعت هذه النجاسة،(6/67)
والظلمة في هذا الطريق بين عيني الفؤاد والرأس، صار سداً، فبقي الصدر مظلماً، وما وراء الصدر مما يلي الرأس، مضيئاً مشرقاً، لا ينفع بذلك عيني الفؤاد، فيبقى الصدر خالياً، كما بقي النهر، ويبقي عين الفؤاد في ظلمة ما جاء به العدو، فسمي ذلك في النهر: سَكراً، -بفتح السين-، وسمي هذا سُكراً -بضم السين-.
فمن أجاز طلاق السكران، وفرق بينه وبين المعتوه، والمجنون، والصبي؛ لأن السكر سد، والعقل وراء السد قائم، وهو حجة الله على العبد، بوجوب الأحكام عليه، والصبي لم يعط عقل الحجة، وهو تمام العقل الذي به تقوم حجة الله.
وعلامته: أنه إذا تم ذلك النور، فحرارة ذلك النور يؤدي إلى الصلب، فيخرج منه الماء الذي يوجب الغسل، إما بحلمٍ، وإما بجماعٍ.
فلذلك صيروا الحلم علامة للإدراك، وجرى الحكم عليه، لأن العقل قد تم، وقبل ذلك كان صغيراً لا يحتمل دماغه ذلك العقل.
وأما العتاهة: فهو التحير، وهو أن يهيج من المرة، فيتمادى إلى الدماغ، فيفسد العقل ويخالطه، فليس هناك عقل يقدر أن يعمل شيئاً؛ لأنه قد خالطه، وكذلك الجنون، هو من المرة، فكلما ستر العقل من داء، فذلك يخالط العقل ويفسده، وما كان من شراب، فإن ذلك سد وظلمة من رجاسة العدو، والعقل من ورائه على هيئته، لم يخالطه شيء، إلا أنه(6/68)
متمكن لانسداد الطريق.
وقد يكون هذا السد سداً رقيقاً، وسداً كثيفاً، فربما عمل بعض عقله من خلال ذلك السد، ألا ترى أنه يعقل شيئاً، ولا يعقل شيئاً؛ لأن العقل بمكانه لم يخالطه شيء، وفي حال الجنون خالط العقل ذلك الداء؛ لأنه خلص إلى الدماغ.
وأما الصبي: فإنه لم يعط تماماً، وهو يزاد قليلاً قليلاً باللطف، حتى يبلغ من السن ما يحتمل ذلك، ويجد العقل مكاناً ينفسح، فالذي فرق بين طلاق السكران، وطلاق المعتوه، والمجنون، والصبي إنما فرق لهذا.
وأما الذين لم يجيزوا طلاقه، فإنهم إنما نظروا إلى افتقاد القلب العقل، فإذا افتقد، لم يلزموه شيئاً من الأحكام؛ لأنه إنما تقوم الحجة بالعقل.(6/69)
الأصل الرابع والخمسون والمئتان
1333 - أنا أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم رحمه الله، قال: نا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً، فأمر عليهم أميراً منهم هو أصغرهم، فلم يسيروا، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم، فقال: ((يا فلان! ما لك؟ أما انطلقتم؟))، فقال: يا رسول الله! أميرنا يشتكي رجله، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعث إليه، فقال: ((باسم الله وبالله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما فيها، سبع مرارٍ))، فبرأ الرجل، فقالوا: يا رسول الله! أتؤمره علينا وهو أصغرنا؟!(6/71)
فذكر النبي صلى الله عليه وسلم قراءته للقرآن، فقال: يا رسول الله! لولا أني أخاف أن لا أقوم به.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن القرآن مثله كجرابٍ فيه مسكٌ قد ربطت فاه، فإن فتحته، فاح ريح المسك، وإن تركته، كان مسكاً موضوعاً مثل القرآن إن قرأته، وإلا، فهو في صدرك)).
1334 - نا محمد بن ميمون المكي، قال: نا شعيب ابن حرب، قال: حدثني حريز بن عثمان، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم،(6/72)
قال: ((لا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة، إن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن)).
1335 - نا قتيبة بن سعيد، قال: نا ابن لهيعة، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان القرآن في إهابٍ، ما مسته النار)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فمن حرمة القرآن: أن لا يمسه إلا طاهراً.(6/73)
ومن حرمته: أن يقرأه على طهارة.
ومن حرمته: أن يستاك، ويتخلل، ويطيب فاه؛ إذ هو طريقه.
ومن حرمته: أن يستوي له قاعداً إن كان في غير صلاة، ولا يكون متكئاً.
ومن حرمته: أن يتلبس له كما يتلبس للدخول على الأمير؛ لأنه مناجي.
ومن حرمته: أن يستقبل القبلة لقراءته.
1336 - وحدثنا الجارود، عن عمر بن هارون، عن سلمة، قال: كان أبو العالية إذا قرأ، اعتم، ولبس، وارتدى، واستقبل القبلة.
ومن حرمته: أن يتمضمض كلما تنخع.
وروي عن شعبة، عن أبي حمزة، عن ابن عباس: أنه كان يكون بين يديه تور، إذا تنخع، مضمض، ثم أخذ في الذكر، وكان كلما تنخع، مضمض.(6/74)
ومن حرمته: أنه إذا تثاءب، أن يمسك عن القراءة؛ لأنه إذا قرأ، فهو مخاطب ربه، ومناج، والتثاؤب من الشيطان.
ومن حرمته: أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم، ويقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم}، إن كان ابتداء قراءته من أول السورة، أو من حيث بلغ.
ومن حرمته: إذا أخذ في سورة، لم يشتغل بشيء حتى يفرغ منها، إلا من ضرورة.
ومن حرمته: إذا أخذ في القراءة، لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميين من غير ضرورة.
ومن حرمته: أن يخلو بقراءته حتى لا يقطع عليه أحد بكلام، فيخلطه بجوابه؛ لأنه إذا فعل ذلك، زالت عنه سلطان الاستعاذة في البدء.
ومن حرمته: أن يقرأه على تؤدة، وترسيل، وترتيل.
ومن حرمته: أن يشتغل فيه ذهنه، وفهم؛ حتى يعقل ما يخاطب.
ومن حرمته: أن يقف على آية الوعد، فيرغب إلى الله، ويسأله من فضله، وأن يقف على آية الوعيد، فيستجير بالله منه.
ومن حرمته: أن يقف على أمثاله، فيمتثلها.
ومن حرمته: أن يلتمس غرائبه وإعرابه.(6/75)
ومن حرمته: أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء؛ حتى يبرز الكلام باللفظ تماماً؛ فإن له بكل حرف عشر حسنات.
ومن حرمته إذا انتهت قراءته: أن يصدق بربه، ويشهد بالبلاغ لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويشهد على ذلك أنه حق، فيقول: صدقت ربنا، وبلغت رسلك، ونحن على ذلك من الشاهدين.
اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط لك، لم يدعو بدعوات.
ومن حرمته: إذا قرأ لا يلتقط الآي في كل سورة فيقرأه؛ فإنه روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه مر ببلال وهو يقرأ من كل سورة شيئاً، فأمره أن يقرأ على السور.
أو كما قال:
ومن حرمته: إذا وضع الصحيفة: أن لا يتركه منشوراً، وأن لا يضع فوقه شيئاً من الكتب حتى يكون أبداً عالياً لسائر الكتب، علماً كان أو غيره.
ومن حرمته: أن يضعه في حجره إذا قرأه، أو على شيء بين يديه، ولا يضعه بالأرض.
ومن حرمته: أن لا يمحوه من اللوح بالبزاق، ولكن يغسله بالماء.
ومن حرمته: إذا غسله بالماء: أن يتوقى النجاسات من المواضع، ومن المواضع التي توطأ؛ فإن لتلك الغسالة حرمة، وكان من قبلنا من السلف منهم من يستشفي بغسالته.(6/76)
ومن حرمته: أن لا يتخذ الصحيفة إذا بليت ودرست وقاية للكتب؛ فإن ذلك جفاء عظيم، ولكن يمحوها بالماء.
ومن حرمته: أن لا يخلي يوماً من أيامه من النظر في المصحف مرة.
وكان أبو موسى يقول: إني لأستحي أن لا أنظر كل يوم في عهد ربي مرة.
ومن حرمة القرآن: أن يعطي عينه حظها منه؛ فإن العين تؤدي إلى النفس، وبين النفس والصدر حجاب، والقرآن في الصدر، فإذا قرأها عن ظهر قلب، فإنما تسمع أذنه، فيؤدي إلى النفس، وإذا نظر في الخط، كانت العين والأذن قد اشتركتا في الأداء، وذلك أوفر للأداء، وكان قد أخذت العين حظها كالأذن.
1337 - نا عبد الأعلى بن واصل الأسدي، قال: نا أحمد بن عاصم بن عنبسة بن عبد الرحمن الكوفي، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا أعينكم حظها من العبادة))، قالوا: يا رسول الله! وما حظها من العبادة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((النظر(6/77)
في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه)).
1338 - نا عبد الأعلى، قال: نا أحمد بن عاصم، عن حفص بن عمر بن ميمون، عن محمد بن سعيد، عن مكحول، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن نظراً)).(6/78)
ومن حرمة القرآن: أن لا يتأوله عندما يعرض له من أمر الدنيا.(6/79)
1339 - حدثنا عمرو بن زياد الحنظلي، قال: نا هشيم بن بشير، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: كان يكره أن يتأول شيء من القرآن عندما يعرض له شيء من أمر الدنيا.
والتأويل مثل قولك للرجل إذا جاءك {جئت على قدرٍ يا موسى}، ومثل قولك: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم}، هذا عند حضور الطعام، وأشباه هذا.
ومن حرمة القرآن: أن لا يقال: سورة كذا، كقولك: سورة النحل، وسورة البقرة، وسورة النساء، ولكن يقال: السورة التي يذكر فيها كذا.
ومن حرمة القرآن: أن لا يتلى منكوساً؛ كفعل معلمي الصبيان، يلتمس أحدهم بذلك أن يرى الحذق من نفسه، والمهارة؛ فإن تلك مجانة.
ومن حرمة القرآن: أن لا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين(6/80)
المبتدعين المتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلفاً؛ فإن ذلك محدث، ألقاه إليهم الشيطان، فقبلوه منه.
ومن حرمة القرآن: أن لا يقرأه بألحان الغناء؛ كلحون أهل الفسق، ولا ترجيع النصارى، ولا نوح الرهبانية؛ فإن ذلك زيغٌ كله.
1340 - حدثنا سليمان بن أبي هلال الذهبي، قال: نا بقية بن الوليد، عن حصين بن مالك، قال: سمعت شيخاً يكنى: أبا محمد، وكان قديماً يحدث، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين؛ فإنه سيجيء من بعدي قومٌ يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء، والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم)).(6/81)
1341 - ونا محمد بن يحيى البصري، قال: نا ابن إدريس، عن الأعمش، قال: قرأ غورك اللهبي عند أنس.
ومن حرمة القرآن: أن يجلل تخطيطه إذا خطه.
1342 - حدثنا محمد بن علي الشقيقي، عن أبيه، عن عبد الله بن المبارك، قال: أنا عبد الملك بن شداد الضبعي، قال: أخبرني عبد الله بن سليمان العبدي، عن أبي حكيمة: أنه كان يكتب المصاحف بالكوفة، فمر عليٌّ -كرم الله وجهه-، فنظر إلى كتابه، فقال له: أجل قلمك، فأخذت القلم، فقططت من طرفه قطاً، ثم كتبت وعليٌّ قائم ينظر إلى كتابتي، فقال: هكذا نوره كما نوره الله.(6/82)
قال أبو عبد الله:
1343 - وأخبرني علي بن المبارك عن أبي حكمية، عن علي، بنحوه.
ومن حرمة القرآن: أن لا يجهر بعض على بعض في القراءة، فيفسد عليه حتى يبغض إليه ما يسمع، ويكون كهيئة المغالبة.
ومن حرمة القرآن: أن لا يماري، ولا يجادل فيه في القراءات، ولا يقول لصاحبه: ليس هكذا، ولعله أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة بين القراء، فيكون قد جحد في كتاب الله.
ومن حرمة القرآن: أن لا يقرأه في الأسواق، ولا في مواطن اللغط واللغو ومجمع السفهاء.
ألا ترى أن الله تعالى ذكر عباد الرحمن، وأثنى عليهم بأنهم إذا مروا باللغو مروا كراماً، هذا لمروره بنفسه، فكيف إذا مر بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو ومجمع السفهاء.
ومن حرمة القرآن: أن لا يتوسد المصحف، ولا يعتمد عليه، ولا يرمي به إلى صاحبه إن أراد أن يناوله.(6/83)
ومن حرمة القرآن: أن لا يصغر المصحف.
1344 - نا محمد بن علي الشقيقي، عن أبيه، عن عبد الله، عن ابن شقيق، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علي رضي الله عنه، قال: لا تصغر المصحف.
ومن حرمة القرآن: أن لا يخلط به ما ليس منه.
ومن حرمة القرآن: أن لا يحلى بالذهب، ولا يكتب بالذهب، فيخلط به زينة الدنيا.
1345 - نا محمد بن علي الشقيقي، عن أبيه، عن عبد الله بن المبارك، عن أبي عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يكره أن يحلى المصحف، أو يكتب بالذهب، أو يعلم عند رؤوس الآي، أو يصغر.(6/84)
1346 - نا سهل بن العباس، قال: نا عبد الرحمن المحاربي، عن إسماعيل بن عياش، عن صخر بن صدقة، عن رجل من أهل دمشق، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليهم)).
1347 - نا سهل، قال: نا أبو عوانة، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن عباس: أنه رأى مصحفاً قد زين بفضة، قال: يغرون به السارق، وزينته في جوفه.(6/85)
ومن حرمة القرآن: أن لا يكتب على الأرض، ولا على حائط، كما يفعل بهذه المساجد المحدثة.
1348 - نا محمد بن علي الشقيقي، عن أبيه، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن محمد بن الزبير، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يحدث، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب في أرض، فقال لشاب من هذيل: ما هذا؟ قال: من كتاب الله، كتبه يهودي، قال: ((لعن الله من فعل هذا، لا تضعوا كتاب الله إلا موضعه)).
قال محمد بن الزبير: رأى عمر بن عبد العزيز ابناً له يكتب القرآن على حائط، فضربه.
ومن حرمة القرآن: أنه إذا اغتسل بكتابته مستشفياً من سقم: أن لا يصبه على كناسة، وفي موضع نجاسة، ولا على موضع يوطأ، ولكن ناحية من الأرض في بقعة لا يطؤها الناس، أو يحفر حفيرة في موضع طاهر، حتى ينصب من جسده في تلك الحفيرة، ثم يكبسها، أو في نهر كبير يختلط بمائة، فيجري.
ومن حرمة القرآن: أن يفتتحه كلما ختمه، حتى لا يكون كهيئة(6/86)
المهجور، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات؛ لئلا يكون في هيئة المهجور.
1349 - نا محمد بن عمارة، قال: نا زيد بن حباب، قال: نا صالح المري، قال: نا قتادة، عن زرارة ابن أوفى العامري، عن ابن عباس، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالحال المرتحل))، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: ((صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره، ثم يضرب من أوله، كلما حل ارتحل)).(6/87)
ومن حرمة القرآن: أن لا يكتب التعاويذ منه، ثم يدخل به الخلاء، إلا أن يكون في غلاف من أدم أو فضة أو غيره، فيكون كأنه في صدرك.
ومن حرمة القرآن إذا كتبه وشربه: سمى الله على كل نفس، وعظم النية فيه؛ فإن الله يؤتيه على قدر نيته.
1350 - نا عبد الأعلى، قال: نا محمد بن الصلت، عن عمرو بن ثابت، عن محمد بن مروان، عن أبي جعفر، قال: من وجد في قلبه قسوة، فليكتب {يس} في جام بزعفران، ثم يشربه.
1351 - نا عبد الأعلى، قال: أنا عبيد الله بن(6/88)
موسى، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد، قال: لا بأس أن يكتب القرآن، ثم يسقيه المريض.
1352 - نا أبي رحمه الله، ونا عبد الأعلى، قالا: نا ابن أبي أويس، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني، عن سليمان بن مرقاع الجندي، عن هلال بن الصلت: أن أبا بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سورة يس تدعى في التوراة: المعمة))، قيل: وما المعمة؟ قال: ((تعم صاحبها خير الدنيا والآخرة، وتكابد عنه بلوى الدنيا، وتدفع عنه أهاويل الآخرة، وتدعى: الدافعة والقاضية، تدفع عن صاحبها كل سوءٍ، وتقضي له كل حاجةٍ، ومن قرأها، عدلت له عشرين حجةٍ، ومن سمعها، عدلت له ألف دينارٍ في سبيل الله، ومن كتبها، ثم شربها، أدخلت جوفه ألف دواءٍ، وألف نورٍ، وألف يقينٍ، وألف بركةٍ، وألف رحمةٍ، ونزع منه كل غلٍّ وداءٍ)).(6/89)
قال أبو عبد الله:
وحق لسورة يس أن تبلغ ذلك من صاحبها؛ فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنها قلب القرآن)).
1353 - نا قتيبة بن سعيد، وسفيان بن وكيع، وأبو طالب الهروي، عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن هارون أبي محمد، عن مقاتل بن حيان، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيءٍ قلبٌ، وقلب القرآن {يس}، ومن قرأها، فكأنما قرأ القرآن عشر مراتٍ)).(6/90)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالقلب أمير على الجسد، وكذلك يس أمير على سائر السور، موجود فيه كل شيء، وافتتحها الله -بالياء والسين-، وفيها مجمع الخير، ودل المفتتح على أنه قلب، وأنه أمير على سائر السور، مشتمل على جميع القرآن، فأما حديث قتيبة عن ابن لهيعة؛ فقد فسرناه في كتاب الصلاة.
1354 - ونا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: نا شهاب بن عباد العبدي، قال: نا [محمد بن] الحسن ابن أبي يزيد الهمداني، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: ((من شغله ذكري وقراءة القرآن عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام(6/91)
كفضل الله على جميع خلقه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذا فضل لا يحاط بكنهه، إذ كان لا يحاط بفضل الله على جميع خلقه، وإنما صار هكذا؛ لأنه كلامه، منه خرج.
1355 - نا يحيى بن الأحمر الطائي، قال: نا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، قال: أدركت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يقولون: الله الخالق، وما سواه مخلوق، غير الكلام؛ فإنه منه خرج، وإليه يعود.(6/92)
قال أبو عبد الله:
يحيى بن زياد الأحمر هو ابن أخي زياد الأحمر.
وكذلك ما روي عن طاوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رد العباد إلى الله شيئاً أحب إليه من كلامه)).
1356 - وسمعت الجارود بن معاذ يقول: سمعت وكيعاً يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: سمعنا: أن قراءة(6/93)
القرآن أفضل من الذكر.
قال أبو عبد الله:
وجاد ما غاص قائل هذا القول؛ لأن الذكر هو شيء يبتدعه العبد من تلقاء قلبه، من علمه بربه.
والقرآن هو شيء قد تكلم به الرب تعالى، فإذا تلاه العبد، فإنما يتكلم بشيء قد كان عند الرب، ولم يخلق منذ نزل إلى العباد، ولا يخلق، ولا يتدنس، وهو على طراوته وطيبه وطهارته، وله كسوة، والذكر الذي يذكره العبد مبتدعاً من عنده لا كسوة له، وأيضاً: إنه هو الذي يؤلفه، وليس تأليف الله كتأليف العبد.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً}.
ألا ترى إلى قول الوليد بن المغيرة حيث استمع إلى القرآن، تحير فيه فقال: قد عرضته على رجز الشعر، وهزجه، وقريضه، فلم يشبهه، وليس بسحر، ولا كهانة، وإن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وليس هذا من كلام البشر.
فهذا قول رجل ممتلئ من علم النفس، خال من علم القلب، فقلبه(6/94)
في غلاف، والباب مردوم.
1357 - أنا أبي رحمه الله، قال: نا أصرم بن حوشب، عن بقية بن الوليد، عن المعتمر بن أشرف، عن محمد بن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القرآن أفضل من كل شيءٍ دون الله، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، ومن وقر القرآن، فقد وقر الله، ومن لم يوقر القرآن، لم يوقر الله، وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده، القرآن شافعٌ ومشفعٌ، وماحلٌ مصدقٌ، فمن شفع له القرآن، شفع، ومن محل به القرآن، صدق، ومن جعله أمامه، قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه، ساقه إلى النار، حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله، الملبسون نور الله، المعلمون كلام الله، من والاهم، فقد والى الله، ومن عاداهم، فقد عادى الله.
يقول الله تعالى: يا حملة القرآن! استجيبوا لربكم بتوقير كتابه، يزدكم حباً، ويحببكم إلى عباده، يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا، ويدفع عن تالي القرآن شر(6/95)
الآخرة، ومن استمع آيةً من كتاب الله، كان له خيراً من ثبيرٍ ذهباً. ومن قرأ آية من كتاب الله، كان أفضل مما تحت العرش إلى التخوم، وإن في كتاب الله لسورةً تدعى: القريرة، يدعى صاحبها: الشريف يوم القيامة، تشفع لصاحبها أكثر من ربيعة ومضر، وهي سورة {يس})).(6/96)
الأصل الخامس والخمسون والمئتان
1358 - نا الحسن بن قزعة البصري، قال: أنا سفيان بن حبيب، قال: نا شعبة، عن ثوير، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (({وألزمهم كلمة التقوى}: لا إله إلا الله)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
وإنما سميت كلمة التقوى؛ لأن العبد إذا نطق بها، فإنما ينطق عن نور التوحيد الذي في قلبه، فإذا انتهى إلى الصراط، صار ذلك النور له(6/97)
وقاية، ولذلك النور بردٌ يخمد لهب النار؛ لأن ذلك النور نور الرحمة، وتلك الرحمة هي حظ المؤمن من ربه، فإذا نال العبد تلك الرحمة، أشرق القلب بنور التوحيد، وامتلأ الصدر من ذلك الإشراق، ونطق اللسان عن نور وضوء، فإذا انتهى إلى الصراط، صار ذلك الضوء والنور له وقاية.
فالنور يخمد ما تحت قدميه، والضوء يضيء له أمامه، وينفرج له الطريق عن تلك الظلمة التي على الصراط من سواد النار، فلذلك قيل: كلمة التقوى؛ لأنه بها يتقي من النار، وإنما هي في الأصل: وقوى؛ من قوله: وقى يقي وقاية، وهي وقوى، فحولت الواو تاء؛ كقوله: تراث، وإنما هو: وراث، وقوله: تكلان، وإنما هو وكلان، وهذا من قالب الافتعال، كان حقه أن يقول: اوتقى، فأدغمت الواو في التاء، فقيل: اتقى يتقي، والاسم منه: تقوى.
فكلمة لا إله إلا الله، أولها: نفي الشرك، وآخرها: تعلق بالله، فلا يقدر العبد أن يتعلق بالله، حتى يلزمه الله، وإنما يلزمه الله بعد ما يجعل له إليه سبيلاً، فإذا رحم عبداً، فتح له من قلبه الطريق إليه، حتى إذا صار القلب إلى محل التوحيد، فهناك يلزمه الله نور الكلمة، فيصدر القلب عن الله بتوحيده إلى النفس؛ حتى تطمئن النفس، وتسكن إلى ذلك، وتستقر عن التردد والجولان في طلب معبود سواه، فيستقر القلب والنفس(6/98)
جميعاً للعبودة لله، بما يأمر وينهى، وصار تعلقها جميعاً به في العبودة، وهو قوله تعالى: {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}.
فلم يصر العبد مستمسكاً بالعروة، إلا بعد تعلقه بقلبه ونفسه بالله، فهذه عقدة القلب، وطمأنينة النفس وسكونها، ثم من بعد ذلك تمضي النفس في شهواتها حلاً، وحرماً عليه، وفتنة، وهي مع ذلك بالله مطمئنة أنه معبودها، إلا أنها تخف وتطيش لأهبوب رياحها التي فيها من الشهوة على إضمارها أنها تقضي شهوتها، وتعود إلى مكانها ثانية.
وأما القلب فهو منكر لذلك، معتقد عقيدته، مستمسك بعروته، مقهور في سلطان النفس، حتى إذا أقبل الله على عبده بالرحمة، وأعطاه سلطان التوبة، فبتلك القوة يعرض عن النفس، ويرمي بتلك الشهوة في وجه النفس، ويقصد إلى الله نازعاً، وتخمد نار الشهوة في النفس؛ لما نال العبد من قدر التوبة والنور؛ لأن ذلك النور جاء من الرحمة، فإذا ورد على القلب، خمدت نار الشهوة، فخرج القلب من أسر النفس وقهرها، وصارت النفس مقهورة مزجورة، فالعروة الوثقى هي ذلك النور الذي ألزم الله قلب العبد، فاستمسك القلب به تقوى، ووجد قائمة وقراراً تلك عروة: {لا انفصام لها}؛ أي: لا انفصال لها، ولا انقطاع عن الله، فقد اتصل العبد بربه اتصالاً لا يجد العدو سبيلاً أن يدخل عليه فيما بينه(6/99)
وبين ربه في توحيده، حتى يلقي فيه الشك، فيزيغ القلب، فإذا انتهى إلى الصراط، صار ذلك النور وقايةً له من تحت قدمه، وفوقه، وحوله، وصار الضوء أمامه، يطرق له في تلك الظلمة حتى يجوزها، وصارت الرحمة معلقة ومستمسكة، فعلى قدر حظه من الرحمة تكون سرعة جوازه على الصراط، وعلى قدر حظه من الرحمة يكون من العبد الوفاء لهذه الكلمة أيام حياته.
فقد قلنا بدءاً: إن كلمة: لا إله إلا الله أولها: نفي الشرك، وآخرها: تعلق بالله، فإنما يتعلق بالله إذا استكمل التقوى، وذلك أن الشرك على ضربين: شرك عبودة، وشرك الأسباب، وكلاهما علاقة.
وإنما سمي شركاً؛ لأنه علاقة، وهو مشتق من الشرك الذي ينصب، فيتعلق به الصيد، فإنما ينصب الشرك، ويلقى هناك حبوبٌ، فينخدع الطائر له بحاجته إليها، حتى يقع فيه فيتعلق، وكذلك السمك، إنما يقع في حبالته لشهوة بطنه، وكذلك الآدمي، إنما يقع في حبالة العدو، حين يتولى دون ربه إلهاً، ويتخذه معبوداً لشهوة نفسه، يشتهي أن يعاين معبوده، فيلتذ بالعبادة له، وطلب معبوده، فلما لم يجده، نبذه العدو إلى شيء، وصوت له من جوفه، وزينه له، فالتذ بصوته، فعبده، وهو يعبد الشيطان ولا يدري، يحسب أنه يعبد ذلك الوثن. وذلك قوله لهم يوم القيامة: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌ مبينٌ}، وقال:(6/100)
{واستفزز من استطعت منهم بصوتك}.
قال له قائل: ما ذلك الصوت؟
قال: ذاك صوت أعطي العدو ليفتن به الآدميين؛ أي: يهيج الحرقة التي في جوف الآدمي.
قال قائل: وما تلك الحرقة؟
قال: تلك حرقة الفرح الذي خلق من النار، فوضع بباب النار، وحفت النار بها، وهي الشهوات، فمن تبعها من المخذولين، فقد سباه، ومن تبعها من الموحدين، لم يقدر أن يسبيه؛ لأن الله تعالى قد من عليه بالرشد، ومن من عليه بالرشد، كره إليه الكفر والفسوق والعصيان.
وقد قال في تنزيله: {أولئك هم الراشدون. فضلاً من الله ونعمةً}، وذلك قوله تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل}.
فمن أوتي الرشد، لم يلتذ بذلك الصوت، ومن وجد قلبه خالياً عن ذلك، سباه لذلك الصوت.
ألا ترى: أن الموحدين لما سمعوا صوته في المزمار والمعازف، افتتنوا به، فلولا أنه يمازج بصوته ذلك الصوت من المعازف والمزامير، ما التذوا به التذاذاً لا يصبرون عنه، وقد كره الله الكفر إلى المؤمن، ولم(6/101)
يكره إليه المعازف، والمزامير، وأمره بالمجاهدة؛ ليكون مجاهداً في ذاته إلى وقت، فإذا ابتلي، فصبر عنه، فتح له في الغيب، فنال من الأنوار ما لا تجد لذة هذه المعازف إليه سبيلاً؛ لأن الذي في جوفه من الشهوة قد مات، وإنما كان يلتذ قبل ذلك؛ لملاقاة تلك الأصوات من المعازف، والممازجة بصوت العدو، فيهتاج ما في جوفه، فيجد لذته، فلما وقع العبد في منازل القربة، بعد مجاهدته في ذات الله، ماتت شهوته من خوف الله، وانخشع قلبه من جلال الله، وعلته الهيبة، فلم يجد العدو سبيلاً إليه لما جاء به، وصارت لذة قلبه حب الله، فدقت حلاوة جميع الأشياء عنده، وصارت الأشياء مرفوضة.
وإنما يتعلق القلب بالله إذا نجا من تعلقه بالشهوات، والمشيئات، والإرادات، فهذا كله شرك الأسباب، فإذا تخلص من هذا الشرك، فلم يبق له متعلق، تعلق القلب بالله، فعندها، صدق الله في مقالته لا إله إلا الله، وبتلك المقالة يملأ الكفة من الميزان حتى يستميل بالسماوات والأرض، ومن فيها من الخلق.
1359 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا أصبغ بن الفرج المصري، قال: نا ابن وهب، عن عمرو بن(6/102)
الحارث، عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئاً أذكرك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: يا رب! كل عبادك يقول هكذا قال: قل: لا إله إلا الله، قال إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعمارهن والأرضين السبع في كفةٍ، ولا إله إلا الله في كفةٍ، لمالت بهن لا إله إلا الله)).(6/103)
الأصل السادس والخمسون والمئتان
1360 - نا صالح بن عبد الله، قال: نا عبد الأعلى ابن عبد الأعلى، عن الجريري، عن أبي السليل، عن عبد الله بن رباح الأنصاري، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبا المنذر: أية آيةٍ معك من كتاب الله أعظم؟))، قلت: الله ورسوله أعلم؟ قال: ((أبا المنذر! أية آيةٍ معك من كتاب الله أعظم؟))، قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، قال: فضرب في صدري، وقال: ((ليهنك العلم أبا المنذر، فوالذي نفس محمدٍ بيده! إن لهذه الآية لساناً وشفتين تقدس الله عند ساق(6/105)
العرش)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذه آية أنزلها الله تعالى، وجعل ثوابها لقارئها عاجلاً وآجلاً.
فأما في العاجل: فهي حارس لمن قرأها من الآفات، فإن الله تعالى خلق آدم، فأحسن خلقه، وجمل صورته، وقال في تنزيله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ}.
فمن ذا يقدر على صفة من هو في أحسن تقويم؟! وقال تعالى: {الذي خلقك فسواك فعدلك}، فمن ذا يقدر على صفة تسويته، وتعديله، وليس أحد من خلقه في مثل هذه الصفة من التقويم، والتسوية، والتعديل؟! ثم قال تعالى: {في أي صورةٍ ما شاء ركبك}.
فأخرج تقويمه، وتسويته، وتعديله من باب الرحمة، وأخرج تركيب الصورة من باب المشيئة والفردية، ثم فضله بالروح، وقربه باليقين، وجعل(6/106)
فيهما الحياة للحراك للعبودة، ثم جعل تلك البضعة الجوفاء خزانته، وهي القلب.
وجعل لها عينين تبصران الغيب، وأذنين تعيان وحيه وكلامه، وجعل لها باباً إلى الصدر، للسراج المتوقد شعاعه في الصدر، وجعل تلك البضعة معدناً لجواهر التوحيد من الحكمة البالغة، والعلوم العالية، وقبض عليها ضناً بها، فلم يطلع عليها ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، وهو مقلبها على مشيئته، ثم خلق الآيات في ذلك اليوم الذي خلقه، وذلك يوم الجمعة، ليقابل كل شيء من صنعه الجميل في آدم، وولده في الظاهر منه.
وفي الباطن آفة ذلك الشيء؛ ليكون الآدمي حامداً له وشاكراً، يرتبط ذلك الصنع الجميل على نفسه، ولنفسه بذلك الحمد والشكر، وليكون آخذاً لحرزه من الآفات بهذا الحمد والشكر، وليكون داخلاً في ستره، فجعل أول الحمد في الكلمة العليا، وهي كلمة: لا إله إلا الله.
فإذا قالها: صار له عبداً متعبداً، فإذا شهد بها، صار من شهدائه، وأوليائه، والقائمين بالقسط له، ثم يثني هذه الكلمة بالحمد لله، فعندها يصير قوله: الحمد لله مقبولاً، ولا يقبل الحمد من عبيده، حتى يكون على مقدمته قول: لا إله إلا الله.
ثم اقتضى العبد بعد ذلك تحقيق هاتين الكلمتين بالشكر، وهو أن يفي بالعبودة له بهذه الجوارح السبعة؛ فينتهي عما نهاه عنه من فعل هذه(6/107)
الجوارح السبعة، ويأتمر بما افترض عليه في جسده وماله الذي جعله قياماً بجسده.
فهذا الشكر المقتضي من العبد تحقيقٌ لما تقدم منه من قوله: الحمد لله؛ حق يقر حمده بهذا الشكر، فإذا وقره بهذا، كان ذلك الحمد تحقيقاً للكلمة العليا التي تقدمت، وهي: لا إله إلا الله، وسماها في تنزيله كلمة التقوى، تقيه آفات الدنيا والآخرة.
ثم صار للعبد في هذه المهلة غفلات وهفوات مما يلحقه من نزغات العدو، وهمزاته، وحضراته، ونفحاته، ونفثاته؛ من أجل الشهوة المركبة فيه، والهوى الهفافة فيها لأهبوب تلك الشهوات، وهما سلاح العدو، وسبيلة إلى الآدمي، بهما يصل إلى غوايته.
فإذا كان ذلك، دخل في الشكر تقصير، وفي الحمد تكدير، وفي الكلمة العليا ترخيم، وعلى العروة الوثقى توهين؛ حتى يصير العبد قلبه معلقاً بعد أن كان منتصباً، ويصير معقلاً بعد أن كان منطلقاً، ويصير منقبضاً بعد أن كان منبسطاً، ويتحرج صدره بعد أن كان منشرحاً، فعندها الآفات كائنة وعلى كل شيء من جميل صنعه فيه لازمة، فيجده أعمى بعد أن كان بصيراً، وأصم بعد أن كان سمعياً، وأبكم بعد أن كان نطوقاً، وزمناً بعد أن كان يدب على وجه الأرض، وعاجزاً بعد أن كان قابضاً وباسطاً،(6/108)
وفي الباطل كذلك أيضاً يلحق من الآفات كل شيء قابل نعمة من نعمه، فإنما لحقت العبد تلك الآفات لما دخل في التقصير في الشكر، وقال في تنزيله: {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
وقال فيما جرى في الخبر عن الله تعالى من قوله لبني إسرائيل: إني أبتدئ عبادي بنعمتي، فإن قبلوا، أتممت، وإن شكروا، زدت، وإن غيروا، بدلت، وإذا بدلت، غضبت.
ثم أعطى العباد بعد ذلك من باب الرحمة من جوده وكرمه -عطفاً عليهم- ما يحترزون به من الآفات مع هذا التقصير الذي جاؤوا به، وجعل لتلك الأشياء حرمة، فإذا نطق بها العبد، وجبت للعبد حرمة؛ لحرمة تلك الأشياء، فوقع في حراسته من تلك الآفات؛ عطفاً منه على عباده، ومكرمة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أمته، واختصاصاً لهم بالفضل الذي برز لهم على الأمم، وأنزلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تنزيله، فمن تلا تلك الآيات، ونطق بتلك الكلمات، صارت للعبد شفيعاً إلى ربه، يسأل حراسته وكلاءته حتى يقع العبد في حصن الله.
وروي لنا عن نوف البكالي: أنه قال: آية الكرسي تدعى في التوراة: ولية الله، ويدعى قارئها في ملكوت السماوات: عزيزاً.(6/109)
1361 - نا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: نا فهد ابن سلام، عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، عن نوف البكالي.
قال: وكان عبد الرحمن بن عوف إذا دخل بيته، قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع؛ كأن يلتمس بذلك أن تكون له حارساً من جوانبه الأربع، وأن ينفي عنه الشيطان من زوايا بيته.
وروي عن عمر رضي الله عنه: أنه صارع جنياً، فصرعه عمر رضي الله عنه، فقال له الجني: خل عني حتى أعلمك ما تمتنعون به منا، فخلى عنه، وسأله، فقال: إنكم تمتنعون منا بآية الكرسي.
ومما يحقق قوله:
ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أبي بن كعب شكا إليه أنه يدخل بيت التمر، فيراه ناقصاً، فحرسه، فإذا هو شيء شبيه الهر يدخل من الكوة، فوثب إليه فأخذه، فقال: خل عني ولا أعود، فخلى عنه، ثم غدا إلى(6/110)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبك، وهو معاودٌ، وإنه لكذوبٌ))، فحرسه من الليلة الثانية حتى جاء فدخل من الكوة، فأخذه، فعل ذلك ثلاث ليال، فقال الجني في الثالث: خل عني حتى أعلمك ما إذا قرأته، لم نقدر على الدخول، ولا على شيء، فقال: ما هو؟ قال: آية الكرسي، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الآن صدقك، ولا يعود))، أو كما قال.
قال أبو عبد الله:
فقد تأذى الشيطان بما تضمنت هذه الآية من السلطان، وتوقى حيث تقرأ هذه الآية؛ لأن الله تعالى قد أوجب لها سلطاناً وحراسة، وروي: أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها في دبر كل صلاة.
1362 - نا عتيق بن محمد، قال: نا ابن أبي فديك، عن أبي سليم، عن الحوشبي، عن أبان، عن أنس -رفع(6/111)
الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-، قال: ((أوحى الله تعالى إلى موسى -عليه الصلاة والسلام-: من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاةٍ، أعطيته قلوب الشاكرين، وأجر النبيين، وأعمال الصديقين، وبسطت عليه يميني بالرحمة، ولم يمنعه من أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت.
قال موسى: يا رب! من سمع بهذا لا يداوم عليه؟ قال: إني لا أعطيه من عبادي إلا نبيٌّ أو صديقٌ، أو رجلٌ أحبه، أو رجلٌ أريد قتله في سبيلي)).
1363 - نا عبد الوهاب بن فليح قال: حدثني جدي اليسع بن طلحة قال: أنا طاوس قال: قال الله تعالى: وذكر نحوه.(6/112)
1364 - نا الجارود، قال: نا زيد المروزي، رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاةٍ، كان الذي يلي قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل عن أنبياء الله ورسله حتى يستشهد)).
1365 - نا محمد بن إسحاق بن إبراهيم العامري، قال: نا زكريا بن حازم، قال: أنا الربيع بن أنس، عن أبي بن كعب، قال: قال الله تعالى: ((يا موسى! من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاةٍ، أعطيته ثواب الأنبياء)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
معناه عندنا: أنه يعطى ثواب عمل الأنبياء، فأما ثواب النبوة، فليس لأحد إلا للأنبياء.(6/113)
1366 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا مسلم بن إبراهيم، عن حرب بن ميمون، عن عبد الكريم الصفار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن موسى ابن عمران لقي جبريل -عليهما الصلاة والسلام-، فقال له: ما لمن قرأ آية الكرسي كذا وكذا مرة؟ فذكر نوعاً من الأجر لم يقو عليه موسى -عليه الصلاة والسلام-، فسأل بربه أن لا يضعفه عن ذلك، ثم أتاه جبريل مرة أخرى، فقال -عليه الصلاة والسلام-: إن ربك يقول: ((من قال في دبر كل صلاةٍ مكتوبةٍ مرةً واحدةً: اللهم إني أقدم إليك بين يدي كل نفسٍ ولمحةٍ وطرفةٍ يطرف بها أهل السماوات وأهل الأرض، وكل شيءٍ هو في علمك كائنٌ، أو قد كان، أقدم إليك بين يدي ذلك كله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} إلى قوله: {وهو العلي العظيم}؛ فإن الليل والنهار أربعةٌ وعشرون ساعةً، ليس منها ساعةٌ إلا يصعد إلي فيها سبعون ألف ألف حسنةٍ، حتى ينفخ في(6/114)
الصور، وتشتغل الملائكة)).
قال أبو عبد الله:
حصلنا حساب ليلة، فبلغ ثمان مئة ألف ألفٍ، وأربعين ألف ألفٍ، وبالنهار مثله، فذلك ألف ألف، وست مئة ألف ألفٍ، وثمانون ألف ألفٍ، هذا ليوم وليلة، فحقيق أن يشتغل الملائكة بذلك.
فأما معنى قوله: ((أقدم إليك بين يدي)) هذه الأشياء التي أجمل ذكرها؛ لعجزه عن إحصائها على الانفراد، فقال: أقدم إليك بين يدي هذه الأشياء: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، كأنه يؤدي معناه إلى أنه قديم لم يزل، كان قبل هذه الأشياء التي أجمل ذكرها، فقد كان بجميع هذه الصفات التي وصف بها نفسه في هذه الآية؛ من أنه حيٌّ به حييت الأشياء، فتحركت، فخرجت حركاتها إلى الله بما رضي وسخط، وأنه قيوم، به قامت الأشياء، فاستقرت قرارها، وسكنت، والله بريء من الحركات والسكون.(6/115)
ثم قال: {لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ}، فالسنة: النعاس، والنوم: خروج النفس من الجسد، معناه: أنه لا تأخذه هذه الأشياء، فيذهل عن إمساك خلقه، ثم قال: {له ما في السماوات وما في الأرض} يخبر عن ملكه لهذه الأشياء التي في السماوات والأرض، ثم قال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} يسأل كالمستخبر من ذا الذي؟ كقولك: من هذا الذي يفعل كذا وكذا؟ نافياً أن يفعل ذلك أحدٌ إلا بإذنه.
وقوله: {يشفع} هو: الدعاء، والمسألة، إنما قيل: يشفع؛ لأن الشفع ضم الشيء إلى الشيء حتى يصير! اثنين، ومنه قوله تعالى: {والشفع والوتر}.
فالشفع ضد الوتر، فإنما قيل في المسألة: شفع؛ لأن صاحبها وتر عن تلك الحاجة، فإذا سأل حاجته، كان هو والحاجة اثنين، قضيت أو لم تقض، والوتر الخالي عن تلك الحاجة، فإذا سألها؛ فإنما يسأل أن يضم إليه تلك الحاجة مقضية حتى يكون في وقت الصدر شيئين: السائل، وحاجته.
فيقال: شفع إليه يشفع؛ أي: رفع إليه شخصه وحاجته، وكان في البدء وتراً، فقال: لا يفعل هذا عنده أحد إلا بإذنه، وكل الأشياء لا تكون إلا بإذنه، وإنما خص الدعاء في هذه الآية؛ لأن الدعاء هو فعل قد أذن الله فيه، وندب العباد إليه، وفتح لهم الباب، وقال تعالى: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم}.(6/116)
وليس هذا في سائر الأشياء، ولم يجئنا أنه قال: اعملوا وأتقبل منكم، بل قال: {إنما يتقبل الله من المتقين}، والدعاء قد يتقبل من غير المتقين.
ألا ترى: أن أهل الجاهلية كان يدعو بعضهم على بعض، فيجاب إلى ذلك، فأعلم العباد أن المسألة والدعاء مرتبته من بين الأعمال ليس إليه سبيل أيضاً حتى يأذن فيه؛ كسائر الأشياء من الطاعات، ثم قال: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}، فما بين أيديهم: الآخرة، وما خلفهم: الدنيا، وإن قلت: ما بين أيديهم: الدنيا، وما خلفهم: الآخرة، وكلاهما يؤديان إلى أنه عالم بكليهما من أمر الدنيا والآخرة، {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}؛ أي: لا يحيط خلق السماء وخلق الأرض بشيء من علمه إلا بما شاء أن يعطيهم من ذلك العلم.
وتأويل آخر: أنهم لا يحيطون بشيء من علم البدو، وعلم صفاته إلا بمقدار ما شاء؛ يعلمهم أن العباد عجزة عن جميع علومه، فإنما يعطيهم من كل شيء من أنواع علم صفاته شيئاً بمقدار احتمالهم لذلك.
ثم قال: {وسع كرسيه السماوات والأرض}: يعلمهم أن الكرسي مظل على السماوات والأرض، قد دخلتا في جوف الكرسي، ووسع الكرسي -لسعته- السماوات والأرضين.(6/117)
وروي عن ابن عباس في قوله: {وسع كرسيه السماوات والأرض}، قال: علمه.
فإنما ذهب ابن عباس في قوله هذا إلى أن الكرسي العلم؛ لأن للرب تعالى علوماً، فعلمه بالخلائق، وعدد أنفاسهم وحركاتهم مقرونٌ بفرش الحياة للخلق، فإنما أقامه تحت الكرسي لحياة الخلق وحركاتهم بالحياة.
ولذلك قال ابن عباس في قوله: {وسع كرسيه السماوات والأرض}، قال: علمه.
فليس تأويل قول ابن عباس: أن نفس الكرسي: هو العلم، وكيف يكون الكرسي علماً، وهذا ما لا يعرف في اللغة؟.
وإنما ذكر ابن عباس عند ذكر الكرسي: العلم؛ أي: أنه وسع ذلك العلم الذي عند الكرسي السماوات والأرض، وإنما وضع الله علمه بحركات الخلق هناك؛ لأن الحركات مبتدؤها من فرش الحياة، فالعلوم كثيرة، ولكن علم الحركات هناك لما وصفنا، ثم قرن الحفظ بذلك العلم، فكما لا يؤوده علم الحركات، كذلك: {ولا يؤوده حفظهما}؛ أي: حفظ السماوات والأرض بما فيهما من أثقال الحركات وأوزانها ومقاديرها.
ثم قال: {وهو العلي العظيم}؛ أي: علا شأنه عن هذا،(6/118)
وجلت عظمته عن أن يؤوده شيء، فيعجزه، أو يفوته، أو يعزب عنه -تبارك الله رب العالمين-.
وأما قوله: ((إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش)).
معناه: أن قراءة القارئ بها، تصعد إلى الرحمن، فتقدس ملكه عند ساق العرش، وبالتقديس يسأل الحراسة لقارئها؛ لأن القدوس به تتقدس الأشياء، فإذا تقدست الأشياء، بقيت على هيئتها التي خلقها الله، وتحصنت من الآفات؛ لأن القدس ينحي الآفات، ويبعدها عن الأشياء، ويحصنها منها.
فقراءة العبد اعترافٌ بما تضمنت الآية من صفاته، وتجديد إيمان به، فإذا تجدد إيمانه، وقعت لقراءته حرمة تنتهي إلى ساق العرش، فتقدس، فإذا قل تقديسها، جعل ثواب التقديس حراسة العبد لكل ما هيأ الله له من الحال المحمود والمرغوب فيه.(6/119)
الأصل السابع والخمسون والمئتان
1367 - نا محمد بن مقاتل، قال: نا معن القزاز، قال: نا عبد الله بن المؤمل المخزومي، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زمزم لما شرب له)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
معناه: أن هذا بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، أنبطه الله له غياثاً في وقت الاضطرار، والإشراف على الموت، بعدما كان يتمايل عطشاً، فبعث الله سبحانه جبريل عليه السلام، فأدار بطرف جناحه على تلك البقعة، ثم دفعها بعقبه دفعة، فانفتقت عن الماء من عين الجنة، من قبل الركن الذي يستلمه الناس اليوم.
فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لولا أن أم إسماعيل اغترفت؛ لكان زمزم عيناً معيناً)).(6/121)
1368 - نا حميد بن الربيع اللخمي الخزاز، قال: نا محمد بن حميد المعمري، عن معمر، عن أيوب، وكثير ابن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، يزيد أحدهما على الآخر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم))، أو قال: ((لو لم تغرف الماء؛ لكان زمزم عيناً معيناً)).
قال أبو عبد الله:
المعين: الظاهر الجاري الذي تراه العيون، واشتقاق المعين من رؤية العين؛ أي: عاينته العيون.
1369 - نا عبد الجبار، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ماء زمزم لما شرب له، إن شربته لشبع، أشبعك الله، وإن شربته لظمأ، أرواك الله، وإن شربته لشفاء، شفاك الله، وزمزم هزمة جبريل عليه السلام بعقبه، وهي سقيا الله إسماعيل، وزمزم اشتقت من الهزمة.(6/122)
قال أبو عبد الله:
والهزمة: الدفعة، ومنه اشتقاق الهزيمة، وهو قوله تعالى: {فهزموهم بإذن الله}، وهو الدفع والكسر.
1370 - نا هارون بن أبي زياد البجلي، قال: نا يونس بن بكير، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الله بن زرير الغافقي، قال: سمعت علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- يحدث بحديث زمزم، قال: بينما عبد المطلب نائماً في الحجر، أتي فقيل له: احفر(6/123)
برة، قال: وما برة؟ ثم ذهب عنه، فلما كان الغد، عاد لمضجعه ذلك، فأتي فقيل له: احفر المضنونة، قال: وما مضنونة؟ ثم ذهب عنه، فلما كان الغد، فنام في مضجعه، فأتي فقيل له: احفر طيبة، فقال: وما طيبة؟ ثم ذهب عنه، فلما كان الغد، عاد لمضجعه فنام فيه، فأتي فقيل له: احفر زمزم، قال: وما زمزم؟ قال: لا تنزف، ولا ترم، ثم نعت له موضعها، فقام يحفر حيث نعت له، فقالت قريش: ما هذا يا عبد المطلب؟ قال: أمرت بحفر زمزم، فلما كشف عنه، أبصر الطوي، قالوا: يا عبد المطلب! إن لنا حقاً فيها معك، إنها بئر أبينا إسماعيل عليه السلام، قال: ما هي لكم، لقد خصصت بها دونكم، فحفرها.(6/124)
قال أبو عبد الله:
فهذه الأسماء التي ذكرت لعبد المطلب في منامه، دليلة على ما فيها.
فأما قوله: ((برة)) فمعناه: أنها تعطيك الصدق من نفسها؛ لأنها من الجنة، وكل شيء من الجنة، فإن الأشياء المشتهاة كائنة جميعها في واحدة منها، وذلك قوله تعالى: {وفيها ما تشتهيه الأنفس}، فكل شيء من الجنة موجود في واحدة منها جميع الشهوات.
ألا ترى أن العينان النضاختان المذكورتان في التنزيل، تنضخان بألوان الأشياء، فإن اشتهى ولي الله من تلك العين طعاماً، نضخت، وإن اشتهى شراباً، نضخت، وإن اشتهى دواباً ملجمة مسرجة، نضخت، وبذلك جاء الخبر.
وروي في الخبر أيضاً: أن السحابة تحدق على رؤوسهم، فتنظر ما يشتهون، فتمطر عليهم ما يشتهون.
حتى قال يزيد بن مرثد في حديثه: لئن أشهدنا الله ذلك، لأقولن لها: أمطرينا جوارياً مزينات.
1371 - نا بذلك عبد الرحيم بن حبيب.(6/125)
وإن الأشجار لتنطق، وإن الأقداح لتطير، فتغترف بمقدار شهوة الشارب، وذلك قوله تعالى: {قدروها تقديراً}؛ أي: لا يفضل عن الري، ولا ينقص منه، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهي حتى تغترف بذلك المقدار، وإن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته، ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء، فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتعبه حيثما صعد من أعالي قصوره، وذلك قوله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً}.
وروي في الخبر: أن ولي الله يشير بذلك القضيب إلى الماء، فيعدل معه حيثما عدل، فهو التفجير، وأن الثوب الذي يلبسه ولي الله يتلون عليه في اليوم الواحد سبعين لوناً، كلما خطر بباله لون، تغير لباسه، وتلون عليه بما اشتهت نفسه.
وكذلك فيما يطعم ويشرب، كلما تمنى أو خطر بباله شيء، تغير ذلك الذي في فيه يمضغه إلى طعم ما خطر بباله، فهذا كله وفاء ربنا لعبيده حيث قال لهم: {وهم في ما اشتهت أنفسهم}؛ لأنهم ردوا(6/126)
شهوات النفس في الدنيا من المعاصي في نفوسهم، فشكر الله لهم في دارهي، فكلما تناولوا شهوة من طعام، أو شراب، أو لباس، أو مركب، أو مسكن، أو شيء من الأشياء، فخطر ببالهم في ذلك الشيء شهوة غيرها، تحول ذلك الشيء إلى ما اشتهت نفسه؛ لئلا يتنغص عليه عيشه، ولا يتكدر عليه عطاء ربه؛ لأن الله تعالى وعده في تنزيله: أن [في] الجنة {عطاءً غير مجذوذٍ}؛ أي: غير مقطوع، فلو كان إذا خطر بباله شيء من الشهوات، احتيج إلى مهلة حتى ينالها، لم يكن في ذلك وفاء للوعد، فجعل الله الجنة ونعيمها له هنيئة، كلما خطر بباله شهوة في شيء، تحولت له تلك في أسرع من طرفة عين إلى الشهوة الأخرى؛ وفاء لما وعد؛ ليكون عطاء غير مجذوذ دائماً أبداً.
ألا ترى أنه يأتي زوجته وهي بكر، فإذا قضى منها شهوته، عادت بكراً على حالها؟.
فهكذا شأن الجنة، فإذا خرجت من الجنة إلى الدنيا تلك الأشياء، تغيرت أحوالها؛ لأن الجنة محرمة على الآدميين حتى يذوقوا الموت.
