نوادر الأصول
في معرفة أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم
النسخة المسندة
تصنيف
الحكيم الترمذي
أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشر المؤذن
المتوفى في حدود سنة (285 هـ)
رحمه الله تعالى
تحقيق
توفيق محمد تكلة
دار النوادر
الطبعة الأولى
1431 هـ - 2010 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة والتوفيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمدٍ، وآله أجمعين.
أخبرنا الفقيه أبو هريرة عبد الرحمن بن عبد الملك القلانسي في شهور سنة سبعين وأربع مئة، قال: أنبأنا أبو الفضل عبد الصمد [بن] محمد ابن محمدٍ العاصم، قال: أنبأنا محمد بن محمد بن الحسن الكردي، عن محمد بن يعقوب بن أبي بكر القاضي، ويحيى بن زكريا، عن محمد بن علي ابن عبد الله الحكيم الترمذي.
وأخبرنا الفقيه عبد الرحمن هذا، قال: أنبأنا الشيخ أبو بكر بن القصير، عن أبي الحسن العامري، عن محمد بن محمد بن يعقوب، قال: أنبأنا محمد بن علي الحكيم الترمذي، قال:(1/5)
الأصل الأول
1 - حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله! ما نمت البارحة، قال صلى الله عليه وسلم: ((من أي شيءٍ؟))، قال: لدغتني عقربٌ، فقال: ((أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق، لم يضرك شيءٌ -إن شاء الله تعالى-)).
2 - حدثنا إبراهيم بن يوسف الحضرمي الكوفي،(1/7)
قال: ثنا الأشجعي عبيد الله بن عبد الرحمن، عن سفيان الثوري، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لدغت عقربٌ رجلاً، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: ((أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق، لم يضرك شيءٌ حتى تصبح)).
3 - حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ليث بن سعد، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن الحارث بن يعقوب، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن سعد بن أبي(1/8)
وقاص، عن خولة بنت حكيمٍ السلمية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق، لم يضره شيءٌ حتى يرتحل من منزله ذلك)).
4 - حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنسٍ، بلغه عن يعقوب بن عبد الله [بن] الأشج، عن بسر بن سعيد مولى الحضرميين، عن سعد بن أبي وقاص، عن خولة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(1/9)
5 - حدثنا علي بن حجرٍ، ثنا إسماعيل بن عياش، عن محمدٍ بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فزع أحدكم في النوم، فليقل: أعوذ بكلمة الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون؛ فإنها لن تضره))، فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده،(1/10)
ومن لم يبلغ، كتبها في صك، ثم علقها في عنقه.
6 - حدثنا عقبة بن قبيصة بن عقبة السوائي، قال: حدثني أبي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن المنهال بن عمروٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، يقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من شر كل شيطانٍ وهامةٍ، ومن كل عينٍ لامةٍ))، ويقول: ((كان أبي إبراهيم يعوذ بهن إسماعيل وإسحاق)).(1/11)
قال أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشيرٍ الحكيم الترمذي المؤذن:
فقوله: (كلمة الله التامة، وكلمات الله التامات)، يؤديان إلى معنى واحد، فمن قال: كلمة الله التامة، فإنما أراد به الجملة، ومن قال: كلمات الله التامة، فإنما أراد الكلمة الواحدة التي تفرقت في الأمور في الأوقات، فصارت كلماتٍ، ومرجعهن إلى كلمة واحدة، فكلمته التامة هي قوله: كن: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}، وقال: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}، وإنما قيل: تامة؛ لأن أقل الكلام عند أهل اللغة على ثلاثة أحرف:
1 - حرف يُبتدأ به.
2 - وحرف تحشى به الكلمة.
3 - وحرف يُسكت عليه.
فإذا كان على حرفين، فهو عندهم منقوص، وإنما نقصت الكلمة لعلة؛ مثل قوله: يدٌ، وغدٌ، ودمٌ، وفمٌ، هذه كلمات منقوصات؛ لأنها على حرفين، وكذلك (كن) هي من الآدميين من المنقوصات؛ لأنها على حرفين، ولأنها كلمة ملفوظة بالأدوات، ومن ربنا -تعالى اسمه- كلمة تامة؛ لأنها بغير الأدوات، ومنفي عنه شبه المخلوقين.(1/12)
وقال تعالى: {وتمت كلمة ربك}، ثم وصفها فقال: {صدقاً وعدلاً}؛ أي: قدساً واستواء.
وأصل الصدق: هو من القدس والطهارة، وما لا يشوبه شيء من غير جنسه، يقال: فالكلمة تامة طاهرة من الريب والشبه، مستوية من العدول هكذا وهكذا، فهو قوله: {صدقاً وعدلاً}، فالكلمة قوله: (كن)، ثم قال: {لا مبدل لكلماته}؛ أي: ليس لأحد أن يبدل كلمته إذا قال لشيء: (كن) حتى يعجزه ويرده، وإنما قال: (بكلماته)؛ لتفرق هذه الكلمة في الأمور كلها، وإذا قال لكل أمر ولكل شيء: (كن)، فهن كلمات، فلكل قضيةٌ وإرادة من ربنا، وكل أمر كلام بقول: (كن)، وهو:
ما روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن الله تعالى:
((إنما عطائي كلامٌ، وعذابي كلامٌ)).
7 - حدثنا بذلك صالح بن محمدٍ، أنبأنا عبد الحميد ابن بهرام الفزاري، عن شهر بن حوشبٍ، قال: حدثني ابن غنم، عن أبي ذر.(1/13)
فأما قوله: (كن)، فالكاف من كينونته، والنون من نوره، وهي كلمة تامة، بها أحدث الأشياء، وخلق الخلق، فإذا استعاذ العبد بتلك الكلمة، صارت له معاذاً، ووقي شر ما استعاذ بها منه؛ لأن العبد المؤمن لما عرف أن لا يكون شيء إلا ما جرى به القضاء والقدر، وإنما يقضي القضاء بقوله: (كن)، عظمت هذه الكلمة عنده، فصارت متعلق قلبه، فإنما تأخذه الرغبة في الأشياء، والرهبة من الأشياء، وقلبه نازع إلى مشيئته، وفؤاده مراقب لإرادته، وأذنه مصغية إلى كلمة: (كن)، وعينه شاخصة إلى تدبيره، فإذا قال: ((أعوذ بكلمة الله التامة من شر ما خلق))، وقي شر ما خلق، وصار في حصنه، وارتتع في عياذه آمناً مطمئناً.
هذا لمن قالها بيقظة، وعقل ما يقول، وهذا القول منه تحقيق الإيمان؛ لأنه آمن برب ٍ لا يملك أحدٌ سواه شيئاً، ولا شريك له في شيءٍ، وهذا لأهل اليقين الذين إذا قال أحدهم هذا القول استقر قلبه بعد القول على مقالته، واطمأنت نفسه، فأما أهل الغفلة، فإنهم يعاذون على أقدارهم بحرمة(1/14)
الكلمة، وهو مثل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
((إذا قال العبد: حسبي الله سبع مرات، قال الله تعالى: وعزتي! لأكفينه، صادقاً أو كاذباً)).
فإنما قال: ((صادقاً أو كاذباً))؛ لأن السابق المقرب، وهو الموقن إذا قال: حسبي الله، صدقه بفعله، فهو صادق؛ لأنه لا يتعلق بعد ذلك قلبه بالأسباب، وذلك مثل قول إبراهيم -صلوات الله عليه- حين وضع في المنجنيق من الجبل ليرمى به في النار، وعري من الكسوة، وكتف بالوثاق، فقال: ((حسبي الله))، فعارضه جبريل عليه السلام في الهواء امتحاناً وابتلاءً، فقال: هل من حاجة يا إبراهيم؟ وهو يهوي في الجو، فقال إبراهيم: ((أما إليك، فلا)).
وقد بكت السماوات والملائكة وخزان القطر لما حل به، وجأرت إلى الله عز وجل، فأمر الله تعالى بنصرته من حين استغاث به عبده، فلم يلتفت إلى أحدٍ من خلقه، ولا إلى جبريل عليه السلام مستغيثاً حتى تفرد الله عز وجل بنصرته، فقال: {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم}.(1/15)
وإنما عارضه جبريل في الهواء بما عارضه؛ ليبرز صدق مقالة إبراهيم في قوله: ((حسبي الله)) عن مكنون قلبه، وليعلم الصادقون من بعده غاية الصدق في المقالات، فاتخذه خليلاً فأشاد، ونوه باسمه في العالمين، وهو أول من يكسى يوم القيامة؛ لأنه عري في دار الدنيا في ذات الله تعالى، فبدئ به من بين الأنبياء والرسل -عليهم السلام-، فهكذا يكون قول أهل اليقين في ((حسبي الله)).
والمخلط كذبه بفعله؛ حيث تعلق بالأسباب وبالمخلوقين حتى صاروا فتنةً عليه، فقوله: ((حسبي الله))؛ قول الموحدين، قول أهل الإيمان، لأن قول المحققين قول أهل النزاهة واليقين.
فكذلك قوله: ((أعوذ بكلمة الله التامة)).
فالمقرب عينه وأذنه إلى تدبيره وقضائه في قوله: (كن).
والمخلط عينه وأذنه على الأسباب والحيل، والحرز والحصون والوقايات، فيعاذ على قدره؛ لحرمة قوله، واعترافه بأنها كلمة إيمان.
فالاستعاذة بالله تعلقٌ به محضاً، والاستعاذة بكلمته تعلقٌ بتدبيره؛(1/16)
لأنه كذا دبر أن تكون الأشياء بالكلمة. وقال في تنزيله: {وإنما ينزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ}، وقال: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين}.
فهما يدلان على أن ما كان من أمر الباطن، فالاستعاذة به، وما كان من أمر الظاهر، فالاستعاذة بكلمته؛ لأن ما هو في الظاهر هو بقوله: (كن)، وما في الباطن صنعه.
وقال: {قل أعوذ برب الناس}، ثم قال: {ملك الناس}، ثم قال: {إله الناس}، فأمره أن يستعيذ بثلاثة من أسمائه {من شر الوسواس}، وهو باطن.
فقوله: {برب}؛ أي: مالك، يقال في اللغة: ربني فلانٌ يربني، فهو رابٌ؛ أي: ملكني يملكني، فهو مالك، ثم قالوا: ربٌ، فحذفوا الألف، كما قالوا: بارٌ، ثم قالوا: برٌ.
فقوله: رب، يؤدي إلى الملِك، وملِك يؤدي إلى المُلك، وإله يؤدي إلى وله القلوب به، فالوسواس آفةٌ على القلب، فأمره أن يستعيذ بمالك وملك وإله؛ لأن المالك: الذي أحاط بهم، فملكهم، والملك: الذي نفذ أمره فيهم، والإله: الذي أوله القلوب إلى نفسه.
{من شر الوسواس الخناس} وسوس عند الغفلة، وخنس عند الذكر، فاشتق له اسمان من فعليه.
ثم بين أين موضعه من الجسد، فقال: {الذي يوسوس في صدور الناس}، فالصدر: ساحة القلب، وفيه الفكر، ومنه تصدر الأمور.(1/17)
ثم بين أن الوسوسة جنسان، فقال: {من الجِنَّةِ والناس}: وسوسة جنية، وهي الشيطان، ووسوسة إنسية، وهي النفس.
وكذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: ((هما وسواسان)).
8 - حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي، ثنا محمد ابن أعين خادم عبد الله، ثنا عبد الله بن المبارك، ثنا عثمان ابن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وإنما قيل: وسوس؛ لأنه يزعج.
وقوله: أزّ؛ أي: أزعج يزعج، وقال في تنزيله: {تؤزهم أزاً}، والهاء والهمزة والواو أخوات، تجزئ الواحدة عن صاحبتها، فقوله: أز وهز ووز بمعنى واحد، إلا أن كل واحدة تستعمل في نوع.
والزاي والسين أختان، تجزئ إحداهما عن الأخرى، كما قالوا: سقر، وصقر، وزقر.
فقوله: وز، وقوله: وس يوس بمعنى واحد.
وقوله: وسوس في قالب العربية: فَعْ فَعَ؛ لأنه في الأصل وَس، ثم(1/18)
كرر فقيل: وسوس؛ لأن فعله على القلب مرددٌ مكررٌ، فأمره أن يستعيذ بالأسماء الثلاثة الذي ملك القلوب، ونفذ أمره فيها، وولهت إليه من شر ما يعمل على القلب.
ثم قال: {أعوذ برب الفلق}، فكل ما انفلق شيء عن شيء، فهو فلق.
قال أهل التفسير: الفلق: وادٍ في جهنم إذا فتح وانفلق، هر أهل النار من شدة حره.
وقال بعضهم: الفلق: الصبح؛ لأنه انفلق عن الليل، وهو قوله: {فالق الإصباح}.
وقال: {فالق الحب والنوى}، فالحبة تنفلق فتنبت، والنوى كذلك أيضاً، وليس هذا منهم اختلاف؛ لأن الكلمة تؤدي إلى كل شيء انفلق.
وأعظم فلق في الدنيا فلق قلب المؤمن بنور الله تعالى، فقال: {قل أعوذ برب الفلق}، وهو فعل القلب إذا انفلق بنوره.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((للقلب أذنان وعينان، فإذا أراد الله تعالى بعبدٍ خيراً، فتح عينيه اللتين في القلب)).
{من شر ما خلق}، وهو ظلمة الكفر، {ومن شر غاسقٍ إذا وقب}، والغسق: الظلمة، وهي ظلمة المعاصي، وقوله: {وقب}؛ أي: دخل.(1/19)
{ومن شر النفاثات في العقد}، وهو السحر، يعقد الساحر الذي قد باع آخرته، واشترى بها دنياه، فأعطي ما تمنى واختار، وربنا واسعٌ كريم، طلب آدم التوبة والطاعة، فأعطي، وطلب إبليس تضليل ولد آدم وغوايتهم، وأن يعطى سلطان ذلك له، فأعطي، وطلب الساحر منى الدنيا، وأن يعطى كل شيء يتمناه من الدنيا برفض الآخرة، وأن لا خلاق له فيها، فأعطي، فهو يعقد خيطاً أو وتراً على منيته، وينفث فيه من نفسه الخبيثة، ونفسه الرجس، فيصل ضرره إلى من يتمنى ذلك عليه، {وما هم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله}.
فأمره أن يستعيذ برب الفلق الذي فلق قلبه بنوره، من شر الذي نفث في العقد؛ ليأخذ بقلبه عن الذي فلق قلبه عن طاعته إلى هواه.
ولما سُحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عجز عن نسائه، وأخذ بقلبه، لبث في ذلك ستة أشهر فيما روي في الخبر، ثم نزلت المعوذتان إحدى عشرة آية، فاستخرج الوتر فيه العقد من ذلك البئر، فكان كلما قرأ آية من المعوذتين، انحلت عقدة حتى حل العقد كلها وبرئ.
{ومن شر حاسدٍ إذا حسد}، وهو العين، والحاسد والحاصد بمعنىً واحد، فهو يحصده بعينه أي: يقطعه من الأصل هلاكاً ودماراً، وهو أن يعجب بالشيء، فلا يذكر خالقه، فإذا هو قد حصده ودمره.
والحسد: إرادتك التي تريد بها إبطال ذلك الشيء.(1/20)
فنوره فلق الظلمات، وهو في دعوة إدريس صلى الله عليه وسلم: ((أنت الذي فلق الظلمات بنوره، فإذا أورد على القلب نوره، فلق الظلمات)).
فجميع ما ذكر في التنزيل من الاستعاذة به وجدناه يؤول إلى الباطن من الأمور.
وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أمرني جبريل عليه السلام أن أكررهن في السجود: أعوذ بعفوك من عقابك)).
فاستعاذ بالعفو من العقاب؛ لأنه ضده.
((وأعوذ برضاك من سخطك))، فالرضا ضد السخط.
ثم قال: ((وأعوذ بك منك))، فاستعاذ به منه؛ لأنه لا ضد له، وهو كقوله: ((لا مفر منك إلا إليك)).
وهو قوله تعالى: {ففروا إلى الله}؛ أي: فروا منه إليه.(1/21)
الأصل الثاني
9 - حدثنا إبراهيم بن يوسف الحضرمي، ثنا عمران ابن عيينة، عن عبد العزيز بن أبي [روادٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: ((لا يجلس الرجل إلى الرجلين إلا على إذنٍ منهما إذا كانا يتناجيان)).
10 - حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، ثنا أبو بكر(1/23)
الحنفي، ثنا عبد الله العمري، عن نافعٍ وسعيدٍ المقبري، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: فالنجوى: هو الحديث الخاص فيما بينهم، وإن كثر عددهم.
وروي عن النضر فيما يحكي عن أهل اللغة: أن النجوى إذا كانت جماعة، ولم يكن فيهم غريب، فحديثهم نجوى، وإن جهروا فيما بينهم، وإذا كانوا ثلاثة، وفيهم غريب، فليس حديثهم بنجوى، وإن أسروه.
(فنظرت أين أجد في التنزيل ما يصدق ما حكاه النضر عن أهل اللغة فإذا هو قوله تعالى: {فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً}، فذكر أن الإخوة خلصوا من الناس حتى لا يكون فيهم غريب، ثم سمى حديثهم فيما بينهم: نجوى)، فأهل النجوى إذا اجتمعوا نجياًّ، فكأنهم في ستر، أو وطن، فكما يجب الاستئذان في الدخول عليهم في أوطانهم، فكذلك(1/24)
يجب الاستئذان في الجلوس إليهم، فإن ذلك أذىً لهم، وقطعٌ عليهم، وهتكٌ لسترهم، وهذا كله لعظيم حرمة المؤمن وتجنب أذاه، وإذا كان وحده، ففيه سعة؛ لأنه ليس هناك سرٌّ يطلع عليه، لكن في حد الورع: حق على الورع أن يتحين الوقت والحال، وأن يتجنب التثقيل.
فإنه روي عن إبراهيم النخعي: أنه قال: ((من أمن الثقل، ثقل)).
11 - حدثنا بذلك الجارود، ثنا سليمان بن عمروٍ النخعي، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: ((من أمن الثقل، ثقل)).
12 - حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا يونس بن بكير، ثنا أبو حنيفة، عن حماد، قال: ((من خاف أن يكون ثقيلاً، فليس بثقيلٍ)).
13 - حدثنا عمر بن أبي عمر، ثنا الحسن بن ثابت، عن جرير، عن مغيرة، قال: نهانا الله عن التثقيل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم تلا قوله تعالى: {فإذا طعمتم فانتشروا ولا(1/25)
مستئنسين لحديثٍ إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق}.
فقد بين أن في الثقيل أذى، فيحق على أهل الورع أن يتفقدوا هذا من أنفسهم.
وكانت قصة هذه الآية نزلت في بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أحسبها زينب -رضي الله عنها-، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأولم عليها، فلما أطعمهم، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلو بأهله، فقعدوا بعد الطعام يتحدثون في بيته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مرة يخرج، ومرة يدخل، وهم في البيت قعود لا يبرحون، فنزلت هذه الآية.
14 - حدثنا عمر، ثنا إبراهيم بن موسى، عن أبي بشر بن المفضل، ثنا محمدٌ أبو سهل محمد بن شهاب صاحب الساج، عن إبراهيم بن أبي بكر، قال: كان أبو(1/26)
هريرة رضي الله عنه إذا استثقل رجلاً، قال: ((اللهم اغفر لنا وله، وأرحنا منه)).
15 - حدثنا محمد بن حربٍ المروزي، قال: حدثني حفص بن حميد، عن عبد الله بن المبارك، قال: أخبرني حاتم بن عبد الله الأشجعي، قال: انتهيت مع سفيان الثوري إلى أبي عصمة اليمامي، فإذا هو جالس في تراب له، قال: فدنونا منه نسلم عليه، فقال له سفيان: (رحمك الله، تأذن فنجلس إليك؟ قال: لا، فرجعنا، فقال سفيان): إن الرجل ليس في كل حالاته يحب أن يجلس إليه.
قال حفص: ثم رأيت حاتماً الأجشعي في عقد محفوظ، فسألته يحدثني به.(1/27)
قال حفص: ثم رأيت عبد الله في جنازة أبي عصمة، والدموع على خديه، فقال: يا حبذا تلك الخلوة؛ أن يخلو الرجل بنفسه، فيذكر إخوانه، فيقول: أين فلان، أين فلان، أين أبو عصمة؟(1/28)
الأصل الثالث
16 - حدثنا عمر بن أبي عمر، ثنا عتبة بن سعيد بن رخصٍ الحمصي، عن إسماعيل بن عياش، ثنا أبو بكرٍ الهذلي، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بوصية قصيرة فألزمها، قال: ((لا تغضب يا معاوية بن حيدة؛ إن الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل)).
قال أبو عبد الله: فالإيمان حلوٌ نزهٌ، والغضب مرٌ دنسٌ.(1/29)
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الغضب ميسمٌ من نار جهنم على نياط قلب ابن آدم)).
17 - حدثنا بذلك صالح بن محمدٍ، ثنا يحيى بن واضح، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمروٍ، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الغضب ميسمٌ من نار جهنم يضعه الله تعالى على نياط أحدهم، ألا ترى أنه إذا غضب، احمرت عيناه، واربد وجهه، وانتفخت أوداجه؟)).
قال: وفي حديث آخر: ((إن الغضب جمرةٌ توقد في قلب ابن آدم، ألا ترى إلى انتفاخ أوداجه، وحمرة عينيه؟ وذلك أن الشيطان ينفخ في تلك الجمرة)).
فشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بالعسل والصبر، فكما يفسد الصبر العسل،(1/30)
فكذلك هذا الغضب يدنس الإيمان، ومرارته تفسد حلاوته ونزاهته.
وروي عن عيسى -صلوات الله عليه-: أنه سأله يحيى بن زكريا -صلوات الله عليهما- عن الغضب، ما بدؤه؟ قال: الكبر، ألا ترى أنك تغضب على من هو دونك، ولا تغضب على من هو فوقك بمثله؟ فالكبرياء لله، من نازعه فيه، فقد نازعه رداءه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ))، فقيل: ما الكبر يا رسول الله؟ قال: ((أن تسفه الحق، وتغمص الناس))؛ أي: تحقرهم.
18 - حدثنا إبراهيم بن هارون البلخي، ثنا زكريا ابن حازم الشيباني، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((يقول الله تعالى: لي العظمة والكبرياء والفخر، والقدر سري، فمن نازعني في واحدةٍ منهن، كببته في النار)).(1/31)
والإيمان: هو خضوع العبد لربه، وإلقاؤه بين يديه له سلماً، والكبر ضده، الغضب منه يبدو، وينزغ الشيطان بنفثه ونفخه حتى يتوقد ويهتاج، فلذلك قال: يفسد الإيمان، فيكدره، ويمرره.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إني لأعلم كلمةً لو قالها، لذهب عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، وذلك عندما رأى رجلاً يتمزع من الغضب، وهو قوله: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله}.
وإنما وضع هذا الميسم من النار في هذا الموضع من الآدمي؛ لكي يغضب لله تعالى في المواضع التي ينبغي، فإن في الغضب قوة للآدمي على أمر الله تعالى، وهو محتاج إلى أن يعادي أعداءه ويحاربهم، فبالغضب يتقوى حتى يحاربهم، وبالغضب يقدر يغير المنكر، ويقيم حقوق الله عز وجل وحدوده، فللحق نفخةٌ في تلك الجمرة التي هي ميسمٌ، وللشيطان نفخةٌ في وقته، فنفخة الشيطان لها زهومةٌ ورجاسة، فلذلك يفسد الإيمان ونزاهته وطهارته وطيبه، وإذا كانت نفخة الحق، فإنه يتقوى، ويحمر وجهه، ويمتلئ من نور الحق، ولا يفسد الإيمان، ولا يذهب بطهارته وطيبه، فالنفس طيبةٌ، والقلب قويٌ ذو سلطان، والأركان عاملة، والأمر مستمرٌ.(1/32)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب، غضب لله، ولا يغضب لنفسه، ولا لدنياه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب، رئي العرق بين عينيه، فيندر من الغضب، وظهر نتوؤه وانتفاخه، وتحمر وجنتاه.
وكان موسى -صلوات الله وسلامه عليه- إذا غضب، اشتعلت قلنسوته ناراً.(1/33)
الأصل الرابع
19 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي، ثنا فضيل ابن سليمان، ثنا موسى بن عقبة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا انتعل أحدكم، فليبدأ باليمين، فإذا نزع، فليبدأ بالشمال، وليكن اليمين أولهما يلبس، وآخرهما ينزع)).
20 - حدثنا قتيبة، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله سواء.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فاليمين محبوب الله ومختاره من الأشياء، فأهل الجنة عن يمين العرش يوم القيامة، وأهل السعادة يعطون كتبهم بأيمانهم، وكفة(1/35)
الحسنات من الميزان عن اليمين، والكرام الكاتبون، وكاتب الحسنات منهم عن اليمين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوخى في كل فعل من مثل هذا اليمين توخياً لمختار الله.
وكان إذا شرب، أعطى الأيمن فالأيمن جرعته، حتى إنه شرب يوماً وأبو بكرٍ عن يساره، وغلامٌ أعرابيٌ عن يمينه، فقال للغلام: ((أتأذن لي فأعطي الأشياخ؟))، فقال: ما كنت لأوثر بفضلك على نفسي أحداً، فأعطاه الغلام.
وكان يبدأ باليمين إذا دخل المسجد، وإذا خرج، أو نزع نعله، بدأ باليسرى؛ كي يكون اليمين آخر العهد بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فإذا انتعل، أو دخل المسجد، فالحق لليمين، فأقام له حقه؛ لأن الله تعالى اختاره وفضله، ثم إذا خرج أو نزع، بقي ذلك الحق له، فجعله في آخر الأمور؛ كي يبقى له ذلك الخير أكثر مما كان لليسار؛ ليكون فضله على اليسار في كل وقت قائماً؛ في وقت ابتداء الخير، والانصراف عن الخير وقطعه؛ لأنه إذا دخل المسجد، فهو في رحمة الله تعالى وخير، فقدم اليمنى إلى تلك الرحمة، وإذا خرج، أخرها؛ ليكون بقاؤها في(1/36)
الرحمة أكثر، وقدم اليسرى، وإذا انتعل، فهو رفق للقدم، فقدم اليمنى في الرفق، وإذا نزع، قدم اليسرى؛ ليكون ذلك الرفق باقياً على اليمنى، وإن قلت المدة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل تدبير الله تعالى، ويتفقده.
فروي عنه: ((أنه كان يحب التيمن في كل شيءٍ، حتى في ترجله وتنعله وطهوره)).
21 - حدثنا بذلك محمد بن بشار الهجري، ثنا يحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن أشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروقٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
22 - وحدثنا صالح بن عبد الله، ثنا أبو الأحوص، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه، عن مسروقٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/37)
((أنه كان يتيمن ما استطاع في طهوره إذا تطهر، وفي لباسه إذا لبس، وفي ترجله إذا ترجل، وفي تنعله إذا تنعل)).
23 - حدثنا سفيان بن وكيع، ثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة، ونحر نسكه، ناول رأسه الحلاق، فقال: ((ابدأ بالشق الأيمن))، فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، ثم ناوله الأيسر فحلقه، فقال: ((أعطه الناس)).
24 - حدثنا قتيبة، عن مالكٍ بن أنسٍ، عن ابن شهابٍ، عن أنس بن مالكٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبنٍ قد(1/38)
شيب بماء، وعن يمينه أعرابيٌ، وعن يساره أبو بكر، فشرب، ثم أعطى الأعرابي، فقال: ((الأيمن فالأيمن)).
25 - حدثنا قتيبة، عن مالكٍ، عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعدٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
26 - حدثنا قتيبة، عن مالكٍ، عن ابن شهابٍ، عن أبي بكر بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا أكل أحدكم، فليأكل بيمينه، وإذا شرب، فليشرب بيمينه)).(1/39)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
وإنما ذكر الله عز وجل من شأن اليمين ما أعلم العباد مختاره وفضيلته.
27 - حدثنا عبد الجبار، ثنا سفيان، ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((يمين الله ملأى سحاء، لا يغيضها شيءٌ بالليل والنهار)).
28 - حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنسٍ، عن زيد بن أبي أنيسة: أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن(1/40)
زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسارٍ الجهني، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى خلق آدم، فمسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريةً، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيساره فاستخرج منه ذريةً، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)).
29 - حدثنا صالح بن عبد الله، ثنا درست بن زيادٍ، ثنا جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلق الله الخلق، وقضى القضية، وكان عرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين باليمين، وأخذ أهل الشمال بالشمال)).(1/41)
30 - حدثنا الحسن بن مطيع، ثنا عبد الله بن بكرٍ السهمي، ثنا بشر بن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((خلق الله الخلق، وقضى القضية، وأخذ ميثاق النبيين، وعرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه، وأخذ أهل الشمال بشماله، وكلتا يدي الرحمن يمينٌ، ثم قال: يا أصحاب اليمين! قالوا: لبيك ربنا وسعديك، قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم قال:(1/42)
يا أصحاب الشمال! قالوا: لبيك وسعديك، قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فخلط بعضهم ببعضٍ، فقال قائلٌ منهم: رب! لم خلطت بيننا، فقال: {ولهم أعمالٌ من دون ذلك هم لها عاملون}، فقال قائلٌ: فما الأعمال؟ فقال: يعمل كل قومٍ لمنزلتهم)) فقال عمر رضي الله عنه: إذاً نجتهد.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمال: أهي شيء مؤتنفٌ، أم فرغ منها؟ فقال: ((بل قد فرغ منها)).
31 - حدثنا عبد الرحيم بن حبيبٍ، ثنا بقية بن الوليد، ثنا مبشر بن عبيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما(1/43)
خلق الله آدم عليه السلام، ضرب بيده على شق آدم الأيمن، فأخرج ذرواً كالذر، ثم قال: يا آدم! هؤلاء ذريتك من أهل الجنة، ثم ضرب بيده على شق آدم الأيسر، فأخرج ذرواً كالحمم، ثم قال: هؤلاء ذريتك من أهل النار)).
وقال في تنزيله: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطوياتٌ بيمينه}.
وجاء في الخبر: أن الجنة يؤتى بها، فتوضع عن يمين العرش يوم القيامة، والنار عن يسار العرش، ويؤتى بالميزان، فينصب بين يدي الله عز وجل، وكفة الحسنات عن يمين العرش مقابل الجنة، وكفة السيئات عن يسار العرش مقابل النار.
فقال: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين. في سدرٍ مخضودٍ. وطلحٍ منضودٍ. وظلٍ ممدودٍ}، فوصفهم أين هم، ثم قال: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال. في سمومٍ وحميمٍ}، فوصفهم أين هم،(1/44)
فوجدنا لليمين ذكراً بالفضيلة عنده، وعنده في خلقه ذكراً بالغاً متقدماً من أجل ذلك أيضاً، فيما نرى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى، ثم إذا أراد التنفل بعد ذلك، تياسر، وإذا صلى إلى خشبة، تياسر عنها، فهذا داخل في الباب.
32 - حدثنا بذلك عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث العنبري، ثنا أبي، ثنا بكر بن كليبٍ، حدثني جعفر بن كثير من آل أبي طالب، وهو يومئذٍ ابن ثمانين سنة، قال: حدثني أبي: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفريضة، تياسر، فصلى ما بدا له، ويأمر أصحابه أن يتياسروا، ولا يتيامنوا)).
33 - حدثنا عمر بن أبي عمر، ثنا الربيع بن روح الحمصي، عن بقية، عن الوليد بن كاملٍ، عن حجر، أو(1/45)
ابن حجر المهلب، قال: حدثتني ضبيعة بنت المقداد بن معدي كرب، عن أبيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفريضة إلى عمودٍ، أو خشبةٍ، أو شبه ذلك، لم يجعله نصب عينيه، ولكن يجعله على حاجبه الأيسر.
قال: كأنه يدل بهذين الفعلين من هذين الحديثين، على أنه يتوخى اليمين؛ فإن العبد إذا قام، فإنما هو قبالة الله عز وجل، بذلك جاءت الأخبار(1/46)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واليمين دليل اسمه على معناه، فالأمن والإيمان واليمين كله موجود في هذا الاسم.
ووجه آخر: أنه كان يتياسر بصلاة التطوع عن موضعه الذي أدى فيه الفريضة، كأنه يحب أن لا يقدم على الفريضة شيئاً في شأن المقام؛ لأن الانصراف إلى اليمين موضع أفضل من اليسار.
ومما يحقق ذلك:
34 - ما حدثنا به سهل بن العباس، ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميعٍ، عن أبي صالحٍ الحنفي، قال: كان عليٌ يسلم تسليمتي الصلاة إحداهما أخفض من الأخرى.
قال أبو معاوية: حدثني علي بن مسهرٍ، عن إسماعيل ابن سميعٍ، قال: قلت لأبي صالح: أيهما أخفض؟ قال: اليسرى.(1/47)
وإنما توخى بهذا عندنا: أن يكون فرقاً بين التسليمتين بالخفض ورفع الصوت؛ ليؤدي حق كاتب الحسنات بتلك التسليمة برفع الصوت، وكذلك حق من عن يمينه؛ ليؤديه برفع ذلك الصوت، ويخفض اليسرى؛ ليبين فضل اليمنى على اليسرى، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/48)
الأصل الخامس
35 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي، ثنا عثمان بن عثمان الغطفاني، قال: حدثني عمر بن نافعٍ، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع)).
والقزع: أن يحلق رأس الصبي، ويترك بعضه.
36 - حدثنا سفيان، ثنا عبدة، عن عبيد الله، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع)).(1/49)
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالقزع: أن يحلق وسط رأس الصبي، ويترك ما حوله، وكان هذا فعل القسيسين، وهم ضرب من النصارى، وهم الذين ذكروا في التنزيل، فقال الله تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون}.
فالتقسس: فعلٌ نسب إليه، والرهبنة كذلك أيضاً فعلٌ نسب إليها، والقس واحدٌ، وهو على قالب فعل، والقسيس واحدٌ، وهو على قالب فعيل، والجمع قسيسون، وإنما هو قاسٌّ، فحذفت الألف فقيل: قسٌّ، كما تقول: بارٌّ، وبرٌّ، ورابٌّ، وربٌّ، والسين والصاد بمعنى واحد، فإنما هو قاسٌّ وقاصٌّ؛ أي: يقتس ويقتص أثر الرسول الذي دعي على لسانه، وهم الصديقون، وإنما هو قاسٌّ؛ كقولك: صادقٌ، وقسيسٌ؛ كقولك صديقٌ، والجمع قسيسون؛ كقولك: صديقون.
ومما يحقق ذلك:
37 - ما حدثنا به أبي رحمه الله، حدثنا الحماني، ثنا نصير ابن زيادٍ الطائي، عن صلتٍ الدهان، عن حامية بن رئابٍ، قال: سمعت سلمان، وسئل عن قوله تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً}، قال: هم الرهبان(1/50)
الذين في الصوامع، قال سلمان رضي الله عنه: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً}، فأقرأني: {ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً}.
يدل على أن هذه قراءة كانت يقرأ بها؛ ليعلم أن القسيس والصديق بمعنى واحد، وأن القسيس هو الذي يقص أثر الرسول بما جاء به على الصدق والوفاء في جميع أموره ديناً ودنيا، فلذلك جاءت القراءتان جميعاً تجزئ إحداهما عن الأخرى، وكان ذلك لغة في بني إسرائيل، وفي لغة العرب بني إسماعيل: صديق.
وأما حلق أوساط الرؤوس، فذلك علامة لهم، وهو فعلٌ مذموم أحدثوه فيما بينهم، وهو ضرب منهم.
38 - حدثنا بذلك عبد الكريم بن عبد الله، ثنا علي بن(1/51)
الحسن، ثنا عبد الله، ثنا يونس بن يزيد، عن ابن شهابٍ، عن سعيد بن المسيب: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما بعث الجنود نحو الشام يريد يزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، فقال: أوصيكم بتقوى الله، وأمرهم بأمور، فكان فيما قال: إنكم ستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون آخرين اتخذ الشيطان في أوساط رؤوسهم أفحاصاً، فإذا وجدتم أولئك، فاضربوا أعناقهم.
قال: فالذين تركوا الدنيا، وحبسوا أنفسهم في الصوامع، واعتزلوا، أمر بترك التعرض لهم، فلم يطالبوا بجزية؛ لأنهم تركوا، فتركوا؛ فالذين خرجوا من الصوامع، فلم يصبروا على العزلة، وفحصوا عن أوساط رؤوسهم، فقد(1/52)
أخبر أبو بكر رضي الله عنه: أن الشيطان دلهم على ذلك، وأنها ضلالة، وأنهم صيروا ذلك الحلق علامة لأنفسهم، وإظهاراً لما هم عليه، كأنه يدل على أن ذلك الصنف منهم بمنزلة من تزهد في هذا العصر، وهو غير صادق في ذلك، يريد تأكل الدنيا، فأول ما قصد في زهده لبس الصوف والخلقان، وحف الشارب، وتشمير الثياب، والعمة المطوقة تحت الحنك، والاستقصاء في الكحل إلى اللحاظ، فهذه كلها علائم هذه الطبقة الكاذبة المتزهدة المتأكلة حطام الدنيا بما أظهروا من زيهم وشكلهم وتماوتهم، وخشوع نفاقهم.
فكذلك أولئك كانوا غير صادقين في عزلتهم في الصوامع، فلم يصبروا عليها، فخرجوا، وقد حلقوا أوساط رؤوسهم ترائياً وتشهيراً لأمرهم، فأمر أبو بكر رضي الله عنه بضرب أعناقهم؛ لأنهم -مع كفرهم- لغير الله عملوا في دينهم، وهم نصارى، والذين ترهبوا وحبسوا أنفسهم تركوا وما حبسوا له أنفسهم؛ لأنهم صادقون في سبيلهم، وإن كانوا في ضلالة، قال الله تعالى: {ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله}، ثم ذمهم فقال: {فما رعوها حق رعايتها}.
فإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الصبي أن يحلق وسط رأسه للتشبيه بهؤلاء الذين وصفناهم عندنا، والله سبحانه أعلم.
وأما قصة هؤلاء الرهبانية الذين ذم الله سبحانه شأنهم:
39 - فحدثنا عمر بن أبي عمر، قال: ثنا إبراهيم ابن أبي الليث ببغداد، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفيان(1/53)
الثوري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله}: فكانت ملوكٌ بعد عيسى بن مريم -صلوات الله عليه- بدلوا التوراة والإنجيل، فقال ناس لملوكهم: ما نجد شتماً أشد مما يشتمونا به أنهم يقرؤون: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}، {فأولئك هم الفاسقون}. مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعهم فليقرؤوا بما نقرأ به، وليؤمنوا بما آمنا به، قال: فدعاهم فجمعهم، فعرض عليهم القتل، أو أن يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها، فقالوا:
وما تصنعون بقتلنا؟ دعونا، وابنوا لنا أساطيناً ادفعونا فيها، واتركوا لنا شيئاً يدلى فيه طعامنا، ولا نؤذيكم.(1/54)
وقالت طائفة أخرى منهم: دعونا نهيم في الأرض، ونسيح ونأكل مما تأكل منه الوحوش، ونشرب مما تشرب منه الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم، فاقتلونا.
وقالت طائفة أخرى منهم: ابنوا لنا ديوراً في الفيافي، فنحتفر الآبار، ونحرث البقول، فلا نؤذيكم، ولا نمر بكم، وليس أحد في القبائل إلا له حميم فيهم، ففعلوا ذلك.
قال: فقوله: {ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها}.
قال آخرون ممن تعبد من أهل الشرك، وبقي من بقي منهم، قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونتخذ ديراً كما اتخذ فلان، ونسيح كما ساح فلان، وهم في شركهم، لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، وقد فني من فني منهم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منهم إلا قليل، انحط صاحب الصومعة عن صومعته، وصاحب الدير عن ديره، وصاحب السياحة عن سياحته، فآمنوا به، وصدقوه.(1/55)
قال تعالى: {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثيرٌ منهم فاسقون}، فقال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} أي: أجرين: أجرٌ بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل، (وأجرٌ بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم، {ويجعل لكم نوراً تمشون به}، قال: القرآن؛ {لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيءٍ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء}.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فعلى هذا المثال عاملت متزهدة زماننا، سمعت: أنه مضى في السلف الصالح من الصحابة والتابعين قوم اكتفوا بالدون من الحال، فلبسوا الصوف والخلقان، وأكلوا النخالة، وامتنعوا من الشهوات، وشمروا الثياب، وامتنعوا من المخالطة؛ صدقاً وتورعاً واحتياطاً لدينهم، كل ذلك خوفاً من الله سبحانه وتعالى أن يقدموا عليه متدنسين بحطام الدنيا، مفتونين فيها، وإنما فعل القوم ذلك -لضعف يقينهم- بمنزلة من امتنع من دخول البحر(1/56)
مخافة الغرق؛ لعجزه عن السباحة، ولم يكتب الله هذا عليهم، بل أحل لهم الطيبات والزينة، ووسع عليهم، فابتدعوا تركها رهبةً من الله عز وجل، وكانوا فيها صادقين، فلم يعابوا، ولم يذموا؛ لأنهم رعوا ما ابتدعوا حتى خرجوا من الدنيا مع صدق ما ابتدعوا ابتغاء رضوان الله، فخلفهم من بعدهم خلفٌ اتبعوهم فيما ابتدعوا، وهم غير صادقين فيها، فأقبلوا على لبس الصوف والخلقان، وأكل النخالة والخبز المتكرج، يريدون بذلك إظهار الزهد، وقلوبهم مشحونة بشهوات الدنيا تأكلا دنياهم بدينهم، فما رعوها حق رعايتها كما فعل أصحاب الصوامع والديور، واتبعوا القوم في فعلهم، وأس أمرهم على الضلالة.
40 - حدثنا يعقوب بن شيبة، قال: نا عبد الرحمن [بن المبارك العيشي: ثنا الصعق بن حزن: أخبرني عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق الهمداني]، عن سويد بن غفلة، عن عبد الله ابن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن مسعودٍ!))، قلت: لبيك يا رسول الله -ثلاث مرات-، قال: ((هل تدري أي عرا الإيمان أوثق؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أوثق عرا الإيمان: الولاية في الله، والحب فيه، والبغض فيه، يا عبد الله بن مسعودٍ!))، قلت: لبيك يا رسول الله -ثلاث مرات-، قال: ((هل تدري أي الناس(1/57)
أفضل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا تفقهوا في دينهم، يا عبد الله بن مسعودٍ!)) قلت: لبيك يا رسول الله -ثلاث مرات-، قال: ((هل تدري أي الناس أعلم؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصراً في العمل، وإن كان يزحف على استه.
واختلف من كان قبلنا على اثنين وسبعين فرقةً، نجا منهم ثلاثٌ، وهلك سائرها: فرقةٌ أزت الملوك وقاتلتهم على دين الله، ودين عيسى بن مريم حتى قتلوا، وفرقةٌ لم يكن لهم بموازاة الملوك طاقةٌ، فأقاموا بين ظهراني) قومهم، فدعوهم إلى دين الله، ودين عيسى بن مريم، فأخذتهم الملوك فقتلتهم وقطعتهم بالمناشير، وفرقةٌ لم يكن لهم طاقةٌ بموازاة الملوك، ولا أن يقيموا بين ظهراني قومهم، يدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم، فساحوا في الجبال، وترهبوا فيها، فهم الذين قال الله -تبارك وتعالى-:(1/58)
{ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثيرٌ منهم فاسقون}، فالمؤمنون: الذين آمنوا بي وصدقوني، والفاسقون: الذين كذبوني وجحدوني)).
41 - حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر الثوري، قال: حدثنا عارم بن الفضل عن الصعق، بمثله.
فكأنه يخبر في هذا الحديث: أن الذين ساحوا وترهبوا هم الفرقة الثالثة التي قد نجت، وأن الذين أخبر عنهم أنهم ما رعوها حق رعايتها(1/59)
قوم جاؤوا من بعدهم يقتدون بهم في ذلك، وليسوا على صدق من أمرهم، أخذوا بظاهر فعلهم، فساحوا، ولزموا الديور والصوامع، وتركوا أمر أصحابهم الذين مضوا على ذلك.(1/60)
الأصل السادس
42 - حدثنا روح بن قرة اليشكري، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا يونس بن عبيد، عن حميد بن هلال، عن هصان بن كاهلٍ، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: سمعت معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نفسٍ تموت تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، يرجع ذلك إلى قلبٍ موقنٍ، إلا غفر الله له)).(1/61)
43 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد الكلابي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن حميد بن هلالٍ، عن هصان بن كاهلٍ، عن عبد الرحمن بن سمرة، عن معاذ ابن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
44 - حدثنا محمود بن المهدي أبو بشر، قال: حدثنا سهل بن أسلم، عن حميد بن هلال، عن هصان ابن كاهلٍ، عن عبد الرحمن بن سمرة، عن معاذٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله:
فهذه شهادةٌ شهد بها عند الموت، وقد ماتت منه الشهوات، وذهلت نفسه لما حل به من هول الموت، وذهب حرصه ورغبته، وسكنت أخلاق السوء منه، وذل وانقاد، وألقى بيديه سلماً لرب العالمين إلقاء العبيد،(1/62)
فاستوى الظاهر منه بالباطن، فلقي الله عبداً مخلصاً، فغفر له بتلك الشهادة الصادقة التي وافق ظاهرها باطنها، وأما الذي يقوله أيام صحته، فقوله مع التخليط؛ لأنه يشهد بهذه الشهادة، وقلبه مشحونٌ بالشهوات والمنى، ونفسه شرهةٌ بطرةٌ ميتةٌ على الدنيا عشقاً وحرصاً وولوعاً، وعلى الأركان من الأفعال علامة ما في باطنه، فلا يستوجب بذلك القول المغفرة.
ولهذا ما ورد في حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يقولها عبدٌ عند الموت إلا هدمت ذنوبه))، قيل: وكيف يا رسول الله لمن قالها في الصحة؟! قال: ((هي أهدم وأهدم)).
فإنما هدمت ذنوبه؛ لأنه قالها وقد ماتت منه شهواته، وندم على ما فرط منه ندماً صحيحاً، فهو تائب صادقٌ، والتائب على موعود الله في تنزيله أن: {يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات}، ويكفر عنه، ويدخله الجنة.(1/63)
قيل: فكيف من قالها في الصحة، فإنما يقولها في الصحة على تلك الصفة التي هي عند موته يقولها بعد رياضة لنفسه، وموت شهواته، وحرصه، ورغبته، وبعد زهادته فيها، وصفائه عن التخليط، فهي أهدم وأهدم.
فأما مخلط عند نهماته وشهواته، عبد دنياه، عبد درهمه وديناره، فلا نعلم أن قوله هذا هدم ذنوبه حتى يصير مغفوراً له بهذه الكلمة؛ لأنه لا ترجع هذه الكلمة منه إلى قلب موقن؛ كما اشترط الرسول في حديثه، بل ترجع هذه الكلمة منه إلى قلب مفتون بدنياه، مأسورٍ بشهوات نفسه، سكران عن الآخرة، حيران عن الله، فقالبه ميالٌ إلى الهوى.
والقلب الموقن الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو القلب الذي استقر لربه، واطمأن لحكمه، وقنع بقسمه، وانقاد بأمره، وشخصت عيناه إلى رحمته، قد أيس من كل شيء إلا من رحمة الله، فهو الذي إذا قالها، هدمت ذنوبه؛ لأنه صادقٌ في قوله.
وإنما سمي اليقين يقيناً؛ لاستقراره في القلب، وهو النور.
يقال في اللغة: يقن الماء في الحفيرة؛ أي: استقر، فإذا استقر النور، دام، وإذا دام، صارت النفس ذات بصيرة، فاطمأنت، فتخلص القلب من أشغاله ودوائره، فإنما استقر اليقين في القلب؛ لأن العبد جاهد نفسه في الله حق جهاده على الصدق، واليقظة من خدعها، والتحرز من آفاتها، حتى بلغ بها غاية الرياضة، وانقطع عاجزاً، فاستغاث بالله صارخاً مضطراً، فأجابه، فإنه يجيب دعوة المضطر، ويكشف السوء، ويجعله من خلفاء الأرض، كذلك وعد في تنزيله، فقذف النور في قلبه، ففلق به تلك الظلمات التي ركدت في صدره على قلبه، فانكشف الغطاء، وصار أمر الملكوت له معاينة بقلبه، وهو:(1/64)
قول حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عبدٌ نور الله الإيمان في قلبه)).
وهذه كلمة جارية فيما جاء في الخبر من دعوة إدريس صلى الله عليه وسلم، وأن موسى علم ذلك في زمانه، وأن نبينا -صلوات الله عليه- أعطي ذلك في زمانه، فكان يدعو بهن، وهو قوله: ((يا نور كل شيءٍ وهداه، أنت الذي فلق الظلمات نوره)).
ومما يحقق ما قلنا: ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
45 - حدثنا بذلك عبد الله بن إسحاق الجوهري مستملي أبي عاصم، قال: حدثنا أبو عاصمٍ النبيل، عن وبر ابن أبي دليلة، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: حدثني يعقوب بن عاصم، قال: حدثني رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله(1/65)
الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قديرٌ مخلصاً بها روحه، مصدقاً بها لسانه وقلبه، إلا فتقت له السماء فتقاً حتى ينظر الرب -تبارك وتعالى- إلى قائلها من أهل الدنيا، وحق لعبدٍ إذا نظر الله إليه أن يعطيه سؤله)).
قال: فالروح إنما تخلص من شهوات النفس وأسرها، وكذلك القلب، فإذا نطق اللسان بالكلمة، لم تنازعه النفس، ولا القلب، ولا الروح، فكان ذلك صدقاً، فقبل منه.
46 - حدثنا عمر، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا الهيثم بن جماز، عن أبي داود الدارمي، عن زيد ابن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله مخلصاً، دخل الجنة))، قيل: يا رسول الله! وما إخلاصها؟(1/66)
قال: ((أن تحجزه عن المحارم)).
ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ: ((يا معاذ! أخلص دينك، يكفيك القليل من العمل)).
فالإخلاص أن تخلص إيمانك حتى لا تفسده شهوات نفسك، فالفرائض التي فرضت عليك قليلة في العدد، الشأن في المحارم.
47 - حدثنا عمر، قال: حدثنا عمر بن عمروٍ الربعي، عن عبيد الله الوصافي، عن أبي بكر الحنظلي، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عهد إلي أن لا يأتيني(1/67)
أحدٌ من أمتي بلا إله إلا الله لا يخلط بها شيئاً، إلا وجبت له الجنة))، قال: يا رسول الله! وما الذي خلط بها؟ قال: ((حرصاً على الدنيا، وجمعاً لها، ومنعاً لها، يقول بقول الأنبياء، ويعمل بعمل الجبابرة)).
قال: فموقنٌ قد راض نفسه حتى ماتت شهواته، فنطق بهذه الكلمة، فرجعت الكلمة إلى قلبٍ موقنٍ قد ثبت للوفاء بما نطق به، فاستوجب المغفرة، وموقنٌ قد ماتت شهواته عند وفاته، وذهلت نفسه، وذهب تخليطه، فألقى بيديه لربه سلماً، وجاد بنفسه، وعظم أمله ورجاؤه فيه، فنطق بهذه الكلمة، فرجعت الكلمة إلى قلب موقن قد ذهب تخليطه، واستغفر ربه، وتاب إلى ربه، وعزم قلبه على الثبات له على ذلك ما عاش، ولو ساعةً واحدة، فاستوجب المغفرة؛ لأنه نطق بها، وقد زال عنه التخليط.
48 - حدثني أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي بكر بن عياش، رفعه إلى ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكر عن ربه: أنه قال: ((المؤمن مني يعرض كل خيرٍ، إني أنزع نفسه من بين جنبيه، وهو يحمدني)).(1/68)
49 - قال: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا جريرٌ، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله، بمثله.
49/م- حدثني أبي، حدثنا محمد بن عاصم المصري، عن عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.
قال: فالعبد إنما وصل إلى حمده، وهو يقبض منه أعز شيء عليه؛ بموت شهواته، فإنما يحب الحياة بالشهوة التي ركبت فيه، فيتلذذ بها.
ألا ترى أنه إذا رد إلى أرذل العمر كيف يتبرم بالحياة، ويشتهي الفراق؟ فقد انقطعت شهواته في ذلك الوقت، وانقطعت علائقه وأسبابه، وتخلص القلب من آفات النفس، فنطق بالكلمة العظيمة، فاستنار بها قلبه،(1/69)
واطمأنت بها نفسه، وأخلص بها روحه، فاستوجب المغفرة، فلذلك كان السلف يستحبون أن يلقنوا المحتضر هذه الكلمة، ويتعاهدونه بها؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لقنوا موتاكم)).
فهذا عبدٌ ركبته أهوال الآخرة، فرضيت نفسه بها عند الموت، فنطق بها، فغفر له، والأول عبدٌ قد راض نفسه أيام حياته، ففتح له في الغيب، فركبته أهوال سلطان الله، وعظيم جلال الله، فنطق بها عن مثل ذلك القلب، فهو للمغفرة أقمن وأخلق.(1/70)
الأصل السابع
50 - حدثنا روح بن قرة اليشكري، قال: حدثنا عبد الله بن يحيى الثقفي، عن سلام بن سليم، عن زيدٍ العمي، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفاجر الراجي لرحمة الله أقرب منها من العابد المقنط).
قال أبو عبد الله: وذلك أن الفاجر الراجي لعلمه بالله قرب من الرحمة، فقربه الله، والعابد المقنط جاهلٌ بالله، ولجهله بالله بعد من(1/71)
رحمة الله، وإنما رجاء العبد بالله على قدر معرفته بالله، وعلمه بجوده وكرمه، والقنوط من الجهل، ألا ترى إلى قوله: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}.
فالمقنط: إنما يقنط غيره لقنوطه، فهو ضالٌّ عن ربه، فما تغني العبادة مع الضلال.
وقال: {لا ييْئس من روح الله إلا القوم الكافرون}.
فالإياس من روحه في الدنيا عند النوائب والكربات، من سوء الظن بالله، فهو أبداً خاسرٌ مفتونٌ يتعلق بالأسباب، ولا يلجأ إلى ربه، ولا يستغيث به، إنما ملجؤه خلقه، وبهم يستغيث، وبالحيل التي وضعت، وقلبه منقطع عن الله، متعلق بخلقه، وكذلك القانط من رحمته قلبه متعلق بالجهد من الأعمال، طالباً للنجاة بها، فإذا فكر في ذنوبه، ألقى بيديه إلى التهلكة، ورفض العمل.
وروي عن الحسن البصري: أنه سئل عن القنوط، فقال: ترك فرائض الله في السر.
معناه: أنه إذا تراكمت عليه الذنوب، أيس من نفسه، فرفض الكل، وقال: قد استوجبت النار.
وقد كان وقع عندي من بعض من رزقه الله الإنابة، فجعل يصوم، فقلت له: ما هذا؟ قال: صوم شهر رمضان، قلت له: أولم تكن تصومه؟(1/72)
قال: لا، قلت: لم؟ قال: كان أصحابي لا يصومونه، قلت: وهم في الكورة معنا؟ قال: نعم، قلت: وما حملهم على ذلك؟ قال: كانوا يقولون: عملنا هذه الأعمال من سفك الدماء، وأخذ الأموال، وسائر المعاصي، فما يغني عنا الصوم والصلاة، فكانوا لا يصومون شهر رمضان، ولا يصلون المكتوبات إلا على أعين الناس، يقولون: قد استوجبنا النار، فقلت: هؤلاء قومٌ قد ضرب الله على قلوبهم بالسخطة، فقنطوا من رحمته.
51 - حدثنا الفضل بن محمد، قال: حدثنا هشام بن خالد الدمشقي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال: حدثني سليمان بن هرم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((خرج من عندي خليلي جبريل صلى الله عليه وسلم آنفاً، فقال لي: يا محمد! والذي بعثك بالحق! إن لله لعبداً من عباده عبد الله خمس مئة سنةٍ على رأس جبلٍ في البحر، عرضه وطوله ثلاثون ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، والبحر محيطٌ به أربعة آلاف فرسخٍ من كل ناحيةٍ، وأخرج الله له عيناً عذبةً بعرض الأصبع تبض بماءٍ(1/73)
عذبٍ، فيستنقع في أسفل ذلك الجبل، وشجرة رمانة تخرج في كل ليلةٍ رمانةً، فتغذيه يوماً، فإذا أمسى، نزل، فأصاب من الوضوء، وأخذ تلك الرمانة فأكلها، ثم قام لصلاته، فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه ساجداً، وأن لا يجعل الأرض ولا لشيءٍ يفسده عليه سبيلاً حتى يبعثه الله ساجداً، ففعل، فنحن نمر به إذا هبطنا، وإذا عرجنا، ونجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله -تبارك اسمه- فيقول له الرب: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي يا رب، فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي يا رب، فيقول للملائكة: قايسوا عبدي بنعمتي عليه، وبعمله، فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادته خمس مئة سنة، وبقيت نعم الجسد فضلاً عليه، فيقول: أدخلوا عبدي النار، فينادي: رب! برحمتك(1/74)
أدخلني الجنة، فيقول: ردوه، فيوقف بين يديه، فيقول: يا عبدي! من خلقك ولم تك شيئاً؟ فيقول: أنت يا رب، فيقول: أفكان ذلك من قبلك أم برحمتي؟ فيقول: بل برحمتك، فيقول: من قواك لعبادة خمس مئة سنة؟ فيقول: أنت يا رب، فيقول: من أنزلك في جبل وسط اللجة، وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح، وأخرج لك كل ليلة رمانةً، وإنما تخرج الشجرة في السنة مرةً، وسألتني أن أقبضك ساجداً، ففعلت ذلك بك؟ فيقول: أنت يا رب، فيقول: ذلك برحمتي، وبرحمتي أدخلك الجنة، أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فنعم العبد كنت يا عبدي، [قال جبريل]: إنما الأشياء برحمة الله)).(1/75)
52 - حدثنا أحمد بن مرة، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني سليمان بن هرم في مجلس الليث ابن سعد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال: فالجهل بالله وبتدبيره في خلقه أدى هذه الطبقة إلى مثل هذه الأشياء.
53 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/76)
إنه ليس أحدٌ منكم ينجيه عمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمته)).
قال: فهذا الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ولا أنت)) كان في عمىً من هذا الأمر، أفلا يعلم أن الله منَّ عليه بالنبوة، ومنَّ عليه بشرح الصدر، أفلا يعلم أن المنة من الرحمة، فإنما ينجيه يوم القيامة بتلك الرحمة، وهل خرجت الأعمال من الأركان إلا بتوفيقه، وهل كان له التوفيق إلا بالرحمة، وذلك قوله عز وجل: {وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمةً من ربك}.(1/77)
الأصل الثامن
54 - حدثنا الحسن بن محمدٍ الزعفراني، قال: حدثنا سعيد بن زكريا المدائني، عن سالمٍ أبي الفيضٍ، قال: حدثني نافعٌ، عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أشفق من الحاجة أن ينساها، جعل في يده خيطاً؛ ليذكره أو يذكرها)).(1/79)
55 - حدثني أبي رحمه الله، قال: حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي، قال: حدثنا سالم بن عبد الأعلى الأودي، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
ولم يرفعه الأودي.
56 - حدثنا علي بن خشرمٍ، قال: حدثنا سعيد بن محمدٍ الوراق، عن سالم بن عبد الأعلى الأودي، قال: حدثني نافعٌ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
57 - حدثنا أبو الخطاب الحرشي، قال: حدثنا سهل بن حمادٍ، قال: حدثنا سالم بن عبد الأعلى، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله: فالذكر والنسيان من الله، إذا شاء ذكره، وإذا شاء(1/80)
أنساه، وربط الخيط سببٌ من الأسباب؛ لأنه نصب العين، فإذا رآه، ذكر ما نسي، فهذا سببٌ موضوعٌ دبره رب العالمين لعباده كسائر الأسباب.
تحرز الأشياء بالأبواب، والأقفال، والحراس، ويستشفى من الأسقام بالأدوية، وتقبض الأرزاق والأقوات بالطلب، وكل أمرٍ بحيلة وسبب، والأرض تخرج نباتها بالماء، وهذا تدبيره في عباده، والخيط والذكر والشفاء وإيصال الأرزاق، كل ذلك بيده يجريها على الأسباب.
فأهل اليقين لا تضرهم الأسباب، وهم الأنبياء والأولياء، يمضون عليها، فيحترزون، ويحترفون، ويحتالون، ويتداوون؛ لأنه تدبير الله، كذا دبر لعباده أن يجري أمورهم على الأسباب؛ امتحاناً منه لهم؛ لينظر من يتعلق قلبه بالأسباب، فتصير فتنةً عليه، ومن يتخلى عنها فيكون مع ولي الأسباب وخالقها، فيسلم من فتنتها؛ لأن الأسباب لا تملكه، فإنهم في الجملة كلهم قد آمنوا واعترفوا بأن الأشياء كلها من الله، ثم صاروا على ضربين:
فضربٌ منهم توالت على قلوبهم الغفلات، وركدت أشغال الشهوات وظلمتها على قلوبهم، فحجبتهم عن الانتباه، فصاروا كالنيام والسكارى عن رؤية هذا وذكره، فإذا ذكروا، ذكروا، وإذا نبهوا، انتبهوا، ثم عادوا إلى(1/81)
رقدتهم وإلى غفلتهم، فصار ذلك لهم كالخبر.
والآخرون: هم أهل اليقين، قد خرجوا بيقينهم من الغفلة، والذكر على قلوبهم دائم، والأمور لهم معاينة كيف يجريها، وكيف يدبرها، فليس الخبر كالمعاينة، فإن استعملوا الأسباب، فلم تضرهم، فكذلك هذا الخيط، لما ربطه، صار نصب عينيه علامة، إذا وقع بصره عليه، ذكر ما نسي، ثم لم يحجبه ذلك الخيط عن صنع الله أنه هو الذي ذكره بهذا الخيط، وحين ربطه، لم يطمئن إلى الخيط، ولم يركن ركون أهل الغفلة، بل ربطه ابتغاء موافقة تدبير الله الذي وضعه الله لعباده.
وكذلك تداويه من أسقامه، وطلبه لمعاشه، وأخذه الجنة في الحرب، وحفر الخندق من أجل العدو.
وظاهر يوم أحد بين درعين، فلا تظن به صلى الله عليه وسلم أنه مال إلى شيء من الأسباب غفلة مقدار طرفة عين.
فصير الله الأسباب محنة للعباد؛ ليميز الخبيث من الطيب، قال الله -تبارك اسمه-: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء}.(1/82)
الأصل التاسع
58 - حدثنا الحسين بن علي العجلي، قال: حدثنا عمرو بن محمدٍ العنقزي، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اهتز العرش لموت سعد بن معاذٍ)).
59 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرٍو، عن أبيه، عن جده، عن عائشة، عن أسيد بن حضيرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اهتز العرش(1/83)
لوفاة سعد بن معاذٍ)).
قال أبو عبد الله: فتأول ناس في هذا، فقالوا: العرش سريره الذي حملوه عليه، واحتجوا بحديث رووه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه تأوله هكذا.
60 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا جريرٌ، عن عطاء ابن السائب، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ذكر يوماً عنده حديث سعد: ((إن العرش اهتز لحب الله لقاء سعدٍ))، فقال ابن عمر: إن العرش ليس يهتز لموت أحد، ولكنه سريره الذي حمل عليه.(1/84)
قال: فهذا مبلغ ابن عمر رضي الله عنهما من علم ما ألقي إليه من ذلك، وفوق كل ذي علم عليمٌ، وأحسب أن ابن عمر رضي الله عنهما قصد بما دفع من ذلك تعظيماً للعرش، فهاب من هذه الكلمة، إذ كان العرش أعلى صفوته وخلقه ومنظره الأعلى، وموضع تسبيحه، ومظهر ملكه، ومبدأ وحيه، ومحل قربه، ولم ينسب شيئاً من خلقه كنسبته، فقال: {ذو العرش}، كما قال: ذو العزة، وذو الجلال، وذو الكبرياء، وذو القدرة، وذو العظمة، وذو البهاء، وذو الرحمة، وذو الملك، ولم يجز أن يقال: ذو السماوات، وذو الأرض، وذو الكرسي، وذو اللوح، فلم تعط كلمة: ذو من جميع خلقه إلا للعرش فقط، للقرب.
وذو: كلمةٌ لحق واتصال وظهور ومبدأ، فكأن ابن عمر رضي الله عنهما لحظ إلى هذه الناحية، فدفع أن يكون يهتز لموت أحد.
وأما سائر العلماء، فلا نعلمهم دفعوا هذا القول، فإن للمؤمن عند الله مراتب قد أتت به الأنبياء من عند الله تنزيلاً.
منها: قوله تعالى: {والله ولي المؤمنين}، وقوله: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا}، وقوله: {هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}، وقوله: {هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}، وقوله:(1/85)
{هو اجتباكم}، وقوله: {وكان بالمؤمنين رحيماً. تحيتهم يوم يلقونه سلامٌ وأعد لهم أجراً كريماً}، وقوله: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً}، وقوله: {فبشر عباد}، وقوله: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم}، وقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية. جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار}.
وقوله: {ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}، وقوله: {يا عباد لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}، وقوله: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جناتٌ}، وقوله: {وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}، وقوله: {إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم}، ثم قال: {إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليمٌ. يختص برحمته من يشاء}.
وقوله: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم}، وقال: {يهدي الله لنوره من يشاء}، وقوله: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً}، ثم قال في آخره: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحيةً وسلاماً}، ثم قال: {إن الأبرار يشربون من كأسٍ}، فذكر قصتهم إلى آخرها، وقوله: {محمدٌ رسول الله(1/86)
والذين معه أشداء على الكفار}، وقوله: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبةً في جنات عدنٍ ورضوانٌ من الله أكبر}.
ومنها: وقوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ}، وقوله: {ولدينا مزيدٌ}.
فمن يحجر كرامة الله لهذا المؤمن، وحبه له، وعظيم محله عنده، وجعلهم جيرانه وزواره، ورفع الحجاب فيما بينه وبينهم للتجلي.
وفيما جاءت به الأخبار -ما لو تفكر في هذا، وفي الأخبار- ذو لب، علم أن ذلك غير مستنكرٍ ولا مدفوعٍ.
منها: قوله عليه السلام: ((إن المؤمن أكرم على الله من الملائكة المقربين)).(1/87)
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن أعظم حرمةً عند الله من الكعبة)).
ومنها: قول معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه: إن المتقين في الجنة لا يستتر الرب منهم ولا يحتجب.
ومنها: ما جاء في شأن الزيارة في الأخبار، ووضع المنابر، والأسرة، والكراسي لهم على مراتبهم في مجلس الجبار.
فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا يبقى أحدٌ يوم القيامة في ذلك المجلس إلا حاضره الله محاضرةً، حتى إنه ليقول: يا فلان! أتذكر غدرتك يوم كذا وكذا؟ فيقول: أوَلم تغفرها لي؟ فيقول: بلى)).
61 - حدثنا بذلك الفضل بن محمد، قال: حدثنا محمد بن المصفى الحمصي، قال: حدثنا سويد بن عبد العزيز، قال: حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن سعيد بن المسيب، قال: لقيني أبو هريرة رضي الله عنه، فحدثني بذلك، قال:(1/88)
وأخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
62 - حدثنا محمد بن محمد بن حسين، قال: حدثنا إسحاق بن المنذر، قال: أخبرنا الفرات بن السائب، قال: حدثنا مكحولٌ، عن أبي هريرة، وأبي الدرداء رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بيوتات المؤمنين لمصابيح إلى العرش يعرفها مقربو الملائكة من السماوات السبع، يقولون: هذا النور من بيوتات المؤمنين التي يتلى فيها القرآن)).(1/89)
فإذا كان نور المؤمن هناك في نور العرش مستبيناً حتى يعرفه مقربو الملائكة، فليس هذا إلا لأمر عظيم، واعتبر بهذا في الدنيا أي نور يكون هذا حتى يستبين في نور الشمس في الدنيا، فإذا كان هذا هكذا، فكيف بالنور الذي يستبين في نور العرش هناك؟!
63 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا ابن نمير، عن موسى الطحان، عن عون بن عبد الله، عن أبيه، أو أخيه، عن النعمان بن بشيرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ما تذكرون من جلال الله في تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله يتعاطفن حول العرش، لهن دويٌّ كدوي النحل به يذكرن لصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الرحمن شيءٌ لا يذكره به)).(1/90)
وقد جاءت أحاديث في شأن وفاة سعد ما يكشف عن التأويل فيه.
64 - حدثنا هارون بن حاتم الكوفي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ، قال: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ، لما مات سعدٌ، نزل جبريل فقال: يا محمد! رجلٌ من أمتك مات اهتز له العرش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فإذا امرأة في المسجد، فقالت: يا رسول الله! إن سعد بن معاذ قد مات، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازته، فجلس على القبر، فقال: ((لا إله إلا الله، سبحان الله -ثم قال-: هذا العبد الصالح لقد ضيق عليه قبره حتى خشيت أن لا يوسع عليه، ثم وسع عليه)).(1/91)
65 - حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: افتخر الحيان من الأنصار: الأوس والخزرج، فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة: حنظلة بن الراهب، ومنا من اهتز لموته عرش الرحمن سعد بن معاذ، ومنا من حمته الدبر: عاصم بن ثابت بن الأفلح، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين: خزيمة ابن ثابت، فقال الخزرج: منا أربعةٌ جمعوا القرآن لم يجمعه أحدٌ غيرهم: زيد بن ثابت، وأبو زيدٍ، وأبي بن كعبٍ، ومعاذ بن جبل.
66 - حدثنا نصر بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن يعلى السلمي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن بحر بن(1/92)
مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن الحسن البصري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد اهتز عرش الرحمن لوفاة سعد ابن معاذٍ فرحاً به، فرحاً به، فرحاً به)).
فقد كشف عن معنى اهتزازه أنه الفرح للقائه، وإذا كان العبد ممن يفرح خالق العرش بلقائه، ففرح العرش به يدق في جنب فرح خالقه.(1/93)
الأصل العاشر
67 - حدثنا حميد بن الربيع اللخمي، قال: حدثنا محمد بن حميدٍ، عن معمرٍ، عن أيوب، وكثير بن كثير بن المطلب، يزيد أحدهما على الآخر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم))، أو قال: ((لو لم تغترف الماء، لكانت زمزم عيناً معيناً)).(1/95)
قال أبو عبد الله: ينبئك أن الحرص داخل بالفساد على الأشياء؛ لأن الحرص من النهمة، وخلق الله هذا الآدمي في غيب منه فقيراً محتاجاً مضطراً، فهو ينتظر الأسباب، ويطلبها، ويحرص عليها، وهو معترف على حد الإيمان به أنه هو الذي يجريها ويوصلها إليه على أيدي الأسباب، ثم تأخذه الحيرة والعجلة التي ركبتا فيه، هذا لأهل اليقين كائن.
وأهل الغفلة مفتونون فيها، يعصونه، ويضيعون حدود الله خالق الأسباب، فأدرك أم إسماعيل ما يدرك الآدميين من هول الغربة والوحشة في تلك المفازة والعطش الذي حل بابنها، وكربها شأن ذلك، حتى أخذت تعدو هكذا وهكذا في طلب الماء، وتستغيث، فلما جاءها الغياث، لم تنفك من العجلة التي ركبت في الآدمي، وخلق الإنسان من عجل، فاغترفت، فأحرزته في وعائها، فانقطع المدد، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها لو اطمأنت في ذلك الوقت إلى من أجرى لها ذلك، لكفيت عن(1/96)
الاغتراف والإحراز في الوعاء، لجرت، وبقيت جارية إلى يومنا هذا، ولكنها لما عاينت الماء، اهتشت النفس إليه؛ للحاجة والضرورة التي قد كانت حلت بها، فشغلت بالموجود عن الذي أوجده، حتى حملتها النفس على الاحتراز؛ لتطمئن.
وهو قول سلمان، حيث رئي يحمل جراباً، فقيل له: ما هذا يا أبا عبد الله؟ قال: إن النفس إذا أحرزت رزقها، اطمأنت.
فهذا عمل النفس ليس عمل القلب؛ فإن القلب موقنٌ أن الرزق هو الذي يوصله الله إليه في وقته، والنفس في عماها وظلمتها تزعم أن الرزق هو الذي توعيه في جرابها، فصاحبها في بلاء من وسوستها وتقاضيها، فإذا أراد صاحبه أن يتخلص منها حتى لا توسوسه، ويفرغ قلبه من وسوستها، أسعفها بذلك، كما فعل سلمان، فتطمئن إلى ذلك،(1/97)
وتسكن، ويتفرغ القلب ويستريح من تقاضيها.
ومما تورد عليه في هذا الباب يهيئ الله له رزقه المكتوب له في اللوح من غير ذلك الذي هيأه في جرابه، حتى تبين له كذبه وجهله، وإذا الذي وعاه سلط عليه غيره حتى أخذه، فصار الذي وعاه رزق غيره، فمن أحرز ذلك، فإنما فعله لطمأنينة نفسه وقرارها؛ ليتفرغ قلبه لله من وسواسها، وهذا فعل يدخل فيه نقص على أهل التوكل، والأنبياء والأولياء والعارفون في خلو من هذا؛ لأن الشهوات منهم قد ماتت، والنفس قد اطمأنت بخالقها، والقلوب منهم قد حييت بالله، والصدور منهم قد أشرقت بنور الله، والأركان منهم قد خشعت لله، فسواء عليهم أحرزوا، أو لم يحرزوا، فإن أحرزوا، فليس ذلك منهم إحرازاً، إنما هو شيء قد ائتمنوا عليه، فأخذوه من الله بأمانة، ووقفوها على نوائب الحق، فما صار بأيديهم من الدنيا، فهي موقوفة ينتظرون نوائب الحق، قد ملئت قلوبهم من عظمة الله وجلاله، فلم يبق للدنيا بما فيها موضع رأس إبرة تحل حلاوتها وشهوتها ولذتها هنالك.
فقد ارتفعت فكر شأن الأرزاق والمعاش عن قلوبهم، وتعلقت نفوسهم(1/98)
بقلوبهم، فعلقت قلوبهم بخالق الأرزاق، وعالم التدبير، وقالوا: حسبنا الله، فخرجت هذه الكلمة منهم من قلب حيي بالله على بصيرة من النفس، فلم يبق في صدورهم اختلاجٌ ولا تنازع ولا ريب، واستقرت الأركان، فمتى ما وقع بأيديهم شيء من الدنيا، لم يحبسوها لأنفسهم، وعدوها أمانة قد ائتمنهم الله عليها.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا خازنٌ أقسم، والله يعطي، فأنا أبو القاسم أقسم، والله يعطي)).
68 - حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً لغدٍ)).(1/99)
69 - حدثنا أحمد بن رشيد بن خثيمٍ الهلالي، قال: حدثي عمي أبو معمرٍ سعيد بن خثيمٍ، قال: حدثني محمد بن النضر الملائي، قال: كنت عند الحجاج، وعنده أنس بن مالك، فقال: كنت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فأهدي له طيران، فتعشى بأحدهما، وخبأت له أم أيمن الآخر، فلما أصبح، قال: ((يا أم أيمن! هل عندك من غداءٍ؟))، قالت: أحد الطيرين، قال: ((يا أم أيمن! أما علمت أن أخي عيسى لا يخبئ عشاءً لغداءٍ، ولا غداءً لعشاءٍ، يأكل من ورق الشجر، ويشرب من ماء المطر، ويلبس المسوح، ويبيت حيث يمسي، ويقول: يأتي كل يومٍ(1/100)
برزقه؟))، قالت: يا رسول الله! لا أخبأ لك شيئاً بعدها أبداً.
70 - حدثنا محمد بن عمر بن الوليد الكندي، قال: حدثنا مفضل بن صالح، عن الأعمش، عن طلحة اليامي، عن مسروق، عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أطعمنا يا بلال))، قال: ما عندي إلا صبر من تمر قد خبأته لك، فقال: ((أما تخشى أن يخسف الله به في نار جهنم؟! أنفق بلالا، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)).(1/101)
71 - حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو غسان، عن قيس، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
وخبأت أم سلمة فدرةً من لحم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته في كوة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قربته إليه، فإذا هي قطعة كدانة أو حجر، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((هل سأل بالباب سائلٌ؟))، قالت: نعم، قال: ((فمن أجل ذلك))، أو كما قال.
72 - حدثنا علي بن سعيدٍ المسروقي، وعلي بن حجر، قالـ[ا]: حدثنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريحٍ، عن بكر بن عمرٍو، عن عبد الله بن هبيرة، عن أبي تميمة الجيشاني، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/102)
((لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً)).
وقال تعالى في تنزيله: {وكأين من دابةٍ لا تحمل رزقها الله يرزقها}، ثم قال: {وإياكم}، فأخبر أن الدواب لا تحمل رزقها، وأن المتوكل يرزق كما يرزق الطير.
قال له قائل: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل قوت سنة لعياله، وقد تواترت(1/103)
الأخبار بذلك من فعله.
قال له: ليس الإدخال من الادخار في شيء، إنما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر مما أفاء الله عليه، فأدخل لعياله من الخمس قوتهم، وكذلك من بني قريظة، والنضير، تلك أمانة ائتمنه الله عليها، وسلطه على ذلك، وقسم، وصرفها في نوائب الحق، والقلب منه خالٍ، ملك من الملوك غني بالله، حر من الأحرار، فماذا ضره؟ وهل كان سبيل ذلك المال الذي أوتي إلا هكذا؛ أن يصرفه في نوائب الحق، فصرفه في الكراع والسلاح، وفي ذوي الحاجات من الأباعد، فما باله يحرم عياله؟ فلم يجئك في الخير: أنه أدخل قوت سنة لنفسه، إنما ذلك لعياله، وعياله كسائر الناس، ولا يحمل عياله ما لا يطيقونه، فإنما يطيق هذا الأنبياء، والأولياء، وأهل اليقين الذين تقوم بهم الأرض، قد طهرت قلوبهم، وتنزهت نفوسهم من تهمة الله.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال له ذلك الرجل: قد أكثرت علي، فأوصني بوصية قصيرة، قال: ((اذهب ولا تتهم الله على نفسك)).(1/104)
فأهل اليقين فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل، وخلت قلوبهم من فكر التدبير لأنفسهم من جميع أمورهم وأحوالهم، فزالت التهمة عنهم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقعت الأموال بيده، يصرفها في الكراع والسلاح؛ لحاجتهم في ذلك الوقت إلى ذلك، فكان يرفع مقدار قوت نسائه؛ ليعلم ما يبقي هناك، فيصرفه في هذه الوجوه، فكأن الذي يدخره رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يخزنه على نوائب الحق، فلا يضره خزنه، وإنما يضر الذي خزنه لنفسه، فكذلك الذي ادخره.
وقد أمر الله تعالى بحرز الأموال وحفظها، فقال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً}، فإذا أحرزه، فإنما يحرزه لما ينوب من حقوق الله، حتى يصرفه فيه، فهو مأجور فيه، وخازن من خزانه، وإذا أحرزه ليتخذه عدة لنوائب نفسه ودنياه، فهو في نقص وإدبار وخذلان من الله، ومسؤول غداً عن كل درهم منه، من أين، ولم، وفي أين؟ فليس في إدخال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوت سنةٍ لعياله علينا دخلٌ فيما قلناه، فإنه كان خازناً، فلما وقع بيده، قسم لعياله مثل ما كان يقسم لغيرهم، فإنه إحدى نوائب الحق.
وأيضاً خلة أخرى: أنه كائن أن نفوس أزواجه كانت لا تطمئن إلا على الإحراز، فلم يكلفهن ما ليس ذلك لهن مقام، وإنما زجر بلالاً في(1/105)
حديثه أنه قال: خبأته لك يا رسول الله، فقال: ((أما خفت أن يخسف الله به في نار جهنم؟!)).
كما صنعت أم سلمة، فصارت بضعة اللحم فلذة حجر؛ لأنها خبأت له.
والحديث الذي جاء أنه قال لأم أيمن ما قال كذلك أيضاً، فإنها قالت: خبأته لك.
وكذلك قول أنس: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً لغدٍ)).
فهذا يدل على أنه كان لا يدخر لنفسه.
فأما عياله، فقد كان يبعث إليهم مما يبقى عندهم أياماً، فأما فعل أم إسماعيل، فإنها كانت في حال ضرورة، فلما زالت الضرورة، أخذتها عجلة النفس التي ركبت في الآدمي، فجعلته في الوعاء، فاستقر، وامتنع ما ظهر؛ لانقطاع المدد، وإنما كان ذلك بدؤه من الكرم، فلو تلقاه كرم الآدمية، لكان شكراً، والشاكر في مزيد، وكان يجري فلا ينقطع المدد، ولكنه تلقاه لؤم النفس؛ فإن النفس لئيمة، فتراجع الكرم وأعرض مولياً لما لم يجد له قابلاً يحسن قبوله، وكانت تلك عين سوغ الله لها مخرجها من الجنة كرماً إلى تلك البقعة من دار الدنيا، وبعث جبريل عليه السلام، فكانت منه هزمة بعقبه، فانتبع الماء، فكان ذلك من كرم ربنا، عاملها على بغيتها وسالمتها، فكان الأليق بهذا الفعل منها أن تأخذ منها حاجتها على تؤدة(1/106)
وأناة، وسعة صدر وحياء منه، وتكرم وتعفف، وتذر ما بقي بين يدي من أجراه لها حتى تنظر ما يدبر فيه، فلما عجلت وأخذت تدبر لنفسها، فعلت فعلاً غير لائق بكرم ربنا علينا.
ومثال ذلك في الآدميين فيما بينهم موجود، فلو أن ملكاً من ملوك الدنيا نظر إليك في وقت حاجتك إلى شيء، فرحمك؛ كأن رآك جائعاً، فهيأ لك مائدةً عليها ألوان الطعام؛ لتأخذ منها حاجتك، فجعلت تأكل لقمةً، وتضع لقمةً تحت المائدة تخزنها لنفسك، ألم يكن.
ولو نظر إليك في وقت حاجتك إلى كسوتك، ففتح عليك باب خزانته لتكتسي منها، فرفعت منها كسوتك، ثم مددت يدك بالعجلة والحرص إلى أثواب لتخزنها في بيتك وخزانتك، أليس ذلك مما يضعك عنده؟ وأريته نفسك من عندك أنك اتهمته على نفسك، وأنت إذا نطقت، قلت: أنت خير لي من نفسي، ألم يك يضع ذلك القول منك على الهذيان، ويقول في نفسه: فإن كنت أنا خيراً لك من نفسك، فما الذي حملك على أن مددت يدك إلى ما لا تحتاج إليه من الفضول تريد أن تخزنه لنفسك دوني؟!
فإذا كان هذا سمجاً قبيحاً عند ملوك الدنيا مثل هذه المعاملة، فكيف بمن يعامل رب العالمين بمثل هذا؟ فكلما أعطاك شيئاً من الدنيا، فتناولته على غير حد الأمانة، فأنت في هذا اللؤم إلى القرن والقدم حتى تأخذه على سبيل أنه ماله ائتمنك عليه؛ لتصرفه في نوائب حقوقه.(1/107)
فأول حقوقك: نفسك، وعيالك، ثم أرحامك، وجيرتك، ثم نوائب الحق التي تنوبك، واحداً على أثر واحد.
وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سئل، فقيل: يا رسول الله! إني أصبت ديناراً، قال: ((أنفقه على نفسك))، قال: أصبت آخر؟ قال: فلم يزل يقول: أصبت آخر، وهو يأمره بصرفه في وجه حتى كان في السابعة، قال: أصبت آخر، قال: ((أنفقه في سبيل الله، وذلك أخسهن وأدناهن أجراً)).
رواه سعيدٌ المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
73 - حدثنا بذلك صالح بن محمد، قال: حدثنا القاسم العمري، عن محمد بن حميدٍ مولى آل مخرمة، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(1/108)
فإذا تناولته على طمع أو حرص أو شره، صارت عليك فتنة، وكنت تناولته لغير الله، وأنت يطال في عمرك، فإحرازك وادخارك لؤم وعيب ودناءة، وظلمة تعود على القلب، ودنس على الفؤاد، وسقم في الإيمان، وسم في الطاعات.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا سلمان! قل: اللهم إني أسألك صحةً في إيمانٍ)).
فهل يأمره بسؤال الصحة في الإيمان إلا من سقم؛ لأنه رأى في سلمان ما قال: إن النفس إذا أحرزت رزقها، اطمأنت، فمن كانت نفسه مطمئنة بالأحوال، فهكذا سبيله وشأنه، ومن كانت نفسه مطمئنة بربه، فلو أعطي(1/109)
الدنيا كلها، لم يلتفت إليها، وكانت عيناه إلى ربه، وسكونه إليه، وكان فعل أبي بكر رضي الله عنه يدل على أنه ممن هو بهذا موصوف.
وروي لنا أن أبا بكر رضي الله عنه تلا هذه الآية بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً}، فقال: ما أحسن هذا يا رسول الله! فقال: ((يا أبا بكرٍ! أما إن الملك سيقولها لك عند الموت)).
74 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا علي بن بحرٍ، عن سويد بن عبد العزيز، عن ثابت بن عجلان، عن سليم بن أبي عامر، قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: قرئت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فذكر الحديث إلى آخره، مثله.(1/110)
فهذه نفس رضيت عن الله بجميع ما دبر لها من المحبوب والمكروه؛ لأنها لذت بجوار الله وقربه، فلهت عن لذاذتها الدنيا، فرضي الله عنها، وبشرت عند الموت بذلك.
وأما قوله: ((لكانت زمزم عيناً معيناً))؛ أي: مرئياً ظاهراً تجري، فالعين: التي تعاين بالعيون، معناه: أنها لا تركد، ولكن تجري ظاهراً حتى يعاينوه، فبقي عيناً، وليس بمعينٍ؛ لفعل أم إسماعيل -رحمة الله عليها-.(1/111)
الأصل الحادي عشر
75 - حدثنا نصر بن علي الحداني، قال: أخبرني عكرمة بن خالد بن سلمة المخزومي، قال: سمعت أبي يقول: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تضربوا الرقيق؛ فإنكم لا تدرون ما توافقون)).
قال أبو عبد الله -رحمة الله عليه-: فالضرب أصله تأديب، وقد ندب الله العباد إلى تأديب أهلهم، فقال: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}، فوقايتك نفسك وأهلك: أن تعظها وتنصحها، وتزجرها عن عمل يوردها النار، وتقيم أودهم بأنواع الأدب، فمن الأدب:(1/113)
الموعظة، ومن الأدب: الوعيد، ومن الأدب: الضرب، وحبس المنافع، ومن الأدب: الرفق والعطية والنوال والبر، فإن ذلك ربما كان أدعى لهم من الوعيد والضرب، وبين النفوس تفاوت، فنفس تضرع وتخضع لك بالبر والعطية والرفق، فهي نفس كريمة، ونفس تضرع وتخضع بالغلظة والشدة والعنف عليها، فهي نفس لئيمة، فلو حملت هذا على تلك النفس، لأفسدتها، ولو حملت هذا على النفس الأخرى، لأفسدتها.
وقد جعل الله الحدود أدباً لعباده، ومزجرةً للآخرين، وموعظة للمتقين، ومن دون الحدود تعزيراً على قدر ما يأتون من المنكر، فأدب الأحرار إلى السلطان، وأدب المماليك والعبيد والأولاد إلى السادات والآباء، هذا كله داخل في قوله: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً}، فإذا أدبه قومه، وإذا قومه، فقد وقاه النار؛ لأن في الأدب قمع النفس الأمارة بالسوء، والنار دار الأعداء، والجنة دار الأولياء، وهم الموحدون، وجعل ممر الموحدين إلى الجنة على النار، فقال: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً. ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}، فوعد النجاة للمتقين، وحذر الموحدين، وجعل خبر ممرهم عليها وعيداً(1/114)
هائلاً، عظيماً شأنه، يذهل النفوس، ويخمد الشهوات، فالأدب غذاء النفوس وتربيتها للآخرة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لأن يؤدب أحدكم ولده خيرٌ له من أن يتصدق كل يومٍ بنصف صاعٍ)).
76 - حدثنا بذلك صالح بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي، عن ناصحٍ المحلمي، عن سماكٍ، عن جابر بن سمرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/115)
77 - وحدثنا نصر بن علي الحداني، ومحمد بن موسى الحرشي، قالا: حدثنا عامر بن أبي عامرٍ الخزاز، قال: حدثنا أيوب بن موسى الحرشي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نحل والدٌ ولداً أفضل من أدبٍ حسنٍ)).(1/116)
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضرب الرقيق إذا زنوا فقال:
((إذا زنت أمة أحدكم، فليجلدها، ثم إذا زنت، فليجلدها)).
78 - حدثنا بذلك قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنسٍ، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وزيد بن خالد الجهني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(1/117)
فالحدود والتعزير بمكانهما على الأحرار والرقيق.
وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تضربوا الرقيق))، فخليق أن يكون إنما نهى عن ضربهم على غضب المولى لنفسه على نفعٍ أو ضر، لا لله، فأما إذا ضربه تأديباً ليقومه؛ لئلا يعصي الله في أموره، ولئلا يعصي المولى في أموره اللازمة له، فإن عصيانه وتضييع أموره معصيةٌ لله، فذلك مما يجب عليه، وهو داخل في قوله: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً}.
(فالعبيد والإماء من الأهلين، وإنما حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما نرى- أن يضرب في نفع أو ضر؛ فإن قليلاً من الناس من يتمالك هناك حتى يكون ضربه لله، لا لنفسه، إلا أهل اليقين الذين قد عروا عن خيانة النفوس، فهم في قبضة الله، به ينطقون، وبه يبطشون، فأدبهم شفاء للصدور بما فيها، ومن دونهم من الناس قلما يسلمون على ضرب المماليك في ضرٍّ أو نفعٍ إلا وغضبهم لأنفسهم، لا لله، فإذا ضربوا، فالقصاص قائم فيما بينهم يوم لا يجاوزه ظلم ظالم، ولا ظالمه، وهو بالمرصاد).
79 - حدثنا محمد بن مقاتل، قال: حدثنا عيسى بن(1/118)
إبراهيم القرشي، عن داود بن قيس المديني، عن زيد بن أسلم، قال: قال رجل: يا رسول الله! ما تقول في ضرب المماليك؟ قال: ((إن كان ذلك في كنهةٍ، وإلا، أقيد منكم يوم القيامة))، قيل: يا رسول الله! ما تقول في سبهم! قال: مثل ذلك، قالوا: يا رسول الله! فإنا نعاقب أولادنا ونسبهم، قال: ((إنهم ليسوا مثل أولادكم، إنكم لا تتهمون على أولادكم)).
80 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج، قال: أخبرني ابن وهب، عن مخرمة، أخبره، عن أبيه، عن عبد الله بن رفاعة بن رافع الزرقي، عن أبيه، قال: قال رجل: يا رسول الله! كيف ترى في رقيقنا، أقوام مسلمون يصلون(1/119)
صلاتنا، ويصومون صيامنا، نضربهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوزن ذنبهم وعقوبتكم إياهم، فإن كانت عقوبتكم أكثر من ذنبهم، أخذوا منكم))، قال: أفرأيت سبنا إياهم؟ قال: ((يوزن ذنبهم وأذاكم إياهم، فإن كان أذاكم أكثر، أخذوا منكم))، قال الرجل: ما أسمع عدواً أقرب إلي منهم، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنةً أتصبرون وكان ربك بصيراً}، فقال الرجل: أرأيت يا رسول الله ولدي، أضربهم؟ قال: ((إنك لا تتهم في ولدك، لا تطيب نفساً تشبع ويجوع، وتكتسي ويعرى)).
81 - حدثنا صالح بن محمد، قال: حدثنا زافر بن سليمان، عن إسماعيل بن عياشٍ، عن عمر مولى غفرة، عن زياد بن أبي زيادٍ، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً، وإن لي خدماً، وإني أغضب، فأعزم وأشتم وأضرب،(1/120)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((توزن ذنوبه بعقوبتك، فإن كانت سواءً، فلا لك ولا عليك، وإن كانت العقوبة أكثر، فإنما هو شيءٌ يؤخذ من حسناتك يوم القيامة))، فقال الرجل: أوه، أوه، يؤخذ من حسناتي؟ أشهدك يا رسول الله أن مماليكي أحرار، أنا لا أمسك شيئاً يأخذ من حسناتي، قال: ((فحسبت ماذا؟ ألم تسمع إلى قول الله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} الآية؟!)).
قال أبو عبد الله:
فقد كشفت هذه الأحاديث عن الوجهين جميعاً، فكل ضربٍ للماليك مما هو لله حد، أو تعزير، أو تقويمٌ للمماليك يؤدبه لله، فهو مأجور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته))، وكل ضرب إنما ضربه(1/121)
تشهياً لشيء غاظه، فالقصاص قائم، فإن كان في ذلك تعد، أخذ بالعدوان من حسناته على ما جاء في التنزيل، فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحديث ابن عمر: ((لا تضربوا الرقيق)) محمولٌ على أن لا يضربه للتشفي لغيظه، فإنه لا يدري ما يوافق الضربة من أعضائه، فربما وقت على عينٍ ففقأها، وربما وقعت على عضوٍ فكسر، وربما وقع على صدرٍ أو خاصرةٍ فقتل، فحذرهم أن يضربوا مماليكهم، فيحدث منهم حدثٌ يشرك في دمه.
ومن أدب لله، فمات في ذلك الأدب، لم يؤاخذ به إذا كان ذلك حداً معلوماً، فضربه، فلم يجاوز، ولم يتعد فيه.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من لاءمكم من رقيقكم، فأطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تكتسون، ومن لا، فبيعوهم، ولا تعذبوا خلق الله)).(1/122)
فالضرب المحمود: ما كان لله، والضرب المهجور: ما كان للنفس.
والناس في هذا على طبقات: فمن كان قلبه لله، أمكنه أن يؤدبه في أمر الدنيا والآخرة لله، ومن لم يكن قلبه لله، فكان الغالب عليه هواه ونفسه، لم يمكنه أن يضربه إلا في أمر الدين فقط، حتى يكون لله، فأما في أمر الدنيا من ضر أو نفع، فلا قوام له في تأديبه؛ لأنه إنما يغضب لنفسه، ألا ترى أنه لما ارتفعت التهمة في شأن الولد، ذهب القصاص؛ لأن ذلك لله، وذهب نصيب النفس، وكذلك اليتيم.
82 - حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن عبد الملك بن رزينٍ، عن بلالٍ، قال: قال رجل: يا رسول الله! إن في حجري يتيماً، أفأضربه؟ قال: ((نعم، مما تضرب منه ولدك)).(1/123)
الأصل الثاني عشر
83 - حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن المؤذن، قال: حدثنا موسى بن عبد الله بن سعيدٍ الأزدي، قال: حدثنا محمد بن زيادٍ الكلبي، عن بشر بن الحسين الهلالي، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعط الأجير أجره من قبل أن يجف عرقه)).(1/125)
قال أبو عبد الله -رحمة الله عليه-: وذلك لأن أجرته من عمالة جسده.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن الله -تبارك اسمه-: أنه قال: ((ثلاثةٌ أنا خصمهم، ومن كنت خصمه، خصمته: من باع حرًّا وأكل ثمنه، أو ظلم أجيراً أجره، أو ظلم امرأةً مهرها)).
فهؤلاء كلهم أحرار، وهي أثمان نفوسهم، فخصمهم مالكهم، فلذلك(1/126)
أمر بتعجيل أجره؛ لأنه قد عجل منفعته، ومن شأن الباعة إذا سلموا المبيع قبضوا الثمن عند التسليم، فهذا أحق وأولى؛ إذ كان ثمن مهجته، لا ثمن سلعته.(1/127)
الأصل الثالث عشر
84 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الله ابن أبي حسان القيسي، عن حسن بن علي بن حسينٍ، عن أبيه، عن حسين بن عليٍّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي لعينٍ مؤمنةٍ ترى أن يعصى الله فلا تنكر عليه)).
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالإيمان قد اشتمل على الجوارح السبع اللاتي أخذ عليهن العهد والميثاق، وأتمن العبد عليهن، ووكل برعايتهن، ومستقره في القلب، والشهوة في النفس، وسلطانها في الصدر، ثم يتأدى إلى هذه الجوارح السبع، فمن صدق الإيمان أن يكون سلطان كل جارحة منطفئاً بما اشتمل عليه من سلطان الإيمان، فإذا كان كذلك، فقد ملك نفسه، ولا يستعمل شهوة بجارحة من الجوارح السبع إلا فيما أذن الله له فيه، فإذا رأى غيره قد استعملها فيما لم يأذن به الله، أنكره.(1/129)
والإنكار على ثلاثة منازل: فمنكرٌ بقلبه ولسانه ويده، ومنكر بقلبه ولسانه، ومنكر بقلبه.
وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الجهاد ثلاثةٌ: جهادٌ باليد واللسان والقلب، وجهادٌ باللسان والقلب، وجهادٌ بالقلب، وذلك أضعف الإيمان)).
قال: فأول ما ذكر جهاد اليد، ثم جهاد اللسان، ثم جهاد القلب حتى لا ينكر منكر.
85 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمدٍ، قال: حدثني الحارث بن فضيلٍ، عن جعفر بن عبد الله بن الحكم، عن(1/130)
عبد الرحمن بن مسور بن مخرمة، عن أبي رافعٍ مولى رسول الله، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان لله نبيٌّ إلا وله حواريون يهدون بهديه، ويستنون بسنته، ثم يكون من بعده خلوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما ينكرون، فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذلك مثقال حبةٍ من إيمان)).
وهو كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شأن بني إسرائيل: أن الملوك لما أحدثت في دينهم الأحداث، صار أهل الهدي على ثلاثة فرق: فرقة قاتلت الملوك على دين الله، وفرقة لم يكن لهم طاقة بقتالهم، ولكنهم قاموا في(1/131)
قومهم، فذبوا عن دينهم، فأخذوا وقتلوا، وفرقةٌ خرجت من بين أظهرهم، فساحت في البراري، فنجت هذه الثلاثة، وهلك سائرهم.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس لمؤمنٍ أن يذل نفسه))، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: ((يتكلف من البلاء ما لا يطيق)).
معناه: أنه إذا علم أنه إذا غير المنكر على القوي، ابتلي به، فكف عنه، وأنكر بقلبه؛ لأن ما يفسد أكثر مما يصلح.
وروي: أن هذه الآية إنما نزلت في شأن هؤلاء؛ قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} أنها في وقت الفساد، وأنه لا يقبل منكر، فعندها لا يضرك ضلالتهم.(1/132)
86 - حدثنا محمد بن أبان الهلالي، قال: حدثنا أيوب بن سويدٍ الرملي، قال: حدثنا عتبة بن أبي حكيمٍ، قال: حدثني عمرٌو اللخمي، عن أبي أمية الشعباني، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية: {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم}، فقال لي: لقد سألت فيها خبيراً، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أبا ثعلبة! ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، وإذا رأيت دنيا مؤثرةً، وشحاً مطاعاً، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك نفسك؛ فإن من بعدكم أيام الصبر، المتمسك يومئذٍ بمثل الذي أنتم عليه له كأجر خمسين عاملاً))، قالوا: يا رسول الله! كأجر خمسين عاملاً منهم؟ قال: ((لا، بل منكم)).(1/133)
87 - حدثنا حميد بن عليٍّ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حدثنا جعفر بن محمدٍ الهمداني، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المتمسك بسنتي عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر)).(1/134)
الأصل الرابع عشر
88 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد بن وهبٍ الواسطي، عن الوليد بن مسلمٍ، عن أبي بكر بن أبي مريم، قال: حدثني حكيم بن عمير أبو الأحوص، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا عبيدة! لا تأمنن على أحدٍ بعدي)).(1/135)
قال أبو عبد الله: فالرسول صلى الله عليه وسلم مأمن الخلق ومفزعهم، له عطف الآباء، وشفقة الأمهات، ورحمة الوالهات، وشهد الله له في تنزيله أعظم شهادة، فقال تعالى: {عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ}.
فقد حشي بالرأفة والرحمة، والنصيحة لله في خلقه، واستنار قلبه بنور الله، فدقت الدنيا بما فيها في عينه، وصغر عنده بذل نفسه لله في جنب الله، فكان مفزعاً، وكان مأمناً، وكان غياثاً، وكان رحمةً، وكان أماناً.
فأما المفزع: فقال تعالى في تنزيله: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}.
وكان مفزعاً لهم عند الذنوب يصيرون إليه حتى يستغفر لهم.
وفي المأمن: قوله تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى}؛ أي: يأمنون بقوله: لا ينطق عن الهوى.
وفي الغياث: قوله تعالى: {وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها}.
وفي الرحمة: قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}.(1/136)
وفي الأمان: قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، فليس لأحد بعد الرسول هذا المقام، صديقاً كان أو فاروقاً أو أميناً، فلذلك قال: ((لا تأمنن على أحدٍ بعدي))؛ أي: كأمنك علي؛ كأنه دله على أن يكون على حذر، ويحترس، ولا يتكل، ولا يأمن على من بعده كاتكاله عليه؛ فإن الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم، وليس لمن بعده عصمة الرسل -عليهم السلام-.
فالمعصوم مأمون، ومن خلا من عصمتهم فغير مأمون أن يستغل العدو منهم هفوة أو زلة، ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه خطب الناس فقال: ((إن لي شيطاناً يعتريني فاجتنبوني إذا غضبت، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، وإذا زغت، فقوموني)).
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((ما منكم أحدٌ إلا وقد وكل به قرينه من الشيطان))، قالوا: ومعك يا رسول الله؟ قال: ((ومعي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم)).(1/137)
فكأن الله قد عصمه، واكتنفه، وتولاه، وطهره، وطيبه، وحسن أخلاقه، وأقامه على أدب القرآن، وأثنى عليه فقال تعالى: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ}، وكان قد بلغ من أمانته ما يعجز الواصف عنه.
وروي عنه: أنه أراد قتل بعض المشركين العتاة، وكان قد أمرهم أن يقتلوه، وإن وجدوه متعلقاً بأستار الكعبة، فجاء به عثمان يسأل له الأمان، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فسكت، ثم سأله الثالثة، فأعطاه الأمان، فقال: ((انتظرت أن يقوم أحدكم فيضرب عنقه))، قالوا: فهلا أومأت؟ قال: ((إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين)).
وروي عنه -أيضاً-: أنه كان إذا مشى لا يلتفت، فكان أصحابه قد أمنوا التفاته، ويضحكون، ويمزحون، فربما تعلق رداؤه بشجرة، أو بشيء، فيقوم، ولا يلتفت حتى يضعوه عليه.(1/138)
89 - حدثنا بذلك: الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الحكم المصري -بالراء- المصري، قال: حدثنا شعيب بن يحيى، قال: حدثنا عبد الجبار بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت وراءه إذا مشى، وربما تعلق رداؤه بالشيء، أو بالشجرة، فلا يلتفت حتى يضعوه عليه؛ لأنهم كانوا يمزحون ويضحكون، فكانوا قد أمنوا التفاته.
90 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا جميع بن عمر العجلي، قال: حدثنا رجلٌ من بني تميم من ولد أبي هالة، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن عليٍّ، عن هند ابن أبي هالة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التفت، التفت جميعاً.(1/139)
الأصل الخامس عشر
91 - حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا المفضل بن فضالة، عن ربيعة بن سيفٍ المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفنا معه، فلما حاذى بابه، وقف، وتوسط الطريق، فإذا هو بامرأة مقبلة، لا نظنه عرفها، فلما دنت، إذا هي فاطمة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟))، قالت: أتيت أهل هذا الميت، فرحمت إليهم ميتهم، أو عزيتهم -لا يحفظ ربيعة أي ذلك قال-، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلعلك بلغت معهم الكداء؟))، قالت: معاذ الله! وقد(1/141)
سمعتك تذكر فيهم ما تذكر، قال: ((لو بلغت معهم الكداء، ما رأيت الجنة حتى يراها جدك أبو أبيك)).
قال قتيبة: الكداء: المقبرة.
قال أبو عبد الله: فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم لمحق آثار الجاهلية وطمسها، فكان من شأنهم إذا مات لهم ميتٌ أن يخمشوا الوجوه، وينتفوا الشعور، ويشقوا الجيوب، ويخرقوا البيوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من حلق أو خرق أو سلق)).(1/142)
ولعن في حديثٍ آخر: ناشرات الشعور، واللاتي ينعون بأصوات الحمير، وزجرهم عن ذلك زجراً شديداً، ونهاهم عن زيارة القبور؛ لحداثة عهدهم بالكفر، ولما كان لهم في زيارة القبور من الفتنة، حتى إذا رآهم قد استحكموا الإسلام، وصاروا أهل يقين وبرٍّ وتقوى، وصارت القبور لهم معتبراً بعد أن كانت مفتتناً، خلى عنهم.(1/143)
فقال: ((إني نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإن لكم فيها معتبراً)).
وسكت عن ذكر النساء؛ لضعفهن ورقتهن وسرعة افتتانهن، وأنهم لسن بموضع ثقة من ذلك، وأن عقولهن على النصف من عقول الرجال.
وقال -عليه الصلاة والسلام- فيما روي عنه: ((ما رأيت من نواقص عقولٍ ودينٍ أغلب للرجال منهن))، فقيل: ما نقصان عقولهن ودينهن(1/144)
يا رسول الله؟ قال: ((أما نقصان عقولهن، فشهادة امرأتين بشهادة رجلٍ، وأما نقصان دينهن، فترك الصلاة والصوم في الحيض)).
وبايعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ما نطق به التنزيل من قوله: {ولا يعصينك في معروفٍ}، فبايعهن، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة: أن لا ينحن.
92 - فحدثنا الجارود، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة: أن لا ننوح، فما وفت منا امرأة إلا تسع نسوة، منهن أم سليم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعهن عن حضور الجنائز.(1/145)
93 - حدثنا أبو الحجاج النضر بن طاهرٍ البصري، قال: حدثنا بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نسوة في جنازة، فقال لهن: ((ارجعن مأزوراتٍ غير مأجوراتٍ)).
94 - حدثنا أبو الأشعث العجلي، وأبو الحجاج،(1/146)
قالا: حدثنا محمد بن حمران، عن الحارث بن زيادٍ، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى النسوة، فقال: ((أتحملنه؟))، قلن: لا، قال: ((أفتدفنه؟))، قلن: لا، قال: ((فارجعن مأزورات غير مأجوراتٍ)).
95 - حدثنا سفيان، قال: حدثني أبي، عن شعبة، عن محمد بن جحادة، قال: سمعت أبا صالحٍ يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج.(1/147)
قال أبو عبد الله: فبقي الحظر عليهن إلى آخر الدهر، فإذا كانت امرأة قد انفردت عن هذه الأمور، وتخلت، فأتت قبراً لترمه، أو تسلم، أو تدعو، أو تعتبر، وقد أمنت ناحية نفسها ذلك، وماتت شهواتها، وانقطعت فتنتها، فذلك مطلقٌ لها عندنا، وهو خارجٌ عن النهي.
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما آمن الرجال، أطلق لهم في ذلك؛ لزوال علة النهي، فكذلك في النساء إذا زالت تلك العلة، فهن والرجال سواء، وكذلك كل شيء إذا نهي عنه من أجل شيء، فإذا فقد ذلك الشيء، عاد إلى الأصل، فصار مطلقاً.
وروي عن فاطمة: أنها كانت تأتي قبر حمزة في كل عام، فترمه.
وروي عن غير واحدةٍ من النساء: أنها كانت تأتي قبور الشهداء، فتسلم عليهم.(1/148)
96 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ابن نميرٍ عن زياد بن المنذر الهمداني، عن أبي جعفر، قال: كانت فاطمة -رضي الله عنها- تأتي قبر حمزة، فترمه، وتصلحه.
فأما مرمة القبور؛ فلئلا يدرس أثره، فينبش عنه؛ لأنه إذا ذهب أثره، حفر فيه لميت آخر.
وأيضاً علة أخرى: أن المسلم على الأموات وزائرهم يخفى عليه إذا ذهب رسمه، فتبطل الزيارة، وهي حقٌّ من الحقوق ليس كالذي يسلم من بعيد.
97 - حدثنا محمد بن النعمان بن شبل بن النعمان الباهلي، قال: حدثنا محمد بن النعمان عم أبي، عن يحيى بن العلاء، عن عبد الكريم، عن مجاهدٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبر أبويه أو(1/149)
أحدهما في كل جمعةٍ مرةً، غفر له، وكتب له براءةٌ)).
98 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا أبو مقاتل، عن عبد العزيز بن أبي روادٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: من زار قبر أبويه، أو أحدهما احتساباً، كان كعدل حجةٍ مبرورة، ومن كان زواراً لهما، زارت الملائكة قبره.(1/150)
فالتشديد الذي جاء في حديث الفضل بن فضالة، ومقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة -رضي الله عنها- نراه في بدء الأمر؛ حيث شدد على الرجال والنساء؛ لكي يرتدعوا عن سنن الجاهلية، وتطمس آثارها.
فأما قوله: ((لو كنت معهم، لم تري الجنة حتى يراها جدك)).
فهذا من تغليظ النهي والزجر، ولا نعلم ذلك من الذي يحرم على صاحبه الجنة، حتى يخلد في النار أبداً؛ لأنه قال: ((حتى يراها جدك))، ولكن معناه: على أن من فعل ذلك كان يخاف عليه أن يسلبه الله الإسلام، فيخرج مسلوباً، فإذا سلبه، لم ير الجنة أبداً، وأعظم نعمة الله على عبده الإسلام.
((وللإسلام سننٌ ومنارٌ كمنار الطريق)).(1/151)
فإذا عمل عملاً يكون فيه إحياء عمل الجاهلية التي أطفأها الله بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيوف المهاجرين والأنصار، فقد كفر منة الإسلام، والكفور ممقوتٌ غير مأمون عليه السلب، فكان إتيان المقابر من إحياء سنن الجاهلية، فغلظ الزجر؛ لينزجر، أو تموت تلك السنن.(1/152)
الأصل السادس عشر
99 - حدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: حدثنا سليمان بن حربٍ، قال: حدثنا أبو صالح الحراني غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد، عن أبي سمية، قال: سألت جابر ابن عبد الله عن الورود، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الورود الدخول، لا يبقى برٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم -صلوات الله عليه-، حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًّا}.(1/153)
قال أبو عبد الله: كأن الله عز وجل أحب أن يجعل ممر المؤمنين فيها؛ كي إذا نجوا منها، علموا من أين نجوا، فليس الخبر كالمعاينة، وإذا وردوا دار السلام، علموا أين دخلوا، فالشيء إنما يعرف بضده، ويعظم قدره عند هذا الآدمي، فلذلك قالوا عند دخول الجنة: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفورٌ شكورٌ}.
{أذهب عنا الحزن}: قطع النيران حيث خلصنا منها، وجعلها برداً وسلاماً علينا، {الذي أحلنا دار المقامة من فضله}، وذلك أنهم ركبوا أهوالاً كأمثال الجبال لما عاينوا النيران، وعلموا أن ممرهم فيها، فأخذتهم الأحزان من وجوه، لا من وجه واحد، فلما نجوا، حمدوا ربهم على ما أذهب عنهم الحزن، وعلموا أنهم لم يحلوا دار المقامة إلا من فضله وكرمه، وأنهم لم يستوجبوا ذلك منة، وكأنه -تبارك وتعالى- أحب أن يبرز فضل الصادقين، وبذلهم أنفسهم له، وليأخذ الحق بحقه من أولئك الطبقة التي آثرت شهوات نفوسها بتضييع الحق، وهم أهل لا إله إلا الله، حتى تنتقم النار منهم في طول مدة، ثم تدركهم رحمة الله، وقد محصوا ونقوا وهذبوا وصلحوا لدار السلام، فيبدل لهم أجساداً، ويجعلهم في جواره ملوكاً، وليجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار.
قال الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك(1/154)
عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون}.
وإنما بعدوا عنها؛ لأن النور احتملهم واحتوشهم، فهم يمضون في النار، حتى إذا أخرجوا منها، قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار؟ قالوا: بلى، ولكن مررتم بها وهي خامدة.
وأما ضجة النار، فمن بردهم، وهو برد المؤمنين، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب، فبالرحمة نالوا النور، حتى أشرق في قلوبهم وصدورهم، فعرفوه، وآمنوا به، وعبدوه، وكان نوره في قلوبهم، والرحمة مظلة عليهم، فخمدت النار من بردهم عندما لقوها.
ألا ترى أنه قال في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم))، فنسب البرد إلى المؤمنين.
وأما ضجة النار: ((فمن أجل أنها خلقت منتقمةً [من] أهل الغفلة، وحشيت بغضب الله، فإذا جاءت الرحمة ببردها، والمؤمن بنوره؛ ضجت النار مخافة أن تبرد، فتضعف عن الانتقام.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحقق ما قلنا.
100 - حدثنا عبد الكريم بن عبد الله، عن منصور بن(1/155)
عمارٍ، عن بشير بن طلحة الجذامي، عن خالد بن دريكٍ، عن يعلى بن منية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تقول النار للمؤمن: جز يا مؤمن؛ فقد أطفأ نورك لهبي)).
101 - حدثنا أبو عبد الله بن إسحاق المؤدب، ثنا يوسف بن سعيد، ثنا سليم بن منصور بن عمار، عن بشير بن طلحة الخشني، عن خالد بن دريكٍ، عن يعلى ابن منية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((تقول النار للمؤمن: جز يا مؤمن؛ فقد أطفأ نورك لهبي)).(1/156)
102 - وبهذا الإسناد قال: ((ينشئ الله لأهل النار سحابةً، فإذا رأوها، ذكروا سحائب الدنيا، فتناديهم: يا أهل النار! ما تشتهون؟ فيقولون: نشتهي الماء البارد، قال: فتمطرهم أغلالاً تزداد في أغلالهم، وسلاسلاً تزداد في سلاسلهم)).
والنجاة من الله للعبد في هذا الموطن على قدر محله عنده، ومحله على قدر ما منَّ عليه من المعرفة به، وهو اليقين الذي جعل له في ذلك حظاً.(1/157)
103 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الله بن رجاءٍ، عن إسرائيل، عن السدي، قال: سألت مرة عن ذلك، فحدثني عن عبد الله: أنه حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يرد الناس النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشد الرجل، ثم كمشيه، ثم كحبوه)).
فإنما ذكر الأعمال؛ لأنها ظاهرة، والظاهر محنة الباطن، وما في القلوب غيبٌ إلا عن خالق الغيب، فالظاهر خاصة لمعرفته أدرك معرفة الباطن، فالظاهر شاهد ينبئ عما في الباطن، فلذلك ذكر الأعمال.(1/158)
الأصل السابع عشر
104 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد ابن وهبٍ الواسطي، قال: حدثنا بقية، قال: حدثني عتبة بن أبي حكيم، قال: حدثنا أبو الدرداء الرهاوي، عن عبد الله ابن بسرٍ المازني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الدنيا، فوالذي نفسي بيده! إنها لأسحر من هاروت وماروت)).(1/159)
قال أبو عبد الله: فهاروت وماروت ليسا من جنس الآدميين، وكلٌّ إنما يألف بجنسه، وينخدع له، والآدمي خلق من الدنيا، فبها يألف، ولها ينخدع، وشهوات الدنيا في تركيبه مطبوع عليه، فلذلك صارت أسحر من هاروت وماروت، وهاروت وماروت لا يعلمان أحداً السحر {حتى يقولا إنما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}.
فهذا يعلمك سحره، وينبئك فتنته، والدنيا تعلمك سحرها، وتكتمك فتنتها، وتدعوك إلى التحارص عليها، والتنافس فيها، والجمع لها، والمنع منها، فتتعلم منها ما يفرق بينه وبين طاعة الله، ويفرق بينه وبين رؤية الحق ورعايته، والسحر يأخذ بالقلب عما أنت مقبلٌ عليه من زوجة أو غيرها، فالدنيا أسحر منها، تأخذ بقلبك عن الله، وعن القيام بحقوقه، وعن وعده ووعيده، وسحر الدنيا محبتها، وتلذذك بشهواتها، وتمنيك بأمانيها الكاذبة، حتى تأخذ بقلبك، ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حبك الشيء يعمي ويصم)).(1/160)
105 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: حدثنا ابن المبارك، عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمدٍ الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حبك الشيء يعمي ويصم)).
فمن أحب الدنيا، أعمته، وأصمته عن آخرته، ومن أحب الآخرة،(1/161)
أعمته وأصمته عن دنياه، ومن أحب نفسه، أعمته وأصمته عن الله -تبارك وتعالى-، ومن أحب الله عز وجل أعماه وأصمه عن نفسه، فإن الدنيا تحجب عن الآخرة، والنفس تحجب عن الله تعالى.
فدنياه إنما هي نفسه وشهواته، فسحرها أقرب إليه من سحر هاروت وماروت، فسحر نفسه ودنياه أصليٌّ، وسحر هاروت وماروت دخيلٌ محدثٌ، وليس الدخيل كالأصلي.(1/162)
الأصل الثامن عشر
106 - حدثنا حميد بن الربيع اللخمي، قال: حدثنا سعيد بن شرحبيل، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن ثوبان، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن المؤمن ينضي شيطانه؛ كما ينضي أحدكم بعيره في السفر)).(1/163)
قال أبو عبد الله: فالمؤمن قد وكل به قرينه من الشيطان، فإنما يحترز منه بالله، فإذا اعترض لقلبه، احترز بمعرفته، وإذا اعترض لنفسه، وهيأ شهواته، احترز بذكر الله، وإذا اعترض لأموره وأحواله، احترز باسم الله، وهو أبداً نضو، وقيد زجره به، فالبعير يتجشم في سفره أثقال حملوته، ومع ذلك النصب يجوع ويظمأ، ومع ذلك مراعٍ مختلفة، ومياه رنقة وغير عذبةٍ، فإنما صار نضواً لهذه الأحوال.(1/164)
فكذلك شيطان المؤمن يتجشم أثقال غيظه من المؤمن؛ لما يرى من الطاعة والوفاء لله، وإذا أراد أن يشركه في طعامه وشرابه، ولباسه ومنامه، ومجلسه ومنصرف أحواله، زجره، وطرده عنه بالتسمية، فوقف منه بمزجر الكلب ناحية، وإذا أراد أن ينفره حتى يشتغل عنه بنفسه، نطق بالوحدانية، وهي الكلمة العليا التي يهتز العرش لها، فقال: لا إله إلا الله، فإذا سمعها، انتكس، فصار أعلاه أسفله، وولى على وجهه هارباً إلى رسه.
وذلك قوله -تبارك وتعالى-: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً}.
فروي عن أبي الجوزاء: أنه قال: ليس شيءٌ أطرد له من القلب من قول: لا إله إلا الله، ثم تلا: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً}.
107 - حدثنا بذلك ابن أبي زياد، قال: حدثنا سيارٌ، عن جعفرٍ، عن عمرو بن مالكٍ، عن أبي الجوزاء.
108 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا(1/165)
سيارٌ، عن جعفرٍ، عن مالك، قال: قرأت في التوراة: إن سرك أن تحيا وتبلغ علم اليقين، فاحتل في كل حين أن تغلب شهوات الدنيا؛ فإنه من يغلب شهوات الدنيا، يفرق الشيطان من ظله.
109 - حدثنا عبد الرحمن بن الفضل بن موفق الكوفي، قال: حدثنا أبي، عن الأوزاعي، عن سالمٍ، عن سديسة مولاة حفصة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما لقي الشيطان عمر رضي الله عنه قط إلا خر لوجهه)).(1/166)
110 - حدثنا سفيان، عن وكيع، قال: حدثنا عتبة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن(1/167)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما لقي الشيطان عمر رضي الله عنه في فجٍّ، فسمع صوته، إلا أخذ في غيره)).
ومثل عمر في هذا الباب مثل أمير ذي سلطان وهيبة، استقبله مريب، قد رفع إليه من ريبته أمور شنيعة، وعرفه بالعداوة له، فانظر ماذا يحل بهذا المريب إذا لقيه، فإن ذهبت رجلاه، وخر لوجهه، فغير مستنكر.(1/168)
الأصل التاسع عشر
111 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا معلى ابن هلالٍ، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)).(1/169)
112 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الحسن ابن عليٍّ، عن يوسف بن خالدٍ السمتي، قال: أخبرنا مسلمة بن قعنبٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما عبد الله بشيءٍ أفضل من فقه في دينٍ)).(1/170)
113 - حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا يزيد بن عياض، عن صفوان بن سليم، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما عبد الله بشيءٍ أفضل من فقهٍ في دينٍ، ولفقيهٌ واحدٌ أشد على الشيطان من ألف عابدٍ، ولكل شيءٍ عمادٌ، وعماد هذا الدين الفقه)).
قال أبو عبد الله: والفقه: هو الفهم، وانكشاف الغطاء عن الأمور، فإذا عبدَ الله بما أمر ونهى بعد أن فهمه وعقله، وانكشف له الغطاء عن تدبيره فيما أمر ونهى، فهي العبادة الخالصة المحضة.(1/171)
وذلك أن الذي يؤمر بالشيء، فلا يرى زين ذلك الأمر، وينهى عن الشيء، فلا يرى شينه، فهو في عمىً من أمره، فإذا رأى زين ما أمر به، وشين ما نهي عنه، عمل على بصيرة، وكان قلبه بها أقوى، ونفسه لها أسخى، وحمد على ذلك وشكر، والذي يعمى عن ذلك؛ فهو جامد القلب، كسلان الجوارح، ثقيل النفس، بطيء التصرف.
والفقه: مشتق من تفقؤ الشيء، يقال في اللغة: فقأ الشيء: إذا انفتح، وفقأ الجرح: إذا انفرج عما اندمل، فالاسم منه فقءٌ، والهاء والهمزة تتبدلان، تجزئ إحداهما عن الأخرى، فقيل: فقيء، وفقيه.
والفهم: هو العارض الذي يعرض في القلب من النور، فإذا عرض، انفتح بصر القلب، فرأى صورة ذلك الشيء في صدره، حسناً كان أو سيئاً، فالانفتاح هو الفقه، والعارض هو الفهم.
وقد ذكر الله تعالى في قوله الفقه، فقال: {لهم قلوبٌ لا يفقهون بها}، فأعلم أن الفقه من فعل القلب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين قرأ عليه: {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًّا يره}، فولى وقال: حسبي حسبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقه الرجل))؛ أي: فهم.(1/172)
وقول أبي الدرداء رضي الله عنه: إنك لن تتفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً كثيرة.
وأن الله -تبارك وتعالى- كلف العباد لما أعطاهم من العلم أن يعرفوه، ثم اقتضاهم بعد المعرفة أن يخضعوا له فيدينوا، فشرع لهم شريعة الحلال والحرام؛ ليتدينوا له بمباشرتهم الحلال، واجتنابهم الحرام، ويؤدوا إليه فرائضه، فذلك الدين، وهو الخضوع له، والدون: مشتق من ذلك، وكل شيء اتضع، فهو دون.
فأمرت بأمور لتضع نفسك لمن اعترفت به ربًّا، فسمي ذلك الفعل، وتلك الأمور منك ديناً، فشرع الله لهم الدين، فقبلوه طائعين؛ أي: مطيعين أنفسهم له بذلاً وعبودة، فمن فقه أسباب هذه الأمور التي أمر ونهى، ولاحظ(1/173)
منه ماذا أمر، ورأى زينه وبهاءه، تعاظم ذلك عنده، وكبر في صدره شأنه، فكان أشد تسارعاً فيما أمر، وأشد هرباً وامتناعاً مما نهى، فالفقه في الدين جند عظيم يؤيد الله به أهل اليقين الذين عاينوا محاسن الأمور ومشاينها، وأقدار الأشياء، وحسن تدبير الله في ذلك لهم بنور يقينهم؛ ليعبدوه على يسر، ومن حرم ذلك، عبده على مكاره وعسر؛ لأن القلب، وإن أطاع وانقاد لأمر الله تعالى، فالنفس إنما تخف وتنقاد إذا رأت نفع شيءٍ، أو ضرر شيء، فالنفس جندها الشهوات، ويحتاج صاحبها إلى أضدادها من الجنود، حتى يقهرها، وتنقاد له وهو الفقه.
قال له قائل: صف لنا واحداً من هذه الأمور نفهم بها غيرها؟
قال: نعم، أحل الله النكاح، وحرم الزنا، فإنما هما إتيانٌ واحدٌ لامرأة واحدة، إلا أن هذا بنكاح، وذلك بزناً، فإذا كان بنكاح؛ فمن شأنه العفة والتحصين للفرج، فإذا جاءت بولد، ثبت النسب، وجاء العطف من الوالد بالنفقة والتربية والميراث، وإذا كان من زنا، ضاع الولد؛ لأنه لا يدري أحدٌ من الواطئين لمن هذا الولد، فهذا يحيله على ذلك، وذلك(1/174)
يحيله على هذا، وحرم الله الدماء، وأمر بالقصاص؛ ليتحاجزوا، وليحيوا، ولذلك قال في تنزيله: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلكم تتقون}.
وأحرز الأموال، وأمر بقطع اليد السارقة؛ ليتمانعوا بما ملكت أيديهم، وكذلك قال في تنزيله: {فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله}.
قال: فالنكل: الامتناع، فأمر بقطع يده؛ ليمتنع من ذلك، فإن عاد، فرجله، فلعل بما أمر ونهى تنبيهاً لأولي البصائر والعقول، ولمن رزق لبًّا.
114 - حدثنا المهدي بن علي السمناني، قال: حدثنا أحمد بن صالح المصري، قال: حدثنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عباد بن سالمٍ، عن سالمٍ بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، يفقهه)).(1/175)
115 - حدثنا محمد بن زنبورٍ المكي، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفرٍ المدني، قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هندٍ، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين)).
116 - حدثنا نصر بن عليٍّ الحداني، قال: أخبرنا هارون بن مسلم، قال: أخبرنا عبيد الله بن الأخنس، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيثٍ مولى بني عبد الدار، عن يوسف بن ماهك، قال: كان معاوية قليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلما قام خطيباً إلا قال: سمعت(1/176)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين))، يا أيها الناس! تفقهوا.(1/177)
الأصل العشرون
117 - حدثنا إبراهيم بن سعيدٍ الجوهري، قال: أخبرنا محمد بن ربيعةً، عن كامل بن العلاء، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عمر أمتي من ستين سنةً إلى سبعين سنةً)).(1/179)
118 - حدثنا يحيى بن المغيرة المخزومي المدني، قال: أخبرنا ابن أبي فديك، عن إبراهيم بن الفضل، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين)).
119 - حدثنا هارون بن حاتمٍ الكوفي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، عن إبراهيم بن الفضل، عن المقبري، عن(1/180)
أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقل أمتي أبناء السبعين)).
قال أبو عبد الله: فهذا من رحمة الله على هذه الأمة، وعطفه عليهم، حرسهم في الأصلاب حتى أخرجهم إلى الأرحام بعد أن نفدت الدنيا، ثم قصر أعمارهم؛ لئلا يتلبسوا بالدنيا إلا قليلاً، ولا يتدنسوا؛ فإن القرون الماضية كانت أعمارهم وأجسادهم وأرزاقهم على الضعف، كان أحدهم يعمر ألف سنة، وجسمه ثمانون باعاً بالباع الأول، والحبة من القمح مثل كلوة البقر، والرمانة الواحدة يجتمع عليها عشرة نفر، والعنقود مثله، فكانوا يتناولون من هذه الدنيا بهذه الصفة على مثل تلك(1/181)
الأجساد، وفي مثل تلك الأعمار، فمنها أشروا، وبطروا، واستكبروا، وأعرضوا عن الله، فصب عليهم سوط عذاب.
فقال الله تعالى في تنزيله: {ألم تر كيف فعل ربك بعادٍ. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط}، ثم قال: {إن ربك لبالمرصاد}؛ أي: لهم، ولجميع خلقه.
120 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا أبو ضمرة، عن زيد بن أسلم، قال: لقد رأيت ضبعاً وأولادها رابضة في حجاج عين رجلٍ من العمالقة.
121 - حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا حوشب، عن عبد الكريم، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كعب الأحبار، قال: بلغني أن نوحاً كان قاعداً، فجاءه شابٌّ صبيح، فنظر إليه نوح، فقال: يا هذا! كم أتى لك؟ قال: مئتا سنة، قال: احتلمت؟ قال: لا، ثم جاءه آخر أجمل من الأول، فقال له: كم أتى لك؟ قال: خمس مئة سنة، قال: احتلمت؟ قال: لا، فلم يزل(1/182)
الناس ينقصون في الخَلق والخُلُقِ والرزق والأجل.
روي ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
إلى أن صارت هذه الأمة آخر الأمم، وصارت أرزاقهم في هذه الهيئة، والأجسام بهذه المقادير، والأعمار بهذا القصر، حتى أخذوا من الدنيا أرزاقاً قليلة بأجسام ضعيفة في مدة قصيرة، حتى لا يأشروا، ولا يبطروا معاً، فهذا تدبير من الله رحمة لهذه الأمة، وخيرة لهم، ثم ضوعف لهم في الحسنات، فجعلت الحسنة الواحدة بعشر إلى سبع مئة إلى ما لا يعلمه من التضعيف إلا الله، وأيدوا باليقين، وأعطوا ليلة القدر، وذلك لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصر أعمارهم، وجد من ذلك وجداً شديداً لحال العبودية، والأخذ بحظهم منها، فأعطوا ليلة القدر.
122 - كذلك حدثني به أبي، عن مطرف، عن مالك بن أنس رضي الله عنه.(1/183)
فجعلت حسناتهم على ثلاث منازل؛ لأنهم ثلاثة أصناف: ظالمون، ومقتصدون، وسابقون.
فالصنف الأول: هم أهل تخليط، قومٌ موحدون لا يرعوون عن الحرام، ولا يحفظون حدود الله، خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً، فهم الظالمون، والحسنة منهم بعشر أمثالها.
والصنف الثاني: قوم هم متقون، متورعون، قائمون على الحدود على سبيل الاستقامة، وهم المقتصدون، والحسنة منهم بسبع مئة؛ لأن جوارحهم قد صارت مسبلةً لله، قد استقامت على سبيل الله، فإذا أنفقوا من جوارحهم عملاً، كان بسبع مئة، كالذي ينفق ماله في سبيل الله، فهو بسبع مئة.
ومما يحقق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حسن إسلام العبد، تمم الله له عمله بسبع مئة ضعفٍ)).(1/184)
فقوله: (حسن إسلامه): هو أن يكون مستقيم الطريق إلى ربه، لا يعرج يميناً ولا شمالاً؛ أي: لا يعصي، فهذا ترفع أعماله من جوارح طاهرةٍ، والأول من جوارح دنسةٍ.
والصنف الثالث: قومٌ أهل يقين، انتبهوا، وحييت قلوبهم بالله، وماتت منها الشهوات، وهم السابقون المقربون، فأعمالهم مضاعفة لا يعلم تضعيفها إلا الله عز وجل، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل من أمتي يبلغ بوزن الحرف الواحد من تسبيحه زنة أحدٍ)).
وما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: إن الرجل من هذه الأمة يعدل عمل يومه سبع سماوات وسبع أرضين.
وبما روي عن كعب: إن الرجل من هذه الأمة ليخر ساجداً، فيغفر لمن خلفه، فكان كعب يتوخى الصف المؤخر من المسجد رجاء ذلك، ويذكر أنه وجده كذلك في التوراة.(1/185)
وقد ذكر الله عز وجل في تنزيله هذه الأصناف، فقال: {فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله}، ثم قال: {ذلك هو الفضل الكبير}.
وقال في شأن التضعيف: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، فقد دخل فيه الكل، ثم قال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ}.
فهذا لمن أنفق ماله في سبيل الله، فكيف من أنفق جوارحه في سبيله؟!
فإذا لم تكن الجوارح سليمة، لم يمكنه أن ينفق منها في سبيله، إنما ينفق منها كما ينفق أحدهم دراهمه في سبيل الخيرات هاهنا في وطنه.
ثم قال: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرةً}.
فالقرض الحسن: هو الذي يعطى من غير التفات إلى ما أعطي، فهذا(1/186)
له بأضعاف ما لا يحصى عدده، وقد أجملنا هذه الكلمة في تفسير القرض الحسن، وقد شرحته في بابه في قصة أبي الدحداح رضي الله عنه.(1/187)
الأصل الحادي والعشرون
123 - حدثنا أبو سنان، قال: حدثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي حلبسٍ يزيد بن ميسرة، قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، -وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها- يقول: ((إن الله قال: يا عيسى! إني باعثٌ من بعدك أمةٌ إن أصابهم ما يحبون، حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون، صبروا واحتسبوا، ولا حلم ولا علم، قال: يا رب! كيف يكون هذا لهم، ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي ومن علمي)).(1/189)
قال أبو عبد الله: فهذه أمة مختصة بالوسائل من بين الأمم، محبوةٌ بالكرامات، مقربة بالهدايات، محظوظة من الولايات، ولي الله هدايتهم وتأديبهم، وقرب منازلهم، ورفع منقلبهم في علياء الدرجات، مسمون في التوراة: صفوة الرحمن، وفي الإنجيل: حكماء، علماء، أبرار، أتقياء، كأنهم في الفقه أنبياء.
وفي القرآن: {أمةً وسطًا}؛ أي: عدلاً، وشهداء الله في الموقف للأنبياء على الأمم، وخير أمة أخرجت للناس.
والمنادون بجانب طور سيناء: يا أمة أحمد! سبقت لكم رحمتي غضبي، أعطيكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني،(1/190)
وأجبتكم قبل أن تدعوني.
وهو قوله: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا}، و {يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}، {أشداء على الكفار رحماء بينهم}.
غرٌّ محجلون، غرٌّ من السجود، محجلون من الوضوء، وهو قوله جل جلاله: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}.
124 - حدثنا حفص بن عمرٍو، قال: أخبرنا الحكم بن نافعٍ الحمصي، قال: حدثنا صفوان بن عمرٍو السكسكي، عن يزيد بن خميرٍ الرحبي، عن عبد الله بن بسرٍ المازني، قال: قيل: يا رسول الله! كيف تعرف أمتك يومئذ؟ قال: ((أرأيت لو كان لأحدكم خيلٌ دهمٌ، وفيها أغر محجل، أما كان يعرفه؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإن أمتي يومئذٍ غرٌّ من السجود، محجلون من آثار الوضوء)).(1/191)
جعلهم الله أهل حمية ونصرة، فسماهم مهاجرين وأنصاراً، هاجروا في ذاته الأهل والمال والولد والوطن، ونصروا الله، ثم من سار على منهاجهم بعدهم، سماهم تابعين بإحسان، ثم جمعهم في استحقاق الفيء الذي خصهم به من بين الأمم، وقال: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً}، ولم تحل لأمة قبلهم.
فقال في ذكر الفيء: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم}، ثم قال: {والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم}، وهم الأنصار.
ثم قال: {والذين جاءوا من بعدهم}، وهم التابعون، فجعلهم في هذه اللقمة الهنية الطيبة المباركة التي صيرت طعمة لهذه الأمة خصوصاً شركاء، فلم يخرج التابعين من ذلك.
ثم جمعهم في الرضا عنهم، فقال: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه}.
وقد شرحت هذه القصة في ((نوادر المسائل)).(1/192)
فنشر الله كرامة هذه الأمة، وسعادة جدهم عنده، وما منحهم من الأخلاق، وما من به عليهم من بين الأمم في الكتب من التوراة والإنجيل والفرقان؛ لعظم أقدارهم عنده، فإنما صارت هذه الأمة حكماء علماء، وأبراراً وأتقياء فقهاء، وعلى الكفار أشداء، وفيما بينهم رحماء، وغيظاً للكفار، وممن يعجب الزراع بهم بخطةٍ واحدةٍ بها نالوا هذه الأشياء، وهو أن هداهم لسبيله، وهو الذي تولى هدايتهم، فبالهداية نالوا ذلك، والأولون لم ينالوا ذلك إلا الواحد بعد الواحد، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي من اليقين ما لم تعط أمةٌ)).
وهو قوله: {فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، ثم قال: {أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}.
ومما يحقق ما قلنا: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما من نبيٍّ إلا وقد أعطي من الآيات ما على مثله آمن البشر، وإني لم أبعث بآيةٍ، وإنما أوحي إلي وحياً، ثم أنا أكثر الأمم تبعاً)).(1/193)
125 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني أطمع أن أكون أعظم الأنبياء أجراً عند الله يوم القيامة، كلهم أوتي من الآيات ما الذي أوتيته بمثله اعتبر البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، ثم أنا أكثرهم تابعةً)).
قال له قائل: وما تلك الهداية؟ قال: إن الله -تبارك اسمه- {يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ}.
فمن هداه هدي التوحيد، فإنما أعطاه نوراً هداه لمعرفته بأنه واحد، ثم تركه مع مجاهدة نفسه في أمره ونهيه، حتى يقطع عمره بذلك، فيلقاه مجاهداً لنفسه على سبيل الاستقامة، فيثيبه الجنة على ذلك، وإنما صار(1/194)
هكذا؛ لأنه أعطاه من النور ما عرفه رباً واحداً لا شريك له، ثم جاءت الشهوات، فأحاطت بقلبه، فلم تتركه على سبيل أهل الوفاء، حتى يكون له عبداً بجميع جوارحه، في جميع منقلبه، كما عرفه ربًّا، فيكون واقفاً عند أمره ونهيه، مراقباً لحدوده، فهذه هداية العامة، فلن تنال بهذا تلك الصفة التي ذكرت في التوراة والإنجيل والفرقان؛ لأن النفس بما فيها من الهوى غلبت على القلب، فلا تتركه على سبيل الاستقامة، حتى تميل به يميناً وشمالاً.
وأما هداية العصمة والولاية بأن يقذف الله في قلب العبد نوراً وهو اليقين، حتى يهتك حجب الشهوات التي تراكمت في صدره على قلبه، فيمتلئ قلبه نوراً، ويشرق صدره، فتصير الآخرة له كالمعاينة.
كما قال حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وإلى أهل الجنة كيف يتزاورون، وإلى أهل النار كيف يتعاوون فيها، فعزفت نفسي عن الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرفت فالزم، عبدٌ نور الله الإيمان في قلبه)).(1/195)
فهذا نور على نوره، وذهبت ظلمات الشهوات من الصدور وهي التي كانت تحجبه عن الله، وعن وعده ووعيده، وتجلى في صدره شأن الدنيا، فعامة هذه الأمة من السلف برزوا، وصاروا أئمة، باليقين النافذ قد نفذوا الأسباب إلى وليها، فلم يبق مع الأسباب، ولا بقيت لهم علاقة، وهو قوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
فالهدى على ثلاث منازل:
هدى على سنة الرسل: وهو البيان يدعوهم، ويبين لهم، فتلك هداية الظاهر، وهو قوله: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}، فإنما هداهم بالرسول.
وهدى على القلب: يجعل فيه نوراً، فيعرفه رباً واحداً، وهو قوله:(1/196)
{أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس}، فتلك هداية الباطن، وهو الإيمان.
وهدى على القلب هدى الولاية: هو أن يقذف النور في قلبه بعد هذا، ويستقر فيه، وهو اليقين.
وإنما سمي يقيناً؛ لأنه استقر، فيمتلئ قلبه نوراً، ويشرق صدره به، ويتصور له الدنيا والآخرة، وشأن الملكوت في صدره، ويتصور له أمور الإسلام، حتى تذل النفس وتنقاد، ويلقي بيديه سلماً من الخشية والهيبة والسلطان الذي حل بقلبه، وفي صدره، وهو قوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه}، فشرح الصدر إنما يكون من النور الذي يستقر، فيقال له: يقين.
وأما نور التوحيد في القلب والصدر بتراكم دخان الشهوات مظلم كالليل، وكالغيم، وكالغبرة، وكالدخان، وكالقتار.
وهدى رابع على القلب: هدى النبوة: وهو نور وجهه الكريم يوصل قلوبهم إلى وحدانيته، ويشرق صدورهم بنوره، ويجعلهم في قبضته، ويرعاهم بعينه، ويؤيدهم بروح قدسه، قال الله -تبارك اسمه- في تنزيله: {قل إن هدى الله هو الهدى}.
أي: إن ذلك الهدى الذي على ألسنة الرسل غير نافع ولا مغيث،(1/197)
فإنما الهدى هداي الذي أهدي إلى القلوب، وإن كان ذاك أيضاً يسمى هدى، فهذا أحق الهدى، وهو كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)).
فقال: إن هدى الله هو الهدى، وهدى الرسل حجة الله على خلقه بأنه بين لهم على ألسنتهم ضلالة سبيلهم، وأعطاهم إخلاصاً ومعرفة بالأمور، ونصراً لا يغني شيئاً، وأن هدى الله هو الهدى، ثم ذكر هذه الأمة، فقال في مبتدئه: {وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون}.(1/198)
وكانت هذه حيلةً من اليهود؛ كي يشبهوا على المسلمين، فيستزلوهم، فأمروا طائفةً منهم أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيؤمنوا به، ثم يرجعوا إليه من آخر النهار مرتدين يخاصموه ويحاجوه، حتى يشككوا أصحابه، فقال الله -تبارك اسمه-: قل يا محمد: {إن الهدى هدى الله}؛ أي: إن الهدى الذي آتيتكم يا أمة محمد هدى الله.
وقوله: {إن الهدى} معرفة، وليست نكرة، كأنه يشير إلى شيء مخصوصٍ؛ يعني: الهدى الذي أتى هذه الأمة هو هدى الله؛ أي: هو الذي تولاكم بالهداية، ثم قال: {أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم}؛ أي: لن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم؛ أي: من الهدى، وهو اليقين، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أعطيت أمةٌ من اليقين ما أعطيت هذه الأمة)).
ثم قال: {أو يحاجوكم عند ربكم}، وهي المحاجة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث يوم القيامة.
ثم قال: {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليمٌ. يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
فأما الحديث:
126 - فحدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنه، عن(1/199)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((مثلكم ومثل اليهود والنصارى، كمثل رجلٍ استعمل عمالاً، فقال: من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراطٍ قيراطٍ؟ ألا، فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراطٍ قيراطٍ؟ ألا فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من صلاة العصر إلى صلاة المغرب على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملاً، وأقل عطاءً، فقال: أظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: إنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء)).
فقوله: (نحن أكثر عملاً وأقل عطاءً) هو المحاجة عند ربهم قوله: {أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله}، فذكر في الآية: أن(1/200)
هذه الأمة مختصة بالرحمة، مفضلة بالكرامة، فالفضل الذي آتاهم على الأمم: أن أعطاهم اليقين، فبه برزوا،، وفيه انكشف الغطاء عن قلوبهم، حتى صارت الأمور لهم معاينة.
127 - حدثنا المؤمل بن هشامٍ اليشكري، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، عن غالبٍ القطان، عن بكر ابن عبد الله المزني، قال: لم يفضل أبو بكر الناس بكثرة صومٍ ولا صلاة، إنما فضلهم بشيء كان في قلبه.
128 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: أخبرنا الحسن بن سوارٍ، عن المبارك، عن الحسن، قال: إنما غلب عمر الناس بالزهد واليقين.
129 - حدثنا أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عميرٍ،(1/201)
عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: أنتم اليوم أكثر صياماً وجهاداً وصلاةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم، فقال فبم ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة.
130 - حدثنا أحمد بن عبد الله المهلبي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حازمٍ، قال: قال طلحة بن عبيد الله: ما كان عمر أولنا إسلاماً، ولا أقدمنا(1/202)
هجرةً، ولكن أزهدنا في الدنيا، وأرغبنا في الآخرة.
131 - (حدثنا أحمد بن عبد الله المهلبي، قال: حدثنا شقيق بن أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حازم).
فأما قوله في حديث عيسى -صلوات الله عليه- قال: ((فإن أصابهم ما يحبون، حمدوا وشكروا)).
والحمد: هو التكلم بكلمة الحمد.
أما الشكر: فرؤية النعمة من الله، ومن رأى النعم من الله، ذللته أثقال النعم، وانقاد لله، فإنما الآدمي مطبوع هكذا أن من أحسن إليه، فقد سبى قلبه، وصار له كالآخذ باليد يذهب به حيث يشاء، والنفس يهيمها البر واللطف، والرفق والإحسان، فإذا رأى العبد من الله إحسانه وبره، تذلل له، فاستحيا منه أن يخالف أمره.
ولهذا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جبلت القلوب على حب(1/203)
من أكرمها، وبغض من أهانها.
رواه الأعمش، عن خيثمة، عن عبد الله.
132 - حدثنا أحمد بن عبد الله الأزدي، قال: حدثنا يحيى بن معينٍ، عن هشام بن يوسف الصنعاني، عن عبد الله(1/204)
ابن سليمان النوفلي، عن محمد بن عليٍّ بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)).
133 - حدثنا عبد الله بن الوضاح اللؤلئي، قال: أخبرنا يحيى بن يمانٍ، عن يوسف الصباغ، عن الحسن، قال: قال موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا رب! كيف شكرك آدم؟))، قال: علم أن ذلك مني، فكان ذلك شكره.(1/205)
وأما قوله: (احتسبوا وصبروا).
فالاحتساب: أن يرى ذلك الشيء الذي أخذه لله، وإن كان قد صيره باسمه، فالأصل هو لله، فتحتسبه لله، كما هو في الأصل.
وصبر: أي: ثبت، فلم يزل عن مقامه لله بزوال ذلك الشيء عنه؛ فإن العبد المؤمن، يقول: أنا لله، وها أنا ذا بين يديه مقيمٌ في طاعته، ونعم الله عليه سابغةٌ، فإذا امتحنه، وأزال عنه نعمه، زال عن مقامه ذلك طالباً لتلك النعمة التي زالت، فليس ذلك ثباتاً، والصبر هو الثبات على المقام بين يديه، فلا يعصيه.
وأما قوله: (لا حلم ولا علم)، فكأنه يخبر: أن الله تعالى قدر حلماً وعلماً لخلقه يتحالمون فيما بينهم، ويتعالمون، بذلك الحلم يتخلقون بأخلاقهم، كما قدر فيهم رحمة واحدة، فقسمها بينهم، فبها يتراحمون فيما بينهم، وبها يتلاطفون.
ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم)).(1/206)
فكانت هذه الأمة آخر الأمم، فرق ذلك ودق، فلو تركهم على رقة تلك الأخلاق، ورقة تلك الأحلام، وقلة العلم، لم ينالوا من الخير إلا يسيراً.
وهو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: ولم يزل الناس ينقصون في الخَلق والخُلق والرزق والأجل من زمن نوح، وقد كان أحدهم يعمر ألف سنة.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن البرة فيهم كانت ككلوة البقر، والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفرٍ)).
134 - حدثنا بذلك الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا(1/207)
هشام بن خالدٍ الدمشقي، عن خالدٍ القسري، عن الكلبي، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والرجل في خلقه ثمانون باعاً، فصارت الأعمار ما بين الستين والسبعين، والبرة هكذا، والخلقة هكذا.
فانظر كم التفاوت بين العمرين، وبين الخلقين، وبين الرزقين، فكذلك بين الخلقين، فكأنه على نحو ما ذكر لم يبق لنا من الحلم والعلم من الحظ إلا يسيرٌ كان ما يفسد أكثر مما يصلح، وكنا في المثال:
كيأجوج ومأجوج، إذ كان لا حلم ولا علم، فصرنا بمنة الله علينا بهذه الصفة التي وصف، إن أصابهم ما يحبون، حمدوا، وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون، صبروا، واحتسبوا، حتى برزوا على الأمم، وصاروا صفوة، والمتقدمين يوم الموقف، والمبدوء بهم، وحرام على الأمم دخول الجنة حتى تدخلها هذه الأمة، فسأل عيسى ربه، فقال: كيف يكون هذا الفضل لهم، ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي، وهو اليقين الذي أعطيت هذه الأمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي ما لم يعط أحدٌ)).(1/208)
وهو قوله تعالى: {أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم}، ثم قال: {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ}؛ أي: بفضله {عليمٌ}؛ أي: ممن هو له أهل {يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}، وقوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيءٍ عليماً}.
فقوله: (أعطيهم من حلمي وعلمي)؛ أي: أعطيهم النور في قلوبهم، فتنشرح له صدورهم، وتتسع، فهو حلمه.
والحلم: اتساع القلب والصدر بالأمور، فكلما دخل الصدر فكرة أمرٍ، ذاب فيه، وانهضم كما ينهضم الطعام في المعدة، فاتسع الصدر للأمور، وصلحت الأمور فيه، فطابت، فكل طعام لا ملح فيه، فلا طعم له، وكل أمرٍ لا حلم له في القلب، فلا يتسع له، ولا تجد النفس طعم ذلك الأمر، فتلفظه، فإذا لفظته، ضاق الصدر، فإذا ورد النور على القلب، اتسع الصدر لذلك الأمر، فمنه تخرج محاسن الأخلاق والأفعال، وهو قوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه}.
والحلم والملح يرجعان إلى معنى واحد، وكل واحد منهما ثلاثة أحرفٍ يستعمل كل واحد منهما في نوعه.(1/209)
وأما قوله: (ومن علمي)، فإنه لما ورد النور على قلوبهم، صاروا في العلم بالله، والعلم بأسمائه الحسنى، إلى ما سبى قلوبهم، وصارت قلوبهم متعلقةً بذكره، فاحتشت صدورهم من الحكمة، وفهموا عن الله، وصاروا أبراراً أتقياء فقهاء، فلو تركهم على قسمتهم وحظهم في آخر الأمم من الذي كان قدر لجميع الخلق من الحلم والعلم والرحمة، لكانت هذه الأمة أدنى الأمم وأخسها، ولما من عليهم بعطائه الواسع الكريم، برزوا على الأمم، فلذلك:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنتم توفون سبعين أمةً، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى)).
فإنما قووا على أن صاروا مهاجرين وأنصاراً، هجروا أوطانهم وأموالهم وأولادهم، ونصروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وصاروا من بعدهم تابعين بإحسان بمثل هذا العطاء الواسع، واليقين النافذ؛ لأن النفس من شأنها أنها لا تترك شيئاً(1/210)
قبضت عليه حتى تطمع في شيء خير منه، وإلا، فمخاليبها أحد من أن تقدر على الانتزاع منها، فإذا كان في كفها درهم، فأطمعت في دينار، فرأت الدينار، رمت بالدرهم، وأعرضت عنه، ثم هي مقبلة على الدينار، فإذا طمعت في جوهر، فنظرت إلى الجوهر الذي يعدل ملء بيت ديناراً، لهت عن الدينار، وصارت خدرةً ذبلة، وضعفت قوة مخاليبها، فبقيت سلسة، فأقبلت على الجوهر معرضة عن الدينار والدرهم، مشتغلة بالجوهر، وتعنى به.
فلولا أن الله تعالى من على هذه الأمة بهذا اليقين حتى طالعوا الملكوت، وعظم جلال الله في صدورهم، حتى كانوا ممن يؤبه لهم، ويعبأ بهم، وهم آخر الأمم، وأقلهم حظًّا من الحلم والعلم الذي قدر لهذه الأمة!
وروي لنا عن كعب: أنه قال: لما نظر موسى في الألواح، قال: رب إني أجد في الألواح صفة قومٍ على قلوبهم من النور أمثال الجبال، تكاد البهائم تخر لهم سجداً إذا رأوهم؛ من النور الذي في صدورهم، قال: تلك أمة محمد، يذمون أنفسهم، ولا يعجبون بها، فمن سعة أخلاقهم، ونور قلوبهم، أمكنهم أن يهاجروا، وينصروا الله ورسوله، وقالت بنو إسرائيل لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}.
ولهذه الأمة من العلم بالله وبوحدانيته ما لم يسبقهم إليه أحد إلا النبيون، ومما يدل على ذلك: أنه جعل في هذه الأمة صديقين خلفاً من النبيين.(1/211)
135 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، ثنا الحجاج ابن منهالٍ، عن حماد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أبي طيبة، عن عبد الله بن عمرٍو، قال: أجد في الكتب: أن هذه الأمة تحب ذكر الله كما تحب الحمامة وكرها، وهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها.
وفيما روي في حديث شعيا: إن الله تعالى قال لبني إسرائيل: ((سميتكم أحبائي، فهان عليكم ذلك، وسأؤثر بذلك الاسم من يطيعني، ويعقل أمري، قوماً إذا زكت أعمالهم، علموا أن ذلك مني، وإذا أقسموا، لم يقسموا بغيري، ولا يسبون، ولا يلعنون زرع بركتهم وأبناءهم، وأجيبهم من قبل أن يدعوني، وأعطيهم من قبل أن يسألوني، وأوفقهم من قبل أن يتكلموا، أبعث لهم نبياً أميًّا عبداً، المتوكل المصطفى المرفوع المختار، يعفو ويصفح، ولا يجزي بالسيئة السيئة، أفتح به أعيناً كمهاً، وآذاناً صمًّا، وقلوباً غلفاً، أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلقٍ كريم، أجعل السكينة لباسه، والبر(1/212)
شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقودة ضميره، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمغفرة والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدي إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأسمي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأجعل أمته خير أمة رعاة الشمس، طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التي أخلصت إلي، ألهمهم التسبيح والتكبير والتمجيد والتحميد والتوحيد في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم، ومنقلبهم ومثواهم، يصفون في مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشي، أوليائي وأنصاري أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان، يصلون لي قياماً وقعوداً، وركوعاً وسجوداً، يخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي وفاء بعهدي، ويقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً، يطهرون الوجوه والأطراف، ويأتزرون على الأنصاف، ويكبرون ويهللون على الأشراف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبانٌ بالليل، ليوثٌ بالنهار، ينادي مناديهم في جو السماء، لهم دويٌّ كدوي النحل، إذا غضبوا هللوني، وإذا فزعوا كبروني، وإذا تنازعوا سبحوني، أجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين، والشهداء(1/213)
والصالحين، وأمته من بعده يهدون بالحق، وبه يعدلون، أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان، وأختم بهم الخير الذي بدأته، ذلك من فضلي أؤتيه من أشاء)).(1/214)
الأصل الثاني والعشرون
136 - حدثنا محمد بن المثنى أبو موسى الزمن، ثنا معاذ بن هشامٍ، حدثني أبي، عن يونس، عن قتادة، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: ((ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوانٍ قط، ولا في سكرجةٍ، ولا خبز له مرققٌ)).
قلت لأنسٍ: فعلى ماذا كانوا يأكلون؟ قال: على السفر.(1/215)
قال أبو موسى: يونس هذا هو ابن أبي الفرات الإسكاف.