ألا ترى أن الحجر الأسود والركن كانت تضيء كالشمس، فاسودت لأدناس الآدميين، وسترت زينتها عنهم، فهي في الباطن على هيئتها، ولكنها مستورة، ولو دقت، فصارت رضيضاً، لم تجده إلا أسود في رأي العين، وهي في الباطن على هيئتها.(6/127)
1372 - نا سلمة بن شبيب، قال: نا إبراهيم بن الحكم ابن أبان العدني، قال: نا أبي، عن وهب بن منبه، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لولا ما ضيع من الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها، وأيدي الظلمة والأثمة، لاستشفي به من كل عاهةٍ، ولألفاه اليوم كهيئته يوم خلقه الله، وإنما غيره الله بالسواد؛ لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، وإنها لياقوتةٌ بيضاء من ياقوت الجنة، وضعه الله لآدم حين أنزله في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة، والأرض يومئذٍ طاهرةٌ، لم يعمل فيها شيءٌ من المعاصي، وليس لها أهلٌ ينجسونها، ووضع لها صفاً من الملائكة على أطراف الحرم يحرسونه من جان الأرض، وسكانها يومئذٍ الجن، وليس ينبغي لهم أن ينظروا إليه؛ لأنه شيءٌ من الجنة، ومن نظر إلى الجنة، دخلها وهم على أطراف الحرم حيث أعلامه اليوم يحدقون(6/128)
به من كل جانبٍ، فلذلك حرم، وسمي الحرم)).
1373 - نا سلمة، قال: نا محمد بن يحيى، عن ابن أبي إلياس، عن أبيه، عن وهب بن منبه، قال: كان الركن كرسياً لآدم يجلس عليه.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالركن: حجر من الفردوس، بعثه الله يوم الميثاق، فوضعه بينه وبين العباد؛ ليبايعوه على ذلك الحجر، فيمسحونه بأيديهم بيعة لله، ولذلك أمر باستلامه.
1374 - نا الحسين بن جنيد الدامغاني، قال: نا أبو أسامة، عن سفيان بن سعيد، عن أبي الوليد القرشي،(6/129)
قال: سمعت فاطمة بنت الحسين تقول: لما أخذ الله ميثاق العباد، جعله في الحجر، فمن الوفاء لله بالعهد استلام الحجر.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فكذلك ماء زمزم، هي بهيئتها على ما في الجنة من حلاوتها ولذتها، ولونها، إلا أنها ممتنعة أن يوجد الشاربون تلك الهيئة التي فيها من الجنة، وأقرت فيها خلة واحدة، وهي الغياث؛ لأنها أخرجت من الجنة؛ لإغاثة ولد خليل الله -عليهما الصلاة والسلام-؛ لأن إبراهيم لما ولى، نادته هاجر: يا إبراهيم! إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله، فكان خليل الله صادقاً في قوله، نطق عن مجادة في الباطن، فخرج القول منه مجيداً، وهو فيه صادق، فوفى الله له لصدقه، ومكن لقوله بين يديه على مجادته، وأغاث ولده في وقت الاضطرار، ووفى الوكالة، فبقي ذلك الغياث لمن بعده ممن نواه وشربه، ولم يرتجع فيه ذنباً، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زمزم لما شرب له)).(6/130)
1375 - نا الجارود بن معاذ، قال: نا النضر بن شميل، قال: نا يونس بن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كانت سارة بنت ملك، فتزوجها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فلما كان من أمر الجبار ما كان، وحال الله بينه وبينها، فأعطاها هاجر، فوهبتها لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- على أن لا تسوءني فيها، فولدت له إسماعيل، وولدت سارة بعد ذلك إسحاق عليه السلام، فلما أيفع الغلامان، وتحركا، أمرهما إبراهيم، فاستبقا، وهو جالس بفناء بيته، فسبقه إسماعيل، فكان أشد الغلامين، فأخذه إبراهيم فاحتضنه، ثم جاء إسحاق فأخذه، فوضعه على فخذه، فخرجت سارة غيرى، فقالت: احتضنت ابن الأمة، وأخذت ابني فأجلسته على فخذك، وقد شرطتني أن لا تسوءني فيها؟ قال: أجل، قالت: فاعزلهما عني، فانطلق بهما إلى وادي مكة، ومعها قربة لها شنة فيها ماء، ونفد الماء، وبلغ الغلام العطش، فقالت له(6/131)
أمه: يا أشمويل! اذهب هاهنا في أعلى الوادي؛ فإني لا أطيق أن أراك إذا مت، فأمرته، فانطلق الغلام ينحب، وجاء جبريل -عليه الصلاة والسلام- فقال: من أنت؟ قالت: أنا جارية إبراهيم، قال لها: فمن معك هاهنا؟ قالت: معي ابنه إسماعيل، قال: أين هو؟ قالت بلغه الجهد، فلم أستطع أن أراه إذا مات، فأمرته فذهب هاهنا في أعلى الوادي، أو أسفله، قال لها: إلى من وكلكما؟ قالت: قلت له حين ولى: إلى من تكلنا؟ قال: أكلكما إلى الله، قال: جبريل: قد وكلكما إلى كهف، ادعيه، ثم قال لزمزم، فنقبها، ثم قالت بالسريانية: يا أشمويل! ثلاث مرات، فلما سمع الغلام الصوت، أقبل يجد؛ أي: يتمايل من العطش، وقامت هي بقربتها تنضخ عليها الماء.
فقال لها: اقربيها؛ فإنها رياء، ولو قضي أنك لم تكوني وضعت يدك فيها، لجرت، فجاء إبراهيم -عليه(6/132)
الصلاة والسلام-، قالت: جاءنا خير الناس، قال إبراهيم: ذاك جبريل، ثم إن إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- تزوج، فقال إبراهيم لسارة: أتأذنين لي فآتي إسماعيل فأزوره؟ فقالت: نعم، على أن لا تنزل، فانطلق حتى أتى منزله، فسلم واستأنس، قال: كيف أنتم؟ فتجهمت امرأته، ولم تقتف به -قال النضر: أي: لم تكرمه، ولم تلطف به-، فقال لها: أين إسماعيل؟ قالت: هو في غنمه، قال: أقرئيه السلام إذا جاء، وقولي له: غير أسكفة بابك؛ فإني لا أرضاها لك، فلما جاء إسماعيل، وجد الريح، فقال: قد جاءكم خير، قالت: جاءنا شيخ هاهنا، قال: فما قال لكم؟ قالت: سألنا عنك، ثم قال: أقرئيه السلام، وقولي له: فليحول أسكفة بابه؛ فإني لا أرضاها له، قال: أنت هي، فخلى سبيلها، وتزوج بعد ذلك امرأة، فقال إبراهيم لسارة: أتأذنين لي في أن آتي إسماعيل فأسلم عليه؟ قالت: نعم، على أن لا تنزل، فانطلق حتى أتى منزله، وسلم واستأنس، قال: كيف أنتم؟ فقالت: بخير، وبشت به، ورحبت به، قال: فأين إسماعيل؟ قالت: هو في غنمه، فأخرجت له غسلاً،(6/133)
وقربت الحجر، فوضع قدمه عليه، فأخذت أحد جانبي رأسه فغسلته، ثم حولته من الجانب الآخر، فوضع قدمه عليه، فغسلت رأسه، ودهنته.
فقال لها: إذا جاء إسماعيل، فقولي له: قد جاء والدك هاهنا، وأمرك بأسكفة بابك خيراً، فلما جاء، وجد الريح، قال: قد جاءكم الخير اليوم؟ قالت: نعم، قد جاءنا والدك، فسألنا، فأخبرناه أنك في الغنم، فقال: أقرئيه السلام، وقولي له: أمرك بأسفكة بابك خيراً؛ فإني قد رضيتها لك، قال: فأنت أسكفة بابي، ثم أنزلت السكينة كأنها قطعة ضبابة فيها رأس يتكلم.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زمزم لما شربت له)) جار للعباد على مقاصدهم، وصدقهم في تلك المقاصد، وتلك النيات؛ لأن العبد الموحد إذا نابه أمر، فمن شأنه المفزع إلى ربه، فإذا فزع إليه، استغاث به، فوجد شيئاً قد هيأه الله له على مقدمة نوائب العباد غياثاً أنبطه لولد خليله عليه السلام، فالغياث أمر جامع يعكس ويطرد في جميع الأمور، فإذا ناب العبد نائبة، كائناً ما كان، فنواه وقصده، وجد ذلك الغوث فيه موجوداً، وإنما يناله العبد على قدر نيته.(6/134)
1376 - نا قتيبة بن سعيد، قال: نا هشيم بن أبي ساسان الصيرفي، قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إنما الرقى والدعاء بالنية.
قال أبو عبد الله:
فالنية تبلغ بالعبد عناصر الأشياء، والنيات على قدر طهارة القلوب، وسعيها إلى ربها إلى تلك المراتب.
وتفسير النية: النهوض، يقال في اللغة: ناء ينوء؛ أي: نهض ينهض، فالنية نهوض القلب بعقله ومعرفته إلى الله تعالى، فعلى قدر العقل والمعرفة يقدر القلب على السعي والطيران إلى الله تعالى.
فالشارب لزمزم: إن شرب لشبع، أشبعه الله، وإن شربه لري، أرواه، وإن شربه لشفاء، شفاه الله، وإن شربه لسوء خلق، حسن خلقه، وإن شربه لغنى النفس، أغناها الله، وإن شربه لرياضة نفس، كفاه الله، وإن شربه لطهارة قلب، طهره الله، وإن شربه لانفلاق ظلمات الصدر، فلقها الله، وإن شربه لحاجة، قضاه الله، وإن شربه لأمر نابه، كفاه الله، وإن شربه لكربة، كشفها الله، وإن شربه لنصرة، نصره الله، وإن شربه لقوة، قواه الله،(6/135)
وإن شربه لرفعة في الدين، رفعه الله، وبأية نية شربها من أبواب الخير والعافية والصلاح، وفى الله له بذلك؛ لأنه استغاث بما أظهره الله من جنته على جديد أرضه غياثاً.
1377 - حدثني أبي رحمه الله، قال: أخذني البول في ليلة ظلماء في الطواف حتى شغلني، وكرهت الخروج مخافة أن أطأ عذرات الناس، وذلك في أيام الموسم، فذكرت هذا الحديث: ((إن ماء زمزم لما شرب له)) فملت إليها، فشربت منها شربة تضلعت منها، فانقطع عني البول إلى الصباح.
فأما قوله: ((مضنونة)): فإنما سميت مضنونة؛ لأنه قد ضن بها عمن قبلهم من الآدميين، فجاد الله بها على أبي العرب إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-؛ لتبقى مكرمتها في ولده محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أمته.
وأما قوله: ((طيبة)): فإنما طابت بدار الله التي خلقها بيده، ثم طابت بجود الله، وعطفه على ولد خليله عليهما السلام.(6/136)
الأصل الثامن والخمسون والمئتان
1378 - نا محمد بن أبان مستملي وكيع، قال: أنا أبو همام الأهوازي، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي زهير الأنماري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه، قال: ((اللهم اغفر لي ذنبي، وأخسئ شيطاني، وفك رهاني، وثقل ميزان، واجعلني في الندي الأعلى)).(6/137)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
قوله: ((اغفر لي ذنبي))؛ فقد أمر بالاستغفار، فقال في تنزيله: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}.
فالمغفرة: درجات، بعضها أعلى من بعض، فمغفرة الرسل -عليهم السلام-: أعلى من مغفرة من دونهم، ومغفرة محمد صلى الله عليه وسلم أعلاها.
ألا ترى أنه جاء عنه عليه السلام: أنه قال: ((إن لي دعوةً أخرتها إلى يوم القيامة، وإن إبراهيم عليه السلام ليرغب إلي في ذلك اليوم)).
وقال: ((إذا زفرت النار على أهل الموقف، قالت الأنبياء والرسل: نفسي نفسي، وقال نبينا عليه السلام: أمتي أمتي)).
فهذا لعلو درجته في المغفرة، فإنه أمره أن يستغفر، فلم يزل ذلك دأبه بعد ما بشره الله في سورة الفتح بقوله: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}، فنزلت عليه في آخر أمره: {إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فسبح بحمد ربك واستغفره(6/138)
إنه كان تواباً}، فإنما نزلت هذه بعد فتح مكة، والبشرى بالمغفرة في سورة: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} قبل ذلك بنحو من سنتين، وذلك عند فتح خيبر، فلم يزل ذلك دأبه، ولم يفارق الاستغفار إلى أن قبضه الله، ومن يحيط بالمغفرة إلا الله، فكلما استكثر العبد من سؤالها، كان منها أوفر حظاً.
وروي في الخبر المأثور: أن الاستغفار يخرج يوم القيامة ينادي: يا رب! حقي حقي، فيقال: خذ بحقك، فيحتفل أهله، ويجتحفهم.
وروي أن داود -عليه الصلاة والسلام- خرج يستسقي، فلما انتهى إلى البراز قال: اللهم اغفر لنا، ورجع، فما تتام آخر الناس حتى رجع أولهم، فكأنهم استقلوا ذلك منه، فأوحى الله إليه أن قل لقومك: إن من أغفر له مغفرة واحدة، أصلح له بها أمر دنياه وآخرته.
قوله عليه السلام: ((أخسئ شيطاني))؛ فإنه ليس من آدمي إلا وكل به شيطان يوسوس إليه، وهو الوسواس الخناس، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن الله قد(6/139)
أعانني عليه فأسلم)).
ثم تأول المتأولون هذه الكلمة من قوله: فأسلم على معنيين، فأحد المعنيين ذهب به إلى السلامة؛ أي: أسلم من كيده ودواهيه؛ لأنه أمر بالتعوذ منه، فلم يكن ليأمره بالتعوذ فيفعل، إلا وقد سلم منه بما أمره من التعوذ، ونفروا من أن يحملوا معناه على الإسلام، وليس ذلك على ما ذهبوا؛ لأن قوله: أسلم -مفتوح الميم- معناه؛ أي: انقاد، وأعطى بيده سلماً؛ كقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}؛ أي: أعطينا بأيدينا سلماً؛ كقوله تعالى: {وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم}؛ أي: أعطوا بأيديهم، وألقوا أنفسهم إلى الله تسليماً.
فقوله: أخسئ شيطاني؛ أي: إنك إذا أخسأته، خسئ، فلم يبق معه شر ولا كيد، والخسء في لغة العرب: الفرد، والزكا: الزوج، وكل شيء انضم إليه شيء، فزاوجه، فهو زكا، ومنه سميت الزكاة في المال زكاة، وفي كل شيء زاد وربا من الزرع والثمار ريعه، قيل: زكا الزرع، وزكت الثمرة، ومن ذلك قوله تعالى: {ذلكم أزكى لكم وأطهر}، وقوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً}، ومنه قوله تعالى: {وويلٌ للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة}؛ أي: لا يؤتون كلمة لا إله إلا الله، فيحتشون من نورها، فإذا لم يقولوا، فهم خسءٌ؛ أي: فرد خال عن النور والخير، فيقول الله لهم في النار: {اخسئوا(6/140)
فيها ولا تكلمون}؛ أي: كونوا في خلاء مني، ومن رحمتي ونوري وجودي وعطفي، فعندها ينقطع الكلام، والنداء، ويطبق عليهم، فلا يبقى لهم من الرب شيء، فذاك الحال أخلى خلاء.
فقوله عليه السلام: ((أخسئ شيطاني))؛ أي: أخله من جميع الشر الذي فيه؛ لأنه خلق من نار، حتى لا يبقى له قوة أن يكيدني بشيء، وإن دق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فك رهاني))؛ فإن النفوس حظها من الدنيا النعمة: نعمة البصر، ونعمة السمع، ونعمة اللسان، ونعمة سائر الجوارح، وسائر النعم التي تربى بها الجوارح، وحظها من ربها الحياة، والعلم والذهن، والمعرفة والعقل، والحفظ والفهم، والفطنة والقوة، ومن يحصي نعم النفس وقوامها؟! ودوامها في الشكر، فالنفوس مرتهنة بالنعم، فإنما يفكها الشكر، فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن العباد لا يبلغون كنه الشكر، ففزع إلى ربه أن يتولى فك رهانه بجوده وفضله، وقال تعالى في تنزيله: {كل امرئٍ بما كسب رهينٌ}، وقال تعالى: {كل نفسٍ بما كسبت رهينةٌ. إلا أصحاب اليمين}.
فأصحاب اليمين: هم الموحدون، وحدوا الله بقلوبهم، ثم أبرزوا ذلك التوحيد على ألسنتهم، فنطقوا بلا إله إلا الله، فاقتضى الله عباده بالوفاء بصدقها، وصدقها مستور عن الخلق، وعند الله ظاهر، فاقتضى حفظ الجوارح السبع عن المناهي، وأداء الفرائض؛ ليبرز صدق الصادق، وكذب الكاذب.(6/141)
وكل الموحدين قد أخذوا بسهم من سهام يمن اليمين كل على قدر صدقه يتوفر من ذلك اليمين، فأول أصحاب اليمين: الرسل -عليهم السلام-، وآخرهم: من أتى بكلمة التوحيد نطقاً بها، ليس معه وراء ذلك شيء، وأصحاب الدرجات فيما بين ذلك.
فكل من أتى الله مع هذه الكلمة بشيء من أعمال البر؛ من حفظ جارحة، وأداء فريضة واحدة، فقد أتى بسهم من الشكر، وإن دق، فعلى قدر ذلك من الشكر، فك رهانه، وبقي سائر السهام عليه غرماً، ولذلك قال تعالى: {إن عذابها كان غراماً}.
فأوفرهم حظاً من حفظ الحدود، وأداء الفرائض، أوفرهم حظاً من الشكر، وهذا شكرهم، فينجو من الغرم بقدر ذلك، ويفك من رهنه بقدر ما نجا من الغرم، حتى ينتهي ما وصفنا إلى درجات الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، فهم أحفظ الخلق للجوارح، وأتقاهم عليها، وأداء الفرائض-، وهم -مع هذا- مقصرون عند أنفسهم في الشكر، قال الله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره}؛ أي: لن يبلغ أحد أن يقضي أمره على كنهه، وكيف يقدر آدمي على أن يخرج من لحمه ودمه الذي أصله من التراب، ومعه شهوات نفسه، ووسواسه ما يبلغ كنه أمره الذي هو أهله؟! هيهات هيهات! فالآدميون عجزوا عن هذا، فلذلك فزع إلى ربه، فقال: ((فك رهاني)) حتى يكون الذي عجز عنه الآدميون هو الذي يفكه بجوده، فينجو من رهان الشكر.(6/142)
ألا ترى إلى قول موسى صلى الله عليه وسلم: ((يا رب! أسبغت علي النعم السوابغ، فشكرتك عليها، فكيف لي شكر شكرك؟ قال: يا موسى! تعلمت العلم الذي لا يفوقه علمٌ، حسبك أن تعلم أن ذلك من عندي)).
فهذا موضع العجز، فإذا بلغ العبد موضع العجز، فزع إلى الله حتى يجود عليه بما بقي عليه من الشكر، فيفكه من رهنه.
قوله عليه السلام: ((ثقل ميزاني)): فالرسل في ستر الله الأعظم، فإذا نصبت الموازين، امتلأت الكفتان جميعاً من نور أعمال النبوة، وأفعال الرسالة، والصدق لسان موازينهم، فأصدق الخلق الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في أقوالهم وأفعالهم.
فأهل الموقف في أشد الأهوال في ذلك الموقف؛ لأن الرحمة لم تخرج بعد من الحجب إلى أهل الموقف، والرب تعالى غضبان محتجب عن خلقه، لشرك المشركين، وعبادة الأوثان، وفرية المفترين على الله، فذلك وقت الأهوال، فإذا نصبت موازين الرسل، وطارت أنوار أعمالهم في النبوة، وأفعالهم في الرسالة من الميزان إلى الله، سكن الغضب، ورضي عنهم الرب، وخرجت الرحمة من الحجب إلى أهل التوحيد، فأحاطت بهم، فصار الموحدون في سرادقها، فعندها توزن أعمال العباد، فإنما قال: ثقل ميزاني؛ أي: وفر علي أنوار النبوة والرسالة حتى أكون أعظمهم(6/143)
نوراً، وأوفاهم وفاء، وأصدقهم صدقاً، حتى يكون عملي هو الذي يسكن غضبك على خلقك، وتخرج الرحمة إلى الموحدين بما وافى به ذلك المقام.
وأما قوله عليه السلام: ((واجعلني في الندي الأعلى))؛ فإن الأنبياء في الموقف، لهم مراتب على نحو مقاومهم بقلوبهم في دار الدنيا، فمن كان أقرب منزلة بقلبه في دار الدنيا، فهو أقرب منه مرتبة هناك، فالندي هم: السابقون المقربون الذين يبدأ بهم، فسأل أن يكون في أعلاهم مرتبة أقربهم إليه، فكان هذا دعاؤه حتى بشر بالمقام المحمود، وهو أقرب المقام، ولذلك قال مجاهد في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}، قال: يجلسه على عرشه.
وروي لنا: أنه ينشئ ناشئة من العرش كهيئة الشجنة، فيحمله من الموقف إلى العرش، حتى ينظر إليه الخلق في تلك الوقفة، فيتلهفون على ما فاتهم من أداء حقه إذا رأوا له تلك المنزلة عند ربه.
1379 - نا أبي رحمه الله، قال: نا محمد بن الحسن، قال: نا عبد الله بن المبارك، قال: أنا معمر، عمن سمع محمد بن(6/144)
عبد الله بن أبي يعقوب يحدث عن بشر بن شغاف، قال: سمعت عبد الله بن سلام يقول: أكرم خليقة الله على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، قلت: لا يكون ملكاً مقرباً، فنظر وقال: تدرون كيف خلق الملائكة؟ إنما خلق الملائكة كخلق السماء والأرض، وكخلق الجبال والسحاب، وإن أكرم خليقة الله على الله تعالى أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يوم القيامة، وضرب الجسر على جهنم، نادى مناد: أين محمد وأمته؟ فيقول نبي الله، وأمته تتبعه، فيمضي النبي والصالحون حتى ينتهي إلى ربه، فيوضع له كرسي عن يمين الرحمن -تعالى وتقدس-.(6/145)
الأصل التاسع والخمسون والمئتان
1380 - نا أبي رحمه الله، قال: نا إسماعيل بن صبيح اليشكري، قال: نا عنبسة بن سعيد أخو أبي الربيع السمان، عن مهاجر [بن] أبي المنيب الهذلي، عن أبي المليح، عن أبيه: أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أدخل في صلاتي، فما أدري أعلى شفع أنفتل أم على وتر؛ من وسوسة أجدها في صدري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وجدت ذلك، فاطعن إصبعك هذه -يعني: السبابة- في فخذك اليسرى، وقل: بسم الله؛ فإنها سكين الشيطان، أو مدية الشيطان)).(6/147)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
معناه عندنا: أن هذه الطعنة بالسبابة مدية الشيطان إذا كان مبتدؤها باسم الله، والمدية: السكين الذي له وجهان: كالخنجر في المقدار، إلا أنها ذات وجهين، فباسم الله تخلص تلك الطعنة بالسبابة إلى الشيطان، فينال منه فخذه وساقه، حتى يصير مقعداً زمناً، وذلك أن الوسواس جاءنا صفته في الحديث كيف هو من الآدمي.
1381 - نا صالح بن عبد الله، قال: نا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريري، عن عثمان بن أبي العاص: أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوسواس، فقال: ((ذاك شيطانٌ يقال له: خنزب، فإذا أحسست بشيءٍ منه، فاتفل عن شمالك ثلاثاً، وتعوذ بالله منه)).(6/148)
1382 - نا صالح، عن عمرو بن محمد العنقزي، عن أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: سألت الله أن يريني الشيطان ومكانه من ابن آدم، فرأيته يداه في يديه، ورجلاه في رجليه متشاعبة في جسده، غير أن له خطماً كخطم الكلب، فإذا ذكر الله، خنس ونكص، وإذا سكت عن ذكر الله، أخذ بقلبه.
فعلى نحو ما وصف أبو ثعلبة أنه متشاعب في الجسد؛ أي: في كل عضو منه شعبة منه.
وروي عن عبد الرحمن بن الأسود أو غيره من التابعين: أنه قال بعد ما كبر سنه وضعف: ما أمنت الزنا، وما يؤمنني أن يدخل الشيطان ذكري، فيوتده؟(6/149)
فهذا القول ينبئك أنه يتشعب في الجسد.
1383 - نا الجارود، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن خيثمة: أنه قال: يقول الشيطان: كيف ينجو مني ابن آدم، وأنا في صدره، فإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه؟!
فهذا تحقيق ذلك أيضاً، وإنما يطير إلى الرأس في وقت الغضب؛ لأن العقل في الرأس، وإشراقه من الرأس إلى الصدر؛ لينظر عين الفؤاد بنور العقل، فيميز بين الأمور، ويدبر، فإذا رأى الشيطان الغضب قد هاج من الآدمي، طار إلى رأسه، حتى يحجب العقل عن أن يشرق في الصدر.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)).(6/150)
فمجرى الدم: هي العروق المشتملة على جميع الجسد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي المليح؛ حيث أمره أن يطعن بالسبابة في فخذه اليسرى، يدل على تحقيق هذه الأحاديث الذي ذكرناها: أنه متشاعب في الجسد، ثم سلطانه ومقعده في الصدر في وقت الوسوسة.
وروي أبو الأشهب، عن يحيى بن أبي كثير، قال: الوسواس له باب في صدر ابن آدم يوسوس إليه منه.
1384 - نا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: نا عصام ابن المثنى بن وائل الحمصي، قال: حدثني أبي، عن وهب ابن منبه: أن إبليس وضع ابناً له بين يدي حواء، وقال: اكفليه، فجاء آدم فقال: ما هذا يا حواء؟ قالت: جاء عدونا بهذا، وقال لي: اكفليه، فقال: ألم أقل لك: لا تطيعيه في شيء؛ هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية، وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع، وعلق كل ربع على شجرة؛ غيظاً له، فجاء إبليس وقال: يا حواء! أين ابني؟ فأخبرته بما صنع آدم، فقال: يا خناس! فحيي، فأجابه، فجاء به إلى حواء، قال اكفليه، فجاء آدم، فحرقه بالنار، وذر رماده(6/151)
في البحر، فجاء إبليس فقال: يا حواء! أين ابني؟ فأخبرته بفعل آدم إياه، فذهب إلى البحر فقال: يا خناس! فحيي، فأجابه، فجاء به إلى حواء الثالثة، فقال: اكفليه، فنظر إليه آدم، فذبحه، وشواه، وأكلاه جميعاً، فجاء إبليس فسألها، فأخبرته حواء فقال: يا خناس! فحيي، فأجابه من جوف آدم وحواء، فقال إبليس: هذا الذي أردت، وهذا مسكنك في صدور ولد آدم.
وهو ملتقم قلب ابن آدم ما دام غافلاً يوسوس، فإذا ذكر الله، لفظ قلبه، وانخنس.
1385 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا عبد الله ابن عبد الوهاب الحجبي، عن عدي بن أبي عمارة، قال: حدثني زياد النميري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان ملتقمٌ قلب ابن آدم، فإذا(6/152)
ذكر الله، خنس عنه، وإذا نسي الله، التقم قلبه)).
وأما التفل الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفل عن يساره، فإن التفلة واصلة إلى وجه الشيطان، فتصير قروحاً، وكذلك رمي الجمار إنما يرمي رأس الشيطان ومطلعه حيث طلع لآدم، ثم لخليل الله -عليهما الصلاة والسلام-، فبقيت سنة؛ لأن تلك الطلعة منه كائنة لكل مسلم حاج، فإذا رمى الحاج، شدخ رأسه وطلعته حتى يخنس، وإنما أمر بسبع حصيات؛ لأنه أطلع رأسه من سبع أرضين، ونفسه موثوقة في سجين، وذلك سجنه تحت الأرض السابعة، فبكل حصاة يخنس في أرض حتى تبلغ خنساته بالسابعة في الأرض السابعة إلى مستقره، فكذلك التفلة، مع تعوذك بالله، ترد الذي جاء به من النزغة والوسوسة كالنار إلى وجهه، فتحرق وتصير قروحاً.
وروي عن الربيع بن خثيم: أنه قص عليه رؤيا منكرة، وذلك أنه أتاه آت فقال: إني رأيت في المنام كأن قائلاً يقول: أخبر الربيع أنه من أهل النار، فتفل عن يساره ثلاثاً، وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فرأى ذلك الرجل في منامه في الليلة الثانية كأن رجلاً جاء بكلب، فأقامه بين يديه، وفي عنقه حبل، وعلى جبهته قروح، فقال: هذا ذلك الشيطان الذي أراك في منامك رؤيا الربيع، وهذه القروح تلك التفلات الثلاث التي كانت منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/153)
الأصل الستون والمئتان
1386 - نا عيسى بن أحمد العسقلاني، قال: نا شبابة، قال: نا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحمٍ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)).(6/155)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فكمال المرء سبعة: في العلم، والحق، والعدل، والصواب، والصدق، والأدب، واللبق، وذلك أنه إذا لم يعلم، فهو جاهل بأمر الله، فإذا علم أمر الله، احتاج إلى أن يكون محقاً، فيعمل بذلك العلم، فإذا عمل بذلك، احتاج إلى إصابة الصواب في ذلك العمل؛ لأنه قد يعمل بذلك العلم وهو حق، ولكنه في غير وقته، فلم يصب الصواب؛ بمنزلة رجل صلى ركعتين في وقت طلوع الشمس، فالصلاة حق، ولكنه لم يصب وقتها فيكون صواباً، وبمنزلة رجل صلى وأمه تدعوه، فيترك إجابتها، وبمنزلة رجل غزا بغير إذن أبويه، فالفعل حق، ولكنه لم يصب الصواب، فإذا عمل وأصاب الصواب، احتاج إلى العدل قبل ذلك، فيكون يريد به وجه الله في ذلك العمل، فإذا عدل، احتاج إلى الصدق، بأن لا يلتفت إلى نفسه فيوجب لها ثواباً، أو يقتضيه ثواباً، فتحتجب عنه المنة، فإذا احتجبت المنة، صار معجباً، متعظماً في نفسه، فإذا أقام الصدق في ذلك، وهو صدق العبودة احتاج إلى الأدب، وهو أن يعمله كأن الله يراه، فهو يعمل على يقظة أن يرى الله تعلقه بما يرى، حتى يعمل بوقار وسكينة، وهيبة ووفارة ذلك العمل؛ فإن الأدب بساط العمل، فما لم يبسط(6/156)
البساط، لم يتميز الأشياء، ولم ينقسم حتى يحضره ما به بتوفر العمل، فإذا أقام الأدب، احتاج إلى اللبق، فإذا لبق، قبل: وإنما يدرك اللبق بحياة القلب بالله، فإذا حيي القلب بالله كان عمله لبقاً، فهذا الكامل؛ لأنه يعمل على المشاهدة على بصيرة.
وذلك قوله تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيراً. ولو ألقى معاذيره}؛ أي: لا ينفعه المعاذير، ولا يقبل معذرته؛ لأنه قد أعطي البصيرة، فأعماها بهوى النفس ومشيئاتها وشهواتها، فإذا أعمى بصيرته فاللائمة لازمة لها، وعذره غير مقبول.
1387 - نا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: نا محمد ابن مخلد أبو أسلم الرعيني، قال: نا يعلى بن الأشدق الطائفي، قال: سمعت عمي عبد الله بن جراد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس الأعمى من يعمى بصره، وإنما الأعمى من تعمى بصيرته)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
وذلك قوله تعالى في تنزيله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
فالبصر في العين الناظرة الظاهر من نور الروح، والبصيرة على(6/157)
النفس من القلب من نور معرفة الفطرة، وذلك أن الله تعالى كان ولا شيء، ثم قدر المقادير، فأبرز علمه في خلقه يوم المقادير، ولا عرش ولا كرسي، ولا جنة ولا نار، ولا مكان ولا وقت ولا زمان، ولا خلق مخلوق، ثم عرضهم، فنظر إليهم حتى أنفذهم بصره، فمعرفة الفطرة من ذلك النور الذي أنفذهم بصره، فمن ثم عرفوه، فقال في تنزيله: {بل الإنسان على نفسه بصيرةٌ}؛ أي: من نور معرفة الفطرة عليها بصيرة تبصره أن هذا الذي يبصر بعين الرأس هو آيات الله، وآثار قدرته.
فهذا الإنسان خرج من بطن أمه مع هذه البصيرة لا يقدر أن يجحد ربه ولا ينكره؛ لأن بصيرته معه، فلما تحركت منه الشهوات التي في نفسه، عميت بصيرته؛ لأن القلب مال إلى الفرح بالشهوات، والنفس مالت إلى اللذة بالشهوات، فعميت بصيرته، فصار كمن لا يعرف؛ لأنه افتقد قوة المعرفة، فذهب اعتمالها، فلذلك قبل من العدو ما جاء به من الشرك والعبادة لمن دونه، واتخاذ ولي من دونه، فظلمة الشهوات حجبت تلك البصائر، بصائر الهدى من الناس، ثم من الله على مختاريه من ولد الآدميين، فاختار من كل ألف واحداً، فوضع فيه الخير حتى صار مختاراً، ثم من عليه بنور التوحيد، وفي جوف ذلك النور نور المحبة، ونور البهاء، فقيد قلبه ونفسه الشهوانية بنور المحبة، فلما وجدت النفس حلاوة نور المحبة،(6/158)
رفضت حلاوة عبادة الوثن، وبنور البهاء دان للتوحيد لله، وقبح عنده الشرك، فرفضه، فبوجود نور المحبة، ونور البهاء، لم تعجز بصيرته، وازدادت البصيرة قوة بوجود هذه الأنوار التي جاءت من المنة، فمن صار هذه الأنوار له، وتخلص من دخان النفس وحريق الشهوات، قويت بصيرته قوة تهتك كل حجاب بينه وبين ربه من حجب الآدميين، وصدرت أعماله من صدره إلى الأركان على مشاهدة اليقين، ومعاينة القلب محل المقادير، ومحل القضاء من ملك الجبروت.
وذلك قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرةٍ}، ثم قال: {أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.
فلم يجعل الدعاء إلى الله على بصيرة إلا لتابعي محمد، وتابعوه: من هاجر عما نهى الله عنه، ونصر الحق في كل موطن، وكان له السبق، فهذا عبد قد رضي الله عنه، فأعطاه حبه، فأحبه، فاحتدت بصيرته، حتى انتهت إلى المقام بين يديه، فباطن الأشياء له معاينة، كظاهر الأشياء لأهل الغفلة معاينة، فأهل الغفلة ينظرون إلى الأشياء بنور الروح، وهذا الموقن(6/159)
الذي وصفناه، ينظر إلى الأشياء بنور الله.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يأثره عن جبريل عليه السلام عن الله تعالى: أنه قال: ((ما تقرب إلي عبدٌ بمثل أداء فرائضي، وإنه ليتقرب إلي بعد ذلك بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي به ينطق، ويده التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي، وفؤاده الذي به يعقل، فبي يستعمل هذه الأشياء)).
فإذا أدى الفرائض، وهو إقامة الأمر والنهي، فقد هاجر، وإذا انتقل بعد إقامة الأمر والنهي، فقد نصر الحق، وإذا قطع العلائق، نال السبق؛ لأنه قد انفلت من المتعلقين، فطار إلى ربه، فهذا التابع بإحسان قول الله تعالى في تنزيله: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}.
فالسبق والأولية في كل أمر وعمل لهذه الطبقة التي هاجرت عن الآثام، ونصرت الحق، فهم أهل الرضا، ومحبوبو الله أيام الدنيا؛ لأنهم اتبعوا رأس المحبين محمداً صلى الله عليه وسلم، فنالوا من تلك المحبة التي أعطيت محمداً عليه السلام.(6/160)
وقال في تنزيله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، فجعل اتباع محمد صلى الله عليه وسلم علامة لمحبة الله، فمن اتبعه صدقاً، نال حبه صدقاً.
1388 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا الحسن بن الربيع البجلي، قال: نا عمرو بن أبي هرمز، قال: نا أبو عبد الرحمن الدمشقي، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، قال: ((على البر والتقوى، والتواضع، وذلة النفس)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالبر والتقوى هو: الهجرة التي ذكرناها، والتواضع هو: السبق؛ لأنه من تواضع لله، رفعه الله، وذلة النفس نصرة الحق.
قال له قائل: وكيف صار نصرة الحق في النوافل دون الفرائض؟.
قال: إن نصرة الحق منه في الفرائض منكمنة؛ لأنه إن ترك الفرائض،(6/161)
فخوف الوعيد يحمله على القيام بها، فما دام يؤدي الفرائض، فهو ناصر للحق، لكن النصرة منكمنة؛ لأنه ربما أداها من خوف العقاب والوعيد، فإذا تنفل، فقد انكشفت النصرة؛ لأنه يعمل لا من خوف الوعيد، إنما يريد أن يتودد، ويتقرب، ويتحبب إلى ربه بتلك النوافل.
ألا ترى أنه قال في حديثه: ((وإنه ليتقرب إلي بعد ذلك بالنوافل حتى أحبه)).
فإنما أوجب له حبه بما تحبب إليه بالنوافل، فقد تقرب العبد بالفرائض، وتحبب، ولكن كان ذلك منه منكمناً؛ لأن خوف الوعيد قد مازجه، فبالنوافل ظهر ما كان منكمناً، فأظهر له حبه، وأوجب له.
1389 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا محمد بن الطفيل، عن أيوب بن سيار الزهري، قال: نا محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه ثياب بيض، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه، فقال: يا رسول الله! ما الجمال؟ قال: ((صواب القول بالحق))، قال: فما الكمال؟ قال: ((حسن الفعال بالصدق)).(6/162)
1390 - نا عمر، قال: نا فهد بن سلام، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله، غير أنه زاد فيه: فرآه تبسم، فقال: ما يضحكك يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: ((يضحكني جمالك))، قال: وما الجمال يا رسول الله؟ فذكر بقية الحديث.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذا الكمال موجود في الرجال بفضل العقول وتفاوتها، لأن المعرفة مع العقل، والنساء منقوصات في العقول، وعقولهن على النصف من عقول الرجال، ولذلك صارت شهادة امرأتين تعدل بشهادة رجل؛ لنقص عقولهن، فأما مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، فإنهما برزتا على النساء بما أعطيتا فكملتا.(6/163)
قال له قائل: ماذا أعطيتا حتى كملتا؟.
قال: أعطيتا السبيل إلى الوصول إلى الله، ثم الاتصال به حتى علمتا، وذلك ما ندب الله إليه عباده المؤمنين فقال: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون}، وفيما قص الله علينا من نبأيهما دليل على كمالهما من قوله: {وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون}؛ أي: صفة للذين آمنوا ليمتثلوا، فيطلبوا هذا المثال من أنفسهم، فقال: {امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله}.
والعند في اللغة أقرب بين يديه، فسألت ربها مستقراً بين يديه في داره، في مكان القربة، فلم تسأل ذلك إلا وقد طالعت نور القربة، ثم قال: {ونجني من فرعون وعمله} سألت أن يخلصها من سلطان فرعون، حتى لا يجتمعا في شأن البضاع على رائحة الشرك.
ولذلك حرم الله تعالى على المؤمنين مشركات النساء؛ لئلا يجمع رائحة التوحيد مع رائحة الشرك، وأباح نساء أهل الكتاب؛ لأنهن غير(6/164)
مشركات، ثم قال: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه}.
فالتصديق بالكلمة أعظم الأشياء؛ لأنها لم تعاين الملائكة، وإنما سمعت صوت البشرى: {إن الله يبشرك بكلمةٍ منه}، فصدقت، ولم تتردد، فسماها الله صديقة في تنزيله، فقال: {وأمه صديقةٌ}؛ فبالاتصال تبلغ العباد أعلى منازل الصديقين، فلا يبقى لهم في أمر الله حيرة.
ألا ترى أن سارة لما بشرت بإسحاق كيف اضطربت حتى أنكرت الملائكة من قولها: {إن هذا لشيءٌ عجيبٌ. قالوا أتعجبين من أمر الله}.
فتبين منها هاهنا نقص، وتبين الكمال من مريم حيث بشرت بالكلمة من قوله: {إن الله يبشرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين. ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين}، فعندها قالت: {أنى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشرٌ}، فإنما سألت: من أين هذا الولد؛ لأنه قد جاءها من أمر الله ما ليس في البشر مثله، والذي جاء من أمر سارة ليس بمستنكر لا يكون مثله في البشر.
ألا ترى أنه لما جاء الولد من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وسارة لم يفتتن الخلق به، ومجيء عيسى –عليه الصلاة والسلام- صار فتنة على المفتونين.(6/165)
الأصل الحادي والستون والمئتان
1391 - نا أبي رحمه الله، قال: نا مكي بن إبراهيم، قال: نا عبد الواحد بن زيد، قال: حدثني عبد الله بن راشد، قال: حدثني مولاي عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله مئةً وسبعة عشر خلقاً، من أتاه بواحدةٍ منهن، دخل الجنة)).
1392 - نا محمد بن مرزوق البصري، قال: نا شداد بن علي الهزاني، وكان صام ثمانين سنة متتابعة فيما ذكر، ونا عبد الواحد بن زيد، عن عبد الله بن راشد مولى عثمان بن عفان، بمثله.(6/167)
1393 - نا علي بن الحسين النيسابوري، عن عبد الرحيم ابن يحيى بن الأسود، عن عثمان بن عمارة، عن إبراهيم بن أدهم، عن رجل من أهل بلخ، عن أبيه، قال: سمعت مروان بن الحكم يقول: سمعت عثمان بن عفان يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن لله مئةً وسبعة عشر خلقاً، من جاء بخلقٍ منها، دخل الجنة بغير حسابٍ))، فقلنا: بينها لنا؟ قال: ((كظم الغيظ، والعفو عند المقدرة، والصلة عند القطيعة، والحلم عند السفه، والوقار عند الطيش، ووفاء الحق عند الجحود، والإطعام عند الجوع، والعطية عند المنع، والإصلاح عند الفساد، والتجاوز عن المسيء، والعطف على الظالم، وقبول المعذرة، والإنارة للحق، والتجافي عن دار الغرور، وترك التمادي في الباطل، ألا وليس في أخلاق الله شيءٌ أحب إليه من الجود والكرم، وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً، وفقه لأخلاقه، فتخلق بها، وإذا أراد الله بعبدٍ سوءاً، خلى بينه وبين أخلاق إبليس؛ فإن من أخلاق إبليس: أن يغضب فلا يرضى، وأن يسمع فيحقد، وشراهة النفس ونهمتها، وأخذ ما ليس(6/168)
لها، ونزقها إلى اللهو والباطل، ألا وإن إبليس ليس هو على أحدٍ أشد منه على القراء الذين هم عند أنفسهم قراءٌ، لا يزال فيما بينهم يذهب ويجيء حتى يورث بينهم العداوة والبغضاء، فلو قلت: حقاً حقاً، ما أقل من يجتمع منهم غداً في الآخرة، إلا قومٌ عطف بعضهم على بعضٍ، وتركوا الحقد والغضب، وألحوا في الطلبة إلى الله أن يقبلهم، ويقبل معذرتهم)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالأخلاق موضوعة في الطبع، ومعملها في الصدر، ومثل ذلك مثل ملك له خزانة، وقواد، ومملكة، فإن كانت الخزانة قليلة كنوزها، وكورته صغيرة، ضاق بهؤلاء القواد، وقال بعضهم لبعض: هذا ملك له اسم الخزانة والكنوز، وليس لكنوزه مادة تجري علينا، وتعيننا، حتى نتخذ عدة العدو الذي هو بمرصد منا، ومن ملكنا هذا، وليست له مملكة فسيحة ننتشر فيها، فيأخذ كل قائد منا ناحية من المملكة، فيدبر أهل الملك في أهل ناحيته، وإنما قوة الملك في الخزائن الجمة بالكنوز والجواهر، وفي(6/169)
القواد، وحسن التدبير في هذين، فيدبر أمره وأمورنا بحسن ما عنده من الكياسة، فيدر علينا كنوزه وقتاً وقتاً، شهراً شهراً، ويعد جواهره للنوائب العظام، فلا نرى هاهنا عدة ولا فسحة، فتعالوا ننتقل عن هذا إلى ملك لمملكته فسحة ومنتشر، نتسع في نواحيها، ونعمل القيادة، فنقود الجنود إلى أعمالنا، فإن العدو بمرصد، ولا نأمن أن ينتهز منا فرصة، وإلى ملك له مع هذه المملكة الفسيحة كنوز جمة، ولكنوزه مادة من غلات المملكة، وله كنوز وأمصار، وقرى وبر وبحر؛ كملك الهند، أو ملك الروم، أو ملك العرب، وما نصنع بهذا الضعيف العاجز؟! فيطلبون ملكاً بهذه الصفة، ولا يثبتون مع هذا.
فالملك هو القلب، وخزانته جوف القلب، فيه كنوز المعرفة، وجواهر العلم بالله، والعقل وزيره، والصدر فسحته وساحته ومملكته، والأخلاق فؤاده، والأركان رعيته ونواحيه، وهي الجوارح السبع، فهؤلاء القواد هي الأخلاق في الصدر قواد الملك قيام بين عيني الفؤاد، والعقل شعاعه يشرق بين عيني الفؤاد يدبر أمر القلب، والنفس في الجوف رابضة في مكانها تطلب الملك، وترصد الانتهاز للفرصة؛ لتخرج على الملك؛ لأن شهوة الإمرة فيها، والهوى بباب النفس يتلهب ويتلظى بين يدي بصيرة النفس، وذلك قوله تعالى: {إن النفس لأمارةٌ بالسوء}.
فهي أبداً في طلب الإمارة؛ ليتملك ويتأمر على الجوارح، فإذا(6/170)
خطرت الخاطرة في الصدر بين عيني الفؤاد، نظر العقل، فإن رآها حسنة، وأمراً رشيداً، قدر ودبر، ماذا يراد؟ وكم يراد؟ ومتى يراد؟ وإلى متى يراد؟ وإن رآها سيئة وغياً، نفاها من الصدر، ففي هذا الوقت للنفس منازعة مع القلب، وللهوى مع العقل في هذه الخاطرة.
فالنفس تشتهي، والهوى يزعج النفس ويشجعها، والعدو يزين ويمني ويغر، فإذا جاء مدد الأخلاق، بطلت زينة العدو وأمانيه، وانكشف غروره، وارتد الهوى قهقرى إلى معدن مهبه، وجاء مدد الكنوز كنوز المعرفة، ومد الملك يده إلى جواهر الخزانة، وانمحقت الخاطرة وأسبابها ومعتملها، وجنوده، فولت الخاطرة.
فإن الخاطرة طليعة النفس من الهوى، والعدو، إذا كانت خاطرة الغي، وإن كان رشداً، كانت طليعة الحق، فعز هذا الملك ومنعته وقوام مملكته بهذه الكنوز وهؤلاء القواد.
فكما أن ذلك كذلك، فعز القلب ومنعته بكنوز المعرفة، وجواهر العلم بالله، وبهذه الأخلاق التي أحدقت بالقلب بين عيني الفؤاد، فالعقل معدنه في الرأس، وشعاعه ملتهب بين عيني الفؤاد، يدبر الفؤاد بالعقل أمر(6/171)
القلب، والنفس في الباطن رابضة مكانها، والهوى بباب النفس يتلهب ويتلظى بين عيني بصيرة النفس، فإذا عرض للقلب أمر، فإنما يعرض خطرات في الصدر بين عيني الفؤاد، نظر العقل، فإن رآه حسناً، قدر ودبر ماذا يراد؟ وكم يراد؟ ومتى يراد؟ وإلى متى يراد؟ وإن رآه سيئاً، نفاه، فإذا دبر العقل وقدر ما رآه حسناً، أمضاه القلب على ذلك المقدار إن كانت محاسن الأخلاق في الطبع كائنة للعبيد؛ لأن النفس إنما تتماسك في الأمر، وينقاد القلب بالطبع.
فإذا كان الخلق في الطبع، ظهر ذلك الخلق، وسلطانه في الصدر، حتى يقوى القلب به، فيخرج من الصدر إلى الأركان ذلك الخاطر العارض الذي قدره العقل فعلاً حسناً مقدراً مدبراً في يسر بلا عسر، ولا تلجلج، ولا تردد، ولا تقديم، ولا تأخير، ولا غلو، ولا تقصير، ولا التفات إلى رشوة النفس من طريق الثواب، والعلائق؛ لأن الأخلاق تصير النفس حرة سخية، وسخاوتها حريتها.
والسخاء، والخساء بمعنى واحد، إلا أن الخساء هو: الفرد من الأشياء، والسخاء هو: انفراد النفس من الأشياء، وعتقها من رقها.
والخسا، والزكا، ضدان، فالخسا، الفرد، والزكا، الزوج، وهما(6/172)
مقصوران غير ممدودين.
فجميع محاسن الأخلاق تؤول إلى الجود والكرم والسخاء، إذا سخت النفس، تكرمت، وإذا تكرمت، جادت، فأخلاق الله تعالى أخرجها لعباده من باب القدرة، وخزنها للعباد في الخزائن، وقسمها على أسمائه الحسنى، وأمثاله العلا، فإذا أراد الله بعبد خيراً، منحه منها خلقاً؛ ليدرر عليه من ذلك الخلق، فعلاً حسناً جميلاً بهياً، فجبله في بطن أمه على ذلك الخلق وإن لم يكن مجبولاً بذلك الخلق في بطن أمه، فقد دله على علم ذلك وحسنه وبهائه؛ ليتخلق العبد بذلك، وتخلقه: أن تحمله نفسه على فعل ذلك الخلق، حتى تعتاد نفسه ذلك.
وروي عن وهب بن منبه: أنه قال: من داوم على خلق أربعين يوماً، صار ذلك له خلقاً.
أي: بقي معه ذلك، ولا يكون أصلياً؛ لأن المجبول عليه منيحة الله، وهديته، وإذا أهدي له، ثبت له ذلك، وكانت نفسه معجونة بذلك الخلق، والرب تعالى لا يرتجع في هديته.
ومما يحقق قول وهب في المداومة على الخلق أربعين يوماً ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من أدرك التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة أربعين يوماً، كتب له عتقٌ من النار)).(6/173)
1394 - نا أبي رحمه الله، قال: نا الحماني، عن إسماعيل ابن عياش، عن عمارة بن غزية، عن أنس بن مالك، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى أربعين ليلةً في جماعةٍ لا تفوته الركعة الأولى، كتب له عتقٌ من النار)).
فهذا إذا صار المشي إلى الجماعة أربعين يوماً خلقاً، فكذلك سائر الأخلاق؛ لأن الأخلاق احتمال أثقال المكاره، فبالمشي إلى الجماعة،(6/174)
احتمل أثقال المكروه؛ لأنه لو شاء، صلاها في بيته، فلما أمر بالمشي إلى الجماعة، احتمل أثقال المكروه، فقدر له رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدار أربعين يوماً؛ ليصير له خلقاً، وتسقط عنه الأثقال؛ لأن سوء الخلق في طلب الراحة، وإن هذه الأخلاق تفضل الله بها على عبيده، على قدر منازلهم عنده، فمنح أنبياءه منها.
فمنهم من أعطاه منها خمساً، ومنهم من أعطاه منها عشراً وعشرين، وأكثر من ذلك وأقل، فمن زاده منها، ظهر منه حسن معاملته لربه، وحسن معاملته لخلقه على قدر تلك الأخلاق، ومن نقصه منها، ظهر عليه ذلك، ولذلك ابتلي يونس -عليه الصلاة والسلام- بما ابتلي به، حتى صار ذنباً، وسجنه في بطن الحوت حتى طهره، وجعل ما حل به موعظة للموحدين، فإنما سماه في تنزيله: آبقاً؛ لأنه أبق إلى الفلك المشحون؛ لتضايق أخلاقه، وتركه احتمال أثقال الخلق في ذات الله، فعتب الله عليه، ثم اجتابه بعطفه ورحمته، وهذبه بكرمه.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بعثت لأتمم صالح الأخلاق)).(6/175)
فأنبأنا في قوله هذا: أن الرسل قد مضت، ولم يتمموا هذه الأخلاق؛ كأنه قد بقيت عليهم من هذا العدد بقية، فأمر أن يتممها.
يعلمنا في قوله هذا: أن تلك الأخلاق التي كانت في الرسل هي فيه، ثم هو مبعوث لإتمام ما بقيت عليهم؛ ليقدم على الله بجميع أخلاقه التي ذكرها مئة وسبعة عشر خلقاً، فلا يجوز لنا أن نتوهم عليه أنه بعث لأمر، فقدم على ربه، وهو غير متمم له.
ومن أشرق في صدره نور اسم من أسماء الله تعالى، كانت له تلك الأخلاق التي لذلك الاسم، هذا للمجبولين، ومن تخلق بذلك الخلق، ولم يكن جبل عليه، كان تخلقه طهارة لصدره وقلبه، ومن دنس الخلق السيئ الذي هو ضد هذا الخلق، فإذا تطهر من سيئ الأخلاق خلقاً خلقاً؛ لتخلقه بمحاسن الأخلاق بجهد وكد، شكر الله له ذلك، فوجد قلبه طريقاً إلى ذلك الاسم، وانكشف الحجاب عنه، حتى يشرق في صدره نور ذلك الاسم، وذلك قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
أحسن أخلاقه جهداً، فكان الله معه في التأييد والنصرة، والعون،(6/176)
حتى تمت المجاهدة، فأعطى من نفسه المجهود والطاقة، فشكر الله له ذلك، وهداه السبيل إلى أن كشف عنه السوء حتى أشرق في صدره نور ذلك الاسم، وهو قوله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}.
فإذا كشف السوء، صلح للخلافة في دينه، ووجبت عليك طاعته، وذلك قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، فلذلك قيل في حكمة الحكماء: المعرفة في: صفاء الأخلاق، وطهارة القلب.
فإذا تطهر القلب من الريب، وصفت الأخلاق من الدنس والكدورة، نال العبد المعرفة التي في القربة، والوصول إلى ربه، فإذا وصل القلب إلى ربه، دان له، فعندها أصاب الدين الذي يدين الله به، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخلق وعاء الدين)).
1395 - نا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: نا محمد ابن عبد الله الدمشقي، عن ثابت بن عجلان، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخلق وعاء الدين)).(6/177)
فالدين هو: خضوع القلب لله، مشتق من الدون والوضع، فإذا تواضع القلب، وانخشعت النفس، وألقت بيديها لله سلماً، فذاك دين العبد، فإذا أمره بأمر، ائتمر، وإذا نهاه، انتهى، وإذا قسم له من الدنيا، قنع، وإذا حكم عليه بحال، رضي، محبوباً كان أو مكروهاً، فهذه عبودة العبد، فإنما قدر العبد على إقامة العبودة في هذه الأشياء لله بخشعة النفس، وخضعة القلب وتواضعه، فذاك دينه.
فإنما قال: ((الخلق وعاء الدين))؛ لأن ذلك الخلق إذا كان للعبد؛ مثل: الجود والسخاء والكرم، وكانت النفس حرة من رق الهوى، والقلب حر من رق النفس، فهان عليه التواضع والخضوع لله، والائتمار بأمره، والقناعة بما قسم، والرضا بما حكم، فإنما يسر عليه إقامة الدين من أجل ذلك الخلق فإذا كان للعبد ذلك الخلق، كان ذلك الخلق وعاء لدينه، ومن ذلك الخلق يخرج له الدين، وهو الخضوع والخشوع، وبذل النفس لله، واحتمال أثقال المكروه، ولما كان هذا الإسلام أشرف الأديان، أعطاه أقوى الأخلاق وأشرفها، وهو الحياء.
1396 - نا علي بن خشرم، قال: نا عيسى بن(6/178)
يونس، عن معاوية بن يحيى، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل دينٍ خلقاً، وخلق الإسلام: الحياء)).
والحياء أصله من الحياة، فإذا حيي القلب بالله، استحيا، فكلما ازداد حياة بالله، ازداد منه حياء، ألا ترى أن المستحي يعرق في وقت الحياء، فعرقه من حرارة الحياة التي هاجت من الروح، فمن هيجانه تفور الروح بتلك الحرارة، فيعرق الجسد منه، ويعرق منه ما علا؛ لأن سلطان الحياة في الوجه والصدر.(6/179)
1397 - نا أبي رحمه الله، عن صالح بن عبد الله، عن محمد بن الحسن القرشي، عن خصيب بن جحدر، عن راشد بن سعد، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: إن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وبين يديه شيء من حبوب يأكله متكئاً، فجلس يتصبب عرقاً، فقمت إليه، فجعلت أمسح العرق عن وجهه، وأقول: بأبي وأمي يا رسول الله! ما لك؟ قال: ((إن جبريل أتاني وأنا آكل متكئاً، فقال: يسرك أن تكون ملكاً؟ فهالني قوله))، قالت عائشة: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكل شيئاً متكئاً بعد ذلك حتى فارق الدنيا.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فإنما تصبب عرقاً؛ لفوران حرارة حياته بالله، فكلما كانت حياة القلب بالله أعظم، كان تسليمه نفسه لله أكثر وأوفر، ونفسه أسلس للانقياد؛ لأن الإسلام هو: تسليم النفس لله، والدين: خضوعها وانقيادها، ولذلك(6/180)
صار هذا الحياء خلقاً للإسلام، ووعاء للدين، يستحي فيتواضع، ويستحي فيخضع، ويستحي فيذل نفسه لله، ولا يبخل بها عليه، من الحياء انكسار النفس، وذهاب رجوليتها.
ألا ترى أن المرأة لما فضلت على الرجل بتسعة وتسعين جزءاً من الحياء، كيف كسرت شهوتها التي فضلت بها على الرجال؟.
وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن المرأة فضلت على الرجل بتسعةٍ وتسعين جزءاً من الشهوة، وفضلت من الحياء بتسعةٍ وتسعين جزءاً؛ لتكسر تلك الشهوات، بما فضلت به من أجزاء الحياء)).
فقد بان لك أن الحياء يكسر، ويذهب بالقوة، والجلادة، والصلابة من النفس، وإذاً، كان ذلك يقوي القلب؛ لأن الحياء من الحياة بالله من نفس المعرفة.(6/181)
فأما ما ذكرنا من شأن المجبول على خلق، ومن شأن الممنوح المتخلق به.
1398 - فحدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: نا أصبغ بن الفرج الأموي، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن ابن شريح الإسكندراني، عن العلاء بن كثير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن محاسن الأخلاق مخزونةٌ عند الله، فإذا أحب الله عبداً، منحه منها خلقاً حسناً، أو خلقاً صالحاً)).
1399 - نا محمد بن صدران بن سليم بن ميسرة الأزدي، قال: نا طالب بن حجير البصري، قال: نا هود(6/182)
العبدي العصري، عن جده، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه، إذ قال لهم: ((إنه سيطلع عليكم من هذا الوجه ركبٌ هم من خير أهل المشرق))، فقام عمر بن الخطاب، فتوجه في ذلك الوجه، فلقي ثلاثة عشر راكباً، فرحب وقرب، وقال: من القوم؟ قالوا: نفر من عبد القيس، قال: فما أقدمكم هذه البلاد، لتجارة؟ قالوا: لا، قال: فتبيعون سيوفكم هذه؟ قالوا: لا، قال: فلعلكم إنما قدمتم في طلب هذا الرجل؟ قالوا: أجل، فمشى معهم يحدثهم، حتى إذا نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هذا صاحبكم الذي تطلبونه، فرمى القوم بأنفسهم عن رحالهم، فمنهم من سعى، ومنهم من هرول، ومنهم من مشى حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذوا بيده فقبلوها، وقعدوا إليه، وبقي الأشج، وهو أصغر القوم، فأناخ الإبل وعقلها، وجمع متاع القوم، ثم أقبل يمشي على تؤدة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيده فقبلها، فقال له النبي عليه السلام: ((فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله))، قال: وما هما يا نبي الله؟ قال: ((الأناة والتؤدة))،(6/183)
قال: يا نبي الله! أجبلاً جبلت عليه، أم تخلقاً مني؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((بل جبلاً جبلت عليه))، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله، وأقبل القوم قبل تميرات يأكلونها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بها، يسمي لهم: ((هذا كذا، وهذا كذا))، قالوا: أجل يا نبي الله، ما نحن بأعلم بأسمائها منك، قال: أجل، فقالوا لرجل منهم: أطعمنا من بقية القوس الذي بقي من نوطك، -والقوس قطعة تمر-، فأتاهم بالبرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا البرني، أما إنه من خير تمركم لكم، أما إنه دواءٌ لا داء فيه)).
1400 - نا الجارود، قال: نا سليمان بن عمرو(6/184)
النخعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قلة الحياء كفرٌ)).
قال أبو عبد الله:
والكفر: الغطاء على القلب، فإذا حل الغطاء بالقلب، ذهب الحياء، ومات القلب، وإذا انكشف الغطاء، فإنما ينكشف بحيائه بالله، فإذا أحيي، استحيا.
ولذلك قال سفيان بن عيينة: ((الحياء أخو التقوى، ولا يخاف العبد أبداً حتى يستحي، وهل دخل أهل التقوى في التقوى، وفي أمر الله تعالى إلا من الحياء؟!)).
1401 - نا بذلك الجارود بن معاذ، عن مغلس ابن شداد، عن سفيان بن عيينة.(6/185)
وروي عن أنس بن مالك، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها)).
وقال أبو بكر: استحيوا من الله؛ فإني لأدخل الكنيف، فأقنع رأسي حياءً من الله.
رجعنا إلى مبتدأ ما وصفنا من شأن المثل المضروب.
قلنا: فإذا أراد العبد أن يتخلق بخلق من هذه الأخلاق، احتاج إلى أن يمكن له في الصدر الذي هو ساحة القلب، فمن كان أوسع صدراً، كان بمنزلة من كان أوسع مملكة من الملوك، حتى يجد قواد الملك منفسحاً، فيأخذ كل قائد ناحية، فيتملك بها على حشمه، فإذا اتسع صدره، وجد كل خلق من هذه الأخلاق ناحية من صدره، وتمكن منه، وسهل على القلب إنفاذ أمور الله، وإذا ضاق صدره، لم يستقر فيه خلق، بمنزلة أولئك(6/186)
القواد، لما لم يجدوا فسحة، انتقلوا إلى ملك آخر أوسع مملكة منه، وأوفر كنوزاً، وكذلك سأل موسى أول ما سأل حيث بعثه إلى فرعون، فقال: {رب اشرح لي صدري. ويسر لي أمري}.
فيشرح الصدر على قدر احتمال أثقال المكروه، حيث احتاج إلى أن يستقبل فرعون بالمكاره، وقد هرب منه خوفاً من القتل.
فمبتدأ هذا الأمر أن يعمل في توسيع الصدر حتى تصير له هذه الأخلاق، وتوسيعه: أن يترك الشهوات والنهمات، وتحمل المكاره على النفس، حتى تصير مدبوغة، فعندها تظهر الأخلاق، وتشرق أنوار الأسماء في صدره، ويغزر علمه بالله، فيعيش غنياً بالله ما عاش، وبالله التوفيق.(6/187)
الأصل الثاني والستون والمئتان
1402 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، عن إسماعيل بن رافع، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ من كن فيه حرمه الله على النار، وحفظ من الشيطان: من ملك نفسه حين يرغب، وحين يرهب، وحين يغضب، وحين يشتهي، وأربعٌ من كن فيه نشر الله عليه رحمته، وأدخله في محبته: من آوى مسكيناً، ورحم الضعيف، ورفق بالمملوك، وأنفق على الوالدين)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:(6/189)
فالنفس في هذا الجسد، ومعدنها في البطن، ثم هي منفشيةٌ في جميع البدن، والروح معدنه في الرأس، وهو متنفسٌ في جميع الجسد، والجسد قالب الروح والنفس كليهما.
والحياة موضوعة في كليهما، وحياة الروح أقوى، وأكثر وأخلص، وأصفى من حياة النفس، والدليل على ذلك: أن الروح تأمر بالطاعة، فذاك لأن حياته أكثر وأقوى؛ لأن أصله من روح الحيوان الذي ماء الحيوان منه الذي إذا شرب منه أهل الجنة بباب الجنة لم يموتوا، وقال في تنزيله: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان}، فهاهنا حياة، وفي الدار الآخرة حيوان.
فهذه الحياة التي في الروح قليلة، والماء الذي في الجنة والنهر الذي بباب الجنة للاغتسال يوم يدخلونها، كله من ماء الحيوان، والماء الذي تحت العرش بحر راكد على مقدار أرزاق العباد، هو من ماء الحيوان، والماء الذي تحت العرش، وذلك قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيءٍ حيٍ}.
فإذا أنزل الله إلى الأرض منه، أحيا به، وذلك قوله تعالى: {ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جناتٍ وحب الحصيد}، ثم قال تعالى:(6/190)
{ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعةً}؛ أي: ميتة لا تتحرك، {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}، فاهتزازها، وربوها، وحركتها من الحياة التي دخلت فيها، ثم قال: {إن الذي أحياها}؛ يعني: الأرض {لمحيي الموتى}، وقال: {وأحيينا به بلدةً ميتاً}، فإنما إحياء الأرض بماء الحيوان.
وينزل الله تعالى على أهل القبور قبل نفخة الصور من ماء الحيوان، حتى تنبت أجسادهم، وتبعث الأرواح وهم في قبورهم أحياء يتحركون.
قال له قائل: وكيف يتحركون بلا أرواح؟ قال: بالحياة التي نالتهم من ذلك الماء، ويتحركون كما تتحرك الأرض بماء الحياة {اهتزت وربت}.
فاهتزازها بالحياة، وبالحياة التي نالت أغصان الأشجار حتى [أ] ورقت، وكل شيء يتحرك، فإنما يتحرك بالحياة.
فالروح أوفر الأشياء حظاً من هذه الحياة، إنه خرج من روح الحياة الأصلي، ثم من بعد ذلك أوفر الأشياء حظاً بعد الروح هذه النفس، فالنفوس لجميع الدواب والبهائم، والطيور، وفضل الآدمي بالروح للخدمة؛ لأنه خادم ربه، وسائر الخلق سخرة للآدمي، فالروح بما فيها من الحياة تدعو القلب إلى الطاعة، والنفس بما فيها من الحياة تدعو إلى الشهوات والأفراح، والقلب أمير على الجوارح، وعن أمره يصدرون إلى الأعمال، فالأمير يأمر بقوة المعرفة، والعلم بالله؛ فإن للمعرفة والعلم(6/191)
سلطاناً عظيماً.
فقوله عليه السلام: ((من ملك نفسه)).
فالملك للقلب على النفس، فمن كان قلبه مالكاً لنفسه في هذه الأحايين الأربعة: حين الرغبة، وحين الرهبة، وحين الشهوة، وحين الغضب، فقد حرم الله جسده على النار، واختسأ شيطانه؛ لأن الدنيا كلها في هذه الأربعة، فإذا ملك القلب النفس بقوة المعرفة، والعلم بالله، فإن للمعرفة والعلم سلطاناً عظيماً، وجنوداً كثيفة، وكنوزاً جمة للجنود، فقد دقت دنياه في عينه، وصغرت وتلاشت حتى صارت كالهباء.
ومن ملك نفسه قلبه بقوة الهوى، وسلطان هذه الأربع وحدتها، وغليانها، صارت دنياه في عينه كل شعبة منها كالجبال، وكالبحور، وعظم في عينه شأنها، وشأن أحوال نفسه فيها، وصارت الآخرة في قلبه كالحلم، فإن المحتلم يتعشق في منامه على جارية حسناء، ويميل إليها، ويلقي نفسه عليها من شدة الشبق؛ لأن شيطانه يريه ذلك، ويخدع نفسه البلهاء فيما مثل له في منامه، فإذا انتبه، وجد نفسه خالياً مما رأى، وإذا هو لم يزد على أن بال في فراشه، وضحك به الشيطان.
فهذه صفة من يتعشق على الخيال من شهوة نفسه بسماع الأذن،(6/192)
لا بحياة القلب، وإذا هو ميت على الدنيا، من حبها وتعظيمها تعظيماً لا ينام ولا ينيم؛ حرصاً وأشراً وبطراً، حتى يأخذها من الشبهات، بتضييع الأمانات، وتعطيل الفرائض، ونسيان الموت والمعاد، والقبر والقيامة والحساب بين يدي الله تعالى، وقطع النار على الجسر، ويمنع الحقوق، ويعرض عن مواعظ الله تعالى، وإذا تلا القرآن فكأنما ينشد شعراً، أو يحكي كلام الناس، لا يتحرك قلبه لوعدٍ ولا لوعيد، ولا لنبأ من أنباء القرون، ولا تدمع عينه، ولا يدري ما تلا، إنما همه بأن يطيب نفسه بأني قرأت، وتلوت، فهو مثل هذا القلب الخرب الممتلئ من الغش، والغل، والحقد، وطلب العلو، والتعزز، والتجبر، والغرور، وإهمال الجوارح، والتكبر والاستبداد، وتضيع التزكية على الجوارح السبع.
وهي الميثاق، يتعشق على الحور، ويتلمظ على فواكه الجنة، ويتشمم رياحين الجنان من بعد سماع الآذان، أبله من الأبالهة، غتمياً من أغتام الدين، زبوناً من زبون الشياطين، أحمق من حمقى أهل الغي، ليس فيه من الحياة في قلبه أن إذا سمع بذكر الجنة، قال: الجنة دار الله، فغمض عينه حياء من الله، وقال: مثلي يصلح لدار الله، وأنا لا أصلح لدار أمير المؤمنين الذي هو عبده في دار الدنيا؟! ثم دمعت عيناه، واحترق(6/193)
جوفه مخافة الفوت، والبعد من الله لفوتها، وأخذته الحسرة والندامات حتى أداه ذلك إلى التضرع، والحزن الدائم، والتوقي، والتورع، وملك النفس.
فهذه النفس بغفلتها هي كالمحتلم الذي وصفنا أنه إذا انتبه، استحيا من نفسه لما سخر به شيطانه، ووجد في نفسه حسرة؛ حيث رأى نفسه خالياً عما رأى في منامه، فهو بين حسرة وحياء، فكذلك هذا المتعشق بغفلته، إذا قدم على الله، استحيا منه، حتى يتصبب عرقاً، وتحسرت نفسه إذا رأى ما فاته من موعود الله للمطيعين الأتقياء.
فمن آتاه الله المعرفة والعلم به، امتلأ قلبه وصدره منهما، فقهر الهوى، وهزمه، ونفر شيطانه، فإذا لاحظ الجنان، بكى حياءً من الله إن رأى جسده قد توسخ، وتدنس، الوسخ من الآثام، والدنس من العيوب، ورأى الجنة مقدسة بقدس الله، مطهرة بطهر الله، مسفرة تضحك إلى أولياء الله، فرجع العبد إلى نفسه، فرآها مع الأوساخ والأدناس، فاستحيا من الله، وبكى على أيامه التي عطلها على اكتساب رضوان الله، واكتسب بها معاصي الله، فهذا له الرجاء كل الرجاء إذا قدم على الله.
فالنفس في هذه الأربعة صورتها عجيبة إذا اشتهت، فصورتها كالريشة تهب بها الرياح، فصاحب الشهوة إذا هاجت به الشهوة، وجد هبوب ريحها بحرارتها بجميع جسده على قدر تلك الشهوة؛ لأن شهوة الأشياء(6/194)
متفاوتة، وفرح النفس بكل شهوة على قدرها من النظر، والسمع واللمس، والشم، والمطعم، والمشرب، والمركب، والملبس، وكل شيء، فهذه اللذات متفاوتة، والأفراح بها متفاوتة، وبعضها أقوى من بعض، فإذا هاجت شهوة شيء من هذه الأشياء، فالشهوة في أوله، واللذة في آخره، وإنما قيل: شهوة؛ لهشاشة النفس، والميلان إلى ذلك الشيء، والمسارعة لحب الوصول إليه، والمبادرة إليه مخافة الفوت، فتلك هشاشة، يقال: هش واهتش، وشهى واشتهى، فالشهوة مأخوذة من هناك، واللذة إذا نال الشيء فانتهى إلى آخره، فدل ذلك الهيج، وسكن سلطان الهشاشة، يقال: لذ وذل، فالذل انكسار النفس في الأمور، ولذ؛ أي: انكسرت شهوته عن الاهتياج والاغتلام والغلي.
وإنما هي باضطرام نار في أولها حتى تنتهي منتهاها، من الحريق، من يسكن فيبقي جمرة متلظية، حتى إذا قضاها، صارت كجمرة علاها الرماد، فذهبت الحرارة.
فأول الشهوة كضرمة النار، ولهبها، ودخانها، وآخرها، وهي اللذة كالجمرة التي تتلظى، وقد سكن ضرامها، ولهبها، وإذا انقضت، فهي جمرة خامدة، فقد ذهب تلظيها وحرارتها.
فصورة النفس في الشهوة، كريشة هبت بها ريح نكباء، فهي تدير(6/195)
النفس دوران الرحا، وصورة النفس في الرغبة، كعطشان يكاد ينقطع عنقه من العطش، فإذا رأى الماء، عبه عباً، يكاد يلتهم القدح التهاماً، أو كجائع غرثان، وجد طعاماً، فالتقمه، وبلعه بلعاً من غير مضغ.
وصورة النفس في الرهبة، كالعلق من الديدان، بينما هي منبسطة مقدار إصبع طويلة، إذا هي منقبضة مقدار فتر، وكالقنفذ من الهوام، بينما هي منبسطة ترى صورتها، وخلقتها، إذا هي منقبضة كالكرة قد اقشعرت، وشكست لضيق خلقها، وكالكلب اللهثان والمخلوع الفؤاد من الجبن، وكاللبدة البالية الملقاة ذلة وجبناً.
وصورة النفس في الغضب مرة كالأسد الذكر يفترس، ويكسر ويمزق، ويقعد عليه، ومرة كالنمر يثب وثبة من لا يهاب، ولا يبالي، فيمزق، ويكسر، ويبدد.
فإذا كان القلب أميراً، وللأمير كنوز، وجنود، فقد ملك النفس، وإذا ملك النفس، ذهب سلطانها وأفعالها، فحفظ القلب بعقله ومعرفته، وبعلمه بالله، حدود الله في هذه الأحايين الأربعة، فإذا اهتاجت الشهوة من النفس، والنفس مملوكة في يد القلب، أعطاها القلب من هذه الشهوة بمقدار ما أذن الله له فيه، وأحل لها، ومنعها ما حرم عليها، وأعطاها من(6/196)
هذه الرغبة ما أحل الله له، وصيره له غذاء، وقوة في دينه ودنياه، ومن الرهبة بمقدار ما حذره الله أن يرهب، وأعطاها من الغضب بمقدار ما أطلق الله له ذلك، فلا يحمله غضبه على أن يجاوز الحدود في الأمور، ولا يتعدى إلى الظلم، فيكون مع غضبه على من غضب متمسكاً بالعدل، فلا يتعداه إلى جور، فصاحب هذه الصفة هو الذي قال [فيه] رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ من كن فيه، حرمه الله على النار)).
أي: كان فيه ملك النفس في هذه الأحايين الأربعة في حين الشهوة، فاستوثق منها حتى لا يتطاير شررها، وتشتعل نيرانها في العروق، حتى يجاوز الحدود، لأن قوة النفس في العروق، واستوثق من الرغبة في حينها، حتى لا تفيض من مجراها، وتطفح من الجانبين، فينبثق من المجاري، وقوى الرهبة في حينها، وأيدها وشجعها؛ فإن الرهبة هرب النفس في الخوف الذي نالها، فأيدها وشجعها بقوة العلم بالله، وأيدها بالمعرفة بالله، وإذا خلا القلب من هذه المعرفة، والعلم بالله، ووفارة العقل، صار أسيراً للنفس بعد أن كان أميراً عليها، وذهب سلطانه، وصار مملوكاً للنفس، فبرزت الشهوة في وقتها، فأحرقت، والرغبة في وقتها، فأفسدت،(6/197)
والرهبة في وقتها، فانهزمت، والغضب في وقته، فيتسلط، فجاء الخراب والفساد والضياع، فهذا ملك النفس للقلب، وذاك ملك القلب للنفس.
1403 - نا سفيان بن وكيع، نا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد [كله]، ألا وهي القلب)).
فالقلب ملك، بصلاحه يصلح الجسد؛ لأن التدبير إليه، والنفس تحب الملك وتشتهيه، وتسامي وتباري القلب، فهي تطلب الفرصة، فإذا نالت، تملكت على القلب فأفسدته، وبفساده يفسد الجسد؛ بمنزلة أمير وقع في الحبس، وخارجي قد تملك على البلد، فضاعت الحدود والأحكام، وخربت الكورة، وظهر الظلم، والعدوان والحريق، والغارات، فالحريق: المعاصي، والغارات: غارات كنوز القلب، وصار الصدر كله معدن الجهل، والشره والبطر، والشهوة والرغبة، والكبر والعلو، والحرص، والحسد والحقد، وأخلاق الكفر، وقد أمر الله بمجاهدة النفس، فقال: {وجاهدوا في الله حق جهاده}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد جهادان، وأفضلهما جهاد النفس)).(6/198)
فإذا التقى القلب والنفس للمحاربة، هذا بجنود الله؛ من العلم، والعقل، والمعرفة، والفهم، والفطنة، والحفظ، والكياسة، وحسن التدبير، والحراسة، فتشعبت هذه الأنوار، فأشرقت، واشتعل الصدر بهذه الأنوار، فأبرقت، واضطرم شعاعها، والنفس بجنود العدو؛ من الهوى، والشهوة، والغضب، والرغبة، والكبر، والحرص، والمكر، والخدائع، والخنادق، والمدد من الزينة، والأفراح، فاضطربا وتحاربا، فذك وقت يباهي الله بعبده عند ملائكته، والنصرة موضوعة في تلك المشيئة في حجاب القدرة، فيعطى العبد نصرة بمشيئته، فتصل إلى العبد في أسرع من اللمحة واللحظة.
فلما رأى الهوى النصرة، ذل وانهزم، فانهزم العدو بجنوده، وأقبل القلب بجمعه وجنوده على النفس حتى أسرها، وحبسها في سجنه، وقعد أميراً، وجمع جنوده وقواده، التي ذكرنا في الباب الأول، وهي الأخلاق، وفتح باب بيوت الأموال، والخزائن، ورزق الجنود من الأموال، وزادهم من الخزائن في الآلة والعدة.
فهذا ملك القلب للنفس حين يغضب، وحين يرهب، وحين يشتهي، قد خسأ شيطانه، وحرمت جوارحه على النار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا التقى القلب والنفس للمحاربة، والتقى الجمعان، كانت صفته(6/199)
كجبريل مع محمد عليهما السلام يوم بدر، وإبليس مع الكفار يشجعهم، ويقوي أمورهم، ويعدهم ويمنيهم، فلما رأى جبريل، نكص على عقبيه هارباً، وقال: {إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله}.
إنما خاف الأسر أن يأسره جبريل فيفضحه، ويريه الناس، فهرب وترك الجمع، فكذلك الهوى، لما رأى المعرفة بسلطانها قد أقبلت، والعقل على مقدمتها، والعلم بالله محيطاً بالعسكر والجنود، نكص الهوى على عقبه، وتبرأ من الجنود.
فهذا ملك النفس للقلب، وملك القلب للنفس، ثم من بعد هذا الملك ملك آخر لأولياء الله، فذاك قلب يملكه الله، فإذا تعدى الحدود في الظاهر، لم يفسد، ولم يخرب، ولم يجترئ أحد على أن يستقبله بتغيير؛ لأن ذلك حد الله في الباطن، وقد خفي على الخلق، والحد عندهم في الظاهر غير ذلك.
فهذا قلب غلب عليه سلطان القبضة، فملكته، واستعمله الله في قبضته، كما استعمل الخضر في خرق السفينة، وفي قتل الغلام، وكان ذلك في الباطن حد الله، وفي الظاهر مخفي على الخلق، ولذلك أنكره موسى.
فهذه قلوب قد ملكها سلطان القبضة، وتلك قلوب قد ملكها سلطان الحق، والقلوب التي ذكرنا بدءاً ملكها سلطان النفس.
ومما يحقق ما قلنا:
1404 - ما حدثنا به أبو بكر بن سابق الأموي،(6/200)
قال: نا عمر بن عبيد، رفعه إلى علي -كرم الله وجهه-: أنه مر برجل وهو مقاوم امرأة، فأصغى إليه سمعه، فأنكر ما سمع منه، فشجه، فجاء الرجل إلى عمر رضي الله عنه والدم يسيل، فقال: ويحك! من فعل بك؟ فقال: علي، فقال عمر: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقص عليه، فقال عمر: أصابتك عين من عيون الله، إن لله في الأرض عيوناً، وإن علياً من عيون الله.
1405 - نا عبد الجبار بن العلاء، قال: نا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، سمعه من قيس، قال: عرض أبو بكر رضي الله عنه فرساً له، فقال غلام من الأنصار: احملني(6/201)
عليها يا خليفة رسول الله، فقال: لأن أحمل عليها غلاماً قد ركب الخيل بغرلته، أحب إلي من أن أحملك عليها، فقال: لم؟ فوالله! لأنا خير منك فارساً ومن أبيك، قال مغيرة: فما ملكت نفسي أن أخذت برأسه فركبته، فأقبل منخراه كأنهما عزلا مزادة، فبلغ أبا بكر أن أناساً من الأنصار يتوعدونه، قال أبو بكر: بلغني أن ناساً من الأنصار يتوعدون المغيرة بن شعبة، والله! لأن يخرجوا من ديارهم أسرع من أن أقيدهم بوزعة الله تعالى.(6/202)
الأصل الثالث والستون والمئتان
1406 - أنا محمد بن علي الترمذي، قال:
نا صالح بن محمد، قال: نا معلى بن هلال، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)).
1407 - نا عيسى بن أحمد العسقلاني، نا يزيد بن هارون، عن يزيد بن عياض، عن صفوان بن سليم، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عبد الله بشيءٍ أفضل من فقهٍ في الدين، ولفقيهٌ واحدٌ أشد على الشيطان من ألف عابدٍ، ولكل شيءٍ عمادٌ، وعماد هذا الدين الفقه)).(6/203)
1408 - نا محمد بن زنبور المكي، قال: نا إسماعيل ابن جعفر، قال: نا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن أبيه، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالفقه مشتق من التفقي، وهو انكشاف الغطاء عن الشيء، يقال: تفقأت الثمرة عن أكمامها، وتفقأ العين عما فيه، وفقأ عينه: إذا انخرق الحجاب، وانكشف عن الحدقة.
فعلوم الأشياء في الصدر مجتمعة، متراكمة بعضها على بعض، فإحساس القلب من ذلك العلم هو علم القلب، أداه إلى الذهن، وإلى الحفظ، فالذهن قبله، واستودعه الحفظ، حتى يؤديه إليه عند الحاجة، فأداؤه في وقت الحاجة، كنبعان العين ينفجر منه الشيء بعد الشيء، فما دام هكذا، فهو ساكن خامد لا قوة له، فإذا تصور في الصدر لعيني الفؤاد، قوي القلب بذلك الذي تصور، فذلك علم مستتر، وفي القلب بقية من(6/204)
الضعف والخمود.
فإذا انكشف الغطاء عن الصورة التي تصورت في الصدر، فذلك الفقه؛ لأنه حين تصور في الصدر، أحس القلب بتلك الصورة علماً، ولم يره؛ لأن الغطاء قائم بينه وبين العلم، وهو ظلمة الهوى، وهو عالم بذلك الشيء يترجمه بلسانه، ويتضمنه بحفظه، ويمثله صورة بعقله، وليست له قوة ينتصب قلبه لذلك، ويتشمر لفعله، ويطمئن إليه مع حرارة العلم وقوته.
فإذا انكشف الغطاء عن تلك الصورة التي صورها عقله، صار عياناً للفؤاد، فيقال لذلك العيان: علم اليقين.
قال الله تعالى: {كلا لو تعلمون علم اليقين. لترون الجحيم. ثم لترونها عين اليقين}.
فعين اليقين يوم القيامة، وعلم اليقين في الدنيا في الصدر، فسماه: رؤية؛ ذلك ليعلم أن هذه رؤية عين الفؤاد، وتلك في الآخرة رؤية عين الرأس، فهذا الذي انكشف له الغطاء، وانفقأ الحجاب عن مكنون العلم، أبصر بعين الفؤاد صورة ذلك الشيء المعني، فسمي ذلك فقهاً، وإنما هو في الأصل فقء -القاف مهموزة-، فلما ثقلت، أبدلت بالهمزة هاء، فقيل: فقه.
قال الله تعالى فيما يحكي قول شعيب عليه السلام حيث يقول لقومه: يا قوم {بقيت الله خيرٌ لكم}، ويا قوم {واستغفروا ربكم ثم توبوا(6/205)
إليه إن ربي رحيمٌ ودودٌ}، {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي}.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً يقول: ((ذاك خطيب الأنبياء))؛ لحسن دعائه قومه، ومراجعته، وتلطفه في الدعوة، فقال في آخر ذلك: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول}.
فمن فقه ما يقال له، تبين عليه أثره، فهؤلاء الذين انتحلوا هذا الرأي، وأكثروا الخوض فيه، واجتمعت عندهم كتب الرأي، أعجبوا بهذا الشأن حين سموا هذا فقهاً، وخيل إليهم أن هذا هو الذي ما عبد الله بمثله، وهو هذه المسائل التي عندهم قط، ولا يعلمون أن أساتذتهم تكلموا بها، ثم قالوا: وددنا أنا نجونا منه كفافاً، لا لنا ولا علينا، منهم: إبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن، وابن سيرين في زمانهم، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، ومالك في زمانهم -رضي الله عنهم أجمعين-.
فكلٍّ يتمنى الخلاص منه، لا له ولا عليه، وإنما هذا نوع من العلم(6/206)
لابد للناس منه لحفظه على الأمة، فأما سائر العلوم التي حاجة الناس إليها في كل وقت، في ليلهم ونهارهم، فأعرضوا عنها حتى صاروا في خلو من ذلك كله، وصار هذا النوم عندهم فتنة، فتراه الشهر والدهر يقول: لا بأس، ويجوز، ولا يجوز، يدخل فيما بين الله وبين عباده، مع الحيرة في ذلك، ولا يدري أصواب هو أم خطأ؟
ثم تراه في خاصة أمره ودينه في عوجٍ كله، فإقباله على نفسه حتى يكف منها ما لا يجوز، خير له من إهماله نفسه، وإقباله على إصلاح الناس، وذلك لتعلم أنه مفتون، ويسعى في الخراب، وكان المتقدمون أولى بالشفقة على الأمة، والحدب على الدين، والنصيحة لله، فشغلهم إصلاح أنفسهم عن الانهماك في هذه الأشياء، حتى تلهيهم عن عيوب أنفسهم، والقيام عليها بإصلاحها.
فيقال لهذا الذي توهم أن هذه الفضائل، وهذه الرتبة لمن تفقه في هذا النوع الواحد، فإذا فهمه، ماذا يجري عليه من نفعه، وهو لا يدري متى ينزل به؟ ومتى يحتاج إليه هو أو غيره حتى ينتصب لفتياه؟(6/207)
فإعجابك بهذا كل هذا: كيف إذا فقهت كلام رب العالمين الذي أدب به عبيده، ووعظهم، وعطف به عليهم، كيف يجعلهم غداً مملوكاً في دار السلام؟
فمن فقه عن الله قوله: {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره}، أمسك عن الصغير والكبير، والدقيق والجليل من الشر، ولم يستحقر ما دق من الخير وصغر، ولم يستهن به، وأمات هذا الوعيد من نفسه البطالات كلها.
ألا ترى إلى الأعرابي الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة، قام، وركب راحلته، وقال: حسبي حسبي، ومر على وجهه، فقال رسول الله: ((فقه الأعرابي))؟!
فهكذا يكون الفقه.
من فقه ما في هذه السورة؛ من شأن الأرض وما يحل بها، ومن شأن النفس حين ترمي بها الأرض، وما تخبر الأرض، وتنطق عن سرائره، وذكر الصدر من بين يدي الله تعالى: {أشتاتاً ليروا أعمالهم}،(6/208)
ثم وجد أعماله موزونة بمثاقيل الذر من الخير والشر، فكيف لا يكون هذا حسبه فيما بينه وبين الله تعالى؟
ومن فقه عن الله قوله: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفسٌ شيئاً وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين}.
فكيف لا يكون هذا حسبه فيما بينه وبين العباد، حتى ينصف الخلق من نفسه، ويؤدي إلى كل ذي حق حقه من نفسه وماله؟
ومن فقه عن الله تعالى قوله: {وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها}، كيف لا يكون حسبه فيما بينه وبين معاشه، ولا يخرج هم الرزق من قلبه حتى يثق بربه ويطمئن إلى ضمانه؟.
ومن فقه عن الله قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه} الآية، فكيف لا يكون هذا حسبه من الثقة بخلفه، حتى لا يجد في وقت الإنفاق ضيقاً في صدره، ولا حزازة في نفسه.
ومن فقه عن الله قوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} ثم ذكر أصناف الشهوات، ثم قال: {قل أؤنبئكم بخيرٍ من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم}.
كيف لا يكون هذا حسبه في نزوله على ما اختار له ربه، حتى يلهو(6/209)
عن حب هذه الشهوات، ويتشمر في طلب الذي أعلمه الله أنه خير من ذلك، فيطلب تلك الخصال التي عدها لنوال هذا الخير من قوله تعالى: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} الآية.
ومن فقه عن الله قوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} الآية {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}.
كيف لا يكون هذا حسبه من معاملته ربه، حتى ينكمش في الإحسان، ويطلب من نفسه حسن الأشياء في كل أمر لمعبوده؟
ومن فقه عن الله قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
كيف لا يكون هذا حسبه، حتى يعلم أنه خلق للعبودة، وأن عبودته في جميع حركاته كلها، فإن كانت حركاته مما قد حسنها الله في تنزيله، وعلى ألسنة الرسل -عليهم السلام-، فقد عبده، وإن كانت سيئة قد قبحها الله تعالى، فقد ترك عبودته.
ومن فقه عن الله قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما(6/210)
كسبت أيديكم ويعفوا عن كثيرٍ}.
كيف لا يكون هذا حسبه، حتى يهون عليه المصائب؟ لأنه أخبره أني صيرت هذه المصيبة قصاصاً ببعض ما عملت من السوء، وعفوت عن الكثير الباقي؛ كأنه قال: إنما قاصصتك بهذه المصيبة بشيء يسير من ذنوبك، حتى أنبهك من رقدتك، وعامتها باقية جمة، فوعدك العفو عن ذلك الكثير الجم، فعظم أملك لربك.
ومن فقه عن الله قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخيرٍ فلا راد لفضله}.
كيف لا يكون هذا حسبه، حتى يجمع كل الرجاء في الخير، وانتظار الفرج، فيذهب بقلبه إلى بابه منتظراً ما يخرج من أرحم الراحمين أقضيته، ومن أحكم الحاكمين حكمه، حتى ينقطع رجاؤه وخوفه من المخلوقين، ويصير حراً من رق نفسه، ومن تبصيص خلقه، وملقهم، ومن انهزامه عنهم، ومن تعيير الله حيث عير المنافقين؟ فقال: {لأنتم أشد رهبةً في صدورهم من الله ذلك بأنهم قومٌ لا يفقهون}.
فإنما برأ من الفقه من كانت هذه صفته، فكانت رهبته من المخلوق طافحة على نفسه، غالبة على رهبة الله، وقال الله تعالى حكاية(6/211)
عنهم: {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون} الآية.
فمن رأى رزقه وحاجاته من الدنيا بيد الخلق رؤية تلهيه عن الله، حتى يضيع حقوقه، ويداهن في دينه، قد برأه القرآن من الفقه.
ومن فقه عن الله تعالى قوله: {ادعوني أستجب لكم}، كيف لا يكون هذا حسبه، حتى يعلم أن الله أكرمه بغاية الكرامة، ورفع درجته، وعظم شأنه، ففرح بذلك واستغنى، وعرف محله من ربه، فلو أن لملك من ملوك الدنيا عبداً من عبيده كتب إليه الملك: أرفع إلى حوائجك، لامتلأ سروراً وغنى به، واستند إلى ذلك القول منه، وهو عبد مثله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ربما اشتغل عنه غداً، ويخلف وعده، أو عجز عنه، فلا يقدر على إنجازه، أو يموت، فهو يتكل على هذا الكتاب منه، ويمتلئ من نفسه فرحاً، وهذا كتاب رب العالمين، ينطق بأن الله قد قال هذا، لم يخرجه مخرج الأمر والندبة، ولكن أخرجه على إبراز القول،(6/212)
فقال: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}، فمن يعلم ما في حشو هذه الكلمة؟ فمن علمها، استغنى بها عن الحاجة، ثم إذا دعا، دعا على يقين من الإجابة، ثم ينتظر الوقت، كما قال لموسى وهارون: {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} الآية؛ أي: أن سبيل الذين لا يعلمون الاستعجال.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال العبد بخيرٍ ما لم يستعجل ربه))، قيل: كيف يستعجل ربه يا رسول الله؟ قال: ((يقول: دعوت فلم يستجب لي)).(6/213)
فهل استعجاله إلا من قلة فقهه؟! لا يفقه أن ربه قد خار له حتى يأتي وقته، فيعطيه أكثر مما سأل.
ألا ترى أنه روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا دعا العبد، يقول الله تعالى: يا جبريل! احبس حاجة عبدي؛ فإني أحب صوته، وقد أجبته إلى ما سأل)).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: مثل ذلك، وقال: ((يا جبريل! احبس حاجته)).
ولا يخطر ببال هذا العبد هذه الحاجة إلا وله مع كل خطرة مغفرة، أو كما قال.
فيصل إلى العبد في وقته مع مغفرة كثيرة، فإذا فقه هذا، لم يستبطئ إجابته، ولم يستعجل ربه.
فالفقه في هذا، لا في تلك المخاتلات والخدائع التي يحدثها العبيد الأباق في سيرهم إلى الله في معاشهم؛ من نهب الدنيا حرصاً وجمعاً،(6/214)
وتضييعاً لدين الله، فتنظر إليهم بعين الرحمة فيما تزعم نفسك، فتشتغل بتسوية أمورهم في عامة نهارك، وتضييع الفقه في دينك في خاصة نفسك، وتنسى نفسك وتذكرهم، فلينظر صاحب هذا لا يكون ممن قد خدعته نفسه، فتلذذ بما احتواه، وشخصت أبصارهم إليه، حتى صيره تلذذه عبداً، جباراً متملكاً، مقتدراً، فهو يعامل الخلق في تسوية أمورهم على التمليك، والاقتدار، والتجبر، والاعتداء، حتى تكون محبته أن ينزل الخلق كلهم على قوله، ويصدروا عن مشيئاته، فإذا هو جبار عاتٍ قد رمى بالعبودة، وتشبه بالأرباب.(6/215)
الأصل الرابع والستون والمئتان
1409 - نا سفيان بن وكيع، قال: نا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة، قال: سمعت أبي، قال: سمعت عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء، قال: ((غفرانك)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:(6/217)
قوله: ((غفرانك)): طلبٌ من المغفرة على قالب فعلان، وهي أعظم القوالب وأوفرها؛ كقولك: رحيم ورحمان، وعار وعريان، وكفر وكفران.
فرحمان: وفارة الرحمة، وبلوغ الرحمة العظمى، وعريان: الذي تعرى في الكسوة، فهو ببشرةٍ، والعاري: الذي تعرى من الثياب، والعريان تعرى من الكسوة، فغفران وسبحان وكفران، هذه كلها يراد به: الوفارة والكثرة، وبلوغ غاية من الغايات.
فسأل ربه عند خروجه من الخلاء المغفرة الوافرة، وإنما صارت هذه الكلمة بين الكلام في هذا المكان؛ لأنه نظر إلى أمر عظيم، وذلك: أن آدم عجن الله طينته، وخمره، وصوره وخلقه بيده، ووضع فيه أموراً عظاماً في باطنه، ونفخ فيه من روحه، فكان بديع فطرته، وصنع يده.
1410 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا حيوة بن شريح الحمصي، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلق الله آدم من ترابٍ، وعجنه بماءٍ من ماء الجنة)).(6/218)
فلم يكن يصلح له مكان يليق به مع هذه المكارم إلا داره، فتوجه وكلله، وختم بخاتم الملك، وكساه، ونظفه، ووضعه على سرير هو وزوجته، وأمر ملائكته بحملهما إلى داره، فلم يزالا في داره طاهرين بتطهير الله، عالمين بالله، فرحين مسرورين مكرمين، حتى إذا جاء وقت الشقوة، وغلب القضاء والقدر على جميع ما أعطاهما، وخلص العدو إليهما، فأكلا بأمر العدو، فصار تلك الأكلة فرصة إبليس منهما، والمأكول حظه منهما، فصارا عاريين من جميع هذه الكرامات، وأخرجا مذمومين، وصار مستقر تلك الأكلة سلطان إبليس ومملكته، والشيء المأكول منتناً، وإنما نتن؛ لكينونة العدو ونجاسته، وكفره فيها، فكلما ظهر من ذلك الموضع بلة، أو غائط، أو ريح، أمر بالوضوء، وغسل ذلك المكان، فالوضوء من توضئة الأعضاء التي هي جوانب الجسد، حتى تصير وضيئة.
فإنما لاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من الخلاء ذلك الذي حل بأبيه، فورثه عنه، فظهر ذلك عليه، فالتجأ إلى عظيم المغفرة، فقال: ((غفرانك))؛ أي: ما لقينا من تلك الخطيئة.(6/219)
فلو أن رجلاً وقف تحت ميزاب الكعبة حتى جرى من الميزاب، فتلقاه بفيه من الماء الذي نزل من السماء، ولم يمازجه شيء من الدنيا، فدخل جوفه، ثم خرج من هذه المخارج، لأمر بالغسل والوضوء، وحكم له بحكم النجاسة، فإذا فكر في هذا، فهم أن هذا الماء الذي نزل من السماء، ولم يمازجه شيء من الدنيا، فدخل جوفه، ثم خرج من هذه المخارج قد وصل إلى المعدة في مجاورة العدو الذي جعل له السبيل إلى هذا الآدمي.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) قالوا: ومنك يا رسول الله؟ قال: ((ومني، إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم)).
فمستقره تحت المعدة على مطحن العلف، ثم يجري مع الدم في العروق سلطانه، فلو أن السماوات الأرض زالتا بتلك الخطيئة، ما كان بمستنكر.
فالمتنبه: إذا دخل الخلاء، وأحس حياة قلبه بما يخرج منه، استحيا، وعرف أن هذا ميراث تلك الخطيئة، وذكر بدو أمره، فاستحيا(6/220)
من الله، فإذا خرج، التجأ إلى الغفران؛ لأنه بعد ما حل به من ميراث تلك الخطيئة حتى ألقاه في الدنيا، ونتن في أجواف ولده الطعام الطيب، وأمر بغسل الأطراف منها، أذنب أيضاً أمثال الجبال، فعظم شأن ذنوبه عنده في ذلك الوقت، فالتجأ على سؤال الغفران، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنع رأسه.
1411 - نا محمد بن علي الشقيقي، قال: نا أبي، قال: نا عبد الله، قال: أنا أبو بكر بن أبي مريم، عن حبيب ابن صالح: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المرفق؛ لبس حذاءه، وغطى رأسه)).
ويروى عن أبي بكر الصديق: أنه قال: إني لأدخل الكنيف،(6/221)
فأقنع رأسي حياءً من الله تعالى.
فهذه ملاحظة الرسل والأنبياء والأولياء.
فأما العامة، فليسوا من هذا في شيء، فهم لا يرون هذا بقلوبهم، ولا يعرفونه، وإنما أدبوا بالحمد بأن يقولوا: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى وعافاني، فردوا إلى حال النفس، ونعمة الله عليهم.
1412 - نا صالح بن محمد، قال: نا الربيع بن بدر، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء، قال: ((اللهم أذهب عني الرجس النجس، الخبيث المخبث، الشيطان الرجيم))، فإذا خرج من الخلاء، قال: ((الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)).(6/222)
فهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين الأمة، فأما الكلمة الأولى، ففيما بينه وبين الله، وكذلك شأن الكبراء، كلامهم في الباطن مع الله غير كلامهم في الظاهر.
قال له قائل: مثل ماذا؟.
قال: في الظاهر مع الخلق يقولون: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفي الباطن يقولون معه: لا إله إلا الله فقط.
وفي الظاهر يقولون: الحمد لله الذي أطعمني، وسقاني، وأرواني، وكساني، وأشبعني، ولو شاء أجاعني، وأظمأني، وأعراني.
وكذلك روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الباطن يقولون: الحمد لله فقط.
وفي الظاهر يقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وفي الباطن يقولون: ما شاء الله، ينشرون مع الخلق عن الله ذكر ربوبيته، وإلهيته، وصنائعه ذلك منشوراً مشهوراً مستفيضاً لنباهة القلوب المستمعة إليه.
وفي الباطن إذا قالوا: لا إله إلا الله؛ ولهت قلوبهم في ألوهيته،(6/223)
ولا يلتفتون إلى شرك الشركاء فلا يذكرونه، فإن القلوب الوالهة به إذا نزهت عيون الأفئدة منهم في ملكه، صعب عليهم في ذلك الوقت أن يلتفتوا بقلوبهم إلى شرك مدع لا يحبون أن يذكروا معه أحداً، وكذلك في الحمد إذا رفعوا الحمد لله بقلوبهم إلى عش الحمد أثقل عليهم أن يلتفتوا إلى ذكر النعمة، وكذلك في المشيئة إذا وقعوا في بحرها، ارتفع عنهم ذكر كان ويكون.
1413 - نا أبي، عن صالح بن محمد، عن ابن مقاتل، قال: كان ابن سيرين إذا خرج من الكنيف، فلم يره أحد، ولم ير أحداً، خر ساجداً باكياً؛ لما أنعم عليه أن سهل له خروج الأذى.(6/224)
الأصل الخامس والستون والمئتان
1414 - حدثني إبراهيم بن المستمر الهذلي، قال: نا محمد بن بكار العقيلي، قال: نا سعيد بن بشير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ذكوان أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله! إني كنت أصلي في بيتي، فأسره، فاطلع على رجل، فأعجبني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لك أجران: أجر السر، وأجر العلانية)).(6/225)
1415 - نا أبي، قال: نا أبو نعيم، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي صالح -ولم يذكر أبا هريرة-، قال: قال رجل: يا رسول الله! إني أسر العمل، فإذا اطلع عليه، أعجبني، قال صلى الله عليه وسلم: ((لك أجران: أجر السر، وأجر العلانية)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذا رجل صديق، ناصح الله في خلقه، أسر العمل لا عن ضعف يقين، ولكن خلا بربه يناجيه، فلما اطلع عليه، أعجبته رؤيته إياه؛ كي(6/226)
يبتدر بمثله، ويقتدي به، فهذا لقوة يقينه، لم تعمل فيه رؤيته، فتتحرك من نفسه شهوة الفرح، واتخاذ المنزلة عند من رآه في ذلك، ولكن أعجبته رؤيته، حتى يحل بصدره ما رأى منه، فيتقدي به.
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((خير أعمالكم التي تحبون أن يعلم بها)).
قال زيد: والرجل يكتمها ليسلم.
1416 - نا بذلك صالح بن محمد، قال: نا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أثنى الله على قوم، وسماهم: {وعباد الرحمن}، وبين أن مثواهم غرف الجنة، وعد خصالهم التي بها أثنى عليهم، ثم حكى عن دعائهم له قوله: {هب لنا من أزواجنا} الآية، فهم أهل الغرف في أعلى الدرجات، سألوه أن يجعلهم أئمة لمن يقتدي بهم، فلا يكون أمر هذا مكتوماً، وكيف يأتم به إن أسر العمل؟! فهؤلاء نصحاء الله، والدعاة إلى الله، فيدعون بألسنتهم، ويدعون بأفعالهم التي يظهرونها على أعين الخلق، يحثون الخلق على ذلك.
فإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: ((لك أجران: أجر السر، وأجر العلانية))؛ لأنه نوى بالسر أمراً، وبالعلانية أمراً، ولو لم يكن(6/227)
هكذا، لم يكتب له أجران، فإنه: ((لا أجر لمن لا نية له)).
فهذا عبد قد نوى أن يسر بعمله؛ ليخلو بربه؛ لئلا يشكر عليه أحد غير ربه، ثم إذا اطلع عليه، نوى الانتفاع به، وأن يقتدي به مقتد، فالسر مضاعف على العلانية بسبعين ضعفاً، والعلانية صاحب هذا مضاعفة على سره بسبعين ضعفاً؛ لأن سره: خلوه بربه؛ لئلا يشكره عليه أحد غيره، وإعلانه: نصيحة له في عباده، ليس به في وقت سره التفات إلى مدح الناس، فيهرب منه، ولا في وقت علانيته المنزلة عند الناس.
1417 - نا الفضل بن محمد الواسطي، قال: نا محمد بن مصفى الحمصي، قال: نا بقية، قال: نا عبد الملك ابن مهران، عن عثمان بن زائدة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السر أفضل من العلانية، والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء)).
فإنما صار عمل السر مضاعفاً على العلانية بسبعين ضعفاً من جهات:(6/228)
فجهة منها: أن الذي يسرها، إنما يسرها لتصفو له؛ لأنه إذا أحست نفسه بشعور الناس، علمت أنه ينال بذلك عند الخلق رفعة وكرامة، وصارت له من القلوب منزلة بقضاء حوائجه، ويعظم على ذلك، ففرحت بذلك، وقويت بما دخلها من الفرح، فإذا هو يطلب الجزاء من الله، والثواب من الخلق، فهذا الذي في نفسه هذه الفتنة كائنة، يجاهد نفسه في وقت العمل إذا أعلن به، حتى ينكر ذلك عليها، ولا يرضى، ولا يقبل منها هذا الوسواس، ولا يطمئن إليها.
فإن أغفل المجاهدة طرفة عين، وجد نفسه في عين هذه الفتنة، فإن تراخى، ولم يتشمر لرد ذلك عليها، صار عمله رياءً، وإن لم يقبل ذلك من نفسه، وكره بقلبه ما جاءت به، وثقل عليه شأنها، ثبت له عمله مع المجاهدة، فصاحب هذا ضعيف اليقين.
فإذا هرب من الإعلان وأسره، ضوعف له عمله سبعين ضعفاً؛ لأنه يفرغ لله قلبه من إشغال النفس، ومن تلك الهيئات التي كانت النفس تورد على قلبه، حتى كان يحتاج إلى الاشتغال بالمجاهدة، فهو عمل ظاهر قد خلا بطاعة ربه وعبودته في ذلك الوقت في ذلك العمل، فصارت الواحدة سبعين؛ لأن التربية ألقيت إلى التوحيد، فهو الذي يريبها، فإذا أعلنها نصحاً لله في عباده، وحباً لأن يعبده الخلق بمحابه، صار السبعون مضاعفاً الضعف الذي لا يحصيه إلا الله.
فإذا لم يكن من رجال الإعلان، ولم يبلغ قلبه من المنازل محلاً، تموت فتنة نفسه، ويفتقد منها حب المدح من الخلق، وفرح الرئاسة، والعلو، أمسك عن الإعلان، وأسره، فإذا أسره، فقد صانه، وخلا بطاعة(6/229)
ربه وعبودته، وحسم على نفسه باب الفرح بشعور الناس به، ولم تجد النفس ما ترجو به نفعاً، أو تأمل به عند الخلق جاهاً ورفعةً، فأيست وسكنت، وصفا العمل بصاحبه بتلك النية الصادقة في مبتدأ عمله، وسلمت النية، وإنما سلمت بما أسره، فهذا للمقتصدين.
ووجه آخر للسابقين المقربين، فإذا أسر العمل، فإنما يسره ليخلو بربه في تلك الطاعة؛ فإن الله تعالى موجود بكل مكان، وفي كل طاعة، فإذا أسر العمل، وخلا بربه في العمل، برز له وجوده في صدره بين عيني فؤاده، فمن يقدر أن يصف ذلك البروز، وتلك الحلاوة، وذلك الطيب؟ ومن يقدر أن يصف تصور القلب في أحواله، وهشاشة النفس في أحوالها؟ وهو:
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام: ما الإيمان؟ وما الإسلام؟ وما الإحسان؟ فأجابه في كل ما سأله، وقال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك))، قال: فإذا فعلت ذلك، فأنا محسن؟ قال: ((نعم))، قال: ((صدقت)). فعجبنا من تصديقه له.
لأنهم لم يعرفوا أنه جبريل حتى أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
وروي عن ابن عمر: أنه لحقه عروة بن الزبير في الطواف، فخطب إليه ابنته، فلم يكلمه ابن عمر، فلما قدما المدينة، ولقيه عروة، قال له ابن عمر: إنك كلمتني في الطواف، فما كلمتك، وإنا كنا نتراءى الله بين أعيننا، فهل لك فيما سألت؟ قال: نعم، فزوجه بعد ذلك.