قال أبو عبد الله رحمه الله: الخوان: هو شيء محدثٌ فعلته الأعاجم، ولم تكن العرب لتمتهنها، وكانوا يأكلون على السفر، واحدتها: سفرة، وهي التي تتخذ من الجلود، ولها معاليق تنضم وتنفرج، وبالانفراج سميت: سفرة؛ لأنها إذا حلت معاليقها، انفرجت، فأسفرت عما فيها، فقيل: سفرة.
وإنما سمي السفر سفراً: لإسفار الرجل بنفسه عن البيوت والعمران.
وقوله: (ولا في سكرجةٍ)؛ لأنها أوعية الأصباغ للألوان، ولم يكن من شأنهم الألوان، إنما كان طعامهم الثريد عليها مقطعات اللحم.
وكان يقول: ((انهسوا اللحم نهساً؛ فإنه أشهى وأمرأ)).
137 - حدثنا بذلك عبد الجبار: قال: حدثنا سفيان، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن عبد الله بن الحارث، عن صفوان بن أمية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((انهسوا اللحم(1/216)
نهساً؛ فإنه أشهى وأمرأ)).
وقوله: (ولا خبز له مرققٌ): فكان عامة خبزهم الشعير، وإنما يتخذ الرقاق من دقيق البر، وقلما يمكن اتخاذه من الشعير، وإنما الرقاق لمن اتخذ الميسر، وليس ذلك من شأن العرب، إنما هو من فعل العجم، والعرب تنهس اللحم.
وسمعت الجارود يذكر عن وكيع، قال: ما درينا ما البر ما هو حتى جاءنا ابن المبارك.
والميسر: هي عربية مولدة، وليست بأصلية فيما أحسبه، كأنه أخذ من تيسير اللحم؛ لأنه اتخذ تيسير اللحم اليسير على النفر الكثير، وإذا كان لحماً، أخذ كل إنسان بضعة لم يتسعوا فيه ولا تيسروا، فاتخاذ الميسر هو قسمة وتوزيع بين الأكلة، وذلك الانتهاس.(1/217)
والتعرق: هو فعل العرب في عامة هذه الأشياء أيسر من فعل العجم، طبعوا على الضيق والعسر والنكد، إلا من انتخبه الله، وامتحن قلبه للتقوى، واصطفاه للعبودية، فشرح صدره، وطهر خلقه، ولست أعني بقول: العرب، من نرى في زماننا بهذه الناحية، فإن عامة هذه الناحية نزعت بهم عروق أمهاتهم المولدات إلى أخلاقهم، وطبائعهم، وكثر خلط السوء فيهم من عروق العجم، وأخلاقهم، فبقياتهم هجين، إنما أعني أولئك الصفوة الذين جرت نطفهم من الأصلاب الكرام إلى الأمهات الحرائر ذوي الأحساب والعناصر السنية، وإنما ذكرت هذا؛ لئلا يشتبه عليك الأمر فيما ذكرت من شأن العرب.
وكذلك الخوان: أحسبها عربيةً مولدة؛ لأنه لم يكن عند القوم، فإن قال قائل: فقد جرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المائدة.
138 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، والجارود، قالا: حدثنا الحماني، عن مندلٍ، عن عبد الله بن يسارٍ مولى عائشة بنت طلحة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصلي الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة)).(1/218)
139 - حدثنا زياد بن أيوب، أخبرنا هشيمٌ، حدثنا أبو بشرٍ، عن سعيدٍ بن جبيرٍ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو كان الضب حراماً، ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
140 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا محمد بن سلام العطار، حدثني الحسن بن مهران الكرماني، قال: سمعت فرقداً صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت محمداً صلى الله عليه وسلم،(1/219)
وطعمت على مائدته الطعام.
قال: فالمائدة: كل شيء يمد ويبسط؛ مثل: المنديل، والثوب، والسفرة، نسب إلى فعله، وكان من حقه أن يكون ماددة، الدال مضاعفة، فجعلوا إحدى الدالين ياء، فقالوا: مائدة، والفعل واقعٌ به، فكان ينبغي أن يكون ممدوداً، ولكن خرجت في اللغة مخرج فاعل؛ كما قالوا: سر كاتم، وهو مكتوم، وعيشةٌ راضية، وهي مرضية، وكذلك خرجت في اللغة ما هو فاعل مخرج مفعول، فقالوا: رجل مشؤوم، وإنه هو شائمٌ، وحجابٌ مستورٌ، وإنما هو ساترٌ.
فالخوان: هو المرتفع عن الأرض بقوائمه.
والمائدة: ما مد وبسط.
والسفرة: ما أسفر عما في جوفه، وذلك أنها مضمومة بمعاليقها.
141 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا سهل بن تمام، حدثنا يحيى بن دينار البكري والد همام، عن الحسن، قال: الأكل على الخوان فعل الملوك، وعلى المنديل فعل(1/220)
العجم، وعلى السفرة فعل العرب، وهو سنةٌ.
فكان هذا بدو هذه الأشياء، فلما غلب العجم على هذا الفعل من الأخونة؛ نسب الأخونة إلى المائدة، فقيل للخوان: مائدة، ومما يحقق ما قلنا: إن المائدة هي التي تبسط وتمد، ما جاء في التنزيل من ذكر المائدة، وإنما نزل سفرة حمراء مدورة، وإنما سألوا فقالوا: {ربنا أنزل علينا مائدةً من السماء}.
قال الله تعالى: {إني منزلها عليكم}، فجاء في الخبر: أن سفرةً نزلت من السماء عليها الطعام.
142 - حدثنا بذلك: عمر بن أبي عمر، حدثنا عمار ابن هارون الثقفي، عن زكريا بن حكيمٍ الحنظلي، عن علي ابن زيد بن جدعان، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: لما سألت الحواريون عيسى بن مريم -صلوات الله عليه- المائدة، قال: فوضع لباس الصوف، ولبس ثياب المسوح، وهو سربال من مسوح أسود، ولحاف أسود، فقام فألزق القدم بالقدم، وألزق العقب(1/221)
بالعقب، والإبهام بالإبهام، ووضع يده اليمنى على اليسرى، ثم طأطأ رأسه خاشعاً لله، ثم أرسل عينيه يبكي، حتى جرى على لحيته، وجعل يقطر على صدره، ثم قال: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآيةً منك وارزقنا وأنت خير الرازقين}، قال الله: {إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين}.
فنزلت سفرةٌ حمراء مدورةٌ بين غمامتين، غمامة من فوقها، والأخرى من تحتها، والناس ينظرون إليها، فقال عيسى عليه السلام: اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها فتنة، إلهي أسألك من العجائب فتعطيني، فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام، وعليها منديل مغطى، فخر عيسى ساجداً، والحواريون معه، وهم يجدون لها رائحة طيبة لم يكونوا يجدون قبل ذلك، فقال عيسى عليه السلام: أيكم أعبد لله عز وجل، وأجرأ على الله، وأوثق بالله، فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها، ونذكر اسم الله عليها، ونحمد الله عليها، فقال الحواريون: يا روح الله! أنت(1/222)
أحق بذلك، فقام عيسى -عليه الصلاة والسلام-، فكشف عنها، فإذا عليها سمكةٌ مشوية ليس فيها شوكٌ، يسيل سيلان الدسم، وقد نضد حولها من كل البقول ما خلا الكراث، وعند رأسها ملح وخلٌّ، وعند ذنبها خمسة أرغفة، على واحد منها خمس رمانات، وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر زيتون، فبلغ ذلك اليهود، فجاءوا غماً وكمداً ينظرون إليه، فرأوا عجباً، فقال شمعون، وهو رأس الحواريين: يا روح الله! أمن طعام الدنيا، أم من طعام الجنة؟!
فقال عيسى: أما افترقتم بعد عن هذه المسائل؟ ما أخوفني أن تعذبوا! قال شمعون: وإله إسرائيل! ما أردت بذلك سوءاً، فقالوا: يا روح الله! لو كان مع هذه الآية آية أخرى؟ فقال عيسى عليه السلام: يا سمكة! احيي بإذن الله، فاضطربت السمكة طرباً تبصبص عيناها، ففزع الحواريون، فقال عيسى: ما لي أراكم تسألون عن الشيء، فإذا أعطيتموه كرهتموه؟! ما أخوفني أن تعذبوا(1/223)
وقال: لقد نزلت من السماء، وما عليها طعامٌ من الدنيا، ولا طعامٌ من الجنة، ولكنه شيء ابتدعه الله عز وجل بالقدرة البالغة، فقال لها: كوني، فكانت.
فقال عيسى: يا سمكة! عودي كما كنت، فعادت مشوبةً كما كانت.
فقال الحواريون: يا روح الله! كن أول من يأكل منها.
فقال عيسى عليه السلام: معاذ الله! إنما يأكل منها من طلبها وسألها، فأبت الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مثلةً وفتنةً، فلما رأى عيسى ذلك، دعا عليها الفقراء والمساكين، والمرضى والزمنى، والمجذومين والمقعدين والعميان، وأهل الماء الأصفر.
فقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله عليه، وقال: يكون المهنأ لكم، والعذاب على غيركم، فأكلوا حتى صدروا عن شبع ألف وثلاث مئة يتجشؤون، فبرئ كل سقيم أكل منه، واستغنى كل فقير حتى الممات، فلما(1/224)
رأى ذلك الناس، ازدحموا عليه، فلم يبق صغير ولا كبير، ولا شيخ ولا شاب، ولا غني ولا فقير، إلا جاؤوا يأكلون منه، فضغط بعضهم بعضاً.
فلما رأى ذلك عيسى عليه السلام، جعلها نوائب بينهم، فكانت تنزل عليهم يوماً، ولا تنزل يوماً؛ كناقة ثمود، ترعى يوماً، وتشرب يوماً، فنزلت أربعين يوماً، تنزل ضحى، فلا تزال هكذا حتى يفيء الفيء موضعه، فيأكل الناس منها حتى ترجع إلى السماء، والناس ينظرون إليها حتى توارى عنهم، فلما تم أربعون يوماً، أوحى الله إلى عيسى عليه السلام:
يا عيسى! اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء، فتمارى الأغنياء في ذلك، وعادوا الفقراء، وشكوا، وشككوا الناس.
فقال الله: يا عيسى! إني آخذ بشرطي، فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيراً يأكلون العذرة، يطلبونها في الأكناف بعد ما كانوا يأكلون الطعام الطيب، وينامون على الفرش اللينة،(1/225)
فلما رأى الناس ذلك، اجتمعوا حول عيسى عليه السلام، وجاءت الخنازير جثوا على ركبهم قدام عيسى، فجعلوا يبكون، والدموع تقطر منهم، فعرفهم عيسى، فجعل يقول:
ألست بفلان؟ فيومئ برأسه، ولا يستطيع الكلام، فلبثوا كذلك سبعة أيام، ومنهم من يقول: أربعة أيام، ثم دعا الله أن يقبض أرواحهم، فأصبحوا لا يدرى كيف ذهبوا، الأرض ابتلعتهم، أو ما صنعوا!؟.
143 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن الحسن، قال: دخلنا على عاصم بن(1/226)
حدرة، فقال: ((ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوابٌ قط، ولا مشي معه بوسادةٍ قط، ولا أكل على خوانٍ قط)).
قال العباس: عاصم بن حدرة رجلٌ من الأنصار.(1/227)
الأصل الثالث والعشرون
144 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا صفوان بن عيسى، أخبر [نا] زيادٌ أبو عمر، عن صالحٍ أبي الخليل، عن عائشة -رضي الله عنها-: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع المراجيح)).(1/229)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
المراجيح: هو شيء من فعل العجم، تأدت إلى العرب سنتها، وسنة العجم مزجور عنها، والتزيي بزيهم، وهو لهو ولعب.
وهما لغتان: فمن قال: مرجح: فجمعه مراجح، ومن قال: مرجاح: فجمعه مراجيح كقوله: مفتح: وجمعه مفاتح، ومفتاح: وجمعه مفاتيح.
وهذا شيء إنما يفعله العجم في أيام النيروز، تفرحاً وتلهياً عن الغموم التي تراكمت على قلوبهم من رين الذنوب، وأكثر ما يستعمله ملوك العجم، والمؤمن قد اعتورته الأحزان والغموم لا محالة، فمحال أن ينفك عنه غموم الذنوب، وأحزان مشيئة الله فيه، فهذا حال المقتصد مع الله تعالى، فأما أهل المعرفة، وهم المقربون، فغمومهم من البقاء في الدنيا، فإن الدنيا مطبق المقربين ينتظرون متى الراحة منها.
وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا سجن المؤمن)).(1/230)
وأما أحزانهم: فمن ظمأ الشوق إلى الله تعالى.
فهذان الصنفان لم ينفكوا من الغموم والأحزان، وسائرهم مخلطون بطالون لعمرهم، غافلون عن الآخرة، سكارى، حيارى، سكارى عن وعده ووعيده، حيارى في سيرهم إليه، وركض الليل والنهار بهم إلى الله، فهم الذين يفزعون إلى الله من غموم الدنيا، ورين الذنوب المعذبة لقلوبهم في ظلمات سجون المعاصي إلى المراجح تلهياً وتلعباً، فيتفرجون، ويتنشطون، ويلتمسون النزهة ونسيمها، ولا يعلمون أن النزهة في نزاهة القلوب، وتطهيرها من آفات النفس وخدعها، ورين الذنوب، حتى يجدوا نسيم الملكوت، وروح قرب الله على قلوبهم في عاجل دنياهم.
وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإيمان حلوٌ نزهٌ فنزهوه)).
فإذا التمس العبد هذه النزهة، فهو نور على نور، القلب مشحون بالنور، والصدر مشرق بالنور، يعلم من ربه، ويعلم ما من به عليه ربه، وهو عنه غني، لكنه رحمه، فمن عليه مما يرى عنه، فأي فرح يتسع مع هذا(1/231)
الفرح في قلب، وكيف يبقى في قلب فيه هذا الفرح بالله متسع للفرح بالدنيا وأحوالها، والقلوب التي تعتورها غموم الآخرة نورانية تنفرج بتلك الأنوار التي يطالع بها الآخرة، وعظم الرجاء من عند الماجد الكريم.
وأما القلوب التي تعتورها ظلمات المعاصي، فهي قلوب معذبة، ونفوس دنسة، وجوارح كسلة، يريدون أن يستروحوا إلى مثل هذه الأشياء من الملاهي، ويتنفسوا في فسيح النزاهات، وقد أخذت غموم النفس أنفاسهم، وجرعتهم الغيظ في أنهم لا يصلون إلى مناهم على الصفاء، والملوك على خوف الغدر والبيات معهم، والأمراء خوف العزل معهم، والأغنياء خوف السلب معهم، والأصحاء خوف السقم معهم.
فهذه مخاوف مظلمة تورد على القلب مغمات، كسحائب متراكمات تفور في جوفها من الحر، ومع تلك السحائب حر مؤذٍ، وذباب كلما ذب آب، وبراغيث يمنعن من الرقاد.
فهذه صفة المتنزهة بنزه الدنيا، والسحائب معاصيه، والذي يفور في جوفها إصراره على المعاصي، والحر المؤذي شهواته التي تغلي في صدره، والذباب مناه، كلما قضى نهمته من شيء عادت الأخرى، والبراغيث تنافسه في دنياه، وفي أحوال دنياه، وناب إليها، فإذا لم يصل إليها،(1/232)
رجعت إليه بحرارةٍ، فعضته، وهو الحسد والبغضة، والغيرة والبخل والشح، فأي قلبٍ هذه صفته يتهنى بنعمة من نعم الدنيا، فلا يغرن عاقلاً ظاهر فرحهم.
فهو كما روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: ذل المعصية والله في قلوبهم وإن دقت بهم الهمالج، أبى الله إلا أن يذل أهل معصيته.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع تلك المراجيح، وكره لهم أن يتزيوا بزي من اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فلا خلاق له هناك، مع أن في ذلك من الخطر غير قليل، فربما انقطع الحبل، واندق العنق، فصار معيناً على نفسه.
فأما الذي يرخص فيه للتداوي به، أو لمريض ضاق بعلته ذرعاً، أو للصبيان الذين يعللونهم به، فذاك لهم كالمهد يرجح فيه حتى يذهب به النوم؛ لأن الطفل لا يعقل ما يصلح له، ولا يصبر عل الضجعة، حتى يأخذه النوم، كما يصبر الكبير، فيعلل بتلك الأرجوحة، فيهوي بجسده تلقياً ودفعاً حتى ينام.
فليس هذا بداخل عندنا في النهي؛ لأن هذا يأخذه على الانتفاع به،(1/233)
لا على الأشر والبطر، وعلى سبيل الملاهي في يوم أهل البطالات.
145 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، حدثنا عبد المؤمن، عن داود بن أبي هندٍ، قال: رأيت الشعبي يترجح، فنظرت إليه، فقال: إنه نعت لي من وجع ظهري.
ومحتاجةٌ هذه النفس إلى تعليل في كل مكان، وأن تدارى، ويرفق بها.
146 - حدثنا حميد بن الربيع اللخمي، قال: حدثني أبو ضمرة، قال: حدثني الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله)).
147 - حدثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا محمد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمدٍ، قال: سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من(1/234)
خير الدنيا والآخرة، ومن أعطي حظه من الرفق، فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة)).
ومن الرفق والتعليل: ما روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لما انتهيت إلى سدرة المنتهى، فتدلى النور الأكبر، فغشي السدرة، فحار بصري، فحال دونه فراشٌ من ذهبٍ)).
يعلله بذاك حتى يقوى بصره على رؤية النور؛ لأن الفراش إذا طار هكذا وهكذا، حجبه مرة، وانكشف له مرةً.(1/235)
وما روي عنه في قصة المعراج أنه قال: ((لما انتهيت إلى قرب العرش، تدلى لي رفرفٌ، وأخذني من جبريل، تناولاً إلى سند العرش، فجعل يهوي بي، يخفضني مرةً، ويرفعني أخرى)).
فذاك تعليل للنفس، وذلك أنها لا تقوى على مباشرة الأمور في دفعة واحدةٍ، إلا قليلاً قليلاً، فقربه الرفرف حتى رفعه في مرفعه إلى العرش، ثم خفضه، ثم رفعه، لكي يتمالك النفس، ولو كانت في دفعة واحدة؛ لكان قمناً أن لا يتمالك.
فكان الرفرف سبباً لتداريه، ورفقاً به.
ويقال: إن الرفرف خلقٌ من خلق الله ممن اختصه للخدمة بين يديه، فمن حاله هذه الأمور، وإنما قيل: رفرف؛ لأنه يرفرف حول المشاهد والقربة بين يديه، ويقال: هو أخضر من الدر والياقوت فيما جاء به الخبر.
فإنما أردنا بما ذكرناه من هذه الأشياء: إقامة شأن المراجيح للصبيان أنه يحتاج الصبي لصباه، وطفوليته على الأشياء المحبوبة، أن(1/236)
يعلل؛ كي يقوى على مقاساة ما يفطمه عنه، فمن شأن الصبي التردد والتقلب في لهوه فلا يستقر؛ لينام وهو محتاج إلى ذلك، فيوضع في المرجاح فيرجح نفسه هكذا وهكذا حتى يجد الصبر على الاستقرار في موطن واحد، وإنما قيل رجحان الميزان من هذا؛ لأنه يميل إحدى الكفتين، فإذا كان هذا للحاجة إليه لمريض أو صبي لا يجد قراراً، فهو خارج من النهي.
وإنما وقع النهي عندنا: على من تشبه بأهل البطالة في ذلك اليوم، وبالملوك الفراعنة الذين تلذذوا به، فتلذذ هذا بمثل ذلك، فإن ذلك فعل ملهٍ مطربٌ مع الغناء والجواري، والسماع على شواطئ الأنهار في تلك الخضر، ونور الربيع، وأخذت الأرض زينتها وزخرفها في أيام النيروز مع طيب الهواء، وبنفس البرد، وتأخر الحر، وسجسجة الجو، تنزهوا في نزه الدنيا، وتنعموا بالألوان، وقضوا المنى والشهوات، وحف بهم المعازف، وركبوا المراجيح، فتعجلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.
قال الله تعالى: {أذهبتم طيبتاكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون}.
فبلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلم في امتناعه من التوسع من النعيم،(1/237)
فتلا هذه الآية، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أليس هذا للكفار؟ فقال: ثكلتك أمك! الكفار أهون على الله من أن يعاتبهم.
فنظرت في هذه الآية، فوجدت مبتدأها ذكر الكفار، وهو قوله تعالى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار}، ثم قال في آخره: {فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق}.
فأخبر أنه إنما جزاؤهم العذاب الهون بالاستكبار بغير الحق، وبالفسق؛ ليحذر المؤمن أن يستكبر في أرضه بغير الحق، أو أن يفسق؛ فإن دخول النار بالكفر، وتضاعف العذاب، وقسمة الدركات بالأعمال السيئة، ودخول الجنة بالإيمان، وتضاعف النعيم، وقسمة الدرجات بالأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة، فإنما عير الكفار بالكبر والفسق، ففزع عمر رضي الله عنه من ذلك، وحق له أن يفزع من تعجيل بعض الطيبات في الحياة الدنيا، والاستمتاع بها.
ومن هاهنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أتي بعسلٍ قد خيض بماءٍ فرده وقال: ((أما إني لا أحرمه، ولكن أتركه تواضعاً لله)).(1/238)
كأنه رأى: أن النفس إذا أعطيت شهواتها، فذلك من الاستكبار، وإذا منعت، فذلك من التواضع لله تعالى، هذا فيما حل وأطلق له، فكيف بما حرم عليه؟
وأن الله تبارك وتعالى خلق الجنة، فحشاها بالنعيم ثواباً لأهلها، وخلق النار وحشاها بالعذاب عقاباً لأهلها، وخلق الدنيا فحشاها بالآفات والنعيم محنة وابتلاءً، ثم خلق الخلق، والجنة والنار في غيب منهم لم يعاينوه.
فالنعيم والآفات التي هي في الدنيا هي أنموذج الآخرة، ومذاقه ما فيهما.
وخلق في الأرض من عبيده ملوكاً، أعطاهم سلطاناً أرغب به القلوب، وملك به النفوس قهراً أنموذجاً ومثالاً لتدبيره وملكه، ونفاذ أمره ومعاملته، فجعل خبر ذلك كله تنزيلاً، فوصف الدارين، ووصف ملكه، وقدرته، وتدبيره، ومنته، وصنائعه، وضرب الأمثال على ذلك، ثم قال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.
فالعلماء بالله فهموا عن الله أمثاله؛ لأن المثل إنما هو صفة شيء قد(1/239)
شاهدته، يريك صفة ما غاب عنك، ويبصرك ما تبصره بعينك؛ لينفذ بصر قلبك إلى ما لا تبصره عينك، فيعقل قلبك ما خوطبت به من خبر الملكوت، وخبر الدارين في معاملة ملك الملوك، فليس في الدنيا نعمة ولا شهوة إلا وهي أنموذج الجنة وذوقها، ثم من وراء ذلك فيها: ما لا عينٌ رأيت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ.
فلو سمى للعباد منها، لم ينتفعوا بتلك الأسماء؛ لأنهم لم يعقلوه هاهنا، ولا رأوه، وليس لها أنموذج في الدنيا، والجنة مئة درجة، وإنما وصف منها ثلاث درجات: الذهب، والفضة، والنور، ثم من وراء ذلك غير معقول، ولا تحتمله العقول.
وكذلك ما في الدنيا من الشدة والعذاب، فهو أنموذج دار العقاب، ثم من وراء ذلك ما لا تحتمله العقول من ألوان العذاب، كل ذلك يخرج لهم من غضبه، ولأهل الجنة من رحمته، وكل من تناول من عبيده من دنياه مما أبيح له، وشكره عليها، أبدل له من الجنة ما يدق هذا في جنبه، ومن تناول مما لم يبح له، فقد حرم نفسه حظه من الدرجات، ومن كذب بها، حرم الجنة بما فيها أجمع، فلأهل الجنة عرائس وولائم وضيافات.(1/240)
فالعرائس: الدعوة، وذلك أن رب العزة دعاهم إلى دار السلام؛ ليجدد لهم أبداناً طرية، وأعماراً أبدية، فأجابوه.
والولائم للأرواح، والضيافات للزيارة، ولأهل الجنة تلاقٍ وزيارات فيما بينهم، ومتحدث في مواطن الألفة، ومجتمع في ظل طوبى، يلقون الرسل هناك ويزورونهم.
ومجالس الملائكة فيما بينهم، وأسواق يأتونها يتخيرون فيها الصور، وهدايا من الرحمن في أوقات الصلوات.
ويغدى ويراح عليهم من ألوان الأطعمة والأشربة والفواكه بكرةً وعشياً، أرزاقهم دارة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، ومزيد من الله يوماً بيوم، فإذا أتاهم المزيد، نسوا ما قبله.
ثم لهم متنزه يخرجون إليها في رياض على شاطئ نهر الكوثر، عليه خيام الدر مضروبة، الخيمة ستون ميلاً في عرض مثله، من لؤلؤة واحدة، ليس لها باب، فيها جوارٍ عبقات أبكار لم ينظر إليهن ملك، ولا أحد من أهل الجنة من الخدم والحور، وهو قوله تعالى: {فيهن خيراتٌ حسانٌ}.
وإذا قال الله تعالى لهن: حسان، فمن يقدر أن يصف حسنهن؟ ثم قال: {حورٌ مقصوراتٌ في الخيام}.(1/241)
فتلك خيرة الرحمن اختار صورهن الحسان من الصور، يدعى من سحائب الرحمة، فأمطرت جواري حساناً على مشيئة الكريم، نور وجوههن من نور العرش، فضربت عليهن خيام الدر، فلم يرهن أحد مذ خلقهن، فهن مقصورات في الخيام، قد قصرن؛ أي: حبسن على أزواجهن من جميع الخلق.
فأهل الجنة يتنعمون في القصور مع الأزواج، ويلبثون في النعمة ما شاء الله، حتى إذا كان اليوم الذي يريد الله عز وجل أن يجدد لهم نعمةً ونزهةً، نودي في درجات الجنان: يا أهل الجنان! إن هذا يوم نزهة وسرور، وتفسح وحبور، فاخرجوا إلى متنزهكم، فيخرجون على خيول الدر والياقوت من أبواب مدائنهم إلى تلك الميادين، ثم يسيرون من تلك الميادين إلى تلك الرياض على شاطئ نهر الكوثر، فيهديهم الله تعالى إلى منازلهم، فينزل كل رجل منهم عند خيمته، ولا باب لها، فتنصدع الخيمة عن باب، وذلك بعين ولي الله؛ ليعلم أن التي فيها لم يطلع عليها أحد، وفاء لما قدم الله عز وجل من الوعد في دار الدنيا حيث قال: {فيهن خيراتٌ حسانٌ}، ثم قال: {حورٌ مقصوراتٌ في الخيام}، ثم قال: {لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جانٌ}.(1/242)
ويستوي معها على سرير النزهة في تلك الحجال، فيمال عليهم من وليمتها، فإذا طعموا الولائم، سقاهم الله شراباً طهوراً، وتفكهوا بطرف الفواكه التي جدد الله لهم من تلك الهدايا في ذلك اليوم، وأحلى الحلل، يخلع عليهم كسوة الرحمن، واشتغلوا بالخيرات الحسان يقضون منهن الأوطار والنهمات، ثم يتحولون إلى مجالس العبقريات المنشآت بألوان النقوش على شواطئ الأنهار في تلك الرياض، يركبون الرفارف الخضر، ويتكئون عليها، وهو قوله تعالى: {متكئين على رفرفٍ خضرٍ وعبقريٍ حسانٍ}.
وإذا قال الله عز وجل لشيء: حسان، فماذا بقي؟
فالرفرف: هو شيء إذا استوى عليه رفرف به، وأهوي به، كالمرجاح يميناً وشمالاً، ورفعاً وخفضاً، يتلذذ به مع أنيسه، وإذا ركبوا الرفارف، أخذ إسرافيل في السماع.
وروي في الخبر: أنه ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع، قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم، فإذا ركبوا الرفارف، وأخذ إسرافيل في السماع بألوان الأغاني(1/243)
تسبيحاً وتقديساً للملك القدوس، فلم يبق في الجنة شجرة إلا وردت، ولم يبق ستر ولا باب إلا ارتج وانفتح، ولم يبق حلقة على باب إلا رنت وطنت بألوان طنينها، ولم يبق أجمة من آجام الذهب إلا وقع هبوب الصوت في مقاصبها، فزمرت تلك المقاصب بفنون الزمر، ولم يبق جارية من جواري الحور العين إلا غنت بأغانيها، والطير بألحانها.
ويوحي الله تعالى إلى الملائكة: أن جاوبوهم، وأسمعوا عبادي الذين نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان، فيجاوبونهم بألحان وأصوات روحانيين، فتختلط هذه الأصوات فتصير رجة واحدة، ثم يقول الله عز وجل:
يا داود! قم عند ساق عرشي، فمجدني، فيندفع داود في تمجيد ربه بصوت يغمر الأصوات ويجليها، وتتضاعف اللذة، وأهل الخيام على تلك الرفارف تهوي بها، وقد حفت بهم أفانين اللذات والأغاني، فذلك قوله عز وجل: {فهم في روضةٍ يحبرون}.
148 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي، حدثنا عامر(1/244)
ابن يساف العنزي، قال: سألت يحيى بن أبي كثير عن قوله تعالى: {في روضةٍ يحبرون}.
قال: الروضة: اللذة والسماع.
فبينما هم على لذاتهم وسرورهم إذا انفتح لهم باب الملك القدوس من جنة عدن، فارتجت أصوات صفوف الملائكة الروحانيين من جنة عدن بتماجيد الماجد الكريم إلى درجات الجنان، وثارت ريح عدنية بألوان الطيب والروح، والنسيم نسيم القربة، وسطع على إثر ذلك نور، فأشرقت منه رياضهم وجنانهم وشواطئ أنهارهم، وامتلأ كل شيء منه نوراً، حتى ناداهم الجليل جل جلاله من فوق رؤوسهم:
السلام عليكم أحبائي وأوليائي وأصفيائي، يا أهل الجنة! كيف وجدتم متنزهكم؟ هذا يومكم بدل نيروز، أعدائي طلبوا يوماً من الدنيا ليجددوا على أنفسهم النعمة التي قد كدروها على أنفسهم لخبثهم وشقائهم،(1/245)
فلم ينالوا ما طلبوا من اللذة، وخسروا من خبث ما طلبوا في العاجل، فلم يصبروا حتى ينالوا هذا الذي أعددت في الآجل لأهل طاعتي، فأعرضتم عما إليه أقبلوا، وامتنعتم مما فيه تنافس الملوك، فاليوم يذوقون وبال ما تنافسوا فيه، وشيك ما انقطع ما طلبوا من اللذة والنهمة في دار الفناء، وصاروا إلى الذل والهوان، وجزيتم بما صبرتم جنة وحريراً، ومتنزهاً وسلاماً، فهذا يوم نيروزكم ومتنزهكم، وغداً يوم زيارتكم في داري في جنة عدن، فطالما رأيتكم في دار الدنيا في مثل ذلك اليوم، مشتغلين بطاعتي، والمترفون في لهوهم ولعبهم، سكارى حيارى، عصاةً متمردين، يتنعمون بحطام الدنيا، ويفرحون بتداولها بينهم، وأنتم تراقبون جلالي، وتحفظون حدودي، وتراعون عهودي، وتنفقون على حقوقي.
ويفتح لهم باب من أبواب النيران، فيفور لهبها ودخانها، وصراخ أهلها وعويلهم؛ لينظر أهل الجنان من هذه المجالس إلى ما من الله عز وجل، فيزدادون غبطةً وسروراً.
وينظر أهل النار من تلك السجون والمحابس في تلك الأغلال والقيود، فيتحسرون على ما فاتهم، فيستغيثون بوجوه أهل الجنان إلى الله(1/246)
تعالى، وينادونهم بأسمائهم، فيقول الله تعالى: {هم وأزواجهم في ظلالٍ على الأرائك متكئون. لهم فيها فاكهةٌ ولهم ما يدعون. سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيمٍ. وامتازوا اليوم أيها المجرمون. ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌّ مبينٌ. وأن أعبدوني هذا صراطٌ مستقيمٌ}.
فتجيش بهم النار، فتفرق جمعهم، وينقطع نداؤهم، فترمي بهم إلى جزائر النار، فإذا خرجوا إليها، دنت إليهم عقارب لها أنياب كأمثال النخل، ثم يقبل عليهم سيل من نار من تحت العرش حشوها غضب الله، فتقذفهم في بحار النيران، وينادي منادٍ: هذا يومكم الذي كنتم تبارزوني فيه بالعظائم، وتتمردون على نعمتي، وتفرحون في دار الأحزان والعبودية، فما تضاهون به ما أعددت لأهل طاعتي، فقد انقطعت عنكم تلك اللذات، فذوقوا وبال ما آثرتموه؛ فإن أهل الجنة قد اشتغلوا عنكم بالتواكل والنعم، وبالولائم، وألوان الفواكه، وظرف الهدايا، وافتضاض العذار، وركوب الرفارف، والتلذذ بالأغاني، وألوان السماع، فسلامي عليهم، وإقبالي بالبر واللطف، والمزيد ما يستفرغ نعميهم؛ ليهنؤا بنعيمهم، ويزدادوا لذة على لذة.(1/247)
فيا أهل الجنة! هذا لكم بيوم أعدائي الذين تباعدوا، وأهدوا إلى ملوكهم، وقبلوا هداياهم، وأنتم الفائزون.
فإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع المراجيح؛ ليظفروا بما وعد الله من بدل المراجيح من الرفارف الخضر، كما نهاهم عن المعازف، ومزامير الشيطان؛ ليظفروا بما وعد الله من سماع الجنة.
149 - حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سيار، حدثني موسى بن سعيد الراسبي، وعبد الله بن عرادة الشيباني، قال: حدثنا القاسم العجلي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله! إني رجل حبب إلي الصوت الحسن، فهل في الجنة صوتٌ حسن؟ قال: ((إي والذي نفسي بيده! إن الله تعالى ليوحي إلى شجرةٍ في الجنة أن أسمعي عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكري عن عزف البرابط والمزامير، فترفع بصوتٍ حسنٍ لم يسمع الخلائق بمثله من تسبيح الرب وتقديسه)).(1/248)
150 - حدثنا عبد الله، حدثنا سيار، حدثنا موسى، حدثنا أبان، عن الحسن، وأبي قلابة، قالا: قال رجلٌ: يا رسول الله! هل في الجنة من ليلٍ؟ قال: ((وما هيجك على هذا؟ قال: سمعت الله عز وجل يذكر في الكتاب: {ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً}، فقلت: الليل من البكرة، والعشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس هناك ليلٌ، إنما هو ضوءٌ ونورٌ يرد الغدو على الرواح، والرواح على الغدو، ويأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة)).
151 - حدثنا أبو الخطاب، حدثنا سهل بن حمادٍ -هو أبو عتاب-، حدثنا جرير بن أيوب البجلي، حدثنا الشعبي، عن نافع بن بردة، عن أبي مسعود الغفاري،(1/249)
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبدٍ يصوم يوماً من رمضان إلا زوج زوجةً من الحور العين في خيمةٍ من درٍّ مجوفةٍ، بما نعت الله من: {حورٌ مقصوراتٌ في الخيام}، على كل امرأةٍ منهن سبعون حلةً ليست على لون الأخرى، وتعطى سبعين لوناً من الطيب ليس منهن ريح لونٍ على ريح الآخر، لكل امرأةٍ منهن سبعون سريراً من ياقوتةٍ حمراء موشحةٌ بالدر، على كل سريرٍ سبعون فراشاً، على كل فراشٍ أريكةٌ، لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها، وسبعون ألف وصيفٍ، مع كل وصيفٍ صحفةٌ من ذهبٍ فيها لونٌ من طعامٍ يجد لآخر لقمةٍ منها لذةً لم يجدها لأوله، ويعطى زوجها مثل ذلك على سريرٍ من ياقوتٍ أحمر عليه سوارٌ من ذهبٍ موشحٌ بياقوتٍ أحمر، هذا لكل يومٍ صامه من رمضان، سوى ما عمل من الحسنات)).(1/250)
قال أبو عبد الله رحمه الله: فصير المشركون هذا اليوم نزهتهم، وعيداً من أعيادهم، وسموه يوماً جديداً، وبلسانهم نوروزاً، واضطربوا فيه؛ طلباً لتجدد النعمة، وإحداث لهو ولعب في تفرج وتفسح، فهاب المسلمون أن يلتفتوا إلى هذا اليوم ويعبؤون به.
حتى قال طلحة بن مصرف: يعجبني أن يمر بي ذلك اليوم وأنا لا أشعر به.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه أتي بفالوذج، فقال: ما هذا؟ فقال: إنه يوم نوروز، وذلك بأرض العراق. فقال: نورزوا كل يوم.
كأنه أراد أن لا يعبأ به.
ومن ذهب يصوم ذلك اليوم، ويزيد في أعمال البر، يتوخى بذلك خلافاً لهم، فهذا مذهب أيضاً، ولكن الطهارة من ذلك أسلم له؛ فإن هؤلاء(1/251)
اتخذوه عيداً لنزههم، وسرورهم، ولذاتهم، وهذا قد اتخذه عيداً لعبادته.
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة، وقال: ((لا تتخذوه عيداً)).
فإذا أحدث الرجل في يوم قد اتخذه أهل الشرك لأنفسهم عبادة وصوماً، فقد اتخذه لنفسه، فالاتخاذ قد يشبه الاتخاذ، وإن كان العملان متباينين.
152 - حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا علي بن الحسن، أخبرنا عبد الله، أخبرنا ابن لهيعة، قال: أخبرني أبو يونس مولى أبي هريرة، سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم الجمعة تتخذوه عيداً)).
153 - وحدثنا عبد الله، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباسٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.(1/252)
154 - حدثنا عمرو بن محمدٍ العثماني، حدثنا ابن أبي أويسٍ، قال: حدثني جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن علي بن حسينٍ، قال: أخبرني أبي، عن جدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي وسلموا حيث ما كنتم، فستبلغني صلاتكم وسلامكم)).(1/253)
فإذا كان في إتيان القبر للدعاء يصير ذاك كهيئة العيد، وفي صوم يوم الجمعة مداوماً عليه كذلك أيضاً، كان في صوم يوم النيروز كذلك أيضاً إذا أحدثوا فيه شيئاً من أعمال البر، فكأنهم اتخذوه عيداً.
- فالسلامة فيما قال طلحة بن مصرف: يعجبني أن يمر بي ولا أشعر به.
-وما قال علي بن أبي طالب: نورزوا كل يوم.
155 - حدثنا بذلك محمد بن محمد بن حسينٍ، حدثنا يونس بن محمدٍ، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن مسعرٍ التميمي، عن عليٍّ رضي الله عنهما: أنه أتي بفالوذج، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم النيروز، قال: نورزوا كل يوم.
ولم يجئنا عن أحد من السلف فيما نعلمه في صوم ذلك اليوم إلا عن مقاتل بن حيان، ولا أراه إلا قاله من تلقاء نفسه، كأنه رأى أن أهل الشرك يعصونه في ذلك اليوم بمحدث من المعاصي، فأحب أن يحدث لله طاعة، فندب إلى ذلك غيره، وما ذكرناه بدءاً أعجب إلينا.(1/254)
156 - حدثنا الجارود، حدثنا النضر، عن عوفٍ، عن أبي المغيرة القواس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: من أتى بلاد العجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة.
157 - حدثنا الجارود، حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن الحسن: أنه كان إذا سئل عن صوم يوم النيروز، قال: ما لكم وللنيروز؟! لم تعظمونه؟ دعوه، ولا تتلفتوا إليه، فإنما هو يوم الأعاجم.(1/255)
الأصل الرابع والعشرون
158 - حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن المؤذن، حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي البختري، عن عبد الله، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحشر أنا وأبو بكرٍ وعمر يوم القيامة هكذا))، وأخرج السبابة والوسطى والبنصر، وأراه قال: ((نحن مشرفون على الناس)).(1/257)
قال صالح: قال أبو بكر: لم يكذب أبو البختري في هذا الحديث.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالسبابة من الأصابع: هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهلية تدعى: السبابة؛ لأنهم كانوا يسبون بها، فلما جاء الله بالإسلام، كرهوا هذا الاسم، فسموها: المشيرة، وذلك: لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله بالتوحيد.
وفي حديث وائل بن حجر: سماها: السباحة.
ولكن اللغة سارت بما كانت تعرف في الجاهلية، فغلبت.
159 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، حدثنا هشام بن خالدٍ الدمشقي، حدثنا بقية، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تأكلوا بهاتين))، وأشار بالإبهام والمشيرة، وقال: ((كلوا بثلاثٍ؛ لأنها سنةٌ، ولا تأكلوا بخمسٍ؛ لأنها أكلة الأعراب)).(1/258)
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالأكل بخمس: علامة الحرص والاقتحام في الطعام، وذلك مما يمحق البركة، ويفسد على أصحابه حتى يعافوه، والأكل بإصبعين، مما لا يستوفى، وهي أكلة الملوك ذوي الكبر، وزي أهل النخوة الذين يستكبرون، ويمتنعون عن الأكل عتواً وتجبراً وصلفاً، فإذا نظروا، فبلحاظ أعينهم، وإذا تكلموا، فبأشداق أفواههم، وإذا استمعوا، فبإصعار خدودهم، وإذا تناولوا، فبأطراف أناملهم، وإذا مشوا، فبأجنحة صدورهم، وتمطي خواصرهم، متبخترين مشية المطيطاء تكبراً وعلواً.
والأكل بثلاثة أصابع تواضعٌ عن النخوة، وعن صورة المتجبرين والمتكبرين، وعفةٌ عن صورة الحرصاء المتقحمين في الطعام جعامة، واستيفاء لما أوجبه الحق عليك من إطعامك نفسك، فالأول علو، والآخر إفراط وتقصير، وما بينهما وسط، وهو القصد، وقال في تنزيله: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا}، فحمد الوسط من ذلك.(1/259)
والإقتار: هو فعل المتكبرين مقتر على نفسه نعمة قد أعطيها.
فيأكل بإصبعين ذهاباً بنفسه تيهاً وتكبراً.
والإسراف: فعل المتقحمين، يأكل بأصابعه كلها وبكفه حتى تأخذه التخمة ويدوى.
ولهذا كما قال الحسن البصري: إن دين الله وضع على القصد، فدخل الشيطان فيه بالإفراط والتقصير، فهما السبيلان إلى نار جهنم.
وروي عنه من وجه ما يشبه هذا أيضاً.
160 - حدثنا عتبة بن عبد الله اليحمدي، أخبرنا ابن المبارك، عن عوفٍ، عن الحسن، قال: إن دين الله وضع دون الغلو، وفوق التقصير.
161 - حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا ابن أبي زائدة، عن هشام بن عروة، قال: حدثني عبد الرحمن بن سعد، عن ابن كعب بن مالكٍ، عن أبيه، قال: ((كان(1/260)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث، فإذا فرغ، لعقها)).
162 - حدثنا الجارود، حدثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن سعدٍ، عن ابن كعب بن مالكٍ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
163 - حدثنا الشقيقي، أخبرنا أبي، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن سعدٍ، عن ابن كعبٍ، عن أبيه، قال:(1/261)
((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الطعام، فلعق أصابعه)).
164 - حدثنا محمد بن عليٍّ الشقيقي، أخبرنا أبي، أخبرنا عبد الله قراءةً على ابن جريج، أخبرنا هشام بن عروة: أن ابن كعب بن عجرة أخبره عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع -قال هشام: بالإبهام، والتي تليها، والوسطى-، ثم رأيته لعق أصابعه الثلاث حين أراد أن يمسحها، فعلق الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام)).
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((أحشر أنا وأبو بكرٍ وعمر يوم القيامة هكذا))، فهذا على درجاتهم، فكانت إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه الثلاث على ما روي لنا عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى، فإنما ذكر المنازل والإشراف على الخلق، فقال: ((نحشر هكذا، ونحن مشرفون)).(1/262)
فكأنه أعلم أن إشرافهم على الخلق في الموقف على ما مثل لهم من الأصابع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلاهم إشرافاً، ثم من بعده أبو بكر دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفوق عمر، ثم من بعده عمر دون أبي بكر في رفعة الإشراف وعلوه، فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حمل تأويل هذا الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل القربة، وهذا معنى بعيد، لا أعلمه يوافق إلا في حالة واحدة؛ لأنا لا نشك أن حشر رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبره إلى الموقف غير حشر أبي بكر وعمر، أو حشره عليه السلام حشر الرسل، وحشر سادات الرسل أيضاً، وحشر أبي بكر وعمر حشر الصديقين، وكذلك مقامه من العرصة هو في صف الرسل أمامهم في مقام أمين، ومقامهما من العرصة في مقام الصديقين، وفي صفهم، فهذا معنى لا يحتمل عندنا، والصحيح عندنا ما ذكرناه بدءاً.
165 - حدثنا الفضل بن محمدٍ الواسطي، أخبرنا عبد الرحمن بن خالدٍ القطان الرقي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الله بن مقسمٍ الطائفي، حدثتني عمتي سارة بنت مقسم: أنها سمعت ميمونة بنت كردم، وقالت: ((خرجت في حجةٍ حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على(1/263)
راحلته، وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب وأنا جاريةٌ من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه)).
قال: فحدثني أبي، قال: ذكرت ذلك لعبد الله بن الحسن، فقال: نعم، كذلك كانت أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عبد الله بن يزيد بن مقسمٍ الذي يقال له: ضبة، وعمته سارة.
166 - كذلك أخبرنا به أبي، عن الحسن الحلواني، عن يزيد بن هارون، بهذا الإسناد، والله أعلم.(1/264)
الأصل الخامس والعشرون
167 - حدثنا سليمان بن أبي هلالٍ الذهبي، أخبرنا عبد الحميد بن سليمان المدني، حدثنا أبو عمرٍو، عن عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنسٍ، سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قيدوا العلم بالكتابة)).(1/265)
قال أبو عبد الله -عليه رحمة الله-: فالحفظ قرين العقل، والقلب مستودعها، والنسيان كائنٌ في ابن آدم، وأول من نسي آدم -عليه الصلاة والسلام-، فسمي إنساناً، فنسيت ذريته، قال الله تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً}.
وبلغنا في المأثور من الحديث: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن الله تعالى لما(1/266)
خلق آدم عليه السلام، خلق لقلبه غاشيةً تنطبق مرةً، وترتفع أخرى، فما سمع والغاشية مرتفعةٌ، حفظه، وما سمع والغاشية منطبقةٌ، نسيه)).
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظة أخرى يرجع معناها إلى هذا.
168 - حدثنا صالح بن محمدٍ، أخبرنا ابن واضحٍ، عن إسماعيل بن عياشٍ، عن ثعلبة بن مسلمٍ الخثعمي، عن عليٍّ بن أبي طلحة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنه قال لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! مم يذكر الرجل، ومم ينسى؟ فقال: إن على القلب طخاةً كطخاة القمر، فإذا تغشت القلب، نسي ابن آدم ما كان يذكر، وإذا انجلت، ذكر ما كان نسي.
فالعلم يعقل، ثم يحفظ، فإذا كان القلب معلولاً بهذه العلة، وكان(1/267)
النسيان كائناً، فخيف ذهابه، قيد بالكتابة؛ لئلا يفوت ويدرس، فنعم المستودع.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن أول من خط بالقلم بعد آدم عليه السلام: إدريس عليه السلام))، وسمي بذلك؛ لأنه كان يدرس الكتب.
169 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، أخبرنا إبراهيم ابن هشام بن يحيى الغساني، حدثنا أبي، عن جدي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذرٍّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول الرسل آدم، وآخرهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى -عليه الصلاة والسلام-، وأول من خط بالقلم إدريس، وأعطي آدم الخط، فصارت وراثةً في ولده، ثم علم نوحاً عليه السلام)).
حتى كتب ديوان السفينة، وكتب الله عز وجل التوراة لعبده موسى عليه السلام، قال(1/268)
تعالى: {وكتبنا له في الألواح}، فتلك كتابةٌ وليها الله تعالى لعبده موسى بيده كرامةً له، وقربه نجيًّا، حتى سمع صريف القلم، وكانت من زبرجدٍ، فلما صارت في يده، صارت حجارة؛ ليكون مستوراً عن بني إسرائيل؛ لأنها كانت من الجنة، ثم نسخت منها، وكتب الزبور باللغة السائرة، يقال: زبر الرجل؛ أي: كتب.
وقال في تنزيله: {وكل شيءٍ فعلوه في الزبر}؛ أي: في اللوح.
فأول ما بدأ شأن الكتابة بدأه بالقلم واللوح، وكتب ما هو كائن، فالكتاب حق، وتدبير من الله عز وجل لعباده، وهو حروف مصورة مختلفة التخطيط علائم تدل على المعاني، وإنما سمي كتاباً؛ لأنها حروف منظومة، والكتب النظام، ومنه سميت الكتيبة؛ لأنها نظمت وجمع بعضها إلى بعض، فإذا قيدت المعاني بهذه الحروف المخطوطة التي هي علائم ودلائل على المراد والمعاني، فإن كانت محفوظة، فالكتاب مستغنىً عنه،(1/269)
وإن نسيت، صار الكتاب نعم المستودع، وإن دخل القلب ريبٌ في ذلك، نفي الريب، واطمأنت النفس، وقد أدب الله العباد، وحثهم على مصالحهم، فقال في شأن المداينة: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه}، فوعظهم في ذلك، ثم قال: {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا}.
فأعلمك أن الكتابة {أقسط عند الله}، وهو العدل يؤدي ما اؤتمن واستودع، {وأقوم للشهادة}؛ أي: أحرى أن يقوم بها، وأبعد من الشك والريبة، فإنه ينفي الشك والريبة والوسوسة، فإن الريب منها فقد نسب الكتابة إلى العدالة.
ومن هاهنا نرى أخذ طاوس حتى قال: يسعه أن يشهد على خطه وهو لا يذكر.
170 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، حدثنا محمد ابن الحسن الليثي، حدثنا ابن المبارك، عن معمرٍ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه في الرجل يشهد على شهادة فينساها، قال: لا بأس أن يشهد إن وجد علامته في الصك، أو خط يده.(1/270)
قال محمد: قال ابن المبارك: استحسنت هذا جداً.
ومما جاءت الأخبار به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد، وعن الرسل من قبله ما يدل على صحة هذا المذهب؛ لأن الحاجة في ذلك أن يعرف أنه الحق، فإذا علمه، وشهد به، فقد يجوز أن يكون شيء حدث به نفسه، فصار الحديث له علماً، فيجوز له أن يشهد بعلمه، ولا يلتفت إلى هذه الحالة التي قد يجوز أن يكون كائن مثلها، فكذلك يجوز له أن يشهد على خطه وعلامته، إن دله ذلك على أن هذا حق، وقد شرحنا ذلك في باب: الشهادات في الأحكام.
فإذا كان تجار الدنيا في المداينة فيما بينهم يقيدون الأمانات المؤجل لئلا تدرس؛ ليؤدوها في مواقيت حلها، كما ندبهم الله تعالى إليه، ودلهم عليه، كان تجار الآخرة في تقييد الأمانات التي أخذ الله عليهم الميثاق فيها أن يؤدوها، ولا يكتموها، أحرى وأخلق أن يحافظوا عليها، ويداوموا على إثباتها، وتقييد رسومها؛ لئلا تدرس؛ ليؤدوها في مواقيتها عند حاجة الخلق إليها في نوازلهم؛ فإن أمانة الدين أعظم شأناً من أمانة الدنيا، وقد ائتمن الله عز وجل أهل الأموال على الأموال؛ ليحرزوها، ويحفظوها لله، ويراقبوا(1/271)
أمر الله عز وجل فيها؛ من صرفها في وجوهها، وإخراج حقوقها، وإنفاقها في السبل التي أذن الله فيها.
وائتمن الله أهل العلم على ما أودعهم من نوره وبراهينه، وكتبه وحججه؛ ليحرزوها ويحفظوها، ويراقبوا أمر الله فيها؛ من صرفها في وجوهها، ووضع كل شيء منها في مواضعها، وإخراج حقوقها لأهل الحاجة إليها، وإنفاقها في السبل التي سبلها الله لهم.
لهذا ما جاء في الخبر: ((أن الله يختص للحساب هذين الصنفين من جميع الخلق، فيقول للعلماء: كنتم رعاة غنمي، ولأهل الأموال: كنتم خزان أرضي، قفوا فقبلكم اليوم طلبتي)).
فالمراعي: بيد الخزان، والرعي: بيد الرعاة، إذا أرعى الخازن الغنم رعاية الراعي، وذلك: أن مراعي الغنم دنياهم، والدنيا بأيدي الخزان، والرعاية بأيدي الرعاة، تسوقهم إليها، وترعاهم، وتوردهم الماء حتى يعيشوا، وهو العلم الذي بين لهم منه، وإن تردى أحدٌ منهم متردي، جبر كسيرته، وإن عدا الذئب، طرده عنهم بالكلاب، وإن مال إلى منابت السوء من السموم القاتلة، صرف وجوههم عنها، فهؤلاء الرعاة.(1/272)
فهذا شأن عظيم قد قلدوا من أمور الخلق، فوقع شدة الحساب عليهم، فإذا ضيع الخازن، هلكت الغنم، وإذا منع الراعي، هلكت.
ولذلك قال فيما جاء في الخبر: ((ينادي يوم القيامة: يا راعي السوء! أكلت اللحم، وشربت اللبن، ولبست الصوف، ولم تأو الضالة، ولم تجبر الكسيرة، ولم ترعها في مراعيها، اليوم أنتقم لهم منك)).
وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة: (أن توضع الأخيار، وترفع الأشرار)، وأن تقرأ المثناة على رؤوس الناس لا تغير)).
وما شددت الصحابة رضي الله عنهم إلا في ذلك، فقالوا: كتابٌ مع كتاب الله؟! فإن ذلك مما كانت اليهود فعلته.(1/273)
وقد وصف الله عز وجل في تنزيله، فقال: {فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون}.
وذلك أنه لما درس الأمر بينهم، وساءت رغبة علمائهم، أقبلوا على الدنيا حرصاً وجمعاً، فطلبوا شيئاً يصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم، وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم: {هذا من عند الله}؛ ليقبلوها عنهم، فتتأكد رياستهم، وينالوا بها حطام الدنيا وأوساخها، وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: {ليس علينا في الأميين سبيلٌ}، وهم: العرب؛ أي: ما أخذنا من أموالهم فهو حلٌّ لنا.
وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: لا يضرنا ذنبٌ، فنحن أحباؤه وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك، وإنما كان في التوراة: يا أحبائي! ويا أبناء رسولي! فغيروه، وكتبوه: يا أحبائي، وأبنائي! فأنزل الله عز وجل تكذيبهم: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم}. فقالت: لن يعذبنا، وإن عذبنا، فأربعين يوماً مقدار أيام العجل، فأنزل الله عز وجل: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودةً قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا(1/274)
تعلمون}. ثم أكذبهم بقوله تعالى: {بلى من كسب سيئةً وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمة لما قد علم ما يكون في آخر الزمان، وقد قال: ((تفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، كلها في النار، إلا فرقةً واحدةً)).
فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين معارضاً لكتاب الله، فيضلوا به الناس، والمستثناة ما قد استثني من الكتاب؛ ليصرف وجوه الناس عن كتاب الله، ويشغلهم به، فأما إثبات الكتاب، وما سمعوا من الرسول في تفسيره، وبيانه وشرحه، فمحمود.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله، فلا يتكئن أحدكم على أريكته فيقول: ما وجدناه في كتاب الله، أخذنا به، وما لم(1/275)
نجده، تركناه)).
في كلام نحو هذا، فالذين [كانوا] يأخذون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بصائر ويقين، وتجلية قلوب [فكانوا] يحفظون عنه، فلما صاروا إلى القرن الذي يليه، وظهرت الفتن، احتيج إلى إثباته في الكتب.
فمنهم: من هاب ذلك؛ لأنه رآه حدثاً، وأمراً لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهاب أن يكون بدعة.
ومنهم: من تجاسر عليه؛ لما رأى فيه من النفع، كما تجاسر أبو بكر رضي الله عنه على جمع القرآن، وهابه عمر، وقال له: أتفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال عمر: فلم يزل يرادني في ذلك حتى شرح الله صدري لذلك، كما شرح صدره، فجمعوا على تأليفه: أبي بن كعب، وقراء القرآن.(1/276)
فكذلك هذه الكتب، لم يزل الناس كلما مضى قرنٌ أحوج إلى تقييده وبيانه وشرحه؛ لأن العلم في إدبار، والجهل في إقبال، حتى غلب الجهل، وأحاط بالخلق البلاء، ونجمت قرون البدع، فأحوج ما كانوا إلى شرحه وبيانه وإثباته في هذا الوقت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإن كياد الدين أكثر، ودروس العلم أعم، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لغير واحد من الصحابة رضي الله عنه في ذلك.
171 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا يحيى بن جهمٍ، أخبرنا الحارث بن نبهان، وأخبرنا موسى بن إسماعيل، عن أبان بن يزيد، كلاهما: عن عبيد الله بن الأخنس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء الحفظ، فقال: ((استعن بيمينك)).(1/277)
172 - حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا الحماني، عن ابن إدريس، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن عبد الله بن عمرٍو: أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيفة يكتب فيها ما يسمع منه، فأذن له.
173 - حدثنا عمر، حدثنا يزيد بن عبد ربه، عن بقية، حدثني عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، حدثني أبو مدركٍ، حدثني عباية بن رفاعة بن رافعٍ، عن رافع بن خديجٍ، قال: قلت: يا رسول الله! إنا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟ قال: ((اكتبوا ولا حرج)).(1/278)
174 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا علي بن المديني، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعدٍ، حدثني أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن شعيبٍ: أن سعيد ابن المسيب حدثه: أن مجاهداً أبا الحجاج حدثه: أن عبد الله ابن عمرٍو حدثهم: أنه قال: يا رسول الله! أكتب ما أسمع منك؟ قال: ((نعم)). قلت: عند الغضب والرضا؟ قال: ((نعم؛ فإنه لا ينبغي أن أقول إلا حقًّا)).(1/279)
175 - حدثنا الجارود، حدثنا الوليد بن مسلمٍ، حدثني الأوزاعي، حدثني الزهري، قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب حيث افتتح مكة، فقام رجلٌ من أهل اليمن يقال له: أبو شاهٍ، فقال: اكتب لي هذا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اكتبوا لأبي شاهٍ -يعني: تلك الخطبة-)).
176 - حدثنا عمر بن أبي عمر، أخبرنا نعيم بن حمادٍ، عن الحسن بن حبيبٍ النكري، عن عمران بن مالكٍ الأنصاري، حدثنا عبد الله بن راشدٍ مولى عثمان، عن عثمان ابن عفان، قال: قيدوا العلم، قلنا: وما تقييده؟ قال: علموه(1/280)
وتعلموه، واستنسخوه؛ فإنه يوشك أن يذهب العلماء، ويبقى القراء، لا تجاوز قراءة أحدهم تراقيه.
177 - حدثنا علي بن حجرٍ السعدي، حدثنا أبو الخطاب، قال: رأيت واثلة بن الأسقع يملي على قومٍ في الألواح، وهم يكتبون.
178 - حدثنا عتبة بن عبد الله بن عتبة الأزدي، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا سليمان بن المغيرة، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: رأيت عتبان بن مالكٍ، فحدثني بحديثه في مالك بن الدخشم، فأعجبني، فقلت لابني: اكتبه، فكتبه.
179 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، حدثنا حماد بن زيدٍ،(1/281)
قال: أتيت سلماً العلوي، فسألته عن شيء، فقال لي: عليك بأبان بن أبي عياشٍ؛ فإني رأيته عند أنس بن مالكٍ يكتبه في السراج بسبورجة.
قال قتيبة: السبورجة: الألواح.
180 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا بقية، عن عتبة بن أبي حكيم، قال: حدثني هبيرة بن عبد الرحمن، قال: كنا إذا أكثرنا على أنس بن مالك، ألقى إلينا سجلاًّ، ثم قال: هذه أحاديث كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرضتها عليه.(1/282)
الأصل السادس والعشرون
181 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي المصري، حدثنا ابن وهبٍ، حدثني حييٌّ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرٍو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً فتاني القبر، فقال عمر رضي الله عنه: أترد إلينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال: ((نعم، كهيئتكم اليوم)). فقال عمر: ففي فيه الحجر.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالمؤمن كريم على ربه، يدل بزلفاه على خلقه، فمن عرض له بسوء، عارضه بإذن الله معتزاً بالله، وكيف لا يكون هكذا، وقد أوحى إليه في تنزيله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}.(1/283)
فأعلم أن المنافقين لا يعلمون هذا، أما المؤمنون، فقد بان لهم أن الله تعالى قد أعزهم، وبان لهم عند أنفسهم أنهم إنما يعتزون بالله، فعمر رضي الله عنه حين ذكر له فتاني القبر، فغاظه ذلك من فعل الفتانين، ففزع إلى الله، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنما كان يجد الخبر من الغيب على لسانه: أترد إلينا عقولنا؟ فلما قال: ((نعم، كهيئتكم اليوم))، أنطقته الجرأة، جرأة الدالة، لا جرأة الحماقة، جرأة الدالة من اليقظة والمعرفة، وجرأة الحماقة من الجهل والغفلة.
(فقال: ففي فيه الحجر)؛ أي: إنه إذا كان عقلي الذي معي اليوم يرد علي كهيئته اليوم معي، أسكته من حسن الجواب، ووفارته وتمامه، فكأني ألقمته الحجر؛ أي: بجوابي، وبما أعطى من سلطان الحق، ونفاذ بصيرة العقل؛ لأنه نظر، فوجده كأنه أعطي سلطان الامتحان، ونظر إلى نفسه، فوجده قد أعطي سلطان الحق ونوره، فلم يبال به؛ فإنما سلط على سؤاله الجواب، وخلق خلقة منكرة، وسمي منكراً لذلك، ولصاحبه نكيراً مثل ذلك أيضاً.(1/284)
ألا ترى كيف وصفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعينهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، وشعورهما تحت أقدامهما، يحفران الأرض بأنيابهما)).
فسميا منكراً ونكيراً، فمنظرهما هائل، فإذا كان في القلب من سلطان المعرفة ما لا يهاب في الدنيا ملوك الدنيا وفراعينها، ولا يبالي بكل شيء تنفر منه القلوب، ولا يهابه كأن الذي في قلبه يدله على أنه لا يبالي به، ولا يهابه.
وقال في رواية أخرى: ((إذاً أنا أكفيكهما يا رسول الله)).
فقد عرف عمر رضي الله عنه قوة عقله، وما أعطاه الله من سلطان الحق، فلما علم أنه مردودٌ عليه يومئذ، تشجع، وكيف لا يتشجع وهو يجد في قلبه أنه لا يخاف إلا الله، ولا يهاب الحروب، ولا معاداة ملوك الدنيا شرقاً وغرباً، وهذا ابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يفعل هذا الفعل بسبع من السباع، ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يروي.(1/285)
182 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، حدثنا الحكم بن المبارك، أخبرنا بقية بن الوليد، عن بكرٍ بن حذلمٍ الأسدي، حدثني وهب بن أبان، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه خرج في سفر له، فإذا بجماعة على الطريق، فقال: ما هذه الجماعة؟ فقالوا: أسدٌ قطع الطريق. قال: فنزل، فمشى إليه حتى قفده بيده، ونحاه عن الطريق، ثم قال: ما كذب عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنما يسلط على ابن آدم من خافه ابن آدم، ولو أن ابن آدم لم يخف غير الله، لم يسلط الله عليه أحداً، وإنما وكل ابن آدم إلى من رجا ابن آدم، ولو أن ابن آدم لم يرج إلا الله، لم يكله الله إلى غيره)).
قال أبو عبد الله رحمه الله: فمن لا يهاب ملوك الدنيا ومنابذتهم ومعاداتهم في الله، ولا يهاب السباع المؤذية، فحقيقٌ أن لا يهاب منكراً ونكيراً.(1/286)
وهذا الحديث الذي روي من شأن عمر رضي الله عنه يدل [على] أن كلاًّ إنما يرد إليه عقله الذي خرج به من الدنيا على تلك الهيئة، وبين العقول تفاوتٌ، فإذا كان عقل الرجل وافراً، فاستقبله هولٌ من أهوال الدنيا من ذي سلطان أو غيره، فاستقام، ولم يدهش، ولم تصبه الحيرة في أمره، كان يومئذ مردوداً عليه ذلك العقل، فإذا استقبله هول فتاني القبر، لم يدهش، ولم يتحير، ومن كان عقله اليوم ما إذا حل به شيء من ذلك دهش وتحير، ولم يثبت على الاستقامة حتى مال، كان إذا استقبله هناك مثل ذلك، وأن الله -تبارك وتعالى اسمه- يلطف بعبده المؤمن، وينصره، ويثبته في الأحايين كلها، وقال تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
فعلى قدر ثباته في القبر وسرعة الإجابة، وكلما كان أسرع إجابةً، كان أسرع تخلصاً من الهول.
وروي لنا في الخبر، عن وهب بن منبه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر حديث الصور، وعن إسماعيل بن رافع.
183 - حدثنا بذلك داود بن حمادٍ القيسي، حدثنا عبدة بن سليمان، عن إسماعيل بن رافعٍ، عن محمد بن زيادٍ الأنصاري، عن محمد بن كعبٍ القرظي، عن أبي(1/287)
هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر حديث الصور، وقال في آخر ذلك:
((يقول الله عز وجل لملك الموت: من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي القيوم، الذي لا يموت، وبقي عبدك ملك الموت، فيقول: يا ملك الموت! أنت خلقٌ من خلقي، خلقتك لما ترى، فقد مات الخلق كلهم، فمت، ثم لا تحيا أبداً)).
فكأنه امتنع كثيرٌ من رواة هذا الحديث من رواية هذا الحرف فيه: ((ثم لا تحيا أبداً))، وهاب هذه الكلمة، وذلك مبلغ علمه.
رواه عمر بن هارون، فلم يجد فيه هذا الحرف، فنظرنا في هذا(1/288)
الحرف، فوجدنا أن الله عز وجل يحب المؤمنين جداً، ومن حبه إياهم رزقهم المعرفة والإيمان به، ورزقهم النبوة والولاية والطاعة، وقد عظم شأنهم، وكرموا عليه، فإذا كان يوم القيامة، وبعث أحباءه من الرسل والأنبياء وسائر المؤمنين، فنظروا إلى ملك الموت، وقد لقوا منه ما لقوا من الأذى والتعب، فكان يدخل عليهم النظر إليه الهم والثقل، فتمنى أن يترك أحباءه كرامةً لهم، وكذلك نجد في طبع الآدميين هاهنا أن كل من لقي من أحدٍ شدةً، ثقل عليه النظر إليه، فكيف من قتله، وقطع روحه من كل مفصل حتى نزعه؟! ألا ترى أنه كان يأتيهم عياناً، فشتموه وآذوه، فشكا إلى الله حتى صير أمره في خفاء، وهيأ لهم الأسباب من الأمراض والعلل؛ لكي يدرس ذكر ملك الموت عن قلوبهم وألسنتهم، ويقولون: مات فلان بعلة كذا.
ألا ترى: أنه لطمه موسى -عليه الصلاة والسلام-، ففقأ عينه، فرجع يشكو إلى الله عز وجل، فإنما فقأ عين الصورة التي كان أتاه فيها، وهذا عند من يجهل معناه منكر مدفوع، متهم رواته، وكيف تتهم رواته، وقد روت الأئمة من غير وجه؟
فأما وجهٌ واحد:(1/289)
184 - فحدثنا به أبي رحمه الله: حدثنا علي بن محمدٍ المنجوري، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمارٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان ملك الموت يأتي الناس عياناً حتى أتى موسى -عليه الصلاة والسلام-، فلطمه، ففقأ عينه، فرجع ملك الموت إلى ربه، فقال: يا رب! إن عبدك موسى فعل بي ما ترى، ولولا كرامته عليك، لشققت عليه، قال: ارجع إلى عبدي موسى، فقل: فليضع يده على متن ثورٍ، فخيره بكل شعرةٍ توازي كفه أن يعيش سنةً، فرجع إلى موسى عليه السلام، فأخبره بذلك فقال موسى: يا ملك الموت! فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فمن الآن، فشمه شمةً، فقبض روحه، فرد عليه بصره، فكان يأتي الناس بعد ذلك في خفيةٍ)).(1/290)
185 - حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمدٍ، حدثنا جعفر ابن حيان، عن الحسن، قال: لما أتى ملك الموت موسى، فلطمه، ففقأ عينه.
186 - حدثنا علي، عن حماد بن سلمة، عن غير واحد، عن الحسن، بمثله.
قيل للحسن: هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فإنما استجاز موسى -صلوات الله عليه- ذلك؛ لأنه كليم الله؛ كأنه رأى أن من اجترأ عليه، أو مد إليه يداً بأذًى، فقد عظم الخطب فيه، ألا ترى أنه احتج عليه، فقال: من أين تنزع روحي؟ أمن فمي؛ فقد ناجيت ربي؟ أم من سمعي؛ وقد سمعت به كلام ربي؟ أم من يدي؛ وقد قبضت بها الألواح؟ أم من قدمي؛ وقد قمت بين يديه أكلمه بالطور؟ أم من عيني؛ وقد أشرق وجهي لنوره؟ فرجع إلى ربه مفحماً، والمطيع لله يفحم بالله.(1/291)
ألا ترى إلى قول مريم لجبريل عليه السلام: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً}؟ فكان موسى بحظه من الله مدلاً، وحق لمن يسمع كلام ربه أن يدل.
روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان إذا كلم موسى ربه، أتاه جبريل بحلتين من الجنة، وكرسي من جوهر الجنة، فيقعده عليه، ويقول: قدوسٌ قدوسٌ، فيقول ربه: لبيك لبيك يا موسى)).
فمن يقدر أن يتفكر في هذه الكرامة، وفي كنه هذه المكرمة؟ فإذا رجع منها، ونزل من الكرسي، كان يبرقع وجهه، وكان لا يراه أحد إلى أربعين يوماً إلا مات من نور وجهه، فلما رأى ذلك، اتخذ برقعاً.
وروي في الخبر: أنه قال: ((يا رب! أهكذا كلامك؟ قال: يا موسى! إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسانٍ، ولي قوة الألسنة كلها، ولو كلمتك بكنه كلامي، لم تك شيئاً)).
187 - حدثني أبي رحمه الله، عن ابن الأصبهاني، عن أبي(1/292)
أسامة، عن ابن المبارك، عن معمرٍ ويونس، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الله بن الحارث، قال: أخبرني جرز بن جابرٍ الخثعمي، قال: سمعت كعباً يقول ذلك.(1/293)
وروي في الخبر: ((أنه قبض عليه جبريل بجناحه، فمر به في العلى حتى أدناه، حتى سمع صرير القلم حيث كتب الله له الألواح)).
فالعبد الذي يحظى من الله كل هذا الحظ، إن مد أحدٌ إليه يده بمكروه، فامتنع منه، فإنما اعتز وامتنع بمن أكرمه، وليس هذا لمن امتنع واعتز بنفسه الدنية، وشح على الحياة حرصاً على الدنيا، وتلذذاً بها، هذا عبد دني، وفعله دني، هو مقهور في الحياة، وعبدٌ للموت، وذاك عبدٌ اعتز بالله، وشح على الحياة حرصاً على ما كان يتلذذ به من كلام الله، وقرب الله.
وبلغنا: أنه لما جاء ملك الموت بعد ذلك، قال موسى: الآن فقد قرت عيني؛ -أي: بمنتك ونعمتك-، فقال: يا موسى! أما ترى أن ألبس وجهك نوراً مثل الشمس ثنتي عشرة مرة وأضعافه؟!
فمن عرف ما أعطي موسى -عليه الصلاة والسلام-، لم يستنكر فعله بملك الموت؛ لأن ملك الموت إنما جاءه في أن يقطع عنه ما هو فيه، فقد علم الله ما الذي هيجه على ذلك، فتجافى عن فعله.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مررت بموسى -صلوات الله عليه- ليلة أسري [بي]، فوجدته قائماً يصلي في قبره))؟(1/294)
فهذه مرتبة موسى عليه السلام حيث جاءه بالكلام والمناجاة، ولم يقطع عنه بعد الموت لذة تلك النجوى، فإنما قصد بهذا الفعل الذي فعل بملك الموت؛ لأنه حسب بالموت تنقطع نجواه من ربه، ولم يفعل ذلك حرصاً على حياة الدنيا.
وجاءنا في الخبر: أن موسى لما كثر عليه الناس وتزاحموا، حتى كاد يعجز عنهم، بعث الله ألف نبي يكونون له أعواناً على ما هو فيه من قراءة التوراة، وتعليم بني إسرائيل، فمال الناس عنه إلى أبواب الأنبياء، فأدركته الغيرة.
فروي عن وهب بن منبه: أنه قال: فأماتهم الله كلهم في ليلة واحدة؛ كرامةً لموسى -عليه الصلاة والسلام-.
فليس هذا غيرة الآدميين طبعاً، ولا غيرة أهل الرغبة والتنافس، إنما غار لله، لم يطق أن ينظر إلى هؤلاء الأنبياء يعملون عنه لحب الله، كأنه أحب أن يقوى على ذلك حتى يكون هو المتولي لذلك كله دون أحدٍ ٍمن خلقه، وهذا موجودٌ في طبع الآدميين، من أحب ملكاً، وشغف به، فأمره بأمر، ثقل عليه أن يشركه في ذلك أحدٌ، ويكون في توليته ذلك بنفسه شفاء لغليان حبه، وهذا لا يعقله إلا أهله، ومن قد أخذ من هذا الأمر شعبة.
فإنما فقأ موسى -عليه الصلاة والسلام- الصورة التي أتاه فيها، لا عين ملك الموت الذي هو عينه، وهذا في تحرز الكلام، كذا يقال: والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/295)
الأصل السابع والعشرون
188 - حدثنا الجارود بن معاذٍ، حدثنا الحماني، حدثنا العنزي، عن ابن جريجٍ، عن عمرو بن دينارٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتي أحدكم بهديةٍ، فجلساؤه شركاؤه فيها)).(1/297)
قال يحيى: ولم يروه غير مندلٍ.
189 - حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا أبو نعيم، [و] الحماني، عن مندلٍ، عن ابن جريجٍ، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالجلساء: هم الذين قد داوموا على مجالستك وفاوضوك في أمورك، حتى صاروا معك كشيء واحد.(1/298)
وليس كل من جلس إليك فهو جليسك، إنما الجليس الذي تفضي إليه أسرارك، ومخالطك في أمورك، فله حقٌّ وحرمة، كما تقول: أكيلك، وشريبك، وحريفك، ووزيرك، وليس كل من أكل معك أكلةً، أو شرب شربةً، أو وازرك على أمر مرةً بأكيلٍ ولا بحريف ولا بوزير، فكذلك الجليس، فإذا أهدي إليك وهو حاضر، فله من الحق والحرمة أن تهدي له منها؛ لأن كرامتك كرامته، وهو من أهل وصية الله عز وجل في تنزيله بالإحسان إليه، فقال: {والصاحب بالجنب}.
190 - فحدثنا يوسف بن سلمان الباهلي البصري، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {والصاحب بالجنب}، قال: جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر، وامرأتك التي تضاجعك.
فإنما نطق التنزيل بجملة الاسم، فقال: {والصاحب بالجنب}، فذكر(1/299)
الصحبة بالقرب، ثم عم بهذه الصفة هذه الأصناف الثلاثة.
فأما جليسك في الحضر: فهو صاحب سرك ومستراحك، تفضي إليه غمومك وهمومك.
وأما رفيقك في السفر: فهو الذي يرافق أمورك، يحفظ عليك متاعك، ويؤانسك، ويعين على نوائبك في السفر، وإن حدث بك حدث الموت، قبل وصيتك، ونعاك لمخلفيك، ورد ما معك إليهم إلى ذريتك.
وأما امرأتك التي تضاجعك: فمرافقها أكثر من أن تحصى؛ من الغذاء، والتربية، ومهاد العيش، وعفتك بها عمن سواها.
فهؤلاء كلهم قد صحبوك بالجنب، فاستوجبوا منك الشكر، وإنما وجب لهم عليك الحق؛ لأن الله تعالى أقام لك من ناحيتهم مرفقاً ونفعاً، فإن لم توجب لهم حقاً، لم تشكرهم، والله لا يحب الكفور.
191 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، حدثنا سيارٌ، عن جعفرٍ، عن مالك بن دينارٍ، قال: يقول الله تعالى: ((إني لأهم بعذاب أهل الأرض، فإذا نظرت إلى جلساء القرآن، وعمار المساجد، وولدان الإسلام، سكن غضبي)).(1/300)
فليس كل من قرأ القرآن فهو جليس القرآن، إنما الجليس من جالسه القرآن، وفاوضه، وأبدى له عن أسراره، وعجائبه، وبواطنه، فإنما يكون هذا لمن انتفى عنه جور قلبه، وذهبت خيانة نفسه، فأمنه القرآن، بأن يقع في صدره، ويكشف له عن رغبته وبهائه.
وكذلك عمار المساجد، ليس كل من أنفق في مسجدٍ فبناه، أو رمه، فهو من العمار، إنما عمار المساجد من عمره بذكره، وقال: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله}.
فجليس القرآن من جالسه، فإذا وجد القلب طاهراً، جالسه، وكشف له عن وجهه، فإن وجهه باطنه، وهذا ظهره الذي يعقله الناس.
ومنه: ما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لنجد لقراءتك لذةً -يا رسول الله- ما لا نجد لقراءة أحدٍ؟ قال: ((لأنكم تقرؤونه لظهرٍ، وأنا أقرؤه لبطنٍ)).
فلا يكشف عن وجهه إلا للأمين الذي لا يخونه.(1/301)
ومثله كمثل عروسٍ مزينةٍ، مد يده إليها دنسٌ متلوثٌ في المزابل، متلطخٌ بالأقذار، فالزوج يمد يده إليها، وهي تعرض عنه أنفةً، وتعافه وتقذره، فإذا تطهر، ثم تزين، فقد أدى حقها، أقبلت إليه بوجهها مفاوضة، وصارت له جليسةً، فكذلك القرآن له ظهرٌ وبطنٌ، فوجهه ما يلي بطنه، والزينة والبهاء والحسن في الوجه، فلا يكون جليساً إلا لمن تطهر من الذنوب ظاهراً وباطناً، وتزين بالطاعة ظاهراً وباطناً، فعندها يأمنه القرآن، فيتجلى له بزينته وبهائه، ومواعظه، وحكمه، وما حشى الله فيه من البر واللطف لعباده، وحرام على من ليس هذه صفته أن ينال ذلك.
وكيف ينال البر واللطف عبدٌ آبقٌ من مولاه، هاربٌ على وجهه، لا يزداد على تجدد الأيام إلا هرباً بنفسه، إنما ينال البر إذا أقبل إليه من إباقه تائباً نادماً، فيمكث في التوبة مدةً يظهر له نصحه، فهناك فليتوقع بره ولطفه، فكذلك هذا.
كيف ينال البر واللطف من الله تعالى من قلبه مكبٌّ على أحوال نفسه ودنياه، وقد ضيع العبودة، وأقبل على تربية نفسه، وجمع حطام دنياه مغروراً على التكاثر، والتفاخر، والعلق، وقضاء المنى والشهوات، وإنما البر واللطف في تنزيله للمتقين وللشاكرين، وللصابرين، وللخاشعين، وللمنيبين، وللمخبتين، وللمحسنين.
وقال عز وجل: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من تواضع لله درجةً، رفعه الله درجةً، ومن تواضع لله درجاتٍ، رفعه الله درجاتٍ حتى يجعله في أعلى(1/302)
عليين، ومن تكبر على الله درجةً، وضعه الله درجةً، ومن تكبر على الله درجاتٍ، وضعه الله درجاتٍ حتى يجعله في أسفل سافلين)).
فالمتكبر بغير الحق هو الذي يقضي نهمته، وشهوته ولا يبالي أذن الله له فيها أو لم يأذن، فهو من الله على عقوبة أن يضعه، فكيف ينيله البر واللطف الذي يريه أحباءه في تنزيله، إذا تلاه، صرف قلبه عنه، فلا يعيه، ولا يفهمه؛ كما صرف هذا بقلبه عن الله إلى نفسه ودنياه، فروي في التفسير في قوله: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}:
قال: أنزع عنهم فهم القرآن فلا يفهمونه، ولا يجدون له حلاوةً ولا لذاذةً، وذلك: أن الفهم نورٌ، فإذا ورد على القلب دنس المعاصي، ارتحل النور، فتحير عن فهمه.
وروي في الحديث أنه قال: ((يأتي على الناس زمانٌ يخلق القرآن في صدورهم حتى يتهافت مثل الثوب الخلق البالي)).(1/303)
الأصل الثامن والعشرون
192 - حدثنا محمد بن زنبور المكي، حدثنا إسماعيل ابن جعفرٍ المدني، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجلٌ يمشي في الطريق إذ أبصر بغصن شوكٍ، فقال: والله! لأرفعن هذا؛ لا يصيب أحداً من المسلمين، فرفعه، فغفر له).(1/305)
قال أبو عبد الله رحمه الله: فليس برفع الغصن نال المغفرة فيما فعله، ولكن بتلك الرحمة التي عم بها المسلمين، ألا ترى إلى قوله: ((لأرفعن هذا؛ لا يصيب أحداً))، فشكر الله له عطفه ورأفته.
ومما يحقق ذلك: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((بينما عبدٌ لم يعمل لله خيراً قط مر على بئرٍ، فشرب، فإذا هو بكلبٍ يلهث عطشاً، فغرف له بخفه، فسقاه، فشكر الله له ذلك، فغفر له)).
193 - حدثنا قتيبة، عن مالكٍ، عن سميٍّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذلك.
((وبينما عبدٌ لم يعمل لله خيراً قط، فمر على غصن شوكٍ، فأماطه عن الطريق، فغفر الله له، وبينما عبدٌ لم يعمل خيراً قط، ففرق، فخرج هارباً، فجعل ينادي: يا أرض! اشفعي لي، ويا سماء! اشفعي لي، ويا كذا! اشفعي لي،(1/306)
حتى أصابه العطش، فوقع، فلما أفاق، قيل له: قم؛ فقد شفع لك من قبل فرقك من الله عز وجل)).
194 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، عن صالحٍ بن محمدٍ، عن أبي مقاتلٍ، عن أبي الحجاج، وهو خارجة، عن ابن عجلان، عن رجلٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنما غفر له من أجل الرحمة التي رحم بها الكلب، وإنما غفر له من أجل الفرق الذي حل بقلبه، والفرق يصحح التوبة، ويكملها، فقد وعد الله التائب مغفرته ومحبته في تنزيله، وإنما سمي فرقاً؛ لأنه حل به من الخشية، ومن خوف الله عز وجل، ما ماتت منه كل شهوة، وكل معصية، فطهر الظاهر والباطن بتركه بالجوارح فعلاً، وبتركه قلباً ونفساً، فالفرق من الله صيره هكذا، فغفر له، والذي يترك المعاصي بالجوارح، وشهوتها في نفسه وقلبه، ونفسه تنازعه إلى ذلك، فإنه إن طهر ظاهره، لم يطهر باطنه، فلم يستكمل التوبة بحقيقتها.(1/307)
وهذا الفرق قد عمل فيه، حتى فارق المعاصي أصلاً، وأصل الفرق عندنا: ما ينفتح له من قرب الله، فينكشف له الغطاء عن جلال الله وعظمته، ثم عن سلطانه، فيفرق من هيبة ذلك السلطان قلبه، حتى يكاد ينخلع القلب من مستقره، وتموت شهواته من الخوف، وهذا الذي وصف من هذا العبد الذي لم يكن عمل خيراً قط، ففرق، فإنما أصاب الفرق، وانكشف له الغطاء بدولة وسعادة سبقت له من الله عز وجل، فختم له بذلك، وإلا، فإن الفرق لا يناله إلا النبلاء الأولياء.
195 - حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا محمد بن خنيس المكي، قال: سمعت عبد العزيز بن أبي روادٍ يقول: لما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً}، قال: فلما تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، خر فتًى مغشياً عليه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده، فإذا هو يتحرك، فقال: ((يا فتى! قل: لا إله إلا الله))، فأفاق الفتى وهو يقولها، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله! أمن بيننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما سمعتم الله يقول: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدٍ}.(1/308)
ومثله: ما روى بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبدٍ لم يعمل خيراً قط، فقال لأهله: إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم ذروني.
قد كنت شرحته في بابه، فقال له ربه: إني أسمعك راهباً، فغفر له.
فكذلك هذا أيضاً، قد كانت سبقت له من الله سعادة، فتداركه بها عند الموت، فرزقه الله تعالى الرهبة (حتى حل به ما حل، وتكلم بما تكلم من الدهش وتضايق الأحوال عليه.
والرهبة): هو هرب القلب من شدة الخوف، والخوف خفته، وانزعاجه، فالرهبة أكبر من الخوف.(1/309)
ألا ترى أن الله تعالى لما ذكر أنبياءه، فقال: {ويدعوننا رغباً ورهباً}، ولما ذكر من دونهم، فقال: {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً}.
فالرغب: هو التهاب القلب حرصاً على الشيء الذي يطلبه، فهو أعلى من الطمع.
والرهب: هرب القلب من هول سلطان الله.
فوصف هذا العبد الذي لم يعمل خيراً قط في يوم مقدمه عليه بالرهبة، يخبرك أن الرهبة صنعت به ما صنعت، حتى أداه ذلك إلى أن أمر أولاده أن يحرقوه، وقد بينا تفسير الخوف في بابه، والله أعلم.(1/310)
الأصل التاسع والعشرون
196 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي، عن عمر بن بلالٍ الفزاري، قال: سمعت عبد الله بن بسرٍ المازني يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قصوا أظافيركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم، ونظفوا لثاتكم من الطعام، وتسننوا، ولا تدخلوا علي قخراً بخراً)).
قال أبو عبد الله رحمه الله: فأما قوله: (قصوا الأظافير)، فمن أجل أنه يخدش، ويخمش، ويضر، وهو مجمع الوسخ، فربما أجنب، ولا يصل(1/311)
الماء إلى البشرة من أجل الوسخ، فلا يزال جنباً.
ومن أجنب، فبقي موضع إبرةٍ من جسده بعد الغسل غير مغسول، فهو جنبٌ على حاله، حتى يعم الغسل جسده كله، فلذلك ندبهم إلى قص الأظافير.
والأظافير: جمع الأظفور، والأظفار جمع الظفر، فمن قال: ظفر: فجمعه أظفار، ومن قال: أظفور: فجمعه أظافير.
197 - سمعت أبا داود المصاحفي يذكر عن النضر ابن شميلٍ، عن الخليل بن أحمد، قال: ينبغي أن يكون واحد الأظافير أظفوراً.
قال النضر: وسمعت أبا شهلة العتكي يقول: واحد الأظافير أظفور.
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سها في صلاته، فقال: ((وما لي لا أوهم، ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته؟! ويسألني أحدكم عن خبر السماء، وفي أظافيره الجنابة والتفث)).(1/312)
وأما قوله: ((ادفنوا قلاماتكم))، فإن جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه، وزال عنه، فحظه من الحرمة له قائم، فيحق عليه أن يدفنه كما أنه لو مات دفن، فإذا مات بعضه، فكذلك أيضاً مقام حرمته بدفنه كيلا(1/313)
يتفرق، ولا يقع في النار، أو في مزابل قذرة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن دمه حيث احتجم؛ كيلا تبحث عنه الكلاب.
198 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، أخبرنا موسى بن إسماعيل، حدثنا الهنيد بن القاسم بن عبد الرحمن بن ماعزٍ، قال: سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير: أن أباه حدثه: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ، قال: ((يا عبد الله! اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحدٌ))، فلما برز عن رسول الله، عمد إلى الدم، فشربه، فلما رجع، قال: ((يا عبد الله! ما صنعت به؟))، قال: جعلته في أخفى مكانٍ ظننت أنه خافٍ عن الناس، قال: ((لعلك شربته؟))، قال: نعم، قال: ((لم شربت الدم؟! ويلٌ للناس منك، وويلٌ لك من الناس)).(1/314)
199 - حدثنا أبي رحمه الله، حدثني مالك بن سليمان الهروي، قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن هشامٍ ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان:
((الشعر، والظفر، والدم، والحيض، والسن، والقلفة، والمشيمة)).(1/315)
وأما قوله: ((نقوا براجمكم))
والبراجم: تلك الفصول من المفاصل، وهو مجمع الدرن، واحدها برجمة، وهو ظهر عقد كل مفصلٍ، وظهر العقد يسمى: برجمة.
وما بين العقد: راجبةٌ، وجمعها رواجب، وذلك مما يلي ظهرها، وهي قصبة الإصبع، فلكل إصبع برجمتان، وثلاث رواجب، إلا الإبهام، فإن لها برجمة وراجبتين، فأمر بتنقيته؛ لئلا يدرن، فتبقى فيه الجنابة، ويحول الدرن بين الماء والبشرة.
وأما قوله: ((نظفوا لثاتكم)).
فاللثة واحدةٌ، واللثات جماعة، وهي اللحمة فوق الأسنان، ودون الأسنان، وهي منابتها.
والعمور: اللحمة القليلة بين السنين، واحدها: عمر، فأمر بتنظيفها؛(1/316)
لئلا يبقى فيه وضر الطعام، فتتغير عليه النكهة، وتتنكر الرائحة، ويتأذى الملكان؛ لأنه طريق القرآن، ومقعد الملكين عند نابيه.
وروي في قوله تعالى: {ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ}.
قال: ((عند نابيه)).
200 - حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي، قال: سمعت أبي يقول ذلك عن سفيان بن عيينة، وجاد ما قال.
وذلك أن اللفظ عمل الشفتين يلفظ الكلام عن لسانه إلى البراز.
وقوله: {لديه}؛ أي: عنده.
واللد والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد، وكذلك قوله: (لدن)، والنون زائدة، فكأن الآية تنبئ أن الرقيب عتيدٌ عند تلفظ الكلام، وهو الناب.
وأما قوله: ((تسننوا))، وهو السواك، مأخوذ من السن؛ أي: نظفوا السن.
وقوله: ((لا تدخلوا علي قخراً بخراً))، فالمحفوظ عندي: ((قحلاً وقلحاً)).
201 - وسمعت الجارود يذكر عن النضر، قال: الأقلح: الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها،(1/317)
ولا نعرف القخر والبخر إلا الذي نجد له رائحةً منكرةً لبشرته، يقال: رجلٌ أبخر، ورجالٌ بخرٌ.
202 - حدثنا الجارود، أخبرنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي عليٍّ، عن جعفر بن تمام بن العباس، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استاكوا، ما لكم تدخلون علي قلحاً؟!))، والله أعلم.(1/318)
الأصل الثلاثون
203 - حدثنا إسماعيل بن صالحٍ، حدثنا ابن وهبٍ، عن مالك بن خيرٍ الزيادي، عن أبي قبيلٍ المعافري، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)).(1/319)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالإجلال للكبير: هو حقٌّ سنة الله تعالى، تقلب في العبودة لله تعالى في مدة طويلة.
والرحمة للصغير: هو موافقته لله تعالى بأنه رحمه، ورفع عنه العبودة، فلم يؤاخذه بحفظ حدٍّ، ولا حكمٍ.
والمعرفة للعالم حق العلم: أن يعرف قدره بما رفع الله من قدره، فآتاه العلم؛ فإن الله تعالى قال في تنزيله: {يرفع الله الذين آمنوا منكم}، ثم قال: {والذين أوتوا العلم درجاتٍ}. فيعرف له درجاته التي رفع الله له بما آتاه من العلم.(1/320)
الأصل الحادي والثلاثون
204 - حدثنا حميد بن الربيع اللخمي، أخبرنا سعيد بن شرحبيل، أخبرنا ابن لهيعة، عن الحارث بن ثوبان، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أردت سفراً، أو تخرج مكاناً، فقل لأهلك: أستودعكم الله الذي لا تخيب ودائعه)).
205 - حدثنا عمرو بن محمدٍ العثماني، حدثنا ابن(1/321)
أبي السري، حدثنا رشدين، أخبرنا الحسن بن ثوبان، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
206 - حدثنا سفيان، أخبرنا أبي، عن سفيان، عن نهشلٍ الضبي، عن قزعة، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال لقمان: إن الله إذا استودع شيئاً، حفظه)).(1/322)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فأصل الوديعة: هو الترك والتخلي عن الشيء.
وهو قوله تعالى: {ما ودعك ربك وما قلى}؛ أي: ما تركك.
وإن الله تعالى جعل الأمور تقوم بالأسباب؛ محنةً وبلوى لأهلها؛ لينظر من ينفذ قلبه من الأسباب إلى ولي الأسباب، ومن يتعلق بها، (فيكون قلبه سبياً من سبي الأسباب)، فيكون مثله كما ذكر الله في تنزيله، فقال: {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً}، ثم قال: {الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}.
فهذا في الظاهر تجده رجلاً يعبد أصناماً شتى، ورجلاً سلماً للواحد القهار، هل يستويان؟ وفي الباطن رجلاً في قلبه شركاء متشاكسون، وهي شهواته التي تغلي في صدره، فقد سبى قلبه أسباب تلك الشهوات، ورجلاً قد انفرد قلبه للواحد، وخلا من جميع الأسباب، وماتت نفسه من الشهوات {هل يستويان مثلاً}؟
ثم قال: {الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}.(1/323)
ثم قال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.
فباطن هذه الأمثال إنما طالعها أهل اليقين ببصائر نفوسهم، ونور يقينهم، فوضع الله هذه الأمور في الأسباب، وربوبيته في الأسباب قائمة، فلا تطرف عينٌ، ولا ينبض عرقٌ، ولا تحس حاسة من الحواس بشيء إلا بإذنه، وقوام الأشياء ودوامه به، كيفما تصرفوا في الأمور، وتقلبوا في الأحوال، فإنما يتصرفون في ربوبيته، فالموحدون وحدوه، وأخلصوا إليه التوحيد، ثم بقيت قلوبهم مع الأسباب التي منها يرون بدو الأسباب حين تبدو، ولم يعبروا إلى ولي الأسباب ومدبرها لهم، فتشبثت نفوسهم بالأشياء، وتعلقت قلوبهم بها، حتى افتتنوا بها، وعصوا الله من أجلها، فضيعوا حقوقه، وركبوا مساخطه.
وأهل اليقين: احتدت أبصار قلوبهم بنور اليقين، فنفذت إلى تدبير ولي الأسباب، فصارت لهم معاينة، ووصلت إلى ولي الأسباب، فاستوطنت على القربة هناك عاكفة على ربها، وولت الأسباب ظهراً، فهو يمضي في الأسباب كسائر الخلق، والأسباب لا تأخذه، ولا تغير قلبه؛ لأنه قلبه(1/324)
هناك بين يدي الخالق، مبهوتٌ في جلاله وعظمته، والأسباب من وراء ظهره، فهو يمضي فيها، ولا يلتفت إليها، فلا تجد الأسباب سبيلاً إلى أن تفتنه، وإنما يأخذ الأسباب كل أحمق قد أسرته نفسه، فقلبه في غطاء عن الله، فلا يرى الأشياء تبدو له إلا من الأسباب، والنفس في خدعها وغرورها من ورائه، فلا يزال هكذا حتى يصير قلبه سبياً من سبي النفس، وأسيراً من أسراها، لا يعمل إلا ما تهوى به نفسه.
فإذا خلف شيئاً في مكان، وأراد أن يغيب عنه؛ استودع الله عز وجل ذلك الشيء، فهذا منه في ذلك الوقت تخلٍّ وتبرؤ من حفظه ومراقبته؛ لأنه ما دام معه، فهو في نفسه يحسب أنه هو الذي يحفظه ويكلؤه ويرعاه، وهو يقول مع هذا: {فالله خيرٌ حافظاً}. ولكن هذا القول منه قول الموحدين، لا قول الموقنين المنتبهين لما يقول، فما دام معه، فهو يحفظه.
ثم إذا خلفه في حرزٍ، أو في حراسة، أو أخفاه في موضع، فقد وكله إلى ذلك الحرز والحراسة، وإذا جعله هكذا، ثم مع هذا أودعه ربه سبحانه وتعالى، فقد وكله إلى الله، وتبرأ من حفظه، وحفظ حرزه وحارسه، وتخلى منه مضى في تدبير الآدميين أن يحرزوا أو يحرسوا، ثم وكله إلى الله، فوجده ملياً وفياً كريماً.(1/325)
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من توكل على الله، كفاه)).
وقال في حديث آخر: ((من سره أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله)).
لأنه إذا توكل، قوي قلبه، ولم يبال بأحدٍ، وذهبت مخاوفه.
وقد قال في تنزيله: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}. فإذا(1/326)
كان الله عز وجل حسبه، فكفى به حسيباً.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من انقطع إلى الله عز وجل، كفاه)).
فإن الله أعطى الخلق علم الأمور، وعلم أسبابها، وعلم حيلها، وأعطاهم القوة، ومعرفة التصرف في ذلك، ولم يغنهم عن نفسه بما أعطاهم، فكلهم مع جميع ما أعطاهم الله فقراء مضطرون؛ لأنه لا يكون شيء إلا به.
فالغافل الأحمق: يرى ما أعطي من هذه الأشياء، فيقتدر بها في الأمور، ويتملك، فيريه الله عجزه، وفقره، وضعفه، ويعرفه أنه لا يقوم له شيء إلا به؛ فإن الأسباب التي أعطاهم كلهم ضعفاء فقراء مثله، فإذا قال العبد: لا حول ولا قوة إلا بالله، تبرأ من الأسباب، وتخلى من وبالها، فجاءته القوة والعصمة، وجاءه الغياث والتأييد، والرحمة تكنفه، فالوديعة التي تودع العبد(1/327)
ربه، إنما هو تخلٍّ وتبرٍّ من الحول والقوة.
207 - حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا عبيد بن إسحاق العطار الكوفي، ثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: بينما عمر يعرض الناس، إذا هو برجل معه ابنه، فقال له عمر: ويحك! ما رأيت غراباً بغرابٍ أشبه من هذا منك، قال: أما والله يا أمير المؤمنين! ما ولدته أمه إلا ميتة، فاستوى له عمر، فقال له: ويحك! حدثني، قال: خرجت في غزاة وأمه حاملٌ به، فقالت: تخرج وتدعني على هذه الحالة حاملاً مثقلاً؟ قلت: أستودع الله ما في بطنك، قال: فغبت، ثم قدمت، فإذا بابي مغلقٌ، قلت: ما فعلت فلانة؟(1/328)
قالوا: ماتت فذهبت إلى قبرها، فبكيت عنده، فلما كان من الليل، قعدت مع بني عمٍّ لي أتحدث، وليس يسترنا من البقيع شيءٌ، فرفعت لي نارٌ بين القبور، فقلت لبني عمي: ما هذه النار؟ فتفرقوا عني، فأتيت أقربهم مني، فسألته، فقال: نرى على قبر فلانة كل ليلة ناراً، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما والله! إن كانت لصوامةً، قوامةً، عفيفةً، مسلمةً، انطلقوا بنا، وأخذت فأساً، فإذا القبر منفرجٌ، وهي جالسةٌ، وهذا يدب حولها، وناداني منادٍ من السماء: أيها المستودع ربه! خذ وديعتك، أما لو استودعته وأمه، لوجدتها، فأخذته، وعاد القبر كما كان، فهو -والله- هذا يا أمير المؤمنين.(1/329)
قال عبيد: فحدثت بهذا الحديث محمد بن إبراهيم العمري، فقال: والله! هذا حقٌّ، وقد سمعت عم أبي عاصم يذكره، فقال: رأيت هذا الرجل بالكوفة، فقال لي موالينا: هو هذا، والله أعلم.(1/330)
الأصل الثاني والثلاثون
208 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا نعيم بن حمادٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عجلان، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجاء بالعبد يوم القيامة، فتوضع حسناته في كفةٍ، وسيئاته في كفةٍ، فترجح السيئات، فتجيء بطاقةٌ، فتقع في كفة الحسنات، فترجح بها، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة؟ فما من عملٍ عملته في ليلي ونهاري إلا وقد استقبلت به، قال: هذا ما قيل فيك، وأنت منه بريءٌ. قال: فينجو بذلك)).
قال أبو عبد الله: فإنما ثقلت البطاقة؛ لأن البهتان عظيمٌ شأنه.
وروي في الخبر: أن داود سأل سليمان عليه السلام: ما أثقل شيءٍ؟ فقال:(1/331)
البهتان على البريء.
209 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الربيع ابن يحيى، عن المسعودي، قال: أنبأني المنهال بن عمروٍ، عن سويد بن غفلة، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: البهتان على البريء أثقل من السماوات.
وإنما صار هكذا؛ لأن الآدمي اؤتمن على جوارحه السبع وهي ظواهر، ووكل برعايتهن أيام الحياة؛ لئلا تدنس، حتى يقدم على الله وهو مقدس يصلح لدار القدس، وأن يكون مجاوراً للقدس، ومجاوراً له ومحدثاً، فإذا رعاهن هذا المؤمن، ثم ضيع منه ما ضيع من غفلةٍ، أو زلةٍ، أو غلبةٍ، أو فتنةٍ حلت، فمن ورائه الندم، والاستغفار، والانقلاع، وباب التوبة مبسوطٌ، فإذا رعى العبد هذه الجوارح، فقال هذا في عرضه ما هو منه بريءٌ، فقد خونه في أمانة الله عنده، ولم يخن، وزعم أنه سرق من الله جارحةً ولم يسرق، ودنس عرضه وليس يدنس، وألزم جوارحه من الشين والعار ما لم يلزق به، وتهافت عنه، وبقيت الكلمة في عنق صاحبها راجعة بوبالها، وعارها، وشنارها، وهتك له ستراً لم ينهتك، ورماه(1/332)
بداهية هو منها بريء، وساعٍ به إلى الله، وغير مقبول سعايته؛ لأن علام الغيوب مطلع على كذبه، وكتب في شهداء الزور، وقد نهى الله عنه، وقرنه بالشرك، فقال: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور}.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البهتان عدل بالشرك بالله)).
وسمي بهتاناً: لأنه يبهت القلب، ويحيره؛ من ظلمته؛ فإن الظلم ظلماتٌ، فإذا بهت القلب، وتحير في الظلمة، ذهبت الهداية والبصيرة، فخرب القلب، وهو بمنزلة الشمس إذا انكسفت فتهافت نورها، فيصير الذي نيل من عرضه بهذا البهتان عند الله بحال رحمةٍ؛ حيث أصيب من عرضه وخلص الألم إلى قلبه، بغرض أتعبه وأنصبه، فلم يرض الله له عوضاً إلا من الجنة، فكيف إذا أتعب قلبه؛ لأن البهتان يصل وجعه إلى القلب، وإذا كان بريئاً، فهو أوجع لقلبه، والله أعلم.(1/333)
الأصل الثالث والثلاثون
210 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهابٍ، عن نبهان مولى أم سلمة: أنه حدثه: أن أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثته: أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة، قالت: بينما نحن عنده، إذ أقبل ابن أم مكتومٍ، فدخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتجبا منه))، فقلنا: يا رسول الله! أليس هو أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟!)).(1/335)
قال أبو عبد الله: فإنما ضرب الحجاب عليهن كرامةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلالاً له، وصير الله أزواجه أمهات المؤمنين؛ ليحرمن على من بعده، وقد تكلم بعضهم في حياته بشيء من تزويجهن، فنزلت: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً}.
ونزلت آية: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}.
فانقطع الخطاب الذي كان فيما بينهم، والطمع في شأنهن، فصرن أمهات المؤمنين، وليس المؤمنون لهن بمحرم، وذلك ليعلم أنه إنما صرن أمهات المؤمنين؛ ليحرمن على الرجال بعده، وليس الرجال بمحرم لهن، فقال: {وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجابٍ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}.
فكما حظر على الرجال النظر إليهن، كذلك حظر عليهن النظر إلى الرجال، فبين علة الحجاب: أنه إنما أريد بذلك طهارة قلوب الصنفين(1/336)
جميعاً؛ قلوب الرجال منهن، وقلوبهن من الرجال.
وروي في الخبر: أن الحسن والحسين كانا لا يريان أمهات المؤمنين، وإنما كان يدخل عليهن محارمهن من النسب والرضاع، ومماليكهن.(1/337)
الأصل الرابع والثلاثون
211 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما من مسلمٍ ينظر إلى محاسن امرأةٍ أول مرةٍ، ثم يغض بصره، إلا أحدث الله له عبادةً يجد حلاوتها)).
قال أبو عبد الله:
فالنظرة الأولى: نظرة الروح.(1/339)
والنظرة الثانية: نظرة النفس.
لأن الإنسان خلق مفتوح العين، عمولٌ ناظراه، لحاظٌ هكذا وهكذا، فهو مأذونٌ له في ذلك؛ لأن من شأن العين أن تطرف، وتفتح، فإذا وقع بصره على شيءٍ فليس عليه شيءٌ؛ لأن قلبه لم يعمل شيئاً، فإذا عمل بصره بعد ذلك، فإنما يعلمه، والابتداء من القلب، حتى تعمل العين، فذلك نظر تكلفٍ، فهو مسؤولٌ عنه، والأول مرفوعٌ عنه، فلذلك قال: ((ينظر إلى محاسن امرأةٍ أول مرةٍ، ثم يغض بصره))؛ لأنه لما وقع بصره على المحاسن، وجب عليه أن يغض.
فالغض: فعل العين، فعليه يثاب، والفتح، والنظر بعد ذلك: فعل العين، فعليه يعاقب، ويقال: إن بصر العين متصل ببصر الروح من داخلٍ، فلذلك قيل: الحياء في العينين؛ لأن الحياء من فعل الروح، ولذلك قيل: لا تطلبن إلى أعمى حاجة.
روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
212 - حدثنا به محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا المعلى بن أسدٍ، قال: حدثنا عمر بن مساورٍ العتكي،(1/340)
قال: حدثني أبو جمرة الضبعي، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: لا تطلبن إلى أعمى حاجةً، وإذا طلبت الحاجة، فاستقبل الرجل بوجهك، فإن الحياء في العينين، فلا تطلبها ليلاً، وباكر في حاجتك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)).
فلما غض بصره عما لا يحل، فإنما صان روحه أن تتدنس، وقمع نفسه عن أن تلذذ بشهوةٍ، فأعطي نوراً، ثواباً عاجلاً، فوجد حلاوة العبادة.
213 - حدثنا عمرو بن زيادٍ الحنظلي، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك في مجلس حماد بن زيدٍ سنة ثلاثٍ وسبعين ومئة، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله(1/341)
ابن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النظر إلى محاسن المرأة سهمٌ من سهام إبليس مسمومٌ، فمن صرف بصره عنها، أبدله الله عبادةً يجد حلاوتها)).(1/342)
الأصل الخامس والثلاثون
214 - حدثنا محمد بن زنبورٍ المكي، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفرٍ المدني، قال: حدثنا سعد بن سعيد ابن قيسٍ الأنصاري، عن عمر بن ثابت بن الحارث، عن أبي أيوب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوالٍ، فكأنما صام الدهر)).(1/343)
215 - حدثنا عباد بن بكر بن عباد بن كثيرٍ الثقفي، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، قال: حدثنا سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني أبو زرعة عمرو بن جابرٍ الحضرمي، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صام رمضان، وستًّا من شوالٍ، فكأنما صام السنة كلها)).
216 - حدثنا محمد بن عمرٍو السويقي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمدٍ، عن صفوان بن سليمٍ، عن عمر بن ثابتٍ، عن أبي أيوب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله.(1/344)
217 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا حسان بن أبي حسان البصري، عن همام بن يحيى، قال: حدثنا المثنى بن الصباح، عن رجلٍ من رهط أبي هريرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فهذا من أجل أن الله -تبارك اسمه- جعل الحسنة لهم بعشرة أمثالها، فصوم رمضان بثلاث مئة يوم، كل يوم بعشرة، وبقي من السنة ستون يوماً، فيعدل كل يوم بعشرة، فتحسب له على تضعيف(1/345)
الحسنات، كأنه صام الدهر كله، وكذلك الحديث الآخر الذي جاء على غير هذا السبيل هكذا تأويله.
218 - حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر الثوري، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، فقد صام الشهر كله)).
لأن كل يومٍ يحتسب له في التضعيف بعشرة أيام.(1/346)
الأصل السادس والثلاثون
219 - حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي، قال: حدثنا ابن أبي فديكٍ، عن يزيد بن عياضٍ، سمع معن ابن محمدٍ الغفاري يحدث عن حنظلة بن عليٍّ الأسلمي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)).
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالطعم: فعلٌ، والصوم، كفٌّ عن فعلٍ، فالطاعم بطعمه يأتي ربه بالشكر، والصائم بكفه عن الطعم يأتي ربه بالصبر.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الإيمان نصفان: نصفٌ للشكر،(1/347)
ونصفٌ للصبر)).
وقال في حديث آخر عن ابن مسعود: ((الصبر نصف الإيمان)).
فإنما قيل: (نصفٌ)؛ لأن نصفه للشكر، ثم قال: ((واليقين: الإيمان كله))، ثم تلا: {إن في ذلك لآياتٍ لكل صبارٍ شكورٍ}. ثم قال: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين}.
فجمع اليقين والصبر والشكر، وإنما هما صنفان: معطًى له، فعليه الشكر، وممنوعٌ منه، فعليه الصبر، فإذا شكر هذا، فقد أتى من حقيقة الإيمان بنصفه، وإذا صبر هذا، فقد أتى من حقيقة الإيمان بنصفه.
وإنما قيل إيماناً؛ لأن حقيقة الإيمان كان عندهم من الإيمان، ولنا مسألة في التفرقة بين درجة الشكر والصبر، وهو في كتاب ((النوادر من المسائل)).(1/348)
الأصل السابع والثلاثون
220 - حدثنا يزيد بن عمرو بن يزيد بن البراء بن عبد الله بن البراء الغنوي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الغساني، قال: حدثتني ساكنة بنت الجعد، عن سرى بنت نبهان الغنوية، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقتلوا الحيات كبيرها، وصغيرها، وأسودها، وأبيضها؛ فإن من قتلها، كانت له فداءً من النار، ومن قتلته، كان شهيداً)).
قال أبو عبد الله: فالحية عدوةٌ، وقد أظهرت العداوة، وقد كانت وكلت بخدمة آدم -صلوات الله عليه- في الجنة، فخانته، وأمكنت عدو الله(1/349)
من نفسها، حتى صيرته سبباً لدخول الجنة في إغوائه، فلما ألقاهم إلى الأرض، تأكدت العداوة من عدو الله، ومن الحية لآدم وولده.
221 - حدثنا سليمان بن العباس الهاشمي، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن عمر بن عبد الرحمن، قال: سمعت وهب بن منبهٍ يقول:
لما أسكن الله آدم الجنة وزوجته، كانت الشجرة غصونها متشعبة، بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة يخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته، فلما أراد إبليس أن يستزلهما، دخل في جوف الحية، وكانت الحية لها أربع قوائم، كأنها بختيةٌ من أحسن دابةٍ خلقها الله، فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، وأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجته عنها، فجاء بها إلى حوى، فقال لها: انظري إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها! فأخذتها حوى فأكلتها، ثم ذهبت بها إلى آدم، فقالت: انظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوءاتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه(1/350)
ربه: أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال: استحي منك يا رب، قال: اهبط إلى الأرض التي خلقتك منها، قال: ملعونةٌ الأرض التي منها خلقت، لعنةً تتحول ثمارها شوكاً، ولم يكن في الأرض ولا في الجنة شجرتان أفضل من الطلح والسدر.
ثم قال: يا حوى! غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملاً إلا حملتيه كرهاً، وإذا أردت أن تضعي ما في بطنك، أشرفت على الموت مراراً.
وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك، حتى غر عبدي، ملعونةٌ أنت لعنةً تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكون لك رزقٌ إلا التراب، أنت عدوة بني آدم، وهم أعداؤك، أينما لقيت أحداً منهم، أخذت بعقبه،(1/351)
وحيثما لقيك أحدٌ منهم، شدخ رأسك.
قال عمر بن عبد الرحمن: قيل لوهبٍ: وهل كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء.
وفي رواية أخرى: كانت الشجرة تحتك الملائكة بثمرها تخلدهم.
فعداوة الحية أصليةٌ متأكدة، لا تبقي في ضرر بني آدم غاية إلا من عصم الله، وإنما أعطيت السم في نابها؛ لتمتنع بها عن ولد آدم، ولتحذر، فتقتل، وقد شاركت إبليس في ضرر ولد آدم وعداوتهم، وتظاهرت معه، فلذلك من قتل حية، فكأنما قتل كافراً، {وكان الكافر على ربه ظهيراً}؛ أي: للشيطان، فكذلك الحية.
222 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثني عبد الرحيم بن زيدٍ العمي، عن أبيه، عن محمد بن كعبٍ(1/352)
القرظي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتلوا الحية والعقرب، وإن كنتم في الصلاة)).
223 - حدثنا عبد الوهاب بن فليحٍ المكي، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، قال: حدثنا هشامٌ أبو المقدام، عن محمد بن كعبٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(1/353)
224 - حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث بن سعدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((خمسٌ يقتلهن المحرم))، فذكر: ((الحية)) فيهن.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فليس لها حرمةٌ ولا ذمة، وقاتلها في أجر إذا احتسب بها، ومن قتل كافراً، كان فداءه من النار؛ لأنه عادى الله، ووالاه المؤمن، فإذا(1/354)
أذنب الولي، فاستوجب النار بذنوبه، فدي المؤمن بالكافر الذي عادى الله، وأغاثه الله بموالاته ربه، فكذلك المؤمن إذا قتل الحية، فكأنما قتل عدو الله؛ لأنه سالم عدو الله وعدو أبيه، فبقي ذلك الشر في ولده إلى يوم القيامة.
225 - حدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: حدثنا نعيم بن حمادٍ، قال: حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريجٍ، عن عمرو بن دينارٍ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنًى، فمرت حيةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتلوها))، فسبقتنا إلى جحرٍ فدخلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هاتوا بسعفةٍ ونارٍ، فأضرموها عليها ناراً)).(1/355)
قال نعيم: حدثت به ابن أبي شيبة، وابن إدريس حيٌّ، فجعل يتعجب، ولم يصبر أن قام حتى صار إليه وسمعه منه.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن المثلة، وعن أن يعذب بعذاب الله.
فلم يبق لهذا العدو حرمةٌ، حيث فاتته، حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر.
وروي عن إبراهيم النخعي: أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال: هو مثلة.
فيشبه أن يكون إبراهيم لم يبلغه هذا الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل على الأثر الذي جاء: ((أن لا تعذبوا بعذاب الله)).
فكان على هذا السبيل العمل عنده، ولكن لما أعجزتهم الحية فوتاً، أحب أن يقيم عداوته في الله، ويخفر ذمة إبليس.
فإنه روي في الخبر: أن عدو الله إبليس قال لها: أدخليني الجنة، وأنت في ذمتي.
فكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: اخفروا ذمة إبليس عدو الله.(1/356)
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غارٍ، فنزلت عليه: {والمرسلات عرفاً}، فأخذتها رطبةً من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت علينا حيةٌ من جحرٍ، فابتدرناها لنقتلها، فانسابت في جحرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وقيت شركم كما وقيتم شرها)).
قال: فسببه أن يكون هناك في الغار لم يجد ناراً، فتركها، أو لم يكن بالجحر هيئة ينتفع بالنار هناك، أو لم يمكن إضرامها بالنار.
فأما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل الجنان، فإن تلك في صورة الحيات، هن من الجن، وهن سكان البيوت، فإذا قتلتها، أضرت بك.
226 - حدثنا ابن أبي ميسرة، قال: حدثنا يعقوب ابن محمدٍ الزهري، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمعٍ، عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه، قال: حدثني زيد بن الخطاب: ((أن رسول الله نهى عن قتل ذوات البيوت -يعني: الحيات-)).(1/357)
227 - حدثنا محمد بن أيوب السمناني، قال: حدثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: حدثني معاوية بن صالحٍ، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفيرٍ، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجن على ثلاثة أصنافٍ: صنفٌ لهم أجنحةٌ يطيرون بها في الهواء، وصنفٌ حياتٌ وكلابٌ، وصنفٌ يرحلون ويظعنون)).
وزاد فيه غيره: عن أبي أسامة، عن أبي منيب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((خلق الله الجن ثلاثة أثلاثٍ: فثلثٌ كلابٌ وحياتٌ وخشاش الأرض، وثلثٌ ريحٌ هفافةٌ، وثلثٌ كبني آدم لهم الثواب، وعليهم العقاب.(1/358)
وخلق الله تعالى الإنس ثلاثة أثلاثٍ: فثلثٌ لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، وأعينٌ لا يبصرون بهان، وآذانٌ لا يسمعون بها {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً}. وثلثٌ أجسادهم أجساد بني آدم، وقلوبهم قلوب الشياطين، وثلثٌ في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله)).
228 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيدٍ، عن ابن عجلان، قال: حدثني صيفيٌّ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بالمدينة نفراً من الجن أسلموا، فمن رأى شيئاً من هذه العوامر، فليؤذنه ثلاثاً، فإن بدا له بعد ذلك، فليقتله؛ فإنه شيطانٌ)).(1/359)
229 - حدثنا الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، قال: حدثنا سعد بن سعيدٍ المقبري، عن أخيه، عن جده، عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحدٍ، فخرج معه فتىً منا من بني خدرة، وهو حديث عهدٍ بعرسٍ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلع على أهله، فأذن له، وخرج الفتى وفي يده الرمح، حتى دخل الدار، فوجد زوجته بباب حجرته جالسةً، فأفزعه ذلك، فقال: ما أخرجك من بيتك؟ قالت: حيةٌ منطويةٌ على فراشك، هي التي ذعرتني، فدخل الفتى، فوكزها برمحه، وخرج بها إلى صحن الدار تضطرب فيه وماتت، ومات الفتى من ساعته، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا تقتلوا(1/360)
شيئاً تجدوه في البيوت منهن، حتى تقدموا)).
230 - حدثنا عبد الله بن سعيدٍ الأشج، قال: حدثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة، قال: قتلت عائشة -رضي الله عنها- جاناً، فأتيت في المنام، فقيل لها: أما والله! لقد قتلتيه مسلماً، فقالت: لو كان مسلماً، ما دخل على أمهات المؤمنين، فقيل: ما دخل عليك إلا وأنت مستترةٌ، فتصدقت، وأعتقت رقاباً.(1/361)
231 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيمٍ، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ثابت بن قطبة الثقفي، قال: جاء رجلٌ إلى عبد الله، فقال: إنا كنا في سفرٍ، فمررنا بحية مقتولة مشعرة في دمها، فواريناها، فلما نزلوا: أتاهم نسوةٌ، أو أناسٌ، فقالوا: أيكم صاحب عمرٍو؟ قالوا: من عمرٌو؟ قالوا: الحية التي دفنتموها أمس، أما إنه من النفر الذين أسلموا، واستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: ما شأنه؟ قال: كان جانٌّ من الجن، مسلمون ومشركون بينهم قتالٌ، فقتل.(1/362)
232 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثني يحيى بن واضحٍ، قال: حدثني الربيع بن بدرٍ، قال: الجان من الحيات التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها، هي التي تمشي ولا تلتوي.
233 - حدثنا نصر بن فضالة، عن محمد بن سلامٍ البيكندي، عن ابن المبارك، بمثله.
234 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيمٍ، عن سفيان، عن أبي قيسٍ الأودي، عن علقمة، قال: اقتلوا الحيات كلها، إلا الجان الذي كأنه ميلٌ؛ فإنه جنها، ولا يضر أحدكم، كافراً قتل أو مسلماً هو.
والله أعلم.(1/364)
الأصل الثامن والثلاثون
235 - حدثنا محمد بن الحسن الليثي، قال: حدثنا إبراهيم بن سعدٍ الزهري، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفرٍ، قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب)).
قال أبو عبد الله رحمه الله: فهذا جمع بين لونين، فيجوز أن يكون اشتهاه، فقضى شهوته لله؛ لتسكين النفس؛ فإن النفس نازعته إلى ما فيه اللذة لها، ولها حقٌّ إذا استقامت لمولاها، فأدى حقها، وحمد الله وشكره عليها، فلا يكون على صاحبها وبالٌ في مثل هذا، وإنما الوبال على من قضى شهوته بنهمة، وهو غافل عن ربه، منهومٌ بلذته، لا يلتمس فيها حق النفس،(1/365)
ولا يبتغي بها وجه الله، فالحساب أمامه، وهو مسؤولٌ عن شكرها.
ويجوز أن يكون على غير هذا السبيل الذي ذكرناه، ويحتمل أن يكون لمكان عياله أو ضيفه فعلى ذلك، فتوسع في ذلك من أجلهم، ولم يحمل قوته على ضعفهم، فربما ينغص على الضيف أو العيال إمساكك عنه، واستوحشوا من فعلك، وتكدرت تلك النعمة عليهم، ففيه تضييع حق الضيف، وحق العيال، فيخالطهم في ذلك، ويشركهم فيه.
ووجهٌ آخر محتملٌ لذلك أيضاً، وذلك أن القثاء باردٌ، والرطب حار، فأحب أن يصيره مزاجاً، فيجمع بين الحار والبارد؛ كيلا يضر به واحد منهما على الانفراد، فكل هذه الوجوه محتملة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
236 - حدثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي، قال: حدثنا معاوية بن هشامٍ، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين البطيخ والرطب)).(1/366)
237 - حدثنا عبدة، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا جرير بن حازمٍ، عن حميدٍ الطويل، عن أنسٍ رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب)).(1/367)
الأصل التاسع والثلاثون
238 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا علي بن عبد الحميد المعني، قال: حدثنا أبو النضر جرير بن حازمٍ الأزدي، عن أبي رجاءٍ العطاردي، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ألا أعلمك خصلاتٍ ينفعك الله بهن؟))، قلت: بلى يا نبي الله، قال: ((عليك بالعلم؛ فإن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والعمل قيمه، والرفق أبوه، واللين أخوه، والصبر أمير جنوده)).(1/369)
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالعلم ما يتصور في الصدر، وذلك أن الإيمان مستقره في القلب، فإذا أشرق نوره في الصدر، ثم اعترضت فكر في الأمور من الخير والشر، صار لكل فكرة ظل في الصدر على هيئة، فالخير يتصور في بهائه وحسنه وزينته، والشر في قبحه وشينه وظلمته، فإنما قيل: علمٌ؛ لأنه علائم الإيمان، قد أظهر في الصدر باطن ما في القلب، فهو خليله؛ لأنه قد خله إلى الإيمان؛ أي: ضمه، لما ظهر العلم اهتدى، فمال إلى من آمن به؛ ليأتمر بأمره، وينتهي عن نهيه.
والخلة: الضمة في اللغة، يقال: هذا ثوبٌ خليلٌ، وهو الذي شكه بالخلال، فضمه إلى نفسه، فكذلك العلم، لما ظهر في صدر المؤمن، شكه وجمعه، حتى لا تنتشر جوارحه في شهواته وهواه.
((والحلم وزيره)):
فالحلم: هو سعة الصدر، وطيب النفس، فإذا وسع الصدر، وانشرح بالنور، أبصرت النفس رشدها من غيها، وعواقب الخير والشر، فطابت، وإنما تطيب النفس بسعة الصدر، وإنما يتسع الصدر بولوج النور الوارد من عند الله، وهو قوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام(1/370)
فهو على نورٍ من ربه}.
فإنما دخل النور، واتسع الصدر؛ لما أبصر العناية، ويسر عليه تسليم النفس لله عبودةً في أمره ونهيه، وانقادت له، وذهبت عسرته وكزازته، والملح يطيب الطعام، والحلم يطيب النفس.
فإنما طابت النفس لما عاينت بنور اليقين من حسن العواقب طأطأ بنور اليقين، وتلك بصيرة اليقين.
239 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد ابن مخلدٍ التيسي الرعيني أبو أسلم، قال: حدثنا يعلى ابن الأشدق العقيلي، قال: حدثني عمي عبد الله بن جرادٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الأعمى من يعمى بصره،(1/371)
وإنما الأعمى من تعمى بصيرته)).
وهو قوله تعالى في تنزيله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}. فطيب النفس من روح اليقين، وهو من أعظم النعم.
240 - حدثنا رزق الله بن موسى الناجي، قال: حدثنا معنٌ القزاز، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان بن أبي سلمة مولى الأسلميين، عن معاذ بن عبد الله بن خبيبٍ، عن(1/372)
أبيه، عن عمه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس بالغنى لمن اتقى الله، والصحة لمن اتقى خيرٌ من الغنى، وطيب النفس من النعم)).
قال رزق الله: قال معن: يعني: غنى المال، والغنى بغير تقوى هلكة، يجمعه من غير حق، ويضعه في غير حقه، فإذا كان هناك مع صاحبه تقوى، فقد ذهب البأس، وجاء بالخير.
241 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا أبو(1/373)
الخير المدني عبد المنعم بن بشيرٍ، قال: حدثنا أبو مودودٍ، عن محمد بن كعبٍ، قال: إن الغني إذا كان تقياً بالله، آتاه أجره مرتين، ثم تلا: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}.
(وهذا عبدٌ قد امتحنه الله، فوجده صادقاً، وليس من امتحن كمن لم يمتحن، ألا ترى أن مؤمني أهل الكتاب امتحنوا بالفترة، لما بعث) رسول الله صلى الله عليه وسلم، آمنوا به، وكانوا على دين، فقال الله في تنزيله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}.
فصبر الغني أشد من صبر الفقير، كما أن محاربتك أسداً قد خلي عنه، أشد من محاربتك أسداً قد ربط بالوثاق، فقهره هين الشأن من المخلى عنه.
وما القول إلا ما قال مالك بن دينار -رحمة الله عليه-، قال: يقول الناس: مالكٌ زاهدٌ، وكيف لا يزهد وهو فقير مقترٌ عليه، أو كما قال، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، نال الخلافة، فلبس المسوح.(1/374)
وأما قوله: ((الصحة لمن اتقى خيرٌ من الغنى))؛ فإن صحة الجسد عوناً على العبادة، فالصحة مالٌ ممدود، والسقيم عاجز، والعمر الذي أعطي به تقوم العبادة، والصحة مع العمر خيرٌ من الغنى مع العجز، والعاجز كالميت.
وأما قوله: ((وطيب النفس من النعم)). فقد ذكرنا بدءاً: أنه من روح اليقين على القلب، وهو النور الوارد الذي قد أشرق في الصدر، فأراح القلب والنفس من الظلمة والضيق والضنك؛ لأن النفس بشهواتها في ظلمةٍ، والقلب في تلك الظلمات قد أحاطت به، فالسائر إلى مرعاه في ظلمةٍ، يشتد عليه السير، ويضيق صدره لما يتخوف في الطريق من المهاوي والمخاوف، ومن الآبار، ووعورة الطريق، وغير ذلك من الهوام والسباع واللصوص، فهو يسير في ثقل وصعوبة، فيحل به من عسرته النكد والتعب والنصب.
وإذا أضاء له الصبح، انفقأت الظلمة، ووضح الطريق، وزالت المخاوف، وذهبت العسرة، واستراح القلب، واطمأنت النفس.
فكذلك السائر بقلبه بشريعة الإسلام إلى الله، إذا كان قلبه في ظلمة شهواته وهواه، هو بهذه الصفة.(1/375)
فإذا أشرق نور اليقين في صدره، أبصر، فذهبت الحيرة، وزالت المخاوف، ونفي الجبن والشك، واستراح القلب، فهذه صفة الحلم، فهو وزير المؤمن، يؤازره على أمر الله، وعلى ما يقتضيه العلم، فإذا لم يكن حلم، ضاقت النفس، وانفرد القلب بلا وزيرٍ.
والعقل دليله: يدله على مراشد الأمور، فيبصره عيبها، ويهديه لمحاسنها، ويزجره عن مساوئها، وخلق الله العقل، فقال:
((وعزتي! ما خلقت خلقاً أحب إلي منك، فلا أكمنتك فيمن أحب، فبك آخذ، وبك أعطي، وإياك أعاتب، ولك الثواب، وعليك العقاب)).(1/376)
وروي في الخبر: أن الله -تبارك اسمه- قال: ((يا موسى! إنما أجزي الناس على قدر عقولهم)).
فقسم العقل بين خلقه على ما شاء من المقادير، فتفاوتت المقادير في التفضيل، فأوفرهم حظاً من العقل أبصرهم بالأمور، وهو نورٌ مسكنه في الدماغ، وتدبيره على القلب، كما أن الروح مسكنه في جوف القلب معلق بالوتين، ثم هو متفرق في جميع الجسد قد اشتمل عليه.
والعمل قيمه، يكسب له المساكن والقصور والخدم في جنان الله، ويهيئ له في معاشه طيب الحياة؛ فإن الله -تبارك وتعالى اسمه- قال: {من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم(1/377)
أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
فالحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء في الآخرة، فالقيم من شأنه أن يتوكل لك حتى يكفيك مهماتك.
والرفق أبوه: فالأب له تربية، ومع التربية عطف ومرحمة وشفقة، وتلطف له في أموره للولد، فكذلك الرفق له عمل الأبوة، يحوطه، ويتلطف له في أموره، ويشفق على أحواله، ويعطف عليه بالرأفة، ويغذوه، والرفق كعشير، به تتأتى الأمور، وبه يتصل بعضها ببعض، وبه يجتمع ما تشتت منه، فيأتلف ما تنافر وتبدد، ويرجع إلى المأوى ما شذ، فكما كان الأب حاملاً لأحوال ولده، جامعاً له من وجوه المكاسب، كذلك الرفق حاملاً لأحوال المؤمن، جامعاً له الخيرات والطاعات من وجوه البر.
واللين أخوه: فأخو المرء معتمده من المخلوقين، فهو مستراحه، إذا أعيا أو نصب، استند إليه، فاستراح، فكذلك اللين، هو مستراح(1/378)
المؤمن، يهدئ نفسه، ويطمئن قلبه، وتجد أركانه راحة ذلك، وحدته، وشدته، وغضبه تعب بدنه، وعذاب نفسه، ونصب قلبه، وإنما يلين قلبه بهدوء نفسه، وإنما تهدأ نفسه بموت شهواتها، وإنما تموت شهواتها بما أبصر قلبه بنور اليقين من جلال الله، وعظمته، فصار كالدهن باللين، ومن غلظ قلبه، وفظ، واشتد، فمن القسوة، وإنما يقسو قلبه من الغفلة عن الله، فإنما يلين القلب لما ترطب بذكر الله، وقد قال جل جلاله: {فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله}.
وفي اللغة السائرة: قسا وعتا وعسا، يقسو ويعسو ويعتو، كلها قريبة المعنى، يرجع المعنى إلى أنه يبس وكز، وضد ذلك: رطب فلانٌ.
قال الله تعالى: {فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
فالفظاظة وغلظ القلب يفرق المجموع، ويبدد المؤتلف، واللطافة ورقة القلب تجمع المتفرق، وتؤلف المتبدد، وإن القلب يلطف ويرق من النور وسببه: الرحمة، ويفظ ويغلظ من حرارة الشهوات، وقوة الغذاء، والدم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنه المداومة على الحجامة إلى أن قبض -عليه الصلاة والسلام-.
وقال: ((ما مررت بملأٍ من الملائكة إلا أمروني بالحجامة، وقالوا(1/379)
لي: مر أمتك بالحجامة)).
معناه عندنا: لأنهم من بين الأمم أهل يقين، وإذا اشتعل نور اليقين في القلب، ومعه حرارة الدم، أضر بالقلب، وبالطبع أيضاً.
وكان مما يستعمل الحناء في رأسه، حتى روي في الأخبار عمن رآه من الوفود والأعراب، ففشا عنهم في الأخبار أنه لا يخضب، فدفع ذلك أنس رحمه الله، وقال: لم يشنه الشيب، وما خضب، وإنما كان سبب الحناء: أنه كان يأتيه الوحي، فيصدع، فمن أجل الصداع، كان يعالج بالحناء في رأسه، كي تخف حرارة رأسه، فإن ذلك النور إذا هاج بورود الوحي، قوي.
وجدنا عن أنس -فيما قلنا- هذا الحرف الواحد: أنه كان يأتيه الوحي، فيصدع، فيستعمل الحناء للصداع.
والصبر أمير جنوده: فالصبر هو ثبات القلب على عزمه، فإذا ثبت الأمير، ثبت الجند لمحاربة العدو، وإذا جاءت النفس بشهواتها، فغلبت القلب حتى استعملت الجوارح بما نهي عنه، فقد ذهب الصبر، وهو ذهاب العزم، فبقي القلب أسيراً للنفس، واستولت عليه، فانهزم العقل، والحلم، والعلم، والرفق، واللين، وجميع جنوده التي أعطي.(1/380)
الأصل الأربعون
242 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا علي ابن عبد الحميد المعني من ولد معن بن زائدة، عن نوح بن ذكوان الغنوي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن جبيب بن الحارث، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني رجلٌ مقرافٌ للذنوب، قال: ((يا جبيب بن الحارث! فكلما أذنبت، فتب إلى الله)). قلت: ثم أعود يا رسول الله. قال: ((ثم تب إلى الله)). قلت: ثم أعود يا رسول الله. قال: ((ثم تب إلى الله)). قلت: إذاً يكثر يا رسول الله؟! قال: ((عفو الله أكثر من ذنوبك يا جبيب)).(1/381)
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالتوبة للعبد مبسوطة حتى يعاين قابض الأرواح، وهو عند غرغرته بالروح، وإنما يغرغر به، إذا قطع الوتين، فشخص من الصدر إلى الحلق، فعندها المعاينة، وعندها حضور الموت؛ لأن الموت إنما يجيء به ملك الموت الذي وكل به، فهو الذي يذيقه، ومن قبل ذلك، كان أعوانه يسوقون الروح، وينزعونه من الجوارح والعروق.
قال الله -تبارك اسمه-: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}.
فحضور الموت إذا حضر ملك الموت، وإنما يحضر عند قطع الوتين، وغرغرة الصدر والحلق بخروج الروح، فهناك يذيقه الموت حتى تطير الروح(1/382)
من رائحته، وتذهب معه الحياة، فليس ذلك وقت توبة، فأما قبل حضور ملك الموت، فالتوبة مبسوطة، وإن كان في السوق.
وباب التوبة مفتوحٌ إلى طلوع الشمس من مغربها، فكلما أذنب العبد، ثم تاب، فقد رجع إلى الله، ودواء الذنب: التوبة، وشفاء العبد منه إذا ماتت شهوة ذلك الذنب منه.
فقوله: إذاً يكثر يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عفو الله أكثر من ذنوبك))؛ أي: فضل الله على العبد أكثر من نقصان العبد، فإنه كلما أذنب، أبق من ربه، فكلما أبق، ازداد عيباً، وكلما ازداد عيباً، ازداد نقصاً في القدر والجاه، قال: ففضل الله على العبد أكثر من نقصانه؛ لأنه يتفضل من كرمه ومجده، (فالعبد ينقص من لؤمه وفقره، فكلما ظهر نقص، تفضل عليه بسترٍ يستره حتى لا يبدو نقصه وعيبه، فإن كثرت ذنوبه، فستره أكثر من ذنوب العبد، وإن كثر نقصه وعيبه، ففضله أكثر، وفضله على عبيده من جماله، والعبد مع نقصه وعيبه يرجع إلى ربه، فربه بفضله وكرمه وجماله أولى بالرجوع على عبده بأمله)).
ورجوع العبد إلى ربه من فضله، فكم من مذنبٍ قد منعه من فضله، وحل به سخطه، وحرم التوفيق والتوبة!(1/383)
الأصل الحادي والأربعون
243 - حدثنا محمد بن الوزير الواسطي، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن الأعمش، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخوارج كلاب أهل النار)).
قال: الخوارج: قوم ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فهم الأخسرون أعمالاً، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا، فلا يقيم [الله] لهم يوم القيامة وزناً، وذلك أنهم قد اجتهدوا، ودأبوا ونصبوا(1/385)
في العبادة، وفي قلوبهم زيغٌ، فمرقوا من الدين بما أغواهم شيطانهم.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصفهم، فقال: ((يقرؤون القرآن، ويقيمونه إقامة القدح، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)).
ما زال بهم التعمق والتنطع حتى أكفروا الموحدين بذنب واحدٍ، حتى صاروا بذلك إلى الأنبياء؛ للزيغ الذي في قلوبهم، دخلوا فيما لم يأذن الله به، فقاسوا الدين برأيهم، وتأولوا التنزيل على غير وجهه، وفحصوا عن متشابه القرآن، ولجوا فيه؛ ليعلموا ما ستر الله علمه عن العباد، وهم الذين وصفهم الله في تنزيله فقال: {فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربنا}.
ثم ذكر فزع الراسخين إلى ربهم عندما رأوا خذلان الزائغين، فقالوا: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب}.
ولدن: كلمة عند العرب معناها: عند، وأن الرحمة التي خلقها مئة رحمة، فقسم واحدةً منها بين عباده، وادخر عنده تسعاً وتسعين، ورحمته أوسع وأفضل من هذه المئة التي خلقها، فسأله الراسخون في العلم رحمةً من لدنه؛ أي: من عنده تكون تلك الرحمة عصمةً لهم من الزيغ الذي حل(1/386)
بالآخرين، فتهوكوا بعدما كانوا أبصروا، وخذلوا بعد ما كانوا أبدوا، حتى صاروا كلاب النار.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فهم كما وصفهم الله يتبعون ما تشابه (من القرآن، يبتغون بها الفتنة)، حملوا الخاص على العام، والعام على الخاص، وتمسكوا بآخر الآية، ولهوا عن أولها.
حتى قال قائلهم يوماً لجابر بن عبد الله: أنت الذي تقول: يخرج الله من النار قوماً بعدما أدخلهم فيها؟ قال: نعم. سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأين قول الله تعالى: {وما هم بخارجين منها ولهم عذابٌ مقيمٌ}.
فقال جابر: انظر لمن هذا في مبتدأ الآية: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذابٌ أليمٌ. يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذابٌ مقيمٌ}.
فالمؤمن يستر، والمؤمن يرحم، ويعطف، والمؤمن يحوط ويستغفر، ويتوقى أن يلوم، ويعير، ويرجو له من الله المغفرة والرحمة، ويرجيه ويؤمله، وهذا المفتون: يهتك، ويعير، ويؤنب، ويؤيس، ويقنط، ويكفر، فهذه أخلاق الكلاب، وبفعلهم وبقولهم كلبوا على عباد الله، ونظروا إليهم بعين البغضة والملامة، فلما دخلوا النار، صاروا في هيئة أعمالهم كلاباً، كما كانوا على الموحدين في الدنيا كلاباً.(1/387)
244 - حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا مطرٌ أبو عبد الرحمن، قال: سمعت أبا العالية يقول: ما أدري أي النعمتين أفضل: أن هداني للإسلام، أو لم يجعلني حروريًّا.
245 - وعن صالح بن عبد الله، قال: حدثنا يوسف ابن عطية، عن أبي غالبٍ، قال: كنت بدمشق، فجيء برؤوس خوارج من العراق، فنصبت على درج المسجد، فبينما أنا قائمٌ، إذا بشيخ على حمارٍ قصيرٍ، ينظر إليهم ويبكي، ويقول: كلاب النار، كلاب النار، كلاب النار، فسألت عنه، فقالوا: هذا أبو أمامة الباهلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدنوت منه، فقلت: يا أبا أمامة! أراك تبكي وتقول: كلاب النار؟! قال: رحمةً لهم؛ لأنهم قد صلوا، وصاموا، وحجوا، واعتمروا، ثم صاروا كلاب النار. قلت: هذا شيء تقوله،(1/388)
أم سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرةً أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً حتى بلغ عشر مراتٍ، ما قلته. ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه سيكون من أمتي قومٌ يقرؤون القرآن، لا تجاوز قراءتهم تراقيهم، يعبدون الله عبادةً، يحتقرون عبادة الناس في عبادتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يعود فيه حتى يعود أعلاه فوقه، هم شر الخلق والخليقة، ثم شر قتلى تحت أديم السماء، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه)).
246 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حشرج بن نباتة، قال: حدثني سعيد بن جهمان، قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى، فسلمت عليه، قال: ما فعل والدك؟ قلت: قتلته الأزارقة، قال: لعن الله الأزارقة -ثلاثاً-، حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم كلاب أهل النار، قلت: الأزارقة(1/389)
وحدهم، أم الخوارج كلهم؟ قال: بل الخوارج كلهم، قلت: فإن السلطان يظلم ويفعل بهم ويفعل، قال: فتناول يدي، فغمزها غمزاً شديداً، وقال: ويحك يا بن جهمان! عليك بالسواد الأعظم؛ فإن كان السلطان يسمع منك، فأته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك، وإلا فدعه، فلست بأعلم منه.
قال: والأزارقة: صنف من الخوارج، كان رئيسهم نافع بن الأزرق، وكان من شأنه: أن يخاصم بتأويل القرآن في زمن ابن عباس رضي الله عنهما، فنسب تبعه إليه، فقيل: الأزارقة.
وفي زمن علي رضي الله عنه، رئيسهم: ابن الكواء.
وفي زمن التابعين: نجدة الحروري، وهو من بقية أهل حروراء، الذين خرجوا على علي رضي الله عنه.
وحروراء: قرية من قرى السواد.
247 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: أخبرنا جعفر(1/390)
ابن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباحٍ الأنصاري، عن كعبٍ، قال: للشهيد نوران، ولمن قتله الخوارج عشرة أنوار، ولجهنم سبعة أبواب، بابٌ منها للحرورية، ولقد خرجوا على داود عليه السلام في زمانه.
فيقال: فإنما خرجوا على داود لما رأوا من وهن الأمر، وضعفه، واشتغاله بما ابتلي به، فخدعوا ابنه، وملكوه على أنفسهم، وخرجوا عليه.
248 - حدثنا ابن أبي زائدة الهمداني، قال: حدثنا عثمان بن عمر البصري، قال: حدثنا مالك بن مغولٍ، عن جنيدٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لجهنم سبعة أبوابٍ: بابٌ منها لمن سل سيفه على أمتي))، أو قال: ((أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم)).(1/391)
249 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثني يحيى ابن واضحٍ، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن هود بن عطاءٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ يعجبنا تعبده واجتهاده، فذكرناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، فلم يعرفه، ووصفناه بصفته، فلم يعرفه، فبينا نحن نذكره، إذ طلع الرجل، فقلنا: هو هذا يا رسول الله! قال: ((إنكم لتخبروني عن رجلٍ على وجهه لسفعةٌ من الشيطان)). قال: فأقبل حتى وقف على المجلس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنشدك الله، هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في المجلس أحدٌ أفضل مني، أو خيرٌ مني؟)). قال: اللهم نعم، ثم دخل يصلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يقتل الرجل؟)). قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فدخل، فوجده يصلي، فقال: سبحان الله! أقتل رجلاً(1/392)
يصلي، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب عنق المصلين! فخرج. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مه؟))، قال: وجدته -بأبي أنت وأمي يا رسول الله- يصلي، وقد نهيتنا عن ضرب المصلي. قال: ((من يقتل الرجل؟)). قال عمر: أنا، فوجده ساجداً. قال: أأقتل رجلاً واضعاً وجهه لله، وقد رجع أبو بكر، وهو أفضل مني؟! فخرج إليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مه؟))، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، صلى الله عليك وسلم، وجدته ساجداً، فكرهت أن أقتله واضعاً وجهه لله. قال: ((من يقتل الرجل؟)). قال عليٌّ: أنا، قال: ((أنت إن أدركته، قتلته)). فوجده عليٌّ قد خرج، فجاءه فقال: وجدته -بأبي أنت وأمي- قد خرج، قال: ((لو قتلته، ما اختلف من(1/393)
أمتي رجلان، كان أولهم وآخرهم واحداً)).
قال موسى: وأخبرني محمدٌ القرظي: أنه هو الذي قتله عليٌّ رضي الله عنه بعد يوم النهر: حرقوص ذو الثدية.
250 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا يحيى بن واضحٍ، عن موسى بن عبيدة، عن عمران بن أبي أنسٍ، عن أبي سلمة، قال: وقف رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم تبراً، فقال: يا محمد! اعدل، فرفع بصره إليه، فقال: ((ويلك! إذا لم أعدل فمن يعدل؟! يوشك مثل هذا يظهرون،(1/394)
يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، فإذا ظهروا، فاضربوا أعناقهم)).
251 - حدثنا علقمة بن عمر [و] التميمي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياشٍ، عن عاصمٍ، عن زرٍّ، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجيء أقوامٌ في آخر الزمان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، فمن لقيهم، فليقتلهم؛ فإن فيه أجراً لمن قتلهم.(1/395)
قال: فالظاهر من قولهم وفعلهم يسبي النفوس؛ نفوس الجهال والحمقى، والباطن ظلماتٌ بعضها فوق بعض؛ زيغٌ وكفرٌ، وزندقةٌ، وتشبيهٌ من كل لون، قد لون الشيطان في قلوبهم، فجعل أعمالهم يوم القيامة هباء منثوراً.(1/396)
الأصل الثاني والأربعون
252 - حدثنا عمرو بن عبد الله بن حنشٍ الأودي، قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن طلحة بن يحيى، عن عيسى بن طلحة، عن معاوية بن أبي سفيان، قال: قال رسول الله: ((المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)).
قال أبو عبد الله: المؤذنون هم دعاة إلى أمر الله، فزيدوا على الناس(2/5)
مرتبةً بطول أعناقهم؛ ليشرفوا على الناس بأعناقهم، وهذا الطول عندنا في شخصهم وخيالهم، فأما نفس الخلقة بحيث خلقها الله من جنس خلق أهل الجنة، وإنما يراد من هذا الإشراف إشرافهم على الناس.
وإنما ذكر العنق للمقدار؛ لأن هناك طبقةً أعلى منهم، فزيدوا في القامة كلها، لا في العنق فقط، فذكر المؤذنين بمقدار على حسب مرتبتهم، فقيل: العنق، ولم يقل: أطول الناس قامةً، وهذا في الخيال والشخص.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصف في هذه الحياة الدنيا بصفة تدل على صحة ما قلنا، وأنه كان إذا مشى، فربما اكتنفه رجلان طويلان، فيمشي هو بينهما، فيطولهما، فإذا مشى وحده نسب إلى الربعة.
وروي عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بقصيرٍ، ولا طويلٍ، فإذا جاء مع الناس، غمرهم.
253 - (قال: حدثنا بذلك يحيى بن سليمان بن أبي(2/6)
فضالة الخزاعي المدني، قال: حدثنا) حزام بن هشامٍ الخزاعي، عن أبيه، عن جده، عن أم معبدٍ في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان أنظر الثلاثة منظراً.
قال: كأن معناها فيما وصفت: أنه إذا كان بين اثنين، فهو أنظرهم، وهو الثالث، فهذا حال الرسول في الدنيا في الخيال والشخص على أعين الناظرين (خيالهم وشخصهم أطول الناس، فقدر لهم من البدن مقداراً، فقيل: أعناقهم، وهم الدعاة إلى أمر الله؛ لأنهم يدعون إلى الصلاة، وإن كانوا يسمون: دعاة إلى الله في بعض الأحوال، فالدعاة إلى الله لهم مرتبة أعلى) من هذا، فهذا وجه.
ووجه آخر: أنهم أطول الناس أعناقاً بمد أعينهم إلى عظيم ما يأملون من الثواب، فإنهم كانوا يدعون إلى أمر الله في كل يوم وليلة خمس مرات، ومد(2/7)
العين إلى الشيء تأميلاً يشرف بالعنق، فهذا للدعاة إلى أمر الله، فكيف الدعاة إلى الله؟ فهم أطول الناس قامة، فالأنبياء والأولياء هم الدعاة إلى الله.
ألا ترى إلى ما ذكرنا من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقامته في الدنيا، وما كان يرى الناظرون إليه من طوله، وهو من الرجال ربعة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الدعاة إلى الله عز وجل، فكانت هذه صفته في شأن القامة، فإذا كان يوم القيامة، ووصلت الأنبياء والأولياء إلى كرامة الله، كانت قامتهم على حسب درجاتهم في الموقف إذا أتوها حتى يصدروا عن الموقف إلى الجنة، فيعطون قامة أهل الجنة.
ومما يحقق ما قلنا في طول القامة للأولياء بعد الأنبياء على درجاتهم:
254 - ما حدثنا به صالح بن عبد الله، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي البختري، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحشر أنا وأبو بكرٍ وعمر هكذا، ونحن مشرفون على الناس))، وأرانا أبو بكر السبابة والوسطى والبنصر.(2/8)
فإشراف أبي بكر وعمر على الناس لطول قامتهم، فكانوا رؤوس الدعاة إلى الله عز وجل، أحدهما صديق، والآخر فاروق، أفلا ترى أنه جعل في هذا الحديث لإشرافهم على الناس درجات، فقال: ((أحشر أنا وأبو بكرٍ وعمر هكذا))، فأشار بالسبابة والوسطى والبنصر.
فكانت سبابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطول من الوسطى، والوسطى أطول من البنصر، وليس كما يعرف من القامة أن سبابتهم أقصر من الوسطى، فإنما أشار بأصابعه الثلاث، وذكر إشرافهم على الناس كافة يدل على قامته كسبابته من وسطاه، ثم يدل على قامة أبي بكر كوسطاه على بنصره، ثم يدل على قامة عمر كبنصره من وسطاه ومن سبابته، ثم الخلق من بعده في شأن القامة كالخنصر في قصره من الأصابع، وسكت عن ذكرهم.
فأما شأن سبابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطوله على الأصابع،
255 - فحدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن خالدٍ الرقي، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا عبد الله بن مقسمٍ الطائفي، قال: حدثتني عمتي سارة بنت مقسم: أنها سمعت ميمونة بنت كردم تقول: خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته،(2/9)
ودنا إليه أبي فسأله، ولقد رأيتني أتعجب من طول إصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه، قالت: فحدثني أبي أنه قال: ذكرت ذلك لعبد الله بن الحسن، فقال: نعم، كذلك كانت أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله: هو يزيد بن مقسم، وعمته سارة بنت مقسم، فنسب إلى جده.
256 - قال: كذلك أخبرنا به أبي، عن الحسن الحلواني، عن يزيد بن هارون، عن عبد الله بن يزيد بن مقسمٍ، عن عمته، عن ميمونة.(2/10)
ومما يحقق ما قلنا:
ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، تطؤهم الناس تحت أقدامهم)).
قال: فالمتكبرون الذين تكبروا على الله، فلم يوحدوه، وقال في تنزيله: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون}، فقامتهم قامة الذر يوم القيامة، فكل من كان أشد تكبراً، كان أقصر قامةً، وعلى هذا السبيل، وكل من كان أشد تواضعاً لله، فهو أشرف قامةً على الخلق.(2/11)
الأصل الثالث والأربعون
257 - حدثنا عمرو بن عبد الله بن حنشٍ الأودي، قال: حدثنا إسماعيل بن محمدٍ الطلحي، عن داود بن عطاءٍ المدني، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي بن كعبٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول من يصافحه الحق: عمر، وأول من يسلم عليه، وأول من يأخذ بيده، فيدخله الجنة)).(2/13)
قال أبو عبد الله: فالرحمة والحق لهما شأنٌ في الموقف يومئذ، الحق يقتضي الخلق عبودته، والرحمة تشتمل على من وفى بالعبودة له، فتصير وقايته من جميع هول ذلك اليوم ووباله، فمن طالبه الحق بالعبودة، ولم تدركه الرحمة، فقد هلك، (ومن طالبه الحق بالعبودة، فوجده قد وفى، نجا بلا حساب ولا عذاب، وهو المسلم)، ومن طالبه الحق بالعبودة، فوجده لم يف بشيء منها، فقد هلك، وهو الكافر، ومن طالبه الحق بالعبودة، فوجده وفى ببعضها، وضيع بعضها، ثم تاب، أنقذته الرحمة بالتوبة، ومن وجده لم يتب، فهو موقوف على هول عظيم، وعذاب شديد إلى حلول الرحمة به، فتأخذه من الحق بعد أن ينتقم الحق منه ملياً، وهو الظالم.
فكان من شأن عمر رضي الله عنه القيام بالحق، فكان الغالب على قلبه عظمة الله وجلاله، وهيبته، فكان الحق معتمله حتى يقوم بأمر الله، ويحاسب(2/14)
نفسه وسائر الخلق على الذرة والخردلة في السر والعلانية، وهو الوفاء بما قلد الله الخلق من رعاية هذا الدين الذي ارتضاه لهم، وهو الإسلام، فكأنه خلق عزاً للإسلام.
وبذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب، أو بعمرو بن هشامٍ)).
258 - حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد ابن عمران الطلحي المدني، قال: حدثني أبي عبيد الله بن إسحاق، قال: سمع أبي من عبد الله بن محمد بن عمران ابن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله، قال: حدثني أبي محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، وأبي جهل بن هشامٍ، فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، وهم تسعة وثلاثون رجلاً، فأسلم عمر يوم(2/15)
الخميس، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت تكبيرةً سمعت بأعلى مكة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مختفياً في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فأظهر الإسلام، وطاف بالبيت، وعمر متقلدٌ السيف حتى صلى الظهر معلناً.
قال أبو عبد الله: فهذا بدو أمره صلى الله عليه وسلم، وكان كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: ((كان أحوذياً نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها)).
ومما يحقق ما قلنا من شأنه:
259 - ما حدثنا به حسين بن حسنٍ المروزي بمكة، قال: حدثنا إبراهيم بن رستم، عن يعقوب القمي، عن جعفر ابن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن جبريل جاء إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد! أقرئ(2/16)
عمر السلام، وأخبره: أن غضبه عزٌّ، ورضاه عدلٌ)).
260 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا يوسف بن واقدٍ الرازي، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمر! إن غضبك عزٌّ، ورضاك حكمٌ)).(2/17)
قال أبو عبد الله: فاللفظان يرجعان إلى معنى واحد، وذلك أن كل من كان سلطان قلبه الحق، فغضبه للحق عزٌّ للدين، ورضاه عدلٌ؛ لأن الحق هو عدل الله، فرضاه بالحق عدلٌ منه على أهل ملته.