1418 - نا قتيبة بن سعيد، وإسماعيل بن نصر، عن(6/230)
محمد بن يزيد الخنيسي، قال: نا عبد العزيز بن أبي رواد، قال: نا نافع، عن ابن عمر، قال:
1419 - نا عبد الرحيم بن يوسف، قال: نا يعلى بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده عبد الرحمن، عن أبي ابن كعب، قال: كنا جلوساً في المسجد، فدخل رجل، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم جاء آخر، فقرأ سوى قراءة صاحبه، فلما انصرفا، دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحسنتما أو أصبتما))، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حسن شأنهما، سقط في نفسي، وودت أني كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله ما غشيني، ضرب بيده في صدري، ففضت عرقاً، وكأني أنظر إلى الله فرقاً، فقال: ((يا أبي! إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرفٍ، فرددت إليه: أي رب! هون على أمتي، فرد إلي الثانية أن(6/231)
أقرأ على حرفين، فقلت: يا رب! هون على أمتي، فرد إلي الثالثة أن اقرأه على سبعة أحرفٍ، ولك بكل ردةٍ رددتها مسألةٌ تسألينها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، مرتين، وأخرت الثالثة إلى يومٍ يرغب إلي فيه الخلق، حتى إبراهيم)).
1420 - نا أبي، قال: نا محمد بن يزيد الخنيسي، عن عبد العزيز بن أبي رواد، رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة حارثة؛ حيث قال له: ((كيف أصبحت يا حارثة؟))، قال: مؤمناً حقاً، قال عليه السلام: ((وما حقيقة إيمانك؟))، قال: كأني أنظر إلى الله فوق عرشه.
هذا في رواية عبد العزيز.(6/232)
1421 - نا عبد الجبار بن العلاء، قال: نا يوسف ابن عطية، عن ثابت، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في حديثه: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً.
رجعنا إلى ذكر صفة السابقين المقربين آيةً: والسابق المقرب إذا أسر العمل، خلا بربه في العمل، وسر به، فبرز له وجوده على القلب في الصدر.
والأول: المقتصد، أسر العمل، فخلا بطاعته وعبودته، لا بربه، فبرز له توحيده على قلبه في صدره، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حيث قال: ((فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)).
فهذا علم أنه يراه، فيطيبه هذا العلم، فيتولى تربية عمله توحيده، والسابق يتولى تربية عمله ربه الجواد الكريم، فإذا أسر السابق -الذي هذه صفته- عملاً من أعماله، فإنما يسره؛ ليخلو بربه، فيجده في العمل.
وذلك قول عامر بن عبد قيس: ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه أقرب.(6/233)
وقول محمد بن واسع: ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه.
فقد تباين قولاهما، مع رفعة قوليهما، وجلالة حظيهما في القولين.
فإذا وجده السابق في العمل، على مشاهدة القلب، عظمه وحسنه، وزينه وبالغ فيه، ثم جعلـ[ـه] من وراء ظهره، فلم يلتفت إليه؛ لأنه إنما يسره من أجل شيئين:
أحدهما: أنه يريد أن يطفئ نار شوقه إلى ربه بوجوده في العمل، لأنه إذا وجده، فأول ما يلاقي قلبه برد الرحمة، وقرة العين، فإذا قرت عينه، وناله برد الرحمة، أطفأت نار الشوق، فسكنت، فهذا وجه.
ووجه آخر: أن عين قلبه مادة إلى جلاله وعظمته، باهتة في كبريائه، ومجد عظمته، فينال بذلك نزاهة النفس بعين القلب، فيزداد حياةً بالله، ولم يسره، يريد بذلك تصفيته مما يخالطه من فتنة النفوس؛ لأن نفس هذا قد ماتت، وافتقد [ت] وساوسها، وذهبت مناها منها، وصار القلب حراً، وصدره نزهاً بنزهة اليقين، وأطايب المعرفة، وعلم الآلاء.
وقال له قائل: فإذا بلغ القلب هذا المحل، وصار بهذه الصفة، فلم يسر العمل، ولم لا يعلنه، حتى يقتدي الخلق به، فيدخل عمله في ذلك التضعيف الذي لا يحصى ثوابه؟
قال: صاحب هذا، قد لها في الثواب قلبه، ووله بالماجد الكريم، قد وقف بعمله على مفرق الطريق، وكلا الطريقين قد صارا مستقيمين إلى الله، فإذا أسر، فإنما يسره من قبل ما وصفنا من وجوده، وطفي نار(6/234)
الشوق بوجوده.
ومن وجه آخر: يحب أن يسره، يريد بذلك: أن يغيبه عن أعين الخلق، فإن الخلق إذا رأوا صلاة، نظروا إلى زينةٍ وبهاء، وإذا رأوا صوماً، نظروا إلى زهدٍ وتزاهدٍ، وإذا رأوا عطية وصدقة، نظروا إلى سخاءٍ ومكارم الأخلاق، وإذا رأوا حجاً، نظروا إلى نسك وعبادة، وإذا رأوا صمتاً وانقباضاً، نظروا إلى خشوع وصيانة، وإذا رأوا نشر علم، نظروا إلى ملك الدين، فنزل من قلوبهم هذه المنازل، فأكرموه، وشرفوه، وعظموه، وحملوه على الرقاب، وملك قلوبهم وأبصارهم، فإذا بدا لهم، شخصت الأبصار إليه علواً وشرفاً، وإذا خالطهم، نفذ حكمه في أمورهم، فإنما يسر أعماله، ومحاسن عبودته من الناس؛ لئلا يكسب من الخلق هذه المنزلة غيرةً لربه، فإذا أسرها من هذا الوجه، كان ممن باهى الله به ملائكته، وقال: هذا عبدي حقاً، فإذا أثنى عليه بالعبودة حقاً، نظرت الملائكة إلى بهاء هذا العبد، فرأوا أمراً عجيباً، فلم يكن الله ليباهي به، ويشهد له بحقيقة العبودة، ويثني عليه عجباً به، ثم لا يفيده شيئاً، فكان أول ما يفيده: أن ينشر ثناءه الذي أثنى به عليه في ملائكته على قلوب أهل الأرض، حتى ينظروا إليه بتلك العين، وتتناسم الأرواح برؤيته، وتتباشر القلوب بلقائه، وتلتذ العيون الشاخصة إليه برؤيته.
1422 - نا سهل بن العباس، قال: نا الفضيل بن عياض، عن منصور، عن هلال بن يساف، قال: قال(6/235)
عيسى صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم صوم أحدكم، فليدهن شفتيه، وإذا تصدق، فليخف يمينه من شماله، وإذا صلى، فليدل على بابه سترةً؛ فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق.
فهذا وجه إسراره العمل، فإذا أعلنه، فإنما يعلنه حباً بأن يعبد الله تعالى في أرضه بمثل ما يعبده؛ نصحاً لله تعالى في ذاته، ونصحاً لله في دينه، ونصحاً لله في كتابه ورسوله وخلقه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
((ألا إن الدين النصيحة -ثلاث مراتٍ-))، قيل: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
1423 - نا بذلك أبي، قال: نا أبو نعيم، عن سفيان الثوري، عن سهيل بن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن تميم الداري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
((خيار عباد الله الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون(6/236)
العباد إلى الله، ويمشون له في الأرض نصحاء)).
1424 - نا بذلك أبو الأشعث العجلي، عن حزم، عن الحسن.
فقوله: ((يحببون الله إلى عباده))؛ أي: يذكرونهم آلاء الله ونعمه وإحسانه، ((ويحببون العباد إلى الله))؛ أي: يأمرونهم بالطاعة حتى يطيعوه فيحبهم، ((ويمشون لله في الأرض نصحاء))؛ أي: دعاة إليه وإلى دينه.
فالدعاة إلى الله دأبهم في شهرهم ودهرهم: أن يعلنوا الخير؛ كي يقتدي الناس بهم، ولذلك أثنى الله على من سأله فقال: {واجعلنا للمتقين إماماً}.
فإذا أسروا: فللوجه الذي وصفنا بدءاً، فهم على مفرق الطريقين، فأي طريق فتح لهم، مروا فيه، فهم في كلا الطريقين مستقيمون وجيهون عند الله تعالى.(6/237)
1425 - نا حفص بن عمر [و]، قال: نا يزيد بن هارون، قال: نا العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لما خلق الله الأرض، جعلت تميل، فخلق الله الجبال، فألقاها عليها، فاستقرت، فتعجبت الملائكة من شدة الجبال، فقالت: يا رب! هل من خلقك شيءٌ أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، فقالت: يا رب! هل من خلقك شيءٌ أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار، فقالت: يا ب! هل من خلقك شيءٌ أشد من النار؟ قال: نعم، الماء؟ فقالت: يا ربّ هل من خلقك شيءٌ أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح، فقالت: يا رب! هل من خلقك شيءٌ أشد من الريح؟ قال: نعم، الإنسان، يتصدق بيمينه يخفيها من شماله)).(6/238)
فهذه رواية أنس بن مالك.
فأما ما روي عن علي:
1426 - فحدثنا به الجارود بن معاذ، قال: نا وكيع، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن علي -كرم الله وجهه-: أنه قال -عندما بلغ ذكر خلق الإنسان في هذا الحديث- قال: ثم خلق الإنسان يغلب الريح يتقيها بيده، ثم خلق النوم يغلب الإنسان، ثم خلق الهم يغلب النوم، فأشد خلق ربك الهم)).
فهذا موافق لحديث أنس؛ لأنه إذا صار ممن يتصدق سراً يخفي ذلك السر بيمينه من شماله، كان قوياً، فهذا تمثيل، فاليمين: هي القلب، والشمال: هي النفس.(6/239)
ألا ترى أن الطاعات تخرج من إيمان القلب والمعاصي، وفساد الطاعات إنما تخرج من شهوات النفس والهوى؟
فتأويل هذه الكلمة عندنا الذي قال: ((يتصدق بيمينه يخفيها من شماله)):
أي: يتصدق بقلبه، ويخفيها من نفسه، فالإيمان في القلب، والهوى في النفس، فإذا أخفاها من الهوى، فهذا إنسان يغلب الريح، يتقيها بيده؛ كما وصفه علي رضي الله عنه؛ لأن الهوى تنفس النار، فهو ريح يخرج منها، فتمر بباب النار، فتحمل شهوات الآدمي إلى المواضع التي قد ركبت في الآدمي من تلك الشهوات، حتى ينشرها، فتشتعل في العروق، فتأخذ القلب.
فقوله: ((يتصدق بيمينه يخفيها من شماله))، وقوله: ((يغلب الريح يتقيها بيده))، كلاهما مرجعهما إلى شيء واحد، وهو: أن يعمل عملاً مبتدؤه من الإيمان من القلب، فيسره الهوى، وإسراره: أن يرمي به خلف ظهره، ولا يلتفت إليه، ولا يجعله نصب عينه، حتى يعجب به، أو يرى لنفسه عملاً، فيتكل عليه ويرجو النجاة بذلك غداً، والالتفات إلى الأعمال: التفات إلى النفس، وتلك حظها، فهي تركن إلى ذلك، وتعتده، وتثق به، حتى ترجو النجاة به، فإذا هو قد تعلق بالأعمال، واتخذها ولياً من دون الله، ونزع يده من التعلق بالرحمة، فوكله الله إلى نفسه، وإلى عمله، فمنها بدأ هلاكه.
ولذلك قال: ((يا داود بشر المذنبين، وأنذر الصديقين، قال: وكيف ذلك يا رب؟ قال: بشر المذنبين: أن لا يتعاظمني ذنبٌ أغفره، وأنذر الصديقين: أن ليس أحدٌ منهم أنصبه للحساب، وأقيمه على(6/240)
عدلي إلا هلك)).
فالملتفت إلى أعماله يريد أن ينجو من ربه بأعماله، وإذا هو هالك.
وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس أحدٌ منكم ينجيه عمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمته)).
فالذي يغلب الريح هو الذي يغلب هواه، وكل بر يعمله لله، وأبر الأمور عنده: ما ثقل عليه؛ لأنه يعلم أنه أصفى، وأبرأ من هنات النفس، وموردات الهوى، فهو يجتهد أن يخفيها من نفسه.
فأما المقربون: فإنهم عملوا لله نصب العين، كأنهم يرونه، ثم شغلهم الترائي بجلاله وعظمته عن العمل، فصار العمل من وراء، وعظمة الله وبهاؤه وجلاله قبالة عيني الفؤاد في الصدر، وغاب العمل عن الانتصاب.
فلو أن أحدهم صار له عمل الأولين والآخرين، لتلاشى في عينه، إذا صار قبالته ما وصفنا، وطار عنه ذكر العمل، ورأى غناه في عظمته، وزينته في جماله، وشرفه في جلاله، ودرك مناه في بهائه.
وإنما قلنا: إن حديث علي موافق لحديث أنس؛ من أجل أن النوم في الظاهر يغلب الإنسان، وفي الباطن النوم هو الغفلة، لا غفلة القلب، ولكن غفلة النفس عن أحوالها في الدنيا، فإذا جاءت الغفلة، نام القلب عن شهوات النفس وأحوالها، وأفراحها، فإذا جاء الهم، طار النوم، فحيي القلب بالله،(6/241)
فذاك الهم في الظاهر هم الأحوال، وفي الباطن هم ربه، فلذلك: قدر أن يتصدق بقلبه، ويخفيها عن نفسه؛ لأن صفته في الباطن على ما وصفنا أن همه بربه قطع نومه عنه، وأيقظها، وكل شيء ذكره قبل ذلك من الخلق.
فرجع الكلام إلى ما قلنا: إن المؤمن إذا صار بهذه الصفة، كان أشد وأقوى من الأرضين، والجبال، والحديد، والنار، والماء، والريح، فهو أشد خلق ربك؛ لأن ذلك الهم قد غلب الأشياء كلها التي قد تقدم ذكرها.
فلذلك قال ابن مسعود لعمر: إنا لنجد أن عمل مؤمن في يوم واحد أثقل من سبع سماوات وسبع أرضين.
وقال موسى فيما روي عنه أنه قال: يا رب! إني أجد صفة قوم في قلوبهم من النور أمثال الجبال الرواسي، تكاد البهائم تخر لهم سجداً إذا رأوهم، من النور الذي في قلوبهم، قال: يا موسى! تلك قلوب طوائف من أمة أحمد، إنما بلغوا ذلك، بإقبالهم على أنفسهم، وذمهم لها، وإنما هلك من هلك من قومك بالعجب من أنفسهم.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن لله ملائكة موكلين بأرزاق بني آدم، ثم قال: ((أيما عبدٍ وجدتموه جعل الهم هماً واحداً، فضمنوا رزقه السماوات والأرض والطير وبني آدم)).
فإذا صار هم القلب هماً واحداً، ذهب بال نفسه وهمومها وأشغالها، وخلا القلب بربه، فلذلك قال علي -كرم الله وجهه-: أشد خلق ربك الهم.(6/242)
فإنما هما همان:
فهم النفس: من أحوال الدنيا يطرد النوم وينفيه.
وهم القلب: من أحواله في الملكوت قد طرد عنه النوم: نوم القلب، ونوم العين.
فأما قول عيسى عليه السلام: إن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق.
فإنما يقسم الثناء على القلوب، على أقدار محل العباد عنده، وإنما يجعل العباد عنده حيث يحلون ربهم من قلوبهم، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يعمل ما منزلته عند الله، فلينظر ما منزلة الله في قلبه؛ فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه)).
فقلوب الخلق في قبضته، وبين إصبعين من أصابعه، فيرى القلب من محل العبد عنده من صدق العبودة، وتذلَله له، ومد عينه إليه مراقباً، حتى يحبه العبيد، وذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً}.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من هاب الله، أهاب الله منه كل شيءٍ، ومن خاف الله، أخاف الله منه كل شيءٍ، ومن أحبه، حببه الله إلى عباده، وأثنى عليه)).(6/243)
وهو قوله تعالى لموسى عليه السلام: {وألقيت عليك محبةً مني ولتصنع على عيني}، وقوله تعالى عند ذكر أنبيائه -عليهم السلام-: {وتركنا عليه في الآخرين}، فإنما ينزل الثناء على القلوب، ويظهر السمات على شخص.
1427 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا هارون الراسبي، عن جعفر بن حيان، عن أبي رجاء في قوله تعالى: {وألقيت عليك محبةً مني ولتصنع على عيني}، قال: الحلاوة والملاحة.
1428 - نا عمر، قال: نا إسحاق بن عبد الله الأنطاكي، عن محمد بن الحسين، عن عقيل، عن الزهري، قال: يعطى الصادق ثلاثة: الحلاوة، والملاحة، والمهابة.
1429 - نا أبو بكر بن سابق الأموي، قال: نا أبو(6/244)
مالك الجنبي، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {سيجعل لهم الرحمن وداً}، قال: ((إن الله تعالى أعطى المؤمن المحبة والمقة والمهابة في صدور الصالحين)).
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولياء الله الذين إذا رؤوا، ذكر الله)).
وروي في حديث آخر، قال: قال موسى: يا رب! من أولياؤك؟ قال: الذين إذا ذكروا، ذكرت، وإذا ذكرت، ذكروا.
وقيل: يا رسول الله! من نجالس؟ قال: ((خياركم))، قالوا: ومن خيارنا يا رسول الله؟ قال: ((من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويزهدكم في الدنيا عمله)).
فكما كان بين الرزق تفاوت في القسمة، فكذلك الثناء له تفاوت في القسمة، فقسمة الرزق على التدبير في الباطن، وقسمة الثناء له على منازل العبد في الباطن، في كينونتهم له عبيداً، وتسليمهم إليه نفساً، ولأمره انقياداً، ولأسمائه علماً، فيورثهم خشوعاً وطمأنينة وثقة، فإذا هبته، هابك الخلق، وإذا عظمته، عظمك الخلق، وإذا أحببته، أحبك الخلق، وإذا وثقت به، وثق بك الخلق، واطمأنت نفوسهم لك، وإذا أنست به، أنس بك الخلق،(6/245)
وإذا نزهته، نظر إليك الخلق بعين النزاهة والطهارة، تحكي لقلوب الخلق عن قلبك ما لربك من قلبك، فإن شئت، فازدد، وإن شئت، فانقص؛ فإن انتقصت، فإنما تنتقص حظ نفسك، فمنتهى قسمة الثناء إن خلط ذكره بذكره، وجعل على شخصه طلاوة سماته، فإذا رأوه، ذكروا الله.
قال له قائل: وما تلك السمات؟.
قال: سمات الحظوظ.
قال: حظوظ ماذا؟.
قال: حتى تخرج من المهد، وتنفطم من الارتضاع، فعندها تعرف السمات -إن شاء الله-.
قال: وما المهد؟ وما الفطام؟.
قال: إن الإنسان من حين يولد فهو راكب هواه، مستبد بأموره، غير مفارق لشهواته ونهماته ومناه، مقتدر، جبار، متكبر، متملك في ملك الله، هذا حاله إلى أن يشيخ ويكبر، فهو في بقبقته ومناه كالصبي في المهد، يريد في كل أمر أن يبره ويلطف ويعطف عليه، ويعمل بهواه، ويعلل كالصبي، ويداري ويوافق في مشيئاته، فهذا يدخل قبره، لم يدخل في عبودة الله قط، ولا تولى الله قط ولاية الحق، إنما تولاه ولاية التوحيد، وحده بما من عليه من عقد الإيمان، وقبل منه الإيمان، والإسلام، أن يكون مطمئن القلب بالله في كل حال، ساكناً عند أحكامه، مسلماً له جميع جوارحه عند أمره ونهيه، ثم هو عبد آبق منخلع العذار، مستبد، هوجٌ، جموح، إذا أمره، تثاقل وحزن، وإذا نهاه، جمح، وإذا قسم له بحسن تدبيره من الأحوال،(6/246)
أرسل مشفريه كمشفري البعير، وعبس وجهه، وانقبض انقباض القنفذ، وإذا حكم عليه، التوى، ودلك بقدميه على الأرض.
فهذا: عبد دنياه، وعبد بطنه، وعبد فرجه وشهواته ومناه، فمن أن يقدر هذا أن يعظم أمر الله، ويعظم حقوقه، ويتذلل له عبودة؟! ومتى يصير هذا عالماً بالله، عارفاً له، وعارفاً لمننه وإحسانه، شاكراً، خاشعاً، خاضعاً، خائفاً لزوال النعمة، مستحيياً منه؟.
هيهات، ما أبعد هذا! فهذا رضيع في المهد، فأين يكون غداً من تلك العرصة العظيم شأنها، ومن تلك الصفوف، كما يكون الصبي في محافل الدنيا مع مخاطه، وأدناسه، ولهوه، ولعبه، وخرقه من وراء الباب، لا يعبأ به، ولا يهيأ له مجلس، والذي فطم حتى شب، وتأدب، والتحى، وأخذ الزينة، والهيئة، والبهاء من اللباس، والأدب أين يقعد؟.
فكذلك: من فطم نفسه عن الشهوات، والمنى عن ارتضاع حلاوة الدنيا، ورمى تعلل نفسه وبقبقته، ورفع باله عن الخلق، ماذا يقال له؟ وماذا يكون؟ أعتقه الله من رق النفس بأنوار الهدى، وحشا صدره من أنوار الحظوظ، ووسمه بسماته.
فالدنيا كلها تحت قدمه، والخلق من وراء ظهره، والله تعالى نصب عينيه، يتخطى على أعناق الخلق في الموقف إلى الله تعالى، يشق الصفوف صفاً صفاً، ويقال له: ادن، حتى يغبطه الناظرون إليه من أهل القربة، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/247)
1430 - نا بذلك صالح بن محمد، قال: نا عبد الحميد ابن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أبي مالك الأشعري، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اعقلوا، واعلموا أن لله عباداً ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء؛ لمكانهم وقربتهم من الله تعالى))، فقام أعرابي، وقال: يا رسول الله! من هم؟ حلهم لنا، فسر وجه رسول الله، وقال: ((هم قومٌ لم تصل بينهم أرحامٌ متقاربةٌ، من أفناء الناس، ونوازع القبائل، تحابوا في جلال الله، وتصافوا فيه، وتزاوروا فيه، وتباذلوا فيه، يضع الله لهم منابر من نورٍ، فيجلسون عليها، وإن ثيابهم لنورٌ، ووجوههم نورٌ، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يفزعون إذا فزع الناس، أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)).(6/248)
1431 - نا عبد الرحيم بن حبيب، قال: نا بقية، عن هقل بن زياد السكسكي، عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله إذا أحب عبداً، أثنى عليه من الخير مثل عمله سبع مراتٍ، وإذا أبغض عبداً، أثنى عليه مثل عمله من الشر سبع مراتٍ)).
1432 - نا العباس بن أيوب الزبيري، قال: نا أبو عاصم النبيل، قال: نا حيوة بن شريح، عن سالم بن غيلان، عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبداً، أثنى عليه سبعة أصنافٍ من الخير لم يعمله، وإذا أبغض عبداً، أثنى عليه(6/249)
بسبعة أصنافٍ من الشر لم يعمله)).
فهذا ينبئك أن الثناء من الله تعالى على عبده بسريرته فيما بينه وبينه؛ لأن الخلق قد عاينوا علانيته، فإنما يثني الله عليه بما غاب عن أعين الخلق، وإنما يثني عليه بأصناف الخير الذي لم يعمله؛ لأنه اطلع على قلبه، فرأى فيه نية تلك الخيرات ومحبتها، والاهتمام لها، وهو باق عنها؛ لأنه لا يقدر على ذلك.
1433 - نا صالح بن عبد الله، قال: نا يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تدرون من المؤمن؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((المؤمن: من لا يموت حتى يملأ الله مسامعه مما يحب، ولو أن عبداً اتقى الله في بيتٍ، أو في جوف بيتٍ إلى سبعين بيتاً، على كل بيتٍ بابٌ من حديدٍ، ألبسه الله رداء عمله حتى يتحدث به الناس، ويزيدون، والكلام مثل ذلك في فجوره))، قيل: وكيف يزيدون يا رسول الله؟ قال: ((إن التقي لو يستطيع أن يزيد في بره، لزاد، والفاجر لو(6/250)
يستطيع أن يزيد في فجوره، لزاد)).
قال ثابت: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن نية المؤمن خيرٌ من عمله)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالصادق إنما يسر عمله؛ لئلا يكتسب به من الخلق منزلة، فيقال له غداً ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1434 - نا بذلك نصر بن يحيى، قال: نا أبو إسماعيل ببغداد، رفع الحديث، قال: ((يقول الله لعبده يوم القيامة: عبدي عبدتني، أكرمك الناس، ووضعوك على رؤوسهم، زهدت في الدنيا راحةً تعجلتها، فهل واليت في ولياً، وعاديت لي عدواً؟)).(6/251)
1435 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا سليمان بن شرحبيل الدمشقي، قال: نا بشر بن عون الدمشقي، عن بكار ابن تميم القرشي، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يؤتى يوم القيامة بعبدٍ محسنٍ في نفسه، لا يرى أن له سيئةً، فيقال له: هل كنت توالي أوليائي؟ قال: يا رب! كنت من الناس سلماً، قال: فهل كنت تعادي أعدائي؟ قال: يا رب! إني لم أكن أحب أن يكون بيني وبين أحدٍ شيءٌ، فيقول الرب تعالى: وعزتي! لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي، ولم يعاد أعدائي)).
فإذا أسر الصادق من هذا الوجه، كان ممن باهى الله به ملائكته، وقال: هذا عبدي حقاً، فإذا أثنى عليه بالعبودة حقاً، فإنما أثنى لعجبه به، فلم يكن ليحل العبد ربه محل الإعجاب، ثم لا يفيده شيئاً.
فأول فوائده: أن ينشر ثناءه على قلوب أهل الأرض، حتى ينظروا إليه بتلك العين، وتتناسم الأرواح برؤيته، وتتباشر القلوب بلقائه، وتلذ الأعين بالنظر إليه، فإذا أعلنها، فإنما يعلنها حباً لأن يعبد الله في أرضه،(6/252)
نصحاً لله في ذاته، ونصحاً له في دينه، ونصحاً لله في كتابه ورسوله.
1436 - نا أبي، قال: نا أبو نعيم، عن سفيان الثوري، عن سهيل بن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن تميم الداري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((ألا إن الدين نصيحةٌ -ثلاثاً-))، قيل: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين)).
فنصيحته لله في ذاته: أن تكون عينه مادة إلى عظمة الله.
ونصيحته له في دينه: أن تكون عينه مراقبة لجلال الله، وما يخرج من تدبيره من باب القدرة من تلك المشيئة.
ونصيحته له في كتابه: إقامة الحق، والقيام بما فيه من العمل ظاهراً وباطناً.
ونصيحته له في رسوله: تعزيزه وتوقيره، وحفظ سننه، واتباع حديثه وشمائله، والتخلق بأخلاقه.
1437 - نا أبو الأشعث العجلي، نا حزم القطعي، قال: نا الحسن البصري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((خيار عباد الله الذي يحببون الله إلى عباده، ويحببون العباد إلى ربهم، ويمشون لله في الأرض نصحاً)).(6/253)
فأما الذي يعمل، فيحب أن يحمد، فهو على وجهين: فإن كان حبه للحمد؛ لأن تعلو منزلته بذلك عند الخلق، ويتخذ بذلك جاهاً عندهم للإكرام، والارتفاق بحطام الدنيا، فإذا ثبت على هذا، ورضي من نفسه، فهذه فتنة وإفساد، وإذا عمل على هذا، وطلب الحمد في العمل أن يحمد في العمل على هذا السبيل، أفسد عمله.
وإذا تراءى له من نفسه حب هذا السبيل، فرده، ولم يرض به من نفسه، ولم يقبل قلبه ذلك، فهو على خطرٍ عظيم، وفيه الداء العضال، ولكن لا يفسد عمله، وإذا كان حبه للحمد من نزاهة نفسه، وشرف قلبه في الدين، طلب الجمال والهيئة، والله تعالى جميل يحب الجمال وذوي الهيئة، فإن طلبه في أموره أن يحمد، فهو محمود؛ لأنه لم يطلب بذلك الحمد دنيا، إنما طلب به مسكة الدين والعصمة؛ لئلا يذل في خلقه ببذل دينه.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس للمؤمن أن يذل نفسه)).
وقال في خطبته: ((طوبى لمن تواضع في غير مذلةً)).(6/254)
1438 - نا أبي، قال: نا أبو نعيم، عن هشام بن سعد، قال: حدثني قيس بن بشر التغلبي، قال: أخبرني أبي، قال: كنت جالساً عند أبي الدرداء، فمر بنا ابن الحنظلية -رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وكان رجلاً متوحداً قلما يجالس الناس، إنما هو صلاة، فإذا انصرف، فإنما هو تسبيح وتكبير وتهليل حتى يأتي أهله، فمر بنا يوماً، فقال أبو الدرداء: كلمنا كلمة تنفعنا ولا تضرك؟ فقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فقدمت، فقال رجل: لو رأيتنا حين لقينا العدو، فطعن فلان فلاناً، قال: خذها وأنا الغلام الغفاري، ورجل إلى جنبه، فقال: كيف ترى؟ فقال: ما أراه إلا وقد أبطل أجره، قال الآخر: لا أرى(6/255)
بذلك بأساً، فتنازعوا في ذلك حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((سبحان [الله]! لا بأس أن يؤجر ويحمد)).
فسر بذلك أبو الدرداء، فقال: أنت سمعت هذا؟ فجعل يقول: نعم.
وروى يزيد بن هارون، عن عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، عن ابن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، ولا أعلمه إلا عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: قال رجل: يا رسول الله! إني أحب [أن] أحمد، كأنه يخاف على نفسه، فقال: ((وما يمنعك أن تعيش حميداً، وتموت فقيداً؟ وإنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق)).(6/256)
وفي رواية أخرى: أن هذا الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ثابت ابن قيس بن شماس.
فهذا يحب الحمد، ولتشرف نفسه، وللتجمل هرباً من الذم، ونزاهة من دناءة النفس؛ لأن الحمد والذم ضدان، فإذا فقد الحمد، ظهر الذم، وأما الذي يحب الحمد للمباهاة، وطلب العلو، فذاك مذموم مضر، وقد قال تعالى في تنزيله: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً}.
فهذا رجل مفتون يحب الدنيا، ويحب الحمد؛ للعلو فيها، والمنافسة في حطامها، والمزاحمة لأهلها في تناولها، حتى يؤديه ذلك إلى الطغيان، وأن يحب أن يحمد بما لم يفعل، وقد ذم الله تعالى في تنزيله هذه الطبقة، فقال تعالى: {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}.
وروى ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: إن ملوك بني إسرائيل لما بدلوا حكم الله، خافوا من الرعية أن تغير عليهم، فابتغوا من يحمد أمرهم عند العامة، فدعوا علماءهم، فأكرموهم، وأعطوهم، فقبلت العامة منهم، فأنزل الله هذه الآية يعظهم بها: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه}؛ أي: كتموا الحق، وقبلوا من الملوك، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فوعدهم بالعذاب.(6/257)
1439 - نا عبد الله بن خلف بن موسى البلخي، عن الوليد بن مسلم، عن خالد بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1440 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا هشام بن عمار الدمشقي، عن عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة: أن لا تكون بشيءٍ مما في يدك أوثق منك بما في يد الله، وأن يكون ثواب المصيبة أحب إليك من أن لو بقيت عندك المصيبة، ولكل حقٍّ حقيقةٌ، ولا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم تكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولا يبلغ العبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيءٍ عمله لله)).
فهذا فعل السابقين الذين وصفناهم بدءاً.(6/258)
ومنزلة أخرى في هذا الباب أشرف من هذا كله، وهو: أن يحب الحمد، ومنبع حبه الحمد من حب الله تعالى، وهو يحب أبداً أن يكسى عبده، فترى عليه تلك الكسوة، وتنطق الألسنة بذلك الحمد، فتكون تلك الألسنة شهوداً لله في الأرض، هذا أشرف المنازل.
وهو الذي سأل الخليل عليه السلام: {واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين}؛ أي: الثناء الحسن، إبراهيم سأل، فأجيب إلى ذلك، فقال: {وتركنا عليه في الآخرين}، ومحمد صلى الله عليه وسلم فوض ذلك إلى ربه، فزاده، فقال تعالى: {ورفعنا لك ذكرك}، فقرن ذكره بذكر نفسه، ثم جعل لأمته من ذلك أوفر الحظ.
فقال موسى عليه السلام: يا رب! من أولياؤك؟ قال: الذين إذا ذكروا، ذكرت، وإذا ذكرت، ذكروا.
وقيل: يا رسول الله! من أولياء الله؟ قال: ((الذين إذا رؤوا، ذكر الله)).
1441 - نا بشر بن هلال الصواف، قال: نا جعفر ابن سليمان الضبعي، عن ثابت، عن أنس، قال: مات رجل على عهد رسول الله، فأثني عليه خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: ((وجبت))، ثم مات آخر، فأثني عليه شراً، فقال: ((وجبت))، فسئل، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أنتم شهداء الله في الأرض)).(6/259)
1442 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا محمد بن سلام، عن مخلد بن يزيد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي الفضل المدني، عن أبي هريرة، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة، فصلى عليها، فقال الناس: نعم الرجل، قال: ((وجبت))، ثم أتي بجنازة، قال الناس: بئس الرجل، قال صلى الله عليه وسلم: ((وجبت))، قال أبي بن كعب: {لتكونوا شهداء على الناس}.
1443 - نا صالح بن عبد الله، قال: نا يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم، إذ مرت به جنازة، فسأل عنها، فأثنوا خيراً، فقال عليه السلام: ((وجبت))، ثم مرت أخرى، فأثنوا عليه شراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وجبت))، فقلنا: يا رسول الله! قلت: ((وجبت))، قال: ((إن المؤمنين شهداء الله في أرضه، إذا شهدوا لعبدٍ بخيرٍ، أوجب الله له الجنة، وإن شهدوا لعبدٍ بشرٍّ، أوجب الله له النار، وما من عبدٍ شهد له أمةٌ، إلا(6/260)
قبل الله شهادته، والأمة: الواحد إلى ما فوقه)).
قال تعالى: {إن إبراهيم كان أمةً قانتاً}.
فهذه أمة مهدية، محبوةً بالكرامات، مختصةٌ بالرحمة، مفضلةٌ على سائر الأمم، قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}.
فالوسط: العدل، فإنما صارت القلوب عدلاً في هذه الأمة؛ لأنها فضلت باليقين، وأعطيت العدل على القلوب، وأعطيت سبيل الهدى إلى العلم، وإلى مجالس النجوى بوافر الحظوظ، فإذا نطقوا وأثنوا، فإنما يثنون بذلك لسان صدقٍ من الله لعبده، أنطق الألسنة بذلك، ويغفر لهم ما لا يعلمون، حتى لا تسقط عدالة الأمة، فالأمة لسان الجماعة.
فإذا مات الميت، نطقت ألسنة الجماعة بالثناء بما يعرفون من الظاهر الذي يظهر عندهم، فيقبل الله شهادتهم على أقوالهم بما يثنون، وجعل له حظاً من مسألة إبراهيم لنفسه، فترك لهذا العبد الثناء الحسن في الآخرين قرناً بعد قرن.
1444 - نا صالح بن محمد، قال: نا سليمان بن عمرو، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلمٍ يوضع في(6/261)
قبره، فيثني عليه ثلاثة أهل أبياتٍ من جيرانه خيراً، إلا قال الله لملائكته: قبلت شهادة عبادي لعبدي هذا فيما ظهر لهم، وغفرت له ما لا يعلمون)).
ولهذا ما جاء لنا في دعوات الجنائز من السلف: أن أحدهم كان يقول: اللهم هذا عبدك نزل بك، وأنت خير منزول به.
ولا نعلم منه إلا خيراً، فاستحبوا أن يقولوا في صلاة الجنائز، وخلف الجنائز، ينطقون بهذا، ويفشون الكلام بذلك؛ ليكون بذلك غياثاً للميت.
ووجدنا في حديث عبد الله بن وهب المصري، عن بكر بن مضر، عن مولى لآل معاوية: أن رجلاً كان في بني إسرائيل أوحى الله إلى موسى أنه مراءٍ، فلما توفي الرجل، وكان حسن الحال فيما يرى الناس، طفقت بنو إسرائيل تثني عليه خيراً، ويذكرون من فضله، فلما ذهبوا به يدفنونه،(6/262)
ترك موسى شهوده، وأبى أن يشهده، فأوحى الله تعالى إلى موسى: ما منعك أن تشهده؟ قال: يا رب! إنه كان مرائياً، قال: فإني قد غفرت له فيما كان بيني وبينه، وقبلت شهادة عبادي له.
رجعنا إلى عمل السر والعلانية:
1445 - فحدثنا أبو سنان البلخي، قال: نا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}، قال: جعل الله صدقة السر من التطوع يفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها بأفضل من سرها بخمسٍ وعشرين ضعفاً، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
وإنما قال ابن عباس ذلك -فيما نرى- من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عمل السر من التطوع تفضل العلانية سبعين ضعفاً)).(6/263)
وقال في حديث آخر: ((صلاة الرجل في جماعةٍ -يعني بها: الفريضة- تزيد على صلاته وحده بخمسٍ وعشرين درجةً)).
فجعل سائر الأعمال على ذلك.
1446 - نا محمد بن عبد الله بن بزيع البصري، قال: نا معتمر بن سليمان، قال: سمعت سفيان الثوري يحدث عن أبي سلمة، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الرجل في الجماعة تفضل على صلاته وحده خمساً وعشرين صلاةً)).
1447 - نا الحسن بن قزعة البصري، قال: نا روح بن عطاء بن أبي ميمونة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((صلاة الرجل في الجماعة تفضل على صلاته وحده(6/264)
خمساً وعشرين درجةً)).
1448 - نا أبو هشام الرفاعي، قال: نا محمد بن فضيل، قال: نا عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده بضعاً وعشرين درجةً)).
1449 - نا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: نا(6/265)
يحيى بن صالح الوحاظي، عن جابر بن غانم، عن ابن صهيب، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
1450 - نا عبد القدوس بن محمد بن عبد الكبير بن محمد بن شعيب بن الحبحاب، قال: حدثني عمي صالح ابن عبد الكبير، عن عمه عبد السلام بن شعيب، عن أبيه، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((صلاة الجماعة تزيد على صلاة الرجل خمساً وعشرين ضعفاً)).
1451 - نا عبد الكريم، أنا علي بن الحسن، أنا عبد الله، أنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(6/266)
1452 - نا يحيى بن حبيب بن عربي، نا حماد بن زيد، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، والشعبي، عن أبي هريرة، بمثله.
1453 - نا أبي، عن الفضل بن دكين، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((تفضل صلاة الجماعة بسبعٍ أو خمسٍ وعشرين درجةً)).(6/267)
1454 - نا الحسن بن عمر بن شقيق البصري، عن عبد الوارث بن سعيد، عن أبان، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة في الجمع تفضل على صلاة الرجل وحده أربعاً وعشرين درجةً، وهي الخامسة)).
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي في قوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}، قال: الفرائض، {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء}، قال: التطوع.
قال أبو جعفر: وحق لمعدن النبوة أن يكون هكذا.
ووصف الله إبداء الصدقة وإظهارها بالنعمة، فقال: {فنعما هي}، وإنما هو: نعم؛ كقولك: فعل، وهو ضد بئس، من البؤس، فالنعمة والبؤس ضدان، فكل شيء جسم، واحتشى، ورطب، فهو نعمة، وكل شيء هزل، وصار منحولاً، ويبس، فهو بؤس، فقال: نعم.(6/268)
ثم نسب فعل نعم إلى ما، وما باطن الأشياء، ونسب الباطن إلى الصدقات؛ كأنه قال: إبداء الصدقة نعم باطنة؛ أي: باطن الإبداء نعم، وإنما نعم باطن الإبداء؛ لأنه فريضة افترضها الله على عباده؛ دواءً لأسقام قلوب العباد؛ لأن القلوب سقمت بحب المال، ولذلك سميت مالاً؛ لأن القلوب تميل بحبها من الله، فأمر بمفارقته على سبيل التصديق، وهو إظهار صدق الإيمان؛ لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
فافترض على نفوسهم أعمالاً، وفي أموالهم حقوقاً، فمن وفى له بهذه الفرائض والحقوق، فقد استوجب الجنة بالإيمان الذي قدم به على ربه، وبصدق الإيمان، فإنما سميت صدقة؛ لأنه إظهار صدق الإيمان، وصدق المبايعة التي بايع ربه، فإذا أبداها، فما في باطن هذا الإبداء شيء ناعم، فتلك مائية الإبداء.
قال له قائل: وما مائيته؟.
قال: البركة، فسميت صدقة؛ لأنه صدق إيمانك، وسميت زكاةً، والزكاة النماء، والنماء يحدث من البركة، فافترض عليك في مالك شيئاً معلوماً بعلمه، وعدله، وحكمه، لا بجهلٍ، ولا بجورٍ، ولا بجزافٍ؛ ليكون ائتمارك بذلك دواءً لسقمك، فيرجع نور انقيادك له، وائتمارك بأمره في ذلك إلى قلبك، فيطهره من أدناس الميل، ويكتسي قلبك ذلك النور الذي رجع إليك؛ لأنه بقدر ما نقص من نور قلبك لميلك عن الله إلى المال بحبك إياه، ارتحل عن قلبك من البركة الحالة بالأشياء، وعن مالك بقدر ذلك، ولذلك حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((والذي نفسي بيده! ما نقصت(6/269)
صدقةٌ مالاً قط)).
وذلك أن الصدقة إذا خرجت من يد العبد، فقد زال ملكها عن يده، وأزال حبها عن قلبه، ولكل ملكٍ ملكٌ، ولكل ملكٍ عزٌّ، فإذا زال ملكها عن يده، فقد تخلى عن الملك، وإذا تخلى عن الملك، سلم العز لله، وإذا سلم العز لله، جعل الله له من عزه حظاً، فأعزه، وقال تعالى: {والله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، فإذا أزال حبها عن قلبه، صفا معدن حب الله في قلبه، ذلك الحب الذي وضعه في الإيمان، فنزه إيمانه، ونال حلاوته، ولذلك قال رسول الله: ((الإيمان حلوٌ نزهٌ فنزهوه)).
فلكل حب حلاوة، فإذا مازج حلاوة حب الدنيا حلاوة حب الله، فقد خان الله، وخان الأمانة، وخان الرسول، وخان القرآن، وأهلك نفسه، فإذا تطهر وتنزه عن حب هذا المال، شكر الله له بأن نور قلبه بصفاته وبأسمائه، حتى يمتلئ صدره وقلبه من تلك الحلاوات، فهيهات أن يدخل فيه من حب الدنيا ما يقدر أن يمازجه، فرحم الله تعالى عامة المؤمنين، فأمرهم بإخراج شيء معلوم إلى الفقراء، وسماه: صدقة، وسماه: زكاة، يعلمهم أن هذا منهم إظهار صدق إيمانهم، وهو ما نقص من نور قلوبهم،(6/270)
وارتحل من بركاتهم عن القلوب والأموال، فلولا التهمة التي في نفوسهم، والكراهية التي تدخل عند أدائها، لم تنقص أموالهم من العدد والوزن شيئاً إذا أدوها، ولكن حجب عنهم الخلف بالتهمة التي في نفوسهم لله تعالى.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تصدق عن تمرٍ قدر مد قبضةً قبضةً، والتمر بمكانه على هيئته، فقيل: يا رسول الله! أراك تعطي ولا ينقص؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تقرأ القرآن؟ {وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه}، ولكنكم لا ترون الخلف من قلة اليقين)).
1455 - نا بذلك الحسن بن عمر بن شقيق البصري، قال: نا جعفر بن سليمان الضبعي، عن سعيد الجريري، رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال في حديث آخر: ((لو أن أم إسماعيل لم تغترف من زمزم، لكانت زمزم عيناً معيناً)).
قوله: معيناً؛ أي: تأخذه العيون؛ كقولك: مريئاً، ولكن لما اغترفت، وجعلت في السقاء، انقطع المدد، فبقي عيناً مستكناً غير معين، فأهل اليقين عرفوا هذه الخطة، فاستقاموا يقيناً، فوفى الله لهم، فأنفقوا، فلم يفتقدوا منها شيئاً.(6/271)
روي لنا: أن عامر بن عبد قيس كان يأخذ عطاءه في ثوبه، ثم يعطيها قبضة قبضة، فإذا بلغ المنزل، وزنت، فوجدت كما هي، فكان بنو أعمامه يفعلون ذلك، فينقص، فقالوا له ذلك، فقال: إنكم تجربون الله، وأنا لا أجرب.
فأما العامة من الموحدين، فإن الله تعالى أمرهم بالصدقة؛ كي يرجع نور الطاعة بالصدقة إلى قلوبهم، فيطهرها من آفات الميل، ولذلك سمي مالاً، فهو مسمى في التنزيل باسمين: مالٌ، وخيرٌ.
فالخير: ما كان منه منزوع الحمة، وحمة المال وسمه: حبك له، فكل شيء منزوع منه حمته وسمه من قلبك، فهو خير، وكل شيء حمته وسمه باقٍ في السر، وهو حبك، فاسمه: مال؛ لأنه مال بقلبك عن الله، فأما في التنزيل، فهو قوله: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً}، وهو قوله: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي}، وقوله تعالى: {وإنه لحب الخير لشديدٌ}، وقوله تعالى: {إن ترك خيراً}.
فسماه خيراً عند حضور الموت، وزوال الشهوة، وخلائه من محبته؛ لأن فزع الموت، وهول المقدم على الله، يطفئ نار الشهوات، ويطمس حب المال عن قلبه، فسماه في ذلك الوقت: خيراً.
وقال تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً}؛ لأن ذلك وقت عطف ورحمة من السيد على عبد يرغب في عتقه من الرق، وتأخذه الحاجة؛ لأن المال مقام الدين، فمن أحب المال لحب الدين فقد صدق الله في إيمانه، ووفى له، ولم يدخل عليه في حب إيمانه ممازجة، ولا شوبٌ، وعلامته: أن يكون بما أعطى أشد فرحاً منه بما بقي في يده.(6/272)
ولذلك قال لداود عليه السلام فيما روي: ((يا داود! هل تدري أي المؤمنين أعظم منزلةً عندي؟ الذي هو بما أعطى أشد فرحاً منه بما حبس)).
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة: أن لا تكون بشيءٍ مما في يدك أوثق منك بما في يد الله، وأن يكون ثواب المصيبة أحب إليك من أن لو بقيت عندك المصيبة)).
1456 - نا الجارود بن معاذ، قال: نا جرير، عن القاسم، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: أن ملك الموت أتى إبراهيم عليهما السلام، فأخبره أن لله في الأرض خليلاً، فقال: يا ملك الموت! من هو حتى أكون له خادماً؟ قال: فإنك أنت هو، قال: بماذا؟ قال: بأنك تحب أن تعطي، ولا تحب أن تأخذ.
وقوله تعالى: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي}، وإنما سماه خيراً؛ لأن الله أعطاه ذلك الخيل المعروض عليه بالعشي تلك الصافنات الجياد، فكانت تلك عطية الله.
وروي لنا عن الضحاك:(6/273)
1457 - نا بذلك صالح بن محمد، قال: نا محمد بن مروان، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هي خيل منقوشة أخرجت لسليمان من البحر.
فإنما سماها خيراً؛ لأنها عطية الله، لاحقة بالملك الذي أعطاه ملك الدنيا، ثم قال: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ}، فحق له أن يسميه خيراً، ولا عتب عليه في حبه إياه.
قال له قائل: فما الذي حل به من حبه؛ حتى طفق مسحاً بالسوق والأعناق، فضرب سوقها وأعناقها؟.
قال: لأنه شغله حبه إياها عن صلاة العصر حتى فاتته، فلم يكن حبه حب فتنة؛ لأنه أعطي الملك بغير حساب، فعصم من الفتنة، ولكن لما عرضت عليه الخيل، أحبها بحب الله؛ لأنه عطية الله، فشغل قلبه ذلك الحب عن حب شيء هو أعظم منه، وهو الصلاة، فلما رأى أن هذا الحب حطه عن درجة حب الصلاة، رمى بهذا الحب، فشكر الله له ذلك، فأبدله مكان هذا الخيل مركب الريح.
قال تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب}.
فكان يركب غداة يومه في مركب من زجاج مئة طبق، في كل طبق صنف من جنوده وخدمه، وهو في أعلاها، فيما روي لنا، ثم تحمله الريح من بيت المقدس من أول النهار، حتى ينزل أرض فارس التي بها قلعة سليمان، وذلك مسيرة شهر، فيقيل بها، ثم يروح منها، فيمسي ببابل مسيرة(6/274)
شهر، وذلك قوله تعالى: {غدوها شهرٌ ورواحها شهرٌ}.
فكان هذا من الله شكراً؛ حيث رأى انحطاطه عن درجة الصلاة إلى درجة عرضه الخيل؛ لأنه لا يتوهم على سليمان عليه السلام أنه اعترض الخيل تلذذاً، وتلعباً بالدنيا، ولكن نبي الله وصفيه، ومحبوه بالملك، إنما اعترض عطية ربه التي أعطاه بلا تبعةٍ ولا حساب، متلذذاً بعطف الله وبرأفته وبعطيته؛ ليحمده ويشكره شكراً يملأ منه سماءه وأرضه، فيكون حجة الله على ملوك الدنيا المائلين بقلوبهم عن الله بحبها، والمائلين بقلوبهم من أرباب الأموال في الدنيا، فتكون استقامته فيها لله قلباً وفعلاً، حجة لله على الآخرين، وتعييراً لهم، فلما رأى ذلك الحب شغله عن حب ما هو أعظم منه، رمى بها كالمعرض عنها حيث رأى النقص، فآثر ما آثره الله على الأشياء؛ لأنه رأى في الصلاة إقبال الله على عبده، ولم ير في العطية إقبالاً، ولا في اعتراضه العطية إقبالاً، فلما رأى فوت الإقبال، هاجت منه حرقة فوت الإقبال، فرمى بها، وتخلى عنه، فشكر الله له تلك الحرقة، فأعطاه ما لم يعط أحداً من الآدميين، وهو الريح.
والريح أصلها من المشيئة، بعثها إلى الجنة، ثم جعل للآدميين حظاً من تلك في دنياهم لأنفاسهم ومعاشهم.
وقوله تعالى: {وإنه لحب الخير لشديدٌ}، فأنبأ العباد أن هذا المال في الأصل قوام العباد في أمر دينهم، به يصلون، ويصومون، ويحجون، ويزكون ويتصدقون، ويتقربون إلى ربهم بالوسائل، قال الله تعالى: {ومن تطوع خيراً فإن الله شاكرٌ عليمٌ}.
فأعمال الأركان لا تقوم إلا بهذا المال، وعيش الحياة في الأبدان(6/275)
لا تقوم إلا بالمال؛ منه يطعم، ومنه يشرب، ومنه يكتسي، ومنه يسكن من الحر والبرد، وبه يتوقى المشقة والأذى، ويدفع الشدائد من الأحوال.
وقال في تنزيله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً}.
فأعلمك أن هذا قوامك في أمر دينك ودنياك، فالمؤمن دينه ودنياه جميعاً في دنياه، فإن عمل لآخرته، فإنما يعمل في دنياه، وإن عمل لدنياه، فإنما يعمل في دنياه.
فهذا المال على ما وصفنا: هو حقيقٌ أن يسمى خيراً؛ لأن الخيرات به تقوم، فإذا أحبه، واشتد حبه له، فهذا غير معيب، ولا ملوم، ثم يفترق حبه له، فيصير على ضربين: فإن كان حبه للمال لأجل حبه لله، فهو محمود، وإن كان حبه للمال من أجل حب نفسه الدنية البالية غداً في التراب، فهو مذموم؛ لأن حبه له من هذا الوجه حب فتنة، والفتنة تقدمه إلى النار؛ لأن ذلك حب الشهوة، والشهوة بباب النار.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: ((حفت النار بالشهوات)).
وإن كان من حب الله، أحبه، فذاك الحب نور على نور في قلبه.(6/276)
قال له قائل: وكيف يكون حب المال من حب الله؟.
قال: علم العبد بأن الله قد أمره بأمور جعل مرضاته في تلك الأمور، وأن تلك الأمور لا تقوم إلا بالمال، فمن أحب ربه، أحب أمره، وابتغاء مرضاته في كل أمر دق أو جل، وما هيجه وقواه على تلك إلا حبه، ثم نظر، فإذا تلك الأمور لا تقوم إلا بالمال، أفليس من المحال أن يحب شيئاً من أجل حب ربه؟
ثم يعلم أن ذلك الشيء لا يقوم، ولا يتهيأ إلا بشيء آخر، ثم لا يحب هذا الشيء الثاني، وكيف لا يحب العبد نعمة يلتذ بها، وبأثمار تلك النعمة، وهو يجد تلك النعمة، وتلك الآثار سبباً لمحبة ربه، ولحمد ربه؟ وإذا خلصت إليه لذة تلك الأشياء، هيجت منه ذكر المنعم، فأثارت في صدره نوراً يتجدد حمده، وينكشف له الغطاء عن عطف ربه عليه، ورأفته ورحمته به، فيزداد بذلك خضوعاً، وذلة، وحياء منه، وتتراكم عليه أثقال الشكر، فهذه النعم وآثار النعم على هذا الوجه محقوق أن يحب.
وماذا يتوهم المؤمنون ما الذي حمل سليمان على أن سأل ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟ أحب الله حمله على ذلك، أم حب الدنيا؟ فإن توهم متوهم أنه إنما سأل ذلك لحب نفسه ودنياه، فقد عاب نبياً ورسولاً كريماً محموداً، قد أثنى عليه ربه في تنزيله، فقال تعالى: {نعم العبد}. وقال تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مئابٍ}، وقال تعالى: {ومن ذريته داود وسليمان}، ثم قال في آخر الآية: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}.
فسماه في تنزيله: مهدياً، وأواباً، وصاحب زلفة وحسن مآب، ونعم(6/277)
العبد، فمن عاب مثل هذا العبد، فقد رد على الله، ولا آمن عليه الكفر، ومن جهل شأن هذا، افتضح كما افتضح هؤلاء القراء، وأغتام الزهاد، حتى أضمروا له على سوء جهلهم ذلك على أن قبلوا من جهلهم أحاديث روتها الزنادقة كادوا بها الإسلام، فألقوها إليهم، فقبلوها عنهم من جهلهم بالزهد ما هو، مثل حديث: ((مر عبدي)) وأشباهه.
وكيف يستجيز مسلم أن يقبل قول رجل يقول لسليمان نبي الله: يا خاطئ بن خاطئ، جعلت الآخرة تحت قدميك، والدنيا فوق رأسك، فأنت محجوب عن الله وداره، وغرتك الدنيا، وغرك هواك، فهذا كله كفر ممن استقبل رسولاً من رسل الله بمثل هذا، فهؤلاء الأغتام قبلوا هذا حتى كتبوه، ورووه في كتبهم.
قال له القائل: وكيف افتقد هذا الخلق هذه الخطة حتى صار هذا المال فتنة لهم؟.
قال: لأنهم أعرضوا عن الله، وشغلتهم شهوات نفوسهم عن ذكر الله، وقل علمهم بالله، فتدنسوا بالشهوات والأعراض، وجفوا بره ونعمه ولطفه، وأقبلوا على أهوائهم، فبعدوا عن الله، فكلما ازدادوا بعداً، ازدادوا عنه نوماً وغفلة، وسكراً، وموتاً، وبه جهلاً، فالكافر مات عن الله بالهوى، وطالب الشهوة سكر عن الله بالنهمة، والعابد والزاهد ناما عن الله بالغفلة.
فقال له القائل: فمن بقي؟.
قال: العارف بالله، العالم بالله.(6/278)
قال: ومن هو؟.
قال: الذي حيي بالله، فرأى ربوبيته في خلقه، فلها عن خلقه، واستولى على قلبه ذكره، لما نظر إلى ربوبيته بعيني فؤاده، فلما نظر بعيني رأسه، تأدى علم ذلك إلى عين فؤاده في ربوبيته في الأشياء، فذلك المصباح الذي يتوقد في صدره من الشجرة المباركة الزيتونة التي توقد، فما زالت زيتونيته تدله على ربه، وهو يسير إليه هارباً بقلبه من جميع ما ظهر في الدنيا من ربوبيته؛ مخافة أن يصطاده شيء منها، فيكون علاقته، فهو هارب لا يطمئن إليهم، ويتوقى الفرح بهم حتى يصل إليه، فإذا وصل إليه، عرفه وعلمه، فمعرفته وعلمه يؤديانه إليه، فإذا قلبه اكتنفه، فإذا اكتنفه فقد احترز في الحبس، وبقي معه في القبضة، فإن أحب الأشياء، فبحبه يحب، وإن عاملهم، فعنه يعاملهم، وعن موافقته يكون معهم.
1458 - نا سفيان بن وكيع، نا ابن نمير، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، قال: لما قتل أبي يوم أحد، دعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أتحب الدراهم؟))، قلت: نعم، قال: ((لو قد جاءتني دراهم، أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا))، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعطيني، فلما استخلف أبو بكر، أتاه مال من البحرين، فدعاني، وقال: خذ كما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت بكفي جميعاً، ثم أخذت(6/279)
الثانية أقل منه، فقلت: عدوا هذا، فأعطوني مثله مرتين، فعد، فوجد سبع مئة وخمسين، فأعطوني مثله مرتين.
فلو كان حب جابر للدراهم حب النفس والدنيا، كان معيباً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهديه، ولكنا نظن بجابر الأولى والأحق، إذ ناطق بهذه الكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعده على ذلك جزيلاً.
وبلغنا: أنه قيل لابن عون: أتحب الدراهم؟ قال: نعم، قيل: لم ذاك؟ قال: لأنها تنفعنا.
1459 - نا حفص بن عمرو، وهارون بن منصور بن سعيد النيسابوري، قالا: نا كثير بن هشام، عن عيسى بن إبراهيم الهاشمي، قال: نا معاوية بن عبد الله، قال: سمعت كعباً يقول: أول من ضرب الدينار والدرهم: آدم، وقال: لا تصلح المعيشة إلا بهما.(6/280)
1460 - نا ابن أبي هريرة، قال: نا ابن المبارك الصنعاني، قال: نا مرداس أبو عبيد [ة] يقول: سمعت أبا رفيق يقول: سمعت وهب بن منبه يقول: الدنانير والدراهم خواتيم رب العالمين، وضعها الله معايش لبني آدم، ولا تؤكل، ولا تشرب، من جاء بخاتم رب العالمين، قضيت حاجته.
فالدراهم والدنانير إحدى المسخرات التي قال الله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً}.
فإذا وصلت إليك منافع السخرة، جاءت التبعة، وهي طلب الخدمة، فمن أحب السخرة لإقامة الخدمة؛ وفى بالخدمة، وسلم من حمة السخرة، ومن أحب السخرة للشهوة والنهمة، ضيع الخدمة، وذهب بالرقبة.(6/281)
الأصل السادس والستون والمئتان
1461 - نا أبي، عن قبيصة بن عقبة، عن سفيان، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم وأحسابكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فإنما ينظر إلى القلوب؛ لأنها أوعية الجواهر، وكنوز المعرفة فيها، وينظر إلى أعمال الجوارح؛ لأن مبتدأ الأعمال من القلوب، فإذا نظر إلى(6/283)
الجواهر، فوجدها طرية كهيئتها، محروسة من آفات النفس، مكفوفة عن تناول النفس، وتلمسها شبقاً، شكر لعبده به، فزاده في الجواهر، وبصره بأقدارها وأخطارها حتى يزداد بها غنى، ومن استغنى بالله؛ فلا قوي أقوى منه، وقد أيست النفس من إجابتها، وأيس العدو من غوايته، فإنما ندب العبد إلى التقوى، وصار العبد لله ولياً؛ بأن حرس ما في قلبه من المعرفة، وصيره في وقاية من آفات النفس، فلا يصل إليه آفاتها؛ من أجل صون تلك الجواهر.
فإن العدو يأتي بأضدادها، يريد أن يضعها في تلك الأمكنة، وينفي عن قلبه ما وضعه الله تعالى، فإن لم يقدر على النفي، غطاه بما أورد عليه، فلبس عليه؛ بمنزلة رجل في يده جواهر، ودنانير، فأكب عليه خائن مخادع يصحبه، ويخالطه في الأخذ والإعطاء، فإذا أخذ منه جوهراً لينظر إليه، وهي ياقوتة حمراء، فلا يزال يقلبها في كفه ينتظر بلاهته، ويلتمس(6/284)
غرته، حتى يبدله بها خرزة حمراء صافية تشبهها، وصاحبه قليل البصر بالجواهر، إنما معرفته بها إلى ما ينظر من ظاهرها، ويأخذ منه لؤلؤة، فيبدل بها عظماً صافياً يشبهها، ويأخذ منه زمردة، فيبدل بها فلقة من جوهر الزجاج، ويأخذ منه ديناراً، فيبدل به فلساً أصفر مدوراً، فهو لا يعرف من الدينار إلا صفرته، وتدويره، وكتابته، ومن الزمرد إلا خضرته، ومن اللؤلؤة إلا بياضها، ومن الياقوتة إلا حمرتها، فإذا رأى مثلها من الهيئة واللون والصورة، لم ينكر ذلك.
فكذلك هذا الموحد، أعطي المعرفة ليوحد، ويتوجه إلى الواحد، ويقبل على الواحد، ويبذل له نفسه عبودة، ويأتمنه على نفسه، ويتخذه وكيلاً، ويفوض إليه أمره، ويترك التدبير عليه، ويثق به، ويركن إليه، ويتذلل لربوبيته، ويتواضع لعظمته، ويتزين لبهائه، ويتخذه عدة لكل نائبة من دنياه أو آخرته، فلما رأى العدو ذلك، حسده، وشمر لاستلاب(6/285)
ما أعطي العبد، فلم يقدر أن يكابره، ويستقبله بالقهر، كما قهر الكفار، وكابرهم، ولكنه خادعه، وأخفى خداعه في ظل النفس، فهو يوسوس إلى النفس، والنفس توسوس إلى القلب.
فإذا كان القلب أبله، ورفض الكياسة، وكان مستشغلاً في نوم البلاهة، والغفلة، انخدع لما يورد العدو، فأورد على توحيده شرك الأسباب بدلاً، وبالتوجه إليه توجهاً إلى أولياء الأسباب، وبالإقبال عليه إقبالاً على أحوال النفس، وببذل النفس له عبودةً بذل النفس لمناه وشهواته، وبائتمانه على نفسه ائتمان ما جمع وحوى من الدنيا، وباتخاذه وكيلاً، اتخاذ علمه، وبصره، وحذقه بالأمور وكيلاً، وبالتفويض إليه تفويضاً إلى تدبيره، وقوته مقتدراً، وبالركون إليه ركوناً إلى حزمه، فلبس ما أعطي من الكنوز بهذه الأشياء، فانقطعت قوته، ومادة معرفته من الله.
فأي مغبون أعظم غبناً من هذا، فبعداً له؛ لأنه قد ترك نصيحة الله له؛ فإنه أنزل عليه نصيحته تنزيلاً، فقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
فإنما يذكر الله من وحده في جميع أموره ديناً ودنيا، وتوجه إليه في جميع نوائبه، وحوائجه، وأقبل عليه بكل همومه، وبذل نفسه بذل من يعلم أنه مملوك(6/286)
مخلوق من تراب، ممنون عليه بخلقه، وبعظائم المنن، وائتمنه على نفسه سكوناً إليه، وثقة به، واتخذه وكيلاً، فاستراح من المخاوف، وفوض إليه، وقعد ببابه ينتظر خروج تدبيره إليه، وركن إليه ركون من استند إلى جبل شامخ لا يقدر أن يؤتى من قبله، فاطمأن، فمن ألهاه حب ماله، وولده عن ذكر الله بهذه الأشياء، فخسرانه أعظم من أن يوصف؛ لأنه خدع، فأبدل بما أعطى من الجواهر من الخرز والخزف، والزجاج، والعظام، والفلوس.
فليت شعري في أي وادٍ بقي توحيده، وفي أي وادٍ هوى؟! {أولئك ينادون من مكانٍ بعيدٍ}.
1462 - نا علي بن حجر، قال: نا يحيى بن حمزة الدمشقي، عن أبي معيد، عن حيان أو حبان بن حجر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمانٌ القرآن في وادٍ، وهم في وادٍ غيره)).(6/287)
فإنما صار في واد؛ لأن جواهرهم ودنانيرهم قد صارت خرزاً وخزفاً، وفلوساً، فإن القرآن كلام رب العالمين، جرى إليهم من أصل الجواهر؛ ليعقلوا عنه كلامه بأنوار تلك الجواهر، فإذا خدعهم العدو بنفخة الكبر فيهم، ونفثة الشهوة، وسلطان الهوى؛ صارت هذه الأشياء بدلاً، فلم يوجد للخرز والخزف والفلوس أنوار تشرق، فيستنير الصدر لكلام رب العالمين.
ولم يتراء لعين الفؤاد في ظلمات الكبر تلك المعاني، واللطائف، هيهات، ما أبعد ما وقع للقوم! انخدعوا للعدو بجعامة النفوس حتى أهلكهم، قال الله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}.
تلك قلوب عز ربي وجل عن أن ينظر إليها، حتى ترمي الخزف، والخرز، والحصاة، والفلوس، بدل تلك الجواهر، تلك قلوب صرفها الله عن آياته، ودلائله، فعميت.
تلك قلوب طردها، وأعرض عنها، فشغلها عن نفسه بما رث عليهم من دنياه الخربة، من زينتها، ولهوها، ولعبها، ومتاع غرورها.(6/288)
تلك قلوب غار الله في سمائه وعلى عرشه أن يرمي فيها فرحاً بنفس دينه، والدنيا رثة خلقة، وشهوات ردية، فطمسها عن الفرح به، والفرح بفضله ورحمته، فالقلوب المضروبة بالطمسة معرض عنها خالقها، وإذا أعرض عن قلب، صار الصدر كنهار قد غربت شمسه، وأتى الليل بلباسه، فإذا جاء الليل، انقبضت النفوس، والتف بعضها ببعض رعباً وجبناً.
وكذلك القلب، إذا أظلم الصدر بتلبس العدو، وشهوات النفس وأفراحها؛ انقبض القلب، وذبل وافتقر، وصار أسير النفس.
فالفرح بالله له برد يطفئ حرارة النفس، وله شعاع ينير الصدر، وبصائر النفس، وله حياة تميت جميع الشهوات بتلك الحياة، ويدعوك إلى الخالق الذي أجراها إليك حتى يؤديك إليه، وله حلاوة تسكرك عن كل حلاوة دونه، وله لطافة تجري إلى جميع عروقك، حتى تتأدى إلى مخ أعظمك، ويشتمل على روحك، وله لذة تلهيك عن كل شيء دونه، وله قوة(6/289)
تبعثك على كل صعب، فيهون عليك، وله يسر يغنيك عن كل شيء دونه، وله بشرى يغرق فيها جميع آمال قلبك ومنى نفسك، ويهيم قلبك في تلك البشرى هيمان من تاه في المفاوز، ودقت الدنيا والآخرة في جنب ذلك الفرح، ووله قلبك ولوه من خرجت الدنيا والآخرة منها، والفرح بأحوال النفس ودنياها، وله حرارة تحرق وجه القلب وساحته، وهي الصدر، حتى يصير للقلب حزونة من الحريق كحزونة الأرض، فتصبح حزيناً على فوت الدنيا، وعلى فوت درك منى النفس، ويمسي كذلك حزيناً، فذاك بفيض الله، فليعمل ما شاء من أعمال البر.
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي: أنه قال: من أصبح ساخطاً على الدنيا، أصبح ساخطاً على ربه.
1463 - نا أبي، قال: نا عمرو بن خالد الأعشى، عن زياد بن المنذر، عن أبي جعفر، بذلك.(6/290)
1464 - نا عبد الله بن أبي زياد، قال: نا سيار، قال: نا جعفر بن سليمان، قال: سمعت فرقد السبخي يقول: قرأت في التوراة: من أصبح حزيناً على الدنيا، أصبح ساخطاً على ربه، ومن تضعضع لغنيٍّ، ذهب ثلثا دينه، ومن نزلت به مصيبة، فشكاها إلى الناس، فإنما يشكو ربه.
فهذا رجل قد زاغ قلبه عن الله، فضل في مفاوز الحيرة، والفرح بأحوال النفس في مروجها وغياضها، فإذا اضطرم عليها نيران الحرص، امتلأ الجوف، من دخانها، حتى يصير الصدر كالليل الدامس، وتعمى بصائر نفسه، حتى يصير في أحوال النفس كالأعمى الذي يتقي الأشياء بيده، وبالمس، والفرح بأحوال النفس له سلطان يميت القلب، ويحيي النفس، وتهتز الشهوات بتلك الحرارة في كل شيء، يستحيي من الخلق، ولا يستحيي من خالقه؛ كما قال في تنزيله: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول}.
وله حلاوة تسكرك عن الله، فالسكران متى يعقل من معه؟ وله برد(6/291)
كبرد السم يدب في العروق إلى مخ الأعظم، حتى يحذرك عن الإيمان بالله، فيصيرك كأنك خالٍ عنه، ويشتمل على روحك حتى ينسى روحك معدنه ومسراه، وينفذ إلى طبع النفس وثقلها وكدورتها، وله لذة تلهيك عن الله، وعن يوم الميثاق، ويوم الميعاد لوفاء الميثاق، وله قوة تقيمك على البغي، والبغي سيف الروح، ومحق النفس، وله أشر يطغيك، فإذا أنت طاغٍ باغٍ، وله بشرى وآمال كاذبة، وأماني خادعة غرارة، تهيم فيها هيمان المحتلم، يثب على كل مفروح في الدنيا وثبان المحتلم في منامه على جارية قد عشقها، فإذا انتبه، وجد نفسه عما وثب عليه خالياً، وفي فراشه بائلاً.
فويل للفرح هكذا بهذه الصفة، كيف يمشي مكباً على وجهه في طرقات الدنيا ومزابلها يلتمس أفراحها، قد تولى عن الله، وأقبل على نفسه ودنياه، يخرب دينه، ويعمر نفسه، كيف ينتبه ويفيق من سكرته يوم يدنو منه رسول ملك الملوك لقبض روحه، ويعرج به إلى الله تعالى؟! كيف يجد نفسه خارجاً من أفراح النفس ودنياها، ويقدم على ربه جنباً، قد بال في دينه، وعبودته لربه، وراث فيها كروث الحمار، الذي قد حمل عن الله أسفاراً على ظهره من قبل أن يتطهر بماء الندم.
فالكيس: نظر إلى هذا الحال، فاقشعر منه، ورجع إلى نفسه، فوجدها كريمة، حرة من الحرائر، تنقاد وتسلس بلا كزازة، فقام على الساق متشمراً في تصفيته قلبه، وتطهيره، التطهير؛ ليرق، والتصفية؛ ليجلى؛ فإن المرآة إذا(6/292)
جليت، فقابلها نور الشمس، تولد من بينهما إشراق يضيء البيت منه، فكذلك القلب إذا جلي، ثم لاحظ نور الملكوت، أضاء الصدر، وامتلأ من شعاعه، فأبصرت عينا الفؤاد باطن أمور الله تعالى في خلقه، فذاك ظاهر إيمان القلب، حتى أداه ذلك إلى ملاحظة نور الله، فإذا قابله نور الله، تولد من بينهما إشراق يمتلئ الصدر منه، وتبصر عينا فؤاده باطن الملكوت، فذاك باطن إيمان القلب، فذاك قلب قد استكمل الزينة والبهاء بما سبق من الصفاء والطهارة، فصار قلبه موضع نظر الله من بين خلقه، فكلما نظر إلى قلبه، زاده به فرحاً؛ لأنه ازداد به فرحاً، وله حباً، وعليه عزاً، ومنه قرباً، واكتنفه بالرحمة في ملك الرحمة.
1465 - نا صالح بن محمد، قال: نا سليمان بن عمرو، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله في الأرض أواني، ألا وهي القلوب، فأحبها إلى الله: أرقها وأصفاها، وأصلبها: أرقها للإخوان، وأصفاها من الذنوب، وأصلبها في ذات الله)).(6/293)
1466 - نا حفص بن عمرو، قال: نا محمد بن القاسم الأسدي، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
وفي رواية ابن المبارك: عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير زيادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فمن كان له قلبٌ صالحٌ، تحنن الله عليه)).
فإنما يصلح القلب إذا سكنت النفس بشهواتها، والهوى بجنوده، واطمأن القلب أميراً مؤمراً على الجوارح نافذاً سلطانه، فعندها يحتظي(6/294)
العبد من اسمه الحنان، فإذا تحنن عليه، وجد القلب ريح الرأفة، فيزداد طمأنينة إلى ربه، واهتاجت آماله.
فبالآمال يأخذ في السير إليه دؤوباً دؤوباً، فعندها تظهر الكنوز، فإذا استغنى القلب بالكنوز، وصل العبد إلى زينة الأعمال، وإنفاق الكنوز بمحاسن الأخلاق، ومحمود الفعال.
فعندها يصير القلب موضع نظر الله تعالى، وتصير حركات جوارحه عظيمة هناك، فعندها ينظر الله إلى قلبه، وإلى أعماله، حتى إذا وقع في القبضة، فهناك بلغ المبلغ الذي يقع في نظرة الله إلى جنته.(6/295)
الأصل السابع والستون والمئتان
1467 - نا عيسى بن أحمد العسقلاني، قال: نا المؤمل بن عبد الرحمن الثقفي، قال: نا عباد بن عبد الصمد، عن أنس بن مالك، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: ((العلم بالله))، ثم أتاه فسأله، فقال مثل ذلك، فقال: يا رسول الله! إنما أسألك عن العمل؟ قال: ((إن العلم ينفعك معه قليل العمل وكثيره، وإن الجهل لا ينفعك معه قليل العمل ولا كثيره)).(6/297)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالعلم ثلاثة أنواع: علم بالله، وعلم بتدبير الله وبربوبيته، وعلم بأمر الله.
وروي لنا عن عيسى بن مريم عليه السلام: أنه قال: العلماء ثلاثة: عالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله وليس بعالم بالله، وعالم بالله عالم بأمر الله.
كأنه جعل عيسى صلى الله عليه وسلم العلم بتدبيره، وربوبيته، مع العلم بالله علماً واحداً، فإنما صيرناه ثلاثة أنواع: أردنا أن يتميز عند من لا يعقل علم الله من علم التدبير؛ لأن علم التدبير للعباد، وهو داخل في باب العبودة.
وعلم الله: هو الثناء الذي يظهر على الألسنة من بساتين القلوب، فالعلم رأس كل أمر، وخلق الله الخلق أصنافاً وألواناً، ثم أعطى كل شيء علمه الذي ينبغي له، فبالعلم يعرف ربه، وبالعلم يعبد ربه.
وهو جواب موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون حيث قال: {فمن ربكما يا موسى. قال ربنا الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى}؛ أي: أعطاهم خلقهم، ثم هداهم من خلقهم، ومن كونهم، ومن قواهم.
فالهدى: هو العلم الذي أعطى كل شيءٍ خلقه حتى هداهم إلى نفسه،(6/298)
فالعرش ومن دونه إلى الثرى، وما بين الحدين في الجو العلى، وفي الهوى إلى حدوده السفلى، كلهم أعطاهم خلقتهم، ثم عرفهم نفسه، وهداهم.
فالعلم جملة، والمعرفة تمييز الجملة، فالهدى: إيجاده إياهم بالقلوب على طريقه، فإذا هداهم، اهتدوا، فقصدوه بالقلوب، واستقرت النفوس له بالعبودة استسلاماً، فخلق كل شيء، ووضع فيه الحياة، وأعطاه العلم به، واقتضاه القنوت له، فقال: {وله من في السماوات والأرض كلٌّ له قانتون}.
فالقنوت: الركود بين يديه في مقامه الذي أقامه، فخلق المكان، فركد بين يديه، ثم خلق الهواء، فركد في المكان بين يديه، ثم خلق العرش في الهواء في مكانه، فركد، ومن تحته الكرسي في مكانه، فركد، ومن تحته هواء عليين، فركد، ومن تحته السماوات والأرضون، فركدن، لا تزول، ولا يميل واحد من هذه الأشياء عن حده الذي حد له قيد شعرة يميناً وشمالاً، بل الكل راكد في حده.(6/299)
وكذلك البحار، والليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم، والرياح، والحر، والبرد، والظلمة، والنور، وأمم الأرض والخلق، والخليقة، فكل شيء من هذه الأشياء قد أعطاه خلقه، وهداه إليه؛ حتى يعلمه، ويعرفه، فيعبده.
وخلق اللوح من قبل، فوضع فيه علم ما هو كائن إلى أن تنقضي الدنيا، وخلق دار الثواب، ودار العقاب: بساتين وقصوراً محشوةً بالرحمة، وسجوناً محشوة بالسخط والغضب سوداء مظلمة، ثم بدأ خلق آدم عليه السلام، وذريته، فجعل الأشياء سخرة للآدميين، ووضع فيها تلك الأشياء التي فيها منافع الآدميين وقوام معاشهم، وأعطاهم علم إخراج ذلك إلى الآدميين بمقدار معلوم، ووزن معلوم، في وقت معلوم، وفي موضع معلوم.
فالعرش مقصد القلوب، والسماوات ظلال أبدانهم، وموضع أرزاقهم، وتدبير أمورهم، بما فيها من الشمس، والقمر، والنجوم، والرياح، والحر، والبرد، والليل، والنهار، وما في الأرض كلها سخرة لبني آدم، فهم كلهم إلى الثرى مسخرون، موكلون بإخراج ما وضع فيهن من المنافع إلى الآدميين، فأعطاهم العلم على قدر ذلك من الحاجة إلى إخراج السخرة إليهم، وخلق الآدميين للخدمة، ووضع فيهم أنواره؛ لتخرج الخدمة لله من باطنه.
فالحاجة بالآدمي إلى العلم بالله حسبما له خلق، فانظر كم بين السخرة(6/300)
والخدمة! فالسخرة لنا، والخدمة لله.
فلو أن أحدنا أقيم لخدمة ملك من ملوك الدنيا؛ لعظم شأنه، واحتاج إلى علم كثير، وأدب عظيم، وكياسة متداركة حتى يصلح لخدمته، وإلى دوام القيام بين يديه ماثلاً ليله ونهاره، حتى لا يضيع شيء من خدمته، فكيف بمالك الملوك، ورب العزة وإله العالمين؟.
فعلى حسب ذلك الذي خلقنا له أعطانا من العلم، فأوتينا من العلم ما لم يؤت أحد، وعجزت الملائكة عن ذلك العلم، وقالت: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا}، فعندها قال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم}.
فعندها ظهر علم الآدميين على علم أعلى الخلائق في المكان، وهم الملائكة؛ لأنا خلقنا لما لم يخلق هؤلاء، فهؤلاء للسخرة لنا، وللوكالة لإخراج المنافع إلينا؛ لنقيم عبودته بأركاننا بقوة تلك المنافع، ولنمثل بقلوبنا بين يديه على مثال الخدم لا تبرح قلوبنا من بين يديه، فلو لم تصل هذه المنافع إلينا من قبل المسخرين الموكلين بنا، لشغلت النفوس منا بحوائجها وضروراتها، وصرفت إليها قلوبنا، فيزيلها عن مقاومها، ولا تكاد تثبت، فخلق لنا ما في الأرض، وسخر لنا ما في السماوات.
ثم أنبأنا ذلك في تنزيله، فقال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء}، ثم قال: {وسخر لكم ما في(6/301)
السماوات وما في الأرض جميعاً منه}.
فأجمل في هذه الآية علم ما ذكرنا مفصلاً، فإذا انقضت المدة مدة الدنيا، رفعت العبودة، وذهبت السخرة، فأعيد من خلق من التراب إلى التراب، ومن خلق من النار والنور رجعا إلى معادنهما، فانقطعت المنافع؛ لأن العبودة قد انقضت، ومن أجل ذلك سخرت لك، فعندها تستقبلك منافع لا تنقطع في دار السلام، أو مضار لا تنقطع في دار الهوان، فإما ملك محبور، وإما عبد آبق مقهور مدحور، فأوتي هؤلاء علم السخرة، وأوتينا علم الخدمة؛ لأنهم لذلك خلقوا، ونحن لهذا خلقنا، فميز بين العلمين علم السخرة وعلم الخدمة.
ولما أحست الملائكة خلق آدم، ماجت بعضها في بعض: ما هذا الخلق الذي لم نر مثله؟! فقالوا في أنفسهم: نحن أفضل، فلما قال لهم: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}، برزت لهم فضيلته، فعلموا أنه قد جاء من هو أفضل منهم، فأقروا له، ثم قالوا: لن يخلق أعلم منا، فكشف الغطاء عن خلقه، وعرضهم عليهم، وقال:(6/302)
{أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}، فعجزوا، فأوتي آدم علم الأسماء، وقيل له: {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم}.
فعلموا هنالك أن قد جاء الأفضل، والأعلم، والآثر، والأخص، فبرز آدم بعلم الأسماء على الملائكة، وعلم الأسماء ينبئ عن مكنون الأشياء؛ لأنها سمة الأشياء، فصار العلم منه وراثة في ولده، والخدمة لهم إلى آخر المدة، فمن فهم هذا، تحير قلبه في هذا، وقال: كيف لي بالقيام بخدمة ربي؟.
فلما نال العلم بالله، والعلم بتدبير الله، يسرت عليه الخدمة؛ لأن هذين النوعين يهديانك إلى الخدمة، فعندها تقف خادماً لربك، فإذا وقف قلبك في مقام الخدمة، قام بعلم الأمر والنهي، وثبت، فعندها أمكن العبد الائتمار بأمر الله، والتناهي عن نهي الله، دق أو جل، فاستوجب الحفظ من الله، والثبات في تقلبه في الأمور.
قال له قائل: ما الخدمة؟ وما علمها؟ وكيف لنا بأن نعلمها؟.
قال: أما الخدمة: فالقنوت بقلبك بين يديه، مائلاً منتصباً كالمتشمر في قراطق الخدمة، مخفاً مبادراً، مسارعاً، مسابقاً، مركبك في جميع أمورك الحب لله.(6/303)
وأما علم الخدمة: فعلم البساطين.
قال له قائل: وما البساطان؟
قال: بساط القدرة، وبساط العبودة.
وإذا طالعت بساط القدرة بعقل وافر، ثم طالعت بساط العبودة بكياسة وجد وحزم، أدركت تدبيره في العبودة، وباطن أمره ونهيه، وعلل التحليل والتحريم، ثم لماذا أحل؟ ولماذا حرم؟ فبعلم بساط القدرة تملك نفسك، وبعلم بساط العبودة تملك جوارحك، وخواطر قلبك، فلم يقتض الله العباد شيئاً لم يعطهم، فالأشياء كلها من عند الله.
كان الله ولا شيء، فبسط بساط الربوبية من باب القدرة، وبسط بساط العبودة من باب العظمة، ثم كان آخر خلقه هذا الإنسان الذي بسط له هذين البساطين، فابتدأ خلقه من التراب، وجمع ترابه بالماء فعجنه، وصوره، وركب جسده، وجعله أجوف، ثم وضع فيه الروح، والنفس، والحياة، والقوة، والعلم، والمعرفة، والذهن، والفهم، والفطنة، والرأفة، واللطف، والحب، والفرح، والغضب، والسخط، والحفظ، والعلم، والعقل، والحلم، والكياسة، والبصر، والشهوة، والرحمة.(6/304)
ثم اقتضاه استعمال ذلك كله، وإبرازها من باطنه إلى ظاهر جوارحه، فتكون أعمالاً، عليها يثاب ويعاقب، وفتح لعيني قلبه طريقاً إلى المظهر للمعاملة؛ ليقبض منه أرزاقه وعطاياه، وما يدر عليه من رحمته ومن ربوبيته، وخلق العدو، وأعطاه السبيل إلى أجوافنا، فيجري في عروقنا، ومسكنه في صدرونا، وجعل جنده وعظم قوته في الهوى، والهوى يثير الشهوات، والشهوات دواعي الآدمي إلى مكامن العدو وغروره، فمن لم يعطه روحاً أو قوة، أو علماً أو ذهناً أو شيئاً من هذه الأشياء، لم يقتضه ما يخرج له من ذلك الشيء.
كما أنه لو لم يعطك القامة، لم يقتضك الصلاة قائماً، ولو لم يعطك القوة، لم يقتضك الصوم، ولو لم يعطك المال، لم يقتضك الزكاة، ولا الحج، ولو لم يعطك الكسوة، أجزأ عنك الصلاة عرياناً، ولو لم يعطك الماء، أجزأ عنك التيمم.
فكذلك ما في باطن كل شيء، لو لم يعطك، لم يقتضك استعماله، وإبرازه عنك، وكل شيء أعطاكه، ووضعه فيك، فإنما أعطاك لتبرزه،(6/305)
فتكون بذلك محموداً على ما وضع فيك، ناشراً في خلقه جماله ومحاسن فعاله، وتكون عليه مثاباً مكرماً، فإذا منعته إبرازك إياه، فقد ظلمت نفسك، وضيعتها، وضاعت عنك الأشياء التي وضعها فيك، والقلب أمير على الجوارح، وأصل الحياة في القلب، والروح معلق بالوتين، وهو عرق القلب، والحياة في الروح، فكلما زيد من الحياة، حتى علمه ومعرفته، وانبسط ذلك العلم في الصدر، وتميزت الأشياء، وتدبر العقل في صدره، فميز الخير من الشر، والعلم قبوله إلى الذهن، والتمييز والتدبير إلى العقل، فجعل للقلب عينين، وجعل لهما طريقاً إلى المظهر، وهو العرش.
ومد بصر عينك إلى المظهر نور العلم بالله، والمعرفة لله، حتى يرجع بصرك إلى صدرك بعلم غزير، وأمور مسفرة تعلم كنهها وكيفيتها، ووضع الشهوات في الجوف، ففوران الشهوات لها دخان وغيوم؛ لأنها من باب النار، وجالبها وناقلها الهوى، فإذا صارت إلى الصدر، صار الصدر كيوم مغيم، قد حال بين نور الشمس وبين عينك، فإلى أين تهتدي؟ وأين طريق تسلك في ذلك الغيم؟ وأي بئر تتوقى حتى لا تتردى فيها؟ وأي أرض مشاكة تتجنبها حتى لا تقع فيها؟ وأية مزبلة تحيد عنها حتى لا تتلوث في أقذارها؟(6/306)
فإذا سكنت الغيوم، وذهب الفوران، وبرزت الشمس، وأشرقت، اهتديت الطريق، وتجنبت الآفات؛ لأنها صارت رأي العين، فإذا ذهبت الغيوم، ورميت ببصر العين التي على الفؤاد، امتد البصر إلى الذي جعل لك الطريق إليه، فجلت ببصر عينك في ملكوت العرش، فرجعت إلى القلب بالعجائب من تلك المشاهد، ووقفت على تدبير عظيم من أمر الله في شأنك، فكل حركة ظهرت منك، فإنما تحركها الحياة، فكل حركة ظهرت منك بغير ذكر الله، فقد فاتتك من الخدمة بقدرها وبقسطها من فقد ذكر الله إياك.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس يتحسر أهل الجنة على شيءٍ إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله فيها)).
1468 - نا بذلك عمر بن أبي عمر العبدي، قال: نا سليمان بن شرحبيل الدمشقي، عن يزيد بن يحيى الصباغ، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن(6/307)
جبير بن نفير، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليس يتحسر أهل الجنة على شيءٍ، إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله فيها)).
1469 - نا حفص بن عمرو، قال: نا محمد بن بشر العبدي، عن عمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيروا سبق المفردون)) قالوا: يا رسول الله وما المفردون؟ قال: ((الذين اهتروا في ذكر الله يأتون يوم القيامة خفافاً يضع الذكر أثقالهم)).
1470 - نا الجارود، قال: نا أبو خالد الأحمر، عن الحجاج بن أرطاة، عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشد الأعمال ثلاثةٌ: ذكر الله على كل حالٍ، ومواساة(6/308)
الأخ في مالك، والإنصاف من نفسك)).
فأدوم الناس على الذكر أوفرهم للخدمة، وليس عليك في وقت الانقطاع لوم؛ لأنك لا تقدر على مداومة الذكر مع كل طرفة ومع كل نفس، إنما هذا للملائكة الذين عروا من الشهوات، وخلقوا مجبورين على ذلك، فأرواحهم وقلوبهم وعقولهم معلقة بالعظمة هائمة، لا يشغلهم شيء، فلذلك صارت أنفاسهم تسبيحاً وذكراً، وأنفاسنا عبودة وخدمة، فإذا خرجت فإنما يخرجها من النفس التي هي مشغولة بالشهوات والضرورات، فلا يقدر على ما قدرت عليه الملائكة؛ لأن الحر، والبرد، والجوع، والعطش، والآلام آفة الجسد التي خلقت في الدنيا تشغلنا وتولهنا، فرضي منا تبارك وتعالى أن يكون ذكره منا في استعمال كل حركة، لا مع كل حركة، وذلك الجوارح السبع الكواسب للخير والشر، وهي: السمع، والبصر، واللسان، واليد، والقدم، والبطن، والفرج.
فإذا ذكرنا مع تحريك كل جارحة، ذكرناه بخير يرضى به، وذكرناه(6/309)
بنعمة تلك الجارحة علينا، فهذا ذكر درجات يترقى بها العبد إلى ربه، حتى يبلغ منازل المفردين الذين أهتروا في ذكر الله، الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فهذا للسابقين المقربين الذين يدوم ذكرهم على كل حال؛ لأن قلوبهم قد ملكتها عظمة الله، وسبتها محبة الله.
فأما من دونهم، فإذا حرك جارحة من هذه الجوارح السبع بتلك الحياة التي فيها، فإنما يحركها بالقلب، والقلب أمير، وذاك التحريك منه استعمالٌ لها، فإذا قصد للخير، فإنما يقصد لذكر الله، وإياه أراد، وإذا قصد الشر بما دعاه إليه الهوى والشهوة، فقد حاد عن الله، واستعمل إمارته في طريق الجور، فجار على جوارحه، وظلم نفسه؛ حيث أرداها، وأوجب لها النار، وحرمها ثواب الله بالحركات التي ذكرنا أولاً التي خرجت من أركانه من غير استعمال لها بقلبه مع كل نفس، ومع كل طرفة، فتلك حركات لا تبعة عليه فيها؛ لأنها حركات الحياة، ليس فيها أمر ولا نهي؛ مثل: نظرة الفجأة؛ لأن عينيك مفتوحتان، فليس عليك تبعة في وقوع بصرك على الأشياء حتى تستعمله بقلبك، وكذلك تقلبك في مقعدك من قبض يد، وبسط، واتكاء، واحتباءٍ، وأشباه هذا مما لا يمتنع منه الآدمي من الحركات، فهذه حركات تظهر منك في ساعات تمر بك.
فإن كان قلبك غافلاً عن الله تعالى، فكانت خدمة قد فاتتك، وثواب(6/310)
قد ضاع عنك، المنعم يجري عليك رزقه، ويذكرك بإدرار نعمه عليك، وقد ضيعت في ذلك الوقت الخدمة، فهو في ذكرك، وأنت عنه في غفلةٍ، فإن لم تتبع بالتبعات، فقد لحقتك الحسرة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإنما يتحسر في الجنة من تلك الساعة)).
لأنه قد انكشف له الغطاء عما أوجب الله له في وقت ذكره في تلك الساعات التي ذكر فيها؛ لأن ثواب عمل الأركان من قصور الجنة، وأنهارها، ونعيمها، وثواب الذكر من فرح الله بالعبد، وحبه له، وتقريبه، والبسطة منه، والبر له، وما لا يوصف من هذا الباب أكثر من أن تحتمله القلوب في الدنيا.
فالمسخرون: قد عملوا أعمالهم، وأوصلوا منافع السخرة إلى هذا الآدمي، وضاعت الخدمة عن الآدمي بقدر ما غاب عن قلبه ذكره، ولو طرفة أو لحظة، وذلك موضوع عن الآدمي؛ لأنه لا يملكه؛ لأنه خلق عجولاً ونسياً وخطاءً، مشغولاً بالشهوات، مبتلى بها، وخلق في غيب، والملائكة خلقت في جهر، وكشف الغطاء، ينظرون إلى أنوار العظمة، وأمور منكشفة الغطاء، وعروا من الشهوات، فلذلك قدروا على دوام الذكر، وصارت أنفاسهم تسبيحاً؛ لأن أنفاسهم تخرج من النفس التي بها تعلقت قلوبهم وأرواحهم وجميع أجسادهم.(6/311)
والآدمي منقسم خلقه على: قلب، وروح، وشهوة، فلما خلق الله خلقنا هكذا، رحمنا، وعطف علينا، فأعطانا في القلوب من العلم به ما أنبأنا في كتابه أن الملائكة عجزت عن ذلك العلم، وقالوا: {سبحناك لا علم إلا ما علمتنا}، وقال لآدم: {أنبئهم بأسمائهم}.
ومد أبصار قلوبنا إلى المظهر؛ لمطالعة ما أظهر على المظهر، فالملائكة يطالعون بعيون أجسادهم ما تحت العرش، وقلوب الآدميين تطالع ما وراء الحجاب من عظائم الأمور التي لا تدور الألسن بذكرها، فيعطي في تلك المشاهد والمجالس من الفضل والرحمة والكرم ما يعدل به فوائد خدمتهم التي فاتتهم مع كل نفس؛ لاشتغالهم بالشهوات والضرورات؛ ليقدموا يوم العرضة عليه بأنوار، وبأعمال تعجب الملائكة منها، فيستنطقهم الرب تعالى، فيثنون عليه بالثناء الذي يبهت الملائكة من غزير علومهم بالله؛ فإن مراتب العلوم تظهر في المنطق إذا أثنوا عليه ومدحوه، فإنما يستنطقهم على رؤوس الملأ؛ ليعلم الملائكة أين بلغت قلوبهم من مراتبها في تلك الحجب، فيعلم هناك أنهم كانوا في أداني المملكة في الأرض مع وساوس الشيطان، ووساوس النفس مع(6/312)
الشهوات، أدركوا هذه العلوم حتى يمدحوا ربنا بهذه المدائح، ويصفوه بهذه الصفات.
ونحن هاهنا معرون من الشهوات، مبرؤون من وساوس الشياطين في أعالي المملكة، فإنما يثنون أولئك يوم القيامة على الله على منابر النور بين يديه بتلك الأسماء التي عرضها على الملائكة، فقالت: {لا علم لنا}، فقال لآدم: {أنبئهم بأسمائهم}.
فركب في صدره مرآةً، وعلمه كلمةً هي أصل الأسماء حتى حزر الأسماء أسماء الله تعالى، ثم أسماء خلقه، فنطق بها، وعينا قلبه تنظران في تلك المرآة، فورث أنبياء الله، وأولياؤه، ونجباؤه من ذرية آدم تلك المرآة؛ لما طهروا صدورهم، ونقوها من العلائق وغيوم الشهوات، فرأوا فيها سمات الأشياء، فظهر فيها علم تلك الكلمة التي هي أصل الكلمات، فهامت قلوبهم في بحر علم الله، وهم الذين ينصب لهم بين يدي الله منابر من نور، وإن ثيابهم نور، ووجوههم نور، يغبطهم النبيون والشهداء؛ لمكانتهم وقربتهم من الله، ينطقون بالثناء على الله، وهم قرة عين محمد صلى الله عليه وسلم في الموقف، وخلفاء رسول الله بعد المقام المحمود.(6/313)
1471 - نا صالح بن محمد، قال: نا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أبي مالك الأشعري، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أيها الناس! اعقلوا، واعلموا أن لله عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء؛ بمكانتهم وقربتهم من الله تعالى))، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله! حلهم لنا، فسر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الأعرابي، فقال: ((هم قومٌ من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحامٌ متقاربةٌ، تحابوا في جلال الله، وتصافوا فيه، وتزاوروا فيه، وتباذلوا فيه، يضع الله لهم منابر من نورٍ، فيجلسون عليها، وإن ثيابهم لنورٌ، وإن وجوههم نورٌ، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يفزعون إذا فزع الناس، أولئك أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)).
قال أبو عبد الله:
فهؤلاء أعلام هذه الأمة، أولياء الله ونجباؤه، وأصفياؤه، فما فاتهم من الخدمة لعجزهم عن دوام الذكر في كل نفسٍ وطرفة، واستدركوا وفارتها بما ذكرنا من قوة الذكر، وإنما أخذوا تلك القوة من مجالس النجوى أيام الحياة.(6/314)
وهو قوله تعالى لموسى -عليه الصلاة والسلام- قال: يا رب! أقريب أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ قال تعالى: يا موسى! أنا جليس من ذكرني.
فمن كان جليسه رب العزة، فما ظنك بقوته في الذكر أين يبلغ مداه، ومدى يقينه، ومسافة طيران قلبه إلى الله في العلا، ومستقره من تلك المجالس، ودنوه منه في ذلك الملك ومشاهدته.
ثم من بعدهم صنف آخر، وهم المطلوبون، وذلك أنه لما خرجت منك الحركات من كل جارحة، فلم تستعملها بقلبك، صارت موضوعة عنك؛ لأن تلك حركات الحياة، فلما هاجت منك حركة، استعملت بها قلبك، من شهوة نفسك، حتى خرجت تلك الحركة إلى جارحة من جوارحك، فصار كسبك، فإن كان لله رضا، فهو كسبك، وهو لك، وإن لم يكن لله رضا، فهو اكتسابك، وذلك عليك، وهو قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
وقد بينا في كتاب ((رياضة النفس)): شأن الكسب والاكتساب من أين لزمهما، فهذان الاسمان صار أحدهما فعلاً، والآخر افتعالاً،(6/315)
فالأولى: حركات الحياة، وهي موضوعة عنك، والثانية: حركات السبع جوارح؛ باستعمالك قلبك بتلك الحركات؛ من يديك ورجليك، ولسانك، وسمعك، وبصرك، وبطنك، وفرجك، فهاهنا كسبك واكتسابك، الكسب للخير، والاكتساب للشر.
فالقلب مطلوب برعاية هذه الجوارح السبع وحراستها؛ لئلا يتحرك بباطل، إما بغفلة في غير مجاوزة الحد، وإما بمجاوزة للحد، فتصير معصية حتى تكون حركاتها خدمة للرب، فإذا أهمل القلب ذلك، فقد ضيع الخدمة، ثم هو على ضربين: فمرة أهمل القلب ذلك، حتى خرجت الحركات منه بغير ذكر ولا نية، فيما أذن الله له من الأكل والشرب، والنوم، وأمور الأحياء في متقلبهم، فهو في ذلك الوقت مضيع للخدمة بطال، أجرى الله عليه رزقه، وعمل المسخرون أعمالهم، وأوصلوا إليه منافعه، وعطل الخدمة هو، فعظمت حجة الله عليه؛ حيث لم يعبده في تلك الساعات، وضيع الخدمة، فلو قامت الملائكة تصف خسرانه،(6/316)
ما قدروا عليه.
ولذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ليس يتحسر أهل الجنة على شيءٍ إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله فيها)).
فهذه الحسرات على أهل الجنة في الموقف، لا في الجنة، وإنما ذكر في هذا الحديث أهل الجنة، فإنما صار ذلك حسرة؛ لأنه لما عرضت عليهم أيام الدنيا ولياليها، فرأوا ساعة ذكروا الله فيها، ورأوا أن الله ذكرهم في تلك الساعة، وماذا خرج لهم من ذكره، ثم نظروا في الساعة التي حرمهم فيها ذكره بما تركوا من ذكره، فأخذتهم الحسرات.
والضرب الآخر: أهمل القلب حتى خرجت منه حركات في أمر لم يأذن الله به، فصار ذنباً ومعصية، فذهب العبد بالرقبة، أكل رزقه، وأبق، فما جزاء العبيد الأباق؟ فاجتمع عليه أمران: فوت ثواب الخدمة، وعار الإباق.
يقال في السماوات: أبق العبد اللئيم من ربه الكريم، ويقال: أبق العبد البائس السفلة من ربه الجواد العظيم، فرأى جفاه على القلب يوم يكشف له(6/317)
الغطاء عن هذا في وقفته بين يدي الله، يتقطع قلبه حسرات قطعاً قطعاً، ويتفلذ كبده ندامات فلذاَ فلذاً، ويضطرب كل عرق منه حياءً من الله، وتصرخ منه كل شعرة ومفصل عويلاً، وندامة، وحرقة، وأسفاً، يقال له: أكلت رزقي، وقبضت عن أهل سخرتي منافعك، وهربت مني، وذهبت برقبتك، وآثرت هواك ومودة نفسك، ومحاب عدوك علي، أفٍّ لك من خادم.
فعلم الله علام الغيوب أن هذا نازل بعبيده، فلم يؤيسهم من رحمته، ولم يحيرهم في طريقه، ولم يكدر عليهم مننه، فترك بابين مفتوحين: باباً من اليمين، وهو باب التوبة، وباب تجاهه، وهو باب الدعاء، وبسط يده فتركها مبسوطة لمن رجع إليه، فبايعه على رد الرقبة، وبذل النفس، والوقوف بين يديه، فقبلهم لما علم صدقهم، وقواهم وأعانهم على الوفاء بالخدمة.
1472 - نا الجارود بن معاذ، قال: نا جرير، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، باسطٌ يده لمسيء النهار أن يتوب بالليل، ولمسيء الليل أن يتوب بالنهار، حجابه النار، لو كشفت، لأحرقت سبحات وجهه(6/318)
كل شيءٍ أدركه بصره)).
قال له قائل: فإذا تاب، فرد الرقبة، ومد عنقها للانقياد له، فما منتهى أمره، وكيف تدبيره؟
قال: أجمع لك ذلك في خصلتين، وأتوخى الوجازة في هذا الأمر؛ فإنه إذا طال الوصف، وكثر ذكر النفس بوجوه مذاهبها، تحير العقل، وأعيا القلب.
فإن قيل في الحكمة: إن ازدحام الكلام على الأذن مضلة للفهم، ووجازته أبلغ لمن كان له لب، فبلوغ الغاية في هذا الأمر: أن تطلب لقلبك استقامة على طريق الله الذي دعاك إليه، فإذا استوى قلبك على الطريق المستوي، فذلك قصد أهل الصدق، فكان الله لهم معيناً، وحافظاً، ومؤيداً،(6/319)
فإذا وقف قلبك على سواء الطريق إلى الله، أشرق لقلبك نوران من عنده؛ تأييداً لك من عنده، وتفضلاً، وتكرماً، فإذا تطرق عينا فؤادك إلى إشراق ذينك النورين، تشبث بهما، ولزمهما ومر حيث مرا به، وهدياه، فاهتدى لما هدياه، وبادر وأسرع، فهما سراجان يضيئان له الطريق في كل أمر حادث، يبصرانه كيف ينبغي له أن يمضي فيه.
قال له قائل: وما النوران؟
قال: نور الحق، ونور العدل، فنور الحق: يمنعك عن الباطل، ونور العدل: يمسكك عن الميل في الحق.
فإن الميل هو: جور عن الله، فإذا ملت، وجرت عن الله، ذهبت الاستقامة؛ لأن الذي يعمل بالحق في الأمر الذي يعرض له، فهو عامل بالحق، مشارك للهوى فيه، حتى يرائي في ذلك الحق، ويتصنع، ويداهن، ويعمل بعلاقة، فالعدل يمنعه عن ذلك، والحق يمنعه عن المعصية والسيئة، وهو قول الله تعالى حيث ذكر موسى -عليه الصلاة والسلام- ما وجد في التوراة من عطاء ربنا لهذه الأمة، فقال: هم أمة محمد، فقال: فاجعلني منهم،(6/320)
فوعده أن يعطي قومه ما قنع به، فرضي به، فقال تعالى: {ومن قوم موسى أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون}، فوفى له، وأنجز وعده.
فهم الذين روي في الخبر: أنهم من وراء الصين، من وراء نهر الرمل، يعبدون الله بالحق والعدل، فمع هذا الحق والعدل، لم يقدروا أن يكونوا بين ظهراني بني إسرائيل، حتى أخرجهم الله إلى ناحية من أرضه، في عزلة من خلقه.
فروي لنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ذهب به إليهم، فساءلهم وساءلوه، وآمنوا به، وعلمهم سوراً من القرآن، وقال لهم: ((هل لكم مكيالٌ وميزانٌ؟))، قالوا: لا، قال: ((فمن أين معاشكم؟))، قالوا: نخرج إلى البرية فنزرع، فإذا حصدنا، وضعناه هناك، فإذا احتاج أحدنا، خرج إليه، فأخذ حاجته، قال: ((فأين نساؤكم؟)) قالوا: في ناحية منا، فإذا احتاج أحدنا إلى زوجته، صار إليها في وقت الحاجة، قال: ((فيكذب أحدكم في حديثه؟))، قالوا: لو فعل ذلك أحدنا، لا يظن إلا أن النار تنزل عليه فتحرقه، قال: ((فما بال بيوتكم مستويةٌ؟))، قالوا: لكيلا يعلو بعضنا بعضاً، قال: ((فما بال قبوركم على أبوابكم؟))، قالوا: لكيلا نغفل عن ذكر الموت.(6/321)
فهذه صفة القوم الذين جعل الله حاجة موسى ورضاه فيهم، فهم أهل هذه الصفة، ثم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا من ليلة الإسراء، أنزل عليه: {وممن خلقنا أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون}.
يعلمه أن الذي أعطيت موسى في قومه أعطيتك في أمتك، ومع ذلك من القوة لهم ما أقاموا ذلك الحق والعدل بين ظهراني الخلق من غير حاجة إلى عزلةٍ من الناس، فمن الله على موسى بأولئك، ومن على محمد عليه السلام بهذه الطبقة مع القوة التي تضاعفت المنة له فيهم عليه، فشتان ما بين من يقيم الحق، والعدل في أرزاقه ومعاشه، فهو يتقلب فيها، ويخالط أهله وولده في كل وقت، ويلابس أهل المكاييل والموازين، ويخزن ما أعطي من الدنيا في خزانته، ويعمل في بنيانه، ومساكنه ما يعمل الأمناء من التفاوت من أجل مرافقه، وتكون قبور موتاه بمعزل عن عينه، وهو مع ذلك يجري في ميدان الحق والعدل، وبين من هرب عن هذا كله، واعتزلهم، وجرى في ميدان الحق والعدل.(6/322)
لقد بان أولئك بوناً بعيداً، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنما قووا على هذا؛ لتعلق قلوبهم بالله، فهم يمتصون حلاوة اليقين، فتجمد في قلوبهم، حتى تصير قلوبهم بقوة اليقين كالجبال الرواسي، فهم بين إشغال النفس وتزاحمها، يمرون كالسهم في ميدان الحق والعدل، فهم بارزون على طبقة موسى الذين وصفهم في ليلة الإسراء، فإذا ظفرت بهذين النورين، فكانا لك، فلزمتهما، فأنت في كل أمر حدث تخرج حركاتك إلى الجوارح من قلب محق عدل، قد والى الله؛ لينصر حقه، ويقيم أمره، ويوفر خدمته، ويوفيه حقه، فتولاه الله، وستره، وولي هدايته، وائتمنه، فهذا قد أكل رزقه، وقبض منافعه من المسخرين، وأدى خدمته إلى الله، وفي خلال ذلك يستغفر للتقصير الذي يتخوف فيه، فلم يبق للسماوات والأرض ولا الشمس، والقمر، والليل، والنهار عليه تبعة ولا خصومة.
ومن كان بخلاف ذلك، فهؤلاء كلهم خصماؤه، وويل له من أرضه التي يدفن فيها، ماذا تعمل به، وكيف تعصره عصراً، وكيف تضغطه ضغطاً؟! ومن سمائه التي تصعد روحه إليها، ومن ملائكة الله، وحيث(6/323)
يمر بروحه عليهم، ومن جميع خلقه المسخرين له، يقولون: قد استرحنا من هذا العبد الآبق الفاجر، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مستريحٌ ومستراحٌ منه)).
فالمستريح: من غفر له، وستر عليه مساوئ عمله.
والمستراح منه: من هؤلاء خصماؤه وأهل تبعته، يقولون: أوصلنا إليك السخرة، فأين الخدمة؟
فمن عاد الله عليه بفضله ورحمته؛ لإنابته إليه، وندمه، وعويله، واستقامة سيره، غفر له، فسكن الخصماء، وأهل التبعة عنه من المسخرين، ولهوا عنه؛ لأنه صيره حبيبه، وقال في تنزيله: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}. تطهروا بالله في قربه لما بذلوا نفوسهم له صدقاً، فوالوا الله، وتولاهم الله.
فروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ينادي منادٍ يوم القيامة: ألا من كان [الله] له ولياً، فليعتزل، ثم يقول: أنا ضامنٌ لمن ادعى قبلهم حقاً)).
فهؤلاء الذين ضمن الله لهم، هم آدميون مثله، فوفى الله عنهم،(6/324)
لأنهم من جنسه، وأما أهل السخرة، فكسنوا؛ لأنه أراهم أنه حبيبه، ونادى في السماوات جبريل بحب الله له، فبرأه من تبعة أهل السخرة، وقضى عنه ما كان من تبعات الآدميين؛ لأن الآدميين شركاؤه، وفي كرامة سجود الملائكة له، وفي العلم والخدمة، فإذا ادعوا قبله حقاً، لم تبطل حقوقهم، ولكن يتولى قضاءه عنه، ولا يتركه في أيديهم.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((إن صلاتكم معروضةٌ علي يوم الجمعة، فأكثروا علي الصلاة))، فقال قائل: يا رسول الله! كيف وقد رممت؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنا -معاشر الأنبياء- حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادنا)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فقد أخبر الله عن حال الأنبياء: أن الأرض قد تبرأت عنهم، فلم يتبعهم(6/325)
بما أكلوا منها؛ لأنهم تناولوا ما تناولوا منها بالحق والعدل، وإنما سخرها الله لهم؛ لإقامة الحق والعدل، فبالنبوة مروا في هذا الأمر، والنبوة من الحق والعدل أعطيت الأنبياء، فخلفاء النبيين من أعطي الحق والعدل، وكذلك ليس للأرض عليهم سلطان.
ومما يحقق ما قلنا:
حديث جابر بن عبد الله: أن شهداء أحد لما نقلوا عن قبورهم إلى موضع آخر في زمن معاوية؛ حيث أراد أن يجري ذلك الماء في ذلك الموضع، فأخرجوا من قبورهم -بعد نحو من أربعين سنة- رطاباً ينثنون، حتى أصابت المسحاة قدم حمزة بن عبد المطلب، فانبعث دماً طرياً.
فإذا كان حال الشهداء في قبورهم هكذا، فانظر ما حال الصديقين؛ فإنهم أعلى منهم، فتوهم ما حال أبي بكر، وعمر في قبريهما -رضوان الله عليهما-؟ أفيتوهم أحد أن للأرض عليهما سلطاناً وتبعة؟ لا يتوهم هذا(6/326)
ذو لب يعلم هذا الأمر.
وفي جملة القول: إن الله -تعالى اسمه- لم يقتض العباد ما لم يعطهم؛ لأن الأشياء كلها من عند الله، كان الله ولا شيء، فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج لهم بساطين: بساط الربوبية، وبساط العبودية، فقابل بساط العبودة بساط الربوبية؛ ليلاحظ العباد بساط الربوبية، فيقتبسوا منه علم الربوبية، فيردوه إلى النفوس الناكصة عن الأمر، الخائضة في النهي حتى تنقاد تلك النفوس، فتذل وتهاب ما يأتي إليها من علم الربوبية.
ثم أخرج من بين البساطين بساط التدبير، فأخرج من ذلك التدبير خلقاً علواً وسفلاً مسخرين للعبيد؛ قطعاً للاعتذار، والجدال، والخصومة؛ لأنه قد علم أنه خالق يوماً يبعثهم فيه، ويحشرهم إلى مقام(6/327)
الحساب، فتأتي كل نفس تجادل عن نفسها، فبسط لهم هذه البسط الثلاثة، وجعل القلوب أمراء على النفوس، وركب في كل قلب عينين ناظرتين تلاحظان بساط الربوبية، ثم تنظران بعين الكياسة بساط التدبير، ثم تنظران بعين قد استوزرت العقل، وتضمنت الزهد، فتدور في فنون العبودة، وتنتبه ليوم المقتضى، وأنه مطلوب يطلبه مالك الملوك بسره وعلانيته، وحاصل ما في صدره.
فلما بسط هذه البسط الثلاثة، ابتدأ في خلق السخرة علواً وسفلاً، ثم أظهر خلق الإنسان في وسط ذلك، والمسخرون حوله، وكان آخر من خلق، وذلك في يوم الجمعة في ساعة، بلغنا في الحديث: أنه أقسم: لا يسألني عبد حاجة في هذه الساعة من هذا اليوم إلا أجبته؛ تعظيماً لخلق هذا الإنسان وذريته، وفيهم الأحباب والرسل، والأنبياء، والأولياء، وأعلاهم وأولهم محمد صلى الله عليه وسلم، فوضع في هذا الآدمي: الروح، والحياة، والقوة، والعلم، والذهن، والحفظ، والفهم، والفطنة، والعقل، والحلم، والبصر، والكياسة، هذا كله في النصف الأعلى من الجسد.
ووضع الشهوة والنفس والهوى فيما سفل، ثم اقتضاهم استعمال ما في النصف الأعلى، وإبرازه من باطنه إلى ظاهر الجوارح، فتكون أعمالاً عليها(6/328)
يثابون، وأعلمهم أن هاهنا عدواً قد وجد السبيل إلى هذه الشهوات والهوى، كما وجد إلى أبيهم السبيل في داره، وحذرهم أن لا يلتفتوا إلى غرور هذا العدو الذي يوسوس إليهم، وأن يفروا إلى الله من هبوب الهوى إذا هب في الجوف، فأثار الشهوات حتى دبت في العروق، فاشتملت على الجسد، ومالت بقلبك عن الله، فيصدك عن سبيل الله إذا اتبع قلبك الهوى، وتقدم إليك في تنزيله في قوله: {يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا يوم الحساب}.
فأعلمنا في تنزيله: أن نسيان يوم الحساب يجرئنا على استعمال الهوى، وعلى ترك الحذر من العمل بالهوى، وأعلمنا في آية أخرى: أن في يوم الحساب إبلاء السرائر، واستخراج حاصل الصدور، وليعلم العباد أن الهوى إذا ظهر، لم يطع، وإذا انكمن، لم يؤمن، فتمت حجة الله عليهم بما وصفنا من العطاء، فمن لم يعطه روحاً أو قوةً، أو علماً، أو ذهناً، أو حفظاً، أو شيئاً من هذه الأشياء، لم يقتضه ما يخرج له من ذلك الشيء.
كما أنه إذا لم يعطك الرجل، لم يقتضك الصلاة قائماً، وإذا لم يعطك القوة، لم يقتضك الصوم، وإذا لم يعطك السبيل إلى الحج، لم يقتضك الحج، وإذا لم يعطك المال، لم يقتضك الزكاة، وإذا لم يعطك الكسوة،(6/329)
فصليت عرياناً، أجزأتك، وإذا لم يعطك الماء، صح لك التيمم.
فكذلك ما في الباطن، كل شيء لم يعطك، لم يقتضك استعماله وإبرازه عنك، وكل شيء أعطاك لتبرزه إلى جوارحك، فتكون محموداً عليه مثاباً مكرماً، فإذا منعته، فقد ظلمت نفسك، وضيعتها، وضاعت عنك تلك الأشياء التي وضعها فيك.
فإن قال العبد: وضع في هذه الأشياء، ولكن لا يعمل هذه الأشياء في إلا بإذنه، فإن منعني الإذن، بقيت هذه الأشياء في غير عاملة، ولا مستعملة، فخبث، وإذا أذن له، برز ذلك مني إلى ظاهر أركاني، فالإذن أحد هذه الأشياء الذي إذا منعني، صرت كأني لم أعط شيئاً، وهو رأس هذه الأشياء، والإذن من المشيئة، ومن أجل هذا ندب العباد إلى أن يكون هجير العبد ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لئلا يركن، ويطمئن قلبه إلى هذه الأشياء التي وضعت فيه.
فمن حجة الله تعالى أن يقول: إنما أعطيتك هذه الأشياء، ووضعتها في وعائك، والوعاء هو القلب والنفس، فإذا ذهبت بقلبك ونفسك عني،(6/330)
وأقبلت على الشهوات، واستعمال الهوى، فقد ذهبت بالنفس بما فيها من هذه الأشياء الموضوعة فيك، فلما غيرت؛ بأن ذهبت بنفسك، انقطع الإذن، وبقيت الأشياء غير عاملة.
وقال في تنزيله: {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
فإذا ذهبت بروحك، وحياتك، وقوتك، وعلمك، وذهنك، وحفظك، وعقلك، وفهمك، وفطنتك، وحلمك، وبصرك، وكياستك، فمازجتها بالهوى، والهوى دنس قد خرج من النار، ومر بالشهوات، فاحتملها إلى شهوتك الموضوعة في نفسك، فأثارها، واشتد احتدامها، وهاجت أمواجها، فاغبر عليك صدرك، وبقيت عينا الفؤاد في الصدر في ذلك الغبار تائهة، فغيرت النعم؛ بأن قطعت الإذن عنك، فإن وقفت بنفسك بين يدي بما فيها من الأشياء الموضوعة فيك، فقد بذلت نفسك لي، وصرت أميناً من أمنائي، فأذنت الأشياء الموضوعة فيك إذناً عاماً لا تحتاج إلى أن تستأذنني في كل أمر.
وعندك مثل هذا: عبد قد ملكته من السبي، واتخذته عبداً، فكان يشتري لك من السوق الشيء بعد الشيء بإذنك، فما استدان بغير إذنك، لم يكن يلزمك ضمانه في مالك؛ لأنه محجور عليه،(6/331)
عبد مملوك لا يقدر على شيء، وكل شيء أذنت له فيه، جاز ذلك عليك، وكل شيء لم تأذن له فيه، انعلقت رقبته إلى يوم العتق، فيؤخذ به بعد العتق، فإذا طال مكثه في العبودة، وعرف أمورك، وجدته ناصحاً، متشمراً في أمرك باذلاً لك نفسه، صار أميناً عندك، فأذنت له بالتجارة، فصار تاجراً أميناً يداين الناس ويعاملهم، فكل ما حصل عليه، فقد لزمك؛ لأنك قد أذنت له في كل تجاراته ومعاملاته، فإذا اقتضاه غرماؤه، قضيت عنه دينه، فكذلك أنت عبدي متى بذلت نفسك لي، ووقفت بين يدي مقام الأمناء، أذنت لكل شيء وضعته فيك أن يعمل عمله، حتى تجد في كل وقت ثمرة كل شيء، وضعته فيك، وعمله من العلم، والذهن، والقوة، والحفظ، والعقل، وجميع الأشياء الموضوعة فيك.
ومتى رغبت عني إلى شهواتك وهواك، فأنت عبد متهم، محجور عليه، لا تعمل شيئاً إلا بإذني، فمرة تجد الإذن، ومرة لا تجد؛ لأنك متهم سرك، وقلبك مع هواك، ولسانك وظاهر قلبك معي، فإذا أذنت لك في كل أمر إذناً عاماً، تخطيت الأمور، فأفسدت.(6/332)
وكذلك عبدك المحجور إذا أذنت له إذناً عاماً في كل التجارات، ولم يكن عنده ما يضبط به ذلك، أفسده، فإنما حجرت عليه لأنه لا يضبطه، ولأنه لم يبذل نفسه لك، ويكون بين يديك حتى تهديه للأمور، فكذلك العبد إذا أقبل إلي صدقاً، وتخلى من الهوى والشهوة، وتقرب إلي بذلك التخلي، فما زال ذلك دأبه حتى يلقي نفسه بين يدي باذلاً لها، لا يتعلق بشيء دوني، وصعد إلي ضرعه، وجؤاره، ورحمته، فاجتبيته وهديته، وكذلك فعلت بأوليائي وأحبائي. قال في تنزليه عندما يصف خليله شاكراً لأنعمه: {اجتباه وهداه}.
فالمجتبون والمهديون في قبضة الله، يستعملهم في محابه ومشيئته، فإذا نطق فبه ينطق، وإذا نظر، فبه ينظر، وإذا سمع فبه يسمع، فإذا بطش، فبه يبطش، وإذا مشى، فبه يمشي، وإذا تدبر، فبه يعقل.
كذلك جاءنا: عن عروة بن الزبير، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل -عليه الصلاة والسلام-، عن الله تعالى.
قال له قائل: فما بذل النفس لربه؟.(6/333)
قال: أن يترك جميع مشيئاته لمشيئته؛ فإن الله تعالى خلقه لما شاء، لا لما شاء العبد، ودبر له في أمر دنياه ما علم أن صلاحه فيه، لا ما علم العبد، فإذا ترك العبد مشيئاته، وصارت عينا قلبه شاخصتين إلى ما تبرز له من الغيب، فيرضى به، قد فوض إليه قبل ذلك أموره، فلا يركن إلى شيء، ولا يدبر لنفسه شيئاً، إنما هو عبد مراقب لما يظهر له من غيبه من التدبير، فقد بذل نفسه له، وصار عبداً قد زالت عنه التهمة، وصار أميناً من أمنائه.
فأذن لجميع ما وضع فيه أن يعملوا أعمالهم في الباطن، فيؤدوا إليه ثمراتهم، فصار عبداً مأذوناً، يدور رحى حركاته بالقطب، والقطب هو الإذن، فعندها صارت مشيئة ربه في مشيئته، فمتى ما شاء شيئاً، أنفذه، وكان ذلك الشيء الذي شاء العبد مشيئة ربه، فهو الذي يقسم على ربه، وهو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1473 - نا عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: نا سيار، قال: نا جعفر بن سليمان، قال: نا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله، لأبره)).(6/334)
فإذا احتج العبد بأن يقول: وضعت في العقل، والقوة، والعلم، والحياة، وهذه حججك علي، وهذا كله خلق من خلقك، أنت خلقته ووضعته في، ولا يتحرك شيء من هذا، ولا يعمل إلا بإذنك، فلم حبست عن الإذن، وهذه الأشياء كلها جنود القلب، والقلب أمين؟
فمن حجة الرب تعالى أن يقول: إني وضعت هذا فيك، لتكون النفس لي، وقائمة بين يدي، فخانت وزاغت عني بما وضعت فيها، وشاءت مشيئات، ولم تنظر إلى مشيئتي، ودبرت لها، ولم تنظر إلى تدبيري الذي سبق خلقها، فالخائن كالعبد المحجور يطلق له الإذن في شيء، ولا يطلق له في شيء لأنه يفسد، ولا يضبط، قال الله سبحانه: {وما كان لنفسٍ أن تؤمن إلا بإذن الله}.
فالإذن للنفس بما وضع فيها.
فإن قال العبد مخاصماً: فهل أقدر أن أبذل نفسي، وأترك مشيئاتي(6/335)
إلا بما تعطيني، فإنك وضعت في الشهوات، وإنما زاغت بي عنك حلاوة شهواتي، وقوة هواي؟ ومن حجة الرب تعالى أن يقول: أعطيتك حلاوة معرفتي، وقوة الحياة بي، وقائمة من عندي، وتعلقاً بحبلي، فهلا جررت حلاوة شهواتك إلى حلاوة معرفتي بذكاوة تلك الحياة، وبثبات تلك القائمة، ورسوخ قدمك في القائمة، حتى تغمر حلاوة شهواتك في حلاوة معرفتي، وقوة القائمة، وتعلقك بالحبل حتى لا يقدر الهوى أن يمد بك.
فهاهنا تنقطع الحجة، فيتحير العبد، فالمؤمنون من الله عليهم في السير بمشيئته، وليس لأحد في المشيئة منازعة أن يقول: لم شئت لفلان، ولم تشأ لي؟.
وكذلك المحبة، فخلق الله الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فإنما أصاب من أصاب بمشيئته، وأخطأ من أخطأ بمشيئته، فقد علم من يصيبه ممن يخطئه، كذلك جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما أبرز السلطان، نفر هؤلاء الذين لم ينالوا من ذلك الرش شيئاً، فتباعدوا، فورثوا البعد من الله والنفر، فلما خرجوا من صلب آدم، خرجوا سوداً عمياً عن الله، فأقروا به كرهاً على وجه التقية، وذلك قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً}.(6/336)
1474 - نا أبي، قال: نا عمرو بن طلحة القناد، عن أسباط، عن السدي، عن أبي صالح، وأبي مالك، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، بذلك.
وجاءت الأخبار: عن عبد الله بن عمر، وعن أبي ذرٍّ، وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه القصة.
وكذلك هؤلاء الموحدون أعطاهم كلهم آلات الطاعة في الباطن؛ من العلم، والذهن، والعقل، ثم لم يعطهم ما به يبذلون أنفسهم، حتى لا يشاؤون شيئاً إلا ما شاء، من أجل الشهوات التي ركب فيهم؛ لأن للشهوات حلاوة وحباً، وذلك الذي أعطى من بذل نفسه له، وقطع عن نفسه حب الشهوات وحلاوتها مجاهداً لنفسه، محارباً لهواه، ماداً بجلدة رقبته إلى ربه، ضرعاً، باكياً، تجري دموعه على خديه، فمرة يجثو، ومرة ينتصب، ومرة يضع خده بالأرض، ومرة يدعو، ومرة يتملق، حتى رحمه ربه، واطلع على صدق بذله، فمن عليه بذلك الحب الذي هو أصل الحب عنده، فأحياه بذلك، وأذاقه من حلاوته ما جرف كل حلاوة في نفسه، كالسيل الذي يجيء، فيجري في الكناسات بما فيها، وبالمزابل بما فيها من(6/337)
الأقذار والميتة، فصارت بقاعاً طاهرة.
فكذلك صدر هذا العبد بما نال من هذا الحب، فذهبت مشيئاته تحت مشيئة خالقه، فصار منه مأذوناً بجميع ما فيه من الأشياء الموضوعة، حتى أينعت ثمراتها، وبرزت عمالاتها على الجوارح، ثم صيره في أحوال الدنيا مقسماً على ربه في ملكه، قال الله تعالى: {أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} الآية.
فرتب لتارك المشيئة مرتبة القسم أن يتناول من ملكه حاجته من خزائن تلك الحاجة بقلبه، ثم يرفعه إلى ربه ممسكاً ينتظر مشيئته، فيجعل الرب مشيئته في مشيئة عبده، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أقسم على الله، لأبر قسمه)).
فإقسامه أن يأخذ العبد من القسمة بمشيئته، فيمضي أخذه واقتسامه، فهذا الحب بمشيئته يعطي ويمن، وليس لأحد فيه خصومة لم شئت له، ولم تشأ لي؟ ولم أحببته، ولم تحبني؟(6/338)
1475 - نا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى إذا أحب عبداً، قال: يا جبريل! إني أحب فلاناً، فأحبه، فيحبه جبريل، ثم يضع له القبول في الأرض)).
فالعلم بالله يؤدبك في باطنك، والعلم بتدبير الله يؤدبك في ظاهرك.
قال له قائل: كيف يؤدبه في الباطن؟
قال: يجعله في ذلك العلم مراقباً لله، فيقف به على حدود المراقبة في الأمور كلها، ويورثه الحياء منه، ويقف به على مهابة أسرار الله،(6/339)
ويقف به على الحذر والحزم، ويرضي نفسه رضاً في أثقال المنن، والمراقبة في الأمور كلها يورث الحياء حتى يؤديه من هذه المنازل إلى التعلق به في كل الأحوال.
قال: فكيف يؤدبه في علم التدبير في ظاهره؟
قال: إذا علم التدبير، تصور له صورة للأعمال، فرأى مراتب الأعمال عند الله، فالصلاة لها مرتبة، والزكاة لها مرتبة، والصدقة لها مرتبة، والصوم له مرتبة، والجهاد له مرتبة، وكذلك سائر أعمال البر لكل عمل مرتبة، ولكل عمل ثواب؛ بخلاف العمل الآخر، ولكل عمل جزاء؛ بخلاف الجزاء للعمل الآخر، ولكل عمل صورة، فالصورة أس العمل.
قال له قائل: اشرح لنا شيئاً منه نقف به على معناه.
قال: الصلاة: إقبال العبد على الله، والزكاة، فرار من شركها وشبكاتها إلى الله، والصوم: وثاق النفس ورباطها لله، والجهاد: حمية وتعصب لله، والحج: وفاء البيعة الأولى، وتجديد بيعة أخرى، والجمعة: قبول ضيافة الله، وتناول جوائزه، والأعياد: اعتراض العبيد على الله، ومجالس الذكر: تملق العبيد إلى الله، ومرتع في رياض الله، ومؤاخاة المؤمنين ومعاطاتهم: مرمة عسكر الله، والدعاء إلى الله، نصيحة الله، والرغبة إلى الله: افتقار العبد إلى الله، فانظر إلى ما نطق به التنزيل، وإلى ما جاءت به الأخبار عن الرسل(6/340)
من ثواب هذه الأشياء وحسن الجزاء، هل يشبه بعضه بعضاً؟
إذا نظرت إلى ذلك: علمت أن بينهن تفاوتاً، وإنما اختلف مثوباتها؛ لاختلاف صورها، فمن التدبير خرجت الصور، فمن عرف هذه الصور من الأعمال، فإنما يعرفها بالعلم بتدبير الله، فعلى حسب ذلك يقيم حرمتها، ويضعها مواضعها.
ألا ترى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى كيف كان يعطي كل عضو منه حقه من الصلاة؟
وكذلك قال عمر: أعطوا مرافقكم حقها من السجود.
معناه: أي: لا تبسط ذراعك، فيبطل حظها من السجود.
قال ابن مسعود: لأن ترض إبهامي رضاً أحب إلي من أن أستقبل بهما غير القبلة إذا وضعت كفي بالأرض في حال السجود.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفريضة، لم يصل في مكانه شيئاً من التطوع؛ إقامة لحرمة الفريضة.
وكان إذا صلى التطوع، تياسر، ويأمر بذلك، ولا يتيامن؛ إقامة(6/341)
لحرمة اليمين.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى سارية، وإلى عود، أو عصا، جعله على حاجبه الأيسر، ولم يجعله نصب عينيه؛ إقامة لحرمة القبالة.
وكان علي رضي الله عنه إذا سلم، خفض تسليمته الأخرى قليلاً من التسليمة الأولى؛ إقامة لحرمة كاتب اليمين.
فهذه وما أشبهها في جميع أعمال البر محفوظ ذلك عندهم ومتعاهد، وكذا في الصوم والزكاة، تركنا وصفه؛ لأنه وادٍ عميق، فإنما أدركوا ذلك؛ لأنهم علموا التدبير، ومراتب صور الأعمال، وبالله التوفيق.(6/342)
الأصل الثامن والستون والمئتان
1476 - نا عباد بن يعقوب الأسدي، قال: نا عمرو ابن ثابت، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن مسعود، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرأً سمع منا حديثاً، فبلغه كما سمع منا؛ فإنه رب مبلغٍ هو أوعى له من سامعٍ)).(6/343)
1477 - نا محمد بن بشار بندار، قال: نا أبو داود، قال: نا شعبة، عن عمر بن سليمان، قال: سمعت عبد الرحمن ابن أبان يحدث، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نضر الله امرأً سمع منا حديثاً، فبلغه غيره، فرب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقهٍ غير فقيهٍ)).
1478 - نا أبي، قال: نا صالح بن عبد الله، عن أبي يوسف، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد ابن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف من منى، قال: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي(6/344)
فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقهٍ لا فقه له، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فاقتضى العلماء الأداء، وتبليغ العلم، فإذا أدوه، تلقت الأسماع، ووعوه لفظاً ومعنى، ثم أدوه إلى من بعدهم من القرون، فلو كان اللازم لهم أن يؤدوا تلك الألفاظ التي بلغت أسماعهم بأعيانها بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير؛ لكانوا استودعوها الصحف كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فكان إذا نزل الوحي، دعا زيد بن ثابت، فكتبه مع ما توكل الله له بجمعه وقرآنه، فقال تعالى: {إن علينا جمعه وقرءانه}، وقال تعالى: {وإنا له لحافظون}.(6/345)
فكان الوحي محروساً، ومع الحرس يكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كانت هذه الأحاديث سبيلها هكذا؛ لكتبها أصحاب رسول الله، فهل جاءنا عن أحد منهم أنه فعل ذلك؟
وجاء عن عبد الله بن عمرو: أنه استأذن رسول الله في صحيفة، فأذن له.
وأما سائر الأخبار، فإنهم تلقوها منه حفظاً، وأدوها حفظاً، فكانوا يقدمون ويؤخرون، وتختلف ألفاظ الرواة فيما لا يتغير معناه، فلا ينكر ذلك أحد منهم، ولا يرون بذلك بأساً.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لما قال: ((من كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار))، أمسك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرواية مخافة تغير الألفاظ، ثم سألوه عن ذلك، فهداهم السبيل، وأوضح لهم الطريق.
1479 - نا بذلك نصر بن فضالة، نا عمرو بن الحسن الجزري، عن عباد بن عباد المهلبي، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يحدث بالحديث، فيقدم ويؤخر،(6/346)
ويزيد وينقص؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أصاب المعنى، فلا بأس)).
1480 - نا الحسين بن سيار العسقلاني، قال: نا الوليد بن سلمة قاضي الأردن، قال: نا إسحاق بن يعقوب بن عبد الله بن أكيمة، عن أبيه، عن جده، قال: قلنا يا رسول الله! إنا نسمع الحديث، فلا نؤديه كما سمعنا، قال عليه السلام: ((ما لم تحرموا حلالاً، أو تحللوا حراماً، وأصبتم المعنى، فلا بأس)).(6/347)
1481 - نا أبي رحمه الله، قال: نا أبو نعيم النخعي، عن العلاء بن كثير، عن مكحول، قال: خرجنا إلى واثلة بن الأسقع، فقلنا: يا بن الأسقع! حدثنا بحديث غض لا تقدم فيه ولا تؤخر، حتى كأنا نسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فغضب الشيخ، وكان شيخاً كبيراً، فقال: أجلسوني، فأجلس، فقال: أما منكم أحد قام في ليلته بشيء من القرآن؟ قلنا: ما منا إلا من قد قام بما رزق، قال: فكان أحدكم حالفاً بالله ما قدم حرفاً من كتاب الله ولا أخره، إنا كنا قد أمسكنا عن الأحاديث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعناه يقول: ((لا بأس بالحديث قدمت أو أخرت إذا أصبت معناه)).(6/348)
1482 - نا أبي رحمه الله، قال: نا صالح بن عبد الله، عن الضحاك بن ميمون، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
قال أبو عبد الله:
ثم لما تداولت هذه الأحاديث طبقات القرون، واشتبهت عليهم أصول العلم، وهي الحكمة، وافتقدوا غور الأمور، كثر التخليط؛ فجاؤوا؛ [بـ]ـالزيادة، والنقصان، والتقديم، والتأخير، فالحكماء: ميزوا رواية الرواة، صحيحها من سقيمها.
قال له قائل: مثل ماذا؟
قال: مثل ما روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أتاكم أهل اليمن، ألين قلوباً، وأرق أفئدة)).
ثم في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:(6/349)
((أرق قلوباً وألين أفئدةً)).
فاضطربت الرواة في ذلك، فأتت به من وجوه على هذا اللفظ، ومن وجوه على هذا اللفظ الآخر، فإنما ميزت الحكماء بين اللفظين، وحكموا لواحد بالصواب، وذلك أن القلب هو البضعة الباطنة، والفؤاد البضعة الظاهرة التي فيها العينان، والأذنان، والنور في القلب، ويتأدى إلى الفؤاد، فالرؤية للفؤاد، والتقلب للقلب، ولذلك سمي قلباً، والله يقلبه.
ألا ترى أنه يقال في الدعاء: ((يا مقلب القلوبّ ثبت قلبي)).
ولا يقال: يا مقلب الفؤاد! ثبت فؤادي، فإذا قلب القلب، انقلب الفؤاد معه بتقلب القلب، قال الله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم}.
فأصل التقلب للقلب، ثم قد نال الفؤاد منه حظاً، فلم يسم قلباً، ويسمى فؤاداً، وقال تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى}.
فنسب الرؤية إليه؛ لأن العينين على الفؤاد، يقال: هذا خبز فئيد لخبز ملة؛ لأن له ظاهراً وباطناً، فظاهره مفشي عليه، فاللين للقلب،(6/350)
والرقة للفؤاد؛ لأنه إذا دخل النور القلب، فبالرحمة دخل، فرطب القلب بالرحمة ولان، ثم لا يزال ذلك النور يعمل في ذلك القلب بحره وحريقه، حتى يرفق هذه البضعة الظاهرة لذوب تلك الرحمة، فمن زيد في نور قلبه، كان أرق لفؤاده، لذوب تلك البضعة، وألين لقلبه؛ لرطوبة الرحمة، فإنما وصف أهل اليمن بذلك، وأخبر بحظهم من الله، فمن لم يصل إلى معرفة هذا الذي وصفنا، وكانت روايته حفظاً، اشتبه عليه الأمر، فمرة يقول: ((ألين قلوباً، وأرق أفئدةً))، ومرة يقول: ((ألين أفئدةً وأرق قلوباً)).
فقلب المعنى، واستحال الكلام، ولم يكن عنده تمييز الحكماء.
ومثل قوله لحديث أبي هريرة: أنه قال: ((البكر تستأذن، والثيب تستأمر)).
فروى ابن المبارك عن علي بن المبارك، بهذا اللفظ.
وروى وكيع عن علي بن المبارك: ((البكر تستأمر، والثيب تستأذن)).(6/351)
فالذي فقه هذا، ميز الصواب من الخطأ، فقال: ((البكر تستأذن)).
ألا ترى أنه قال: ((وإذنها صماتها، والثيب تستأمر)).
حتى تتكلم وتأمر، فإنها لا تستحي.
فمن روى أن البكر تستأمر، فقد استحال؛ لأن الاستئمار لمن ينطق بالأمر، والاستئذان لمن يكون سكوته إذناً، فهو للبكر.
فمن أراد أن يؤدي إلى من بعده حديثاً قد سمعه، جاز له أن يغير لفظه ما لم يغير المعنى، وجاز له أن يقدم ويؤخر فيقول: قال فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفلان لم يقل بذلك اللفظ، فلا يكون كاذباً في ذلك ما لم يغير المعنى.
وجاز أن يقول: أخبرني، وحدثني، وكذلك إذا كتب إليه بذلك من بلدة إلى بلدة أخرى، جاز أن يقول: أخبرني، وحدثني، وهكذا يكون الخبر إما شفاهاً، وإما بكتاب، وذلك قوله في تنزيله: {من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير}.
فإنما صارت نبأً وخبراً بوصول علم ذلك إليه، وكذلك يجوز له أن يقول: حدثني؛ لأنه قد أحدث إليه الخبر، فسواء حدث شفاهاً، أو بكتاب، وكذلك إذا ناوله كتابه فقال: هذا حديثي لك، وهذا إخباري(6/352)
إياك، فحدث عني، وأخبر عني، جاز له أن يقول: حدثني، وأخبرني، وكان صادقاً في قوله؛ لأنه قد أحدث إليه، وأخبره، فليس للمتنع أن يمتنع من هذا تورعاً، ويتفقد الألفاظ مستقصياً في تحرير السوق تحري الصدق في قوله: أخبرني وحدثني، ويزعم أن ذلك لا يجوز حتى يخبره قولاً، ويحدثه شفاهاً، فهذا رجل قليل المعرفة باللغة، يتوهم أن ترجمة قوله: أخبرني وحدثني لفظه بالشفتين، وليس هو كذلك فاللفظة لفظة، والكلام كلام، والقول قول، والحديث حديث، والخبر خبر.
فالقول: ترجيع الصوت، والكلام: كلام القلب بمعاني الحروف، واللفظ: ما يلفظ من شفتيه من الحروف والصوت، والحديث والخبر: إلقاء المعاني إليك، فسواء ألقاه إليك لفظاً، أو كتاباً، وقد سمى الله القرآن في تنزيله: حديثاً حدث به العباد وخاطبهم، وسمى الذي يحدث في المنام: حديثاً، فقال: {ولنعلمه من تأويل الأحاديث}.
فكل محدث أحدث إليك شفاهاً أو بكتاب، فقد حدثك به، وأنت صادق في قولك: حدثني، وكل من ألقى إليك نبأ من أمر، فقد أخبرك، كان ذلك شفاهاً، أو بكتاب، والله المستعان، وعليه التكلان.(6/353)
الأصل التاسع والستون والمئتان
1483 - نا عتبة بن عبد الله بن عتبة الأزدي، قال: نا عبد الله بن المبارك، عن مالك بن أنس، قال عتبة: وقرأت على مالك بن أنس، فأقر به عن العلاء بن عبد الرحمن: أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، يقول العبد: {الحمد لله رب العالمين} يقول الله تعالى: حمدني عبدي. يقول العبد: {الرحمن الرحيم} يقول الله: أثنى(6/355)
علي عبدي. يقول العبد: {مالك يوم الدين} يقول الله: مجدني عبدي. يقول العبد: {إياك نعبد وإياك نستعين} يقول الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. يقول العبد: {اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} يقول الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل.
1484 - نا عبد الجبار بن العلاء، قال: نا سفيان، قال: نا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال:(6/356)
{الرحمن الرحيم}، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: فوض إلي عبدي، وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين}، قال: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم}، ثم قال إلى آخرها)).
1485 - نا صالح بن محمد، قال: نا العمري، قال: نا العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله -تبارك وتعالى- قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، يقول: {الحمد لله رب العالمين} يقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: {الرحمن الرحيم}، يقول الله: أثنى علي عبدي، يقول: {مالك يوم الدين}،(6/357)
يقول الله: مجدني عبدي، يقول: {إياك نعبد وإياك نستعين}، يقول: هذه الآية بيني وبين عبدي، وآخر السورة لعبدي، ولعبدي ما سأل)).
1486 - نا مؤمل بن هشام البصري، قال: نا إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن جريج، قال: حدثني العلاء ابن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن عبد الله ابن السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
1487 - نا عبد الله بن الوضاح النخعي، قال: أنا سليمان بن عمرو، عن نعيم بن عبد الله مجمر الكعبة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.(6/358)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالحديث صحيح من كلا الوجهين، كأن العلاء سمعه من أبيه عن أبي هريرة، وسمعه من أبي السائب -وهو عبد الله بن السائب الجهني- عن أبي هريرة، فمرة رواه عن أبيه، ومرة عن أبي السائب.
1488 - نا سفيان بن وكيع، قال: نا زيد بن الحباب، عن عنبسة بن سعيد قاضي الري، عن مطرف بن طريف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} إلى آخرها، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل)).(6/359)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
قوله: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين))، فالصلاة: هي تصلية المرء بن يدي ربه؛ لينال من سبحات وجهه الكريم؛ لأن العبد إذا وقف بين يديه مصلياً، أقبل الله عليه بوجهه، كذلك جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في تنزيله: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.
فأحسن العبد حيث أقبل على الله بوجهه الذي هو مكارم بدنه، ثم وضع وجهه بمكارمه على الأرض تذللاً وتواضعاً لوجهه الكريم، ولذلك جرت الأخبار من مقال الرسل من مثل داود وغيره -عليهم السلام- أن قال: سجد وجهي لوجهك الكريم، فكان من جزاء الله له أن أقبل عليه بوجهه.
فالمصلي: هو كالمصطلي بنار، يقف على النار حتى يدفئ جسده من حر النار، فأمر العباد أن يقفوا بين يديه بالإقبال عليه قلباً وبدناً، فيقبل عليهم بوجهه الكريم، فينالهم من سبحات وجهه ما تحيا قلوبهم من موت الشهوات، ويطهر جوارحهم من أدناس الذنوب، فسمي ذلك الوقوف: صلاة، مشتق من الصلي.
فإذا وقف العبد، فمن أدب الوقوف: أن يترضى ربه بالثناء عليه، فيذكر مدائحه وصنائعه، ثم يسأل حاجته، فكانت لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته حظوظ مخزونة عنده في سره وغيبه ليست لأحد من ولد آدم، فلو أبرزها؛ لمدت الرسل والأنبياء والأمم أعينهم إلى تلك الحظوظ، وظهرت الخصومة،(6/360)
ويقولون في أنفسهم: نحن عبيدك من طينة واحدة، فما هذه الحظوظ لهم دوننا؟
وتحيرت الملائكة في شأن هذه الأمة، فأسر هذه الحظوظ في غيبه، وألقاها إلى الدعاء؛ ليخيل إلى الجميع أنهم إنما نالوها من الدعاء، وفتح لهم باب الدعاء ما لم يفتح لأحد من الأمم، ونزلت: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أعطيت أمتي ثلاثاً لم يعط إلا الأنبياء: كان الله سبحانه إذا بعث النبي، قال: ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمة: {ادعوني أستجب لكم}، وكان الله إذا بعث النبي، قال له: ما جعل الله عليك في الدين من حرجٍ، وقال لهذه الأمة: {وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ}، وكان الله إذا بعث النبي، جعله شهيداً على قومه، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس)).
1489 - نا بذلك أبي، قال: نا صالح بن محمد، قال: نا محمد بن عبد الرحمن، عن عباد بن كثير، قال: نا أبان، وليث، عن شهر بن حوشب، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله يقول.(6/361)
فجاءت الأمور إلى العباد على أنحاء شتى، فمنها ما جاء: يا أيها الناس! افعلوا كذا، ومنها ا جاء: يا أيها الذين آمنوا! افعلوا كذا.
فهذه دعوة بالكنية، والأولى دعوة بالاسم.
ومنها ما جاء: {قل للمؤمنين}. ومنها ما جاء: {قال الله}. ومنها ما جاء: {قال ربكم}.
وين هذه الأشياء تفاوت في المعاني يطول الكلام في تفسيرها، وإنما أردنا التنبيه في هذا الموضع؛ لعظم قدر هذه الكلمة: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}.
وكان خالد الربعي يقول: عجبت لهذه الآية: {ادعوني أستجب لكم}، أمرهم بالدعاء، ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط.
قال له قائل: مثل ماذا؟.
قال: مثل قوله: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدقٍ عن ربهم}. ليس فيه شرط العمل، ومثل قوله تعالى: {فادعوه مخلصين له الدين}.(6/362)
فهاهنا شرط، وقال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} ليس فيه شرط.
فكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى يسأل بالأنبياء لهم ذلك.
وروي عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: أنه قال: أوحى الله إلى عبده المسيح أن قل لبني إسرائيل: إني لا أستجيب لأحد منهم دعوة، ولأحد منهم قبله مظلمة.
وقال في حديث آخر: يا عيسى! قل لبني إسرائيل: أن لا يمدوا أيديهم بالرغبة إلي حتى يتبرؤوا من أنجاس الذنوب.
وقال في حديث آخر: قوله لموسى صلى الله عليه وسلم: لو دعاني حتى تنقطع أوصاله، ما استجيب له حتى يخرج الذنوب من بين أعضائه.
فإنما خص الله هذه الأمة من بين الأمم بما أطلق لهم من الدعاء، ورفع الشرط الذي كان منه على بني إسرائيل؛ ليصل إليهم تلك الحظوظ التي سبقت لهم من الله الحسنى من قبل دعائهم على ألسنتهم؛ لئلا يقع الخصومة في الأمم يوم القيامة، فيقولون: أعطيتهم ولم تعطنا، فأعطاهم من اليقين ما نفذ بقلوبهم إلى محل الإجابة.(6/363)
والإجابة: هي الجوبة جوبة الدعاء: أن ينجاب لهم عن الحجاب دعاؤهم بنور اليقين الذي فضلوا به، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي من اليقين ما لم تعط أمةً)).
وذلك قوله في تنزيله: {أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم}، ثم قال: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليمٌ}، {ما أوتيتم}؛ أي: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ثم قال: {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليمٌ}؛ أي: واسع لمن أعطى، عليم بمن هو أهل لذلك، {يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
والاستجابة والإجابة: هو أن ينفذ دعاء العبد بقوة نور اليقين حتى تنجاب الحجب، فتجوز الدعوة إلى الله، فتقف بين يديه مقتضياً للحاجة، ولذلك قال تعالى: {فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان}؛ أي: أجعل لدعوته جوبة، وهو المستقر؛ حتى يقتضي الحظ الذي وضعت له بين يدي، فأقضي أن أمضي له من بين يدي حتى تصل إليه، ولو لم يكن له حظ، لم ينل شيئاً، ولم أترك دعوته مهملة؛ بأن ذخرت له ذخيرة إذا قدم عليها، ود أنه لم يستجب له دعوة؛ لما يرى من فضل تلك الذخيرة على ما سأل.(6/364)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة))؛ أي: معكم نور اليقين حتى ينجاب لكم الحجاب وينفلق، وتنفذ الدعوة إلى ربها.
فلما كان شأن هذه الحظوظ على ما وصفنا، وأحب الله أن يوصلها إليهم من طريق دعائهم، هيأ لهم فاتحة الكتاب، فأنزلها على هذه الأمة دون سائر الأمم، خصهم بها كما خصهم بالدعاء، فجعل نصفها ثناء، ونصفها دعاء؛ ليثني هذا العبد بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم {الحمد لله رب العالمين} إلى قوله: {إياك نعبد}، ثم يرفع حاجته من قوله: {وإياك نستعين} إلى آخرها.
ثم أعطاهم آمين، خصهم به من بين سائر الأمم؛ ليصير التأمين طابعاً على دعائهم، فختم به، فأنزل الله عليهم فاتحة الكتاب، وخزنها عن الأمم؛ ليثنوا عليه بأبلغ الثناء، ويسألوه أوفر المسائل، ففي ذلك الثناء مجمع الثناء، وفي تلك المسائل مجمع الحاجات، وهذا لا يعقله إلا أهله، ثم وضعها في التنزيل، وسماها: القرآن العظيم، فقال تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}.
وروي عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((والذي نفسي بيده! إنها السبع المثاني، وإنها القرآن العظيم)).(6/365)
يعني: فاتحة الكتاب.
فوفر الله حظ محمد صلى الله عليه وسلم وحظوظ أمته في حظه، وبرز بذلك على الخلق كلهم، فجعل ذلك الحظ كله في بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، إلى قوله: {ولا الضالين} آمين.
فختمها بآمين، فجعل مفتاحها اسم الله، ووضعها في أم الكتاب الذي لم يطلع عليه أحد في الحجب مع الحكمة والرحمة بين يديه، ثم أصدرها مع سائر الكتب من أم الكتاب إلى اللوح، ثم أنزل الكتب التي أرسل إلى الأمم، واستثنى هذه السورة منها، فخزنها عن الرسل والأمم، وادخرها لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وصيرت هذه السور كلها حروفاً مؤلفةً منتظمة تلك الحروف لجميع حروف القرآن، فسميت: أم الكتاب؛ لأن الكتاب استخرج منها، وسميت مثاني؛ لأنها استثنيت من الرسل والأمم، وسميت: القرآن العظيم، فقال تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}؛ أي: سبع آيات مما استثنيناه من الكتب، وادخرناه(6/366)
لك ولأمتك، ثم قال: {والقرآن العظيم}؛ أي: آتيناك القرآن العظيم، فسماه الله: عظيماً.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: الآية السابعة: بسم الله الرحمن الرحيم.
1490 - نا سليمان بن العباس الهاشمي، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بذلك.
وروي عن أبي هريرة نحو من ذلك.
قال له قائل: فكيف إذا قرأها الإمام، افتتح بالحمد لله، ولا يجهر بالتسمية؟
قال: إن علة مثل هذا لا يدرك إلا بالخبر.
1491 - فحدثنا أبي، قال: نا الحماني، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: كان المشركون(6/367)
يحضرون المسجد، فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بسم الله الرحمن الرحيم))، قالوا: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة -يعنون: مسيلمة-، فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم، ونزلت: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}.
قال أبو عبد الله:
فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم، وإن زالت العلة؛ كما بقي الرمل في الطواف، وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النهار، وإن زالت العلة، فجعل الله عظم الدعاء وجملته موضوعاً في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات، ثم قال في آية أخرى: {ادعوني أستجب لكم}.
فأنزلت هذه السورة لنتلوها، ولندعو بها، فكما خزن هذه السورة(6/368)
عن سائر الأمم، كذلك خزن قوله: {ادعوني أستجب لكم} عن سائر الأمم، فكانت الأمم، تفزع إلى أنبيائها في وقت الحاجة، وإنما كانت هذه للأنبياء، فأعطينا ما أعطيت الأنبياء، كذلك روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرنا إسناده بدءاً.
فخزن السورة عن سائر الأمم، وخزن هذه الآية عن سائر الأمم، فجعل لسانك مطلقاً بالدعاء، وكفيك مبسوطة بالتناول، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي تدعو به؛ لأن هذا كلام قد تكلم به رب العالمين، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به، فبان بوناً بعيداً، وإنما أطلق الله لهذه الأمة، وفتح لهم باب الدعاء؛ لينيلهم الحظوظ التي جعل لهم في الغيب؛ كي إذا وصلت إليهم، وظهرت عليهم تلك الأشياء، توهم سائر الخلق أنهم نالوها من قبل الدعاء، ولذلك قيل ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، وصار للدعاء من السلطان ما يرد القضاء.
1492 - نا أحمد بن مخلد، قال: نا عمرو بن مرزوق، عن عمران القطان، عن قتادة، عن سعيد بن أبي(6/369)
الحسن -وهو أخو يحيى البصري-، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء)).
1493 - نا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي، قال: نا ابن أبي فديك، عن عبد الرحمن بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن مكحول، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن ينفع حذرٌ من قدرٍ؛ فإن الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم(6/370)
ينزل، فعليكم -عباد الله- بالدعاء)).
1494 - نا أبي، قال: نا أبو نعيم، عن سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)).(6/371)
الأصل السبعون والمئتان
1495 - نا ابن أبي ميسرة، قال: نا يعقوب بن حميد، قال: نا عبد الله بن عبد الله الأموي، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اعتز بالعبيد، أذله الله)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
الاعتزاز بالعبيد مهتاجة من حب العز، ومن طلبه له، فإذا طلب العز للدنيا، طلبه من العبيد، فترك العمل بالحق، والقول بالحق؛ لينال ذلك العز،(6/373)
فيعزوه، ويعظموه، فذاك اعتزازه بهم؛ يتكثر بهم، ويمتنع من المكاره بهم، ويطلب معالي الأمور بهم، ويطلب العلو بهم وبتكثيرهم، ويتصون بهم، فعاقبة أمره الذلة، وإن الله تعالى يمهل المخذول حتى ينتهي به خذلانه إلى أن يستحق لباس الذل، فعندها يلبسه، إما في الدنيا عاجلاَ، وإما يوم خروجه من الدنيا، يخرجه من أذل ذلة، وأعنف عنف، وأشد بأسٍ وتنكيلٍ، وإن الله تعالى أظهر عزه، وأخرج إلى العباد إزار العز؛ ليجعل لهم من ذلك حظاً.
فإنما سماه إزاراً؛ ليعقل العباد عنه: أن هذه قوة أخرجها إلى العباد؛ ليقووا به على الأعداء، ولقوى به المحق على المبطل، والأزر هو القوة، وذلك قوله تعالى: {كزرعٍ أخرج شطئه}؛ أي: زرعه {فآزره}؛ أي: قواه.
والإزار موضعه من الآدميين من الوسط، يأتزرون على أوساطهم ليقووا، ولذلك سمي إزاراً؛ لأنه قوة المرء، فمن أقبل إلى الله موحداً، فآمن به، وأسلم وجهه إلى الله، فإنما ينظر الله إلى قلبه وعمله، فمن أسلم وجهه إلى الله، أوجب الله له حظاً من ذلك العز الذي أخرجه للعباد، ومن أعرض عنه، فأشرك به غيره في ملكه، وعبد دونه، حرمه عزه، وأخسأه، وصغره، فإذا احتظى المقبل على الله بتوحيده من ذلك العز، فقد تزكى، والزكاة، النماء، والاحتشاء، والاكتناز.(6/374)
فالمؤمن زكي محتشٍ مكتنز مستقيم، والكافر خالٍ خاوٍ رخو ضعيف، فمن ازداد لله تسليماً وطمأنينة إليه بقلبه في الأحوال؛ ازداد نمواً واحتشاء واكتنازاً، فهو الذي قد تزكى، فهو زكي، قال الله تعالى: {قد أفلح من تزكى}، وقال: {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه}، وقال: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً ولكن الله يزكي من يشاء}.
فمن تزكى، فبفضله ورحمته قسم له ذلك، وهو نور التوحيد، ثم قواه حتى ربا ذلك النور بالشكر، واستوجب المزيد.
وقال تعالى: {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى} إلى قوله: {وذلك جزاء من تزكى}، فجعل للزكي الدرجات العلا، وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله}.
فقوى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتلك العزة، وأخرجها لهم من عزه، وسماه: عزة، وسماه، إزاراً؛ ليعلم العباد أنها قوة لهم، كل يحتظي منه على قدر بذله نفسه لله؛ في الائتمار بما أمره، ووضعه نفسه له في الأرض ذلة وخشعة؛ في الانتهاء عما نهاه عنه، وترك مشيئاته في الأحوال كلها بمشيئته، فعلى قدر ذلك يستوجب الحظ من تلك العزة، وذلك قوله تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلامٌ على المرسلين. والحمد لله رب العالمين} الآية.(6/375)
الأصل الحادي والسبعون والمئتان
1496 - نا محمد بن وزير الواسطي، قال: نا معتمر ابن سليمان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله)).
1497 - نا الجارود، قال: نا جرير، عن الأعمش،(6/377)
عن زيد بن وهب، عن جرير بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالرحمة موضوعة في الآدمي، فأوفرهم حظاً منه: أرحمهم لنفسه، فإذا رحم نفس، جنبها المعاصي والمساخط، وطلب لها حسن عواقب الأمور، ليحسن منزلته عند ربه، فينزله غداً دار الحسنى، وذلك جزاء المحسنين.
فبالرحمة يتخطى إلى الإحسان إلى نفسه، ومنها يتخطى إلى الإحسان إليهم، وكل من رحمته، رق قلبك له، ودعتك الرقة إلى الإحسان إليه، والعطف عليه؛ لدوام الإحسان، ومن احتبس حظه من الرحمة، غلظ قلبه، وصار فظاً، فإذا غلظ قلبه، لم يرق لنفسه، ولا لأحد من خلقه، قال الله تعالى: {فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.(6/378)
فالشديد يشدد على نفسه في الأحوال، ويعسر، ويضيق، وكذلك على الخلق، وهو من نفسه في تعب، والخلق منه في أذى.
واللين لان قلبه، ورطب بماء الرحمة، وانتشف ماء الرحمة ببؤوسة نفسه، وحدة حرارتها وكزازتها، وذهبت قسوة قلبه، فمن لم يكن له وفارة حظ من الرحمة، وجدته حديد النفس، قاسي القلب، مكدود الروح، مظلم الصدر، عابس الوجه، منكر الطلعة، ذاهباً بنفسه تيهاً وعظمةً، غليظ الرقبة، سمين الكلام، عظيم النفاق، قليل الذكر لله والدار الآخرة، ولهادم اللذات.
1498 - نا الجارود قال: نا أبو معاوية، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي، فقبله، فقال رجل: أتقبل هذا؟ ما قبلت صبياً لي قط، فقال رسول الله: ((وما أملك إن كان الله نزع من قلبك الرحمة؟!)).
1499 - نا الجارود، قال: نا جرير، عن منصور، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة، قال: قال خليلي وصفيي(6/379)
أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((ما نزعت الرحمة إلا من شقيٍّ)).
وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالرحمة المكتوبة على نفسه مئة رحمة، والمقسومة منها واحدة بين(6/380)
خلقه فيما روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالواحدة التي قسمها بين خلقه احتظى منها الآدمي، وسائر الأمم، حتى الطيور والوحوش والبهائم، فتلك رحمة العطف، فبها يتعاطفون، واشترك فيها البر والفاجر، والولي والعدو.
وأما هذه الرحمة التي وصفناها بدءاً، فهذه رحمة الإيمان، مأخوذة من الرحمة العظمى التي منها بدت تلك المئة، فأوفرهم حظاً من المعرفة بالله والعلم به: أوفرهم حظاً من القربة، وأوفرهم حظاً من القربة: أوفرهم حظاً من الرحمة، فكلما كان القلب أقرب إلى الله، كان ألين، وفؤاده أرق، وكلما تباعد القلب من الله بمعصية يأتيها، كان قلبه أقسى وأبعد من الرحمة.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسيةً}؛ فإنما قست بالتباعد من الله من أجل نقض الميثاق.
ولذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة إلا الرحيم))، قالوا: يا رسول الله! كلنا يرحم، فقال: ((ليس رحمة أحدكم خويصته -يعني: أهله وولده-، ولكن حتى يرحم العامة)).
فرحمتك الخويصة هي رحمة العطف من الرحمة المقسومة بين خلقه،(6/381)
ورحمتك العامة من رحمة المعرفة بالله.(6/382)
الأصل الثاني والسبعون والمئتان
1500 - نا سفيان بن وكيع، قال: نا عبد الله بن نمير، عن معاوية النصري، عن نهشل، عن الضحاك، عن الأسود ابن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ((من جعل الهموم هماً واحداً، كفاه الله هم دنياه وآخرته، ومن تشعبت به الهموم وأحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديتها وقع)).(6/383)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالهم للقلب، وهو أمير الجسد، وهو وعاء كنوز المعرفة، ومنها يفرق على جنوده، فالعقل والذهن والحفظ والفهم والفطنة والروح، وهؤلاء كلهم مرتزقة من عند القلب، والقلب ينفق عليهم من كنزه الذي أعطي، وهو المعرفة بالله، والعلم بالله، فإذا جاءته هموم أحوال النفس قد تشعبت قلبه شعباً، وشغل القلب تشعبها، فضيع الكنز، وفرق الجند، وبقي مأسوراً في يد النفس وأحوالها، فلم يبال الله في أية أوديتها من تلك الشعوب هلك؛ لأن هموم النفس ووساوس العدو يخوفك بالرزق، ويخوفك بأحوال الدنيا وتقلبها، ويرغبك في الجمع والمنع، ويحلي في قلبك ما فيه مصرعك وهلاكك، ويزين لك أحوال أبناء الدنيا، فهذه كلها سموم قاتلة للقلب، فمن تخلى من هذه الهموم كلها، حتى صارت همومه كلها هماً واحداً، كفاه الله الهموم كلها من أمر الدنيا والآخرة، والهم: دبيب القلب إلى الشيء، وإنما صار الهم همين:
1 - أحدهما: مغيب.