وقوله: ((رضاه حكمٌ)): إذا رضي عمر، فكأن الحق قد رضي؛ فإن الخصومة والطلب يوم القيامة للحق، فمن أخذه، فأخذه حكم، ليس لأحد من الملائكة، ولا للرسل معارضةٌ، فمن كان الحق مستولياً على قلبه، فهو على هذه الصفة إذا غضب، غضب للحق، وإذا رضي، رضي من أجل الحق، فلذلك [كان] غضبه للحق عزاً، ورضاه حكماً وعدلاً؛ لأن الغالب على قلب عمر رضي الله عنه الحق، ونوره، وسلطانه.
ومما يحقق ذلك من شأنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أرحم أمتي بأمتي: أبو بكرٍ، وأقواهم في دين الله: عمر)).(2/18)
فإنما القوة من أجل أن على القلب سلطانه.
فكان أبو بكر من شأنه القيام براعية تدبير الله، ومراقبة صنعه في الأمور والأشياء، حتى يدور مع الله في تدبيره، وكان مستعملاً بالتدبير، وعمر مستعملاً بالحق، فمن شأن أبي بكر العطف، والرحمة، والرأفة، واللين. ومن شأن عمر الشدة، والقوة، والصلابة، والصرامة.
فلذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه: أبا بكر بإبراهيم من الرسل، وبميكائيل من الملائكة، وشبه عمر بنوح من الرسل، وبجبرائيل من الملائكة، فابتدأ الله المؤمنين بالرحمة، ورزقهم الإيمان، ثم اقتضاهم حقه، فشرع لهم الشريعة، واستهداهم القيام بذلك، فمن وفى له بالقيام بذلك، فقد أرضى الحق.
فأبو بكر مع المبتدأ، وهو الإيمان، وعمر مع الذي يتلوه، وهو الحق، وهو الشريعة؛ لأن من حق الله على عباده: أن يوحدوه، فإذا وحدوه، فمن حقه عليهم، أن يعبدوه بما أمرهم به، ونهاهم عنه.
ولذلك:
ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أمرت أن أؤول الرؤيا على أبي بكرٍ، وأمرت أن أقرأ القرآن على عمر)).(2/19)
261 - فحدثنا بذلك محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا بذلك محمد بن عثمان التنوخي الدمشقي، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لأن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة، والقرآن بيان حقوقه، ولذلك قيل لأبي بكر: صديق؛ لأنه صدق بالإيمان بكمال الصدق.
وقيل لعمر: فاروق؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، واسماهما دليلان على مراتبهما من الله بالقلوب، وشأن درجتيهما: في الأخبار متواترة، يكشف لك عن شأن درجتيهما: أن مجرى هذا مجرى صدق الإيمان، ومجرى عمر مجرى وفاء الحق، وكيف ما دار الحق على العباد يوم الموقف باقتضاء أمر الله، وخاصمهم، وحبسهم على النار، فانتقم منهم بالنار، فالعاقبة للرحمة؛ لأن الرحمة لا تترك أحداً قال: لا إله(2/20)
إلا الله مرةً واحدةً في دار الدنيا، في جميع عمره، صدقاً من قلبه، ثم لم يوجد له مثقال خردلةٍ من خيرٍ، إلا وتأخذه من النار، ولو بعد مقدار عمر الدنيا.
وكذلك: جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الشفاعة: ((إذا انقضت شفاعة الرسل، والملائكة، والأنبياء، والمؤمنين، جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم شافعاً في المرة الرابعة، فيسأل عمن قال: لا إله إلا الله، فيقول الله تعالى: إنها ليست لك، ولا لأحدٍ من خلقي، فتجيء الرحمة من وراء الحجاب، فتقول: يا رب! منك بدأت، وإليك أعود، فشفعني فيمن قال: لا إله إلا الله مرةً واحدةً، فتجاب إلى ذلك)).
فإنما أعطاهم قول لا إله إلا الله بالرحمة، ثم لم تتركهم تلك الرحمة حتى تأخذهم من الحق، وانتقامه منهم بالنار.
فأما ما ذكرنا من شأن درجتي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكشف ذلك من الأخبار المتواترة عن درجتيهما:
262 - فحدثنا أبي، قال: حدثنا علي بن محمدٍ،(2/21)
عن منصور بن أبي الأسود، عن كثير بن إسماعيل، عن صفوان، عن قبيصة الأحمسي، عن أبي سريحة حذيفة بن أسيدٍ الغفاري، قال: سمعت علياً على المنبر يقول: إن أبا بكرٍ أواهٌ منيب القلب، وإن عمر ناصح الله، فناصحه الله.
263 - وعن مؤمل بن هشامٍ، قال: حدثنا إسماعيل ابن إبراهيم، عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين: أن أبا بكرٍ كان إذا صلى، فقرأ، خفض صوته. وكان عمر إذا قرأ، جهر، فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ قال: أناجي(2/22)
ربي، وقد علم حاجتي، قيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان. قيل: أحسنت، فلما نزلت: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً}، فقيل لأبي بكرٍ: ارفع شيئاً، وقيل لعمر: اخفض شيئاً.
264 - حدثنا محمد بن علي الشقيقي، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا الحسين بن واقدٍ، عن عبد الله بن بريدة، قال: سمعت أبي يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت جاريةٌ سوداء، فقالت: يا نبي الله! كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف، فقال: ((إن كنت نذرت أن تضربي، وإلا فلا))،(2/23)
فدخل أبو بكر رضي الله عنه وهي تضرب، ثم دخل علي رضي الله عنه وهي تضرب، ثم دخل عثمان رضي الله عنه وهي تضرب، ثم دخل عمر رضي الله عنه، فألقت الدف تحتها، ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالساً، وهي تضرب، فدخل أبو بكرٍ، وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ، وهي تضرب، ثم دخل عثمان، وهي تضرب، فلما دخلت أنت، ألقت الدف)).
قال أبو عبد الله رحمه الله: فلا يظن ذو عقل ولبٍّ: أن عمر أفضل من أبي بكرٍ في هذا، وأبو بكر شبيهٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن جمع الأمرين والدرجتين، فله درجة النبوة، ولا يلحقه أحدٌ، وأبو بكر له درجة الرحمة، وعمر له درجة الحق.
265 - حدثنا عبد الله بن سعيدٍ الأشج، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أبي إسحاق الشيباني، عن أبي بكر بن(2/24)
أبي موسى، عن الأسود بن هلالٍ، قال: قال أبو بكر لأصحابه ذات يومٍ: ما ترون في هاتين الآيتين: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، وقوله: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانكم بظلمٍ}؟ قالوا: استقاموا، فلم يذنبوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم؛ أي: بذنب. قال: لقد حملتموها على غير المحمل. إن الذين قالوا ربنا الله، ثم استقاموا، فلم يلتفتوا إلى غيره، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم؛ أي: بشرك.
266 - حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن الحسن،(2/25)
عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري: أن عمر تلا هذه الآية: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، قال: استقاموا -والله- لله بطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب.
267 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا أيوب ابن مدركٍ، قال: سمعت مكحولاً -رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-، قال: كان بين رجلٍ من المنافقين، ورجلٍ من المسلمين منازعةٌ في شيء ادعاه المنافق، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصا عليه قصتهما، فلما توجه القضاء على المنافق، قال المنافق: يا رسول الله! ارفعني وإياه إلى أبي بكرٍ، قال: ((انطلق معه إلى أبي بكرٍ)). فانطلق معه، فقصا قصتهما على أبي بكر، فقال: ما كنت لأقضي بين من رغب(2/26)
عن قضاء الله وقضاء رسوله، فرجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله! ادفعني وإياه إلى عمر، فقال: ((انطلق معه إلى عمر))، فقال: يا نبي الله! أنطلق مع رجل إلى عمر وقد رغب عن قضاء الله، وقضاء رسوله، فقال: ((انطلق معه))، فخرجا حتى أتيا عمر، فقصا عليه قصتهما، فقال عمر رضي الله عنه: لا تعجلا حتى أخرج إليكما، فدخل، فاشتمل على السيف، فخرج إليهما، فقال: أعيدا علي قصتكما، فأعادا، فلما تبين لعمر: أن المنافق قد رغب عن قضاء الله وقضاء رسوله، حمل السيف على ذؤابة المنافق حتى خالط كبده، ثم قال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله، وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! إن عمر قد قتل الرجل، وفرق الله بين الحق والباطل على لسان عمر)).
فسمي الفاروق.
وإنما يلزم اسم الصديق من أقام الصدق في أموره كلها، وإنما يلزم(2/27)
الفاروق من أقام الحق في أموره كلها، ولو كان في بعضها؛ لكان هذا صادقاً، وذلك فارقاً، من العربية في قالب فاعل، فصار هذا في قالب فعيل، وذلك في قالب فاعول.
وعند أهل اللغة معروف: أن فعيلاً وفاعولاً هو الذي تمكن ذلك الأمر فيه، فصار له عادةً، فعند ذلك يقال له: فعيل، وعند ذلك يقال له: فاعول، وفي المرة والمرتين لا يقال له ذلك، إنما يقال له: فاعل، حتى يصير له ذلك الأمر عادةً وطبعاً، فعند ذلك يقال له: فعيل، وفاعول.(2/28)
الأصل الرابع والأربعون
268 - حدثنا الحسين بن علي العجلي الكوفي، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن أبي ذئبٍ، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدثتم عني بحديثٍ تعرفونه ولا تنكرونه، قلته أو لم أقله، فصدقوا به؛ فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني بحديثٍ تنكرونه ولا تعرفونه، فكذبوا به؛ فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف)).(2/29)
قال أبو عبد الله رحمه الله: فالرسل بعثت إلى الخلق بحمل الأمور، ومعرفة التدبير في الأمور، وكيف ولم، وكنه الأمور عندهم مكنونٌ، قد أفشى الله من ذلك إلى الرسل من غيبه ما لا تحتمله عقول من دونهم، وبفضل النبوة قدروا على احتماله.
فالعلم إنما بدأ من عند الله إلى الرسل، ثم من الرسل إلى الخلق، فالعلم بمنزلة البحر، فأجري منه وادٍ، ثم أجري من الوادي نهرٌ، ثم أجري من النهر جدولٌ، ثم من الجدول إلى ساقية، فلو أجري إلى الجدول ذلك الوادي، لغرقه، وأفسده، ولو مال البحر على الوادي، لأفسده، وهو قوله في تنزيله: {أنزل من السماء ماءً فسالت أوديةٌ بقدرها}.
فبحور العلم عند الله، فأعطى الرسل منها أوديةً، ثم أعطت الرسل(2/30)
من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة إلى سواقيهم من أهاليهم وأولادهم ومماليكهم بقدر طاقة تلك السواقي.
ومن هاهنا:
ما روي في الخبر: أن لله سراً، لو أفشاه، لفسد التدبير، وللأنبياء سراً، لو أفشوه، لفسدت نبوتهم، وللملوك سراً، لو أفشوه، لفسد ملكهم، وللعلماء سراً، لو أفشوه، لفسد علمهم.
وإنما يفسد ذلك؛ لأن العقول لا تحتمله، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم، قدروا على احتمال النبوة، وزيدت العلماء في عقولهم، وبذلك نالوا العلم، فقدروا على احتمال ما عجزت العامة عنه.
وكذلك علماء الباطن، وهم الحكماء زيدت في عقولهم، فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر، ألا ترى أن كثيراً من علماء الظاهر دفعوا أن تنقطع الوسوسة من الآدمي في صلاته، ودفعوا أن يكون له مشيٌ على الماء، أو تطوى له الأرض، أو يهيأ له رزق من غير وجود الآدميين، حتى أنكروا عامة هذه الروايات التي جاءت في مثل هذه الأشياء، فلو عقلوا، لقالوا مثل ما قال مطرف بن عبد الله حين سار ليلةً مع صاحبٍ(2/31)
له، فأضاء له طرف عصاه كالسراج معه، فقال له صاحبه:
لو حدثنا بهذا، كذبنا، فقال مطرف: المكذب بنعم الله يكذب بهذا.
فلو نظر علماء الظاهر إلى ما أعطاهم الله فأبصروه؛ لاستحيوا من مقالتهم ودفعهم هذه الأشياء، ولكن لم ينظروا إلى ما أعطاهم الله من نعمه من عبد يرزقه الله معرفته، وهو أعظم في السماوات والأرض، فلا تستعظمه، (فإذا رزقه دستجة من جزر في برية من الأرض، أو رغيفاً، تعجب به، واستعظمه)، وقال: من أين هذا؟ ألا يرجع إلى نفسه فيقول: هذا الذي أعطاني مما هو أثقل من سبع سماوات، وسبع أرضين، فجعل له قراراً على قلبي، وأنطق بتعبيرها لساني من أين هذا؟ أهو لأنك أعطيت هذا العطاء الجليل، فلم ترعه حق رعايته، ولم تشكر المعطي، وسهوت ولهوت، وتبطلت، وبقيت في صورة الكفور للنعمة، مقبلاً على الدنيا.
والذي انتبه لما أعطي، فانكشف غطاء قلبه، رعى ما أعطي، وعز عليه أن يدنس خلعة الله التي خلع على قلبه، كما عز عليك أن تدنس(2/32)
خلعة الملوك في دار الدنيا، فلو أن ملكاً خلع على أحدهم من هذه الثياب المرتفعة من الخزوز وما أشبهها؛ لوقاه أن يتخذه بذلة أو مهنة، لكن يصونه ويستره ويلبسه في الأعياد، فكيف بالخلعة التي خلعها رب العالمين على قلوب الموحدين. فاشتعل في قلوبهم نور التوحيد حتى عرفوه، وآمنوا به، وأشرقت صدورهم، ونزع عنها ظلمة الكفر، وخلعها عنهم، وخلع عليهم لباس التقوى، ثم قال في تنزيله: {ذلك خيرٌ ذلك من آيات الله}.
فيصير ذلك وقاية لهم يوم ممرهم على النار حتى لا تصيبهم النار، فسمي لباس التقوى، وهو مشتق من الوقاية.
وقال: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}، فهو ذلك النور، ثم قال: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون. فضلاً من الله ونعمةً}، ثم قال: {والله عليمٌ حكيمٌ}.
عليم: بما أعطى، من هو من عباده، ومن أي طينة خلقه. حكيمٌ: في أمره بالحكمة، فعل هذا لا بالجزاف، {وهو أعلم بكم إذ أنشأكم من(2/33)
الأرض}؛ حيث كنتم تراباً {وإذ أنتم أجنةٌ في بطون أمهاتكم}.
فمن انتبه لهذه النعمة، ولهذا الفضل الذي أعطاه رب العالمين، لا يستعظم أن تطوى له الأرض، أو يعطى له رغيف في برية، وهو الذي يقول في تنزيله: {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله}.
قال: الشفاعة يوم القيامة، فرجل شفع يوم القيامة في أهل النار، وصار ممن يجوز قوله بين يدي رب العزة في ذلك الموقف، إن أعطاه في الدنيا رغيفاً في مفازةٍ من حيث لا يقدر عليه، ماذا يكون فيه حتى ينكر هذا، وما يخرج إنكار هذا إلا من قوم جهلوا صنع الله وتدبيره في خلقه، ولم يتبين لهم كرامة الله إياهم.
وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو عرفتم الله حق معرفته، لزالت بدعائكم الجبال)).
فعلماء الظاهر عرفوا الله، ولكن لم ينالوا حق المعرفة، فلذلك(2/34)
عجزوا عن هذه المرتبة، ودفعوا أن يكون هذا لأحد كائناً، ولو عرفوه حق المعرفة، لماتت عنهم شهوات الدنيا، وحب الرئاسة، والشح على الدنيا، والتنافس في أحوالها، فطلبوا العز وحب الثناء والمحمدة، ترى أحدهم قد بقي سمعه مصغياً إلى ما يقول الناس له وفيه، وعينه شاخصةً إلى ما ينظر الناس إليه منه، وقد عميت عيناه عن النظر إلى صنع الله وتدبيره؛ فإن الله {كل يومٍ هو في شأنٍ}، وقد صم سمعه عن مواعظ الله، يقرأ القرآن، ولا يلتذ به، ولا يجد له حلاوةً، كأنه إنما عنى بذلك غيره، فكيف يلتذ بما كلم به غيره، وإنما صار كذلك؛ لأن الله تعالى إنما خاطب أولي العقول والبصائر والألباب، فمن ذهب عقله وبصيرته ولبه في شأن نفسه ودنياه، كيف يفهم كلام رب العالمين، ويلتذ به، ويجلو بصره، وهو يرى صفة غيره، وإنما وقع البر واللطف على أهل تلك الصفة، وإياهم خاطب.
(وقد تبدلت صفة هذا وقعنا في واد عريض مما كنا فيه، فلا نقدر أن نستقصي صفة ذلك، ولا يفرغ ما في صدورنا إلى يوم القيامة بين يدي رب العالمين، وإنما خاطب الله بما خاطب من هذه اللطائف في تنزيله لذوي(2/35)
العقول منهم، لا الأبدان، فإذا ذهبت العقول، ضاعت المخاطبة، فإذا ردوا العقول إلى الله منيبين إليه، أدركتهم مخاطبته، فلذوا بلطائفه)).
عدنا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ((إذا حدثتم عني بحديثٍ تعرفونه ولا تنكرونه، قلته أو لم أقله، فصدقوا به؛ فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني بحديثٍ تنكرونه ولا تعرفونه، فكذبوا به؛ فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف)).
فمن تكلم بعد الرسول بشيء من الحق، وعلى سبيل الهدى، فالرسول سابق إلى ذلك القول، وإن لم يكن تكلم بذلك اللفظ الذي أتى به من بعده، فقد أتى الرسول بأصله مجملاً، فلذلك قال: ((فصدقوا به، قلته أو لم أقله))، وإن لم أقله بذلك اللفظ الذي تحدث به عني، فقد قلته؛ إذ جئت بالأصل، والأصل يؤدي إلى الفرع، فجاء الرسول بالأصل، ثم تكلم أصحابه والتابعون من بعده بالفروع، فإذا كان الكلام معروفاً عند أهل التحقيق، غير منكر، فهو قول الرسول، قاله أو لم يقله، يجب علينا تصديقه؛ لأن الأصل قد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعطاناه، وإنما قال ذلك لأصحابه الذين قد عرفهم بالحق، فإنما يعرف الحق المحق، وهم أولو الألباب والبصائر، فأما المخلط المكب على شهوات الدنيا، المحجوب عقله عن الله، فليس هو المعني بهذا؛ لأن صدره مظلم، فكيف يعرف الحق، وإنما شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إذا جاءكم عني حديثٌ تعرفونه ولا تنكرونه)).(2/36)
فإنما يعرف، وتنكر العقول التي لها إلى الله سبيلٌ، يصل إلى الله، فنور الله: سراجه، والعقل: بصيرته، والحق: جنيبته، والسكينة: طبائعه، فيرجع إلى خلقه، فالحق عنده أبلج، يضيء في قلبه كضوء السراج يقيناً وعلماً به كما قال ربيع بن خثيم:
269 - حدثنا به أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن أبيه، عن ربيع بن خثيم، قال: إن على الحق نوراً وضوءاً كضوء النهار تعرفه، وعلى الباطل ظلمةً كظلمة الليل تنكره.
فالمحققون هكذا صفتهم، يعرفون الحق والباطل.
هكذا كما وصفه الربيع بن خثيم، وكذلك وعد الله المتقين فقال: {يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}.
فقال أهل التفسير: (مخرجاً)؛ أي: من الشهوات والظلمات.
وأما محض التفسير، فالمخرج أن يجعل له نوراً في قلبه، يفرق بين(2/37)
الحق والباطل، حتى يكون له مخرجاً من ظلمة الجهل، وشبهات الدنيا؛ فإن الجهل مظلم، والدنيا تزين على الآدمي بشهوتها التي في جوفه، فتشبه عليه حتى تخدعه، فبتقواه من هذه الأشياء يجعل له فرقاناً، وهو النور الذي يفرق به بين الحق والباطل، هذا ثواب التقوى في عاجل دنياه، وثوابه في الآخرة قربه، وكرامته، ورفعة درجته.
قال له قائل: فإن كان النظر في معرفة الحق من الباطل إلى القلب، فما الحاجة بنا إلى هذه الآثار؟
قال: بنا إليها من الحاجة ما لا يستغنى عنها، وقد سألت عن مسألة لها، فتفهم؛ فإني أريد أن أستقصي في جوابها لك على الاختصار والإيجاز، إن الله -تبارك اسمه- أكرم هذا المؤمن بمعرفته، فآمن به، واطمأن إليه، فوفر عقله، وأنار قلبه، وأشرق صدره، فالحق نورٌ، وعلى قلب المؤمن نور يتقد من قلبه على قلبه في صدره، فإذا عرض أمر هو لله حق، ووقع ذكره في الصدر على القلب، فالتقى نوره ونور القلب، امتزجا وائتلفا، فاطمأن القلب بما فيه، وسكن، وقد علمت أنه الحق، وإذا عرض باطل، فوقع ذكره في الصدر على القلب، وللباطل ظلمة، التقت الظلمة ونور الحق، فيفر النور، ولم يمتزج معه، فاضطرب القلب؛ لولوج الباطل.(2/38)
فهذا أمر واضح قد اتخذه الله حجة على عباده أن جعل على الحق نوراً، وفي القلب نوراً، فلا يحتاج إلى استشهاد أهل الظاهر، فهذا علم وأمر لا يغيب عنه طرفة عين، يكون معه حيثما كان، فهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
270 - حدثنا بذلك عبد الأعلى بن واصلٍ الأسدي، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب، عن حمادٍ، عن محمد ابن عبد الله الأسدي، عن وابصة بن معبدٍ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جئت تسأل عن البر والإثم: استفت قلبك، البر: ما اطمأنت إليه النفس والقلب، والإثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس)).
قال: فإنما ذكر طمأنينة النفس مع القلب؛ ليعلم أن هذه نفوس قد(2/39)
ماتت منها الشهوات، وقاربت القلب في الصدر في العبودة، ولو كانت نفس شهوانية بطالة لم تستحق أن ينظر إلى ما يحيك فيها، وإلى ما يطمئن، فالنفوس البطالة تطمئن إلى الجهل، ولا يحيك فيها الحق، والخير، ويستقر فيها الشر والباطل.
ولكن لما ذكر النفس، فقال: ((البر ما اطمأن القلب والنفس إليه))، علمنا أنه عنى هذه النفوس التي راضها أهلها، وأدبوها حتى قارنت القلب في سعيها وصدقها.
271 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا زافر ابن سليمان، عن عثمان بن عطاءٍ، عن أبيه، قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أفتنا بأشياء إن ابتلينا بالبقاء بعدك. فقال له: ((تفتيك نفسك)). فقال: وكيف تفتيني نفسي؟ قال: ((ضع يدك على صدرك، فإنه يسكن للحلال، ويضطرب من الحرام، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون، إن المؤمن يذر الصغير مخافة أن يقع في الكبير)).(2/40)
272 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا إدريس، عن شعبة، عن بريد بن أبي مريم الكوفي، عن أبي الحوراء، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال: سمعت جدي صلى الله عليه وسلم يقول: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينةٌ، والكذب ريبةٌ)).
والحلال بينٌ، والحرام بين، قد بين الله في تنزيله، فما أحل وحرم(2/41)
هو الحق، وعليه النور، وبين الحلال والحرام شبهاتٌ، فذلك الذي يسكن إليه القلب ويضطرب، فما سكن عليه القلب، فهو لاحقٌ بالحلال، وما نفر عنه القلب، فهو لاحقٌ بالحرام.
هذا عند المحققين الذين وصفناهم بطهارة القلب، ونور اليقين في صدورهم، فكل ذكر في صدورهم مما أحله التنزيل سكن إليه القلب والنفس، وما حرمه التنزيل نفر عنه القلب، واضطربت النفس، وما اشتبه على العامة وعلماء الظاهر أمره، فعلى قلوبهم بيان ذلك، أهو مما يلحق بالحلال، أم يلحق بالحرام؟ فإن سكن القلب إليه، ألحقه بالحلال، وإن اضطرب قلبه، ونفر منه، ألحقه بالحرام، هذا لأهل اليقين، وطهارة القلوب، لا شبهة لا تخلو من أن تكون حراماً أو حلالاً.
وإنما اشتبه عند علماء الظاهر؛ لأنهم لم يجدوا فيه تنزيلاً، ولا أثراً منصوصاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فتشبه عندهم مرة بالحلال، ومرة بالحرام، وأفسدوا الشاهد الذي في قلوبهم، والحجة التي اتخذ الله عندهم، كما أفسدوا عقولهم فدنسوها، وأفسدوا إيمانهم فأسقموه، وأفسدوا جوارحهم الطاهرة فلطخوها به، وأفسدوا طريقهم إلى الله فسدوها.
وإنما صير رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة علامةً لقلوب ما ملكت النفوس، وخلت من وسواسها الصدور، لا القلوب التي قد ملكتها نفوسها، وأشحنت بوسواسها صدورها، وقال الله في تنزيله: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً. وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً. ولهديناهم صراطاً مستقيماً}. فوعد الهداية على فعل ما يوعظ به، والأجر العظيم في الآخرة، والثبات في الدنيا.(2/42)
قال أبو عبد الله: فهذه الآية، وقوله: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} بمعنى واحد؛ لأن تقوى الله هو الفعل بما يوعظ به، فقال هاهنا: {يجعل لكم فرقاناً}، وقال هنا: {ولهديناهم صراطاً مستقيماً}.
والهداية في القلب، والفرقان في القلب، وهو نور يجعله في قلبه، فيشرق به صدره، وينجلي عن صدره ظلمة الهوى والشهوات، ورين الذنوب، فإذا ورد عليه أمر هو حقٌّ، عرفه؛ لأنهما قد التقيا، فائتلفا، وإذا ورد عليه باطل، عرفه؛ لأن القلب قد نفر منه عند التقائه، فقد أعلم في الآيتين أن هذا لأهل التقوى، وللفاعلين بوعظه، وإنما احتاجت العامة بعد ذلك إلى الشرح والبيان، وإلى تنصيص الأمور وتلخيصها على ألسنة علماء الظاهر؛ لما دخل عليهم من آفة النفس وتخليطها، فقد تراكمت على نفوسهم سحائب تترى من حب الدنيا، وحب العلو، (وحب الثناء، وحب الرياسة، وحب الشهوات، وفتن الدنيا، ورين القلوب).
فإذا عرض في الصدر ذكر شيء هو حقٌّ، وعلى الحق نورٌ، حالت الظلمة بين نور القلب، ونور الحق الذي ورد على القلب، فلم يمتزجا، ولم يعرف القلب ذلك الحق، فصاحبه في حيرة منه.
وإذا عرض أمرٌ هو باطل، وعلى الباطل ظلمةٌ، امتزج الباطل بظلمة(2/43)
الشهوات، ورين الذنوب، (فلم يعلم القلب بشيء من ذلك؛ لأن نور القلب قد انكمن في القلب)، ولم يشرق في الصدر، (فهو نافر مما في الصدر من العجائب، فمن يحس بدخول الباطل حتى ينفر منه)، فليس لأهل التخليط من هذه العلامة شيء، فإنه قال: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وصدره ممتلئٌ ريباً، فكيف يتبين فيه الريب الزائد؟
وأي ريب أكثر من الإصرار على الذنوب؟ وإن دق ذلك الذنب؛ فإن الإصرار على دقيق الذنوب من الكبائر، وقلبه فيه من الغل والغش والحقد والحرص على الدنيا، والدخول في شبهة الأمور، مع جوارح منتشرة من غير لحاظه ولساناً هذاً وسمعاً صغواً، فكيف يتبين له ما يريبه إلى ما لا يريبه؟.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه: ((فإن الصدق طمأنينةٌ، والكذب ريبةٌ)). فكل هذا الكذب يجتمع في قلب فيكون له هذه العلامة.
قال له قائل: أرأيت أن تنصص لنا حديثين مما أتت به الروايات: حديثاً يعرفه المحقون ببصائرهم ولا ينكرونه؛ وحديثاً ينكرونه لنعرف به الوجهين جميعاً؟(2/44)
ومن قبل ذلك: فأخبرنا ما معنى قولك: المحقون؟ ومن هؤلاء، فإنك تردده في الكلام كثيراً؟
قال: إن الحق الأعظم الذي منه انشعبت الحقوق، لا يسكن إلا في قلبٍ طاهرٍ، وكذلك الحكمة، لا تستوطن إلا في قلبٍ طاهرٍ، وكذلك اليقين، لا يسكن إلا في قلب طاهرٍ، فمن لم يطهر قلبه، فهذه الأشياء نافرة عنه، لا يجد مأمنها، فإذا وجدت قلباً قد تطهر من أدناس الذنوب، ودرن العيوب، فقد وجدت مأمناً، فارتفعت فيه، فوجدت صاحبه حكيماً، ووجدته موقناً، ووجدته محقاً، فالحكمة ينبوع قلبه، ومثال بين عينيه، واليقين مطالعه في القلوب، والحق مستعمله.
ومن لم يطهر قلبه، فالحق نافرٌ عنه، فهو يتبع الحق ليعمل به، والحق هاربٌ منه، فلذلك يشتد عليه القيام بالحق، ويثقل عليه حتى يعجز عنه، والحق يجري فيه كالسهم، وكالماء، وكالدهن باللبن، وكالريح سرعةً ومضياً.
ومن لم يطهر قلبه، فالحكمة معرضة عنه، فتستر عنه جهدها، وتخفي زينتها، كعروس في أجمل صورة، وأحسن زينة، فهي لا تأمن أهل الريبة، فتستر عنهم زينتها جهدها، وإذا اطلع عليها المتقي، أمنته، فلم تستتر عنه، ومن لم يطهر قلبه، فعقله محجوب عن الله، وقلبه بعيد من الله، فكيف ينال اليقين؟.(2/45)
قال: فأما حديث يعرفه المحقون، وتقبله قلوبهم:
273 - فحدثنا إبراهيم بن هارون البلخي، قال: حدثنا أبو عمرٍو زكريا بن حازمٍ الشيباني السورحاني، قال: سمعت قتادة، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته الجدعاء، فقال: ((أيها الناس! كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق على غيرنا وجب، وكأن الذي نشيع من الموتى عن قليلٍ إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم، نأكل تراثهم كأنا مخلدون من بعدهم، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيب غيره، طوبى لمن ذلت نفسه من غير منقصةٍ، وتواضع لله من غير مسكنةٍ، وأنفق مالاً جمعه من غير معصيةٍ، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن ذلت نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت خليقته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله)).(2/46)
274 - حدثنا علي بن حجرٍ السعدي، قال: حدثنا إسماعيل بن عياشٍ، وعيسى بن يونس، قالا: حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا غلام! ألا أعلمك كلماتٍ ينفعك الله(2/47)
بهن؟))، قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت، فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جف القلم بما هو كائنٌ، فلو جهد الخلق على أن ينفعوك بكلمةٍ لم يكتبه الله لك، لم يقدروا عليه، ولو جهد الخلق على أن يضروك بكلمةٍ لم يكتبها الله عليك، لم يقدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا واليقين، فافعل، وإن لم تستطع، فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم: أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)).(2/48)
275 - (حدثنا عبد الوهاب بن فليحٍ المكي، حدثنا عبد الله بن ميمون القداح، حدثني شهاب بن خراشٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
276 - وحدثنا محمد بن أسلم، حدثنا مطرف بن عبد الله الأسلمي، عن محمد بن عبد الرحمن المليكي، عن المثنى ابن الصباح، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه).(2/49)
وأما الحديث الذي ينكره المحققون:
فمثل حديث رووه عن الحسن البصري، عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن سليمان عليه السلام مر في موكبه برجلٍ يقال له: مر عبدي، وهو قائمٌ يصلي، فوقف عليه حتى فرغ، فلم يرفع به رأساً، فلما رأى ذلك منه، نزل إليه، فكلمه، فقال له مر عبدي: ألست بابن داود الخاطئ، حملت الدنيا فوق رأسك، وجعلت الآخرة تحت قدميك، فصرت محجوباً عن الدارين؟.
(حقاً أقول: والله! لو أن الله -تعالى اسمه- كشف الغطاء عنك، حتى تنظر إلى الله بمعرفته، وترغب إلى الله بالرغبة، وتشتاق إليه بالحب؛ لكنت زاهداً فيما معك، ولكن استروحت إلى الدنيا، وعرفت حلوها من حامضها، ولينها من خشنها، وحارها من باردها، فلها تغضب، ولها ترضى، وإليها(2/50)
تستروح، وإياها تشتم.
قال سليمان: يا مر عبدي! كيف لي إن أنا سألت الله حتى يقبض عني جميع ما سخر لي؟ قال مر عبدي: هيهات هيهات، الدنيا أعظم في صدرك، وأنت إليها أشد ركوباً من أن تسأل ربك ذلك.
يا بن داود! لا يغرنك هذا البيت الذي مثل لك، والزين الذي أنت عليه، وما سخر لك من الشياطين، وأنت تقرأ فيما أنزل الله عز وجل على داود: أنه ليس أحدٌ أعطي نهمة من شهوات الدنيا إلا نقص في ميزانه.
يا بن داود! ما لك وللدنيا قد غرت من كان قبلك؟ ما لك والجمال والشهوات ونظر الناس إليك، وقد عرفت أنه ليس أحدٌ أحب إلى الله من مؤمنٍ خفي؟
ألا أن أولياء الله يخفون على أهل الأرض، ويعرفون في السماء، ولا يفقدون إذا غابوا، ولا يعرفون إذا شهدوا.
افهم يا بن داود أنك نبي تعظ الناس، وأنت مسموع منك، لا يغرنك ما أنت فيه، فيوشك أن تموت وتذوق مرارة الموت.
قال: يا مر عبدي! ما بال الناس ينظرون إلي، وأنت لا تنظر إلي،(2/51)
ويتمنون ما سخر الله لي، وأنت لا تتمنى؟!!
قال: يا بن داود! أنت صبي تتكلم على قدر صباك، ما أرى في يدك من الفضل والرغبة في الدين، فارغب فيه، يا بن داود! دع عنك الكبر والفخر، يا بن داود! مذ كم أنت في هذا الملك؟!!
قال: منذ ثمان عشرة سنة، قال: يا بن داود! هل تجد فيما مضى من ملكك إلا ما أنت فيه اليوم؟!!
قال سليمان: اللهم لا.
قال مر عبدي: وكذلك أنا أضرب بهذه المسحاة منذ ثلاثين سنة، لا أجد عناء تسع وعشرين سنة، وأحد عشر شهراً، وتسعة وعشرين يوماً، إلا عناء يومي هذا، فما فضلك علي؟ أين ما تنعمت به؟).
هذا في كلام له طويل، التقطت منه هذه الأحرف، فذكرته هاهنا، فهذا الحديث عامته كذبٌ، لا تقبله قلوب المحقين، وقد جعل الله(2/52)
الرسل أحباءه وأصفياءه ونجباءه، وحجته على خلقه، ورفع مراتبهم، فمن قال لرسولٍ من الرسل مثل هذا الذي روي في هذا الحديث، فقد عابه، ومن عابه، فقد كفر بالله، وقد جعل الله إيماننا به منظوماً بإيماننا بالرسل، لا يقبله منا حتى نؤمن بالرسل، كما آمنا به، وكيف يجوز أن يقال لرسول الله: ((جعلت الآخرة تحت قدمك، والدنيا فوق رأسك))؟!
فقائل هذا لرسول من رسول الله رادٌّ على الله، والله يقول في تنزيله: {ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين}.
فسليمان من أهل هداية الله، وسماه: محسناً، وهذا يحكي: أنه قال: ((جعلت الآخرة تحت قدميك، فصرت محجوباً عن الدارين)).
وقال في آية أخرى: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أوابٌ}، فهكذا تكون صفة من أثنى الله تعالى عليه في تنزيله بما أثنى، كما وصفه في هذا الحديث، ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}.(2/53)
فهذا الذي زور مثل هذا الحديث: كان غنيمنا أحسبه من هؤلاء الحمقى الذين يتزهدون في الدنيا رياءً وسمعة، يريدون أن يتأكلوا هذا الحطام بسمة الزهد، ولم يعرفوا ما الزهادة، ولا معناها، ولا تفسيرها، حسبوا أن الزهادة: شتم الدنيا، وأكل النخالة، ولبس الصوف، وذم الأغنياء، ومدحة الفقراء، (وأشاروا إلى الخلق بالترك، وقلوبهم مشحونة بالشهوات، يموتون على حب الدنيا عشقاً، وعلى حب الرئاسة موتاً، وأن يقال: هذا أبو فلان نعم الرجل، هذا زاهد في الدنيا، لا يأكل إلا مضطراً، ولا يقبل من أحد شيئاً، فهو يستروح إلى هذا القول منهم، وبقوة هذا الروح يقاسي عمره شدة، فقبح الله فعل من هذا فعله في تلك العرضة من مرأى ما أوحشه! دعاه فعله ذلك إلى أن خرج على أنبياء الله ورسله، فكل من وجده منهم قد قلده الله من خزائن الدنيا حفظاً ورعاية، جرحه، وطعن فيه، وظن أن ذلك منه رغبة حتى مرق في الدين).
ومن جهله يزعم أنه قال مر عبدي لسليمان: ليس تقضي نهمةً من(2/54)
الدنيا إلا بنقص من منزلتك، والله يقول: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ}، ثم قال: {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مئابٍ}.
فمن يستروح إلى الدنيا، ولها يغضب، ولها يرضى، يكون هذا ثناء رب العالمين عليه، وزلفاه، وحسن مآب، ونعم العبد؟! فواضع هذا الحديث أحسبه كان زنديقاً معانداً، معادياً للرسل، أو جاهلاً من جهلة الصوفيين المستأكلة.
ومن صفة سليمان عندنا: أن الله امتحن قلبه للمرتبة العلية، وملكه الدنيا، وسخر له الشياطين والرياح، وعلمه منطق الطير، وكان من جلال الله وعظمته على قلبه ما لو جمعت خشية العالمين في ذلك الوقت؛ لدقت في جنب خشيته، وتواضعهم كلهم لله يدق في جنب تواضعه، وكانت الدنيا لا تزن عنده جناح بعوضة، فقد أثنى الله عليه في تنزيله تعالى، فقال: {ولقد آيتنا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثيرٍ من عباده المؤمنين. وورث سليمان داود}، فأعطاه الله علماً كما أعطى داود، ثم ورثه الله علم داود، فضمه إلى علمه، وهو قوله: {وورث سليمان(2/55)
داود}، ثم زاده على ذلك زيادة، وهو قوله: {وقال يأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيءٍ}.
فمن ذا يقدر على وصف ما أوتي، وشرح الفضائل التي أعطاه الله؟ ولهذا قال تعالى: {إن هذا لهو الفضل المبين}. وقال: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}، وقال: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاًّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين}، وقال: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مئابٍ}، وقال: {ففهمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً}.
فمن كان له في التنزيل مثل هذا، فآمن به، ثم روى مثل هذا الحديث، أليس تدل روايته على أنه من أحد هذين الصنفين، أو شيطان تمثل على صورة آدمي يغوي به الناس؟!!
ومن الحديث الذي تنكره قلوب المحققين:
ما جاء به ابن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: ((أن قوم موسى -عليه الصلاة والسلام- سألوا موسى أن يسأل ربه: وأن يسمعهم كلامه، فسمعوا صوتاً كصوت الشبور: إني أنا الله لا إله إلا أنا(2/56)
الحي القيوم، أخرجتكم من مصر بيدٍ رفيعة وذراعٍ شديدة)).
فهذا من حديث من عزب فهمه عن هذا ما هو حتى رواه، وإنما الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم، فإن كان كلم قومه أيضاً حتى أسمعهم كلامه، فما فضل موسى عليهم؟! ولقد قصر عندهم خطر كلام الله حتى سخت نفوسهم بمثل رواية هذا الحديث.
ومن الحديث الذي تنكره القلوب:
حديثٌ رواه عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً. ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً}.
قال: مرض الحسن والحسين، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعادهما عمومة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن! لو نذرت على ولديك نذراً، وكل نذر ليس له وفاءٌ، فليس بشيءٍ، فقال عليٌّ: إن برأ ولداي، صمت لله ثلاثة أيامٍ شكراً، وقالت جارية لهم نوبية: إن برأ سيداي، صمت لله ثلاثة أيام(2/57)
شكراً، (وقالت فاطمة -رضي الله عنها- مثل ذلك)، فألبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليلٌ، ولا كثيرٌ، فانطلق عليٌّ رضي الله عنه، إلى شمعون بن حاريا الخيبري، وكان يهودياً، فاقترض منه ثلاثة أصوعٍ من شعير، فجاء به، فوضعه ناحية البيت.
فقامت فاطمة -رضي الله عنها- إلى صاع، فطحنته واختبزته، وصلى عليٌّ مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم مسكينٌ، فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمدٍ، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة، فسمعه عليٌّ رضي الله عنه، فأنشأ يقول:
أفاطم ذات السداد واليقين ... يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين ... قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى الله ويستكين ... يشكو إلينا جائعٌ حزين
كل امرئٍ بكسبه رهين ... من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين ...
فأنشأت فاطمة -رضي الله عنها- تقول:
أمرك سمعٌ يا بن عم وطاعه ... ما بي من لؤمٍ ولا وضاعه(2/58)
عنيت في الخبز له صناعه ... سأطعمه لا أنهنهم ساعه
أرجو إن أشبعت من مجاعه ... أن ألحق الأخيار والجماعه
فأدخل الجنة لي شفاعه ...
فأعطوه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم، ولم يذوقوا شيئاً إلا الماء القراح.
فلما كان في اليوم الثاني، قامت إلى صاع وطحنته واختبزته، وصلى علي رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين أيديهم، فوقف بالباب يتيم، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمدٍ، يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة، فسمعه عليٌّ رضي الله عنه فأنشأ يقول:
أفاطم بنت السيد الكريم ... بنت نبيٍّ ليس بالزنيم
قد أتى الله بذا اليتيم ... من يرحم اليوم يكن رحيم
ويدخل الجنة أي سليم ... قد حرم الجنة اللئيم
ألا لا يجوز الصراط المستقيم ... يزل في النار إلى الجحيم
شرابه الصديد والحميم ...(2/59)
فأنشأت فاطمة -رضي الله عنها- تقول:
سأطعمه الآن ولا أبالي ... وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعاً وهم أشبالي ... أصغرهما يقتل في القتال
بكربلاء يقتل باغتيال ... يا ويل للقاتل مع وبال
يهوي في النار إلى سفال ... وفي يديه غلٌّ من الأغلال
كبولة زادت على الأكبال ...
فأعطوه الطعام، ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القراح.
فلما كان في اليوم الثالث: قامت إلى الصاع الباقي، فطحنته، واختبزته، وصلى علي رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين يديه، إذا أتاهم أسير، فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا، وتشدوننا، ولا تطعموننا؟! أطعموني؛ فإني أسير محمدٍ، فسمع عليٌّ رضي الله عنه، فأنشأ يقول:
أفاطم بنت النبي أحمد ... بنت نبيٍّ سيدٍ مسود
سماه الله فهو محمد ... قد زانه ربي بجيدٍ أغيد
هذا أسير النبي المهتد ... مثقلٌ في غله مقيد
يشكو إلينا الجوع قد تمدد ... من يطعم اليوم يجده من غد(2/60)
عند العلي الواحد الموحد ... ما يزرع الزارع سوف يحصد
أعطيه لا تجعليه أنكد ...
فأنشأت فاطمة -رضي الله عنها- تقول:
لم يبق مما جئت غير صاع ... قد ذهبت كفي مع الذراع
ابني والله هما جياع ... يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع ... يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين شديد الباع ... وما على رأسي من قناع
إلا قناعاً نسجه أنساع ...
فأعطوه الطعام، ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القراح.
فلما أن كان في اليوم الرابع: وقد قضى الله النذر، أخذ عليٌّ رضي الله عنه بيده اليمنى الحسن، وبيده اليسرى الحسين، وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، فلما أبصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((يا أبا الحسن! ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم! انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة))، فانطلقوا إليها، وهي في محرابها، قد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدة الجوع، فلما أن رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف المجاعة في وجهها، بكى، وقال: ((واغوثاه بالله! أهل بيت محمدٍ يموتون جوعاً، فهبط جبريل عليه السلام،(2/61)
فقال: السلام يقرئك السلام يا محمد، خذ هنيئاً في أهل بيتك قال: وما آخذ يا جبريل؟ فأقرأه: {هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكوراً} إلى قوله: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}.
هذا حديث مزوقٌ، قد تطرق فيه صاحبه حتى شبه على المستضعفين، فالجاهل أبداً بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفاً، أن لا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم، وقد قال الله تعالى في تنزيله: {ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو}، وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك.
وجرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترةٌ بأن: ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً، وابدأ بنفسك ثم بمن تعول)).(2/62)
وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)).
أفيحسب عاقلٌ: أن علياً رضي الله عنه جهل هذا الأمر، حتى أجهد صبياناً صغاراً من أبناء خمسٍ أو ستٍّ على جوع ثلاثة أيام ولياليها، حتى تضرروا من الجوع، وغارت العيون منهم لخلاء أجوافهم، حتى أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجوع والجهد؟!
هب أنه آثر على نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل مثل ذلك على أطفاله جوع ثلاثة أيام ولياليهن؟!
ما يروج هذا إلا على حمقى جهال، أبى الله لقلوبٍ منيبةٍ أن تظن بعليٍّ رضي الله عنه مثل هذا، وليت شعري: من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن(2/63)
علي وفاطمة رضي الله عنها، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة؟! فهذا وأشباهه من حديث أهل السجون فيما أرى.
بلغني أن قوماً يخلدون في السجون، فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث عامتها مفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة، رموا بها، وزيفوها، وما من شيء إلا وله آفة ومكيدة، وآفة الدين وكيده أكثر.
ومن الحديث الذي تنكره القلوب:
حديثٌ رووه عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في سنة مئتين يكون كذا وكذا، وفي العشرين والمئتين كذا، وفي العشرين كذا، وفي الثلاثين كذا، وفي الأربعين كذا، وفي الخمسين كذا، وفي الستين كذا، وفي المئتين تعتكف الشمس ساعةً، فيموت نصف الجن والإنس)).
فهل كان هكذا، وقد مضت هذه المدة؟!(2/64)
وهذا شيء يعم، وسائر الأمور التي ذكرنا قد تكون في بلدة، وتخلو منها أخرى، فهذا عكوف الشمس لا يخلو منه أحد في شرقٍ أو غربٍ، فإن كان المئتين من الهجرة، فقد مضت، وإن كان من موت الرسول، فقد مضت.
وأيضاً دلالة أخرى على أنه مفتعل: أن التأريخ لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وضعوه على عهد عمر رضي الله عنه، فكيف يجوز هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال: في سنة مئتين، وفي سنة عشر ومئتين، ولم يكن وضع شيء من التاريخ؟!!
277 - حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد، عن فرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، قال: رفع إلى عمر رضي الله عنه، صكٌّ محله شعبان، قال عمر: أي شعبان؟ الذي هو آتٍ، أو هذا الذي نحن فيه؟ ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال بعضهم: على تاريخ الروم، فقيل: إنهم يكتبون من(2/65)
عهد ذي القرنين، فهذا يطول، وقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الفرس، فقال: إن الفرس كلما قام ملك، أرخ من قبله، فاجتمع رأيهم: على أن ينظروا كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فوجدوه: عشر سنين، فكتب التاريخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
278 - حدثنا محمد بن عثمان الطائفي، قال: حدثنا أمية بن خالدٍ، قال: حدثنا قرة بن خالدٍ، عن ابن سيرين، قال: جاء رجلٌ من أهل اليمن إلى عمر رضي الله عنه، فقال: أرخوا، فقال: وما أرخوا؟! قال: اكتب: شهر كذا، وسنة كذا، قالوا: فبم نبدأ، قال: من موت النبي صلى الله عليه وسلم، قال: بل من مهاجره، فاتفق رأيهم على أن يبدأ من مهاجره، قيل:(2/66)
من أي شهر نبدأ؟ قالوا: من رمضان، قال: لا، بل من المحرم، فبدؤوا بالمحرم.
ومن الحديث الذي تنكره القلوب:
حديثٌ رووه عن عوفٍ، عن أبي القموص، قال: شرب أبو بكرٍ الخمر، يعني: من قبل نزول تحريمها، فقعد ينوح على قتلى بدر، وهو ينشد ويقول:
تحيي بالسلامة أم بكرٍ ... وهل لك بعد رهطك من سلام
ذريني أصطبح يا أم بكرٍ ... رأيت الموت نقب عن هشام
فنقب عن أبيك وكان قوماً ... من الأقوام شراب المدام
وود بنو المغيرة لو فدوه ... بألفٍ من رجالٍ أو سوام
كأني بالطوي طوي بدرٍ ... من الشيزى تكلل بالسنام(2/67)
كأني بالطوي طوي بدرٍ ... من القينات والخيل الكرام
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج يجر ثوبه من الفزع حتى أتاه، فرفع عليه شيئاً في يده، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أعوذ بالله من غضب الله، وغضب رسوله، فأنزلت: {يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر}.
وزاد فيه غيره في الأبيات:
يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... فكيف حياة أصداءٍ وهام
قال: فهذا منكر من القول والفعل، وقد أعاذ الله الصديقين من فعل الخنا، وأقوال أهله، وإن كان قبل التحريم، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه بمكة (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر، وقد وسم بالصديقية، وسمي صديقاً، وكان) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء، فرجف بهم الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسكن حراء؛ فإنما عليك نبيٌّ وصديقٌ وشهيدان)).(2/68)
وكان معه أبو بكر، وعمر، وعثمان.
وعائشة أعلم بأبيها من أبي القموص، فهي تنكر هذا، وتكذب أهله.
279 - حدثنا سليمان بن العباس الهاشمي، قال: أخبرنا يعقوب أبو يوسف الزهري، قال: حدثنا عبد الله بن وهبٍ، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: ما قال أبو بكر ولا عثمان بيت شعرٍ في جاهلية ولا إسلام، ولا شربا خمراً في جاهلية ولا إسلام.(2/69)
280 - قال يعقوب: وحدثنا عبد العزيز بن محمدٍ، عن ابن أخي ابن شهابٍ، عن عمه، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، بمثله.
281 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عمران ابن بكارٍ الحمصي، قال: حدثنا عبد الحميد بن إبراهيم الحضرمي، قال: حدثنا عبد الله بن سالمٍ الكلاعي، عن محمد ابن الوليد الزبيدي، قال: أخبرني الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-: أنها كانت تدعو على من يقول: إن أبا بكرٍ قال هذه القصيدة:
تحيا بالسلامة أم بكرٍ ... وهل لي بعد قومي من سلام
يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداءٍ وهام
ثم قالت عائشة -رضي الله عنها-: والله! ما قال أبو بكرٍ بيت شعرٍ في الجاهلية ولا في الإسلام، ولقد ترك أبو بكر وعثمان شرب الخمر في الجاهلية، وما ارتاب أبو بكر(2/70)
في الله منذ أسلم، ولكنه كان تزوج امرأة من بني كنانة، ثم من بني عوف، فلما هاجر أبو بكر رضي الله عنه، طلقها، فتزوج بها ابن عمتها هذا الشاعر، فقال هذه القصيدة يرثي بها كفار قريش الذين قتلوا ببدر، فحملها الناس أبا بكر من أجل امرأته أم بكر التي طلقها، وإنما هو أبو بكر بن شعوب الكناني.(2/71)
الأصل الخامس والأربعون
282 - حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأودي، قال: حدثنا بكر بن يونس بن بكيرٍ، قال: حدثنا موسى ابن علي بن رباحٍ، عن أبيه، عن عقبة بن عامرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكرهوا مرضاكم على الطعام؛ فإن الله يطعمهم ويسقيهم)).(2/73)
قال أبو عبد الله: فإطعام الله وسقياه في الدنيا لهذا الآدمي الذي سخر له، وهيأ له من أرضه وسمائه، وبره وبحره، وإطعامه وسقياه في الآخرة التي هيأ له في جنانه وجواره، وهو ثوابه لعماله، فغير واصل إلى هذا الآدمي مما هيأ له في جواره، حتى يخرج من الدنيا ويقدم عليه، ثم فيما بين ذلك للعباد من الله لطائف من خزائنه يلطف لهم في أحوالهم، وذلك مثل مائدة عيسى -عليه الصلاة والسلام-، ومثل ما أوتيت مريم حيث قيل: {وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله}.
وسقياه مثل عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصابهم العطش، فانفجرت من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم منابع الماء حتى ارتوى العسكر، فهذا من الله لعبيده من خزائن الرحمة على أيدي القدرة، فهذا للأنبياء والصديقين، وهم الذين يستحقون هذه الألطاف من الله عز وجل؛ لأنه لطف بهم كرامة.
وأما شأن المرضى: فذلك لهم لطف رحمة؛ لما حل بهم من الشدة، من سلب ما أعطى من نعمة الصحة، فالمرض الذي حل بهم ممحصٌ لذنوبهم، كلما محص، ازداد القلب طهارة من رين الذنوب، وتخلي القلب من سقم الإيمان، فإذا ذهب سقم الإيمان، شبع القلب وروي، ألا ترى(2/74)
أن أقل الناس طعاماً الأنبياء، ثم الأولياء، وكلما كان العبد أكثر حظاً من اليقين، كان أقل طعاماً وتناولاً من الدنيا، وهذا موجود في صالحي هذه الأمة، وروي عن عامر بن عبد قيس: أنه داوم شهراً لا يأكل شيئاً.
283 - حدثنا عبد الله بن عبد الله، بن أسدٍ الكلابي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: سمعت الأعمش، قال: سمعت إبراهيم التيمي يقول: لقد أتى علي شهرٌ وما أكلت طعاماً ولا شراباً إلا حبةً من عنب أكرهوني عليها، وما أنا بصائم، وإني لأقضي حوائجي.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ، والمؤمن يأكل في معًى واحدٍ)).
فالمؤمن إيمانه أشبعه، فإنما الشبع للقلب والنفس، ثم للأركان، وقد فسرناه في بابه ما هذه الأمعاء السبعة؟.(2/75)
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الرغب شؤمٌ))، والرغب: الحرص على الأكل، والتهام الشيء المأكول من الحرص، كأنه يريد أن يبلعه؛ من ولوعه به، فإنما صار شؤماً حرصه وولوعه، لا فعله ذلك، وإنما نسب إلى الفعل وذم الفعل؛ لأنه هو الذي يظهر منه، والحرص باطن.
فالمريض إذا وقع في التمحيص، خف قلبه من الذنوب، وثقل من الإيمان، فشبع وروي.
ومعنى قوله: ((فإن الله يطعمهم ويسقيهم)) على هذا عندنا: أنه يطهر قلوبهم من رين الذنوب، وإذا طهرهم، من عليهم باليقين، فأشبعهم، فأرواهم، فذلك طعامه وسقياه لهم، ألا ترى أنه يمكث الأيام الكثيرة لا يذوق شيئاً، ومعه قوته ولو كان ذلك في أيام الصحة لضعف عن ذلك، وعجز عن مقاساته، والصبر عليه، وإن للقلوب مع الله شأناً عجيباً لا يعرفه إلا أهل القلوب.
وأما أهل النفوس، فهم في غفلة من هذا كله، ولو وصفت ذلك لهم، لتحيروا وبهتوا؛ لأنه لم يحل ذلك بقلوبهم طرفة عين، فكيف يعرفه؟ وقد(2/76)
جاءت الغفلة من شهوة النفس، فرانت على القلوب، فصارت غطاءً وحجاباً كثيفاً على القلب، تحجبه عن أحواله مع الله، فإذا ذهبت الغفلة، وانكشف الغطاء رأى ما يرد عن الله على القلب، وعاين أحواله، وما يحل به.(2/77)
الأصل السادس والأربعون
284 - حدثنا عبيد الله بن يوسف بن المغيرة بن جبير بن حية الثقفي، قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الحراني، قال: حدثنا عبد الحميد بن يزيد، عن آمنة بنت عمر، عن ميمونة: أنها قالت: يا رسول الله! من أي شيء عذاب القبر؟ أفتنا عن عذاب القبر؟ قال: ((من أثر البول، فمن أصابه منه شيءٌ فليغسله بماءٍ، فإن لم يصبه أو يجده فليمسحه بترابٍ طيبٍ)).
قال أبو عبد الله: فهذا إذا أصاب الجسد، فإذا عرف موضعه من(2/79)
الجسد، فالغسل لا محالة، فإذا لم يجد موضعه، فليس على يقين من ذلك؛ لأنه لو علم أنه قد أصابه، لعلم موضعه، فهذا شكٌّ قد دخله، فهو لا يدري أصابه أم لا؟ ففي الحكم غير لازم له غسله.
ولكن جاء في عذاب القبر من أثر البول وشأنه ما جاء ما يلقى أهل القبور من شدة وباله.
وروي عنه: أنه قال: ((عامة عذاب القبر من البول)).
فدله رسول الله صلى الله عليه وسلم على التيمم؛ ليتوقى به من عذاب القبر إن كان هناك بول قد أصابه وهو لا يدري، وهو على غير يقين من أمره، وفي الباطن وفي الغيب قد أصابه ذلك، وعذاب القبر حالٌّ به من أجل ذلك كان هذا التيمم دافعاً، كما كان الغسل بالماء في الحال الذي يدري أين أصابه دافعاً عنه؛ لأنه قد جاء في الخبر:
((إن أول ما يوضع الميت تبتدره أربع نيرانٍ، فتدفع(2/80)
عنه الصلاة واحدةً، والزكاة واحدةً، والصوم واحدةً، ويجيء الصبر فيطفئ الرابعة، ثم يقول: أما إني لو أدركتهن كلهن لأطفأتهن، ولكن أنا لك إمامك)).
285 - حدثنا بذلك عبد الله بن أبي زيادٍ، حدثنا سيارٌ، عن جعفر بن سليمان، عن حجاجٍ، حدثنا معاوية بن قرة، عن أشياخٍ أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
فالصلاة إنما تدفع إذا كانت صلاةً بطهور، فهذا الذي لا يدري أصابه أم لا؟ دله على التيمم، وهو بجهله معذور، فالمتيمم صار هناك معذوراً؛ إذ كان هناك في الأصل شيء؛ كالجنب الذي لا يجد الماء، فصار عند الله معذوراً، فالمتيمم صار هناك بجهله، إذ لا يعلم أصابه شيء أم لا مضطراً؛ كالذي لا يجد الماء.
ومن التشديد في البول من حيث لا يعلم ما جاء عن أمر سعد بن معاذ ما يحثنا ويحذرنا على الاحتياط في ذلك.
فروى يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني(2/81)
معاذ بن رفاعة بن رافع، قال: حدثني محمود بن عبد الرحمن ابن عمرو بن الجموح، عن جابر بن عبد الله، قال: لما توفي سعدٌ، ووضع في قبره، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبح القوم، وكبر النبي، وكبر القوم معه، فقالوا: يا رسول الله! مم سبحت؟ قال: ((هذا العبد الصالح تضايق عليه قبره حتى فرج الله عنه))، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((كان يقصر في بعض الطهور من البول)).(2/82)
فإنما سألت ميمونة عن الفتيا في عذاب القبر ما الحيلة في الخلاص منه؟ فإن إصابه البول من حيث لا يعلم كائن، وقد جاء فيه من التشديد ما جاء، فرأى أن الجهل به ضرورة، وفقد الماء ضرورة، وقد تفضل الله على عبيده عند فقد الماء بالتيمم، فصيره كافياً، وطهوراً، ومزيلاً للجنابة عنه، فرأى أن التيمم هاهنا في حال الشك، والتخوف أن يكون قد أصابه من حيث لا يعلم بول كافياً، مزيلاً للنجاسة عنه؛ لينجو من وباله غداً في القبر.(2/83)
الأصل السابع والأربعون
286 - حدثنا محمد بن الضحاك، حدثنا عبدة بن سليمان الكلابي، عن أبي رجاءٍ الجزري، عن الفرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما صبر أهل بيتٍ على جهد ثلاثاً، إلا آتاهم الله برزقٍ)).(2/85)
قال أبو عبد الله: فالجهد: هو الجوع المجهد، وهو من الله ابتلاءٌ لعباده، فإذا صبر ثلاثاً، أتاه الله برزق؛ لأن أيام المحنة قد انقضت، وإنما صارت مدة المحنة ثلاثة أيام؛ لأن العبد على أجزاء ثلاث: جزء منه للإيمان، وجزء منه للروح، وجزء منه للنفس.
فالطمأنينة: للإيمان، والطاعة: للروح، والشهوة: للنفس.
فالقلب للإيمان، والأركان للروح، والجثة للنفس؛ لأن الشهوات في النفس، وللشهوات تغدو الجثة، فإذا منع أول يوم، فجاع، فصبر، فذاك صبر الإيمان؛ لأنه أقوى الثلاثة، فإذا منع اليوم الثاني، فجاع، فصبر، فذاك صبر الروح، يطيع ربه، ولا يتناول ما لا يحل، فإذا منع اليوم الثالث، فجاع، فصبر، فذاك صبر النفس، فقد تمت المحنة، وبرزت منقبة النفس(2/86)
إذا ابتليت فوجدت صبورة، فرزقت وأكرمت، وإنما تقع المحنة أبداً في كل وقت على أهل التهمة، فالإيمان غير متهم، وكذلك الروح غير متهم، وإنما التهمة للنفس، فإذا امتحنت النفس في أول يوم، لم يتبين صبرها؛ لأن الإيمان والروح معينٌ لها، وفي اليوم الثاني الروح معين لها، فإذا صبرت في اليوم الثالث، فقد أبرزت صبرها، وأخلصت بإيمانها، وانقادت مستسلمة، وإن العباد إنما وقعت عليهم المحنة لشأن النفوس الكاذبة، فلهذا امتحن إيمانهم بنص قوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون}، وقد بينا توقيت الثلاث في الأشياء في مسألة الحيض.(2/87)
الأصل الثامن والأربعون
287 - حدثنا محمد بن عليٍّ، قال: حدثنا حاتم بن بكرٍ الضبي، قال: حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد، الحنفي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن عبد الملك ابن عمير، عن عمرو بن حريثٍ، عن سعيد بن حريث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من باع داراً أو عقاراً، فليعلم أنه مالٌ قمنٌ أن لا يبارك، إلا أن يجعله في مثله)).(2/89)
288 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن عمرو بن حريثٍ، عن سعيد بن حريثٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
289 - حدثنا موسى بن محمدٍ المسروقي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: أخبرني فضالة بن الحصين، [قال أخبرني عبد الوارث بن أبي محمد، عن يعلى بن عبد الملك، قاضي البصرة، عن عمران بن الحصين] الخزاعي البدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من باع عقدةً، وهو يجد بداً من بيعها، إلا(2/90)
وكل بذلك المال من يتلفه)).
قال أبو عبد الله: فإنما نزعت البركة منها؛ لأنها ثمن الدنيا المذمومة، وخلق الله الأرض، فجعلها مسكناً ومستقراً لعباده، وخلق الجن والإنس ليعبدوه، وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فصارت فتنة لهم، إلا من رحمه الله فعصمه، وصارت سبباً لمعاصي العباد، فنزعت البركة منها، فإذا بيعت، لم يبارك له في ثمنها.
ومما يحقق ذلك: ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها، إلا ذكر الله، ومعلمٌ أو متعلمٌ)).(2/91)
290 - حدثنا سليمان بن العباس الهاشمي، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا ثور بن يزيد، عن خالدٍ ابن معدان، عن أبي الدرداء، قال: ملعونةٌ الدنيا، وملعونٌ أهلها إلا ذكر الله، وما آوى ذكر الله.
قال: فكل شيء أريد به وجه الله تعالى من الأمور والأعمال، فهو مستثنى من اللعنة؛ لأنه قد آوى ذكر الله، وكذلك المؤمن قد آوى ذكر الله، والكفار والشياطين، وكل شيء من الأمور والأعمال مما لم يرد به وجه الله، فهو ملعون، فهذه الأرض صارت سبباً لمعاصي العباد بما عليها، فبعدت عن ربها بذلك؛ لأنها ملهية للعباد عنه، وكل شيء بعد عن ربه فمنزوع منه البركة، وإن الله -تبارك اسمه- جعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها.(2/92)
هكذا تدبير الله في خلقه، وجعل أثمان الأشياء في الذهب والفضة، وجعل نبات الذهب والفضة في جبالها، وقدر التجارات فيها؛ ليبتغي العباد من فضله معاشهم، فإذا اتجروا ابتغاء الفضل فيها، دبر الله تعالى له، وهو الذهب والفضة، وما يباع بهما، نال من البركة التي بارك فيما، وإذا اتجر فيما جعله مهاداً، ولم يجعله للتجارة، فقد خالف تدبيره، فغير مستنكر أن يتخلى عنه، وتذهب البركة؛ لأن الله إذا تخلى عن شيء، بخس ذلك الشيء، وهلك؛ لأنه لم يبق له قائمة، وإذا رعاه، أدام ذلك الشيء، وحلت به البركة، فالذهب والفضة هما قوام للخلق، ولذلك وصف الله -تبارك وتعالى- في تنزيله، فقال: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً}.
والجبال: قوام الأرض، خلق ابن آدم من الأرض، فهو من نبات الأرض، وجعل نبات الجبال له قواماً، والأرض مهاداً، فإذا اتجر فيما جعل الله له مهاداً، خالف تدبيره الذي هيأه له، ففاتته البركة؛ لأن البركة مقرونة بتدبيره، وقد قال الله عز وجل: {خلق الأرض في يومين}، {وبارك فيها وقدر فيها أقواتها}، فالبركة مع ذلك الخلق، وذلك التقدير على ما دبره يومئذ.
وفي حديث عمران بن حصين دليل على تحقيق ما قلنا؛ لأنه قال:(2/93)
من باع عقدة، فإنما سميت عقدة؛ لأنها مهاد قد عقدت لك مسكناً، ولم تجعل متجراً، ثم قال: ((وهو يجد بداً من بيعها، إلا وكل بذلك المال من يتلفه))؛ لأنك صيرت المهاد متجراً تبتغي فيه الفضل، فكان سبيلك أن تبتغي الفضل فيما وجه لك فيه الفضل، وهو الذي صيره أثمان كل شيء جعلهما سبب التجارات.
وروي عن حميد بن هلال العدوي: أنه قال: ثمن التراب ملعون.
فهذا يدل على ما قلنا، وعلى الوجه الآخر الذي ذكرناه بدءاً.
وروي في الخبر: أنه لما قتل ابن آدم أخاه، انتشفت الأرض دمه، فقال الله -تبارك اسمه- للقاتل: أين أخوك؟ قال: لا أدري، قال: لعلك قتلته؟ قال: فأين دمه، فلعنت الأرض لما شربت دمه، فمنذ يومئذٍ لا تنشف دماً، فهذا أيضاً يقوي ما ذكرناه بدءاً والله أعلم.(2/94)
الأصل التاسع والأربعون
291 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا شريكٌ، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضربٍ قال: أتينا خباب بن الأرت، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤجر العبد على نفقته كلها، إلا ما كان في التراب))، أو قال: ((في هذا البناء)).
292 - حدثنا حميد بن الربيع اللخمي، قال: حدثنا(2/95)
عمرو بن الربيع، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله ابن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن خباب بن الأرت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل نفقةٍ ينفقها العبد يؤجر فيها، إلا ما كان من نفقةٍ في التراب)).
قال أبو عبد الله: وإنما هذا عندنا في البناء الذي يجعله مرفقاً لنفسه.
فأما المساجد التي هي لله، ولا يملكها أحد، فهي خارجة عن ذلك، فقد جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من بنى مسجداً، بنى الله له بيتاً في الجنة)).
فإنما صار غير مأجور في النفقة في التراب؛ لأنه ينفق في دنيا قد أذن الله في خرابها، ويزيد في زينتها التي جعلت فتنة وبلوى للعباد، وتصير عاقبتها إلى ما قال -الله جل ذكره-: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً}.
293 - حدثنا محمد بن علي الشقيقي، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا ابن عيينة، قال: حدثنا الأحوص بن حكيمٍ، عن راشد بن الحارث، أو(2/96)
غيره، قال: بنى أبو الدرداء رضي الله عنه كنيفاً في منزله بحمص، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: لقد كان لك يا عويمر فيما بنت فارس والروم كفايةٌ عن تزين الدنيا، وقد أذن الله بخرابها، فإذا أتاك كتابي، فارتحل من حمص إلى دمشق.
قال: -يعني-: عاقبه بما بنى.
والبناء مسكن، وهو من الغذاء، وحاجة النفس إلى المسكن كحاجتها إلى المطعم والمشرب والملبس والمركب، فإن كان في نفقته في هذه الأشياء محتسباً، فهو مأجور، فكذلك المسكن إذا كان هذا البناء مما لا يستغنى عنه.
وإنما تأويل هذا الحديث عندنا: إذا بنى لنفسه بناء مرققاً لا يحتسب بها.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((كل نفقةٍ ينفقها العبد على نفسه فهي صدقةٌ)).(2/97)
294 - حدثنا عيسى بن أحمد، قال: حدثنا بقية، قال: حدثني بحير بن سعدٍ، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معد يكرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنفقت على نفسك، فهو صدقةٌ، وما أنفقت على زوجتك، فهو صدقةٌ)).(2/98)
الأصل الخمسون
295 - حدثنا نصر بن عبد الرحمن الوشاء، قال: حدثنا زيد بن الحسن الأنماطي، عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: ((أيها الناس! قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)).
296 - حدثنا نصرٌ، قال: حدثنا زيد بن الحسن، قال: حدثنا معروف بن خربوذٍ المكي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن حذيفة بن أسيدٍ الغفاري، قال: لما(2/99)
صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، خطب فقال: ((أيها الناس! إنه قد نبأني اللطيف الخبير: أنه لن يعمر نبيٌّ إلا مثل نصف عمر الذي يليه من قبل، فإني أظن أن يوشك أني أدعى فأجيب، وإني فرطكم على الحوض، وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفونني فيهما، الثقل الأكبر: كتاب الله سببٌ، طرفه بيد الله، وطرفٌ بأيديكم، فاستمسكوا به، ولا تضلوا، ولا تبدلوا، والثقل الآخر: عترتي، أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير: أنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)).
قال أبو عبد الله: فأهل البيت قوم اصطفاهم الله، وهم كما روي(2/100)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعاهم، ثم تلا هذه الآية: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}.
فذريتهم منهم، فهم صفوةٌ، وليسوا بأهل عصمة، إنما العصمة للنبيين، والمحنة لمن دونهم، وإنما يمتحن من كانت الأمور محجوبة عنه، فأما من صارت الأمور له معاينةً ومشاهدةً، فقد ارتفع عن المحنة.
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض))، وقوله: ((ما إن أخذتم به لن تضلوا)) واقعٌ على الأئمة منهم السادة، لا على غيرهم، وليس بالمسيء المخلط قدوة، وكائن فيهم المخلطون والمسيئون؛ لأنهم آدميون لم يعروا من شهوات الآدميين، ولا عصموا عصمة النبيين، وكذلك كتاب الله من قبل، منه ناسخٌ ومنسوخٌ، وكذلك ما ارتفع الحكم بالمنسوخ منه، كذلك ارتفعت القدوة بالمخذولين منهم، وإنما يلزمنا الاقتداء بالفقهاء والعلماء منهم، بالفقه والعلم الذي ضمن لهم بين أحشائهم، لا بالأصل والعنصر.
وإذا كان هذا العلم والفقه موجوداً في غير عنصرهم؛ لزمنا الاقتداء بهم كالاقتداء بهؤلاء، وقد قال الله تعالى في تنزيله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
فإنما يلي الأمر منا من فهم عن الله، وعن رسوله، ما بهم الحاجة إليه من العلم في أمر شريعته.(2/101)
وكذلك روي عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، وعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية، وهي قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} قال: هم العلماء والفقهاء.
297 - حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا أبو نعيمٍ، عن الحسن بن صالحٍ، عن عبد الله بن محمدٍ بن عقيلٍ، عن جابر بن عبد الله: {وأولي الأمر منكم}. الفقهاء.
فإنما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ترى- إليهم؛ لأن العنصر إذا طاب، كان معيناً لهم على فعل ما يحتاج إليه، وطيب العنصر يؤدي إلى محاسن(2/102)
الأخلاق، ومحاسن الأخلاق تؤدي إلى صفاء القلب، ونزاهته، فإذا نزه القلب وصفا، كان النور أعظم، وأشرق الصدر بنوره، فكان ذلك عوناً له على درك ما به الحاجة إليه في شريعته.(2/103)
الأصل الحادي والخمسون
298 - حدثنا حميد بن الربيع اللخمي قال: حدثنا يزيد بن حيان، قال: حدثني (عمر البزاز جليس حماد بن سلمة)، قال: حدثنا الحسن بن ذكوان، عن عبد الرحمن ابن قيسٍ، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأبدال ثلاثون رجلاً: قلوبهم على قلب إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، إذا مات رجلٌ منهم، أبدل الله مكانه آخر)).(2/105)
299 - حدثنا عمر بن يحيى بن نافع الأبلي، قال: حدثنا العلاء بن زيدلٍ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: البدلاء أربعون رجلاً: اثنان وعشرين بالشام، وثمانية عشر بالعراق، كلما مات واحد، بدل آخر، فإذا كان عند القيامة، ماتوا كلهم.
قال أبو عبد الله: فليس في الحديثين اختلافٌ، إنما هم أربعون رجلاً، ثلاثون منهم: قلوبهم على قلب إبراهيم عليه السلام، كذلك روي لنا عن أبي الدرداء.
300 - حدثنا بذلك عبد الرحيم بن حبيب، قال:(2/106)
حدثنا داود بن محبرٍ، عن ميسرة، عن أبي عبد الله الشامي، عن مكحولٍ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة، أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقال لهم: الأبدال، لم يفضلوا الناس بكثرة صوم، ولا صلاة، ولا تسبيح، ولكن بحسن الخلق، وبصدق الورع، وبحسن النية، وسلامة قلوبهم لجميع المسلمين، والنصيحة لله ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولبٍّ وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء عن الأنبياء، قومٌ اصطفاهم الله لنفسه، واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقاً، منهم ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، بهم تدفع المكاره عن أهل الأرض، والبلايا عن الناس، وبهم يمطرون، وبهم يرزقون، لا يموت الرجل منهم أبداً حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه، لا يلعنون شيئاً، ولا يؤذون من تحتهم، ولا يتطاولون عليهم، ولا يحقرونهم، ولا يحسدون من فوقهم، ولا يحرصون على الدنيا، ليسوا بمتماوتين، ولا متكبرين، ولا متخشعين،(2/107)
أطيب الناس خبراً، وأورعهم أنفساً، وأسخاهم أنفساً، طبيعتهم السخاء، وصفتهم السلامة من دعوى الناس قبلهم، ليسوا بمتخشعين، ولا بمتماوتين، لا تتفرق صفتهم، ليسوا اليوم في حالة خشية، وغداً في حال غفلة، ولكن متداومين على حالهم، وهم فيما بينهم وبين ربهم، ولا يدركهم الريح العاصف، ولا الخيل المجراة، قلوبهم تصعد في السماء ارتياحاً إلى الله، واشتياقاً إليه، قدماً في اشتياقهم الخيرات، {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}.
قلت: يا أبا الدرداء! ما شيءٌ أثقل علي من هذه الصفة التي وصفتها، فكيف لي أن أدركها؟
قال: ليس بينك وبين أن تكون في أوسط ذلك، إلا أن تبغض الدنيا، فإنك إذا أبغضت الدنيا، أقبل عليك حب الآخرة، فبقدر ما تزهد في الدنيا تحب الآخرة، وبقدر ما تحب الآخرة تبصر ما ينفعك وما يضرك، فإذا علم الله صدق الطلب من عبده، أفرغ عليه السداد، واكتنفه بعصمته، وتصديق ذلك في كتاب الله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.(2/108)
فنظرنا في ذلك، فما تلذذ المتلذذون بشيء أفضل من حب الله، وطلب مرضاته.
301 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز ابن المغيرة البصري، قال: حدثنا صالحٌ المري، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة صومٍ ولا صلاةٍ، ولكن دخلوها برحمة الله، وسلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، والرحمة لجميع المسلمين)).
302 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن محمود بن لبيدٍ، عن حذيفة بن اليمان، قال: الأبدال بالشام، وهم(2/109)
أربعون رجلاً على منهاج إبراهيم، كلما مات رجل منهم، أبدل الله مكانه آخر، والعصب بالعراق أربعون رجلاً، كلما مات رجل منهم، أبدل الله مكانه آخر، عشرون منهم على اجتهاد عيسى بن مريم، وعشرون منهم قد أوتوا مزامير آل داود.
العصب: رجال تشبه الأبدال.
وروي عن وهب بن منبه: فيما يحكى في مناجاة موسى -عليه الصلاة والسلام-، عن الله -تبارك اسمه-: أنه قال: هم أربعون صديقاً، كلهم بي ولي وإلي.
وروي في الخبر: أن الأرض شكت إلى الله ذهاب الأنبياء، وانقطاع النبوة، فقال لها: سوف أجعل على ظهرك صديقين أربعين، فسكنت.
فالصديقون إنما بانوا من الخلق بصدق القلوب مع الله، لا بصدق الأعمال مع الملائكة، وهذا مقام القلوب عند الله، قد باينوا الخلق والنفس، والعمال ليس لقلوبهم طريق إلى الله، إنما طريق قلوبهم إلى الثواب، والأنبياء والصديقون من بعدهم قد انكشف الغطاء عنهم، وصار لهم إلى الله طريق حتى يعبدوه، كأنهم يرونه.(2/110)
كما قال صلى الله عليه وسلم: ((اعبد الله كأنك تراه)).
وهو ما وعد الله من هداية السبل للذين جاهدوا فيه، فقال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
ومن جاهد نفسه في ذات الله صدقاً، هداه لسبيله، فقوي على التفويض والتوكل، ألا ترى إلى قول الرسل: {وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا}.
فالتوكل والصبر الصافي، إنما هو للمهدي سبيله، وهو الذي أعطي اليقين، فأشرق صدره بنور مليكه، فصار من الأمور على معاينة، ومن القلب على مشاهدة للنجوى في محل القربة.
فأما العمال: فليسوا من هذا الأمر في شيء، وإنما أعينهم إلى ثوابه وعقابه، وإلى أعمالهم لهما، والصديقون أعينهم إلى الله في كل أمر دنيا وآخرة، فسموا أبدالاً لوجهين:(2/111)
وجه: أنه كلما مات رجل منهم، أبدل مكانه آخر لتمام الأربعين.
ووجه آخر: أنهم بدلوا أخلاقهم السيئة، وراضوا أنفسهم حتى صارت محاسن أخلاقهم حلية أعمالهم ونحلتهم.
وأما قوله في مناجاة موسى صلى الله عليه وسلم: (كلهم بي ولي وإلي) أي: بي يقومون ويقعدون وينطقون، وبي يأخذون ويعطون.
وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن الله تبارك اسمه: ((فإذا أحببت عبدي، كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يأخذ، وبي يعطي، وبي يعقل)).
وقوله: (لي) أي: هم صفوتي، قد بذلوا لي قلوبهم ونفوسهم، فهم لي لا تشركني فيهم نفوسهم.
وقوله: (إليّ) أي: تأوي قلوبهم إلي في كل أمرٍ وسعيٍ وحالٍ.
فأما صفة الثلاثين الذين قال لهم: إن قلوبهم على قلب إبراهيم، فأولئك هم الذين لا تسكن قلوبهم إلى من دونه في شيء من أمر الدين والدنيا، قد ولهت قلوبهم، ووقعت في قبضته.
وأما العصب: فهم المحقون، فمنهم مستعملون على طريق الجهد، ومنهم روحانيون، قد أوتوا من مزامير داود.(2/112)
الأصل الثاني والخمسون
303 - حدثنا محمد بن يحيى المقدمي بن أبي حزمٍ القطعي، قال: حدثنا عمر بن علي المقدمي، عن إسماعيل ابن أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حازمٍ، عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا كان أجل العبد بأرضٍ، أتيت له الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره، فيقبض، فتقول الأرض يوم القيامة: رب! هذا عبدك ما استودعتني)).
قال أبو عبد الله: فإنما صار أجله هناك؛ لأنه خلق من تلك البقعة،(2/113)
وقد قال في تنزيله: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم}. فإنما يعاد المرء من حيث بدئ منه.
304 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد ابن أبي مريم الجمحي، عن عبد العزيز بن محمدٍ الدراوردي، قال: حدثني أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ببعض نواحي المدينة، فإذا بقبرٍ يحفر، فأقبل حتى وقف عليه، فقال: ((لمن هذا؟))، قيل: لرجل من الحبشة، فقال: ((لا إله إلا الله! سيق من أرضه وسمائه حتى دفن في التربة التي منها خلق)).
وروي: أن الأرض عجت إلى ربها لما أخذت تربة آدم عليه السلام منها،(2/114)
فقال: إني سأرد إليك، فإذا مات، دفن في البقعة التي منها تربته، وإنما صارت وديعةً عندها حتى تقول يومئذٍ: رب! هذا عبدك ما استودعتني؛ لأنها عبدت ربها.
فالعبودة: وديعة في الأرض، حتى تبعث للثواب، فيكون الحق أحق به من الأرض؛ لأنه كان والى الحق ونصره، فصار الحق أملك به، فأعاده سوياً، وسلمه إلى الحق؛ ليهديه إلى دار السلام، أو عبد جحد العبودة، وذهب بالرقبة، فهو مسجون في بطن الأرض، للحق عنده تبعة وطلبة حتى يبعثه للعقاب، فيكون الحق أحق به من الأرض، وهو خصمه، وله فيما لديه طلبة وتبعة، فإن الله لم يخلق جسده لعباً، إنما خلقه للحق وبالحق.
وروي في الخبر: أن الملك الموكل بالأرحام يأخذ النطفة من الرحم، فيضعها على كفه، فيقول: يا رب! مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: مخلقة، قال: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ فيقول: انظر في أم الكتاب، فينظر في اللوح، فيجد فيه رزقه وأجله وأثره وعمله، ثم يأخذ التراب الذي يدفن في بقعته، فيعجن به نطفته. فذلك قوله: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم}.
305 - حدثنا بنحو من ذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا عمرٌو القناد، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك وأبي(2/115)
صالحٍ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
306 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيلٍ، عن داود بن أبي هندٍ، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إن النطفة إذا استقرت في الرحم، يأخذها الملك بكفه، فقال: أي ربّ أمخلقةٌ أم غير مخلقةٍ؟ فإن قال: غير مخلقة، لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: أي رب! أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما الأجل، وما الأثر، وما الرزق، بأي أرضٍ تموت؟ فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب، فإنك ستجد هذه النطفة، فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، فتخلق، وتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، فإذا جاء أجلها، ماتت، فدفنت في ذلك المكان.(2/116)
والأثر: هو الثواب الذي يؤخذ، فيعجن به ماؤه.
وسمعت الزبير بن بكار الزبيري المدني وهو يذكر كتاباً صنفه بعض أهل المدينة في فضل المدينة، وكتاباً صنفه بعض أهل مكة في فضل مكة، فلم يزل كل واحد منهما يذكر بقعته، حتى برز المدني على المكي في خلة واحدة، عجز عنها المكي، فقال: إن كل نفس إنما خلقت من تربته التي دفنت فيه بعد الموت، فكأن نفس الرسول صلى الله عليه وسلم إنما خلقت من تربة المدينة، فبان: أن تلك التربة لها فضيلة بارزة على سائر الأرضين.
وروي عن ابن سيرين ما يحقق ذلك.
307 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا بركة ابن محمدٍ الحلبي، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقبري، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي، قال: سمعت ابن سيرين يقول: لو حلفت، حلفت صادقاً بارًّا غير شاكٍّ ولا مستثنٍ: أن الله ما خلق نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا أبا بكر، ولا عمر، إلا من طينة واحدة، ثم ردهم إلى تلك الطينة.(2/117)
الأصل الثالث والخمسون
308 - حدثنا أبو رجاءٍ قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمنٌ)).(2/119)
309 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، وحفص بن عمرٍو، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر مثله.
310 - حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا جنيدٌ الحجام، عن زيدٍ أبو أسامة، عن عكرمة، عن ابن(2/120)
عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
311 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زيدٌ أبو أسامة، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
312 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن فراسٍ، قال: سمعت مدرك بن عمارة يحدث، عن ابن أبي أوفى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.(2/121)
قال أبو عبد الله: فالإيمان: هو الطمأنينة، واستقرار القلب، وإنما هما اثنتان:
فأولى: طمأنينته إن استقر قلبه، وسكن إن وحد ربه، ولم يلتفت إلى شيء سواه، فيتخذه رباً.
وأخرى: طمأنينته أن يكون مقبلاً عليه، فيجمع قلبه، فلا يلتفت إلى شيء من شهوات نفسه، ولا إلى أحوالها، فالذي يزني ويسرق، فهو في حالته تلك غير مطمئن إلى ربه طمأنينة الإقبال، ولو كان كذلك، لم يزن، ولم يسرق، وقد ذهب الإقبال، وجاءت شهوة النفس بالإقبال عليها، وهو في طمأنينة التوحيد.
والإيمان: اسم يلزم العبد بفعله، وبدؤه من النور الذي جعل الله في(2/122)
قلبه، فأحياه به، وشرح صدره، ونطق بتوحيده لسانه {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نورٍ}.
وكل شيء له مبتدأ ونهاية، فأوله لازم ذلك الاسم له، ومنتهاه: وهو البالغ.
فالذي وحد ربه بقلبه ولسانه، وقبل الشريعة: هو مؤمنٌ قد حرم ماله ودمه وعرضه، ثم هو أسير نفسه.
والمؤمن البالغ: الذي ماتت شهوة نفسه، وقطع قلبه عن كل شيءٍ سواه، فهذه قلوب الأنبياء والأولياء.
وللمؤمنين فيما بين هذين الحدين درجاتٌ، كلٌّ يعمل على درجته، فكلهم عبيدٌ قد أقروا له بالعبودة، ولا يفي له بالعبودة الكاملة إلا الأنبياء والأولياء، وذلك أنهم تركوا مشيئتهم في جميع أمورهم لمشيئته، وهكذا صفة العبيد، رفضوا المشيئة في جميع الأشياء، وتركوا الاختيار للأحوال، ولا يقدر على هذا إلا من نور الله الإيمان في قلبه.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حارثة حيث قال له: ((كيف أصبحت؟))، قال: مؤمن حقاً، قال: ((وما حقيقة إيمانك؟))، قال: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وإلى أهل الجنة كيف يتزاورون، وإلى أهل النار كيف يتعاوون، قال: ((عرفت فالزم)). ثم قال: ((من سره أن ينظر إلى عبدٍ قد نور الله الإيمان في قلبه، فلينظر إلى هذا)).(2/123)
قال أبو عبد الله: فإذا امتلأ القلب أو الصدر من النور، كان كما وصفه الله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه}. فكان المؤمن عندهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بهذه الصفة.
ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: وددت أني شعرة في صدر مؤمن.
لما عرفوا غور هذه الكلمة، وأثنى الله -تبارك اسمه- على إبراهيم خليله بعد أن شهد له بالتسليم، حين أراد ذبح ابنه، وهو الإسلام، وشهد له بالإحسان، فقال: {إنه من عبادنا المؤمنين}.
وقال ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب: إن الله إذا أثنى على عبد، فأبلغ في الثناء، قال: {إنه من عبادنا المؤمنين}.
ووصف المؤمنين في تنزيله، فقال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} الآية إلى قوله: {أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم درجاتٌ عند ربهم}.
ومن هاهنا استجاز من قال: الإيمان يزيد، وكما يزيد فإنه ينقص، (سمي الزائد من النور في صدره إيماناً، وما ينقص فمنه ينقص).
والأصل الذي منه بدأ التوحيد قائم، فبأقل النور يصير موحداً، فاطمأن به وعبده رباً، وهو إيمانه، حتى إذا نما النور، وامتلأ القلب، وأشرق الصدر(2/124)
منه، اطمأن إلى جميع مشيئاته، وأحكامه وأموره، كما اطمأن به، ومن قبل هذا لم يقدر أن يطمئن إلى مشيئاته وأحكامه؛ للشهوات المستولية على قلبه، فلما امتلأ القلب من نوره خشيةً ومهابةً، ودخلت عظمته في قلبه، ماتت شهواته، وذهلت نفسه، فاطمأنت النفس، وسكن القلب، وعليه الخشية والرهبة والهيبة والحياء، وسكن قلبه على تدبيره وأحكامه وأقضيته، كما سكن على توحيده في بدء الأمر.
فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة، وكانوا إذا قالوا: مؤمن، فإنما يسمون ما يعرفون من أنفسهم، وكان بعضهم في تخليط من هذا، ألا ترى أنه لما هاجت الفتن ووقع التخليط، قال حذيفة: لو رميت بصخرةٍ من أعلى المسجد والناس في المسجد، ما أصابت مؤمناً، فلم يكن عندهم كفارٌ لما أحدثوا، ولكن زلوا عن تلك الدرجة التي كانوا يسمون أهلها بذلك الاسم.
ومما يحقق ما قلنا:
313 - ما حدثنا به قتيبة بن سعيدٍ، عن مالك بن أنسٍ، عن ابن شهابٍ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالكٍ: أن أباه كعب بن مالكٍ كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إنما نسمة المؤمن طائرٌ يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله يوم القيامة إلى جسده، ثم يبعثه)).(2/125)
فليس هذا لأهل التخليط فيما نعلمه، إنما هذا للصديقين، فكان اسم المؤمن عندهم هكذا.
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ)) إنما يعني بذلك: الإيمان البالغ، لا أنه يذهب توحيده، ويكفر، وإنما يتأول مثل هذا جهال الناس، وحمقاؤهم، ولو كفروا بذلك، وزال عنهم الإيمان، لكان حدهم القتل، وحدودهم جلد مئة في الزنا، وقطع اليد في السرقة.
ولكن تأويل ذلك الحديث: أنه إذا زنى المؤمن، فهو في ذلك قد فقد نور إيمانه، وحجبته شهوته التي حلت به عن ذلك النور حتى وقع فيه، فسلب ذلك النور، وصار محجوباً عن الله، فلما تاب، راجعه النور، وذلك النور هو الذي يسمى إيماناً؛ لأنه اطمأن بذلك إلى ربه، فذهبت طمأنينته في وقت استعمال الشهوة، فاطمأن إلى شهوته.(2/126)
فالعبد عندما أدركته الهداية من ربه قد كان من قبل ذلك قلبه في تردد وجولان، طالباً لمن يتخذه رباً ويعبده، فلما جاءت الهداية، واستنار القلب وسكن، واطمأنت النفس عن الجولان والتردد في طلب معبوده، فقيل في قالب العربية: آمن يؤمن إيماناً، وهو في قالب العربية: أفعل.
ومن الخوف قيل: أمن؛ لأنه كان يضطرب، فلما ذهب الخوف، سكن، فقيل: أمن على قالب فعل، فكلما ازداد العبد نوراً، ازداد سكوناً وطمأنينة عند أموره وأحكامه.
ومن قبل ذلك: كان الغالب على قلبه شهوات نفسه، فكان القوم إذا ذكروا المؤمن، يعلمون أن ذلك المؤمن الذي قد اطمأن قلبه عند أموره وأحكامه إليه.
ومن هاهنا:
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: مثل الإيمان مثل قميصك، بينا أنت لبسته إذ أنت نزعته.
314 - حدثنا عيسى بن أحمد، قال: حدثنا بشر بن بكرٍ، قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن بلال بن سعدٍ، عن أبي الدرداء، قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني، قال: اجلس يا عويمر فلنؤمن ساعة، فنجلس، فنذكر الله(2/127)
بما شاء، ثم يقول: يا عويمر! هذه مجالس الإيمان، إن مثل الإيمان ومثلك مثل قميصك، بينا أنت قد نزعته، إذ لبسته، وبينا أنت لبسته، إذ نزعته، يا عويمر! القلب أسرع تقلباً من غلي القدر إذا اجتمعت علينا.
315 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا سليمان ابن سلمة الحمصي، قال: حدثنا (بقية بن الوليد، قال: حدثنا) عتبة بن عبد الله بن خالد بن معدان، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إنما الإيمان بمنزلة القميص، مرةً تقمصه، ومرةً تنزعه)).(2/128)
316 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال:
لم يزن عبدٌ قط إلا نزع نور الإيمان منه، ثم إن شاء رده، وإن شاء منعه.(2/129)
317 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن أسلم، قال: سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول:
ليأتين على الرجل أحايين، وما في جلده موضع إبرةٍ من النفاق، وليأتين عليه أحايين، وما في جلده موضع إبرةٍ من الإيمان.
قال: فإنما يخلو منه ذلك النور المشرق في صدره، وأما إيمان التوحيد، فهو بمكانه.
وقول ابن عباس حيث قال: لم يزن عبد قط إلا نزع عنه نور الإيمان، يدل على تفسير حديثه الذي رواه: ((لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمنٌ)).
وفي قوله: (حين يزني) فإنما ذكر الحين، وهو وقت الفعل، ففيه دليل أنه في ذلك الوقت صار محجوباً عن النور وزايله.(2/130)
318 - حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا أبو شهابٍ، عن أبي حمزة، عن الحسن، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمنٌ))، قيل: يا رسول الله! وكيف يصنع إذا واقع شيئاً من ذلك؟ قال: ((إن راجع، راجعه الإيمان، وإن ثبت، لم يكن مؤمناً)).
319 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن يونس، عن طلحة بن يزيد، عن عبد الله بن محرزٍ، عن عطاءٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني(2/131)
حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمنٌ، ولا يقتل وهو مؤمنٌ، فإذا فعل ذلك، نزع منه نور الإيمان كما ينزع منه قميصه، فإذا تاب، تاب الله عليه)).
فإنما خفي شأن هذا، وذهاب هذا النور من القلوب، ورده عليه؛ لأن فتن القلوب قد عمت، والصدور قد شحنت بظلمة الإصرار على الذنوب؛ من المآكل الرديئة، والمكاسب الدنسة، والأخلاق البذلة الفاسدة، والحقد والغلو، والغل والغش، والحرص على الدنيا، فقد غمر هذا الخلق، فكيف يتبين عندهم ذهاب النور ومجيئه؟(2/132)
320 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد ابن عفيرٍ المصري، قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة بن عقبة، عن دراجٍ، عن أبي الهيثم سليمان بن عمروٍ العتواري، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، والذين يأمنهم الناس على أنفسهم وأموالهم، والذين إذا أشرفوا على طمعٍ، تركوه لله)).
فالجزء الأول: هم الظالمون لأنفسهم، آمنوا، ثم لم يرتابوا في إيمانهم، لكنهم ضيعوا العبودة، واستوفوا الرزق، واكتالوا النعم بالمكيال الأوفى، وكالوا الطاعات بكيل البخس، فهم من المطففين، فهم الظالمون.
والجزء الثاني: قد أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم؛ لأنه متقٍ مستقيم، وهو المقتصد.(2/133)
والجزء الثالث: تركوا الهوى وشهوة النفس، والتدبير له في جميع أحوالهم، فهم المقربون.
وذلك مثل ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أتي بشراب قد خيض بعسل، فتركه، ثم قال: ((أما إني لا أحرمه، ولكن أتركه تواضعاً لله تعالى)).
321 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا أحمد ابن محمد بن شريكٍ الحمصي، قال: حدثنا بقية، عن بحير بن سعدٍ، عن خالد بن معدان، عن كثيرٍ بن مرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة -رضي الله عنها-: ((أطعمينا يا عائشة))، قالت: ليس عندنا طعام، قال: ((أطعمينا يا عائشة))، قالت: والله! ما عندنا من طعام، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! إن المرأة المؤمنة لا تحلف أنه ليس عندها طعام وهو عندها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما يدريك أنها مؤمنةٌ؟ إن المرأة المؤمنة من النساء كالغراب الأعصم في الغربان، وإن النار خلقت للسفهاء، وإن النساء من(2/134)
السفهاء، إلا صاحبة القسط والسراج)).
قال أبو عبد الله: يعرفك في هذا الحديث: أن المؤمن في ذلك الوقت بأي صفة كانت عندهم.
فأما قوله: (صاحبة القسط والسراج).
والقسط: العدل، وهو الذي على سبيل استقامة، وهو المقتصد، والقسط، والقصد بمعنى واحد، إلا أن هذا مستعمل في نوعٍ، وذاك في نوع؛ كما قيل: توكيل وتفويض، وكلاهما بمعنى واحد، إلا أن التوكيل في أبواب الرزق يستعمل، والتفويض في سائر الأمور.
فالقسط: العدل في أموره، والقصد: هو الذي يأخذ من كل أمر وسطه، وهو الذي أمر به.
وأما قوله: (السراج)، وهو اليقين، إذا رزق اليقين، فقد أشرق في(2/135)
قلبه، فقلبه يزهر.
ومنه قول حذيفة: قلب أغلف، وهو قلب الكافر، وقلب مصفح، وهو قلب المنافق، وقلب أجرد أزهر، وهو قلب المؤمن، فإنما يزهر بالسراج الذي فيه.
322 - حدثنا عمر بن أبي عمر قال: حدثنا محمد ابن مخلد الرعيني أبو أسلم التنيسي، عن غنم بن سالم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما شبهت خروج المؤمن من الدنيا إلا مثل خروج الصبي من بطن أمه من ذلك الغم والظلمة إلى روح الدنيا)).(2/136)
فالمؤمن الذي هو بالغ في إيمانه، الدنيا سجنه، وهي مظلمة عليه ضيقة حتى يخرج منها إلى روح الآخرة، وهذا غير موجود في العامة، إنما ذكر المؤمن ووصفه بذلك؛ ليعلم: أن المؤمن عندهم البالغ في إيمانه.
وهو كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ما كفرتم فنتبرأ منكم، ولا عندكم إيمانٌ بالغٌ فنحبكم عليه، وما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولا أرى الله إلا قد تخلى عنكم.
323 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا بشر بن عبيدٍ الدارسي، عن بكر بن خنيسٍ، عن يزيد بن أبي مالكٍ، عن مسلمٍ كاتب أبي الدرداء رضي الله عنه، عن أبي الدرداء قال: ما لكم لا تحابون، وأنتم إخوان على الدين، ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم في أمر، تحاببتم، ما هذا إلا من قلة الإيمان في صدوركم، ولو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بأمر الدنيا، لكنتم للآخرة أطلب؛ لأنها أملك بأموركم،(2/137)
فبئس القوم أنتم إلا قليلاً منكم، ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم، وما كفرتم فنتبرأ منكم، وعامتكم تركوا كثيراً من أمر دينهم، ثم لا يستبين ذلك في وجوههم، ولا يعتبر حالاتكم، ما هذا إلا شرٌّ حل بكم، وإني لأرى الله قد تخلى عنكم، فأنتم تخطئون، وتمنون الأماني، والله! إني أستعين على نفسي وعليكم.
فإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ))؛ أي: بذلك الإيمان البالغ.
فأما إيمان التوحيد، فهو معه، وإنما زال عنه النور، ألا ترى إلى قول أبي الدرداء رضي الله عنه: وإن زنى وإن سرق؟ فلو كان زناه وسرقته تخرجه من إيمانه، لم يدخله الجنة.
324 - حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا إسماعيل ابن جعفرٍ المدني، عن محمد بن أبي حرمة، عن عطاء بن(2/138)
يسارٍ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (({ولمن خاف مقام ربه جنتان})). قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: (({ولمن خاف مقام ربه جنتان}))؛ قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: (({ولمن خاف مقام ربه جنتان})). قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ [قال]: ((وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي الدرداء)).
325 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا القاسم العمري، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن القعقاع بن حكيمٍ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.(2/139)
قال أبو عبد الله: ومما يحقق ما قلنا: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين)).
326 - حدثنا بذلك قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ليث بن سعدٍ، عن عقيلٍ، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين)).
327 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الفضل بن دكينٍ، قال: حدثنا زمعة بن صالحٍ، عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين)).(2/140)
328 - حدثنا الخصيب بن سالم، قال: حدثنا شيخ من أهل المدينة، قال: حدثنا الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
329 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا أبي، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله: فالمؤمن المخلط قد يلدغ مرات، وهو لسكره لا يجد لوعة اللدغة، وقد عمل فيه حمة السم، فلو قد أفاق، لاحتاج إلى من يمسكه من الاضطراب والتلوي، وإنما عنى بقوله المؤمن: ذلك البالغ(2/141)
الذي قد وقف به حذره على أمر عظيمٍ؛ كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
330 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: عثمان بن زفر، قال: حدثنا حصين بن عمر الأحمسي، عن مخارقٍ، عن طارق ابن شهابٍ، قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما، عن أبي بكر رضي الله عنه، فقال: كان كالخير كله من رجل، كان فيه حدةٌ، وسئل عن عمر رضي الله عنه فقال: كان كالطير الحذر الذي يرى أن له في كل طريق شبكةً تأخذه.
فالمؤمن البالغ إذا وقع في الخطيئة، أخذ بكظمه، ووجع قلبه، وتمرر عيشه، وقلقت نفسه، فهو يلتوي كاللديغ يتململ ندماً، وتحسراً، ولهفاً، وأسفاً، يبيت ساهراً، ويظل نائحاً، فقد أنكت منه هذه الخطيئة بسمها، فكأنها قد أيقظته من الغفلة، ولا يواقع تلك الخطيئة، ولا يعود إلى أسبابها حذراً.
فقوله: (لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين) تمثيل: أن لا يعود إلى أسباب تلك الخطيئة؛ مخافة أن يقع فيها، وهذا لمن لدغته الخطيئة،(2/142)
وعمل فيه سمها؛ كما فعل يوسف -صلوات الله عليه- بعد الهم، كان لا يكلم امرأة حتى يرسل على وجهه ثوباً.
331 - حدثنا محمد بن عبيد الله الربعي، عن مجاشع ابن عمرٍو، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: كان يوسف عليه السلام إذا جاءته امرأة تستفتيه، ألقى على وجهه ثوباً؛ مخافة أن تفتتن.
332 - حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، عن مجالدٍ، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيسٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها حين جاءته بعد ما طلقها زوجها. فقال بيده على وجهه، فاستتر به، وذلك بعدما لقي من شأن زينب ما لقي.(2/143)
فأما مؤمنٌ عمل بالخطيئة فلم تلدغه، ولم يتبين فيه عمل سمها؛ لأنه سكران، قد أسكرته شهوات الدنيا، ومات قلبه عن الشعور بذلك، فمتى يحذر حتى لا يلدغ؟
وسم الخطيئة: هو الظلمة التي تتراكم في صدره على قلبه، فتحجبه عن ربه، فيصير قلبه محجوباً عن الملكوت.
وهو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: لنفس المؤمن أشد ارتكاضاً في الخطيئة من العصفور حين يغدف به.
والإغداف: الإرسال، يعني: إرسال الشبكة عليه.
وقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن المؤمن إذا أذنب، فكأنه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه فتقتله، والمنافق ذنبه كذباب مر على أنفه.
وقوله: لا تجد المؤمن بخيلاً، ولا تجد المؤمن جباناً، ولا تجد المؤمن كذاباً.(2/144)
333 - حدثنا العباس بن أيوب الزبيري، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا صدقة بن موسى أبو المغيرة الدمشقي، قال: حدثنا مالك بن دينار، عن عبد الله بن غالبٍ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خصلتان لا تجتمعان في مؤمنٍ: البخل، وسوء الخلق)).
فهذه الخصال كلها موجودة في الموحدين، فإذا ذكروا المؤمن، فإنما يعنون به: الذين ذكرهم الله بأنهم مؤمنين حقاً، وصير لهم الدرجات(2/145)
في الجنة، بما ترقوه من درجات الإيمان.
334 - حدثنا عمر بن أبي عمر قال: حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل وعارض، عن أبي هلالٍ الراسبي، قال: حدثنا بكر بن عبد الله المزني: أن الحواريين طلبوا عيسى بن مريم، فقيل لهم: توجه إلى البحر، فجاؤوه وهو يمشي على الماء، يرفعه الموج ويضعه، فقال أفضلهم: ألا أجيئك يا رسول الله! فأدخل رجله في الماء، ورفع الأخرى، فقال: أدركني فقد غرقت، قال: فقال: تعال يا قصير الإيمان، أو قال: هات يدك يا قصير الإيمان، لو أن لابن آدم مثقال حبة من خردل من اليقين، مشى على الماء.
335 - حدثنا عمر، قال: حدثنا الحسين بن الربيع، عن ابن المبارك، عن عبد الله بن شوذبٍ، عن محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيلٍ، عن هذيلٍ بن شرحبيل، عن(2/146)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض، لرجح إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض.
336 - حدثنا عمر، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، عن بقية بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، عن مريح بن مسروق، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: تزعمون أنكم مؤمنون، وفيكم مؤمنٌ جائع؟!
337 - حدثنا عمر، قال: حدثنا يحيى بن جعفر الرازي، عن الحكم بن نافعٍ، عن عبد الرحمن المكي، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: سمعت وهب بن منبهٍ يقول: اسمع أي أخي إلى ما أصف لك من صفة المؤمن، وجدت في التوراة: المؤمن الذي إلى الإسلام هدي، وبالإقرار بدئ، ظاهر الإيمان بدنه، على الإيمان بني، وذلك: لأنه(2/147)
عالم بالعلم، ناطق بالحكم، صادق بالفهم، ورعٌ عن الحرام، بين الإعلام، كثير السلام، لين الخطاب، قريب المعروف، سريع الرضا، بعيد السخط، يعلم إذا أفهم، فإذا علّم علم، ويكف إذا شتم، إن صحبته تسلم، وإن شاركته تغنم، وإن فارقته تندم، وإن سمعت منه تتعلم، كثير الوقار، مكرم للجار، مطيعٌ للجبار، قلبه بمعرفة الله زاهرٌ، ولسانه بذكر الله غازر، وبدنه لطاعته ساهر، فهو من نفسه في تعبٍ، والناس منه في أربٍ، فمثله كمثل الماء؛ لأن الماء حياة الأشياء كلها، فكمال المؤمن، الرضا، وعمله، التقى، مبغض للدنيا، قليل المنى، فاني البناء، صادق اللسان، صابر البدن، قانع القلب، إن ائتمن أمانةً أداها، وإن ائتمن هو غيره لم يتهم، أبٌ لليتيم، وللأرملة رحيمٌ، وإلى الجنة مشتاقٌ، وبالوالدين غير عاق، له حلم يرضى، وعقل ينمى، كلامه منفعة، ومجاورته(2/148)
رفعة، إن استكتمته كتم، وإن استطعمته أطعم، جوادٌ لله بالعطاء، وللناس بحسن الخلق والرضا، إن استقرض أدى، وإن سئل أعطى، إن كان فوقك اتضع، وإن كان دونك اعتدل، فمثله كمثل شجرة ثبت أصلها، وجاد فرعها، وكثر ثمرها، فمن رآها، رغب فيها، لا يأخذ شيئاً -إن أخذه- رياءً، ولا يتركه -إن تركه- حياءً، بل أخذه لله سالماً، وتركه لله غانماً، محاسبٌ نفسه، ناظرٌ في عيوبه، مستقصٍ لعمله، إن كان محسناً، يخاف على نفسه أن لا يقبل منه، وإن كان مقصراً، يخشى أن لا يغفر له، وإن كان فاضلاً، كان شاكراً، لا يظلم، ولا يأثم، ولا يتكلف، بينٌ تدبيره، كثيرٌ عمله، قليل زلَله، سهلٌ أمره.
338 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا حكامة بنت عثمان، قالت: حدثنا أبي، عن مالك ابن دينارٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(2/149)
((الورع سيد العمل، من لم يكن له ورعٌ يرده عن معصية الله إذا خلا بها، لم يعبأ الله بسائر عمله شيئاً)) فذلك مخافة الله في السر والعلانية، والاقتصاد في الفقر والغنى، والصدق عند الرضا والسخط، ألا وإن المؤمن حاكمٌ على نفسه، يرضى للناس ما يرضى لنفسه، والمؤمن حسن الخلق، وأحب الخلق إلى الله أحسنهم خلقاً، ينال بحسن الخلق درجة الصائم القائم، وهو راقد على فراشه؛ لأنه قد رفع لقلبه علم، فهو يشهد مشاهد القيامة، يعد نفسه ضيفاً في بيته، وروحه عارية في بدنه، هو المؤمن حقاً، ليس بالمؤمن حقاً حملانه على نفسه، الناس منه في عفاءٍ، وهو من نفسه في عناءٍ، رحيمٌ في طاعة الله، بخيلٌ على دينه، حييٌّ مطواعٌ، وأول ما فات ابن آدم من دينه الحياء، خاشع القلب لله، متواضعٌ قد برئ من الكبر، قائم على قدمه، ينظر إلى الليل والنهار، يعلم أنهما في هدم عمره، لا يركن إلى الدنيا ركون الجاهل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا جرم أنه إذا خلف الدنيا خلف ظهره،(2/150)
خلف الهموم والأحزان، ولا حزن على المؤمن بعد الموت، بل فرحه وسروره مقيمٌ بعد الموت)).
فمن كانت هذه صفته، فلدغ من جحر المعاصي مرةً، كان ذلك الجحر حينئذٍ نصب عينيه أبداً، فمتى يمر به، حتى يلدغه ثانيةً؟ فإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجعته المعصية حتى أسهر ليله مما حل بقلبه من وجع الذنب، ووقع في العويل، كما ترى الذي يفارق محبوبه من المخلوقين بموتٍ أو غيبةٍ إلى بلده، فيفجع لفراقه، فيقع في النحيب والعويل بمصيبته بفراقه، فالمؤمن لما أصاب الذنب، حل به أكثر من المصاب بفراق المخلوقين، فألم القلب الذي حل به هو لدغة المعصية،(2/151)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن لا يلدغ مرتين من جحرٍ واحدٍ)).
أي: إن هذا الأمر قد لدغه مرةً فأوجعه، فوجع ذلك تذكرةٌ له من الغفلة في ذلك، حتى لا يقع قلبه فيه ثانية؛ أي: إن هذا صفة المؤمن وشرطه حتى يستحق اسم الإيمان.
339 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن حفص الطلحي، عن شيبان، عن يحيى بن أبي كثيرٍ: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه لحماً، فقال: ((أوليس قد ظللتم من اللحم شباعاً؟))، فقالوا: (من أين؟ فوالله!) ما لنا باللحم عهدٌ منذ أيامٍ، قال: ((من لحم صاحبكم الذي ذكرتم))، فقالوا: يا نبي الله! إنما قلنا: والله! إنه لضعيفٌ، ما يعيننا على شيءٍ، قال: ((وذلك، فلا تقولوا)). فرجع الرجل إليهم، فأخبرهم بالذي قال، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فقال: يا نبي الله! طأ على صماخي، واستغفر(2/152)
لي، ففعل، وجاء عمر رضي الله عنه فقال: يا نبي الله! طأ على صماخي، واستغفر لي، ففعل.
فهكذا تكون اللدغة، ألجأته الخطيئة إلى أن فزع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى نفسه في التراب بين يديه تذللاً، وأن يطأ بقدمه على صماخه، فهذا شأن المؤمن البالغ، وأما الذي يلزمه اسم المؤمن، فيحرم ماله، وعرضه، ودمه، فهم الموحدون.
340 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصمٍ، عن زر بن حبيشٍ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمنٌ)).(2/153)
الأصل الرابع والخمسون
341 - حدثنا معبد بن مسرورٍ العبدي، قال: حدثنا الحكم بن سنان أبو عونٍ القربي، قال: حدثني زيادٌ النميري، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول تحفة المؤمن أن يغفر لمن صلى عليه)).(2/155)
قال أبو عبد الله: فالمؤمن كريم على ربه، ومقدمه على رب كريمٍ، فمن شأن الملوك أن أحدهم إذا قدم عليه بعض خدمه من سفرةٍ طالت غيبته فيها، أن يتلقاه ببشرى وكرامة، وأن يخلع عليه، ويبسط معه، ويجيزه بالجائزة السنية، ويأمر بأن يهيأ له نزل، كذلك أرانا ربنا من تدبيره لملوك الدنيا، فإذا قدم عليه المؤمن، لقاه روحاً وريحاناً، وبشرى على ألسنة الرسل.
وهو قوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}، ثم يأمر له في قبره بكسوة من فراش ودثار ورياحين، وهو قوله: {ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون}، وينور له في مضجعه، ويؤنسه بملائكته الكرام.
فهذه كلها تحفة إلى أن يلقاه في عرصة القيامة، فيبعث به إلى الموطن الذي هيأ له نزلاً، فأول تحفة أن يغفر لحملته إلى بابه، والمصلين عليه؛ لأنهم قد حملوه على أعناقهم تعظيماً له وإكراماً، وتقربوا بالصلاة عليه إليه، فاستوجبوا من الله المغفرة، وجعل تلك المغفرة تحفة لهذا المؤمن الذي قدم عليه، وإن الرجل من عرض الناس لتحمل إليه الهدية، فيستحي أن ينصرف عنه الحامل لتلك الهدية خائباً، حتى يناوله شيئاً.
وإذا رده كذلك، كان في ذلك هجنة له عند الخلق، فكيف بالملك من ملوك الدنيا إذا أهدي له هدية، فانصرف الرسول عنه صفر اليدين؟! فإذاً(2/156)
يقال له: أوليس من شأن الملوك أنهم يأنفون من أن يردوه إلى المهدي خائباً؟ أوليس في ترك ذلك ترك كرامة المهدي في إعطائه براً ولطفاً وكرامة للمهدي؟
فكذلك هؤلاء الحملة لهذا المؤمن إلى الله، فإن هذا المؤمن أخرجه الله إلى الدنيا، فمن عليه، وهداه، فما زال يقطع عمره في إرضاء الحق، وإن زلت قدمه، رجع إلى الله تائباً نادماً، فاستوى على أطراف قدميه من اليقظة والانتباه والأخذ بالحزم، والمنة كانت لله عليه في ذلك كله، ولكن الرب -تبارك اسمه- نسب سعيه إليه، ومدحه على ذلك، وأثنى عليه، ووعده عليه حسن المثوبة، فلما مات، غسلوه وطيبوه وكفنوه، وحملوه هدية إلى الحق، فقبله الحق، فأداه إلى الرحمة، وصار الحق والرحمة ولييه، فينجزا له من الله المغفرة لمن حمله، ولم يخيبا الحملة، ولم يستجيزا أن يتركا الحملة، فيصرفون على حمل مثل هذه الهدية خائبين.
342 - حدثنا الجارود بن معاذٍ، قال: حدثنا سعيدٌ القداحي، عن مروان بن سالمٍ، عن العرزمي، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: أول ما يجازى به العبد أن يغفر لمن صلى عليه.(2/157)
قال سعيد: يعني: أهل الجنازة.
والتحفة عندنا: هي الطرفة، والهدية: هي العطية، ومعناهما قريبٌ، إلا أن بينهما فرقاً في نكتة.
فالهدية: ما تعطيه لتستميل به، والهدي: الميل، ومنه قوله: مشى يتهادى؛ أي: يتمايل، ومنه سمي الهدي؛ لأنه يميل بقلبه إليه.
والطرفة: هي الشيء تعطيه بعد الاستمالة، وبعد أن صار له ولياً وثقةً، فهو يطرفه بشيءٍ يريد أن يحليه بذلك، كالسكر على رأس الأرز، (ونحوه، فالأرز طعام، والسكر حليته وطرفته، يريد بذلك بره، فذلك البر أعظم من الأرز))، ومن جميع تلك الأطعمة بن يديه.
فكذلك المؤمن قد أعد الله له دار السلام مستقراً ومسكناً دائماً ملكه(2/158)
فيها، ثم هو -تبارك وتعالى- في جلاله وعظمته ومجده وبهائه يريد أن يبر عبده المؤمن لحبه إياه بشيء يطرفه؛ ليتجدد عليه جميع النعم بها، فيبره بشيء ليس عنده في مدائنه وقصوره وجنانه، فكذلك البر عنده أعظم موقع وسرور حتى يمتلئ فرحاً، ويبره هاهنا بطرف.
فمن طرفه ما جاء في الخبر: إذا أراد الله أن يتحف عبده المؤمن، سلط الله عليه من يظلمه.
لأن بلوى الدنيا كثيرة؛ من الأمراض، وألوان المصائب، وللنفس فيها فجعةٌ، ثم يرجع إلى ربه في أن هذا صنعه وتدبيره، فإذا ظلم، اشتدت فجعته، ووجد القلب من الألم عليه لما يتضاعف من اللوعة فيه، فتلك الأمراض والمصائب هدايا من رب العالمين.
والظلم: تحفةٌ قد أطرفه الله بها.
والطرفة: هو شيء يكون في الأحايين مرةً شيئاً لم يكن عنده مثله، فالظلم هو شيء لم يكن يجري عليه في أحواله من المصائب، فإذا أراد أن(2/159)
يطرفه؛ بأن يجدد له شيئاً لم يكن عنده، سلط عليه من يظلمه، فذاك تحفته له.
وقد سلط على يحيى بن زكريا -صلوات الله عليه- من ذبحه ذبحاً.
فليس هذا مما يجري في بلوى أهل الدنيا ومصائبهم، هذا شيء نادر شاذ محدث لعبده، حشو تلك الطرفة بره، وحشو ذلك البر حبه لعبده.
فالجنة مسكن المؤمنين ثواباً لأعمالهم، فإذا أراد أن يتحفهم، بعث إليهم بطرائف ليس عندهم مثلها، فتلك تحفتهم، وكذلك في دار الدنيا قد هيأ للمؤمنين أموراً من طاعته يوفقهم لها، فإذا أراد أن يتحف أحداً منهم، سلط عليه ظالماً، ثم يرزقه الرضا بذلك، فيكتبه في ديوان أهل الرضا حتى يوجب له غداً رضوانه الأكبر.
هذا لمن جعلت الجنة له ثواباً، ومن جعلت الجنة له هدية، فتحفته من مجالسه، ومن لطفه في تلك المجالس، والله أعلم.(2/160)
الأصل الخامس والخمسون
343 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يهرم ابن آدم، ويشب منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر)).(2/161)
قال أبو عبد الله: فالحرص: لهبان الشهوة، وهو الذي يستفز الآدمي، ويعجله، ويحير عقله، ويخمد نوره، ويغلي في صدره.
والشهوة نارٌ ذات دخانٍ، فكلما زدت النار وقوداً، ازدادت نوراً وتلهباً، واستجرت تلظياً.
فإنما ذكر المال؛ لأنه رأس الشهوات، وبه تنال جميع الشهوات، وإنما سمي مالاً؛ لأنه يميل بالقلب عن الله.
وإنما ذكر العمر؛ لأنه بدوام العمر تدوم له الشهوات، وبالعمر يملك المال، فإذا ذهب العمر، زال المال، وتعطلت الشهوات، فوجدت نفس ابن آدم لذة الشهوات، ولذة دوام العمر، فتشبثت به، واستأثرت القلب، فذهبت بالرقبة، فإذا هو عبد آبق هارب من مولاه، تنكب على وجهه، فجسده في إدبار ونقصان، وفي نقصان من القوة، ووجود اللذة، وقضاء الشهوة هرم، والهرم الخالي من الأشياء، قد خلت طبائعه من الحرارة والقوى، وقحل جلده؛ لانتشاف الحياة ماء جلدته، فاصفرت جلدته، ورق عظمه، وانتشف النقص ماء شبابه، وهو في ازدياد من الحرص على هذين(2/162)
لا يزالان يشبان منه حتى ينفد عقله، ولا يطفئ لهبان الحرص إلا الإيمان بالله، فكلما ازداد العبد إيماناً بربه، وطمأنينته إليه، وكلما ازداد من الثقة بربه، ازداد به غنًى، ومن استغنى بالله، فهو الغني وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)).
344 - حدثنا بذلك عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا استغنت النفس بالله لما ولج في الصدر من نور اليقين المنشرح به صدره، صار عرض الدنيا فضلاً.
345 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا المسعودي، عن أبي عمر، عن مكحولٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نفس ابن آدم شابةٌ ولو التقت ترقوتاه(2/163)
من الكبر، إلا من امتحن الله قلبه للتقوى، وقليلٌ ما هم)).
فهذا قد كشف عن معنى ما ذكرنا، وذلك أن النفس معدن الشهوات، فهي شابةٌ؛ لأن تلك الشهوات بمنزلة النار لا تزال متوقدة ما زالت واجدة للحطب، فإذا أمسك عنها الحطب، طفئت، فخمدت، فكذلك شأن النفس، لا تزال رطبةً متوقدة تجر شهواتها متلظية بحرها، ما دامت واجدة للنعم، فإذا أمسك عنها، ذبلت، ويبست، فإذا امتحن الله قلباً للتقوى، قوي صاحبه على الامتناع من قضاء الشهوات واللذات، فولج النور قلبه، وانشرح الصدر، ودخلت الخشية، وجاءت الأحزان، ودامت الفكر فيما أمامه(2/164)
من الخطر الصعب العظيم، وعظائم الأهوال، فهم الذين استثناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تشب نفوسهم وهي شهواتهم، وقليل ما هم.
والامتحان هو: أن يستخرج سره، والسر: هو النور الذي قذفه في قلبه، فإذا استقر ذاك في قلبه، وأشرق في صدره، صار ذلك وقايةً له من جميع مكاره الآخرة، فقيل: تقوى، وإنما هو: وقوى، وحولت الواو تاء، ومأخذه: من الوقاية، فإذا فعل ذلك، فقد امتحنه؛ أي: استخرج سره للوقاية التي في صدره وقلبه؛ لأنه يظهر على الأركان بالأفعال المحمودة المرضية.
فالنفوس شابة وإن هرمت الجوارح، وانهدت الأركان؛ لدوام التنعم بالمال والعمر، إلا هذه الطبقة الممتحنة التي استثناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفوسهم هرمت في وقت شبابهم، وحداثة أسنانهم؛ لأن شهواتهم قد ذبلت وضعفت بما ولجت تلك القلوب من الخشية والأحزان لما اطلعوا عليه بقلوبهم من علم الملكوت، ولعلمهم بالله صاروا سبياً من سبيه، والمشغوف سبي من به شغف، فإذا شغفت بدنيا، فأنت سبيها، وإذا شغفت بالآخرة، فأنت سبيها، وإن شغفت بالخالق، فأنت سبيه، ومن استولى على قلبك شأنه، فأنت له، هذا جملة الكلام.
وإن ابن آدم ركب في طبعه أن لا تزال نفسه تجمح في طلب شيء، حتى إذا اطلع على أفضل منه، رفضت هذه، وأقبلت على الأفضل، فلا يزال طالباً،(2/165)
حتى إذا اطلع على الآخرة، رفض هذه، وأقبل عليها، فلا يزال لها طالباً، حتى إذا طالع الملكوت، أقبل على مولاه، ولها عن ذكر الدارين، واشتغل بالماجد الكريم، فرآه سلس القياد، منكسر القلب، قد أخذت الأحزان بمجامع قلبه، فقطعته عن فكر الدنيا وأهلها، وما هم فيه، فهو حبيس الله في سجنه.
وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)).
والمسجون: عينه إلى الباب، يراقب دعوة متى يدعى فيجيب.(2/166)
الأصل السادس والخمسون
346 - حدثنا موسى بن محمدٍ المسروقي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الإفريقي، عن عبد الله بن نافعٍ: أن أبا سعيدٍ الخدري حدثه: أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن لله -تبارك اسمه- ثلاث مئةٍ وخمسة عشر شريعةً، يقول الرحمن: وعزتي! لا يأتيني عبدٌ من عبادي لا يشرك بي شيئاً بواحدةٍ منهن، إلا أدخلته الجنة)).
قال أبو عبد الله: فالرسل: ثلاث مئة وخمسة عشر، لكل رسول شريعة،(2/167)
فقال في تنزيله: {لكلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً}.
وقال: {ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها}.
وإن الله -تبارك اسمه- دعا العباد إلى دار السلام بعد أن دعاهم إلى الإقرار بتوحيده فأجابوه.
فإنما أجابه من هداه، ثم شرع لكل رسول طريقاً إليها، وهو الحلال والحرام، فالحلال مرضاته، والحرام مساخطه، فإذا استقام العبد في سيره في شريعته، أدخله الجنة.
فقوله: ((لا يأتيني عبدٌ لا يشرك بي شيئاً بواحدةٍ من هذه الشرائع))؛ أي: شريعة زمانه، ورسوله، فلو أتى رجل بشريعة هود في زمن موسى عليه السلام، لم ينتفع به، ولو أتى بشريعة موسى في زمن عيسى، لم ينتفع به، ولو أتى بشريعة عيسى، في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، لم ينتفع به، ولم يقبل منه، إنما يقبل من كل عبدٍ ما أتى بشريعته التي شرعت له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن الله شرع الطريق لعباده ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه؛ كي يصلحوا لدار السلام يوم مقدمهم عليه، فإن الحلال زين، والحرام شين، فلم يستجز لهم أن يقدموا عليه مع الشين، فيسكنهم داره.(2/168)
الأصل السابع والخمسون
347 - حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابرٍ، قال: سمعت سليم بن عامرٍ يقول: سمعت أوسط البجلي على منبر حمص يقول: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه على المنبر وهو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر عام أول، والعهد قريبٌ: ((سلوا الله اليقين والعافية؛ فإن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من اليقين والعافية)).(2/169)
قال أبو عبد الله: فاليقين: هو استقرار النور في القلب والصدر، وذلك أن نور الإيمان في القلب، والشهوات بظلمتها، وفوران دخانها متراكمة على القلب، قد أظلمت الصدر، وحالت بين عيني القلب، وبين رؤية أمور الغيب، فهو مقرٌّ بأمور الغيب من الجنة والنار، والحساب، وأهوال الموقف، وأمور تدبير الله في دنياه، إلا أن نفسه تشبه عليه بخداعها وأمانيها؛ لأنها لم تصر له كالمعاينة، وليس الخبر كالمعاينة، فإنما أخبره إيمانه بذلك، فإذا امتلأ قلبه من النور، كان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحارثة حين قال: يا رسول الله! كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وإلى أهل النار كيف يتعاوون فيها، فأضاء الصدر بذلك، فصارت عينا القلب ذا بصيرة.
فاليقين: استقرار القلب بذلك النور.
ويقال في اللغة: يقن الماء في الحفيرة، يعني: استقر.
وأما العافية: فإنما هو عفو وعافية، وكل واحد منهما مشتقٌّ من صاحبه، فالعفو في الآخرة، والعافية في الدنيا، وهو: أن يعفى عنك من الخذلان، فلا تخذل حتى لا تقع في الذنب، وأن يعفى عنك حتى لا تصيبك الشدائد والبلاء، والمكاره، فإنما قيل: عافية، وأصله من العفو؛ فقد عفي عنك(2/170)
أن يصيبك هذا، والعفو قد عفي عنك أن تصيبك شدائد الآخرة، فكلاهما في المعنى واحد، إلا أن ذلك يستعمل في أمور الآخرة، والعافية في أمور الدنيا، وقد يدخل أحدهما على الآخر في مواضع.(2/171)
الأصل الثامن والخمسون
348 - حدثنا بشر بن هلالٍ الصواف، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن هارون الأعور، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيقٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {فروحٌ وريحانٌ} -الراء مضمومة-.(2/173)
قال أبو عبد الله: وقد قرئت: {فروحٌ وريحانٌ} -الراء مفتوحة-، فمن قرأ {فروحٌ} -مضمومة الراء- ذهب إلى أن الروح أمرٌ جليلٌ من أمره، يحل بالقلب، فبه تطمئن القلوب إلى الله، وينال الذكر الصافي، وبه يصير محقاً، وبه يقدس القلب، وبه يشتاق عند حضور أجله إلى اللقاء، فيهون عليه الموت، ويتيسر، ويطيب النفس إلى الشخوص إلى الله، وبه تأتلف قلوب المتحابين في الله، وبه عصمة قلوب الأولياء، وهو من طريق القربة أن تناله قربة.
ومن قرأها: {فروحٌ} -مفتوحة الراء-، فإنه ذهب إلى أنه يسلم عليه ملك الموت في ذلك الوقت، ويقرئه السلام من رب العزة، فيجد لذلك راحةً على القلب، وهو قوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلامٌ وأعد لهم أجراً كريماً}.(2/174)
الأصل التاسع والخمسون
349 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، عن مالك بن أنسٍ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المؤمن يأكل في معاءٍ واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ)).(2/175)
350 - حدثنا الحسين بن علي العجلي، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.
قال أبو عبد الله: وذلك أن الإنسان مبنيٌّ على سبعة أخلاق: على الشرك، والشك، والغفلة، والرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب، فهذه أخلاقه، فأي خلقٍ من هذه الأخلاق استولى على قلبه، نسب إليه دون الآخرين.
ومما يحقق ذلك: قوله تعالى: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين. لها سبعة أبوابٍ لكل بابٍ منهم جزءٌ مقسومٌ}، فأهل النار مجزؤون، مقسومون على هذه الأبواب السبعة، فكل جزءٍ منهم إنما صاروا جزءًا بخلق من هذه الأخلاق المستولية عليهم، وكذلك روي لنا عن وهب بن منبه.
ومما يحقق ذلك ما:
351 - حدثنا به أبي رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن نافعٍ الزبيري، قال: حدثنا ابن شيبة، عن ابن جريجٍ،(2/176)
عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للنار بابٌ لا يدخل منه إلا من شفا غيظه من سخط الله)).
352 - حدثنا ابن أبي زائدة الهمداني، قال: حدثنا عثمان بن عمر البصري، قال: حدثنا مالك بن مغولٍ، عن جنيدٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لجنهم سبعة أبوابٍ، منها بابٌ لمن سل سيفه على أمتي)).(2/177)
فهذا للرغبة، والأول للغضب.
فابن آدم مبنيٌّ على هذه الأخلاق السبعة، فإذا ولج الإيمان القلب، نفى هذه السبعة من القلب، فبقدر قوة الإيمان، تذوب هذه الأخلاق من النفس، وعلى قدر ضعفه، يبقى ضررهن، فإذا كمل النور، وامتلأ القلب منه، لم يبق لهذه الأخلاق فيه موضعاً، ولا ولوجاً، فنفى الشك، والشرك، والغفلة أصلاً، وصار بدل الشرك: إخلاصاً، وبدل الشك: يقيناً، وبدل الغفلة: انتباهاً وكشف غطاءٍ ومعاينةً، وصار الغضب له، وفي ذاته، وصارت الرغبة إليه، والرهبة منه، وصارت الشهوة: منيةً، وكانت قبل ذلك نهمةً، فتحولت منية، وبقدر ضعف الإيمان وسقمه، يبقى من هذه الأخلاق في المؤمن، فبقي فيه شرك الأسباب، وشك الأرزاق، وغفلة التدبير في كنه الأمور، والرغبة، والطمع في الخلق، والرهبة منهم في المضار والمنافع، واستعمال الشهوات على النهمة، فإيمانه يقتضيه ما عقد في توحيده لربه، أن هذه الأشياء كلها منه، وله، فأخلاقه تمنعه الوفاء بذلك عند نوائبه، فلذلك يبقى في عرصة(2/178)
القيامة محاسباً في مدة طويلة، والآخر كمل إيمانه، وامتلأ قلبه من نور الإيمان، فصار كما وصفنا بدءاً، فسقط عنه الحساب غداً.
فابن آدم يأكل في معاءٍ واحدٍ، أعني: الخلقة، إلا أن هذه الأخلاق السبعة سوى الغضب، قد عملت على قلبه، فصار كأنه يأكل في سبعة أمعاءٍ، وإذا آمن، فامتلأ قلبه من نور الإيمان، سكنت هذه الأخلاق، فشبع وروي؛ لأنه قد ثقل عليه بما ولج فيه، فإذا آمن، فإنما يأكل بمعاه الذي خلق فيه، وكلما كان أوفر حظاً من إيمانه، كان أقل لطعمه بهذا المعاء الواحد أيضاً، وإذا كان كافراً، فهذه الأخلاق الستة تعمل على قلبه، حين يصير كأنه يأكل في سبعة أمعاءٍ؛ لأن الشرك، والشك، والغفلة، والشهوة، والرغبة، والرهبة، هم أعوانٌ لحرصه، فإذا حرص، لم يشبع، فاحتاج إلى الكثير، والذي سكنت عنه هذه الستة الأخلاق بولوج الإيمان قلبه، ذاب الحرص في جوفه، وثقل الإيمان في قلبه، فأكل بالمعاء الذي خلق للآدميين، فاكتفى بذلك.
ومما يحقق ما قلنا:
353 - ما حدثنا به عيسى بن أحمد العسقلاني، قال: حدثنا علي بن عاصمٍ، عن حصين بن عبد الرحمن،(2/179)
قال: حدثني أبو صالح السمان، قال: قدم ثلاثون راكباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غفارٍ، فيهم رجلٌ يقال له: أبو بصرة مثل البعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((تبددوا القوم)). فجعل الرجل يقيم الرجل، والرجل يقيم الرجلين، على قدر ما عنده من الطعام، حتى تفرق القوم غير أبي بصرة، قال: وكل القوم يرى أن ليس عنده ما يشبعه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك، قام، فاستتبعه، فتبعه، فلما دخل، دعا له بطعامٍ، فوضعه بين يديه، فكأنما لحسه، ثم دعا له بقدحٍ، فحلب له فيه، فشربه، حتى حلب له في سبعة قداح، فشربها، فبات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، فتكلم بشيء منه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى صلاة الغداة، استتبعه، فتبعه، فصلى معه الغداة، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل على الناس بوجهه، فقال: ((علموا أخاكم وبشروه))، فأقبل القوم بنصحٍ يعلمونه، فألقى(2/180)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً حين أسلم، ثم قام فاستتبعه، فتبعه، فلما دخل دعا له بطعامٍ، فوضع بين يديه، فلم يأكل إلا يسيراً حتى قال: شبعت، ثم دعا له بقدحٍ، فحلب فيه، فلم يشرب إلا يسيراً، حتى قال: رويت، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكبه، فقال: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إنك كنت بالأمس كافراً، وإنك اليوم مؤمناً، وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ، وإن المؤمن يأكل في معاءٍ واحدٍ)).(2/181)
الأصل الستون
354 - حدثنا نصر بن علي الحداني، وقتيبة بن سعيدٍ، وصالح بن عبد الله، وابن أبي ميسرة، قالوا: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيسٍ، عن ابن أبي روادٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لكل عبدٍ صائمٍ دعوةٌ مستجابةٌ عند إفطاره، أعطيها في الدنيا، أو ذخر له في الآخرة))، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول عند إفطاره: يا واسع المغفرة اغفر لي.(2/183)
نصر بن علي رفعه، والآخرون وقفوا به على ابن عمر.
قال أبو عبد الله: فأمة محمد صلى الله عليه وسلم قد خصت من بين الأمم في شأن الدعاء، فقيل: {ادعوني أستجب لكم}، فإنما كانت تكون للأنبياء، فأعطيت هذه الأمة ما أعطي الأنبياء، فلما دخل التخليط في أمورهم من أجل الشهوات التي استولت على قلوبهم، حجبت قلوبهم، فالصوم مع النفس عن الشهوات، فإذا ترك شهوته من أجله، صفا قلبه، وصارت دعوته بقلبٍ فارغٍ قد زايلته ظلمة الشهوات، وتولته الأنوار، فاستجيب له؛ فإن كان ما سئل في المقدور له، عجل، وإن لم يكن، كان مذخوراً في الآخرة.
وبلغنا: أن العبد إذا دخل الجنة، أعطي من الجنة بقدر ما يستقر في ملكه، ويجاز له ثوابه، فإذا زيد، قيل له: هذه دعواتك التي كنت لا تدري لها في دار الدنيا إجابةً، كان ذلك مدخراً لك عندنا.(2/184)
355 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا هشام ابن خالدٍ الدمشقي، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله المدني، قال: سمعت ابن أبي مليكة، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((للصائم عند فطره دعوةٌ لا ترد)).
قال ابن أبي مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو يقول عند فطره: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي.(2/185)
الأصل الحادي والستون
356 - حدثنا محمد بن علي الحكيم -رحمة الله عليه-، قال: حدثنا أبو الحجاج النضر بن طاهرٍ البصري، قال: حدثنا بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن أبي بكرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الأمر يسر به، خر لله ساجداً شكراً)).(2/187)
قال أبو عبد الله: فالسجود: أقصى حالة العبد في التواضع لله، وهو أن يضع مكارم وجهه بالأرض، ويسكن جوارحه ملقياً للأرض وهكذا يليق، فالمؤمن كلما زاده محبوبه كرماً، ازداد له تذللاً وتمسكاً، وإليه افتقاراً، فيه ترتبط النعمة، وبه يجتلب المزيد، ويقتضي وليها الشكر عليها، وينجز ما وعد عليه من مزيدها، وهو قوله: {لئن شكرتم لأزيدنكم}.
فالشكر: رؤية النعمة، ولا ينفك من رأى النعمة من الحياء، وإذا استحيا، خجل، وتذلل، وتواضع.
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أعلاهم درجة في الرؤية من الله -تبارك وتعالى- والمعرفة، وأنفذهم بصراً في صنعه؛ لعظيم اليقين، فكان يفزع إلى السجود من أثقال النعمة والمنة، وكان من شأنه: ((إذا فرح، غض بصره)).
357 - حدثنا بذلك سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا جميع بن عمر العجلي، عن رجلٍ من ولد هند بن أبي هالة يكنى أبا عبد الله، عن الحسن بن علي، عن هند بن أبي هالة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/188)
قال أبو عبد الله: فغض البصر من الحياء عندنا، وهكذا عادة الآدمي إذا استحيا، غض بصره؛ لأن الحياء في العينين، من أجل أن الحياء من شأن الروح، وبصره متصل ببصر الروح.
وأيضاً خلة أخرى: وذلك أن الفرح في القلب يؤدي إلى العين، فإذا انتهى الفرح إلى العين، ولم تغضها، انتشر الفرح، وقوي، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يحب أن ينشر فرحه في دار الأحزان، حتى يكون ذلك كله في دار الله، فسجود الشكر معلوم رسمه في أفعال الرسول، متواترة منه، قد فعله غير مرة، ومن بعده أصحابه.
358 - حدثنا يعقوب بن شيبة، قال: حدثنا إسحاق ابن سليمان الرازي، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن موسى بن وردان، عن عبد الرحمن ابن أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قال: جئت أزور عائشة -رضي الله عنها-، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ثم سري عنه، فقال:(2/189)
((يا عائشة: ناوليني ردائي، فناولته))، ثم أتى المسجد، فإذا مذكرٌ يذكر، فجلس حتى قضى المذكر تذكرته، افتتح: {حم. تنزيلٌ من الرحمن الرحيم}، فسجد، فطالت سجدته، حتى تسامع به -أظنه قال: من كان على ميلين-، وملئ عليه المسجد، وأرسلت عائشة في حاجتها، أن احضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد رأيت منه أمراً، ما رأيت منه منذ كنت معه، فرفع رأسه فقال: ((سجدت هذه السجدة شكراً لربي فيما أبلاني في أمتي))، فقال له: -أحسبه أبو بكر-: وماذا أبلاك في أمتك؟ قال: ((أعطاني سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة)). قال: يا رسول الله! إن أمتك كثير طيب، فازدد يا رسول الله. قال: ((قد فعلت، فأعطاني مع كل واحدٍ من السبعين ألفاً سبعين ألفاً))، قال: يا رسول الله! ازدد لأمتك، فقال بيديه، ثم مال بهما إلى صدره، أو إلى بعض جسده، فقال عمر رضي الله عنه، أو غيره: أوعيت يا رسول الله! أو كلمة نحوها.(2/190)
359 - حدثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان، قال: حدثنا عبد الله بن بكر بن وهبٍ السهمي، قال: حدثنا هشام ابن حسان، عن القاسم بن مهران، عن موسى بن وردان، عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطاني سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حسابٍ)). فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! فهل استزدته؟ قال: ((قد استزدته فأعطاني مع كل واحدٍ من السبعين ألفاً، سبعين ألفاً))، فقال عمر رضي الله عنه: فهلا استزدته يا رسول الله؟ قال: ((استزدته فأعطاني هكذا))، وفتح أبو وهب يديه.
قال أبو هب: قال هشام: هذا من الله لا يدرى ما عدده.(2/191)
فهذا الحديث أتم وأشبع، والأول لم يذكر فيه أنهم يدخلون الجنة بغير حساب، وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر أشبه بما ذكر؛ لأنه قد جاء في الروايات أنه يدخل الجنة من هذه الأمة سبعين ألفاً بغير حساب.
360 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الربيع بن يحيى، [عن] المسعودي، عن بكير بن الأخنس، عن قيس بن أبي حازمٍ، عن أبي بكرٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حسابٍ، قلوبهم على قلب رجلٍ واحدٍ،(2/192)
فاستزدت، فزادني مع كل واحدٍ سبعين ألفاً)).
361 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا سعد بن عاصمٍ، قال: حدثنا نافعٌ: أن أم قيس حدثته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج آخذاً بيدها في سكةٍ من سكك المدينة، حتى انتهى بها إلى بقيع الغرقد، فقال:
((منها يبعث سبعون ألفاً يوم القيامة في صورة القمر ليلة البدر، يدخلون الجنة بغير حسابٍ)). فقام رجل فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((أنت منهم))، فقام آخر فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((سبقك بها عكاشة)).(2/193)
فهذا العدد من مقبرةٍ واحدةٍ، فكيف سائر مقابر أمته؟!
وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنت منهم))، كأنه رأى فيه أنه منهم، والآخر لم يره بموضع ذلك، فقال: ((سبقك بها عكاشة))، فقال للأول، وهو عكاشة: ((أنت منهم))، إيجاباً وقسماً.
وأم قيس: هي بنت محصنٍ، وهي أخت عكاشة بن محصن الأسدي.
فهذا عطاء ربنا وكرامته لهذه الأمة أن أيدهم باليقين حتى عاملوا الله على الصدق والوفاء بفضل يقينهم، فصاروا سادات الأمم.
وكذلك قال: ((أنتم توفون سبعين أمةً، أنتم خيرها وأكرمها على الله)).(2/194)
فباليقين وفوا، وصدقوه فيما قبلوا منه، فسقط الحساب عنهم، ثم مع كل واحد منهم سبعين ألف يدخلون بشفاعته، ثم مع كل واحد من الذين شفعوا فيهم يدخل بشفاعته سبعون ألفاً، فاعتبر الآن كيف أولئك السبعون الألف الأولون، أولئك أولياء الله الذين {لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}.
وهم السابقون المقربون، يشفع كل رجل منهم في سبعين ألفاً ممن احتبس للحساب في الموقف، ممن وجبت له الجنة، ثم يشفع كل واحدٍ منهم في سبعين ألفاً ممن وجب عليه الوقوف وطول الموقف.
فسجدة الشكر مما فعلها الصحابة والتابعون.
362 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا سلمة بن رجاءٍ، قال: حدثتنا شعثاء، قالت:(2/195)
رأيت عبد الله بن أبي أوفى، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتي برأس أبي جهلٍ، صلى ركعتين، وصلى بهم يوم الفتح ركعتين.
وسجد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ثلاث سجدات تباعاً حيث روى له أبو بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن(2/196)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الذي قال: ((يجاء باليهودي والنصراني يوم القيامة، فيقال: هذا فداؤك يا مسلم من النار)).(2/197)
الأصل الثاني والستون
363 - حدثنا زريق بن السخت العدوي، قال: حدثنا جعفر بن عونٍ، قال: أخبرنا عمر بن راشدٍ اليمامي، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بعثتم إلي رسولاً، فاجعلوه حسن الوجه، حسن الاسم)).(2/199)
قال أبو عبد الله:
فهذا من طريق التفاؤل، وذلك أن أهل اليقظة والانتباه يرون الأشياء كلها من الله، فإذا ورد وارد حسن الوجه، حسن الاسم، تفاءل به، وهو حسن الظن بالله.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير.
لأن التفاؤل هو حسن الظن بالله، والفأل هو شيء يخص به قوم، وليس يكون لكل واحد؛ كالفراسة، والإلهام، إنما يكون لقوم خاص، وكالحكمة إنما تكون لطائفة من الناس، فكذلك الفأل.
كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الفأل مرسلٌ)).
فمن أعطي حظاً من الفأل، انتفع بالفأل؛ كمن أعطي الفراسة، فله منها حظ، ومن لم يعط، لم يكن له منها حظ، والفأل قريب من الأفكار، والحظ نحوه.(2/200)
وقد كان نبي من الأنبياء يخط، فهذا الخط أفكاره وهو قريب من الفأل، وقد شرحته في بابه، والخط علم عظيم خص به أهله ممن قد لاحظ ذلك يوم المقادير.
364 - حدثنا أبو عمار الخزاعي، قال: حدثنا أوس ابن عبد الله بن بريدة، قال: حدثني أخي سهل بن عبد الله: أن أباه حدثه عن أبيه بريدة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير، ولكن يتفاءل، فكانت قريش جعلت مئة من الإبل فيمن يأخذ نبي الله فيرده عليهم حيث توجه إلى المدينة، فركب بريدة في سبعين راكباً من أهل بيته من بني سهم، فتلقاه نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنت؟))، قال: أنا بريدة، فالتفت إلى أبي بكر وقال:
((يا أبا بكرٍ! برد أمرنا، وصلح))، فقال: ((وممن؟))، قال: من أسلم، فقال لأبي بكر: ((سلمنا)). قال: ((ثم ممن؟))، قال: من بني سهم، قال: ((خرج سهمك)).(2/201)
فأسلم بريدة، وأسلم الناس معه جميعاً، فلما أن أصبح، قال بريدة لنبي الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواءٌ، فحل عمامته، ثم شدها في رمحٍ، ثم مشى بين يديه، فقال: يا نبي الله! تنزل علي، فقال: ((إن ناقتي هذه مأمورةٌ))، فسارت حتى وقفت على باب أبي أيوب الأنصاري، فبركت، فقال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهمٍ طائعين غير مكرهين.(2/202)
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)).
فإذا أحسن ظنه به، وفى له بما أمل وظن، والتطير سوء الظن بالله، وهربٌ من قضائه، والعقوبة إليه سريعة، والمقت له كائن، ألا ترى إلى العصابة التي فرت من الطاعون كيف أماتهم، فروي في الحديث: أنه قال: ((مقتهم فأماتهم)).
وذكر في تنزيله فقال: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت فقال لهم الله موتوا}، فالهرب من الطاعون تطير، وهربٌ من قضاء الله، وسوء ظن به.
365 - حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا فضيل بن سليمان، عن فائدٍ مولى عبيد الله بن علي، عن عبيد الله ابن علي، عن أبي رافعٍ، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي(2/203)
مكتلٌ فيه شاة مشوية، فقال لي: ((يا أبا رافعٍ! ضع ما معك)). ثم قال: ((ناولني الذراع))، فناولته، فأكلها، ثم قال: ((ناولني الذراع))، فناولته، فأكلها، ثم قال: ((ناولني الذراع))، فقلت: وهل للشاة أكثر من ذراعين؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو سكت، لوجدتها)).(2/204)
الأصل الثالث والستون
366 - حدثنا علي بن حجرٍ، وأبو بشرٍ محمود بن المهدي، وصالح بن عبد الله، قالوا: حدثنا بشير بن ميمونٍ البرقاني أبو صيفي، قال: سمعت مجاهداً عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صدقةٍ بأفضل من صدقةٍ يصدقها على مملوكٍ عند مليك سوءٍ)).
قال صالح بن عبد الله: أبو صيفي الواسطي أظنه كان أصله برقانياً.
قال أبو عبد الله: فالمملوك عند مليك السوء مضطر، والصدقة على(2/205)
المضطر أضعاف مضاعفة؛ لأنهم ثلاثة أصناف: فقير مستغن عن الصدقة في ذلك الوقت، وفقير محتاج، ومضطر، فالصدقة على المستغني عنه وهو في حد الفقر صدقة، والصدقة على المحتاج مضاعفة، والصدقة على المضطر أضعاف مضاعفة، فالمملوك عند مليك السوء انتظمت حالته هذه الثلاث، فهو فقير، وهو محتاج، وهو مضطر، فلذلك صار أفضل الصدقات.(2/206)
الأصل الرابع والستون
367 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومالك بن أنسٍ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تناتج الإبل من بهيمةٍ جمعاء، هل تحس من جدعاء))، قالوا: يا رسول الله! أفرأيت من يموت صغيراً؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).(2/207)
368 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قوله: (كل مولودٍ يولد على الفطرة)؛ أي: على الإسلام، وذلك أن الله تعالى: {أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} فأسلما له طوعاً وكرهاً، وألقوا بأيديهم اعترافاً بربوبيته، فمنهم مسلم، ومنهم مستسلم.
وفي الجملة: كلهم أقروا له بالربوبية وحده وبالسمع والطاعة له، فأخذ عليهم الميثاق، ثم ردهم إلى الأصلاب، فلما خرجوا من الأرحام إلى الدنيا مولودين، فإنما خرجوا من تلك الفطرة، فمن ولده يهودي أو نصراني أو مجوسي، فالولد في الحكم لأبيه؛ لأنه من مائه، وإنما صيروا الحكم لأبيه لا لأمه؛ لأن العظام والعصب والعروق من الأب، واللحم والدم والشعر والجلد من الأم، فأصل الجسد هو من الأب.
ألا ترى أن اللحم والدم والجلد تذهب وتجيء، والجسد باق، والعظام والعصب والعروق، إذا ذهبت، ذهب الجسد، فالأصل للأب.(2/208)
قال الله تعالى: {فكسونا العظام لحماً}، فالعظام من الأب، والكسوة من الأم، فلذلك نسب إلى أبيه، وصير حكمه واحد، والعصوبة له في الميراث، والولاية وسائر الأحكام.
فإذا ولد المولود وأبوه يهودي أو نصراني، فهو لاحقٌ بأبيه؛ لأن أصل جسده الذي عليه بني سائر الجسد من مائه، فحكم له في الظاهر في الأحكام بحكم أبيه، فهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه)) أي: صار يهودياً أو نصرانياً في ظاهر الحكم بيهودية أبيه ونصرانيته حتى يدرك، فإذا أدرك، فثبت على دين أبيه، فهو معه، وإن أسلم، فقد فارقه، ثم لما صار إلى شأن الآخرة، فقيل: يا رسول الله! فكيف من يموت صغيراً؟ أي: لم يدرك الحلم حتى يكون إسلامه إسلاماً، قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).
معناه: أن الله -تبارك وتعالى- أبرز من غيبه علماً، فجرى القلم في اللوح بذلك العلم من الشقاء والسعادة، فردهم إلى علم الله الذي خلقهم شقياً وسعيداً، فقد علم الله أن لو عاشوا حتى يدركوا ما كان يظهر على ألسنتهم من كلمة الشقاء والسعادة اعترافاً بلا إله إلا الله، أو جحوداً به، وانقياداً له، قابلين لأمره، أو عياذاً عنه، معرضين عن أمره، فإن مات أحدهم صغيراً قبل أن يظهر هذا، فالله أعلم ما كان يكون، ومن أي الصنفين هو.
وأما قوله: (كما تناتج الإبل هل تحس من جدعاء): فإنه يقول: إن الأنعام إذا تناتجت، فمولودهن سوي صحيح، فعمد المشركون فجدعوا آذانها، وذلك أن العرب في الجاهلية ابتدعوا بدعاً، وزين لهم الشيطان ذلك،(2/209)
فكانوا إذا ولدت بهيمة أحدهم، شقوا آذانها، فيقولون: هذه بحيرة، وتجدع آذانها، فتقول: هذه صرماء، فأنزل الله تعالى: {ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وسيلةٍ ولا حامٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب}.
369 - حدثنا علقمة بن عمرٍو التميمي، قال: حدثنا أبو بكرٍ بن عياشٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن أبيه عوف بن مالكٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنيه أبو الزعراء عمرو بن عمرٍو، سمعه من عمه أبي الأحوص، عن أبيه، وهو عوف بن مالكٍ الجشمي، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد فيّ البصر وصوبه، وقال: ((أرب إبلٍ أنت أم رب غنمٍ؟))، قلت: من كل المال قد آتاني الله، وأكثر وأطيب، قال: ((أفلست تنتجها وافيةً أعينها وآذانها؟))، قلت: بلى، قال: ((فتجدع آذانها فتقول: صرماء، وتشق من هذه فتقول: بحيرةٌ، فساعد الله أشد، وموساه أحد، لو شاء الله أن يأتيك بها صرماء، فعل)).(2/210)
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((فأبواه يهودانه وينصرانه كما تناتج الإبل هل يحس من جدعاء))؛ أي: إن الله خلقه سوياً وافراً وافياً، فأنتم جدعتموه، وكذلك خلق الله هذا المولود على الفطرة التي فطرهم حيث استخرجهم من صلب آدم، معترفين له بالربوبية، فأنتم هودتموه ونصرتموه.
ومنه قوله: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغةً}، فكانت النصارى إذا ولد لهم مولود، صبغته في ماء لهم يقولون: نطهره بذلك، فقال الله: {صبغة الله}؛ أي: فطرة الله التي فطرهم عليها أحسن من صبغتهم، فإنما صار المولود للأب في الحكم حتى يدرك، فإذا أدرك، صار حكمه حكم المسلمين، وإن تهود، أو تنصر، حكم له بذلك.
370 - حدثنا أبو طالب الهروي، قال: حدثنا يوسف ابن عطية، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولودٍ يولد من والدٍ كافرٍ أو مسلمٍ، فإنما يولدون على الفطرة، على الإسلام كلهم، ولكن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، فهودتهم، ونصرتهم، ومجستهم، وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً)).(2/211)
وقال الله وقوله الحق: ((خلقت عبادي حنفاء، وأمرتهم أن لا يشركوا بي شيئاً)).
371 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا عبدة، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله، أو غيره، عن عياضٍ بن حمارٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال في خطبته: ((إن الله أمرني أن أعلمكم، وقال: إني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي، وحرمت عليهم ما أحللت لهم)).
قال أبو عبد الله: فهذا بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة عليهم، وعملت أهواؤهم فيهم، أتتهم الشياطين، ودعتهم إلى اليهودية والنصرانية؛ لأن الشياطين وجدت قلوباً خاليةً، إنما هي بضعة من لحم، والنفس والروح يعقلان أمر الحياة، والمضار والمنافع، والآيات ظاهرةٌ من(2/212)
خلق السماوات والأرض، والشمس والقمر والبحر، واختلاف الليل والنهار.
فهذه حجج الله على عبيده، فذهبت بأهوائهم يميناً وشمالاً.
وأما المؤمنون، فهم أهل منة الله، من الله عليهم، فجعل لهم نوراً، فقال: {أومن كان ميتاً فأحيينه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها}، {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نورٍ)).
فأهل منته: كانت قلوبهم بضعة لحم، فأحياها الله بنوره.
وأهل عداوته: حرموا ذلك، فخابوا، والحجة عليهم قائمةٌ بما أعطوا من المعرفة بأمور الدنيا.