2 - والآخر: متجاوز له عنه، من أجل أن أحدهما هم دبيب، والآخر هم حلول.
فالقلب إذا بدت له خاطرة، ودب إليها، ثم يبقى في الطريق متحيراً عاجزاً قد انسد عليه الطريق، فتحير، فهذا هم يتجاوز عنه.
والهم الآخر يدب القلب بالخاطرة إلى الشيء الذي بدأ حتى ينتهي(6/384)
منتهاه، فيحل به، فحلوله عزم وإضمار، فإن كانت سيئة، صار قد هم بسيئة، فهي وإن لم يكتب عليه، فقد انحط من درجته، وأضر به؛ لأنه قد عزم على معصية الله، فهذا هم حلول القلب.
والهم الأول إنما هو دبيب القلب إلى الخاطرة، ثم عمي عليه الطريق، فعجز وتحير.
وإنما يصير همه هماً واحداً: إذا نسي نفسه وأحوالها، وأن ينكشف له الغطاء عن المعرفة بالله حتى يرى الله كافياً له في كل أمر من دنياه أو آخرته، فعندها يرفع باله عن التدبير لنفسه، ويلقي ذلك كله إلى الله تفويضاً، ويراقب ماذا يخرج له من تدبيره ساعة فساعة، فتدبير الله للمؤمن أعلى من تدبيره لنفسه، فإذا رفض العبد تدبيره، وأقبل على ملاحظة تدبير الله في كل وقت، ماذا يظهر له، فقد استراح.
فإنما همه في كل ساعة: التوخي لمحابة الله في كل أمر من متقلبه، فإنه إنما خلقه عبداً؛ ليكون له عبداً عارفاً له، عالماً به، فينظر بعين المعرفة والعلم إلى عظمته وجلاله، وبهائه، وكبريائه، وسلطانه، ورحمته، وإلى ملكه وأبديته، فيقر عينه، ويمتلئ قلبه فرحاً به، فعندها يظهر المحبة على قلبه، ويشتاق إلى لقائه، ويتبرم بحياته، ويقلق بمكانه، ينتظر متى يدعى فيجيب، فهو مسجون برمق الحياة.(6/385)
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا سجن المؤمن وسنته))؛ يعني: قحطه.
فالآدمي إذا أسنت، ضاقت عليه المعيشة، واشتد العيش، فهو ينتظر الخصب والسعة، والمسجون، وإن أحاطت به نعم الدنيا في سجنه، فعينه شاخصة إلى باب السجن متى يخلى عنه فيخرج، فالمؤمن مشتاق إلى لقاء من عرفه لما ذكرنا، فضاق بالحياة في الدنيا، وانتظر الدعوة، فهمه في الدنيا هم واحد، وهو أن يلتمس محابة الله في كل أمر دق أو جل، فيكون ظاهر أموره حركات في طاعة الله، وباطن تلك الحركات حب الله تعالى به، يغلي قلبه، فهو الذي جعل الله همه هماً واحداً، وانقطع من الخلق إلى الله، فمن العباد يصعد إلى الله أعمال الجوارح، ومن هذا أنوار الحب مع كل نفس، فنور هذا متواتر صاعد إلى الله تعالى، فأنوار العمال منقطعة، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً. رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} الآية.
فاسم الرب هو الاسم الأعظم المكنون الذي منه خرجت الأسماء،(6/386)
فمن وصل إلى ذلك الاسم المكنون، وانكشف له الغطاء عنه، فقد تبتل إليه، وانقطع عن الخلق، واتخذه وكيلاً، فعندها بطلت وكالة النفس، وتعطلت الهموم، وانتصب ذلك الهم الواحد بين عيني فؤاده، فاشتعل الصدر نوراً، فتتابعت أنوار حبه متواترة إلى العلا.
1501 - نا محمد بن سفيان النيسابوري، قال: نا إبراهيم بن الأشعث، عن فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من انقطع إلى الله، كفاه الله مؤنته، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا، وكله الله إليها)).
1502 - نا عبد الله بن أبي زياد، نا سيار، عن رياح(6/387)
القيسي، قال: نا الحسن بن ذكوان، عن عبد الواحد بن قيس، عن مسلم بن جبير، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة موكلين بأرزاق بني آدم، ثم قال لهم: أيما عبدٍ وجدتموه جعل الهم هماً واحداً، فضمنوا رزقه السماوات والأرض، وبني آدم، وأيما عبدٍ وجدتموه طلبه، فإن تحرى العدل، فطيبوا له ويسروا، وإن تعدى إلى غير ذلك، فخلوا بينه وبين ما يريد، ثم لا ينال فوق الدرجة التي كتبتها له)).(6/388)
الأصل الثالث والسبعون والمئتان
1503 - نا عمرو بن علي الصيرفي، قال: نا بشر بن المفضل، قال: نا عبد الرحمن بن حرملة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقص إلا أميرٌ، أو مأمورٌ، أو مراءٍ)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالقصص اسم جامع، دخلت فيه الموعظة والتذكرة، والدعوة إلى الله، واشتمل عليه النشر عن الله مننه وإحسانه، وتنبيه الخلق عن توحيده(6/389)
وعن معروفاته، ونموذجات صنائعه، سمي ذلك كله قصصاً؛ من أجل أن قلب هذا يقتص أثراً أثراً لكل شيء، ويشير بقلبه إلى شيء شيء، ثم يعبر إشارات قلبه بلسانه للخلق، فهو قاص عليهم لتلك الأشياء أثراً أثراً.
وهذه كلمة لزمت أشياء كثيرة، مما تشابهت صورها بعضها ببعض، فيقال: قص أثره، وهو: أن يتبع أثره، ويقال: قص خبره، وهو: أن يتبع بقلبه صفة ذلك الشيء الذي يخبر به، فيتبع الصفة شيئاً بعد شيء، ويقال: قص شعره وظفره، وهو أن يتبع ما زاد من شعره وظفره خروجاً من جسده، فيتبع ذلك، فأزاله عنه، فالدعاء إلى الله بالموعظة والتذكرة لمن وصل إلى الله قلباً، وكان مركب قلبه الحق والعدل، وهو قوله تعالى: {ومن قوم موسى أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون}.
فهذا ما أعطى الله موسى في قوله حيث قرأ التوراة، فوجد صفة هذه الأمة، فوجد في نفسه من ذلك حاجة أن تكون أمته، حتى قال: رب! اجعلني نبيهم، قال: استقدمت واستأخروا، ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فأعطي أن سيكون من قومه أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
قال قتادة: فرضي من الله كل الرضا، فقص الله علينا نبأه، فقال: {ومن قوم موسى أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون}، ثم قال بعقب ذلك: {وممن خلقنا أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون} الآية؛ أي: من هذه الأمة.
فقوم موسى الذين أعطوا ذلك في عزلة من الخلق من وراء نهر الرمل(6/390)
ناحية المشرق حيث لا يخلص إليهم أحد، ولقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي لنا ليلة أسري به، فعلمهم القرآن، وعرض عليهم الشريعة، فقبلوها، فأعطيت هذه الأمة في الجماعة والعامة ما أعطي أولئك في العزلة، فساروا في الجماعة بما سار أولئك في العزلة؛ بفضل يقينهم، ووصول قلوبهم إلى الله، فمركب قلوبهم الحق، وطريقهم إلى الله تعالى على العدل في ذلك الحق، وهم أمراء الدين في كل وقت، وهو قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم}.
فالقصص لهم، ولمن يرونه أهلاً لذلك المقام، والثالث مراءٍ متكلفٌ مذموم، فهو دخيل ليس منهما في شيء، هذا لا يجب أن يسمع منه، ولا يستمع إليه.(6/391)
الأصل الرابع والسبعون والمئتان
1504 - نا محمد بن أيوب السمناني، قال: نا حسان ابن عباد البصري، قال: نا أبي، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، وعكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا)).
1505 - نا أبي رحمه الله، قال: نا الحماني، قال: نا(6/393)
جرير، عن ليث، عن شيخ، عن معقل بن يسار، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه، وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ذكر رسول الله الشرك، فقال: ((هو فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيءٍ إذا فعلته، أذهب عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، تقولها ثلاث مراتٍ)).
1506 - نا أبي، قال: نا أحمد بن يونس، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن ابن جريج، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: ((يا أبا بكرٍ! الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل))، فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله؟ قال: ((يا أبا بكرٍ! الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل، إن من الشرك أن يقول الرجل: ما شاء الله(6/394)
وشئت، ومن الند أن يقول الرجل: لولا فلانٌ، لقتلني فلانٌ، أفلا أدلك على ما يذهب الله عنك صغار الشرك وكباره؟))، قال: بلى يا رسول الله، قال: ((تقول كل يومٍ ثلاث مراتٍ: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)).
1507 - نا عبد الجبار، قال: نا سفيان، عن عبد الملك ابن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد كنت أكره لكم أن تقولوا: ما شاء الله، وما شاء محمدٌ، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمدٌ)).(6/395)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالرب تعالى واحد، وجعل ربوبيته في الغيب، وخلق العباد في الغيب، وأوله قلوبهم إليه، وقررهم كلهم بالعبودة له، وعلى ذلك فطرهم، فكلهم يفزعون عند الحاجة إلى اسم الله الذي جعله موله قلوبهم، فثبت فريق منهم على إخلاصه، وأشرك فريق منهم، وذلك قوله تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون. ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون}.
فجعل أمور العباد كلها يوصلها إليهم في الغيب، قد ستر أمورهم بالأسباب، وقال: أنا الرزاق، ثم جعل أرزاقهم في ماء الحيوان تحت العرش، ثم وكل به ملائكة القطر، ثم سخر السحاب لقبوله، وسخر الرياح ليجعل كسف السحاب ركاماً، ويبسطه كيف يشاء، ثم يأمر السحاب أن يدر بالقطر مطراً، ثم أمر الأرض أن تقبله ودائع، ثم أمر الأرض أن تنفجر عن ذلك القطر في أصلب موضع منها من أجواف الصخور من الجبال، وذلك قوله تعالى: {أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض}.
وقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً}، وقوله: {وفجرنا فيها من العيون}، ثم علم الآدميين أن يحرثوا الأرض، ثم أمر الأرض أن تنبت من كل زوج بهيج.(6/396)
وقال تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}. وقال تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون}، ثم أمر الشمس أن تسير سيرها على وجه الأرض لتربية هذه النبات والثمار، ثم أمر الرياح عند الحصاد أن تذروه، ثم علم الآدميين طحنه وخبزه، وأنزل النار، وجعلها في الشجر الأخضر.
وقال في تنزيله: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون}، فالنار موجودة في كل خشبة تحتك بالأخرى، فتوري ناراً، فقال: {أفرأيتم النار التي تورون. أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} الآية، ثم قال: {نحن جعلناها تذكرةً ومتاعاً للمقوين} الآية.
ومن اللباس علم غزل قطنه ونسجه، وغسله وخياطته حتى يكتسوا، وكذلك سائر الأشياء التي اضطر إليها الآدمي، فهذه كلها أسباب، والآدمي يرى ما ظهر من هذه الأشياء التي ذكرناها، وفي باطنها ربوبية، وهو الذي دبر هذا كله من القدرة، وأمضى التدبير بمشيئته، وأوصل إلى العباد قضيته في خفاء.
فالعباد إنما يرون المطر والحر، والبرد والرياح، والأرض والماء،(6/397)
والزرع والحصاد، والأيدي التي تتداوله، وربوبيته في جميع الأشياء قائمة، لا يكون شيء إلا بإذنه، ولا يقوم إلا به، ولا يدوم إلا به، فقلوب الآدميين ونفوسهم معلقة بالأسباب التي يرونها، فإذا احتاجوا إلى شيء، طلبوا ذلك الشيء من مظانه الذي هناك عاينوه، فمن الله على الموحدين بمعرفته بأن الرب واحد، والوله بالقلوب في الحوائج إلى الواحد الذي اسمه الله الذي خرجت هذه الأشياء كلها من ذلك الاسم.
ولذلك أمروا أن يتناولوا شيئاً ويبتدئوا في كل أمر بقول: بسم الله؛ كأنه يقول: هذا الشيء بهذا الاسم أخرج، ومنه أخرج، ومن حرم المنة، بقي مع الأسباب، قلوبهم معلقة بها، مفتونة فيها، فاتخذوا من دونه ولياً، فعبدوه، ثم قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، فقالت الرسل لهم: {أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً}.
حتى قال إبراهيم لقومه: {أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله}. والأف: كلمة جامعة للشتم والضعة.
وأنزل على المؤمنين تعليماً للحجة: {وإلاهكم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، فقال المشركون: أرنا بذل آية أنه واحد،(6/398)
فأنزل الله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابةٍ وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآياتٍ لقومٍ يعقلون}، فأخبر أن العقل يدل عليه بما أراهم من قدرته، وقال تعالى: {ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إلهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون} الآية.
وأهل اليقين طلبوه من المظان نفساً وجسداً، ومن القلوب إخلاصاً ويقيناً، فمن ضعف يقينه، كان السبب بين عينيه، فإذا طلب شيئاً، طلبه من السبب قلباً ونفساً، فإذا فاته منها شيء، تلهف وأسف على الفوت، ولام وذم، وتردد واضطرب حتى يخرج دينه، ويسقم إيمانه، وإذا صار إلى القول يقول: لا يكون إلا ما شاء الله، ولا يكون إلا ما قدر الله، ولا يكون إلا ما قضى الله، فإذا قضى فلا يقوم شيء ولا يدوم إلا بالله، فإذا علم أن الكون من الله، والدوام بالله، كان هذا من علم النور، وإنما هو كلطخة واحدة، ثم يخفي في صدره هذا العلم حتى لا يشرق نوره، وإنما كانت شررة أو كلمحة أو برقة، ثم ذهبت، وبقي العبد مع الشرك في السبب، فكلما لحظ العبد إلى شيء من هذه الأسباب دونه، فقد أتى بالشرك رجاءه ورجاء خلقه، وأمله وأمل خلقه، فإذا رأى السحاب، استبشر، وإذا هاجت(6/399)
الرياح، استبشر، وإذا أنبتت الأرض، ابتهج، وإذا أثمرت، أكل مع الفرح، ثم أشر وبطر؛ لأن قلبه في غفلة عن الله.
قال أبو عبد الله:
فهذا قلب الموحد، وقلب الكافر في غلفة، فقلب هذا المؤمن متعلق بالأسباب غافل، وقلب الكافر أغلف فالغلفة غلاف القلب.
والغفلة: حجاب القلب، وهو هذه الأسباب التي ذكرنا، وقد انشق عنه الغلاف الذي كان في وقت الكفر، وبقيت الغفلة، فهذه الغفلة لا يذهبها إلا ذكر الله، فلا يزال الذكر الدائم يذيبها بحرارة الحياة التي يزاد القلب بالذكر، حتى يهتك حجاب الأسباب كلها، ويذهب الخفاء، وتصير الأمور كالمعاينة له، فهو يمضي في الأسباب، ولا يغفل عن الله، فيقبلها من عنده، فإذا هاجت الريح، استبشر بصنيع الله؛ لأنه علم أنه هو الذي أرسلها بشرى بين يدي رحمته، ثم لما رأى تراكم السحاب، استبشر بصنيع الله، ثم يرى المطر سقيا كما قال الله: {فأنزلنا من السماء ماءاً فأسقيناكموه}، ثم يرى الزرع زراعة الله كما قال تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون}.
ثم رأى الأشياء كلها خلقه، مسخرين لحوائجه، والآخر غافل عن هذا كله، إنما يرى الشيء الذي بين يديه من هذه الأشياء، فيفتتن، فإذا افتقد السبب، اضطرب وتردد حتى يقع في المهالك، فالأشياء كلها في(6/400)
الأسباب مغيبة، سترها ربها في الأسباب، وأخفى ربوبيته؛ ليكون إيمان العباد في الغيب كله، وبالغيب كله؛ لأن مديح العباد في إيمانهم بالغيب، فكما جعل نفسه غيباً عن العباد، كذلك جعل أموره وربوبيته غيباً عن العباد.
فأهل اليقين هتكوا هذه الحجب بقوة نور اليقين حتى انكشف لهم الغطاء، ووصلوا إليه، فقبلوا هذا كله عنه على بصيرة، ففضل الله تعالى هذه الأمة باليقين، حتى صار ما بقي فيهم من الشرك أخفى من دبيب النملة في القلة والرقة، فهذا مدح لهذه الأمة.
ألا ترى أنه قال: ((أخفى في أمتي))، وقال في حديث أبي بكر: ((أخفى فيكم)) يعلمهم فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم أن شرك الأسباب ذاب فيهم، وتلاشى بفضل يقينهم، حتى صار أخفى من دبيب النمل؛ لأن دبيب النمل لا يؤثر على الصفا، وكذلك ما بقي من شرك الأسباب لا يؤثر على أهل اليقين ما يعرض لهم من خواطر الأسباب؛ لأن قلوبهم قد صلبت بالله، وصارت كزبر الحديد والصخر.
1508 - نا معروف بن الهيثم الكرخي، قال: نا(6/401)
عبيد الله بن موسى، قال: نا عبد الأعلى بن أعين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله: ((الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه: أن تحب على شيءٍ من الجور، أو تبغض على شيءٍ من العدل، وهل الدين إلا الحب في الله، والبغض في الله، قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله})).
قال أبو عبد الله:
فأما قوله: ((أن تحب على الجور، وتبغض على العدل))، فإنما تحب على الجور رجاء المنفعة منه، وتبغض على العدل خوف المضرة، ورجاء المنفعة، فهذا شرك، يرجو غيره، ويخاف غيره.(6/402)
1509 - نا أبي، قال: نا الحكم بن المبارك، قال: أنا بقية، عن بكر بن حذلم الأسدي، قال: نا وهب ابن أبان، عن عبد الله بن عمر، قال: خرج عبد الله بن عمر في سفر له، فإذا بجماعة على الطريق، قال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: أسدٌ قطع الطريق، فنزل فمشى إليه حتى قفده بيده، ونحاه عن الطريق، ثم قال: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنما يسلط على ابن آدم من خافه ابن آدم، ولو أن ابن آدم لم يخف غير الله، لم يسلط الله عليه غيره، وإنما وكل ابن آدم من رجاه ابن آدم، ولو أن ابن آدم لم يرج إلا الله، لم يكله الله إلى غيره)).
قال: وإنما هو شرك وشك.
فالشك: هو ضيق الصدر، فإذا ناب النفس أمر، فأحست بمكروه في ذلك الأمر، انتفخت الرئة؛ للجبن الذي حل بها، فضاق الصدر حتى زحزح القلب عن مكانه، فإذا ضاق على القلب مكانه، ضاق موضع التدبير، وهو الصدر؛ لأن عيني الفؤاد مفتوحتان في الصدر، وعند العينين تدبير الأمور،(6/403)
ثم تنصدر إلى الجوارح، ولذلك سمي صدراً؛ لأن الأمور تصدر من هناك، فإنما سمي شكاً؛ لأن ذلك النائب من الأمر يشك سعة الصدر؛ كما يشك الثوب المبسوط، ويجمع بعضه إلى بعض، ويشك بشوكة أو بإبرة أو بخيط، فيقال: شك الثوب، وهو ثوب مشكوك.
فالصدر إذا انتفخت الرئة بما خطر على بال القلب من الخواطر، وضاق على القلب مكانه، يرحل القلب من مستقره، وتذبذب، وصار كالدلو المعلق، والقنديل المعلق، فإذا تحرك القنديل، اضطرب الإشراق، فصار بعضه ظلام، وبعضه إشراق، ففي الظل الضلالة، وفي الإشراق الهدى، فكلما تراكمت الأظلة، انقبض الصدر، فصار مشكوكاً كالثوب الذي شك، وقبض بعضه إلى بعض، فصار متراكماً، وصار بعضه على بعض، وصارت له زوايا، وكذلك الصدر إذا انقبض، حدثت له في زواياه أظلة، فمنها يضل عن الله، ويفتقد الهدى.
وأما الشرك: فهو مأخوذ من الشرك، والشرك: حبل فيه معاليق يعلق به أرجل الطير، أو أعناقها، أو أجنحتها، حتى يؤخذ صيداً، وكذلك الأسباب التي وضعت فيها حاجات الآدمي، فتلك الأسباب تأخذ بقلبه؛(6/404)
لأن شهوة تلك الأشياء في نفسه، فإذا اشتهاها، أحبها، فإذا وصل حبها إلى قلبه، رأى القلب تلك الأشياء من أجل تلك الأشياء، وذلك قوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات}، ثم عد الشهوات، الآية، فقال: {من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث}.
فالنفس تجد اللذة والفرح والسرور من هذه الشهوات، وتحبها، فإنما أحب الذهب والفضة؛ لأنه بهما يرجو وجود شهوات الأسباب، وكذلك الأنعام والحرث، والأرض لا تؤكل ولا تشرب، ولا الذهب ولا الفضة، ولكن لما علم أن الأرض تخرج له نبات الأشياء التي يلتذ بها، أحبها، وأن الذهب والفضة أوردا عليه الأشياء التي يشتهي، أحبهما، فهو حب فتنة، والحب يصطاد القلب ويسبيه، فهذا شرك، وتلك الحبال التي فيها معاليق الصيد شرك، فكل واحد يستعمل في نوعه، وأحدهما مشتق من الآخر، فالشك ضيق الصدر، والشرك تعلق القلب بالشيء.
وإنما يوسع القلب نور اليقين، فكلما كان القلب بالتعبير أنور وأوفر حظاً منه، كان أوسع وأكثر شرحاً، وإنما يتخلص من الشرك بنور التوحيد،(6/405)
فكلما كان القلب من نور الفردية أوفر حظاً، ومن نور الأحدية أوفر حظاً، كان تخلصه من الشرك أكثر، فباليقين ينجو العبد من وبال الشرك، وبالإخلاص ينجو من وبال الشرك، فعندها يتولاه الله تعالى، وذلك قوله لداود عليه السلام: هل تدري متى أتولاهم؟ إذا طهروا قلوبهم من الشرك، ونزعوا من قلوبهم الشك.
فخلق الآدمي والأسباب مشتبكة به، لا يرى شيئاً إلا في غيب، وربوبية الرب قائمة في ذلك الغيب في جميع الأسباب، لا تكون إلا به، فالله مكونها، وبالله يدوم ما كون، وهذا الآدمي لم ير التكوين ولا التدويم إلا رؤية الإيمان بالغيب، فاستقر قلبه إيماناً بذلك، ثم جاءت النفس بشكها وشركها، فأوردت على القلب حتى صار القلب ذا شك، وشرك، فلا يزال صاحبها يضيع هذا الأمر، ويهمله حتى يحل العقدة منه: عقدة الإيمان، فيكفر، والذي أغاثه الله وأيده، لما رأى ضعف اليقين، وانقياد القلب للنفس بما أوردت عليه، فزع إلى الله حتى قواه الله وأيده.
فإذا رزق الله عبداً نور اليقين، ونور الفردية، صار القلب موقناً مخلصاً، فبقوة هذين يمحق خواطر النفس في الصدر، وتلك الخواطر التي تورث شكاً وشركاً، فاستقام القلب وصلب، ومد النفس إلى ما عنده فقواها،(6/406)
فاستقرت النفس منقادة للقلب، وتركت ترددها واضطرابها، فإذا صارت بهذا الحال، خفي ذلك الشرك والشك في نفس هذه الطبقة، فلم يؤثر ما بقي من ذلك خفياً في قلوبهم، كما لا يؤثر دبيب النمل على الصفا؛ لأن الذي خفي من البقية لا يقدر أن يزعزع النفس، وأن يشغل القلب عن الله، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي بكر: ((أفلا أدلك على ما يذهب الله صغار الشرك وكباره عنك؟))، قال: بلى يا رسول الله، قال: ((تقول كل يومٍ ثلاث مراتٍ: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)).
فصغار الشرك مثل قول الرجل: ما شاء الله وشئت، ومن الند أن تقول: لولا فلان، لكان كذا وكذا.
1510 - ونا سهل بن العباس، قال: نا سفيان، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم واللو؛ فإن اللو يفتح عمل الشيطان)).(6/407)
قال أبو عبد الله:
فاللو مفتاح الحسرات، فإذا تحسر القلب، تعرى عن خلع الله.
1511 - نا سفيان بن وكيع، قال: نا أبي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال عليه السلام: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)).(6/408)
فالند: هو شبيه بالضد، وهو شكل الضد؛ لأن الضد صورته إبطال من يضاده، والند هو من الندود والتباعد والنفار.
معناه: أن تجعل من دونه دافعاً عنك، ولا يدفع عنك إلا من ولي خلقك، فلذلك قال في الحديث: ((ومن الند أن تقول: لولا فلانٌ، لقتلني فلانٌ)).
لأن هذا يصير فلاناً دافعاً عنه دون الله، فقد اتخذ من دون الله وليجة، وقد حل العقدة، فمن خطر هذا بباله في صدره، فزع إلى الله، ورد هذا الذي أتت به النفس عليها، فعقدته ثابتة، ولكن يضعف؛ لضعف اليقين، وضعف القلب، واضطراب النفس وتذبذبها، فإنما صار أعظم الذنب له؛ لأنه يعمل في حل العقدة، وسائر الذنوب يعمل في قضاء النهمة، والتلذذ بالشهوة، فتباين الأمران بوناً بعيداً، فأيد الله تعالى هذه الأمة بفضل اليقين، وذلك قوله تعالى: {أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم}، ثم قال: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}.
فمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمة بما أوتيت من الفضل، ونشر عن الله(6/409)
ما آتاهم، فقال: ((الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل)).
فإنما خص ذكر الأمة يعلمهم فضل الله عليهم، وليس على ما ذهب إليه المتوهمون: أن هذا الحديث تحذير يحذر الأمة في الشرك حتى يطلبوه؛ لأن ذكر أنه يخفى عليهم، فيقال لقائل هذا التوهم: إنه خفي عليهم؛ لغمارتهم، وقلة يقينهم؛ لأنهم أضعف الأمم، وأقلهم حظاً، فقد وقعت بهذا التوهم أبعد موقع في المعنى، ونسبت الأمة إلى خلاف ما أنزلهم الله من نفسه.
وما بال هذه الأمة يخفى فيها الشرك، ولا يخفى في بني إسرائيل، ويقين هذه الأمة أوفر، وموصوفة في التوراة أنهم صفوة الرحمن، وفي الإنجيل حكماء علماء كأنهم من الفقه أنبياء، فيستحيل بعد هذه الصفة في التوراة والإنجيل أن ينسب إليهم خفاء الشرك؛ لغمارتهم وقلة يقينهم؛ لأن غمر القلب يخفي الأشياء في الصدر، فلم يذكر في الحديث أنه قال: الشرك أخفى في الآدميين، ولكنه قال: ((أخفى في أمتي)).
فلما رأينا خصوصية الأمة وفضلها عند الله تعالى، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أعطيت أمةً من اليقين ما أعطيت أمتي)).
وقول الله تعالى: يا عيسى! إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون، حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون، صبروا واحتسبوا، ولا حلم(6/410)
ولا علم، قال: يا رب! فكيف يكون هذا، ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي.
فدلت هذه الأخبار أن هذا اليقين الذي نالوه من فضل الله ورحمته يذيب خواطر الشرك في قلوبهم وصدورهم، فيدق حتى لا يرى، فيخفى ويضعف حتى لا يؤثر كونه على القلب، كما لا تؤثر الذرة على الصفا بدبيبها، ولذلك ما ذكر الله تعالى في تنزيله شأن العبدين الصالحين: أحدهما: خليله؛ حيث رأى تلك الميتة طافيةً على الماء، فجاء طائر فنتف منها وطار، وأطلع بعض الحيتان رأسه، فنتف منها، فحن قلب خليل الله إلى ملاحظة الأشياء التي منها تحدث الأشياء، فقال: {رب أرني كيف تحيي الموتى}؛ فقد كان موقناً بأن الرب يحيي الموتى، ولكن أحب أن يرى كيفية الإحياء؛ ليطالع ما أبرز الله من قدرته على أعين القلوب بهذا البصر الذي في رأسه؛ فإن هذا البصر حظ النفس، وبصر القلب حظ القلب، فقال: {أولم تؤمن}؛ أي: لم يطمئن قلبك، وهو به أعلم، قال: {بلى ولكن ليطمئن قلبي}.
فهذه طمأنينة أخرى، تلك طمأنينة الإيمان، وهذه طمأنينة من الحنين حنين القلب إلى رؤية كيفية الإحياء، فأجابه الله إلى ما سأل إكراماً له؛ لأنه سأل هذه الحاجة عن الحنين حنين الحب، لا عن الشك وضيق الصدر.(6/411)
وأما العبد الآخر، فإنه مر على خربة، فقال: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عامٍ}، فهذا نوع غير ذلك النوع، هذا تحير وتعجب وتعظيم، هاج ذلك التعظيم من العجب والحيرة، فوعظه الله بالموت، وأراه الإحياء في نفسه، ولم يكن من العبد الصالح قوله: {أنى يحيى هذه الله} شكاً، ولكنه عجب، والإعجاب لا يكون إلا من الحيرة.
ألا ترى إلى قول سارة حيث قالت: {قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخاً} بعدما بشرتها الملائكة وأيقنت، فقالت بعد البشرى: {إن هذا لشيءٌ عجيبٌ}، فأنكرت الملائكة عليها، فقالوا: {أتعجبين من أمر الله}.
فهذه الخواطر كائنة في الصديقين، فإذا مرت ببالهم، كان ذلك منهم شركاً، وهو حجب الأسباب التي ذكرنا، ففزعوا إلى الله، فأعطاهم مفزعاً، ولاحظت عيونهم باب القدرة، وانكشف الغطاء عن باب القدرة بعيون قلوبهم، فلاحظوا المقتدر، ولاحظوا مجد الملك، فخفيت هذه الخواطر في صدورهم، فمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ونشر عن الله ما أعطاهم، فقال: ((الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل))؛ فإنما بشرهم بفضل الله عليهم، إلا(6/412)
أنه حملهم على أن يطلبوا ما خفي عليهم، وكيف يطلبون ما يخفى كخفاء دبيب النمل على الصفا؛ فإن دبيب النمل على الصفا لا يؤثر، ولا يدرك، فجرى بعقب هذا القول أبا بكر رضي الله عنه أن قل يا أبا بكر: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)).
1512 - نا عبد الجبار، قال: نا سفيان، عن عبد الملك ابن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد كنت أكره لكم أن تقولوا: ما شاء الله، وشاء محمدٌ، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم ما شاء محمدٌ)).
فهذا القول وما أشبهه من صغار الشرك.
وأما كبار الشرك، فهو أن يعمل بطاعة الله يريد غير الله؛ رجاء اتخاذ المنزلة عنده، والارتفاق بما عنده، فهذا موحد قد غلب عليه الجهل، واستهواه عدوه حتى أضله، فإذا رجع إلى توحيده، علم أنه لا يملك أحد نفعاً ولا ضراً دون الله، ثم إذا تراءت له الأسباب، تعلق القلب بها، فذلك من ضعف اليقين، وغاب عنه ذلك الذي علمه من علم التوحيد، والموحدون(6/413)
إذا راءوا بأعمالهم، فإنما يقصدون بذلك اتخاذ المنزلة عند الخلق، لا أن يتعبدوا بها، وأما المشرك الذي قد أشرك بالله من دونه، فإنما يقصد بعبادته غيره.
1513 - نا أبي، قال: نا مكي بن إبراهيم، قال: نا عبد الواحد بن زيد، عن عبادة بن نسي، قال: أتيت شداد ابن أوس في مصلاه وهو يبكي، فقلت: ما الذي أبكاك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، قلت: ما هو؟ قال: بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رأيت يوماً بوجهه أمراً ساءني، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! ما الذي أرى بوجهك؟ قال: ((أمراً أتخوفه على أمتي من بعدي))، قلت: وما هو؟ قال: ((الشرك والشهوة الخفية))، قلت: يا رسول الله! وتشرك أمتك من بعدك؟ قال: ((يا شداد! أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا حجراً ولا وثناً، ولكنهم(6/414)
يراؤون بأعمالهم))، قلت: يا رسول الله! والرياء شرك هو؟ قال: ((نعم))، قلت: فما الشهوة الخفية؟ قال: ((أن يصبح أحدهم صائماً، فتعرض له شهوةٌ من شهوات الدنيا، فيفطر)).
قال عبد الواحد: فلقيت الحسن، فقلت: يا أبا سعيد! أخبرني عن الرياء، أشرك هو؟ قال: نعم، أما تقرأ: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}.
قال أبو عبد الله:
فصاحب هذا يعمل عملاً يبتغي به ثواباً من عند الله، وثواباً من عبيده أن يعظموه في الدنيا، ويقضوا له الحوائج، وفي الآخرة يعظم، وتقضى له الحوائج، فهذه شركه ولم يشرك شركاً ينقص توحيده، فيرى لمن دون الله ملكاً في شيء، فصاحب هذا أقل ما يناله من الضرر: أن يرمى بعمله(6/415)
وجهه، ويستحيي من الله غداً، وهذا من فتنة النفس.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه خرج ذات يوم إلى أصحابه وهم يتناجون، قال: ((ما هذه النجوى؟))، قالوا: يا رسول الله! كنا نتحدث عن فتنة المسيح الدجال، فقال: ((ألا أخبركم بأعظم فتنةً من الدجال؟ رجلٌ يعمل لمكان رجلٍ)).(6/416)
الأصل الخامس والسبعون والمئتان
1514 - نا عيسى بن أحمد العسقلاني، قال: نا بشر ابن بكر التنيسي، قال: نا سعيد، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلومٍ من عباده، فإذا عدل، كان له الأجر، وعلى الرعية الشكر، وإذا جار، كان عليه الإثم، وعلى الرعية الصبر، فإذا جار الولاة، قحطت السماء، وإذا منعت الزكاة، هلكت المواشي، وإذا ظهر الزنا، ظهر الفقر والمسكنة، وإذا أخفرت أهل الذمة، أديل الكفار)).(6/417)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
إن الله تعالى أغاث عباده في أرضه بأربع:
1 - بالقرآن: وهو كلامه، وعليه طلاوة كي يهتدوا، ويسلكوا طريقهم إلى الله تعالى في مدة أعمالهم، فإنه دعاهم فأجابوه، ولكل دعوة إجابة، ولكل إجابة سلوك وسير وقطع مسافة.
2 - والسلطان: وعليه ظله؛ كي يتمانعوا بما في أيديهم من المهجة والمال والأهل والولد.
3 - والمؤمن: وفيه نوره كي يهتدوا إلى خالقه، فيوحدوه، ويعبدوه.
4 - والكعبة: وعليها بهاؤه ورحمته؛ كي يتطهروا بالرحمة التي فيها إذا طافوا بها، وكي يتهيئوا بذلك، فيقدموا على الله ببهائها.(6/418)
فهؤلاء الأربع غياث العباد، وإليهم المفزع، فإذا قصدوا الله، جعلوا نوره مرآة قلوبهم، فينظرون فيها إلى عجائب ما أبرز من ملكه من لدن عرشه إلى الثرى، وإلى عجائب تدبيره فيهم، وإلى قدرته عليهم، فأداهم ذلك النظر بقوة ذلك النور إلى عظمته، وجلاله ونفاذ قدرته، وإلى جوده وكرمه، ولطفه وعطفه عليهم، وبره بهم، وعظيم منه، فامتلأت صدورهم به علماً، وامتلأت قلوبهم به غنًى، وقويت أركانهم للقيام بأموره، وانقادت نفوسهم ذلة وخشعة وخضعة، واستسلمت لله، ونظرت عيون الأفئدة منهم إلى تدبيره وحكمه.
وإذا قصدوا القرآن، جعلوا بسم الله الرحمن الرحيم علماً لعسكر القرآن، فإن القرآن بمنزلة جند وعسكر، فيه ألوان الأسلحة، وآلة الحرب والعدة، فبه تحارب الهوى والنفس والعدو، وتبطل مكائدهم، وتقلبهم عن طريقك إلى الله، فإنهم قعدوا على طريقك؛ ليصدوك عن السير إلى الله، وقد دعاك الله فأجبته، والعدو يتلظى غيظاً وحسداً من دعوته إياك، وإجابتك إياه؛ فإنه دعاك إلى المغفرة وإلى دار السلام، وأنزل عليك بذلك وحياً، فالعدو لا ينام ولا ينيم، يريد أن يعدلك عنه، حتى يسوقك إلى سجنه، والهوى من جنوده، فهو على المقدمة، والعدو من ورائه، والنفس طياشة(6/419)
خفيفة بلهاء، تفتتن بكلمة مدخولة واهية.
فالقرآن عسكر المؤمن، وجند الله الأعظم، قواك به ربك، فيه ذكر الربوبية، وبها يبطل كيد العدو، وفيه ذكر الوعد، وبه تنخدع النفس، وتتلمظ بشفتيه على موعود الله، وفيه ذكر الوعيد، وبه تذل النفس وتنقمع، وفيه ذكر أنباء القرون، وبه تعتبر، وتتصور له عواقب الأمور، وفيه ذكر منن الله تعالى وإحسانه، ولطائفه لعبيده، وبره إياهم، فيه يسير القلب، ويرمي بما في يده صغارة له وحقارة، فالقرآن عسكر جرار يقطع به بلاء العدو، حتى تصل إلى دار الله بلاد الموحدين، وهي المأمن والقرار، قال الله تعالى في تنزيله: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}.
فأجار الله تابع القرآن من الضلالة له عن السلوك إلى دار المأمن، وأجاره من الشقاء، والشقاء فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه، وبسم الله الرحمن الرحيم قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة يقسم لعباده: إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أوفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري، ثم خص الشيء الذي به عظمت فتنة العباد، وهو الرزق، فخصه بقسم آخر، فقال تعالى: {فورب السماء والأرض إنه لحقٌ مثل ما أنكم تنطقون}.
فإنما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم في كتابنا، وعلى هذه الأمة خصوصاً.(6/420)
وإذا قصدوا الكعبة، لاذوا به حباً منه، وطافوا به تطلعاً وتلطفاً واستدراراً وانتجاعاً، وجددوا بيعة الإسلام الذي دنسوه وأخلقوه باستلام الحجر الذي فيه بيعتهم يوم استخرجهم من الأصلاب للميثاق، فاستأنفوا بهذا الاستلام عبودة الإسلام.
وإذا قصدوا السلطان، ارتبعوا في ظله، وسكنت نفوسهم في المستراح من ذلك الظل؛ فإن الظلم له وهج، وحرارة تحرق الأجواف، وتظمئ الأكباد، فإذا رأت الغنم الظل، أحست بالماء الرواء، وبروح الظل، اندفعت في السير، وصيرته مفزعاً، فإذا صارت إلى الظل مع الظمأ والعطش الشديد، ولم تجد الماء، فبقيت على اليبس، ووجدت الذئاب قد سبقن إلى الظل، قد قعدت بمرصد للغنم، فما ظن العاقل بتلك الغنم ماذا يكون حالها؟ وما ظنه برب الغنم ماذا يقول للراعي؟ وعسى أن يقول: ألم يكن معك أسلحة وحراس تطرد الذئاب عن هذا المستراح؟ وكيف سددت مجرى العيون، حتى عطشت الغنم؟.
فإذا جار، فعلى الرعية الصبر، وعليه الإصر، وإذا عدل، فله الأجر، وعلى الرعية الشكر.(6/421)
وأما قوله: ((وإذا جارت الولاة، قحطت السماء)) معناه: انقطع المطر من ماء الحيوان الذي ينزل من تحت العرش من بحر الأرزاق إلى السماء من الأبزن إلى السحاب، والأبزن هو: مستنقع الماء في السماء، فإذا أصاب السماء القحط، انقطع عن الأرض القطر، فإذا انقطع القطر، ماتت الأرض، فلم تنبت؛ لأن الأرض إنما تنبت بحياتها، وحياتها من ماء الحيوان، فإذا انقطعت الحياة عن الأرض، عجزت عن الإنبات؛ لأن الإنبات بحركة الحياة، فإذا جارت الولاة، ذهب العدل عن الأرض، وإذا ذهب العدل، منعت الحياة ماء الحيوان عن أن يقطر، فالوالي فاصل بين الحق والباطل، فإذا ذهب الفاصل، تقطعت الرحمة.
وأما قوله: ((إذا منعت الزكاة، هلكت المواشي))؛ فإن الزكاة نمو المواشي، والمال والنمو من البركة، فإذا منعت الزكاة، بقي المال مع الدنس دنس العلائق، ولا بقاء للبركة مع الدنس، فإذا ارتحلت البركة عن شيء، هلك ذلك الشيء؛ لأن النسل ينقطع.
وأما قوله: ((وإذا ظهر الزنا، ظهر الفقر))، فمن أجل أن الغنى من فضل الله، والفضل لأهل الفرح بالله تعالى وبعطائه، والمناكحة بمحاب الله، وبأمره وحبه يلتقي الزوجان على أفراح بالله، فوعدهم بذلك في تنزيله الغنى(6/422)
من فضله، فقال: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله}، ثم بين من أين يغنيهم، فقال: {من فضله}، والفضل قبل القسمة.
ولذلك قال عمر رضي الله عنه: ما وجدنا طلب الغنى في مثل الباءة، وتلا هذه الآية.
فإذا زنى، فقد آثر الفرح الذي هو من قبل العدو، والمستقر للآدمي السابي لقلبه عن الفرح الذي ندب الله إليه عباده، فقال: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} الآية.
فإذا آثر الفرح الذي بيد العدو، على الفرح بفضل الله، ذهب الفضل والغنى؛ لأنه قد جاوره من يدنسه.
وأما قوله: ((إذا أخفرت الذمة، أديل الكفار))؛ لأن المؤمن عاهد الله بالوفاء بذمته، فإذا أخفر، نقض العهد، ووهن عقد المعرفة؛ لأن المعرفة مقرونة بالعهد، معقودة به، فبنقض المهد يخاف انحلال العقد، فمن قبل الانحلال يذهب هيبة الإسلام، ويقذف الوهن في قلبه.
1515 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا محمد بن(6/423)
وهب الواسطي، عن الوليد بن مسلم، قال: نا ثوبان، عن [أبي] عبد السلام، عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لتتداعن عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها))، قلت: يا رسول الله! ومن قلة بنا يومئذ؟ قال: ((لا، بل أنتم كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن))، قلت: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا، وكراهة الموت)).
غثاء: أي يأتي عليكم الأمم؛ يعني: الكفار من الخزر والترك كما يأتي الجائع إلى القصعة فيها الطعام.(6/424)
الأصل السادس والسبعون والمئتان
1516 - نا علي بن حجر السعدي، قال: نا خلف ابن خليفة الواسطي، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعود، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد، قال: ((سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، هذا ما جنيت على نفسي، فاغفر لي؛ إنه لا يغفر الذنب العظيم إلا أنت)).(6/425)
1517 - نا مؤمل بن هشام اليشكري، قال: نا إسماعيل بن إبراهيم، عن خالد الحذاء، عن أبي العالية، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل مراراً: ((سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته)).
1518 - وحدثني محمد بن محمد بن الحسين، قال: نا الحجاج بن نصير، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن نصر بن حزن النصري، وكان قد رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،(6/426)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأ سجد سجدة، وقرأ في سجوده: ((اللهم إنا نستعينك ونستغفرك))، وكان يسجد في حم.
1519 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا سعيد بن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن القاسم ابن محمد، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقيقه وجليله، أوله وآخره، سره وعلانيته)).(6/427)
1520 - نا إسماعيل بن نصر، قال: نا شبابة، قال: نا هشام بن الغاز، عن سليمان بن موسى، ويزيد بن جابر، كلاهما عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: ((أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، جل وجهك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك يا عظيم))، فقلت: يا رسول الله! لقد سمعتك تقول في سجودك شيئاً ما سمعتك تذكره؟ قال: ((وقد علمت ذلك؟))، قلت: نعم، قال: ((تعلميهن، وعلميهن؛ فإن جبريل عليه السلام أمرني أن أكررهن في السجود)).(6/428)
1521 - نا عبد الكريم، قال: نا علي، قال: نا عبد الله بن المبارك، قال: نا يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عائشة، عن رسول الله، بنحوه.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فهذا ما جاءنا عن رسول الله، ولا نعلم أنه وقت شيئاً في ذلك، فهذه الأشياء التي ذكرها كلمات ضرع وملق يريد أن يخرج بها إلى ربه من الأحداث، فكان ينطق بما يتراءى له في وقته، وبذلك يناجي ربه، ثم لمن بعده من الصحابة والتابعين مقالات في سجداتهم على حسب ما يتراءى لكل واحد منهم في درجته ومقامه من ربه.(6/429)
1522 - نا قتيبة بن سعيد، وإسماعيل بن نصر، قالا: نا محمد بن خنيس المكي، قال: نا حسن بن محمد ابن أبي يزيد، قال: قال لي ابن جريج: يا حسن! حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد: أنه سمع ابن عباس يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! رأيتني هذه الليلة فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة، ورأيت كأني قرأت السجدة، فسجدت، فرأيت الشجرة كأنها سجدت لسجودي، فسمعتها وهي تقول: ((اللهم اكتب لي بهذا عندك أجراً، وضع عني وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود)).
قال ابن جريج: قال لي جدك: قال لي ابن عباس: فقرأ رسول الله السجدة، فسجد، فسمعته يقول كما قال الرجل عن قول الشجرة.(6/430)
وزاد عبد الوهاب، عن أبان بن أبي عياش، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي موسى الأشعري: أنه غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الليلة في المنام كأني تحت شجرة أكتب سورة {ص}، فلما أتيت على السجدة، بدر القلم من يدي، فسجد، وسجدت الشجرة، وسجدت الصحيفة، وسجدت الدواة، فسمعت كل واحدة منهن تقول: اللهم اغفر لي ذنبي، وحط بها وزراً، وأحدث بها شكراً، فلما رأيت ذلك، سجدت، فقال رسول الله: ((صدقت، وصدقت رؤياك، توبة نبيٍّ ترقب بها مغفرةً، واسجد تترقب عندها ما ترقب)).
قال أبو عبد الله:
فقد كثرت مقالات التابعين فمن دونهم في سجداتهم، ثم لم يزل لأهل الترائي في مذاهبهم كلام هناك ونجوى، فأما ما تراءى لنا في كل سجدة من سجود القرآن، فهو ما ذكرنا هاهنا مجاوبات الآية التي فيها السجدة:(6/431)
بسم الله الرحمن الرحيم
سجدة سورة الأعراف: طابت لهم منازل القربة عندك، فتطهروا عن الاستكبار، وأذعنوا لك خضوعاً بما عاينوا من عظيم كبريائك، وعز جبروتك في الملكوت، فتلقوا عظمتك بالتسبيح، واستكانوا بالسجود لك خشوعاً، هؤلاء بديع كلمتك، ونحن ولد بديع فطرتك، وصنيع يدك، وأمة حبيبك، الممدوحون في التوراة، والموصوفون في الإنجيل بما منحتنا من مننك وفضلك، وأهديت إلى المخبتين منا هداياك وكراماتك رأفة وتحنناً، سجدنا لك بحظنا من رأفتك ورحمتك، وألقينا بأيدينا سلماً نرجو مددك ومشيئتك ومعروفك، يا معروفاً بالعطايا الجزيلة، ومحموداً على صنائعك الجميلة.
سجدة سورة الرعد: سجدت لك الأحباب طوعاً، والأعداء كرهاً، سجد لك شخص الأحباب، وظلال الأعداء، أدركت رحمتك شخص الأحباب، وظلال الأعداء أدركت رحمتك شخص الأحباب، فنالت السجود، وانزوت عن الأعداء فحرمت، فسجد لك ظلالهم بالغدو والآصال، تميل مع ميل الأظلة والأفياء، طهرت تلك الأجرام والأشباح(6/432)
بطهارة قلوبهم بنور التوحيد، وأهلتهم للسجود لك، ونزهت سجدتك عن تلك الأجرام النجسة التي نجست برجاسة الشرك، وتمكن العدو منها، فلك الحمد ما اصطنعت إلي، وإليك الرغبة، فألهمني في دوامها علي، فكما جعلتني أسجد لك سجود الأحباب طوعاً وسلماً، فاجعلني في جميع منقلبي في محياي لك كذلك طوعاً وسلماً.
سجدة سورة النحل: لك سجدت الملائكة، وخافوك من فوقهم، وفعلوا ما أمرتهم، ذلك بأنك عريتهم من الشهوات، وطهرتهم من الآفات، ومكنت لهم الزلفات، فخافوك من فوقهم، وفعلوا ما أمرتهم، ولم يسبقوك بقول: وهم من خشيتك مشفقون، فهم عبادك المكرمون، ونحن عبيدك المرحومون المحبوون، بالرأفة ابتدأتنا، ومن باب الرحمة أخرجتنا، ومن ضعفٍ خلقتنا، وبالشهوات ابتليتنا، وللآفات عرضتنا، وبالوعد والوعيد في الوحي أدبتنا، وبجودك ومننك هديتنا، وبعظيم حظنا منك وسعت علينا، وأشرعت إليك السبيل لنا، وجعلت منا أولياء وأحباباً بمنازل القربة لديك، فخوفنا لك مع الشهوات، وأفعالنا مع الوساوس والخطرات والآفات، فارحمنا؛ فإنك أعلمتنا: أنك معنا في العون والنصر والتأييد، يا خير من أشفق علينا ورحمنا.
سجدة سورة بني إسرائيل: لك خرت العلماء سجداً، وحق لهم ذلك بأنهم شاهدوا بقلوبهم عرصة التوحيد، وعاينوا بنور علم القربة ما هيأت(6/433)
لأحبابك هناك في مراتبهم من البر والوداد، فخروا لأذقانهم سجداً مع البكاء والعويل، وسبحوا لربوبيتك، وأيقنوا بوعدك عند تلاوة وحيك، وزادهم بكاؤهم لك خشوعاً، فخشعت لك جوارحهم؛ لأن الخشعة ميراث بكاء الخشية، ذلك بأنك جعلت للباكي من خشيتك من عاجل الثواب أن تملأ جوارحه في الدنيا نوراً، وفي الآخرة ضحكاً، فيا حنان! تحنن علينا بعطفك، وزدنا علماً يقربنا إليك، واجعلنا من الشاكرين لك، وتقبلها منا كما تقبلت من الذين أوتوا العلم من قبلنا.
سجدة سورة مريم: يا خير المنعمين! أنعمت على النبيين والمهديين والمجتبين بالنبوة والهداية والحنانة، فبك وصلوا إلى محبوبك من الأعمال، وخروا لتلاوة آيات الرحمن لك سجداً وبكياً، تلك خشعة الأحباب، وأهل الوداد سجدوا مع البكاء شوقاً إليك، وقلقاً بطول الحبس عنك في سجون الدنيا، يا ودود! فليس من لقيك في السجن عبداً قناً، كمن لقيك في دارك دار السلام حراً ملكاً محبوراً مسروراً، يراك جهراً، قد كشفت الغطاء، وتجليت لأهل الوداد عن حجب الكبرياء والجلال، فأنبأتنا عن أحوالهم وأخبارهم وحياً وتنزيلاً، يجدون على ذلك من فعلهم هذا سجودهم قد علمته، فليت شعري من أين بكاؤهم؟ وما الذي أبكاهم؟ وأين أصول ذلك المنبع، وهم أهل صفوتك، ونجباء عبيدك؟ إلهي! فسهل لنا السبيل إلى ذلك من فعلهم ظهراً وبطناً، ووفر حظنا من ذلك برحمتك علينا.
سجدة سورة الحج: سجد لك الخلق والخليقة، علواً وسفلاً، وبراً(6/434)
وبحراً، والحجر والمدر، والدواب والشجر، وكثير من الآدميين، وكثير حق عليهم العذاب، ثم قلت: {ومن يهن الله فما له من مكرمٍ}، فلك الحمد إذ أكرمتنا بالسجود لك، ولم تجعلنا ممن أهنته فما له من مكرم، ثم قلت: {إن الله يفعل ما يشاء}، فلك الحمد على ما بدا من مشيئتك فينا، وعلى الرحمة التي جرت لنا بمشيئتك فينا، وبإكرامك إيانا، إلهي! فلا تهنا بعدما أكرمتنا على تفرطينا وقلة شكرنا، ووفائك وجفوتنا، ولا تسلبنا خير ما أوليتنا، يا عظيم الرجاء، يا حسن البلاء، يا كثير النعماء، يا جزيل العطاء، يا جليل الثناء.
سجدة سورة الحج الثانية: بك آمنا، ولك ركعنا، ولوجهك الكريم الدائم الباقي سجدنا، وإياك عبدنا، وإليك أنبنا، ربنا! وفعل الخير قصدنا، والفلاح رجونا وأملنا، والنجاح لديك طلبنا، فأعنا ولا تقطع مددك وعنايتك عنا، وخذ إليك بنواصينا، واجعل فيما لديك رغبتنا، نور قلوبنا، واشرح لنا صدورنا، وحسن أخلاقنا، واختم لنا بأحسن ما ختمت لعبادك الصالحين من أهل ملتنا، آمين.
سجدة سورة الفرقان: للرحمن سجدنا، وإياه وحدنا، وما عنده أملنا، وبما أمرنا من السجود ائتمرنا، فالرحمن مولانا، والرحمن خالقنا ومليكنا، والرحمن هادينا وناصرنا، والرحمن من علينا باسمه الرحمن، ووفر منه حظنا، وبالرحمة العظمى نلنا من الرحمن حظنا، فالله ولينا ومولانا،(6/435)
والرحمن أحيانا، والرحيم أعاشنا، والقيوم آوانا، فيا أكرم مأمول، ويا خير معبود، ويا أحسن خالق، ويا أكرم مالك! تمم علينا معروفك وما ابتدأت من الإحسان، وتول منا ما توليت من أهل رأفتك ورحمتك، وتعطف علينا بجودك وكرمك، تبارك اسمك الرحمن ذو الجلال والإكرام، علمت القرآن، وخلقت الإنسان، وعلمته البيان، فلك الحمد والآلاء والنعماء، يا ذا الملك والملكوت، يا عزيز الجبروت، إليك الرغبوت، ومنك الرهبوت، هديتنا لاسمك الرحمن، ووفرت منه حظنا، فأحييت به قلوبنا، ونورت به أفئدتنا.