قال الله تعالى: {قد أفلح من زكاها. وقد غاب من دساها}. فإنما زكوها بنور المعرفة، وإنما دساها قلب الكافر.
قوله: دسى، ودس، ودسس، كله بمعنى واحد، وهو: أن يدس باب قلبه، كما تدس باب الكوة، حتى لا يقع في البيت ضوءٌ، فهو بيتٌ مظلمٌ، قد مال به هوى نفسه.
وأما أطفال المسلمين، فقد جاءت فيه أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
372 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، عن مالك بن أنسٍ، عن ابن شهابٍ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا يموت لأحدٍ من المسلمين(2/213)
ثلاثةٌ من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم)).
373 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن يحيى الجابر، عن عبيد الله بن مسلمٍ، عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما من مسلمين يتوفى لهما ثلاثة أولادٍ لم يبلغوا الحنث إلا أدخل الله والديهم الجنة بفضل رحمته إياهم، والذي نفسي بيده! إن السقط ليجر أمه إلى الجنة بسروره إذا احتسبت)).(2/214)
374 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا عبد الواحد بن زيادٍ، عن عثمان بن حكيمٍ، عن عمرو بن عامرٍ، قال: سمعت أم سليمٍ تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله، ولم يذكر السقط.(2/215)
375 - حدثنا نصر بن علي الحداني، وأبو الخطاب الحرشي، قال: حدثنا عبد ربه بن بارقٍ الحنفي، سمع جده سماك بن الوليد الحنفي يحدث: أنه سمع ابن عباس يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا عائشة! من مات له فرطان من أمتي، أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)). قالت: يا رسول الله! فمن كان له فرط واحد؟ قال: ((ومن كان له فرطٌ واحدٌ يا موفقة)). قالت: فمن لم يكن له فرطٌ؟ قال: ((فأنا فرط أمتي، لم يصابوا بمثلي)).(2/216)
فإذا كان الوالدان إنما يدخلهما الله الجنة بفضل رحمته للولد، فكيف يكون رحمته للولد؟
376 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيمٍ، عن أبي عقيلٍ الحذاء، قال: حدثتني بهية مولاة أبي بكرٍ رضي الله عنه، قالت: سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المسلمين، أين هم يوم القيامة؟ قال: ((في الجنة يا عائشة))، وسألته عن أولاد المشركين، فقال: ((في النار يا عائشة))، قلت: لم يدركوا الأعمال يا رسول الله! ولم تجر عليهم الأقلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ربك أعلم بما كانوا عاملين)).(2/217)
377 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا مندل بن علي، عن الحسن بن الحكم، عن أسماء بنت عابسٍ، عن أبيها، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن السقط ليراغم ربه إذا أدخل أبويه النار، فيقال له: أيها السقط المراغم ربه! قد أدخل أبواك الجنة، فيقول: لا، حتى يجرهما بسرره)).(2/218)
378 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحكم بن المبارك، قال: حدثنا محمد بن حربٍ، قال: حدثنا محمد ابن زيادٍ، قال: حدثنا عبد الله بن [أبي] قيسٍ اللخمي، قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن أطفال المسلمين وأطفال المشركين، فقالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المؤمنين، فقال: ((مع آبائهم))، قلت: بلا عملٍ؟! قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))، قلت: فأطفال المشركين؟ قال: ((مع آبائهم))، قلت: بلا عمل؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).(2/219)
فالأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أطفال المسلمين متواترة أنهم في الجنة، وقد قال في تنزيله: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذريتهم} فهم لاحقون بهم.
وقال: {كل نفسٍ بما كسبت رهينةٌ. إلا أصحاب اليمين}، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: هم أطفال المسلمين، لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم.
ثم قال: {في جناتٍ يتساءلون. عن المجرمين}.
ثم روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه يؤتى بثلاثة أصناف فيبتلون هنا)).
379 - حدثنا بذلك إبراهيم بن عبد الحميد التمار الحلواني، قال: حدثنا محمد بن المبارك الصوري، قال: حدثنا عمرو بن واقدٍ، عن يونس بن حلبسٍ، عن أبي إدريس الخولاني، عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه(2/220)
قال: ((يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً، وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً، فيقول الممسوخ عقلاً: يا رب! لو آتيتني عقلاً، ما كان من آتيته عقلاً بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك في الفترة: يا رب! لو أتاني منك عهدٌ، ما كان من أتاه منك عهدٌ بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيراً: يا رب! لو آتيتني عمراً ما كان من آتيته عمراً، بأسعد بعمره مني، فيقول الرب -تبارك وتعالى-: فإني آمركم بأمرٍ، أفتطيعونني؟ فيقولون: نعم، وعزتك! فيقول لهم: اذهبوا فادخلوا جهنم، ولو دخلوها ما ضرتهم شيئاً، فيخرج عليهم قوابض من نارٍ يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيءٍ، فيرجعون سراعاً، ويقولون:(2/221)
يا ربنا! خرجنا -وعزتك- نريد دخولها، فخرجت علينا قوابض من نارٍ، ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله من شيءٍ، ثم يأمرهم ثانيةً، فيرجعون فيقولون كذلك، فيقول الرب -تبارك وتعالى-: خلقتكم على علمي، وإلى علمي تصيرون، ضميهم، فتأخذهم النار)).
380 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: أخبرنا(2/222)
عليٌّ بن إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: حدثني يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد ابن كعبٍ القرظي، عن عبد الله بن شدادٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجلٌ، فسأله عن ذراري المشركين الذين هلكوا صغاراً، فوضع رأسه ساعة ثم قال: ((أين السائل؟))، فقال: ها أنا ذا يا رسول الله! فقال: ((إن الله -تبارك وتعالى- إذا قضى بين أهل الجنة والنار، ولم يبق غيرهم، عجوا فقالوا: اللهم ربنا لم يأتنا رسولك، ولم نعلم شيئاً، فأرسل إليهم ملكاً، والله أعلم بما كانوا عاملين، فقال: إني رسول ربكم إليكم، فانطلقوا فاتبعوا حتى أتوا النار، فقال لهم: إن الله يأمركم، أن تقتحموا فيها، فاقتحمت طائفةٌ منهم، ثم أخرجوا من حيث لا يشعر أصحابهم، فجعلوا في السابقين المقربين، ثم جاءهم الرسول فقال: إن الله يأمركم أن(2/223)
تقتحموا في النار، فاقتحمت طائفةٌ أخرى، ثم أخرجوا من حيث لا يشعرون، فجعلوا في أصحاب اليمين، ثم جاء الرسول فقال: إن الله يأمركم أن تقتحموا في النار، فقالوا: ربنا لا طاقة لنا بعذابك، فأمر بهم، فجمعت نواصيهم وأقدامهم، ثم ألقوا في النار)).
قال أبو عبد الله: فالولد عضو من الرجل، فإذا قدمه من قبل أن يبلغ الحنث، فيؤخذ بذنبه، فيشتغل عن أبويه، فهو غير مسؤول عن ذنب كان بمحل راحة، وعتق من آثار الذنوب، وقد جعل من تدبيره في حكم(2/224)
الحكام هاهنا: أن إذا أعتق السيد من مملوكه بعض أجزائه، عتق كله، كقوله لعبده: بعض جسدك حر، أو قال: جزء من أجزائك حر، فقد شاعت هذه الحرية في جميعه، فهذا الطفل قدم على ربه وهو غير مطلوب بذنب، فصار حراً من رق الذنوب، وهو جزء من أجزاء الوالدين.
وقوله: ((لم يبلغوا الحنث)): فإن الحنث هو العهد الذي كان أخذ عليهم يوم الميثاق، حيث استخرجهم من صلب آدم، فبايعوه على العبودة، وقررهم بأنه ربهم بالسمع والطاعة له، فلما خرجوا من الأصلاب والأرحام، تجاوز عنهم أيام طفوليتهم، حتى إذا أدركوا مدرك الرجال، تركوا الطاعة له، وحنثوا في ذلك العهد والميثاق؛ كما يحنث الرجل في يمين يحلف بها، فالحنث: ترك الوفاء، فسمي عصيانه حنثاً.
واشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأولاد، فقال: ((لم يبلغوا الحنث))؛ أي: لم يبلغوا أن حنثوا في الميثاق والعهد، فكان من رحمة الله عليهم أن أنقذوا أبويهم من النار بفضل رحمته إياهم.(2/225)
وقوله: ((إلا تحلة القسم))؛ فإنه أقسم (أن يرد النار جميعهم، فقال في تنزيله: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً}).
فقال: لا تمسه النار إلا بقدر ما يبر قسمه بوروده النار، ويجعلها عليه برداً وسلاماً، فلا تضره، ويحل قسم ربنا.
وأما أطفال المشركين: فإنه يخبر في هذه الروايات: أنه ردهم إلى علمه فيهم كيف كانوا يكونون أن لو أدركوا، فهذا وجه الأمر، ثم كانت من الله مشيئة أبرزها من علمه أن قيض لهم رسوله شفيعاً كما جاءت به الروايات، فكان هذا بعد ما سبق من رسول الله صلى الله عليه وسلم القول فيهم بما قال، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفاعته.
381 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا المسيب ابن واضح، قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن برد بن سنان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني سألت ربي أولاد المشركين،(2/226)
فأعطانيهم خدماً لأهل الجنة؛ لأنهم لم يدركوا ما أدرك آباؤهم من الشرك، ولأنهم في الميثاق الأول)).
382 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن الربيع بن صبيحٍ، عن يزيد بن أبان، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين؟ فقال: ((هم خدام أهل الجنة)).(2/227)
فهؤلاء لم يستوجبوا الجنة بقول ولا عمل، فصاروا إلى الآخرة، وليس بأيديهم مفتاح الجنة، وهو قول: لا إله إلا الله، ولم يدركوا العمل فيستوجبوا الجنة؛ لأنها ثواب الأعمال، وقد كانوا في الميثاق، فجاز أن يدخلوا الجنة؛ لأنهم لم يشركوا، فأعطوا خدمة الجنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما الجنة مفتاحها (الكلمة العليا، ونعيمها ثواب الأعمال، فليس بيد أولاد المشركين مفتاحها)، ولا قدموا على الله بعمل الموحدين، فيشفع الرسول فيهم حتى يدخلوها، وإنما استحال دخول الجنة لمن أشرك بعد خروجهم من الأرحام إلى الدنيا، وأدرك مدرك الرجال.(2/228)
الأصل الخامس والستون
383 - حدثنا رزق الله بن موسى البلخي البصري، قال: حدثنا معن بن عيسى القزاز، قال: حدثنا مالك بن أنسٍ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا المال خضرةٌ حلوةٌ، فمن أخذه بحقه، فلنعم المعونة هو)).(2/229)
قال أبو عبد الله: فالأخذ على ثلاثة أوجه عندنا:
فالظالم: يأخذه تمتعاً.
والمقتصد: يأخذه تزوداً.
والمقرب: يأخذه تبلغاً.
فالظالم: لم يأخذه بحقه؛ لأن الدنيا خلقت متعةً للأعداء، وهم الكفار، {يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوًى لهم}. فهذا قد ظلم نفسه، حيث أخذها أخذ الأعداء، قال الله -تبارك اسمه-: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}.
لأن المؤمن قد علم أنه عابر سبيل، ولم يخلق للبقاء في هذه الدنيا، فهو مسافرٌ، يقطع الدنيا بعمره إلى الله، والليل والنهار يركضان به إليه، فكان قد آمن بالله واليوم الآخر، فمن صدق إيمانه أن يرفع باله عن الدنيا، وييأس من الخلود فيها، ويأخذ منها ما يأخذ المتزود، لما بين يديه من السفر الطويل، يوم مبعثه من ملحده إلى عرصة الحساب، وأخذ التزود أن يكون له إرادة فيما يأخذ منها، أن يأخذه لقوام دينه، ويقدم فضلة ما في يديه؛ ليكون ذلك زاداً له إلى المحشر، فهذا الظالم غفل عن هذا، فتمتع وطرب بها ولها عن الآخرة، حتى أشر وبطر، فخسر الدنيا والآخرة.
والمقتصد: انتبه أنه لم يعط من الدنيا شيئاً إلا حوسب به غداً،(2/230)
واقتضى شكره، وطولب به من أين جئت به؟ وأين وضعته؟ فتنغصت عليه اللذة، وتكدرت عليه النعمة، وضاق بتناوله ذرعاً، وتناوله على خوف ووجل، وحملته الضرورة على أخذه، فما أخذ منه، أخذه على حاجة؛ لقوام دينه، وما فضل في يده، قدم منه ليوم فقره، فهذا أخذ تزود؛ فقد أخذ بحقه، فلنعم المعونة هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأول: أخذه أخذ الأعداء ظالماً لنفسه أخذاً وبيلاً وخيماً، فلبئست المؤنة فيه عليه، فالأول معونة، وهذه مؤنة.
والثالث: أخذه تبلغاً؛ لأنه خلق محتاجاً مضطراً، لا ينفك في دنياه أيام حياته من حاجة به إليه، إما في نفسه، وإما في المتصلين به من عيالٍ وقرابةٍ، وجيرةٍ وإخوانٍ، من أجل حرٍّ أو بردٍ، أو جوعٍ، أو عريٍ، أو نوائب من سقمٍ، وغيره.
وتدبير رب العالمين في هذا المال: أنه وضعه في هذه الدار، وأنه به تصلح هذه المصالح، فما تناول منه، تناوله على التبلغ إلى الله؛ لينفد عمره، ويبلغ إلى ربه، دافعاً هذه النوائب التي تنوبه في الدنيا عن نفسه،(2/231)
وعن هؤلاء بهذا المال الذي هكذا دبره له رب العالمين.
وكان أبو بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي المال بغير عددٍ ولا تقديرٍ، يحثي له حثواً، ويعطي قبضاتٍ، فراوده عمر رضي الله عنه على أن يقدره، ويفضل المهاجرين؛ لفضلهم، ومن له قدمة في الإسلام، فيرد له ذلك بهذا المال، فأبى عليه، وقال: ((إن هذا المال بلاغٌ، وخير البلاغ أوسعه، وأجورهم على الله عز وجل)).
384 - حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي، قال: أخبرنا أبي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفرٍ، عن إسماعيل ابن محمدٍ، عن أبي بكر رضي الله عنه بذلك.
قال: فلما ولي عمر رضي الله عنه، عمل بالذي كان يرى، ففضل أصحاب بدرٍ، وجعل بين الناس فضائل.
ففعل أبي بكر رضي الله عنه، فعل الصديقين، المال عنده بلاغٌ، فكلما تناول شيئاً منه، قدمه في نوعٍ من أنواع البر، ولم يجعل عدةً ليوم فقره، كما فعل هذا المقتصد؛ لأن عدة الصديقين والمقربين خالقهم، وأعينهم مادة(2/232)
إلى رحمته، والمقتصدون ومن دونهم، عدتهم عدة الإيمان، فإن صاروا إلى الحقائق، صيروا أعمالهم عدة.(2/233)
الأصل السادس والستون
385 - حدثنا أبو الحجاج النضر بن طاهر البصري، قال: حدثنا زنفلٌ أبو عبد الله العرفي، كان ينزل عرفاتٍ، قال: أخبرنا ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن أبي بكر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمراً، قال: ((اللهم خر لي، واختر لي)).(2/235)
قال أبو عبد الله: فالخيرات كلها من خيرته، والصفوة من الخيرات مختارة، خار لعباده الأعمال والأفعال، واختار لنفسه من الذي خار لهم، فذلك محبوبه ومصطفاه، وإنما هو خير وشر منقسم في الأعمال كلها، فسأله أن يخير له؛ أي: يرزقه الخير، وإذا رزقه الخير، وقاه الشر، ثم سأله أن يختار له من الخير محبوبه.
وله دعوة أخرى في حديث آخر: كان يقول: ((اللهم إني أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال))، وهذا بابٌ غامضٌ، يخفى على الصادقين، وإنما ينكشف للصديقين؛ لأن الصادق إنما يفتش عن الأعمال كي لا يدخل العدو، والنفس، والهوى في ذلك شيئاً ينجسه فيه، فيروجه عليه بخدعه، فهو يبغي الصدق، والإخلاص، وإليه يلحظ في جميع أموره.
والصديق يلحظ في أعماله إلى الله؛ لأنه قد ركب الصعاب، وذللها، فاستقام قلبه ونفسه على الصدق، وانطرد عنه الهوى، وانخسأ العدو، فهو يفرق من ظله، وتمكن الصدق فيه، ومرنه، وتفرغ قلبه من الاشتغال بالنفس، فهو مشغول بالله، ولحاظ في أعماله إلى الله، فهو الذي يكشف(2/236)
له التوفيق من الله لمحابه، فرب عملٍ هو في الظاهر أعلى وأشرف على ألسنة الكتب والرسل، والمحبوب عند الله في ذلك الوقت ما هو دونه في الظاهر، فالذي يحبه الله في ذلك الوقت قد خفي على الأنبياء، حتى سألوا التوفيق لذلك.
386 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عثمان ابن الهيثم، عن عبد الوهاب بن مجاهدٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال، وصدق التوكل عليك، وحسن الظن بك)).
فانظر إلى هذه الخصال الثلاث التي سأل كيف يشبه بعضها بعضاً،(2/237)
وكأنها نظامٌ واحدٌ، سأله التوفيق لمحابه، ومحابه في الغيب لا تدرى، فربما كان محابه في شيء هو في الظاهر دون غيره، فإذا استقبل النفس ذلك، واحتاج إلى أن يؤثره على الذي هو في الظاهر أعلى، تلكأت النفس، وترددت، فسأله صدق التوكل.
والتوكل: هو التفويض إليه في جميع الأمور، وأن يتخذه وكيلاً في جميع ذلك، فسأله صدق ذلك التوكل، وصدقه: أنه إذا استقبلك أمر هو عندك في ظاهر العلم دون غيره، وبين يديك أمر أعلى من ذلك، فوفقك الله في ذلك الوقت إلى هذا الأدون، وهو دون محابه في ذلك الوقت، ومختاره أن لا تتردد نفسك، ولا تتلكأ فيه، وتسارع فيه كما تسارع في الذي كان عندها أعلى، فهذا صدق التوكل قد اتخذ الله وكيلاً في أمره، وفوضه إليه، فوفقه للأدون، فلم يتحرك، ولم يتبرم، ومر فيه مسرعاً.(2/238)
قال: ((وأسألك حسن الظن بك))؛ فإن النفس إذا مرت في الأدون، دخلها سوء الظن من قبلها، يقول: لعلي فيها مخذول، فأقبل على الأدون، وأعرض عما هو أعلى منه، فسأله توفيقاً لمحابه من الأعمال، ثم سأله صدق التوكل؛ ليجعله إذا وفقه لذلك لا تتلكأ نفسه ولا تتردد، ثم سأله أن يرزقه حسن الظن به، فلا تأخذه الحيرة من ربه، ولا يخاف أن يكون قد خذل، ويسخط بهذا الأمر، فهذه الخصال كلها منظومة محتاجة إليها في طلق واحد لا يستغني ببعضها عن بعض لمن سأله أن يختار له محبوبه، ويوفقه لمحابه من الأمور، فجاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين اللفظتين، وكلتا هما تؤديان إلى معنى واحد.
قوله: ((اختر لي))، وقوله: ((وفقني لمحابك))، فالاختيار: من الخير، هو محابه في ذلك الوقت.
قال قائل: صف لنا واحدةً من هذه الأمور نعتبر بها ما سواها؟
قال: نعم، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً يزور بيت الله الحرام لبعد(2/239)
عهده به فصد عن البيت، فكان محاب الله في ذلك أن يصالحهم، ويعطيهم ما يحبون ويريدون من ذلك؛ فإنهم كانوا يريدون أن لا يدخل مكة في تلك الهيئة، فحصر دون قضاء العمرة، ونحر الهدي، ولم يصل إلى البيت، ولم يبلغ محلها، وكان في الظاهر تعظيم البيت، والاعتمار، والوفاء بالنذر، وهو الإحرام، وهدي البدن، وهي سبعون بدنةً، أعلى عندهم وأشرف، والصلح والرجوع عنهم محاب الله في ذلك الوقت، فاتسع في هذا الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يضق به ذرعاً.
واتسع أبو بكر، وضاق عمر، حتى صار إلى أبي بكر، فقال: يا أبا بكرٍ! أليس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوليس نحن المسلمون؟ فقال: نعم، فقال: فعلام ما نعطي الدنية في ديننا، وهم الكفار؟! قال أبو بكر: يا عمر! الزم غرز رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: بركابه-، واسمع، وأطع؛ فإني أشهد أنه رسول الله، فقال: وأنا أشهد، فلم يصبر على ذلك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ألست برسول الله، أولسنا بالمسلمين أوليسوا بالمشركين؟ قال: ((بلى))، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا وهم(2/240)
الكفار؟! قال: ((أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني)).
قال عمر رضي الله عنه: فما زلت أصوم، وأصلي، وأتصدق، وأعتق من الذي صنعت، مخافة الكلام الذي تكلمت به يومئذٍ، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، وكتب الكتاب فيما بينهم على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعضٍ، فأمنوا، ولقي بعضهم بعضاً، وخالطوهم، فاستمعوا إلى القرآن، وإلى ما جاء به عن الله عز وجل، والرجل يكلم أخاه، وصديقه، ورحمه بذلك، فدخل الناس أفواجاً في دين الله، مثلما دخلوا في سنين كثيرةٍ.
فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف فوض أمره إلى الله، وأبرز صدق توكله، وكيف حسن ظنه بالله، فقال: ((إني لن أخالف أمره، ولن يضيعني))، وكيف تابعه على ذلك أبو بكر رضي الله عنه، واتسع فيه، وكيف ضاق عمر رضي الله عنه به، ومن بعد عمر عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ من أمرهم: أنه أمر مناديه فنادى بأن يحلقوا رؤوسهم، فلم يحلقوا حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيمة، فقال:(2/241)
((يا أم سلمة! ألا ترين أن الناس لا يحلقون؟!))، فقالت: يا نبي الله! بأبي وأمي أنت، احلق أنت، فلو رأوك قد حلقت، لقد فعلوه، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فأخذ الناس يحلقون رؤوسهم، ومنهم من قصر، فقال: ((اللهم اغفر للمحلقين))، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: ((اللهم اغفر للمحلقين))، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: ((والمقصرين))، قالوا: ظاهرت بالترحم والمغفرة للمحلقين، قال: ((لأنهم لم يشكوا)).
فليس هذا شكاً في أصل الفعل، إنما الشك هنا ضيق الصدر بذلك الفعل، احتاجوا إلى أن يحلقوا وهم في إحرامٍ، ولم يحلوا بعد؛ لأن السبيل كان عندهم في الجاهلية وراثةً أن لا يحل أحد من إحرامه دون الطواف بالبيت، فلما أمرهم بالحلق، استعظموا ذلك، وضاقت صدورهم، ثم اتبعوه، وقصروا، كأنهم على كراهية شديدةٍ، وهذا من خلق النفس وكزازتها، فحرموا الدعوة للكزازة التي فيهم، وركوب الهوى.(2/242)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لن أخالف أمره ولا يضيعني)) فلا نعلم أنه أمر بالرجوع أمراً ولكن عنى بقوله: ((لن أخالف أمره))؛ أي: إني لن أخالف ما استقبلني من وجه الأمر، ومن توفيقه لما هو أحب إليه، وذلك أن أهل مكة لما تلقوه ليردوه في جمعهم، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفل مكة، فلما بلغ الحديبية بركت ناقته، فقال الناس: خلأت [القصواء]؛ أي: حرنت، فقال: ((ما خلأت، وما لها ذلك بخلقٍ)).
كأن معناه: أن هذه ناقة مسخرة لصاحبها، وصاحبها ليس بمحرون، فإذا لم يحرن الذي سخرت له على ربه، لم تحرن المسخرة، فقال: ((ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل)).
فعلم أن بروك هذه الناقة هاهنا ليس من الحرانة؛ لأنه لم يحرن على ربه في أمره ونهيه، ولكن هذا شيءٌ بديعٌ قد اختار له ربه ما هو أحب إليه.
فنزل، وعسكر هناك، وانتظر ما يكون، ثم وجه الرسل إلى أهل مكة واحداً بعد آخر: ((إني لم أجئكم للحرب، وإنما جئت معظماً للبيت،(2/243)
ومعي هذا)). فعاهدوا الله أن لا يدخلها أبداً أو نحاربك ما قدرنا، ثم كان في تلك الرسل: عثمان بن عفان، وأتاه الخبر: أن عثمان قد قتل، فانتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحربهم، وقال: ((لا نبرح حتى نناجزهم))، فدعا إلى البيعة تحت الشجرة، فبايعوه، فقال أصحابه بعد ذلك: نحن بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وقال آخرون ممن فهم الأمر: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر، فأنزل -الله تبارك اسمه-: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية، فأوجب لهم رضاه، وبشرهم بذلك، ووعدهم النصرة والفتح.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في الطريق رؤيا أن يدخل المسجد الحرام مع أصحابه محلقين رؤوسهم ومقصرين، لا يخافون، فأخبر بها أصحابه، فلم يشكوا إلا أنها تفتح لهم، فلما استقبلهم هذا الصلح، شكوا في الرؤيا، وساءت ظنون كثير منهم، فقال الله تعالى: {فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً}، فصالحوا، وانصرفوا، فخرجوا إلى خيبر، ففتحها الله عليهم، فاستأصلوا اليهود، وهم أحد الأعداء، وغنموا الغنائم الكثيرة، وتقووا بما غنموا، وأخذوا العدة من الكراع والسلاح، وبلغ المشركين ذلك، فذلوا، وانقصموا.
وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل، يقضي عمرته، وأخلوا له مكة(2/244)
من نسائهم وأولادهم حتى انصرف، ثم عاد من العام المقبل لفتح مكة في عشرة آلاف رجلٍ، وكان ذلك العام الذي صد عنه في تسع مئة، وكثر أصحابه؛ لدخول الناس في دين الله، وذلك للصلح الذي كان بينهم وما التقوا، فوعظ بعضهم بعضاً، وقرأ عليه ما نزل.
فانظر إلى محاب الله، ومختاره، وإلى محاب الخلق، ومختارهم، فكان مختار الخلق: أن يدخلوها عنوةً، فيقتلون، ويقتلون، وقد كان لله فيها أولياء، قد اجتباهم واختارهم، وسبقت لهم منه الحسنى، ولم يجيء وقت إسلامهم بعد.
وفيهم أيضاً من قد أسلم من المستضعفين نساء وشيوخ وعجزة، فلو دخلوها بقتال، لأصابهم معرة الجيش، فقال الله تعالى في تنزيله: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم}.(2/245)
وكانت طائفة من أهل مكة خرجوا عليه من وراء عسكره، فهزمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوهم أسرى، وأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله: {من بعد أن أظفركم عليهم}، ثم قال: {ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرةٌ بغير علمٍ ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً}.
فهؤلاء: رجال مؤمنون، ونساء مؤمناتٌ، قد كانوا هناك مستضعفين، في أيديهم، فلو دخلتم للحرب، لوطئتهم الخيل، فهلكوا، ولو تزيلوا؛ أي: فارقوهم وزايلوهم، لعذبنا الذين كفروا؛ أي: نسلطكم عليهم بالحرب حتى تقتلوهم، ولكن هيأ الصلح، وحبس الناقة فبركت، فلما بركت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حبسها حابس الفيل، لا تدعوني قريشٌ اليوم إلى خطةٍ فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)).
وكان رجال مؤمنون، ونساء مؤمناتٌ في أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات، لم يخرجهم الله إلى دار الدنيا، وكان في سابق علمه أنه سيخرجهم إلى مدةٍ، وأسماؤهم مكتوبة في اللوح المحفوظ بالسعادة من الله، فلو دخلها عنوةً، لهلك آباؤهم وأمهاتهم في الحرب، ومعرة الجيش، فلو تزيلوا؛ أي: لو زايلوا الأصلاب والأرحام، لعذبنا الذين كفروا؛ أي: الآباء والأمهات(2/246)
الكفرة، وأنجينا هؤلاء الأطفال الذين هم في علمي أولياء، فهيأ الله الصلح بينهم.
حتى توالدوا، وخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده، وتهيأ للمستضعفين حالة نجاةٍ، وفتح الله مكة من العام الثالث عليهم، وأظفره بهم، ومن قبل فتح مكة سهل الله سبيله، حتى جاء قاضياً لعمرته في ذلك الشهر الذي كان جاء أول عام الحديبية، فاعتمر، وغاظ المشركين في ذلك، واقتص الله لنبيه منهم كما ردوه وصدوه عن العمرة، فأنزل الله: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاصٌ}.
ثم فتح الله عليه مكة من العام الثالث من الحديبية، وهو سنة ثمان من الهجرة، وكانت الحديبية سنة ستٍّ، وقضاء العمرة في سنة سبعٍ، وافتتح مكة سنة ثمانٍ، فغص المسجد الحرام بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في عشرة آلاف حتى لم تجد ناقته موضعاً تبرك فيه في المسجد حتى دنا من البيت فاحتملوه على أيدي الرجال، فدعا بالمفتاح، ففتح له، فدخل البيت فصلى فيه، ثم خرج فوقف على الباب فقال: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)).(2/247)
فانظر إلى هذه الكلمات: عظم ربه، وصغر ما دونه بتعظيمه.
ثم قال: ((صدق الله وعده)): نشر عن ربه الجميل بأنه وفى له.
ثم قال: ((ونصر عبده)): رأى النصرة من عنده، ورأى دوران الأمور به كيفما دارت، ونظر إلى تدبيره من لدن مبعثه، وما لقي منهم من الأذى، والضرب، والشتم، والمصائب، وما حرم أقاربه وأرحامه من بركة ما جاء به، وإلى ناسٍ من أفناء الناس غرباء كيف رزقوا ذلك، واحداً من الروم، وواحداً من الحبشة، وآخر من فارس، وواحداً من الخيام، وآخر من حضرموت، وبلاد الشام، وأبو طالبٍ، وأبو لهبٍ، وولد عمومته حاربوه، وعادوه، وأخرجوه من بلده ووطنه، وبيت الله الحرام، وغربوه، وتواطؤوا على قتله، وطلبوه، فلم يظفروا به.
وانظر إلى تدبير الله في الأنصار، وبذلهم أنفسهم، قال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين}.(2/248)
ثم حروبهم ببدرٍ وأحدٍ، وتلك العجائب التي كانت هناك مرةً لهم، ومرةً عليهم، إلى يوم الحديبية، وصلحه، وأنهم قد وضعوا الحرب فيما بينهم عشر سنين، فضاق بذلك عمر رضي الله عنه يوم الحديبية، ولا يعلم أن الله سيفتح عليهم مكة في العام الثالث من عامهم، في أعز نصرٍ، وأوفر جمعٍ، فحسن الظن، وسوء الظن يتبين، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ جميل صنع الله فيه وفي أمرهم، وقال: ((الله أكبر، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)).
فلو شاء الله، لبعث مع محمد صلى الله عليه وسلم ملائكة معهم الشهب، فيحرقوا ويدمروا على من جحده، ولكن تدبير الله في عباده على التؤدة، والرفق بهم، ليتسعوا مع تدبيره؛ فإن الاتساع في أمره عبودةٌ، والضيق من الاستبداد، وخلق النفس، والعبودة الصادقة أن يدور مع تدبير الله في الأحوال كيفما دارت الأحوال، فهناك تكون عند الله راضياً في أحوالك فيرضى الله عنك، وهو قوله: {يأيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً}.
اطمأنت إلى الله، وماتت شهواتها، وذهب استبدادها، فرضيت عن الله(2/249)
في أحوالها على اختلاف محبوبها ومكروهها، فرضي الله عنها، فلما تكلم على باب الكعبة بما تكلم، قال لأهل مكة وهم حوله: ((ماذا تقولون وماذا ترون أني صانعٌ بكم؟))، قالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ، قال: ((فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين})).
قال عمر رضي الله عنه: فانتضحت عرقاً من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة: اليوم ننتقم منكم، ونفعل ما نفعل، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، استحييت من قولي.
فهكذا يكون فعل الناظر إلى تدبير الله المعاين له؛ رفق بهم، وألان لهم القول، وطيب نفوسهم لما رأى تدبير الله فيهم من قبل في تلك الأمور الماضية.
وأيضاً قصة أخرى: في شأن أبي جندل بن سهيل بن عمرو، وكان مسلماً في أيدي المشركين، مقيداً بمكة، فلما جاء سهيل بن عمرٍو أبوه يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح، وهو بعض رؤسائهم، أبرم الصلح، وكتب(2/250)
الكتاب، فجاء ابنه أبو جندل يرسف في قيوده، قد انفلت من محبسه، فقال: يا محمد! يا رسول الله! إني مسلمٌ في أيدي المشركين، واستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين، فقام إليه أبوه، فضرب وجهه، ورده، وقال: يا محمد! قد نجزت القضية فيما بيننا، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، حتى رده، فكاد المسلمون أن يفتتنوا في ذلك الأمر، وأخذهم الغيظ الشديد، ولم يقدروا على شيءٍ للصلح، وكان قد وقع الصلح بينهم على أنه من صار من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يرد عليهم، ومن صار من المسلمين إليهم مرتداً، لم يطلب، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فتحرك أصحابه في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جاءنا منهم مسلماً، فرددناه عليهم، فإن الله جاعلٌ له فرجاً ومخرجاً، ومن صار إليهم مرتداً، فإلى النار، فما نصنع بمن ارتد عن دين الله؟)).
فانظر إلى حسن ظنه، حيث قال: ((فإن الله جاعلٌ له فرجاً))، وكيف لا يحسن ظنه، وقد أوحى الله إليه: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً. ويرزقه من(2/251)
حيث لا يحتسب}.
فالوحي قد نجع فيه، وانكشف الغطاء عن قلبه، حتى عاين حسن تدبير الله، وصنائع ربه، وعرفه بالمجد والكرم.
فذهب سهيل بن عمرو بابنه إلى مكة في قيوده، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ففتح خيبر، حتى قال عمر رضي الله عنه: كنت أماشي أبا جندلٍ وهو في قيوده، وهو إلى جنب أبيه، وأهوي بمقبض سيفي نحوه، وأدنيه منه، وأقول: يا أبا جندل! ليهن عليك، فإنما دم أحدهم كدم كلب، وأدني قائمة السيف منه رجاء أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، قال: فضن الرجل بأبيه وسهيل آخذٌ بتلبيبه يجره إلى المنزل، وأبو جندل يصرخ: يا معشر المسلمين! أرد إلى المشركين، فيفتنوني عن ديني؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصبر واحتسب أبا جندلٍ، فإن الله جاعلٌ لك وللمستضعفين فرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك عهداً، وإنا لن نغدر)).
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم يلبث إلا يسيراً حتى انفلت أبو جندل من قيوده، ومر إلى ناحية البحر على طريق الشام، فقعد هناك؛ لأنه قد علم أنه إن صار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجد بداً من رده عليهم؛ لما جرى بينهم في الصلح من ذلك، فأقام هناك أياماً، فكان كل من سمع به من الشداد المنفلتين ممن هم في محابس المشركين لحق به، حتى توافوا نحواً من سبعين رجلاً، فقطعوا الطريق على المشركين عيرهم، وأخذوا أموالهم،(2/252)
وقتلوا وأضروا حتى بلغ من أمرهم، وما تأذى بهم المشركون أن وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يضمهم إلى نفسه؛ كي يرتفع عنهم ضررهم، ثم أسلم سهيل بن عمرو، وقتل شهيداً في خلافة عمر رضي الله عنه.
فأهل سعة الصدور عاشوا مع الله في دار الحبس، والضيق، عيش أهل الجنان، وإنما نالوا ذلك كله بذلك النور الذي انشرحت به صدورهم، فاتسعت لتدبير الله، وأن الله -تبارك اسمه- دبر للعباد أموراً فقد مرنت النفوس سلوك طريق ذلك التدبير، وعرفوه، ووطنوه، ثم له -تبارك اسمه- في ذلك التدبير تدبير آخر مختصر.
فأهل الضيق يتحيرون هناك، ويضيقون، ومن عاين الصنفين، والتدبيرين، لم يضق، فإن لله في كل تدبير مشيئةً، إن شاء أمضاه، وإن شاء أخره، فالتدبير الذي قد وطنه الناس: أن يكون الولد من ذكرٍ وأنثى، فاختص الله لعيسى تدبيراً، فحملت به مريم من غير ذكرٍ، فتحير فيه علماء ذلك الزمان، وأحبارهم، وهلك فيه العوام والسفهاء، وأدركت مريم بعض تلك الحيرة، فقالت: {أنى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء}، فأبصرت وأذعنت لحكم ربها، فاستوجبت بذلك أن أثنى عليها رب العالمين فقال: {وصدقت بكلمات ربها}، وقال: {وأمه صديقةٌ}.
فمن سماها الله في تنزيله صديقة هو البالغ في الصدق بشهادة الله له بذلك، وكذلك فعل زكريا فيما بشر به من الولد بعد الكبر، وكذلك رزق مريم: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حسابٍ}؛ أي بغير(2/253)
محسبة، فقد علم الناس أرزاقهم من مظانها من السوق، ومن الكرس، ومن الكرم، ومن الكيس، ومن أيدي الخلق، فرزقها على وجه التدبير المختص مما لم تمسه أيدي العالمين، فأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم التدبيرين، ودخول أحدهما في الآخر، وخفاء شأنهما، فسأل التوفيق، وسأل مع التوفيق أن لا يكون من نفسه إذا وفقه تلك، وسأله إذا وفقه، فلم يوافق شهوة نفسه أن لا تتلكأ نفسه، ويحسن الظن به.
فقد يكون الرجل من أهل الغفلة يقول: اللهم اختر لي، ووفق لي، فإذا وفقه، هرب من مختار الله، ودفع عن نفسه حلول ذاك به، وعصى الله في الدفع عن نفسه، فانظر أي جهلٍ في هذا الآدمي؟
وبلغنا: أن موسى -صلوات الله عليه- قال: يا رب! أي عبادك أكبر ذنباً؟ قال: الذي يتهمني، قال: ومن يتهمك يا رب؟ قال: الذي يستخيرني في الأمور، فإذا اخترت له، لم يرض بقضائي وخيرتي.
وأيضاً قصة أخرى في شأن بدرٍ: وعدهم الله إحدى الطائفتين أنها لهم: الظفر بالعير، أو الظفر بالعدو الذي انتدب من مكة، وهم رؤساء الكفر، وصناديد قريش.
وكان محاب الله في ذلك أن يظفروا بالعدو، فيقتلهم على أيديهم،(2/254)
ويقطع دابرهم، ومحابهم الظفر بالعير؛ ليقووا به وينكثوا فيهم، وقال في تنزيله: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الله ويبطل الباطل}.
ومثل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخطب على المنبر، فدخل رجل فقال: يا رسول الله! جئت امرأ لا أعقل شيئاً من أمر الإسلام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منبره، وترك خطبته، ووضع له كرسي، فجلس عليه، فعلمه.
فمثل هذا كثير أكثر من نحصيه، فكان يدعو: ((اللهم خر لي، واختر لي من الأمور الخير، ومن الخير مختارك، فاختر لي)).
ومثل ما جاء: أنه أمر بقتال أهل سبأ، فنزلت قصتهم: {كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدةٌ طيبةٌ وربٌّ غفورٌ}. فبعث على إثر ذلك الرجل الذي أمره بقتالهم، فرده، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، ويكف؛ لما رأى من جميل نظر الله لهم، ورفقه بهم، فعلم محاب الله فيهم، فكان في الظاهر أنه يقاتلهم كما يقاتل سائر الخلق على إقامة الكلمة العليا، فلما ظهر محاب الله فيهم، كف عنهم، وكان سبأ أبو الأنصار، وعمران بن عامر أبو الأنصار من ولد سبأ، تحول إلى المدينة حين أتاهم العذاب من قبل ذلك.(2/255)
الأصل السابع والستون
387 - حدثنا حميد بن الربيع اللخمي، قال: حدثنا محمد بن بشرٍ العبدي، قال: حدثنا عبد الله بن الأسود الحارثي، عن حصين بن عمر الأحمسي، عن مخارق بن عبد الله، عن طارق بن شهابٍ، عن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من غش العرب، لم يدخل في شفاعتي، ولم تنله مودتي)).(2/257)
388 - حدثنا إسماعيل بن نصرٍ، قال: حدثنا محمد ابن بشرٍ، قال: حدثنا عبد الله بن الأسود الحارثي، عن حصين ابن عمر، عن مخارق بن عبد الله بن جابرٍ -رجلٍ من الأحمس-، عن طارق بن شهاب، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.
389 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني قال: حدثنا حصين بن عمر الأحمسي، عن مخارق بن عبد الله، عن طارق بن شهابٍ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(2/258)
فغش العرب: أن يصدهم عن سبيل الهدى، ويحملهم على أمور يبعدون بها عن الرسول، ومن فعل ذلك؛ فقد قطع الرحم فيما بينهم وبينه، فمن كان سبباً لذلك، حرم شفاعته ومودته.
ومن غشهم أيضاً: أن يحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، ويضع رفعتهم، ويحقر شأنهم، ويسويهم بسائر الناس، ومن فعل ذلك؛ فقد سفه الحق، وغمط الناس، وذلك عين الكبر، ووضع ما رفعه الله، وغمر فضل الله بجهله، ويأبى الله أن يكون مغموراً فضله عليهم.
قال أبو عبد الله: فالأخبار أتت بفضلهم.
390 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني عن قيسٍ، عن الأعمش، عن عباية بن ربعي، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل قسم الخلق نصفين، فجعلني في خيرهما قسماً، فذلك قوله: {وأصحاب اليمين}، {وأصحاب الشمال}، فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل(2/259)
القسمين أثلاثاً، فجعلني في خيرهم ثلثاً، فذلك قوله: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة. وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة. والسابقون السابقون}، فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خير قبيلةٍ، فذلك قوله: {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، فأنا أتقى ولد آدم، وأكرمهم على الله، ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتاً، فجعلني في خيرها بيتاً، فذلك قوله تعالى: {إنما يريد ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}.
391 - حدثنا الحسن بن محمدٍ الزعفراني، قال:(2/260)
حدثنا عبد الله بن بكر السهمي أبو وهب، قال: حدثنا يزيد بن عوانة، عن محمد بن عقبة بن ذكوان، قال أبو وهبٍ السهمي: لا أحسب محمداً إلا وقد حدثني به عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ مرت بنا امرأةٌ من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعض القوم: هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان: إنما مثل محمد في بني هاشم كالريحانة بين النتن، فسمعت المرأة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرته له، فخرج ولا أراه إلا مغضباً، فصعد المنبر، فقال: ((ما بال أقوالٍ تبلغني عن أقوامٍ؟! إن الله خلق سبع سماوات، فاختار العليا فسكنها، وأسكن سماواته من شاء من خلقه، وخلق سبع أرضين، فاختار العليا، فأسكنها خلقه، ثم اختار خلقه، فاختار بني آدم، ثم اختار بني آدم، فاختار العرب، ثم اختار العرب، فاختار مضر، ثم اختار مضر، فاختار(2/261)
قريشاً، ثم اختار قريشاً، فاختار بني هاشم، ثم اختار بني هاشمٍ، فاختارني، فلم أزل خياراً من خيارٍ، ألا، فمن أحب العرب، فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب، فببغضي أبغضهم)).
392 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا يزيد ابن سعيدٍ الإسكندراني، عن محمد بن عياض بن منذرٍ الأنصاري، عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد! إن الله بعثني،(2/262)
فطفت شرق الأرض وغربها، وسهلها وجبلها، فلم أجد حياً خيراً من العرب، ثم أمرني فطفت في العرب، فلم أجد حياً خيراً من مضر، ثم أمرني فطفت في مضر، فلم أجد حياً خيراً من كنانة، ثم أمرني فطفت في كنانة، فلم أجد حياً خيراً من قريشٍ، ثم أمرني فطفت في قريشٍ، فلم أجد حياً خيراً من بني هاشمٍ، ثم أمرني أن أختار من أنفسهم، فلم أجد فيهم نفساً خيراً من نفسك)).
قال أبو عبد الله: فإنما ذكر النفس؛ لأن الأخلاق هي في النفس، حسنها وسيئها، فهذا يدل على أن ما قلنا أنه إنما طاف في هذا الخلق يطلب النفوس الطاهرة الصافية الزاكية بمحاسن الأخلاق، فمن أجل ذلك اختارهم، فلم ينظر إلى أعمالهم؛ فإنهم كانوا أهل جاهلية، إنما ينظر إلى(2/263)
أخلاقهم، فوجد الخير في هؤلاء، وجواهر النفوس متفاوتةٌ، بعيدة التفاوت، وذلك أن الله -تبارك اسمه- خلق آدم من قبضته.
393 - حدثنا بذلك يحيى بن حبيب بن عربي، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن عوفٍ، عن قسامة بن زهيرٍ، قال: حدثنا الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأسود، والأبيض، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب)).
قال أبو عبد الله: فالتربة الطيبة: نفوسها سهلة كريمة، وليس فيها كزازة ولا يبوسة، ولا شعوثة، فهم أحرارٌ كرامٌ، ولدتهم أمهاتهم أحراراً كراماً(2/264)
من رق النفس، وشهواتها، (وآخرون: كانت الحزونة في تربتهم، فجاءت الكزازة، والشعوثة، والصعوبة، ولدتهم أمهاتهم عبيداً، قد ملكهم رق نفوسهم بشهواتها)، وهو قول عيسى -عليه الصلاة والسلام- فيما يعظ به بني إسرائيل، فقال: لا عبيد أتقياء، ولا أحرار كرماء.
معناه: أي: ليس أنت من العبيد الذي تجاهد نفسك وتتقي الله، ولا من الأحرار الذين نجوا من رق النفوس، فساروا إلى الله سير الكرام، بلا تعريج، ولا ترددٍ.
فالبخل، والضيق، والحدة، والعجلة، والحقد، والحرص، وما أشبهه من كزازة النفس.
والجود، والسماحة، والسعة، واللين، والتؤدة، والتأني، والرفق من سهولة النفس وطيبها.
فنفوس العرب بارزة أخلاقها، لا ينكرها إلا معاندٌ، ولا يجحدها إلا ماردٌ، إنها أخلاق الكرام، فبهذا فضلوا، لا باللسان العربي، والله يحب معالي الأخلاق، ويبغض مدانيها.
ومما يحقق ذلك: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدرٍ: أنه سمع رجلاً يقول بعدما انصرفوا من بدرٍ، إنما قتلنا عجائز صلعاً، فأنكر ذلك(2/265)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((مه، أولئك الملأ من قريش، لو نظرت إلى فعالهم لاحترقت فعالك عند فعالهم، لولا أن تطغى قريشٌ، لأخبرتها بما لها عندالله، اللهم إنك أذقت أولهم نكالاً، فأذق آخرهم نوالاً)).
فالعرب: بالأخلاق شرفوا، وإلا، فالشجرة واحدةٌ، وهو خليل الرحمن، ومما يدلك على ذلك دعوة إبراهيم خليل الرحمن حيث رفع القواعد من البيت، وأتم بناءه، وقال: {ربنا واجعلنا مسلمين لك}، ثم قال: {ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك}، فإنما سأل في ذرية إسماعيل خاصةً، ألا ترى أنه قال على أثر ذلك، {وابعث فيهم رسولاً منهم}؛ يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
فالإسلام: هو تسليم النفس، وبذلها، والجود بها، ومن جاد بنفسه(2/266)
على الله، فلا أحد أحسن خلقاً منه، ولا أكرم منه، فليس الشأن في الجود بالمال، الشأن في الجود بالنفس، حتى تسلمه إلى خالقه، فجرت هذه الدعوة في ولد إسماعيل خاصةً أن صيرهم أمةً مسلمةً له، فوهب لهم أخلاق الكرام، حتى تكرمت نفوسهم على الله بذلاً حين جاءهم الرسول، ومن قبل مجيء الرسول، كانت تلك الأخلاق ظاهرةً فيهم، فلما جاء الرسول، وجدهم مهذبين كراماً، فصاروا صديقين، وأبراراً وأتقياء، وحكماء، وعلماء بالله، باذلين مهجهم لله وأموالهم، السيوف على عواتقهم، والحجر على بطونهم من الجوع، ينصرون الله ورسوله، وبنو إسرائيل قالوا لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}، وقيل لأمة محمدٍ: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}، فكانت تلك منهم كلمة صدق من قلوبهم، فحكى الله عنهم في تنزيله، وأثنى عليهم بذلك، فصار قولهم هاهنا كقول أبيهم حين ألقي في النار فقال: حسبي الله ونعم الوكيل.
فهل يمكن ظهور هذا إلا ممن حسن خلقه، فجاد بنفسه على الله، وإنما قال هذا أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ بعدما انهزموا، وأصابتهم جراحاتٌ، وقتل من قتل منهم، وانصرف عسكر المشركين، فنزلوا مكاناً، وتآمروا فيما بينهم أن يجمعوا جمعاً، فيكروا عليهم، ووشوا إلى أصحاب(2/267)
رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخبر ليفزعوهم، فانتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وفيهم من الجراحة غير قليل يمضون إلى جمعهم، وفيهم مشاةٌ، حتى إن الرجل ليغشى عليه في الطريق من كثرة ما يسيل من الدم من جراحاته، فيحمله صاحبه، يسيرون بمثل هذه الحالة إلى العدو، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فوجدوا العدو قد تفرقوا وذهبوا، قال الله تبارك اسمه: {فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوان الله}، ولم يقل: رضا الله؛ ليعلمك أنهم اتبعوا الرضوان؛ فإنه أكثر من الرضا، وهو غاية الرضا.
قال أبو عبد الله: فنهاية العرب إلى إسماعيل -صلوات الله عليه-، والشجرة واحدةٌ، وهو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهو خليل الرحمن، ولسانه عبرانيٌّ، وإنما هما غصنان لهذه الشجرة: إسماعيل، وإسحاق.
فإسماعيل: عربي اللسان.
وإسحاق: عبراني اللسان.
وإسماعيل: أبو العرب.
وإسحاق: أبو العبرانيين، وهم: بنو إسرائيل، نسبوا إلى يعقوب، إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله.(2/268)
ولكل واحدٍ من الغصنين حظٌّ من الله، وفضيلةٌ، وكرامةٌ، وموهبةٌ، فذهب الغصنان بحظهما من الله، وبموهبته، فصارت وراثةً في أولادهما إلى الأبد، وذهب إسماعيل بفضيلته وموهبته، وذهب إسحاق بفضيلته وموهبته، فظهر في ولد إسحاق من تلك الموهبة والكرامة الجهد والعبادة، وظهر في ولد إسماعيل الأخلاق والسماحة والشجاعة.
والموهبة إنما تكون على قدر الحظ، والجاه له عنده على قدر ذلك، فنظرنا إلى موهبة كل واحد منهما من أية خزانةٍ أعطي؛ ليستدل به على حظيهما منه.
قال: فوجدنا الجهد والعبادة من خزائن الحكمة، والأخلاق من خزائن المنة، فنظرنا إلى الحكمة والمنة من أين بدت كل واحدة منهما؟
فوجدنا: الحكمة من العدل بدت، والعدل من الربوبية، والربوبية من الملك والقدرة والقوة.
ووجدنا المنة: أنها بدت من العطف، والعطف من الفضل، والفضل من الجمال، فمن الملك بدأ الغضب، فأسعرت، فاستحرت النار،(2/269)
فاسودت من غضبه، فهي سوداء مظلمة، مشحونةٌ بغضبه.
ومن جماله بدت الرحمة، وظهر الفضل والعطف، حتى اهتزت الجنان، ونورت، واستنارت بنوره، فهي بيضاء نورانية، مشحونة برحمته وروحه، وإنما هي نظرةٌ وجفوةٌ، فأهل الثواب سعدوا منه بنظرةٍ واحدةٍ، وأهل العقاب شقوا منه بجفوةٍ واحدةٍ، ففهمنا بمبلغ ما علمنا من ظاهر ما عليهما، وعلى أولادهما من بعدهما، ما بطن من حظيهما وموهبتيهما ومكرمتيهما.
وإنما كثر ولد إسحاق، وظهروا في وقت موسى -صلوات الله عليه- حيث أنقذهم من بلية فرعون وسخرته، وجاء بالكتب من الله، وظهرت العبودة لله إلى وقت عيسى بن مريم -صلوات الله عليه-، ثم صارت فترة، فظهرت منازلهم، ودرجاتهم، وجواهر نفوسهم، بما عاملهم الله، وبما عاملوه، وكثر ولد إسماعيل، وظهر شأنهم بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وظهرت سيرتهم في دينهم، وما عاملهم الله به وما عاملوه، فتبين لنا بفعليهما شأن نفوسهم، ومحلهم من الله -تبارك اسمه-، وحظوظهم منه.
394 - حدثنا المعتمر بن سليمان، عن نهاس بن(2/270)
قهمٍ، عن مكحولٍ، قال: لما كثر بنو معدٍّ، أغار منهم أربعون فارساً عليهم أدراع الصوف، خاطمي خيلهم بالليف، معلني رماحهم ومعقبيها، فأغاروا على عسكر بني إسرائيل، فيهم موسى وهارون، قال: فملؤوا أيديهم من الغنيمة، ورجعوا بغنيمتهم، لم يستنقذ مما في أيديهم شيءٌ، فقالوا لموسى: أغار علينا بنو معدٍّ، وهم قليلٌ، فكيف لو كانوا كثيراً؟! وأنتم بيننا، فكيف لو لم تكونوا فينا؟! فادع الله عليهم، وكانت الأنبياء -صلوات الله عليهم- يفزعون إلى الصلاة، فصلى، فقال: اللهم إن بني معدٍّ أغاروا على قومي، ففعلوا، وفعلوا، وإن قومي أمروني أن أدعو عليهم، فقيل له: لا تدع عليهم؛ فإنهم(2/271)
عبادي، وإنهم ينتهون إلى أداء أمري، وإني أغفر لهم أول ما يستغفرونني، قال: يا رب! فاجعلهم من أمتي، قال: نبيهم منهم، قال: يا رب! فاجعلني منهم، قال: استقدمت واستأخروا.
ولذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال في حديث المعراج: ((فلما جاوزت موسى في السماء السادسة، بكى موسى، وقال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم ولد آدم على الله، وهذا عبدٌ أكرم على الله مني، فلو كان إليه وحده هان علي، ولكن الله قضى أن مع كل نبيٍّ تبعةً من أمته، ثم انطلق بي إلى السماء السابعة، فإذا إبراهيم ملزقٌ ظهره بالبيت المعمور، ومعه تبعةٌ من أمته، فقال لي جبريل: هذه منزلتك، ومنزلة أمتك، وهذا أبوك إبراهيم، فقال: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}.(2/272)
فألحق هذه الأمة بإبراهيم -صلوات الله عليه-، وضمهم في الولاية جميعاً، ولم يدخل فيه بنو إسرائيل، وهم ولد إبراهيم أيضاً.
فقد بين في هذا الحديث منزلتيهما ودرجتيهما، وإنما أري في السماء الأنبياء، وأتباعهم على درجاتهم، وإبراهيم المقدم عليهم، ووصفهم الله في تنزيله شأن الأمتين، فوجدنا شأن بني إسرائيل يجري على سبيل العدل وأساس الربوبية، وشأن هذه الأمة يجري على سبيل الفضل والألوهية، فظهرت في بني إسرائيل السياحة والرهبانية، وعليهم في شريعتهم إلى الله الأغلال والآصار.
وظهرت في هذه الأمة السماحة، والصديقية، والشجاعة، والولاية، وسيوف الله في أيديهم، يقتلون آباق عبيده، أو يردونهم إلى الله للرق والعبودة، وفك عنهم الأغلال، ووضع عنهم الآصار، وصاروا في حد الأمناء، وجعلت شريعتهم أسمح الشرائع، وأوسعها، فهم في عبودتهم في صورة الخدم، وبنو إسرائيل في عبودتهم في صورة عبيد الغلة.
ألا ترى أنه لما خاطبهم، قال: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون}، كما يقول الرجل لعبده: أوف لي بهذه الغلة عند هلال كل شهر، أوف لك بالعتق في سنة كذا؟(2/273)
ثم قال لهذه الأمة: {يأيها الذين آمنوا}، فدعاهم بالكنية، كنية باطنها منةٌ، وظاهرها مدحةٌ، من عليهم في الباطن بالإيمان، ثم نسب ذلك إلى فعلهم، فقال: {آمنوا}، فمدحهم بذلك، فبهذه الكنية دعاهم، ودعا أولئك، فنسبهم إلى أبيهم، فقال: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين}؛ أي: عالمي زمانكم، ولكل زمان عالم.
وقال لهذه الأمة: {يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}، ثم قال: {وجاهدوا في الله حق جهاده}، ثم قال: {هو اجتباكم}؛ أي: هو اختاركم.
ثم قال: {وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ}؛ أي: ضيق {ملة أبيكم إبراهيم}، ثم قال: {هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا}؛ أي: من قبل أن يخلقكم في اللوح المحفوظ، ثم سماكم هكذا {لتكونوا شهداء على الناس}، فهم شهداء الله للأنبياء على الأمم يوم القيامة {ويكون الرسول عليكم شهيداً}، {واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}.
فانظر إلى مخاطبة بني إسرائيل في أي صورة ذلك الأمر، وانظر إلى مخاطبة هذه الأمة في أي صورة ذلك، يبين لك أنهم في صورة عبيدٍ(2/274)
الغلة، وهذه الأمة في صورة عبيد الخدمة، وعبيد الخدمة أولى بالسيد من عبيد الغفلة.
فساحت بنو إسرائيل بأبدانهم إلى الجبال في مفاوز الدنيا عزلة بالأبدان عن الخلق، كي يصدقوا الله في طلب ما عهد إليهم، ويوفوا بعهد الله عليهم.
وساحت أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم بقلوبهم في مفاوز الملكوت إلى خالق العرش، (عزلة بالقلوب عن همم النفوس؛ كي يصدقوا الله في طلبه، والوصول إليه)؛ فإن الله -تبارك وتعالى- دعا الخلق إليه، فلما علم تلكؤ نفوسهم وتباطؤهم في إجابته، دعاهم إلى دار السلام؛ لتستريح نفوسهم، وتخف في الإجابة؛ فقد وصفها لهم، وعلموا أنها دار الشهوات وقضاء الأماني، فقال فيما مضى من قوله: ((إلي إليّ يا أهل الموت والفناء، لا إلى غيري؛ فإني قضيت بالرحمة على نفسي، وأوجبت المغفرة لمن استغفرني، فأنا العفو، أعفو عن صغير الذنوب وكبيرها، ولا أبالي)).(2/275)
وقال في تنزيله علينا: {يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، وقال: {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يومٌ لا مرد له من الله}.
فلما أبطأت النفوس في الإجابة، قال: {والله يدعوا إلى دار السلام}، فإن لم تجيبوني إذ دعوتكم من أجلي، فأجيبوني من أجل دار السلام؛ كي تستحيوا مني إذا لقيتموني، وانكشف الغطاء عن هذه المعاملة.
فأهل الالتفات إلى الثواب والعقاب في هذا الحياء من القرن إلى القدم بين يديه غداً؛ لأن نفوسهم لم تسمح بالعبودة لربها إلا بالاسترواح إلى الثواب، والرهب من العقاب، فهذه عبودة برشوة وعربون، وليس هذه عبودة الأنبياء ولا الصديقين، ولا أولياء الرحمن، هذه عبودة عبيد النفوس، وعبيد الشهوات المخلطين سيئاتهم بحسناتهم، وفي حشو أعمالهم الظاهرة من العجائب ما لو بليت السرائر، وحصل ما في الصدور يوم انكشاف الغطاء لهربوا من أعمالهم، وتركوها بمكانها(2/276)
حياء من الله، فجعل حظوظ بني إسرائيل على قلوبهم في دار الدنيا حقوقه وعهده، وفي الآخرة جنانه ثواباً لرعاية حقوقه، والوفاء بعهده، وحظوظ هذه الأمة على قلوبهم في دار الدنيا جلاله، وعظمته، وسلطانه، ومعرفة آلائه وفضله، ورحمته، وفي الآخرة: رفع الحجاب فيما بينه وبينهم، وقدمهم في الدنيا خروجاً، وأخرنا، وقدمنا في الجنة دخولاً، وأخرهم.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الجنة محرمةٌ على الأنبياء حتى أدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي)).
فبهذه الأمة فتح العبودة يوم الميثاق، وبهذه الأمة تختم العبودة يوم تصرم الدنيا، وبهذه الأمة يفتح باب الرحمة، فيدخلون داره.
ثم ظهرت من معاملة بني إسرائيل ربهم، ومن معاملة هذه الأمة ربها، ما دلت على نفوسهم وأخلاقهم، ومحلهم من المكارم التي أعطيا، والمواهب.
فكانت مكرمة إسماعيل بيت الله الذي خلقه قبل خلق السماوات والأرض، فكانت زبدةً بيضاء، إذ عرشه على الماء، فبوأ لذكره هناك، وخلق ملكين يسبحانه، ويقدسانه على الزبدة، فابيضت، فهناك مظهره، ومعلمه(2/277)
ومبوأ ذكره، وموضع تقديسه، ولا سماء، ولا أرض، ولا خلق، فولاه الله رفع قواعده مع أبيه دون إسحاق، وجعل حجابته بيد ولده، فهم محجبون، ومأذونون، وأنيط له زمزم سقياً له ولولده من بعده، ولجميع من أم البيت معظماً، وساق إليه عيناً من عيون الجنة، ففتح فيه ينبوعها، وجعله مهبط رحمته في كل يوم، ومنه تنتشر على أهل الدنيا، فيخص منها أهلها بمئة رحمة، وعشرين لأهل الدنيا.
ومكرمة إسحاق الصخرة التي إليها يجمع الخلق ويحاسبهم، وهي صخرة من الجنة عليها الأرضون السبع، وهي رأس تلك الصخرة.
وأما المعاملة: فإنه لما جاءت المحنتان من الله لهما في وقتيهما، برز ما في نفوسهم، وبرز ما لهم من الحظ في الغيب عنده بالمحبة، فإن السيد إذا كان له عبيدٌ، فإنما يبين حظوظ العبيد منه بمعاملته إياهم، وتبين جواهر نفوسهم بمعاملتهم إياه.
فإنما كثر ولد إسحاق في زمن يوسف عليه السلام بمصر بعد ما حاز الله(2/278)
ليوسف عليه السلام مدائن مصرٍ، وأسكنه إياها، وجعل بيده خزائنها، ودخلها إسرائيل، وهو يعقوب عليه السلام في ستةٍ وتسعين نفساً من ولده، وولد ولده، ونسلهم، فإنما الله عددهم، وبارك في ذريته، حتى خرجوا إلى البحر يوم غرق فرعون، وهم ست مئة ألفٍ من المقاتلة سوى الشيوخ، والذرية، والنساء، وجاوز عددهم ألف ألفٍ، فقال الله تبارك وتعالى يحكي عنهم: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شكٍ مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً}.
فهذا فعلهم بعد أن صيرهم ملوك مصر وأربابها، فغير الله ما بهم، فصاروا سخرةً لآل فرعون، يخدمونهم خدمة العبيد والإماء رجالهم ونساؤهم، ومن عجز عن الخدمة لسنه، ضع عليه الغلة، فاستودى مساء كل يومٍ، فإن أعطى، وإلا غلت يمينه، فكانوا في عذاب وبلاء، وقتل أبناءهم، وكل مولود يولد فيهم خوفاً من رؤياه: أنه يولد منهم مولود يكون هلاك ملكه على يديه، فبعث الله موسى، ورحمهم به، فقال في تنزيله: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.
فجعلهم كذلك، ووفى لهم بما وعد، فإنما عددهم، وأنزل فيهم(2/279)
الكتب، وبعث فيهم الرسل والأنبياء، وجعلهم أهل ديانة وعبادة وجهد وعهود ومواثيق.
وأما ولد إسماعيل: فجعل فيهم السخاء، وأولي الأخلاق والمكارم، ومنحهم من خزائنه تلك الأخلاق الطاهرة التي عيش أهلها عيش أهل الجنة.
فإن صاحب الأخلاق قلبه في راحةٍ؛ لأن نفسه طيبة غنية كريمة، وصاحب الضيق قلبه معذبٌ؛ لأن نفسه شكسة كزة يابسةٌ، فقيرةٌ، فناءت وبان بوناً بعيداً قلب مستريح وقلب معذب، هذا من قبل أن تأتيهم الهداية، فلما جاءت الهداية والغياث من الله، ورد على قلوب بني إسرائيل نور التوحيد وروحه، وتركوا مع مجاهدة نفس كزة يابسة ضيقة، وورد على قلوب هذه الأمة نور التوحيد وروحه، ونور اليقين وروحه.
فقلوب بني إسرائيل قلوب مؤيدة بالتوحيد، معذبة بكزازة النفس، وضيقها، وقلوب هذه الأمة مؤيدة بالتوحيد، مستريحة بروح اليقين، وهو قوله تعالى: {قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم}؛(2/280)
أي: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم: {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليمٌ}، قد علم من هو أهل لذلك، كما قال: {وكانوا أحق بها وأهلها}؛ أي: أهلاً لكلمة لا إله إلا الله، وهي إعلاء كلمة فيما بين العرش والثرى، ثم قال: {يختص برحمته من يشاء؛ أي: قد اختصكم يا أمة محمد بالرحمة، فبذلك نلتم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أعطيت أمةٌ من اليقين ما أعطيت أمتي)).
ومثل من أعطي اليقين، وفضل به، ومن حرم ذلك، كمثل شجرة لها غصنان، والسقيا واحدٌ، فلما جرى الماء إلى أحد الغصنين، تحولت طيباً بمشيئة الله، وجرى في الغصن الآخر، فتحولت ثماراً، فمن الثمار حلوٌ وحامض، ومدخول وعفن، ومرٌّ، فمنه ما ينتفع به، ومنه ما ينفى فيرمى به، والطيب يطيب به كل شيءٍ من المأكول والمشروب، والملبوس، والمركوب، والمنكوح.
وإذا ذهب الطيب، نتن، فذهبت لذته، وتنغص طعمه على طاعمه لرائحته.(2/281)
فوجدنا هذه الأمة نفوسها طيبة كما ذكرناه بدءاً، وأيدت بروح اليقين، فخرجت الأعمال زاكية طيبة، فيها الهناءة والمراءة، بها يهنأ الحق، ويستمر بها ولم يوجد فيمن سواهم، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال له قائل: ما روح اليقين؟
قال: برد القربة من الرحمة والعطف، فراحت بها من فورة النفس وحرارتها، وليس فيما قلت شفاء؛ لأنك لم تصل إليه، والشفاء لمن وصل فاحتظى منه، وذلك أن النفس خرجت من هوى المخلوقين إلى هوى القربة، فكل الطيب هناك، فأنقذ الله بني إسرائيل من ملكة فرعون وعذابه وسخرته بمبعث موسى -صلوات الله عليه-، وغرق فرعون، وجعل لهم طريقاً في البحر يبساً، فلما جاوزوه، قالوا: يا موسى! إن قلوبنا لا تطمئن، أن فرعون قد غرق، حتى أمر الله البحر فلفظه، فنظروا إليه، فلما اطمأنوا، وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة، رأوا أقواماً يعكفون على أصنام لهم، فقالوا: يا موسى! اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةً، حتى زجرهم موسى، وقال: {أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين}؛ أي: عالمي زمانهم.(2/282)
ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم، ويتطهروا من أرض فرعون، وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبابرة، قد غلبوا عليها، فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال، فقالوا له: أتريد أن تجعلنا لحمةً للجبارين، فلو أنك تركتنا في يدي فرعون، كان خيراً لنا، قال: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم}، قالوا: {لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} حتى دعا عليهم وسماهم: فاسقين.
فبقوا في التيه أربعين سنةً عقوبةً، ثم رحمهم، فمن عليهم بالسلوى، وبالغمام تظلهم، وبالحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عيناً إذا ضربه بعصاه، فقالوا: لو أن موسى انكسر عصاه، لمتنا عطشاً، قال: فأوحي إلى موسى: إذا كان وقت الماء، فكلم الحجر، ولا تضربه بالعصا؛ حتى تنفجر العيون بكلمتك.
ثم سار موسى إلى طور سيناء ليجيئهم بالتوراة، فاتخذوا العجل، وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فاطمأنوا إلى قوله، ونهاهم(2/283)
هارون فقال: {يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري}، قالوا: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى}، فلم يتبع هارون، ولم يطعه في ترك العجل إلا اثنا عشر ألفاً فيما روي في الخبر، وتهافت في عبادته سائرهم، وهم أكثر من ألفي ألفٍ.
فلما رجع موسى عليه السلام، ألقى الألواح، فرفع من التوراة ستة أجزاءٍ، وبقي جزءٌ واحدٌ، وهو الحلال والحرام، وما يحتاجون إليه، وأحرق العجل، وذراه في البحر، فشربوا من مائه حباً للعجل، فظهرت على شفاههم صفرة، وورمت بطونهم، فتابوا، فلم يقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم، فذلك قوله تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم}.
فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض، من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، وقتل بعضهم بعضاً، لا يسأل والد عن ولده، ولا أخ عن أخيه، ولا أحد عن أحد، كل من استقبله أحد ضربه بالسيف، وضربه الآخر بمثله، حتى عج موسى عليه السلام إلى الله صارخاً: يا رباه! قد فنيت بنو إسرائيل، فرحمهم، وجاد عليهم بفضله، فقبل توبة من بقي، وجعل من قتل في الشهداء.
ثم قالوا: يا موسى! {أرنا الله جهرةً}، فجاءت صاعقةٌ، وأحرقت من جمعهم أربعين ألفاً، فيما جاءنا في الخبر.(2/284)
ثم عرض عليهم ما في التوراة ليقبلوها، فأبوا، ثم قالوا: لا نطيق هذا، فنتق الله عليهم الجبل، ونودوا منها {خذوا ما آتيناكم بقوةٍ}، وإلا رميناكم بالجبل، فسجدوا على حروف جباههم ينظرون إلى الجبل، ويقولون: قبلنا قبلنا.
ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس: {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطةٌ}؛ أي: حط عنا، بمنزلة قوله: أستغفر الله، فقالوا: حنطة؛ سخرية واستخفافاً بما أعطوا، قال الله -تبارك وتعالى-: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم}.
فجاء في الخبر: أنهم أمروا أن يدخلوا الباب سجداً على ركبهم، هكذا حتى يدخلوا، فعلم الله منهم ضيق أخلاقهم، وأنهم لن يدخلوها سجداً، فلما صاروا إلى الباب، طؤطئ لهم الباب، حتى لا يمكنهم أن يدخلوها قياماً، فكزت نفوسهم، والتوت، وانكشفت سوء أخلاقهم، واستلقوا على ظهورهم زحفاً على الأستاه، وهم يقولون: حنطةٌ حنطةٌ هطى سمقاثا.
قال الله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا(2/285)
على الذين ظلموا رجزاً من السماء}.
فحرموا المغفرة، فكان موسى عليه السلام شديد الحياء، ستيراً، فقالوا: إنه آدر، فلما اغتسل، وضع على الحجر ثوبه، فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل، وموسى عليه السلام على إثره عريان، وهو يقول: (ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر)، يا أيها الحجر! ثوبي، فذلك قوله: {لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا}.
ثم لما مات هارون، قالوا له: أنت قتلت هارون وحسدته، حتى نزلت الملائكة بسرير هارون ميت عليه.
ثم سألوه: أن يكون ما تقدم من أموالنا نعلم بقبولها، هل تعلم يقبلها، فجعلت نار تجيء من السماء فيتقبل قربانهم.(2/286)
ثم سألوه: أن يبين لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا، فكان من أذنب ذنباً أصبح وعلى بابه مكتوبٌ: عملت كذا، وكفارته قط عضو من أعضائك يسميه له، ومن أصابه بولٌ لم يطهر حتى يقرضه، فيزيل جلدته من بدنه.
ثم بدلوا التوراة من بعده، وافتروا على الله، وكتبوا بأيديهم، ليشتروا به من الدنيا عرضاً، ثم صار أمرهم إلا أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم.
فهذه معاملتهم مع الله، وسيرتهم في دينهم، قد انكشف لنا عن جواهرهم، وأخلاقهم، وحظوظهم من ربهم، بما أنزل الله علينا من أخبارهم، ولمن كان له فهم.
وأما ولد إسماعيل: فلم يزالوا مذكورين بالسماحة، والأخلاق السنية، والأفعال العلية، يطعمون الطعام، ويكفلون الأيتام، ويرعون الذمام، وهم في شركهم، ويفكون العاني، ولم يزل تلك عادتهم وسيرتهم وطبيعتهم، ولم يسلط عليهم أحداً فيسبيهم ولا يستسخرهم، ولا صاروا ملكاً لأحد من الفراعنة، حتى أكرمهم الله بمبعث محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فصاغ محمد صلى الله عليه وسلم صياغة، برز على الأنبياء والرسل، فصار سيداً لجميع ولد آدم، وأنزل عليه كتاباً مهيمناً على الكتب، أجمل فيه التوراة والإنجيل، واختصر له الكلم، وزاده المفصل، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وخاتمة سورة البقرة من كنزه الذي ادخره لهذه الأمة، ووصفهم في التوراة بمحاسنهم لبني إسرائيل من قبل أن يخلقهم بآلاف من السنين، ولعيسى(2/287)
ولقومه في الإنجيل، حتى روي في الحديث:
أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسمون في التوراة: صفوة الرحمن.
وفي الإنجيل: حكماء علماء، أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء.
وقال في القرآن: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}؛ تصديقاً لما في التوراة: أنهم يسمون: صفوة الرحمن.
وقال: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس}، وقال: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً}؛ أي: عدلاً؛ {لتكونوا شهداء على الناس}؛ أي: شهداء الرسل بالبلاغ، عندما تجحد الأمم بتبليغ الرسل رسالات الله.
فتشهد هذه الأمة لنوح فمن دونه رسولاً رسولاً: أنهم قد أدوا الرسالة، فيحكم الله بشهادتهم على سائر الأمم، ويتخلص الرسل من أمانات الرسالة، وذلك بعد ما يعدلهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس}، ثم قال: {ويكون الرسول عليكم شهيداً}.
فتكون شهادة أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم يومئذ مقبولة على جميع الأمم، لجميع الأنبياء، ثم أعطاهم سيفه ليقتلوا به أعداءه، ولا يقتل أعداءه إلا أولياؤه،(2/288)
ثم قال: {والله ولي المؤمنين}.
فهم أولياء الله، والله وليهم، وهم أهل حميته وأنصاره، فدعوا إلى الحرب، فوضعوا السيوف على عواتقهم، وربطوا الحجر على بطونهم من الجوع، والخرق على ظهورهم من العري، وقد هجروا أوطانهم، ومقرهم، وحرم الله، وأظهروا عداوةً في الله لأهل الشرك، وخرجوا من ديارهم وأموالهم، ونابذوا أرحامهم في الله، حتى كان الرجل يقتل أباه وأخاه، فكان أبو عبيدة بن الجراح ممن قتل أباه، فأنزل الله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} ثم أثنى عليهم فقال: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروحٍ منه}.
فمن يعلم كنه هذه الكلمة إلا أهل اليقين وأولو الألباب؟
({أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم})، ثم قال: {وأيدهم بروحٍ منه}، فهم المكتوب في قلوبهم الإيمان، المؤيدون بروحه، {ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هو المفلحون}.(2/289)
وقالوا عندما استشارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أمر الحرب: مرنا بما شئت، وسر بنا حيث شئت، فلو سرت بنا إلى برك الغماد، لسرنا -موضع بعيد ذكروه-، فوالله! لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إن ههنا قاعدون}.
وعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر، فخرج من الحجرة مغضباً، فرقي المنبر وقد احمرت عيناه ووجنتاه، فقال: ((ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا؟!))، فرأوا الغضب في وجهه، فنادت الأنصار، وقالوا: السلاح السلاح، فأحدقوا حول المنبر في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق، وافتتح خيبر، وغنم الغنائم، فقسم في المهاجرين، ولم يقسم في الأنصار؛ لأنهم في أموالهم، والمهاجرون خلفوا الأموال بمكة، فسمحت الأنصار بذلك، وكانوا حين قدموا المدينة ناصفوهم الأموال، وواسوهم بالكثير، حتى كاد الرجل يطلق إحدى امرأتيه ليتزوجها أخوه المهاجر.(2/290)
هذا كله لحب الله، وحب طاعته، وحب رسوله، فانظر أي قلوبٍ هذه، وأي شيء في هذه القلوب من منن الله، وانظر أي جواهر هذه النفوس، وانظر أي أخلاق لهذه النفوس؟
اللهم إنا نتقرب إليك بحبهم، فإنهم أحبوك، ولم يحبوك حتى أحببتهم، فبحبك إياهم وصلوا إلى حبك، ونحن لم نصل إلى حبهم فيك إلا بحظنا منك، فتمم لنا ذلك حتى نلقاك وأنت أرحم الراحمين.
وأثنى الله على الأنصار، ومدح سرائرهم، فقال: {يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا}؛ أي: لا يجدون ضيقاً ولا نفاسةً فيما أوتي المهاجرون من غنيمة خيبر، ولم يؤت الأنصار.
{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ}. يخبر أنه قد كان بالأنصار فقر وحاجة إلى تلك الغنائم، فآثروا المهاجرين على أنفسهم، ثم أخبر أن هذا من منة الله على الأنصار أنه من عليهم بأن أمات فيهم الحرص، وهو الشح، فقال: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
وإنما أمات فيهم الحرص على الدنيا بما أعطاهم من اليقين الفاضل على الأمم، فباليقين مات الحرص، وما يصنع من احتشى قلبه بنور الله،(2/291)
ويرى قربة الله منه بظلمات الدنيا وحطامها ولهوها؟!
وسار بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة، وهو وطنهم وأرضهم المقدسة؛ كما سار بهم موسى -صلوات الله عليه-، فما تلكأ منهم شيخ ولا شابٌّ، حتى فتح الله عليهم من غير أن يمسهم سوء.
ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتعث الله لهذا الدين أئمةً صديقين، خلفاء الأنبياء، وأوتاد الأرض، يقومون بالحق، وبه يعدلون.
فتفاوت الأمران والشأنان: شأن بني إسرائيل، وشأن هذه الأمة.
395 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم بن عبد الله بن عمر، قال: بينما رجلان جالسان، إذ قال أحدهما: لقد رأيت البارحة كل نبيٍّ في الأرض، قال الآخر: هات، قال: رأيت كل نبيٍّ معه أربعة مصابيح: مصباحٌ بين يديه، ومصباحٌ من خلفه، ومصباحٌ عن يمينه، ومصباحٌ عن يساره، ومع كل صاحبٍ له مصباحٌ، ثم رأيت رجلاً قام، أضاءت له الأرض، وكل شعرة في رأسه مصباحٌ، ومع كل صاحبٍ له أربعة مصابيح: مصباحٌ بين يديه، ومصباحٌ من(2/292)
خلفه، ومصباحٌ عن يمينه، ومصباحٌ عن يساره، فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله، قال كعب: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ قال: رؤيا رأيتها البارحة، وقال: والذي بعث محمداً بالحق نبياً! إنها لفي كتاب الله كما رأيت.
فبرز ولد إسماعيل وهم العرب على سائر الناس، بما منحهم الله من أخلاقه.
وجاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن لله مئةً وسبعة عشر خلقاً، من أتاه بواحدٍ منها، دخل الجنة)).
396 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الواحد بن زيدٍ، قال: حدثنا عبد الله بن راشد، قال: حدثني مولاي عثمان بن عفان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.(2/293)
397 - حدثنا أبو قلابة بن محمد بن عبد الله الرقاشي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن عبد الواحد بن زيد، عن عبد الله بن راشدٍ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(2/294)
398 - حدثنا محمد بن مرزوقٍ البصري، قال: حدثنا شداد بن علي الهزاني، وكان قد صام ثمانين سنة متتابعة، عن عبد الواحد بن زيدٍ، عن عبد الله بن راشدٍ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
فكأنه يدل على أن من أتاه بخلق واحد منها، وهب له جميع سيئاته، وغفر له ذنوبه.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الأخلاق في الخزائن، فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً، منحه خلقاً منها)).
ألا ترى: أن الرجل المفرط في دينه، المضيع لحقوقه، يموت وقد كان صاحب الخلق من هذه الأخلاق، فتنطلق ألسنة العامة بالثناء عليه، والمؤمنون شهود الله في الأرض.(2/295)
كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وإنما قيل: شهود الله في الأرض يشهدون للرسل يوم القيامة، فهم شهود الله.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): أنه مر عليه بجنازة.
399 - حدثنا بذلك بشر بن هلال الصواف قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابتٍ، عن أنسٍ: أنه قال: مات رجلٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأثني عليه خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وجبت))، ثم مات آخر، فأثني عليه شراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وجبت))، فقيل له: يا رسول الله! قلت لذلك: وجبت، وقلت لهذا: وجبت؟ قال: ((إنكم شهداء الله في الأرض)).(2/296)
400 - حدثنا عمر بن أبي عمر بإسنادٍ له بمثله، وزاد فيه: ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}.
فصاحب الخلق مع تخليط كثير وتضييع وتفريط، فإذا مات، انطلقت ألسنة المؤمنين بالثناء عليه، فيقال: كان سخي النفس، فيقبل الله شهادتهم عليه، ويدخله الجنة بسخاوته، ويموت أحدهم كذلك، فيقال: كان ليناً، ويموت أحدهم، فيقال: كان رحيماً، ويموت أحدهم، فيقال: كان حسن الخلق، ويموت أحدهم، فيقال: كان حليماً، ويموت أحدهم، فيقال: كان رزيناً، ويموت أحدهم، فيقال: كان عطوفاً، ويموت أحدهم، فيقال:(2/297)
كان براً متودداً، ويموت أحدهم، فيقال: كان كريماً، ويموت أحدهم فيقال: كان سهلاً، ويموت أحدهم، فيقال: كان مواتياً منبسطاً، ويموت أحدهم، فيقال: كان عفواً حمولاً، ويموت أحدهم، فيقال: كان ليناً رفيقاً، ويموت أحدهم، فيقال: كان عفيفاً، تعاف نفسه مداني الأخلاق والأمور، ويموت أحدهم، فيقال: كان شكوراً لما يؤتى إليه، ويموت أحدهم فيقال: كان شجاعاً جلداً صارماً.
فهذه أخلاق الله -تبارك وتعالى-، أكثرها مما تسمى به، والذي لم يتسم به؛ لأنه لفظة تنسب المخلوقين إليها، وإنما تسمى بالأرفع والأعزب، وتلك داخلةٌ فيما تسمى به؛ لأن اللين والرزانة من الحلم، والرحمة والعفة من النزاهة والطهارة.
فمنيحة الله إياه واحدةً من هذه الأخلاق: أن يعطيه نور ذلك الاسم الذي تسمى به ربنا، فيشرق نوره على قلبه وفي صدره، فيصير لنفسه بذلك الخلق بصيرةٌ، فيعتادها، ويتخلق بها، فحقيقٌ عليه إذا أكرمه بذلك أن يهب له مساوئه، ويستره بمغفرته، ويدخله الجنة، فإنه ما أعطاه ذلك حتى أوجب له ذلك في غيبه.
وقد جاء في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحقق ما قلنا، من ذلك(2/298)
ما روي عنه أنه قال: ((بينما رجلٌ لم يعمل خيراً قط فرفع غصن شوكٍ من الطريق، وقال: لعل ماراً يمر به فيؤذيه، فغفر الله له)).
فإنما غفر الله له بالرحمة التي في قلبه، وبالعطف الذي عطف على خلقه.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((بينما رجلٌ حوسب فلم يجد له حسنةً، فقال الله سبحانه وتعالى: اذكر شيئاً كنت تعمله في الدنيا، فأذكر العبد، فقال لا أذكر شيئاً يا رب إلا أني كنت أسامح الناس، وآمر غلماني أن يسامحوهم في اقتضاء مالي منهم، فيقول الله: فأنا أحق أن أسامحك اليوم)).
ومثل هذا كثير في الأخبار.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الله تعالى يحب كل عبدٍ طلقٍ(2/299)
سهلٍ لينٍ هينٍ، وحرمه على النار)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)).
وقال: ((الجنة دار الأسخياء، وما جبل الله ولياً له إلا على السخاء، ولجاهلٌ سخيٌّ أحب إلى الله من عابدٍ بخيلٍ)).(2/300)
وقال: ((حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة، ويدرك به درجة الصائم والقائم)).(2/301)
وقال عز وجل: {والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
وقال: ((التأني والتؤدة من الله)).
فكانت هذه الأخلاق للعرب: ومنائح الله لهم، ثم طهرهم بالتوحيد، ثم طيبهم باليقين، فعبدوا الله على مطلع عظيم، وكأنهم يعبدونه عن(2/302)
رؤية، فشق لهم أسماء من اسمه، وشرع لهم أوسع الشرائع وأسمحها، وستر عليهم ذنوبهم، وجعل خروجهم منها بالندم والاستغفار، وأعطاهم جواهر الكلم.
فقال لبني إسرائيل: عاقبوا أبدانكم بذنوبكم، واقطعوا منها كذا، وتجدونه مكتوباً على أبوابكم.
وقال لنا في ستر ذنوبنا: {توبوا}؛ أي: ارجعوا بقلوبكم فيما بيني وبينكم.
وقال لهم: {وقولوا حطةٌ}؛ أي: حط عنا، وقال لنا: قولوا: {اغفر لنا}.
فهذا جوهر غير ذلك، وإنما صار هذا هكذا؛ لأن كلام كل قوم عند ربهم على ما هم عليه، فبنو إسرائيل لم يكن عندهم من اليقين ما عند هذه الأمة، فلما أذنبوا، قيل لهم: {وقولوا حطةٌ}؛ أي: حط عنا.
وهذه الأمة بفضل يقينها استحيت من الله للذنب الذي تعمله، وكأنه رأى نفسه خارجاً من ستر الله عرياناً، فأعطي الكلمة التي تكون دواءً لما حل به، ورأى نفسه بتلك الحالة، فقيل له: قل: اغفر لي؛ [أي:](2/303)
استر وغط، فإن أصل المغفرة: الستر والتغطية، ومنه سمي المغفر؛ لأنه يغطي الرأس.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البزاق في المسجد، قال: ((فإنه أغفر للنخامة))؛ أي: أستر، فمن استحيا من ذنبه، ورأى نفسه عارياً بين يدي الله، قيل له: قل: اغفر لي، ومن عجز عن رؤية هذا، قيل له: قل: حطة، وصارت صدقاتهم عوداً بها على فقرائهم، فطابت نفوسهم بما رأوا على فقرائهم، من فضلهم، وسكنت قلوبهم على الصدقات أنها تصير إلى الله، ولم يتنطعوا، ولا تعمقوا، فأنزل الله عليهم: {هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات}.
فكان بعضهم يمشي بصدقته إلى السائل لا يكلها إلى غيره، ويقبلها من قبل أن يضعها في يده؛ ليقينهم بمن يأخذها منهم على ما أخبرهم(2/304)
ربهم أنه هو الذي يقبل ويأخذ، وقال: ((إن الصدقة لتقع في يد الله من قبل أن يأخذها السائل)).
فرزقهم الله من اليقين ما إذا قيل لهم الشيء، سكنت قلوبهم.
وقيل: إن قلوب هذه الأمة تأوي إلى ذكر الله، كما تحن الحمامة إلى وكرها، ولهي أسرع إلى الذكر من ظمأ الإبل في يوم ورودها إلى الماء.
وأمرت بنو إسرائيل أن يضعوا في أرديتهم خيوطاً خضراء، كي إذا نظروا إليها ذكروا السماء، فإذا ذكروا السماء، ذكروا العرش، فيذكرون الله، ويوم الوفادة، حيث اختار موسى عليه السلام سبعين رجلاً لميقات الله، فلما صاروا إلى الجبل، أعطاهم الله ثلاث خصال فيما روي في الخبر:
فقال: ((أعطيكم الحفظ لتقرؤوها عن قلوبكم))، قالوا: إنا نحب أن نقرأ التوراة نظراً، قال: ((فذلك لأمة أحمد))، قال: ((وأعطيكم السكينة(2/305)
في قلوبكم))، قالوا: نحن لا نقدر على حملها، فاجعلها لنا في تابوت، فكلمنا منها إذا احتجنا، قال: ((فذلك لأمة أحمد))، قال: ((وأعطيكم أن تصلوا من الأرض حيث أدركتكم))، قالوا: لا نحب إلا أن يكون ذلك في كنائسنا. قال: ((فذلك لأمة أحمد)).
فكان نوف البكالي إذا حدث بهذا الحديث، قال: احمدوا ربكم الذي شهد غيبتكم، وأخذ بحظكم، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم.
فجعل الله السكينة في قلوب المؤمنين، وجعل الأرض لهم مسجداً وطهوراً، وقرن الحفظ بالعقول منهم ليقرؤوا عن قلوبهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي ثلاثاً لم يعط أحدٌ: صفوف الصلاة، وتحية أهل الجنة، وآمين، إلا ما أعطي موسى وهارون من قوله: آمين)).(2/306)
وكان من قبلهم يتفرقون في الصلاة، وجوه بعضهم إلى بعضٍ، وقبلتهم إلى الصخرة، وإذا لقي أحدهم أخاه، انحنى له بدل السلام، وخضع له، وفيه مؤنة، يريد بذلك أمانه، فأعطينا تحية أهل الجنة أن يقول أحدهم بلسانه فيؤمنه.
فمن يقدر أن يحصي ما أعطيت هذه الأمة من اليسر والعلوم والجواهر، والبر واللطف والكرامة والفضل البارز؟ وجعل سيماء عبودتهم له يوم القيامة على وجوههم غر محجلون: غر من السجود، ومحجلون من الوضوء.
قد سجدت قبلهم الأمم، فلم يظهر على جباههم يومئذ شيء من هذا النور، ولا على أطرافهم، وتلك شارة أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الموقف، وبها يعرفون، وهم أهل الله وخاصته.
قيل: يا رسول الله! من أهل الله؟ قال: ((أهل القرآن)).(2/307)
وما زال موسى -صلوات الله عليه- يقول: يا رب! إني أجد في الألواح أمة لهم كذا، ويعملون كذا، فاجعلهم أمتي، يقول الله: هم أمة أحمد.
حتى قال فيما روي: يا ليتني كنت منهم؛ غبطةً بهم.
روي في الخبر: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن موسى عليه السلام اشتاق إلى رؤيتهم، فقال الله له بطور سيناء: أتحب أن أسمعك أصواتهم؟ فقال: بلى يا رب، فنادى: يا أمة أحمد! فأجابوه من الأصلاب: لبيك اللهم لبيك، فقال: أعطيتكم قبل أن تسألوني، وأجبتكم قبل أن تدعوني، ورحمتكم قبل أن تعصوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبدي ورسولي، أدخلته جنتي.
فذلك قوله: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمةً من ربك}؛ يمن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي: لم تكن يا محمد(2/308)
بجانب الطور إذ نادينا أمتك، ولكن رحمة عليهم من قبل أن أخلقهم.
401 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيمٍ، قال: حدثنا حرملة بن قيس النخعي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جريرٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بنحو من ذلك.
قال أبو عبد الله: فالعرب رأس الأمة، وسابقها إلى هذه المكرمة العظيمة الجليلة، منهم ابتعث الله نبيه المجتبى المصطفى على الرسل، وفيهم انبعث، وإليهم بعث، وعليهم أنزل كتابه، وإياهم خاطب، وبلسانهم أوحى، فقال: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كان من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
وقال: {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً}.(2/309)
وقال: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه}.
وقال: {وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تسئلون}.
أي: شرف لك ولقومك حيث خاطبتهم بالوحي، وسوف تسألون عن شكر هذا الشرف.
وهم الذين أقاموا الدين، وآزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصروا الله ورسوله.
قال أبو عبد الله: فإن الذي ذكرت من مناقب هذه الأمة لم ينفرد بها العرب دون العجم، وهم شركاء في جميع هذه المواهب التي أعطيت هذه الأمة.
قال: نعم هو كما ذكرت، ولكن السبق لهم في ذلك، والمعني بالعطية إياهم، والأخلاق الكرام لهم، وتلك الأخلاق غير موجودة في العجم وفي غيرهم إلا في الواحد بعد الواحد تخلقاً لا طبعاً، وأما الحكمة، فهي لهم.
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل يوم بدر حين قال: إنما قتلنا عجائز صلعاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مه، أولئك الملأ من قريشٍ، لو(2/310)
نظرت إلى أفعالهم لاحترقت فعالك عند فعالهم)).
فإنما فضلوا الناس بهذه المكارم، وذلك منهم طبع من لدن إسماعيل ابن إبراهيم -صلوات الله عليهما- وراثة فيهم تربية الله بالإسلام.
وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى اختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر كنانة)).
فلم يكن هناك دين قيم اختارهم من بين الخلق إلا بمحاسن الأخلاق ومكارم الفعال.
وبلغنا: أن كنانة كان إذا لم يجد أحداً يأكل معه، وضع بين يديه حجراً، يأكل لقمةً، وألقى إليه لقمةً؛ أنفةً من أن يأكل وحده، وإنما أخرج الله صفيه محمداً صلى الله عليه وسلم من خيار من خيار، فبان لك بخروجه منهم أن عنصرهم خير العناصر.
وكانت مائدة عبد المطلب موضوعة، وكان يرفع فيها الطير والسباع في رؤوس الجبال، وكان سوط أدبه معلقاً حيث يراه السفيه، يؤدبهم بذلك.(2/311)
402 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، عن مروان الفزاري، عن ثابت بن عمارة، عن غنيم بن قيسٍ، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني دعوت للعرب، فقلت: اللهم من لقيك منهم مؤمناً موقناً بك، فاغفر له أيام حياته، وهي دعوة أبينا إبراهيم، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة، ومن أقرب الناس إلى لوائي يومئذٍ العرب)).
ومما يحقق ما قلنا: قول الله -تبارك وتعالى-: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}، ثم قال: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}، وهم العجم، فصيرنا منهم، ولم يكن(2/312)
ظهور في ذلك الزمان.
ثم قال: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}، فهم الرأس، ونحن منهم، لا هم منا، والمبدوء بالفضل والمنة هم.
وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم}، (فهم الممنون عليهم، والمعنيون بالعطية والفضيلة).
ومن هاهنا قيل: حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق.
فإنما يحب حبهم؛ لإقبال الله عليهم، وإفضاله عليهم برحمته، ولحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانوا عشيرته، ومنهم انتخبه الله، فنسبوا إلى لسانهم، فقيل: عرب، ومن سواهم عجم، إلا الروم وما والاها، فليس في اللسان ما يبرزوا به على العالم كل هذا، إنما البروز والفضل لهم مما ذكرنا مما منحهم الله من مكارم الأخلاق، فمن لم يوجد فيه هذه الأخلاق، فهو هجينٌ، والهجنة ضائرةٌ جداً، حتى في الخيل، فكيف في الآدميين؟
403 - حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، قال: حدثنا عبد الله بن وهبٍ المصري، قال: أخبرني عبد الله بن(2/313)
كليبٍ، قال: بلغني أن سليمان بن داود -صلوات الله عليهما- أرسل الخيل من صنعاء إلى تدمر، فتقدم فرسان من الخيل، فقال المسبوق للسابق: لولا هجنةٌ في أدركتني من ثمانية عشرة جدةً، ما سبقتني.(2/314)
الأصل الثامن والستون
404 - حدثنا الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر المديني، ونصر بن علي، قالا: حدثنا عبد الله بن داود الخريبي، عن هانئ بن عثمان، عن حميضة بنت ياسرٍ، عن جدتها يسيرة، أخبرتها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهن أن يراعين الشمس بالتسبيح، والتقديس، والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسؤولاتٌ ومستنطقاتٌ)).
405 - حدثنا عبد القدوس بن محمد بن عبد الكبير(2/315)
ابن شعيب بن الحبحاب الأزدي، قال: حدثنا عبد الله بن داود، عن هانئ بن عثمان، عن حميضة بنت ياسرٍ، عن جدتها يسيرة، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسبح بالتسبيح، فقال: ((ألقين -أو دعن- عنكن، وعليكن بالأنامل، فسبحن بها؛ فإنهن مسؤولاتٌ ومستنطقاتٌ)).
406 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا محمد بن بشر العبدي جارٌ لوكيعٍ، قال: حدثنا هانئ بن عثمان، عن أمه حميضة بنت ياسرٍ، عن جدتها يسيرة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكن بالتسبيح والتقديس والتهليل، ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسؤولاتٌ ومستنطقاتٌ)).(2/316)
407 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا فليح ابن سلومة، عن محمد بن ربيعة الكلابي، عن هانئ بن عثمان بإسناده، بمثله.
قال أبو عبد الله: فمراعاة الشمس لطلوعها وغروبها. وقوله: تراعيها؛ أي: تراقبها وقت الطلوع والغروب، وهو قوله: {وسبحوه بكرةً وأصيلاً}.
يقال: أصلت الشمس إذا أمست، فهو الأصيل، وجمعها الآصال، والتسبيح: هو التسبيح، والتقديس: هو التنزيه، والتكبير والتهليل: هو التوحيد، والفرق بين التسبيح والتقديس: أن التسبيح للأسماء، والتقديس للآلاء، وكلاهما يؤديان إلى الطهر.
وأما العقد بالأنامل: فمن أجل أنها تنطق، وتشهد لصاحبها.(2/317)
أما المؤمن: فتنطق عنه بخيره، وتصمت عن السوء؛ ستراً من الله عليه.
وأما الكافر: فتنطق عنه بالسوء كله، وتصمت عن محاسنه؛ لأنه لغير الله، فهو هباء منثور، وهو قوله تعالى: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون. حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون}.
قال عبد الله بن أبي جعفر: الجلود هاهنا: الفروج، ولكن الله كنى عنها.
408 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي المصري، عن ابن وهبٍ، قال: أخبرني حرملة، عن عبد الله بن أبي جعفرٍ {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} أي: لفروجهم.
فهذا يحقق تأويل قوله: لأنهم اشتد عليهم شأن الفروج، فالعار فيه أكثر، فرجعوا باللوم على الفروج، ولم يقل: قالوا لسمعهم وأبصارهم،(2/318)
فإنما لاموا من اشتد عليهم بأن قالوا: {أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ وهو خلقكم أول مرةٍ وإليه ترجعون. وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون. وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم}؛ أي: أهلككم، {فأصبحتم من الخاسرين}.
قال الله -تبارك وتعالى-: {فإن يصبروا فالنار مثوىً لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين}.
فأخبر أن الجوارح تشهد، ثم بين على من تشهد، وهم الذين لم يعرفوا الله؛ حتى ظنوا أنه لا يعلم أعمالهم، ثم أخبر أن الذين أهلكهم هو ظنهم بالله ما هو منزه عن ذلك، فالمؤمن مستيقن أنه لا يخفى على ربه وزن خردلة، ولا مثقال ذرة في برها وبحرها، وفي ظلمات الأرض من لحظة أو طرفة أو فكرة أو حركة عرق، فهو معتذر إلى ربه من ذلك، مستغفر وتائب نادم، وإن مات على غير توبة، فهو منكر بقلبه، وإيمانه لا يدعه حتى ينكره، وإن دق وخفي، فإنما أنكره، من أجل أن ربه عالم به، وإذا أنكره، ساءته سيئته، وسرته حسنته.
فالإيمان يعمل فيه حتى يسوءه ويسره، والمؤمن حبيب الله ووليه،(2/319)
والكافر بغيض الله وعدوه، فالمطيع من المؤمنين هو بمكانه ومحله منه، والمخلط الذي قد أحسن وأساء في سيره إلى ربه لم يخرج عن محبته وولايته، ولكنه بذنوبه واجد عليه وكالمعرض عنه، ثم يرحمه في آخر أمره في وقت الإعراض عنه، (ولم يشك طرفة عين، فإن الله سبحانه وتعالى مطلع على سريرته وعلانيته، ففي وقت الإعراض عنه) لا يهتك ستره، ولا تنطق جوارحه بفضيحة، وإنما تنطق جوارح من أنكر أن الله لا يعلم ذلك، وجحده يومئذ، فتنطق جوارحه حتى تفضحه، ويعلمه أنه قد علم ذلك، وأنه هو الذي أنطقهن؛ لأنه ليس من شأن الجوارح النطق، فإذا أنطقهن، علم أنه هو الذي أنطقهن، وقد علم بذلك، وإنما يعامله بمثل هذه الأشياء؛ لأن الكافر يومئذ لا يعرف ربه، فهو يقول: رب، ويا رب، ولا يعرفه، ولو عرفه، لم يجحده.
ألا ترى أنه يقول يومئذ: {والله ربنا ما كنا مشركين} فإنما يعرفه معرفة المشركين، لا معرفة الموحدين.
(وفرق أبو عبد الله -عليه رحمة الله- بين المعرفتين)، وقال: إن معرفة المشركين معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها، فليس لأحد أن ينكره،(2/320)
ومعرفة المؤمنين معرفة الآلاء، وهو التوحيد والتنزيه.
قال الله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. وقال: {لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون}. {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم} {قل من بيده ملكوت كل شيءٍ}، {سيقولون لله قل فأنى تسحرون}. فسحرتهم أهواؤهم، وانقلبت بهم عن الله منكوسين، لم يتفضل الله عليهم، ولا من عليهم بنور التوحيد، {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نورٍ}.
فأحيا الله قلوب المؤمنين وهي ميتة بأن جعل له نوراً يمشي في الناس إلى الله كما وصف في تنزيله فقال: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً} الآية.(2/321)
الأصل التاسع والستون
409 - حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، عن سمي، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على جنازةٍ، فله قيراطٌ، ومن تبعها حتى يفرغ من أمرها، فله قيراطان، أحدهما أو أصغرهما كأحدٍ)).(2/323)
410 - حدثنا الحسن بن قزعة، قال: حدثنا مسلمة ابن علقمة، عن داود بن أبي هندٍ، عن عامرٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تبع جنازةً، وصلى عليها، ثم انصرف، فله قيراطٌ من الأجر، ومن تبعها، فصلى عليها، ثم قعد حتى يفرغ من دفنها، فله قيراطان، كل قيراطٍ أعظم من أحدٍ)).
411 - حدثنا عبد القدوس، قال: حدثنا عمي صالح بن عبد الكبير، قال: حدثني عمي أبو بكر بن شعيب ابن الحبحاب، عن أبيه، عن كثيرٍ مولى أبي الصلت، عن(2/324)
أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على جنازةٍ، فله قيراطٌ، ومن تبعها إلى الحفرة، فله قيراطان، القيراط مثل أحدٍ)).
412 - حدثنا عبد القدوس، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبان بن يزيد العطار، قال: حدثنا قتادة، عن سالم بن أبي الجعد الغطفاني، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مشى مع جنازةٍ فله قيراطٌ، ومن انتظر حتى يقضى دفنها، فله قيراطان، القيراط مثل أحدٍ)).(2/325)
413 - حدثنا محمد بن معمرٍ البصري، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا شعبة، عن عاصمٍ، عن زر، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من صلى على جنازةٍ، فله قيراطٌ، ومن شهدها، فله قيراطان، أصغرهما مثل أحدٍ)).
414 - حدثنا نصر بن علي الحداني، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن أشعث، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفلٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تبع جنازةً حتى تدفن، فله قيراطان، ومن رجع قبل أن تدفن، فله قيراطٌ)).(2/326)
قال أبو عبد الله: فالقيراط: سدس المثقال، فيما نرى أنه كان عند القوم ست قراريط في ذلك الزمان، وقد تغير بناحيتنا في عصرنا.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن للمسلم على المسلم من الحق ست خصالٍ: يجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويصلي عليه إذا مات، وينصحه إذا استنصحه، ويشمته إذا عطس)).
415 - حدثنا محمد بن زنبورٍ المكي، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفرٍ، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذلك.(2/327)
416 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، عن ابن مباركٍ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، أن زياد بن أنعم أخبره: أنه سمع أبا أيوب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم ستٌّ))، فذكر مثله.
فالقيراط من المثقال كالدانق من الدرهم، هذا سدس الدرهم، وذاك سدس المثقال، وفي بعض البلدان يقولون: شعيرة، فهذا تمثيل حيث ذكر القيراط يعلمك أنه إذا صلى عليه، فقد قضى سدس حقه، فكتب له من الأجر بمقدار سدس حقه كمال الحق.
وأما القيراط الآخر بدفنه، وانتظاره حتى يدفن، فذاك من النصيحة له، وهي إحدى الخصال التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنصيحة ضد الغش، فمن النصيحة له أن يكون في المغيب والمشهد على حال واحدة على سبيل(2/328)
الاستواء، فإذا لم يكن له كذلك، فهو غش، فإذا انتظر دفنه، فقد ولي منه في المغيب ما ولي منه في المشهد، فقد أدى حق نصيحته، ومن لم يدفن ولكن انتظر دفنه لينظر هل يحتاج إلى معونته، فهو شريك الذي يدفن، فهم كلهم شركاء في النصيحة.
فالقيراط الأول: بالصلاة عليه، والثاني: بالنصيحة له حيث نصحوه في المغيب بعد الممات، فواروا جسده الذي وجبت له حرمة وحق، فمثله رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الحق بهيئته كالمثقال بكماله، فكل خصلة منه فهو سدس الحق الذي عليه.(2/329)
الأصل السبعون
417 - حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي الحارثي البصري، قال: حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشيرٍ، قال: سمعت طلحة بن خراشٍ يقول: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا جابر! ما لي أراك منكسراً؟))، قلت: يا رسول الله! استشهد أبي وعليه دين، وترك عيالاً وديناً، قال: ((أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟))، قلت: بلى يا رسول الله! قال: ((ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجابٍ، وإنه أحيا أباك، فكلمه كفاحاً، فقال: يا عبدي! تمن علي أعطيك، قال: يا ربّ أحييني(2/331)
فأقتل فيك، قال -تبارك وتعالى-: سبق مني أنهم لا يرجعون))، ونزلت: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون} الآية.
قال أبو عبد الله: فهذا حال الشهداء، بذلوا له أنفسهم صدقاً، فلقوا الله لقاء أهل السعادة يوم الجزاء، عجل لهم اللقاء من قبل انقراض الدنيا، وأحياهم المولى من قبل نفخة الصور.
وقوله: (كلمه كفاحاً) أي: وجاهاً، وهو كقولهم: شفاهاً، إلا أن الشفاء للمخلوقين، والكفاح له؛ إذ هو غير موصوف الكلام منه بالأدوات.
وفي قوله: ((كفاحاً)) ما يدل على أن قوله: {وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجابٍ}: أن هذا في دار الدنيا.(2/332)
فأما الآخرة، فلأهل الجنان منه من الحظ من الكلام كفاحاً، وللشهداء على سائر الأموات ممن دونهم من الدرجات هذه الدرجة الفاضلة أنه أحياهم، ثم كلمهم كفاحاً، وليس لمن دونهم من الأموات هذه الدرجة، فإذا كان هذا للشهداء منه كل هذا الحظ، وإنما بذلوا له نفوسهم ساعة واحدة بمرة واحدة، فما ظنك بالصديقين، وقد بذلوا نفوسهم عمراً من الأعمار، كيف يكون حظهم منه يوم مماتهم من الكلام والبر والأثرة؟
وقوله: (تمن علي أعطيك)؛ فإنه لما وقف نفسه في جنب الله، فبذلها له، عظم ذلك عند الله، وشرفت نفسه عنده، فقبلها، فإذا قبل الله شيئاً، عظم خطره، فلذلك أطلق له بالتمني عليه.
وأما تمنيه بأن يحيا فيقتل ثانية، فإنه وجد لذة بذله لنفسه حين قتل، وإنما بذل نفساً خاطئة قد تدنست بالمعاصي، فلما قتلت، ذهب الدنس، فأحب أن يبذلها ثانية، فيكون قد بذل نفساً طاهرة مقبولة.(2/333)
الأصل الحادي والسبعون
418 - حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد بن عبد الله الرقاشي، قال: حدثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: حدثنا هشام بن سعدٍ، عن زيد بن أسلم، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يكون اللعانون شهداء، ولا شفعاء)).(2/335)
قال أبو عبد الله: فاللعان: مفرطٌ متعسف؛ لأن اللعنة مستأصلة مجحفة مستبيحة للأحوال، فإن أجيب إلى ذلك، فقد أهلك، وإن لم يجب، فقد عمل عمله من الإفراط والتعسف، وهذا جائرٌ، والجائر لا شهادة له، وهذا فظ غليظ قليل الرأفة والرحمة، وشهادة صاحب الغمز والعداوة والحقد غير مقبولة؛ لأن قلبه لا يخلو من الجور، فإذا أنكرت الأمم تبليغ الرسالة، وجحدت مما حل بها من الشدة، جاءت هذه الأمة فشهدت للرسل بتبليغ الرسالة إلى الأمم، (وهو قوله: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}. أي: للرسل على الأمم).
419 - حدثنا أبي رحمه الله، عن محمد بن الحسن، عن ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن زيادٍ بن أنعم، عن حبان ابن أبي جبلة، قال: بلغني أنه ترفع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على كومٍ بين يدي الله؛ لتشهد للرسل على أممها بالبلاغ، فإنما يشهد(2/336)
منهم يومئذٍ من لم يكن في قلبه إحنةٌ على أخيه المسلم.
فهذا من ذاك أيضاً، فإن الإحنة والحقد داعيان إلى الجور، فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يكون اللعانون شهداء ولا شفعاء))؛ لما عندهم من الإحنة والعداوة والجور.
(ولا يكونون شفعاء): لأن قلوبهم خالية من الرحمة.
ولهذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا يدخل أحدكم الجنة حتى يرحم العامة، كما يرحم أحدكم خويصته)).
420 - حدثنا أبو الأشعث العجلي، قال: حدثنا حزمٌ القطعي، قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده! لا يدخل الجنة إلا رحيمٌ))، قلنا: كلنا رحيمٌ يا رسول الله؟ قال: ((لا، حتى ترحم العامة)).(2/337)
421 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن عبيدة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
422 - حدثنا محمد بن وزيرٍ الواسطي، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن قيس ابن أبي حازمٍ، عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله)).
423 - حدثنا الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر(2/338)
المديني، قال: حدثنا سفيان، عن عمرٍو، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرٍو، عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)).
فإذا رحمك الرحمن، صلحت للشهادة، وتفرغت للشفاعة، وإذا لم ترحم لم تصلح للشهادة، ولم تتفرغ للشفاعة.
424 - حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا يزيد بن المقدام بن شريح الحارثي، عن أبيه، عن جده، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/339)
أبا بكر وهو يلعن بعض رقيقه، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أبا بكرٍ! لعانين وصديقين؟! كلا ورب الكعبة!))، فأعتق أبو بكر رضي الله عنه يومئذٍ بعض رقيقه، وجاء إليه فقال: ((لا أعود إليه يا رسول الله)).(2/340)
الأصل الثاني والسبعون
425 - حدثنا الحسن بن عمر بن شقيقٍ، وبشر بن هلال البصريان، قالا: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن سعيدٍ الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة الأسيدي، وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لقيني أبو بكرٍ رضي الله عنه، قال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة يا أبا بكر، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نافق حنظلة يا أبا بكر، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قلت: نافق حنظلة، قال: مم ذاك؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكرنا بالجنة والنار حتى كأننا رأي العين، أو كأنا نراهما، فإذا خرجنا من عنده، عافسنا الأزواج والأولاد(2/341)
والضيعات، ففزع أبو بكر رضي الله عنه، وقال: والله! إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر رضي الله عنه حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((كيف أنت يا حنظلة؟))، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، قال: سبحان الله ما تقول؟ قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، (قال: ((مم ذاك؟))، قلت: نكون عندك يا رسول الله)، فتذكرنا بالجنة والنار، حتى كأننا رأي العين، حتى إذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي في الذكر، لصافحتكم الملائكة على(2/342)
فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعةً وساعةً، ساعةً وساعةً)).
قال أبو عبد الله: فالذكر المذهل للنفوس إنما يدوم ساعةً، ثم ينقطع، ولولا ذاك، ما انتفع بالعيش، والناس في الذكر على طبقات:
فمنهم من يدوم له ذكره في وقت الذكر، ثم تعلوه غفلة، حتى يقع في التخليط، وهو الظالم.
ومنهم من يدوم له ذكره في وقت الذكر، ثم يعلوه معرفته بسعة رحمة الله، وحسن معاملته عباده، فتطيب نفسه بذلك، فيصل إلى معاشه، وهو المقتصد على سبيل الاستقامة والتقوى.
وأما أهل اليقين: وهم السابقون والمقربون، فقد حازوا هذه الحظة، ولهم درجات:
فأول درجاتهم:(2/343)
الخشية: فيمتنع بها من جميع ما كره الله، دق أو جل، والخشية هي من القربة، ومن العلم بالله، فإذا علم؛ لزمه الخوف أعني (من المعرفة ومن تعظيم الله، فإذا غلبه) خوفه، لا خوف العقاب، إنما هو خوف العظمة، فإذا كان الخوف لازماً للقلب، غشاه بالمحبة، فيكون بالخوف معتصماً مما كره، دق أو جل، وبالمحبة منبسطاً في أموره، بتلك الخشية، فلو تركه مع الخوف، لانقبض، وعجز عن كثير من أموره، ولو تركه مع المحبة، لاستبد وتعدى، ولكنه -تبارك اسمه- لطف له، فجعل الخوف بطانته، والمحبة ظهارته؛ حتى يستقيم به قلبه، ثم يرقيه إلى مرتبة أخرى، وهي: الهيبة والأنس.
فالهيبة: من جلاله، والأنس: من جماله، فإذا نظر إلى جلاله، هاب، فانقبض، فلو تركه هكذا؛ لصار عاجزاً عن جميع أموره؛ كثوب ملقى، أو كجنة بلا روح، وإذا نظر إلى جماله، امتلأ كل عرق منه فرحاً وسروراً، ولذة ونعيماً؛ لامتلاء قلبه، فلو تركه هكذا؛ لاحتمله ذاك، فأداه إلى التعدي والإفراط، لكنه لطف له، فجعل الهيبة شعاره، والأنس دثاره، حتى يستقيم به قلبه، فهذا عبد ظاهره الأنس بالله، وباطنه الهيبة من الله.(2/344)
ثم يرقيه إلى مرتبة أخرى، وهي مرتبة الانفراد بالله، قربه القربة العظمى، وأدناه، ومكن له بين يديه، وأبقاه بنوره، وفتح له الطريق إلى وحدانيته، فهذا ناظر إلى فردانيته، فأحياه الله به، واستعمله، فبه ينطق، وبه يعقل، وبه يعلم، وبه يعمل، قد جاوز مقام الهيبة والأنس إلى مقام الأمناء، فهذا سيد الأولين العارفين، وإمامهم، فهو أمان أهل الأرض، ومنظر أهل السماء، وريحان الجنان، وخاصة الله، وموضع نظره، ومعدن سره، وهو سوط الله في خلقه، به يؤدب عباده، وبه يحيي القلوب الميتة، وبه يرد الخلق إلى طريقه، وبه يجعل الطريق إلى الله للمريدين، وبه يرحم أهل الأرض، وبه يمطر، وبه يرزق، وبه يدفع البلاء عنهم، وبه ينعش حقوقه، وبه يستقر القرآن في الأرض، مفتاح الهدى، وسراج الأرض، وسرور المصطفى، وقائد الأولياء، وصاحب اللواء، والهائم بالثناء على ربه، يمجده تجاه صفوف الأولياء بين يدي محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، يباهي به الرسول في ذلك الموقف، وينوه الله باسمه في ذلك المقام، وتقر عين المصطفى به، قد أخذ بقلبه أيام الدنيا، ويحله حكمته العليا، وأهدى إليه توحيده، ونزه طريقه عن رؤية النفس، وظل الهوى، وائتمنه على(2/345)
صحيفة الأولياء، وعرفه مقامهم، وأطلعه على منازلهم، وأراه طرقهم، وسيرهم إليه، ومواضع محتسبهم.
فهو سيد النجباء، وملح الحكماء، وشفاء الأدواء، وإمام الأتقياء الأطباء، كلامه قيد القلوب، ونظره شفاء للنفوس، وإقباله قهر الأهواء، وقربه طهر الأدناس، فهو ربيعٌ يزهر بنوره، وخريفٌ يجتنى ثماره، وكهف يلجأ إليه، ومعدن يؤمل ما لديه، وفصل بين الحق والباطل، وهو الفاروق والصديق والولي والعارف، والمقرب والحبيب والمجتبى، واحد الله في أرضه.
فمن تعاظمه هذه الصفة: فقد روي في قصة إبراهيم -صلوات الله عليه-: أنه قال: ((اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض)). فرأى نفسه واحداً لله في أرضه.(2/346)
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يكون في هذه الأمة رجالٌ قلوبهم على قلب إبراهيم)).
معناه: أن يفتح لهم طريقاً إليه على طريق إبراهيم ومحمد -صلوات الله عليهما-؛ فإن إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيبه.
وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ساعةً وساعة)): أي: ساعةٌ للذكر، وساعة للنفس، لا أن ساعة للصحة، وساعة للتخليط، وهذا مهجور من القول، وهو قول الجهلة الأغنام، ولكن كانت الجنة والنار رأي العين ساعة، وساعة مقبل على المعاش ومرمته على سبيل الصحة، وفي درجات المقربين أيضاً ساعة وساعة؛ لأن القلب ربما عجز عن احتمال ما يحل به، فيحتاج إلى مراح.
ألا يرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صار إلى سدرة المنتهى، فغشيها من أمر الله ما غشيها، وأشرق النور، حال دونه فراش من ذهب، وتحولت الشجرة زبرجداً وياقوتاً، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعت حسنها.(2/347)
رواه أبو خالد الأحمر، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، عن رسول الله.
426 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن حميدٍ، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما انتهيت إلى السدرة، إذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها أمثال القلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها، تحولت، فذكر ياقوتاً)).
427 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما(2/348)
في قوله تعالى: {إذ يغشى السدرة ما يغشى}، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيتها حتى إذا أنستها حال دونها فراشٌ من ذهبٍ)).
428 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد ابن منصورٍ، قال: حدثنا الحارث بن عبيد الإيادي، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت النور الأعظم، ولط دوني الحجاب، رفرفه الدر والياقوت، فأوحى الله إلي ما شاء أن يوحي)).(2/349)
هذا كله يرجع إلى معنى واحد، معناه: أنه لم يقم بصره للنور، فعورض بالزبرجد والياقوت، وفراش الذهب مراحاً، حتى يقوى ويستقر، كأنه شغل قلبه بهذا المراح عما رأى، حتى لا ينفر، ويجد قراراً، ويقدر احتماله، كالذي يشرب، فيتنفس حتى يقوى على شرب ما بقي.
فقوله: (ساعة وساعة) من تدبير الله للعبد، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون تلك الساعة.
وجاءنا عن معاذ رضي الله عنه: أنه قال لرجل من أصحابه: ((تعال حتى نؤمن ساعةً))، فذهب ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أوما نحن بمؤمنين؟ وذكر له قول معاذ رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع عنك معاذاً؛ فإن الله يباهي به الملائكة)).
429 - حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد الثقفي، عن أسامة بن زيدٍ، عن أبي حازمٍ، عن معاذٍ بن جبلٍ بذلك.(2/350)
ومثله قول أبي الدرداء: لمجلسٌ من مجالس الإيمان أفضل من عتق مئة رقبةٍ.
430 - حدثنا به أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي بكر بن عياشٍ، رفعه.
ومثل قول عبد الله بن رواحة لأبي الدرداء: يا عويمر! تعال نؤمن ساعةً، فالقلب أسرع انقلاباً من القدر حين تغلي، وإنما الإيمان بمنزلة القميص، بينا أنت إذ لبسته، إذ أنت قد نزعته.
فهذا تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمنٌ)).
أي: إنه إذا فعل ذلك، فقد خلع القميص، ووضعه ناحيةً، فإذا تاب،(2/351)
ورجع إليه بالصدق، كساه، وألبسه ذلك القميص، فكان هذا الإيمان عندهم استقرار ذلك النور، وإشراقه في صدورهم، حتى تصير أمور الآخرة، وأمر الملكوت معاينة، فكانوا أصنافاً.
فمنهم: من هذا النور له دائمٌ، فيدوم له معاينة أمور الآخرة، وأمر الملكوت، وهو مع ذلك يعافس الأزواج، والأولاد، ويعاشر ويرم المعاش، وعددهم في كل زمان قليلٌ، ألا ترى كيف وصفهم الله فقال: {والسابقون السابقون}.
أي: السابقون بقلوبهم أيام الدنيا إلى الله هم السابقون إلى الله دخولاً إلى الجنة.
ثم قال: {أولئك المقربون. في جنات النعيم}، ثم قال: {ثلةٌ من الأولين. وقليلٌ من الآخرين}.
والثلة: الجماعة، وهم الأنبياء الذين مضوا عدد آلاف، وهم السابقون المقربون، فهم ثلة، وختمت النبوة برسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم من بعده أولياء عددهم قليل في كل زمان، ذكر أنه يبلغ عددهم أربعين صديقاً هم خلفاء الأنبياء، فهم قليل في كل زمان، والآخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأولين: الثلة التي قبلنا؛ فقد كانت ثلة من المقربين في الأولين، (وقليل في الأولين) وقليل في(2/352)
هذه الأمة؛ لأن النبوة قد انقطعت، وبقيت الولاية، فكان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المقربين قليل، ومن بعدهم في كل قرن قليل.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((في كل قرنٍ من أمتي سابقون)).
وهم البدلاء، الصديقون، بهم يسقون، وبهم يرزقون، وبهم يرفع البلاء عن الأرض.(2/353)
الأصل الثالث والسبعون
431 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن الحكيم الترمذي رحمه الله، قال: حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا أيوب بن سويدٍ الرملي، قال: حدثنا أبو زرعة يحيى بن أبي عمرٍو السيباني، عن أبي بشرٍ عبد الله بن الديلمي، عن عبد الله بن عمرٍو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس، سأل ربه حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وأن لا يأتي أحدٌ هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما اثنتان، فقد أعطيهما، وأما الثالثة، فأرجو أن يكون قد أعطي)).(2/355)
432 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا المسيب ابن واضحٍ، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرٍو، وربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الله بن عمرٍو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما فرغ سليمان من بناء مسجد بيت المقدس، سأل الله ثلاث خصالٍ: سأله حكماً يصادف حكمه، فأعطاه إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فأعطاه، وسأله أيما عبدٍ مسلمٍ خرج من بيته لا تنهزه إلا الصلاة في هذا المسجد إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فنرجو(2/356)
أن يكون قد أعطاه إياها)).
فأما قوله: ((حكماً يصادف حكمه)). فإن أمور العباد في الغيب، وإنما أمروا أن يعملوا بالظاهر عندهم، فأمر الحكام أن يفصلوا الخطاب بين الخلق بشاهدين ويمين المنكر، وربما كان شاهد زورٍ، وربما كان في يمينه كاذباً، فليس على الحاكم إلا الحكم بما يظهر عنده، ويكلهم فيما غاب عنه إلى الله، فأعطي سليمان من الفهم ما يحكم بين عباد الله بما يصادف حكم الله.
وقد ذكر الله في تنزيله في ذلك الحكم الواحد إذ نفشت غنم القوم في حرثهم: {ففهمناها سليمان}.
وروي عن كعب: أنه قال: ما فهم داود عند فهم سليمان -صلوات الله عليهما- إلا كضوء السراج في ضوء الشمس.(2/357)
وروي في الخبر: أن امرأة اشترت دقيقاً، فجعلته في مكيل، فهو على رأسها، إذ جاءت ريح فأذرته، فجاءت إلى سليمان، وشكت إليه، فقال: انظروا أول سفينة قادمة من البحر، فغرموه.
فهذا كأنه علم أنها ريح مسخرة لسفينة قادمة، وسخرة الرجل كالعبد له، والعبد إذا جنى جناية، فهي في رقبته، فإما أن يفديه سيده، وإما أن يبيعه في غرمه، فهو راجع على مولاه كيفما كان، وكان قد ملك الأرض شرقها وغربها، فكان يحكم في أهل مملكته، حتى الوحوش والطيور والبهائم، وبين الجن والإنس والشياطين.
فهو حاكم الأرض، فسأل ربه عندما أعطي المملكة أن يصادف حكمه حكمه؛ لأنه محتاج إلى أن يحكم بين الخليقة أيضاً كما يحكم بين الخلق.
فأما سؤاله: ((ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده))، فإن أحباب الله وخاصته يتنافسون في المنزلة عنده، ويغار أحدهم أن يتقدمه غيره من نظرائه.
ألا ترى أنه ذكر في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/358)
في قصة المعراج أنه قال: ((لقيني موسى في السماء السادسة، فلما جاوزته، بكى، وقال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم ولد آدم على الله، وهذا قد جاوزني)).
فللأنبياء والأولياء، تنافسٌ في محل القربة، وحق لهم ذلك، فإن كان سليمان -صلوات الله عليه- سأل شيئاً لا يكون لأحد من بعده؛ ليكون ظاهر المنزلة والخصوصية، فغير مدفوع، ولا مستنكر أن سخر الله له الريح تجري بأمره رخاء؛ أي: لينة مع قوتها، وشدتها، حتى لا تضر بأحدٍ، وتحمله بعسكره، وجنوده، ومركبه.
وكان مركبه فيما روي فرسخاً في فرسخ مئة درجةٍ، بعضها فوق بعضٍ، في كل درجة صنف من الناس، وهو في أعلى درجة منه، مع جواريه، وحشمه، وخدمه، فكانت الريح تحمله بهذا المركب، فتهوي به في الجو، مسيرة شهر في غداة واحدة، ومسيرة شهر في رواح واحد.
قال الله عز وجل: {غدوها شهرٌ ورواحها شهرٌ}.
فالريح: من أمر الملكوت، فكانت لا تدع كلمة يتكلم بها إلا ألقتها في أذنه.(2/359)
وعلم منطق الطير، فمر بوادي النمل، فقالت نملة: {يأيها النمل ادخلوا مساكنكم} الآية، فمرت به الريح، فألقته في مسامعه، وقال الله عز وجل: {فتبسم ضاحكاً من قولها} الآية.
فالضحك من الأنبياء تبسم، والتبسم من انطلاق الوجه، وإنما ينطلق الوجه من الفرح والسرور، وينقبض من ضدهما، فكأنه دخله السرور بما قالت النملة: {وهم لا يشعرون}، معناها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس ممن يؤذي أحداً، ولا يتعسف عليه ولا جنوده، فإن كان يفعل، فمن غير شعور بذلك، ففرح بذلك من قولها: إن الهوام ودواب الأرض قد أمنته، وعرفته بالعدل.
وتأويل آخر: {وهم لا يشعرون} أن سليمان أسمع ذلك من كلام النملة، وجنوده لا يشعرون بذلك.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أخذت ليلةً شيطاناً، فخنقته حتى وجدت برد لسانه ولهاته على يدي، فأردت أن أربطه على سارية المسجد؛(2/360)
لتنظروا إليه إذا أصبحتم، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان، فتركته)).
معناه: أي: لم أحب أن أشركه في هذه الدعوة، فأسأل ربي أن يسخره لي حتى أربطه.
وكان لكل نبيٍّ دعوة، فجعلها سليمان في ذلك، وادخرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، فأحب أن يترك دعوته على هيئته التي تركها.
433 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا أحمد ابن يونس، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا يزيد أبو خالدٍ الأسدي، قال: حدثني عون بن أبي جحيفة السوائي، عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي، عن عبد الرحمن بن أبي عقيلٍ، قال: انطلقت في وفدٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيناه، فقال قائل منا: يا رسول الله! ألا(2/361)
سألت ربك ملكاً كملك سليمان؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((فلعل لصاحبكم أفضل عند الله من ملك سليمان، إن الله لم يبعث نبياً إلا أعطاه دعوةً، فمنهم من اتخذ بها دنيا، ومنهم من دعا بها على قومه إن عصوه، فأهلكوا بها، وإن الله أعطاني دعوةً اختبأتها عند ربي شفاعةً لأمتي يوم القيامة)).
فالأنبياء كانت دعوتهم مجابة، ومعنى هذا القول: لكل نبي دعوة؛ أي: حاجة، يقال له: سل ما شئت، فإن لك عندنا حاجة مقضية.
فأما قوله: ((فمنهم من اتخذ بها دنيا))، فليس معناه على أنه سأل(2/362)
الدنيا (لنفسه، وعياذ [اً] بالله أن يظن ذاك بسليمان عليه السلام، أو يظن بمحمد صلى الله عليه وسلم أن ذلك عناه، وإنما سأل الدنيا) لله؛ فقد سأل رسولنا صلى الله عليه وسلم أيضاً شيئاً من الدنيا؛ أي: لم يسأل الدنيا كلها، فسأل بعضها، فقال: ((اللهم اجعل أوسع رزقي عند كبر سني)).
وقال في بعض ما أعوزته الحاجة: ((اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك)).(2/363)
فمن سأل شيئاً من الدنيا -وإن دق-، فكانت مسألته لنفسه، لا لله، فهو مذموم، وقد دخل في طلب الدنيا المذموم، ومن سأل الدنيا -وإن جل-، فكانت مسألته لله، فهو محمود، وليس ذلك لسؤال دنياه، ولا لطلب له، فقد سأل الأنبياء الدنيا، وطلبوها، فكان سؤالهم وطلبهم لله، فلم يذموا في ذلك، فلذلك جاز لسليمان عليه السلام أن جعل المسألة التي أوجبت له في شأن المملكة.
ألا ترى أنه ذكر العبد الآخر صلى الله عليه وسلم أنه سأل إهلاك الدنيا، فقال: {لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً}.
فغرقت الدنيا كلها بدعوته، وفسدت، فلو كانت الدعوة لغير الله، لكان مذموماً، ولو كان يغضب لنفسه وللدنيا، ويسأل إهلاك الدنيا، لكان مذموماً، فإنما سأل عبد مملكتها لله، وسأل عبد دمارها وهلاكها لله، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك.
فأجيب نوح، فأهلك من عليها، وأعطي سليمان المملكة، ثم قال: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ}.
فرفعت التبعة؛ لأنه قد جعل له من قبل السؤال حاجة مقضية، فلذلك لم يكن عليه تبعة، وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم، فأخرها؛ لتكون تلك الحاجة له مقضية(2/364)
في اليوم الذي يعز فيه العفو، ويظهر الجود والكرم من ربنا، والحاجة في وقت الجود والكرم أعظم إنجاحاً، وأوفر حظاً منه في وقت يعطى من الخزائن وأبواب الخزائن غير مفتحة، وما يعطى لمحمد صلى الله عليه وسلم هناك، فالخلق إليه أحوج منهم من هذه الدنيا مما سأل سليمان عليه السلام؛ فإنما سأل سليمان -عليه الصلاة والسلام- مملكة الدنيا، وقد كان أبوه داود ممن عرضت عليه الخلافة، فقبلها، فقيل: {يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق}.
فكان حاكم الله في أرضه، وعرضت على لقمان، فأبى، فأعطي الحكمة، وكان حكيم الله في أرضه، قال الله تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله}.
434 - حدثنا عبد الكريم، عن نوفل بن سليمان، عن مالك بن أنسٍ، رفعه إلى أبي مسلمٍ الخولاني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لقمان كان عبداً كثير التفكر، حسن الظن، كثير الصمت، أحب الله، فأحبه الله، فمن الله عليه بالحكمة، فنودي بالخلافة قبل داود، فقيل له: يا لقمان! هل(2/365)
لك أن يجعلك الله خليفةً في الأرض، تحكم بين الناس بالحق؟ قال لقمان: إن جبرني ربي، قبلت؛ فإني أعلم: أنه إن فعل ذلك بي، أعانني وعلمني، وعصمني، وإن خيرني، قبلت العافية، ولم أسأل البلاء. فقالت الملائكة بصوتٍ لا يراهم: يا لقمان! لم؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكانٍ، فيخذل، ويعان، فإن أصاب، فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ، أخطأ طريق الجنة، ومن يكون في الدنيا ذليلاً، خيرٌ من أن يكون شريفاً ضائعاً، ومن يختار الدنيا على الآخرة، فاتته الدنيا، ولا يصير إلى ملك الآخرة، فعجبت الملائكة لحسن منطقه، فنام نومةً، فغط بالحكمة غطاً، فانتبه، فتكلم بها، ثم نودي داود عليه السلام بعده بالخلافة، فقبلها، ولم يشترط شرط لقمان، فأهوى في الخطيئة، فصفح الله عنه، وتجاوز، وكان(2/366)
لقمان يؤازره بعلمه وحكمته. فقال داود عليه السلام: طوبى لك يا لقمان، أوتيت الحكمة، فصرفت عنك البلية، وأوتي داود الخلافة، فابتلي بالذنب والفتنة)).
فأوتي داود الخلافة ليحكم بين الناس بالحق لله، والحكم هو أمر الله وفعله الذي يجمع عباده، فيحكم بينهم بعدله، ثم يتفضل على من يشاء، وعجل هذا الفعل في أيام الدنيا، فجعله في أيدي من شاء من(2/367)
خلقه، فأوتي داود الخلافة ليحكم، وأوتي لقمان الحكمة ليشكر، وإذا حكم الحاكم فعدل بينهم، عمر الأرض، وأزاح الفساد، وإذا نطق الحكيم، نشر عن الله منته وإحسانه، وبصر الخلق، فردهم إلى الله، فقال: {إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم}، وقال: {آيتنا لقمان الحكمة أن اشكر}.
ففي إقامة الحكم إبراز العدل، وفي القول بالحكمة إبراز المنة والنصح لله.
ثم أوتي داود أيضاً الحكمة.
وقال -تبارك اسمه-: {وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}.
وسخرت الجبال، يسبحن معه بالعشي والإشراق، والطير كي يزداد قوة على إسعاد الجبال، والطير له لذلك، فلا يفتر فترة الآدميين، فإن في الإسعاد قوة.
قال الله -تبارك اسمه وتعالى-: {ولقد آيتنا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير}، فأخبر أن هذا من فضله عليه من خزائن المنة، ثم قال: {وألنا له الحديد. أن اعمل سابغاتٍ}، وهي الدروع، فجعل الحديد في يده كالعجين يعمل الدروع، فجعل قوته ومطعمه منها؛ ليكون من كد يده.(2/368)
وكذلك روي لنا في الخبر.
وجعل في يد محمد صلى الله عليه وسلم السيف، والرعب جنده يرعب منه العدو مسيرة شهر، وجعل قوته ومطعمه من الغنائم، فكأنه قيل لداود: خذ هذه الحديدة، فقد ألنتها لك من عطفي عليك؛ لتعمل منها دروعاً، فيكون منها رزقك، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: خذ هذه الحديدة التي قد حددتها لك من سلطاني، فاضرب بها رقاب أعدائي، وإباق عبيدي، وصيرت أموالهم نحلة وطعمة خصصتك بها من بين الخلق، ولم يكن لأحد قبلك، ثم قال: {حلالاً طيباً}.
فشهد له بالطيب، وفي السيف عز وسلطان وملك، وليس في التجارة ذلك المعنى، فأنت تجاهد أعدائي، وتملك ما خولتهم، فتأخذ منهم ذلك على سبيل القهر والسلطان، وأنا معك في النصرة.
وكان أخذ داود عليه السلام على سبيل التراضي، وتدبير الله فيما بينهم أن يأخذ شيئاً على عوض يعطيهم كسائر الناس، ولمحمدٍ صلى الله عليه وسلم في هذا مكرمة العز والسلطان، ولداود عليه السلام مكرمة العطف؛ بأن ألان له الحديد.
435 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا محمود ابن خالدٍ الدمشقي، قال: حدثنا الفريابي، عن ابن ثوبان قال: حدثني حسان بن عطية، عن أبي منيبٍ الجرشي،(2/369)
عن عبد الله بن عمرٍو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى بعثني بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ، فهو منهم)).(2/370)
436 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، عن إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، عن ضمرة بن ربيعة، عن عثمان ابن عطاءٍ، عن أبيه، قال: كان داود عليه السلام يرتفع له كل يوم درعٌ، فيبيعه بستة آلاف، فينفق على بني إسرائيل أربعة آلاف، وعلى عياله ألفين.
فأوتي داود عليه السلام ما أوتي، ثم قيل له: {اعملوا آل داود شكراً}.
وأعطي سليمان منطق الطير، والريح، وعين القطر، أسيلت له ثلاثة أيام، فاتخذ منها تماثيل على صورة الرجال من النحاس، ونفخ فيهم الروح؛ لئلا يحيك فيهم السلاح، وكان اسفنديار من بقاياهم.(2/371)
437 - حدثنا به أحمد بن مروان، عن يعقوب بن معبد، عن الحكم بن ظهيرٍ، عن السدي، عن أبي مالكٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قوله: {وتماثيل}، قال: اتخذ سليمان -صلوات الله عليه- تماثيل من نحاس، فقال: يا رب! انفخ فيها الروح؛ فإنها أقوى على الخدمة فنفخ الله فيها الروح، فكانت تخدمه، وكان اسفنديار من بقاياهم، فقيل لداود وسليمان عليهما السلام: {اعملوا آل داود شكراً وقليلٌ من عبادي الشكور}.
فإنما ذكر الشكر هاهنا؛ لأنه أعطاهما من فضله ما منه عليهما، فلما انتهت خلافة داود عليه السلام، ورث سليمان ذلك.
438 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الربيع(2/372)
ابن روحٍ الحمصي، عن بقية، قال: حدثني أيوب بن عثمان الأزدي، قال: لما أراد داود عليه السلام أن يستخلف ابنه سليمان عليه السلام، قال له سليمان: ألحب الولد تفعل هذا، أم من شيء أمرك الله به؟ فقال داود: بل لحب الولد، فأبى سليمان عليه السلام أن يقبلها حتى أمره الله بذلك.
ومما يحقق ذلك قول الله تعالى: {وورث سليمان داود}، وقال: {يأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيءٍ إن هذا لهو الفضل المبين}.
فأخبر أنه ورثه من أبيه بما ورثه الله، وقد كان لداود ولد سوى سليمان، فإنما ورثه سليمان بما ورثه الله، فلما رأى عظيم ما آتاه الله داود من ذلك، ويسر صلاح العباد، وإقامة ما أمره الله، التذ بالعبودة لله والنصيحة، ولكل شيء دعوة، فجعل دعوته في ذلك، فسأله مملكة الدنيا كلها ليسوي الدنيا وأهلها، وحكم فيه حكماً يصادف حكمه، وينفي الظلم عن أهل الأرض، وينصف بعضهم من بعض، حتى الجن والإنس، والطير، والبهائم،(2/373)
والوحوش، والسباع، وبقاع الأرضين، والجبال، والبحار، وكان له حكم في كل ذلك، ومملكة وسلطان، وأعين بالريح والشياطين والجن، فسخر ذلك له، وأعطي الفهم، وهو أعلى الأشياء.
قال الله -تبارك وتعالى-: {ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً}، ففضل بالفهم لما زيد في المؤنة.
وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المعونة من الله على قدر المؤونة)).
439 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد بن وهبٍ الدمشقي، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا معاوية بن يحيى، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن المعونة تنزل من السماء على قدر المؤونة)).(2/374)
فكان يقول: خلقاً من خلق الله، ويعطف على عبيده وإمائه، وكل ذلك لله، فكانت تلك عبودة صير حاجته التي جعلت له في ذلك شفقة على خلق الله، ونوح عليه السلام سأل إهلاكهم؛ ليطهر الأرض من أقذارهم ونجاسة شركهم؛ شفقة على حق الله؛ ليخلص الحق من أنجاسهم.
ومحمد صلى الله عليه وسلم أخرها إلى يوم الثواب والعقاب؛ ليفتح الله على لسانه خزائن الرحمة على عبيده في يوم بروز الجود، والكرم، وشدة فاقة الخلق في ذلك المقام المحمود.
وإنما سمي المقام المحمود؛ لأن الرحمة خرجت إلى أهل الموقف حين نطق بذلك الثناء عليه، فعمت الرحمة الملائكة والأنبياء والرسل وجميع الموحدين، وسكن الهول، واطمأنت القلوب، فكان أهل الموقف كلهم محتاجين إلى ما ادخره محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الموقف من الدعوة، وصاروا عيالاً عليه من الملائكة والرسل فمن دونهم، وذلك ما روي عن(2/375)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
((إن إبراهيم ليرغب إلي يوم القيامة في تلك الدعوة، ويحتاج إليها)).
440 - حدثنا بذلك عبد الرحيم بن يوسف، قال: حدثنا يعلى، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن عبد الله بن عيسى، عن جده عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعبٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
441 - وحدثنا الجارود، عن النضر، عن هشامٍ الدستوائي، عن حماد بن أبي سليمان، رووه بمثله.
442 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا كثير بن هشامٍ، عن جعفر بن برقان، قال: حدثني(2/376)
صالح بن مسمارٍ، قال: بلغني أن الله تعالى أرسل إلى سليمان بعد موت أبيه داود عليه السلام ملكاً من الملائكة، فقال له الملك: إن ربي أرسلني إليك لتسأله حاجة، قال: أرسلك ربي لأسأله حاجتي؟ قال الملك: نعم، قال سليمان -صلوات الله عليه-: فإني أسأل أن يجعل قلبي يحبه، كما كان قلب أبي داود يحبه، وأسأل الله أن يجعل قلبي يخشاه، كما كان قلب أبي يخشاه، قال الرب -تبارك وتعالى-: أرسلت إلى عبدي ليسألني حاجة، فكانت حاجته إلي أن أجعل قلبه يحبني ويخشاني، وعزتي! لأكرمنه، فوهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ثم قال: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ. وإن له عندنا لزلفى وحسن مئابٍ}.
فكانت الكرامة في قوله: {أمسك بغير حسابٍ}؛ لأن المهنأة فيه؛ إذ لا تبعة عليه.
وكذلك روي عن الحسن البصري -رحمة الله عليه-، قال: ما من أحد إلا ولله عليه تبعة في نعمه، غير سليمان بن داود عليه السلام؛ فإنه قال -تعالى جده-: {هذا عطاؤنا} الآية.(2/377)
443 - حدثنا محمد بن المثنى أبو موسى الزمن، قال: حدثنا معاذ بن هشامٍ، قال: حدثني أبي، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل نبيٍّ دعوةٌ دعا بها في أمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة)).
فقوله: (دعا بها في أمته) دليل على أن سليمان عليه السلام سألها في أمته، لا لنفسه، وذلك لله.
وقوله: ((اختبأت))؛ أي: تركت إظهارها وإبرازها في أيام الدنيا، فجعلتها في اليوم الأعظم يوم القيامة، وزالت العبودة عن النفس، أبرزتها، والآخرون تعجلوها في الدنيا، فسعدت نفوسهم بها، فإن لم يتداركهم الله، خيف أن تأخذ النفس نصيبها.(2/378)
الأصل الرابع والسبعون
444 - حدثنا رزق الله بن موسى الناجي، قال: حدثنا معن بن عيسى القزاز، قال: حدثنا مالك بن أنسٍ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا المال خضرةٌ حلوةٌ، فمن أخذه بحقه، فلنعم المعونة هو)).(2/379)
قال أبو عبد الله: فالخضرة: معناها الدوام، وذلك أن الخضرة من الشجر تدوم خضرتها في الصيف والشتاء مثل الآس ونحوه، فكذلك المال منفعته دائمة على اختلاف الأحوال في السفر والحضر، والليل والنهار، والعسر واليسر؛ لأنه ثمن الأشياء، فإذا جاء المال، قضيت الحوائج والمنى، (فهي خضرة أبداً.
وأما قوله: حلوةٌ): فإنما حليت في النفوس؛ لأن المنى) والشهوات بها تنال وتقضى.
وقوله: ((فمن أخذه بحقه، فلنعم المعونة هو)).
فالأخذ له بحقه أخذ التزود، والأخذ بغير حق أخذ تمتع، فمن أخذه على التزود، أخذه مضطراً؛ لأنه لم يعط من الدنيا شيئاً إلا وعليه فيها تبعة، إلا ما كان من شأن سليمان -صلوات الله عليه-، وإنما سقطت عنه التبعة -فيما نعلم-: أنه جعل لكل نبي دعوة مجابة مقضية من فضل ربنا وكرمه، فجعل سليمان -صلوات الله عليه- دعوته وحاجته في هذا الملك، فأعطي بلا تبعة، فقال الله عز وجل: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ}.
ولو كان هناك تبعة عليه، ما كانت له حاجة مقضية كسائر الأنبياء، فإن لكل نبي سؤل حاجة، فلم يكن عليه تبعة.(2/380)
وروي في الحديث:
أن نوحاً جعلها دعوة على قومه، وجعلها سليمان ملكاً يملك الدنيا؛ ليعمل فيها بأمر الله تعالى، وجعلها إسحاق دعوة عامة، فقال: اللهم اغفر لمن لا يشرك بك شيئاً، وجعلها محمد صلى الله عليه وسلم عليهم شفاعة يوم الجود والكرم، فمن أعطي من الدنيا شيئاً، فتناوله على يقظة، علم أنه ذو تبعة، وأنه يستقضي بشكره، وإنما أعطي الدنيا؛ ليبتلى، فقال: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه}.
فالأخذ من الدنيا على يقظة إن أخذ بحق، فلنعم المعونة له على دينه، والأخذ على غفلة، إنما يأخذه تمتعاً وحرصاً وشرهاً، وبطراً وأشراً، أخذ الكفار، فذلك منزوع منه البركة.
445 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن زكريا بن أبي زائدة، عن عطية، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أعطي كل(2/381)
نبيٍّ عطيةً، فتعجلها، وإني أخرت عطيتي شفاعة لأمتي)).
فالعطاء لا تبعة فيه؛ لأنه من طريق المنة، وأما قوله: {فامنن أو أمسك بغير حسابٍ}.
فروي في الخبر: أنه سخر له الشياطين، فمن شاء من عليه بالعتق، ومن شاء أمسكه.
446 - حدثنا هارون بن أبي زائدة، قال: حدثنا يونس بن بكيرٍ، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا بعض بني وهب بن منبهٍ، عن وهب بن منبهٍ في قوله تعالى: {وآخرين(2/382)
مقرنين في الأصفاد}، قال: عنقه إلى عضده وإلى فخذه، فإنما يعمل بشق واحد، وأمر الله الريح أن لا يتكلم أحدٌ من الخلائق بشيء إلا حملته فوضعته في أذن سليمان عليه السلام، فلذلك سمع كلام النملة.
447 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبيد بن إسحاق العطار، عن يوسف بن عمر، عن سعد بن طريفٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: كان لسليمان سبع مئة سريةٍ، وثلاث مئة امرأة، وكان في ظهره ثمان مئة رجل، فذلك قوله: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ}.
قوله: ((فامنن)) ذهب به إلى التمني، وهو قوله: {منيٍ يمنى}.
فإذا أخرجت مخرج الأمر، قلت: أمن، ومن قال: منى يمني، ففي الأمر هو: أمن، فإذا جئت بنون الفعل الخفيفة، قلت: امنن.(2/383)
ومن ذهب به إلى المنة، فقال: من عليه، فإذا أخرجه مخرج الأمر، أبرز النونين؛ لأنه كان مضاعفاً، فأبرزهما، فقال: امنن؛ أي: من عليه بالتخلية والعتق، فإنه مسخر لك، مصفد مقرن، ثم خيره فقال: إن شئت فامنن، وإن شئت فأمسك.
ثم أخبره في آخر الكلام أنه بغير حساب، وهو عطاء منا لك، وإن لك عندنا لزلفى وحسن مآب.
وأما قوله: {قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي}.
فإن فيه تأويلات:
فأحد التأويلات: أن الأنبياء لهم تنافس في المحل عنده، وكل يحب أن يكون له عنده خصوصية يستدل بها على محله عنده، ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سألت ربي مسألةً، وددت أني لم أسألها، فقلت: ربي! اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، وألنت لداود الحديد، وسخرت له الطير يسبحن معه، وسخرت لسليمان الريح، فقال: ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ قلت: بلى، قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ قلت:(2/384)
بلى، (قال: ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ قلت: بلى، قال: ألم أشرح لك صدرك؟ قلت: بلى)، قال: ألم أوتك ما لم أوت نبياً قبلك خواتيم سورة البقرة؟ قلت: بلى، قال: ألم أتخذك حبيباً كما اتخذت إبراهيم خليلاً؟)).
فسأله سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده من هذا الطريق؛ ليكون محله وكرامته من الله ظاهرة.
448 - حدثنا محمد بن بشارٍ العبدي، قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن زيادٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عفريتاً من الجن تفلت البارحة؛ ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري(2/385)
المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، حتى ذكرت دعوة أخي سليمان: {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي}، فرددته خاسئاً)).
فتأويل هذا المذهب:
أنه سأله ملكاً يخصه به؛ كي يكون ظاهر المنزلة في خلق السماء والأرض، فلو أعطى أحداً بعده مثله، ذهبت الخصوصية، وكأنه كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاحمه في تلك الخصوصية بعد أن علم أنه شيء هو الذي خص به من سخرة الشياطين، وأنه أجيب إلى أنه لا يكون لأحد من بعده.
وتأويل آخر: أي: رب! هب لي ملكاً لا تنزعه مني، وإنما قال هذا(2/386)
بعدما سلب، فلما تيب عليه، ورجع إلى كرسيه، وقد كان الشيطان هرب حين أحس بالأخذ، فمر هارباً على وجهه، فقال: رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي؛ أي: ملكاً لا ينبغي لأحد أن يقعد مقامي كما قعد الشيطان؛ كأنه سأل العصمة؛ لئلا يسلب عنه.
قال الله عز وجل: {وألقينا على كرسيه جسداً}، وهو الشيطان، {ثم أناب. قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب}.
وروى إسماعيل بن نصر، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، قال: حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: لما رجع إليه ملكه، جاء، وأخذ بناصية الشيطان، ثم قال عند ذلك: رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب.
وتأويل آخر:
أنه سأل ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده؛ ليقوى على المملكة، فيقيم(2/387)
أمر الله فيهم، فإنه إذا كان له ملك لا ينبغي لأحد، لم يقاومه أحد في شرق الأرض ولا غربها، إلا وانقادوا له ذلة وطوعاً.
ومما يحقق ذلك:
قوله: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب. والشياطين كل بناءٍ وغواصٍ}.
وإنما ذكر قوله: {فسخرنا له الريح} ألا تدع كلمة إلا حملتها، فوضعتها في أذنه، فلم يكن يمكن لأحد أن يغتاله، كلما ضعف الإنس عن أمر، فالشياطين مسخرة له، كل ذلك؛ للقيام بأمر الله، فكان إذا ركب المركب، قال للجنود -وأشار إليهم إلى علم من الأرض-: سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا بلغه، أشار لهم إلى علم آخر، وقال:(2/388)
كبروا الله إلى ذلك العلم، فلا يزال هكذا، ويلح الجنود بالتسبيح والتهليل حتى ينزل.(2/389)
الأصل الخامس والسبعون
449 - حدثنا مهدي بن علي السمناني، قال: حدثنا عبد الله بن صالحٍ، عن الليث بن سعدٍ، عن عامر بن يحيى المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: ((سيصاح برجلٍ من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر عليه تسعةٌ وتسعون سجلاًّ، كل سجلٍّ منها مد البصر، فيقول الله: يا عبدي! هل تنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: هل لك من حجةٍ؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، لا ظلم عليك اليوم، فيخرج الله له بطاقةً، فيقول: هذه حجتك، فيقول: أي ربّ وما تغني هذه(2/391)
البطاقة من هذه السجلات؟ فيقول: يا عبدي! لا ظلم عليك اليوم، فيؤتى بالميزان، فتوضع السجلات في كفةٍ، والبطاقة في كفةٍ، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، وإذا فيها: شهادة أن لا إله إلا الله)).
450 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسين، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا الليث بن سعدٍ، عن عامر بن يحيى المعافري، عن أبي(2/392)
عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرٍو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
451 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرٍو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
إلا أن حديث الليث أتم وأسبغ.
قال أبو عبد الله: فهذا عبد عندنا قد كان من أهل التوحيد، كثرت سيئاته حتى غمرته، فأدركه غوث تلك الكلمة، وليست تلك الكلمة أول ما قالها، ولكنها كانت مقالةً ظاهرة، خرجت من ذكاوة قلبه في ساعة من عمره، فأنجته، فحطت ذنوبه، وهدمتها، وطاشت بالسجلات يوم الوزن لوزن تلك الكلمة، وإنما ثقلت تلك الكلمة بوزنها لعظم نورها، وإنما(2/393)
عظم نورها؛ لأنها خرجت يوم خرجت من نورٍ، استنار قلبه بالنطق بها، وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً، نبهه في ساعة من عمره، وإذا انتبه، انفتح قلبه، واستنار صدره من تلك الفتحة؛ لأن النور في القلب، فإذا انفتح القلب، خرج النور إلى الصدر، فأشرق قلبه، فأية كلمةٍ نطق بها في ذلك الوقت، فإنما ينطق على شرح الصدر والمعاينة لصورة تلك الكلمة، فتلك الكلمة تسمى: كلمة الإخلاص، وكلمة اليقين.
وما من كلمة إلا ولها صورة في القلب، وإنما يتصور معناه، وهذا لأهل اليقين الذين استنارت صدورهم بنوره، فهذا لهم دائم في الأمور كلها، فإذا أراد الله بعبد من غير هذه الطبقة خيراً، من عليه، فأدرك مقدار لحظة من هذا النور، فأشرق صدره به، خرجت الكلمة منه على المعاينة لتلك الصورة، ثم انقطع النور، فأظلم الصدر كما كان، فكانت تلك الكلمة تثقل في الوزن يوم الوزن، وتكون سبباً لنجاة صاحبها، فعلى هذا المذهب نرى تأويل هذا الحديث، ولو كانت هذه شهادة التوحيد، لاستوى الناس فيها، وشهادة التوحيد لا توضع في الميزان فيما روي؛ لأنها لا تتسع في الميزان.(2/394)
452 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا بكار بن عبد الله الزبيري، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، قال: أخبرنا يحيى بن شبل بن محمد بن جبيرٍ، أو أيوب بن خالدٍ، وسمعت من غير واحد من أصحابنا: أن العبد ليوقف على الميزان يوم القيامة، فينظر في الميزان، وينظر إلى صاحب الميزان، فيقول: صاحب الميزان: يا عبد الله! أتفقد من عملك شيئاً؟ فيقول: نعم، فيقول: ماذا؟ فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فيقول صاحب الميزان: هي أعظم من أن توضع في الميزان.
قال بكار: قال موسى: سمعت أنها تأتي يوم القيامة تجادل عمن كان يقولها في الدنيا جدال الخصم.
وإنما استحال أن توضع شهادة التوحيد في الميزان؛ لأن من شأن الميزان أن يوضع في كفته شيء، وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فهذا غير مستحيل؛ لأن العبد قد يأتي بهما جميعاً، ويستحيل أن يأتي بالكفر والإيمان جميعاً عبد واحد حتى يوضع الإيمان في كفة، والكفر في كفة، فلذلك استحال أن توضع شهادة التوحيد في(2/395)
كفة الميزان، وأما بعد ما آمن العبد، فإن النطق منه بلا إله إلا الله حسنة توضع في الميزان مع سائر الحسنات.
وفي حديث الليث بن سعد قد أخبر: أن في البطاقة شهادة، وليست الشهادة كالقول؛ لأن القول خبر.
ومما يحقق ما قلنا من شهادة المخلص:
453 - ما حدثنا به عبد الله بن إسحاق الجوهري، قال: حدثنا أبو عاصمٍ النبيل، عن وبر بن أبي دليلة، عن محمد بن عبد الله بن ميمونٍ، عن يعقوب بن عاصمٍ، قال: حدثني رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، مخلصاً بها روحه، مصدقاً بها لسانه وقلبه، إلا فتقت لها السماء فتقاً، حتى ينظر الرب(2/396)
إلى قائلها من أهل الدنيا، وحق لعبدٍ إذا نظر الله إليه أن يعطيه سؤله)).
أفلا يرى: أنه شرط للمقالة إخلاص الروح، فقال: (مخلصاً بها)؛ أي: بالكلمة حين قالها، (روحه)؛ أي: أخلص روحه بالكلمة.
معناه: أن الروح قد كانت الروح تشبثت به، فإن الروح سماويٌّ، خلقها الطاعة، والنفس أرضيةٌ خلقها الشهوة، معصيةً كانت أو طاعةً.
وهو قول الله عز وجل: {إن النفس لأمارةٌ بالسوء}، فهذا خلقها ودأبها، {إلا ما رحم ربي}، فقهرها بالنور الوارد على القلب.
فإذا قال العبد هذه الكلمات التي جاءت في الأحاديث، فتكلم في وقت فتحة القلب، وانشراح الصدر، انقمعت النفس، وذلت، وانخضعت، وتخلص الروح من أسرها، وتعلقها به فصار روحه كالعازم على هذه الكلمات بحقائقها، فصار خالصاً لله تعالى، قد باين النفس، وهواها، وعزمها وأخلاقها، وصدق به لسانه وقلبه؛ لأن القلب قد استنار بالكلمات، فاستوى اللسان بالقلب، والقلب باللسان، فقد صدق بالكلمة(2/397)
لسانه وقلبه؛ (أي: قدس، وصدق وقدس بمعنى واحد، معناه: أي: طهر بالكلمة لسانه وقلبه)، وأخلص روحه، فاستوجب النظر إليه؛ لأنه صار بمحل الجوبة، فجوب له هناك، وأجيبت دعوته.
454 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا هانئ ابن يحيى، عن النضر بن معبدٍ -وهو أبو قحذمٍ-، عن أبي قلابة: أنه كان له ابن أخ ماجنٌ، فاشتد مرضه، فلم يعده في مرضه وقد أخذ، فلما أن كان في السوق، قال أبو قلابة: هو ابن أخي، وأمره إلى الله، وليس له متركٌ، فسهر عنده تلك الليلة، والمصباح يزهر، فلما ذهب هزيع من الليل، نعس أبو قلابة، فبينما هو كذلك، إذا هو بأسودين معهما عتلةٌ، فهبطا من سقف البيت، قال أبو قلابة: فأسمع أحدهما يقول لصاحبه: اذهب إلى هذا الرجل، هل تجد عنده شيئاً من الخير؟ فأقبل، فلما دنا من ابن أخي، شم رأسه، ثم شم بطنه، ثم شم قدميه، ثم ذهب إلى صاحبه، ثم أسمعه(2/398)
يقول: شممت رأسه، فلم أجد في رأسه شيئاً من القرآن، فشممت بطنه، فلم أجده صام يوماً، ثم شممت قدميه، فلم أجده قام لله ليلة، ثم جاء صاحبه، فشم رأسه، وشم كفيه، ثم شم بطنه، ثم شم قدميه، فأسمعه يقول: إن هذا للعجب، إن هذا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ليس فيه من هذه الخصال خصلة، ثم أبصره فتح فمه، ثم أخذ بطرف لسانه، فعصره، ثم أسمعه يقول: الله أكبر، أجد له تكبيرةً كبرها بأنطاكية مرة مخلصاً، فنفح منه ريح المسك، فقبض روحه، ثم ذهب، فأسمعه يقول للأسودين وهما على باب البيت: ارجعا، فليس لكما إليه سبيل، فلما أصبح أبو قلابة، وصلى الغداة، وقام قائماً، فذكر ما رأى من أمر ابن أخيه، فقيل له: يا أبا قلابة! إنها بأنتاكية، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو! ما سمعتها من فم الملكين إلا بأنطاكية، فأسرع الناس إلى جنازة ابن أخيه.(2/399)
والعتلة: الفأس إذا كان نصابه منه، فليس هذا الرجل ممن يتكلم بهذه الكلمة عمره كله، ولكن لم يخلص بها إخلاصاً يوجب له الرحمة العظمى.
وإذا أراد الله بعبد خيراً، رزقه فتحة قلبه، وخرجت منه هذه الكلمة في ذلك الوقت، فعظم وزنها وقدرها عند ربها.
ألا ترى أن الرجل الذي ذكر الله في تنزيله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}، ثم قال: {أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرةٌ وزرقٌ كريمٌ}، فوصفهم بحقيقة الإيمان، وجعل لهم الدرجات في الجنة.
فقالت عائشة، وأم الدرداء رضي الله عنهما: إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة.
أي: لا تكاد تلبث طويلاً؛ لأنه يقين.
وكذلك قال ابن الحنفية: الإيمان ثابت، واليقين خطرات.
وهذا لأهل القصد والاستقامة، فأما العارفون المقربون، فهذا لهم(2/400)
دائم، وهم الذين يذكرون الله على كل حال، لا ينقطع ذكرهم، فقلوبهم وجلة، والمقتصد والمستقيم في غفلة عن الله، وفي يقظة عن أموره، ذكرهم في الأحاديث، وأكثر عمرهم في غفلة، والمقربون في يقظة عن الله عز وجل، وعن أموره؛ لأنهم بنور يقينهم قد صارت قلوبهم بين يديه، يعبدونه كأنهم يرونه، وهو الذي دل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اعبد الله كأنك تراه))، ولو لم يكن يطاق هذا ما دل عليه.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أشد الأعمال ثلاثةٌ: ذكر الله على كل حالٍ، ومواساة الأخ في المال، والإنصاف من نفسك)).
455 - حدثنا عبد الله بن [أبي] زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ، عن جعفرٍ، عن مالك بن دينارٍ، قال: قرأت في التوراة: يا ابن آدم! لا تعجز أن تقوم بين يدي في صلاتك باكياً؛ فإني أنا الله اقتربت لقلبك، وبالغيب رأيت نوري.
قال جعفر: يعني: تلك الرقة التي تفتح له من قرب الله عز وجل.(2/401)
456 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا داود ابن عبد الرحمن المكي، قال: حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيمٍ، قال: قالت عائشة -رضي الله عنها-: ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السعفة، فإذا وجد [ه] أحدكم، فليدع عند ذلك.
457 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن ابن خثيم، عن شهر بن حوشبٍ، عن أم الدرداء، قالت: إنما الوجل في قلب المؤمن كاحتراق السعفة، أما تجد قشعريرة؟ قلت: بلى، قالت: فادع الله؛ فإن الدعاء عند ذلك يستجاب.(2/402)
458 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ، عن جعفرٍ، عن ثابتٍ البناني، قال: قال فلانٌ: إني لأعلم متى يستجاب لي، فقالوا: من أين تعلم ذاك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي.
فإنما وصف الأقشعريرة؛ لأن هذه النفوس لا تحتمل ما يرد على القلب، فتقشعر منه الجلود، ينبئك أن هذا لأهل الاستقامة والمقتصدة.
فأما العارفون الذين قد عرفوا الله -تبارك اسمه-، فلا يعرف أنهم يعتريهم هذا؛ لأن نفوسهم قد اطمأنت إلى رؤية الملكوت، وما يرد على القلوب، ومرنت على ذلك، واعتادت، ومثل ذلك في الدنيا مثل جرة(2/403)
لم يصبها الماء، فإذا وضعتها في الماء، انتشقت، وسمعت لها نشيشاً، فإذا كرر عليها ذلك، لم تسمع لها ذلك؛ لأنها قد تشربت من الماء، وارتوت، فكذلك قلب العارف قد ارتوى من سقيا الله عز وجل.
459 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ، قال: حدثنا أبو عاصمٍ العباداني، قال: حدثنا الفضل الرقاشي، قال: حدثنا محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال لي جبريل: يا محمد! إن الله يخاطبني يوم القيامة فيقول: يا جبريل! ما لي أرى فلان بن فلانٍ في صفوف أهل النار؟ فأقول: يا رب! إني لم أجد له حسنةً يعود عليه خيرها اليوم، قال: يقول الله تعالى: إني سمعته في دار الدنيا يقول: يا حنان يا منان! فائته فاسأله: (ماذا عني بقوله: يا حنان، يا منان! فآتيه فأسأله)، فيقول: وهل من حنانٍ ومنانٍ غير(2/404)
الله تعالى؟ فآخذ بيده من صفوف أهل النار، فأدخله في صفوف أهل الجنة)).(2/405)
الأصل السادس والسبعون
460 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، عن الجراح بن مليحٍ الحمصي البهراني، قال: حدثنا بكر بن زرعة الخولاني، عن أبي عنبة الخولاني، وكان ممن صلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً ليستعملهم بطاعته)).(2/407)
قال أبو عبد الله: فغرس الله محروسٌ في الأحوال، محفوظٌ في الأصلاب، والأرحام، ومرعيٌّ في قطع الأسفار إلى الله، يكلؤه ويرعاه، وهم رجاله في أرضه، وأولياؤه، والدعاة إليه، وغرس الله راسخٌ عروقه في الأرض، باسقٌ فروعه في الملكوت، فعروقه في الثرى رسوخاً، وفروعه عند ذي العرش بين يديه، هو غرسهم، وهو أنبتهم، وهو يجني ثمرتهم.
فأما قولي:
هو غرسهم: فهو أنه اجتباهم بمشيئته، فذاك غرسه إياهم.
وأما قولي هو أنبتهم: أي: إنه راض نفوسهم، وأدبهم، وقوم أخلاقهم بتدبيره، فولي ذلك منهم دون الخلق، وكل الحق بهم حارساً، وسار بهم إليه جاذباً.
وأما قولي: هو يجني ثمرتهم: أي: لما وصلوا إليه، وقبلهم، ورتب لهم عنده في تلك الخلوات والمجالس، صاروا في قبضته، فهو الذي يستعملهم، فهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه: (يستعملهم بطاعته.
وقوله في الحديث) الآخر فيما يحكي عن الله: أنه قال: ((إذا أحببت عبدي، كنت سمعه وبصره، ويده، ورجله، ولسانه، وفؤاده، فبي يسمع،(2/408)
وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، وبي يعقل، وبي ينطق)).
ومنه قول لقمان: ألا إن يد الله على أفواه الحكماء، فلا ينطق أحدهم إلا بما هيأه الله لهم.
فمن علامة أولئك: أنه يخرجهم من ظلمٍ بطون الأمهات أحراراً من رق النفوس، قد طبع نفوسهم على أخلاق الكرام؛ مثل: السخاوة، والشجاعة، والسماحة، والحلم، والتأني، والنزاهة، والصيانة من مداني الأخلاق.
فهذا حرٌّ من رق النفوس، ومن كل ضد هذه الأشياء فيه، مثل: البخل، والضيق، والنكد، والعجلة، وحدة الشهوة، والحرص، والجبن، فهو عبد نفسه، فإن رزق تقوى، احتاج إلى أن يجاهد نفسه حتى لا يستعمل أركانه بما يصير به عاصياً، فهو وإن جاهد، فهذه الأخلاق باطنة؛ وفي الظاهر متق.(2/409)
وهو قول عيسى -صلوات الله عليه- لبني إسرائيل: فلا عبيد أتقياء، ولا أحرار كرماء.
فالعبيد الأتقياء: هم الذين هذه الأخلاق فيهم، فهم أتقياء، يتقون الله أن يعصوه بجارحةٍ، وتردد فيهم هذه الأخلاق، فإن عملوا بطاعته، عملوها بكزازة نفسٍ، وجهدٍ.
والأحرار الكرماء: فقد عروا عن هذه الأخلاق طبعاً، فنفوسهم أحرار من رق هذه الأخلاق، فهم الكرماء، فإن اتقوا ما نهى الله عنه، لم يحتاجوا إلى أن يحاربوا، أو يجاهدوا نفوسهم، وإن عملوا بطاعته، عملوه تكرماً، وسماحة، فقلبه لينٌ منقادٌ، ليس فيه كزازةٌ، حيثما قاده مولاه في أموره، انقاد من غير تلجلجٍ.
ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا للعنب: كرمٌ، إنما الكرم قلب المؤمن)).
فإنما سمي العنب كرماً؛ لأنه لين ينقاد حيثما استقيد، فكذلك المؤمن، قلبه لينٌ رطبٌ بذكر الله، ينقاد لله في أموره وأحكامه.
فإذا كانت لنفسه حرارة شهوة، ويبس، وكزازة، أصاب القلب من(2/410)
ذلك يبساً، فإذا قدته إلى أمر الله، احتجت إلى قوة؛ لأنه يستصعب عليك، وهو قوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه}.
فإذا دخل النور، انفسح الصدر، وتوسع للإسلام، وذلك أن النفس تسكن حدتها وشرتها إذا جاوزها النور.(2/411)
الأصل السابع والسبعون
461 - حدثنا نصر بن علي الحداني، قال: حدثنا المعلى بن راشدٍ أبو اليمان الهذلي، قال: حدثتني جدتي أم عاصم، وكانت أم ولدٍ لسنانٍ بن سلمة، قالت: دخل علينا نبيشة الخير، ونحن نأكل في قصعة، فحدثنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل في قصعةٍ، ثم لحسها، استغفرت له القصعة)).
462 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثتني(2/413)
حكامة بنت عثمان بن دينارٍ، قالت: حدثني عمي مالك بن دينار، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من أكل في قصعةٍ، ثم لحسها، استغفرت له القصعة، وصلت عليه)).
قال أبو عبد الله: فالشيطان ممنوع من مشاركة المؤمن في طعامه، وشرابه، ولباسه، وجميع أموره، ما دام يسمي الله على كل أمر، فإذا ترك التسمية، وجد فرصةً، فشاركه في ذلك، حتى في إتيانه أهله.
463 - حدثنا محمد بن عمارة بن صبيحٍ الأسدي، قال: حدثنا سهل بن عامرٍ البجلي، قال: حدثنا يحيى ابن يعلى الأسلمي، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهدٍ، قال: إذا جامع الرجل أهله، ولم يسم، انطوى الجان على إحليله، فجامع معه، فذلك قوله تعالى: {لم يطمثهن إنسٌ(2/414)
قبلهم ولا جانٌ}.
وذلك أن الله -تبارك اسمه- وصف الحور بأنهن {لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جانٌ} يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثن الجان، وأن الحوريات قد برئن من هذا العيب، ونزهن.
فالطمث: الجماع.
464 - حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق البصري، قال: حدثنا سليمان بن طريفٍ، عن مكحولٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: ((إن الله أمرني أن أعلمكم مما علمني، وأن أؤدبكم، إذا قمتم على أبواب حجركم، فسلموا، يرجع الخبيث عن منازلكم، فإذا وضع بين يدي أحدكم طعامٌ، فليسم؛ كيلا يشارككم الخبيث في أرزاقكم، ومن اغتسل بالليل، فليحاذر على(2/415)
عورته، فإن لم يفعل، فأصابه لممٌ، فلا يلومن إلا نفسه، فإذا رفعتم المائدة، فاكنسوا ما تحتها؛ فإن الشياطين يلتقطون ما تحتها، فلا تجعلوا لهم نصيباً في طعامكم)).
465 - حدثنا محمد بن علي الشقيقي، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا موسى الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: إذا وضعت يدك في الطعام، فنسيت أن تقول: باسم الله، فقل حين تذكر: باسم الله في أوله وآخره.(2/416)
فإنك تمنع الخبيث ما أصاب من طعامك قبل ذلك، وتستقبل طعامك جديداً، فإن الخبيث يتقيأ ما أصاب قبل ذلك، فينتثره.
466 - حدثنا بشر بن خالدٍ العسكري، قال: حدثنا سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا الأعمش، عن زيد العمي، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستر ما بين أعين الجن، وبين عورات بني آدم، إذا وضع أحدكم ثوبه: أن يقول: باسم الله)).(2/417)
467 - حدثنا روح بن قرة اليشكري، قال: حدثنا عبد الله بن يحيى الثقفي، قال: حدثنا عثمان بن مطرٍ، عن سلام ابن سليمٍ، عن جعفرٍ العبدي، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله: فإنما يمتنع المؤمن من هذا العدو باسم الله، فإذا سمى الله على طعامه، فالشيطان منه بمزجر الكلب جائعاً عارياً، فإذا فرغ من الطعام، ولم يلحس القصعة، جاء الشيطان فلحسها؛ لينال ما بقي(2/418)
هناك، فصارت القصعة لحسة للشيطان، فإذا لحسها، كان قد خلصها من الشيطان ولحسته، فاستغفرت له شكراً له بما فعل؛ حيث لم يتركها في يد الشيطان يلحسها، وصار فعله ذلك ستراً للقصعة من الشيطان؛ حيث لم يترك هناك شيئًا يجد الشيطان سبيلاً إليه؛ لأنه إنما سمى على ما يأكل، فإذا رفض ما بقي، فقد ذهب سلطان التسمية وحراسته، فإذا استقصى فيه، فلم يترك شيئاً، شكرت له، فسألت ربها المغفرة، وهو الستر لذنوبه حيث سترها.(2/419)
الأصل الثامن والسبعون
468 - حدثنا موسى بن محمدٍ المسروقي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن مسعرٍ، عن زياد بن علاقة، عن عمه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم جنبني منكرات الأعمال، والأخلاق، والأهواء، والأدواء)).(2/421)
(قال أبو عبد الله: فمن الأعمال والأخلاق والأهواء والأدواء) ما لا ينفك منه ابن آدم في متقلبه ليلاً ولا نهاراً، ومنها ما يعظم الخطب فيه حتى يصير منكراً غير متعارف فيما بينهم، فذاك الذي يشار إليه بالأصابع في ذلك الأمر، ومنه يعظم الوبال.
وبلغنا أن غضيف بن الحارث قال لعبد الله بن عائذ الثمالي حين حضرته الوفاة: إن استطعت أن تلقانا، فتخبرنا بما لقيت، فتوفي، فرئي في المنام، فقال: وجدنا ربنا خير ربٍّ، يقبل الحسنات، ويغفر السيئات، إلا ما كان من الأحراض، قيل: وما الأحراض؟ قال: الذي يشار إليه بالأصابع بالسوء في الشر.
469 - حدثنا بذلك حفص بن عمر [و]، قال: حدثنا الحكم بن نافعٍ، قال: حدثنا صفوان بن عمرٍو، عن محمد بن زيادٍ أبي سفيان الألهاني، عن غضيف بن الحارث.
فهذا منكر، فلذلك يشار إليه بالأصابع.(2/422)
470 - حدثنا أبو الأشعث العجلي، قال: حدثنا حزمٌ القطعي، قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بحسب امرئٍ من الشر أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا، إلا من عصم الله)).
قال أبو عبد الله: فإنما يشار إليه في دين، فإنه أحدث بدعةً ومنكراً، فأشير إليه فيه، وفي دنيا أحدث منكراً من الكبائر، فأشير إليه، فأما ما يتفاوت الناس فيه، فقد ينظر إليهم، وليسوا بأهل إشارة، فإنه إن كثرت صلاة رجل أو صيامه، فاشتهر بذلك، أو بنوع من أنواع البر، فإنما اشتهر بزيادة كانت منه، وإلا، فقد شركه الجميع، فليس في هذا ما يشار إليه بالأصابع، إنما(2/423)
هذا في الذي يحدث في دينه بدعة، فيفوت الناس، ويبعد شأنه من شؤونهم، وكذلك في الدنيا يحدث منكراً، يفوت الناس، ويبعد أمره؛ مثل: الإصرار على بعض الكبائر؛ من الزنا والسرقة ونحوها، وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإشارة بالأصابع.
فقال: ((بحسبه من الشر)) كأنه رأى أن ذلك عبد قد هتك الله ستره، فالمهتوك ستره في أيام الدنيا في عار، وغداً في النار، ومن ستر الله عليه في الدنيا، رجي له كل خير.
وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا ستر الله على عبدٍ في الدنيا، لم يفضحه غداً)).
وقال علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-:
أقسم على ذلك، من غير أن أستثني، لا يستر الله على عبد فيفضحه غداً.
471 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا القعنبي، عن سلمة بن وردان، عن أبي سعيد بن أبي المعلى، عن علي رضي الله عنه.(2/424)
قال: فالكبائر منكرات الأعمال، وسوء الخلق من منكرات الأخلاق، وهو: الحقد، والبخل، والشح، والحسد، وما أشبهه.
والزيغ: منكرات الأهواء.
والسل، وذات الجنب، والجذام، والبرص، وما أشبهه من منكرات الأدواء.
وهذه كلها: بوائق الدهر.
فربما كان يحمله فيقول: ((أعوذ بك من بوائق الدهر، وفجأة النقم)).
أي: نقم الله تفجؤه بذنوبه في عاجل الدنيا.(2/425)
الأصل التاسع والسبعون
472 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا حماد بن زيدٍ، قال: حدثنا هشامٌ، عن محمدٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رآني في المنام، فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل بي)). فكان الرجل إذا قص عليه الرؤيا، يقول: كيف رأيته؟ فإن جاء بالرؤيا على وجهها، وإلا، قال: لم تره.(2/427)
قال أبو عبد الله: قوله: ((من رآني في المنام))؛ أي: رآني على نعتي الذي أنا عليه، فلو رآه على غير نعته، لم يكن رآه؛ لأنه قال: ((من رآني))؛ فإنما يقع على نعته.
والرؤيا على ثلاث منازل:
منها: ما يريه الملك الموكل بالرؤيا، فذاك حقٌّ.
ومنها: ما يمثل له الشيطان.
ومنها: ما يحدث به المرء نفسه.
473 - حدثنا بذلك أحمد بن أبي عبيد الله السلمي البصري، قال: حدثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا ثلاثٌ: فرؤيا يحدث بها المرء نفسه، ورؤيا حقٌّ، ورؤيا تحزينٌ من الشيطان، فمن رأى ما يكره، فليقم فليصل)).(2/428)
وكان يقول: ((من رآني، فإني أنا هو، ليس للشيطان أن يتمثل بي)).
وكان يقول: ((لا تقص الرؤيا إلا على عالمٍ أو ناصحٍ)).
474 - حدثنا أبي، قال: حدثنا يوسف بن بهلولٍ، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن،(2/429)
عن أبي قتادة الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الرؤيا على ثلاث منازل، فمنها ما يحدث به المرء نفسه، ليست بشيءٍ، ومنها ما يكون من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليبصق عن يساره، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، فلن يضره بعد ذلك، ومنها بشرى من الله، ورؤيا الرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة، فإذا رأى أحدكم رؤيا، فليعرضها على ذي رأيٍ ناصحٍ، فليقل خيراً، أو ليتأول خيراً)).
فقال عوف بن مالك الأشجعي: والله يا رسول الله -صلى الله عليك وسلم-! لو كانت حصاةٌ من عدد الحصا، لكان كثيراً.(2/430)
475 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا هشامٌ، عن يعلى بن عطاءٍ، عن وكيع بن عدسٍ العقيلي، عن عمه أبي رزينٍ -وهو: لقيط بن عامر المنتفق-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا على رجل طائرٍ، ما لم تعبر، فإذا عبرت، وقعت)).
وأحسبه قال: فلا تقصها إلا على وادٍّ، أو ذي رأيٍ ناصحٍ)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رؤيا المؤمن جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة)).
476 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ابن لهيعة،(2/431)
عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا للرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة)).
477 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا يونس ابن بكير، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن الأعرج، عن سليمان بن عريبٍ، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رؤيا الرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة)).
فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((جزءٌ من خمسين جزءاً من النبوة))، فقال سليمان: سمعته من أبي هريرة قال: ابن عباس يقول: قال أبو هريرة،(2/432)
وأقول: قال العباس بن عبد المطلب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
478 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، عن مالك بن أنسٍ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة)).(2/433)
479 - حدثنا المخزومي، قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه، فلينفث عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شرها؛ فإنها لا تضره)).
480 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، عن سليمان بن سحيمٍ، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبدٍ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة، والناس صفوفٌ خلف أبي بكر، فقال: ((أيها الناس! إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له)).(2/434)
فالرؤيا حقٌّ جاء من عند الحق المبين، يخبر عن أنباء الغيب، وهو من الله تأييدٌ لعبده، بشرى، ونذارة، ومعاتبةٌ، ليكون له فيما ندب له، ودعي إليه عوناً، وقد كانت عامة أمور الأولين بالرؤيا، إلا أنها ضعفت في هذه الأمة، وقلت؛ لعظيم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي، ولما في هذه الأمة من الصديقين والمحدثين وأهل اليقين والإلهام، فاستغنوا بها عن الرؤيا، وقد وكل بالرؤيا ملك يضرب من الحكمة الأمثال، وقد اطلع على قصص ولد آدم من اللوح، فهو ينسخ منها، ويضرب لكل على قصته مثله، فإذا نام، وخرجت نفسه، مثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة؛ ليكون له بشرى، أو نذارة، أو معاتبة.
والآدمي المؤمن محسود، وقد ولع به بهذا الشيطان؛ لشدة عداوته، فهو يكيده، ويحسده من كل وجه، يريد إفساد أموره، وتلبيسها عليه، فإذا رأى الرؤيا الصادقة، أراه من كيده أشياء؛ كي يشبه عليه رؤياه، ويخلطها حتى يفسد عليه بشراه، أو نذارته، أو معاتبته، ونفسه الأمارة بالسوء عونٌ للشيطان على جميع أموره، في المنام واليقظة، فربما كان (رؤيا مما حدث به في اليقظة نفسه)، فخرجت نفسه في المنام، مثل له ما كان يحدث به(2/435)
في اليقظة، فذاك من حديث النفس والمنى، ليس من أنباء الغيب، فهذان صنفان من الرؤيا؛ ليكونوا على بصيرة من أمورهم.
فأما البشرى:
فمثل ما جاءنا به من رؤيا أبي بكر؛ حيث جاء صهيب، فقال: إني رأيت كأن يدك مغلولةٌ إلى عنقك، إلى سريرٍ، إلى الحشر، فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: الله أكبر، جمع لي ديني إلى يوم الحشر.
وأما النذارة:
فمثل ما روي لنا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه لما رجع من اليمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم معه برقيقٍ قد أصابه هناك، فقال له عمر رضي الله عنه: اذهب بها إلى أبي بكرٍ حتى يطيب لك، فأبى، وقال: إنما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجزيني فيما أصابني من الدين، فطيبت لي الهدية، فلما رجع إلى أهله، وبات، رأى تلك الليلة كأنه وقع في ماء غمره، فأتاه عمر رضي الله عنه، فأخذ بيده حتى أخرجه منه، فلما أصبح، غدا بالسبي على أبي بكرٍ رضي الله عنه، فقص عليه قصته، فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعثك ليجزيك، هم لك حلٌّ.(2/436)
481 - حدثنا بذلك علي بن حجرٍ، قال: حدثنا سويد بن عبد العزيز السلمي، قال: حدثني عروة بن رويمٍ.
ومثل ما جاء في فتح نهاوند: حيث حمل إلى عمر رضي الله عنه السفطين فيهما حليٌّ، وقد كان للنخيرجان كنز، فدله ذلك الرجل على الكنز، على أن له الأمان، ولأهل بيته، فحمله السائب بن الأقرع إلى عمر رضي الله عنه، فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فختمه، ووضعه في خزانته، فرأى تلك الليلة كأن ملائكة جاءت بسفطين، فأوقدوا ما فيها جمراً يتوقد، فجعلت أنثني عنهما وأنكص، وأقدم إليهما، فكاد ابن الخطاب يحترق، فأتبعه بريداً إلى الكوفة، حتى جاء، فقال: ما لي ولك يا سائب؟ إني رأيت كذا، فاذهب بهما إلى الكوفة، فبعهما بأعطيات المقاتلة والذرية.
482 - حدثنا بذلك داود بن حمادٍ القيسي، قال: حدثنا حماد بن داود الثعلبي الكوفي، قال: حدثنا مضرس ابن عبد الله الوابشي، عن يونس، عن الحسن.(2/437)
وأما المعاتبة: فمثل ما:
483 - حدثنا به عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ، قال: حدثنا حماد بن زيدٍ، عن يزيد بن حازمٍ، عن سليمان بن يسارٍ، قال: استيقظ أبو أسيدٍ الأنصاري ليلةً، وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فاتني وردي الليلة، وكان وردي البقرة، فقد رأيت في المنام كأن بقرةً تنطحني.
484 - حدثنا سهل بن العباس، قال: حدثنا مروان الفزاري، عن سمير بن أبي واصلٍ، قال: يقال: إذا أراد الله بعبد خيراً، عاتبه في نومه.(2/438)
وأما الخبر الذي يلقى إليه من أمر الدنيا والآخرة، فمثل:
485 - ما حدثنا به أبي رحمه الله، قال: حدثنا به أحمد ابن يونس، عن سعيد بن سالمٍ القداح، عن عبد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: جاء رجلٌ إلى عمر، وهو عند أبي بكرٍ رضي الله عنهما، فقال: إني رأيت لك رؤيا، فقال عمر رضي الله عنه: لا حاجة لنا برؤياك، قال أبو بكر رضي الله عنه: هات، فقال: رأيت كأن الناس حشروا، وكأنك فزعت الناس بثلاث نشطاتٍ، قلت: بأي شيءٍ فزع الناس عمر بثلاث نشطاتٍ أو نحوه؟ قال: بأنه يكون خليفةً، وأنه لا يأخذه في الله لومة لائمٍ، وأنه يقتل شهيداً، فقال عمر رضي الله عنه: أضغاث أحلامٍ، لا حاجة لنا برؤياك، قال أبو بكرٍ رضي الله عنه:(2/439)
رأيت خيراً، وخيراً يكون، فلما أتى عمر الشام، بصر الرجل، فقال: علي بالرجل، أو دعا به، فقال: أنت صاحب الرؤيا؟ قال: وما تصنع برؤياي، ما زلت تنتهرني، حتى إني قد جئت بأمرٍ، قال: قصها، قال: رأيت كأن الناس يحشرون، فرأيتك فزعت الناس بثلاث نشطاتٍ، فقلت: بأي شيء فزع الناس عمر بثلاث نشطات؟ قال: بأنه يكون خليفةً، قال: فقد كانت، نسأل الله خيرها، ونعوذ بالله من شرها، قال: وبأنه لا تأخذه في الله لومة لائمٍ، قال: إني أرجو أن يكون كذلك، أو أن يعلم الله ذلك مني، قال: وبأن يقتل شهيداً، قال عمر رضي الله عنه: أما الشهادة، فأنى لعمر بالشهادة؟ ثم قال: بل يأتي الله بكافرٍ فينقرني نقر الديك، فيكرمني الله بهوانه، ويهينه بكرامتي.
قال: ويحك! أردت أن تقص رؤياك عند خير الناس بعد(2/440)
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وكان شأن الرؤيا عظيماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان إذا صلى، سأل الصحابة عن ذلك.
486 - حدثنا رزق الله بن موسى الناجي، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، قال: حدثني سعيد بن جهمان، عن سفينة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح، أقبل على أصحابه، فقال: ((أيكم رأى الليلة رؤيا؟))، فقال ذات يومٍ ذلك، فقال رجلٌ: أنا يا رسول الله، رأيت كأن ميزاناً دلي من السماء، فوضعت في كفة الميزان، ووضع أبو بكرٍ في كفةٍ، فرجحت بأبي بكرٍ، ثم رفعت، وترك أبو بكرٍ، ثم جيء بعمر، فوضع في الكفة الأخرى، فرجح أبو بكرٍ بعمر، ثم رفع أبو بكرٍ، وترك عمر، ثم جيء بعثمان، فوضع في الكفة الأخرى، فرجح(2/441)
عمر بعثمان، ثم رفع الميزان، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((خلافة النبوة ثلاثين عاماً، ثم تكون ملكاً)).
قال لي سفينة: أمسك سنتين أبو بكرٍ، وعشراً عمر، وثنتي عشرة عثمان، وستٍّ عليٌّ.
487 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيمٍ، قال: حدثنا حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جهمان، عن سفينة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((الخلافة في أمتي ثلاثون عاماً)).
فذكره إلى آخره، ولم يذكر الرؤيا.(2/442)
488 - حدثنا الجارود بن معاذ، قال: حدثنا النضر عن عوفٍ، عن أبي رجاءٍ، عن سمرة بن جندبٍ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول لأصحابه: ((هل رأى أحدٌ منكم رؤيا؟))، فيقص عليه ما شاء الله أن يقص.
489 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، عن ابن وهبٍ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، حدثه: أن زياد بن نعيم حدثه، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه كان يقول: إذا أصبح من رأى رؤيا صالحةً، فليحدثنا بها، لأن يرى لي رجلٌ مسلمٌ أسبغ(2/443)
وضوءه رؤيا صالحةً، أحب إلي من كذا وكذا.
قال أبو عبد الله: فإنما طلبوا ذلك وتفقدوه؛ لأنه من أخبار الملكوت من الغيب، ولهم في ذلك نفع في أمر دينهم، بشرى كان أو نذارة أو معاتبة، وهو جزء من أجزاء النبوة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاته: ((إنه لم يبق بعدي من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة)).
وقد ذكر الله في تنزيله شأن الأولياء، فقال: {ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}.
ثم وصف من الأولياء، فقال: {الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}، ثم قال: {لا تبديل لكلمات الله}، يعلمك أن هذا البشرى هو الحق، وهو كلام الله، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البشرى.
490 - حدثنا بذلك الجارود، قال: حدثنا وكيعٌ، قال: حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {لهم البشرى في الحياة(2/444)
الدنيا}، قال: ((هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له)).
491 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، عن مالك بن أنسٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: نزلت هذه الآية في ذلك.
492 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسارٍ، عن رجل من(2/445)
أهل مصر، قال: سألت عنها أبا الدرداء، فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له، وفي الآخرة الجنة)).
493 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا وكيعٌ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن عطاء بن يسارٍ، عن رجلٍ كان يقضي بمصر، عن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
فقوله: {لا تبديل لكلمات الله} أي: إن هذه البشرى كلام الله، فلا تبديل له، ولا خلف.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحقق ما قلنا.(2/446)
494 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا نعيم ابن حمادٍ، قال: حدثنا عثمان بن كثير بن دينارٍ الحمصي، قال: حدثنا محمد بن مهاجرٍ أخو عمرٍو، عن جنيد بن ميمونٍ أبي عبد الحميد، عن حمزة بن الزبير، عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((رؤيا المؤمن كلامٌ يكلم به العبد ربه في المنام)).
وروي لنا عن بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجابٍ أو يرسل رسولاً}، قال: من وراء حجاب: في منامه.(2/447)
وكانت رؤيا الأنبياء وحياً، وإنما أري إبراهيم في المنام ذبح ابنه، فوفى لله بذلك، فرؤيا الأنبياء لا شك فيها، ورؤيا من بعدهم لا يحتج بها؛ لأن الشيطان يلقي فيها من عنده، فلا يؤمن عليه، والوحي محروس، فمن دون الأنبياء لهم بشرى وموعظة.
ألا ترى أن عمر رضي الله عنه حين قص عليه رؤيا، فقال: إنها تسرني، ولا تغرني، فلو لم تكن بشرى، كانت لا تسره، ولو كانت كالوحي، لم تكن غروراً، وقد قص الله شأن الرؤيا في تنزيله، فسماه: حديثاً، فقال: {ولنعلمه من تأويل الأحاديث}.
فهذا يحقق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كلام الرب عبده، فعلم يوسف تأويل الرؤيا، فلما رأى سجود الإخوة له حيث لقوه بمصر، فخروا له سجداً، قال: {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً}؛ حيث رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً له ساجدين، وما كان من رؤيا الملك حيث رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، فعبره يوسف، وأخرجه من السجن، وولاه ملكه، وجعله على خزائن الأرض.
فالمحدثون على القلوب، هم صفوة السابقين المقربين، والمخبتون من الأولياء المجذوبون، والمحدثون في المنام أمرهم على الأرواح إذا خرجت الأرواح من الأجساد كلموا، ومنه قول رقبة بن مسقلة.
495 - حدثنا جارود بن معاذٍ، عن جريرٍ، عن رقبة(2/448)
ابن مسقلة، قال: رأيت رب العزة في المنام، فقال: ((وعزتي! لأكرمن مثوى سليمان التيمي)).
ومنه ما روي عن إبراهيم بن أدهم: أنه قال ذات يوم: اللهم إنه قد وقع الشوق إليك في قلبي، والنظر إليك، وقد علمت أنك لا ترى في الدنيا، فهب لي من عندك ما يسكن إليه قلبي، فغفا إبراهيم في مجلسه ذلك، ثم أفاق، ثم قال: سبحان الله! فقيل له: مم سبحت؟ قال: من لطف ربي -تبارك وتعالى-، إني بينما أنا غافٍ، إذ أتاني آتٍ من ربي، فقال: يا رجل! أجب ربك، فأتيت ربي عز وجل، فكاد بصري يذهب لنور ربي، فناداني ربي، فقال: يا إبراهيم! تسألني بدلاً من النظر إلي، والشوق إلى لقائي، وهل لذلك من بدلٍ؟ فقلت: يا ربي! دهشت في حبك، فطار قلبي إليك، فلم أتمالك أن قلت ما قلت، فكيف تأمرني أن أقول؟ فقال: يا إبراهيم! من وجدت قلبه خالياً من الدنيا والآخرة، ملأته من حبي، حتى إذا ملأته قبضت عليه، فكان في قبضتي، فإذا كان في قبضتي، كنت سمعه الذي به يسمع، وعينه الذي به يبصر، ويده الذي بها يبطش، وعزتي وجلالي! لو سألني جميع الدنيا كلها في كفه، لفعلت، وكيف يتفرغ إلى المسألة من سهلت له السبيل إلى نفسي، وأريته كرامتي، فإن كنت لابد(2/449)
سائلاً، فاسألني: أن أجمعك إلي، وأؤنسك بكلامي، وآذن لأرواح أنبيائي في الالتقاء معك؛ فإن ذلك يهون علي لأوليائي.
قال أبو عبد الله: فالوحي يتحقق حديثه على القلب بالروح، والمحدث يتحقق حديثه على القلب بالسكينة، ولما كان للمحدثين في اليقظة على القلوب كلام يعقلوه ويعلموه، كانت الرؤيا حديثاً وكلاماً أيضاً على الأرواح في المنام.
لأن العامة في تخليطٍ من قبل الشهوات، وميل النفوس، فلم يكلموا إلا من بعد مزايلة الأرواح من النفوس والشهوات، والحفظ قرين العقل ومؤيد العقل به، فإذا رجع الروح إلى الجسد، وقد كلم بشيء، أو مثل له بشيء، فوجد له مهلة حتى يعرضه على العقل، فإذا استيقظ، حفظه، فإذا رجع، ولم يجد مهلة حتى يعرضه على العقل، واستيقظ قبل ذلك، نسيه، ولما صفت عقول المحدثين، وطهرت قلوبهم، وتنزهت من الآفات والشهوات، والعلائق، كلموا على القلوب، فإذا كان الكلام على الأرواح في المنام، كان جزءاً من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة، على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان على القلوب في اليقظة، كان كثيراً، فربما كان(2/450)
ثلث النبوة، وربما كان نصفها، وربما كان أكثر، على قدر قربها من ربها في تلك المجالس.
496 - حدثنا محمد بن الحسن الليثي، قال: حدثنا إبراهيم بن سعدٍ، عن أبيه، عن أبي سلمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما أنا نائمٌ، إذ أتيت بقدح لبنٍ، فشربت منه حتى إني لأرى اللبن يجري من أطرافي، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب))، فقال من حوله: ماذا أولت يا رسول الله؟ قال: ((العلم)).
قال: ((ورأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمصٌ، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ الركبة، ومر عمر رضي الله عنه، وعليه قميصٌ يجره))، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: ((الدين)).(2/451)
497 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((رأيتني في المنام عرضت علي أمتي، فمنهم من كان قميصه إلى ركبتيه، ومنهم من كان قميصه إلى أنصاف ساقيه، فمر بي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجر قميصه))، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: على ما أولت هذا يا رسول الله؟ قال: ((على الإيمان)).(2/452)
الأصل الثمانون
498 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثني مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا بهز بن حكيمٍ، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه كان عبدٌ من عباد الله آتاه الله مالاً وولداً، فكان لا يدين لله ديناً، فلبث حتى إذا ما ذهب عمرٌ، وبقي عمرٌ، ذكر، فعلم أنه لم يبتئر عند الله خيراً، دعا بنيه، فقال: أي أبٍ تعلموني؟ قالوا: خيراً يا أبانا، قال: فإني -والله- لا أدع عند رجلٍ منكم مالاً هو مني إلا أنا آخذه منه، أو لتفعلن بي ما آمركم، فأخذ منهم ميثاقاً وربي! قال: أما إني إذا مت، فخذوني، وألقوني في النار، حتى إذا كنت حمماً، فدقوني، ثم أذروني في الريح لعلي(2/453)
أضل الله، ففعلوا به ورب محمدٍ! حين مات، وجيء به أحسن ما كان قط، فعرض على ربه، فقال: ما حملك على هذا؟ قال: خشيتك يا رباه، قال: إني أسمعك راهباً، فتيب عليه)).
499 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني، قال: حدثنا معاوية بن هشامٍ، قال: حدثنا شيبان النحوي، قال: حدثنا فراسٌ، عن عطية عن أبي سعيدٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: ((لقد دخل رجلٌ الجنة ما عمل خيراً قط، قال لأهله حين حضره الموت: إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم أذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر، فأمر الله البر والبحر فجمعاه، قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك، فغفر له بذلك)).(2/454)
500 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبو بكر بن عياشٍ، عن الأجلح، عن نعيم بن أبي هندٍ، عن ربعي بن حراشٍ، عن حذيفة، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
501 - حدثنا أبو داود المصاحفي، قال: حدثنا النضر بن شميل، قال: حدثنا أبو نعامة العدوي، قال: حدثنا أبو هنيدة البراء بن نوفلٍ، عن والان العدوي، عن حذيفة، عن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه. وزاد فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((فيقول الله تعالى: انظر إلى ملك أعظم ملكٍ في الدنيا، فإن لك مثله، وعشرة أمثاله، فيقول: لم تسخر بي وأنت(2/455)
الملك؟!)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فذاك الذي أضحكني)).
قال أبو عبد الله: فهذا عبد استقرت المعرفة في قلبه بالتوحيد لله، وبالبعث بعد الموت، والثواب، والعقاب، والغالب عليه الجهل بالله، والجهل بأمره، فأمرج نفسه، وأهمل الحدود، وعطل العمر، فلما حضره الموت، هاج منه خوف التوحيد، فأعمل قلبه، فطلبت نفسه الجاهلة بالله ملجأ إلى غير الله، وخلاصاً من الله، فدلته نفسه على ما أوصى به أهله من الحرق، والسحق، والتذرية، فهذى به، وكل ما ذل عن العقل صار هذياناً، فعلته من المخافة، ما ذهل عقله، وانقطعت حيلته، (فلولا أن ذلك الذي هاج منه خوف التوحيد والعقيدة صحيحة، ما صدقه في قوله: ((ما حملك على ذلك؟ فقال: مخافتك))، ولم يكن يغفر له.(2/456)
وفي حديث بهز قال: ((إني أسمعك راهباً))، فصدقه في قوله: ((خشيتك يا رب))، وقوله: ((تيب عليه، وغفر له)).
وفي الحديث الآخر كلاهما بمعنى واحد، فهذا من كرم ربنا ينبئ رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن مجده يخبر، ومن عطفه على عبيده.
ومما يخبر في الحديث: أنه ما عمل خيراً قط، فهو عبد ممنون عليه بالتوحيد، ونفسه شرهة، أشرة، بطرة، شهوانية، قاهرة له، فلم يلتفت إلى العبودة، فبالمعرفة نجا، فهو قوله: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}.
502 - حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن الأسود بن هلالٍ، عن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه: أنه قال لأصحابه: ما تقولون في هاتين الآيتين: {الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، و {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ}؟ فقالوا: استقاموا، فلم يذنبوا، ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة.(2/457)
فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد حملتموها على غير المحمل، {قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، فلم يلتفتوا إلى إله غيره، ولم يلبسوا إيمانهم بشرك، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
قال أبو عبد الله: فهذا عبد قد كان حاله ما ذكر في الحديث، لم يعمل خيراً قط، فأدركته دركة السعادة، فأصاب حظاً من الخشية، والخشية إما تنال عند كشف الغطاء وانشراح الصدر بالنور، فقد شق لهذا العبد من الله أثرة وحظ، وهو يقطع عمره في رفض العبودة وتضييعها، وإهمال أموره، فلما حضر أوان شخوصه إلى الله، جاءت الأثرة والسعادة بذلك الحظ الذي كان سبق له منه، فاستنار الصدر بالنور، فانكشف الغطاء، فأخذته الخشية حتى صار بحال لا يعقل ما يقول من الذهول والرهب من الله، فقدم عليه معها، فغفر له بخشيته تلك، وغطت الخشية مساوئه كلها.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((بينما عبدٌ لم يعمل لله خيراً(2/458)
قط، ففرق، فخرج هارباً، فجعل ينادي: يا أرض! اشفعي لي، ويا سماء! اشفعي لي، ويا كذا! اشفعي لي، فأصابه العطش، فوقع، فلما أفاق، قيل له: قم، فقد شفع لك من قبل فرقك من الله عز وجل)).
503 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا صالح بن محمدٍ، عن أبي مقاتلٍ، عن أبي الحجاج، وهو خارجة، عن ابن عجلان، رفعه إلى أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله: فالخشية هي ولوج القلب ذلك النور الذي يوصله إلى الحجب بين يدي الله، فيحل به الهول ما تموت منه كل شهوة، فذلك التوبة النصوح، تاب إلى الله توبة ظاهرة باطنة، طهرت الأركان، وطهر القلب.
أما الأركان: فبتركه والتخلي عنه، وأما القلب: فبموت الشهوات من الخشية، والفرق: هو مفارقة القلب جميع معاني النفس من الهوى والشهوات.
وكذلك ما ذكر في حديث بهز بن حكيم: إني أسمعك راهباً.
والرهب: هو من هرب القلب من الخوف الذي حل به، فالهرب(2/459)
من الله إلى الله، فما زال قلبه يهرب حتى بهر؛ أي: علاه البهر.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً مات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في آية قرئت عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الفرق فلذ كبده)).
فقد أخبر بتفسير الفرق: أن الفرق مما يكشف الغطاء ويتراءى له، وينفر من مستقره نفاراً يقطع الكبد من شدة نفاره وإزعاجه عن موضعه، والخوف دخل ذلك، وهو أن يخف من مكانه، ولا يكون في هذه الصفة.
504 - حدثنا أبي، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمدٍ، عن يزيد بن الهاد، عن محمد ابن إبراهيم التيمي، عن أم كلثومٍ بنت العباس، عن أبيها العباس بن عبد المطلب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله، تحاتت عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة البالية ورقها)).(2/460)
وأما قوله: ((كان لا يدين الله بدين))؛ أي: لم يكن يسير في شريعته إلى الله سير المطيعين، فأما القبول، فلم يكن يخلو منه، ولو جحد الدين، لكفر، وهو مثل قوله في حديثه الآخر: ((لم يعمل خيراً لله قط)).
أما قوله: ((أسمعك راهباً))؛ أي: رهبت مني. وهو كقوله: هربت مني، والهرب بالنفس، والرهب بالقلب، فكأنه قال له: هربت مني تريد أن تضل مني، وأنا علام الغيوب، ولا يحجبني شيء عن النظر إليك، فهذا عبدٌ عالم بأنه واحد جاهل بصفاته وأسمائه، فالجاهل بأسمائه غير الملحد فيها، قال الله -تبارك وتعالى-: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}.
فالموحد وإن جهل، لم ينتقض توحيده، والملحد قد زاغ عنها، ووصفه بغير ذلك، فمال عنه، فالذي وصفناهم موحدون لا ملحدون.
فقوله: ((لعلي أضل الله))، فإنما نسب الضلالة إلى نفسه، فهو بعد(2/461)
موحد، ولم يقل: أضل الله، فيكون ملحداً، رجاء أن تكون هذه حيلة تنجيه منه، وتستجلب له رحمته أن يقول: هذا فرق مني وهرب، واستخفى مني خشية وحياء مني، فاتركوه، فنفسه منته هذه الأمنية.
وقوله: ((تيب عليه))؛ أي: رجع عليه بالرحمة، والمغفرة، والتوبة: الرجوع، وليس في الآخرة توبة.
وقوله: ((لعلي أضل الله))، ولم يقل: أضله، إنما قال: أضل بنفسي في ذلك الجمع العظيم، وهذا من عظيم الغرور، وابن آدم عظيم الغرة بالله لغلبة الجهل عليه، ومثل هذا كثير.
وروي لنا: أن رجلاً من الأغنياء (يندس في عصابة الفقراء حين يؤمر بهم إلى الجنة قبل الأغنياء)، فيؤخذ من بينهم، فيخرج، ويوقف.
505 - حدثنا بذلك ابن أبي زيادٍ، عن سيارٍ، عن الحارث بن نبهان، عن موسى بن العلاء القيني، عن سعيد ابن عامر بن حذيمٍ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بخمس مئة سنةٍ، حتى إن الرجل من الأغنياء ليدخل في غمارهم،(2/462)
فيؤخذ بيده، فيستخرج)).
قال سعيد: فأراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجعلني ذلك الرجل، فما يسرني أني كنت ذلك الرجل، وأن لي الدنيا وما فيها، وذلك أنه بعث إليه بألف دينار، ففرقها في قوم غزاة.
506 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا أبو النضر، قال: حدثنا أبو عقيلٍ الثقفي، عن يزيد ابن سنان، قال: سمعت أبا يحيى الكلاعي يقول: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني لأعلم آخر رجلٍ من أمتي يجوز الصراط، يتلوى على الصراط(2/463)
كالغلام حين يضربه أبوه، تزل رجله مرةً، فتصيبها النار، وتزل يده مرةً، فتصيبها النار، فتقول الملائكة: أرأيت إن بعثك الله من مقامك هذا، فمشيت سوياً، أتخبرنا بكل عملٍ عملته؟! قال: إي وعزته! لا أكتمكم من عملي شيئاً، قال: يقولون: قم فامش سوياً، فيمشي حتى يجاوز الصراط، فيقولون: أخبرنا بكل عملٍ عملته، فيقول في نفسه: إن أخبرتهم، ردوني إلى مكاني، فيقول: لا وعزته! ما أذنبت ذنباً قط، فيقولون: إن لنا عليك بينةً، فيلتفت يميناً وشمالاً هل يرى من آدمي كان شهده في الدنيا؟ فلا يرى أحداً، فيقول: هاتوا بينتكم، فيختم الله على فمه، وينطق الله يديه ورجليه وجلده بعمله، فيقول: إي وعزتك! لقد عملتها، وإني عندي العظائم المضمرات، فيقول الله: أنا(2/464)
أعلم بها منك، اذهب، فقد غفرتها لك)).
قال: فالغرة بالله من ظلمة الجهل، هكذا يعامل صاحبها ربه في الدنيا، وفي القيامة، فذاك العبد الذي وصفه في حديث بهز كان [في] غرة وجهل، فلما جاءته السعادة التي كانت سبقت له من الله بمنته عليه، قذف النور فيه، وانكشف الغطاء حتى صار من الفرق والخشية في ساعة حضور أجله ما كاد ينال خشية الأولياء والصديقين، فمحت سيئاته.
وروي عن الله -تبارك واسمه-: أنه قال: ((وعزتي! لا أجمع على عبدي خوفين)).
507 - حدثنا بذلك يحيى بن حبيب بن عربي، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن عوفٍ، عن الحسن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال الله -تبارك اسمه-: وعزتي! لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فمن خافني في الدنيا، أمنته في الآخرة)).(2/465)
الأصل الحادي والثمانون
508 - حدثنا أحمد بن عبد الله المهلبي، قال: حدثنا أنس بن عبد الحميد أخو جريرٍ، وجرير بن عبد الحميد يسمع، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أقفر بيتٌ فيه خلٌّ)).(2/467)
509 - حدثنا علقمة بن عمرٍو التميمي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياشٍ، عن ثابتٍ الثمالي، عن الشعبي، عن أم هانئٍ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أقفر بيتٌ فيه خلٌّ من أدمٍ)).
قوله: (أقفر) أي: خلا، ومنه قيل: أرضٌ قفر، وهو الموضع الخالي من المارة، بريةً كانت أو مفازةً.
فالخل: من الأدم التي تعم منافعها.
وتأول علماؤنا قوله: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً}، فقالوا: الرزق الحسن: الخل، فالذي سمي رزقاً حسناً منافعه كثيرة، وفيه منافع الدين والدنيا، وذلك أنه بارد يقطع حرارة الشهوة ويطفئها.(2/468)
510 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الحسن ابن حمادٍ الضبي، عن يونس بن بكيرٍ، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، قالت: كانت عامة أدم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده الخل، ليقطع عنهن ذكر الرجال.
وفي الخل منافع الدين والدنيا، (ولذلك قال: ((ما أقفر بيتٌ فيه خلٌّ))؛ أي: ما خلا من أمر الدين والدنيا)، وابن آدم مبلوٌّ بالشهوات، الرجال منهم والنساء، فكلما وجدوا عوناً على طفء ذلك منهم، كان عوناً لهم، وكل شيء كان للدين عوناً، فالبركة حالةٌ به، وإذا بورك في شيء، سعد به أهله.
511 - حدثنا إبراهيم بن سليمٍ الهجيمي، قال: حدثنا يزيد بن عطية السعدي، قال: حدثنا أبان، عن أنس(2/469)
ابن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الإدام الخل، نعم الإدام الخل)).
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليماً.(2/470)
الأصل الثاني والثمانون
512 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا دعي أحدكم إلى طعامٍ، فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك)).
قال أبو عبد الله: فالدعوة حق من الحقوق؛ لأن أصل الدعوة ابتغاء الألفة، والمودة، والولاية، وقد وصف الله المؤمنين في تنزيله فقال:(2/471)
{إنما المؤمنون إخوةٌ}، وقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ}.
ففي النفس هنأة، وفي الصدر سخائم من تلك الهنآت، فإن الآدمي ركب على طبائع شتى، وأخلاق مختلفة، والشهوات فيهم مركبة، والعدو موسوس ومحرض، ومزين لصاحبه سوء عمله.
والنفوس جبلت على حب من أكرمها؛ لأنها تحب الشهوات، ومن رؤوس الشهوات العز والتعظيم، وقد أحبت أن تنال بذلك من الدنيا وقضاء المنى، ففي ترك النفوس تقويمها، وذلك لها عون على دينها، فإنما حثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإجابة، ليقبل ذلك البر الذي بره به أخوه، حتى تتأكد الألفة، وتصفو المودة، وتنفى حزازات الصدر، فإن صاحب الغل والحقد لا يسلم له دينه من سوء ما يضمر لأخيه، فالإطعام بر للنفس، يطفئ حرارة الحقد، وينفي مكامن الغل.
قال أبو عبد الله: فالألفة من ثلاثة وجوه: حتى تتأكد وتستتم، فالقلب يألف بالإيمان الذي في قلب صاحبه، والروح تألف بطاعته، والنفس تألف ببرها؛ كأنها تقول: إني من شأني الشهوات واللذات، فهل يمر بي أحد حتى آلفه وأحبه، ليس من همتي الإيمان والطاعات، إنما من همتي اللذات، فألزمت الإيمان والطاعة، فانقدت لما قادني القلب والروح، فإذا برها، صفت، وصارت طوعاً، وإلا، فهو كالمكره، فوجدنا الألفة إنما تتم ببر النفوس، فإنما دعاه أخوه إلى قبول بره، فندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقبل ذلك من أخيه، كيلا تضيع كرامته، ولا يجد العدو سبيلاً إلى وسوسته بالشر، ثم له الخيار، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك.(2/472)
وترك الإجابة مما يدل على الجفاء والبعد، والاستهانة، فهناك يجد العدو سبيلاً إلى أن يعتذر إليه المدعو، فيقبل عذره هذا الداعي، فهذا باب آخر، أو يكون قد أحس من هذه الدعوة شيء، له في التخلف عنه عذرٌ، وذلك أن الزمان قد تغير، والنيات قد فقدت، والأعمال قد فسدت، فإن كان ذلك الطعام لمباهاة أو رياء، فله عذرٌ في ترك الإجابة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن ذلك.
513 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا جرير ابن حازمٍ، قال: حدثنا الزبير بن خريتٍ، عن عكرمة رضي الله عنه، قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طعام المتباريين أن يؤكل)).(2/473)
514 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا حماد بن زيدٍ، عن الزبير بن خريتٍ، عن عكرمة رضي الله عنه، قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طعام المتباريين)).
ولم يذكر فيه الأكل، أو يكون في تلك الدعوة أمورٌ محدثة من تستر الجدر المنهي عنه، أو اللهو واللعب المحظور عليهم، فهذا عذر.
515 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن عطية، قال: حدثنا موسى بن أبي حبيبٍ، عن الحكم ابن عميرٍ، وكان بدرياً، قال: أرسل رجلٌ من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الطعام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفر الخندق وأصحابه، فجاء، فقال: ادخل يا نبي الله البيت، فدخل البيت، فرأى البيت منجداً مستتراً، فخرج، فقال: يا رسول الله! ما أخرجك؟ قال: ((أطعمنا بالفناء)). قال: فأطعمهم، حتى إذا شبع القوم، فلما تفرقوا، قال: يا رسول الله! لو كنت دخلت؛ فإن البيت(2/474)
كان أبرد وأطيب، قال: ((إنك نجدت بيتك وسترته، وهذا لا يحل، شبهته ببيت الله، ولو شئت، بسطت فيه، فطرحت فيه وسائد)).
وقد كانت للقوم أحقاد في الجاهلية، فألف الله بين قلوبهم بالإيمان، فحثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على إجابة الدعوة لألفة النفوس.
ولذلك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله))؛ لأنهم كانوا يتخذون طعاماً يدعون عليها؛ لإسقاط الحشمة، ونفي السخيمة، فمن امتنع منه ليثبت على الغل، والحقد، فقد عصى الله ورسوله، وامتنع من حقٍّ عظيمٍ، هذا تأويل قوله صلى الله عليه وسلم فيما نرى.(2/475)
الأصل الثالث والثمانون
516 - حدثنا الجارود بن معاذٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاءً، علمه من علمه، وجهله من جهله)).(2/477)
517 - حدثنا سعيد بن عبد الله التمار، قال: حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
518 - حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت زياد بن علاقة يقول: سمعت أسامة ابن شريكٍ يقول: شهدت الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم هل علينا حرجٌ في كذا، هل علينا جناحٌ في كذا، هل علينا جناحٌ في أن نتداوى؟ قال: ((تداووا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داءً إلا وضع له شفاءً، إلا الهرم)).(2/478)
قال أبو عبد الله: فالدواء: هو شيء أنبته الله في الأرض بالحكمة البالغة؛ لمنافع الآدميين، وقد ذكر الله في تنزيله، فقال: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}.
فالطبائع تتغير بحدوث الأزمنة، من الحر والبرد، وفساد الهواء، فيصير داء في الأجساد، ويحدث في الجسد أحداث من الطعام، وما يتعاطاه ابن آدم من قضاء الشهوات واللذات، والنصب، والسهر، والتعب، والهموم، وما يجتمع في جسده من الدم، والمرة، والبلغم، فكل ذلك يحدث منه ما يتغير به حاله، فيحتاج إلى دواءٍ يسكن ما هاج منه، فهذا تدبير الجسد، فإذا ترك تدبيره، ضيعه؛ كما لو ترك تدبير المعاش، ضاع.
فالتداوي: حقٌّ، وهو فعل الأنبياء.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يلقحون النخل، فقال: ((ما أرى هذا يغني شيئاً)).(2/479)
فذهبت عامة ثمارهم هزلاً، وصارت دقلاً، فعرف أن التدبير من الله في ذلك غير ما رأى، فأمرهم أن يعودوا إلى ما كانوا عليه.
وكذلك عامة ما وضع من هذه الأشياء لم يتم ذلك الأمر إلا به، وكذلك علل الأجساد، كذا وضعت أن يعالج أحداثها حتى ترد إلى الهيئات التي كانت عليها، ولولا ذلك، لكانت الأدوية بشأنها مهملة، ولم يخلق الله عبثاً.
وكان سليمان -صلوات الله عليه- ينبت كل يوم في محرابه شجرةٌ، ثم تنادي به الشجرة: أنا دواء لكذا، فتقطع، وتوضع في الخزائن، ويكتب اسمها في ديوان الطب، فعامة أهل الطب إنما ورثوه من ذلك الكتب.
والناس في التداوي على ثلاثة أصناف، وعلى ثلاثة طبقات:
فالطبقة الأولى: هم الأنبياء، والأولياء، أهل يقينٍ ومشاهدةٍ، تداووا، وقلوبهم خالية من فتنة الدواء على معاتبة، يتداوون وقلوبهم مع خالق(2/480)
الدواء، والذي جعل الشفاء مع ذلك الدواء، فهم يتداوون على ما هيأ لهم من التدبير، وينظرون الشفاء من الله.
والطبقة الثانية: قوم من أهل اليقين، لم يأمنوا خيانة نفوسهم أن تطمئن إلى الدواء، وتركن إليه، فنفروا من ذلك، فكلما عرض لهم دواءٌ، فوضوا الأمر في ذلك إلى الله، وتوكلوا عليه، ولم يتكلفوا تداوياً، وإنما تركوا التكلف من ضعف يقينهم، خوفاً على قلوبهم أن تطمئن نفوسهم إلى الدنيا، فيصير سبباً تتعلق به قلوبهم، والأول أعلى وأقوى، فوضوا الأمر إلى الله، وتوكلوا عليه مع التكلف، فلم يصر التكلف لهم علاقة ولا سبباً، والآخرون خافون أن يصير ذلك سبباً وعلاقة فيما بينهم وبين ربهم، فتركوه.
والطبقة الثالثة: أهل تخليطٍ، وقلوبهم مع الأسباب، لا ينفكون منها، فهم محتاجون إلى التداوي، ولا يصبرون على تركها، فهم العامة.
519 - حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن غلبك أمرٌ، فقل: قدر الله، وما شاء الله، وإياك واللو؛ فإن اللو يفتح عمل الشيطان)).(2/481)
فالأقوياء تداووا، ومروا في الحيل والأسباب، وقلوبهم مع رب الأدوية، لا مع الأسباب والحيل، وهم الأنبياء، والأولياء، فإنما قوي باليقين النافذ حجب الغيب.
((والمؤمن الضعيف)) الذي خاف أن يحجبه تداويه وحيله وأسبابه عن الله تعالى، ويتعلق قلبه به، وذلك لضعف يقينه، ((ففي كلٍّ خيرٌ))، ((والقوي أحب إلى الله)).
وقوله: ((احرص على ما ينفعك))؛ أي: استعمل تدبير الله في هذه الأمور، ولا تعجز فتتركه، فإن استعملت، وإن لم يكن الذي طلبت وأردت، فقل: ((قدر الله، وما شاء الله))؛ أي: هكذا كان قدر وشاء، فألق له بيديك له سلماً، وارض بحكمه، وإياك أن تقول: لو كان كذا، كان هذا الأمر كذا، ولو لم يكن كذا، لكان كذا، فهذا قول من يتعلق قلبه بالأسباب، فيفتتن بها،(2/482)
وهو قول من عمي عن تدبير الله وصنعه، وقلبه غافل عن هذه الأشياء.
قال له قائل:
فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يدخل سبعون ألفاً من أمتي الجنة بغير حسابٍ)). قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: ((الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون))، قال: نعم.
520 - حدثنا بذلك عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: حدثنا عبثرٌ، عن حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
521 - حدثنا علي بن عيسى بن يزيد البغدادي، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاءٍ، قال: حدثنا هشامٌ، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ، عن عبد الله بن(2/483)
مسعودٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
ولكن هذا غير داخل فيما نحن فيه من هذا النوع.
إنما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم الكي، واستعمال النار في الأدوية، وكذلك الرقى؛ لأن أكثر الرقى يشوبه الشرك؛ لأنها بلغة الهند.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أقرب الرقى إلى الشرك: رقية الحية والجنون)).
فهذا الرقي بلغات شتى من لغات أهل الكفر، وإنما كره من أجل ذلك.
وكذلك الطيرة من فعل أهل الجاهلية، فهل ذكر أنهم لا يتداوون، فيكون لهم في ذلك؟ فقال: فلم يصفهم بترك ذلك من أجل أنهم تركوا التكلف بذلك، وأن التوكل إنما يقوم بترك التكلف، وإنما ذكر الخصال المكروهة أنهم تركوها تورعاً، وتوكلوا على ربهم، وكيف يجوز ترك التكلف، وأعظم التكلف طلب المعاش، والزراعة، والحراثة، والتجارة،(2/484)
وكل ذلك دأب الأنبياء، قال الله -تبارك اسمه-: {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملكٌ فيكون معه نذيراً. أو يلقى إليه كنزٌ أو تكون له جنةٌ يأكل منها}.
قال الله -تبارك اسمه-: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق}؛ أي طالبين المعاش، فالرسل هم طلاب المعاش، وأهل الحرف، والتجارات.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الله يحب أن يرى العبد محترفاً)).
522 - حدثنا زياد بن أيوب، قال: حدثنا عاصم بن علي، قال: حدثنا أبو الربيع السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العبد محترفاً)).(2/485)
523 - حدثنا هارون بن حاتمٍ، قال: حدثنا يحيى ابن ميمون بن عطاءٍ التمار، قال: حدثنا عكرمة بن عمارٍ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العبد المؤمن المحترف)).(2/486)
524 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا عون ابن موسى الليثي، قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: مر عمر رضي الله عنه بقومٍ، فقال: من أنتم؟ قالوا: المتوكلون، قال: أنتم المتأكلون، إنما المتوكل رجلٌ ألقى حبةً في بطن الأرض، وتوكل على ربه.
فليس في طلب المعاش والتداوي، والمضي في الأسباب على تدبير الله ترك التفويض والتوكل.
إنما ترك التوكل بالقلب، إذا غفل عن الله، وكان قلبه محجوباً، فإذا تداوى، تعلق قلبه بالتداوي، فصار فتنةً له، وكذلك المعاش إذا طلبه بقلب غافل عن الله، صار فتنة عليه، وتعلق قلبه به، فجاء الحرص، والشره، والأشر، والبطر، فأهلكه، وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي، ثم رخص فيما يؤمن فيه الشرك.(2/487)
525 - حدثنا قتيبة، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: أن عمرو بن حزمٍ دعي لامرأة بالمدينة لدغتها حيةٌ ليرقيها، فأبى، فأخبر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه، فقال: يا عمرو! إنك لتزجر عن الرقى، فقال: ((اقرأها))، فقرأها عليه، فقال: ((لا بأس بها، إنما هي مواثيق، فارق بها)).
526 - حدثنا عبد الأعلى بن واصلٍ الأسدي، قال: حدثنا أبو نعيمٍ النخعي، عن فطر بن خليفة العزرمي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: كان بالمدينة رجلٌ يكنى أبا مذكرٍ، يرقي من العقرب، ينفع الله بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا مذكرٍ! ما رقيتك هذه؟ اعرضها علي))، فقال أبو مذكر: شجةٌ قرنيةٌ، ملحة بحرٍ، قفطا،(2/488)
أو لفطا، نطفا، أو نفطا ثفقا لا محقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس بها، إنما هي مواثيق أخذها سليمان بن داود -صلى الله عليهما- على الهوام)).
فهذه رقية ذكر لنا أنها بلغة حمير، لم ير بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأساً إذ كانت مواثيق.
527 - (حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: ذكرت عائشة -رضي الله عنها- الرقى،(2/489)
فقلت: يا أم المؤمنين! لقد كنا في سفر، فقامت امرأة فقالت: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فقام ابن المرأة، فوتد وتداً، فرأى حيةً، فقتلها، قال: فأتي فلدغ، فقالت: إني أنشد بسيد هذا الوادي تاري، قال: فرفعت الحية على وتد، فقتلها، قال: وعلموها رقية: شجة قرنية ملحة بحر قفطا، قال: فلم تعبها عائشة -رضي الله عنها-.
528 - حدثنا إبراهيم بن يوسف الصيرفي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياشٍ، عن مغيرة، عن سفيان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة -رضي الله عنها-، بنحوه، وقال: كلمات الحميرية.
529 - حدثنا الجارود بن معاذٍ، قال: حدثنا يحيى بن ضريس، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي روادٍ، قال: سمعت الضحاك يقول: إن سليمان بن داود -صلوات الله(2/490)
عليهما- أخذ على الحيات المواثيق، أن لا يظهرن، فإن ظهرن، حل قتلها.
530 - حدثنا ابن أخي يحيى بن عيسى الرملي، عن عمه، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ: أن آل عمرو بن حزم قالوا: يا رسول الله! إنك نهيت عن الرقى، وإنا نرقي في الحية، فقال: ((اعرضوها علي، فقال: هذه مواثيق لا بأس بها)).(2/491)
الأصل الرابع والثمانون
531 - حدثنا عبد الله بن عبد الله بن أبي أسيدٍ الكلابي، قال: حدثنا يوسف بن عطية الصفار، قال: سمعت ابن سيرين، وسأله رجلٌ، فقال: يا أبا بكرٍ! ما تقول في هذا الذي يقع في طعامنا وشرابنا فنقتله؟ فقال: حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن نبياً من الأنبياء كان في غزاةٍ له، فنزل تحت شجرةٍ، فلدغته نملةٌ، فأمر بتلك الشجرة فأحرقت، فأوحى الله إليه: ألا نملةً مكان نملةٍ؟!)).(2/493)
قال أبو عبد الله: فتأويل هذا الحديث عندنا: أن هذا النبي قد كانت منه محاورة في شأن الخلق.
وبلغنا: أن ذلك كان موسى بن عمران -صلوات الله عليه-، فقال: يا رب! تعذب أهل قريةٍ بمعاصيهم، وفيهم المطيع، فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرةٍ مستروحاً إلى ظلها، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم، لدغته نملةٌ، فأضجرته، فدلكهن بقدمه، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك: أنه إنما لدغتك نملةٌ، فكيف أصبت الباقين بالعقوبة؟!
يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعم، فتصير نعمة على المطيع، وشهادة، وشراً ونقمةً على العاصي.
قال أبو عبد الله: والأصل في هذا أن الله -تبارك وتعالى- خلق ما في(2/494)
الأرض جميعاً لهذا الآدمي، وكذلك قال في تنزيله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}، فمنها غذاء، ومنها مرفق، ومنها عبرة، وكلها حجة، وكلها ابتلاء، وقال: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه}.
فالنمل سخرة، وفيها عبرة، فالمسخر أنت عليه مسلط، فإذا آذاك، أبيح لك قتله، ألا ترى أن الفأر والغراب والكلب والحية والعقرب قد أبيح للمحرم قتله؟ فكذلك سائر الهوام المؤذية، فالمقتضى من المؤمن أن لا يقتل هذه الأشياء عبثاً، ولكنه يقتلها بحق، فكل ما كان له في ذلك مرفق، فقتله لارتفاق، فقد قتله بحق، وكل ما كان له منه أذى، أو خوف أذى، فقتله لما يتخوف، فقد قتله بحق، وما سوى ذلك عبث، وهو مسؤول عن ذلك يوم القيامة أن يكون قد أزهق نفساً بغير حق، فليس فيما ذكر في الحديث كراهة قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن، فكيف بالهوام والدواب؟!
فالآدمي إنما يباح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار والحدود؛ لعظيم حرمته، وإنه لم يسخر لك، والدواب والطير والهوام قد سخرت لك، فليس هناك مقدار، ولا حد، ألا ترى أنك تقتل الهوام من الحية والعقرب والسباع حين تراها، ولم ينلك أذاها بعد؛ لأنه معروف بالأذى.
ألا ترى أنه قال: ((ألا نملة مكان نملة؟!))، فقد أطلق له في نملة، ولم يخص تلك النملة التي لدغته بالإطلاق، فلو كان إنما كلم على سبيل العدل والقصاص، لقيل: إلا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: إلا نملة(2/495)
مكانة نملة، فعم البريء والجاني ذلك؛ ليعلم أنه أراد أن ينبهه بمسألته ربه: أنك تحيرت في عذاب أهل قرية، وفيهم المطيع والعاصي، وإنما أجرمت إليك نملة، فكيف قتلتهم؟ وليس في هذا خطر عن قتل النمل وما يؤذي، إنما هو تنبيه لما سأل ربه عز وجل.(2/496)
الأصل الخامس والثمانون
532 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيبٍ بن شهيدٍ الأزدي، قال: حدثنا يحيى بن يمانٍ، عن سفيان، عن حبيبٍ بن أبي ثابتٍ، عن ميمون بن أبي شبيبٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-، قال: مر عليها سائلٌ، فأمرت له بكسرةٍ، ومر عليها رجلٌ ذو هيئةٍ، فأقعدته، فقيل لها، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.(2/497)
قال أبو عبد الله: فالإكرام غذاء الآدمي، فإذا غذي الطفل بالخبز اليابس، فهو مقبول، والتارك لتدبير الله في خلقه غير مستقيم سبيله، فقد دبر الله الأحوال لعبيده، غنىً وفقراً، وعزاً وذلاً، ورفعةً وضعةً، في هذه الدنيا بالابتلاء؛ ليبلوهم: أيهم يشكر على العطاء، وأيهم يصبر على المنع، وأيهم يقنع بما أوتي، وأيهم يسخط؟ ثم ينقلهم إلى الآخرة، فذلك يوم الجزاء قد انقطعت الأحوال التي دبرها لهم للابتلاء، وجاءت أحوال الجزاء.
فالعاقل عن الله: يعاشر أهل دنياه على ما دبر الله لهم، فهذا الموافق لله.
فالغني: قد عوده الله النعمة، وهي منه كرامة، لا كرامة ثواب، ولكن كرامة ابتلاءٍ، وكذلك سماه في تنزيله فقال: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن. وأما إذا ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول(2/498)
رب أهانن. كلا}.
فرد عليه، وأكذبه، كأنه يقول بقوله: كذبت، إني لست أكرم بدنيا، ولا أهين أحداً بمنعها، وذلك ليعلم أن الذي ذكر في مبتدأ الآية من قوله: {فأكرمه} إنما هي كرامة ابتلاء، أعطاه منية، فإذا لم تنزله المنزلة التي أنزله الله، فاستهنت به، وجفوته من غير جرم استحق بذلك الجفاء، فقد تركت موافقة الله في تدبيره، وأفسدت عليه دينه، وأثمته، فقولها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن ننزل الناس منازلهم))؛ أي: المنازل التي أنزلهم الله من دنياهم.
والآخرة: قد غيب شأنها عن العباد، فإذا سويت بين الغني والفقير في مجلسٍ، أو مأدبةٍ، أو معاطاة من هديةٍ، أو نحوها، كان ما أفسدت أكثر مما أصلحت، فالغني يجد عليك إذا قصيت مجلسه، أو دعوته إلى طعام دون، أو أهديت له شيئاً طفيفاً؛ لأن الله تعالى لم يعوده ذاك، والفقير يعظم ذلك القليل في عينه، ويقنع بذلك، وتلك عادته.
وكذلك معاملة الملوك والولاة على هذا السبيل، فإذا عاملت الملوك والسلطان بمعاملة الرعية، فقد استخففت بحق السلطان، وأثنيته على نفسك، وكيف يجوز أن يستخف بحقه، والسلطان ظل الله في الأرض، به تسكن النفوس، ويجمع أمورهم، والناظر إلى ظل الله عليهم في الشغل عن الالتفات إلى أعمالهم، وإنما نفر قومٌ من السلف عنهم، وجانبوهم؛ لاشتغالهم بالنظر إلى سيرهم وأعمالهم، ولو كان لهم طريق النظر إلى(2/499)
ظله؛ لشغلهم ذلك عن النظر إلى أعمالهم، و [ما أ] هانوهم، وأجلوهم، وعظموا حرمتهم، أولئك قوم لم تمت شهوات نفوسهم، ولم يكون لقلوبهم مطالعة ما ذكرت، فخافوا أن يخالطوهم، أن يجدوا حلاوة برهم، فتخلط قلوبهم بقلوبهم، فاحترزوا لأنفسهم أن جانبوهم، وأعرضوا عنهم.
والآخرون نظروا إليهم، فشغلوا بما ألبسوا من ظله عن جميع ما هم فيه، فلم يضرهم اختلاطهم بهم، وبهذه القوة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقون الأمراء الذين قد ظهر جورهم، ويقبلون جوائزهم.
وكان مالك بن دينار، ومحمد بن واسع، ومن قبلهم الحسن البصري يلقون الأمراء، ويقبلون منهم، فكانوا يلقونهم بما ذكرت من رؤية ظل الله عليهم، ويظهرون العطف عليهم، والنصيحة لهم، وقد غلط في هذا الباب كثير من الناس ممن يتقدس أو يتورع، وإنما أوتي ذلك من قلة معرفته بتقدير الله الذي عليه أمر العبودة.
واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما.
فأما حديث ابن عباس: ((ملعونٌ من أكرم بالغنى، وأهان بالفقر))(2/500)
من قلة معرفتهم بتأويله.
فأما حديث ابن عباس، فتأويله عندنا: أن الذي يعظم في عينه هذا الحطام، قد باع آخرته بدنياه، من المنافسة في الدنيا، والرغبة فيها، والأغنياء قد عظم شأنهم في عينهم؛ لما يرى عليهم من قشر الدنيا، والرغبة فيها، وفي أيديهم من حطامها، فيعظمهم، ويتملقهم، ويكرمهم تعظيماً لما في أيديهم، وكائن أن يكون غداً هلاك ذلك الغني ما أوتي، فإذا رأى من قد منع هذا، وزويت عنه الدنيا، ازدراه وحقره، وكائن أن يكون غداً نجاته من هذا الذي زوي عنه، فهذا لغلبة الشهوات التي تغلي في صدره فقد عشق الدنيا عشقاً أسكره عن الآخرة، فيعظم أبناء الدنيا، ويحقر أبناء الآخرة، فهذا مستوجب للعنة الله؛ لأن قلبه ميت، وهو مفتون يكرم مفتوناً.
فأما عبدٌ دقت الدنيا في عينه بحذافيرها، ورحم أهل البلاء، فهو يرى الغني مبتلى بغناه، قد تراكمت عليه أثقال النعمة، وغرق في حسابها، يرى عظيم وبالها عليه غداً، فيرحمه في ذلك، كالغريق الذي يذهب به السيل، فقلبه يتعصر عليه، فإذا لقيه، أكرمه، وبره على ما عوده الله، إبقاء على دينه؛ لئلا يفسد، فإنه قد تعزز بدنياه، وتكبر وتاه، وتعظم في نفسه، فإذا حقرته، فقد أهلكته؛ لأن عزه دنياه، فإذا أسقطت عزه، فقد سلبته دنياه، فهذه محاربة، لا عشرة، فإنما تبره وتكرمه مدارياً له على دينه، ورفقاً(2/501)
به وترحمه بقلبه، وقد صغر في عينه ما خوله الله من الدنيا، فهذا فعل الأنبياء والأولياء، وبذلك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
((إذا جاءكم كريمُ قومٍ، فأكرموه)).
فكريم القوم رئيسهم، ومن عوده قومه الإكرام.
ألا ترى: أنه لم ينسبه إلى دين، ولم يذكر منه صلاحاً ولا ديناً، فإذا كان من عوده قومه الإكرام والعز أنت المأمور بإكرامه، فكيف بمن عوده الله، فأكرمه، ونعمه كرامة الابتلاء.
533 - حدثنا صابر بن سالمٍ البجلي، قال: حدثني أبي سالم بن حميدٍ، قال: حدثني أبي حميد بن يزيد، قال: حدثني أبي يزيد بن عبد الله بن ضمرة، قال: حدثتني أختي أم القصاب بنت عبد الله بن ضمرة، قالت: حدثني أبي(2/502)
عبد الله بن ضمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاءكم كريم قومٍ، فأكرموه)).
534 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري، قال: حدثنا سعيد بن مسلمة ابن هشام بن عبد الملك بن مروان، قال: حدثنا محمد ابن عجلان، قال: حدثنا نافعٌ، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أتاكم كريم قومٍ، فأكرموه)).(2/503)
فالمفتون: الذي هو في خلو من هذا، وقد عظمت الدنيا في عينه، صفوه إلى الأغنياء تعظيماً ومعاطاة، ومعاشرة، فاهتش لرؤيتهم، وإذا رأى الفقير، أعرض عنه، وانقبض وخمد، فهذا كما قال ابن عباس رضي الله عنهما موسوم باللعنة إذ يكرم بالغنى، ويهين بالفقر.
والأول: إنما يكرم لله، ويهين لله، فإذا رأى ذا نعمةٍ، عظمه في الظاهر تعظيم برٍّ، ولطفٍ، ليبقى من دينه، ودين نفسه؛ ليكون أمر الله وتدبيره الذي وضعه له من العز، والتعظيم بمكانه، غير مشوش على خلقه، وهو في الباطن قلبه منه بعيدٌ، وكذلك أهل الفساد من الموحدين يرحمهم في الباطن، ويلطف بهم، ويرفق بهم في الظاهر؛ إبقاء على أحوالهم في أمر دينهم، والرفق محبوبٌ مبارك.
535 - حدثنا حميد بن الربيع اللخمي، قال: حدثنا أبو ضمرة، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب الرفق كله)).(2/504)
536 - حدثنا هارون بن حاتمٍ الكوفي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم ابن محمدٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعطي حظه من الرفق، أعطي حظه من الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق، حرم حظه من الدنيا والآخرة)).(2/505)
537 - حدثنا هارون، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمدٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بأهل بيتٍ خيراً، أدخل عليهم باب الرفق)).
538 - حدثنا محمد بن حميدٍ الرازي، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبهٍ، قال: لما رفع عيسى بن مريم -صلوات الله عليه-، فاجتمع أصحابه، ليخرجوا دعاة في الأرض، فكان ممن خرج منهم إلى الروم سنطور، وصاحبان له، فأما صاحباه، فخرجا، وأما سنطور، فحبسته حاجة، فأوصاهما، فقال لهما: ارفقا، ولا تخرقا، ولا تستبطئاني في شيء، ولما قدما الكورة التي أرادها، قدما في عيد لهم، وقد برز ملكهم،(2/506)
ووضع له سريره، وبرز أهل مملكته له، وجاءه الرجلان صاحبا سنطور حتى قاما بين يديه، فقالا له: اتق الله، فإنكم تعملون بمعاصي الله، وتنتهكون حرم الله، مع ما شاء الله أن يقولا، فأسف الملك، وهم بقتلهما، فقام إليه نفر من أهل مملكته، فقالوا: هذا يوم لا نهريق فيه دماً، ولقد ظفرت بصاحبيك، فإن أحببت أن تحبسهما حتى يذهب عيدنا، ثم ترى فيهما رأيك، فحبسهما، وضرب على أذنه بالنسيان عنهما، حتى قدم سنطور، فسأل عنهما، فأخبروه بشأنهما، وأنهما محبوسان في السجن، فدخل عليهما، فقال لهما: ألم أقل لكما: ارفقا، ولا تخرقا، ولا تستبطئاني في شيء؟! وهل تدرون ما مثلكما؟ مثلكما مثل امرأة لم تصب ولداً حتى دخلت في السن، فأصابت بعدما دخلت في السن ولداً، فأحبت أن تعجل شبابه؛ لتنتفع به، فحملت على معدته ما لا يطيق، فقتلته.
ثم قال سنطور: لا تستبطئاني في شيء، فانطلق حتى أتى باب الملك، وكان الملك إذا جلس للناس وضع سريره، وجلس الناس بين يديه(2/507)
سماطين، وكانوا إذا ابتلوا بشيء من حلال أو حرام، رفعوه إلى الملك لينظر فيه، ويسأل عنه من يليه في مجلسه، ويسأل القوم بعضهم بعضاً، حتى تنتهي المسألة إلى أقصاهم، وجاء سنطور حتى جلس في أقصاهم.
فلما انتقلت المسألة إليه، وقد ردوا على الملك جواب من أجابه، وردوا عليه جواب سنطور، فسمع شيئاً عليه النور، وحلا في مسامعه، فقال: من صاحب هذا القول؟ فقال: الرجل الذي في أقصاهم، فقال: علي به، فأتي به فقال: أنت القائل كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: فما كذا وكذا؟ قال: هو كذا وكذا، فجعل لا يسأله عن شيء إلا فسره له، فقال: عندك هذا العلم، وتجلس في آخر القوم؟! ضعوا له إلى جنب سريري مجلساً، ثم قال له: إن أتاك نبي، فلا تقم له، ثم أقبل على سنطور، وترك الناس، وجعل لا يرد عليه شيء إلا سأله عنه، وأخذ به، فلما عرف سنطور أن منزلته قد ثبتت عنده، قال: لأختبرنه، قال: أيها الملك! رجل بعيد الدار، ضائع الضيعة، فإن أحببت أن تقضي حاجتك مني، وتأذن لي، فأنصرف إلى أهلي؟ فقال الملك: يا سنطور! ما إلى ذلك سبيل؟ وإن أحببت أن تحمل أهلك إلينا، فلك المواساة، وإن أحببت أن تأخذ من بيت(2/508)
المال حاجتك، فتبعث به إلى أهلك، فعلت، فسكت سنطور، ثم تخير يوماً مات لهم فيه ميت، فقال: أيها الملك! بلغني أن رجلين أتياك يسبان دينك، قال: فذكرهما، فقال: نعم، علي بالرجلين، فأتي بهما، فقال: يا سنطور! أنت حكمٌ فيما بيني وبينهما، ما قلت من شيء، رضيت به.
فقال: أيها الملك! هذا ميت قد مات في بني إسرائيل، فمرهما أن يدعوا ربهما أن يحييه لهما، ففي هذا آية بينة، فبعث إلى الميت، فوضع عنده، فقاما وصليا، ودعوا ربهما، فاستجاب لهما، فرد الله عليه روحه حتى تكلم، فقال: يا سنطور! أيها الملك إن هذه لآية، ولكن تأمرهما بغير هذا، تبعث إلى أهل مملكتك فتجمعهم، فتكلم آلهتك في هذين، فإن كانت آلهتنا تقدر أن تضرهما، فليس أمرهما بشيء، وإن كانت الآلهة لا تقدر أن تضرهما، وقدرا هما على أن يضرا الآلهة، فأمرهما قوي، فجمع أهل مملكته، ثم دخل القبة الذي فيه آلهته، فخر ساجداً ومن معه لآلهته، وخر سنطور ساجداً لله، وقال: اللهم إني أسجد لك، وأكيد هذه الآلهة أن لا تعبد من دونك، فقام الملك، فقال لآلهته: إن هذين يريدان أن يبدلا دينكم، ويدعوا إلى إله غيركم، فافقؤوا أعينهما، أو جذموهما، أو(2/509)
شلوهما، فلم ترد الآلهة عليهم شيئاً، وقد كان سنطور أمر صاحبيه أن يحملا معهما فأساً، فقال سنطور للملك: أيها الملك! قل لهذين: أتقدرا أن تضرا هذه الآلهة؟ فقال لهما الملك: أتقدرا أن تضرا هذه الآلهة؟ قالا: خلوا بيننا وبينهم، فأقبلا عليها فكسراها، فقال سنطور: أما أنا، فآمنت برب هذين، وقال الملك: وأنا آمنت برب هذين، وقال جميع الناس: آمنا برب هذين)).
قال وهب بن منبه لصاحبه: هذا الرفق الحسن.(2/510)
الأصل السادس والثمانون
539 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا شريكٌ، عن المثنى بن سعيد الضبعي، عن قتادة، عن ابن بريدة، عن أبيه، وكان بخراسان، فدخل على ابن أخ له يعوده، فوجده في الموت، فإذا هو يعرق جبينه، فقال بريدة: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المؤمن يموت بعرق جبينه)).(3/5)
قال أبو عبد الله: فعرق الجبين علامة الباطن ظهر على الجبين، والعرق من المؤمن لما يرى من ذنوبه في وقت مقدمه على ربه، فيتراءى له قبح ما جاء به، فيستحي منه، فيعرق لذلك وجهه؛ لأن ما سفل منه قد مات، وإنما بقيت قوى الحياة وحركاتها فيما علا، والحياء في العين، فذاك وقت الحياء، ووقت الرجاء، ووقت الأمل من الحبيب الودود الغفور، الذي تودد إلى أحبابه أيام الحياة، فذاك علامة الإيمان فيه.
والكافر: في عمى عن هذا كله، والموحد المعذب في شغل عن هذا بالعذاب الذي قد حل به، وإنما العرق الذي يظهر لمن حلت به الرحمة، فإنه ليس من ولي، ولا صديق، ولا بر إلا وهو مستحي منه مع البشرى والتحف والكرامات.
540 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا حماد بن عمرٍو النصيبي، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن سوقة، قال: دخلنا على سلمان الفارسي نعوده، وهو مبطونٌ، فظننا أنا قد شققنا عليه، فقمنا، فأخذ بثوبي، فجلست، فقال: إني محدثك حديثاً لم أحدثه أحداً قبلك، ولا أحدث أحداً بعدك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ارقبوا الميت(3/6)
عند موته ثلاثاً: إن رشحت جبينه، وذرفت عيناه، وانتشر منخراه، فهي رحمةٌ من الله قد نزلت به، وإن غط غطيط البكر المخنوق، وخمد لونه، وأزبد شدقاه، فهو عذابٌ من الله قد حل به)). ثم قال لامرأته: ما فعل المسك الذي جئنا به من بلنجر؟ قالت: هو ذا، قال: فألقيه في الماء، ثم اضربي بعضه ببعض، ثم انضحي حوله فراشي؛ فإنه ليأتيني الآن قوم ليسوا بجن ولا إنسٍ، ففعلت، وقمنا من عنده، ثم رجعنا، فوجدناه قد قبض رحمه الله.
541 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيعٍ، قال: حدثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدثنا يونس، عن أبي معشرٍ، عن(3/7)
إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: موت المؤمن بعرق الجبين، إن المؤمن من يبقى عليه خطايا من خطاياه، فيحارف بها عند الموت-؛ أي: يجازى-، فيعرق لذلك جبينه.(3/8)
الأصل السابع والثمانون
542 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا إبراهيم ابن يحيى الأسلمي، قال: حدثنا أبو سهل بن أبي أنسٍ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً قال: يا بني الله! أي المؤمنين أكيس؟ قال: ((أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم له استعداداً، فإذا دخل النور في القلب، انفسح، واستوسع)). قالوا: فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: ((الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت)).(3/9)
543 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، عن خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفرٍ عبد الله بن أبي المسور، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
وزاد فيه: ((ثم قرأ: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه}.(3/10)
قال أبو عبد الله: فالموت عاقبة أمور الدنيا.
فالكيس من أبصر العاقبة، والأحمق من عمي عنها، فإنما عمي عنها بحجب الشهوات التي قامت بين يدي قلبه، فافترصته، فافتضته إنجازها، وجاءت الأماني بمواعيدها الكاذبة المختلفة، فجرته، تقول الشهوة: خذني إليك، وتقول الأمنية الكاذبة: خذها ثم تتوب، والله غفور للمذنبين، وحبيب التائبين، فهذه حجبٌ كثيفة دون العاقبة، فكيف يراها؟
فالكيس من سعد بجميل نظر الله، فأعطي النور الزائد على نور الموحدين، وهو نور اليقين، وذلك أن نور التوحيد في القلوب، وفي الصدر دخان وظلمة من الشهوات، فإذا جاء هذا النور، هتك الحجب، فسكن الدخان، وانقشعت الظلمة، واستنار الصدر، فاستقر النور، فقيل: يقين، فبذلك أبصر الموت، وهو عاقبة الأمر، فرآها قاطعةً لكل لذةٍ وشهوةٍ، وحائلةً بينه وبين كل أمنيةٍ، ورآها أنفاساً معدودة، لا يدري متى ينفد العدد، فصار على خطرٍ عظيمٍ من أمره، حتى لا يدري متى يبعث بالأمر، فركبه أهوال الخطر، فأذهله عن ذلك، فانكسر قلبه، وذبلت نفسه، وخمدت نار شهوته، واكفهر بالحق في وجه أمنيته.(3/11)
وقال: تريدين أن تغويني؟! ولعل في وقت قضاء شهوتي في مساخط الله أعافص بأمر الله، وأبعث، وأنادى بدعوته، ولابد من الإجابة في أسرع من اللمحة، فإذا أنا بين يديه قائم في أيدي ملائكة قد رحلت إليه من دار الغرور، مغتراً به، مخدوعاً عنه، مع دنس المعاصي، وقبح الآثام، فلا وصول إلى توبةٍ، ولا أجد مهلة لأتوب، فيكون مقدمي عليه مقدم العبيد الإباق، الذين ردوا إلى مولاهم، فيحكم فيهم بحكم الإباق.
وقد قال الله -جل وعز- في تنزيله: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}؛ أي: قد كانوا يحكمون لأنفسهم في دنياهم بما يشتهون، وبأن يمهلهم في ذلك، ويحلم عنهم، وهم مستدرجون في مكره، فاليوم قد ردوا إليه من هذا الإباق، ألا فاليوم له الحكم، يحكم فيهم بما يستوجبون من إباقهم، وهو أسرع الحاسبين.
فالكيس من نظر بنوره الذي من الله عليه به، فأبصر أن الموت قاطعٌ لهذه الأشياء، حائلٌ بينه وبين التوبة.
كما قال جل ثناؤه: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} حين رأوا العذاب اشتهوا الرجعة؛ ليتوبوا، فمنعوا ذلك، فامتنع من جميع ما خاف أن يلحقه غداً تبعته ووباله، فاستعد لكل ذنب توبةً، واعتذاراً واستغفاراً، وحسنة مكان كل سيئة؛ لتكون الحسنة غطاءً للسيئة، كما قد كان يعلم في ظاهر الحياة الدنيا أن الدنس من الثوب إنما يغسل بالحار من الماء وبالأشنان والغلي(3/12)
حتى يبيض ويزايله الدنس، وكما علم في ظاهر الحياة الدنيا أن كل شيئين في الدنيا على جسد أو ثياب، إنما يستره بشيء.
ألم تر إلى الماشطة إذا هيأت امرأة لزوجها كيف تهيئها؟ فإن كان شعرها قصيراً، ترملها، وإن كان بجبهتها شعر، نظفتها، وحفت شعرها، وإن كانت يدها بيضاء، خضبتها بألوان النقوش، وإن كانت مرحاء، كحلتها، وزينت وجهها بالبياض والحمرة، وطرت صدغيها، وحلتها بالقلائد والشنوف، والقرطة والأسورة والخلاخيل وألوان الثياب، وإن كان في قامتها قصر، حملتها على غرف النعال، تريد بذلك كله ستر ما شان منها، فكذلك المؤمنون يوم القيامة يوم المقدم على الله.
روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس يعرضون ثلاث عرضاتٍ يوم القيامة، فأما عرضتان، فجدالٌ ومعاذير، وفي العرضة الثالثة: تطاير الصحف)).(3/13)
فالجدال: للأعداء، يجادلون؛ لأنهم لا يعرفون ربهم، فيظنون أنهم إذا جادلوه، نجوا، وقامت حجتهم.
والمعاذير: لله، يعتذر الكريم إلى آدم وإلى أنبيائه، ويقيم حجته عندهم على الأعداء، ثم يبعث بهم إلى النار، فإنه يجب أن يكون عذره عند أحبابه وأوليائه ظاهراً كيلا تأخذهم الحيرة، ولذلك قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من الله)).
والعرضة الثالثة: للمؤمنين، وهو العرض الأكبر، يخلو بهم، فيعاتبهم في تلك الخلوات؛ من يريد أن يعاتبه، حتى يذوق وبال الحياء منه، يرفض عرقاً بين يديه، ويفيض العرق منهم على أقدامهم من شدة الحياء، ثم يغفر لهم، ويرضى عنهم.
ومنهم من انتبه في الحياة الدنيا، فكاد يموت حياء، ومرة فرقاً،(3/14)
فأعطي الأمان غداً من ذلك؛ فإنه لن يجمع ذلك على العبد في موطنين.
544 - حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، حدثنا بشر بن المفضل، عن عوفٍ، عن الحسن، قال: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((قال ربكم: وعزتي وجلالي! لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فمن خافني في الدنيا، أمنته في الآخرة، ومن أمنني في الدنيا، أخفقته في الآخرة)).
545 - حدثنا أبو بكر بن سابقٍ الأموي، قال: حدثنا أبو مالك الجنبي، عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكر من مناجاة موسى عليه السلام: أنه قال: ((يا موسى! إنه لن يلقاني عبدٌ في(3/15)
حاضري القيامة إلا فتشته عما في يديه، إلا ما كان من الورعين، فإني أستحييهم، وأجلهم وأكرمهم، وأدخلهم الجنة بغير حسابٍ)).
فمن استحيا من الله في الدنيا مما صنع، استحيا الله عن تفتيشه، وسؤاله، ولم يجمع عليه حياءين، كما لا يجمع عليه خوفين، فإذا صار العبد إلى العرض الأكبر، وقد ستر مساوئه بمحاسنه، قبله ربه في ستره عليه، وستر عليه علمه فيه عنه، حتى يذهب حياؤه، فهو في ستر محاسنه عن الملائكة والأنبياء وجميع الخلق (حتى لا يستحيي من الخلق، فهو في ستره عن نفسه) حتى لا يستحيي منه.
فهذا تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكيسهم: أكثرهم ذكراً للموت،(3/16)
وأحسنهم له استعداداً)).
لأنه كلما ذكر الموت، علم أنه قطاع حائل هيجه للأسمار، والهرب من كل مصيبة، وأما الاستعداد؛ بأن يكون قد جانب التخليط مجانبة لا يحتاج إلى استمهال إذا فاجأه أمر الله، وجاءته دعوته، فيقول: أمهلني حتى أتوب، وأصلح أمر كذا.
وأما حسن الاستعداد: فبأن يكون قد استعد للقائه، والعرض عليه، وقد علم أن الموت يؤديه إليه فتطاب روحه وقلبه ونفسه، فأما روحه، فبالطاعة، وأما قلبه، فبالله، وأما نفسه، فبتجنب الشهوات، والمنى، ورفض التدبير لنفسه، وتفويض ذلك كله إلى خالقه، وهذا صفة أهل اليقين، الذين ذكرهم الله في تنزيله فقال: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلامٌ عليكم}.
فتسلم عليهم الملائكة من الله، وتبشرهم بدخول الجنة ساعة تفيض أرواحهم؛ أي: لا أحبس عليكم في موطن من المواطن إنما هو أن تفيض روحك فتدخل الجنة؛ أي: إنك من الذين لا حساب عليك (في الموقف؛ لأن رسلي قد جاءتك في قبضك إلي من الدنيا، فوجدتك طيباً، فجزاؤك عندي الجنة، لا حساب عليك) عند الميزان، ولا عذاب(3/17)
عليك عند ممرك على النار، ولا خوف عليك عند العرض الأكبر، ولا أنت تحزن لطول الحبس في تلك الخلوات في الحجب، فإنما سموا طيبين؛ لأنهم لم يبق فيهم تخليط، طابوا روحاً، وطابوا نفساً، وطابوا قلباً.
والآخرون أهل تخليط، لا يقال لهم هذه الكلمة: {طبتم فادخلوها خالدينْ إلا عند باب الجنة بعدما محصوا بعذاب القبر، وأهوال القيامة، وتناول النيران منهم بلفحاتها على الصراط، والحبس في العرض الأكبر، فإذا خلي بينهم، وبلغوا باب الجنة، نودوا: {سلامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين}.
والذين وجدتهم الملائكة عند القبض طيبين يقال لهم في وقت فراق الحياة ولقاء الرب: سلام عليكم، ولا يقال لهم: طبتم، فقد كانوا طابوا من قبل مجيء الرسل.
وأما قوله: ((إذا دخل النور في القلب، انفسح وانشرح واستوسع))، فدخول النور في القلب، والانفساح في الصدر، فإن الصدر بيت القلب، ومنه تصدر الأمور، والنور في القلب، ومنه ينفسح الصدر، وينشرح، ويتسع، وإنما صار هكذا؛ لأن الصدر كان مظلماً بالشهوات المتراكمة فيه، والأماني، والفكر، والعجائب، عجائب النفس، ودواهيها، فكان يضيق بأمر الله؛ لأن أمر الله كان خلاف منيته، وهواه، فلما قذف النور فيه، نفى الظلمة، وأشرق الصدر بالنور الواسع، واتسع فيه أمر الله، ونصائحه، وآدابه، ومواعظه، فسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن علامته في الظاهر، فإن الذي ذكر إنما ذكر في الباطن، فقيل: ما علامته في الظاهر، حتى يعرف أنه من هذه الطبقة؟(3/18)
فذكر ثلاث خصالٍ، فقال: ((الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت)).
فأما (الإنابة إلى دار الخلود): فهي أعمال البر؛ لأن الخلود إنما وضعت جزاءً لأعمال البر، ألا ترى كيف ذكر الله في مواضع في تنزيله، ثم قال يعقب ذلك: {جزاءً بما كانوا يعملون}؟
فالجنة جزاء الأعمال، فإذا انكمش في أعمال البر، فهو إنابته إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصه على الدنيا، ولها عن طلبها، وأقبل على ما يعينه منها، فاكتفى به، وقنع، فقد تجافى عن دار الغرور، وإذا أحكم أموره بالتقوى، فكان ناظراً في كل أمر، واقفاً متأنياً متثبتاً حذراً، يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه، فقد استعد للموت، فهذه علامتهم في الظاهر، وإنما صار هكذا لرؤية الموت، ورؤية صرف الآخرة على الدنيا، ورؤية الدنيا أنها دار الغرور، وإنما صارت له هذه الرؤية بالنور الذي ولج القلب.(3/19)
الأصل الثامن والثمانون
546 - حدثنا عمر بن أبي عمر، حدثنا إسحاق بن محمدٍ الفروي، قال: حدثنا أبو يعلى سلمة بن وردان المديني، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من الناس ناسٌ مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس ناسٌ مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل مفتاح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل مفتاح الشر على يديه)).
فالخير: مرضاة الله، والشر: مسخطة، فإذا رضي الله عن عبدٍ، كانت علامة رضاه عنه أن يجعله مفتاحاً للخير، فإن رئي، ذكر الخير برؤيته، وإن حضر حضر الذكر معه، وإن ذكر ذكر الخير معه، وإن نطق نطق بخيرٍ،(3/21)
وعليه من الله سماتٌ ظاهرةٌ، يذكره بالخير من لقيه؛ لأنه ينقلب في الخير بعمل الخير، وينطق بالخير، (ويفكر في خير، ويضمر على خير، فهو مفتاح الخير حيثما حضر، وسبب الخير) لكل من خالطه، أو عاشره، أو صحبه.
والآخر يتقلب في الشر، يعمل الشر، وينطق به، ويفكر في الشر، ويضمر على شرٍّ، فهو مفتاح الشر حيثما حضر، وسبب الشر لكل من خالطه، أو صحبه.
فصحبة الأول دواء، وصحبة هذا داء، لا يرجع منه إلا بنقصان، والأول لا يرجع منه إلا بزيادة، فمن كان بين يدي قلبه دنياه، فإنما يفتتح بدنياه إذا لقيك: ومن كان بين يدي قلبه آخرته، فإنما يفتتح بآخرته إذا لقيك، ومن كان بين يدي قلبه خالقه، فإنما يفتتح بذكره إذا لقيك.
كلٍّ إنما ينشر عليك بره، ويحدثك عما يطالع قلبه، فالناطق عن دنياه يرغبك فيها، ويزين لك أحوالها، فالاستماع منه سقمٌ يورطك في ورطته، ويوقعك في وهدته، والناطق عن آخرته يرغبك فيها، ويزين لك أحوالها، ويقلل الدنيا في عينك، ويزهدك فيها، ويقف بك منها على سبيل خطرٍ؛ لما يخبرك عن فتنتها وغرورها، وخدعها، وأمانيها الكاذبة، وما يلقى أهلها غداً من شدة الحساب في أهوال القيامة.
والناطق عن الله: يقف بك على تدبير الله، وعلى سبيل الاستقامة في(3/22)
العبودة، ويلهيك عن نفسك، وعن الدارين؛ لما يفتح عليك من منن الله وإحسانه، ولما يكشف عن آلاء الله من سترات الغيوب التي حرم هذا الخلق؛ بمعرفة تلك الأشياء، والانتباه لها، حتى يؤديك إلى سنن التوحيد، فيرمي بك إلى فردانيته، فتنفرد للفرد الواحد، وهم الكبراء الذين روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: ((يا أبا جحيفة! جالس الكبراء، وخالل الحكماء، وسائل العلماء)).
فالعلماء: بعلم أموره ينطقون.
والحكماء: بعلم تدبيره ينطقون.
والكبراء: بعلم الآية ينطقون.
فالكبراء تكبروا في كبرياء الله وعظمته، وانفردوا في فردانيته، واعتزوا به، فرؤيتهم دواء، وكلامهم شفاء، فالمجالسة لهؤلاء.
والمخاللة للحكماء: تخالِله، وتصير له مأمناً، فتفضي إليك حكمته.
والمساءلة للعلماء: تسائلهم عن حلال الله وحرامه وأحكامه.
وقد جعل الله في الخير من البركة ما يغلب الشر حيثما كان؛ لأن مع الخير من الله تأييد، فصاحب الخير بحسن منطقه يسكت الناطقين، وبحسن فعله يقطع فعل الفاعلين، وبحسن خلقه يقهر أحوال السوء من المسيئين،(3/23)
ويميت الشر حيثما حضر.
أما ترى كيف وصفهم الله فقال: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}؛ أي: صواباً وسداداً، فإنما قمعوا الجاهلين، وردوا جهلهم بصوابهم، فسلم على يده الجاهل بأنه قد نطق عند مخاطبة الجاهل بما سلم الجاهل، والجاهل إذ خاطب الجاهل، وقعا في ورطة؛ لأن النار لا تطفأ بالنار، بل تزداد تسعراً، وإنما تطفأ بالماء.
فكذلك جهل الجاهل إنما يرد بصواب القول، حتى سلم القائل والسامع؛ لأن الجهل ظلمة، الصواب نور، والنور غالب للظلمة.
وهذا حديث تفرد به إسحاق بن محمد الفروي، عن سلمة بن وردان، كما انفرد أبو نعيم وجعفر بن عون بحديثهما، عن سلمة بن وردان: ((من ترك الكذب وهو باطلٌ، بني له بيتٌ في ربض الجنة)).(3/24)
والقعنبي تفرد أيضاً بحديث آخر عن سلمة، وكما تفرد مكي بن إبراهيم بحديث بهز، عن أبيه، عن جده: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بشيءٍ فإن قيل: هديةٌ، مد يده، وإن قيل: صدقةٌ، كف)).
ومثل الجارود بن يزيد، عن بهز، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انزعوا عن ذكر الفاجر)).
وكمثل ما تفرد أبو بكر الهذلي، عن بهز، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل))، وكل من كان سبباً للخير، فله حرمة.(3/25)
547 - حدثنا النضر بن طاهرٍ، قال: حدثنا سويدٌ أبو حاتم، عن قتادة، عن أنسٍ، أن رجلاً لعن برغوثاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مه، لا تلعنه؛ فإنه نبه نبياً من الأنبياء)).
548 - حدثنا محمد بن المثنى أبو موسى، قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا سويدٌ، بمثله، وزاد فيه: لصلاة الغداة)).(3/26)
الأصل التاسع والثمانون
549 - حدثنا حيان بن البراء المازني، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت سليمان أبا سفيان المدني يحدث، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجمع الله أمتي أو هذه الأمة على ضلالةٍ أبداً، ويد الله على الجماعة هكذا، فاتبعوا السواد الأعظم؛ فإنه من شذ، شذ في النار)).
فقد وعد محمداً صلى الله عليه وسلم في تنزيله عز وجل فقال: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله}.(3/27)
ولا يزال دينه ظاهراً على الأديان، غالباً لأهلها، النصر معه حيثما كان، فشرع لنا في هذا الدين الصلوات الخمس في جماعة بارزاً ظاهراً بوضوئها ومواقيتها، والغسل من الجنابة، ومن قبل ذلك دعاة إليها على الشرف والآكام والمنارات يشهدون بشهادة الحق، ويدعون إلى دين الحق لإقامة هذه الصلوات المكتوبات، ويخرجون صدقات أموالهم إلى أئمتهم؛ ليوزعوها في فقرائهم، ويصومون شهراً من السنة، ويخرجون إلى أعيادهم معتذرين طالبين لمعروفه، ويحجون بيت ربهم ظاهرين بالتلبية، ظاهرين بالطواف، ظاهرين بالوقوف في المشاهد، فهذا الذي عليه السواد الأعظم لا يختلفون فيه، فمن شذ عن شيء منه، فجحده، فقد خرج من الشريعة، وخاب من الإسلام، فقد جمع الله هذه الأمة على هذه الشريعة، وهم متمسكون بها، محرمون لما حرمه التنزيل، محلون لما أحله؛ مثل: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة.
فهذا ظاهر الدين الذي لم يجز لأحد أن يختلف فيه، ثم فيه حوادث للعلماء فيها مقالٌ مما يفسد، ولا يفسد، كل يتكلم بمبلغ علمه، وجهد رأيه، فمن شذ عن السواد الأعظم في هذه الأشياء التي لم تختلف فيها الأمة، فقد زاغ عن سبيل الهدى، وشذ إلى النار.(3/28)
وهذا الدين يشتمل على الإيمان، والإسلام.
فجملة الإيمان: هو الإيمان بالله وحده، لا شريك له، وبالرسول، وبالكتب كلها، وبالملائكة، وبالرسل، وباليوم الآخر، وبالبعث والجزاء، والقدر خيره وشره من الله، فهذا جملة الإيمان.
والصلوات الخمس بوضوئها ومواقيتها، والغسل من الجنابة، والزكاة، والصوم، والحج، وتحريم ما حرم الله، وتحليل ما أحل الله، هذا جملة الإسلام.
فالسواد الأعظم على هذا إلى يومنا هذا، لا يختلف فيه أحد، ثم للعلماء فيه مداخل، ومقال في الحوادث التي تحدث في هذه الأشياء من طريق الأحكام، واختلافهم فيها رحمة واسعة لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، من الله عليهم بذلك، وسهل لهم سبيل النظر والاجتهاد في الرأي فيما لم يجدوا في تلك الحادثة تنزيلاً، ولا سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(3/29)
الأصل التسعون
550 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، قال: حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيسٍ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جنتان من فضةٍ آنيتهما، وما فيهما، وجنتان من ذهبٍ، آنيتهما، وما فيهما، وما بين القوم، وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدنٍ)).(3/31)
551 - قال نصرٌ: وأخبرني مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا الحارث بن عبيدٍ، قال: حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيسٍ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه، وزاد فيه: ((وهذه الأنهار تشخب من جنة عدنٍ في جوبةٍ، ثم تصدع بعد أنهاراً)).
552 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا أبو غسان، عن الحارث بن عبيدٍ، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((جنات الفردوس أربعٌ: جنتان من فضةٍ آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما))، فذكر بمثله.(3/32)
فهذا تأويل قوله -جل ذكره-: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}، فوصفهما، ثم قال: {ومن دونهما جنتان}، فوصفهما، فوصف الجنتين الأوليين بأنهما: {ذواتا أفنانٍ}؛ أي: ذواتا ألوان؛ أي: فيهما فنون الأشياء، ثم ذكر العيون، فقال: {فيهما عينان تجريان} فوصف العينين بالجري، ثم ذكر فرشهما، فقال: {بطائنها من إستبرق}، فذكر البطائن.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: فما ظنكم بالظهائر؟ فقالوا: هو من نور، فذكر أنهم متكئين على تلك الفرش، وجنى تلك الثمار دان؛ أي: قريب مجتنى من حيث هو؛ أي: يدنو منه الغصن حتى يتناوله من قرب إن شاء قائماً، أو إن شاء قاعداً، أو إن شاء مضطجعاً كما قال في آية أخرى: {وذللت قطوفها تذليلاً}.
سخر الله لهم كل شيء حتى يتمكنوا منه كيف شاؤوا، ثم ذكر الأزواج، فقال: {فيهن قاصرات الطرف}؛ أي: قصر طرفهن عن جميع الخلق إلا عن أزواجهن، فلم يعاين ذكراً، وإن عاين، لم يهوين إلا أزواجهن.
{عرباً أتراباً}؛ أي: عواتق.
والعرابة: التحمس في كلام العرب.
أتراباً: أي لدات، وأزواجهن في سن واحد.(3/33)
ثم قال: {لم يطمثهن أنسٌ قبلهم ولا جانٌ}.
أي: لم يقربهن ولم يأتهن واحد من الصنفين.
ثم وصف أجسادهن، فقال: {كأنهن الياقوت والمرجان}.
أي: في صفاء الياقوت، وبياض المرجان، وهو الكبار من اللؤلؤ.
ثم قال: {ومن دونهما جنتان}.
أي: دونهن إلى العرش؛ أي: أقرب وأدنى إلى العرش، فوصفهما، فقال: {مدهامتان}.
أي: خضراوان تضربان إلى السواد، والدهمة من ذي الخضرة.
ثم وصف العينين، فقال: {عينان نضاختان}.
النضخ أكثر من الجري؛ أي: ترميان بألوان الفاكهة والنعيم، والجوار المزينات، والدواب المسرجات، والثياب الملونات.
ثم وصف الثمار، فقال: {فيهما فاكهةٌ}.
وإنما سميت فاكهة؛ لأنها تعجب الناظرين، ويتفكه بها، فهذا أكثر؛ لأن الأوليين لم يصفهما إلا بقرب الجنى فقط، وهاهنا ذكر الفاكهة والنخل والرمان.
ثم ذكر الأزواج، فقال: {فيهن خيراتٌ حسانٌ}.
فالخيرة: ما اختارهن الله، فأبدع خلقهن باختياره، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين.(3/34)
ثم قال: {حسانٌ} وصفهن بالحسن، فإذا وصف خالق الحسن شيئاً بالحسن، فانظر ما هناك، وفي الأوليين ذكرهن بأنهم قاصرات الطرف، وكأنهن الياقوت والمرجان، فانظر كم بين الخيرة، وهي مختارة الله، وبين قاصرات الطرف.
ثم قال: {حورٌ مقصوراتٌ في الخيام}.
فوصفهن بأنهن قاصرات أجسادهن، وأشخاصهن عن الأبصار.
فبلغنا في الرواية: أن سحابة مطرت من العرش، فخلقهن من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطئ الأنهار سعتها أربعون ميلاً، ليس لها باب، إذا حل ولي الله بالخيمة، انصدعت الخيمة عن باب؛ ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم يأخذها، فهي مقصورة، قد قصرت عن أبصار الخلق، وفي الأوليين هن قاصرات، قصر طرفهن عن الأزواج، ولم يذكر أنهن مقصورات، ثم ذكر اتكاءهن، وقال: {متكئين على رفرفٍ خضرٍ وعبقريٍ حسانٍ}.
فالرفرف: أعظم خطراً من الفرش، فذكر في الأوليين {متكئين على(3/35)
فرشٍ بطائنها من إستبرقٍ}، وهاهنا: متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان، فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به؛ أي: طار به هكذا وهكذا حيثما يريد كالمرجاح، وأصله من رفرف بين يدي الله تعالى.
وروي لنا في حديث المعراج: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى، جاءه الرفرف، فتناوله من جبريل، فطار به إلى سند العرش، فذكر أنه طار بي، يخفضني ويرفعني، حتى وقف بي على ربي، ثم لما حان الانصراف، تناوله، فطار به خفضاً ورفعاً يهوي به، حتى أداه إلى جبريل -صلى الله عليهما-، وجبريل يبكي، ويرفع صوته بالتمجيد)).
فالرفرف: خادم من الخدم بين يدي الله، له خواص الأمور في محل الدنو والقربة، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين الدانيين هو متكؤهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان.
ثم قال: {وعبقريٍ حسانٍ}.
فالعبقري: ثياب منقوشة تبسط، فإذا قال خالق النقوش: إنها(3/36)
حسان، فما ظنك بتلك العباقرة؟
والعبقر: قرية بناحية اليمن فيما بلغنا تنسج بها بسط منقوشة، فذكر الله ما خلق في تلك الجنتين من البسط المنقوشة الحسان والرفرف الخضر، وإنما ذكر لهم من الجنان ما يعرفون أسماءها هاهنا، فبان تفاوت هاتين الجنتين.
وقد روي عن بعض المفسرين، فإذا هو يشير إلى هاتين الجنتين:
{من دونهما}؛ أي: أسفل منهما وأدون، فكيف تكون مع هذه الصفة أدون؟ فحسبته لم يفهم القصة، ثم قال: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} كأنه يريد: الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: {الرحمن}، فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجن والشياطين، وخلق السماوات والأرض وصنعه، وأنه كل يوم هو في شأن، ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنة، قال في آخر الصفة: {تبارك اسم ربك}؛ أي: هذا الاسم الذي افتتح به السورة كأنه يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن، فمدح اسمه.
ثم قال: {ذي الجلال والإكرام} جليل في ذاته، كريم في فعاله.
وأما قوله: ((وما بين القوم، وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء(3/37)
في جنة عدنٍ))، فإنما وصف هذه الجنان الأربع، فقال في الحديث: ((جنان الفردوس)).
فالفردوس: جنان الأنبياء والأولياء بقرب جنات عدن، والفردوس سرة الجنة ووسطها، كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجنة عدن: دار الرحمن، ومقصورته، والفردوس جنات عدن، فعدن كالمدينة، والفردوس كالقرى حول المدينة، فإذا تجلى لأهل الفردوس، رفع الحجاب، وهو الذي ذكره في الحديث: رداء الكبرياء، فينظرون إلى جلاله، وجماله، فكأنه أخبر في هذا الحديث أن حجابه في جنة عدنٍ رداء الكبرياء.
وأخبرني في حديث آخر رواه أبو موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((حجابه النار، لو كشفها، لأحرقت سبحات وجهه كل شيءٍ أدركه بصره)).
553 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيمٍ، عن المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/38)
فهذا يدل على أنه إنما أخبر بهذا في أيام الدنيا، وذلك في أيام الآخرة في جنة عدن، فأيام الدنيا أيام الملك، والسلطان والربوبية، وأيام الآخرة أيام المجد والكرم والبر والمعاوضة، فقال هاهنا: حجاب، وقال هناك: رداء.
وقال هاهنا: النار، وقال هناك: الكبرياء.
والحجاب لا فرجة فيه، والرداء فرج وسطه.
ولهذا ما روي عن صاحب معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: صنف من أهل الجنة لا يستتر الرب منهم، ولا يحتجب.
554 - حدثنا بذلك عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا سيارٌ، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا أبو حمزة، عن أبي العفيف، وكان من أصحاب معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه.(3/39)
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أهل الجنة من ينظر إلى الله غدوةً وعشيةً)).
وروي في الحديث الآخر: ((أن أهل الجنة يزورون في كل يوم جمعةٍ، فينظرون إلى الله))؛ ليعلم أن للنظر إليه درجات، وللقوم في ذلك منازل متفاوتة.
وقوله: ((لأحرقت سبحات وجهه))؛ أي: نزهات وجهه كل شيء أدركه بصره؛ لأن المنزه عن شبه الأشياء لا تقوم له الأشياء، فمتى أدركه بصره، أهلكه، وإنما حجب بالنار، والنار مخلوقة؛ لكي يلاقي المخلوق(3/40)
المخلوق، فيقوم له، فالقدرة حجبت عن النار حتى تقوم له النار على ما يشاء، وهو دنو الحجاب إليهم دنواً وقرباً كما شاء، لا كما تعقله العقول.
وأما الأنهار: فهو ما ذكره الله في التنزيل: {أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين وأنهارٌ من عسلٍ مصفى}، فهذه أربعة أصناف تجري في أنهارها لعامة أهل الجنة في غير أخدود.
وأما العيون: فهي أربعة: تسنيم، وزنجبيل، وكافور، وسلسبيل.
فأما الأبرار: فلهم الكافور خاصة، والأبرار: الصادقون.
وأما المقربون: فلهم التسنيم، وهو الصديقون، فذكرهم الله في تنزيله، فقال: {إن الأبرار يشربون من كأسٍ كان مزاجها كافوراً}، والكأس: الخمر، فيمزج الخمر لهم بالكافور، ثم وصف الكافور، فقال: {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً}.
فهذا لهم خاصة، ويمزج من الكافور لسائر أهل الجنة أشربتهم، فأما الشرب، فهو للأبرار، وهم عباد الله، ثم قال في قصتهم: {ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً. عيناً فيها تسمى سلسبيلاً}، فأخبر أن للأبرار منها مزاجاً تمزج أشربتهم من الزنجبيل، ولم يذكر أنها لهم شرب كما ذكر الكافور.
ثم قال في سورة أخرى: إن الأبرار {يسقون من رحيقٍ مختومٍ. ختامه(3/41)
مسكٌ}.
ثم قال: {ومزاجه من تسنيمٍ}، فأخبر أن للأبرار منها مزاجاً يمزج أشربتهم من التسنيم، ثم أخبر عن التسنيم لمن هي لهم مشرب، فقال: {عيناً يشرب بها المقربون}.
فأخبر أن هذه العين التي اسمها التسنيم هي للمقربين خاصة شرباً، كما أخبر هناك أن الكافور عيناً للأبرار شرباً.
وإنما سمي تسنيماً، لأنه أشرف شراب في الجنة وأعلى، مأخوذ من السنام، فقد تسنم العيون والمياه، وأشرف عليهم، تجري من أعلى العرش.
تحقق ذلك مما رواه أبو مقاتل، عن صالح بن سعيد، عن أبي سهل، عن الحسن -رحمة الله عليه-، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع عيونٍ في الجنة: عينان تجريان تحت العرش، إحداهما التي ذكر الله: {يفجرونها تفجيراً}، والأخرى: زنجبيلٌ، وعينان نضاختان من فوق العرش، إحداهما التي ذكر الله عز وجل: {سلسبيلاً}، والأخرى: التسنيم للمقربين.(3/42)
فالتسنيم خاصة شرباً لهم، والكافور للأبرار خاصة شرباً لهم، ويمزج للأبرار من التسنيم بشرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل، فللأبرار منها مزاج، هكذا ذكره في التنزيل، وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب لهم، ولا نعلم أهل عليين إلا هذين النصفين: المقربون، والأبرار، فالمقربون: الصديقون، والأبرار: الصادقون، فما كان للأبرار مزاجاً، فهو للمقربين صرفاً، وما كان كان للأبرار صرفاً، فهو لسائر أهل الجنة مزاج.
والكافور: الشيء المغطى، والكفر: التغطية، ومنه سمي الكفر؛ لأنه غطاء على القلوب، فهذا على تقدير فاعول.
والزنجبيل: إنما هو زنجب وإيل بالعبرانية؛ كقولك: عبد الله، وكذلك جبريل وميكائيل، فإيل: هو الله، وإنما هي عبرانية عربت، فقيل: إيل.
وأما الزنجب في اللغة: فهو الثوب الذي يلي الحائض إذا حاضت،(3/43)
لبست تحت ثوبها ثوباً، فذلك الزنجب، وهو ما بطن من ثيابها، ويلي جسدها.
والسلسبيل: هو الذي يشتد جريه، فإنما هو سلسابٍ، وإيل هو الله؛ كقولك: يا الله سلساب من معين القربة.
وفي حديث أبي مقاتل ما يحقق هذه الآية، قال: {عينان نضاختان} من فوق العرش، إحداهما سلسبيل، والأخرى التسنيم، فوصف السلسبيل بالنضخ، وهو من شدة الجري.(3/44)
الأصل الحادي والتسعون
555 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا ابن نميرٍ، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عبادٍ، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: أهدى النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حليةً فيها خاتمٌ من ذهبٍ فيه فصٌّ حبشيٌّ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودٍ، أو ببعض أصابعه، وإنه لمعرضٌ عنه، ثم دعا ابنة ابنته أمامة بنت أبي العاص، فقال: ((تحلي بهذا يا بنية)).
556 - حدثنا يعقوب بن شيبة، قال: حدثنا إسحاق ابن عيسى الطباع، عن شريكٍ، عن أبي عقيلٍ، عن الربيع(3/45)
بنت معوذٍ، قالت: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قناعاً من رطبٍ، وأجرٍ زغبٍ، فناولني كفاً من ذهب، فقال: ((تحلي بهذا يا بنية)).
557 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا شريكٌ، عن عبد الله بن محمد بن عقيلٍ، عن الربيع بنت معوذٍ، قالت: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قناعاً من رطب، وأجرٍ من زغبٍ، فأعطاني ملء كفه ذهباً، أو قال: حلياً.
قال أبو عبد الله: فخلق هذا الآدمي خلقاً سوياً بارزاً، فضله، قدمه على سائر خلقه في أرضه.(3/46)
وكل خلق ربي حسن. وقد قال في تنزيله: {أحسن كل شيء خلقه}.
وإنما ظهر حسن الأشياء عند أولي الألباب، فهم يرون حسنه، وإنما الحسن عند السفهاء ما يحلو في نفوسهم عند موافقة شهواتهم، وأولو البصائر والعقول ينظرون إلى صنعه في الأمور، وأحكامه ولطفه في الأشياء.
558 - حدثنا داود بن حمادٍ القيسي، قال: حدثنا إشكابٌ البغدادي، عن شريكٍ، عن خصيفٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قوله: {أحسن كل شيءٍ خلقه}، قال: أما إن است القرد ليست بحسنةٍ، ولكنه أحكم خلقه)).
قول ابن عباس رضي الله عنهما: ((ليست بحسنة))؛ أي: عند السفهاء والعامة؛ لأنهم ينظرون بعين الشهوة، وهي سقيمة.
والحكماء ينظرون بعين الحكمة، وهي صحيحة، والعارفون المقربون ينظرون بعين المعرفة إلى صنعه، ولطفه، {فتبارك الله أحسن الخالقين}.
وقد ذكر الله في تنزيله وصف خلقه، فلا يعلم أنه قال: تبارك الله إلا(3/47)
في وصفه خلق الإنسان، كأنه يؤدي إلى معنى القربة، فجعل هذه الحلية زينة لجوارحه، فإذا لبسها، زانه ذلك.
ومعنى قوله: ((زانه))؛ أي: ليق به، وكل شيء استوى بشيء، فهو له زينة، وقدراً به، وكذلك الوزن، إذا استويا في الميزان، فقد وزنه، وإذا زانه، حلاه، فصار ذلك العضو أحلى (في أعين الناظرين، ومن هاهنا سمت حلية؛ لأنها تحلي تلك الجوارح) في أعين الناظرين، وفي قلوبهم.
وقد عدد الله الحلية علينا في تنزيله في النعم، فقال: {وتستخرجوا منه}؛ أي: من البحر {حليةً تلبسونها}، وهو اللؤلؤ.
فالمعدود في النعم مأذون لنا فيها، ما كان من ذهبٍ، فللإناث، ومحرم على لسان الرسول للذكور، وما كان من فضة أو جوهر، فمطلق للرجال والنساء، وقد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً اتخذه، وفصه منه.
وروي: ((أنه لبس خاتماً من فضةٍ، وفصه حبشيٌّ)).(3/48)
559 - حدثنا بذلك إسماعيل بن صالحٍ، قال: حدثنا ابن وهبٍ، عن يونس، عن الزهري، عن أنسٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي عن موسى -صلوات الله عليه- في ذلك:
560 - ما حدثنا به أحمد بن مدركٍ الهروي صاحب مظالم العباس بن هاشمٍ، قال: حدثنا عون بن جعفرٍ الكوفي، عن صالح بن مرداسٍ، عن مشرفٍ أبي معاذٍ، عن شهر بن حوشبٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما ارتقى موسى عليه السلام طور سيناء، رأى الجبار في إصبعه خاتماً، فقال: يا موسى! ما هذا؟ وهو أعلم به، قال: شيء من حلي الرجال يا رب، فقال: هل عليه شيء من أسمائي أو كلامي؟ قال:(3/49)
لا، قال: فاكتب عليه: لكل أجلٍ كتابٌ.
فالحلية حق، وهي تحلة الله لآدم وولده.
وخلق آدم، فتوج، وكلل بإكليل الجنة، وختم بالخاتم الذي ورثه سليمان -صلوات الله عليه-، وكان يقال له: خاتم العز، فيما روي لنا، ووضع على سرير، وحمل من الأرض إلى الجنة، ثم لم يزل يتوارثه ولده.
561 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن شريكٍ، عن العباس بن ذريحٍ، عن عبد الله عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: عثر أسامة بعتبة الباب، فشج في وجهه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أميطي عنه الأذى)). فكأنه قذرته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمصه ويمجه، ويقول:(3/50)
((لو كان أسامة جاريةً، لحليناه، وكسوناه، حتى ننفقه)).
فأصل الزينة والحلية حق، وإنما يفسدها الإرادة والقصد، فإذا كانت الإرادة لله، فقد أقام حقاً من حقوق الله بإقامته، وإذا كانت لغير الله، صار وبالاً، كسائر الأشياء.
562 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني، قال: حدثنا سيارٌ، قال: حدثنا محمد بن مروان -وهو العقيلي-، قال: حدثنا يونس بن عبيدٍ، قال: بلغنا أنه كان رجل يجور على أهل مملكته، ويتعدى عليهم، فائتمروا لقتاله، فقالوا: نبي الله زكريا بين أظهرنا، فلو أتيناه، فأتوا منزله، فإذا فتاةٌ جميلةٌ رائعةٌ، قد أشرق البيت حسناً، قالوا: من أنت؟ قالت: أنا امرأة زكريا، قالوا فيما بينهم:(3/51)
كنا نرى نبي الله لا يريد الدنيا، فإذا هو قد اتخذ امرأةً جميلةً رائعةً، قالوا: فأين هو؟ قالت: في حائط آل فلان، يعمل لهم، فأتوه، فإذا هو يعمل لهم، حتى حضر الغداء قرب رغيفين، فأكل، ولم يدعهم، ثم قام فعمل بقية عمله، ثم علق خفيه على عنقه والمسحاة والكساء، قال: حاجتكم؟ قالوا: جئنا لأمرٍ، ولقد كاد يغلبنا ما رأينا على ما جئنا له، قال: فهاتوا، قالوا: أتينا منزلك، فإذا امرأةٌ جميلةٌ رائعةٌ، وكنا نرى نبي الله لا يريد الدنيا، فقال: إني إنما تزوجت امرأةً جميلةً رائعةً، لأكف بها بصري، وأحفظ بها فرجي، قال: فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا.
قالوا: ورأيناك قدمت رغيفين فأكلت، ولم تدعنا، قال: إن القوم استأجروني على عملٍ، فخشيت أن أضعف عن عملهم، ولو أكلتم معي، لم يكفكم، ولم يكفني، فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا.
قالوا: ورأيناك وضعت خفيك على عنقك والمسحاة والكساء؟ قال:(3/52)
إن هذه الأرض جديدة، فكرهت أن أتفل تراب هذه في هذه، فخرج نبي الله مما قالوا.
قالوا: إن هذا الملك يجور علينا ويظلمنا، وقد ائتمرنا لقتاله، فقال: أي قوم! لا تفعلوا؛ فإن إزالة جبل من أصله أهون من إزالة ملك مؤجل.
563 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا هشام ابن خالدٍ الدمشقي، عن الوليد بن مسلمٍ، قال: حدثني زهير بن محمد، عن إسماعيل بن أمية، عن نافعٍ: أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم صاغت حلياً بثلاثين ألف درهمٍ، وجعلته حبساً على آل عمر، فلم تكن تؤدي زكاته.
فهذا عندنا إنما لم تؤد زكاته؛ لأنها كلها صدقة موقوفة.(3/53)
الأصل الثاني والتسعون
564 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد ابن أبي مريم، قال: حدثنا عبد الله بن المنيب بن عبد الله ابن أبي أمامة بن ثعلبة، قال: حدثني أبي وجدي جميعاً، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب الناس، وتلا هذه الآية: {اعملوا آل داود شكراً وقليلٌ من عبادي الشكور}، ثم قال: ((ثلاث من أوتيهن، فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود))، فقيل: ما هي يا رسول الله؟ قال: ((العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية)).(3/55)
قال أبو عبد الله: معناه عندنا: أن هذه الخصال منتظمة للشكر، من أتى بهن، فهو شاكرٌ.
وقد أمر الله آل داود أن يعملوا شكراً؛ أي: يعملوا عملاً يكون ذلك العمل شكراً لما آتاهم من النعم، وفضلهم بها، فأجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة في ثلاث خصال، فقال: من أوتيهن، فقد أوتي الشكر.
فهو شاكرٌ كشكر آل داود.
565 - حدثنا الزبير بن بكارٍ الزبيري، قال: حدثنا سعد بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ منجياتٌ، وثلاثٌ مهلكاتٌ: فأما المنجيات، فخشية الله تعالى في السر والعلانية، والحكم بالحق عند الغضب والرضا، والاقتصاد عند الفقر والغنى. وأما المهلكات: فشحٌّ مطاعٌ، وهوًى متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه)).(3/56)
فهذا وجه واحد مما ذكرنا.
ووجه آخر: أن الله -تبارك اسمه- ذكر في تنزيله فقال: {ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير}.
فهاتان خصلتان.
كان يسبح الله، ويقدسه، ويمجده بألوان الأغاني بذلك الصوت الذي أعطي، فأيد بمساعدة الجبال والطير؛ لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة، اهتاج، وقوي لمساعدة الجبال والطير؛ وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على صوته.
وبلغنا: أن الماء الجاري كان ينقطع عن الجري وقوفاً لصوته، وبلغنا(3/57)
أنه حرك يوماً من صوته، فأعجب به، لا إعجاب غفلة، ولكن تعجباً لما أعطي، فقال: يا رب! ما هذا؟! قال: حسني يا داود.
وخصلة ثالثة: أنه تمنى أن تطيب طعمته، وأن لا يكون ذلك من بيت المال، فجعل الله له طعمة من عنده كي يتهنأ بها، فألان له الحديد ليتخذ الدروع فكان يبيع الدرع الواحد فيما روي بستة آلاف درهم وكان الحديد في يده مثل العجين.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لكل نبيٍّ طعمة)).
وجعل طعمة نبينا صلى الله عليه وسلم أن سلطه على قريظة والنضير، وجعل غنيمته منهم له خاصة، وسائر الغنائم للأمة حلالاً طيباً، ولذلك ذكره في التنزيل، فقال تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً}، وهي خصلة ثالثة، قال: {واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليمٌ}؛ أي: عليم بالسر والعلانية.
ولسليمان -صلوات الله عليه- ثلاث خصال:
فقال: {ولسليمان الرياح غدوها شهرٌ ورواحها شهرٌ}. يركب(3/58)
مركبه، فتمضي به الريح، غدوها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر.
والخصلة الثانية: {وأسلنا له عين القطر}، فاتخذ رجالاً من نحاس، وسأل ربه أنه ينفخ فيهم الروح؛ ليقاتلوا في سبيل الله، ولا يحيك فيهم السلاح، {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه} {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل}.
فالتماثيل: هم هؤلاء الرجال من النحاس والمحاريب.
ذكر لنا في الخبر: أنه أمر بأن يعمل حول كرسيه ألف محراب، فيها [ألف] رجل عليهم المسوح، يصرخون إلى الله دأباً، وهو على الكرسي في مركبه، والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه، قال: هللوه إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه، قال: كبروه، إلى ذلك العلم الآخر، فتلج الجنود بالتسبيح، وبالتهليل والتكبير لجة واحدة.
ثم قال: {وجفانٍ كالجواب} أي: كالحياض، يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل.
{وقدورٍ راسياتٍ} قد نحتت من الجبال الصم مما عملت له الشياطين، أثافيها منها منحوتة هكذا من الجبل.
ثم قال: {اعملوا آل داود شكراً}؛ أي: اعملوا لهذا الفضل(3/59)
الذي فضلكم عملاً يكون شكراً.
فوجه منها أن يقول: من أوتي هذه الخصال الثلاث التي ذكرها، فقد عمل بالشكر.
والوجه الآخر: أي: إن هذه الأشياء التي أعطيت داود وسليمان، فاستعمالها هو عمل بالشكر؛ لأن هذه الأشياء كانت من فضلي عليهم، فاستعملوها من أجلي؛ شكراً لي، ولم ينظروا هذه النعمة، ولم يغفلوا عني، فقبلوها مني، وصيروا استعمالها لي، فصار شكراً، فإذا كان عدلاً في الغضب والرضا، فقد صار القلب ميزاناً للحق، لا يستفزه الغضب، ولا يميل به الرضا، كلامه وعمله للحق، لا للنفس، قد ملكه الحق، ومن لم يكن هكذا، فقد ملكته نفسه.
وأما القصد في الغنى والفقر:
لا يبرأه الغنى حتى ينفق في غير حق، ولا يعوزه الفقر حتى يمنع من فقره حقاً، فقد ركب سبيل القصد، والقصد والقسط بمعنى واحد، إلا أن القصد في النفقة في طريق الآخرة، والقسط والعدل في الأمور، وذاك العدل في الطريق.
وأما خشية الله في السر والعلانية:
فالخشية: ولوج القلب باب الملكوت، فحينئذٍ يستوي معه سره وعلانيته، يخشى رباً قد عرفه معرفة من يستحيي منه كأنه يراه.
فإذا أوتي العبد هذه الخصال الثلاث، قوي على ما قوي عليه آل داود مما أوتوا من الخصال الثلاث.
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم، وهو حسبي.(3/60)
الأصل الثالث والتسعون
566 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثا محمد ابن وهبٍ الواسطي، عن محمد بن شعيب بن شابور، قال: حدثنا الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء: تركه ما لا يعنيه)).(3/61)
قال أبو عبد الله: فحسن الشيء غير الشيء، كما أن برد الماء غير الماء، وطيب المسك غير المسك، وحلاوة العسل غير الغسل، وقبح الشيء غير الشيء.
ألا ترى أنه كان فيما تقدم من الشرائع أفعالاً قد أطلق الله فيها، فكان غير قبيح، فلما حرمه، حل به القبح، من ذلك: نكاح الأخوات من لدن آدم إلى زمن نوح عليهما السلام، ومن بعد ذلك الجمع بين الأختين كانا مطلقاً.
وكان يعقوب قد جمع بين الأختين، فاستثنى الله في كتابه، فقال: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف}.
وقال: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً}.
فاستثنى سالف فعل الأمم التي أطلق لهم ذلك، وفي زمانهم لم يكن فاحشة، ولا مقتاً، ولا ساء سبيلاً، فلما حرمها، صارت فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً.
فالإيمان والإسلام معتقد المؤمنين، اعتقدوا بقلوبهم وحدانية الرب لا شريك له، فذاك إيمانهم بقلوبهم، واعتقدوا بأن عرفوا رباً أسلموا(3/62)
نفوسهم إليه عبيداً بكل ما يأمر وينهى، ويحكم ويشاء، فذاك إسلامهم، فأمرهم بالحق، وزجرهم عن الباطل، وبين الحق في تنزيله، وبين الباطل، فكل شيءٍ يعترض للمؤمن، فلم يعنه، تركه؛ لأن إنما عناه الحق، فأقبل إليه؛ لقوله: الإيمان والإسلام، وإشراق ذلك النور في صدره، وتولى عنه الباطل وأدبر، ثم من بعد ذلك هذه الشهوة في نفسه تتعدد، والعدو قد قعد بمرصد؛ ليرد الباطل الذي تولى عنه إليه، ويصد عنه وجه الحق الذي أقبل إليه، والمؤمن محارب مجاهد، يستغيث بالله في أحواله.
فقوله: ((إن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه))؛ أي: إن إسلامه أولاً بقلبه: أنه لما عرف ربه، وحلته خشية، ويخشع له قلباً، فألقى بيديه سلماً بين يديه، فمن حسن إسلامه بالقلب أن يترك ما لا يعنيه، وهو الباطل في كل أمر.
يقول: هذا علامة حسن إسلامه في الباطن، أن يكون تاركاً ما ليس بحق؛ لأنه ليس من بال المؤمن إلا الحق وإقامته.
والجملة في ذلك ترك فضول الأشياء كلها: فضول الطعام، وفضول الكلام، وفضول المال، وفضول الأعمال، وفضول الأمور التي له منها بدٌّ وغنى، فترك هذه الفضولات دليل على أنه قد حسن إسلامه إلى ربه(3/63)
نفسه، وبذله له عبودة، وقد يكون قد أسلم إلى ربه نفساً، ثم ليس هو بتارك لما لا يعنيه لشر نفسه، وغلبة شهواته، فهو إسلام، وليس بحسن إسلام، فإنما ذكر حسن الإسلام أن حسنه في تركه ما لا يعنيه.
567 - حدثنا عتبة بن عبد الله، قال: حدثنا مالك ابن أنسٍ، قال: حدثني ابن شهابٍ، عن عليٍّ بن الحسين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء: تركه ما لا يعنيه)).(3/64)
الأصل الرابع والتسعون
568 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا الحسن ابن الصباح البزار، قال: حدثنا خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن سلمة المخزومي، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عاصمٍ، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فقال: ((أعيذك بالأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحدٌ من شر ما تجد))، فرددها سبعاً، فلما أراد القيام، قال: ((تعوذ بها، ما تعوذ بخيرٍ منها يا عثمان، (فمن تعوذ بها، فإنما يتعوذ بما يعدل ثلث القرآن)، ومن تعوذ بها فقد تعوذ بنسبة الله التي رضيها لنفسه)).(3/65)
فلها حرمة يسعد بها أهل التخليط والغفلة.
فأما أهل اليقين: فإنهم يتعوذون بمن ولهت إليه قلوبهم، وتعلقت بأحديته، وفي جميع نوائبهم إليه يعمدون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالمعوذتين، و {قل هو الله أحدٌ}، وخليق أن يكون هذا قبل نزول المعوذتين؛ لأن المعوذتين إنما نزلتا في شأن علته، حيث سحره اليهودي، فكان يقول لعقبة بن عامر: ((ما تقرأ بمثلهن)).
((فكان إذا أوى إلى فراشه كل ليلةٍ، قرأ بالمعوذتين، و {قل هو الله أحدٌ}، ثم يمسح بهما وجهه، وما أقبل من جسده، وما أدبر)).
569 - حدثنا بذلك قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا المفضل بن فضالة، عن عقيلٍ، عن الزهري، عن عروة،(3/66)
عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
570 - حدثنا يحيى بن الأحمر الطائي، قال: حدثنا مالك بن أنسٍ بالرقة، عن ابن شهابٍ، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(3/67)
الأصل الخامس والتسعون
571 - حدثنا محمد بن يحيى بن عبد العزيز، قال: حدثنا علي بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا ابن جريج، عن ابن شهابٍ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد.
والسبب في ذلك: أن الله خلق في الأرض أمماً، وخلقهم من الأرض،(3/69)
ثم خلق آدم آخر الأمم، ثم أبرز فضله على سائر البرية؛ بأن سخر له ما في السماوات والأرض.
وقال: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً}، فأعلمنا أن جميع ما في الأرض إنما خلقه لنا، فبان فضل الآدمي على سائر الأمم.
وقال: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً}.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الله خلق ألف أمةٍ: أربع مئةٍ في البر، وست مئةٍ في البحر)).
572 - حدثنا بذلك داود بن حمادٍ القيسي، قال: حدثنا يحيى بن حمادٍ البصري، قال: حدثنا عبيد بن واقدٍ، عن محمد بن شبيبٍ، قال: حدثني محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى خلق ألف أمةٍ: ست مئةٍ منها في البحر، وأربع مئةٍ منها في البر، وإن أول هالكٍ من هذه الأمم: الجراد، فإذا هلك الجراد، تتابعت الأمم مثل نظام السلك إذا انقطع)).(3/70)
وإنما صار الجراد أول الأمم هلاكاً؛ لأنه خلق من الطينة التي فضلت من طينة آدم، وإنما تهلك الأمم لهلاك الآدميين؛ لأنها سخرت لهم.
فكان مما أبزر من فضل الآدميين: أن جميع هذه الأمم يعودون تراباً في عرصة القيامة، والآدميون يوقفون للثواب والعقاب، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- خلق الآدمي لعبودته، وخلق ما في السماوات والأرض سخرة للآدميين؛ لانقطاع الحجة، ولإتمام العذر، فهذه الأمم جواهرها على اختلاف تربتها التي منها خلقت، وكذلك الآدميون.
573 - حدثنا يحيى بن حبيب بن عربيٍّ الحارثي، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن عوفٍ، عن قسامة بن زهيرٍ، قال: حدثنا الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الله تعالى خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض،(3/71)
فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب)).
فكما أنت ترى في ولد آدم جواهرهم، حتى تظهر منهم معالي الأخلاق، ومدانيها، ويظهر من معالي أخلاقهم الخير، ومن مداني أخلاق الآخرين الشر، فكذلك في سائر هذه الأشياء؛ من الدواب والوحوش، والطير.
فالحية:
أبدت جوهرها حيث خانت آدم، حتى لعنت، وأخرجت من الجنة، وكانت قد وكلت بخدمة آدم عليه السلام في الجنة، وأدخلت الجنة على الخدمة، فتركت الخدمة، وأقبلت على الخيانة، فمكنت لعدو الله في فمها، فسترته حتى أدخلته الجنة، ولو كانت تبرز، ما تركها رضوان تدخل، وقال(3/72)
لها إبليس: أنت في ذمتي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها، وقال:
((اقتلوها ولو كنتم في الصلاة)).
يعني به: الحية والعقرب.
والوزغة:
أبدت جوهرها، فنفخت على نار إبراهيم عليه السلام، فلعنت.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من قتل وزغةً، فكأنما قتل كافراً)).(3/73)
والفأرة:
أبدت جوهرها، فعمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام: فقطعتها.
574 - حدثنا بذلك الجارود، قال: حدثنا الأسود ابن عامرٍ، عن سفيان.
575 - حدثنا إسماعيل بن نصرٍ، قال: حدثنا الأسود بن عامرٍ، ومعاوية بن هشامٍ، وقبيصة، عن سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أذى الفأر في السفينة.(3/74)
قال الجارود: قال الأسود: قال سفيان: كن يقرضن الحبال.
وقال إسماعيل في حديثه: حتى خافوا على حبال السفينة، فشكا نوح إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه: أن امسح على جبهة الأسد، فعطس عطسة، فخرج منه سنوران، فأكلا الفأر، ثم كثرة العذرة في السفينة، فشكا نوح إلى الله تعالى ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: أن امسح ذنب الفيل، فنثر خنزيران، فأكلا العذرة.
ومما يحقق ذلك: أن الله -تبارك اسمه- حرم الأشياء، فلم ينسب إلى الرجاسة، كما ذكر الخنزير خاصة؛ فإنه قال: {أو لحم خنزيرٍ فإنه رجسٌ}.
يدل ذلك أنه إنما سماه من بين الأشياء رجساً؛ لأن غذاءه العذرة، والعذرة إنما صارت رجساً؛ لأنه من مجلس إبليس خرجت، ألا ترى أنه قال في الخمر: {رجسٌ من عمل الشيطان}.
لأن الشيطان خاض بيده في الخمر حتى غلا وأزبد، فتحولت رجاسة(3/75)
يده في ذلك الشراب.
وسمى الأوثان رجساً؛ بدخول الشيطان في جوفها، فلا يعلم ذكر الرجاسة في التنزيل إلا في الوثن، والخمر، والميسر، والخنزير؛ لأن كل ذلك مما لمسته أيدي العدو وخالطته.
والغراب:
أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة؛ ليأتيه بخبر الأرض، فترك أمره، وأقبل على جيفة.
576 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا داود بن شبيبٍ القرشي، عن داود بن أبي الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والحمار:
أبدى جوهره حيث نزا على حمار ذكر، وتلوط، فسمي رجساً.
577 - حدثنا بذلك الحسين بن أبي كبشة اليحمدي،(3/76)
قال: حدثنا سلم بن قتيبة، قال: حدثنا عرفطة العبدي، قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: ليس شيء من الدواب يعمل عمل قوم لوطٍ، إلا الخنزير، والحمار.
والضفدع:
أبدى جوهره حتى جاء بالماء ليطفئ عن إبراهيم عليه السلام ناره، فأثيب أن جعل مكانه الماء، ولما سلط على قوم فرعون، جاءت فأخذت الأمكنة كلها، فلما صارت إلى التنور، وثبت فيها، وهي نار تسعر؛ طاعة لله عز وجل، فجعل نقيقها تسبيحاً، ويقال: إنها أكثر الدواب تسبيحاً.
والنملة:
ذكر الله شأنها في تنزيله: {قالت نملةٌ يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون}.
فأثنت على سليمان، وأخبرت عنه بأحسن ما تقدر عليه؛ بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك على عمد منهم، فنفت عنه الجور، فتبسم ضاحكاً من قولها، وقال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي}؛ أي: ألهمتني شكر هذه النعمة.(3/77)
والنحلة:
مذكورة في التنزيل أنه: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاءٌ للناس}، فهي مأمورة باتخاذ البيوت ذللاً مطيعة لربها.
والهدهد:
كان رسول سليمان -صلوات الله عليه- إلى بلقيس، وحامل كتابه إليها بريداً، والمؤدي عنها خيرها إلى سليمان عليه السلام.
578 - حدثنا سليمان بن حميدٍ أبو الربيع الإيادي، قال: حدثنا عون بن عمارة، عن الحسن الجعفي، عن الزبير بن خريتٍ، عن عكرمة، قال: إنما صرف الله شر سليمان عليه السلام عن الهدهد؛ لأنه كان باراً بأبويه.
والصرد:
يقال له الصرد الصوام.(3/78)
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال: أول من صام الصرد.
579 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا ابن مهديٍّ، عن قرة بن خالدٍ، عن موسى بن أبي غليظٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: الصرد أول طيرٍ صام.
ولما خرج إبراهيم -صلوات الله عليه- من الشام إلى الحرم في بناء البيت، كانت السكينة معه، والصرد، فكان الصرد دليله إلى الموضع،(3/79)
والسكينة مقداره، فلما صار إلى البقعة، وقفت السكينة على موضع البيت، ونادت: ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي.
580 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، عن البختري بن عبيدٍ بن سلمان الأغر، قال: حدثنا أبي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الذباب كلها في النار، فجعلها عذاباً لأهل النار إلا النحل)).(3/80)
فنهى عن قتل النحل؛ لأن فيه شفاء، وعن العنكبوت؛ لأنه نسج على غار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الهدهد؛ لأنه كان دليل سليمان عليه السلام على الماء، وعن الضفدعة؛ لأنها كانت تصب الماء على نار إبراهيم -صلوات الله عليه-، وعن الصرد؛ لأنه دل إبراهيم عليه السلام على البيت.
فقد علم الله من جواهر هذا الخلق، فاختار لمحبوبه من الأمور من قد علم الله طيب جوهره، وأظهر الآخرون بأفعالهم خبث جواهرهم، مثل: الفأرة، والغراب، والوزغة، والحية، وهذا إذا قتله من غير أذى، فأما إذا آذته نملة أو نحلة، فله أن يقتلها، ويدفع عن نفسه شرها.
وروي عن إبراهيم: أنه قال: ما أذاك من النمل، فاقتله.
وفيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصة موسى عليه السلام حيث أوحى الله(3/81)
إليه: ألا نملةً مكان نملة؟! دليل على أن الذي يؤذي يؤذَى ويقتل، فكلما كان القتل لنفع، أو دفع ضر، فلا بأس به عندنا.
581 - حدثنا عبد الرحمن بن يونس الرقي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمدٍ، عن صالحٍ بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن زيد بن خالدٍ الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الديك؛ فإنه يدعو إلى الصلاة)).(3/82)
الأصل السادس والتسعون
582 - حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن حيان أبو زيدٍ، قال: سمعت أبي يذكر عن أبيه، قال: صحبت ابن عمر رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة، فقال لنافع: لا تمر بي على المصلوب -يعني: ابن الزبير-، قال: فما فجئه في جوف الليل أن صك محمله جذعه، فجلس يمسح عينيه، ثم قال: يرحمك الله أبا خبيبٍ، إن كنت، وإن كنت، ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يعمل سوءاً، يجز به في الدنيا، أو في الآخرة، فإن يك هذا بذاك، فهه فهه)).(3/83)
وأما في التنزيل، فقد أجمله، فقال: {من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً}.
فدخل فيه البر والفاجر، والولي والعدو، والمؤمن والكافر، ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الموطنين، فقال: ((يجز به في الدنيا، أو في الآخرة))، وليس يجمع عليك الجزاء في الموطنين.
ألا ترى: أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فإن يك هذا بذاك، فهه فهه) معناه: أنه قاتل في حرم الله، وأحدث فيها حدثاً عظيماً، حتى أحرق البيت، ورمى الحجر الأسود بالمنجنيق، فانصدع حتى ضبب بالفضة، فهو إلى يومنا كذلك، وسمع للبيت أنيناً: آه آه.(3/84)
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((إنها لم تحل لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعةً من نهارٍ، وإنها حرمت يوم خلقت السماوات والأرض)).
فلما رأى ابن عمر رضي الله عنهما فعله، ثم رآه مقتولاً مصلوباً، ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يعمل سوءاً، يجز به))، ثم قال: إن يك هذا القتل بذاك الفعل الذي فعله، فهه، فهه.
أي: كأنه جوزي بذلك السوء من هذا القتل والصلب -رحمة الله عليه-.
ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الفريقين.