فالفرح الدائم لمن وصل اليوم إلى الرحمن قلباً، والسرور والبهجة وقرة العين لمن وصل إليه غداً برياً، فيامن غمرتني رحمتك العظمى، فزادني اسمك سروراً ما زاد أعداءك نفوراً، وإنما نفرهم عن اسمك الرحمن حرمان حظهم من الرحمن، فلم تنلهم رحمتك، فجهلوا اسمك، ونفروا من ذكره، وهو الاسم الذي به حييت القلوب، وتمكنوا به في دارك دار السلام.
سجدة سورة النمل: سجدت لمن يخرج الخبء في السماوات والأرض، عالم الخفيات، محصل ما في الصدور، ومبلي السرائر، لم يخف عليه حركات جوارحنا، ومكنون ضمائرنا، وخواطر قلوبنا، وهمم نفوسنا، ونوازع الأهجاس منا، سجدت لك الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، يا من على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، جعلت العرش العظيم منظراً، ولقلوب الأحباب عند ظمأ الشوق موئلاً، وفي النوائب والشدائد(6/436)
مفزعاً، يا ذا الأمثال العلا، والأسماء الحسنى، فأنت رب العرش العظيم، وكيف لا يعظم وهو مقامك للربوبية، يا حي يا قيوم، فمن دونه إلى ما تحت الثرى في جوف العرش العظيم، علوت العرش، واستويت عليه، وأنت عالى على العرش، يا شاهد كل نجوى، ومن حبل الوريد إلينا أقرب وأدنى، هب لنا ما أحصيته علينا مما أسرفنا على أنفسنا، وتفضل علينا بعفوك يا ذا الجود والأفضال، آمين.
سجدة الم تنزيل: آمنا بآياتك، وخررنا لك سجداً، فسبحانك اللهم وبحمدك، تعاليت ولك الكبرياء في السماوات والأرض، فأنت العزيز الحكيم، نبرأ إليك من أن نتكبر على عظمتك، ونعوذ بك من أن ننازع أمرك، أو أن نسبقك بقول، أو نخالف عن أمرك، أو نلجأ إلى أحد سواك، أو نركن إلى مخلوق، أو أن نعلق قلوبنا بمن دونك، لجلالك خضعت رقبتي، ولكبريائك ذلت نفسي، ولوجهك الكريم الباقي الدائم وضعت وجهي، ولجاهك أرغمت أنفي، ولعظمتك خرت قامتي ساجدة، ولربوبيتك أسلم شخصي عبودة ورقاً، فاجعل مولاي حركاتي ومنقلبي وهممي لك خالصاً، وعلى حقوقك عطوفاً، وبالعبودة لك قائماً قانتاً، وبقلبي إليك هائماً، لا أوثر على حبك أحداً، ولا على أمرك أمراً.
سجدة سورة ص: لك خررت راكعاً وساجداً، مفتوناً وغير مفتون، مستغفراً تائباً منيباً، وأنت الذي مننت على عبدك داود في وقت حلول الفتنة بأن جعلت له السبيل إلى التوبة والاستغفار، حتى خر راكعاً وأناب، فغفرت(6/437)
له ذلك، وأعلمت العباد أن له مع المغفرة عندك لزلفى وحسن مآب، وهذا في كرمك وفضلك على أحبابك موجود يا جواد، وأنت به معروف، وما أنهيت إلينا هذا الخبر من صنيعك به إلا أنك رجيت عبيدك وأملتهم، وما أوليته من معروفك؛ لئلا يقنط المفتونون، ولا يتحير الخطاؤون، ولا ييئس المذنبون.
سجدة سورة حم: سبح لك من عبدك، فلم يلحقهم سآمة ولا فتور، ذلك بأنك قربت مقاومهم، وعريتهم من إشغال النفوس، وأنقذتهم من الوساوس والآفات، وخلقتنا بموضع رحمة مع الشهوات والآفات، يعتورنا أسباب البلاء، وأزمة القضاء، فنعوذ بك أن نستكبر عن عبادتك، أو نرفع بأنفسنا عن السجود لك، والإلقاء بين يديك سلماً، فمن رام عزاً، فإنما ناله بالتذلل لك، وكيف لا يعز من انتصب لك خادماً، وألقى نفسه بين يديك عبودة وتسليماً، إلهي! لو كانت لي نفوس غير واحدة، لحق لي أن ألقيها بين يديك، وأجود بها كلها عليك، وكيف وإنما هي واحدة، فكيف لا أجود بها عليك، وإنما نلتها من عندك؟! وكيف لا أجود بها، وإنما سألتنيها لترحمها وتكنفها وتحوطها وتغذوها برحمتك ورأفتك؛ لتصلح لجوارك غداً، والمصير إلى ضيافتك في فردوس الجنان يوم الزيادة، فبك أعوذ من جماحة نفسي وحرنها عن حقوقك، يا أكرم داع، ويا خير مجاب.(6/438)
سجدة سورة النجم: لك سجدنا، وإياك عبدنا، وبأمرك ائتمرنا، وحق أن نسجد لإلهنا ومولانا، خلقتنا من تراب ثم من نطفة ثم من علقة في ظلمات ثلاث، في بطون الأمهات والأرحام والمشيمات، ثم أخرجتنا في محل الابتلاء والامتحان ودار السياق والمضمار، وعرضتنا للبلايا والرزايا، وعظم الأخطار، وفتن دار الغرور، وكيد العدو، وأمور الغيب في مشيئتك يا ذا الجلال، والقدرة، والعلو، والرفعة، دعوتنا إلى دار السلام، وأنذرتنا بالسجون سجون الأعداء، ومننت علينا منة الأحباب، وأبهمت العواقب علينا من أمورنا، فمن ذا يرحمنا إن لم ترحمنا؟ ومن ذا يغفر لنا إن لم تغفر لنا؟ ومن ذا يكشف ضرنا إن لم تكشف يا خير مدعو، وأكرم مسؤول، يا راحم المذنبين، تفضل علينا بعفوك.
سجدة سورة إذا انشقت: الحير والشقاء أحاط بهم مولاي فاستكبروا عن توحيدك، وفوت حظ منك نالهم إلهي، فتعظموا عن الإيمان بك، وجعلوا معك إلهاً، مغترين بقول العدو، فلا إله إلا أنت سبحانك، وكيف يسجدون إذا قرئ عليهم القرآن، وهم المطرودون من بابك، ينادون من مكان بعيد؟! إنما سجد لك أحبابك، وأهل رأفتك ورحمتك، والممنون عليه بذلك، قربتهم، ووفرت حظهم منك، ونورت قلوبهم بالسراج المنير، وشرحت صدورهم بعظيم آلائك، وأحييت قلوبهم بك، ووصلت حبلهم بحبلك، فكلما تلوا آياتك، فذكروك ذكر الصفاء، رموا بأنفسهم إليك(6/439)
خروراً لوجوههم، واستروحوا إلى ذلك، وتنسموا روح القربة، وسكنوا بلطائف مقالتك ظمأ الشوق إليك منهم، وتلقوا أمرك بإلقائهم بين يديك مترضين لك، فاجعلني ممن يترضاك فترضى عنه يا خير المقصودين.
سجدة سورة اقرأ: لك سجدنا، وبأسباب وسائلك تعلقنا، ونفوسنا بين يديك ألقينا، قصداً للاقتراب منك مولانا، فقد أنزلت في وحيك علينا أن: {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة}، ثم قلت لنبيك: {واسجد واقترب}، فجعلت له بالسجود إلى القربة سبيلاً، ومن ذا يستحق القرب منك مولاي إلا من رحمته فقربته؟ فقد اقتربت بفعلي، وإلقاء نفسي بين يديك؛ تأميلاً لفضلك، وطمعاً فيما رجيت عبيدك.(6/440)
الأصل السابع والسبعون والمئتان
1523 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا يحيى بن سليمان الجعفي المصري، قال: نا ابن وهب، قال: حدثني حيي، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله ابن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً فتاني القبر، فقال عمر: أترد علينا عقولنا يا رسول الله! فقال: ((نعم، كهيئتكم اليوم)). فقال عمر: ففي فيه الحجر.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فقد فسرنا هذا الحديث في الجزء الثاني من كتاب ((النوادر)) في الأصل الثاني والعشرين، ولكن بقيت في هذه المسألة نكتة لم نأت على تفسيرها،(6/441)
وذلك أن سئلنا: ما سبب هذه الفتنة في القبر قد انقطعت العبودة عند خروج الروح إلى الله موحداً، وانكشف الغطاء؟.
فالجواب في ذلك عندنا، والله أعلم: أن الله من على الموحدين بمعرفته وتوحيده، وذلك من فضله ورحمته، فصاروا أولياءه، وحرم قوماً فضله ورحمته، فصاروا أعداءه، وكان يبعث الرسول بعد الرسول إلى الأمم، فكان الممنون عليه يؤمن به، ويتبع الرسول في شريعته، ويعبده مع الرسول، والخائب يكذب الرسول، ويتخذ من دون الله ولياً، فيعبده، فكان يمهلهم حتى يريهم الآيات، ثم إذا لم يؤمنوا، بعث عليهم عذاباً فيدمرهم، ثم ينشئ قرناً آخر، ويبعث رسولاً، فكان هذا سنة الله في الذين خلوا من قبل.
وقال في تنزيله عندما قص نبأ نوح، ثم إبراهيم، وعاد، وثمود، وشعيب، وموسى، وفرعون، ثم قال: {فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا} الآية، ثم بعث الله محمداً عليه السلام رسولاً، فقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}.
فكان من رحمته: أن أعطى محمداً السيف بدل العذاب الذي كان يأتي الأمم بغتة فيهلكهم؛ كي يخوفهم بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً، ثم إذا مرنت نفوسهم الكارهة في الدين على شريعة الإسلام،(6/442)
انقادت وأطاعت، وزايلهم الغش والنفاق، ومنهم من لم يزل النفاق فيهم إلى أن مات، وستر الله ذلك عليهم، فكان المنافقون يخالطون المسلمين في مناكحاتهم ومواريثهم، ومغازيهم ومعاملاتهم، والنفاق في القلب، ولم يكن في الأمم قبل ذلك نفاق، إنما كان تصديق وتكذيب؛ لأنه لم يكن هناك تخويف بالسيف، فكان المكذبون يجهرون بالتكذيب حتى يأتهم عذاب الله بغتة، فلما جاءت هذه الأمة، وأوتيت السيف، دخلوا في الدين طوعاً وكرهاً، فجاءهم الابتلاء في القبر؛ ليظهر نصرة الله المطيع في الحياة الدنيا، الثابت في قبول الإسلام، وتلقين الجواب عند السؤال، ويبرز مكرمته وفضله، ويضل الله الظالم الذي كان مع النفاق أيام الحياة، فهذا عندنا سبب فتاني القبر.
ويحقق ما قلنا ما:
1524 - نا به محمد بن زنبور المكي، قال: نا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذه الأمة تبتلى في قبورها)).
فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة خصوصاً دون سائر الأمم، فإنما ابتلوا بالسؤال؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، فيثبت الثابت في الحياة الدنيا، ويضل الله الظالم، وقال في تنزيله: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من(6/443)
يشاء} الآية. وقال تعالى: {الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} الآية، فكان أولئك الذين من قبلهم فتنوا بالشريعة حتى يظهر من قبله صدقاً.
وأما فتنة القبور، ففيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذه الأمة تبتلى في قبورها)) دليل على أنهم مخصوصون بالسؤال؛ للنفاق الذي كان في هذه الأمة من أجل السيف، ثم قال تعالى: {ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.
تأويله عندنا والله أعلم: أن من مشيئته أن يرفع مرتبة أقوام عن السؤال، وهم الصديقون والشهداء.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قيل له: ما بال الشهداء لا يفتنون في قبورهم؟ فقال: ((كفى ببارقة السيوف عليهم فتنةً)).
1525 - نا بذلك محمد بن يحيى المروزي، قال: نا علي بن الحسن، قال: نا عبد الله بن المبارك، قال: نا إبراهيم بن محمد الفزاري، قال: نا صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، قال: قال رجل: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهداء؟ فقال عليه السلام: ((كفى ببارقة السيف على رأسه فتنةً)).(6/444)
معناه: أنه لو كان في هؤلاء المقتولين نفاق، كان إذا التقى الزحفان، وبرقت السيوف إذا شهروها، فمن شأن المنافق الفرار والروغان، ومن شأن المؤمن البذل والتسليم لله نفساً، وهيجان حمية الله، والتعصب له؛ لإعلاء كلمة الله، فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث بزر للقتل والحرب، فلماذا يعاد عليه السؤال في القبر؟
وإذا كان الشهيد لا يفتن، فالصديق أجل خطراً وأحرى أن لا يفتن؛ لأنه المقدم ذكره في التنزيل على الشهداء، ولذلك لم يهب عمر أن يقول: في فيه الحجر بعد ما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عقله يرد عليه.
وقد جاء فيمن هو أقل منه أن لا يفتن، أتت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه، منهم: عبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي، وغيرهما: أنه قال: ((من مات مرابطاً، وقي فتنة القبر، وغدي وريح برزقه عليه من الجنة)).
وروي عنه عليه السلام: أنه قال: ((من مات يوم الجمعة أو ليلتها، وقي فتنة القبر)).
1526 - نا بذلك أبو قلابة الرقاشي، قال: نا بشر(6/445)
ابن عمر، قال: نا هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف الإسكندراني، عن عياض بن عقبة الفهري، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة، وقاه الله فتنة القبر)).
1527 - نا محمد بن يحيى المروزي، قال: نا علي ابن الحسن، قال: نا عبد الله بن المبارك، قال: نا هشام بن الغاز، قال: نا مكحول، عن سلمان الفارسي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من مات مرابطاً في سبيل الله، أجير من فتنة القبر، وجرى عليه صالح عمله الذي كان يعمل إلى يوم القيامة)).(6/446)
وروى هشام بن عمار قال: نا يحيى بن حمزة، قال: نا عروة بن رويم اللخمي، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: زارنا سلمان، فحدثنا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
فالمرابط: قد ربط نفسه، وحبسها، وصيرها حبيساً لله في سبيله؛ لمحاربة أعدائه، فإذا مات على هذا، فقد ظهر صدق ما في ضميره، فوقي فتنة القبر، ومن مات يوم الجمعة، فقد انكشف الغطاء عما له عند الله؛ لأن يوم الجمعة لا تسجر جهنم، وتغلق أبوابها، ولا يعمل الشيطان في الناس ما يعمل في سائر الأيام، فإذا قبض الله عبداً من عبيده، فوافق قبضه ليوم الجمعة، كان في ذلك دليل السعادة، وحسن معاده عند الله، فيوم الجمعة يوم الله الذي خلق فيه آدم وذريته، ويومه الذي تقوم فيه الساعة، فيميز بين الأحباب والأعداء، ويومه الذي يدعوهم إلى زيارته في دار عدن، فلم يكن ليعطي -فيما نعلمه- بركة هذا اليوم، وما ضمن هذا اليوم من عطاء الرحمن إلا من كتب له السعادة عنده، فلذلك يقيه فتنة القبر.
فدلت هذه الأشياء أن سبب فتنة القبر إنما هو ليتميز المنافق من المؤمن(6/447)
هناك في البرزخ من قبل أن يلقى الله، لأن كلا الصنفين قد صلي عليهما، وفعل بهما سنة الموت من النبيين والمرسلين؛ من الغسل والتكفين والصلاة عليهم، فامتحنا بالسؤال؛ ليهتك المنافق ستره بقوله: لا أدري، كما ستر الله عليه نفاقه بحرمة ما أظهر من المنطق الجميل، فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فأوجب لقوله في الظاهر حرمة، فلم يهتك ستره في الدنيا كرماً ومجداً، حتى إذا وضع في قبره، امتحنه بالسؤال؛ ليظهر نفاقه في البرزخ قبل أن تقوم الساعة؛ كي يكون العبد هو الذي يهتك ستر نفسه بقوله، والله حيي ستير، لا يهتك ستر العبد حتى يكون هو الذي يهتك ستره، وأضله عن القول كما كان في الدنيا ضالاً في الستر، ظالماً لنفسه، وثبت الصادق برحمته السابقة له، وبما من عليه، فرد عليه عقله، وروحه، وعلمه بالله، وأطلق لسانه، وشجع نفسه، وقوي قلبه حتى نطق بوفارة حظه من الله، ولم تأخذه الحيرة والدهشة، لعلمه بالله الذي أكرمه بذلك العلم، فأقواهم على الإجابة، وأسرعهم جواباً: أوفرهم حظاً من العلم بالله.
فالامتحان في القبر بعدما انقطعت العبودة مكرمة للموحد الممنون عليه بالتوحيد، كما من الله عليه بالثبات في الدنيا، فلم يزغ بقلبه هواه(6/448)
ولا عدوه، فكذلك ثبته الله في قبره، وكما ابتلي عدة من المؤمنين في أيدي العدو بالقتل وأنواع العذاب، فلم يتركوا دينهم، ولم يجيبوهم إلى أديانهم، فذلك الثبات كائن لهم في القبور؛ لأن تلك العقول ترد عليهم التي بها رزقهم الله الثبات.
وروي عن سفيان الثوري أنه جاء في الخبر: أنه عندما يقال له: من ربك؟ فيدخل الشيطان عليه، فيتمثل له، ويشير إلى نفسه، فيقول له: أنا.
فطلبنا تحقيق هذا، فوجدنا في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول عند دفن الميت: ((اللهم أجره من الشيطان)).
1528 - نا بذلك صالح بن محمد، عن حماد بن عبد الرحمن، قال: نا إدريس بن صبيح الأودي، عن سعيد ابن المسيب، قال: حضرت عبد الله بن عمر في جنازة، فلما وضعها في اللحد، قال: ((باسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله))، فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد، قال: ((اللهم أجرها من الشيطان، ومن عذاب القبر، ومن عذاب النار))، فلما سوى الكثيب عليها، قام جانب القبر، وقال: ((اللهم جاف الأرض عن جنبيها، وصعد روحها،(6/449)
ولقها منك رضواناً))، فقلت لابن عمر: أشيئاً سمعته من رسول الله، أم شيئاً قلته من رأيك؟ قال: إني إذاً لقادر على القول، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى محمد بن مقاتل، عن ابن أبي فديك، عن زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن عبد الله بن محمد: أن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، فأخرج، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي أمام سريره، ثم دخل قبره، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع في القبر، فاضت عيناه، فلما رأى ذلك أصحابه، بكوا حتى ارتفعت أصواتهم، ثم أقبل أبو بكر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! تبكي، وأنت تنهانا عن البكاء؟ فقال عليه السلام: ((يا أبا بكرٍ! تدمع العين، ويتوجع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب تعالى))، ثم دفن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحدٍ يأتينا بماءٍ نطهر به قبر الصبي))، فأتي بماءٍ، فأمر به فرش على قبر إبراهيم، ثم وضع يده اليمنى على قبره من عند(6/450)
رأسه، وقال: ((ختمت عليك بالله من الشيطان الرجيم)).
1529 - نا أبي، قال: نا أبو نعيم، عن سفيان، قال: نا عمرو بن مرة، عن خيثمة، قال: كانوا يستحبون إذا دفنوا الميت أن يقولوا: ((بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، اللهم أجره من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن شر الشيطان الرجيم)).(6/451)
الأصل الثامن والسبعون والمئتان
1530 - حدثني عمر بن أبي عمر، قال: نا نعيم بن حماد، عن عبد الوهاب الثقفي، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن عقبة بن أوس السدوسي، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يؤمن عبدٌ حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالذي جاء به الرسول عليه السلام عن الله هو العبودة التي لها خلقوا، قال الله تعالى في تنزيله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال تعالى: {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيءٍ فاعبدوه}.(6/453)
فالعبودة في ترك الهوى، واتباع ما جاء به، فكل أمر اجتمعت فيه هذه الخصال الست، فقد استكمل العبودة: الحق، والصواب، والعدل، والصدق، والأدب، والبهاء، فإذا رفع أمره إلى الله، وقد اجتمعت فيه هذه الست، لبق، فإذا لبق، تقبل، وتقبله أن يعرض على الله، فإذا نظر إليه تقبله الآن، وما تأخر تقبله، فهو موضوع في الخزائن إلى يوم القيامة حتى يحاسب، ويحصل ما في الصدور، فما صفا منها، قبل هناك، وما لم يصف، رمي به.
قال له قائل: صف لنا أمراً واحداً تجتمع فيه هذه الخصال؟.
قال: رجل صلى ركعتين في وقت طلوع الشمس، أو في وقت دعته أمه، فلم يجبها، فالصلاة حق، وليس بصواب في هذا الوقت، فلم يصب الصواب.
ألا ترى أن جريجاً الراهب جاءته أمه، فنادته وهو يصلي في صومعته، فقال: يا رب! صلاتاه وأماه، فلم يجبها، فرجعت الأم، ودعت عليه فقالت: اللهم ارمه بالمومسات، فما لبث أن أحاطت جماعة بصومعته ليخربوها، فأنزلوه وأهانوه، وقالوا: إن أمتنا هذه ولدت من زنا، وزعمت أنه منك، فتبسم ضاحكاً لما علم من دعوة أمه، وصلى ركعتين، ثم قال: أروني هذا الولد، فجاؤوا به، فقال: من أبوك؟ فقال ذلك المولود: أبي فلان الراعي، فندم القوم على ذلك، واعتذروا إليه، وقالوا: نبني صومعتك من الذهب والفضة، قال: لا، أعيدوها كما كانت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(6/454)
((لو كان جريج الراهب فقيهاً عالماً، لعلم أن إجابته أمه من عبادة ربه)).
1531 - نا سفيان بن وكيع، قال: نا روح بن عبادة، عن شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى، قال: كنت أصلي، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال عليه السلام: ((ما منعك أن تأتيني ألم يقل الله: {يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} -ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج؟))، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته، فقال: ((الحمد لله رب العالمين، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته)).(6/455)
1532 - نا صالح بن محمد، وصالح بن عبد الله، قالا: نا القاسم العمري، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي ابن كعب وهو يصلي، فسلم النبي عليه السلام، فالتفت أبي ولم يجبه، ثم صلى أبي وخفف، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا رسول الله، صلى الله عليك، فقال رسول الله: ((ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك))، فقال: يا رسول الله! كنت في الصلاة، قال: ((ألم تجد فيما أوحي إلي أن {استجيبوا لله وللرسول إلى دعاكم}؟)) قال: بلى يا رسول الله، لا أعود إن شاء الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((تحب أن أعلمك سورة لم ينزل الله، في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها؟))، قال:(6/456)
نعم يا رسول الله، قال: ((إني لأرجو أن لا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها))، فأخذ النبي عليه السلام يحدثني، وأنا أتبطأ به مخافة أن يبلغ الباب قبل أن يحدثني، قلت: يا رسول الله! صلى الله عليك، ما السورة التي وعدتني؟ قال: ((كيف تقرأ في الصلاة؟))، فقرأت أم القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده! ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها، إنها السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيت)).
قال أبو عبد الله:
فأصل هذا الحديث عن أبي هريرة روايةً عن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ألا ترى أنه قال في الحديث: قال: قلت يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ فإنما روى أبو هريرة عن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/457)
1533 - نا سفيان بن وكيع، قال: نا أبو أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما في التوراة، ولا في الإنجيل مثل أم الكتاب، وهي السبع المثاني، وهي مقسومةٌ بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)).
وروى ابن المبارك، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن أبيه: أنه كان قاعداً مع أبي موسى الأشعري، فأتاه رجل، فقال: إن أخذت سيفي، فجاهدت أبتغي به وجه الله حتى أقتل، أين أنا؟ قال: في الجنة، قال حذيفة: استفهم الرجل ما يقول، وأفهمه ما تقول له، قال: ما قلت؟ قال: أرأيت إن أنا أخذت سيفي، فجاهدت أبتغي به وجه الله حتى أقتل، أين أنا؟ قال: في الجنة، قال حذيفة، استفهم الرجل ما يقول وأفهمه.(6/458)
قال أبو موسى -وضرب بيده-: ما تزال تأتينا بشيء ما ندري ما هو، ثم قال للرجل: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن أنا أخذت سيفي، فجاهدت به أبتغي وجه الله حتى أقتل، أين أنا؟ قال أبو موسى الأشعري: والله! ما أدري ما أقول لك غير ذلك، فقال حذيفة: والله! ليدخلن النار أكثر من كذا وكذا، كلهم يقول ما قال هذا، ولكن إن أخذت سيفك، فجاهدت تبتغي به وجه الله، فأصبت الحق، فقتلت وأنت عليه، فأنت في الجنة، ومن أخطأ الحق، فلم يوفقه الله للخير، قال أبو موسى الأشعري: صدق.
قال أبو عبد الله:
فهذا حق لم يصب به طريق الحق، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤنس أمر بأمر، فثقل عليه، فتوجه نحو جزيرة من جزائر البحر؛ ليعبد الله فيها، فأصابه ما أصاب، وعوقب بما عوقب.
فيحتاج العبد إلى الحق، وفي الحق صواب، وفي الصواب العدل، وفي العدل الصدق، وفي الصدق الأدب، وفي الأدب البهاء.
فأما الحق: فكل أمر رضي الله عنه.
وأما الصواب: فكل أمر مرضي رضي الله لك في ذلك الوقت.
وأما العدل: فإنه يكون قلبك في إصابة الحق والعمل به، لا تميل(6/459)
إلى النفس تريد به الرياء، فيكون عدلاً لا جور فيه، فقد وقف عليك بالعمل على سبيل الاستواء.
وأما الصدق في العدل: بأن يرمي ببصر قلبه إلى موضع المشاهدة والمنظر: أن الله ناظر إليه في فعله هذا، وأنه شاهده.
وأما الأدب: فأن يضع كل شيء من الحركات موضعها؛ في موضع السبق سبقه، وفي موضع المبادرة مبادرته، وفي موضع السرعة سرعته، وفي إتمام الفعل إتمامه.
وأما البهاء: فوقاره، وسكينته، وزينته، وطلاوته، ولبقه، وحسنه، فالحق من المعرفة، والإصابة من الهدى، والعدل من الجلال، والصدق من الخشية، والأدب من العقل الأكبر في القبضة، والبهاء من المحبة، فمثل ذلك كمثل ثوب منسوج جوهري محكم منقوش، فالثوب هو الحق، والجوهر الهدى، والمحكم من الجلال، والنقش من البهاء.(6/460)
الأصل التاسع والسبعون والمئتان
1534 - نا صالح بن محمد، والجارود بن معاذ، وأبو طالب الهروي، قالوا: نا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن مروان بن سالم، عن صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد الحضرمي، عن أبي الدرداء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن رجل شدة عبادة، سأل: كيف عقله؟ [فإذا قالوا حسن، قال: أرجوه] فإن قالوا غير ذلك، قال: لن يبلغ، وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من أصحابه شدة عبادة واجتهاد، قال: ((كيف عقله؟))، قالوا: ليس بشيءٍ، قال عليه السلام: ((لن يبلغ صاحبكم حيث تظنون)).
1535 - نا أبي، قال: نا جندل بن والق الكوفي،(6/461)
قال: نا عبيد الله بن عمرو الرقي، [عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة]، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعجبكم إسلام رجلٍ حتى تعلموا ما عقدة عقله)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالعقل خلق مخلوق من نور البهاء، مقسوم بين الموحدين من ولد آدم، موضوع في دماغه، وإشراقه وشعاعه ومعتمله في الصدر بين عيني الفؤاد، فهو مدبر الأمر، زاجر وآمر، ومقدر، ومميز، ومزين، ومبصر، ودليل، وهادٍ، فبه عرف ربه، وبه علم ربوبيته، وبه نظر إلى تدبيره، وإلى ما أظهر لخلقه من ملكه وعجائب صنعه، وبه عرف جواهر الأمور من أمر الدين والدنيا، وبه ينهض إلى ربه.
وذلك النهوض اسمه على ألسنة الخلق: النية؛ من قوله: ناء ينوء؛ أي: نهض ينهض، وإنما ينهض بقصده وإلقاء همته، لا أنه ينخلع من مكانه، فهمه وقصده نيته، وهي النهوض عن السكون، فهمم القلوب تطير إلى الله بنور العقول التي لها على قدر حظه من العقل الذي قسم له ربه، وبين القسم تفاوت، فإنما تفاوتت الرسل والأنبياء، ومن دونهم من(6/462)
الموحدين في منازل الدين، وفي درجات الجنان غداً، بتفاضل العقول، فالعبادة والاجتهاد فيها من دأب النفس ما هو وبال على صاحبه؛ لأن دأب النفس هو الهوى الذي حذرنا اتباعه في التنزيل، فقال: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}.
فإذا كانت العبادة والاجتهاد فيها، فخرجها من تدبير العقل، استقام الأمر، وصفت العبادة، وذهب الجهد؛ لأن الجهد من ضيق النفس وعسرتها، والهوى يضيق أمرها عليها، وهي في ذاتها معسرة عسرة ذات نكر؛ لخلائها وفقرها، وتزاحم شهواتها في الجوف، فإذا جاء العقل وغلب الهوى، ارتد الهوى، قهقرى، وذل وخمد سلطانه، فعند ذلك سكنت النفس، واستقرت عن التذبذب والطيش، ووجد القلب قراره في مستقره؛ لأن القلب معلق في موضعه بعروقه كالدلو بأذنيه، أو كقنديل بسلاسله، فإذا تحركت النفس، وجاء أهبوب الهوى، فجاش بالنفس، ودار بها دوران الرحا، تذبذب القلب، فإذا كان العقل ولي القلب، غالباً للهوى، فالهوى مقضي مدحور ذليل، والقلب أمير مؤمر عدل في إمارته، فلا يستعمل جارحة إلا بما يدبر له العقل، ويزين وينهج سبيله، فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع بعبادة رجل، سأل عن عقله.(6/463)
فإذا كان العقل مغلوباً، كان القلب أسير الهوى والنفس، فهو -وإن اجتهد في العبادة- فعامة عبادته خطأ وجهل، كما فعل جريج الراهب حيث نادته أمه وهو في صومعته في صلاته، فقال: يا رب! صلاتاه وأماه؟ فاختار الصلاة، ولم يجب أمه، فقالت أمه: اللهم ارمه بالمومسات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلو دعت أن يفتنه بهن، لافتتن)). وقال: ((لو كان جريج الراهب فقيهاً عالماً، لعلم أن إجابة أمه من عبادة ربه)).
وكان من أمره ما كان، وعوقب بجهله وهواه لما آثر صلاته على إجابته أمه، فتلك عبادة المفتونين.
1536 - نا عبد الوهاب بن فليح المكي، قال: نا مروان ابن معاوية، عن الحسن بن عمرو، قال: نا عبد الرحمن بن سعد بن ذئاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جريج الراهب كان متعبداً في صومعته. الخبر إلى آخره.(6/464)
قال مجاهد: فكان المولود أحد الثلاثة الذين تكلموا في المهد.
1537 - نا إبراهيم بن المستمر الهذلي، قال: نا الحكم بن الريان اليشكري، قال: حدثني ليث بن سعد، قال: نا يزيد بن حوشب الفهري، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو كان جريج الراهب فقيهاً عالماً،(6/465)
لعلم أن إجابته أمه من عبادة ربه)).
وروي لنا عن نافع، قال: مطرنا ليلة بمكة مطرة شديدة في ليلة مظلمة، قال لي ابن عمر: يا نافع! اذهب فانظر: هل ترى في الطواف أحداً؟ فذهبت فوجدت ابن الزبير يطوف، ثم صلى عند المقام ركعتين، فلما سجد، جاء السيل فطاف على رأسه، فجئت فأخبرت ابن عمر بذلك، فقال: هذه عبادة مفتون.(6/466)
الأصل الثمانون والمئتان
1538 - نا أبي، قال: نا يحيى الحماني، قال: نا زيد بن الحباب، أخبرني: كثير بن عبد الله، قال: أخبرني الحسن بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ تحت العرش: القرآن له ظهرٌ وبطنٌ يحاج العباد، والرحم تنادي: صل من وصلني، واقطع من قطعني، والأمانة)).
قلت لكثير: مذ كم سنة سمعت هذا الحديث؟ قال: مذ ستين سنة، قلت: كم أتى عليك؟ قال: تسعون سنة.(6/467)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فظهر القرآن يحاج الظالمين أهل التخليط، وبطن القرآن يحاج المقتصدين؛ لأن ظاهر القرآن لأهل الجنان، وباطن القرآن لأهل الغرف، وهم السابقون عباد الرحمن، فإنما يحاج المقتصدين؛ لأنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم على مجاهدة منهم لأنفسهم، فأهل الجهد لا يقدرون على صفاء الأمور، وإنما يقيمونها مع كدورة النفس، وضيقها، ونفسها، وعسرتها، وترددها، ونكدها، فلا يبلغون حقائق الأمور على الصفاء.
وإنما يبلغ حقائق الأمور الصافية: السابقون الذين عتقوا من رق النفوس، فهم أحرار كرماء، وأولئك عبيدٌ أتقياء، كما قال عيسى بن مريم عليه السلام: يا بني إسرائيل! فلا عبيد أتقياء، ولا أحرار كرماء.
فالمقتصد على سبيل العدل، وهو في جهد عظيم متعلق بعرا الطاعات، متحصن بالهرب من الأمور والاعتزال مخافة السقوط، فباطن القرآن أن يحاجهم حتى يقيم عليهم الحجة حتى لا يطمعوا في منازل السابقين الصديقين، فأولئك صادقون، وهؤلاء سابقون وصديقون؛ لأن القرآن نزل بأمر ونهي.
فالسابق يأتمر بالأمر عبودةً لله، ورقاً للرب، وينتهي عن النهي إعظاماً لجلال الله، وخشوعاً لعظمة الله، وخضوعاً لتدبير لله، فأعرض عنه؛ لإعراض الله.
والقرآن نزل بوعده ووعيده، فالوعد في داره، والوعيد في سجنه،(6/468)
فإذا مر بذكر داره، حن إليها للقائه في داره، والنظر إليه، وإذا مر بذكر سجنه، أشفى صدره من أعدائه؛ لما أعد الله لهم؛ لأنه كان أيام الدنيا يألم قلبه، ويجد مرارة ما يأتون به من الجرأة على ربهم في العظائم.
والقرآن نزل بأخبار القرون قبله، فرأى نصرة الأولياء، ونقمة الأعداء، ففرح بنصرة الأولياء، وشمت بنقمة الأعداء، والقرآن نزل بضرب الأمثال، وقلبه مرآة قد عاين ببصر قلبه ما وصف له، فكأنه شاهدهم بقلبه، فوافق الأمثال ما شاهد بقلبه، فزاده إيماناً مع إيمانه، والقرآن نزل بذكر ما خرج من الآية، وأنبأ ما في الملكوت، فرتع قلبه في رياض البهجة بذكر تلك الأشياء، فإذا قرأ سورة {ق والقرآن المجيد} وأشباهها من السور، وما وصف من ذكر السماوات والأرضين، وقوله تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوجٍ بهيجٍ}، إلى قوله: {رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً}، عملت فيه بهجة الآية.
والقرآن نزل بحججه الدامغة للباطل على أعدائه، فتقوى بها، وازداد بصيرة، والقرآن نزل باللطائف، وعلائم الرأفة والمحبة للعباد، فازداد بالله علماً، وبمنازل العباد منه معرفة، والقرآن نزل بمحض التوحيد وعلم الفردية، فلها عن كل شيء سواه، وانفرد به تعلقاً بفرديته، فهذه صفة(6/469)
السابقين، أعينهم إلى الله شاخصة، ولتدبيره مراقبة، ولأحكامه منقادة مسلمة.
والمقتصد في خلو من جميع ما ذكرنا، يأتمر الأمر على جهد، شاء أو أبى، مخافة فوت الثواب، ويتناهى عن النهي مخافة العقاب، ونفسه شهوانية ثقيلة في الائتمار، بطيئة عن المسارعة في الخيرات، غير متحملة أثقال الأمر، جموحة في نهي الله، فهي ملجمة بالوعيد، فلولا أن صاحبها يمسكها بعنانها على الدوام على ذلك، لركضت به في ميدان الخاسرين، وإذا مر بذكر الجنان، حن إلى نعيمها، وإلى ما أعد فيها للعمال.
فمن ذلك الحنين يخف لأعمال البر، وإذا مر بذكر الوعيد، ذبل وتحير، وانقبض عن الأمور مخافة الهلكة فيها، فهو معتزل وحداني، وإذا مر بذكر القرون، فإنما سمع أخبار قوم قد مضوا، لا يحتظي منها شيئاً، وإذا مر بذكر أخبار الملكوت، علم من ذلك مقدار أهل التوحيد؛ لأنه لم ينكشف له الغطاء، فذاك لا يجاوز سمعه.
وأما اللطائف والوداد: فهو لغيره، فكيف يلتذ بلطف غيره؛ لأن الجهد قد أوحشه، والتعب والنصب قد أوقذه، ونفسه قد خنقته بسوء أخلاقه، وضيق صدره، فمن أين له شرف اللطائف، وأنى له الوداد، وهو لم ينل الحبل فيتعلق به، إنما نال الخشية، فيتعلق بها؛ ليصدق من نفسه قوله بفعله.(6/470)
الأصل الحادي والثمانون والمئتان
1539 - أنا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: أنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا رشدين بن سعد، قال: نا زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول: ((ألا أخبركم عن وصية نوحٍ ابنه حين حضره الموت؟ قال: إني واهبٌ لك أربع كلماتٍ هن قيام السماوات والأرض، وهن أول كلماتٍ دخولاً على الله، وآخر كلماتٍ خروجاً من عنده، ولو وزن بهن أعمال بني آدم، لوزنتهن، فاعمل بهن، واستمسك حتى تلقاني: أن تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والذي نفس نوحٍ بيده! لو أن السماوات(6/471)
والأرضين وما فيهن وما تحتهن وزن بهؤلاء الكلمات، لوزنتهن)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فنعم الواهب، ونعمت المواهب، ونعم الموهوب له، هذا نوح رأس المرسلين -صلوات الله عليه- أوصى ابنه عند وفاته وخروجه من الدنيا، ثم صير الوصية هبة؛ لتكون تمليكاً، ولا يكون تمليك إلا من مالك، فكأنه دل هذه الكلمة من قول نوح: ((إني واهب لك))؛ أي: أن هذه الكلمات قد وهبت لي، فإني واهب لك من قبل أن يزول ملك الهبة مني بمزايلة الروح الجسد، وبمزايلة العقل والنبوة القلب والروح، حتى ترثه أنت دون سائر الورثة؛ لأن الورثة إنما يرثون ميراث الدنيا بحكم أهل الدنيا، وأولاد الرسل إنما يرثون آباءهم ميراث النبوة بحكم الله الرباني، وذلك قوله: {وورث سليمان داود}؛ فإنما ورث منه خلافة الخليفة.(6/472)
وقال زكريا: هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب النبوة، فهذا الولد هو سام بن نوح فيما روي في الخبر، وهو أبو العرب والعجم والمجاورين للعرب.
وأما حام: فهو أبو الحبشة والهند والسند.
وأما يافث: فهو أبو الترك والسقالبة.
فكان هؤلاء الثلاثة ممن ركبوا السفينة معه، وامتنع كنعان الابن الرابع، وحال بينهما الموج، فكان من المغرقين.
1540 - أنا أبي، عن أحمد بن يونس، عن إسماعيل ابن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: ولد نوح ثلاثة: سام، وحام، ويافث، قال فولد سام: العرب، وفارس والروم، وفي هؤلاء خير، وولد حام: السودان والبربر والقبط، وولد يافث: الترك والسقالبة، ويأجوج ومأجوج، أراه قال: وليس في هؤلاء خير.(6/473)
وإنما صارت هذه الأربعة قيام السماوات والأرض وما فيهن؛ لأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما فيهن بالحق، {ولتجزى كل نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون}.
وحقيقة القائمين بالحق في الوفاء بمقالة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنما يطالب الله عباده بحقيقة القيام بهذه الكلمات الأربع حتى يرضى الحق، فالسماوات والأرض وما فيهن مسخرات للآدميين؛ ليقوم هذا الآدمي بمقالة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، منطقاً، وليقوم بمقالة هذه الأربع؛ وفاء بطهارة هذه الأربع ونزاهتهن وقدسهن، فمن قام من الآدميين بهذه الأربع بهذه الصفة التي وصفنا، كان ولي هذه الكلمات، وكان ولي الله، وبه تقوم السماوات والأرض وما فيهن، وإنما صار في الوزن أثقل من السماوات والأرض وما فيهن، وأوزن من أعمال بني آدم؛ لأن هذه الكلمات عماد الأعمال، فبالتسبيح يطهر الأعمال، وبالتقديس وبالتحميد تحط أثقال النعم، وبالتهليل يقبل الطاعات، وبالتكبير يرفع وينال الثبات والثواب.
فأما قوله: ((أولهن دخولاً على الله، وآخرهن خروجاً من الله))؛(6/474)
فإن هذه الكلمات رؤوس الكلام وأمناؤه، ومهيمن على سائر الكلام.
فالأمناء: أولهم دخولاً على الملك يوم يقعد لعرض الأجناد، وتدبير الملك، فيرفعون إليه أمور الرعية، ثم يأذن للرعية، فيعرضهم، فإذا خرجوا من عنده، كان التدبير مع الأمناء، وقضاء حوائج الرعية على أيديهم، وأحكام أمورهم معهم، ويخرجون إلى الرعية بقضاء حوائجهم، وقبول معاذيرهم، ونوال عطاياهم، فكذلك هذه الكلمات يدخلن على الله تعالى يوم يعرض الأعمال في اثنين وخميس، ثم تجيء الأعمال بعد ذلك على أثرهن، فيعرضون على الله، فتزكية الأعمال وتوفيرها من هؤلاء الأمناء، يشهدون لهم بالصدق، وإذا خرجت الأعمال، بقوا هؤلاء عنده؛ لتوفير التقصيرات، وتصحيح الأعمال، وسؤال القبول والثبات، وتربية الأعمال، وتقوية النفوس، ومدد القلوب، فهن المستأذنات للأعمال، والمسهلات لسبيل الأعمال، والشفعاء والمرتبات؛ لأن على طريق العرض سماطي الملك، ملك الرحمة، وملك العظمة، وملك السلطان، وملك البهجة، وملك الجمال، وملك البهاء.
فهذه الكلمات تطرق للأعمال إلى مالك الملك، وتسهل السبيل،(6/475)
وتشفع، وتزين، وبهن يقرع الباب، ومثل ذلك كمثل ملك يصبح فيعرض عليه أعمال الرعية، فاجتمعت الرعية على باب الملك، فأول من يدخل عليه الوجوه، وسراة الرعية، والمختص بالوسائل، فإذا دخلوا عليه، قربهم في المجلس، وأدناهم من نفسه، وأحلهم محل الأمناء والخاصة، فإياهم يأتمن، وعليهم يقبل، ومنهم يقبل، وإياهم يسعف بالحوائج، ومن أجلهم يأذن لهم، وعلى قدر ما يثني كل واحد منهم على الرعية، وينشر عن طاعتهم للملك، وصدقهم، ووفائهم، ونصحهم، يقبل الملك على هذه الرعية، ويسمع منهم، ويقضي حوائجهم، ويجزل عطاياهم، فهؤلاء وفود الرعية، فهذا مثل هذه الكلمات.
ثم للقائلين بها درجات تتفاوت، ومثل ذلك مثل هذا الملك يجتمع ببابه هؤلاء الوفود الذين وصفناهم، فهم أول من يدخلون عليه، كما ذكرنا بداءً، فأوجههم عند الملك: أحسنهم هيئة، وأعقلهم، وأعذبهم منطقاً، وأفصحهم لساناً، وأصبحهم وجهاً، وأطهرهم خلقاً، وأبهاهم زياً وسمتاً، وأنقاهم ثياباً، وأقصدهم مشياً، وأفهمهم عنه إشارة، وأوفاهم علماً.
فالحظ كل الحظ، والوفارة كل الوفارة في الحظ، والإجابة كل الإجابة بنعم، والإسعاف كل الإسعاف بالحوائج، لمن كانت هذه صفته من بين(6/476)
الوفود، فكذلك هذه الكلمات قد وعتها القلوب، ووعت معانيها الصدور، وزينتها العقول لأفئدة القلوب، وأشرقت أنوارها في الروايات من بين أودية الأفكار، وعلى بصائر النفوس وأسماع هواجس الأحلام.
فمن كان قلبه واعياً لنور الله الأعظم، وصدره مشرقاً بذلك النور، وعين فؤاده منكشف الغطاء من زينة العقل وبهائه، وقد سد تراكم أنواره خلال الروايات، واحتدت لها بصائر النفوس، وأذنت أسماع الهواجس، واحتشت من نور الحياة، فإنما تخرج الكلمات إلى الله من بين هذه الأشياء، فهذا بحر الله فيه جواهر الله، فإنما يصعد إلى الله جواهر قد غاص عليها قائلها من بحره، فولي البحر أعلم بأثمان تلك الجواهر، قد عجز عن علم أثمانها جميع الخلق.
قال له قائل: ما أثمانها؟
قال: حب الله، فمن ذا يدرك مقادير حرارات الحب وفورانه وشعله، ومن يحصيها من العبد، ويعلم كنهها إلا محبوبه الذي يثيره.
قال له قائل: كيف يثيره؟.
قال: يثير الحب الذي وضعه في العبد بالحب الذي عنده للعبد، فمن خرجت هذه الكلمات من حبه، من بحره، من غوصه، فدخلت هذه الكلمات منه على الله، كن أول من يدخلن، ثم يعرض أعماله بعد دخولهن،(6/477)
فكل عمل إنما يقتضي ثوابه هذا الحب، إنما صارت هذه الكلمات وجيهة عند الله، لهذه الأشياء التي وصفنا، وإنما نال هذه الأشياء بلب هذه الأشياء، ولبه حب العبد لله تعالى، ولب ذلك اللب حب الله لعبده.
ومن كان قلبه خالياً من جميع ما وصفنا، إلا أنه مؤمن بهذه الكلمات، قد تضمن توحيده نفس هذه الكلمات، وعلماً بها، ومعرفة لها، فهو مقرٌّ بها، ناطق لها باستقرار القلب بذلك التوحيد والإيمان، قد خلا قلبه عن أنوارها، وحشو ما فيها، فإنما يصعد إلى الله إيمانه بتلك الكلمات، واستعمال صدره بإيمان تلك الكلمات، وبذل لسانه بدورانها بالنطق بذلك، حتى يصير التصوت بها، وذرو لهجته في النطق، فهذا هو فقط، فإنما يدخل هذه الكلمات من قائلها على هذه الهيئة، وتلك على تلك الهيئة، وإنما يكون كلمته من الله قرباً ودنواً ووسيلةً، وجواز قول، ونوال عطية على قدر هيئته، وتلك على قدر هيئته، فاعتبر بشأن هذا المثل الذي ضربناه لك بدءاً من شأن الملوك والسراة المقدمين في الإذن، قال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.(6/478)
فالغائص من بحر الله هذه الكلمات هو عبد قد طالع مقاسم الكلمات كيف انقسمت على أمور العباد في موضع المقسم على العرش، وطالع حكمة التأليف لحروف الكلمات في ملك الملك في تلك الكلمات، وطالع ما في حشو كل حرف منه في المبدأ، فهو إذا نطق بها، لاحظ المقسم، فوجه بلحظته بكل كلمة من معدنها الذي عزيت فيه هذه الكلمة إلى المعدن الذي منه جرى إلى العبد، وكل كلمة لها نوبة من الأمور والأفعال.
فالتسبيح تبرئة من الهواجس، والحمد يكشف عن النعمة، وصنع الصانع، والتهليل تبرؤ عن العلائق، والتكبير يثبت القيومية له عن الزوال، فعين فؤاده تدور مع دوران لسانه، حتى تقسم اللحظات الكلمات على الأمور، فتلاحظ الهواجس، وتلاحظ النعم، وتلاحظ الشرك، وتلاحظ الزولان، فتنتقل لحظاته كما ينتقل دوران لسانه من كلمة إلى كلمة، فكذلك ينتقل لحظاته للهواجس، ومن الهواجس إلى النعم، ومن النعم إلى الشرك، ومن الشرك إلى الزولان.
وآخر أعلى من هذا؛ طالع هذا كله، وطالع حكمة التأليف لحروف الكلمات، وولي تلك الحكمة ومؤلفها، وهو لطف اللطيف، فهو يلاحظ بنور اللطف حكمة التأليف.(6/479)
وآخر أعلى منه؛ طالع ما في حشو كل حرف منه من قول: سبحان الله ما حشو السين، وما حشو الباء، وما حشو الحاء، وما حشو الألف، وما حشو النون.
ومن قول: الحمد لله ما حشو كل حرف منه، وما علة الألف واللام في قوله: الحمد؛ فإن نفس الكلمة حمد، والألف واللام ملحقتان، وما حشو حرف التهليل، وما حشو ((لا))، وما حشو ((إلا))، وما حشو ألوهة الله، وما حجز ما بين ((لا)) و ((إلا))، وإنما ((لا)) لام وألف، و ((إلا)) ألف ولام مضاعفة، فبلا نفى، وبإلا أثبت، فعين براقة بنور الله، مدركة لهذه الأحشاء والأشياء.
فالموحدون في هذه الكلمات على ثلاثة أصناف:
1 - صنف: هذه الكلمات تخرج من توحيده.
2 - وصنف آخر: تخرج هذه الكلمات من توحيده، مع علم نوراني مقربي.
3 - وصنف آخر: تخرج منه من توحيده، مع انكشاف الغطاء عن معادن الحروف، وملاحظة تلك الحروف في المعادن، وملاحظة حشو الحروف في المعادن، وذلك نور الفردية والقربة، والله أعلم.(6/480)
الأصل الثاني والثمانون والمئتان
1541 - حدثنا علي بن حجر السعدي، قال: أنا الوليد بن محمد الموقري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى في البيت كسرة ملقاة، فمشى إليها، فرفعها ومسحها، وقال: ((يا عائشة! أحسني مجاورة نعم الله، فقلما نفرت من قومٍ فكادت ترجع إليهم)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فرأس النعم: الدين، ونور التوحيد: معرفة بالقلب، وشهادة باللسان أن لا إله إلا الله، فرأس نعم الدنيا: هذا الجسد الذي هو قالب لهذه النعمة الفائقة للنعم، وإن الله تعالى أنعم عليك بنور التوحيد حتى عرفته، ثم وضع لك حول قلبك في صدرك بيدراً من الأنوار، يتربى فيها نور المعرفة،(6/481)
وأنعم عليك بهذا القالب المجسد، ووضع حوله بيدراً من نعم الدنيا، يتربى فيها هذا الجسد، وأمرت بحسن مجاورة نعم هذين.
فحسن المجاورة مع نور المعرفة: أن تنكر كل شيء سواه، وأن لا تؤثر عليه أحداً، وأن لا تقرن بمشيئاته مشيئات نفس، وأن لا يلهيك الهوى عن الوله إلى الله تعالى في كل حالاتك، وحسن مجاورة نعم الجسد: أن لا تستعمل جارحة من جوارحك إلا له، وبرضاه.(6/482)
الأصل الثالث والثمانون والمئتان
1542 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: أنا الحماني، قال: أنا حبان بن علي، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا طنت أذن أحدكم، فليصل علي)).(6/483)
1543 - أنا [أنا عمر بن أبي عمر، أنا] إبراهيم بن موسى الفراء، عن هشام ابن يوسف الصنعاني، عن عبيد الله ابن المغيرة، قال: كنا مع المغيرة بن حكيم، فضرب أذن رجلٍ من القوم، فقال المغيرة: إنه كان يقال: إذا ضرب أذن(6/484)
العبد، فإن الله يذكره، فليذكر الله، أو فليحسن ذكر الله.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالأرواح: حية ذات طهارة ونزاهة، ولها سمع وبصر، وبصرها متصل ببصر العين، ولها سطوع في الجو، وتجولٌ، فتجول ثم تصعد إلى الله إلى مقامها الذي منه بدت، فإذا تخلصت من أشغال النفس، أدركت من أمر الله سبحانه ما يعجز عنه البشر فهماً.
ألا ترى إلى قول سلمان للحارث: كيف أنت يا حارث؟ فقال: ومن أين عرفتني؟ قال: عرف روحي روحك، وكذلك قال أويس لهرم.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الأرواح لتتلاقى في الهواء، وأحدهما من صاحبه على مسيرة يومٍ وليلةٍ، وإن الأرواح خلقت قبل الأجساد بألفي عامٍ، فتشامت كما تشام الخيل، ثم هي جنودٌ مجندةٌ، فإذا التقوا، فما تعارف منها، ائتلف، وما تناكر منها، اختلف)).(6/485)
هذا كله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا أنها مشغولة بالنفس وشهواتها؛ لأوردت بالعجائب على صاحبها من درك الأشياء، ولكنها تدنست بما لبست من أثواب اللذات، وتكدرت بما شربت من كأس حب الدنيا، وخالطت الهوى، ومالت نحوه، فمن صفاه وأخلصه ونزهه، فقد ظفر بنور اليقين، وفاز بالحظ العظيم، وبالكأس الأوفى.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض، فقيل له: إلى أين يا رسول الله؟ قال: ((إلى سدرة المنتهى)).
فلكل رسول في السماء مستقرٌّ إذا قبض.
فلآدم السماء الدنيا، وليحيى وعيسى السماء الثانية، وليوسف السماء الثالثة، ولإدريس السماء الرابعة، ولهارون السماء الخامسة، ولموسى السماء السادسة، ولإبراهيم السماء السابعة، ولمحمد -صلى الله عليه وعليهم أجمعين- سدرة المنتهى بباب الله عز وجل عند الحجاب، فهو متشمر هناك، يسأل الله لأمته في كل يوم لكل صنف، فللمتهافتين التوبة، وللتائبين الثبات، وللمستقيمين الإخلاص، ولأهل الصدق الوفاء، وللصديقين وفارة الحظ.
ولذلك ما روي عن النبي عليه السلام: أنه قال: ((حياتي خيرٌ لكم، وموتي خيرٌ لكم)).