583 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: أخبرنا أبو نعيمٍ، قال: حدثنا محمد بن مسلمٍ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي، قال: لما نزل قوله تعالى:(3/85)
{من يعمل سوءًا يجز به}، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما هذه بمبقيةٍ منا، قال: ((يا أبا بكرٍ! إنما يجزى بها المؤمن في الدنيا، ويجزى بها الكافر يوم القيامة)).
584 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا وكيعٌ، وأبو معاوية، وغيره، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن أبي بكر بن أبي زهيرٍ الثقفي، قال: لما نزلت: {من يعمل سوءًا يجز به}، قال أبو بكر رضي الله عنه: كيف الفلاح يا رسول الله مع هذا؟ كل شيء عملنا جزينا به؟ فقال: ((غفر الله لك يا أبا بكرٍ، ألست تنصب؟ أليست تخزن؟ أليس يصيبك البلاء؟))، قال: بلى، قال: ((فذلك ما تجزى به)).(3/86)
ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله في التنزيل من قوله: {من يعمل سوءًا يجز به} أن المؤمن يجزى بالسوء في الدنيا بما ذكر من النصب والتعب، والحزن والغم، ونوائب الدنيا، والكافر يصيبه ما أصاب المؤمن أيضاً من هذا النصب والتعب والحزن والغم، وليس ذلك له جزاءً بالسوء الذي قد عمل، قد أخر جزاؤه إلى يوم القيامة إلى العذاب الأكبر، هناك يجزى بالسوء؛ لأن جميع ما يصيب الكافر هاهنا من هذه المصائب لا يصبر، وإن صبر، فصبره [صبر] تجلد، وصير عادة، لا صبر حسبة وتسليم، والمؤمن تصيبه المصائب والنوائب، فهو في كل ذلك صابر محتسب بنفسه على الله، والله قد أذعن له برهم ومقتصدهم وظالمهم، ورضوا بها عنه، والكافر ساخط على ربه في نوائبه، مضمر له على عداوته، فبجميع ما يصيبه في الدنيا يزداد ناراً على نار؛ لأنه لا يعرف ربه معرفة الموحدين، وقد عرفه جبراً، وبالملك له قهراً، وكلما أصابته نائبة من أحكامه، هزت نفسه في وجه إحكامه، واكفهر قلبه في وجه تدبيره، وامتلأ غيظاً وسخطاً على من قهره.
ألا ترى: أنه بلغ بواحد من جنسه أنه احتال للارتقاء إلى العلا؛(3/87)
ليحاربه ويسلبه، ثم رجع راجعاً منحطاً برايته وتابوته إلى الأرض، يزعم أنه قد قتل إله السماء، فلم يبق له منازع، فقلب الكافر بهذه الصفة، منهم من شرهت نفسه، وطمحت به إلى مثل هذا الفعل، ومنهم من كان أسكن نفساً، ثم يتعاط أشباه هذا، إلا أنه لما جاءته أحوال المكابرة، تلوى، وتسخط، وجوره في حكمه، وأضمر على كل سوء، وجاش قلبه بالغيظ، ولكن لا يقدر على شيء، فلو أقدره الله، لأتى بالعجائب، وقد فعل بواحد، فتهيأ لمحاربته، وهو نمرود الذي ذكرناه، وقحط المطر في زمانه، فقال واحد من الجبابرة في ذلك الزمان، لأغيظنه، قيل: وكيف تفعل؟ قال: لأقتلن أولياءه.
585 - حدثنا محمد بن حميدٍ الرازي، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: قحط الناس في زمان ملكٍ من ملوك بني إسرائيل ثلاث سنين، فقال الملك: ليرسل علينا السماء، أو لنؤذينه، قال له جلساؤه: وكيف تقدر أن تؤذيه أو تغيظه، وهو في السماوات، وأنت في الأرض؟ قال: أقتل أولياءه في الأرض، فيكون ذلك أذى له، فأرسل الله عليهم السماء.(3/88)
586 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا أبو عمير بن النحاس الرملي، عن أيوب بن سويد الرملي، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيبٍ المصري، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: غار النيل على عهد فرعون، فأتاه أهل مملكته، فقالوا: أيها الملك! أجر لنا النيل، قال: إني لم أرض عنكم، فذهبوا، ثم أتوه فقالوا: أيها الملك! أجر لنا النيل، قال: إني لم أرض عنكم، فذهبوا فأتوه، فقالوا: أيها الملك! ماتت البهائم، وهلكت الأبكار، لئن لم تجر لنا النيل، لنتخذن إلهاً غيرك، قال: اخرجوا غداً إلى الصعيد، فخرجوا، فتنحى عنهم حيث لا يرونه ولا يسمعون كلامه، ثم ألصق خده بالأرض، وأشار بالسبابة، فقال: اللهم إني خرجت إليك مخرج العبد الذليل إلى سيده(3/89)
وإني أعلم أنك تعلم أني أعلم أنه لا يقدر على إجرائه غيرك، فأجره، فجرى النيل جرياً لم يجر قبله مثله، فأتاهم فقال: إني قد أجريت لكم النيل، فخروا له ساجدين، وعرض له جبريل عليه السلام، فقال: أيها الملك! إعرض على عبد لي؟ فقال: وما قصته.
فقال: عبد لي، خولته على عبيدي، وملكته مفاتيحي، فعاداني، فأحب من عاديته، وعادى من أحببت، فقال: بئس العبد عبدك هذا، لو كان لي عليه سبيل، لغرقته في بحر القلزم، فقال: أيها الملك! اكتبه، فدعا بدواة وكتبه فقال: ما جزاء العبد الذي يخالف سيده، فأحب من عاداه، وعادى من أحبه إلا أن يغرق في بحر القلزم، فقال: أيها الملك! اختمه، فختمه، ودفعه إليه، فلما كان يوم البحر، أتاه جبريل -صلوات الله عليه- بالكتاب، فقال: خذ هذا ما استكتبت به على نفسك، أو قال: حكمت به.(3/90)
587 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضحاك، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، بنحوه.
588 - حدثنا أبو بكر بن سابقٍ الأموي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياشٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: جاء يهوديٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صف لي ربك، من أي شيء هو؟ أم من لؤلؤ؟ فأرسل الله صاعقة، فأحرقته، وأنزل الله: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال}.(3/91)
فمعرفة الكفار معرفة جهل وجبر، قد جبلهم جبلة لا يقدرون أن يجحدوه.
وقد روي عنه -تبارك اسمه-: أنه قال في كلامه: يوم السبت يوم إقباله على خلقه، وإلهامه إياهم ربوبيته، فقال: ليس ينبغي لأحد أن ينكرني، ولا يكابرني، ولا يعاديني، (وكيف ينكرني من جبلته يوم خلقته على معرفتي؟! وكيف ينكري ويعاديني) من ناصيته بيدي؟!
فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وليس فيهم من نور التوحيد فينفون عنه ما ليس هو بأهل لذلك، وينزهونه، فإليه يجأرون ويضرعون ذلة وفاقة لما قد قهرتهم ملكته، فإذا أخذتهم أحوال المكاره، تغيظوا، وأضمروا على السوء، وتكلموا بما في ضمائرهم، فقالوا: {إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء}، وقالوا: {يد الله مغلولةٌ}، وذلك أنه قتر عليهم الرزق.
والمؤمن من حبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وهو من أوصل النور على حبة قلبه، فالتذت نفسه، وطابت بما وجدت من الطي والراحة والروح والنزاهة والحلاوة، فلان القلب، ورطب بالرحمة التي غشيته،(3/92)
ورق الفؤاد، وراحت النفس، وطابت بلذتها، فانقاد له، واستسلم، وألقى بيديه إليه سلماً في كل ما استرعاه وقلده، فإن جاءته أحوال المكاره، تحملها وهو في ذلك راضٍ عنه، طيب النفس، يحمده بلسانه، ويرجوه، ويأمل معروفه، ولا يتسخط، ولا يراه سبباً، محتسباً به، وهو مع ذلك قد سرته حسنته، وساءته سيئته.
فإذا أصابته المكاره، طابت نفسه لما يرى من رحمة الله عليه بأنه قد محصه وطهره، وإذا كان عند أوان خروجه من الدنيا، انقطع رجاؤه من الجميع من خلقه، وتعلق به، فكان رجاؤه وأمله خالقه، فإذا أعطي صحيفته يوم القيامة، فأتى على سيئاته، قيل له: تجاوز عن قراءتها، فقد تجازونا عنك بما أصابك في الدنيا، وإنما أصابك ذلك في الدنيا من جميل نظري لك، ومحبتي إياك، وولايتي لك، وعطفي عليك، هكذا دبرت لك أن تصيبك تلك المصائب لأجزيك بمصابك قبل أن تصير إلي، فأستحيي منك أن أعذبك وأنت وليي، ومختاري، ومن أهل رحمتي، والكافر لم يوالني، وذهب برقبته مني، وعاداني، ونظر إلى صنائعي بعين السقم، فجميع ما أصابه من النوائب كان من سخطي عليه في دار الدنيا، فلم يزدد بها إلا سخطاً وعداوة، فاليوم قد أحاط به غضبي وناري الحامية، فأنتقم منه.
ومما يحقق ما قلنا: أنه يقال للمؤمن: تجاوز، فقد أصابتك النوائب(3/93)
في دار الدنيا، قال الله تعالى في تنزيله: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}.
589 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى ابن زكريا بن أبي زائدة، عن أشعث بن سوارٍ، قال: قلت للحسن: {من يعمل سوءاً يجز به}، قال: لا يجزى والله يوم القيامة مؤمنٌ بسوء عمله، ثم قرأ: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}.
590 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصمٍ، عن الحسن في قوله تعالى: {من يعمل سوءًا يجز به}، قال: إنما ذاك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد الله كرامته، فإنه يتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة وعد الصدق(3/94)
الذي كانوا يوعدون.
591 - حدثنا سفيان، قال: حدثني أبي، عن أسامة ابن زيدٍ، عن محمد بن عمرو بن عطاءٍ، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيءٍ يصيب المؤمن من حزنٍ، ولا نصبٍ، ولا وصبٍ، حتى الهم يهمه إلا أن الله يكفر عنه سيئاته)).
591/م- حدثنا الجارود، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصيب المؤمن شوكةٌ فما فوقها(3/95)
إلا رفعه الله بها درجةً، أو حط عنه بها خطيئةً)).
معناه: أن المغفور له ترفع له درجة، والذي لم يغفر له تحط عنه بها خطيئة، ومن هاهنا قيل: إن المرض إذا كان عقوبة، لم يقبل الدواء؛ لأنه قد جوزي به في الدنيا، وإنما الدواء للداء الذي يحدث من الطبع من غير عقوبة؛ لأنه إنما أنزل الدواء للداء الحادث.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل الله له دواءً)).
فإذا كانت عقوبة، فلا دواء له حتى تنقضي مدة العقوبة، وينزل العفو.
592 - حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنسٍ،(3/96)
عن يزيد بن خصيفة، عن عروة بن الزبير، قال: سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المؤمن من مصيبة، حتى الشوكة، إلا قص بها عنه، أو كفر بها عنه من خطايا.(3/97)
الأصل السابع والتسعون
593 - حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي، قال: حدثنا سفيان بن محمد بن سفيان المصيصي، قال: حدثنا عبد الله بن وهبٍ، قال: حدثنا يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالباكورة من كل شيءٍ، قبلها، ووضعها على عينه اليمنى ثلاثاً، ثم على عينه اليسرى ثلاثاً، ثم يقول: ((اللهم كما بلغتنا أولها، فبلغنا آخرها))، ثم يعطيها أصغر الولدان.(3/99)
594 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا معاوية بن عمرٍو، عن جرير بن حازمٍ، عن يونس، عن الزهري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله، ولم يذكر أنساً.
595 - حدثنا إبراهيم بن المستمر، قال: حدثنا أبو عاصمٍ النبيل، عن جرير بن حازمٍ، عن يونس، عن الزهري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(3/100)
قال أبو عبد الله: فالقبلة على وجوه:
قبلة شهوة، وهي للزوجة، وقبلة رحمة، وهي للولد ومن أشبههم، وقبل حنين، وهي للحجر الأسود، وقبلة اشتياق، وهي للباكورة وما أشبهها، وكلها عبادةٌ، إذا أريد بها وجه الله تعالى، وأصلها كلها من القلب، وذلك أن الرحمة والرأفة في القلب معدنهما، ثم تصير الرحمة منه إلى الكبد، ففيه معتمله، وهو بيته، والرأفة في الطحال، ففيه معتمله، وهو بيته.
ولذلك قال علي -كرم الله وجهه-: الرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال.
أخبر بالمستقر والمعتمد.
فأما الأصل، فهو في القلب، فإذا انقلب القلب بما فيه من الرأفة، فارت الرأفة، وإنما قيل: رأفة؛ لأنه يرأف، ويفور بحرارته، والرؤوف والفور بمعنى.
فإذا فار، خرجت حرارته من فم القلب إلى الصدر، وفار إلى الحلق، فاستعمل الشفتين بذلك، فاستعماله الشفتين هو تقليبها لتقليب القلب، بالرأفة.(3/101)
فقيل: قبل وقلب بمعنى واحد، إلا أنه في الشفتين قيل: قبل، وفي القلب: قلب، قلبه للرأفة التي تحركت منه، وإنما يفور ذلك من نور الإيمان، والرأفة من الإيمان، وكذلك (الرحمة، فكانت الأنبياء -عليهم السلام- أعظم نوراً، وأوفر حظاً من الرأفة، وكذلك) كل مؤمن وفر حظه من النور، فهو أوفر حظاً من الرأفة والرحمة، فكان إذا قبل الحجر، قبله حنيناً إلى الجنة؛ لأنه من الجنة، والجنة دار الله، وإنما يحن بالأنبياء -عليهم السلام- إلى دار الله من أجل الله، لا من أجل التنعيم، ألا ترى إلى قوله لعمر حين قبل الحجر وبكى، وقال: ((هاهنا تسكب العبرات)).
فإذا قبل الولد، فمن رحمته له، وإن من ريحان الله، وكان يستروح إلى تقبيل الولد، ألا ترى كيف قال في حديث خولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قبل الحسن، ثم قال: ((إنكم لتبخلون، وتجبنون، وتجهلون، وإنكم لمن ريحان الله)).(3/102)
596 - حدثنا الجارود، وعبد الجبار، قالا: حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن ابن أبي سويدٍ، عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، عن خولة بنت حكيمٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الجارود: ((من ريحان الله))، وقال عبد الجبار: من ريحان الجنة.
وإذا قبل الزوجة، فمن الرحمة والمودة التي جعلت بين الزوجين.
وقد قال في تنزيله: {وجعل بينكم مودةً ورحمةً}،(3/103)
والرأفة والرحمة يهيجان الشهوة؛ لأنها حارة.
597 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا محمد بن دينارٍ الطاحي، قال: حدثنا سعدٌ بن أوسٍ، عن مصدعٍ الأنصاري، عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها)).
وإذا قبل الباكورة، فكذلك أيضاً؛ لأنه يرى أثر صنعه لعباده، وأول ما تخرج التمرة تكون طرياً، لم تتدنس بظلمة الدنيا، فهو فلقها كما قال: {فالق الحب والنوى}.(3/104)
فإذا رأى فلقه للحب والنوى، والأشجار والثمار، فهو باكورة قد ابتكر بخروجها، ولذلك تسمى باكورة، وهي بكر الشجرة لم تفتض، فإذا رآها، تحرك نور الإيمان بما أبصر من صنعه، ولطفه، فانقلب بالرأفة التي فيه، فانفلق القلب.
فانفلاقه فتح بابه، فلولا ذاك، لانشق القلب، ولم يتماسك، فذلك فلق القلب، فخرجت تلك الحرارة من القلب إلى الفم، فاستعمل الشفتين بالحركة، ولو وضع الشفتين هكذا وضعاً، لم يقنع به حتى استعملهما بالحركة، فهذا التقبيل، ثم يضعها على عينيه، وأشفاره إكراماً وتعظيماً له، ثم يدعو بذلك الدعاء، ثم يعطيها من لم يتدنس بالذنوب، ورحمة الله عليه ظاهرة، أن القلم قد رفع عنه، ولا يؤاخذ بذنبٍ.(3/105)
الأصل الثامن والتسعون
598 - حدثنا محمد بن يحيى بن عبد العزيز، قال: أخبرنا عليٌّ، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا سفيان الثوري، عن زيدٍ العمي، عن أبي إياسٍ، وهو معاوية بن قرة، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل أمةٍ رهبانيةٌ، ورهبانية أمتي: الجهاد في سبيل الله)).(3/107)
قال أبو عبد الله: فالرهبانية والسياحة، قد كانت في الأمم الماضية، كان أحدهم إذا علاه الخوف والرهبة من الله، ساح في البراري، أو اتخذ صومعةً في بريةٍ، فترهب فيها، يريد أن تدوم رهبته في تلك العزلة، سياحة كانت أو صومعة بعد أن يكون دائم الرهبة، فذاك الترهب؛ ليستعين بتلك الرهبة التي تدوم على بذل النفس لله عبودة، فأعطى الله هذه الأمة السيف يضربون به وجوه أعدائه، ويضربون، كما قال الله في تنزيله: {يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون}.
فهذه محبة عظيمة ينكشف بها الغطاء، وتذهب الريبة والشك في بذل النفس، (فمن تلقى سيوف العدو في وجهه، فقد صدق الله في بذل النفس). له عبودة، فهي رهبانية هذه الأمة، ولم يكن للأمم الخالية هذا السيف، إنما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت رهبانيتهم السياحة والعزلة؛ لتدوم لهم الرهبة في تلك الخلوات، ولتنقاد النفس عبودة، فمن صبر على العزلة والسياحة حينئذٍ، فقد صدق الله في بذل النفس، ورسولنا صلى الله عليه وسلم مبعوث(3/108)
بالجهاد والحرب من الله، حميةً له، ونصرةً لحقه وكلمته العليا.
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: ((أنا نبي الملحمة، وإن الله عز وجل بعثني بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي)).
599 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا محمود ابن خالدٍ الدمشقي، قال: حدثنا الفريابي، عن ابن ثوبان، قال: حدثنا حسان بن عطية، عن أبي منيبٍ الجرشي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله بعثني بالسيف بين يدي الساعة؛ حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ، فهو منهم)).(3/109)
الأصل التاسع والتسعون
600 - حدثنا محمد بن علي الشقيقي، قال: حدثنا برزيٌّ أبو يزيد، واسمه محمد بن الفضل، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاصٍ، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوةً، فشغله أعرابيٌّ، فلما قام، تبعته، فلما خفت أن يسبقني إلى بيته، ضربت بقدمي على الأرض، فالتفت، فقال: ((أبو إسحاق؟ مه؟))، قلت: يا رسول الله! دعوةٌ ذكرتها، فشغلك الأعرابي، قال: ((نعم، دعوة ذي النون في بطن الحوت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ما دعا بها مسلمٌ في(3/111)
شيءٍ إلا استجيب له)).
قال أبو عبد الله: فالعبد إذا وحده، ونفى عنه الشرك، ثم نزهه عما رآه عليه من السوء، واعترف بأنه من الظالمين، تكرم عليه ربه، وتفضل، ولم يخيبه فيما أمل ورجا، فلذلك وعد الله في تنزيله فقال: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه} إلى قوله: {ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}.
فوعد بالنجاة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا منهم لمن أصابه غم الذنب، فناداه من الغم كما ناداه العبد الصالح من الغم، فمن لم يكن له غم الذنوب، فنادى بهذا، لم يدخل عندنا في الوعد الذي قال الله: {وكذلك ننجي المؤمنين} إلا أن يتفضل الله عليه، والله أعلم.(3/112)
الأصل المئة
601 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا يحيى الحماني، قال: حدثنا قيسٌ، عن يزيد بن أبي خالدٍ، عن عبد الرحمن ابن عبد الله مولى عليٍّ، عن أبي رافعٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يهدي الله على يديك رجلاً، خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس)).
قال أبو عبد الله: فالهدي على يديه شعبة من الرسالة؛ لأن الرسل إنما بعثت لتؤدي عن الله، وتهدي عباده، فالرسول هادٍ بما جاء من البيان،(3/113)
والله هادي القلوب، فإنما يهدي الله القلوب بما يهدي رسوله بالنطق بياناً، وأداء عن الله، فإذا وردوا القيامة، فلهم من ثواب الرسل؛ لأنه إنما هداهم هداية القلب بما جاءت رسل الله به عن الله عز وجل، فمن يحصي ثواب الرسل، ومن يقدر أن يفكر فيه؟
والرسل أقرب الخلق إلى الله في دار السلام في الدرجات، فمن دون الرسل إذا كان داعياً إلى الله، فهدى الله به عبداً من عبيده، فقد أخذ شعبةً من الرسالة، واحتظى من ثواب الرسل حظاً من الكرامة، فلذلك صار خيراً له مما طلعت عليه الشمس، يعني: فأنفقها في سبيل الله عز وجل.
ولهذا ما روي عن الله -تبارك اسمه-: أنه قال: ((يا داود! لأن تأتيني بعبدٍ آبقٍ أحب إلي من عبادة الثقلين)).
فأي شيءٍ يعدل عبادة الثقلين في جنب إيمان عبدٍ بالله، فما الأعمال كلها في جنب التوحيد إلا كذرة في برية، أو تفلة في بحر؛ فإن التوحيد تزكية الجسد، قال الله تعالى: {وويلٌ للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة} أي: لا يوحدون الله بقول: لا إله إلا الله.
فزكاة الجسد هذه الكلمة، فمن أباها، فهو رجس نجس، كل شيء منه خبيث، واللسان أخبث، لأن خبث القلب منكتم، واللسان ظاهر.
ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ((ما من بضعةٍ أحب إلى الله من اللسان،(3/114)
وما من بعضةٍ أبغض إلى الله من اللسان، فأما التي يحبها الله، فلسان المؤمن، وأما التي يبغضها الله فلسان الكافر)).
602 - حدثنا بذلك الجارود، قال: حدثنا الفضل ابن موسى، عن الفرج بن فضالة، عن أسد بن وداعة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
والأعمال محنة يظهر الله بها سرائر القولين لهذه الكلمة، عن صدق قلب نطقوا به، أو عن كذب، فالصادق يتقلب في العبودة رافضاً لسيئاته، والكاذب يتقلب في شهواته رافضاً للعبودة.
603 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ، عن شميط بن عجلان، قال: قال الله تعالى: ((يا داود! إن استنقذت هالكاً من هلكته، سميتك عندي جهبذاً)).(3/115)
يقول الله في تنزيله: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}.
هذا في حياة الدنيا، فكيف بمن أحيا قلبه حتى ظفر بحياة الآخرة؟
وهذه الآية تحقق ما روي عن قوله لداود: ((لأن تأتيني بعبد آبق أحب إلي من عبادة الثقلين)).
604 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا صالح بن محمد، عن أبي مقاتلٍ، عن عباد بن كثيرٍ، عن زيد بن أبي حبيبٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أفضل ما أعطي العبد في الدنيا: العافية، ومن أفضل ما أعطي العبد في الآخرة: المغفرة، ومن أفضل من أعطي العبد من نفسه: موعظةٌ حسنةٌ صدر بها قومٌ عن خيرٍ)).
وإذا هدى الله قلباً على لسانٍ ناطقٍ بالهدى، فقد أكرم الناطق بجزيل الكرامة.
فمن إحدى الكرامات: أن جعل لكلامه حكم الصدق، والعدالة في القلوب.(3/116)
والثانية: أن جعل لكلامه من النور كسوةً تلج آذان السامعين مع تلك الكسوة، فتخرق حجب الشهوات حتى تصل إلى مستقر الإيمان من قلوبهم، فتحيي ما مات منه، وتشفي ما سقم منه.
والثالثة: أن جعل لكلامه من السلطان ما يذهل نفوس المخلطين عن شهواتهم.
والرابعة: أن تأخذ نعمته النورانية بنواصي قلوب العبيد الإباق، فيردهم إلى الله، جذباً، وتسييراً.
والخامسة: أن جعله من العملة الحرثة للقلوب، يبذر بذره، فيزرعه الله وينميه.(3/117)
الأصل الحادي والمئة
605 - حدثنا الحسين بن حسنٍ المروزي، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال الله تعالى: أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي)).(3/119)
قال أبو عبد الله: فخلق الله الآدميين ليعبدوه فيصيرهم إذا انقضت مدة العبودة ملوكاً في داره، فمن وفى له بالعبودة، صار غداً ملكاً في داره.
فالنصح له: الإقبال عليه بالعبودة، فإن من شأن العبد أن يرفض جميع مشيئاته لمشيئة مولاه، ومن شأن الملك أن ينفذ جميع مشيئاته (في جميع أحواله، فإذا رفض العبد مشيئاته كلها، واتبع ما اختاره له، أنفذ له مشيئاته) غداً، فقال: {وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون}.
فالنصح لله: أن لا يخلط بالعبودة؛ شأن الأحرار وأفعالهم، فيكون في سره وعلانيته قد آثر أمر الله على هواه، وآثر حق الله على شهوات نفسه، فهذا النصح لله، وإذا خلط فيه ما ليس منه، كانت العبودة لله مغشوشة، والغش ضد النصح.
606 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا جريرٌ، عن عبد العزيز بن رفيعٍ، عن أبي ثمامة، قال: قال الحواريون لعيسى بن مريم -صلوات الله عليه-: ما الإخلاص لله؟ قال: أن يعمل الرجل العمل لا يحب أن يحمده عليه أحدٌ(3/120)
من الناس، قالوا: فمن الناصح لله؟ قال: الذي يبدأ بحق الله قبل حق الناس، ويؤثر حق الله على حق الناس، وإذا عرض أمران: أحدهما للدنيا، والآخر للآخرة، يبدأ بأمر الآخرة قبل أمر الدنيا.
قال أبو عبد الله: فهذا عندنا للمقتصدين، ألا ترى أنه يقول: إذا عرض له أمران، أحدهما للدنيا، والآخر للآخرة؟ فالمقربون قد جاوزوا هذه الخطة، فجميع أمورهم كلها للآخرة، لأنها صارت لله، وقد ماتت نفوسهم عن أن تأخذ بحظها من الأعمال، وحييت قلوبهم بالله، فاستوى عندهم عمل الدنيا والآخرة، فصارت كلها عبودةً لله، واستوت عندهم الحقوق: حق الله، وحق الناس، فصارت كلها حقوق الله عندهم، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا سجد، وضعها؟
607 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا مالك(3/121)
ابن أنسٍ، عن عامرٍ بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليمٍ الزرقي، عن أبي قتادة السلمي: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حاملٌ أمامة، فإذا سجد، وضعها، وإذا قام، رفعها)).
608 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا جرير بن حازمٍ، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أبيه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل أحد ابني ابنته: الحسن، أو الحسين، فتقدم فوضعه عند قدمه اليمنى، ثم صلى، فسجد بين(3/122)
ظهراني صلاته سجدةً أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي من بين الناس، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدٌ، وإذا الغلام على ظهره، فعدت، فسجدت، فلما قضى صلاته، قيل: يا رسول الله! لقد سجدت سجدةً ما كنت تسجدها، أفشيءٌ أمرت به، أم كان يوحى إليك؟ قال:
((كلٌّ لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته)).
609 - حدثنا الخصيب بن سلم، قال: حدثنا(3/123)
أبو بكر بن عياشٍ، عن يحيى بن هانئٍ، قال: أخبرني أبو حذيفة، عن عبد الملك بن محمد بن بشير، عن عبد الرحمن ابن علقمة، قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعهم هديةٌ، فقبضها، ثم جلسوا، وشغلوه بالمسألة، فما صلى الظهر إلا عند العصر.
قال أبو عبد الله: فالأنبياء والأولياء المقربون، قد تخلصوا من نفوسهم، فأعمالهم خالصة لله، دنيا كانت أو آخرة، حق الله كان، أو حق الناس؛ لأن الأمور قد صارت لهم معاينة بنور يقينهم أن الدنيا والآخرة لله، وأن حق الناس هو حق الله، فهو يستعملهم في أمور دنياهم، وآخرتهم، وهم في قبضته، وحقوق الناس، هو ما قد أوجبه الله، وجعله حقاً، وإنما فارقهم المقتصدون في ذلك، فاحتاجوا إلى تمييز ذلك وتقديمه؛ لأنهم لم يفارقوا أنفسهم، فأي عمل عملوه من دنيا وآخرة، فحظوظ نفوسهم فيها(3/124)
قائمة؛ لأن شهواتهم عاملة في أمر دنياهم، وأمور الآخرة منزوع منها الشهوة، فمن نصيحتهم لله: أن يؤثروا الأمر الذي لا شهوة لنفوسهم فيه، ويؤخروا ما للنفس فيه أوفر الحظ، وأن يبدؤوا بحق الله قبل حقوقٍ أوجبها، ولنفوسهم فيها حظ من الشهوة؛ مثل: النفقة التي ذكرت أم سلمة.
610 - حدثنا يحيى بن موسى الحداني، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة: أنها قالت: يا رسول الله! إن ابني أبي سلمة في حجري، وليس لهم شيء إلا ما أنفقت عليهم، ولست بتاركتهم هكذا ولا هكذا، أفلي أجرٌ إن أنفقت عليهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنفقي عليهم، فإن لك أجر ما أنفقت عليهم)).(3/125)
فالمقتصد إذا صلى، أو تلا قرآناً، أو عمل شيئاً من مثل هذه الأعمال، عدها آخرة، وإذا أكل أو شرب أو نام، عدها دنيا؛ لأنه لا يقدر أن يخلصها حتى يصفو من الشهوة النفسية، والمقرب قد صارت لشهوته منيةٌ.
والفرق بين الشهوة والمنية: أن النفس لما كانت حييت بشهوتها، فعرض لها ما تلتذ به، اهتشت النفس بالعجلة إليه حرصاً وشرهاً، فتلك شهوة.
والمنية لما ماتت شهوة النفس، وحيي القلب بالله، فإذا عرض لها ما تلتذ به، لحظت إلى الله، وراقبت تدبيره، فإن أعطيت، أخذت، وإن منعت، قنعت، فتلك منية، والأول شهوة.
والمقتصد افترق أمره دنيا وآخرة، فما كان من أمر الآخرة، أمكنه تصفيته على حسب طاقته، وما كان من أمر دنياه، فالشهوة غالبة عليه، قاهرة له، فمن النصح له أن يبدأ بأمر الآخرة، والمقرب منيته فيما دبر الله له، يراقب ما يبدو له من غيب الملكوت، فيتلقاه بالرضا، والذلة،(3/126)
والانقياد، والقبول له عبودة ومسكنة، فصارت كلها آخرة، والحقوق كلها حقوقه، فالمقرب الغالب على أموره ذكر الله، والمقتصد الغالب على أموره ذكر النفس.
وذكر علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- عن الشيخين من قبله -رضوان الله عليهما-، فقال: إن أبا بكر أواه القلب منيب، وإن عمر ناصح لله، فنصحه.
فالأواه: لا يميز بين الأمرين؛ لأنها كلها لله، وليس فيها ذكر النفس، والناصح لله: عبد تفرد لله بقيام حقوقه، فلم يدع للنفس روعاً، فكلما اجتمع أمران، للنفس في أحدهما نصيب، آثر الذي لا نصيب لها فيه، وبدأ بالذي لا نصيب لها فيه، فكان في الظاهر فعل عمر فعل المقتصدين، وفي الباطن من المقربين، وإنما صار هكذا؛ لأن المقربين صنفان:
صنف منهم قد انفردوا في فردانيته، فخلت قلوبهم من ذكر نفوسهم، فهي صفة أبي بكر رضي الله عنه.
وصنفٌ منهم لم يصلوا إلى هذه الحظة، قد انكشف على قلوبهم من جلال الله وعظمته ما ملئت قلوبهم من هيبته، فهم القائمون على نفوسهم، فلا يدعونها تلحظ إلا إلى حق، فالحق يستعملهم، والهيبة تملك قلوبهم، والمتفرد به في فردانيته الله يستعمله، ووحدانيته تملك قلوبهم، فإذا اجتمعا في فعل، تباينا.(3/127)
611 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ الدمشقي، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن ابن كعب بن مالكٍ: أن أبا بكر أتي بسيوف ثلاثة، أحدها محلى من اليمن، فقال ابنه عبد الله بن أبي بكرٍ: مر لي بهذا السيف المحلى، فقال أبو بكر: هو لك، فقال عمر: بل إياي فأعطني، فقال أبو بكر: فأنت أحق به، فأخذه عمر، فانقلب بالسيف إلى منزله، فراح وقد جعل حلية السيف في ظبية والنصل معه، فقال عمر: يا أبا بكر! استعن بهذه الحلية على بعض ما يعوزك، ورمى بالنصل إلى عبد الله بن أبي بكر، قال: والله! ما صنعت هذا نفاسةً عليك يا أبا بكر، ولكن للنظر لك، فبكى أبو بكر، فقال: يرحمك الله، يرحمك الله.
فهذا معاملة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ولده ومع سائر الناس، فلا تتوهم على أبي بكر أنه حملته فتنة الولد حتى أمر له بالسيف المحلى،(3/128)
ولكن دق عنده شأن تلك الحلية، ولم يظهر على قلبه قدر ذلك، فاستوى عنده سؤال ولده، وسؤال الأجنبي، فأنعم به، ثم لما سأله الأولى، آثره، وعمر نظر إلى الحق، وإلى تدبير الحق؛ فإن من تدبير الحق: أن ينزع الحلية، فيستعين به في النوائب، وفي النصل بلا حلية كفاية.
612 - حدثنا محمد بن عثمان بن عمرو الطائفي، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا مالك بن أنسٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: كانت لعمر صحافٌ تسعٌ، فكان إذا كان طريفةٌ أو فاكهة، بعث فيها إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان نقصان، جعله في حظ حفصة.
613 - حدثنا محمد بن عثمان، قال: حدثنا روحٌ،(3/129)
قال: حدثنا مالكٌ، عن زيد بن أسلم، قال: قدم عبد الله وعبيد الله ابنا عمر على أبي موسى الأشعري من معزاً لهما، فقال أبو موسى: وددت أني قدرت على أن أنفعكما، قال: ثم قال: هاهنا من مال الله، فخذاه، فاشتريا به تجارة من تجارة المدينة، واضمناه، فإذا قدمتما، فأديا المال إلى أمير المؤمنين، وكتب إلى عمر رضي الله عنه أن اقبض منهما كذا وكذا، فلما قدما على عمر، قال لهما: أديا المال وربحه، فأما عبد الله، فسكت، وأما عبيد الله، فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت لو تلف هذا المال، أما كنت تأخذه منا؟ قال: بلى، قال: فلم تأخذ الربح؟ فقال رجل في مجلسه: يا أمير المؤمنين! لو جعلته قراضاً، قال: فقاسمهما الربح، وأخذ المال.
فهذه معاملة عمر رضي الله عنه مع ولده وسائر الخلق، يقتضي من نفسه(3/130)
ومن الخلق إقامة الحق، ونصرته في الأمور كلها، وذكر عمر رضي الله عنه في الأخبار الواردة بمثل هذا.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه)).
وقال: ((الحق بعدي مع عمر حيث كان)).(3/131)
ووصف ابن عباس شأنه، فقال: كان عمر كالطير الحذر الذي يرى أن له في كل طريق شبكاً.
فهذا شأن النصحاء لله.
والأواه المقرب قد ذهل من تفقد هذا، فهو يستعمله وهو يكلؤه، فتختلف أحواله ومشيئته على المحق أمره، فالمحق في الظاهر عند أهله أعلى فعلاً، والأواه في الباطن أعلى.
فانظر في أمر السيف الذي أخذه عمر من أبي بكر رضي الله عنهما، ونزع الحلية، هل يقدر أحد من المحقين فمن دونهم أن ينظر إلى ذلك الفعل بعين السقم ويقول: إن فعل أبي بكر أعلى في ذلك من فعله؟ فإنما تابعه أبو بكر؛ لأنه أشار إلى الحق، وبكى فرحاً بما وجد من التأييد والعون فيما قلده الله عند أخيه وصاحبه، ودعا له بالرحمة لما وجده ناصحاً لله، وناصحاً لإمامه، ومشفقاً عليه، ولكن فعل أبي بكر رضي الله عنه فعل الرسل، فالرسول ومن في درجته، قريب منه في سعة عظيمة من ملكه، (وفعل عمر فعل المحقين)، والمحقون في أمر عظيم من القيام بحقه جزماً واحتياطاً، وصحة وتقويماً.(3/132)
وروي لنا عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: دخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعائشة -رضي الله عنها-، وامرأةٌ تضرب بالدف، فقعد، ولم يزجرها؛ لما رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عمر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، كفها، عن ذلك، فلما خرجا، قالت عائشة: يا رسول الله! كان حلالاً، فلما دخل عمر صار حراماً؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة! ليس كل الناس مرخياً عليه)).
فهذه كلمة تكشف لك عن جميع ما قلنا.
وقال: إن المقربين صنفان:
فصنف منهم: قلوبهم في جلاله وعظمته هائمةٌ، فقد ملكتهم هيبته، فالحق يستعملهم في كل أمرٍ، فهم مشرفون على الأمور، مشمرون لها.
وصنف آخر: قد أرخى من عنانه، فالأمر عليه أسهل؛ لأنه قد جاوز قلبه هذه الحظة، فقلبه في محل الشفقة في تلك الوحدانية.
وكلما كان القلب محله أعلى، ومن القربة أوفر حظاً، كان الأمر عليه أوسع؛ لأن نفسه موقنة بأن الله -تبارك اسمه- يلطف بعبده المؤمن، فإذا علم من عبده أن نفسه صعبة، وأنه محتاج إلى لجام، ألجمها بلجام الهيبة، وأبدى على قلبه من سلطانه وعظمته، وإذا كانت نفسه لينة رخوة كريمة،(3/133)
أرخى عنانه، فأبدى على قلبه من الوحدانية، والفردية ما انفرد له قلبه ونفسه، وماتت شهوته، وذهل عن ذكر نفسه، فإذا أرخى عليه، لم يفسد.(3/134)
الأصل الثاني والمئة
614 - حدثنا علي بن عيسى بن يزيد البغدادي، قال: حدثنا حجاج بن محمدٍ الأعور، قال: حدثنا يونس ابن [أبي] إسحاق، عن أبيه، عن أبي جحيفة، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصاب في الدنيا ذنباً، فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عليه عقوبته، ومن أذنب في الدنيا ذنباً، فستر الله عليه، وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيءٍ قد عفي عنه)).(3/135)
قال أبو عبد الله: فأما المعاقب، فقد ذكره الله في تنزيله، فقال: {وما أصابكم من مصيبةٍ فيما كسبت أيديكم}.
فقوله: {فبما} هو اقتصاص؛ كقوله: هذا بذاك، ثم قال: {ويعفوا عن كثيرٍ}؛ أي: إن الذي لم تصبك به مصيبة فهو عفو، فلم يقل: ويعفو عما بقي، أو يعفو عن الذي لم يصبك به في الدنيا، إنما قال: {ويعفوا عن كثيرٍ}، وقد يجوز أن يبقى بعد عفوه الكثير أيضاً هناك شيء، إلا أن الكثير من الله لا يحصى عدداً.
فرسم الرسول صلى الله عليه وسلم هاهنا في حديثه رسماً ينبئ عن الذي يعفى عنه من الذي لا يعفى عنه، فقال: ((ومن أذنب ذنباً، فستر الله عليه، وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود فيه))، فذكر الستر، فاعلم أن الذي قال: {ويعفوا عن كثيرٍ} هم الذين قد سترهم الله، وستر عليهم، فالثناء على الألسنة قائمة بالخير وباطنهم مدخول، فإذا دام هذا الستر عليهم، فالله أكرم من أن يهتك عبداً قد ستره أيام الدنيا، ولم يعاجله، وأما الذي هتك ستره، ولم يؤاخذه بعقوبة، فذاك غير مأمون عقوبته.(3/136)
615 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا سلم ابن يحيى الطائي، قال: حدثنا سويد بن عبد العزيز، قال: حدثنا نوح بن ذكوان، عن أخيه أيوب، عن الحسن -رحمة الله عليه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: لأنا أكرم وأعظم عفواً من أن أستر على عبدٍ لي مسلمٍ في الدنيا، ثم أفضحه بعد أن سترته، فلا أزال أغفر لعبدي ما استغفرني)).
616 - قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله -تبارك وتعالى-: إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع يديه إلي، ثم أردهما، قالت الملائكة: إلهنا! ليس لذلك بأهلٍ، قال الله تعالى: لكني أهل التقوى، وأهل المغفرة، أشهدكم أني(3/137)
قد غفرت له)).
617 - قال: ويقول الله -جل ثناؤه-: ((إني لأستحي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام، ثم أعذبهما بعد ذلك في النار)).(3/138)
الأصل الثالث والمئة
618 - حدثنا نصر بن عليٍّ الحداني، قال: حدثنا أبي، وبشر بن المفضل، قالا: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يدخل قومٌ النار، حتى إذا صاروا فحماً، أخرجوا، فأدخلوا الجنة، فيقول أهل الجنة: من هؤلاء؟ فيقال: الجهنميون)).
619 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم،(3/139)
وأبو نعيم، قالا: حدثنا يزيد بن أبي صالحٍ أبو حبيبٍ الدباغ، قال: سمعت أنس بن مالكٍ رضي الله عنه يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله: فهؤلاء قوم موحدون، وحدوا الله بألسنتهم وقلوبهم، وضيعوا العبودة، فإن من حق الله على العباد أن يعبدوه، فإنه قال عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
فالعبودة الظاهرة تحقيق لما في الباطن، وإنما وكل الحق بفعل الظاهر، فهو يقتضي الخلق القيام بذلك، وهي العبودة، فإذا كان يوم الجزاء، جاء الحق يقتضي حقه، فلم يجد عندهم شيئاً، فحبسهم في النار، ثم تداركتهم رحمته، فيترك ما وجب له من العبودة، ويهبها منهم،(3/140)
ويعنفهم، فيكتب على جباههم: الجهنميون عتقاء الله، وفي بعض الرواية: محرري الرحمن، يرحمهم بصدق الباطن أنهم كانوا لا يلتفتون إلى إله غيره فيشركون به.
620 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا معلى ابن هلالٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي، ثم ماتوا عليها.
فهم في الباب الأول من جهنم، لا تسود وجوههم، ولا تزرق أعينهم، ولا يغلون بالأغلال، ولا يقرنون مع الشياطين، ولا يضربون بالمقامع، ولا يطرحون في الأدراك.
منهم من يمكث فيها ساعةً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها يوماً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها شهراً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها سنةً ثم يخرج، وأطولهم مكثاً فيها يمكث فيها مثل الدنيا يوم خلقت إلى يوم أفنيت، وذلك سبعة آلاف سنةٍ، ثم إن الله إذا أراد أن يخرج(3/141)
الموحدين منها، قذف في قلوب أهل الأديان، فقالوا لهم: كنا نحن وأنتم جميعاً في الدنيا، فآمنتم وكفرنا، وصدقتم وكذبنا، وأقررتم وجحدنا، فما أغنى ذلك عنكم شيئاً، نحن وأنتم اليوم فيها جميعاً سواء، تعذبون كما نعذب، وتخلدون كما نخلد، فيغضب الله عند ذلك غضباً لم يغضبه في شيء فيما مضى، ولا يغضب في شيءٍ فيما بقي، فيخرج أهل التوحيد منها إلى عينٍ بين الجنة والصراط يقال لها: نهر الحياة، فيرش عليهم من الماء، فينبتون كما تنبت الحبة من حميل السيل، فما يلي الظل منها، فهو أخضر، وما يلي الشمس منها فهو أصفر، ثم يدخلون الجنة، فيكتب في جباههم: عتقاء الله من النار، إلا رجلاً واحداً، فإنه يمكث فيما بعدهم ألف سنةٍ، ثم ينادي: يا حنان يا منان! فيبعث الله إليه ملكاً ليخرجه، فيخوض في النار في طلبه سبعين عاماً لا يقدر عليه، ثم يرجع فيقول: يا رب! إنك أمرتني أن أخرج عبدك فلاناً من النار، وإني طلبته في سبعين سنةً فلم أقدر عليه، فيقول الله له: انطلق، فهو في(3/142)
وادي كذا وكذا تحت صخرةٍ، فأخرجه، فيذهب فيخرجه منها، فيدخله الجنة.
ثم إن الجهنميين يطلبون إلى الله أن يمحي ذلك عنهم، فيبعث الله إليهم ملكاً، فيمحاه عن جباههم، ثم إنه يقال لأهل الجنة ومن دخلها من الجهنميين: اطلعوا إلى النار، فيطلعون إليهم، فيرى الرجل أباه، ويرى أخاه، ويرى جاره، ويرى صديقه، ويرى العبد مولاه، ثم إن الله يعبث إليهم ملائكة بأطباقٍ من نارٍ، ومسامير من نارٍ، وعمدٍ من نارٍ، فيطبق عليهم بتلك الأطباق، ويسد بتلك المسامير، ويمد بتلك العمد، ولا يبقى فيها خللٌ يدخل فيه روح، ولا يخرج منه غمٌّ، وينساهم الجبار على عرشه، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم، ولا يستغيثون بعدها أبداً، وينقطع الكلام، فيكون كلامهم زفيراً وشهيقاً، فذلك قوله: {إنها عليهم مؤصدة. في عمدٍ ممددةٍ}، يقول: مطبقةٌ، في عمدٍ ممددةٍ)).(3/143)
فانظر أي صنف هؤلاء؟
وهؤلاء قوم لم يتخلصوا من شؤم نفوسهم في دار الدنيا طرفة عين، وفي دار الله في الجنان لم يتخلصوا من النفوس، حتى دعتهم أن يطلبوا إلى الله أن يمحو ذلك الاسم، وما ضرهم أن يكون مكتوباً على جباههم: الجهنميون، وقد كتب عليها عتقاء الله من النار، أفلم يكن في كتابة اسمه على جباههم ما يشغلهم عن النظر إلى ما سواه؟! وكيف تجد قوماً على جباههم مكتوباً اسم مولاهم أعلى الأسماء وأجلها، فتسخو نفوسهم على محوه، ثم يطلبون إلى ربهم ذلك طلباً؟!(3/144)
أما لو كان المحبون له ابتلوا بهذا، لم يسألوه أبداً أن يمحو اسمه من جباههم، وهو قرة عيونهم.
أما أنا، فقد وجدت عليهم وجداً شديداً بما يسألون، ولكن هؤلاء قوم نفوسهم عليهم مستولية، أنفوا من هذا الاسم أن ينسبوا إلى جهنم، وهي دار الأعداء، واستحيوا من إخوانهم، وليس في الجنة أذى، إنما هي محشوة بكرم رب العزة السيد المنان، فلما من عليهم بالرحمة، جاد عليهم (بالذي سألوا، فمحي عنهم، وإنما كتب على جباههم ذلك؛ لتظهر منة الله عليهم) بين ظهراني أهل الجنة، فقد تأخر دخولهم الجنة، فلما وردوا، أحب الله أن يظهر عند أهل الجنة منته عليهم، وأنهم عتقاؤه الذين جاد عليهم، فأبت نفوسهم إلا حرناً، فهو أدنى أهل الجنان، وما فيهم دني.
والكتابة على الجباه سيماهم في الجنان، كما كتب على جباه أحبابه أهل الصفوة والأولياء: هؤلاء المتحابون في الله.
621 - حدثنا بذلك قتيبة بن سعيدٍ، وعلي بن حجرٍ، وصالح بن عبد الله، قالوا: حدثنا خلف بن خليفة الأشجعي، عن حميدٍ الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن(3/145)
المتحابين في الله لعلى عمودٍ من ياقوتةٍ حمراء، في أرس العمود سبعون ألف غرفةٍ، يضيء حسنهم أهل الجنة، كما تضيء الشمس أهل الدنيا، يقول بعضهم لبعضٍ: انطلقوا بنا حتى ننظر إلى المتحابين في الله، فإذا أشرفوا عليهم، أضاء حسنهم أهل الجنة، كما تضيء الشمس أهل الدنيا، عليهم ثيابٌ خضرٌ من سندسٍ، مكتوبٌ على جباههم: هؤلاء المتحابون في الله)).
622 - حدثنا داود بن حماد القيسي، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن إسماعيل بن رافعٍ، عن محمد بن(3/146)
زيادٍ الأنصاري، عن محمد بن كعبٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكتب على جباههم: عتقاء الرحمن الجهنميون، فيسألون الله أن يمحو عنهم ذلك الاسم، فيمحوه عنهم)).(3/147)
فأحب الله أن يكون عذره في تأخرهم عن دخول الجنة ظاهراً عند أهل الجنان، وأنهم لم يدخلوها إلا برحمته، ولم ينالوا جواره إلا بكرمه.
وأحب هؤلاء أن تكون العقوبة التي حلت بهم مستورة عند أهل الجنة، فلا يدري أحد أنهم ابتلوا بهوان الله وعقوبته أنفةً، وذهاباً بنفسه، وهي التي حطته في دار الدنيا عن درجة العبودة، وفي الآخرة عن درجة الكرام البررة، فيترك الله محبته لمحابهم، ومحا عنهم ذلك الاسم تكرماً وتفضلاً، وإتماماً للمنن عليهم.
ولم يكن عند القوم من الإنسانية والكرم وجوهرية النفس أن يؤثروا ما فيه محابه على محابهم، ولا له في قلوبهم من غليل المحبة ما تتلاشى عندهم محابهم لمحابه، وما ينسون أحوال نفوسهم في جنبه، من أجل ذلك بقوا في النار ما بقوا؛ لأنهم بهذه النفوس كانوا يعاملون الله، وبمثل هذه الأخلاق كانوا يعبدونه.(3/148)
الأصل الرابع والمئة
623 - حدثنا إبراهيم بن عبد الحميد التمار، قال: حدثنا محمد بن سعيد بن سابقٍ، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قيل: يا رسول الله! من أولياء الله؟ قال: ((الذين إذا رؤوا، ذكر الله)).
624 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا داود ابن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بن عثمان بن خثيمٍ،(3/149)
عن شهرٍ بن حوشبٍ، عن أسماء بنت يزيد، حدثته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم أيها الناس بخياركم؟))، قالوا: بلى، قال: ((خياركم الذين إذا رؤوا، ذكر الله)).
625 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا أبو الخير، عبد المنعم بن بشيرٍ الأنصاري، عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت عبد الله ابن عمرٍو بن العاص رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خياركم من ذكركم بالله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه،(3/150)
ورغبكم في الآخرة عمله)).
626 - حدثنا عبد الأعلى بن واصلٍ الأسدي، قال: حدثنا إسماعيل بن صبيحٍ، عن مبارك بن حسان، عن عطاء ابن أبي رباحٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قيل: يا رسول الله! أي جلسائنا خيرٌ؟ قال: ((من ذكركم بالله رؤيته، وزاد في أعمالكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله)).(3/151)
قال أبو عبد الله: فالذي يذكرك بالله رؤيته، هم الذين عليهم من الله سمات ظاهرة، قد علاهم بهاء القربة، ونور الجلال، هيبة الكبرياء، وأنس الوقار، فإذا نظر الناظر إليه، ذكر الله؛ لما يرى من آثار الملكوت عليه، فهذه صفة الأولياء، فالقلب معدن هذه الأشياء، ومستقر النور، ويشرب الوجه عن ماء القلب، فإذا كان على القلب نور سلطان الوعد والوعيد، تأدى إلى الوجه ذلك النور، فإذا وقع بصرك عليه، ذكرك البر والتقوى، ووقع عليك منه مهابة الصلاح، والعلم بأمور الله تعالى.
وإذا كان على القلب نور سلطان الحق، أدى ذلك إلى الوجه، فإذا وقع بصرك عليه، ذكرك الصدق والحق، ووقع عليك منه مهابة الحق والاستقامة.
وإذا كان على القلب نور جلال سلطان الله، وعظمته، وجلاله، تأدى ذلك إلى الوجه منه، فإذا وقع بصرك عليه، ذكرك عظمة الله، وجلاله، وسلطانه، وإذا كان على القلب نوره، وهو نور الأنوار، بهتك رؤيته.
فمن شأن القلب أنه يسقي عروق الوجه، ويشربه من ماء الحياة الذي قد رطب به، ويتأدى إلى الوجه منه ماء فيه لا غير ذلك، فكل نور من هذه الأنوار التي ذكرنا كان في القلب، فيشرب وجهه من ذلك النور الذي(3/152)
فيه لا غير، ألا ترى إلى قوله: {ولقاهم نظرةً وسروراً}، قال: سروراً في القلب، ونضرة في الوجه، فإذا سر القلب برضاء الله، رضي الرب عن العبد، وبما يشرق به صدره وقلبه من نوره، حيث ينكشف الغطاء، نضرت الوجوه، فإنما تنضرت الوجوه بما ولجت القلوب، فبذلك دل رسول الله صلى الله عليه وسلم (على الذكر عند رؤيتهم، وصيره علامة لأهل ولايته.
وروي عن موسى -صلوات الله عليه-): أنه قال: يا رب! من أولياؤك؟ قال: الذين إذا ذكرت، ذكروا، وإذا ذكروا، ذكرت.
وهذا ما يشاكل ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤية، فإنما يذكرون عند ذكره؛ لأنهم رجاله وخاصته، لم يعرفوا في الأرض إلا به.
وفي الأرض ثلاث طبقات، فكل طبقة إنما تعرف بما عندها، وهم رجال بما عندهم، فرجال هم علماء بأمور الله من الحلال والحرام، فعليهم سمات العلم، وبالعلم يعرفون، ورجال هم علماء بتدبير الله، فعليهم سمات الحكمة، فبالحكمة يعرفون، ورجال هم علماء بالله، فعليهم سمات نور هيبته، فبالله يعرفون، فهم أولياء الله.
وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جحيفة: ((سائل العلماء، وخالط الحكماء، وجالس الكبراء)).(3/153)
627 - حدثنا بذلك صالح بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن عليٍّ بن الأقمر، عن أبي جحيفة، ولم يرفعه.
628 - وحدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، قال: حدثنا إسحاق بن الربيع العصفري، قال: حدثنا أبو مالك النخعي، عن سلمة بن كهيلٍ، عن أبي جحيفة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.(3/154)
وهو قول رسول الله عيسى -صلوات الله عليه-، قال: العلماء ثلاثة: عالم بأمر الله ليس بعالم بالله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله عالم بالله.
فهذا الثالث من الكبراء الذين قال لأبي جحيفة: جالسهم؛ فإن رؤيتهم دواء، ومجالستهم شفاء.
وسائر الناس عبادٌ، وعمالٌ، وأهل بر وتقوى، بذلك يعرفون: وإلى أعمالهم ينسبون، هذا رجل صالح، هذا رجل زاهد، هذا رجل متق، فإذا جاء الولي، ذهب هذا الذكر من القلوب، وغلب على قلوب الناظرين ذكر الله.
629 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الهيثم(3/155)
ابن خارجة البغدادي، عن رشدين بن سعدٍ، عن عبد الله ابن الوليد التجيبي، عن أبي منصورٍ مولى الأنصار، عن عمرو بن الجموح: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((قال الله -تبارك وتعالى-: إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي: الذين يذكرون بذكري، وأذكر بذكرهم)).
630 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا قطبة ابن العلاء الغنوي، قال: حدثنا مالك بن مغولٍ، عن الزبير ابن عدي، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: قالوا(3/156)
يا رسول الله! أينا أفضل كي نتخذه جليساً معلماً؟ قال: ((الذي إذا رئي، ذكر الله لرؤيته)).
631 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا معمرٌ، قال: قال موسى -صلوات الله عليه-: أي رب! أخبرني عن أهلك الذين هم أهلك، قال: ((هم المتحابون في الدين، إذا ذكرت، ذكروا بي، وإذا ذكروا، ذكرت بهم، هم الذين يعمرون مساجدي، ويستغفرونني بالأسحار، ويبيتون إلى طاعتي كما يبيت النسر إلى وكره، وإذا استحلت محارمي، غضبوا كما يغضب النمر إذا حرب)).(3/157)
وأما قوله: ((يزيد في علمكم منطقه)).
فإنه إذا كان ممن يذكر الله رؤيته، فإنه يزيد في العلوم منطقه؛ لأن العلوم بمكانة، فإنما يزيد منه منطقه؛ لأنه عن الله ينطق، والناطق صنفان:
فصنف: ينطق بالعلوم عن الصحف تحفظاً، وعن أفواه الرجال تلقناً.
والصنف الآخر: ينطق بذلك العلم عن الله تلقياً.
فالذي ينطق عن الصحف تحفظاً، وعن أفواه الرجال تلقناً، وهو عالم عامل به، إنما يلج آذان المستمعين عارياً، والذي ينطق كذلك، وهو غير عامل به، فإنما يلج آذانهم عرياناً بلا كسوة.
والأول: الذي كان عارياً، وهو الذي إذا كان خلق الكسوة؛ لأنه لم يخرج من قلب نوراني، إنما خرج من قلب دنس، وصدر مظلم، مغشوش إيمانه بحب العز والرياسة، والشح على حطام الدنيا، فإيمانه يقتضيه أن العز لله، والدنيا له، ونفسه قد استولت على قلبه، ينازع الله في ردائه وإزاره، ويناطح قسمته في دنياه، ويضاد قضاءه.(3/158)
والذي ينطق عن الله، إنما يلج أذان المستمعين مع الكسوة التي يخرق كل حجاب، وهو نور الله؛ لأنه خرج من قلب مشحون بالنور، وصدر مشرق بالنور.
فإذا خرج المنطق مع ذلك النور، فولج أذان المستمعين، خرق هذا النور كل حجاب قد تراكم على قلوب المخلطين من رين الذنوب، وظلمة الشهوات، ومحبة الدنيا، فخلصته إلى نور التوحيد، فأنارته بمنزلة جمرةٍ وصلت النفخة إليها، فالتهبت ناراً، فأضاءت البيت، ومن قبل النفخة كانت جمرة قد أحاط بها الرماد، فذهب بتوقدها وحرها وضيائها، فلما وصلت النفخة إليها، طيرت الرماد عنها، فلهبت، واستعرت، وأضاءت البيت، فكذلك الكلمة التي تخرج من الناطق عن الله، تخرج من نور، وكسوتها النور، فإذا وصلت إلى الصدر، خرقت حجب الظلمات، التي وصلت، فأثارت نور التوحيد، وأضاء البيت، فاستغفر وبكى، وندم وأبصر.
فهذا سبيل الناطق عن الله، وهو قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرةٍ}؛ أي: على معاينة، ثم قال: {أنا ومن اتبعني}.(3/159)
ذلك ليعلم أنه ليس هذا إلا لتابعي محمد صلى الله عليه وسلم على هديه، وسبيله، وشمائله، وأخلاقه، فإنما يدعون إلى الله على بصيرة؛ لأنهم بقلوبهم عند الله، وعلى بصيرة الطريق، ومحل القلوب في تلك المراتب؛ يدعون إلى الله.
وكيف يجوز الدعاء إلى الله لمن ليس عند الله، ولا هو لله، إنما قلبه عند نفسه، ونفسه مشغولة بنهمته وشهواته وأحواله؟! وإنما هذا لمن تفرغ عن نفسه، واشتغل بالله.
وأما قوله: ((يزيد في علمكم منطقه))؛ فإنه إذا نطق، نطق بآلاء الله، وتدبير الله، وصنع الله، فهذا أصل العلم، والعلم الذي في أيدي العامة، هو فرع العلم.
فأما الأصل: فهو عند هؤلاء الحكماء النجباء الذين فهموا عن الله، أولئك الذين تولى الله هدايتهم، وأولئك هم أولو الألباب.
قال له قائل: ما آلاء الله، وتدبير الله، وصنع الله؟!
قال: فأما آلاء الله؛ فهو ما أبدى من الهيبة ووحدانيته وفردانيته، كالجلال والجمال، والعظمة والهيبة، والكبرياء والبهاء، والسلطان والعز، والفخر، والوقار، فهذه صفات أبداها على قلوب الأنبياء والأولياء، فتمالكوا مع ذلك، واحتملته عقولهم، وما وراء ذلك مما لم يبده؛ لم يتمالكوا، ولا احتملته عقولهم.
وأما تدبيره: فما دبر من خلقهم من تراب الأرض، لا من نور، ولا من(3/160)
نار، ولا من ماء، ولا من ظلمة، ولا من ريح، ولا من حرٍّ، ولا من برد، ولكن من تراب، ثم جعل فيهم أرواحاً سماوية، ثم أعطاهم جوارح قوالب لتلك الأرواح، ثم اضطرهم إلى التربية والمعاش، ثم نقلهم إلى داره، ثم قيض لهم عدواً، وأزعجهم منها على حال الخطيئة، ثم ردهم إلى الأرض، ثم دبر لهم الرجوع إليه، ثم حال بينهم وبين الرجوع إليه إلا من باب الموت، أمر شيءٍ وأنكره وأثقله وأبشعه وأهوله، ثم هيأ لهم يوماً يحاسبهم، ويفتشهم، ويقتضيهم حقه، ثم جعل ممرهم إلى الجنة على متن النار، ثم أكرم وأهان، وأدنى وأقصى، وحرم وأعطى، وأبرز عدله، حتى قررهم في أماكنهم، ولم يظلم أحداً مثقال ذرةٍ، ثم أفضل على من شاء بجوده وكرمه ومنه.
فهذا تدبيره من أول بدء خلقه، ودبر لهم من العرش إلى الثرى قبل خلقهم، مرمةً لمعاشهم وحياتهم، ومرمةً لعبودته، وحجةً بالغةً لنفسه يوم القضاء بينهم، فمن يقدر أن يستقضي وصف هذا الذي دبر؟! إلا أن العارفين يصفون ما يتراءى لهم من ذلك بشعاع اليقين.
وأما صنعه: فأحوال العباد في الدنيا: كيف يفقر، وكيف يغني، ويعز ويذل، ويملك وينزع الملك، ويبتلي ويعافي، ويغير الأحوال ساعة فساعة؟
فالعلم الظاهر الذي في أيدي الخلق إنما يستبين بهذا العلم، وإنما يسيرون على الاستقامة بهذا العلم.(3/161)
فأما قوله: ((يرغبكم في الآخرة عمله))، فليس عمله ببديع، إنما هو ما يعمله العمال، ولكن على عمله نور، وعلى أركانه خشوع، وعلى تصرفه فيها صدق العبودية، مع البهاء والوقار، والطلاوة، والحلاوة، والمهابة؛ لأنه على المعاينة يعمل، ولأنه إنما يعامل الله بتلك الأعمال عبودة لا متاجرة، فإذا رآه الراؤون، تقاصرت إليهم أعمالهم، وهم في تلك الأعمال بأعيانهم، وليس لأعمالهم ذلك النور وتلك المهابة والحلاوة؛ لأنهم على الرغبة والرهبة يعاملون، وعلى الخوف والطمع.
وروي لنا عن بعض السلف، قال: لقي نبي من الأنبياء عابداً من العباد، فقال: إنكم -معاشر العباد- تعملون على أمر لسنا -معاشر الأنبياء- نعمل عليه، أنتم تعملون على الرغبة والرهبة، ونحن نعمل على الشوق والمحبة.
فهذه معاملة أهل اليقين، الأنبياء بنبوتهم، والأولياء بولايتهم، يعاملون على المعاينة، وعلى الشوق والمحبة عبودةً له، قد شربت قلوبهم محبته، ومن لم يفتح له باب اليقين على قلبه، فإنما يعمل على الرغبة والرهبة؛ لأنه قد رغب في الجنة فارتغب، ورهب من النار فارتهب، فالوعد والوعيد نصب عينيه، إن عرض له عمل من أعمال البر فتثاقلت نفسه، وأبطأت في ذلك، مناها ما وعد الله، فيستعين بذلك على نفسه،(3/162)
حتى يقر بها، حتى تمضي وتنقاد، وإن عرض له ذنب، فرغبت نفسه، ودعته إليه، خوفها بما أوعد الله، فيستعين بذلك على نفسه، حتى يقمعها ويكفها، فهذا شأن أهل الوعد والوعيد.
وأما أهل اليقين: فإذا عرض برٌّ، طارت قلوبهم من الشوق إليه، والحب له، فعملوا لذلك البر على اليسر وطيب النفس، وإذا عرض لهم ذنب، عرقت جباههم من الحياء منه تكرماً وتعففاً، وهذا موجود في عبيده هاهنا، فشتان ما بين عبدين:
أحدهما: يعمل لمولاه من خوف وعيده، وحرمان وعده، ولولا خوفه من وعيده وحرمان وعده، ما عمل ذلك.
والآخر: يعمل لمولاه شفقةً على عمله، ونصحاً له وتذللاً وتخشعاً، وإلقاء نفسه بين يديه، ومحبة له، وشغوفاً به؛ لأنه لا يستوي هذان العبدان في دار الدنيا عند مولاهما أبداً، فكذلك شأن هذه القلوب عند الله.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال لعوف بن مالك الجشمي والد أبي الأحوص: ((أرأيت لو كان لك عبدان، أحدهما: يخونك ويكذبك، والآخر: يصدقك ولا يخونك، أيهما أحب إليك؟))، قال: الذي يصدقني ولا يخونني، قال: ((فكذلك أنتم عند ربكم)).(3/163)
632 - حدثنا بذلك عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزعراء، عن أبي الأحوص، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/164)
الأصل الخامس والمئة
633 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، قال: حدثنا ثابتٌ البناني، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: أصابتنا السماء ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب عن رأسه، حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه قريب عهدٍ بربه)).(3/165)
وهذا فعل المشتاقين، وأولاهم بالله أشدهم شوقاً إليه، وكلما ازداد العبد انتباهاً ويقظةً، ازداد شوقاً حتى يقلق ويكمد.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفته: أنه كان طويل الفكر، دائم الأحزان.
فهل كانت أحزانه إلا من الحبس عن اللقاء لقاء الصفاء؟ ولا يساوي لقاء القلوب والأرواح في الدنيا لقاء الأرواح والأجساد في الآخرة، ذاك لقاء الصفاء، فأعلاهم منزلةً، وأقربهم قرباً، وأعلمهم به، وأشدهم حرقةً في القلوب شوقاً، وأقلقهم بالحياة تبرماً، ينتظر متى يدعى فيجيب.
فكأنه صلى الله عليه وسلم وجد روحاً إلى ذلك المطر؛ بما وصف من حداثة عهده بربه، وكذلك يجد المشتاق إلى لقاء من غاب عنه، فهو قلق بمكانه، فإذا ورد عليه منه كتابٌ أو شيءٌ من آثاره، كان له فيه أنسٌ، وإليه استرواحٌ، وبه تلذذٌ.
وروي عن موسى -صلوات الله عليه-: أنه كان يخرج إلى طور(3/166)
سيناء، فربما ضاق عليه الأمر في الطريق، فيشق قميصه من شدة الشوق، والعجلة التي تأخذه.
قال الله –تبارك وتعالى اسمه-: {وما أعجلك عن قومك يا موسى. قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى}.
فروي عن قتادة في قوله: {وعجلت إليك}، قال: شوقاً إليك، وهو الذي حمله على سؤال الرؤية، لما سمع الكلام، قلق، وغلا شوقه بمراجله، وضاق به الأمر، ففزع إلى الرؤية؛، طمعاً لتسكين غليانه، فعلم الله -تبارك اسمه- أنه لا يحتمل ذلك، فأبى عليه، وألقى إليه عذره؛ بأن جعل الجبل دكاً.
يعلمه أنك لا تقدر على احتمال ذلك؛ لأن الجبل حجرٌ، وحديدٌ، وصخرٌ، وأنت لحمٌ، ودمٌ، فانظر إلى هذا الجبل، فإن استقر مكانه، فسوف تراني.
قال له: {لن تراني}، ولم يقل: لا أراك، يعلمه أنه لا يقدر، ولا يؤيسه أبداً.
634 - فحدثنا محمد بن رزام بن عبد الملك الأبلي، قال: حدثنا أحمد بن عطاءٍ الهجيمي، عن محمد بن نصيرٍ(3/167)
الواسطي، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {أرني أنظر إليك}، قال: ((قال الله: يا موسى! لن تراني، إنه لن يراني حيٌّ إلا مات، ولا يابسٌ إلا تدهده، ولا رطب إلا تفرق، إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسامهم)).
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقول في دعائه: ((أسألك الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك)).
635 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، عن حماد بن زيدٍ، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عمار ابن ياسرٍ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: ((أسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في خيرٍ، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين)).(3/168)
636 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا إبراهيم ابن موسى الطرسوسي، عن بقية، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن أبي الدرداء، عن زيد بن ثابتٍ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعل في دعائك: ارزقني لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك)).
وروي عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: أنه كان إذا مطرت السماء، أخرج ثيابه إلى المطر، وتجرد له، وقال: لتصيبني بركته.
فهذا مذهب غير ذلك، وبان تفاوت هذا القول من ذاك ملتمس البركة طالب للنفس شيئاً.(3/169)
الأصل السادس والمئة
637 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الحسين بن عيسى الطائي، عن ابن أبي فديكٍ، عن محمد ابن عثمان عن أبيه، عن حارثة بن النعمان: أنه جعل خيطاً من مصلاه إلى باب حجرته، وكان قد ذهب بصره، فيضع عنده مكتلاً فيه تمرٌ، وغير ذلك، فكان إذا سلم المسكين، أخذ من المكتل، ثم أخذ بالخيط حتى ينتهي إلى باب الحجرة، فيناول المسكين، فكان أهله يقولون: نحن نكفيك، فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن مناولة(3/171)
المسكين تقي ميتة السوء)).
قال أبو عبد الله: ففي مناولة المسكين خصلة تعلو الخصال، وذلك أن الله -تبارك اسمه- قد شرف المؤمن، وعظم شأنه، وشرف هذه الأمة من بين الأمم، وعظم شأنها، فكانت الأمم من بني إسرائيل صدقاتها قربانها، توضع، فتجيء نارٌ، فتقبله، وتترك ما لم يقبل منه، فيصير منهتك الستر، فأكرم الله هذه الأمة بفضل يقينها، أن جعل صدقاتها تؤخذ من أغنيائها، فترد على فقرائها، فيبقى النفع فيهم، وكانت نفوس الأولين لا تسخو إلا على عيان الأشياء وجهرها، حتى بلغ بهم ذلك إلى أن قالوا لموسى: {أرنا الله جهرةً}، كانت قلوبهم لا تستقر حتى ترى العيون.
وأيدت هذه الأمة بفضل اليقين، فعلموا أن الشيء إذا أعطوه لله، أن الله لا يضيعه، وعلموا من جوده وكرمه ما خفي على الأمم قبلنا، فلما أعطت هذه الأمة صدقاتها هكذا، تفضل عليهم الرب أن ولي أخذ صدقاتهم منهم، فلم يكلها إلى ملائكته، ولا إلى أحدٍ من خلقه.(3/172)
فقال في تنزيله: {هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات}، فلم يكل قبول توبتهم ولا أخذ صدقاتهم إلى أحد.
ولهذا: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكل خصلتين إلى أحدٍ، فكان يمشي بالصدقة إلى المسكين، ويستقي لوضوء الماء، ولا يكله إلى أحد)).
638 - حدثنا بذلك الجارود، قال: حدثنا عمر بن هارون، عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينارٍ، عن العباس بن عبد الرحمن بن ميناء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/173)
639 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن أبي الحبحاب سعيد بن يسارٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده! ما من عبدٍ يتصدق بصدقةٍ حسنةٍ طيبةٍ، فيضعها في حقٍّ، إلا كانت تقع في يد الرحمن، فيربيها كما يربي أحدكم فصيله، أو فلوه، حتى إن التمرة واللقمة لتصير مثل الجبل العظيم، ثم قرأ: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}.(3/174)
640 - حدثنا صالحٌ، قال: حدثنا يحيى بن واضحٍ، عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينارٍ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن يتصدق بالتمرة أو عدلها من الطيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فتقع في يد الله، فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله، حتى تكون مثل الجبل العظيم))، ثم قرأ: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}.
641 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيمٍ، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن قتادة المحاربي، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: إن الصدقة لتقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، ثم قرأ عبد الله: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده}.(3/175)
642 - حدثنا إسماعيل بن نصرٍ، قال: حدثنا محمد ابن بشرٍ العبدي، قال: حدثنا أبو المنهال الطائي، عن علي ابن حسين: أنه كان إذا أعطى السائل شيئاً، قبله، ثم وضعه على يديه، فإنما قبله؛ لأنه علم من يأخذه.
قال أبو عبد الله: فتأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مناولة المسكين تقي ميتة السوء))؛ لأنه يصير بالمناولة في قرب الله، ومن وقع في قرب الله، كان له مأمناً، وكان في ذمته، فيوقى مصارع السوء.
وميتة السوء: أن يموت مصراً على المعصية، أو قانطاً من رحمته، أو ظالماً، أو غير تائب من ذنوبه، أو يفجأ بالموت على غير صحة، أو يختم له بسيء أعماله، أو يموت هدماً، أو غرقاً، أو حرقاً، أو لديغاً،(3/176)
أو ما أشبه ذلك، فمن كان في ذمة الله، وقي هذه الأشياء.
ومما يحقق ذلك: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من صلى الغداة، فهو في ذمة الله)).
فطلبنا وجه هذا: كيف خص رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة من بين الصلوات، فيه يصير في ذمة الله، فوجدنا عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً}، قال: ((يشهد الله وملائكته، وذلك أنه يتنزل إلى السماء الدنيا في الساعة الآخرة من الليل، فيقول: هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ حتى ينفجر الصبح، فإذا انفجر الصبح، وصليت الفجر، شهدها الله وملائكته)).
643 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا يحيى بن بكيرٍ المصري، قال: حدثنا الليث بن سعدٍ، عن زياد ابن محمد الأنصاري، عن محمد بن كعبٍ القرظي، عن فضالة ابن عبيدٍ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/177)
فإذا شهد العبد تلك الصلاة، شهد ما شهد الله له، فوقع في قربه، فصار في ذمته، فهذا مما يوافق بدءاً ما قلنا في شأن الصدقة.
ومما يحقق ما قلنا: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصدقة لو جرت على يد سبعين نفساً، لكان أجر آخرهم مثل أجر أولهم)).
معناه: أن هذه الأيدي كلها منتهية إلى الله تعالى بتقبل تلك الصدقة.(3/178)
الأصل السابع والمئة
644 - حدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: حدثنا هشام بن عمارٍ الدمشقي، قال: حدثنا عمرو بن واقدٍ، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، ولكن الزهادة أن لا تكون بشيءٍ مما في يدك أوثق منك مما في يد الله، وأن يكون ثواب المصيبة أحب إليه من أن لو بقيت المصيبة عنده، ولكل حقٍّ حقيقةٌ، ولا يبلغ العبد حقيقة الإيمان، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولكل حقٍّ(3/179)
حقيقةٌ، ولا يبلغ العبد حقيقة الإخلاص، حتى لا يحب أن يحمد في كل شيءٍ يعمله لله)).
645 - حدثنا عبد الله بن خلف بن موسى البلخي، عن الوليد بن مسلمٍ، عن خالد بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(3/180)
ولم يذكر أبا ذر.
قال أبو عبد الله: فأصل الزهد هو الاستقلال.
يقال في اللغة: هذا شيء زهيد؛ أي: قليل، وإن استقل الشيء، دق في عينه، وحقره، وتهاون به.
وقال في قصة يوسف -صلوات الله عليه-: {وكانوا فيه من الزاهدين}؛ أي: من المتهاونين به، والمستحقرين له.
فالزاهد دقت في عينه الدنيا بما فتح له من الغيب، فرأى الآخرة ببصر قلبه، فاستقل هذه، وتهاون بها، وخلق مضطراً محتاجاً إلى القوت، وقد ضمن له رزقه، فوثق بضمانه، وصار هذا الذي في يده كالأمانة، كأنه أودع وديعة، ووكل بحفظها على نوائب الحق لينفقها هناك، فضمان الرب لعبده الرزق كان أوكد عنده، وأعظم شأناً من أن يلتفت إلى ما في يده، فيركن إليه أن هذا رزقي، فإنما قدر على هذا بما فتح له في الآخرة بصره، حتى قدت الدنيا في جنبه، وشخص بصره على ضمان الرزاق في رزقه عند الحاجة إليه.
فأما من لم يفتح له بصره في الآخرة، وعظم قدر الدنيا عنده، فمتى ما وجد منها شيئاً، اجتذبت مخاليبه فيها، وتشبثت، وعلق قلبه بها، ولم يستبر على قلبه ضمان الرزق، وكلما ذكر الفقر، وأوجس في نفسه خيفة، ركن إلى ما في يده، فهذا، وإن جانب الدنيا، وأكل النخالة(3/181)
والحشيش، فليس بزاهد، إنما هو متزهد، يتكلف الزهد بجوارحه.
وكذلك في المصائب يكون ثواب المصيبة آثر عنده من أن لو بقي عنده ذلك الشيء؛ لأن الشيء من الدنيا، وقد دق في عينه، والثواب من الآخرة، وقد عظم في عينه.
وأما قوله: ((ولا يبلغ العبد حقيقة الإيمان، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه))، فهذا علم اليقين.
فالموحدون كلهم يعلمون هذا، وذلك علم اللسان، وحجة الله على ابن آدم، يخرجه على ألسنتهم إيمانهم، فبلسان التوحيد ينطقون، فلا تستقر قلوبهم مع هذه الكلمة، حتى يفر من الذي يتخوف أن يصيبه فراراً يعصي الله فيه.
وأما أهل اليقين: فاستقر هذا العلم في قلوبهم، فانشرحت به صدورهم، فكانوا في النوائب كرأي العين؛ أي: إن هذا الذي ناب قد كان في سابق العلم، ثم يصور عندهم كونه في اللوح مسطوراً، فاستقرت نفوسهم لعلم يقينهم بذلك.
فهذا عبد قد استنار في صدره وقلبه إيمانه، فهو حقيقة الإيمان، والإيمان في القلب والصدر بينة، ولا يعلم ما في القلب إلا الله، فإذا خرج نوره إلى الصدر، انشرح، فذلك هو حقيقة الإيمان، فظهر على الجوارح.
وأما حقيقة الإخلاص: فهو أن ينفي عن قلبه وصدره حب المحمدة، فقد يكون مخلصاً لله في أموره، يعملها من أعمال البر، وهو يجاهد نفسه في ذلك حتى يصفيها ويخلصها، وليس ذلك حقيقة الإخلاص.(3/182)
إنما حقيقة الإخلاص: أن يزول عنه حب المحمدة والثناء، وذلك أن النفس إنما تحب المحمدة والثناء؛ لينفذ قوله، وينال نهمته في دنياه من خلقه، وهو يقول بلسان التوحيد: هذا كله من الله، ثم يراه الله معلق القلب بخلقه، طامعاً فيما لديهم، فهو غير ناجٍ من التزين والترائي، يريد بذلك التحمد عندهم؛ لتنال النفس ما تطمع فيه؛ لأن النفس قد علمت أن المذموم ساقط القدر، وفي سقوط القدر حرمان الحوائج والنوال.
وأن المحمود رفيع القدر، وفي علو القدر وصولٌ إلى النهمات، وإسراف على الأمور، ودرك الأشياء، فهذا عبد لم يبلغ حقيقة الإخلاص في العبودة لله، فإذا استنار صدره بالإيمان، وتعلق قلبه بالله، نجا من الخلق، ومن الأسباب، وشخصت آماله إلى خالقه، فيتقي الخلق بما تصور في صدره بما تنطق الألسنة به من قوله: لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.(3/183)
الأصل الثامن والمئة
646 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا بهز بن حكيمٍ، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها، وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك)). قلت: أرأيت لو كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ((إن استطعت أن لا ترينها أحداً، لا ترينها)). قلت: أرأيت لو كان أحدنا خالٍ؟ قال: ((فالله أحق أن يستحيا منه)).(3/185)
647 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيعٍ البصري قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا بهز بن حكيمٍ، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
648 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن بهزٍ، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله: فالعورة خلقت من الآدمي مستورة، وقد كان يستر عن آدم -صلوات الله عليه- وحواء، وعاشا، ودخلا الجنة، ولم يعلما بذلك، حتى أكلا من الشجرة، فانكشفت سوءاتهما، فأمرا بالستر حين نزلا.
قال الله -تبارك اسمه-: {ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما}.
وقال: {ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما}، فسميت سوءة، وسترت عن آدم عليه السلام.(3/186)
وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنه قال: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه، ثم قال له: هذه أمانة قد خبأتها عندك.
649 - حدثنا بذلك صالح بن عبد الله، قال: حدثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن أبيه، عن عبد الله ابن عمرٍو رضي الله عنهما: أنه قال: أول ما خلق الله -تبارك وتعالى- من الإنسان فرجه.
وكان أصل الخلقة مستوراً، فلما خرجا من ستر الله بالخطيئة، احتاجا إلى أن يستراه.
فالزوجة وملك اليمين مطلق لك في ملامستهما، فكذلك النظر إليهما، إلا أن الحياء يحجب صاحبه عن ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقى أن يرى أحدٌ من نسائه عورته.
وروي عن عائشة -رضي الله عنها-: أنها قالت: ما رأيت ذاك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قط.(3/187)
فهذا وجه الأدب، ومحاسن الأفعال، وأما الإذن، فقد أذن فيها.
وقال في تنزيله: {والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}.
وأما إذا كان خالياً، فتعرى، ولم يحتشم عن ذلك، فهذا قلب غافل عن الله، لم يعلم بأن الله يرى علم اليقين.
وإذا سألته: هل يراك الله؟ اقتضى إيمانه أن يقول: نعم، يراني من غير أن أشك فيه، أو أمتري، ثم لا يأخذه الحياء، ولا يثقل ذلك عليه؛ لأن الصدر لم يستنر بنور ذلك، فيرى قلبه أن الله يرى، فعندها يصير كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني لأدخل الخلاء، فأقنع رأسي حياءً من الله.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا اغتسل، اغتسل في بيتٍ مظلمٍ، وحنى ظهره، يستحيي أن يقيم صلبه.
فإنما حملهم على ذلك الحياء، وإنما توخى البيت المظلم؛ لئلا يرى نفسه، فيكون أهون عليه.(3/188)
الأصل التاسع والمئة
650 - حدثنا العلاء بن مسلمة الرواس، قال: حدثنا إبراهيم الطالقاني، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن عاصمٍ بن سليمان، عن حفصة بنت سيرين، عن أنس ابن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحسن إلى يتيمٍ، أو يتيمةٍ، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين))، وقرن بين أصبعيه.(3/189)
651 - حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، عن صفوان بن سليمٍ، عن أنيسة، عن أم سعيدٍ بنت مرة الفهرية، عن أبيها، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنا وكافل اليتيم له أو لغيره إذا اتقى الله في الجنة كهاتين، أو كهذه من هذه)).
قال أبو عبد الله: إنما برز هذا على سائر الأعمال؛ لأن اليتيم قد افتقد تربية أبويه، وهي أعظم الأغذية، فحرم شفقة الأم وبرها، وتربيتها، وريحها، وحجرها، وبر الأب، ولطفه، وتعاهده، ومصالح أموره، والله تعالى ولي ذلك كله، يجريها على الأسباب، فإذا قبض أبويه، فهو الولي لذلك اليتيم، في جميع أموره، يبتلي به عبيده؛ لينظر أيهم يتولى ذلك.
652 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن طلحة، عن عطاءٍ، قال: قال موسى -صلوات الله(3/190)
عليه-: يا ربّ أتميت أبوي الصبي، ومن لا حيلة له، وتدعه هكذا؟ قال: يا موسى! أما ترضى بي كافلاً.
ومن أسمائه: الوكيل، والكفيل، فإنما توكل لعباده، وتكفل لهم بما يحتاجون إليه، وهو حسبهم.
فاليتيم: كافله خالقه؛ لأنه قد قطع عنه من كان قيض له، وطوى عنه أسبابه، فمن مد يده إلى كفالة هذا اليتيم، فإنما ذلك عمل يعمله عن الله، لا عن نفسه، والرسل من شأنهم أنهم يعملون عن الله، يؤدون عن الله حججه إلى خلقه، وبيانه، وهدايته، والذي يكفل اليتيم، يؤدي عن الله ما تكفل به، فلذلك صار بالقرب منه في الدرجة، وبالقرب منه في الموقف، وليس في الموقف بقعة أروح، ولا أنور، ولا أطيب، ولا آمن من البقعة التي يكون بها محمد صلى الله عليه وسلم، وسائر الرسل -صلوات الله عليهم-، فإذا نال كافل اليتيم القرب من تلك البقعة، فقد سعد جده.
وإن سائر الأعمال يعملها العمال عن أنفسهم، وليس فيها السبب الذي وصفنا، فإذا صام، أو تصدق، أو حج، فإنما يعمل ذلك عن نفسه.
ألا ترى أن الجهاد قد فارقهم؛ لأنه عن دين الله يذب، والكلمة العليا تنصر، فهم على أثر الأنبياء يومئذ، وبالقرب منهم.
وقد ذكر الله في تنزيله في شأن العفو، فقال: {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ(3/191)
مثلها}، فبين القصاص، وأذن فيه، ثم ندب إلى العفو، وأعظم شأنه، فقال: {فمن عفا وأصلح بأجره على الله}.
فلم يجد شيئًا من أعمال البر أجره مضموناً في عاجل الدنيا غير العفو، فطلبنا أصله من أين صار هكذا، فوجدنا أن الرجل إذا ظلم، وقع قلبه في سجن المعصية، فصار محجوباً عن الله، فهو، وإن تاب، فغير مقبول منه، حتى يتحلل المظلوم، فيهب منه ظلامته، وإذا وقع القلب في ظلمة، فهو في خذلان من ربه، خبثت نفسه، وكسل، وذهبت قواه، ونزعت منه البركة، وعمي عن رؤية الحق، وجاءته مصائب تترى في دينه، فلا يزداد إلا شراً وتردياً، فإذا رحمه هذا المظلوم، لما يعلم من فساد قلبه، وأنه مسجون بسببه، كره ذلك له من أجل أنه عجز عن طاعة مولاه، وضاعت الحقوق بسببه، فوهب له ظلامته.
فإنما قيل: حلله؛ لأنه كان في وثاقه، فتخلص القلب من تلك الظلمة والسحائب التي تراكمت على قلبه، فسأل الله مغفرته، فهذا قد عفا وأصلح ما فسد من قلبه بسؤال ربه المغفرة له، فإنما عمل لله لا لنفسه؛ لأنه أطلق قلبه من وثاق ظلامته حتى توصل إلى أن يعبد الله.(3/192)
فأعلم الله العباد أن أجره على الله، وسائر الأعمال تحصل يوم القيامة، فما تقبل منها، أثيب عليه جزاء من الله لعبده وثواباً، والعفو أجرته مضمونة للعبد في عاجل الدنيا.
قال الله -تبارك اسمه-: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، فسمى سؤال المغفرة له من عزم الأمور.
فقد أخذ هذا الذي عفا، وطلب له المغفرة بحظ من أمر أولي العزم من الرسل، وكان من أولي العزم من الرسل من ضربه قومه، حتى يسيل دمه على وجنته، فإذا أفاق قال: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
653 - حدثنا إسماعيل بن نصر بن راشدٍ، قال: حدثنا محمد بن بشرٍ العبدي، قال: حدثنا أبو رجاءٍ الجزري، عن الحسن، قال: ينادي منادٍ يوم القيامة: ألا من كان له على الله أجرٌ، فليقم، فلا يقوم إلا من عفا.
654 - حدثنا عمرو بن علي الصيرفي، قال: حدثنا(3/193)
عبد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: حدثنا مبارك بن فضالة، عن أبي عمران الجوني، عن ربيعة الأسلمي، قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ((يا ربيعة! ألا تزوج؟))، قلت: يا رسول الله! أريد ذاك، وما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني منك شيء، فتركني ما شاء الله، ثم قال: ((يا ربيعة! ألا تزوج؟))، فقلت له مثل قولي الأول، ثم قلت: والله! لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما يصلحني في أمر دنياي وآخرتي، والله! لئن قال لي: يا ربيعة! ألا تزوج؟ لأقولن: بلى يا رسول الله! مرني بما شئت؟ فقال لي: فقلت: بلى يا رسول الله، فقال: ((ائت بني فلانٍ -حياً من الأنصار-، فقل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوا ربيعة فلانة)).
فأتيتهم، فقالوا: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله! لا يرجع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته، فرحبوا بي، وأكرموني، وألطفوا بي، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً، فقال لي: ((يا ربيعة!(3/194)
ما لك حزيناً؟))، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أتيت أكرم قوم، فرحبوا بي، وأكرموني، وألطفوا بي، من أين لي الصداق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يا بريدة! اجمعوا له وزن نواةٍ من ذهبٍ))، فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذهب بها إليهم، وقل: هذا صداقها))، فذهبت بها إليهم، وقلت: هذا صداقها، فقبلوا ورضوا، وقالوا: كثير طيب، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً، فقال: ((ما لك يا ربيعة حزيناً؟))، قلت: يا رسول الله! أتيت أكرم قوم، فقبلوا ورضوا، وقالوا: كثير طيب، من أين لي الوليمة يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجمعوا له في ثمن شاةٍ))، فجمعوا له، فاشتروا لي كبشاً سميناً ضخماً، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((اذهب إلى عائشة، فقل لها تبعث بما كان عندها من طعامٍ))، فانطلقت إلى عائشة -رضي الله عنها-، فقلت لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إليك تبعثين بما كان عندك من طعام، فقالت لي: خذ ذاك المكتل، فيه تسعة آصع من شعير، والله! ما أصبح في بيتنا طعامٌ غيره، فأخذته، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اذهب به إليهم، وقل: ليصبح هذا عندكم خبزاً))، قال: فانطلقت به وبالكبش، فأخذوا الطعام، وقالوا: اكفنا أنت(3/195)
الكبش، قال: فجاء معي ناس من أسلم، فاجتمعنا على الكبش، فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأصبحت عروساً، فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أعطاني أرضاً، وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا حتى اختلفت أنا وأبو بكر في نخلة بيننا، فقلت: هي من أرضي، فقال أبو بكر: هي من أرضي، فقال لي أبو بكر كلمة كرهها بعد ذلك، فقال لي: رحمك الله، رد علي مثلها، حتى تكون قصاصاً، قلت: لا أرد عليك، قال لي: رحمك الله رد علي مثلها، حتى تكون قصاصاً، قلت: لا، قال: لأستأذنن عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلقت أتبعه، وجاء ناس من قومي معي، فقالوا: هو الذي قال لك: ففيما يستأذن عليك، قلت: أتدرون من هذا؟ قالوا: لا، قلت: هذا أبو بكر الصديق، وهذا ثاني اثنين، ارجعوا لا يلتفت فيراكم معي تنصروني عليه، فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره، فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغضبه، فيغضب الله لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهلك ربيعة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلي،(3/196)
فقال: ((يا ربيعة! ما لك والصديق؟))، فقلت: يا رسول الله! كان بيني وبينه اختلاف في نخلة، فقال لي كلمة كرهها بعد ذلك، فقال لي: ردها علي حتى تكون قصاصاً، فقلت: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تردها عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكرٍ))، قلت: غفر الله لك يا أبا بكر، فولى أبو بكر رضي الله عنه يبكي)).(3/197)
الأصل العاشر والمئة
655 - حدثنا العلاء بن مسلمة الرواس، قال: حدثنا عمر بن يونس اليمامي، عن عكرمة بن عمارٍ، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لي حوضاً ما بين عدنٍ وعمان، آنيته عدد نجوم السماء، له ميزبان: أحدهما: من ورقٍ، والآخر: من ذهبٍ، يمدانه من الجنة، لا يرد عليه من كذب به)).(3/199)
قال أبو عبد الله: فالحياض يوم القيامة للرسل، لكلٍّ على قدره، وقدر تبعه، وهو شيء يلطف الله به عباده، فإنهم تخلصوا من تحت يدي قابض الأرواح قد أذاقهم حرارة الموت، وطالت مدتهم في اللحود، ونشروا للهول العظيم، والغوث لأهل التوحيد من الله مترادف، أغاثهم يوم اللوح، فأثبت أسماءهم بالولاية، ونقلهم في الأصلاب وعينه ترعاهم، كلما أراد إهلاك أحدهم، أخرجه من صلب إلى قالب، حتى أداه إلى آخر قالب، ثم أنزله إلى الدنيا، فرباه، وهداه، وهيأه، وهيأ له، وكلأه حتى ختم له بما ابتدأه، فهذا غوثه له في كل وقت وموطن، فلما أذاقه الموت المرير، وحبسه في مدفنه مع البلاء الطويل، ثم أنشر بدعوة واحدة، فبعثه إلى موقف عظيم بين الجنة والنار.
فمن غوثه إياه أن جعل الرسول الذي أجابه فرطاً له، قد هيأ له مشرباً يروى منه، فلا يظمأ بعدها أبداً، ويسعد فلا يشقى بعدها أبداً، وينعم فلا ييأس بعدها أبداً، فمن لم يرد عنه إذا دنا منه، وسقي، فقد استقر في جوفه ما حرمت النار عليه، ثم ينصب الصراط للجواز عليه.
وروي في الخبر: أن المدد لهذا الحوض من الكوثر الذي أعطاه الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالمنة.(3/200)
656 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا سلمة بن عثمان، عن أبيه، قال: حدثني عدي بن ثابتٍ الأنصاري، قال: حدثني زر بن حبيشٍ، قال: حدثني أبي ابن كعبٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول من يدعى يوم القيامة أنا، فأقوم فألبي، ثم يؤذن لي في السجود، فأسجد له سجدةً يرضى بها عني، ثم يأذن لي، فأرفع، فأدعو بدعاءٍ يرضى به عني))، فقلنا: يا رسول الله! وكيف تعرف أمتك يوم القيامة؟ قال: ((يقومون غراً محجلين من آثار الوضوء، فيردون على الحوض ما بين بصرى إلى صنعاء، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك، فيه، من الآنية عدد نجوم السماء، من ورده، فشرب منه لم يظمأ بعده أبداً، ومن صرف عنه، لا يروى بعده أبداً، ثم يعرض الناس على الصراط، فيمر أوائلهم كالبرق، ثم يمرون كالريح، ثم يمرون كالطرف، ثم يمرون كأجاود الخيل والركاب،(3/201)
وهي على كل حالٍ، وهي الأعمال، والملائكة جانبي الصراط يقولون: رب سلم سلم، فسالمٌ ناجٍ، ومخدوشٌ ناجٍ، ومرسلٌ في النار، وجهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العالمين ما شاء أن يضع، فتزوى وتنقبض، وتغرغر كما تغرغر المزادة الجديدة إذا ملئت، وتقول: قط قط، قط)).
معنى قوله: قط؛ أي: حسب.(3/202)
الأصل الحادي عشر والمئة
657 - حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، قال: حدثنا محمد بن الحسن الأسدي، قال: حدثنا أبو شيبة، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: لما قبض إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه))، فأتاه، فانكب عليه وبكى.
قال أبو عبد الله: فالولد من ريحان الله، فيشمه المؤمن، فيلتذ به.(3/203)
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه خرج وهو محتضنٌ أحد ابني ابنته، فقال:
((إنكم لتجهلون، وتجبنون، وتبخلون، وإنكم لمن ريحان الله)).
658 - حدثنا بذلك الجارود، قال: حدثنا سفيان ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن ابن أبي سويدٍ، عن عمر بن عبد العزيز، عن خولة بنت حكيم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكأنه أحب أن يتزود من ريحان الله عند آخر العهد به، وانكبابه عليه يدل على اشتمامه.
ولذلك قيل: ((ريح الولد من ريح الجنة)).
كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الرسول يفعل فعل المشتاقين إذا هاج به غليان الشوق إلى الله.
ألا ترى أنه كان إذا قطرت السماء، تجرد، وكشف عن رأسه، وأبرز، ثم يتلقاه بجسده، ويقول: ((إنه حديث العهد بربه)).(3/204)
ألا ترى أنه كان ينكب على الحجر الأسود، ويقول: ((هاهنا تسكب العبرات))؟
ألا ترى أنه كان يستبطئ جبريل في مجيئه، حتى قال: يا محمد! ما تتنزل الملائكة إلا بأمر ربك، فنزلت الآية على لفظه: {وما نتنزل إلا بأمر ربك}.
فانكبابه على إبراهيم عند إدراجه في أكفانه تزودٌ منه، وبكاؤه توجعٌ منه؛ لمفارقته من يشتمه ريحاناً من الله.
وإنما قيل: من رياحين الله، فنسب إلى الله؛ لأنه هبة الله، فالهبة منه: حشوها البر واللطف، وظاهرها: الابتلاء.
وقال في تنزيله: {يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور}.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أولادكم من هبة الله لكم، فكلوا من كسبهم)).
ووجه آخر: أنه بكى رحمة له؛ لأن أجساد الأموات إنما كرمت بالأرواح، وشرفت بالعبودة، فنظر إلى جسد خاوٍ قد فاته الروح والعبودة، فلا بالروح تمتع، ولا بالعبودة التذ.(3/205)
وروي في حديث عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((هذه رحمةٌ، ومن لا يَرحم لا يُرحم)).(3/206)
الأصل الثاني عشر والمئة
659 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا خلف بن خليفة أبو أحمد الأشجعي -وكان قد رأى عمرو بن حريث صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم-، عن حميدٍ الأعرج، عن عبد الله ابن الحارث، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: لما نزلت: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً}، قال أبو الدحداح الأنصاري: أو إن الله ليريد منا القرض؟ قال: ((نعم يا أبا الدحداح))، قال: أرني يدك يا رسول الله -بأبي أنت وأمي-، قال: فناوله يده، قال: فإن أقرضت ربي حائطاً فيه ست مئة نخلةٍ، قال: فجاء إليه، ونادى، وهو خارجٌ من الحائط: يا أم الدحداح! مرتين، قالت: لبيك، قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي.(3/207)
قال أبو عبد الله:
فالقرض: سفاتج الآخرة؛ بأن الله تعالى جعل هذا المال قواماً لمعاش ابن آدم، وجعل قوام الروح به، فأحبه الآدمي على قدر ما رأى من نفعه ومحله من الأشياء.
والمحبة: لازقةٌ بالقلب، وإنما سميت محبة؛ لأنها تخلص إلى حبة القلب شهوته، وهو باطن القلب، وإنما هما بضعتان: قلب، وفؤاد، فالقلب: ما بطن، والفؤاد: البضعة التي قد اشتملت على قلبه، وفي الفؤاد العين والأذن، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى}.
فنسب الرؤية إلى الفؤاد، ثم قد يجمعان في اسم واحد، فيقال للكل منه: قلب، كما قيل: نفس وروح، وقال في تنزيله: {الله يتوفى الأنفس حين موتها}. وقيل: قبض روحه، وخرجت(3/208)
روحه، فهما شيئان، وفي تمييز هذا كلام كثير، ومما يدل على ما قلنا: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أتاكم أهل اليمن ألين قلوباً، وأرق أفئدةٍ)).
660 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فوصف القلب باللين، والفؤاد بالرقة، وذلك أن القلب بضعة من(3/209)
لحم في بضعة أخرى، فالقلب: ما بطن منه، وهو البضعة الباطنة، والفؤاد ما ظهر منه، وفيه العينان، والأذنان، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} فنسب الرؤية إليه، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرقة.
ويقال في اللغة: خبز فئيدٌ، وهو خبز الملة، وهو على هذه الصفة خبزة في أخرى، كالغشاء لها ظهارة، فنور التوحيد في القلب بينه وبين الفؤاد، فشهوة النفس قد خلصت إلى حبة القلب، فلصقت به، فقيل: حبة، وذاك معدن الإيمان، والحكمة، والنور، ومستقر النور، وليس بموضع شهوةٍ؛ فإن الشهوة هي دنيا، وهي داء القلب، وسقم الإيمان.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((حبك الشيء يعمي ويصم)).
661 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا ابن المبارك، عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمدٍ الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حبك الشيء(3/210)
يعمي ويصم)).
فإذا خلص حب شهوة شيءٍ إلى القلب، فقد أعمى بصر القلب، وأصم أذنه؛ لأن القلب إنما صار بصيراً بالنور، وصار به سميعاً، فإذا خالطته ظلمة الشهوات، ودخان فورها؛ ثقل الأذن، وغشي البصر.(3/211)
ومن هاهنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان: ((قل: اللهم إني أسألك صحةً في إيمان)).
فإنما سأل الصحة من السقم، وسقم الإيمان ما خالطه من شهوة النفس.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإيمان حلوٌ نزه، فنزهوه)).
فلما كان هذا هكذا، وذكر الله في تنزيله: خروج العباد من أموالهم على وجوه، فقال: {وأنفقوا في سبيل الله} وقال: {تصدقوا}، وقال: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}.
وقال: {وءات ذا القربى حقه والمسكين}، وقال: {وإيتاء ذي القربى}، وقال: {ويطعمون الطعام على حبه}.
فذكر النفقة، وذكر الصدقة، وذكر الإيتاء، وذكر الإطعام، ففي كل ذلك إنما أشار إلى المساكين، وإلى سبيله، فلما صار إلى ذكر القرض؛ أشار إلى إقراضه دون خلقه، وذكر ثواب النفقة، فقال: {وما تنفقوا من خيرٍ يوف إليكم}، وقال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ}.(3/212)
وقال في شأن الصدقة: {ويكفر عنكم من سيئاتكم}.
وقال في شأن الإطعام: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم}.
فلما صار إلى ذكر ثواب القرض، قال: {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم}، فوعد المغفرة والتضعيف، ثم ذكر تضعيفه في آية أخرى، قال: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرةً}.
فذكر التضعيف بالكثرة، والكثير من الله لا يحصى، فوجدنا للقرض في كل مكان معنى زائداً في الاسم الذي سمي به؛ في مخرج الفعل، وفي مبتدئه، وفي مختتمه، وفي ثوابه، وفي الشرط الذي علق به، فقال: قرضاً حسناً، وليس لسائر هذه الأشياء هذا الشرط.
فأما اسمه:
فإن القرض: هو القطع، ومنه سمي المقراض؛ لأنه به يقطع الشيء اللاصق بالشيء، وليس منه، إذا قرض بالمقراض.
فإنما يحسن قرضه، إذا قرضه من أصله قرضاً، لا يبقى هناك شيءٌ ولا ينهك في قرضه حتى يأخذ من أصله شيئاً أكثر من الزيادة اللاصقة(3/213)
به، فهذا القرض الحسن ليس بمنهك ولا مقصر.
فكذلك هذا الشيء الذي لصقت شهوته ومحبته بالقلب، فإذا صرفه إلى نوع من أنواع البر، فقد فرض محبته من قلبه، فإنه قد فارقه ملكاً، وأخرجه إلى ملك غيره، فإذا أعطى، وعلى قلبه كراهة الإعطاء، وعسره، فقد قطعه، وبقي هناك شيء فلم يستأصله، وإذا أعطى، وانتظر الخلف، والثواب، فقد شخصت عيناه إلى محبة شيءٍ، هو أعظم من الذي أعطى، وإلى ما يدق هذا في جنب ما طمع فيه، فقد أنهك القطع.
فإذا أعطى لربه، فإنما يعطيه عطاء لا يتبع نفسه العطية، ولا الخلف منها، ولا الثواب عليها، فإن الله عز وجل ابتلى العباد بما أعطاهم من الدنيا، ثم سألهم منها بعد إذ ولجت لذة منافعه قلوبهم، محنةً لسرائرهم، فمن أسكرته لذة هذه المنافع؛ فإنما أسكرت عقولهم عن الله، فصارت فتنةً عليهم.
فإن أعطى كرهاً، لم تصف عطيته، وإن أعطى على طمع ثوابٍ، أو خلفٍ منها، لم تصف عطيته، وإنما تصفو: إذا أعطاه عطاء من كان الشيء عنده بأمانه، فلو أن رجلاً أودع آخر وديعة كان حفظها مؤنة عليه، ولو استردها، اغتم ذلك منه، وتسارع إلى ردها، ولا يقوى على هذه الخطة إلا أهل الصفوة، وهم أهل اليقين، والمقربون السابقون؛ لأن الأشياء عندهم عواري وودائع، قبلوها عن الله بقلوبهم، وأمسكوها لله على نوائب حقوقه، قد سقط عن قلوبهم قدر الدنيا وما فيها، وولجت قلوبهم(3/214)
عظمة الله، فدقت الدنيا في أعينهم، فإذا أعطوا منها شيئاً، فإنما هي عندهم أمانة، خرجوا منها إلى الله في وقت يأتيه الحق، فهم أمناؤه وخزانه في أرضه أمناً، فلم يخونوا في شأن أرواحهم، ينتظرون دعوته متى يجيئهم رسوله الموكل بالأرواح، فيسبحوا بأرواحهم طائرين إليه، وأقوى اللذات في الدنيا الحياة، وابن آدم أشد فرحاً بها من سائر الأشياء، فلن تذهب بهذه اللذة منهم إلا وجود لذة لقاء الله، ولن يذهب بهذا الفرح منه إلا الفرح بلقاء الله، فمن أجل ذلك سمحوا وجادوا بأرواحهم، ولن يتلكؤوا، ولا ترددوا في ذلك، وخزانه في أرضه قد ماتت شهوات نفوسهم عن جميع حطامها، وإمساكها حرصاً، وعدةً، والدنيا عندهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثل الدنيا: كمثل راكبٍ يستظل شجرةً، ثم راح منها)).
وكما فعل أبو بكر رضي الله عنه حيث حثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فأتى بماله كله، فقال: ((ما تركت لأهلك يا أبا بكرٍ؟))، قال: الله ورسوله.
فالمستغني بالله لا بالمال هكذا قوله، وإنما يؤدي بلسانه عما في ضميره، فمن أعطى العطية، وغناؤه بالله، لم تشخص عيناه إلى الخلق والثواب، ولم يكن عليه في وقت الإعطاء عسرٌ، ولا كراهة، فهذه عطية الأولياء ونفقاتهم، فحث الله العباد على أن يقرضوا قرضاً حسناً، كقرض(3/215)
الأولياء والأمناء والخزان، وسائر العطايا إنما هي صدقة وإطعام ونفقة، فباين هذا سائر العطايا بوناً بعيداً.
ومما يحق ذلك ما ذكر في حديث [أبي] الدحداح أنه قال: ارني يدك يا رسول الله، فإنما قال: أرني يدك يا رسول الله؛ ليصفق على يده بالعطاء؛ لأن الرسول فيما بينه وبين ربه.
ألا ترى إلى قوله: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم}. فقد بايع الرسول، ومن بايع الرسول، فقد بايع الله، ومن أعطى الرسول، فقد أعطى الله، فالرسول: ولي الله في الأرض، يتولى قبض ما يعطى لله، حتى يضعه حيث يأمره الله، ثم لما صار إلى الحديقة، لم يدخلها، فأخرج عياله منها، وجلا عنها، وقال: إني أقرضته ربي، فإنما توقى دخولها عندنا -والله أعلم- مخافة أن تتبعه نفسه شيئاً مما ذكرنا، ولم يأمن نفسه، فاجتنب دخولها، فلم يكن هذا إلا وفي النفس شيء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كم من عذقٍ مذللٍ لأبي الدحداح في الجنة!)).(3/216)
فإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فيما نرى والله أعلم؛ أن الله ذكر الأبرار في تنزيله، فوصف أفعالهم وأقوالهم وثوابهم، فقال: {إن الأبرار يشربون من كأسٍ كان مزاجها كافوراً}، ثم وصف أفعالهم، فقال: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً. ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}، فوصف الله ثوابهم، فقال: {ودانيةً عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً}.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الشجرة طولها مسيرة مئة عامٍ، فتذلل لصاحبها حتى ينال قطف ثمرها على سريره، إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً))، ونزلت: {قطوفها دانيةٌ}.
وروي في حديث: أن المشركين تعجبوا عند نزول هذه الآية، فأنزل الله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}.
معناه: أنهم لا ينظرون إلى قوائم الإبل، وأنهم لا يصلون إلى ركوبها، فقد ذللتها لهم، وسخرتها لهم، حتى تستنيخ لهم، فيحملون عليها، ويركبونها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كم من عذقٍ مذللٍ لأبي الدحداح في الجنة!))، فإن ذكر ثوابه في الجنة من هذا الذي وصف في الآية.
وأما عطية المقربين وصدقاتهم وقرضهم ربهم، فقد صار شيئاً واحداً(3/217)
لا تمييز فيه؛ لأن قلوبهم في تلك الأفعال لله الواحد القهار في وحدانيته يعبدونه، ليس على قلوبهم غيره، وإنما تطير الأشياء وذكر النفس على القلب إذا وصل إلى وحدانيته، فانفرد القلب هناك في خلوته، فهو الذي قد حيي به، فذكر الله عطيتهم في تنزيله فقال: {فأنذرتكم ناراً تلظى. لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى} إلى قوله: {ولسوف يرضى}.
فأخبر أن من يؤتي ماله يتزكى؛ أي: يتطهر، فإن محبته إذا ولج القلب سقم الإيمان، وإذا سقم الإيمان، تدنس القلب، وإذا تدنس القلب، وسخت الجوارح.
ثم قال: {وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى}؛ أي: ليس يعطي لمكافأة، ولا لإحراز منفعة في دنياه، ثم قال: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}؛ لأن الرب في لغة العرب المالك، فكل من ملكك فهو ربك.
ألا ترى إلى قول يوسف -صلوات الله عليه-: {معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي}؛ يعني به: مالكه الذي اشتراه، وهو عزيز مصر.
فمن ملكته نفسه، فهو ربه، فإنما قيل: الأعلى؛ لأنه هو المالك الأعلى الذي يملك ولا يُملك، ثم يملك عليه من نفسه والآدميين، ولذلك قال: {سبح اسم ربك الأعلى}.(3/218)
وإنما قيل: الأعلى؛ لأن الآدمي قد اتخذ رباً من دونه؛ أي: أطاعه كأنه مالك له، وهو قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم الطائي حين سأله عن هذه الآية: ((أما إنهم لم يصلوا لهم، ولا صاموا، ولكن أطاعوهم فيما استحلوه مما حرم الله عليهم)).
فالأصل في ذلك: أن كل من ملكك في اللغة يسمى رباً، ويقال: ربه يربه، فهو رابٌّ كما يقال: ملكه يملكه، فهو مالك، وإنما هو في الأصل: رابٌّ، ثم أسقطوا الألف ليخف، فقالوا: رب، كما قالوا: بارٌّ، وبرٌّ، فأخبر في قوله: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي: ليس للنفس في هذه العطية نصيب، لا من طريق الثواب، ولا من الخلف، إنما(3/219)
يبتغي وجهه فقط، ثم قال: {ولسوف يرضى}؛ أي: يبلغ نهاية منيته.
وقال في آية أخرى: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله}، وهذا ابتغاء مرضاة الله، وإن محبة المال ضائرة مفسدة للقلب، واسمه دليل على فعله؛ لأنه ميال بالقلوب والنفوس عن الله، وعن الدار الآخرة، وعن العبودة.
وقد ذكر الله شأن من جمعه في غير موضع، فردده فقال: {كلا إنها لظى. نزاعةً للشوى. تدعوا من أدبر وتولى. وجمع فأوعى}. وقال: {وتحبون المال حباً جمًّا. كلا إذا دكت الأرض دكاً دكا} الآية، وقال: {الذي جمع مالاً وعدده. يحسب أن ماله أخلده}.
وردد آية النفقات والإطعام في غير آية؛ لأنه أشد على الإنسان والنفس وأنكد، فقال: {وآتى المال على حبه}، {ويطعمون الطعام على حبه}، وقال: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.
وقد وصف الله الإمساك في تنزيله، فقال: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً}. فهذا طبع الآدميين إلا من اختصه الله، فجبله على السخاوة، وهو طبع الأولياء.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما جبل الله ولياً له إلا على السخاء)).
والسخاء هو سماحة النفس وطيبها، وسقوط قدر الشيء عنها، وهو(3/220)
كرم النفس إذا كانت تربتها لينة كما عجنت، كان طيباً حراً، فلما صارت لحماً ودماً ونفساً، كانت كريمة منقادة سلسلة، مفقودة الكزازة والصعوبة والفتور، يخشى الإنفاق، حتى تحمله الخشية على منع الحقوق، فإذا اتقى الله، وخاف وعيده، عمل فيه الخوف، حتى تضعف فيه خشية الإنفاق، فإذا أنفق، أنفق عن جهد وكره.
662 - حدثنا نصر بن عليٍّ، قال: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيسٍ، عن عبد العزيز بن أبي روادٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا أعجبه الشيء، أخرج منه إلى الله، وكانت له سريةٌ، وكان بها معجباً، فأعتقها، وزوجها بعض مواليه، فولدت له غلاماً، فكان ابن عمر رضي الله عنه يضم ولدها إلى نفسه، ثم يقبله، ثم يقول: واهاً! إني أجد منك ريح فلانةٍ -يعني: جاريته-، وكان راكباً بعيراً له، فأعنق، فأعجبه سيره، فقال: إخ إخ، فنزل، ثم قال: يا نافع! جلله، وألحقه بالبدن.(3/221)
الأصل الثالث عشر والمئة
663 - حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، قال: حدثنا موسى بن هلالٍ العبدي، عن عبد الله العمري، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبري، وجبت له شفاعتي)).
قال أبو عبد الله:
فزيارة قبره صلى الله عليه وسلم هجرة المضطرين، هاجروا إليه، فوجدوه مقبوضاً،(3/223)
فانصرفوا، فليس بمحقوق أن يجنبوا، بل يعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ذلك عنهم، فيوجب لهم شفاعته، يقيم حرمة زيارتهم، فإنما الشفاعة لمن أوبقته ذنوبه.
فأما المتقون الورعون، وأهل الاستقامة، فقد كفاهم ما قدموا عليه، فإنما نالوا تقواهم وورعهم برحمة شاملة، فتلك الرحمة لا تخذلهم في مكان.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((شفاعتي للمتلوثين المخلطين بالمتدنسين، فأما المتقون، فقد كفوا أنفسهم)).
وللشفاعة درجات: كل صنف من أهل الدين يأخذون حظاً منها على حياله؛ المتقون، والورعون، والعابدون، والزاهدون، والأولياء.
وأما شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فتلك شفاعة لا تشبه شفاعة غيره من الأنبياء والأولياء؛ لأن شفاعة غيره من الأنبياء والأولياء من الصدق والوفاء والحظوظ، وشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من الجود من بدء القدرة، ومن سر القدر.(3/224)
ألا ترى أنه قال: ((إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ليرغب إلي يوم القيامة)).
وفي حديث آخر: ((قد يحتاج)).(3/225)
الأصل الرابع عشر والمئة
664 - حدثنا نصر بن عليٍّ، قال: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار، قال: حدثنا أبو عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صل الصلاة لوقتها، فإن أتيت الناس، وقد صلوا، كنت قد أحرزت، وإن لم يكونوا صلوا، كانت تلك لك نافلةً)).(3/227)
665 - حدثنا أبو الأشعث العجلي، قال: حدثنا حماد ابن زيدٍ، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال أبو عبد الله:
فالوقت ممدود، فكلما صلاها قبل مضي آخرها، فهو لوقتها، وإنما جرى ذكر هذا الأمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أصحابه بما يكون بعده من الأحداث والفتن، حتى قال: ((سيكون بعدي أمراء، يميتون الصلاة، ويصلونها لغير وقتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحةً)).(3/228)
فقد أخبر أنهم يصلون لغير وقتها، ومن صلاها في آخر وقتها، فقد صلاها في وقتها؛ لأن ذلك الوقت هو وقت للصلاة، وقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وقد ظهر شأن هذا الحديث وتأويله في زمن بني أمية.
666 - حدثنا محمد بن عليِّ الشقيقي، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا أبو حمزة اليشكري، قال: سألني عطاء بن السائب عن أبي مسلمٍ، فأخبرته، فقال: أين يقع هذا من الحجاج؟ كان يخطبنا الحجاج يوم الجمعة، فلم يزل يخطب، حتى غربت الشمس، ثم نزل، فصلى الظهر، والعصر، والمغرب.
667 - حدثنا مؤمل بن هشامٍ اليشكري، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سوار بن عبد الله، عن عبد الواحد ابن صبرة، قال: قال سالمٌ وهو يحدث القاسم بن محمد: لما قدم علينا الوليد بن عبد الملك، جاءت الجمعة، فجمع(3/229)
بنا، فما زال يخطب حتى مضى وقت الجمعة، ولم يصل، فقال القاسم: فما قمت فصليت؟ قال: لا، والله! خشيت أن يقال: رجل من آل عمر، ثم قال: ثم ما زال يخطب حتى زال وقت العصر ولم يصل، قال: فقال القاسم: فما قمت فصليت؟ قال: لا، قال: فما صليت قاعداً؟ قال: لا، قال: فما أومأت؟ قال: لا.
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه: ((وإن لم يكونوا صلوا، كانت لك نافلةً)).
أي: صلاتك التي صليت معهم هي النافلة؛ لأن الفريضة قد مضت، وقد قال في رواية أخرى: ((واجعلوا صلاتكم معهم سبحةً)).
668 - حدثنا بذلك علي بن خشرمٍ، قال: أخبرنا أبو بكر بن عياشٍ، عن عاصمٍ، عن زر بن حبيشٍ، عن عبد الله(3/230)
ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لعلكم ستدركون أقواماً يصلون الصلاة لغير وقتها، فإن أدركتموهم، فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون، ثم صلوا معهم، واجعلوها سبحةً)).(3/231)
الأصل الخامس عشر والمئة
669 - حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: حدثنا ابن المبارك، عن أسامة بن زيدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استن، فأعطى أكبر القوم، قال: ((أمرني جبريل أن أكبر)).
670 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا الحكم ابن ظهيرٍ، عن زيد بن رفيعٍ، قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، وميكائيل، وهو يستاك، فناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل السواك، فقال جبريل لمحمد عليه السلام: كبر -أي: ناول(3/233)
ميكائيل-؛ فإنه أكبر.
671 - حدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، وابن لهيعة، قال: حدثنا ابن الهاد، عن عبد الله بن كعبٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استن، أعطى السواك الأكبر، وإذا شرب، أعطى الذي عن يمينه.
قال أبو عبد الله:
فالسواك من حق الأسنان؛ لأنه يشد اللثة، ويذهب الحفر، فأكبرهم سناً، أقدمهم خروج أسنان، ومن كان أقدم، فهو أحق، فإنما ينظر إلى الأكبر في السن، فيقدم، فكذلك في الجوارح يبدأ بالأقدم.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الحاجبين ما يحقق هذا.(3/234)
672 - حدثنا بذلك عيسى بن أحمد العسقلاني، قال: حدثنا بقية بن الوليد، عن أبي توبة النميري، قال: حدثني خليد بن دعلجٍ الموصلي، عن قتادة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ادهن أحدكم، فليبدأ بحاجبيه؛ فإنه يذهب بالصداع))، أو قال: ((ينفع من الصداع)).
وإنما ينفع عندنا من الصداع والله أعلم: أن العقل مسكنة الدماغ، وتدبيره على القلب، فهذه كلمة جارية على ألسنة العامة، يقال: فلان ليس في رأسه دماغ، وفلان حار الرأس، فإنما يراد به: العقل، فحرارة الرأس وذكاوة الدماغ من العقل، والعقل يسكن في الدماغ، ويدبر على القلب، ويذكي الفؤاد؛ أي: يوقده بحره.
فإذا اتبع الحق في كل شيءٍ من أمره، فقلبه مستريحٌ، وإذا اتبع الجهل، أتعبه، فإذا بدأ في الحاجبين بالمشط والدهن، فقد أدى حقه؛ لأنه(3/235)
بدأ به في الخلقة، فهو أكبر ممن بعده، فالحق له، فإذا ضيع الحق في ذلك، فقدم المؤخر، وأخر المقدم، فغير مستنكرٍ أن يهيج الصداع؛ لأن في فعله إتعاب الحق، والعقل.
673 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد ابن وهبٍ، عن بقية، عن أبي توبة النميري، عن خليد بن دعلجٍ، عن قتادة، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أدهن أحدكم، فليبدأ بحاجبيه، فإنه يذهب بالصداع)).
وذلك أول ما نبت على ابن آدم من الشعر، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توخى بذلك أن يبدأ من أجل نباته في بطن أمه قبل نبات شعر رأسه، فإذا قدم شيء في الخلقة، فهو مقدم في التدبير عند خالقه، وصاحبه مطلوب بحفظ ذلك ورعايته؛ ليقدم ما قدمه الله، ويؤدي حقه كما يؤدي حق الأكابر.
674 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا نعيم بن حمادٍ، عن الوليد بن مسلمٍ، عن ابن المبارك، عن خالدٍ الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان(3/236)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقي، قال: ((ابدأ بالأكابر؛ فإن البركة مع أكابركم)).
قال نعيم: كان ابن المبارك يحدثنا به، عن خالد، عن عكرمة، ولا يذكر ابن عباس، فهذا إذا سقى، بدأ بالأكابر، فأما إذا كان في إناء كبير يديره عليهم، فالحق للأيمن فالأيمن، كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
675 - حدثنا بذلك قتيبة بن سعيدٍ، عن مالك بن أنسٍ، عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعدٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/237)
فقول ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقي، قال: ((ابدؤوا بالأكابر)): يدل على أن الأكبر يبدأ به في كل شيء؛ لحق السبق الذي مضى فيه، وهو يعبد ربه ويوحده، فهذا في السواك والشراب وكل شيء، وإذا لم يبدأ به، لم يوقروه.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا)).
وقوله: (وإذا شرب، أعطى الذي عن يمينه): لأن الإناء كان واحداً،(3/238)
فإذا شرب وقد فضلت فضلةٌ، لم يجد بداً من مناولته غيره، فالحق لليمين، ومن على اليمين.(3/239)
الأصل السادس عشر والمئة
676 - حدثنا سليمان بن أبي هلالٍ، وصالح ابن عبد الله، قالا: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريبٌ، أو عابر سبيلٍ، وعد نفسك من أهل القبور)).(3/241)
677 - حدثنا الحسن بن قزعة البصري، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: حدثنا الأعمش، عن مجاهدٍ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريبٌ، أو كأنك عابر سبيلٍ)).
678 - حدثنا يحيى بن حسان النخعي، قال: حدثنا مالك بن سعيرٍ بن الخمس، قال: حدثنا الأعمش، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله، مثل حديث ابن المبارك بتمامه.(3/242)
قال أبو عبد الله:
فالغريب نازع قلبه إلى الوطن، ماد عينه إلى أهله، شاخص أمله إلى وقت الارتحال متى ينادى بالرحيل، فيرتحل، فكلما قطع مرحلة، خف ظهره، وهاج شوقه، ينتظر نفاد المراحل، ونهاية المسافة، فإذا بلغ آخر مرحلة، قلق، وضاق ذرعاً، فإذا وقع بصره على وطنه، رق، ودمعت عيناه، فبكى من طول الغربة، ومقاساة الوحشة والفجعة، ثم بكى فرحاً بوصوله إلى وطنه، ونظره إلى الأحباب والألاف، فعلى هذه الصفة دله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون نازع القلب إلى دار السلام، ماداً عينه إلى عرش الملك الأعلى، شاخص أمله إلى دعوة السيد المنان، ينتظر متى يدعى فيطير، فكلما قطع يوماً من عمره، خف ظهره من أثقال العمر، وهاج شوقه ينتظر نفاد الأيام والليالي التي أجلت له، فإذا بلغ آخر يومه، قلق، وضاق ذرعاً؛ لخوف الخطر الذي ركبه، وأنه لا يدري بم يختم له، فإذا كشف الغطاء عنه، وبشر بالسلام والرحمة من العزيز الرحيم، وأري مكانه من وطنه، رق، وبكى من طول الغربة، ومقاساة جهد النفس، ثم بكى فرحاً بلقائه مولاه، ووصوله إليه، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريبٌ، أو(3/243)
عابر سبيلٍ))، وهو المسافر وكلاهما قريب المعنى.
فالغريب لا يتهنأ بعيش، والغريب وحداني منفرد، منكسر القلب، وإن كان في سعة من العيش ونعمة، والغريب قد فقد عشيرته وأودائه، وعابر سبيل لا يتوجع لما ينوبه في سفره، ولا يجزع لما يقاسي من الشدة؛ لأنه يعلم أن سفره منقطع، وأنه عابره، وإن لم يصب منيته وشهوته، قنع بما يجد، ويعظ نفسه ويعزيها، ويقول: هذه مراحل قحط وشدة، وسنقطعها.
وأما قوله: ((وعد نفسك من أهل القبور)): فهذا قطع الأمل أن يقول ساعة بعد ساعة: الآن يحضرني أمر الله عز وجل، فيعد نفسه منهم، لا من الأحياء.
ووجه آخر: أن أهل القبور قد انقطعت أطماعهم من الأحياء، وقطعوا الدنيا، ورفعوا بالهم عنها، فإذا كان بهذه الصفة، فقد عد نفسه من أهل القبور، وقد أمنه الخلق كما أمنه أهل القبور، وقد أخمد ذكره، وأمات شهوته، كما خمد أهل القبور، وأماتوا شهواتهم من الدنيا، وراضوا نفوسهم.
والوجه الأول أشبه بما جاء عن السلف من فعلهم، فكانوا يبادرون في العلم وتصحيح الأمور؛ مخافة أن يحال بينهم وبين ذلك، فإن الأمر(3/244)
بغتة قد غيب عن ابن آدم وقت خروجه من الدنيا.
قال الله -تبارك اسمه-: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل}، فعقلوا هذا عن الله عز وجل، فبادروا.
بلغنا: أن عامر بن عبد قيس ناداه رجل من خلفه بشيء، وهو يمر مسرعاً فيما توجه له، فقال له عامر: أبادر طي صحيفتي.
وبلغنا: أن كرز بن وبرة انتهى إلى قنطرة، وعليها زحام، فنزل عن حماره، وقام يصلي، وقال: أكره أن يبطل من عمري ساعة، أو نحوه من الكلام.
وبلغنا: أن جعفر بن برقان قيل له: ألا تخضب؟ قال: أكره أن يأتيني رسول ربي وأنا مشتغل.
وبلغنا: أن محمد بن النضر سئل عن الصوم في السفر، فقال: المبادرة المبادرة، فاغتنم.
وبلغنا: أن داود الطائي سئل عن الرمي وتعليمه؟ فقال: إنما هي أيامك، فاقطعها بما شئت.(3/245)
الأصل السابع عشر والمئة
679 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم الجمحي، قال: حدثنا مسلمة بن عليٍّ الخشني، قال: حدثني زيد بن واقدٍ، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً نجياً، واتخذني حبيباً، ثم قال: وعزتي وجلالي! لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي)).
قال أبو عبد الله:
فالخليل: من الخلة يقال في اللغة: هذا ثوب خليل: إذا ضمه(3/247)
وألزقه به من العبادة ونحوها، فخله بالخلال حتى جمعه إلى نفسه، فالخليل من الآدمي: هو المقرب المضمون الذي قد كشف الغطاء عنه، حتى لا يعقل سواه.
والنجي: من المناجاة، يقال في اللغة: إذا كانوا مئة، ولم يكن فيهم غريب، فتحدثوا، فهو نجوى، وإذا كان فيهم غريب، فتحدثوا، فليس بنجوى، وإن كان عددهم ثلاثة، والنجوى: السر.
وذلك قول الله تعالى في تنزيله في شأن إخوة يوسف: {فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً}، فكانوا ذوي عدد، فلما خلصوا من الناس، وتحدثوا فيما بينهم بما يريدون من ذلك الأمر، سماه الله نجوى.
والحبيب: من حبة القلب، والحياة في حبة القلب، فقد أحياه بحياته.
فالأول: مضموم كالملزوق.
والثاني: مأنوس كالمعروف عنده قد ذهبت عنه الغربة والأجنبية.
والثالث: حيي به في الحجاب، فله الأثر؛ لأن الحياة عليه أظهر.(3/248)
الأصل الثامن عشر والمئة
680 - حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي رحمه الله، قال:
حدثنا عمر بن [أبي] عمر، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم الجمحي، قال: حدثنا أبو غسان محمد بن مطرفٍ، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عندي شيءٌ، ولكن ابتع علي، فإذا جاء شيءٌ، قضينا)). فقال له عمر رضي الله عنه: هذا أعطيت إذا كان عندك، فما كلفك الله ما لا تقدر، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجلٌ من الأنصار:(3/249)
يا رسول الله! أنفق، ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري، ثم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بذلك أمرت)).
قال أبو عبد الله:
فخوف الإقلال من سوء الظن بالله؛ لأن الله -تبارك اسمه- خلق الأرض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً}، {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه}.
فهذه الأشياء كلها سخرة للآدمي؛ قطعاً لعذره، وحجةً عليه؛ ليكون له عبداً كما خلقه عبداً، فبكونه له عبداً يقدم عليه غداً، فيحرره من العبودة، ويبعثه ملكاً إلى داره؛ فإن الله -تبارك اسمه- خلق آدم عبداً، وعرض عليه الأمانة، فقبلها، وأخرج ذريته من ظهره حتى أقروا له بالعبودة وقبلوها، ثم رفعه إلى الجنة، فأسكنه فيها وزوجته.(3/250)
كأنه قال: لما خلقتك بيدي، لم أستجز بعد هذه الفضيلة والكرامة أن أتركك على ظهر أرض في خرابٍ وتراب، ولكن أسكنك داري في جواري، فتنعم فيها؛ لأنك صنع يدي، ولقد أسجدت لك ملائكتي؛ ليكون فضلك بارزاً، فإني خلقتك بيدي، وقلت لهؤلاء: كونوا، فكانوا.
فحملته الملائكة وزوجته على سريرٍ من ذهبٍ، حتى وضعوه في وسط الجنان يعبد ربه، ويسبح حول عرشه مع المسبحين، وقلده الأمانة وهي جوارحه أن لا يعصي الله بجارحة منها، حتى تكون طواهر كما خلقه، ويزداد بهاءً ونوراً وجمالاً بالعبودة، وسريره بحذاء الشجرة التي من أكل منها خلد فيها، وكانت الملائكة التي يعطون الخلد فيها تحنك بتلك الشجرة، فكانت تدعى شجرة الخلد، فمن حنك منها، أمن، فخلد فيها.
والخلد: هو الطول، وليس بالأبد، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوتيت مفاتيح الدنيا، فخيرت بين الخلد فيها، وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي)).
فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا زائلة، فذكر الخلد فيها، وهو(3/251)
المدة، فقيل لآدم وزوجته: {وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة}.
فإنما كانت عبودته لربه امتناعه من الشجرة فقط، وسائر ذلك كان عبادة من التسبيح والذكر بلا توقيت ولا أمرٍ مفروض، فضيع الأمانة، وأكل من الشجرة بغير إذن رب الشجرة، طلباً للخلد فيها بما غوي من خدعة العدو، وبالحرص على الخلد أظلم قلبه عليه حتى قدر العدو أن يشبه عليه، فيقول له: إنك إن أكلت منها، بقيت فيها، وإني لك ناصح، وأقسم لك بالخالق أني ناصح، ولو انكشفت عنه ظلمة الحرص؛ لاستنار قلبه بأن يقول: كيف أظفر بالخلد، وإنما أكلي منها بغير إذن ربها، أفيتركني فيها بعد أن أخالف إلى ما نهاني عنه؟
فقد أجمل الله شأن الحرص في تنزيله، فقال: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. وإنما توقى ما يعطى من النور.
فإن الشح وهو الحرص في النفس التي هي معدن الشهوة، والنور في القلب، والصدر بيت القلب والنفس، فإذا فار دخان الحرص، فأظلم الصدر، كان القلب أسيره، فإذا فار النور، وأشرق شعاعه في الصدر، ذهبت الظلمة،(3/252)
فأبصر، فانقمع الحرص، وسكن فورانه، ولم يبق للعدو خدعة، ففي ذلك الوقت ذهبت العصمة من آدم -صلوات الله عليه-، ولم يقو النور، وهاجت من النفس شهوة الخلود فيها، فأتت بظلمة ودخان، فشبه عليه العدو عندما وجد فرصة، فخدعه بالنزهات والهنزات، حتى صرعه عن المقام، ثم ولى هارباً، فأخرج من الجنة، وأهبط إلى الأرض.
فكأنه قيل له: فكأنه قيل: إنما خلقناك للعبودة، فأسكنتك جواري؛ لتقضي العبودة، وهي حقي عليك وعلى ولدك، فإنك كنت تراباً، فخلقتك بشراً سوياً، فنفخت فيك الروح، وأعطيتك الحياة واللذة والشهوة وقرة العين.
أما الروح: فمن أمري، وأما الحياة: فمن حياتي، وأما اللذة والشهوة: فمن قربي، ولما خلقتك بيدي، فلك من القربة ما ليس لأحد.
وأما قرة العين: فمن معرفتك إياي، وإشراق نوري في قلبك، حتى قدرت على أن تعرفني بالغيب، وأنت على ظهر الأرض لا ترى عرشي، ولا حجبي، ولا سلطاني، فعظم حقي عليك، فيسرت عليك العبودة في دار السرور والنعمة، فأبيت إلا أن ترجع لعنصرك الذي منه خلقتك، فارجع إليها، فاقض هذه العبودة في دار الفقر والبؤس والتعب والعناء والنصب حتى تنقضي المدة.
ثم تاب الله عليه، ووعده أن يرده إلى الجنة رداً يكون ثواباً للعبودة، فيؤبده فيها دائماً، يخلد ويؤبد.(3/253)
فإنك رجوت الخلد، فتمنيته من غير وجهه، فأنا الذي مننت عليك بخلقك ورحمتك، فمننت عليك بالتوبة، فأعطيتك الخلد، وأضعاف الخلد، وهو الدوام على الأبد حياً باقياً في حياتي وديمومتي، ملكاً في ملكي، نافذ المشيئة في داري، ولكن اقض العبودة التي خلقتك لها في دار الضيق، والضنك، والفقر، والبؤس، وقد كنت اخترت لك داري متعبداً، فلم تستقر، ولم تدعك نفسك وعدوك حتى صرعاك وأرحلاك عنها، فالآن فاعبدني حتى تقضي هذه العبودة أنت وولدك، ثم أحضرك موقفي في يومي، فأحررك، ومن جاء بالعبودة من ذريتك، فأجعلكم ملوكاً في داري.
فالمستقيم: من رفع باله وهمته عن هذه الشجرة التي له في دنياه، وكان عظيم همته وباله في إقامة العبودة له، والكون له كما خلقه، فإن رزقه الله ملكاً، فهو عبد كما كان، وإن رزقه مالاً، فكذلك، وإن رزقه عزاً، فكذلك، وإن رزقه قضاء المنى والشهوات، فكذلك، خاشعاً له متذللاً، ملقياً بيديه، سلماً مراقباً لأموره في السر والعلانية، منقاداً لحكمه، يعد نفسه عبداً لا يملك شيئاً، وأحواله عواري يقلبها وليها ساعة فساعة كيف شاء، ليست فيها مشيةً، ويتوقى أن يفكر فيها، فتحدث له مشيئة، ناظراً إلى ما يبرز له مشيئته في الغيب، فخوف الإقلال إنما يضمحل عن القلب من وجهين:
وجه: من حسن الظن بالله {فإن ربي غنيٌ كريمٌ}. قد استنار في صدره غناه وكرمه، فإذا أنفق، لم يخف الإقلال؛ لأنه يخلف، ولا يعوزه شيء، بمنزلة رجل في دار الدنيا عامل رجلاً معروفاً بالسخاء وحسن الخلق والغنى، فإن أهدى هدية، سمحت نفسه بذلك، رجاء الثواب بأضعاف(3/254)
ذلك؛ لمعرفته بسخاوة نفسه وغناه، وإذا عرفه بالقلة أو بالضيق والبخل، جبن في ذلك، فهذا وجه.
والوجه الآخر: أن يكون رجلاً قد ماتت شهواته، فليس الدنيا من شأنه ولا باله، فقد اجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته، ثم قد انقطعت مشيئته لنفسه ولعباد الله، ينظر إلى تدبير الله ومشيئته فيهم، فهذا يعطي من يسره وعسره، فلا يخاف إقلالاً؛ لأنه قد رفع باله عن جميع ذلك، وانقطعت مشيئته فيهم، وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء، فإذا أعطى اليوم، وله غداً مشيئة في شيء؛ خاف أن لا يصيب غداً، فيضيق عليه الأمر في نفقته اليوم؛ لمخافة إقلاله غداً.
681 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان: قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال الله تعالى: سبقت رحمتي غضبي، يا بن آدم! أنفق أُنفق عليك، يمين الله ملأى سحاء، لا يغيضها شيءٌ بالليل والنهار)).(3/255)
682 - حدثنا محمد بن عمر بن الوليد الكندي، قال: حدثنا مفضل بن صالحٍ، عن الأعمش، عن طلحة اليامي، عن مسروقٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أطعمنا يا بلال))، قال: ما عندي إلا صبر من تمرٍ قد خبأته لك، قال: ((أما تخشى أن يخسف الله به نار جهنم؟ أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)).
683 - حدثنا محمدٌ، قال: حدثنا أبو غسان، عن قيسٍ، عن أبي حصينٍ، عن يحيى بن وثابٍ، عن مسروقٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(3/256)
684 - حدثنا عمر بن أبي عمر العبدي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سلام الجمحي، عن عيسى بن يونس، عن وائل بن داود، عن النخعي، عن الزبير بن العوام، قال: جئت حتى جلست بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بطرف عمامتي من ورائي، ثم قال: ((يا زبير! إني رسول الله إليك خاصةً، وإلى الناس عامةً، أتدرون ماذا قال ربكم؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال:
((قال ربكم حين استوى على عرشه، ونظر إلى خلقه: عبادي! أنتم خلقي، وأنا ربكم، أرزاقكم بيدي، فلا تتعبوا فيما تكفلت لكم، فاطلبوا مني أرزاقكم، وإلي فارفعوا(3/257)
حوائجكم، انصبوا إلي أنفسكم، أصب عليكم أرزاقكم، أتدرون ماذا قال ربكم؟ قال الله -تبارك وتعالى-: عبدي! أنفق أنفق، وأوسع أوسع عليك، ولا تضيق فأضيق عليك، ولا تصر، فأصر عليك، ولا تخزن، فأخزن عليك، إن باب الرزق مفتوحٌ من فوق سبع سماوات، متواصلٌ إلى العرش، لا يغلق في ليلٍ ولا نهارٍ، ينزل الله منه الرزق على كل امرئٍ بقدر نيته، وعطيته، وصدقته، ونفقته، من أكثر، أكثر له، ومن أقل، أقل له، ومن أمسك، أمسك عليه.
يا زبير! فكل وأطعم، ولا توك فيوكى عليك، ولا تحص فيحصى عليك، ولا تقتر فيقتر عليك، ولا تعسر فيعسر عليك.
يا زبير! إن الله يحب الإنفاق، ويبغض الإقتار، وإن السخاء من اليقين، والبخل من الشك، فلا يدخل النار من أيقن، ولا يدخل الجنة من شك.
يا زبير! إن الله يحب السخاء ولو بفلق تمرةٍ، والشجاعة ولو بقتل عقربٍ أو حيةٍ.(3/258)
يا زبير! إن الله يحب الصبر عند زلزلة الزلازل، واليقين النافذ عند مجيء الشهوات، والعقل الكامل عند نزول الشبهات، والورع الصادق عند الحرام والخبيثات.
يا زبير! عظم الأخوان، وجلل الأبرار، ووقر الأخيار، وصل الجار، ولا تماش من الفجار والأشرار، وادخل الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ، هذه وصية الله إلي، ووصيتي إليك يا زبير بن العوام)).(3/259)
الأصل التاسع عشر والمئة
685 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سليمان ابن شرحبيل الدمشقي، قال: حدثنا بشر بن عونٍ، قال: حدثنا بكار بن تميمٍ القرشي، عن مكحولٍ، عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يبعث الله عبداً يوم القيامة لا ذنب له، فيقول له: أي الأمرين أحب إليك: أجزيك بعملك، أم بنعمتي عليك؟ قال: رب! أنت تعلم أني لم أعصك، قال: خذوا عبدي بنعمةٍ من نعمي، فما بقي له حسنةٌ إلا استفرغتها تلك النعمة، فيقول: رب! بنعمتك ورحمتك، قال: يقول: بنعمتي ورحمتي، ويؤتى بعبدٍ محسنٍ(3/261)
في نفسه، لا يرى أن له سيئةً، فيقال له: هل كنت توالي أوليائي؟ قال: يا رب! كنت من الناس سلماً، قال: هل كنت تعادي أعدائي؟ قال: يا رب! لم أكن أحب أن يكون بيني وبين أحدٍ شيءٌ، قال: يقول الله -تبارك وتعالى-: وعزتي! لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي، ويعاد أعدائي)).
فالأول: عبد غافل عن ربه، متيقظ لآخرته، مكبٌّ على نفسه، يحب أن يلقى الله بالصدق من نفسه، فيقتضي الثواب منه على صدقه، قد خفي عليه شأن المنة والنعمة، عاش حافظاً لأموره، ماداً عينه إلى ثوابه، فإذا لقيه، كان الذي قد توطنه في الدنيا من ذلك وعامل الله به هو الذي نطق به لسانه، فسنح له الحق مبتدئاً يقتضيه شكر النعمة، فأخذه بأصغرها، فاستفرغت عمله، فعندها انكشف له الغطاء عن شأن المنة والنعمة وقدرهما، وهذا عبد لم يفقه.(3/262)
وكذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما عبد الله بمثل التفقه)).
وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين)).
وقال: ((لو كان جريج الراهب فقيهاً عالماً، لعلم أن إجابته أمه من عبادة ربه)).
فالذي فقه حلت به أثقال.
قال أبو عبد الله: المنة والنعمة، فهو يستقلها بالله كالجبال الرواسي(3/263)
على كتفه، يظن أن لو كان له عبادة الثقلين عمر الدنيا، لوازنته أصغر نعمة من نعم الله.
وقد جاز أقوام هذه الحظة من أوليائه وأصفيائه، حتى حلت بهم من أثقال المعرفة ما لا يتفرغون لأثقال المنة والنعمة، فكان على أكتافهم السماوات والأرض بمن فيها من خلقه، فهم يستقلونها بالله، فلو أن عمر الدنيا لهم عبادة الثقلين، لم يلحظوا إليها أنهم عملوا شيئاً.
وقد جاز أقوام من أوليائه هذه الحظة، حتى حلت بهم من أثقال قربه في وحدانيته، فانفردوا به، فهم أهل البهتة الذي بهتوا غرقاً في وحدانيته، ثم حيوا به، فخرجوا من البهتة بحياته، فهم المحدثون.
صرنا إلى تأويل الحديث الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فالعبد الأول: ما وصفناه به من الغفلة عنه، والتيقظ لآخرته.
والعبد الثاني: عبد راعٍ نفسه، عاجز عن رعاية الحق، فمن رعى نفسه، فإنما عمله حفظ جوارحه، وأداء فرائضه، فإذا هو قد أتى بما أمر به، ولم يرع الحق، وإنما به نجاة نفسه، وقد علم أن النجاة في الائتمار(3/264)
بأمره، والتناهي عن نهيه، ففعل، فإنما رعى نفسه كيلا يهلك، فلها والى، ولها اهتم، فلذلك صار من الناس سلماً، فلم يوال له ولياً، ولم يعاد له عدواً، فالراعي لحقه انكشف له الغطاء عن جلاله وعظمته، فاشتعلت الحرقات في جوفه حباً له، وشغوفاً به (حتى أداه ذلك إلى معرفته، فامتلأ قلبه من جلال الله وعظمته، فوالى أولياءه)، وعادى أعداءه؛ موافقة له، ولو كان على غير هذه الصفة، لكان يستحيل أن يكون لله ولياً، وذلك موجود في الدنيا، أن الذي يحل من قلبك محلاً به ترى الدنيا، فكل من والاه، فأنت له ولي، وكل من عاداه، فأنت له عدو، ويهيج حبك له أن تحب من أحبه، وتعادي من عاداه، ومحال غير هذه الصفة فيك، فكيف بالذي به تقوم وتقعد وتتنفس، وقد سبى قلبك، وهو رب العالمين؟ أليس يستحيل أن توالي إلا فيه؟ ولا تعادي إلا فيه؟ ولا تبغض إلا فيه؟ وهذا من بلوغ العبد ذرا الإيمان.(3/265)
الأصل العشرون والمئة
686 - حدثنا عمر، قال: حدثنا محمد بن حميدٍ الرازي، قال: حدثنا علي بن أبي بكرٍ، قال: حدثنا جراحٌ الكندي، عن أبي شيبة، عن ابن عكيمٍ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((قل: اللهم اجعل علانيتي صالحةً، واجعل سريرتي خيراً من علانيتي، اللهم إني أسالك من صالح ما تؤتي الناس من المال والولد غير الضال ولا المضل)).(3/267)
قال أبو عبد الله: فالعلانية الصالحة مرضاة الله من العمل: الائتمار بأمر الله، والتناهي عن نهيه.
والسريرة التي هي خير من العلانية: تعظيم أمره ونهيه، والوقوف عند حكمه، وترك الاختيار في جميع أحواله، وموافقته في مشيئاته، حتى لا يحب إلا ما يحب، ولا يكره إلا ما يكره، ولا يريد إلا ما يريد، ويعمل أموره به وله.
وقوله: ((أسألك من صالح ما تؤتي الناس)). فقد يؤتي الله الناس ما يصير عليهم وبالاً، ويؤتي ما يبارك لهم فيه، فما بورك لهم فيه، فهو صالح ما يؤتي، وما نزعت منه البركة، فهو الفاسد، فإذا رزقت مالاً وولداً، فهم كلهم لك عون على ما أنت بسبيله إذا بورك لك فيهم، فليس واحد منهم ضالٌّ ولا مضلٌّ، والذي ينزع البركة منه من مالٍ أو ولدٍ، فهو ضال بنفسه، ومضل لك.(3/268)
الأصل الحادي والعشرون والمئة
687 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد ابن عمرٍو السويقي، عن خالد بن عبد الله بن سعيد ابن العاص، قال: حدثنا بشر بن عبد الله، عن عمر بن عبد العزيز، عن بشر بن حيان، عن مكحولٍ، عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بادر العاطس بالحمد، لم يضره شيءٌ من داء البطن)).(3/269)
فالعطاس: تنفس الروح، وسطوعه إلى الملكوت، حنيناً إلى قرب الله؛ لأنه من عنده جاء، فمن لطف الله لعبده استقر الروح في جوارح الآدمي، وتمكن فيه، وهو شيء لطيف، طاهر طيب، ملكوتي، مكن له في لحم ودم، أصله من تراب، مجاوراً مع ذلك للشهوات والهواء والوسواس والشياطين في موطن واحد، وأمر بالقرار فيه فاستقر.
فهذا من لطف ربنا لعبده، ولكرامته إياه، ولولا الروح لم ينتفع بهذه الجوارح، وقد قال: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً}.
فذكر عن ابن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الأرواح هي للملائكة والآدميين والجن، والأنفاس للدواب.
وذكر عن وهب بن منبه: أنه قال: للدواب أنفس، والنفس حارة،(3/270)
وجعل لابن آدم النفس، وهي حارة، وفضل بالروح، وهي باردة.
فإذا قال: يف، فذاك من برد الروح؛ لأنه من الرأس جاء، وإذا قال: هه، فذاك من حر النفس.
وإنما يوجد مثل هذا الوصف في التوراة، وذلك أنه وصف فيها خلق الإنسان وهيئته.
ويقال: إن الروح في الرأس، ثم هو بعد كالسربال في الجسد.
ألا ترى إلى قوله: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنانٍ}.
فإنما دل على مستقر الروح، فهناك المقتل، ودل على البنان كي يصير زمناً ينقطع ضرره عن الدين وأهله. فإذا عطس المؤمن، فإنما ذلك وقت ذكر الله لعبده، وتقوية الروح بما وقع فيه من الضيق، فإذا خلص إلى الروح، ازدهر، وتاق إلى موطنه، فتلك الضجة منها، والعبد المؤمن(3/271)
إذا رأى عظيم صنع الله في جسده، فحمده على صنعه وكرامته إياه بالروح، فالمبادر بالحمد أفهمهم لذلك.
ألا ترى إلى آدم -صلوات الله عليه-: أنه لما عطس، بادر بالحمد، فقال الله له: رحمك ربك، سبقت رحمتي غضبي.
وكذلك المؤمن المنتبه لما عطس وحمد، فبورك عليه، فإذا سمع عاطساً سبقه إلى الحمد؛ لأنه رأى عظيم صنع الله فيه، فاستوجب بذلك البركة، وهو القرب والعطف من الله، فإذا بورك فيه وقي داء البطن، وداء البطن هو وجع الخاصرة.
وكذلك روي في بعض الأحاديث: وقي وجع الخاصرة، والمكر في الكليتين، وسوء السرائر هناك، فذاك داء البطن، ووجع الخاصرة، فإذا كان سابقاً بالحمد، كان منتبهاً، وكان صدره مستنيراً، وكذلك جوفه فلم يعمل المكر فيه شيئاً.
وروي عن الله -تبارك اسمه-: أنه قال لسليمان: ((إن سمعت عاطساً من وراء سبعة أبحرٍ، فاذكرني)).
688 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا يوسف الصفار، قال: حدثنا محمد بن طلحة التيمي، عن(3/272)
إسحاق بن يحيى، عن عمه موسى بن طلحة، قال: أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى سليمان عليه السلام: إن عطس عاطسٌ من وراء سبعة أبحرٍ، فاذكرني.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: ((حق المسلم على المسلم ست خصالٍ))، فكانت إحداهن: ((إذا عطس أن يشمته)).
فإنما وجب له ذلك بما ظهر للعبد من الحال عند ربه، فالتشميت تهنئة له، فإذا لم يهنئه، فقد استهان به، ومن استهان بأمر الله، أهانه الله.(3/273)
الأصل الثاني والعشرون والمئة
689 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا هشام ابن عبد الملك الحمصي، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ ابن جبلٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا، لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا، لم يخونوا، وإذا وعدوا، لم يخلفوا، وإذا اشتروا، لم يذموا، وإذا باعوا، لم يطروا، وإذا كان عليهم، لم يمطلوا، وإذا كان لهم، لم يعسروا)).(3/275)
فهذه خصال الحافظين لحدود الله، الذين قد أخذ الله عليهم في البيعة، وأعطاهم الجنة أثمان أنفسهم، ولا يقدر على الوفاء بها إلا من وثق بضمان الرزق في شأن الرزق، وسقط على قلبه خوفه، وسكنت نفسه، ودرس عن قلبه محبة الرزق، من أين، وكيف، وعندها يستحق اسم التقوى، فقد ذكره في تنزيله فقال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً. ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
فبالتقوى يصير رزقه من غير محسبة، فعندها يعلم أنه متق، فإذا سقطت المحسبة من قلبه.
قال له قائل: ما المحسبة؟
قال: مظان الرزق، ومعادنه، وأسبابه، ألا ترى كيف افتتن هذا الخلق بذلك، فتراهم قد تعلقت قلوبهم بها، حتى يعصي الله من أجل سبب لا يدري فيه رزقه أم لا؟
قال له القائل: مثل ماذا؟
قال: أذكر خصلة واحدة، ثم اعرف سائرها بها: رجل اشترى سلعة، فخان فيها، أو مدح بما ليس فيه، فكذب، هل فعل ذلك إلا لفتنة قلبه، وأنه يحسب أن ذلك رزقه ومعيشته، وله فيه منفعة؟ فكم من مغرور بمثل(3/276)
هذا حتى يبعث بالموت، وقد عري عن منفعته؟ وقد خدعه شيطانه وأماني نفسه، فيصير مهنأة لوارثه، والوبال عليه، فلو سقط عن قلبه محسبة معاشه ورزقه، وعلم أن المنافع والأرزاق والمعايش بيد الله، يخرج من مشيئة الغيب، فيجريها بالأسباب، لم يفتتن بالأسباب، وكان قلبه مراقباً لما يصنع مولاه، وعينه مادة إلى ما يختار له، ثم لا تتهمه إن أتاه غير ما تحب نفسه.
690 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا محمود ابن خالدٍ الدمشقي، قال: حدثنا مروان بن محمدٍ، قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا الحارث بن يزيد، عن علي ابن رباحٍ، عن جنادة بن أبي أمية، قال: سمعت عبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله رجل: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيله))، قال: يا رسول الله! أريد أيسر من ذلك؟ قال: ((السماحة والصبر))، قال: يا رسول الله! أريد أيسر من ذلك؟ قال:(3/277)
((لا تتهم الله في شيءٍ قضى به لك)).
691 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن سوارٍ البغوي، قال: حدثنا موسى بن علي بن رباحٍ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.
فالساقط عن قلبه محسبة الرزق: من أين، وكيف، ومتى؟ يؤتى برزقه عفواً صفواً، وتقواه معه، وعلى رزقه طابع الإيمان، فهنيئاً له، وإن لم يتهنأ به هذه الطبقة، فمن؟
والمتعلق بأسباب الرزق، قلبه جوال، ونفسه خشعةٌ، فإن لم تدركه عصمة الله، فهو كالهمج في المزابل، يطير من زبل إلى زبل، حتى يجمع أوساخ الدنيا، ومزابلها، ثم يخلفها وراء ظهره، وينزع قابض الأرواح مخالبه التي قد احتدت للقبض على حطام الدنيا، ويلقى الله بإيمان سقيم، قد دنسه، ووسخه، فكأنه يقول له في وقفته بين يديه: عبدي! من كنت تعرف لنفسك رباً وإلهاً؟ فيقول: إياك عرفت يا إلهي، وبك آمنت، فكأنه يقول له: أفمن معرفتك إياي وإيمانك كان يحل بك من خوف فوت الرزق(3/278)
والمعاش ما كنت مطلعاً عليه؟ حتى حملك الخوف على أن عصيتني بأنواع المعصية، في سببه شككت في ضماني، أم اتهمتني، أم أسأت بي الظن؟
فمن فتح له طريق الهداية إلى الله، وعرف ربه معرفة الموقنين، سقط عن قلبه همة الرزق، وفكره ومحبوبه، ولها عنه، وشغله عن ذلك خوف جلاله وعظمته، وكفي مؤنته.
ومن لم يفتح له طريق الهداية إلى الله، وعرف ربه معرفة الموحدين، تعب قلبه بما يرد عليه من المخاوف، ونصب له لما يتعاوره ظنون السوء بالله، وكل بدنة في السعي يهرول خلف زانية لا تمنع يد لامس، وهي أبداً تتزين، وتتشوق، حتى إذا سبت قلباً، ولت هاربة، والمسيء على أثرها كالواله، وهذا جزاء من أعرض عن الله، وعن إحسانه، ومننه، وأياديه، {وهل نجزي إلا الكفور}.
مكباً على جمع الحطام، مكتسباً مقتبساً أوساخها وأدناسها من بين شبهة، وحرام، وحلال، قد عصى الله في جنبه عدداً لا يحصيه، وحقوق الله قد منعت أهلها، يجمع قماش المكاسب ورديئها، وينفقها في شهواته، ومناه، على مهواه، مضيعاً لحدود الله فيها، مسرفاً بطراً، فهم المطرودون عن باب الله، خوف الرزق على قلوبهم أمثال الجبال، يأخذون(3/279)
الدنيا على غفلة، ويخزنونها على التهمة، وينفقونها في التهمة، ولا يذكر أن أمامه النار، وصراطاً دقيقاً إنما قد من أجله ولمثله، وعرض على مالك الملوك في هول عظيم وسؤال، ونسي وعيده الذي قدمه إليه.
{كلا إنها لظى. نزاعةً للشوى. تدعوا من أدبر وتولى. وجمع فأوعى}.
{كلا بل لا تكرمون اليتيم. ولا تحاضون على طعام المسكين. وتأكلون التراث أكلاً لما. وتحبون المال حباً جماً. كلا إذا دكت الأرض دكاً دكا. وجاء ربك والملك صفاً صفا. وجيء يومئذٍ بجهنم يومئذٍ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى. يقول يا ليتني قدمت لحياتي. فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحدٌ. ولا يوثق وثاقه أحدٌ}.
ثم ذكر من كان بخلاف هذه الصفة، فقال:
{يأيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي}.
فإنما يقال هذا للنفس المرضية، ورضيت عن الله -تبارك وتعالى-، فرضي الله عنها، قنعت بما أعطيت من الدنيا، ولم ترفع بما سواها رأساً، ورضيت في الأحوال بتدبير الله -جل ذكره وحكمه-.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من انقطع إلى الله، كفاه الله مؤنته، ورزقه من حيث لا يحتسب)).(3/280)
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)).
فإنما لحق بدرجتهم؛ لأنه قد احتظى بقلبه من النبوة والصديقية والشهادة.
1 - فالنبوة: انكشاف الغطاء.
2 - والصديقية: استواء سريرة القلب بعلانية الأركان.
3 - والشهادة: احتساب المرء بنفسه على الله، فيكون عنده في حد الأمانة في جميع ما وضع عنده من الجسد والروح والمال والأهل، والولد لا يخونه في ذلك، وهو أن لا يتلكأ في رده إذا استرد منه.
692 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا محمد ابن الحسن القرشي، عن خصيب بن جحدرٍ، عن أبي(3/281)
غالبٍ، قال: سمعت أبا أمامة الصدي بن عجلان يقول: إذا سلم التاجر من أكل الحرام، والربا، والرين، والحلف، والكذب، والمدحة، وكتمان العيب، فهو التاجر الصدوق، فليشتر، وليبع.
693 - حدثنا يعقوب بن شيبة، قال: حدثني إبراهيم ابن بشارٍ الرمادي، قال: حدثني يعلى بن شبيبٍ المكي، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: سمعت قيلة أخت بني أنمار، قالت: كنت امرأة أشتري وأبيع في السوق، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فأتيته وهو عند المروة، فقلت: يا رسول الله! إني امرأة أشتري وأبيع في السوق، فيأتيني الرجل يريد أن يشتري مني الشيء، فأستام عليه بأكثر مما أريد أن أبيعه، فلا أزال، أنقص وأنقص، حتى(3/282)
أبيعه بالذي أريد، وكذلك في الشراء، قال: ((فلا تفعلي هكذا يا قيلة، إذا أردت أن تبيعي شيئاً، فاستامي به الذي تريدين أن تبيعيه، أعطيت، أو منعت، وإذا أردت أن تشتري شيئاً، فسومي بالذي تريدين أن تشتريه به، أعطيت أو منعت)).
694 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن يونس عن محمد بن طلحة بن مصرفٍ، عن محمد بن جحادة، قال: كان زاذان يبيع الكرابيس، وكان يسوم سومة واحدة، فكان إذا جاءه المشتري، ناوله شر الطرفين.(3/283)
قال له قائل: ذكرت آنفاً من لم يفتح له طريق الهداية، وعرف ربه معرفة الموحدين، فما معناك فيه؟
فقال: إن طريق الهداية إلى صراط مستقيم للعامة، وطريق الهداية إلى الله لأنبيائه وأوليائه، فأولئك أهل مجاهدة، والأنبياء والأولياء أهل يقين، وروحٍ وراحة، فقد استراحوا من المجاهدة؛ لأن النفس قد ذلت، وماتت شهواتها، برياضتهم أنفسهم جاهدوها، فهداهم الله، وأعطاهم اليقين، فتلك معرفة الموحدين، وهذه معرفة الموقنين، وكلتاهما معرفة واحدة، إلا أن هذه معرفة منورة بنور اليقين، يستحي من جلاله وعظمته أن يعصيه، والذي ليس له نور اليقين لا يأخذه الحياء حتى يعصمه من المعصية، وهم المخلطون.(3/284)
الأصل الثالث والعشرون والمئة
695 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا إبراهيم ابن محمد بن يوسف الفريابي، قال: حدثنا عبد المجيد بن عبيدٍ، عن حماد بن عمرٍو، عن زيد بن رفيعٍ، عن سهلٍ من ولد أبي موسى، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استمع إلى صوت غناءٍ، لم يؤذن له أن يستمع الروحانيين في الجنة))، فقيل: وما الروحانيون يا رسول الله؟ قال: ((قراء أهل الجنة)).
يدل هذا الحديث على أن في الجنة لهم أئمة كالأمراء، وعرفاء وقراء، فالأئمة هم الأنبياء، إذا صاروا إلى الله، فهم أئمة القوم، والسابقون إليه.(3/285)
وأما العرفاء:
696 - فحدثنا الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن القشيري، قال: حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أهل القرآن عرفاء أهل الجنة)).
فالعريف: من تحت يدي الأمير له شعبة من السلطان، فالعرافة هناك لأهل القرآن، وأهل القرآن الذين عرفوا به هاهنا تلاوة له، وعملاً به.
وأما القراء: فيلذذون أهل الجنة بما يعطون من الأصوات، وإنما سموا روحانيين؛ للروح الذي على قلوبهم، والروح من فرحهم بالله أيام الدنيا،(3/286)
وكل أحد في الجنة، فحظه من الله على درجته في الدنيا، فالصنف الذين كانوا في الدنيا إنما يفرحون بالعطاء مع نفوسهم، فهم كذلك في الجنة، فرحهم بما يعطون في الجنة، فبه يتلذذون، وبه يفرحون، والصنف الذين كانوا في الدنيا يفرحون بالله، فهم كذلك في الجنة فرحهم بالله، لقد دقت الجنة عندهم في جنب فرحهم بالله، أولئك الصديقون أولياء الرحمن، فأحسب أن الروح الذي على قلوبهم شهرهم، وحسن أصواتهم في الجنة حتى يطربوا، ويلذذوا أهل الجنان، بفضل ذلك الروح على قلوبهم، ويسمون الروحانيين، وهم المقربون، وأهل اليقين.
ووجدنا هذه الطبقة على ثلاثة أصناف:
1 - فصنف منهم الروح على قلوبهم، والفرح به غالب عليهم.
2 - وصنف منهم الهول على قلوبهم، والأحزان غالب عليهم.
وقد نجد لهذين الصنفين مثالاً في مقربي الملائكة عنده: فصنف من الملائكة المقربين روحانيون، وصنف كروبيون، أولئك أهل روح، وهؤلاء أهل كرب، أولئك من شأنهم التسبيح والتحميد والتقديس، وهؤلاء من شأنهم البكاء، وإنما يأخذ كل أحد ما أعطي، وينظر إلى ما وضع بين يديه، وكشف له عنه، وفتح له من الغيب.
فأهل الروح والفرح به من الآدميين والملائكة: فتح لهم من جماله وبهائه، فانبسطوا، وملكهم الفرح به.(3/287)
وأهل الأحزان والكرب من الآدميين والملائكة: فتح لهم من جلاله، وعظمته، فاكتأبوا، وملكهم الكرب، ويقولون في تسبيحهم: سبحانك ما لم تبلغه قلوبنا من خشيتك، فاغفره لنا يوم نقمتك من أعدائك، فذلك قولهم هذا إن كربهم وأحزانهم من رؤية التقصير.
والروحانيون قد شغلهم جماله عن الالتفات إلى أنفسهم، وأعمالهم، فإذا ذكروها، لم تدعهم رؤية جماله إلا أن يحسنوا الظن به، فحسن الظن به غالب على رؤية التقصير، فالفرح لهم به دائم، والروح على قلوبهم مترادف.
3 - وصنف ثالث أعلى من هذين الصنفين: قد جاوزوا هذين الحظين إلى وحدانيته، فانفردوا به، فشغلتهم وحدانيته عن الجلال والجمال، فهم أمناء الله، وأعلامه في أرضه، وقواد دينه، وهم الكبراء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جحيفة: ((جالس الكبراء، وساير العلماء، وخالل الحكماء)).
فالكبراء: الذين تكبروا في عظمه الله وجلاله، واعتزوا به، فهم به، وله.(3/288)
والفرح على ثلاثة أضرب:
1 - فرح بهذه الدنيا الزائلة الدنية فقد خسر أهله، فهذا فرح الظالمين، قال الله -تبارك اسمه-: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاعٌ}. وفي قصة قارون: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين}.
2 - وفرح بفضل الله وبرحمته {فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون}. فهذا فرح المقتصدين الشاكرين.
3 - وفرح بالله؛ حيث انتبهوا أنه ربهم في عظمته، وجلاله، وجماله، ومجده، وكبريائه، وملكه، وغناه، وكرمه، فهذا فرح المقربين.
فلو أن عبداً كان لرجل قروي حراث، أو جبلي غراس، فانتقل ملكه إلى سيد سوقي تاجر؛ لرفع به رأساً، وفخر به، ثم لو انتقل ملكه إلى أمير من الأمراء؛ لرفع به رأساً، وفخر به، وصال به على الناس، ثم لو انتقل ملكه حتى صار لأمير المؤمنين؛ لتكبر أن يكلم أولئك السادة الذين كانوا ملكوه، ورفع بنفسه أن يلحظ إلى كل أحد؛ اعتزازاً بأمير(3/289)
المؤمنين أنه سيده، وأنه من ملك يمينه، فكيف بمن انتبه أن سيده ومالكه خالق الخلق، ومالك الملوك، ورب العالمين، ألا ينشق وينقد فرحاً؟
فقد كان هذا عبداً ملكته دنياه، فكان بها يفتخر، ويصول، ولها يفرح، ثم أفاق إفاقة، فملكته نفسه بالعطايا التي وردت على قلبه، فكان بها يفتخر، ويصول، وبها يفرح، ثم أفاق إفاقة، فملكه الحق؛ ليروضه، ويؤدبه بين يديه، حتى ينصلح له، حتى إذا تمت رياضة الحق له بباب الملك الأعلى، رفع الحجاب عن قلبه، وأوصله إلى قربه، فكان بين يديه، فكان بالله يفتخر ويصول، وبه يفرح، حتى إذا اطمأن، ومرن على المقام، واعتاده، وسكنت منه الأفراح، وسكنت منه الأهوال والدهشات من النظر إلى جلاله وجماله، قدمه إلى الوسيلة العظمى، والقربة الأوفر، فغرق قلبه في وحدانيته، فصار منفرداً به، مشغولاً به عن جميع صفاته، فهذا(3/290)
أمينه، وأحد أعلامه في أرضه، وواحده بين عبيده، فهو الذي يقول في أرضه إذا ناداه: ((يا واحدي! فيصدق في قوله))، وهو الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
697 - حدثنا بذلك حفص بن عمرو، قال: حدثنا محمد ابن بشرٍ العبدي، قال: حدثنا عمر بن راشدٍ اليمامي، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيروا، سبق المفردون))، قالوا: يا رسول الله! من المفردون؟ قال: ((الذين أهتروا في ذكر الله، يأتون يوم القيامة خفافاً، يضع الذكر أثقالهم)).(3/291)
والمهتر في اللغة: هو الذي خرف، فذهب عقله، فصار مهتراً، وهو المفرد، قد فرد قلبه للواحد في وحدانيته، وجاز من الجلال والجمال إلى وحدانيته، فقد خمد نور عقله لنور وجهه الكريم، فصار كالواله في ذكره كالذي يهذي؛ لأن من شأن العقل أن يقيم بك على الحدود، والأشياء المعلومة المقدرة، فإذا خمد العقل، فقد ذهب عمله، فهو الذي أهتر في ذكر الله.
698 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني، قال: حدثنا سيارٌ، عن جعفرٍ، عن مالكٍ، قال: قرأت في الكتب: أيها الصديقون! تنعموا بذكري؛ فإنه لكم في الدنيا نعيم، وفي الآخرة جزاء.
وزاد فيه غيره: رضيتم بي بدلاً من خلقي، وآثرتموني على شهواتكم، فبي فافرحوا، وبذكري فتنعموا، فوعزتي! ما خلقت الجنان إلا من أجلكم، فعما قليل لأخلين الدنيا من الفجار.(3/292)
فالمقتصدون: يتعبدون بذكره، والصديقون: يتنعمون به، والمقتصدون بفضله عليهم يفرحون، فإذا دخلوا الجنة، فهمة المقتصدين الوصول إلى ثوابه من القصور والمساكن، والحور في الحجال، وهمة الصديقين قربهم إلى ربهم.
699 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ قال: حدثنا رياحٌ القيسي، قال: حدثنا ثور بن يزيد، قال: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة، فيقولون: يا أولياء الله! انطلقوا، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: إنكم لتذهبون بنا إلى غير بغيتنا، فيقال لهم: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد الصدق مع الحبيب، وهو قوله -جل ذكره-: {إن المتقين في جناتٍ ونهرٍ. في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر}.(3/293)
700 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا إبراهيم ابن حمزة الرملي، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعبٍ في قوله تعالى: {في جناتٍ ونهرٍ}، قال: في نور وضياء.
701 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد ابن سنان العوقي، عن إبراهيم بن طهمان، عن صالحٍ بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إن المتقين في جناتٍ ونهرٍ. في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر}، قال: إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يومٍ مرتين، فيقرأ عليهم القرآن، وقد جلس(3/294)
كل امرئٍ منهم مجلسه الذي يجلسه على منابر الدر، والياقوت، والزمرد، والذهب، والفضة بالأعمال، فلا تقر أعينهم قط كما تقر بذلك، ولم يسمعوا شيئاً أعظم منه، ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرةً أعينهم، ناعمين إلى مثلها من الغد)).
فهؤلاء الروحانيون الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قراء أهل الجنة، فمن استمع إلى صوت غناءٍ في الدنيا، ثم دخل الجنة، حرم أصواتهم.(3/295)
الأصل الرابع والعشرون والمئة
702 - حدثنا الحسن بن عمر بن شقيقٍ البصري، قال: حدثنا سليمان بن طريفٍ، عن مكحولٍ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير أمتي أولها وآخرها، وفي وسطها الكدر)).
703 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا عيسى(3/297)
ابن ميمون البصري، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خيرٌ أو آخره)).
704 - حدثنا صالحٌ، قال: حدثنا حماد الأبح، عن يزيد الرقاشي، عن ثابتٍ البناني، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(3/298)
705 - حدثنا الفضل بن محمدٍ الواسطي، قال: حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة الدمشقي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد الملك بن عقبة الإفريقي، عن أبي يونس مولى أبي هريرة رضي الله عنه، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: بعثني خالد بن الوليد بشيراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة، فلما دخلت عليه، قلت: يا رسول الله! فقال: ((على رسلك يا عبد الرحمن، أخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل زيدٌ حتى قتل، رحم الله زيداً، ثم أخذ اللواء (جعفرٌ، فقاتل جعفرٌ، فقتل، رحم الله جعفراً، ثم أخذ اللواء) عبد الله بن رواحة، فقاتل، فقتل رحمه الله، ثم أخذ اللواء خالدٌ، ففتح الله لخالدٍ، فخالدٌ سيفٌ من سيوف الله)).(3/299)
فبكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم حوله، فقال: ((وما يبكيكم؟))، قالوا: وما لنا لا نبكي، وقد قتل خيارنا، وأشرافنا، وأهل الفضل منا؟
فقال: ((لا تبكوا؛ فإنما مثل أمتي مثل حديقةٍ، قام عليها صاحبها، فاجتث رواكيها، وهيأ مساكنها، وحلق سعفها، فأطعمت عاماً فوجاً، ثم عاماً فوجاً، ثم عاماً فوجاً، فلعل آخرها طعماً يكون أجودها قنواناً، وأطولها شمراخاً، والذي بعثني بالحق! ليجدن ابن مريم في أمتي خلفاً من حواريه)).
706 - حدثنا علي بن سعيد بن مسروقٍ الكندي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن صفوان بن عمرٍو السكسكي، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفيرٍ الحضرمي، قال: لما(3/300)
اشتد جزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أصيب مع زيد ابن حارثة يوم مؤتة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليدركن المسيح من هذه الأمة أقواماً: إنهم لمثلكم، أو خيرٌ منكم، ثلاث مراتٍ، ولن يخزي الله أمة أنا أولها، والمسيح آخرها)).
فمن الله على هذه الأمة خصوصاً، ثم عدد المنة، فقال: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس}. قال: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً}؛ أي: عدلاً {لتكونوا شهداء على الناس}.
فالموصوف بالوسطية هو الموصوف بالعدل، لا يميل إلى إفراط، ولا إلى نقصان، فالميزان لسانه في وسطه، وباستواء الطرفين، والكفتين يستوي لسان الميزان، ويقوم الوزن، فجعلت أوائل هذه الأمة وأواخرها، ممن يهدون بالحق وبه يعدلون، فجعل أولها وآخرها ككفتي الميزان، يستويان، وما بينهما من الكدر والقبيح، والمعوج كلسان الميزان يستقيم،(3/301)
فلا يميل هكذا، وهكذا باستواء الكفتين.
فمعناه: أن ينجو الوسط بهاتين الكفتين، فإنه إن مال الوسط إلى أي الجانبين، مال إلى ركن وثيق، فعم استواء هاتين الكفتين اعوجاج هذا الوسط، ويتجه.
ألا ترى أنه عمهم، قال: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً}؛ أي: عدلاً.
وفي وسط الأمة اعوجاج، فكما كان في استواء الكفتين استقامة اللسان، فكذلك في استواء أوائل هذه الأمة وأواخرها يقوم الوسط، فلا يهلك.
وقد جاء في الخبر: أنه سيظهر العلم في آخر الزمان، ويقبل الناس على أمر الله حتى تتم حجة الله على عباده.(3/302)
الأصل الخامس والعشرون والمئة
707 - حدثنا محمد بن عبدة بن سليمان الكلابي، قال: أخبرني ابن إدريس، قال: أخبرنا مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أغبط أوليائي عندي: مؤمنٌ خفيف الحاذ، ذو حظٍّ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وكان غامضاً في الناس، وكان رزقه كفافاً، فصبر عليه، فعجلت منيته، وقل تراثه، وقلت بواكيه))، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، ونقر بإصبعه هكذا.(3/303)
708 - حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، عن مطرح بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، يرفعه، بمثله.
ولم يذكر عبيد الله، ولا القاسم، وقال في حديثه: ((وكان غامصاً في الناس)) -بالصاد-.(3/304)
709 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا يحيى الحماني، قال: حدثنا ابن المبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله ابن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
قال: ((وكان غامصاً)) -بالصاد المهملة-.
فالولي: من كتب الله له الولاية، وجعل له حظاً، فبحظه من الله (يقدر أن يتولاه، كما أن النبوة لمن كتب الله له النبوة، وجعل له حظاً، فبحظه من الله) قامت له النبوة، كما أن بين الأنبياء تفاوت في الدرجات، فكذلك بين الأولياء تفاوت في الدرجات.
وقال الله -جل ذكره- في تنزيله: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعضٍ وآتينا داود زبوراً}، (وقال في صفة موسى عليه السلام {وقربناه نجياً}).
وقال في صفة قوم مؤمنين صفوة له، فقال: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله(3/305)
واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} إلى قوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروحٍ منه ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله} الآية.
وبلغنا: أن أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر، فنزلت هذه الآية.
وروي لنا: أن عبد الرحمن بن أبي بكر بعد ما أسلم قال لأبيه: يا أبت! لقد أهدفت لي يوم بدر، فضقت عنك، فقال أبو بكر: أما إنك لو أهدفت لي، ما ضقت عنك.
فكتب الله لأهل الولاية ولايتهم، وأيدهم بروح منه، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا حب ولد، ولا والد، ولا أهل، ولا مال تالد.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: لا ينال الرجل ولاية الله، وإن كثرت صلاته، وإن كثر صيامه، حتى يحب في الله، ويبغض في الله، ويوالي في الله، ويعادي في الله)).(3/306)
710 - حدثنا بذلك صالح بن عبد الله، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، بنحوه.
فأما قوله: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعضٍ وآتينا داود زبوراً} فأبهم الفضل الذي فضل بعضاً على بعض، وأتى بذكر داود وما آتاه من الزبور، والزبور كله ثناء ومدح، يقال: ليس فيه حلال ولا حرام، وإنما كان كتابهم التوراة فيها الحلال والحرام، وخص داود بالثناء والمدائح.
فذكر في الخبر: ((أنه لما عرضت على آدم ذريته، رأى نوراً ساطعاً في واحد من ذريته، فقال: يا رب! من هذا؟ قال: ابنك داود، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: ربّ هب له من عمري أربعين سنة)).
711 - حدثنا بذلك محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا قتيبة، عن ليث بن سعدٍ، عن ابن عجلان، عن سعيدٍ المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام.(3/307)
712 - حدثنا أبي، عن عمرو القناد، عن أسباطٍ عن السدي، عن أبي صالحٍ وأبي مالكٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، ومرة الهمداني، عن ابن مسعودٍ، بمثله.
فذلك النور الساطع الذي رئي فيه يومئذ هو عندنا من هذا الذي أعطي، وخص به من الزبور، وقد كان خفف عليه.
713 - فحدثنا عمر بن أبي عمر، عن أحمد بن أبي الحسين الخزاعي، عن عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن همام ابن منبهٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان مما خفف على داود قراءة الزبور، وإنه كان يأمر بدوابه أن تسرج، فقبل أن(3/308)
يفرغ كان يأتي على قراءته.
فإنما خف عليه لذلك النور الفاضل الذي أعطي، حين رأى آدم نوره ساطعاً على نظرائه، فأكثرهم نوراً أسرعهم لتلاوة كتاب الله -جل ذكره-، وكلما كان الماء أرق وأصفى، كان جريه أسرع، وكلما كان أغلظ وأكثر كدورة، كان أبطأ لجريه، فكذلك كلام الله، كلما كان القلب أرق وأصفى، كان لتلاوته أسرع، فبين الأنبياء تفاوتٌ في القلوب، والدرجات، وكلهم أنبياء، وكذلك الأولياء بينهم تفاوت، وكلهم أولياء، فهذا الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه يحكي عن الله تعالى.
ألا ترى: أنه قال: ((إن من أغبط أوليائي عندي)). فليس هذا كلام الآدميين، وهكذا يجري في الحكاية، فتفهم، فذكر المغبوط.
والمغبوط: من يقرب بدرجته من درجة الأنبياء -عليهم السلام-(3/309)
علواً وارتفاعاً، مؤمن خفيف الحاذ، وهذه صفة أويس القرني، وأشباهه [وهذه] صفة الظاهر، لا الباطن، وقد يكون من الأولياء من غير هذه الصفة صفته، وهو أرفع درجة من هذا فيما نعلمه، وذلك عبد قد ولي الله استعماله، فهو في قبضته يتقلب، به ينطق، وبه يبصر، وبه يسمع، وبه يبطش، وبه يعقل، شهره في أرضه، وجعله إمام خلقه، وصاحب لواء الأولياء، وأمان أهل الأرض، ومنظر أهل السماء، وريحانة الجنان، وخاصة الله، وموضع نظره، ومعدن سره، وسوط الله في أرضه، يؤدب به خلقه، ويحيي القلوب الميتة برؤيته، ويرد الخلق إلى طريقه، وينعش به حقوقه، مفتاح الهدى، وسراج الأرض، وأمين صحيفة الأولياء، وقائدهم، والقائم بالثناء على ربه بين يدي المصطفى، يباهي به الرسول في ذلك الموقف، وينوه الله باسمه في ذلك المقام، وتقر عين المصطفى به، ويرفع رأسه به، قد أخذ بقلبه أيام الدنيا، ونحله حكمته العليا، وأهدى إليه توحيده، ونزه طريقه عن رؤية النفس، وظل الهوى، وائتمنه على صحيفة الأولياء، وعرفه مقاماتهم، وأطلعه على(3/310)
منازلهم، فهو سيد النجباء، وصالح الحكماء، وشفاء الأدواء، وإمام الأطباء، كلامه قيد القلوب، ورؤيته شفاء النفوس، وإقباله قهر الأهواء، وقربه طهر الأدناس، فهو ربيع يزهو بنوره، وخريف تجتنى ثماره، وكنف يلجأ إليه، ومعدن يؤمل لديه، وفصل بين الحق والباطل، فهو الصديق، والفاروق، والولي، والعارف، والمحدث، والمجتبى، واحد الله في أرضه، فمن تحير في هذا.
فقد روي: أن إبراهيم -صلوات الله عليه- كان واحد الله في أرضه.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((يكون في هذه الأمة قلوبٌ على قلب إبراهيم))، وهم صنف من البدلاء.
معناه: أنه فتح له طريقة على طريقة إبراهيم والمصطفى، فإن إبراهيم خليل الله، وأحمد حبيب الله.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن هلالٍ عبد المغيرة بن شعبة: أنه(3/311)
قال: ((هذا أحد السبعة الذين بهم تقوم الأرض، بل هو خيرهم)).
714 - حدثنا بذلك داود بن حماد القيسي، قال: حدثنا صالح بن عبد الله، عن عبد المجيد بن أبي روادٍ، عن مروان بن سالمٍ، عن عيسى بن بشيرٍ، عن يحيى بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال: ((يدخل من هذا الباب رجلٌ من أهل الجنة))، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة.
قال أبو الدرداء: فخرجت من ذلك الباب، فمضيت، فنظرت، هل أرى أحداً، فلم أر أحداً، فدخلت منه، فقعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أما إنك لست به يا أبا الدرداء))، ثم جاء رجل حبشي، فدخل من ذلك الباب، وعليه جبة صوفٍ فيها رقاعٌ من أدمٍ، رامٍ بطرفه نحو السماء، حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فقال: ((كيف أنت يا هلال؟))، قال: بخيرٍ يا رسول الله، جعلك الله بخيرٍ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادع لنا يا هلال، واستغفر لنا))، فقال: رضي الله عنك يا رسول الله، وغفر لك.(3/312)
فقال أبو الدرداء: استغفر لي يا هلال، فأعرض عني، ثم عاودته الثانية، فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أراضٍ أنت عنه يا رسول الله؟ قال: ((نعم))، قال: رضي الله عنك، وغفر لك، ثم خرج رامياً بطرفه إلى السماء، (فقال أبو الدرداء: لقد رأيت عجباً يا رسول الله، لقد أقبل وهو رامٍ بطرفه إلى السماء)، ما يقلع، ثم خرج وهو على ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن قلت ذاك، إن قلبه لمعلقٌ بالعرش، أما إنه لم يبق فيكم أكثر من ثلاثة أيامٍ))، فأحصيت الأيام، فلما كان في اليوم الثالث، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، خرج من المسجد، ونحن معه، فخرج يؤم دار المغيرة بن شعبة، فلقي المغيرة خارجاً من داره، فقال: ((آجرك الله يا مغيرة)) فقال: يا رسول الله! ما مات في دارنا أحدٌ الليلة، قال: ((بلى، توفي هلالٌ))، قال: فالتمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده في ناحية الدار في إصطبل لهم، خاراً على وجهه ساجداً، ميتاً، فأمر أصحابه فاحتملوه، فولي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، حتى دفن، ثم أقبل على أبي الدرداء، فقال: ((يا أبا الدرداء! أما إنه أحد السبعة الذين بهم كانت تقوم الأرض،(3/313)
وبهم كنتم تسقون المطر، بل هو خيرهم)).
فالصديقون: أمان أهل الأرض، وهم خلفاء النبيين لما خلت الأرض من النبوة، وشكت إلى الله عز وجل وعجت.
فروي في الحديث: أنه قال: ((سوف أجعل عليك أربعين صديقاً، كلما مات واحدٌ، أبدل الله مكانه)).
قال له قائل: ما الحظ الذي تذكره وتردده في كلامك كثيراً؟!
قال: الحظ إذا فتح الله لعبده قلبه، وقذف في صدره النور، حتى(3/314)
تنخرق حجب الشهوات، ويضيء صدره، فهو على نور من ربه، وقد جعل الله له طريقاً إليه، فذاك مبتدأ الحظ، حتى يسير إليه قلباً بقوة ذلك الحظ، لا يزال يسير، ويأتيه المدد من النور حتى يصل إليه، فيظهر على قلبه جلاله، وعظمته وبهاؤه، وجماله، فلا يزال هناك حتى يوصله إلى فرديته، فيصير والهاً به، مبهوتاً في وحدانيته، فهذا هو الحظ.
وقال في تنزيله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}. فإنما هداه لسبيله بالمجاهدة، وقد كان مؤمناً قبل ذلك هداه لسبيل الإيمان به.
قال له قائل: فما الولاية التي ذكرت؟!
قال: المؤمنون كلهم أولياؤه، والأولياء من المؤمنين، والأنبياء كذلك أيضاً فهم مؤمنون وأولياء، ولهم حظ النبوة زيادة، والأولياء مؤمنون، ولهم حظ الولاية زيادة، وهو قوله: {ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}.
ثم وصفهم فقال: {الذين آمنوا وكانوا يتقون}. فذكر التقوى مع الإيمان، فانظر أي تقوى هذه؟ ومما يتقون؟(3/315)
ثم قال: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله}.
فالبشرى على القلب، والبشرى في المنام للروح إذا زايلت النفس، وهي الرؤيا الصالحة، والبشرى عند الموت، والبشرى في القبر، والبشرى في الآخرة يوم الحشر.
{لا تبديل لكلمات الله}؛ أي: لا بدل لهذه البشرى، ولا خلاف، ولا بدل لما قلنا، ولا خلاف، فالبشرى على القلب لأهل الصفاء الذين سكنت وساوس نفوسهم، وحبست وساوس شياطينهم، فإنما هما وسواسان لكل نفس: وسواس نفسه، ووسواس شيطانه معه في صدره، وذلك سلاح لهذا، وبه يقدر على الآدمي، فإذا امتلأ القلب يقيناً، وأشرق الصدر نوراً، ووصل قلبه إلى خالقه، فالبشرى منه له كائن على القلب، وفي المنام للأرواح، فإنما صارت البشرى للأرواح في حياتها لمفارقة النفس، فكذلك على القلب إنما تكون البشرى إذا فارقتها النفس في جميع أحوالها.
قال له قائل: فأي تقوى هذا الذي ذكرت؟
قال: انظر إلى مبتدأ الآية، فقال: {وما تكون في شأنٍ وما تتلوا منه من قرآنٍ ولا تعملون من عملٍ إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه}.
ثم قال بعد ما بين وذكر شاهديته عليهم في جميع متقلبهم: {وما يعزب(3/316)
عن ربك من مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبينٍ}؛ ليتأداهم بالإيمان بالقدر.
ثم قال بعقب ذلك: ألا، وألا كلمة تنبيه لما تقدم من الكلام، وليتصل ما بعده به، فقال: {ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم}.
ثم أخبر من هؤلاء الأولياء، فقال: {الذين آمنوا وكانوا يتقون}؛ أي: يتقون ما أعلمهم من شاهديته عليهم، إذ تفيضون في الأعمال، فمن يتقي شاهديته إلا من يعلم علم يقين لا علم تعليم أن الله يراه، فمن صار هذا العلم على قلبه معاينة، فهو علم يقين أن الله شاهد عليه، استوت سريرته وعلانيته، واجتهد في سريرة القلب حتى تستوي سريرة قلبه بسريرة فعله أيضاً، ولا حظ في هذا لمن إذا خلا، ترك حفظ حدود الله، فإذا كان مع خلقه قد أتقن حفظ الحدود هذا لمن يتقي شاهديته؛ لأنه ليس على بصيرة نفس من ذلك، ولا معاينة قلب، قد أيقن بهذا يقين الموحدين، لا يقين الموقنين.
وكنت يوماً قاعداً في المسجد مع بعض إخواني، فتذاكرنا شيئاً حتى(3/317)
أدى ذلك إلى أني ذكرت من بعض نوائب قد كانت مرت بنا من الأذى أدى ذلك فيما أحسب إلى فضول الكلام، فرأيت ليلة: إذ صالح بن محمد في المنام قاعداً على صحن مسجده، وهو متكئ على وسادة متينة، وحوله مشايخنا، منهم: الحسن بن مطيع، وأبي، وأبو يعقوب رحمه الله، وعدة من المشايخ، كأنه يقرأ عليهم شيئاً من الكتب، فلما فرغوا وتفرقوا عنه، وجدت نفسي قاعداً بالقرب من متكئه وحدي بين يديه، وليس معنا ثالث، وأنظر إلى بياض ثيابه، وإلى حمرة خضابه، فأتعجب، فيقول لي: ما تفسير قوله: {وما تكون في شأنٍ وما تتلوا منه من قرآنٍ} حتى بلغ قوله: {إذ تفيضون فيه}؟
فأقول مجيباً له: شاهديته معهم، وهذه كلمة ما ظننت أني تكلمت بها قط، ولا سمعت من أحدٍ، ولا علمتها إلا في ذلك الوقت، فلما أجبته بهذه الكلمة، قال بفمه هكذا يقربها إلى أذني كأنه يشير لي، فقال: يقول -كأنه يعني الرب تبارك اسمه- لأوليائه: اختموا على الفم، فانتبهت، فقلت في نفسي: رؤيا موعظة، وكأنها يقظة، أستغفر الله وأتوب إليه.(3/318)
ومما يحقق ما قلنا بدءاً: أن الأولياء الذين ذكرهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} هم طائفة من المؤمنين، قد خصهم الله بالولاية، وعصمهم باليقين، ونور قلوبهم بالهداية، ولي الله ذلك منهم، واجتباهم لنفسه، فهم صنيعته، وهم الذين ذكرهم فقال: {فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، ثم قال: {أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}.
715 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا أبو معاوية، عن جويبرٍ، عن الضحاك في قوله: {فيتبعون أحسنه}، قال: ما أمر الله النبيين من الطاعة، فالمحسن هو الذي يتبع حسن الأمور.
وقد ذكر في حديث جبريل حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام، ثم قال: يا محمد! ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك))، قال: فإذا فعلت ذلك، فأنا محسنٌ؟ قال:(3/319)
((نعم)) قال: صدقت.
فمن عبد الله كأنه يراه، استمع إلى القول، فاتبع أحسنه، ونظر إلى الأمور، فعمل بأحسنه.
فأما قوله: ((ما أمر النبيين)) فمثل قوله للعامة: {اصبروا}، وقال للرسول {فاصبر صبراً جميلاً}.
فجمال الصبر، وجمال الأمور للأنبياء، والأولياء على أثرهم في ذلك يقتضي منهم أيضاً هذا الجمال والحسن حتى يكون محسناً.
وأما الصبر الجميل:
فروي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قال: ((لا تشكوا إلى أحدٍ غيري)).
حديث عن جنادة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
716 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا(3/320)
أحمد بن السرح المصري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم العتقي، قال: حدثني سعد بن عبد الله، عن عبد الأعلى ابن الحجاج في قوله: {فاصبر صبراً جميلاً}، قال: يكون صاحب المصيبة في القوم لا يعرف من هو.
ومثل المبادلة لأهل المعصية، والقيام بحقوق الله كما قال نوح وهود: {فكدوني جميعاً ثم لا تنظرون}.
ومثل قول إبراهيم: {إنا برءؤا منكم}.
ولمن دونهم: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}.
ومثل سخاوة المتقين وترك الادخار.
717 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابتٍ البناني، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه،(3/321)
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً لغدٍ.
ومثل العفو: أمروا بالعفو والصفح {حتى يأتي الله بأمرهْ.
ودعا على بعض المشركين، فأنزل: {ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}، {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}؛ أي: لست بغافل عنك.
ولمن دونهم، فقال: {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها}.(3/322)
الأصل السادس والعشرون والمئة
718 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عمر ابن عمرو الربعي، عن محمد بن جابرٍ، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة، قال: كنا في جنازةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهينا إلى القبر، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفيره، وجعل ينظر، ثم قال: ((يضغط المؤمن في هذا ضغطةً تزول منها حمائله، ويملأ على الكافر ناراً)).(3/323)
فالمؤمن أشرق نور الإيمان في صدره، فباشر اللذات، والشهوات، وهي من الأرض، والأرض مطيعة، وخلق الآدمي من هذه الأرض، وقد أخذ عليه العهد والميثاق في العبودة لله، فبما نقص من وفاء العبودة صارت الأرض عليه واجدةً، فإذا وجدته في بطنها، ضمته ضمةً، ثم تدركه رحمة الله، فترحب عليه، وعلى قدر سرعة مجيء الرحمة يتخلص من الضمة، فإن كان محسناً؛ فإن رحمة الله قريب من المحسنين، فإذا كانت الرحمة قريبة منه، لم يكن للضمة لبثٌ، وإن كان خارجاً عن حد المحسنين، لم يخل أن يطول اللبث في الضمة حتى تجيء الرحمة.
قال له قائل: ومن المحسن؟
قال: الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل عليه السلام: ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك))، قال: فإذا فعلت ذلك، فأنا محسنٌ؟ قال: ((نعم))، قال: صدقت.(3/324)
فهذا المحسن لا يكون لضمته لبثٌ؛ لأن الرحمة توسع عليه، وتلك ضمة الشفقة، لا ضمة السخطة؛ لأنه كان على ظهرها محسناً، فكانت مشتاقة إليه، فلما وجدته في بطنها، ضمته كغائب وجد غائبه بعد الشوق إليه، والظالم المخلط يكون لضمته لبث حتى تدركه الرحمة، والكافر لا خلاق له من الرحمة، فيملأ عليه ناراً.
719 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا أبو صالح الحراني، عن عبد الله بن لهيعة، عن دراجٍ، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن المؤمن في قبره في روضةٍ خضراء، يرحب له قبره سبعين ذراعاً، وينور له قبره كليلة البدر، أتدرون فيمن نزلت هذه الآية: {فإن له معيشةً ضنكا}؟ قال: عذاب القبر. والذي نفسي بيده! إنه ليسلط عليه تسعةٌ وتسعون تنيناً. أتدرون ما التنين؟ تسعةٌ وتسعون حيةً، لكل حيةٍ منها تسعة رؤوسٍ، ينفخن في جسمه، ويلسعنه، ويخدشنه إلى يوم يبعثون)).(3/325)
فهذا وجه واحد على ما ذكرنا.
ووجه آخر: أن الأرض مطيعة، قد كانت امتنعت، واستعاذت بالله حيث أخذت منها قبضة آدم صلى الله عليه وسلم حتى رجع الرسول، فبعث ملكاً آخر، فاستعاذت، فرجع الملك، فبعث ملكاً آخر، فيقال في الحديث: إنه ملك الموت، فلما استعاذت بالله، استعاذ الملك من أن يمتنع حتى يأخذ منها ما أمره، فلما انتشرت ذريته على وجه الأرض، لم يعتر أحد من خطيئة ألم بها غير يحيى بن زكريا -صلوات الله عليه-، فمن عاد منهم إلى الأرض يوم قبضه ومزايلة الروح عنه قد وضع الله عنه وزره، فلا سبيل للأرض عليه؛ لأنه صار كأن لم يوزر عليها ولم يعص، وهو من إحدى المنن التي من الله على رسوله، فقال: {ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك}.
فإذا وضع الله وزر عبد عنه في حياته، قبل نفسه؛ لأنها قد طهرت من الدنس، فإذا عاد جسده إلى الأرض التي منها ابتدئ مع نور الإيمان،(3/326)
ونور الطاعات، فذلك جسدٌ أشرف وأعظم خطراً من أن تضمه الأرض وتضغطه، فإن كانت الأرض مطيعة، فهذا الجسد منذ زايلها صارت في مرتبة أعظم من مرتبتها من منن الله عليها، وطاعته لا تشبه طاعة الأرض؛ لأن نفس الأرض مجبورة، ونفس الآدمي مفتونة بالشهوات، فليست طاعة الأرض، ولا طاعة السماء، ولا طاعة سائر خلقه، تشبه طاعة الآدمي؛ لأنها يخرجها من بين شهوات، ووساوس، وعجائب، فإذا دخلت على الأرض في لحده، وقد قبل الله نفسه، ووضع عنه أوزاره، ومعه التوحيد ونور الطاعات، فالأرض مهتزة لمقدمه، مهتشة إلى جسده.
كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((اهتز العرش لموت سعد ابن معاذ فرحاً بلقائه)).
وقد فسرناه في بابه، فإذا كان عرش الرحمن يهتز لروح عبد، فليس بعظيم ولا بعجيب أن تهتز الأرض لجسده، وتهتش إلى لقائه.
قال له قائل: فقد رويت لنا عن سعد بن معاذ: أنه لما دفن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا إله إلا الله، سبحان الله! (هذا العبد الصالح لقد ضيق عليه في قبره حتى خشيت أن لا يوسع عليه، ثم وسع عليه))).(3/327)
فقيل: بم سبحت يا رسول الله؟ قال: ((لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره، ثم رفه عنه، قال: نعم)).
720 - حدثنا هارون بن حاتمٍ الكوفي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياشٍ، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ، قال: لما مات سعدٌ، نزل جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! رجلٌ من أمتك مات اهتز له العرش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فإذا امرأةٌ، فقالت: يا رسول الله! إن سعد بن معاذ مات، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازته، فجلس على القبر، فقال: ((لا إله إلا الله، سبحان الله! هذا العبد الصالح لقد ضيق عليه في قبره حتى خشيت أن لا يوسع عليه، ثم وسع عليه)).(3/328)
721 - حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا ابن فضيلٍ، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره، فاحتبس، فقالوا: ما حبسك يا رسول الله! قال: ((ضم سعدٌ في القبر ضمةً، فدعوت الله أن يكشف عنه)).
فهذا لعلة، قد جاء في غير هذا الحديث سبب هذه الضمة، وإنما كانت مرة واحدة.
رواه يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أمية بن عبد الله: أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا؟ فقال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك، فقال: ((كان يقصر في بعض الطهور من البول)).
فكان القوم لا يستنجون بالماء، ومن شأنهم التمسح بالحجارة والتراب، فلما نزلت: {فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا}، فشا فيهم الطهور بالماء، فمنهم من كان يستنجي، ومنهم من كان يتطهر بالماء،(3/329)
فأهل الاستقامة يردون اللحود، وفيهم خصلة عليهم فيها تقصير، فوردوا اللحود مع ذلك التقصير غير نازعين عنها، وليس ذلك بذنب عندهم ولا خطيئة فيحاسبون في قبورهم.
722 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى ابن زكريا بن أبي زائدة، عن مجالدٍ، عن محمد بن المنتشر، عن ربعي بن حراشٍ، عن حذيفة، قال: في القبر حسابٌ، وفي الآخرة حسابٌ، فمن حوسب في القبر، لم يعذب في الآخرة.
فخليق أن تكون تلك الضمة التي نالت سعداً -مع عظيم قدره- من أجل أنه حوسب في القبر بذلك التقصير الذي ورد به في لحده، فكانت ضمة، ثم فرج عنه، فيلقى الله وقد حط عنه دنسها ووبالها.
723 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سليمان ابن شرحبيل، قال: حدثنا بشر بن عونٍ، قال: حدثنا بكار بن تميم القرشي، عن مكحولٍ، عن أبي أمامة، قال:(3/330)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا البول؛ فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر)).
724 - وحدثنا الجارود، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، قال: لما توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازتها. قال: فكأنما نسف على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماد، فلما دفنت، ذهب عنه بعض ذلك، فقالوا: يا رسول الله! ما نزال نرى في وجهك ما نكرهه، قال: ((إني ذكرت ضعفها، وضغطة القبر، فعفي لي عنها، ولقد ضغطت ضغطةً سمع [صوتها] كل شيء إلا الثقلين)).(3/331)
725 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن وهبٍ، عن عمرو بن الحارث، عن زيادٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أفلت أحدٌ من فتنة القبر، أو ضمه، لنجا سعدٌ، ولقد ضم ضمة، ثم رخي عنه)).
فقصة زينب، وقصة سعد قريبة إحداهما من الأخرى، إن هذا إنما يكون من التقصير في شيء، ثم يرفع عنه، وذلك اقتضاء الحق حقه، ثم تجيء الرحمة فتكشفه، فهذا لأهل الاستقامة.
فأما الأنبياء والأولياء: فلا نعلم أن لهم في القبر ضمة ولا سؤالاً،(3/332)
فذلك أنهم بحظهم من ربهم امتنعوا من هذا الأمر، وتخلصوا، ومن دونهما ليس لهم حظ من ربهم، إنما لهم الثواب بما عبدوا الله، والذي يمتنع من هذه الشدائد -التي وصفها في الموت، وبعد الموت- بالله، فهو منع، والذي يمتنع بالأعمال، فغير منيع حتى يمنعه به الله.
قال له قائل: فكيف يمتنع بالله؟
قال: هذه قصة الأنبياء والأولياء، على قلوبهم من جلال الله وعظمته ما إذا وردوا اللحود، هابتهم اللحود من جلالتهم، ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من هاب الله، أهاب الله منه كل شيءٍ))؟
726 - حدثنا بذلك محمد بن الحسين، قال: حدثنا إسحاق بن المنذر، قال: أخبرنا سليمان بن أبي معاوية الكوفي، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اتقى الله، أهاب الله منه كل شيءٍ، ومن لم يتق الله، أهابه الله من كل شيءٍ)).
ومثله ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لو عرفتم الله حق معرفته، لزالت بدعائكم الجبال)).
727 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عمر بن حفص بن غياثٍ، قال: حدثنا أبي، عن الحجاج،(3/333)
عن قتادة، عن شهر بن حوشبٍ، عن عبد الرحمن بن غنمٍ، عن معاذ بن جبلٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فوجه هذا عندنا: أن يبلغ من معرفة العبد بكرم ربه وجوده، فيحسن ظنه به: أنه يجيبه إذا دعاه، فدعاه أن يزيل الجبل، لأزاله، وهو ظاهر.
والوجه الآخر: أن يبلغ من معرفته بقدرته ما لا يتعاظمه ذلك، وقد قرب محله ودرجته حتى غرق قلبه في وحدانيته، فانفرد به، وأعطي سلطاناً، فبذلك السلطان يدعو الجبل فيزول، ويجيبه الجبل.
ومما يحقق هذا الوجه الثاني الذي ذكرنا ما جاء: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
728 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا القعنبي، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنشٍ، عن ابن مسعودٍ: أنه قرأ: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} الآية، فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قرأها موقنٌ على جبلٍ، لزال)).(3/334)
ففكره في هذا الذي قال: ((لو قرأها موقنٌ على جبلٍ لزال)) لأي شيء يزول؟
فمعناه عندنا: أن المصاب قد كان به شيطان يضر به، فلما قرأ الآية، ونهره، انتهر فذهب، وذلك أن القلب إذا كان له حظ من السلطان والهيبة والجلال فقد قوله وفعله، كما قد ترى رجلاً في بياض واحد من الناس لا يهاب ولا ينفذ قوله، فإذا دعاه الأمير، فولاه عملاً، وألبسه السواد؛ هابه من نابه، وأنفذوا قوله، وأرعبوا في خوفه، فالسواد علامة السلطان، فلما رأوه، تغيرت القلوب، وتبدت الأمور، وكذلك من نور الله قلبه باليقين، فتح على قلبه من جلاله وعظمته وسلطانه ما يهابه كل من رآه.
ومن هاهنا قال ابن عباس رضي الله عنهما، أو غيره: والله! لدرة عمر كانت أهيب في صدور الناس من سيوف غيره.(3/335)
وكان يهاب، حتى يفرقه عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أرادوا أن يكلموه بشيء، رفعوه إلى حفصة ابنته هيبةً له.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طلاقته، وبشاشته إلى أصحابه، ورحمته، وعطفه على أمته، وبشره، تهابه الخلق، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى كانوا يغتنمون أن يجيئهم أحد من البادية في جفائه، فيسأله عن بعض الأمر، وقال لرجل جلس عنده، فأخذته الرعدة، فقال: ((هون عليك، فإنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد)).
وروي عن عيسى بن مريم -صلوات الله عليه- أنه أتي بامرأة مصابة، فصك في صدرها، فخرج منها تسعة من الشياطين، فتعجبوا من ذلك، فقال عيسى عليه السلام: أتعجبون من ذلك؟! لو أن مؤمناً مستكمل الإيمان مستحقه نهر جبلاً، لزال ذلك الجبل من مكانه.
729 - حدثنا بذلك الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا القاسم الجوعي الدمشقي، عن الفريابي.(3/336)
730 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عبيد الله العمري عن نافعٍ، قال: خرجت عنق نار من حرة النار، لا تمر على شيء إلا أحرقته. فأتي عمر، فأخبر بها، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أيها الناس! أطفئوها بالصدقة. فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف دينارٍ. فقال عمر: ماذا صنعت، حصرت الناس، فتصدق الناس، فأتى عمر، فقالوا له: لقد طفئت. فقال: لو لم تفعلوا، لذهبت حتى أنزل عليها.
قال: وزلزلت المدينة على عهد عمر رضي الله عنه حتى اصطفقت السرر، فقام عمر بن الخطاب على المنبر، فقال: أيها الناس! ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتم؟ قال: فسكنت، فقال: لئن عادت، لا أساكنكم فيها.(3/337)
فإذا كان هذا حال المؤمن على ظهرها، فكيف يجوز أن تضمه؟
فإن -الله تبارك وتعالى- إذا شرح صدر عبد وضع عنه وزره، وذلك أنه يجد بقلبه من الهيبة والسلطان، ويظهر على قلبه من جلال الله، وعظمته وكبريائه ما تذوق كل شعرة منه على ناحية هول ذلك، فيعمل ذلك الهول في لحمه، ودمه، ومخه، وعظمه، وشعره، وبشرته، فيميت شهواته، ويعلق قلبه بوحدانيته، فإذا كان كذلك، فقد طهره.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أقل من هذا، ودون هذا، فأوجب له نحواً مما ذكرنا.
731 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمدٍ، عن يزيد بن الهاد، عن محمد ابن إبراهيم التيمي، عن أم كلثومٍ بنت العباس، عن أبيها العباس بن عبد المطلب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا(3/338)
اقشعر جلد العبد من خشية الله، تحاتت عنه خطاياه كما تحاتت عن الشجرة البالية ورقها)).
732 - حدثنا إبراهيم بن يوسف الحضرمي، قال: حدثنا ابن المبارك، عن الربيع بن أنسٍ، عن أبي داود، عن أبي بن كعبٍ، قال: ليس من عبدٍ على سبيلٍ وسنةٍ ذكر الرحمن، فاقشعر جلده من مخافة الله، إلا كان مثله كمثل شجرة يبس ورقها، فهي كذلك، فأصابتها ريحٌ، فتحات عنها ورقها، إلا تحاتت عنه خطاياه، كما تحاتت عنها ورقها.
قال: وليس من عبد على سبيل وسنة، ذكر الرحمن، ففاضت عيناه من خشية الله أن تمسه النار أبداً.(3/339)
733 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن عبد الصمد بن معقلٍ، قال: سمعت وهب بن منبهٍ يقول: قرأت في آخر زبور داود ثلاثين سطراً: يا داود! هل تدري أي المؤمنين أحب إلي أن أطيل حياته؟ الذي إذا قال: لا إله إلا الله، اقشعر جلده، فإني أكره لذلك الموت كما تكره الوالدة لولدها، ولابد له منه، إني أريد أن أسره في دار سوى هذه الدار؛ فإن نعيمها بلاء، ورخاءها شدة، فيها عدو لا يألوهم خبالاً، يجري منهم مجرى الدم، من أجل ذلك عجلت أوليائي إلى الجنة، لولا ذلك، ما مات آدم وولده حتى ينفخ في الصور.
734 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا محمد ابن المصفى، قال: حدثنا سويد بن عبد العزيز، قال: حدثنا أبو عبد الله النجراني، عن الحسن بن أبي الحسن، عن عبد الله(3/340)
ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن إذا مات تجملت المقابر لموته، فليس منها بقعةٌ إلا وهي تتمنى أن يدفن فيها، فإذا دفن في البقعة التي قضى الله أن يدفن فيها، دخل عليه ملكا الرحمة، فأجلساه، ثم سألاه، فقال أحدهما للآخر: ارفق بولي الله؛ فإنه نجا من هولٍ شديدٍ، ثم سأله عن الرب، فعظم إجلاله، وأخبره بعظمته، ثم سأله عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه، وأثنى عليه، وإن الأرض تزينت له، فقالت: رب! مني خلقته، وفي أعدته، ومني تبعثه للحساب، فائذن لي حتى أدخل على عبدك فلانٍ، فأمر الله الأرض، فتزينت في صورةٍ لم تر الأعين مثلها، ودخلت على من هو أحسن منها، فقالت له حين دخلت عليه: ما أحسن وجهك! وأطول نعيمك! وأفسح مضجعك! فقال لها: ومن رآك في هذه الصورة، فليحسن وجهه، وليطل نعيمه، وينفسح مضجعه. فقالت له: أنت مني(3/341)
خلقت، وإلي أعدت، وفي أكرمت، ثم خرجت من عنده، فيقول: كان ابن آدم ناعماً، حتى يبعث أولياء الله، لم يذق عذاب القبر، ويبعث (ببياض الوجه حتى يدخل في الجنة، فتلقاه الملائكة، فيقولون: سلامٌ عليك، هذا بشراك الذي كنت توعد، وكذلك يبعث أولياء الله)).
735 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا محمد بن المصفى الحمصي، قال: حدثني بقية، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالكٍ الطائي، عن عبد الرحمن بن عائذٍ الأزدي، عن أبي الحجاج الثمالي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول القبر للميت حين يوضع(3/342)
فيه: ويحك يا ابن آدم! ما غرك بي؟ ألم تعلم أني بيت الظلمة، وبيت الفتنة، وبيت الوحدة، وبيت الدود، وما غرك بي إذ كنت تمر بي فداداً؟ قال: فإن كان مصلحاً، أجاب عنه مجيب القبر، فيقول: أرأيت إن كان ممن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؟ قال: فيقول: إني إذاً أعود عليه خضراً، ويعود جسده عليه نوراً، وتصعد روحه إلى رب العالمين)).(3/343)
الأصل السابع والعشرون والمئة
736 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا العمري، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاصٍ الزهري، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سعادة ابن آدم استخارته الله، ومن سعادة ابن آدم رضاؤه بقضاء الله، ومن شقاوته تركه استخارة الله، ومن شقاوته سخطه لقضاء الله)).(3/345)
فالاستخارة في الأمور لمن ترك التدبير في أمره، وفوضه إلى ولي الأمر الذي دبر له ذلك، وقدره من قبل أن يخلقه.
737 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الوهاب بن نافعٍ، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: قال الله -تبارك وتعالى-: ((يا داود! تريد وأريد، ويكون ما أريد، فإن أردت ما أريد، كفيتك ما تريد، ويكون ما أريد، وإن أردت غير ما أريد، غيبتك فيما تريد، ويكون ما أريد)).(3/346)
فأهل التفويض رموا بإرادتهم، ورضوا بإرادته؛ لما علموا علم اليقين أن إرادتهم تبطل عند إرادته، ولم يبطلوا مدة أعمارهم في فكرة ذلك.
وذكر لنا عن بعض السلف: أنه قيل له: بم تعرف ربك؟ قال: بفسخ العزائم.
وذلك أن الآدمي يفكر ويدبر ويعزم، وتدبير الله وراءه بإبطال ذلك، وكون تلك الأمور على غير ما فكر ودبر، وأولو الألباب وأهل اليقين والبصائر عرفوا هذا، فرموا بفكرهم، وأقبلوا عليه يراقبون تدبيره، وينتظرون حكمه في الأمور، فإذا أتاهم أمر، قالوا: اللهم خر لنا، فهذا من سعادته، فإذا خار الله له، رضي بذلك، وافقه أو لم يوافقه، وهذا بحسن خلقه مع ربه، والآخر لسوء خلقه ترك الاستخارة، فإذا حل به تدبيره وقضاؤه، فسخط، وضاق به ذرعاً، وخنق نفسه، ولا نجاة، فلا يزداد إلا خنقاً، فقد صار الوهق في عنقه.
ومن سنة الاستخارة:
738 - ما حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا(3/347)
عبد الرحمن بن أبي الموال، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني، ودنياي، ومعاشي، ومعادي، وعاقبة أمري. أو قال: عاجل أمري، وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ودنياي، ومعاشي، ومعادي، وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ورضني به، وتسمي حاجتك باسمها)).(3/348)
قال له قائل: هذا رضاه بالمقدور من المضار، والمنافع في الدنيا، فكيف يكون رضاه بالمقدور من المعاصي؟
قال: رضاه بتقدير الله، وسخطه على نفسه في إرادتها على جوارحه في حركاتها فيما لم يؤذن له فيه.
فأما تقديره: فالله محمود عليه؛ لأنه لم يظلمك، وإنما يلزم الذم من يظلم، فأما من هو منزه عن الظلم، فمحمود في جميع شأنه، قد اتخذ عليك الحجة البالغة فيما أعطاك من العقل، والعلم، والهدى، والبيان على ألسنة الأنبياء، والرسل، والكتب، والعصمة لمن لم يكن ذلك عليه، فإن شاء عصم، وإن شاء خذل، فمرة يعصم، ومرة يخذل، كذلك جرى تقديره في شأنك، ولم يوجب لك على نفسه العصمة، فارض بتقدير الله، ولا تسخط عليه، فبجوره أسخط على نفسك، فإنها الجائرة،(3/349)
جارت على ربها بالشهوات، ولم تنل منه التأييد، فيأخذ بيده حتى لا يجوز عنه، ولم يكن للعبد عليه أن يأخذ بيده في وقت الجور عنه.
قال له قائل: وما تقدير الله؟
قال: إبراز علمه في عبده من الغيب، فقد علم ما يعمل هذا العبد، فابرز علمه.(3/350)
الأصل الثامن والعشرون والمئة
739 - حدثنا حاتم بن بكرٍ الضبي، قال: حدثنا أبو عاصمٍ النبيل، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، قال: أخبرني عبد الكريم: أن زياد بن أبي مريم أخبره: أن عبد الله ابن معقلٍ أخبره: أن أباه أخبره: أن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أخبره: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الندم توبةٌ)).(3/351)
740 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا عبيد الله ابن عمرٍو الرقي أبو وهبٍ الأسدي، قال: حدثنا عبد الكريم، عن زياد بن الجراح، عن عبد الله بن معقلٍ، قال: دخلت مع أبي على ابن مسعودٍ، فسمعت أبي يسأل ابن مسعودٍ: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الندم توبةٌ))؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الندم توبةٌ)).(3/352)
741 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا المسيب ابن واضحٍ السلمي، قال: حدثنا يوسف بن أسباط، عن مالك ابن مغولٍ، عن منصور، عن خيثمة، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الندم توبةٌ)).
742 - حدثنا محمد بن أيوب السمناني، قال: حدثنا عثمان بن صالحٍ السهمي، قال: أخبرني ابن وهبٍ، عن يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميدٌ الطويل، قال: قلت لأنس بن مالكٍ: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الندم توبةٌ))؟ قال: نعم.(3/353)
فالندم هو العزم على أن لا يعود، وهو إقامة القلب بين يدي ربه؛ لأن العبد قد بايع ربه على أن يكون بين يديه، وما دام بين يديه، فهو مطيع له، وما دام مطيعاً له، فهو بين يديه كالعبيد، فإذا أقبل على عمل غيره، فقد أعرض عنه، وتولى، فإذا انتبه من نومته، أو أفاق من سكرته، انقلب راجعاً إلى مولاه، فوقف بين يديه، عازماً على أن لا يبرح، فتلك الإقامة، هي ندامة، ومنه سمي: النديم نديماً؛ لأنه مداوم على مجالسته.
ويقال في اللغة: مدن الرجل بأرض كذا؛ أي: أقام بها، ولذلك سميت المدينة مدينة؛ لإقامة الناس بها، واتخاذها وطناً، وليسوا كأهل الوبر، مرةً هاهنا، ومرة هاهنا بأرض أخرى، ينتقلون بخيامهم، فهم أهل عمود سيارة في البلاد، وهؤلاء أهل مدينة؛ لأنهم قد مدنوا بأرض؛ أي: أقاموا بها، فلا يبرحون.
والرستاق: ما ترحل عن المدينة، وهي فارسية معربة، إنما هي رستة، ثم قيل: رستق، ثم قيل: رستاق، ورساتيق جماعتها، وعربيتها قرية وقرى؛ لأن الشذاذ من المدينة يتبع بعضهم بعضاً، والقرى الاتباع، ومنه اشتقت القراءة، فيقال: قرأ؛ لأنه أتبع الكلام بعضه بعضاً.(3/354)
ومنه قوله: أقرأه السلام؛ أي: أتبعه السلام، فإذا كانت الإقامة بالمدن، قيل: مدن، وإذا كانت الإقامة بالقلب بين يدي الله، قيل: ندم على التقليب، وإنما هو ثلاثة أحرف، فقدم الميم هاهنا، وأخر النون، وقدم النون هناك، وأخر الميم، فإنما هو ذلك العزم الذي يعزم للإقامة بين يدي الله مطيعاً، فقيل: هي توبة.
والتوبة: هي الرجعة إلى الله، يقال: تاب وأناب.
فالطاعة: هي الإعطاء، يقول: أعطى من جوارحه لله ما يأمره به حتى يقيم العبودة التي لها خلق، وإذا أذنب، فقد منع الله من جوارحه العبودة، فليس بمعطٍ، فقيل: ليس بمطيع.
وأما قولي: إذا انتبه من نومته، أو أفاق من سكرته، فالمؤمنون في أحوالهم على ضربين:
1 - ضرب منهم: سكارى، قد أسكرتهم شهوات نفوسهم عن الله، وحالت تلك الشهوات بين قلوبهم وبين العقل حتى لا يبصروا قبح ما يأتون.
والسكر: السد، ويقال: معدن العقل في الدماغ، وعلى القلب تدبيره، فبذلك النور الذي على القلب من العقل، يبصر محاسن الأمور، ومشانيها، فجاءت هذه الشهوات، فسدت طريق العقل، فقيل: سكر، فإذا أسكرته الشهوة عن الله، اجترأت النفس بدواهيها، والسوء الذي نسب إليه.(3/355)
2 - وضرب آخر: قد أفاقوا من سكرتهم، بخوف الوعيد والعقاب من الله عمل النور الوارد على قلوبهم، فأبصروا الوعد، والوعيد، فذهب سد الطريق، فهم على معاينة من الجنة والنار، وهم نيام عن الله، وهم المقتصدون: أهل الاستقامة، مطيعين لله، حافظين لحدوده، فأخذهم لنومته عن الله إن أطاع، وعمل أعمال البر، استكثر ذاك من نفسه، وإن تورع عن الذنب، كبر في صدره فعله، يرى أنه يعمل شيئاً، وهو غريق في نعم الله، وفي منن الله، نائم عن جلال الله وعظمته، ومننه، وتتابع إحسانه.
فإذا أذنب أحد من هذين الضربين، فأفاق هذا من سكرته، وانتبه الآخر من نومته؛ فر إلى الله من نفسه، راجعاً إلى الكون بين يديه، فعزم على أن لا يبرح، فذاك العزم ندمه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الندم توبةٌ)).
لأن ذلك العزم باطن فيما بينه وبين الله، ولم يظهر بلسانه، فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك الندامة رجعة إلى الله عز وجل، وهي التوبة.
والاستغفار: هو سؤال العبد ربه بعد ذلك أن يستره؛ فإنه لما برح من بين يديه، فقد ترك مقامه، وأخل بمركزه، وانحطت درجته، وبعد من ربه، فخرج من ستر سيده، وتعرى، فلما رجع بندمه إليه عارياً، استحيا منه،(3/356)
ومن ملائكته، وسمائه، وأرضه، وخلقه، وخليقته، فأمر: بأن يسأل ربه المغفرة، وهي الغطاء، وهي قول العبد: اغفر لي؛ أي: غطني واسترني؛ فإني خرجت من سترك، وبقيت بين يديك عارياً، تنظر إلي ملائكتك، وسماؤك، وأرضك.
قال الله -تبارك اسمه-: {ومن يغفر الذنوب إلا الله}. ومن يستر الذنوب إلا الله، لأن الستر ستره، فلما خرج من ستره، لم يكن أحد يستره غيره، فالعبد مضطر لا يجد أحداً يستر عليه، فقال: {أمن يجب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}.
فإذا علم العبد هذا على وجه ما وصفنا، سأل ربه ستره، وهو المغفرة، فهذه الأمة لما أيدت باليقين، أبصرت عريها، وخروجها من ستر الله، فوضعت لهم هذه الكلمة أن يقولوا: اغفر لنا؛ أي: استرنا.
وبنو إسرائيل لم يعطوا من اليقين ما أعطينا، فكانوا إذا أذنبوا، لم يبصروا تعريهم وخروجهم من الستر، فلم يأخذهم من الحياء ما أخذنا -معاشر هذه الأمة-، فقيل لهم: {وادخلوا الباب} -يعني: باب بيت المقدس- {سجداً وقولوا حطةٌ}؛ أي: حط عنا الذنوب؛(3/357)
لأنهم لم يعرفوا وراء الحط شيئاً، فشتان ما بين الكلمتين.
ورفع عنا السجود، فنحن نستغفر على أي حال تهيأ لنا، وأولئك في حال السجود، والقول قول النيام عن الله، فهذا الذي وصفنا إنما ذكرنا أساس هذا الأمر الذي هو الأصل، فمن فهم، فله حظه، ومن لم يفهم، مر على الظاهر كما وجد.
فقيل: التوبة: الاستغفار باللسان، والندم بالقلب، والإقلاع بالبدن، والإضمار على أن لا يعود.
فهذا كلام أهل الظاهر أجمل لهم حتى لا يتحيروا، وهم بمنزلة الغنم يقول الراعي: تشت حوتشت جوه، ولقهم جوه جوه، حتى ينضم الغنم بعضها إلى بعض، ويمضوا على ما يشار لهم إليه: {ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءً}.
فالذي أجمل أهل الظاهر لهم، والذي قلنا سواء، يرجع إلى معنى واحد، إلا أن الأغنام الجهلة ليس لهم منفذ في هذه المسالك التي وصفنا، إنما هو أن يقال لهم: افعلوا كذا، وخذوا هكذا، فلذلك طوى العلماء عنهم هذه الأخبار.(3/358)
الأصل التاسع والعشرون والمئة
743 - حدثنا علي بن حجرٍ السعدي، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفرٍ، عن أبان بن صالحٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء مخ العبادة)).(3/359)
فإنما صار مخاً؛ لأنه تبرؤٌ من الحول والقوة، واعترافٌ بأن الأشياء كلها له، وتسليم إليه، ويسأله، وهذا فعل العبيد الصديقين، إن كان رزقٌ، فمنه، وإن كانت عافية، فمنه، وإن كان نوال، فمنه، وإن كان ثواب، فمه، وإن كان دفع عقاب، فمنه.
فإذا كان سؤالاً لهذه الأشياء، فقد تبرأ من الاقتدار، والتملك، والحول، والقوة، وسلم إليه، فهو صدق اعترافه بأنه ربه، ورب الأشياء كلها، والدعاء سؤال حاجة وافتقار، فإنما يظهر أولاً على القلب، ثم على اللسان، فهو على القلب عبودة، وعلى اللسان عبادة، وإنما قال في الخبر: عبادة؛ لأنه أراد ما يظهر على اللسان والافتقار في القلب.
744 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ، عن موسى الراسبي، قال: حدثنا هلالٌ أبو جبلة، عن أبي عبد السلام، عن أبيه، عن كعبٍ، قال: قال الله -تبارك وتعالى- لموسى: ((يا موسى! قل للمؤمنين: لا يستعجلوني إذا دعوني، فلا يبخلوني، أليس يعلمون: أني أبغض البخل؟ فكيف أكون بخيلاً؟ يا موسى! لا تخف مني بخلاً أن تسألني عظيماً، ولا تستحي أن تسألني صغيراً، اطلب إلي الدقة،(3/360)
واطلب إلي العلف لشاتك. يا موسى! أما علمت أني خلقت الخردلة فما فوقها، وأني لم أخلق شيئاً إلا وقد علمت أن الخلق يحتاجون إليه؟ فمن سألني مسألة، ثم أعطيته، كان أشد عليه عند الحساب، ثم إذا أعطيته، ولم يشكرني، عذبته عند الحساب)).
745 - حدثنا محمد بن عثمان بن عمرو الطائفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بن أنسٍ رضي الله عنه، قال: قال عروة بن الزبير: إني لأسأل الله حوائجي في صلاتي، حتى أسأله الملح لأهلي.(3/361)
746 - حدثنا عبد العزيز بن المنيب، قال حدثنا محمد بن عبد العزيز الواسطي، عن رشدين، عن زهرة بن معبدٍ، قال: سمعت محمد بن المنكدر يدعو، يقول: اللهم قو ذكري؛ فإن فيه منفعةً لأهلي.
فإنما سأل القوة في ذلك، للخروج إلى الزوجة من حقها، لا لقضاء النهمة؛ لأن المرأة نهمتها في الرجال، فإذا عضلتها عن الرجال بعقدة النكاح، ثم لهوت عن حاجتها، أوقعتها في الفتنة والبلايا، فأنت مسؤول عن ذلك.(3/362)
الأصل الثلاثون والمئة
747 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الغفار ابن داود الحراني، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن دراجٍ أبي السمح، عن عيسى بن هلالٍ، عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن أرواح المؤمنين لتتلاقى على مسيرة يومٍ، وما رأى صاحبه قط)).
فالأرواح: شأنها عجيبٌ، وهي خفيفةٌ سماوية، وإنما ثقلت، حيث اشتملت عليها النفس بظلمة شهواتها، فإذا ريضت النفس حتى تذل وتنقمع،(3/363)
وتتخلص الروح منها، فإذا صفي من كدورة النفس، عادت إلى خفتها، وطهارتها، وكان لها شأن، لا يؤمن به إلا كل مؤمن قلبه بالله مطمئن، لا بالأحوال التي دبرت له.
ومن هاهنا: قال عمر رضي الله عنه لأبي مسلم الخولاني حيث ورد المدينة بعدما ألقي في النار، فلقيه عمر رضي الله عنه، فقال: أنشدك بالله! أنت عبد الله بن ثوب الذي حرقه الكذاب صاحب صنعاء؟ فقال: اللهم نعم، فاعتنقه عمر رضي الله عنه.
ومثل ما قال سلمان للحارث بن عميرة صاحب معاذ حيث أتى بابه، فخرج إليه سلمان، فقال له الحارث: أتعرفني يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، عرف روحي روحك.
748 - حدثنا بذلك صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشبٍ، قال: حدثني عبد الرحمن بن غنمٍ، عن الحارث بن عميرة الحارثي: أنه أتى باب سلمان، فخرج إليه فقال: أما تعرفني يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، عرف روحي روحك قبل أن أعرفك.(3/364)
ومثل قول أويس لهرم بن حيان حيث قال له: السلام عليك يا أويس، قال: وعليك السلام يا هرم بن حيان، قال: ومن أين عرفت -رحمك الله- أني هرم بن حيان؟ قال: عرف روحي روحك، وإن الأرواح خلقت قبل الأجساد بألفي عام، فتشامت كما تشام الخيل.
ويقال: إن بصر الروح متصل ببصر العقل في عين الإنسان، فالعين جارحة، والبصر من الروح، وإدراك الألوان من بينهما، فإذا تفرغ العقل والروح من اشتغال النفس، أبصر الروح، وأدرك العقل ما أبصر الروح، فعلم، وإنما عجزت العامة عن هذا؛ لشغل الأرواح بالنفوس، واشتباك الشهوات بها، فيشغل بصر الروح عن درك هذه الأشياء.
والذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يطلع عليكم من هذا الفج رجلٌ من أهل الجنة، فاطلع جريرٌ)).(3/365)
إنما يحمله أهل الظاهر: أن هذا، وما يشبهه من طريق الوحي، فعذروا فيما قالوا؛ لأن هذا طريق سهل يعرفه العالم والجاهل: أن الرسول يوحى إليه أخبار ما يكون، ولكن الرسول له من الإلهام، والفراسة، والحديث، وتلاقي الأرواح والرؤيا الصادقة ما للأولياء، بل كل شيء من ذلك لهم أصفى وأقوى وأخلص، ولهم مع ذلك زيادة النبوة، فليس كل شيء تكلم به الرسول تكلم به من الوحي، وأهل الباطن يرون أن هذا وشبيهه للرسول من طريق الأرواح، مع أن ذلك جائز أيضاً.
وقوله: ((إن أرواح المؤمنين لتتلاقى)): فالمؤمن في ذلك الزمان عندهم هو المستكمل لحقائقه الذي قد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، ليس الموحد الذي أحرز عرضه ودمه وماله بالكلمة العليا، وأقبل على شهواته، متشاغلاً عن العبودة، حتى خلط على نفسه الأمور، هذا قلبه مأسور، وروحه مشغول، ونفسه مفتونة، فكيف يبصر شيئاً، أو يعقل ما حضر؟ فهذا فيما حضر عاجز عن أن يبصر، فكيف فيما غاب عنه؟(3/366)
الأصل الحادي والثلاثون والمئة
749 - حدثنا هارون بن حاتمٍ الكوفي، حدثنا أبو أسامة، عن عمر بن حمزة، عن سالمٍ، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل أمةٍ أمينٌ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)).
750 - حدثنا نصر بن علي الحداني، قال:(3/367)
حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن خالدٍ الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
751 - حدثنا يعقوب بن شيبة، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عيسى التمار، قال: حدثني يحيى بن [أبي] زكريا الغساني، عن عبد الله بن عثمان بن خثيمٍ، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: أنه سمع خالد بن الوليد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لكل أمةٍ أمينٌ، وأمين هذه(3/368)
الأمة أبو عبيدة بن الجراح)).
فالأمانة: هي ترك الأشياء في مواضعها كما وضعت، وإنزالها كما نزلت.
جعل الله الدنيا ممراً، والآخرة مقراً، والروح عاريةً، والرزق بلغةً، والمعاش حجة، والفضول بلوى ووديعة، وللسعي جزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وخلق الخلق في ظهر آدم، واستخرجهم، ولهم بين يديه مقام، وقررهم بالعبودة، وقلدهم إياها، وأخذ عليهم العهد والميثاق، ثم نقلهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى اللحود، ومن اللحود إلى النشور، ومن النشور إلى المحشر، ومن المحشر إلى الصراط، ومن الصراط إلى مقام العرض، والسؤال عما قلده في المقام(3/369)
الأول، وأخذ عليه العهد والميثاق، فقد ترك له جميع هذه المدة التي بين المقامين، فلا يسأله إلا عن الوقت الذي بلغ الحلم، وأدرك مدرك الرجال إلى وقت فراقه الدنيا، وما سوى ذلك مرفوع عنه قبل وبعد.
فدعي من دار الآفات إلى دار السلام، ومن السجن إلى البستان، ومن دار الفناء إلى دار البقاء، وخلق الليل والنهار، ليركضان بالخلق إليه دؤباً دؤباً، فالأمين من استقرت نفسه، فأبصر قلبه هذه الأشياء ببصيرة نفسه على هيئتها التي خلقت، فإن النفس لا تبصر ما دامت في العدو والطياشة، والالتفات إلى أحواله يمنة ويسرة، فإذا سكنت واستقرت، واطمأنت إلى خالقها، فقد صارت أمينة لا تخون، وفي النفس شهوة، وللنفس أخلاق رديئة دنيئة مفرطة لأمر الله، عجولة في مهواها، تشبثت بمخاليبها في دنياها؛ لما وجدت من اللذة وقضاء النهمة فيها، فعميت عن أنها دار ممر، وألهتها عن أن تذكر دار المقر، وشغفت بالحياة، فنسيت أن تذكر أن الروح عارية، وطلبت المعاش، حرصاً لتجمع الكثير، عدة لنهماتها، ونوائبها، وتناولت الرزق على قضاء الشهوة، ولهت عن السعي، ورفعت بالها عنها، ونسيت أنه يركض بها، وأنها تحتاج إلى سعي منها مع الركض(3/370)
الذي تركض به سعياً يصلح، ويعرف في ذلك الموقف العظيم في صفوف الملائكة والأنبياء، والمرسلين، وعباده الصالحين.
فإنما جاءت هذه الفتنة من هذه النفس، فإذا كانت النفوس ساكنة الطبع، مطمئنة الفطنة، ميتة الشهوات، وجدتها كريمة، حرة، ووجدت أخلاقها مستوية، يشبه بعضها بعضاً، فأبصر القلب الأشياء على هيئتها التي خلقت، فصار ذا أمانة؛ لأنه ليس هناك دخان يظلم الصدر، ويحجب النور عن إشراقه، فإذا أشرق، كانت النفس ذات بصيرة.
ومما يحقق ما قلنا: أن الأمانة من حسن الخلق، والخيانة من سوء الخلق:
752 - ما حدثنا به أبو داود المصاحفي، قال: حدثنا النضر، قال: حدثنا الأشعث، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحدٍ من أصحابي إلا لو شئت عبت(3/371)
عليه في خلقه، غير أبي عبيدة بن الجراح)).
فقد كشف لك هذا الحديث معنى ما قال لأبي عبيدة، أنه أمين هذه الأمة، فإنما ظفر أبو عبيدة بهذه الخصلة حتى صار واحد هذه الأمة في الأمانة بما أخبر في حديث النفس من طهارة خلق أبي عبيدة.(3/372)
الأصل الثاني والثلاثون والمئة
753 - حدثنا محمد بن عبدة بن سليمان العامري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام، وذلك لأنه إذا دخله، سأل الله الجنة، واستعاذ به من النار، وبئس البيت يدخله الرجل المسلم بيت العروس، وذلك لأنه يرغبه في الدنيا، وينسيه الآخرة)).(3/373)
فهذا لأهل الغفلة، صير الله هذه الدنيا بما فيها سبباً للذكر لأهل الغفلة؛ ليذكروا بها آخرتهم.
فأما أهل اليقين: فقد صارت الآخرة نصب أعينهم، فلا بيت حمام يزعجه، ولا بيت عروس يستفزه، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى إن نعيم جميع الدنيا في أعينهم كشارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كنقلة عوقب بها مجرم أو مسيء قد كان استوجب القتل والصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا، عظمت أهوال القيامة، وسلطانه يوم بروزه من الحجب على قلوبهم، فلم يحتاجوا إلى الاتعاظ، والاعتبار بالحمام، وعمل على قلوبهم شأن كرمه وجوده، ومجده وبره بعباده المؤمنين، فأنساهم كل نعيم.
وأما أهل الغفلة: فإنهم يحتاجون إلى كل شيء من الدنيا أن يتعظوا منها، ويعتبروا بها، فإذا عاين بقعة حامية ذات بخار فائرة، وماء حميم يصب من فوق رأسه مرة، هاجت به، فأخذه الغم بكظمه، ودار به رأسه، حتى يستروح إلى الماء؛ ليبرد به فؤاده، وإلى روح يدخل عليه من خلل الباب، فهذه بقعة تذكر الآخرة، وعجائبها، ودار العقاب، وفنون عذابها،(3/374)
وإذا عاين بقعة مزينة بفتن الدنيا، منجدة بمتاع غرورها، مشرقة بحطامها، مغشوشة بأفراح خدعها، مصبوغة بأضراب سرورها ولهوها، تمنيه نفسه، وترغبه في ذلك، وأنسته الآخرة؛ لعاجل ما يجد من اللذة والشهوة.
ودخول الحمام لم يكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن دخله متأدباً بأدب الله إذا دخله مستتراً، أو طالباً الخلوة، أو غاضاً بصره، فلا يرى عورة، ولا ترى له عورة.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحذر عن ذلك ويؤدب، وإن كان خالياً.
754 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا يحيى بن عثمان التيمي، قال: حدثنا عبد الله بن طاوسٍ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا بيتاً يقال له: الحمام))، قيل: يا رسول الله! إنه يذهب الوسخ، ويذكر النار. فقال: ((إن كنتم لابد فاعلين، فادخلوه مستترين)).(3/375)
فإنما أمر أن يتقي ذلك فيما نعلمه بحال التعري، ونظر بعضهم إلى بعض، ألا ترى أنه لما أذن فيه، وذكر الدخول، أشار إلى الستر؟
755 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيعٍ، قال: حدثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدثنا بهز بن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو مما ملكت يمينك)). قال: يا رسول الله!(3/376)
فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: ((فالله أحق أن يستحيا منه)).
756 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا بهز بن حكيمٍ، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(3/377)
الأصل الثالث والثلاثون والمئة
757 - حدثنا علي بن حجرٍ، قال: حدثنا شريكٌ، عن عبد الله بن محمد بن عقيلٍ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناعٍ من رطبٍ، وأجر زغبٍ، فأعطاني ملء كفه حلياً أو ذهباً.
758 - حدثنا يعقوب بن شيبة، قال: حدثنا إسحاق ابن عيسى الطباع، قال: حدثنا شريكٌ، عن عبد الله بن محمد ابن عقيلٍ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت: أتيت(3/379)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من رطبٍ وأجرٍ زغبٍ، فأعطاني ملء كفه ذهباً، فقال: ((تحلي بهذا يا بنية)).
فالهدية: خلق من خلق الإسلام، عليه دلت الرسل، وعليه ندبت؛ لائتلاف القلوب، ولنفي سخائم الصدور؛ فإن ابن آدم مقسوم على ثلاثة أجزاء:
1 - قلب: بما فيه من الإيمان.
2 - وروح: بما فيه من الطاعة.
3 - ونفس: بما فيها من الشهوة.
فالإيمان: يدعو إلى الله، والروح: تدعو إلى الطاعة، والنفس: تدعو إلى البر واللطف، والنوال.
فكانت القلوب تأتلف بالإيمان، والأرواح بالطاعات، وحظ النفس باقية، فإذا تهادوا، تمت الألفة، ولم يبق هناك حزازة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواداً، يقبل الهدية، ويكافئ من وجده بأمثالها.
فالربيع كانت ممن قتل أبوها يوم بدر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرها، ويدخل عليها، ويعتني بها، ويكرم أحوالها، فوافقت هديتها سعة الوجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قلبه واسعاً، فأعطاها ملء كفه ذهباً؛ ليعلم من(3/380)
بلغه ذلك، ومن عاينه، أن لا قدر للدنيا عنده، وأن الذي يتودد إليك في الله، وهو حر من الأحرار، لا سبيل لك إلى رقه، حقيق عليك أن تربي عليه في الوداد، وتعينه على صلته لما تبعثه على معالي الأخلاق.
وأيضاً خلة أخرى: إن للبر أثقالاً، فالكريم: لا يكاد يتخلص من تلك الأثقال إلا بأضعاف ذلك البر، وإلا فهو في حياء، وشغل نفس من الذي بره، فإذا ضعف له في المكافأة، انحطت عنه أثقال بره، وذهب خجل نفسه.
وقوله: ((تحلي بهذا يا بنية)). فإن الربيع كانت جارية حديثة السن.
روي عنه في حديث آخر: أنه قال: ((إنما تزين المرأة لزوجها، أو لطمعٍ في زوجٍ يخطبها، أما ما سوى ذلك، فلا)).
ومنه قوله لأسامة بن زيد: ((لو كنت جاريةً، ما بغاك أحدٌ، ولو كنت جاريةً، لحليناك حتى ننفقك)).(3/381)
وروي عن إبراهيم النخعي: أنه كره أن يقول لولد غيره: يا بني.
ففي هذا الحديث ما يعلمك أنه لا بأس بذلك، فقد قال لها: ((يا بنية)).
وأما قوله: ((قناعٌ من رطبٍ)).
فالقناع: الطبق، وكل شيء أقنع؛ أي: ارتفع من الأرض، ومنه قوله تعالى: {مقنعي رءوسهم}؛ أي: رافعي رؤوسهم {لا يرتد إليهم طرفهم}.
وقوله: ((أجرٍ زغبٍ)). فالواحد جرو، والجميع أجرٍ، وهو الفتى أول ما يدرك يقال له جرو، وهو الذي له زغب، كهيئة زئبر الثوب، ومثله في اللغة: دلوٌ وأدلٍ جماعة الدلو، فإذا وقفت، قلت: أجري وأدلي، فإذا أجريت في الإعراب، نونت، فقلت: أجرٍ، وأدلٍ؛ كما ترى.
والمكافأة: حق من الحقوق، فكلٌّ إنما يكافئ على قدره من خلقه وسعته، ولم يكن يخلو في ذلك الوقت بالمدينة من فقير، وذي حاجة من(3/382)
أصحابه، ولكنه كان يعطي على نوائب الحق، فرأى هذا حقاً، فأعطاها.
وروي عن وهب بن منبه، قال: ترك المكافأة من التطفيف.
759 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سهل بن خاقان، عن عبد الوهاب بن همامٍ الحميري، قال: سمعت وهباً يقول: ترك المكافأة من التطفيف.
760 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ناول شابٌّ الليث بن سعدٍ أترنج(3/383)
باكورة، فأمر أن يعطى ديناراً، وقال: كان الأسخياء يفعلون مثل ذلك.
761 - حدثنا عمر، قال: حدثنا محمد بن معاوية، قال: كنت عند الليث بن سعدٍ، فجاءته عجوزٌ، فقالت: يا أبا الحارث! مر وكيلك أن يعطيني رطلاً من عسل؛ فإن ابني مريض يشتهيه. فقال لوكيله: أعطها مطراً من عسلٍ. قال له: إنما سألتك رطلاً. قال: هي سألت على قدرها، ونحن نعطيها على قدرنا.
والمطر: وقر بعير: مئتان وخمسون مناً؟
وروي عن عبد الله بن أبي بكرة: أنه أتاه قوم، فقالوا: إن لنا مريضاً، قد تشنجت أعضاؤه من الرياح، ووصف لنا أن نعالجه بلبن الجواميس، فننقعه فيه، فنحب أن تعيرنا من جواميسك، فقال لوكيله: كم لنا يا لطف(3/384)
من الجواميس؟ قال: خمس مئة، قال: سقها إليهم، قالوا: رحمك الله، إنا سألناك عارية، قال: إنا لا نعير الجواميس، فأعطاهم إياها.
762 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد ابن سنان العوقي، قال: حدثنا موسى بن علي بن رباحٍ اللخمي، قال: سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن عمرٍو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الهدية رزقٌ من الله طيبٌ، فإذا أهدي إلى أحدكم، فليقبلها، وليعط خيراً منها)).(3/385)
الأصل الرابع والثلاثون والمئة
763 - حدثنا عبد الله بن عبد الله الربعي البصري، قال: حدثنا سليمان بن الربيع النهدي، قال: حدثنا همام ابن مسلمٍ الزاهد، قال: حدثنا مقاتل بن حيان أبو بسطام البلخي، عن الضحاك بن مزاحمٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ولي من أمر أمتي شيئاً، فحسنت سريرته، رزق الهيبة من قلوبهم، وإذا بسط يده لهم بالمعروف، رزق المحبة منهم، وإذا وفر عليهم أموالهم، وفر الله عليه ماله، وإذا أنصف الضعيف من القوي، قوى الله سلطانه، وإذا عدل، مد الله في عمره)).(3/387)
فحسن السريرة من هيبة الله، فإذا هاب عبدٌ ربه، اتقاه في السر والعلانية، وفي ظاهره، وباطنه، فإذا كان كذلك، أهاب الله منه خلقه، وصنائع المعروف لا تكون إلا من حسن الخلق، ومن حسن الله خلقه أحبه، ومن أحبه الله، ألقى محبته على قلوب عباده، وهو قوله تعالى لموسى عليه السلام: {وألقيت عليك محبةً مني}.
قال: فكان لا يراه أحد إلا أحبه، حتى فرعون الذي كان يذبح أمه في جنبه، وهو يرشفه في صدره.
764 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا هارون الراسبي، عن جعفرٍ، عن أبي رجاء في قوله تعالى: {وألقيت عليك محبةً مني} قال: الملاحة والحلاوة.(3/388)
وأما توفير المال على الرعية؛ فمن قلة الرغبة، ومن قلت رغبته، وسقط عن قلبه قدر الشيء، فالدنيا مقبلة عليه، خادمةٌ له.
وأما إنصاف الضعيف، فإنما أعطي السلطان السلطنة على هذه الشريطة، على أن يأخذ للضعيف من القوي، فلولا ذلك، لم يحتج إلى سلطان، فإذا أخذ للضعيف من القوي، فقد تمسك بالذي أعطي على هيئة ما أعطي، فأديم له قوة ذلك الذي أعطي، وإذا منع حق الضعيف، فقد ضيع سلطانه الذي أعطي، وذللَه، فكيف تبقى معه قوة، وهو الذي ضعف ما أعطي، والسلطان: ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم.
765 - حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، قال: حدثنا بشر بن بكرٍ، عن سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،(3/389)
[قال]: ((فإذا أعطي أحدٌ سلطاناً، أرعب القلوب)).
لأن الرعب من جنوده، فذهلت النفوس عن الاقتدار والتملك والتحير، فإذا تمسك به، فأخذ للضعيف من القوي حقه بما أعطي من القوة، زيد قوة.
قال الله -تبارك وتعالى- في قصة داود عليه السلام: {وشددنا ملكه}، قال: الهيبة.
وأما قوله: ((وإذا عدل في رعيته، مد في عمره))؛ لأن بالعدل صلاح الأرض، وبالجور فسادها، فإذا فسدت الأرض من جوره، انقطع عمره وكان {كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرارٍ}؛ لأن الأرض تعج إلى الله من الظلمة، والسماء تجأر، والبحار تئن، والجبال تشكو، فيقطع الله عمره، فإذا عدل، وصل الله عمره من كرمه، فمد له؛ لأنه أقام عدله الذي ارتضاه لنفسه، وبالعدل قامت السماوات والأرض.
والجور من الهوى، وهو الذي يهوي بصاحبه عن الله، فإذا هوى عن الله، ففي النار مهواه، وقال الله -جل ذكره-: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن}.(3/390)
الأصل الخامس والثلاثون والمئة
766 - حدثنا إسماعيل بن نصر بن راشدٍ، قال: حدثنا مسددٌ، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا عمر مولى غفرة، قال: سمعت أيوب بن خالد بن صفوان يذكر عن جابر بن عبد الله، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أيها الناس! من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله عنده؛ فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه، وإن لله سرايا من الملائكة تحل، وتقف على مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر الله في الأرض، ألا فارتعوا في رياض الجنة)). قالوا: وأين رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: ((مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر الله، واذكروه بأنفسكم)).(3/391)
فمنزلة الله عند العبد إنما هو على قلبه على قدر معرفته إياه، وعلمه به، وهيبته منه، وإجلاله له، وتعظيمه إياه، والحياء والخشية منه، والخوف من عقابه، والرجل عند ذكره، وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، وقبول مننه، ورؤية تدبيره، والوقوف عند أحكامه طيب النفس بها، والتسليم له بدناً، وروحاً، وقلباً، ومراقبة تدبيره في أموره، ولزوم ذكره، والنهوض بأثقال نعمه، وإحسانه، وترك مشيئته لمشيئته، وحسن الظن به في كل ما نابه.
والناس في هذه الأشياء على درجات يتفاضلون: فمنازلهم عند ربهم على قدر حظوظهم من هذه الأشياء، وإن الله -تبارك اسمه- أكرم المؤمنين بمعرفته، فأوفرهم حظاً من المعرفة، أعلمهم به، وأعلمهم به أوفرهم حظاً من هذه الأشياء.(3/392)
وأوفرهم حظاً منها: أعظمهم منزلة عنده، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة.
وعلى قدر نقصانه من هذه الأشياء ينقص حظه، وتنحط درجته، وتبعد وسيلته، ويقل علمه به، وتضعف معرفته إياه، ويسقم إيمانه، وتملكه نفسه، قال الله -تبارك اسمه-: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعضٍ وآتينا داود زبوراً}.
فإنما فضلوا على الخلق بالمعرفة له تعالى، والعلم به، لا بالأعمال، واليهود والنصارى، وسائر أهل الملل قد عملوا أعمال الشريعة، فصارت هباءً منثوراً.
فبالمعرفة تزكو الأعمال، وبها: تقبل منهم، وبها تطهر الأبدان، فمن فضل بالمعرفة، فقد أوتي حظاً من العلم به، ومن فضل بالعلم به تكون هذه الأشياء التي وصفنا موجودة عنده.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عرج به إلى السدرة: ((فإذا النور الأكبر قد تدلى، فالتفت إلى جبريل، فإذا هو ميتٌ من الفرق، كالحلس الملقى من خشية الله، قال: فعرفت فضل علمه بالله على علمي)).
767 - حدثنا بذلك عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا(3/393)
سيارٌ، عن جعفرٍ، عن أبي عمران الجوني.
فإنما فضلت الأنبياء من دونهم بالنبوة، لا بالأعمال، والنبوة فيها العلم بالله، وإنما تفاضلت الأنبياء فيما بينهم بالعلم بالله، لا بالأعمال، ولو كانوا يتفاضلون بالأعمال؛ لكان المعمرون من الأنبياء، وقومهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته، وقد نجد في الأمة من هو أطول عمراً وأشد اجتهاداً من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبعد منه في الدرجة من العرش إلى الثرى، فإنما تقدمه بفضل المعرفة له، والعلم به، والانتباه عنه.
768 - حدثنا عبد الله بن عبد الله الربعي، قال: حدثنا عبد الله بن وهبٍ المصري، قال: حدثنا معاوية بن صالحٍ، عن عيسى بن عاصمٍ، عن زر بن حبيشٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه،(3/394)
قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فصنع شيئاً لم نره صنع في غيره، مد يده، ثم أخرها، فقلنا له: يا رسول الله! لقد صنعت في صلاتك شيئاً لم نرك صنعت في غيرها؟ قال: ((إني رأيت الجنة، فرأيت فيها داليةً قطوفها دانيةٌ، حبها كالدباء، فأردت أن أتناول منها، فأوحى الله إليها: أن استأخري، ثم رأيت النار فيما بيني وبينكم، حتى رأيت ظلي وظلكم، فأومأت إليكم: أن استأخروا، فقيل لي: أقرهم، فإنك أسلمت وأسلموا، وهاجرت وهاجروا، وجاهدت وجاهدوا، فلم أر لي عليكم فضلاً إلا بالنبوة)).
فبالنبوة أدرك رؤية ما وصف، فرأى الجنة أمامه حتى كاد يتناول منها، فأوحى الله إليها: أن استأخري، ولم يقل: إني أخرت عنها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم من الله بالمنزلة التي لا تحول بينه وبين الجنة إلا قبض روحه حتى يلقى ربه في جناته.(3/395)
فإنما أدنيت الجنة منه؛ ليعرف حاله أنك بهذه المنزلة، وليس بينك وبين أن تدخل على الله في داره إلا قبض روحك، فلما مد يده ليتناولها، لم يؤخر عنها، ولكن أوحي إليها، أن تأخري، فإنه في بقية من أجله في الدنيا، وليس ينال أحد الجنة بمباشرة نفسه إلا من ذاق الموت، فاستأخرت، ثم أري النار بينه وبين القوم، يعرفه أنك جزت النار بقلبك بما أعطيت من النبوة، فقد فرغت من أمر الصراط، ومن خلفك لم يجوزوا بعد بقلوبهم، فهو عليهم باقٍ إلى يوم القيامة.
ألا ترى إلى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا ضرب الصراط على النار، قيل لي: قرب أمتك، فإذا دنوت منها، قال لي جبريل: يا محمد! خذ بحجزتي، فأخذ بحجزة جبريل، فيضعني من وراء النار، فيقال للأمة: جوزوا، فيجوزون بأبدانهم، فمنهم في السرعة [في] مثل اللحظة، والبرقة، ومنهم في مثل الريح، ومنهم في مثل أجاويد الخيل، ومنهم ركضاً، ومنهم سعياً، ومنهم مشياً، ومنهم زحفاً)).
فإنما يجوزونها بقدر إيمانهم ويقينهم، وحظهم من النبوة؛ فإن لأهل اليقين حظاً من النبوة.(3/396)
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الاقتصاد، والهدي الصالح، والسمت الحسن، جزءٌ من أربعةٍ وعشرين جزءاً من النبوة))؟
فالرسول بفضل النبوة جاز بقلبه أيام الحياة النار، فلما وصل إليها، أجيز من غير تكلف ولا مباشرة.
ويحقق ما قلنا: ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أنه قال: ((أريت الجنة بين يدي، وأريت النار من خلفي بيني وبين القوم)). يعلمه منزلته، ومنزلة القوم أنه قد فرغ من أمر الجواز، ومن بعده لم يفرغوا.
قال الله -تبارك اسمه-: {كلا لو تعلمون علم اليقين. لترون الجحيم. لم لترونها عين اليقين}.
ففي الدنيا يرى أهل اليقين بعلم اليقين، فيجوزونها بقلوبهم، {ثم لترونها عين اليقين} غداً معاينة، فمعاينة القلب، علم اليقين، ومعاينة(3/397)
الجسد بعينه الذي ركب فيه عين اليقين.
وأن الله -تبارك اسمه- لا يجمع على عبد خوفين، كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((قال ربكم: وعزتي! لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين)).
فمن أعطي علم اليقين في الدنيا، طالع الصراط وأهواله بقلبه، فذاق من الخوف، وركبه من الأهوال ما لا يوصف، فوضع عنه غداً، ومر عليه في مثل البرق.
فالأنبياء أوفر حظاً من اليقين، ومطالعتهم أمور الآخرة بقلوبهم أكثر، وهولهم أشد؛ لفضل نورهم، ورؤيتهم تلك الأشياء بقلوبهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم أوفرهم حظاً.
وبلغنا: أن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم كان يخفق قلبه في صدره حتى يسمع قعقعة عظام صدره نحواً من ميلٍ من الخوف، فهل هذا إلا من المطالعة البالغة؟(3/398)
فمحمد صلى الله عليه وسلم يؤتى من الأمن يوم القيامة ما يتفرغ لأمته، فهل هذا إلا من الخوف الذي قد كان علاه أيام الدنيا، فلم يجمع عليه خوفين.
وإنما جازوا الصراط؛ لتفاوت مدة جوازهم، حتى كان جواز أحدهم في مثل الريح، وآخر في مثل الركض، وآخر في مثل مشي على القدم، فيحتاج إلى مدة حتى ينجو منه، فعلى قدر المدة يذوق الأهوال والأفزاع عليها، فكل من كان له هاهنا حظ من اليقين، طالع بقلبه بقوة ذلك اليقين، فعاين منه ما ذاق [من] الخوف، فسقط عنه من الخوف على ما ذاق هاهنا، فكذلك تفاوت جوازهم.
وأما قوله: ((حتى رأيت ظلي وظلكم فيها)): فالنار سوداء مظلمة، والمؤمنون أهل نور وضياء، فإذا أشرفوا على النار غداً، وقع ضوءهم على النار على مقادير أجسادهم، فذلك ظلهم في النار، كما أن الشمس إذا أشرقت على الأرض فأضاءت؛ وقع لأجسادهم التي لا ضوء لها على ذلك الضوء ظلمة، فلذلك ظله هاهنا، فإذا كان في الآخرة، وأعطوا النور، فمروا بنورهم، وأجسادهم مضيئة؛ وقع ضوءهم على ظلمة النار، فسمي ذلك الضوء على الظلمة ظلاً.
وقوله: ((أومأت إليكم أن استأخروا)): فإنما أومأ إليهم؛ شفقة عليهم أن يحترقوا، ولم يتقدم هو بنفسه أمام القبلة فيتباعد منها، فذلك من أجل أنه رأى نفسه قد جازها، فلم يخف على نفسه، فلم يبرح، ورآهم لما يجوزوا، وهم مشرفون عليها، فخاف عليهم، فأمرهم بالاستئخار، فقيل له: ((أقرهم؛ فإنك أسلمت وأسلموا، وهاجرت وهاجروا، وجاهدت وجاهدوا)).(3/399)
معناه: أنهم قد ائتمروا بأمري، فإني أمرتهم بالإسلام، والهجرة، والجهاد، فليس للنار عليهم سبيل؛ لأن رحمتي قد نالتهم.
وقال الله تعالى في تنزيله: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله}، فحقق رجاءهم، وأخبر بصدقهم أنهم صدقوا في الرجاء، ثم وعدهم فقال: {والله غفورٌ رحيمٌ}؛ أي: لمن رجا مثل رجائهم، ومن صدق الرجاء أن يطيع من رجاه فيما يأمره به.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الهجرة هجرتان: فإحداهما أفضل من الأخرى، والجهاد جهادان، وأحدهما أفضل من الآخر)).
فالهجرة أن تهجر ما كره ربك، وهو أفضل الهجرة، والأخرى: أن تهاجر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والجهاد: أن تجاهد هواك، ونفسك، وهو أفضل، والجهاد الآخر: مجاهدة العدو.
فقد جمع الذين يرجون رحمة الله الهجرتين والجهادين، وهم الذين كانوا خلفه، فقيل له: أقرهم: {ما على المحسنين من سبيلٍ}؛ أي: إن النار لا تضرهم.
قال: ((فلم أر لي عليكم فضلاً إلا بالنبوة))، وكفى بها فضلاً.
فإن النبوة بلغته الدرجة العليا، ورفعت عنه أهوال القيامة، والجواز على النار، وأوصلته إلى المقام المحمود، والوسيلة، والمكرمة، ولم ينال(3/400)
بالأعمال ما وصفت، والأعمال إنما تقوم ويعظم خطرها بالنيات، والنية إنما بدؤها من الإيمان.
فأهل النيات بهذه الصفة يبدو لهم من إيمانهم ذكر الطاعة، فتنهض قلوبهم إلى الله من مستقر الناس، فإن قلوبهم مع نفوسهم، وأهل اليقين قد جازوا هذه المنزلة، وصارت قلوبهم مع الله، وزايلت نفوسهم، فقد فرغوا من أمر النية.
فالنية: النهوض، يقال في اللغة: ناء ينوء؛ أي: نهض ينهض، فنهوض القلب من معدن الشهوات إلى الله؛ بأن يعمل طاعة هو نية، والذي صار قلبه بين يدي الله محال أن يقال له: نهض قلبه إلى الله في أمر كذا، فهو ناهض بمرة نهوضاً، وقف بين يديه، فلا يرجع، ولا ينصرف. وقد رفض ذلك الوطن الذي كان توطنه، وارتحل إلى الله.
فانظر أين تقع أعمال أهل اليقين، وإنما يعملونها، وقلوبهم هناك واقفة بين يدي الله في جلاله، وعظمته من هؤلاء الذين ينهضون بقلوبهم(3/401)
في ذلك العمل إلى الله، ويريدونه به، ويحتاجون إلى أن يخلصوا إرادتهم من أهوائهم.(3/402)
الأصل السادس والثلاثون والمئة
769 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الله ابن أبي حسان، قال: إسحاق بن حازمٍ المدني، عن صالحٍ بن مسمارٍ مولى سعد بن أبي وقاصٍ، عن عامر بن سعدٍ، عن أبيه، قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في جوف الليل، وهو يقول: يا غوثاه من النار! يرددها كذلك ليلاً طويلاً، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أنت القائل الليلة: يا غوثاه من النار؟))، فقال: نعم يا رسول الله، قال: ((لقد أبكيت الليلة أعيان ملأٍ من الملائكة كثيرةٍ)).(3/403)
فالنار حشوها غضبه، وإنما اسودت من غضبه، يحل ذلك الغضب غداً بأجساد العداة، العصاة، الذين ذهبوا برقابهم، فتنتقم النار منهم لحق الله.
فالمستغيث على ثلاثة أضرب:
1 - مستغيث من نار الله بعفو الله.
2 - ومستغيث من غضب الله برحمة الله.
3 - ومستغيث من الله بالله.
فإن كان هذا المستغيث من النار الذي ذكره في الحديث، استغاث بعفو الله، فخليقٌ وأخلق بما وصف، أن يكون استغاث من النار برحمة الله، فلذلك أبكت أعيان الملائكة، وهذه المنازل يتردد فيها أهلها.
وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فيما أتاه به جبريل، وأمره أن يكون في السجود فقال: ((أعوذ بعفوك من عقابك))، ثم قال: ((فأعوذ برضاك من سخطك))، ثم قال: ((وأعوذ بك منك)).
فتعوذ من العقاب بعفوه؛ لأنه ضده، وتعوذ من سخطه برضاه؛ لأنه ضده، وتعوذ به منه؛ لأنه لا ضد له ولا ند.(3/404)
الأصل السابع والثلاثون والمئة
770 - حدثنا عبد الوهاب بن فليح بن رباحٍ المكي، قال: حدثنا مروان بن معاوية، قال: حدثنا زياد بن المنذر، قال: حدثنا أبو بردة بن [أبي] موسى، قال: حدثنا الأغر المزني، قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رافعٌ يديه، وهو يقول: ((يا أيها الناس! استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، فوالله! إني لأستغفر في اليوم مئة مرةٍ)).(3/405)
771 - حدثنا أبو العالية إسماعيل بن الهيثم العبدي، قال: حدثنا حماد بن واقدٍ البصري، عن ثابتٍ البناني، عن أبي بردة، عن الأغر المزني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرةٍ)).
فالاستغفار: هي الغطاء والستر.
يقال في اللغة: غفرت الشيء؛ أي: غطيته، ومنه سمي المغفر؛ لأنه يغطي الرأس ويستره.
فالعبد المؤمن: قد بايع الله يوم الميثاق أن يطيعه، ويكون بين يديه كالعبيد، فلما أذنب، ترك مقامه، وخرج من ستره، فتعرى، فقيل له: تب؛(3/406)
أي: ارجع إلى مقامك، فلما رأى نفسه عارياً، طلب الستر، ففزع من هربه، فقيل: من يغفر الذنوب إلا الله؛ أي: من يستر الذنوب إلا الله، فلما طلبها مضطراً يعلم أنه لا يستر أحد إلا الله، أجيب إلى ذلك، فستر، فقيل: ارجع إلى ربك، إلى مقام البيعة مع الستر، فأنت في كنفه ما دمت واقفاً بمقام البيعة، فلذلك: بدأ بالاستغفار، ثم بالتوبة، وقال في تنزيله: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه}.
والمغفرة لها درجات.
ألا ترى أنه روي في الحديث: ((أنه من فعل كذا، غفر الله له سبعين مغفرةً)).
وفيما جاء عن الله -تبارك اسمه-: ((أن قل لهم يا داود: إني من أغفر له مغفرةً واحدةً، أصلح له بها أمر دنياه وآخرته)).
772 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عمرو ابن عثمان بن سعيد بن كثيرٍ الحمصي، قال: حدثني أبي،(3/407)
قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: سمعت عبد الله ابن بسرٍ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن وجد في كتابه استغفارٌ كثيرٌ)).
وقد وصفنا أن المغفرة هي الستر:
فمنهم: من لا يستر عليه في أيام الحياة، فإذا صار إلى ممره على النار، ستر؛ لئلا تصيبه النار.
ومنهم: من ستر عليه هاهنا، وستر عليه هناك إذا مر عليها، ولم يستر عليهم في العرض.
ومنهم: من ستر عليه في العرض عند الملائكة، فأدخل الحجب على ربه، وخلا به ربه في السؤال، فلقي شدة الحياء.
ومنهم: من ستر في الحجب عن نفسه، حتى لا يراها فيستحيي.
ومنهم: من ستر عليه ستراً، لا يذكرها حتى يذهب عنه ذكرها، فذاك(3/408)
ستر بينه وبين العبد، يستره عن علمه فيه، حتى لا يخجل، كما ستر أهل الجنان بالأنس به، إذا ذكروا ذنوبهم، لم يخجلوا، ولم يثقل عليهم ذكرها، حتى إنه ليقول لبعضهم: يا فلان! أتذكر غدرتك يوم كذا؟
فلو كان له في ذلك أذى أو خجل، لم يذكر له ذاك؛ لأنه في دار الثواب، ولا تنغيص لثوابه؛ لأنه أثابهم بدار فيها فرح دائم، وسرور دائم، فلو تنغص عليهم ببعض ما يتأذون؛ لكان في ذلك ارتجاع، والله لا يرجع في مواهبه، فكيف يرتجع في مثوبته؟
فإن المواهب لا عن عوض، والمثوبة عن عوض قد كان من العبد أيام الدنيا، وهي العبودة، فستر الله أهل الجنان بأنسه، فهي مغفرتهم حتى لا يخجلوا من ذكر ذنوبهم، وستر الأنبياء في الموقف في موضع الحساب، حيث يخاف الناس، وتطير الأفئدة وتزلزل القلوب، فسترهم بأنسه، وكذلك ستر الأولياء من بعدهم في الموقف بأنسه، {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
فكل من كان في الدنيا من الأنس به أوفر حظاً، كان ستره هناك من ذنوبه أكثف وأشد، وذكره عليه أيسر، وأنسه بالله أكثر، وأنس العبد بالله من(3/409)
الاحتظاء من جماله، وهيبته له من الاحتظاء من جلاله، فإذا كان قلبه عنده في ملك الجمال، فالغالب عليه الأنس، وإذا كان قلبه عنده في ملك الجلال؛ فالغالب عليه الهيبة، وجزاء الهيبة منه اليوم الأمن غداً، وجزاء الأنس به اليوم الأمل غداً.
وصنف من الأولياء أعلى من هذين الصنفين، وهم المحدثون قد قربوا من محل الأنبياء، فقلوبهم عنده في ملك ملكه قد جاوزت ملك الجلال والجمال إلى فردانيته، فانفردوا به في وحدانيته.
وهم الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيروا، سبق المفردون))، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: ((الذين أهتروا في ذكر الله، يضع الذكر أثقالهم)).
يأتون يومئذ خفافاً، فهم أمناؤه في أرضه، قلوبهم في ملك الملك في تلك الخلوة التي قد انقطع علم الصفات عندها، فلا يوصف ما في قلوبهم أيام الحياة.
فالبهتة قد ملكتهم، فجزاؤهم غداً الدالة، وكذلك معاملة هذه الأصناف الثلاثة إياه، وعبودتهم له، فصاحب الهيبة في عبودته، ومعاملته من(3/410)
الفرق كالميت، في كل أمر من أموره على هول عظيم، وخطر عظيم، وصاحب الأنس في عبودته، ومعاملته قد خف ذلك عنه؛ لما يأمل منه من عطفه، ورأفته به، وتحنينه عليه، فالأمل لديه خفف عنه ذلك حتى مر فيها منبسطاً، وصاحب الهيبة مر فيها منقبضاً، وصاحب البهتة أمنته، فهو كالمطمئن، وإنما اطمأن؛ لأنه صار في قبضته، فهو يستعمله، فباستعماله أشرف على الأمور، فهو كالمقتدر الذي قد ملك شيئاً، فملكه، فانبسط في الأمور، فهو الذي يدل في الدنيا، وهو الذي يدل في الآخرة، فالأمين هو الذي بسطه الملك، فانبسط، وصاحب الأنس إنما بسطه الأنس، فشتان بين من بسطه الملك، وبين من بسطه الأنس بالملك.
رجعنا إلى ذكر المغفرة، فقلنا:
إنها درجات، وقد غفر الله لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد غفر لمن بعده في أعمال بر عملوها لا تخلو من ذلك، وإن كان لم ينصه باسمه، وإنما ذكر العمل، فليست هذه المغفرة التي وعد العمال مغفرة الرسول، والمغفرة الستر، فلا يضم مغفرة العمال إلى ستر الرسول، وقد وعد الله المؤمنين المغفرة في غير آية من تنزيله، فليست كمغفرة الرسول، ولو كان كذلك، لم يكن الرسول مفضلاً بذلك إلا بالبشرى عجله له،(3/411)
فمن ظن أن الفضل الذي فضل به تعجيل البشرى فقط؛ فقد قل علمه وغاب فهمه.
773 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا إبراهيم ابن الوليد بن سلمة الدمشقي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا النضر بن محرزٍ، عن محمد بن المنكدر، عن أنس ابن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للقلوب صدأً كصدأ الحديد، وجلاؤها الاستغفار)).
وهذا موافق لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا أذنب، نكتت في قلبه(3/412)
نكتةٌ سوداء، فإذا عاد، نكتت أخرى حتى يسود القلب، فإذا تاب ونزع، صقل قلبه، ثم تلا: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.
وإذا هم العبد بشهوة لم يأذن الله له فيها، ثار دخانها في الصدر، وهو بيت القلب، فإذا عزم، صار ذلك الدخان حجاباً للقلب عن معاينة الغيب، فإن لم يعمل، سكن الدخان وذهب، وإذا عمل، ركد الدخان كسحاب مظلم راكد على القلب، فإذا تاب، تبدد السحاب، فذهب، فشبهوه مرة بالسحاب، ومرة بالصدأ، ومرة بنكتة سوداء، وإنما يراد به: الحجاب في هذا كله.(3/413)
الأصل الثامن والثلاثون والمئة
774 - حدثنا بشر بن هلالٍ الصواف، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابتٍ البناني، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء كل شيء منها، فلما كان في اليوم الذي مات فيه، أظلم كل شيء منها، وما نفضنا الأيدي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنا لفي دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا.(3/415)
وقوله: {قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ}، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نوراً أضاء للعالمين، وقال: {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً. وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}.
فكان ينير سراجه في العالمين، فكان إذا مشى في الطريق، فاح منه ريح المسك، حتى يوجد عرقه في ممره، فيعرف: أنه قد مر بهذا المكان، وكان طاهراً، طيباً، طهره الله بالحفظ له في الأصلاب والأرحام، وطفلاً، وناشئاً، وكهلاً، حتى قدسه بطهر النبوة، وشرفه بالقربة، وطيبه بروحه، وجلله ببهائه، فمن الذي كان يخيب برؤيته عن أن يكون له شفاء قلب إلا من ختم الله على قلبه، وجعل على سمعه وبصره غشاوة. كما قال: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون}.
فإنما كان يبصر ما نحله الله، وزينه من فتح الله عين قلبه بذلك النور الذي جعله في قلبه، فأبصر محمداً صلى الله عليه وسلم، وعرفه هذه الأشياء، وأبصر ضوءه كيف يضيء الأشياء، وكان شفاء قلبه، ودواء سقمه، وكانت هيبته، وجلالته، ووقاره، وطهارته سداً بين القلوب وبين النفوس، فكانت النفوس قد ألقت بأيدها لأهلها منقادة مستسلمة؛ هيبة وإجلالاً، وحياءً منه.(3/416)
فلما مات، ذهب السراج، فذهب الضوء، وكانت له طلاوة وحلاوة، ومهابة، فأينما حل ببقعة، أضاءت تلك البقعة بتلك الطلاوة، وحليت بتلك الحلاوة، والمهابة.
وأما قوله: ((إنا لفي دفنه، وما نفضنا الأيدي، حتى أنكرنا قلوبنا)). فهكذا شأن القلوب التي لم تغلب عليها الهيبة من الله، فهيبة المخلوقين من رجاله وخاصته، فأخذهم وتملكهم، والرسول صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله العظمى، فمن عرف الرسول حين رآه بالآيات، وقبل منه ما جاء به من الآيات حتى تمكنت المعرفة فيه من هذه الطريق، فإذا فقده، أنكر قلبه؛ لأن نفسه كانت في قهر ما أعطي الرسول من السلطان، فلما أحست النفس بذهابه، وجدت زمانها ساقطة بالأرض كالمخلاة عنها، فتحركت، وتشوفت لمناها، وأصاخت أذناً لمطامعها.
ومن غلبت الهيبة من الله على قلبه وملكته؛ لم ينكر قلبه بفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بقبضه؛ لأن نفسه قد صارت كالميتة من الخشوع لله، وإنما حدث بهذا أنس عن قلبه، وقلب أشباهه إذا كانت هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذت بقلوبهم.
فأما الصديقون والأولياء، فقد دخل قلوبهم من جلال الله وعظمته ما أبهتهم، فهابوه، فتلك هيبة احتشت القلوب منها، فغمرت ما كان(3/417)
للمخلوقين فيها، وكذلك المحبة احتشت القلوب من الهيبة منهم من محبة الله، فغمرت ما كان للمخلوقين فيها من محبة.
ولقد بلغني عن قوم جهال زاغوا في هذا الباب قياساً، فقالوا: إذا جاءت هيبة الله، زالت هيبة المخلوقين، كائناً من كان، وكذلك محبته.
ولقد أعظموا القول، وزاغوا عن القصد، وعياذاً بالله أن تزول محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلب مؤمن، وكيف يكون ذلك، وإنما أحب رسوله من أجله؟
وكلما عظمت هيبة الله ومحبته في قلب عبد، فهو للهيبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد، وحبه في قلبه أعظم، وأصفى، ولكن هيبة الله، ومحبته غامرة لما سواها، فلا يستبين، بمنزلة وادٍ؛ لينصب في بحر، فالوادي بهيبته منصب، ولكن غير مستبين في ذلك البحر، وبمنزلة قمر يضيء، فإذا أشرقت الشمس، غمر إشراقها ضوء القمر، والقمر بهيبته مضيء يجري في مجراه، والشمس بإشراقها غالبة عليه.(3/418)
الأصل التاسع والثلاثون والمئة
775 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا موسى ابن سليمان القرشي الصوفي، عن بقية بن الوليد، قال: كتب إلي عبد الملك بن مهران، قال: حدثني أبو أمية بن يعلى الثقفي، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نظر الرجل إلى أخيه على شوقٍ خيرٌ من اعتكاف سنةٍ في مسجدي هذا)).(3/419)
فالاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مضاعف كتضعيف الصلاة.
وروي عنه أنه قال: ((صلاةٌ في مسجدي تعدل ألف صلاةٍ فيما سواه)).
فإذا كانت الصلاة الواحدة في مسجده تعدل بألف صلاة فيما سواه، فاعتكاف سنة في مسجده تعدل باعتكاف ألف سنة في سائر المساجد، جعل هذا النظر على شوق منه خيراً من هذا الاعتكاف الذي ذكر.
والاعتكاف: هو إقبال العبد على الله، والتخلي عن الدنيا وشهواتها، وعن التردد في ساحات العيش، قد حبس نفسه على خالقه عبداً، مانعاً لنفسه عن الانبساط والتفسح في يسير العيش، مقبلاً على ربه في مسجد(3/420)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضع مهاجره، ومبوأ الإسلام، والنظر على شوق أكبر من هذا؛ لأن المؤمن لما انتبه بقلبه فعرف ربه؛ اشتعل نور اليقين في قلبه، فانكشف له الغطاء عن جلاله، وعظمته، وجماله، وبهائه، ومجده اشتاق إليه، فلم يزل يدوم له الشوق حتى قلق، وبرم بالحياة، وضاق به ذرعاً، فإذا نظر إلى الكعبة، استروح إليها؛ لأنها بيته، وإذا نظر إلى القرآن، استروح؛ لأنه كلامه، وإذا نظر إلى السلطان، استروح؛ لأنه ظله.
وإذا نظر إلى أخيه المؤمن، استروح؛ (لأنه وليه وخليفته وحبيبه، وفيه سيماء نوره) قد أشرق في وجهه، فتلك النظرة على شوق منه إلى خالقه خير من اعتكاف سنة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقباله على ربه، رافضاً لشهواته، ومانعاً لنفسه، حبيساً على ربه؛ لأن هذا بإقباله على ربه، وحبسه نفسه عليه تحرس نفسه بذلك من الآفات، وينتظر منه الرحمة.
وهذا الآخر قد حاز هذه اللحظة، فهو عطشان بطشان من ظمأ الشوق، قد أسكرته محبته عن جميع الدنيا، وأذهلته آماله فيه عن جميع مناه في الدنيا، وأقلقته بقية أنفاسه، يتمنى أن يكون مئة ألف نفس قاضية في نفس واحد، حتى يطير بروحه إلى الله، فهو في محبسه يتردد، ويطلب آثار من قد اجتباه بمشيئته، وجعله أهلاً لجنابه من بين خلقه، وسبى قلبه بنوره، وقد انقطع طمعه من أن يراه، وهو ينادي في خلال ذلك: ارحم من تراه ولا يراك؛ لأنه قد سبق إلى ذلك كليم الله رأس المشتاقين لما من عليه(3/421)
بالكلام، طمع في الرؤية، فآيسه، وأعلمه سبب المنع كالمعتذر، فقال: {لن تراني}؛ أي: إنك لا تقدر على ذلك، {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}.
وكذلك فعل الحبيب للحبيب، إذا سأله حاجه، ولا طاقة له بها، ولا يقوم لها، وإن الحاجة تضيع؛ أقام لنفسه عذراً، ولم يوحشه بالرد، فالمؤمن: يطلب الآثار شوقاً إليه، فأحد الآثار: كلامه، والآخر: كعبته، والآخر: المؤمن.
ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل أعطى المؤمن ثلاثاً: المقة، والملاحة، والمودة، والمحبة في صدور المؤمنين)) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً}.
776 - حدثنا بذلك أبو بكر بن سابقٍ الأموي، قال: حدثنا أبو مالك الجنبي، عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/422)
777 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا موسى بن سليمان القرشي، عن ابن وهبٍ، عن حيوة بن شريحٍ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من نظر إلى أخيه نظر ودٍّ، غفر الله له)).
فنظر الود: هو قضاء المنية، وقد أيس المشتاق من أن ينظر إلى(3/423)
مولاه في دار الدنيا، فإذا نظر إلى هذا العبد، فإنما يقضي منيته من ربه، ولا يشقيه ذلك، وهو يدأب على قدميه، فكل لحظة يلحظ إلى هذا العبد يريد به التشفي من حرقات الشوق إلى الله، وقد حبسه الله بباقي أنفاسه، فيستوجب تلك النظرة التي من أجل الله كانت، ولم يصل إلى منيته المغفرة من الله.
ولله في أرضه أربعة من آثاره به يقطع المشتاقون أعمارهم:
القرآن: وهو كلامه، والسلطان: وهو ظله، والكعبة: وهو بيته، ومعلمه، ومطهره، والولي: وهو خليفته في أرضه.
فعلى كلامه بهاء، وطلاوة، ولبق، وعلى ظله هيبة، وعلى بيته، ومعلمه وقارة، وعلى خليفته نور جلاله، فبهؤلاء الأربع تقوم الأرض، فإذا دنا قيام الساعة، رفع القرآن، وهدمت الكعبة، وذهب السلطان، وقبض الأولياء عن آخرهم، فلم يبق في الأرض ذو حرمة.
فالمنتبهون إنما مأخذهم من القرآن لطائفه، وطلاوته، ولبقه،(3/424)
ومن السلطان هيبة ظله، ولا يلحظون إلى أفعالهم، وسيرتهم، ومن البيت إلى وقاره، لا إلى تلك الأحجار والبنيان، ومن الولي إلى نور جلاله الذي قد أشرق في صدره.
قال له قائل: من خليفته؟
قال: الذين وصفهم في تنزيله، فقال -عز من قائل-: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}.
فإنما يصير مضطراً حين يبلغ غاية الصدق من مجاهدة النفس ظاهراً وباطناً، فإذا رجع إلى نفسه، وجدها كما كانت، فتحير، وانقطع، وفزع إلى الله عز وجل مضطراً، فأجابه، فنور قلبه، وأخذه من نفسه، وكشف السوء عن باطنه، وشرح صدره، وجعله من خلفائه في أرضه، وأمنائه في حقوقه.(3/425)
الأصل الأربعون والمئة
778 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عمرو ابن عثمان بن سعيد بن كثيرٍ الحمصي القرشي، قال: حدثنا بقية، قال: حدثني شعبة، قال: حدثني يزيد بن خميرٍ، قال: حدثني عبد الله بن بسرٍ، قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطعم، ثم أتي بسويقٍ، فشرب، وأعطى الذي عن يمينه، وكان إذا أكل التمر، وضع النواة على ظهر إصبعيه الوسطى والمشيرة، ثم ألقاها.(3/427)
وأشار شعبة بإصبعيه، وأشار بقية بهما، وأشار عمرٌو بهما.
معناه عندنا: أنه إذا أكل التمر، فلو أخذ النواة بباطن أصابعه، ثم عاد إلى بقية التمر؛ لكان لا يخلو أن تكون أصابعه مبتلة من ريق الفم عند أخذ النواة، فكره أن يعود إلى بقية التمر، وفي يده بلة النواة، لحرمة الأكيل والصاحب، ليتأدب به من بعده، فإنه قد يعاف الرجل صاحبه في فعله من ذلك، ويكرهه، فكان يأخذ النواة بظاهر إصبعيه، ويستعمل باطنهما في تناوله.
وروي في حديث آخر ما يحقق ما قلنا:
779 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد ابن وهبٍ الدمشقي، عن بقية، عن خليد بن دعلجٍ، عن قتادة، عن أنسٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن نجمع بين التمر والنوى، وبين الرطب والنوى على الطبق.(3/428)
780 - حدثنا عمر، قال: حدثنا الحارث بن عبد الله، عن أبي معشرٍ، عن حفص بن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بطبقٍ من رطبٍ، فأكل منه شيئاً، ثم جعل يلقي النوى من فمه بشماله، فمرت به داجنةٌ، فناولها إياه، فأكلت)).(3/429)
الأصل الحادي والأربعون والمئة
781 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الهيثم ابن أيوب، عن مروان الفزاري، عن عيسى بن أبي عيسى، قال: سمعت أنس بن مالكٍ رضي الله عنه يقول: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيد إدامكم الملح)).(3/431)
قال أبو عبد الله:
فالملح به صلاح الأطعمة، وطيبها، والآدمي عاجز عن أن يقوم بالحلاوة، فيصير الملح مزاجاً للأشياء.(3/432)
الأصل الثاني والأربعون والمئة
782 - حدثنا محمد بن بشارٍ الهجري، قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ، قال: حدثنا شعبة، عن مسلمٍ الأعور، عن حبة العرني، عن علي -كرم الله وجهه-، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة؟ فقال: ((ما أعددت لها؟))، قال: حب الله، وحب رسوله، قال: ((فأنت مع من أحببت)).
783 - حدثنا محمد بن المثنى أبو موسى، قال:(3/433)
حدثنا محمد بن جعفرٍ، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
784 - حدثنا المخزومي، قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.(3/434)
فالحب هيجه للسؤال عن قيام الساعة؛ فقد علم: أن لقاء العبد سيده على الصفاء والشفاء هناك بعد قيام الساعة، وهاهنا لقاء القلوب على المزاج، فقلق، وضاق بالحياة ذرعاً، فسأل عن الساعة متى تقوم؟ استرواحاً إليها، وإنما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أعددت لها؟)) تطلعاً لما يحن ضميره، وتعرفاً للذي حمله عليه من السؤال، من أي معدن هاجت هذه الكلمة، فكان هذا السائل فيما أحسب من المشتاقين.
ألا ترى أنه لم يذكر من عدته شيئاً من أعمال البر، وإنما ذكر الذي كان بين يدي قلبه، وما اعترض به في صدره، فأجابه على ما وجده عليه، فقال: ((أنت مع من أحببت)).
والموحدون كلهم يحبون الله، ولكن ذاك حب إيمان، فذاك حب لا يقلق، ولا يجيش به صدره أن الغالب عليه نفسه، ودنياه وشهوته، وإنما يقلق ذلك ويجيش صدره إذا فاته شيء من شهواته ونهماته من دار الدنيا، فذاك إنما يعد للساعة حسناته، وأعمال بره عدةً يرجو بها الثواب من الله، حتى إذا ورد القيامة، حصلت سرائره، وبلي خبره، واقتضى صدقه في الأعمال، فإن وجد صادقاً في ذلك، أثيب، وأكرم على قدره، وإن وجد كاذباً، رمي به في وجهه كالثوب الخلق، فهو موقوف في العرصة، يرجو بأعماله النجاة من النار، والنوال، والثواب في الجنان، حتى تخلص حسناته، وتصفى، ثم يوزن بالسيئات، فإن فضل له شيء، أعطي بقدر ما فضل.(3/435)
وهذا السائل: قد كانت الأشياء كلها تلاشت عن قلبه في جنب معبوده، فلحبه إياه جيشان وغليان في صدره، فكان ذلك عدته، فلذلك قال: ((أنت مع من أحببت)).
وصاحب هذه القصة أشدهم اجتهاداً، وأصفاهم عملاً، وأخلصهم قلباً، وأطهرهم إيماناً، وأبعدهم من كل ريبة وريب، وأخلقهم بمعالي الأخلاق، وأنزههم عن مدانيها؛ لأن حبه لا ينال إلا محبوبه، ومن قبل أن ينالوا حبه أحبهم، فأحبوه.
ألا ترى إلى قوله -جل ذكره-: {فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه}.
فبدأ بحبه إياهم، ثم بحبهم له، ثم وصف أخلاقهم، وشمائلهم، فقال: {أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين}.
يذل على عبده المؤمن لحقه ويرزق له، ويعطف عليه، ويحب له ما يحب لنفسه، ويحوطه وينصحه، ويعز على الكافر، وعلى باطله، فإنما يعز بالله على الباطل، فيقهره {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}.
فمن حبهم إياه دق شأن الخلق، فذمهم، ومدحهم في جنبه، قال: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}. يعلمك أن هذا الحب إنما نالوا(3/436)
من فضله، {والله واسعٌ} فضله للكل، ولكنه {عليمٌ} بمن يستحق، ومن هو أهله، فـ {يختص برحمته} للفضل {من يشاء}.
وإذا فتح الله قلب عبد، وأشرق النور في صدره، وانتبه عن غفلته، فمحال أن لا يجيش صدره بحب مولاه، حتى ينسى في حبه كل مذكور، ويلهو عن كل شيء سواه، كما قال الحسن -رحمة الله عليه- فيما روي عنه: حقٌّ على من قد عرفه أن ينكر كل شيء سواه.
معناه: كأنهم يصيرون عند ذكره بالحالة التي لا يعرفون أحداً سواه.
وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا يبلغ أحدكم ذروة الإيمان حتى يكون الناس عنده مثال الأباعر في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه، فيكون لها أحقر حاقرٍ)).
ومما يحقق قول الحسن -رحمة الله عليه-، ويكشف عن معناه:(3/437)
785 - ما حدثنا به أبي رحمه الله، قال: حدثنا يحيى الحماني، قال: حدثنا ابن المبارك، عن أبي بكر بن عبد الله ابن أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمدٍ الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حبك الشيء يعمي ويصم)).
فهذا قلب واحد، إذا أحب الدنيا، أعماه، وأصمه عن الآخرة، وإذا أحب الآخرة، أعماه، وأصمه عن الدنيا، وإذا أحب مولاه، أعماه، وأصمه عن جميع ما خلق، وعن كل شيء سواه.
والحب: حرارة تتوقد في القلب، وإنما جاءت الحرارة من النور الذي ولج في القلب، فيحيا به القلب، وإذا حيي القلب بشيء، كان الملك لذلك الشيء، وأما حب الدنيا، فإنه حرارة الشهوات تلج القلب، فتملكه فتعميه، وتصمه عن كل شيء سواه، وأما حب الآخرة، فهو حرارة شهوات الآخرة، وذلك أنه لما صارت الآخرة له معاينة بالنور الوارد على قلبه، هاجت شهوته لها، فاستحر قلبه، وتوقد، فأعماه، وأصمه عن كل شيء سواها.
وأما حب الله: فهو نوره، إذا توقد في قلب عبده، انكشف الغطاء عن جلاله وعظمته، وبهائه، وجماله، وكبريائه، فسبى قلبه، فأعماه،(3/438)
وأصمه عن كل شيء سواه.
وهذا ركب في طبائع الآدميين أن يسمو قلبه إلى أرفع درجة من درجات الدنيا، فيرى أهل النعيم، والزينة والأجلة من الخلق، فيسبي قلبه أوفرهم حظاً من ذلك، وأعظمهم قدراً، فإذا عاين الآخرة، دق هذا في جنبها، فقلبه شاخص للأرفع فالأرفع، فإذا وقع على قلبه من جلال الله وعظمته، دق هذا كله في جنب ما عاين، وإنما يحب الآدمي كلاً على قدره، فإذا كان العبد يبلغ منه محبة ما لا قدر له هذا المبلغ، فما ظنك بمحبة ما لا منتهى لقدره ولا بلوغ، لكنه صفته كيف يبلغ من العبد؟!
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لحارثة حيث قال له حارثة: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرفت فالزم))، ثم قال: ((عبدٌ نور الله الإيمان في قلبه)).
فالإيمان في قلوب الموحدين في غطاء الشهوات، وإذا كان الإيمان مغطى بحجب الشهوات، صار محجوباً عن الله، وعن داره، فإذا رحم الله عبداً، فأيده؛ قذف النور في قلبه، وانفسح الصدر وانشرح، فهذا عين نور الإيمان، وإنما انفسح الصدر؛ لأن شهوات النفس كانت متراكمة في الصدر بظلمتها، وتدبير القلب في الصدر، وهو بيته، والأمور تصدر عن بيت القلب، وعيناه في الصدر مفتوحتان، وأذناه مصيختان، فيدبر الأمور، ويصدرها إلى الجوارح، فقيل: صدر.
وللذي العينان والأذنان فيه فؤاد، وهو قوله -جل ذكره-: {ما كذب(3/439)
الفؤاد ما رأى}.
والذي هو مستقر القلب، وهو البضعة الباطنة، وفيه الحياة، وفيه المعرفة، فهو قوله تعالى: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}. أي: أوصله إلى حبة القلب، ويقال لتلك البضعة: حبة القلب.
ومما يحقق ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم أهل اليمن، ألين قلوباً، وأرق أفئدةً)).
فوصف القلب باللين؛ لأن بنور الله، ورطب، وطاب وسمح، ووصف الفؤاد بالرقة؛ لأن النور تمكن فيه، فرق، ومن هاهنا يقال: فلان رقيق القلب.
والقلب سمي قلباً؛ لأنه بيد الله عز وجل يقلبه كيف يشاء، والقلب، والفؤاد يقرب معناهما، وعلمهما يستعملان في الكلام بمعنى واحد، وهما سيان، فيقال: خرجت نفسه، ويقال: خرجت روحه، وهو قول الله عز وجل: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها}.(3/440)
رجعنا إلى ما كنا فيه، فالمرحوم المؤيد بالنور، إذا قذف في قلبه النور، استنار، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علامته في الظاهر من فعله، فقال: ((التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله))، ثم قرأ: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه}.
فأهل النور إذا كان أحدهم في مزيد من الله، فكلما زاد نوراً، زاد عن أحوال نفسه وشهواتها تلهياً، وبه شغوفاً.
وأهل المحبة قوم سبقت لهم من الله سعادة زائدة فاضلة على من دونهم من عمال الله، اجتباهم بمشيئته، وهداهم بإنابتهم، فهما صنفان:
1 - صنف مجتبون بالمشيئة.
2 - وصنف مهذبون بالإنابة.
وقد ذكرهما الله في تنزيله، فقال: {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه}؛ يعني: إلى قول: لا إله إلا الله، ثم قال: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.(3/441)
فبمشيئته اجتباهم، جذب قلوبهم إليه جذبة من غير تردد وتكلف وطلب، والآخرون طلبوا، ونظروا، وترددوا، وأنابوا، فهداهم إليه.
فالأول: طريق الأنبياء، وطائفة من الأولياء، وهم خاصة الأولياء.
والثاني: طريق الأولياء المهديين، أنابوا، وساروا إليه بقلوبهم، فأوصلهم إليه، فأحبهم، وبحبه أوصلهم إلى حبه {أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين}.
يذلون عند كل حق، ويذلون عند كل مشيئة لله له، يظهر من الغيب من أحكامه عليهم، فينقادون له تسليماً بلا تلجلج، ويعزون عند الباطل، فيمتنعون منه حتى لا يجد العدو سبيلاً، ولا النفس إلى خدعها طريقاً، ويعزون على أهله، فلا يستقبلهم مضاد إلا انقمع لهم وسلس، ولا يخافون لومة لائم في أمر الله، قد سقط عن قلوبهم خوف سقوط المنزلة عند الخلق، وهذه عقبة صعبة عظيمة، من جازها، فقد ولى الدنيا وراء ظهره، ورفع عن الناس بالاً.
وللنفس بالان هما دنياه:
أحدهما: أن تذهب دنياه.(3/442)
والأخرى: أن يسقط من عيون الخلق.
فهما عقبتان كؤودان، فطلاب الآخرة جازوا هذه العقبة الواحدة، فأعرضوا عن الدنيا تولياً عنها، وأقبلوا على الآخرة، وبقوا في هذه العقبة الثانية، فهم حرصاء على أن يكون جاههم وقدرهم باق عند الخلق، وأن لا يسقطوا من عيون الخلق، وهذه عقبة النفس، فمن أشرب حب الله قلبه، فشربه، فقد أسكرته عن الدارين، و عن الخلق، فطارت هذه المحبات عنه: حب المحمدة، وحب الثناء ورفعة المنزلة عند الخلق، وذهب باله، ونسي هذا كله في جنب ما أحاط بقلبه، وهو الشهوة الخفية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له في ذلك: فقال: ((أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الخفي، والشهوة الخفية)).
فحب الثناء والمحمدة هي الشهوة الخفية، هو أمر باطن تكتم النفس صاحبها ذلك، فلا يزيلها إلا حب الله، فيعميه عن الخلق، ويصمه عما يقولون، فهذه الشهوة الخفية من أقوى الأشياء في الآدمي، تبقي هذا في عمال الله، وفي القراء والزهاد والورعين، فهم منه في جهد، فهذا الذي حملهم على الاختفاء والهرب من الخلق، وإخفاء العمل، وكتمان الأشياء(3/443)
التي يكرمهم الله بها مخافة التزين.
وهذا الذي أسكتهم إذ خافوا المباهاة والتزين في الأقوال، فلا يبقي هذا عن القلب إلا عظمة الله وجلاله إذا أشرق الصدر بنوره، فامتلأ من عظمته، ولزمته هيبته، وهاجت هوائج المحبة له، والشوق إليه، وظهر الوله والحنين، فحينئذٍ تموت هذه الأشياء منه، ويحيا قلبه به، ولا يخاف في الله لومة لائم، فإذا ترقى من هذه الدرجة إلى الدرجة العظمى، فانفرد بوحدانيته، [و] بهت في جلاله وجماله، واستولت على قلبه هيبته، افتقد ذكر هذا كله من نفسه، فيصير في قبضته، يستعمله في أموره معتزاً به، لا بذاته، به يقوم، وبه يقعد، وبه يتصرف في الأحوال.
والسائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة:
روى محمد بن المثنى في حديثه، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جاء رجل من أهل البادية، فسأله عن الساعة، فذكر الحديث.
فكم من بدوي من رجال الله وخاصته لا يعرف، ولا يؤبه له.(3/444)
786 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن واقدٍ العطار، قال: حدثنا هشام بن سلمان، قال: سمعت ثابتاً البناني يقول: لا تسخروا من أحد، ولا تستهزئوا من أحدٍ؛ فإن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه حدثنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبقيع، فإذا هو بأعرابيٍّ أعمش العينين، حمش الذراعين، دقيق الساقين، عليه شملتان، وهو على قعودٍ، ومعه عكة سمنٍ يبيعها، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذا زاهرٌ، هذا يحب الله، والله يحبه، فدنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا زاهر!))، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ((من يشتري زاهراً؟))، فقال: يا رسول الله! إذاً تجدني كاسداً، فقال: ((يا زاهر! إن تكن عند الناس كاسداً، فإنك عند الله لست بكاسدٍ، إذا قدمت المدينة، فانزل علي، وإذا أنا(3/445)
بدوت، نزلت عليك)).(3/446)
الأصل الثالث والأربعون والمئة
787 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا ابن أبي أويسٍ، قال: حدثنا سليمان بن بلالٍ، عن محمد بن عجلان، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله! أي النساء خير؟ قال: ((التي تسره إذا نظر، ولا تعصيه إذا أمر، ولا تخالفه لما يكره في نفسها ومالها)).
فأما قوله: ((تسره إذا نظر))؛ فللعفة.
فإن المرأة إذا كان لها جمال، كان ذلك عوناً له على عفته ودينه،(3/447)
فلا يلحظ إلى امرأة إلا كان في غنى عنها بما عنده من جمالها.
وجاءنا عن زكريا -صلوات الله عليه- ما يحقق قولنا:
788 - حدثنا بذلك عبد الله بن [أبي] زيادٍ القطواني، قال: حدثنا سيارٌ، قال: حدثنا محمد بن مروان العقيلي -أظنه- قال: حدثنا يونس بن عبيدٍ: أن رجلاً كان يعتدي على أهل مملكته، ويجور عليهم، فائتمروا لقتاله، فقالوا: نبي الله زكريا بين أظهرنا -صلوات الله عليه-، فلو أتيناه، فأتوا منزله، فإذا فتاة جميلة رائعة، قد أشرق البيت لها حسناً، فقالوا: من أنت؟ قالت: أنا امرأة زكريا، قالوا بينهم: كنا نرى نبي الله لا يريد الدنيا، فإذا هو قد اتخذ امرأة جميلة رائعة. قالوا: فأين هو؟ قالت: في حائط آل فلانٍ يعمل لهم، فأتوه، فإذا هو يعمل، حتى إذا حضر غداؤه، قرب رغيفين، فأكل، ولم يدعهم، ثم قام فعمل بقية عمله، ثم علق خفيه على عنقه، والمسحاة والكساء، ثم قال:(3/448)
حاجتكم؟ قالوا: جئنا لأمر، ولقد كاد يغلبنا ما رأينا على ما جئنا له، قال: فهاتوا، قالوا: جئنا منزلك، فإذا امرأة جميلة رائعة، وكنا نرى نبي الله لا يريد الدنيا.
فقال: إني إنما تزوجت امرأة جميلة رائعة؛ لأكف بها بصري، وأحفظ بها فرجي، فخرج نبي الله مما قالوا.
قالوا: ورأيناك قربت رغيفين، فأكلت ولم تدعنا؟! قال: إن القوم استأجروني على عمل، فخشيت أن أضعف عن عملي، ولو أكلتم معي، لم يكفني، ولم يكفكم، فخرج نبي الله -صلوات الله عليه- مما قالوا.
قالوا: ((ورأيناك وضعت خفيك على عنقك، والمسحاة والكساء؟! قال: إن هذه الأرض جديدة، فكرهت أن أنقل تراب هذه إلى هذه، فخرج نبي الله مما قالوا.
قالوا: إن هذا الملك يجور علينا، ويظلمنا، وقد ائتمرنا لقتاله، قال: أي قوم! لا تفعلوا؛ فإن إزالة جبل من أصله أهون من إزالة ملك مؤجل.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مثل عائشة في النساء كمثل الثريد في الطعام)).(3/449)
فهذا تمثيل منه، وذلك: أن الثريد مشبع، مجزئ عن سائر الطعام، يستغني به صاحبه عما سواه، ولا يقوم مقامه شيء من الطعام، فهذا الذي ذكرنا وجه.
والوجه الآخر: أن الله -تبارك اسمه- أخذ على الأزواج مواثيقهم في شأن نسائهم، وذكر في غير موضع في تنزيله شأنهن، وقال -جل ذكره-: {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ}، وقال: {والصاحب بالجنب}، فأمرهم بالإحسان إليهن، والمعروف لهن.
فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه خطبهم يوم فتح مكة، فقال: ((إنما النساء عندكم عوانٍ، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله فيهن)).
أي: في حسن عشرتهن، والخروج إليهن من حقوقهن، فمن رزق امرأة على وفاق نفسه، كان ذلك عوناً له على حسن العشرة، وإقامة الحقوق؛ فإن النفس إذا هويت شيئاً، مالت إليه، وأمالت القلب، والقلب ميال إلى(3/450)
إقامة أمر الله فيها، فصار أمرها على اتفاق، فلم يبق للنفس تردد ولا تلكؤ، فهذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((تسره إذا نظر)).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تعصيه إذا أمر))، فلما عظم أمر الأزواج التي يلزمها أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تدخل أحداً بيته من الرجال بغير إذنه إلا أن يكون ذا محرم، ولا تكلم أحداً من الرجال بغير بإذنه إلا ذا رحم محرم، ولا تمنع نفسها في حال حاجته إليها، هويت ذلك أو لم تهو، خف ذلك عليها أو ثقل؛ لأنه إنما تزوجها؛ لتكون له سكناً، وليعف بها عن الأدناس، فإذا كانت خرقاء، فترعنت على زوجها في وقت حاجته، فقد ألقته في الهلاك، فربما أوقعه صرفتها في فتنة، أو في حال يصير غداً من عرتها في عويل وصراخ وشق جيب.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا تمنع المرأة زوجها نفسها، وإن كانت على رأس تنورٍ)).(3/451)
وفي حديث آخر: ((وإن كانت على قتبٍ)).
ومعنى القتب: أن القوابل كانت ممن تعز عليهم وجودها في تلك البوادي، فيحملون نساءهم على القتب عند ولادتها، حتى يقبلون ولدها من تحت القتب، وقد هيئ القتب بالأرض حتى تستمكن من القعود عليها فتلد، فقال: ((لا تمنع نفسها وإن كانت على قتبٍ))؛ أي: في حال ولادتها.
789 - حدثنا عمر، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، عن ابن وهبٍ، قال: حدثنا معاوية، عن أزهر بن سعيدٍ، عن أبي كبشة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنا جلوساً(3/452)
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت بنا امرأةٌ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل منزله، ثم خرج إلينا وقد اغتسل، فقلنا: نرى أن قد كان شيءٌ يا رسول الله؟! فقال: ((مرت بي فلانة، فوقعت في نفسي شهوة النساء، فقمت إلى بعض أهلي، فوضعت شهوتي فيها، وكذلك فافعلوا؛ فإنه من أماثل أعمالكم)).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تخالفه لما يكره في نفسها ومالها))، فهو أن تساعده على أموره ما لم يكن فيها معصية، فإن حسن الصحبة في المساعدة، وحسن العشرة ترك هواها لهواه، وكذلك في مالها.
790 - حدثنا إبراهيم بن سالم بن رشيدٍ الهجيمي، قال: حدثني يوسف بن عطية الصريمي، قال: حدثنا ثابتٌ البناني، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أن امرأة جاءت إلى(3/453)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! صلى الله عليك، إن زوجي غزا في سبيل الله، وإنه أمرني أن لا أخرج من البيت، وإن أبي اشتكى، قال: ((اذهبي فالزمي بيتك، وأطيعي زوجك))، ثم جاءت فقالت: إن أبي مات، فقام معها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب وصلى عليه، فلما أن فرغ، قال: ((يا هذه! اعلمي أن الله قد غفر لأبيك بطواعيتك لزوجك)).
791 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا يوسف ابن عطية، عن ثابتٍ، عن أنسٍ رضي الله عنه: أن رجلاً انطلق غازياً، وأوصى امرأته أن لا تنزل من فوق البيت، وكان والدها في أسفل البيت، فاشتكى أبوها، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره وتستأمره، فأرسل إليها: ((اتقي الله، وأطيعي زوجك))، ثم إن والدها توفي، فأرسلت إليه تستأمره، فأرسل إليها مثل ذلك، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه، وأرسل(3/454)
إليها: ((إن الله قد غفر لأبيك بطواعيتك لزوجك)).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الدنيا متاعٌ، وخير متاعها المرأة الصالحة)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير ما أعطي العبد من الدنيا زوجةٌ مؤمنةٌ تعينه على إيمانه)).(3/455)
وفيما حكي عن لقمان رضي الله عنه: أنه قال لابنه: مثل المرأة الصالحة مثل التاج على رأس الملك، ومثل المرأة السوء كمثل الحمل الثقيل على ظهر الشيخ الكبير.(3/456)
الأصل الرابع والأربعون والمئة
792 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيار ابن حاتمٍ العنزي، قال: حدثنا سالم أبو سلمة مولى أم هانئٍ، قال: سمعت شيخاً يقول: سمعت عثمان بن عفان يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله -جل ذكره-: إذا بلغ عبدي أربعين سنةً، عافيته من البلايا الثلاث: من الجنون، والبرص، والجذام، فإذا بلغ خمسين سنةً، حاسبته حساباً يسيراً، وإذا بلغ ستين سنةً، حببت إليه الإنابة، وإذا بلغ سبعين سنةً، أحبته الملائكة، وإذا بلغ ثمانين سنةً، كتبت حسناته، وألقيت سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنةً، قالت الملائكة: أسير الله في أرضه،(3/457)
فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويشفع في أهله)).
وهذا من جيد الحديث، وقد أتت روايات أخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وليس فيها حكاية عن الله تعالى.
793 - حدثنا يزيد بن هلالٍ، قال: حدثنا الفضيل ابن عياضٍ، عن يوسف بن أبي ذرة، عن جعفر ابن عمرو بن أمية، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من معمرٍ يعمر في الإسلام أربعين سنةً، إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواعٍ من البلاء: الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين سنةً، لين الله حسابه، فإذا بلغ(3/458)
ستين سنةً، رزقه الله الإنابة إليه بما يحبه، أو كما قال: فإذا بلغ سبعين سنةً، تقبل حسناته، وتجاوز عن سيئاته، وإذا بلغ ثمانين سنةً، أحبه الله، وأحبه أهل السماء، وإذا بلغ تسعين سنةً، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتسميه: أسير الله في الأرض، ويشفع في أهل بيته)).
794 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا الفرج ابن فضالة، عن محمد بن عامرٍ، عن محمد بن عبد الله، عن جعفر بن عمرٍو الضمري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، بنحوه، ولم يرفعه.(3/459)
795 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا خالد الزيات، عن داود أبي سليمان، عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن معمر بن حزمٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، ورفع الحديث، قال: ((المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنةٍ كتبت لوالديه، أو لوالده، فإن عمل سيئةً، لم تكتب عليه، ولا على والده، وإذا بلغ الحنث، وجرى عليه القلم، أمر الملكان اللذيان معه: أن يحفظا، ويسددا، فإذا بلغ أربعين سنةً في الإسلام، أمنه الله من البلايا الثلاث: من الجذام،(3/460)
والبرص، والجنون، فإذا بلغ الخمسين، خفف الله حسابه، فإذا بلغ الستين، رزقه الله الإنابة إليه فيما يحبه، فإذا بلغ السبعين، أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين، كتب الله حسناته، وتجاوز عن سيئاته، وإذا بلغ التسعين، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفعه في أهل بيته، وكان اسمه عند الله في السماء: أسير الله في أرضه، فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعمل من بعد علمٍ شيئاً، كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير، فإن عمل سيئةً، لم تكتب عليه)).
796 - حدثنا صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا سليمان بن عمرٍو، عن ابن حزمٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه،(3/461)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
797 - حدثنا داود بن حمادٍ القيسي، قال: حدثنا اليقظان بن عمار بن ياسرٍ، قال: حدثنا ابن شهابٍ الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا بلغ أربعين سنةً، -وهو العمر-، أمنه الله من الخصال الثلاث: من الجنون، والجذام، والبرص، وإذا بلغ خمسين سنةً، -وهو الدهر- خفف الله عنه الحساب، فإذا بلغ ستين سنةً، -وهو في إدبارٍ من قوته-، رزقه الله الإنابة إليه فيما يحب، فإذا بلغ سبعين سنةً، -وهو الحقب-، أحبه أهل السماء، وإذا بلغ ثمانين سنة، -وهو الخرف-، أثبتت حسناته، ومحيت سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة، -وهو الفناء-، وقد ذهب العقل، غفر الله له(3/462)
ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته؛ (لأن اسمه عند الله في السماء): أسير الله في أرضه، وإذا بلغ مئة سنةٍ، سمي: حبيس الله في الأرض، وحقٌّ على الله أن لا يعذب حبيسه في الأرض)).
798 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: حدثنا مزاحم بن زفر، عن ليث بن سعدٍ، عن أبي عمر الصنعاني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/463)
نحو حديث فضيل بن عياض.
799 - حدثنا محمد بن محمد بن حسينٍ، قال: حدثنا عثمان بن الهيثم البصري، قال: حدثني الهيثم بن الأشعث، عن الهيثم بن محمدٍ السلمي، عن محمد بن عمارٍ الخطمي، عن جهم بن عثمان بن أبي جهيمة السلمي، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بلغ المرء المسلم أربعين سنةً، صرف الله عنه ثلاثة أنواعٍ من البلاء: الجنون، والجذام، والبرص)).(3/464)
فهذا الحديث يخبر عن حرمة الإسلام، وما يوجب الله لمن قطع عمره مسلماً، وليس يقصد في ذلك الدرجات ولا الأعمال، إنما يعلم القاطعين أعمارهم بهذا الإسلام بما لهم بعمرهم -الذي داموا فيه على الإسلام- عند الله من الكرامة، سوى صحة الأعمال، وصدقه وصفائه، واكتساب الطاعات، فذاك ثوابه على قدر ما اكتسب وسعى.
وقد قال في الحديث الذي رواه الفضيل بن محمد: ((ما من معمرٍ يعمر في الإسلام))، فإنما قصد؛ لبيان فضل التعمير في الإسلام، وثباته عليه، ومثال هذا موجود في خلقه: ترى الرجل يشتري عبداً، فإذا أتت عليه ستون سنة، يقول: قد طالت صحبة هذا، وعتق عندنا، فيرفع عنه بعض العبودة، ويخفف عنه في ضريبته، فإذا زادت مدة صحبته، زيد رفقاً وعطفاً.
فالعبد لا يخلو من تخليط وذنب وإساءة في عمل مولاه، فهو لطول الصحبة لا يمنعه رفقه ولا رفده، ولا يعيبه، فإذا شاخ وكبر، أعتقه، ويحتشم من بيعه والإساءة إليه، ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يستحي من عبده وأمته أن يشيبا في الإسلام فيعذبهما)).(3/465)
ففي بلوغ العمر أربعين سنة استكمال الأخلاق، واستجماع القوة، ثم لا يزال بعد الأربعين في نقصان وإدبار عمرٍ تام، فإذا عاش في الإسلام عمراً تاماً، وجبت له من الحرمة ما يدفع عنه هذه الآفات التي لا تقبل الدواء، وأمنه من الداء العضال، ووجود العدو إليه سبيلاً في أخذ قلبه، فإذا بلغ خمسين سنة، فقد صار إلى نصف الذي هو أرذل العمر، فإنما برذالة العمر نال رفع الحساب، وأن لا تكتب عليه سيئة في بلوغ المئة، فإذا بلغ خمسين سنة، وجاوزها، فقد وقع في النصف الأرذل، فخفف عنه حسابه، وقيل في الرواية الأخرى: ((لين حسابه)).
وقال في حديث عثمان رضي الله عنه: ((حاسبه حساباً يسيراً))، فمعنى هذا كله قريب يرجع إلى معنى واحد، وهو اليسير، فإذا انتهى آخره، يرفع عنه الحساب، وهذا كله في حياته، وخفة الحساب في الدنيا أن لا يؤاخذه في الدنيا، ولا ينزع منه البركة، ولا يحرمه الطاعة، ولا يقصيه، ولا يخذله. إذا عمر هذا العمر، ومن قبل الخمسين: لم يستوجب هذه الحرمة، فإذا بلغ ستين سنة، فهو في عمر التذكر والتوقف.(3/466)
800 - حدثنا يحيى بن المغيرة المخزومي، قال: حدثنا ابن أبي فديكٍ، عن إبراهيم بن الفضل، عن ابن أبي حسينٍ المكي، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة، نودي أبناء الستين، وهو العمر الذي قال الله تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر}.
فإذا عمر في الإسلام ستين سنة، فقد جاء أوان التذكر؛ لأن الأربعين منتهى استتمام القوة، فإذا جاوز الأربعين إلى الستين، فقد أتى عليه عشرون سنة، وقد أخذ في النقصان، فقد جاوز الأربعين الذي به استتم،(3/467)
وافتقد من نفسه نصف القوة، فلذلك صارت حجة عليه، لما جاوز فقد النصف من القوة التي أعطي، فأوجب له حرمة بأن رزقه الإنابة إليه فيما يجب، وهو التذكر، فإنه إذا تذكر، أناب، وإذا أناب، تذكر، فرزقه الإنابة، ولم يخذله، فيصير عمره عليه وبالاً وحجة، فيعيره به، كما يعير أهل النار.
فقد حكى الله في تنزيله عن أعدائه، فقال -جل ذكره-: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفورٍ. وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل}.
فأجيبوا بقوله: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصيرٍ}.
فأوجب للمعمر في الإسلام ستين سنة؛ لحرمة مدته: أن رزقه الإنابة إليه من الطاعات، فإذا بلغ سبعين سنة، فقد عمر حقباً من الدهر، قال الله -تبارك وتعالى-: {لابثين فيها أحقاباً}، والواحد حقبٌ.
والحقب: سبعون سنة، فجعل كل حقب غايةً وحداً ينتهى إليه في الطول، وهو منتهى أعمار هذه الأمة.
801 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا عثمان بن زفر،(3/468)
عن محمد بن كناسة، رفعه إلى أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقل أمتي أبناء السبعين)).
802 - حدثنا يحيى بن المغيرة بن سلمة المخزومي أبو سلمة، قال: حدثنا ابن أبي فديكٍ، عن إبراهيم بن الفضل، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين)).
803 - حدثنا محمد بن يزيد النيسابوري، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا أبي، عن وهب بن منبهٍ،(3/469)
قال: مكتوبٌ في التوراة: شوقناكم، فلم تشتاقوا، ونحنا لكم، فلم تبكوا، ألا وإن لله ملكاً في السماء ينادي كل ليلة: بشر القتالين بأن لهم عند الله سيفاً لا ينام، وهو نار جهنم، أبناء الأربعين زرعٌ قد دنا حصاده، أبناء الخمسين هلموا إلى الحساب، أبناء الستين ماذا قدمتم؟ وماذا أخرتم؟ أبناء السبعين ماذا تنتظرون؟ ألا ليت الخلائق لم يخلقوا، فإذا خلقوا، علموا لما خلقوا، ألا أتتكم الساعة، فخذوا حذركم.
فقوله: ((زرع قد دنا حصاده))؛ لأن الزرع إذا أدرك فاستحصد، حصد، فإن ترك، أدبر شأنه، ففسد، فكذلك أبناء الأربعين قد أدركوا تمام العمر، فصار الجسد في إدبار.
وقوله: ((أبناء الخمسين هلموا إلى الحساب))؛ هو مقارب لما قال في الحديث الأول: ((خفف الله حسابه)).(3/470)
وقوله: ((أبناء الستين ماذا قدمتم وأخرتم؟))؛ هو موافق لقوله تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر}.
وقوله: ((أبناء السبعين ماذا ينتظرون))؛ أي: قد نفد العمر وانتهى، وهو موافق لذلك.
فهذا يحكي عن التوراة، وذاك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، إلا أن ذاك في فضل المعمرين في الإسلام، وما يجب لهم، وهذا في طريق الوعيد، وأذان أهل الغفلة في أسماعهم كي ينتهوا، فإذا عمر في الإسلام سبعين سنة، أوجب له محبته، فأحبه أهل السماء؛ لأنه يشهر حبه فيهم، كأنه يقال: هذا عبد قد كان في عبودة مولاه، سبعين سنة حقباً واحداً، لم يأبق من مولاه، ولم يتول عنه حتى شاب في الإسلام، وذهب شبابه وقوته، فإذا بلغ ثمانين سنة؛ قبلت حسناته، وتجاوز الله عن سيئاته.
فهذا قد عمر ضعف العمر، وذلك أن العمر هو أربعون، ثم هو في إدبار، فقد عمر هذا العبد مثلي العمر في الإسلام، واستوجب أن قبلت حسناته، وتجاوز له عن سيئاته.
وقد ذكر الله أهل الاستقامة في تنزيله، فقال: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنةً قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين}.
فذكر هاهنا خصال أهل الاستقامة، وهو شكر أهل النعمة، والعمل الصالح المرضي، والتوبة، فقال الله -تبارك اسمه-: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة}، ثم قال: {وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}.(3/471)
أي: من كان بهذه الصفة، فقد سبق الموعود له بالجنة وما فيها من النعمة على ألسنة الرسل، وهو قوله: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك}.
فهذا وعده تقبل الحسنات، والتجاوز عن السيئات، فهذا لمن بلغ أربعين سنة على هذه الخصال، فإذا كان مخلطاً، فعمر في الإسلام ضعف أربعين، أوجب له بحرمة ذلك العمر ما يوجب للمستقيم الذي ذكرنا من خصاله في وقت الأربعين.
804 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا عثمان بن زفر الكوفي، قال: حدثنا جابر بن نوحٍ، عن عمرٍو الملائي، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بلغ الرجل من أمتي ثمانين سنةً، حرم الله جلده على النار)).
فإذا بلغ تسعين سنة، فقد أفند، وفقد عقله.
وكان العقل حجة الله عليه، فغفر له ما تقدم من ذنبه، فقطع هذا العمر مسلماً، وما تأخر من ذنبه بفقد عقله، وسمي: أسير الله في الأرض؛ لأنه في أول ما اجتباه ألقى في قلبه نور المعرفة، فسبى قلبه، فما زال يستغله فيغل غلته، ويؤدي خراجه، حتى إذا شاخ وكبر، وعجز عن الغلة،(3/472)
وذهبت القوة، وفقد العقل؛ رفع عنه تبعة الذنب فيما بقي، وإنما قيل: أسير؛ لأنه في ربقة الإيمان، فهو كأسير في وثاق، ولا يقدر براحاً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن مثل الفرس في آخيته)).
فهذا المقيد المهتر عاجز عن أعمال البر وهو في ربقة الإسلام، فإذا بلغ مئة سنة، فقد رد إلى أرذل العمر، فعاد كالصبي، فبلغ من حرمته أن أجريت له حسناته، ولم تكتب عليه سيئاته؛ لأنه قد بلي، فوجد صادقاً في قول: لا إله إلا الله، ثم لم يتردد عنها، ودام عليها ناشئاً فتياً، ودام عليها شاباً طرياً، ودام عليها كهلاً سرياً، ودام عليها بجالاً بهياً، ودام عليها شيخاً رضياً، فلما صار إلى أرذل العمر، عاد إلى أحكامه طفلاً صبياً، فأجري له مثل ما كان يعمل من الحسنات في سالف أيامه، ورفع عنه سيء ما يجيء منه.
قال الله -تبارك اسمه-: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علمٍ شيئاً}، وقال: {قد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ. ثم رددناه أسفل سافلين}، ثم استثنى فقال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير ممنونٍ}؛ أي: غير مقطوع.(3/473)
805 - فحدثنا صالح بن محمدٍ، عن سليمان، عن ابن حزمٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {فلهم أجرٌ غير ممنونٍ} قال: ((غير ممنونٍ ما يكتب لهم صاحب اليمين، فإن عمل خيراً، كتب صاحب اليمين، وإن ضعف عن ذلك، كتب له صاحب اليمين، وأمسك صاحب الشمال، فلم يكتب سيئةً، ومن قرأ القرآن، لم يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علمٍ شيئاً)).
فهذا كله يكشف عن حال المعمرين في الإسلام، وأقدارهم عند الله، وليس يراد به: الأعمال والدرجات؛ فإن للأعمال تفاوتاً، ولكن هذا لعامة من يقطع عمره في الإسلام، فبين الغايات، ومرتبة كل غاية وفضله، ووصف في تنزيله ما يقول لأعدائه، قال: {اخسئوا فيها ولا تكلمون}.
ثم قال كنصرة لهم: {إنه كان فريقٌ من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين. فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون}، ثم ذكر دوام المؤمنين على إيمانهم، فقال: {إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون}؛(3/474)
أي: صبروا على التوحيد، وعلى دين الإسلام، فلم يبدلوا ولا نكصوا على أعقابهم.(3/475)
الأصل الخامس والأربعون والمئة
806 - حدثنا سعيد بن عبد الله التمار، وإسماعيل بن نصر، وحفص بن عمرٍو، قالوا: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا أزهر بن سنان القرشي، عن محمد بن واسعٍ، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دخل سوقاً من أسواق المسلمين، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، كتب الله له ألف ألف حسنةٍ، وحطت عنه ألف ألف خطيئةٍ، ورفعت له ألف ألف درجةٍ)).
قال محمد بن واسع: فقدمت خراسان، فلقيت قتيبة بن مسلم، فقلت له: قد جئتك بهدية، فحدثته به، فكان يركب في موكبه إلى السوق، فيقولها، ثم يرجع.(3/477)
807 - حدثنا حفص بن عمرٍو، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا أزهر بن سنان القرشي، قال: حدثنا محمد بن واسعٍ، قال: قدمت مكة، فلقيت بها سالم بن عبد الله، فحدثني عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
808 - حدثنا زياد بن أيوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثني عمرو بن دينارٍ مولى آل الزبير، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(3/478)
قال أبو عبد الله:
فهذه كلمات يخرج بها العبد من حال الغفلة، وإنما خص هذه الكلمات بالأسواق من بين المواضع، فإن الغفلة مستولية على أهلها، وذلك أن الله -تبارك اسمه- هو المعطي والمانع، والقابض والباسط والرازق، وبيده خزائن كل شيء، وهو مفاتيح الغيب، فمن قدر على شيء، فبقدرته، ومن ملك شيئاً، فبتمليكه، ووضع الله الأشياء في الأسباب، وجعل الأسباب نصب أعين الآدميين من أبواب المكاسب ووجوه الأرزاق.
فأهل اليقين بنور بصائرهم نفذوا الأسباب إلى وليها، فلم تقدر الأسباب أن تملكهم، ولا صارت عليهم فتنةً، فهم يعملون في الأسباب مع وليها، يزرعون وينتظرون رحمته، ويحصدون ويقبلونه منه، وإذا زكى، قالوا: هذا من فضلك ورحمتك، ويتجرون يبتغون الأرباح من فضل الله عز وجل كما ندب الله العباد، فقال: {وابتغوا من فضل الله}.
وقال في آية أخرى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}. وإذا تعذر عليهم شيء سألوه كما أدبهم، فقال: {وسئلوا الله من فضله}.
وأهل الغفلة تعلقت قلوبهم بالتجارات والزراعات والحرف، وما وضع(3/479)
لهم من التدبير فيه، فإليه ينظرون، وإياه يطلبون، وبه يفتنون، ومن أجله يعصون.
فالأسواق معدن النوال، ومظان الأرزاق، وهي كأنها مملكة وضعها الله لأهل الدنيا يتداولون فيها ملك الأشياء فيما بينهم، فترى الشيء الواحد يدور ملكه في اليوم الواحد عشر مرات على أيدي المالكين، والتدبير على المملكة الأعلى، وهي العرش، فمملكة التداول هي الأسواق، ومملكة تدبير التداول هي العرش.
فأهل الغفلة إذا دخلوها، تعلقت قلوبهم بهذه الأسباب في هذه المملكة، واتخذوها دولاً، وصارت عليهم فتنةً، وأهل اليقظة والانتباه، وهم أهل اليقين: إذا دخلوها، تعلقت قلوبهم به في تدبيره، فسلموا من فتنتها، فإذا نطق أحد بهذه الكلمات في ذلك رد على أهل الغفلة عيوبهم وجفاءهم وسوء صنيعهم إذ أعرضوا عن تدبير الله، وتركوا مراقبته.
فالسوق: هو رحمة من الله لعباده، دبره معاشاً لخلقه، يدر عليهم منها حوائجهم ليلاً ونهاراً، وشتاءً وصيفاً، ونقلاً من بلد إلى بلد؛ لتكون الأشياء موجودة في الأيدي عند وقت الحاجة، وهو قوله عز وجل: {وقدر فيها أقواتها}.
وجعل الذهب والفضة أثمان كل شيء، وما سواهما عرضاً صرف أرزاقهم إلى مثل هذه الأرباح، وصرف بوجوههم للطلب إلى مطلب المكاسب؛ لتكون الأسواق قائمةً، والتدبير جارياً، والمعاش نظاماً، ولو لم يكن هكذا، لكان الواحد يحتاج إلى آلة الجميع من الحرف، وإلى تعلم كل حرفة في الأرض، فيصيرون عجزة، فأسواقهم مشحونة بصنوف الأطعمة(3/480)
والأشربة والأغذية والأدوية، وحوائج ما ينوب في المحيا من كل شيء، ثم صيرهم يبتغون من فضل الله في هذه الأشياء بتغيير الأسعار، فإن الله هو المسعر، وهو القابض والباسط، وهو مقلب القلوب، فبتغيير الأسعار ينالون الأرباح، وبنوبة الحوائج يدر عليهم الشيء بعد الشيء، فيكون ذلك معاشاً، والله تفضل عليهم به.
فأهل الغفلة صيروا هذه الرحمة وبالاً على أنفسهم بتعلق قلوبهم بالأسباب، وبغفلتهم عن المدبر لها، والسائق أرزاقهم إليهم من فضله، فالناطق بهذه الكلمات بين أولئك الغفلة في هذا الحظ من ربه، فتكتب له الحسنات، وتمحى عنه السيئات، وترفع له الدرجات على عدد ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، {والله يضاعف لمن يشاء والله واسعٌ عليمٌ}.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ذاكر الله في الغافلين مثله كالشجرة الخضراء في السنة الحمراء)).(3/481)
وروي عن عون بن عبد الله: أنه قال: ذاكر الله في الغافلين كحامي الفئة المنهزمة.
وقيل في بعض الحديث: ((كالكار بعد الفار)).
معناه عندنا: أن السنة الحمراء هي السنة التي أقحطت، فانشوى فيها ويبس كل شيء، فلم يبق على الأشجار إلا أغصانها يابسة، فتلك الشجرة الخضراء منظر بيِّن بين الأشجار، ومشخصٌ ظاهرٌ بين الأبصار يتراءون فيما بينهم؛ لرطوبتها وخضرتها، فلولا أنها لجوهرها من بين الأشجار كانت متمسكة برطوبتها، معتصمة بما عندها، وفيها من الخير الوارد؛ لكانـ[ـت] قد يبسـ[ـت] أيضاً، فكذلك أهل الغفلة أصابهم حريق الشهوات، فذهبت ثمار القلوب، وهي طاعة الأركان، وذهبت محاسن الوجوه(3/482)
وطلاوتها وسمتها وآدابها، وسكون النفس وهديها وقصدها، فلم يبق ثمرٌ ولا ورقٌ، وما بقي من الثمر، فبشعٌ أو مر، أو حلو لا طعم له، كدر اللون عاقبته التخمة، فهي أشجار بهذه الصفة.
والشجرة الخضراء سقياها من عند العطوف الرحيم الودود، فقلبه رطبٌ بذكره، وعروقه لينة بفضله ومننه، فلم يضره قحط ولا يبسة.
وأما قوله: ((كحامي الفئة المنهزمة)): فإن أهل الأسواق قد افترص العدو منهم حرصهم وشحهم، ورغبتهم في هذا الفاني، فصيرها عدةً وسلاحاً لفتنته، فدخلوا أسواقهم وهم أصحاب صوم وصلاة وقراءة وتدين طالبين للمعاش، فهذه الرغبة فيهم، والحرص كامنٌ، كلما ازداد طلباً، ازداد حرصاً، فأقبل العدو، فنصب كرسيه في وسط أسواقهم، وركز رايته، وبث جنده، وقال: دونكم من رجال مات أبوهم وأبوكم حيٌّ، فمن بين مطفف في كيل، وطائش في ميزان، ومنفق سلعته بالحلف الكاذب، وحمل عليهم بجنوده حملةً، فهزمهم عن [مقاومهم] إلى المكاسب الردية، وإضاعة الصلوات، ومنع الحقوق، فما داموا في هذه الغفلة على مثل هذه الأحوال، فهم على خطر عظيم من ربهم؛ من نزول العذاب، وتغيير الأمور، وكون الأحداث، فالذاكر فيما بينهم يرد غضب الله، ويطفئ ثائرة الغضب؛ لأن في كلماته هذه نسخ تلك الأفعال.
وقد قال الله -جل ذكره-: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين}.(3/483)
ودفع بالذاكرين عن أهل الغفلة، وبالمصلين عمن لا يصلي، وفي هذه الكلمات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ لأفعال أهل السوق؛ لأن القلوب قد ولهت بعضها إلى بعض في النفع والضر.
فقال هذا الذاكر: ((لا إله إلا الله))، فكأن في قوله نسخاً لوله قلوبهم، فقال: ((وحده لا شريك له))، فكأن في قوله نسخاً لما تعلقت قلوبهم بعضها ببعض في نوال أو معروف، أو تخوف أو ضرر.
ثم قال: ((له الملك))، فكأن في قوله نسخاً لما يرون من تداول أيدي المالكين تلك الأشياء، ثم قال: ((وله الحمد))، كأن في ذلك نسخاً لما يرون من صنع أيديهم وتصرفهم في الأمور، يتحمد بذلك بعضهم إلى بعض، ثم قال: ((يحيي ويميت))، فكأن في ذلك نسخاً لحركاتهم وما يرجون في أسواقهم للمنافع، فإن تلك حركات تملك واقتدار.
فقال: يحيي: أي: هو أحياهم حتى انتشرت الحركات على جديد هذه الأرض منهم، ويميت؛ أي: يميتهم، فلا يبقى متحرك، ويهدأ الخلق، وتخلو الأرض عن كل متنفس.
ثم قال: ((وهو حي لا يموت))، نفى عنه ما نسب إلى المخلوقين في حياتهم من أنهم يموتون، ثم قال: ((بيده الخير))؛ أي: إن هذه الأشياء التي تطلبونها من الخير في هذه الأسواق، وجمع الخير بيده، ((وهو على كل شيء قدير)).(3/484)
فمثل أهل الغفلة والتخليط في هذه الأسواق كمثل الهمج والذباب يجتمعن على مزبلة وكناسة، يتطايرون فيها على ألوان المقادير، فيقعن على ضروب ما هناك فعمد رجل إلى مكنسة عظيمة ذات شعوب وقوة، فكنس هذه المزبلة، فجرفها إلى الوادي، فإذا البقعة نظيفة، وصاحبها معجب بها.
فهذا الناطق بهذه الكلمات وجد أسواقاً مشحونة بالكذب والغش، والخيانة والظلم، والعدوان والأيمان الكاذبة والمكاسب الردية، قد هزمهم العدو، فسباهم وهم على شرف حريق، ونزول عذاب، فنطق بهذه الكلمات، فرمى بهذه المزابل في وجه العدو، وهزمهم، وطهر الأسواق منهم، وكأن في قوله هذا أطفأ ثائرة سخط الله، ومنةً في هذه السوق؛ حسبة تستر مساوئهم، ونوراً ينقي ظلمتهم، وزكاة تطهرهم من أرجاسهم.
قال الله -تبارك اسمه-: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً}.
فلهذا نرى اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات من بين الكلام؛ لتكون نفياً لما جاء به أهل الغفلة، فيدفع الله بهن عن العامة.(3/485)
الأصل السادس والأربعون والمئة
809 - حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قال: حدثنا سفيان، عن معمرٍ، عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((تجدون الناس كالإبل المئة ليس فيها راحلةٌ، أو ليس فيها إلا راحلةٌ)).
810 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا محمد ابن حميدٍ المعمري، عن معمرٍ، عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنما الناس كالإبل المئة لا تكاد تجد فيها راحلةً)).(3/487)
قال أبو عبد الله:
فالراحلة: هي التي قد ريضت وأدبت، فسمحت بالطاعة، وتركت سيرتها، وسارت بزمامها حتى ذلت لصاحبها، وأعطت سيرها، وجادت بنفسها في المهنة، فهي راحلة خرجت في الاسم مخرج فاعلة، وإنما هي مرحولة؛ لأن الفعل واقع بها، فما زال ذلك عادتها في الرحل، ودأبها في الانقياد، وعين صاحبها يرعاها، ويلي تأديبها، ويتفقد أحوالها حتى تمكنت عنده منزلة وحظاً، حتى صيرها نجيبة من نجائبه، وكريمة من كرائم إبله، فإن رحلها، أعطت من نفسها السير في وجهها، والرفق في السير منها، فهي سمحة لا تحرن، كريمة لا تجمح، جريئة لا تنفر، وادعة لا تشمس، ساكنة لا تضطرب، إذا حُملت، حملت، وإذا سارت استمرت، وإذا حركت اعتنت، فصاحبها بأحوالها معجب، وبها ضنين، لا يملكها أحداً، ولا يطلق لأحد عليها يداً حتى يتحمل أثقال صاحبها، فتكون من نجائب الملك، فكانت هذه كإحدى الإبل المئة سائمة ترعى في مظانها، وتذهب في مهواها يميناً وشمالاً، لا ينتفع بها برسلٍ، ولا حمولة، فالواحد منها ركوبة،(3/488)
وسائرها للأكل نحرة، وللحمولة، قال الله -تبارك اسمه-: {وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها تأكلون}.
فالذي قد ذلل للركوب صارت راحلة، وسائرها لحم، كذلك الناس انتشروا على جديد الأرض، فربتهم نعم الخالق، وأظلتهم سحائب رحمته، واكتنفتهم رأفته، وتوالتهم مننه، أعني: الموحدين، فإذا لجمت أحدهم بلجام الحق، وزممته بزمام الصبر، هز برأسه، ولوى عنقاً، فرمى باللجام، وجاذب بالزمام سبقاً، فركب رأسه، ومر شارداً، فرمى بحمولته، فمن المئة لا تجد فيها راحلة واحدة؛ أي: لا تجد أنفساً سمحة سخية منقادة مطيعة لربها قد ألقت بيديها سلماً، وانخشعت لعظمة ربها، ووطنت نفسها على العبودة، فلا تزال في عطف الله ورحمته وتأييده حتى يصير ذا حظ من ربه، فبحظه منه ينجب، وتزكو نفسه، وتطيب أخلاقه، وينشرح صدره، وتلين عروقه، ويرطب قلبه، ويألف ربه، فإن رحله، انقاد، وإن سيره سار، وإن عطفه، انعطف، وإن كبح به، وقف، وإن بعثه، انبعث، وإن حركه، هملج أو جمز، وإن أوقره، استمر، وإن أنصبه، احتمل، وإن خلى زمامه تفويضاً إليه، استقام، فهو لربه أليف، وربه به ضنين.(3/489)
811 - حدثنا سهل بن العباس، قال: حدثنا عبد الرحمن بن معراء أبو زهيرٍ، عن عبد الرحمن بن زياد ابن أنعم، عن أبي عبد الرحمن المعافري، عن عبد الله بن عمرٍو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أضن بعبده المؤمن من أحدكم بكريمة ماله حتى يقبضه على فراشه)).
812 - حدثنا أحمد بن مصرفٍ، قال: حدثنا محمد ابن بشرٍ، عن عباد بن كثيرٍ، عن حوشبٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله عباداً يضن بهم عن الأمراض والأسقام(3/490)
في الدنيا، يحييهم في عافيةٍ، ويميتهم في عافيةٍ، ويدخلهم الجنة في عافيةٍ)).
قال أبو عبد الله:
فالراحلة في الإبل قليلة، والنجيبة في الرواحل قليلة، فالموحدون في الناس قليل، والمستقيمون بلجام الله في سيرهم إليه في الموحدين قليل، والصديقون في المستقيمين قليل، فهم قليل في قليل من قليل.
قال الله -تبارك اسمه-: {وقليلٌ من عبادي الشكور}.
والسابقون أهل الشكر والوفاء، والمؤيدون بالمن والعطاء،(3/491)
والممتلئة قلوبهم من الجلال والبهاء، والعظمة والآلاء، وشمائلهم وطيب مخبرهم كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
813 - حدثنا بذلك محمد بن يحيى بن أبي حزمٍ القطعي، قال: حدثنا بشر بن عمر الزهراني، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن القاسم بن محمدٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((طوبى للسابقين إلى ظل الله))، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ((الذين إذا أعطوا الحق، قبلوه، وإذا سئلوا، بذلوه، والذين يحكمون للناس بحكمهم لأنفسهم)).
فهذه صفة أهل القناعة، وهي الحياة الطيبة التي ذكر الله في تنزيله،(3/492)
فقال عز وجل: {من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياةً طيبةً}، ثم ذكر جزاؤه في آخر الآية، فقال: {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
فبالله استغنوا حتى قنعوا بما أعطوا، وبالله انقادوا، وألقوا بأيديهم حتى بذلوا الحق إذا سئلوا، وإلى الله أقبلوا حتى عدل قلوبهم، فصاروا أمناءه وحكامه في أرضه، يحكمون للناس ما يحكمون لأنفسهم، فإن النفس ميالة، وصاحبها غير متهم فيها، وإنه لا يألو لها نصحاً وخيراً، فيتمثل شأنها، فما أحب لها، وحكم لها في الأمور، أحب للناس مثله، وحكم لهم بمثله.
وروي عن كعب: أنه قال: إن أحببت أن تصل الأرحام ما بينك وبين آدم عليه السلام، فأحب للناس ما تحب لنفسك.
وروي في مناجاة موسى عليه السلام: أنه قال: يا رب! كيف أصل رحمي وقد تباعدوا عني في مشارق الأرض ومغاربها، وقد أمرتني بذلك؟ قال: ((يا موسى! أحب لهم ما تحب لنفسك)).
وعنه قال: سألني بعض السائلين أن أوصيه بوصية أجمل له وأوجزها، فقلت له:(3/493)
تعبدنا ربنا بهاتين الخصلتين: أن تكون له كالعبد، وأن تكون لعبيده كما هو لهم، فقال: كيف يكون هذا؟ قلت: إذا وصفته، كثر، وسألتني أن أوجز، فأوجزت لك الصفة في كلمتين تدرك بهما، وتجزيك عن كثير عن الوصف.
مثل: عبد اشتريته ليكون لك عبداً، فما أردت منه، وطالبته به، فاخرج إلى الله من مثله، وكن لله كما تريد أن يكون عبدك لك، ومثل نفسك مثالاً، فما أحببت لنفسك، فعامل عبيده بمثله؛ فإن الله اتخذك عبداً حجة عليك، فمن مطالبتك عبدك واقتضائك له أن يكون بين يديك، ولا يمد يده إلى شيء من ملكك إلا ما أذنت له فيه، ولا يخطو إلى أمر إلا بإذنك، ولا يعمل لغيرك عملاً، وما أعطيته قنع به، وما حكمت عليه مما لم يوافق، لم يسخط عليك، ولم يشكك إلى أحد، وهذا مرادك من عبدك، فاخرج إلى الله من ذلك، وأنصفه من نفسك، وضع في نفسك محبة نفسك وشفقة عليها وعطفاً، وهي تلك الشهوة التي وافقتك فالتذذت بها، فأنزل سائر العبيد من نفسك منزلة نفسك؛ فإن نفسك عبد لله، وهؤلاء عبيد الله، فإذا حكمت هذين؛ فأنت السابق إلى ظل الله غداً، وعيشك في الدنيا عيش أهل الجنان، ولا يقوى على هاتين الخصلتين إلا عبد قد سقطت من قلبه منزلة(3/494)
نفسه، ومنزلة دنياه، ولها قلبه عنهما، فشغف بمولاه.
ثم قلت: هذا عبد نبه من رقدة الغافلين، فانتبه عن ربه، وأشرق في صدره النور، فوقف بقلبه على جلال الله وعظمته، وعلى جماله وبهائه، وعلى كبريائه وسلطانه، فصارت دنياه عنده في الدقة أقل من جناح بعوضة، وصارت نفسه عنده قبضة من تراب؛ لما أشرق في صدره من نور جلاله وعظمته، ووردت على قلبه من محبة الله، والحلاوة التي وجد لها ما أسكرته وألهته عن محبة نفسه ودنياه، وما يؤمن به إلا كل مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان، وقليل ما هم.
814 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا صالحٌ المري، عن حبيبٍ -وهو العجمي-، عن شهر بن حوشبٍ، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه: إن الله يقول: ((يا جبريل! انسخ من قلب عبدي المؤمن الحلاوة التي كان يجدها لي، قال: فيصير العبد المؤمن والهاً، طالباً للذي كان يعهد من نفسه، نزلت به مصيبةٌ لم ينزل به مثلها قط، فإذا نظر الله إليه على تلك الحال، قال: يا جبريل! رد إلى قلب عبدي ما نسخت منه، فقد ابتليته، فوجدته صادقاً وسأمده من قبلي بزيادةٍ)).(3/495)
فهذه حلاوة المحبة من نالها قد غلب على قلبه، وصارت سائر الأشياء خولاً لها، بمنزلة رجل يلوك في فمه مشمشاً أو فرصاداً، أو نحوه، فهو يجد حلاوتهما، فإذا لعق عسلاً، استحال أن لا تلهيه حلاوة العسل عن حلاوة المشمش، وبمنزلة رجل وجد فلساً، فأحبه على قدره، ثم وجد درهماً، فأحبه على قدره، ثم وجد ديناراً، فأحبه على قدره؛ ثم كلما وجد ما هو أعظم قدراً، ضعفت محبة الفلس والدرهم، ثم وجد جوهراً لا يدري ما قيمته، يعطى بها بيوت أموال من الدنانير، أليس قد دق في عينه الفلس والدرهم والدينار؟
فكأنه نسيهم أصلاً، فإنما أحب الدرهم والدينار؛ لاستغنائه بهما، وبما يرجو من نفعهما، ولقضاء النهمات بهما، لا ليمصهما في فيه فيبلعهما، فإذا فتح الله قلبه، نور صدره، وعرفه من صفاته ما جهله، فيحمل ما جهله(3/496)
قبل ذلك، كان غناؤه بالله أكبر وأقوى من غنائه بالدرهم والدينار.
ولما علم أن الخير كله بيد الله، والنفع منه؛ كان رجاؤه منه أعظم من الدينار والدرهم، وليس بعجب، بل هكذا الممكن في العقول أن يكون هكذا، ولو أن رجلاً عنده في منزله بيت مملوء دنانير، فلو سقط منه كيس فيه عشرة دراهم ونحوه، لم يجد على قلبه حزناً عليها، ولو أهدى إليه آخر هذا القدر، قبلها، ولم يفرح بها، ولا يجد على قلبه فرحاً بها؛ لاستغنائه بتلك الدنانير، فإذا كانت هذه الدنانير قد أغنتك وفرحتك فرحاً لا تجد لهذه الدراهم فرحاً، ولا لفوتها حزناً، فما ظنك بمن عرف الله في جلاله وعظمته وملكه، وأنه عبده، وعرف إحسانه إليه أن لا يكون غناؤه به وفرحه به فرحاً لا يجد لشيء من عرض دنياه فرحاً، ولا يجد على فوتها حزناً.
815 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا معمرٌ، عن الزهري، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ(3/497)
من أهل الجنة)). فاطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته ماءً من وضوءه، معلقٌ نعليه في يده الشمال، فلما كان من الغد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))، فاطلع ذلك الرجل على مثل مرتبته الأولى، فلما كان من الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فاطلع ذلك الرجل، فلما قام ذلك الرجل، اتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى يحل يميني، فعلت، فقال: نعم.
قال أنس رضي الله عنه: فكان عبد الله بن عمر يحدث أنه بات معه ليلة، فلم يره يقوم من الليل بشيء، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه، وذكر الله، وكبره حتى يقوم لصلاة الفجر، فيسبغ الوضوء، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث، فكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! إنه لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات في ثلاثة مجالس: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))، فاطلعت أنت تلك المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك، فقال: ما هو(3/498)
إلا ما قد رأيت، فانصرفت عنه، فلما وليت، دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي غلاً لأحد من المسلمين، ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه، فقال له عبد الله بن عمرو: وهذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق.
816 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا سيارٌ، قال: حدثنا بشرٌ بن منصورٍ، قال: حدثنا عبد العزيز ابن أبي روادٍ، قال: بلغنا أن رجلاً صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا الرجل من أهل الجنة))، فقال عبد الله بن عمرٍو: فأتيته، فقلت: يا عماه!(3/499)
الضيافة، فقال: نعم، فإذا له خيمة ونخل وشاة، فلما أمسى، خرج من خيمته، فاحتلب العنز، واجتنى لي رطباً، ثم وضعه فأكلت معه، فبات نائماً، وبت قائماً، وأصبح مفطراً، وأصبحت صائماً، ففعل ذلك ثلاث ليال، فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيك: إنك من أهل الجنة، فأخبرني ما عملك، قال: فأت الذي أخبرك حتى يخبرك بعملي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ائته، فمره فليخبرك))، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تخبرني، قال: أما الآن، فنعم، لو كانت الدنيا لي، فأخذت مني، لم أحزن عليها، ولو أعطيتها، لم أفرح بها، وأبيت وليس في قلبي غلٌّ على أحد.
قال عبد الله: لكني -والله- أقوم الليل، وأصوم النهار، ولو وهبت لي شاة، لفرحت بها، ولو ذهبت، لحزنت عليها، والله! لقد فضلك الله علينا فضلاً بيناً.
فهذا هو الذي ذكرناه بدءاً، فأوجزته لذلك السائل، وجماع الأمر في هاتين الخصلتين: سقوط منزلة دنياك عن قلبك، وسقوط منزلة نفسك عن(3/500)
قلبك، فإذا لم يكن لدنياك عندك قدر، لم تفرح بها، ولم تحزن عليها، وإذا لم تكن لنفسك عندك قدر، لم تغل، ولم تحقد على من آذاك أو نالك بظلم من أهل القبلة، وكنت ممن قال الله عز وجل: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}. يعفو عنه، ويطلب صلاحه حتى يصلحه.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه قيل له: أي المؤمنين أفضل؟ قال: ((كل مؤمنٍ مخموم القلب، صدوق اللسان))، قالوا: يا رسول الله! ما مخموم القلب؟ قال: ((التقي النقي، الذي لا إثم عليه ولا بغي، ولا غلٍّ، ولا حسد))، قالوا: ما نعرف هذا فينا يا رسول الله، فمن يليه؟ قال: ((الذين نسوا الدنيا وأحبوا الآخرة))، قالوا: وما نعرف هذا يا رسول الله إلا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يليه؟ قال: ((مؤمنٌ في خلقٍ حسنٍ)).
قال محمد بن علي الحكيم رحمه الله:
817 - حدثنا بذلك إبراهيم بن عبد الحميد التمار، قال: حدثنا محمد بن المبارك الصنعاني، قال: حدثنا يحيى ابن حمزة، قال: حدثني زيد بن واقدٍ، عن مغيث بن سمي الأوزاعي، عن عبد الله بن عمرٍو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/501)
مخموم القلب: هو الذي قد ولج النور في قلبه، فأخرج ما فيه من شهوة النفس.
والخمامة: هو قماش البيت وما يكنس عن وجه الأرض، فهذا النور قد كنس هذا البيت، وهو الصدر، فطهره من الإثم والبغي، والغل والحسد والآفات، فنقاه وجعله في وقاية من نور.
ألا ترى أنه بدأ في الحديث فقال: ((التقي النقي))، فبدأ بذكر التقوى.
والتقوى: هو من الوقاية، والوقاية هي النور الذي أشرق في الصدر من القلب، فصارت وقاية له من النفس وشهواتها، وخدعها ودواهيها وأمانيها، فلا يقدر على شيء، فعز وجود هذا في وقتهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك في عامتهم؛ كأنه أبى الله أن يكون ذاك إلا في خاص من الناس(3/502)
قليل في كل وقت.
ألا ترى أنه ذكر في التنزيل شأن المقربين السابقين، فقال: {ثلةٌ من الأولين. وقليلٌ من الآخرين}.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((في كل قرنٍ من أمتي سابقون)).
818 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا ليث بن سعدٍ، عن محمد بن عجلان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في كل قرنٍ من أمتي سابقون)).
819 - حدثنا أبي، قال: حدثنا إسماعيل بن مسلمة القعنبي بإسناده مثله.
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناس كالإبل المئة)): تمثيل؛ لأن الإبل المئة هي سائمة ترعى في مرعاها بهواها، ليس على ظهورها حمولة، ولا في أنفها(3/503)
أزمة ولا خطم، فهي في استبدادها تعمل ما هويت، فإن لم يكن لها راعٍ، فكم من متردية في جرف هار! وكم من فريسة في أنياب السباع! وكم من آكلة دفلى تموت حتف آكلتها، وأخرى تموت عطشاً، وأخرى تموت جرباً.
فالراعي يرعاهم المرعى، ويجنبهم الدفلى، ويذود عنهم السباع، ويعدل بهم عن الجرف، ويوردهم المياه العذبة، فهذه الإبل ليس فيها راحلة، فكذلك الناس هم بهذه الصفة.
والراحلة: هو الذي رحل نفسه فأدبها وراضها، وجنبها سموم الدنيا وآفاتها، وقوم أخلاقها حتى استقامت لله، فصارت راحلة تركبها حقوق الله، وتنقاد لها، وتسيرها، فتحمل أثقال الحقوق وإن كرهت، فتسير بها إلى الله عز وجل.
820 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، قال: قلت لإسرائيل أبي موسى: إنما كان بين أظهركم رجلٌ يرحلكم؟ فقال: إنه بدأ بنفسه، فرحلها، ثم كان يرحلنا -يعني: الحسن-.
فهكذا شأن الراحلة، رحل نفسه، فارتحل إلى الله، ثم صار راعياً يرعى(3/504)
عباده، فيصلح للرعاية، ولئن يرحل، فهو في جهد من رعايته، يجنبهم الآفات، ويهديهم الهدايات، ويوردهم المياه العذبة، وهو العلم الصافي بلا تخليط ولا كدورة، ويعرفهم خداع العدو ومراصده، ومكامن النفس، وهو في ذلك يحب أن تكون أمورهم على وفاق ما يبين لهم، وعلى محاب الله، فلا يكون كذلك، فربما انتشرت عليه الإبل والأغنام التي يرعاهم، فيضطرب من ذلك، ويتلوى، ويقبل ويدبر احتيالاً وتكلفاً، ويضيق صدره بأمورهم، فهو في جهد من ذلك؛ لما يحب أن تستوي أمورهم، وتستقيم سيرتهم، (ويأبى الله أن يكون إلا ما قدر)، حتى إذا فتح عليه باب النجباء الكرام، والنقباء الفخام، فأبصر بذلك النور الذي أشرق في صدره، وامتلأ منه قلبه: أن هذا تدبيره لهم، ومشيئته فيهم، وأنه أعلم بما يراد لهم، فإنما خلقهم من وجه أرض تربتها مختلفة، فخرجت كل واحدة من هذه(3/505)
النفوس على قدر تربتها، سهلاً كان أو حزناً، أو طيباً أو خبيثاً.
وأن القلوب أوعيته وأوانيه في أرضه، يضع فيها ما أحب، ويرفع منها ما أحب، وأن العقول بين العبيد مقسومة، وأن الأخلاق لهم من الخزائن ممنوحة، وأن الأنوار على من اختصه برحمته من بينهم ممنونة، وأن له من خلقه صفوة، {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة}، وأن العبيد فقراء حتى يغنيهم الله من فضله غنى القلب، وأن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء، وأن الهداية منه {يهدي الله لنوره من يشاء}، وأن الرسول عوتب في ذلك حتى قيل له: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآيةٍ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}، و {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.
ألقى بيده سلماً، وذل لمولاه، وترك مشيئته لمشيئة العزيز الماجد، وخضع وراقب تدبيره فيهم، فصار نجيبة من نجائبه، يضن به مولاه عن(3/506)
المكاره والآفات والبلايا، فهذه الآية نزلت في سورة الأنعام بعد مضي سنين من النبوة يعلمك أنه لم يتمكن فيه هذا الأمر إلا من بعد ما أدبه صلى الله عليه وسلم وقومه، ثم أثنى عليه فقال: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ}. فسئلت عائشة -رضي الله عنها- عن ذلك الخلق، فقالت: ((كان يرضى برضاه، ويسخط بسخطه)).
821 - حدثنا بذلك الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الإسكندراني، قال: حدثنا أبو أيوب بن شرحبيل، عن زيد بن واقدٍ، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ((خلقه أن يرضى برضاه، ويسخط بسخطه)).(3/507)
الأصل السابع والأربعون والمئة
822 - حدثنا إبراهيم بن عبد الحميد الحلواني قال: حدثنا محمد بن المبارك الصنعاني، قال: حدثنا معاوية بن يحيى أبو مطيعٍ، قال: حدثنا الحكم بن عبد الله، وهو الأيلي، عن القاسم بن محمدٍ، عن أسماء بنت أبي بكرٍ، عن أم رومان والدة عائشة -رضي الله عنها-، قالت: رآني أبو بكر الصديق رضي الله عنه أتميل في صلاتي- فزجرني زجرة كدت أنصرف عن صلاتي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا قام أحدكم في الصلاة،(4/5)
فليسكن أطرافه، لا يتميل تميل اليهود؛ فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة)).
قال أبو عبد الله:
فالوقوف في الصلاة وقوف تذلل وتخشع، وقد أثنى على أهله فقال: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}.(4/6)
فالخشوع البالغ المستحق للثناء هو خشوع القلب، وقد يتخشع الرجل بأركانه وليس بخاشع، فإذا أراد بذلك ابتغاء وجه الله، فهو محمود، وعلى جهده مأجور، وإن كان ذلك لغير الله، فهو تماوتٌ، وهو عليه ممقوت.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((تعوذوا بالله من خشوع النفاق)).
823 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن الحارث بن عبيدٍ الإيادي، قال: حدثنا مسلم بن شقير اليشكري، عن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم بن مالك بن أوسٍ، قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من خشوع النفاق))، قالوا: يا رسول الله! وما خشوع(4/7)
النفاق؟ قال: ((خشوع البدن، ونفاق القلب)).
فهذا هو الذي يتماوت، ويرمي ببصره إلى الأرض تقرباً وترائياً.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو خشع قلبه، خشعت جوارحه)).
824 - حدثنا بذلك صالح بن محمدٍ، قال: حدثنا سليمان بن عمرٍو، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/8)
فالخشية للقلب الذي قد ماتت شهوات نفسه، فاطمأن القلب لخلائها من النفس وفراغها، ومن تكلفها مجاهداً لنفسه، فمحمود.
فأما تميل اليهود، فإن بدو ذلك: أن موسى -صلوات الله عليه- كان يعامل بني إسرائيل على ظاهر الأمور مكتفياً؛ لقلة ما في باطنهم، وكان يهيب الأمور ويعظمها في الظاهر لهم، وكان مكتفياً لنفسه بما في باطنه صلى الله عليه وسلم، فإنما صنع بناء القربان على تلك الصفة من الذهب، وألوان الصنعة لمكانهم؛ ليعظموه.(4/9)
وبلغنا: أنه أوحي إليه: إن هذه التوراة صارت في حجور بني إسرائيل، فلا تكاد تعظمها، فحلها بالذهب، واجعلها ذهباً لم تمسسه أيدي الآدميين، فأنزلت عليه الكيمياء، فعلمها، فعمد إلى أسماء تلك الأدوية والعقاقير، ففرقها ثلاثة أجزاء، فأعطى جزءاً منها هارون، وجزءاً منها يوشع، وجزءاً منها قارون؛ ليأتوا بها من الجبال كيلا يجتمع عند أحد علمها فيعمل بها.
فذهب قارون، فقعد على طريق هارون ويوشع حين رجعا من الجبل، فاستدرجهما مختدعاً لهما، فقال لكل واحد منهما: بم أمرك موسى؟ فأخبره كل واحد منهما بالذي أمره، فأثبتها عنده، فضم علم الجزأين إلى جزئه الذي عند، ثم عمد إلى الصفر، فأذابه، فألقى عليه، فأخذ يعمل ذلك، وتركه موسى وأمره، فكان دهره وشهره في طبخ الذهب حتى اتخذ بيوت أموال، فكانت تحمل مفاتيح كنوزه سبعون بغلاً أغر محجلاً، قال الله -تبارك اسمه-: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة}.
وضرب حيطان قصره من خارج بصفائح الذهب، ونافق، فوعظ، وقيل له: {وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض}،(4/10)
قال: إنما أوتيته على علم عندي؛ أي: إني طبخت الذهب، وجمعت هذه الكنوز بما كان عندي من علمه، فخسف الله به وبداره الأرض.
825 - بلغنا ذاك: عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فحلاها موسى بهذا الذهب الذي عمله، فكان إذا قرأها على بني إسرائيل، يتلذذ بما فيها، وهاجت منه اللذة، فكان يتمايل على قراءته كالذي يطرب على الشيء يقرؤه، فخلت هذه القلوب الذي بعده مما كان يجده موسى -صلوات الله عليه-، فاستعملوها من بعده على خراب القلوب، وخلاء الباطن من ذلك.
وقال موسى عليه السلام يوم الوفادة: {إنا هدنا إليك}، فأخذوا هذا من قوله: فجعلوا يتهادون في صلاتهم؛ أي: يتمايلون.
وقيل لموسى عليه السلام يوم كلمه الله تعالى: {فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوىً}.
فأخذوا هذا من فعله، فإذا صلوا، خلعوا نعالهم، فهذه الأشياء(4/11)
كانت عللها قائمة، والأصل صحيح وحق، فقال: {هدنا إليك}؛ أي: ملنا إليك، وهي التوبة، وذلك أن الوفد لما صاروا إلى الجبل، رجف بهم، فقال لما أخذتهم الرجفة: {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} إلى قوله: {إنا هدنا إليك}.
فأخذوا هذا من قوله: فتمايلوا في الصلاة وقراءة التوراة، فطرب، وحرك رأسه، فأخذوا هذا من فعله، وهبط الوادي حتى آنس النار، وكانت نعلاه من جلد حمار غير مذكى، فقيل له: {فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوىً}؛ أي: طأ الأرض بقدميك؛ لتصيب قدماك بركة هذا الذي من به عليك، فخلع نعليه، فأخذوا هذا من فعله، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإهدار هذه الأفعال، وقال: ((سكنوا أطرافكم)) يخبر أن ذلك منهم غير صحيح.
وروي عنه أيضاً: أنه قال:
((صلوا في نعالكم، ولا تتشبهوا باليهود)).
826 - حدثنا أبو عمارٍ الحسين بن حريثٍ الخزاعي، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن هلال بن ميمونٍ الرملي، عن يعلى بن شداد بن أوسٍ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.(4/12)
فأمرت هذه الأمة بتسكين الأطراف، والخشوع لربها في الظاهر للعامة، وفي الباطن للخاصة، فقال: {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون}.
فأهل الظاهر يحفظون لحظات العيون أن لا يلحظ هكذا وهكذا التفاتاً، وأهل الباطن قد جاوزوا هذا إلى الباطن، وأحكموا هذا، وسكنت جوارحهم، فهم يحفظون لحظات القلوب؛ لئلا تلحظ إلى أحد سواه، فتكون القلوب منهم منتصبة بين يدي الخالق كما انتصبت جوارحهم في الظاهر، وإنما وصلوا إلى ذلك بما ولجت قلوبهم من عظمة الله وجلاله، فهانت واستقرت في تلك الهيبة لله، فانتفى عنهم وسواس نفوسهم، ووسواس عدوهم.
ومن هاهنا أنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الوسوسة: ((فهكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل حتى شهدت أبدانهم وغابت قلوبهم، لا يقبل الله صلاة امرئٍ لا يشهد منها قلبه ما يشهد بدنه)).(4/13)
و ((إن الرجل ليصلي الصلاة، وما يكتب له عشرها)).
وقد شرحناه في بابه.(4/14)
الأصل الثامن والأربعون والمئة
827 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك الحمصي، قال: حدثني بقية بن الوليد، قال: حدثني ابن أبي روادٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبدؤوا بالكلام قبل السلام، ومن بدأكم بالكلام قبل السلام، فلا تجيبوه)).(4/15)
فشرط الله مع هذه الأمة في دينهم أن يأمن بعضهم بعضاً، ويسلم بعضهم من بعض، ولذلك سماهم مؤمنين ومسلمين، وعلم الله آدم الأسماء كلها، والأسماء سمات الشيء، فكل اسم دليل على صاحبه، ومشتق من معناه، فالأسماء التي علم آدم هي على الحقائق عند الله، ثم صارت الأسماء في أرضه مستعارة بعضها من بعض، جعلوها سمات فيما بينهم؛ كقوله: صالح، وإنما هو طالح.
وقوله: حسن وجميل، وإنما هو قبيح وذميم، وقوله: ميمون، وهو مشؤوم، فهذه أسماء يتداعون فيما بينهم، ويتعارفون بها، فالأسماء الأصلية هي التي جاءت من عند الله؛ مثل: يحيى، وأحمد، قال -تبارك اسمه-: {إنا نبشرك بغلامٍ اسمه يحيى}. أي عندي
ثم قال: {لم يجعل له من قبل سميًّا}؛ أي: لم نجعل قبله أحداً(4/16)
لا يذنب؛ لأن يحيى من الحياة؛ فقد أحيا الله قلبه به، فلم يذنب، ولم يهم به.
828 - حدثنا بذلك سفيان، قال: حدثنا العلاء ابن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من آدميٍّ إلا وقد أخطأ، أو هم بخطيئةٍ، غير يحيى بن زكريا -صلوات الله عليهما-)).
وكذلك أحمد.
قال الله في تنزيله: {ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد}. فهذه أسماء كلها على الحقائق عنده.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أعطيت ما لم يعط أحدٌ: سميت(4/17)
أحمد، ونصرت بالرعب)).
فكذلك شأن هذه الأمة والأمم، كل أمة تسمت باسم من تلقاء نفسها، فقالت طائفة: نحن يهود، وقالت الأخرى: نحن نصارى، وقالت الأخرى: نحن الصابئون، وقالت هؤلاء: نحن مجوس، فولي الله تسمية هذه الأمة، فقال: {هو سماكم المسلمين من قبل}؛ أي: في اللوح المحفوظ، والكتب، {وفي هذا}؛ أي: في هذا الكتاب.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله سمى أمتي، فاشتق لها اسمين من اسمه؛ فهو السلام، والمؤمن، وسماهم مسلمين ومؤمنين)).
فاسم هذه الأمة على الحقيقة الأصلية التي علم آدم، فاقتضى منها وفاء هذا الاسم أن يأمن بعضهم بعضاً، ويسلم بعضهم من بعض، ولذلك قال: {إنما المؤمنون إخوةٌ فأصلحوا بين أخويكم}، وقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ}.(4/18)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون كرجلٍ واحد)) يفشوا شأن الولاية بعضهم لبعض بهذا القول.
فوضعت هذه التحية فيما بينهم كرامة لهم، فإن بني إسرائيل كانوا إذا لقي بعضهم بعضاً، احتاج أن ينحني له، ويومئ برأسه كهيئة السجود، فتلك تحيتهم كي يأمن بعضهم بعضاً، فأكرم الله هذه الأمة بأن جعل تحيتهم على ألسنتهم أشرف القول وأطيبها من قوله: السلام عليكم.
829 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: حدثنا أبي،، قال: حدثنا زربيٌّ مؤذن مسجد هشام بن حسان، قال: حدثنا أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطى أمتي ثلاثاً لم يعط أحدٌ قبلهن: السلام، وهي تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة، وآمين، إلا ما كان من موسى وهارون)).(4/19)
معناه: أن موسى عليه السلام دعا على فرعون، وأمن هارون فقال الله -تبارك اسمه- عندما ذكر دعاء موسى عليه السلام في تنزيله: {قد أجيبت دعوتكما}.
ولم يذكر مقالة هارون، وقال: {أجيبت دعوتكما}.
وقال في مبتدأ الآية: {وقال موسى ربنا}.
فكان من هارون التأمين، فسماه داعياً في تنزيله؛ إذ صير ذلك منه دعوة، فإنما جعل السلام، وهو اسم من أسمائه، موضوعاً بينهم؛ ليكون أماناً للعباد؛ لأن أهل الجاهلية كان يقتل بعضهم بعضاً، ويغير بعضهم على بعض، فلما أكرمهم الله بالإسلام، كان من شرط هذا الدين أن يكونوا كالاسم الذي سماهم الله به، يأمن بعضهم بعضاً، ويسلم بعضهم من بعض في الدم والعرض والمال.
ومن هاهنا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: السلام أمان للعباد فيما بينهم.
830 - حدثنا بذلك الشقيقي، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا عبد الله، عن إسماعيل بن عياشٍ، قال: حدثنا أبو سلمة الحمصي، عن يحيى بن جابرٍ: أن أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه قال: ((السلام أمان الله في الأرض)).(4/20)
831 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدأ بالسلام، فهو أولى بالله ورسوله)).
فأولاهم بالله أوفرهم حظاً من أن يأمنه الناس، ويسلموا منه، فلما كان هذا السلام مأمن العباد فيما بينهم، كان من بدأ بالكلام قد ترك الحق والحرمة، فحقيق أن لا يجاب.(4/21)
الأصل التاسع والأربعون والمئة
832 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا يحيى ابن سليمان الجعفي، قال: حدثنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني حيوة بن شريحٍ، قال: أخبرني أبو صخرٍ المديني، عن يزيد الرقاشي سمع أنس بن مالكٍ رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن داود النبي -صلوات الله عليه- حين نظر إلى المرأة، فهم بها، قطع على بني إسرائيل بعثاً، وأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو، فقرب فلاناً، وسماه، قال: قربه بين يدي التابوت، وكان ذلك(4/23)
التابوت في ذلك الزمان يستنصر به، فمن قدم بين يدي التابوت، لم يرجع حتى يقتل، أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله، فقدم، فقتل زوج المرأة، فنزل الملكان على داود، فقصا عليه القصة، ففزع منهم .. .. إلى آخر القصة، ففطن داود، فسجد، فمكث أربعين ليلةً ساجداً حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه، وأكلت الأرض جبينه، يقول في سجوده: رب! زل داود زلةً أبعد مما بين المشرق والمغرب، رب! إن لم ترحم ضعف داود، وتغفر ذنبه، جعلت ذنبه حديثاً في المخلوق من بعده. قال: فجاء جبريل بعد أربعين ليلةً، فقال: يا داود! إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به، فقال له داود: قد علمت أن الله قادرٌ على أن يغفر لي الذنب الذي هممت، وقد عرفت أن الله عدلٌ لا يميل، فكيف لي إذا جاء يوم القيامة، فقال: يا رب! دمي الذي عند داود؟ قال: جبريل: ما سألت ربك عن ذلك،(4/24)
ولئن شئت، لأفعلن، قال: نعم، فعرج جبريل إلى السماء، وسجد داود، فمكث ما شاء الله، ثم نزل فقال: سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني إليه، فقال: قل لداود: إن الله يجمعكما يوم القيامة، ثم يقول له: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول له: فإن لك قصراً في الجنة)).
فالهم من الأنبياء والرسل، عظيم شأنه؛ لأنه ميل عن الله عز وجل.(4/25)
833 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، وإسماعيل بن نصرٍ، قالا: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيسٍ المكي، عن عبد العزيز ابن أبي روادٍ، قال: بلغني أن قاضياً كان في زمن بني إسرائيل بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علماً، إذا هو قضى بالحق، عرف ذلك، وإذا هو قصر عن الحق، فقضى به، عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك، ثم مد يدك في جدارك، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار، فاخطط عندها خطاً، فإذا أنت قمت من مجلس القضاء، فارجع إلى ذلك الخط، فامدد يدك إليه، فإنك متى قضيت على الحق، فإنك ستبلغه، وإن لم تقض على الحق، قصر بك.
فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد، فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه، وفرغ، لم يذق طعاماً ولا شراباً، ولم يفض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه، حمد الله، وأفضى إلى(4/26)
كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب، فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء، أقبل إليه رجلان يريدانه، فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه، وكان أحدهما له صديقاً وخدناً، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له، فيقضي له به، فلما أن تكلما، دار الحق على صاحبه، فقضى عليه، فلما قام من مجلسه، ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم، فمد يده إلى الخط، فإذا الخط قد ذهب، وتشمر إلى السقف، وإذا هو لا يبلغه، فخر ساجداً وهو يقول: يا رب! شيئاً لم أتعمده، ولم أرده، فبينه لي، فقيل له: أتحسبن أن الله لم يطلع على جور قلبك؛ حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك، فتقضي له به، قد أردته وأحببته، ولكن الله قد رد الحق إلى أهله، وأنت لذلك كاره.
834 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا ابن إدريس، عن ليثٍ، قال: تقدم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه خصمان، فأقامهما، ثم عادا، فأقامهما، ثم عادا، ففصل بينهما، فقيل له في ذلك، فقال: تقدما إلي، فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه، فكرهت أن أفصل بينهما(4/27)
على ذلك، ثم عادا، فوجدت بعض ذلك، فكرهت، ثم عادا وقد ذهب ذلك، ففصلت بينهما.
835 - حدثنا الجارود، والحسين بن جنيدٍ الدامغاني، قالا: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: اختصم إلى سليمان عليه السلام خصمان، أحدهما من أهل جرادة امرأةٍ لسليمان كان يحبها، فهوي أن يقع القضاء له، ثم قضى بينهما بالحق، فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى.
وروى محمد بن عمرو السويقي، عن عبد الرحمن بن ميمون الرقي، عن سالم مولى أبي جعفر، قال: خرجنا مع أبي جعفر أمير المؤمنين إلى بيت المقدس، فلما دخل دمشق، بعث إلى الأوزاعي، فأتاه، فقال: يا أمير المؤمنين! حدثني حسان بن عطية عن جدك ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: فقال: {يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}.(4/28)
قال: إن ارتفع إليك الخصمان، فكان لك في أحدهما هوى، لا تشته في نفسك الحق له، فيفلح على صاحبه، فأمحو اسمك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي، ولا أهل كرامة.
يا أمير المؤمنين! حدثني حسان بن عطية عن جدك، قال: من كره الحق، فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق.
يا أمير المؤمنين! حدثني حسان بن عطية عن جدك في قوله تعالى: {لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها}، قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك، فكيف بما جنته الأيدي؟
فالهم بما عدل عن الحق، فهو ميل عن الله وإعراض، وقلوب الأنبياء معيار التوحيد، وموازين الأعمال، وحجج الله على أهل الباطن.
فالهم همان:
1 - هم عارضٌ لا قرار له، ينفيه القلب بيقظته ونزاهته ونباهته وطيبه وفسيح ساحته ونسيم روحه، وبما أيد من الروح والسكينة واليقين.(4/29)
2 - والهم الآخر: همٌّ عارضٌ معه لله مشيئةٌ وتدبير في أموره، فربوبيته قاهرة لجميع ما عند هذا العبد من القوة والتأييد والجنود، وإذا هو مخذول، فصار همه عزماً.
فالأول مفروغ منه؛ لأنه عارضٌ لا يملكه، ولم يتكلفه، ولم يكن له فيه حركة في ظاهر ولا باطن، والهم الثاني تحرك فيه، وعزم عليه، وهو عقد القلب، فصار في ذلك في ميل عن الله، فالأنبياء والأولياء في انحطاط بهذا الهم، والعامة هم منحطون في الأصل عن هذه الدرجات، فانحطاطهم عن درجاتهم إذا استعملوا هذا العزم، وأخرجوه إلى الأركان، فعملت به جوارحهم.
ووجدنا ثلاثة أعلام في الأرض من الرسل بلوا بهذه الخطة من الهم: محمد، وداود، ويوسف -صلوات الله عليهم أجمعين-.
فأما يوسف عليه السلام:
فهم بها حتى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه حل هميانه، وقعد منها مقعد الرجال، فانفرج السقف، وتراءى له جبريل عليه السلام في صورة يعقوب -صلوات الله عليه- عاضاً على إصبعه، ونودي: يا يوسف! أتعمل عمل السفهاء، وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟! فولى هارباً، ثم أوصله إليها(4/30)
تزويجاً فيما جاءنا من الخبر بعدما نالته العقوبة بالهم من طول المكث في السجن.
836 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا عصامٌ ابن المثنى بن وائلٍ الحمصي، عن أبيه، عن وهب بن منبهٍ، قال: أصابت امرأة العزيز حاجةٌ، فقيل ها: لو أتيت يوسف بن يعقوب فسألتيه؟ فاستشارت الناس في ذلك، فقالوا: لا تفعلي؛ فإنا نخاف عليك، قالت: كلا، إني لا أخاف ممن يخاف الله، قال: فدخلت عليه، فرأته في ملكه، فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته، ثم نظرت إلى نفسها، فقالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بمعصيته، قال: فقضى لها جميع حوائجها، ثم تزوجها، فوجدها بكراً، فقال لها: أليس هذا أجمل مما أردت؟ قالت: يا نبي الله! إني ابتليت فيك بأربع: كنت أجمل الناس كلهم، وكنت أنا أجمل أهل زماني، وكنت بكراً، وكان زوجي عنيناً.
وأما داود -صلوات الله عليه-:(4/31)
ففتح من المحراب باب الكوة، واطلع على تلك المرأة، فوقع في نفسه شأنها وفتنتها، فلم يملك نفسه حتى وجه إليها من يومه فيما روي لنا؛ ليضمها في الكون إلى نسائه كي يسكن الهائج من نفسه انتظاراً لما يكون، فأبت المرأة، فمشى إلى بابها، فمر بملكين يناجي أحدهما صاحبه وهو يقول: لقد أكرم الله إبراهيم وإسحاق عن هذا الممشى، ومضى، ولم يقتحم حتى وقف ببابها، فاستفتح، فقالت: من ذا؟ فأخبرها، فقالت: لقد أعاذ الله داود من أن يمشي هذا الممشى، فانصرف، وكتب إلى صاحب بعث كان زوجها فيه، وأمره أن يقدم زوجها في مئتي رجل من بني إسرائيل مع تابوت السكينة، وكان من قدم معها، لم يرجع حتى يفتح عليه، أو يقتل، فقدمه، فقتل، وقتل من قدم معه.
837 - حدثنا بهذه القصة الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد الملك بن الأصبغ، قال: حدثنا الوليد ابن مسلمٍ، عن ابن جابرٍ، عن عطاءٍ الخراساني.
وقال سعيد: قال قتادة: كتب إلى زوجها، وذلك في حصار عمان مدينة بلقاء أن تأخذوا بحلقة الباب، وفيه الموت الأحمر، فتقدم فقتل.(4/32)
ثم رجع إلى حديث عطاء، قال: فلما انقضت عدتها، خطبها، فتزوجها، فلبث بذلك ما شاء الله، فلم يرعه إلا وقد تسور الخصمان عليه المحراب، ففزع، فقصا القصة، ثم عرجا، فانكشف الغطاء عن داود، وخر ساجداً لله أربعين صباحاً، حتى نبت المرعى حول وجهه، وغمر رأسه، فنودي: أجائع فتطعم؟ أو عارٍ فتكسى؟ فنحب نحبةً هاج المرعى من حر جوفه، فغفر له، وستر بها، فقال: يا رب! هذا ذنبي فيما بين وبينك قد غفرته، فكيف بفلان وكذا وكذا رجلاً من بني إسرائيل تركت أولادهم أيتاماً ونساءهم أرامل؟.
قال: ولا يجاوزني يوم القيامة ظلم، أمكنه منك، ثم أستوهبك منه بثواب الجنة، قال: يا رب! هكذا تكون المغفرة الهنية، ثم قيل: يا داود! ارفع رأسك، فذهب ليرفع، فإذا به قد نشب في الأرض، فأتاه جبريل عليه السلام، فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع عن الشجرة صمغها، حتى سأل ربه بعد ذلك أن ينقش خطيئته في كفه؛ لئلا ينساها.
838 - فحدثني الجارود، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، عن ابن جابرٍ، عن عطاءٍ الخراساني: أن داود عليه السلام(4/33)
نقش خطيئته في كفه؛ لئلا ينساها، فكان إذا رآها، اضطرب، أو قال: اضطربت يده.
فمن جهل هذا التأويل، حسب أنه كتب على يده خطيئته ليذكرها، والكتابة دارسة، وإنما ذكر في الحديث أنه نقش، والنقش غير الكتابة.
والنقش: هو صورة الخطيئة على قبحها عند الله، فلم يقدر على هذا أحد إلا الله، فإنما نسب إلى داود أنه نقش؛ لأنه سأل ربه، وقد بين ذلك في حديث آخر.
839 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عبد الملك ابن الأصبغ، قال: حدثنا الوليد بن مسلمٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، قال: سأل داود ربه، فقال: رب! اجعل خطيئتي في كفي، فكان لا يبسط كفه لطعام ولا لشراب إلا رآها، فأبكته، فيؤتى بالقدح، فيشرب، فإذا أبصر النقش على الكف، فاض دمعه.(4/34)
840 - قال الوليد: وحدثني أبو عمروٍ الأوزاعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل عيني داود مثل القربتين ينطفان الماء، ولقد خدد الدموع في وجه داود تخديد الماء في الأرض)).
841 - قال: وحدثنا الوليد، قال: حدثنا إبراهيم بن محمدٍ الفزاري، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن مجاهدٍ، قال: يبعث داود عليه السلام يوم القيامة وخطيئته منقوشةٌ في كفه، فإذا رأى أهاويل القيامة، لم يجد منها محرزاً إلا أن يلجأ إلى رحمة الله، قال: ثم يرى فيقلق، فيقال له: هاهنا، ثم يرى فيقلق، فيقال له: هاهنا، ثم يرى فيقلق، فيقال له: هاهنا، فذلك قوله: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مئابٍ}.(4/35)
842 - قال: وحدثني الوليد، قال: حدثنا عثمان ابن أبي العاتكة: أنه كان في قول داود إذ هو خلوٌ من الخطيئة شدةٌ من الخطائين أن كان يقول: اللهم لا تغفر للخطائين، ثم صار إلى أن يقول: اللهم اغفر للخطائين؛ لكي تغفر لداود معهم، سبحان خالق النور، إلهي! خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا لي خطيئتي، فكلهم عليك يدلني، إلهي! أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها، سبحان خالق النور، إلهي! إذا ذكرت خطيئتي، ضاقت الأرض برحبها علي، وإذا ذكرت رحمتك، ارتد إلي روحي.
وروي في الحديث: أنه كان إذا ذكرها، انخلعت مفاصله، فكان لا يمسكها إلا الأسوأ، ثم يذكر رحمة الله، فترجع أوصاله إلى مكانها، ولقد كنت أمر زماناً طويلاً بهذه الآيات، ولا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب}.(4/36)
والقط: الصحيفة في اللغة، وذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم: {وأما من أوتي كتابه بشماله}، وقال لهم: ((ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم))، فقالوا: {ربنا عجل لنا قطنا}؛ أي: صحيفتنا {قبل يوم الحساب}.
قال الله عز وجل: {فاصبر على ما يقولون}، {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوابٌ}.
فقص قصة خطيئته إلى منتهاه، فكنت أقول: أمره بالصبر على ما قالوا، وأمره بذكر داود، فأي شيء يريد من هذا الذكر؟ وكيف اتصل هذا بذاك؟
فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه، حتى هداني الله له يوماً، فألهمته أن هؤلاء أنكروا قول: إنهم يعطون كتبهم بشمائلهم فيها ذنوبهم وخطاياهم، واستهزؤوا بأمره، وقالوا: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب}، فأوجعه من استهزائهم، وأمر بالصبر على مقالتهم، وأن يذكر عبده داود سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا(4/37)
رآها، اضطرب، وامتلأ القدح من دموعه، فكان إذا رآها، بكى، حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فإنما سألها بعد المغفرة، وبعد ضمان تبعة الخصم، وأن الله -تبارك اسمه- يستوهبه منه، وهو حبيبه ووليه وصفيه.
فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا، فكيف كان يحل بأعداء الله وعصاته من خلقه وأهل جزائه أن لو عجلت لهم صحائفهم، فنظروا إلى صور تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود، وماذا يحل بهم إذا ما نظروا إلى ما في تلك الصحائف، وقد أخبر الله عنهم فقال: {فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها}؟!
فداود -صلوات الله عليه- مع المغفرة، والبشرى، والعطف لم يقم لرؤية صورتها في كفه، وقد روينا في الحديث: إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه، قلق حتى يقال له: هاهنا، ثم يرى فيقلق، ثم يقال له: هاهنا، ثم يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن.
وروي في حديث آخر: أنه يمكن له في الحجب، فإذا دخل الحجاب، سكن.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم:
فإنه لما عاين زينب، فوقع في نفسه شأنها، وذلك أنه أبصرها قائمة(4/38)
في صحن الدار في درع وخمار أسود، فلما وقعت في نفسه، فزع إلى الله تعالى، ووضع يديه على وجهه، وقال: ((سبحان مقلب القلوب)). فانظر أي كلمة هذه؟.
علم أن قلبه في قبضته، وأنه قلبه لما يشاء، فنزهه تعوذاً بالتنزيه، وتغوثاً بالاسم الذي منه حدث على قلبه التقلب على أنه يقلبه بمشيئته لشيء يورثه الحياء منه، والعويل واضطراب الصوت في الملكوت وفي العلا، كما أورث غيره من قبله من إخوانه، فصيره مفزعاً وملجأً.
واستعمل التدبير الموضوع بين العباد أن غض بصره، واستحكم شأن الغض في أن قال بيديه على وجهه؛ ليكون في ذلك تمسكن، وتضرع، وافتقار، وهيبة العبيد؛ ليرحمه، فيصرف عنه الفتوة التي أحس بها، فيشكره على ذلك مولاه؛ حيث فزع إليه عندما نابه الأمر، ولم يفزع إلى نهمة النفس، أو إلى الحيل للوصول إلى ذلك.
فروي في الخبر: أنه [لما] أمسى زيد، فأوى إلى فراشه، قالت زينب: لم يستطعني زيد، وما امتنع منه غير ما منعه الله مني، فلا يقدر علي.
هذه رواية أبي عصمة نوح بن أبي مريم، رفع الحديث إلى زينب(4/39)
أنها قالت ذلك.
وفي بعض الروايات: أن زيداً تورم ذلك منه حين أراد أن يقربها.
فهذا قريب من ذلك.
فعلم زيد بما أخبرته زينب من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: حيث أبصرها، وصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن زينب تؤذيني بلسانها، وتفعل وتفعل، وإني أريد أن أطلقها، فقال له: ((أمسك عليك زوجك، واتق الله)).
{وتخفي في نفسك ما الله مبديه}، فطلقها، فنزلت: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه}؛ أي: بالإسلام، {وأنعمت عليه}؛ أي: بالعتق، وهو زيد بن حارثة: {أمسك عليك زوجك واتق الله}؛ أي: اتق الله في أن تطلقها من غير جرم، {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}.
فعوتب في قوله: أمسك عليك زوجك، والحبيب يحب عتاب الحبيب، حتى يدوم الصفاء، ويكون العتاب بدل الوجد.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: لو أن محمداً صلى الله عليه وسلم قدر على أن يكتم(4/40)
شيئاً من الوحي، لكتم هذه الآية.
وروي سبب العتاب على وجهين:
أحدهما أوجه من الآخر، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: وتخفي في نفسك الحب لها.
وقال الضحاك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لزيد: ((أمسك عليك زوجك))، ويهوى أن يخلي سبيلها.
وقال قتادة: كان الذي يخفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه: ود أن لو طلقها زيد، وخشي نبي الله صلى الله عليه وسلم قالة الناس.
وقال الحسن البصري -رحمة الله عليه- نحو ذلك.
وذلك: أنه كان تبنى زيد بن حارثة، فيجد المنافقون سبيلاً، فيقولون: ينهانا عن نساء أبنائنا ويتزوج امرأة ابنه، فخشي القالة من هذا الوجه، وقالوها بعد تزويجه إياها، فنزلت: {ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}، ونزلت: {ادعوهم لأبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا}، فذهبت الدعوى.
فقال هؤلاء المفسرون: إنما جاءت المعاتبة من قبل أنه قال له: ((أمسك(4/41)
عليك زوجك))، وهو يود في نفسه أن يطلقها، وقد كان في الغيب أن سيطلقها، ويبدي الله ما في نفس محمد صلى الله عليه وسلم إذا تزوجها، وأنه حمله على قوله: ((أمسك)) خشية الناس، فالله أحق أن تخشاه، فتنطق بحاجتك.
وجه آخر أوجه من هذا:
843 - حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن جدعان، وسمعناه منه عوداً وبدءاً، قال: سألني علي بن الحسين، قال: ما كان يقول الحسن في قوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه}؟ قلت: كان يقول: إن زينب، فذكر كلمة ذهبت علي، فأمره أن يمسكها، وأراه قال: أعجبها، قال: لا، ليس هو هكذا، ولكن أعلم الله نبيه أنها ستكون من أزواجه، فلما جاء زيد يشكوها، قال: ((اتق الله وأمسك عليك زوجك)).
فعلي بن الحسين جاء بها من خزانة العلم جوهراً من الجواهر، ودراً(4/42)
من الدرر: أنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك، فكيف قلت لزيد: ((أمسك عليك زوجك، وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوج امرأة ابنه؟ والله أحق أن تخشاه! فترقب أمره وتدبيره فيك وفيها، فيكون ممن أطلق لك ذلك؛ {لكي لا يكون على المؤمنين حرجٌ في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً}.
ثم قال: {ما كان على النبي من حرجٍ}؛ أي: من ضيق {فيما فرض الله له}، فالفرض: المعلوم؛ أي: فيما أعلمه من أن تكون زينب من أزواجك.
{سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً} تلك سنته في داود، وهو ممن خلا من قبل؛ حيث سبب له، فرزقه القتل في سبيله، حتى جمع بينه وبين تلك المرأة على تلك الهيئة، وكان ذلك قدراً مقدوراً على داود أن يكون الجمع بينهما على تلك الجهة، ويغفر له، ويضمن عنه تبعته لخصمه، ويستوهب منه، ويعطف على العبيد؛ فإنه كان يقول من شدة الحب لله والغيرة له: اللهم لا تغفر للخطائين، فقدر له ما ذكرنا من شأن المرأة، حتى كان يقول: اللهم اغفر للخطائين لعلك تغفر لداود معهم، وكان يعمد إلى أغمض مجالس بني إسرائيل، فيقعد إليهم، فيقول:(4/43)
مسكين بين ظهراني مساكين.
فالحالة الأولى: حالة جليلة، وهذه أجل وأرفع، يقتدي بربه في العطف على عبيده، والرحمة لهم، ثم مدحهم فقال: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله}.
يثني على محمد صلى الله عليه وسلم أن بلغ ما أرسل إليه، وإن كان له في ذلك بعض الوجد، فبلغ، ولا تخش أحداً إلا الله.
وقال في تزوجيها: {فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها}.
يعلمه أني لما قلبت قلبك لها، فزعت إلي وصاحباك فزعاً إلى ما قصصت عليك من شأنهما، حتى كان ما كان، فوليت عصمتك، وهيأت لك تزويجها بتدبيري صافياً، لا بالحيل طالباً، فكما وليت عصمتك، فكذلك ألي تزويجك بكرمي، وعطفي عليك بطيب نفس بعد المعاتبة، فمنعت زيداً، وأعجزته عنها، وألهمته طلاقها، وأعلمتك أن هذه ستكون زوجتك، فحملتك خشية القالة أن بعثوك على أن قلت لزيد: ((أمسك عليك زوجك)).(4/44)
وقد علمت أني مبدي هذا الأمر ومظهره، قد زوجناكها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن، وقد كان قبل نزول الآية قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطبة إليها، ووجه زيداً يعلمها ذلك، فدخل عليها وهي في مسجدها، فذكر لها حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: حتى أؤامر ربي، فنزل قوله: {زوجناكها}، فهي بعد في مؤامرتها، وزيد عندها، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فقعد عندها، وتلا هذه الآية، فخرت ساجدة، فكانت تفخر بذلك على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي لنا: أنها كانت تسامي عائشة -رضي الله عنها- في الوسامة والحظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت زينب: أنا التي نزل تزويجي من السماء، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: أنا التي نزل عذري من السماء في كتابه حين حملني ابن المعطل على الراحلة، فقالت لها زينب: ما قلت حين ركبتيها؟ قالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، قالت: قلت كلمة المؤمنين.
844 - حدثنا بذلك عبد الكريم، عن جعفر بن عونٍ، عن المعلى بن عرفان، عن محمد بن جحشٍ، قال:(4/45)
تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنها، فذكر الحديث.
وروي في حديث داود عليه السلام: أني أسأله فيهبك لي، فيصير داود عليه السلام موهوب الله.
وشبه في ذلك الموقف، فهذه مرتبة بارزة، فذلك يقيمه عند ساق العرش، فيقول: مجدني الآن، صار له بهذه الهيئة معنى زائد على أهل الجمع؛ فإن شأن أهل الموقف أن الحق يقتضيهم، فمن وفى، نجا، ومن لم يف، بقي حتى تأخذه الرحمة، فيأخذه من الحق، فهاهنا نرى داود قد أخذه الحق بتبعة خصمه، فولي الله أخذه؛ بأن استوهبه على طريق الإجلال والكرم، والأمر والنهي.
ألا ترى: أنه لما استوهبه، فوهب منه، أقامه مكرمة عند ساق العرش، فقال: مجدني.
845 - حدثنا بذلك عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: حدثنا(4/46)
سيارٌ، عن جعفر بن سليمان، قال: سمعت مالك بن دينارٍ يقول: قال الله لداود: قم عند ساق العرش فمجدني كما كنت تمجدني في دار الدنيا بذلك الصوت الحسن الرخيم، فيقول: كيف يا رب وقد سلبتنيه؟ فيقول: فإني سأرده عليك، فيدفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان، فذلك قوله: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مئابٍ}.
فهذا في الموقف.
ألا ترى أنه يقول: كيف وقد سلبتنيه؟ ولو كان في الجنة، لكان قد أعطي، فلما استوهبه ليباهي به في الموقف، وكان داود -صلوات الله عليه- له نور ساطع بين الأنبياء يوم عرض على آدم عليه السلام في ذريته، فتبين سبب ذلك النور من أين أوتي؟ وإلى أين انتهى؟ فأوتي بالدنيا نوراً، وإنما هو ثناء ومدح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحدٌ أحب إليه المدح من الله)).
ولذلك خلق الخلق فقال: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعضٍ وآتينا داود زبوراً}.(4/47)
يذكر فضله، فكان يقول في دنياه: إلهي اجعلني أزمر لك أيام الحياة، وأعظمك في مجالس الشيوخ، فأعطي من الصوت ما أعطي، وكان يكون في حلقه سبعون لوناً من الصوت يديرها في حلقه حتى يبرزها، وكانت الطير تعكف عليه، فكأنه خلق للثناء والمدح، فكان هذا الذي ظهر منه هاهنا ذلك النور الساطع يومئذٍ عند آدم عليه السلام حتى وهب له من عمره أربعين سنة، ثم أقيم في العرصة؛ ليسمع أهل الموقف ذلك التمجيد، والله أعلم.(4/48)
الأصل الخمسون والمئة
846 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: أخبرني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوفٍ، قال: أخبرني الحسن بن عبد الرحمن ابن عوفٍ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ تحت العرش: القرآن له ظهرٌ وبطنٌ يحاج العباد، والرحم تنادي:(4/49)
صل من وصلني، واقطع من قطعني، والأمانة)).
قلت لكثير: منذ كم سمعت هذا الحديث؟ قال: منذ ستين سنة.
قلت: كم أتى عليك؟ قال: تسعون سنة.
فالظهر يحاج العامة، والبطن يحاج الخاصة.
فإن أهل الملة على صنفين: صنف أهل يقين، وصنف أهل علم، ثم يصير أهل العلم على صنفين: مستقيم، ومخلط.
فالمخلط: هو الظالم، ظلم نفسه، وظلم الحق، وظلم الأنبياء، وظلم الملائكة؛ لأن الله بعث بالحق على أيدي الملائكة على ألسنة الرسل، فالمخلط جاء بما وهن ما جاؤوا به، وحل عراه، فسمي ظالماً.(4/50)
والمستقيم: المقتصد، فأهل اليقين: هم السابقون المقربون الأولياء، فظاهر القرآني حاج المقتصد في تقصيره، والظالم في تخليطه، وباطن القرآن يحاج السابقين المقربين في تقصيرهم وخطراتهم وزلاتهم.
قال له قائل: تذكر لنا آية من ذلك؟ وحظوظ هذه الأصناف من ذلك؟ قال: نعم؛ كقوله: {واتقوا الله إن الله عليمٌ بذات الصدور}.
فالظالم: يتقي تخليطه، حتى لا يدخل في عمله شيء نهى الله عنه.
والمقتصد: قد فرغ من التخليط، فهو يتقي أن يشوبه رياء، أو عجب، أو فساد، أو خطأ.
والصديق: وهو السابق المقرب، قد فرغ من هذا، فهو يتقي الأسباب والعلائق، والاعتماد على شيء دونه، ويتقي الخطرات، فهذا كله تقواه، ولكنه إنما يتقي كل صنف مما بقي عليه من التقوى، فإن لم يفعل، حاجه القرآن بما بقي عليه، وأما قوله: الرحم تنادي: صل من وصلني، واقطع من قطعني، فإن الرحم لها شأن عظيم، وفي خلقه ما يدل على شأنه.
847 - حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن معاوية بن أبي مزردٍ مولى بني هاشمٍ، قال: حدثني أبو الحباب سعيد بن يسارٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه،(4/51)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، (قامت) الرحم، فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه، قالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا إن شئتم: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}، {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها}.
848 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا عمران(4/52)
ابن بكارٍ الحمصي، قال: حدثنا علي بن عياشٍ، عن محمد ابن زيادٍ، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله -تبارك وتعالى- للرحم: خلقتك بيدي، وشققت لك من اسمي، وقربت مكانك مني، وعزتي وجلالي! لأصلن من وصلك، ولأقطعن من قطعك، ولا أرضى حتى ترضين.
فخلق الله الرأفة والرحمة يرأف ويرحم بهما عباده، والرأفة (غالبة على الرحمة، ولها سلطان، إذا تحرك، علا كل شيء، وغلب، وبدو الرأفة من رأفته)، وبدو رأفته من فضله، والفضل من جماله، فكأنه دل على أن هذه الرأفة التي خلقها هي الرحم التي بها يترأفون ويتعاطفون، كما خلق الرحمة التي بها يتراحمون، فقامت هذه الرأفة تناشد ربها، فقربها من رأفته، وبين بدو مكانها من أين بدأ، ثم جعلها كالشجنة قد برزت إلى ما دون العرش، ولما قربها، جعل لها السبيل إلى الحقو في القربة، فشق لها اسماً من اسمه الرحمن، ثم جعل لها سلطاناً ممدوداً من الحقو كالشجنة إلى ما تحت العرش، واستعاذت هناك حيث أشار من مقامها من القطيعة، فقال: لأصلن من وصلك؛ أي: أصل وأصلك بهذه الرأفة مني، وأقطع من هذه الرأفة من(4/53)
قطعك، فيكون صاحب القطيعة مقطوعاً من رأفته، ثم خلق الإنسان، فجعل الرأفة منه في الطحال، وهو في موضع الحقو، فهي شيء غالب على الرحمة، يجد الآدمي منها حرقة تصل إلى الفؤاد، فيعمله، وهي بالعربية رأفة، وبالعجمية مهر، وجعلها دماً في الطحال له حرارة، ثم جعل لها في العروق مجرى منها، فصيرها في الأرحام جارية ليصلوها.
فروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
849 - ما حدثنا به عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا شباب بن خليفة، قال: حدثنا أنيس بن سوارٍ الجرمي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا مالك بن الحويرث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا أراد الله أن يخلق النسمة، فغشي الرجل المرأة، أحضر كل رحمٍ له، ثم قرأ: {في أي صورةٍ ما شاء ركبك})).(4/54)
850 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا علي بن الحسن ابن شقيقٍ، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا مغيرة بن مسلمٍ، عن عبد الله بن بريدة: أن رجلاً من الأنصار ولدت له امرأته غلاماً حبشياً أسود، فأخذ بيد امرأته، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والذي بعثك بالحق! لقد تزوجني بكراً، وما أقعدت مقعده أحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدقت، إن لك تسعةً وتسعين عرقاً، ولها مثل ذلك)).
فإذا كان حين الولد، اضطربت العروق كلها، ليس منها عرق إلا يسأل الله أن يجعل الشبه به، فهذه عروق فيها دماء، ويقال: إن الرحم خلقتها من المرأة كالكيس، وهي عضلة، وعصبة، وعروق، ورأس عصبها في الدماغ، ولها فم بحذاء قبلها، ولها قرنان تشبه الجناحين تجتذب بها النطفة لقبولها، ومن داخل فمها أربعة أفواه إلى الرحم، فإن دخل من باب، فولدٌ، وإن دخل من بابين، فولدان، وإن دخل من ثلاثة، فثلاثة،(4/55)
وإن دخل من أربعة، فأربعة، فلذلك يقال: لا تلد امرأة في بطن أكثر من أربعة، وقيل: في الميراث: يحبس نصيب أربعة بنين، وقلما يعيش أربعة في بطن، فهذه الدماء جارية من الأرحام إلى الأرحام، متنقلة بعضها إلى بعض إلى هذه العروق التي ذكرنا، أمروا بالصلة لهذه الدماء؛ لئلا ينقطع، ولذلك قال: ((بلوا أرحامكم ولو بسلام)).
فإن الدم إذا يبست تقطعت، فتبل حتى لا تنقطع، وبللها من السلام والزيارة والعطية.
وسئل الحسن البصري -رحمة الله عليه- عن الصلة، فقال: بشاشة الوجه، وبذل النفقة.
851 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا جريرٌ، عن(4/56)
قابوسٍ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: ((الرحم معلقةٌ بالعرش، فإذا أتاها الواصل، انتشبت به، وكلمته، إذا أتاها القاطع، احتجبت منه)).
852 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا أبو خالدٍ الأحمر، قال: حدثنا فطرٌ، عن مجاهدٍ، عن عبد الله ابن عمرٍو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرحم معلقةٌ بالعرش)).(4/57)
853 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الحجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله -تبارك وتعالى-: أنا الرحمن، وهي الرحم، جعلت لها شجنةً مني، فمن وصلها، وصلته، ومن قطعها، بتته، لها يوم القيامة لسانٌ ذلقٌ، تقول فيما شاءت)).
فقد بين في هذا الحديث تلك الشجنة التي ذكرنا بدءاً أنها الرأفة التي خلقها، ثم قامت مقام العائذ إلى الحقو من القطيعة، فتلك الشجنة التي(4/58)
ذكرنا بدءاً نابتة من العرش، معلقة منها، بها يتواصلون ويتقاطعون، وحرقتها في الأجواف والرحمة هناك، ثم هي مقسومة في الخلق منها، فبها يتراحمون، وكذلك هذه الرأفة أهلها هناك، ثم هي مقسومة بين الخلق، فبها يترأفون ويتعاطفون، ولذلك قيل: أعجل البر ثواباً صلة الرحم، وأسرع الشيء عقاباً البغي وقطيعة الرحم؛ لأن البغي من الكبر، وقطيعة الرحم من الانقطاع من الرأفة.
وأما قوله: ((الأمانة تحت العرش))، فالأمانة معلقة بالإيمان.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)).
فإنما أمن؛ ليأمن الخلق جوره؛ فإن الله عدل لا يجور، وإنما عهد إليه؛ ليخضع له بذلك العهد، فينتهي إلى ما أمره، فهذه الثلاث تحت العرش: من القرآن، وهو كلامه، والرحم، وهي رأفته، والأمانة، وهي أمانته الذي أمن به الخلق من جوره، والأمان بدوه من عدله.(4/59)
الأصل الحادي والخمسون والمئة
854 - حدثنا أبي رحمه الله، وقتيبة بن سعيدٍ، وصالح ابن عبد الله، ونصر بن عليٍّ الجهضمي، ويوسف بن موسى القطان، وإسماعيل بن نصر، وابن أبي ميسرة المكي، وعبد الصمد بن سليمان، ومحمد بن أيوب السمناني، قالوا: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد بن خنيسٍ المكي، قال: دخلنا على سفيان الثوري بمكة نعوده، فدخل عليه سعيد بن حسان القرشي، فقال له سفيان: أعد علي الحديث الذي حدثتنيه، فقال: نعم، حدثتني أم صالحٍ، عن صفية بنت شيبة، عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن(4/61)
منكرٍ، أو ذكر الله)).
فاللسان ترجمان القلب، يؤدي إلى القلوب علم ما فيه من طريق الإسماع يعبره باللسان، فيرمي به إلى الأسماع، فيولج القلوب، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
ولهذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الأذنان قمعٌ)).
855 - حدثنا بذلك الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك الحمصي، قال: حدثنا بقية، قال: حدثني عتبة بن أبي حكيمٍ، عن طلحة بن نافعٍ، عن كعبٍ، قال: أتيت عائشة -رضي الله عنها-، فقلت: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الإنسان، وانظري هل يوافق نعتي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: انعت، قال: عيناه هاد، وأذناه قمع، ولسانه ترجمان، ورجلاه بريد، وكبده رحمة(4/62)
-أو قال- رأفة، ورئتاه نفس، وطحاله ضحك، وكلوتاه مكر، والقلب ملك، فإذا طاب الملك، طاب جنوده، وإذا فسد الملك، فسد جنوده، قالت: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت.
وبلغنا: أن عمرو بن عتبة أو غيره كان يماشي أباه، فسمع رجلاً من خلفه يكلم عمراً بفضول من الكلام، فالتفت إلي وقال لي: ويلك -وما قال لي: ويلك قط غيرها-، إن هذا عمد إلى أخبث شيء في وعائه، فأفرغه في وعائك، فنزه سمعك من الخنا، كما تنزه لسانك.
وروي: لنا عن موسى عليه السلام أنه قال له ربه: يا موسى! لا تجالس أصحاب الأهواء، فيحدثوا في قلبك ما لم يكن.
فكلام ابن آدم على ضروب شتى:(4/63)
فمنها: ما يخلص للآخرة، ويصفو، فذلك مندوب إليه، موعود عليه خيراً.
ومنها: ما يخلص للدنيا، ولا نصيب للآخرة فيها، فذاك مزجور عنه، موعود عليه عقوبة، ووبالاً.
ومنها: ما يتجارى فيه الناس بينهم في أمر معاشهم، مما لا بد لهم منه في الأخذ، وفي الإعطاء، وفي تصرفه في أحوالهم، فذاك مأذون لهم فيه، والحساب من ورائه.
والناس في أمر دينهم على ضربين:
فضرب منهم: يعاملون الله على الوظائف كعبيد الغلة، يؤدون الغلة، وما بقي، فهو لهم، فقد خلى بينهم وبين ذلك، ثم هم في تصرفهم وأحوالهم يدبرون لأنفسهم، ويهتمون لها، ويكدون، ويسعون لنوائبهم، وينفقون على أنفسهم، وعيالاتهم، مشاغيل القلوب والأبدان، متعبون بذلك، فهم على تدبير أنفسهم يمضون باختيارهم الأمور لها يعملون، وعموم ذلك كله يتراكم على قلوبهم.
يحتاجون إلى توفير الغلة على المولى، وتدبير معاشه، والاهتمام بأموره، ومرمة أمور عياله، وكذلك هذا الذي يعامل الله على هذا(4/64)
السبيل، عهد إليه ربه عهداً؛ من أداء فرائضه، واجتناب نواهيه ومحارمه في هذه الجوارح السبع من جسده، وفي ماله، ووعده على ذلك الجنة، ووعده على تضييع ذلك النار، وقال: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون}، {وإياي فاتقون}.
فهو يقطع عمره بهذا، ويقتضي منه الثواب غداً، فإذا قدم على ربه، حاسبه، وحصل أموره، وبلا سرائره، فإذا وجده قد وفر حقوقه فيما عهد إليه، أعتقه من رق العبودة، ومكن له في داره، وملكه منها ما يكون جزاء ووفاء لسعيه، وكده.
والضرب الآخر: يعاملون الله على العبودة، كعبيد الخدمة، انتبهوا من رقدة الغافلين الأولين، فاستوحشوا من هذا الفعل أن يدبروا لأنفسهم أمراً، وقد علموا أنه قد مضى التدبير من قبل خلق السماوات والأرض، وأثبته في اللوح المحفوظ، وأنه كل يوم هو في شأن، وأنه حي لا يموت، قيوم لا يمل ولا يعجز، فائتمنوه على أنفسهم، وألقوا بأيديهم إليه سلماً، وفوضوا إليه أمورهم، وشغلهم جلاله، وجماله، وعظمته، وكرمه، ومجده عن أن يتفرغوا لأنفسهم، فيفكروا، ويدبروا لأنفسهم أمراً، ويهتموا الرزق، أو يهربوا من حكم، أو يتخيروا عليه في شيء من الأحوال، عزاً، أو ذلاً، أو فقراً، أو غنًى، أو صحة أو سقماً، أو محبوباً أو مكروهاً، وقد وقفوا(4/65)
بقلوبهم بين يديه ناظرين إلى جلاله، مبهوتين في جماله، منفردين في وحدانيته، متعلقين بكرمه، ينتظرون رزقه، ويراقبون تدبيره، ويترجون من الأمور محابه، وآذانهم مصغية إلى دعوتهم، متى يدعون، فيجيبون، فكلام هؤلاء في المندوب إليه مما صفي للآخرة، وفي المأذون لهم مما يتجارى من أهل المعاش في أحوالهم، قد صار شيئاً واحداً؛ لأنهم له، وفي خدمته، وأموره، إن نطقوا، فله ينطقون، وإن صمتوا، فله يصمتون، وإن نطقوا، فعنه ينطقون، وإن صمتوا، فإياه يذكرون، وبه يشتغلون، وفي نجواه يرتاحون.
وأما الآخرون: فإن نطقوا، فبإذنه ينطقون، فما كان للآخرة، فلرجاء ثوابه الذي وعد، وما كان للدنيا، مما لا نصيب للآخرة فيه، فلخوف عقابه الذي أوعد، وما كان للمعاش، ومتصرف الأمور مما أذن لهم فيه، فلعاجل نفع، أو دفع ضر عاجل من فعلي العادة، والغفلة عن الله عز وجل، فالحساب من ورائهم في ذلك، فإن نطقوا، فلما ذكرنا، وإن صمتوا، فلأجل عقاب وعاجل ضر، وإن نطقوا، فعن علومهم وعقولهم ينطقون، وإن صمتوا، ففي أحوالهم يفكرون، وإياه يذكرون، وبدنياهم يشتغلون، ووسواسهم يناجون، وفي منامهم وشهواتهم يرتاحون، فهذا الضرب من الناس ما كان صفاء من كلامهم للآخرة، فهم موعود ربهم من الثواب، وما كان في المعاش، وما لا بد منه مما أذن لهم فيه وقفوا للحساب، فذاك عليه لا له حتى يتخلص منه، فإن وجد كلاماً قد أذن له فيه، ولم يكن له منه بد، وهو على غفلة من ذلك، قد تكلم على عادة نشوئه، لم ينل به ثواباً؛ لأنه ليس مما(4/66)
ابتغي به وجهه، فإن تخلص منه، لا له، ولا عليه، فنعم ما تخلص، مع أنه لا ينفك مع الخلاص من حسرة موجعة للقلب، مفجعة للنفس، إذ يرى أكثر عمره قد أهدره وأبطله.
فأهل الغفلة حظهم يوم القيامة من أعمارهم: الأوقات والساعات التي كانوا في أمور آخرتهم من أعمال البر، وسائر ذلك هدر؛ لأنهم يطعمون، ويشربون، ويلبسون، وينامون، ويكسبون، ويرمون المعاش، وينفقون، ويتصرفون في حوائجهم، مقبلين ومدبرين، ليلهم ونهارهم شهوة، ونهمة وغفلة، لا نية لهم فيها، ولا حسبة، ويقدمون بها على ربهم، فلا يجدون عنده ثواباً، إنما يثابون على أعمال البر فقط؛ لأنهم عملوها على ذكر الآخرة، فاحتسبوا بها، ونووا فيها، وفي أمور معاشهم عملوا على العادة والشهوة، وحظ النفس، فليس لهم فيها ذكر آخرة.
فلو حصلت حظوظهم من أعمارهم، لم تجدها يحصل لهم عشرها، فترى أحدهم ينشق ماؤه من مزرعته، فيسيل في الوادي هدراً، فيتلوى، ويقلق، ويضجر، ويتحسر على ما ضاع من مائه، ولو أن أحداً فعل به ذلك، لاستعدى عليه، وعاداه على ذلك، وهو يعلم أن عمره يهدر، فلا يكون له يوم القيامة إلا عشره، أو جزء من أجزاء قليلة .. ، فلا يضيق به صدراً، ولا يبالي به، فهو ما دام مصلياً أو تالياً لكتاب الله، أو مشيعاً جنازة، أو عائداً مريضاً، فهو حظه من عمره، ثم إذا خلا من هذه الأشياء، فهو في شهوة(4/67)
ونهمة، يعمل بهواه، بطال غافل، فكشف له عن الغطاء يوم الحسرة والندامة، قال الله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون}.
وقال: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}.
وقال: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ معرضون. ما يأتيهم من ذكرٍ من ربهم محدثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون. لاهيةً قلوبهم}.
فهذه صفة أهل الغفلة، صارت عامة أعمارهم لهواً ولعباً، وصار تناولهم من الدنيا تمتعاً، وشراً وأشراً، وألهتهم آمالهم عن ذكر الموت حتى نسوه، ولو ذكروا الموت، لحاسبوا أنفسهم، وارتدعوا، وانتبهوا، واشتغلوا بما هو أملك بهم.
وإذا ذكرنا من أهل الغفلة هؤلاء الطبقة المشهورين المعروفين عند العامة بأعمال البر، وبالعدالة، وبالصلاح، وبالعلم، والرئاسة، قد رضوا من حظهم من الله بما نالوا من مرفق النفس في دار الفناء، ووصول إلى نهمة، ورضوا من دينهم بهذه الأعمال التي تستروا بها؛ ليحمدوا عند الخلق بذلك، ولا يلحظ قلوبهم إلى مالك الملك الذي يراهم على هذه الصفة، حتى يستحيوا منه، ولا يفكروا أن وشيكاً ما يعرون من هذه الأحوال، ويخرجون من الدنيا صفراً، فيبقون غداً على عرصة من الموقف وعرة وحشة بعيدة من الرحمة على خطر العقاب، وسخط الرحمن، يقبلون من النفس خدعها وأمانيها، حيث يقول: إن رحمة الله واسعة، ويجزيهم بذلك على ما هم فيه، فيخدعون لها، ويقبلون ذلك منها، حتى إذا بقوا(4/68)
على ذلك الصراط الرقيق بين الجنة والنار مع حساب طويل، وذنوب كثيرة، وتبعات جمة، نادى: يا ويلاه! ماذا صنعت بنفسي؟.
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا هذه الخصال الثلاث)) هو للعامة.
فأما أولياء الله وخاصة عبيده: فهم أمناؤه وخدمه، فأعمالهم ومتقلبهم كلها له، ولا تبعة عليهم في ذلك.
ومما يحقق ذلك: قول حديث عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن ربه -جل ذكره-، قال ((إذا أحببت عبدي: كنت سمعه وبصره، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يعقل)).
فإذا صار العبد ممن به ينطق إذا نطق، فكيف يكون عليه في ذلك تبعة؟ بل يكون جميع سعيه وتصرفه في الأمور صارت آخرة، وإنما افتقرت الأمور فصارت بعضها آخرة، وبعضها دنيا لأهل الغفلة والبطالة، فلذلك احتاجوا عند كل رأس أمر إلى نية، حتى تصير كلها آخرة، فإذا لم يفعلوها، بطلت عامة أعمارهم، وهدرت تلك الأمور، إلا ما انفرد به للآخرة، ولم يكن للنفس فيه نصيب.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
((إن الله تعالى عند لسان كل قائلٍ، فاتقى الله امرؤٌ علم ما يقول)).
856 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال:(4/69)
حدثنا قطبة بن العلاء، عن عمر بن ذرٍّ، عن أبيه، عن سعيد ابن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
857 - قال: حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا الفضل ابن دكينٍ، عن عمر بن ذرٍّ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.(4/70)
الأصل الثاني والخمسون والمئة
858 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا هشام ابن خالدٍ الدمشقي، عن إسماعيل بن عياشٍ، عن ليثٍ، عن ابن سابطٍ، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تكون في أمتي فزعةٌ، فيصير الناس إلى علمائهم، فإذا هم قردةٌ وخنازير)).
فالمسخ: تغيير الخلقة عن جهتها، فإنما حل بهم المسخ؛ لأنهم غيروا الحق عن جهته، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فمسخوا أعين الخلق وقلوبهم عن رؤية الحق، فمسخ الله صورهم، وبدل خلقتهم، كما بدلوا الحق باطلاً.
فالمسوخ كثيرة من خلق الله؛ مثل: الفيل، والدب، والعنكبوت، والفأر، والضب، وما أشبه ذلك، فإنما مسخوا على هذين الصنفين قردة وخنازير.(4/71)
فالقردة: قوم خادعوا الله، واستحلوا السبت، واتخذوا الحظائر على جانب البحر، فلما دخلت الحيتان تلك الحظائر يوم السبت، سدوا مخارجها حتى بقوا فيها، ثم أخذوها يوم الأحد، فمسخهم الله قردة خاسئين.
والخنازير: إنما خلقت لعذرة سفينة نوح، ولم تكن قبل ذلك كذلك.
859 - حدثنا الجارود، عن الأسود بن عامرٍ، عن سفيان، عن عليٍّ بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباسٍ: فغذاؤها العذرة.
ومما يحقق ذلك قول الله -تبارك اسمه- فيما ذكر من تحريم الميتة، فقال: {أو لحم خنزيرٍ فإنه رجسٌ}، فذكره بالرجاسة من بين ما ذكر من الدم والميتة.
فعلماء السوء على ضربين:
منهم مكبٌّ على حطام الدنيا، لا يسأم، ولا يمل من جمعه، فتراه شهره ودهره يتقلب في ذلك كالهمج في المزابل، يطير من عذرة إلى عذرة، قد أخذ بقلبه دنياه، وألزمته خوف الفقر، وألهجته باتخاذها عدة للنوائب، لا ينكر عليه تقلب أحوالها، ولا يتأذى بسوء رائحتها.
دنيا قد احتشت من الحرام، ووسخ حلالها من تراكم الشبهات عليها، فأفعال هذا الضرب وإكبابه على هذه المزابل، كإكباب الخنازير، فإذا حلت السخطة بالخلق، مسخ هؤلاء في سورة الخنازير.(4/72)
وضرب آخر: أهل تصنع، ورياء، ودهاء، ومخادعة، وتزين للمخلوقين؛ شحاً على رئاستهم، يتبعون الشهوات، ويلتقطون الرخص، ويخلون بسوء السرية، ويخادعون الله بالحيل في أمورهم، دينهم المداهنة، وساكن قلوبهم المنى، وطمأنينتهم إلى الدنيا، وركونهم إلى أسبابها، رضوا من هذا كله بالقول دون الفعل، فلما حلت السخطة، مسخوا قردة؛ فإن من شأن القردة: الحريزة، والخداع، والمداهنة، واللعب، والبطالة.
ومن شأن الخنزير: الإكباب على المزابل والعذرات.(4/73)
الأصل الثالث والخمسون والمئة
860 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا إبراهيم ابن محمد بن يوسف الفريابي، قال: حدثنا سلام بن واقدٍ، قال: حدثنا أبو حمزة السكوني، عن أبي إسحاق الهمداني، عن جرير بن عبد الله، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قارئٌ عليكم سورة {ألهاكم التكاثر}، فمن بكى، فله الجنة))، فقرأها، فمنا من بكى، ومنا من لم يبك، فقال الذين لم يبكوا: قد جهدنا يا رسول الله أن نبكي، فلم نقدر عليه، فقال: ((إني قارئها عليكم الثانية، فمن بكى، فله الجنة، ومن لم يقدر أن يبكي، فليتباك)).
فالبكاء على ضروب، ومن أسباب مختلفة: بكاء من فجعة النفس،(4/75)
وبكاء خدعة، وبكاء مباعدة، وبكاء خوف الوعيد، وبكاء الحزن، وبكاء الفرح، وبكاء الخشية، وبكاء الشوق، وبكاء التحنن، وبكاء القبضة.
فأما بكاء الفجعة: فمصائب النفس فيها، يهان، ويضرب، ويظلم في نفسه وماله، فيبكي.
وأما بكاء الخدعة: فبكاء اللصوص، يبكون والسرقة في أحضانهم، قال الله عز وجل: {وجاءوا أباهم عشاءً يبكون}، ويوسف في البئر، فأهل الذنوب يبكون والذنوب في أحضانهم لا يفارقونها.
وأما بكاء المساعدة: فبكاء النساء.
وأما بكاء خوف الوعيد: في الإيمان، آمن بوعيد الله تعالى، فرق قلبه لفجعة النفس.
وأما بكاء الخشية: فمن العلم بالله، ووجود السبيل إلى القرية، رق قلبه من الرحمة التي قرب قلبه منها.
وأما بكاء الشوق: فلطول الحبس عن الله في منزل الوحشة بكاء من الغربة.
وأما بكاء الحزن: فمن المراقبة، قد علم أنه لا يكون إلا ما شاء الله تعالى، ولا يدري ما يكون وهو في دار الإغرار، قد شخصت آماله نحوه، ولا يصل إلى ذلك، فلفقد ما يأمل تأخذه الأحزان.
وأما بكاء الفرح: فلوجدان ما يأمل.
وأما بكاء التحنن: فإذا تحنن الله على عبده، وقسم له الحظ من اسمه الحنان، فرأفته مطلة عليه، تكتنفه وتحوطه، فتثير البكاء من منابع الرأفة.
وأما بكاء القبضة: وهو الذي يقال له: الدنو، فهو الذي أبكاه؛ وهو(4/76)
قوله عز وجل: {وأنه هو أضحك وأبكى}.
وروي عن ابن عباس: أنه رأى رجلاً يضحك خلف جنازة، فقال: {هو أضحك وأبكى}.
ورأى ابن مسعود رجلاً يضحك خلف جنازة، فقال: أتضحك خلف الجنازة؟ والله! لا أكلمك أبداً.
فابن عباس عرف ذلك الضحك من أين هو، فعذره، وابن مسعود رضي الله عنه رأى منكراً، فلم يعذره؛ لما ذكرنا من اختلاف معادن الضحك.
861 - حدثنا عبد الله بن أبي زيادٍ القطواني، قال: حدثنا سيارٌ، عن جعفرٍ، عن مالك بن دينارٍ، قال: قرأت في التوراة: يا بن آدم! لا تعجز أن تقوم بين يدي في صلاتك باكياً؛ فإني أنا الله الذي اقتربت لقلبك، وبالغيب رأيت نوري.
فهذا يحقق ما ذكرنا من بكاء أهل القبضة.
فميراث بكاء الفجعة: صداع الرأس، وضعف البصر، وميراث بكاء الخدعة: القسوة والمقت، وميراث بكاء المساعدة: الفترة، وميراث بكاء خوف الوعيد: وجوب الجنة، ونزول الرحمة، وميراث بكاء الحزن: نور(4/77)
في القلب، وميراث بكاء الفرح: الطمأنينة، والثقة، وحسن الظن به، وميراث بكاء الخشية: الخشوع، وميراث بكاء الشوق: القربة، وميراث بكاء التحنن: الدنو، والعطف والشفقة، وميراث بكاء القبضة: الضحك إليه.
وذكر الله في تنزيله: {إن الذين أوتوا العلم من قلبه إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً}.
فأخبر: أن البكاء يزيدهم خشوعاً، والذين أوتوا العلم هم أهل هذه الخشية، قال الله في تنزيله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، فأعلمهم بالله أشدهم له خشية.
862 - وحدثنا أبو بكر بن سابقٍ الأموي، قال: حدثنا أبو مالكٍ الجنبي، عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال فيما يذكر عن ربه -تبارك وتعالى-: أنه قال لموسى -صلوات الله عليه-: ((أما البكاؤون من خشيتي، فلهم الرفيق الأعلى، لا يشركهم فيه أحدٌ)).(4/78)
وروى عبد الوهاب، عن ثور، عن خالد بن معدان، قال: ما بكى عبد من خشية الله، إلا خشعت لذلك جوارحه، وكان مكتوباً في الملأ الأعلى باسمه: فلان بن فلان ينور قلبه بذكر الله.
وروي عن حزم القطعي، قال: سمعت مالك بن دينار يقول: الباكي من خشية الله تهتز له البقاع التي يبكي عندها، وتغمره الرحمة ما دام باكياً.
وروى ابن السماك، قال: سمعت عمر بن ذر يقول: إن الباكي من خشية الله تبدل بكل قطرة أو دمعة تخرج من عينه أمثال الجبال من النور في قلبه، ويزداد في قوته للعمل، وتطفأ بتلك المدامع بحور من النار.
وروى ابن السماك، عن مفضل بن مهلهل، قال: بلغني أن العبد إذا بكى من خشية الله، تحاتت عنه ذنوبه كيوم ولدته أمه، ولو أن عبداً جاء بجبال الأرض ذنوباً وآثاماً، لوسعته الرحمة إذا بكى من خشية الله، فإن بكى على الجنة، تشفع الجنة له، تقول: يا رب! أدخله علي كما بكى علي، وإذا بكى خوفاً من النار، فالنار تستجير له من ربها، تقول: رب!(4/79)
أجره مني كما استجارك مني، وبكى خوفاً من دخولي.
وروى صالح المري، قال: بلغني عن كعب، قال: من بكى خوفاً من الله من ذنبٍ، غفر له ذلك الذنب، ومن بكى اشتياقاً إلى الله، أباحه النظر إليه متى ما شاء.
وقال الله -جل ذكره- في تنزيله في بكاء الحزن: {تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون}.
وقال في بكاء الفرح: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن بكائه على ابنه، فقيل له: أتبكي يا رسول الله؟ قال: ((إنما هي رحمةٌ، ومن لا يَرْحَم لا يُرْحَم)).
فيدل هذا الحديث حديث جرير بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خاطب بهذا أصحاب الأموال والعامة المستورين بستر الله، وذلك أنه قرأ عليهم من بين السور قصتهم في التكاثر والسؤال عن النعيم، وفيه وعيد على إثر وعيد مردود من قوله: {كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون. كلا لو تعلمون علم اليقين}.(4/80)
أي: سوف تعلمون إذا جاءت معاينة الرسل، {ثم كلا سوف تعلمون} إذا جاء السؤال في القبر، {كلا لو تعلمون علم اليقين} رؤية الجحيم، {ثم لترونها} يوم القيامة {عين اليقين}، فهاهنا علم اليقين، وهناك عين اليقين، {ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم}.
فخوف الوعيد أبكاهم، فقال: ((من بكى، فله الجنة)).
وذلك أن الله عز وجل وعدهم على خوف الوعيد الجنة، فقال: {ولنسكننكم الأرض من بعدهم}؛ يعني الجنة، ثم قال: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}.
فوعد الله على خوف الوعيد الجنة، فلذلك قال: ((فمن بكى، فله الجنة))؛ لأن هذه سورة فيها قصتهم، وفيها وعيدهم، فبكى أصفاهم قلباً، وأرقهم فؤاداً، ثم ردد عليهم ثانية، فأجهدوا أنفسهم، فلم يقدروا على البكاء أولاً، ثم بكوا في الثانية، فهذه درجة ثانية.
ثم قال لمن لم يبك: ((فليتباك))؛ أي: فليتمثل لربه في صورة الباكي، حتى يلحقه بهم في الثواب، فقال حين رجعت الملائكة، قالت: ((يا رب! إن أعبداً لك اجتمعوا، فذكروك، فقال: أشهدكم أني قد غفرت لهم،(4/81)
قالوا: يا رب! إن فلاناً مر بهم، ولم يكن منهم، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فهذا جليس الباكين، فإذا تباكى، كان في صورتهم، فلحق بهم)).
وأما بكاء المقربين السابقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده، فبكاؤهم بكاء أهل الخشية، وبكاء المشتاقين، وبكاء المحزونين، وبكاء من أبكاه الله وأضحكه.
قال له قائل: ما الذي يتراءى على قلبه إذا أبكاه، وإذا أضحكه؟ قال: إذا نظر إلى جلاله، أبكاه، وإذا نظر إلى جماله، أضحكه.
ومن وراء هذا منزلة أخرى أشرف من هذا، وهو بكاء الدنو، فتلك غيرات القلب، صاحب هذا قلبه منفرد في وحدانيته، فإذا أدناه، بكاؤه للرقة التي تحل به، فإذا رجع إلى مرتبته، هابه، وقلص دمعه، وانتشقت الهيبة رقته، فيبس، فإذا أدناه، رق فبكى، وإذا رجع إلى مرتبته، هاب، فلزمته الهيبة، فهذا دأبه في البكاء، والدنو منه بر لعبده، فالبر يرققه ويبكيه.
وروي عن هارون بن رئاب: أنه قال: إن البكاء مثاقيل، لو وزن(4/82)
بالمثقال الواحد منها مثال جبال الدنيا، لرجح به البكاء، وإن الدمعة لتتحدر، فتطفئ البحور من النار، وما بكى عبد لله مخلصاً في ملأ من الملأ، إلا غفر لهم جميعاً ببركة بكائه.
فالمخلص: هو بكاء لا يشوبه شيء، ولا سبب له، إنما هو إن أدناه فأبكاه، فبلغ من ثوابه أن يغفر لمن حوله ببركة ذلك، والبركة معناها القرب، فهو راجع إلى ما قلنا.
وروي عن عبد الوهاب بن عطاء عن عبيدة بن حسان، عن النضر ابن سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن عبداً بكى في أمةٍ من الأمم، لأنجى الله تلك الأمة من النار ببركة ذلك العبد، وما من عملٍ إلا وله وزنٌ وثوابٌ، إلا الدمعة، فإنها تطفئ بحوراً من النار، وما اغرورقت عينٌ بمائها من خشية الله، إلا حرم الله جسدها على النار، وإن فاضت على خده، لم يرهق وجهه قترٌ ولا ذلةٌ)).(4/83)
الأصل الرابع والخمسون والمئة
863 - حدثنا موسى بن عبد الله بن سعيدٍ الأزدي، قال: حدثنا محمد بن زيادٍ الكلبي، عن بشر بن الحسين الهلالي، عن الزبير بن عديٍّ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نعمةٍ، وإن تقادم عهدها، فيجدد لها العبد بالحمد، إلا جدد الله له ثوابها، وما من مصيبةٍ، وإن تقادم عهدها، فيجدد لها العبد بالاسترجاع، إلا جدد الله له ثوابها، وأجرها)).(4/85)
فالنعمة: يخفف أثقالها الشكر عليها، والشدة يجزي ذلك ثمرتها الصبر عليها، والشكر هو معرفتك بأن هذا منه فضلاً ومنة، وحفظ جوارحك عن مساخطه، وأداء فرائضه، والتكلم بالحمد، فهذا تمام الشكر؛ فإن التكلم به اعتراف العبد بأن هذه النعمة منه.
والصبر على المصيبة: معرفتك بأن هذا منه؛ تسليماً له، وثباتك على حفظ جوارحك بأن لا تعصيه بسبب ما نابك، والتكلم بالاسترجاع، وهو اعتراف العبد بالتسليم له؛ كما أن الإيمان هو المعرفة لله بوحدانيته، والطمأنينة به، والتسليم له قلباً، والتكلم بلا إله إلا الله، وهو اعتراف العبد بذلك، والعمل بحقيقته، فهذا الاعتراف بهذه الأشياء في أي وقت كان، فثوابه قائم للعبد.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
((جددوا إيمانكم)).
864 - حدثنا بذلك محمد بن ميمونٍ المكي، قال: حدثنا صدقة بن موسى، قال: حدثنا محمد بن واسعٍ، عن ابن(4/86)
نهارٍ العبدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جددوا إيمانكم))، قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: ((بلا إله إلا الله))
فهذا يحقق ما قلنا، فإذا كان إيمانه يتجدد بهذه الكلمة، فكذلك حمده واسترجاعه يتجدد، وإنما قال: جددوا؛ لأن العبد قد يتكلم بهذه الكلمات، ثم يدنسها ويكدرها بسوء أفعاله، لا يذرها صافية.
ألا ترى أن الرجل قد يقول لصاحبه: أنت كبيري، وأنت أخي، وأنت حبيب، فيقتضيه صاحبه وفاء هذا القول، فإذا جاء موضع الفعل، حقر أمره، وقطع الأخوة، وجفاه، أليس قد دنس قوله وأخلفه؟ فإذا عاد له واعتذر، فقد جدده، ثم إذا عاد، فقد أخلف ودنس.
وإنما قال لهم: جددوا؛ لأن من شرط المؤمنين في هذه الكلمة أن لا يكون لقلوبهم ولهٌ في شيء من الأشياء، وفي نائبة من النوائب إلا إليه؛ لأنه لا إله إلا هو، فإذا نابتهم النوائب، وظهرت الحوائج، فولهت قلوبهم إلى المخلوقين، أليس قد دنسوا هذه الكلمة وأخلفوها؟ فقال لهم: جددوا؛ أي: استقبلوا التكلم بها.(4/87)
فكان من شأن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه أن يقول: كان كذا، ولا إله إلا الله، وفعلت كذا، ولا إله إلا الله.
يختم أمره وكلامه بلا إله إلا الله، يريد بذلك ما ندبهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من تجديده.
وهذا تفسير قوله معاذ رضي الله عنه: تعالوا نؤمن ساعة.
أي: نذكره ذكراً يجمع قلوبنا عنده، ويكون الوله إليه، ونرغب إليه في ذلك الوقت؛ ليديم لنا ذلك إذا تفرقنا.
فكذلك الحمد والاسترجاع يخلقان ويدنسان بضدهما من الأفعال التي تخرج من العبد، فيجددان ذلك، فيكتب له ثوابهما يومئذٍ.
ألا ترى أنه قال في الحديث الذي كتبناه في صدر الباب أنه قال: ((إلا جدد الله ثوابها، وإن تقادم عهدها))، فإنما يجدد ثوابها؛ لأنه جددها بالقول.
865 - حدثنا سليمان بن العباس الهاشمي، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن قتادة، عن عبد الله بن عمرٍو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبدٌ لا يحمده)).(4/88)
الأصل الخامس والخمسون والمئة
866 - حدثنا الفضل بن محمدٍ، قال: حدثنا إبراهيم ابن محمد بن يوسف الفريابي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن القشيري، عن ثور بن يزيد، عن مكحولٍ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن استطعتم أن تكثروا من الاستغفار، فافعلوا؛ فإنه ليس شيءٌ أنجح عند الله، ولا أحب إليه منه)).
فالاستغفار: هو سؤال العبد ربه الستر، والغفر: الغطاء، ومنه سمي المغفر؛ لأنه يوضع على الرأس، ويتستر به.
يقال في اللغة: غفرته؛ أي: غطيته، فقوله: اغفر لي؛ أي: استرني،(4/89)
واستغفر على قالب استفعل من ذلك؛ لأن الله -تبارك وتعالى- جعل نوره في قلب هذا المؤمن، وجعل لنوره ستراً من نور؛ وقاية للنور الأعظم الذي في قلبه، ولباساً له، وحجب ذلك عن أعين الثقلين المعرضين للثواب والعقاب غداً، وسائر الخلق والخليقة من الملائكة والسماوات والأرض والجبال والبحار والدواب قد انكشف لهم الغطاء عن رؤية ذلك، فهم يرون ذلك.
قال الله -جل ذكره- في تنزيله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خيرٌ}.
فإذا اجتبى الله عبده، واختاره للإيمان، جعل له نوره، فأشرق في قلبه، فهداه لنوره؛ أي: أمال قلبه للنور الذي جعل فيه، وأحياه به، فعرفه، ثم جعل له لباس التقوى يجوز به الصراط؛ ليكون لهم وقاية من النار، فهذا النور الظاهر هو كسوة النور الباطن.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرؤها: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره -في قلب المؤمن- كمشكاةٍ}.
وكان أبي بن كعب يقرؤها: مثل نور من آمن به.(4/90)
وكل ذلك يرجع إلى معنى واحدٍ، فالمؤمن في بهاء هذا الستر يمشي على أرضه، والخليقة ينظرون إليه بعين الجلالة والشرف، فإذا هم بالمعصية، وعزم عليها، تجافى عنه الستر كما تجافى عنه العبد، فإذا عملها، تباعد عنه، وبقي العبد عارياً من البهاء والجلالة والشرف، فإذا أصر، لم يزدد إلا سفالاً وضعةً ودنساً، ولم يزدد الستر إلا بعداً ومراحلة، فإذا ندم ورجع إلى الله بقلبه، فمدن هناك؛ أي: أقام، وإقامته عزمه أن لا يبرح من مقام الطاعة، سأل المغفرة، فقال: أستغفرك؛ أي: أسألك أن ترد علي الستر، فيستره، فيصير في ذلك النور، فهو مستور، فقيل: غفر له؛ أي: ستره.
وبدو ذلك من آدم -صلوات الله عليه-، كان لباسه ستره، وهو النور، فلما عصى، انكشف النور، وعري، فذلك قوله: {ينزع عنهما لباسهما} {ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما}؛ فقد ووري عنهما عوراتهما.
867 - حدثنا عبد الجبار، قال: حدثنا سفيان، عن عمرٍو بن دينارٍ، عن وهب بن منبهٍ رضي الله عنه في قوله: {ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما}، قال: جعل(4/91)
على عورة كل واحد منهما نوراً، فلا يرى واحد منهما عورة الآخر.
وجعل الله تعالى لهذه الجارحة من الآدمي شأناً عجيباً؛ لأنها أداة الذرية التي في صلبه إلى يوم القيامة، فالصلب باب، وهذه أداة الشهوة.
868 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا إسماعيل بن صبيحٍ اليشكري، قال: حدثنا صباح بن واقدٍ الأنصاري، قال: حدثنا سعد بن طريفٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى داود عليه السلام: أن سائل ابنك سليمان عن سبع كلمٍ، فإن أخبرك، فورثه العلم والنبوة، فقال له داود عليه السلام: إن الله أوحى إلي أن أسألك عن سبع كلم، فإن أخبرتني، ورثتك العلم والنبوة، قال سليمان: سلني عما شئت، قال: أخبرني ما أحلى من العسل؟ وما أبرد من الثلج؟ وما ألين مسًّا من الخز؟ وما يرى أثره في الصفاء، وما لا يرى أثره في الماء؟ وما لا يرى أثره في السماء؟ ومن يسمن في الخصب والجدب؟.(4/92)
قال: أما ما أحلى من العسل، فروح الله للمتحابين في الله، وما أبرد من الثلج، فكلام الله إذا قرع أفئدة أولياء الله، وأما ما ألين مساً من الخز، فحكمة الله إذا نشرها أولياء الله بينهم، وأما ما لا يرى أثره في الماء، فالفلك تمر فلا يرى أثرها، وأما ما لا يرى أثره في الصفاء، فالنملة تمر على الحجر، فلا يرى أثرها، وأما ما لا يرى أثره في السماء، فالطير يمر، ويطير، فلا يرى أثره، وأما من يسمن في الخصب والجدب، فهو المؤمن، إن أعطاه الله، شكر، وإن ابتلاه، صبر، فقلبه أجرد أزهر.
قال: انظر إلى ابنك نوبة، فاسأله عن أربع عشرة كلمة، فإن أخبرك، فورثه العلم والنبوة، فسأله، فقال: ما لي بشيء من ذي علم، قال داود لسليمان عليه السلام: أخبرنا يا بني أين موضع العقل منك؟ قال: الدماغ، قال: أين موضع الحق؟ قال: العينان، قال: أين موضع الباطل منك؟ قال: الأذنان، قال: أين باب الخطيئة منك؟ قال: اللسان، قال: أين طريق الروح منك؟ قال: المنخران، قال: أين موضع الأربة والبيان؟ قال: الكلوتان، قال: أين باب الفظاظة والغلظة منك؟ قال: الكبد، قال: أين بيت الريح منك؟ قال: الرئة، قال: أين باب الفرح منك؟ قال: الطحال، قال: أين باب الكسب منك؟ قال: اليدان، قال: أين باب النصب منك؟ قال: الرجلان، قال: أين باب الشهوة منك؟ قال: الفرج، قال: أين باب الذرية منك؟ قال: الصلب، قال: أين باب العلم والفهم والحكمة؟ قال: القلب، وإذا صلح القلب، صلح ذلك كله، وإذا فسد القلب، فسد ذلك كله.(4/93)
869 - حدثنا صالح بن عبد الله، قال: حدثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرٍو، قال: ((أول ما خلق الله من الإنسان فرجه، فقال: هذه أمانةٌ خبأتها عندك، فلا تبسل منها شيئاً إلا بحقها، قال: فالفرج أمانةٌ، والسمع والبصر أمانةٌ، واللسان أمانةٌ، والقلب أمانةٌ، لا إيمان لمن لا أمانة له)).
فإنما خلق الله آدم عليه السلام ليذرأ من صلبه هذا الخلق، فجعل موضع خلقه من الموضع الذي يذرأ منه الخلق، ثم جعل الحياة في القلب، وجعل هذه الأداة ركناً من أركان القلب، فمنه يأتي الريح بغتةً، فيقوى؛ ليقدر على استعمالها، فبروح الشهوة يقوى، فخبأها عنده، وجعلها أمانة؛ لئلا يستعملها إلا فيما أذن له، وخلقت له، ثم خلق منه حواء -رضي الله عنها-، وستر عليهما ذلك منهما، فلم ينكشف الستر عنهما حتى عصيا فعريا.
وروي عن وهب بن منبه، قال: الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله العفة.(4/94)
فإنما قال: لباسه التقوى، نسب إلى صاحبه، وهو وقايته التي ظهرت، وبذلك اتقى حتى صار متقياً.
فالمؤمن من بين الخلق في ذلك اللباس يوقر، ويعظم، ويبجل، ويهاب، وليس يرى منه تقواه في ذلك الوقت، إنما يرى عليه طلاوة اللباس وزهرته، ولبق حركاته، وتصرفه في الأمور، وعليه مهابة ذلك اللباس.
870 - وحدثنا أبو بكر بن سابقٍ الأموي، قال: حدثنا أبو مالكٍ الجنبي، عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطى المؤمن المقة، والحلاوة، والمحبة في صدور الصالحين، والملائكة المقربين، ثم تلا: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًّا})).
قال: الود: هو منية القلب، والود: هو منية النفس، فمنية النفس من الشهوة، ومنية القلب من الإيمان، ومن القربة.
يقال في اللغة: ود يود وُدًّا -بضم الواو-، وهذا من الود. ويقال من التمني: ود يود وَدًّا -بفتح الواو-، ومن المودة يقال: وددت، ومن التمني: وددت.(4/95)
871 - حدثنا عبد الله، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا عبد القدوس بن الحجاج أبو المغيرة الحمصي، قال: حدثنا سعيد بن سنان الكندي، قال: حدثني أبو الزاهرية حدير بن كريبٍ، عن جبير بن نفيرٍ، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بالناس صلاة الصبح، فلما فرغ، أقبل بوجهه على الناس رافعاً صوته حتى كاد يسمع من في الخدور، وهو يقول: ((يا معشر الذين أسلموا بألسنتهم ولم يدخل الإيمان في قلوبهم! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عثراتهم؛ فإنه من يتبع عثرة أخيه المسلم، يتبع الله عثرته، ومن يتبع الله عثرته، يفضحه وهو في قعر بيته))، فقال له قائلٌ: يا رسول الله! وهل على المؤمن سترٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستور الله على المؤمن أكثر من أن تحصى، إن المؤمن ليعمل بالذنوب، فتهتك عنه ستراً ستراً، حتى لا يبقى عليه منه شيءٌ، فيقول الله للملائكة: استروا على عبدي من الناس؛ فإن الناس يعيرون ولا يغيرون، فتحف عليه الملائكة بأجنحتها، يسترونه من الناس، قال: فإن تاب، قبل الله منه، ورد عليه ستوره، ومع كل سترٍ تسعة أستارٍ، فإن تتابع في الذنوب، قالت الملائكة: ربنا! إنه قد غلبنا،(4/96)
وأقذرنا، فيقول الله للملائكة: استروا عبدي من الناس؛ فإن الناس، يعيرون، ولا يغيرون، فتحف الملائكة بأجنحتها، يسترونه من الناس، فإن تاب، قبل منه، ورد عليه ستوره، ومع كل سترٍ تسعة أستارٍ، فإن تتابع في الذنوب، قالت الملائكة: يا ربنا! إنه قد غلبنا وأقذرنا، فيقول الله تعالى: استروا عبدي من الناس؛ فإن الناس يعيرون ولا يغيرون، فتحف الملائكة بأجنحتها، يسترونه من الناس، فإن تاب، قبل الله منه، وإن عاد، قالت الملائكة: يا ربنا! قد غلبنا وأقذرنا، فيقول الله للملائكة: تخلوا عنه، فلو عمل ذنباً في بيتٍ مظلمٍ، في ليلةٍ مظلمةٍ، في حجرٍ، أبدى الله عنه، وعن عورته)).(4/97)
872 - حدثنا عبد الله، عن موسى بن محمد بن عطاءٍ مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو الصلت، عن عبد الله بن راشدٍ، عن الحسن البصري، عن سلمان الفارسي، قال: المؤمن في سبعين حجاباٍ من نور، فإذا عمل خطيئةً، ثم تناساها حتى يعمل أخرى، هتك عنه حجابٌ من تلك الحجب، فلا يزال كلما عمل خطيئة، ثم تناساها حتى يعمل أخرى، هتك عنه حجابٌ من تلك الحجب، فإذا عمل كبيرة من الكبائر، هتك عنه تلك الحجب كلها إلا حجاب الحياء، وهو أعظمها حجاباً، فإن تاب، تاب الله عليه، ورد تلك الحجب كلها، فإن عمل خطيئة بعد الكبائر، ثم تناساها حتى يعمل أخرى قبل أن يتوب، هتك عنه حجاب الحياء، فلم تلقه إلا مقيتاً ممقوتاً ممقتاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً، نزعت منه الأمانة، (فإذا نزعت منه الأمانة)، لم تلقه إلا خائناً مخوناً، فإذا كان خائناً مخوناً،(4/98)
نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة، لم تلقه إلا فظًّا غليظاً، فإذا كان فظًّا غليظاً، نزعت منه رقبة الإيمان، فإذا نزعت ربقة الإيمان من عنقه، لم تلقه إلا لعيناً ملعناً شيطاناً رجيماً.
فقد أخبر سلمان رضي الله عنه في حديثه: أن الحجاب الأعظم هو حجاب الحياء، وقد قال وهب بن منبه في حديثه: الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء.
873 - حدثنا الجارود، عن النضر، عن عوفٍ، عن معبدٍ الجهني في قوله: {ولباس التقوى}، قال: الحياء.
فهو الذي وصفناه بدءاً أن ذلك الستر الأعظم الذي ستر الله الإيمان به هو الذي يمشي ببهائه، فإذا أذنب، وهو أن يعمل كبيرة، فقد عري، وخرج من الحجاب.(4/99)
ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول لملائكته: استروا عبدي، فتحف الملائكة بأجنحتها، ولم يدخل في ستر الله، فإذا تاب، رد عليه الستر)).
فالآدمي لا ينفك من عيب أو ذنب، فإذا كان عيباً، خرج عن ستر، فلا يزال في عيب يحدثه، وستر يزول عنه، فالستر الأعظم قائم، فإذا أذنب كبيرة، عري.
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيءٌ عند الله أنجح من الاستغفار، ولا أحب إليه منه)) يدل: على أنه صار كذلك؛ من أجل أنه ستر نوره.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة العبد من رجلٍ وجد ضالته في مفازةٍ مهلكةٍ عليها طعامه وشرابه)).
وروى خارجة بن مصعب، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: دخلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فرآني حزيناً، فقال: ((ما لي أراك حزيناً يا أبا هريرة))، قلت: كان بيني وبين أهلي شيء، فعجلت إليهم، فقال: ((أين أنت ثكلتك أمك، أين أنت عن الاستغفار، فوالذي بعثني بالحق! إني لأستغفر في اليوم والليلة مئتي مرةٍ، فأكثر من(4/100)
الاستغفار؛ فإن في الأرض أمانين يوشك أن تفقدوا أحدهما عن قريبٍ، وهو موت نبيكم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون})).
فإنه يجيء يوم القيامة محدقاً بأعمال الخلائق، له زئيرٌ حول العرش يقول: إلهي! حقي حقي، فيجيبه الجبار فيقول: خذ حقك، فما يترك من سيئات بني آدم إلا اجتحفها.
874 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا محمد ابن وهب بن عطية الدمشقي، عن الوليد بن مسلمٍ، عن الحكم بن مصعبٍ المخزومي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباسٍ، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدمن الاستغفار، جعل الله له من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)).(4/101)
فإنما أشار إلى الإدمان على الاستغفار؛ لأن الآدمي لا يخلو من ذنبٍ أو عيبٍ ساعة بساعة، ولذلك قيل: ((خياركم كل مفتنٍ توابٍ)).
فإن المؤمن خلق مفتناً تواباً، ذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أدمن على الاستغفار، خرج من الذنوب والعيوب، ودخل في الستر الأعظم، وعادت إليه تلك الستور، وتلك الستور التي ذكر عددها هي عندنا ستور توابع الإيمان، فالإدمان عليه يلحق الذنوب والعيوب، ويحقق ذلك قوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
والعذاب عذابان: العذاب الأدنى، والعذاب الأكبر، ولكل عذاب ألوان، والعذاب للعيوب والذنوب، فإذا كان العبد متيقظاً، مشرفاً على(4/102)
أموره، فكلما أعيب، أو أذنب، أتبعها استغفاراً، لم يبق في وبالهما وعذابهما، وإذا كانت منه العيوب، والذنوب، ولها عن الاستغفار، تراكمت العيوب، والذنوب، فجاءت الهموم، وجاء الضيق، وجاء العسر، والكد، والتعب، هذا من عذابه الأدنى، وفي الآخرة عذاب النار.
وإذا استغفر، خرج من الذنب والعيب، فصار له من الهموم فرج، ومن الضيق مخرج، وأسبغ عليه الرزق.
وهو قوله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً. ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
فالتقوى: أن يجتنب العبد الذنب والعيب، فإذا وقع فيه، فمن التقوى أن لا يستقر حتى يتوب، ويرجع.
وهو قوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}، فسماهم: أهل التقوى.
وقال: {وجنةٍ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}.
ثم بين من المتقون؟ فقال: {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزائهم مغفرةٌ من ربهم}.(4/103)
ففاعل الفاحشة والظالم لنفسه لم يخرج اسمه من المتقين؛ بأنه لم يصر، وعاد إلى ربه تائباً، فترك الإصرار من التقوى.
875 - حدثنا الجارود، قال: حدثنا جريرٌ، عن يزيد بن أبي زياد، عن عمرو بن سلمة الهمداني، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: ما من رجلين مسلمين إلا بينهما ستراً، فإذا قال أحدهما لصاحبه هجراً، هتك ستر الله.
876 - حدثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدثنا الحسين الجعفي، عن زائدة، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن عمرو بن سلمة، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
وأما قوله: ((لا شيء أنجح عند الله، ولا أحب إليه من الاستغفار))،(4/104)
فأقرب الأشياء من الشيء كسوته، ووقايته، وتعظيم قدر الشيء يجعل له وقاية، وكسوة، وستراً.
فإذا كان الشيء نفيساً، جعل في ستر، والملوك في الستر، وكل شيء له خطر وقدر، فهو محظور عن الجميع، مستور، فإذا أذنب العبد، تباعد عنه الستر؛ لنفاسته ونزاهته، فإذا ندم، فالندم، والتوبة بدؤه من النور الذي في قلبه، وهو الذي يندمه، ويقتضيه الرجوع إلى الله، ويهديه لذلك، فلما فعل، وسأل الستر، فإنما يسأل هذا الستر للنور الذي في قلبه، ولا شيء أنجح من هذا القول، يجيبه؛ لحرمة ذلك النور، ومن أجل أنه هو الذي اقتضاه السؤال، فكأنه الذي سأل إذا كان مقتضياً.
وقوله: ((لا شيء أحب إليه منه))؛ لأنه يسأل الستر لنوره، ولذلك قال: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}.
والتوابون: هم الذين رجعوا إلى الله، وتطهروا بقربه من نجاسة الذنوب، ومن رجاسة العيوب.
وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا تاب العبد، فقبل الله توبته، أنسى الحفظة ما كان يعمل، وقيل للأرض وجوارحه: اكتمي عليه، ولا تظهري عليه مساوئه أبداً)).(4/105)
ومن شأن الآدميين إذا أحب أحدهم أحداً، ثم استقبله في طريق وهو سكرانٌ، التفت هكذا وهكذا، هل رآه أحد على تلك الحالة؟ ثم ستره، وأدخله منزلاً، فأقامه؛ إشفاقاً عليه، وكراهة أن يراه أحد على تلك الحالة، فما ظنك برب العزة إذا تاب العبد إليه، فقبلها منه، أيدعه والحفظة تنظر إليه بعين من فعل ذلك الفعل بالأمس؟
كلا، إنه لينسينه كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يعلم منه إلا خيراً، حتى تنظر إليه الحفظة والخلق والخليقة بعين الإجلال.
وقال الله -جل ذكره- في تنزيله: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً}، فوعد المغفرة على الاستغفار.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((أربعٌ من أعطيهن، لم يمنع أربعاً)).
877 - حدثنا بذلك عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا علي بن حمادٍ البصري، وهو الذي يقال له: ابن أبي طالب، عن خليفة بن عبد الله الشامي، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال(4/106)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ من أعطيهن لم يمنع من الله أربعاً: من أعطي الدعاء، لم يمنع الإجابة، قال الله -تعالى جده-: {ادعوني أستجب لكم}، ومن أعطي الاستغفار، لم يمنع المغفرة، قال الله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً}، ومن أعطي الشكر، لم يمنع الزيادة، قال الله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، ومن أعطي التوبة، لم يمنع القبول، قال الله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات})).
فإنما أمر الله بالاستغفار عند الذنب، والشكر عند النعمة، والتوبة من(4/107)
الذنب، والدعاء عند الحاجة.
فهذه كلها على الحقائق، لا على التجويز.
فحقيقة الاستغفار: أن يرى العبد في وقت الذنب خروجه من ستره وتعريه، فيأخذه الحياء، كما يستحي الرجل إذا سلب ثوبه في ملأٍ عظيمٍ، أو في سوق من الأسواق، فينقبض، ويدخل أعضاؤه بعضها في بعض من الحياء.
فهل يجد المستغفر هذا الحياء من رؤية ذهاب ستره وعريه، حتى يسأل المغفرة، وهي الستر، أشد سؤالاً، وألحف من الذي ذهب ثوبه، فتعرى في ذلك الملأ؛ ذلك ليعلم أنه يقول قول السكارى، لقن فالتقن، فهو في سكره لا يعلم أنه عارٍ، أو مستتر، ولا يأخذه الحياء.
وحقيقة الشكر: أن يرى النعمة منه رؤية القلب خلقه، وتربيته، وسياقته، وإيصاله إليه، فيأخذه من أثقال ذلك من الخجل ما يأخذه من رجل أهدى إليه بدرة من دنانير عدد مرات.
وحقيقة التوبة: أن يرى إباقه من مولاه، فيرجع إليه بندمٍ،، واعتذارٍ، ووجلٍ، وحياءٍ، فيعزم على التوطن عنده بين يديه أشد من عزم عبد أبق من مولاه الآدمي، وقد أحسن إليه مولاه كل الإحسان، ومناه العتق، والبر، واللطف، فلما عاد إليه، تأسف على نفسه باكياً ممن فعله، وثقل عليه أن يتراءى له من شدة ما يعلوه من الحياء، فهو يتستر منه بالحائط وبالشيء،(4/108)
فهو يوطن أن لا يفارقه إلى الممات.
وحقيقة الدعاء: أن يسأله سؤال من أحضر قلبه كما أحضر بدنه بتضرعٍ وإلحاح، سؤال فقيرٍ زمنٍ، ومضطرٍ وجد إذن دخولٍ على ملكٍ عطوفٍ رحيم، فإذا كنت في هذه الأربع الخصال تعامل الآدميين تكون بهذه الصفة، فإذا عاملت الله بها، وجدت نفسك بخلاف هذه الصفة، فقد علمت أن هذا فعل السكران.
وقوله: ولا اعتداد عند العقلاء بفعل السكران، وقوله: أو رجل يتكلم في منامه، فالسكران: لقن، فالتقن، والنائم: فكر في يقظته، فتكلم في نومته.
فالمخلط: سكران، والمستقيم: نائم، وهم الزهاد، والعباد، والورعون.
وإنما يفوز بهذه الحظة العظيمة المنتبهون عن الله، مزق شعل أنوار الله حجب قلوبهم، ثم أحرقها، فانحسر القلب لأمرٍ عظيمٍ، فهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعطي الدعاء، لم يمنع الإجابة، ومن أعطي كذا، لم يمنع كذا)).
أي: أعطي نوراً، فإذا أعطي النور؛ صارت هذه الأربع كلها عطاياه، فأعطي الاستغفار، وأعطي التوبة، وأعطي الشكر، وأعطي الدعاء.(4/109)
ومن دون المنتبهين أمروا به، وندبوا إليه، وقيل لهم: تطهروا من الأوساخ والأدران التي على قلوبكم، وطهروا صدوركم؛ حتى تعطوا النور، فتكون هذه الأربع مني لكم عطاء، فتخرج منكم هذه الأربع على الحقيقة، فأجيبكم إلى ما وعدت؛ لأني لم أعد إلا على الحقيقة من دعا حقاً، واستغفر حقاً، وشكر حقاً، فإن لكل شيء حقيقة.
وكذلك وصف الله المؤمنين في تنزيله، فبين حقيقة إيمانهم، فقال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} إلى آخر الصفة، ثم قال: {أولئك هم المؤمنون حقًّا}.
فالحقيقة في الأشياء: هي بلوغ الصفة التي رسم الله لعباده فيما بينهم، كيف يعاملون على الحقيقة، فاستأداهم من الحقيقة مقدار ذلك، وعفا عما وراء ذلك.
878 - حدثنا محمد بن معمرٍ البصري، قال: حدثنا حبان بن هلالٍ، قال: حدثنا الهيثم البكاء، قال: حدثني أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فتح الله على عبدٍ الدعاء، فليدع؛ فإن الله مستجيبٌ له)).(4/110)
وقوله: فتح: أي: أعطى.
وقال أبو حازم: لأنا من أن أمنع الدعاء، أخوف عندي من أن أمنع الإجابة.
فإنما خاف منع الدعاء أن لا يفتح له في وقت الدعاء، فيكون دعاؤه كسائر الكلام، قال لك: ادع.
والدعاء: هو عدو القلب إليه، حتى يبوأ له هناك؛ أي: يجعل له قراراً، ويقبل قوله: والنفس متشبثة به، فالقلب في حبس النفس لا يستطيع العدو إلى الله، فقال لك: تب إلي.
فالتوبة: الرجوع إليه، وهو في حبس النفس لا يستطيع العدو، وإنما يرجع القلب، فإذا كان في حبس النفس، لم يقدر أن يتخلص منه،(4/111)
قال لك: استغفرني.
وإنما المغفرة: سؤال الغطاء من الذنب للعري، والنفس حجاب للقلب، فهو لا يقدر أن يرى عريه حتى يسأله الغطاء والستر.
وقال لك: اشكرني؛ أي: أرني نعمتي عليك، والنفس حجابه، فلا يقدر أن يرى نعمه، فهذه الأشياء قد أتيت بها اسماً، ولم تأت بها عيناً.
فممنوع أنت عنهن على الحقيقة، فإذا أعطيت النور، غدا قلبك إليه عند الحاجة، فيسأل بين يديه، أجيب، وأسعف به.
وإذا أعطيت النور، فرأيت الإباق منه، رجعت إليه مع النور، فوقفت هناك بين يديه، فهي التوبة، قبل منك.
وإذا رأيت العري، فسألت الستر، وهي المغفرة؛ أعطيت.
وإذا رأيت النعمة، فشكرت، قبل منك، فأعطيت الزيادة؛ لأنه إنما ابتغى منك الرؤية، والله أعلم.(4/112)
الأصل السادس والخمسون والمئة
879 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا سعيد ابن أبي مريم، قال: أخبرنا عبد الله بن عقبة، عن دراجٍ، عن أبي الهيثم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، جعل غناه في نفسه، وتقاه في قلبه)).
فالحاجة في النفس؛ لأنها معدن الشهوات، وشهواتها لا تنقطع، فهي أبداً فقيرةٌ؛ لتراكم الشهوات عليها، واقتضائها، وخوف فوتها وانقطاعها، قد برح بها، وضيق عليها، فهي مفتونة بما ذكرنا، وخلصت فتنتها إلى القلب، فصار مفتوناً، فأصمته عن الله، وأعمته؛ لأن الشهوة ظلماء، ذات(4/113)
رياح هفافة، فالريح إذا وقعت في الأذن؛ أصمت، والظلمة إذا وقعت في العين؛ أعمت.
فلما صارت هذه الشهوة من النفس إلى القلب، حجبت النور، فعمي، وصم، فإذا أراد الله بعبد خيراً؛ قذف في قلبه النور، فاحترق الحجاب، وانحسر النور الأصلي، وأشرق هذا النور الوارد في القلب، والصدر، فذلك تقواه، به يتقي مساخط الله، وبه يحفظ حدود الله، وبه يؤدي فرائض الله، وبه يخشى الله مع هذا كله، ويصير ذلك النور وقايته يوم الجواز على الصراط، فبه يتقي النار حتى يجوزها إلى دار الله، فهذا تقواه في قلبه.
وأما غناه في نفسه، فإنه إذا أشرق الصدر بذلك النور، تأدى إلى النفس، فأضاء، ووجدت النفس له حلاوةً وروحاً، ولذة تلهيها عن لذات الدنيا وشهواتها، ويذهب مخاوفها، وعجلتها، وخرقها، وبلاهتها، فتحيا بحياة القلب، وتستضيء بنور القلب، فتطمئن؛ لأن القلب صار غنياً بانتباهه عن الله -جل ذكره-، الماجد في بريته، الكريم في فعاله، الحي في ديموميته، القيوم في ملكه، والنفس جاره وشريكه، ففي غنى الجار غنىً، وفي غنى الشريك غنىً، فالتقوى في القلب، وهو ذلك النور، والغنى في النفس، وهو طمأنينتها ومعرفتها أين معدن الحاجات.(4/114)
الأصل السابع والخمسون والمئة
880 - حدثنا عمر بن أبي عمر، قال: حدثنا الحسن ابن الربيع البجلي، قال: حدثنا عمرو بن أبي هرمز، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الدمشقي، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، قال:
((اتبعوني على البر والتقوى، والتواضع، وذلة النفس)).(4/115)
فالبر: هو ما افترض الله على العبد.
والتقوى: ما نهاه عنه.
والتواضع: أن يضع مشيئته لمشيئته مولاه في أموره.
وذلة النفس: ترك المنى في عطاياه في الدرجات.
وفي إقامته هذه الأربع صفو العبودة، فهو عبد الله ورسوله، أرسله إلى الخلق على طريق العبودة لله.
881 - حدثنا أبو الحارث عبيد الله بن الحارث، قال: حدثنا بكر بن محمد بن حبيبٍ المازني، عن الحكم بن ظهيرٍ، عن السدي، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قدم وفد اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أبيت اللعن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله! إنما يقال هذا للملك، ولست أنا ملكاً، أنا محمد بن عبد الله))، قالوا: فإنا لا ندعوك باسمك، قال: ((فأنا أبو القاسم))، فقالوا: يا أبا القاسم! إنا قد خبأنا لك خبيئةً، فقال: ((سبحان الله!(4/116)
إنما يفعل هذا بالكاهن، فالكاهن والمتكهن، والكهانة في النار))، فقال له أحدهم: فمن يشهد لك أنك رسول الله؟ قال: فضرب بيده إلى حفنة حصى فأخذها فقال: ((هذا يشهد أني رسول الله))، قال: فسبحن في يده، وقلن: نشهد أنك رسول الله، فقالوا له: أسمعنا بعض ما أنزل عليك؟ فقرأ: {والصافات صفًّا}، حتى انتهى إلى قوله: {فأتبعه شهابٌ ثاقبٌ}، وإنه لساكنٌ، ما نبض منه عرق، وإن دموعه لتسبقه إلى لحيته، فقالوا له: إنا نراك تبكي، أمن خوف الذي بعثك تبكي؟ قال: ((بلى من خوف الذي بعثني أبكي، إنه بعثني على طريقٍ مثل حد السيف، إن زغت عنه، هلكت، ثم قرأ: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً})).(4/117)
فإنما صار في مثل حد السيف؛ لأن طريق الأعمال على النفس، ومبتدأه من القلب، وطريقها على النفس، فإذا مرت، فلم تلتفت إلى النفس، ولا لحقته النفس أن تبعته، فقد صفا العمل، وصفت العبودة، فهذه منزلتان: إحداهما أشرف من الأخرى.
فمنزلة: أن العمل يبتدئ من القلب، فيخرج إلى الأركان، ونفسه حية تحب أن تشركه في ذلك، وهو أن تلتمس الثواب.
ومنزلة أخرى أشرف من هذه: وهي أن تموت النفس، والقلب في مقام الهيبة، فيخرج العمل إلى الأركان، فلا يلتفت إلى النفس، ولا بالنفس حراكٌ، فتشخص إليه طرفاً، فهذا صفة العبودة، بعث عبداً بالرسالة للعبودة، فالعبد قائم بين يدي مولاه، يعمل ما يؤمر، ولا يتكلف من تلقاء نفسه شيئاً، ولا يدبر لنفسه شيئاً، وقد فوض ذلك كله إلى مولاه.
فمن شأن المحب أن لا يكون له نعمةٌ دون لقاء الحبيب، فإذا لم يهتد إليه، فوجد دليلاً يؤديه إليه، فمن صدق المحبة أن يقفو أثر الدليل والعلم الذي رفع له، حتى يؤديه إليه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فاستقم كما أمرت}.(4/118)
فالاستقامة في السير: أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، ولا يعرج على شيءٍ، فيشتغل به دونه.
فاجتمع نفرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاضوا في الذكر، فرقوا، ثم ذكروا نعم الله عليهم بالإسلام والقرآن، وإحسانه، فطرت نفوسهم، فقالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله فنعملها، فجاءت المحبة من الله، فأنزل الله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيانٌ مرصوصٌ}.
استقصاه عليهم في كنه الأمر؛ ليظهر صدق ما نطقوا به، فخرجوا إلى القتال، فلم يكن من بعضهم الذي قال، فأنزل الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.
فقال عبد الله بن رواحة: ((لا أزال حبيساً في سبيل الله)).
882 - حدثنا بذلك علي بن خشرمٍ، قال: حدثنا أيوب ابن النجار اليمامي، عن يحيى بن أبي كثيرٍ.(4/119)
ثم قالوا: إنا لنحب ربنا، فامتحنوا، فأنزل الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.
فإن من شأن الكريم أن يحب من أحبه، ولم ينل حبه أحدٌ إلا من بعد حبه له، فجعل الاتباع علامة المحقين في هذه المقالة.
فمن قال: على ماذا نتبعه؟
قيل: هذه سيرته، فاتبعه في سيرته، فإنه واصل إلي، فإذا اتبعته في سيرته، وصلت إلي، فسيرته العبودة، والعبودة: هي هذه الخصال الأربع التي أجملت لك.(4/120)
الأصل الثامن والخمسون والمئة
883 - حدثنا عمر بن أبي عمر قال: حدثنا عمر بن عمرو الربعي، قال: حدثنا يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الحياء زينةٌ، والتقى كرمٌ، وخير المركب: الصبر، وانتظار الفرج من الله عبادةٌ)).
فالحياء: من فعل الروح، والروح سماوي، فعمل أهل السماء عمل ليس يشبه بعضه بعضاً في العبودة، والنفس شهواني أرضي، ميالة إلى شهوة، ثم إلى أخرى، ثم إلى منية على إثر منية، لا تهدأ، ولا تستقر، فأعمالها مختلفة، لا يشبه بعضها بعضاً، مرة عبودة، ومرة ربوبية، ومرة(4/121)
استسلام، ومرة تملك، ومرة عجز، ومرة اقتدار، فإذا ريضت النفس، وذللت، وأدبت، انقادت، وكان السلطان والغلبة للروح، جاء الحياء، والحياء خجل الروح عن كل أمرٍ لا يصلح في السماء، فهو يكاع، ويخجل من ذلك، فهذا يزين الجوارح، ويزين الأمور، فهو زينة العبد، فمنه العفة، ومنه الوقار، ومنه الحلم.
وأما قوله: ((والتقى كرمٌ)).
فالكريم من انقاد وذل، ولذلك سميت شجرة العنب: كرماً؛ لأنها تمد، فأينما مددتها امتدت، وذلت لك.
ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول للعنب كرماً، وإنما الكرم قلب المؤمن)).
فإذا ولج النور القلب، رطب ولان، وبرطوبته ولينه ترطب النفس، وتلين، وتذهب كزازتها، ويبسها؛ لأن حرارة الشهوات قد طفئت بالنور الوارد على القلب؛ لأنه من الرحمة، والرحمة باردةٌ، فانقاد القلب، فاتقى، فأخبر أن تقاه في كرمه، فإذا لان القلب وانقاد، فقد صار متقياً.
وقوله: ((وخير المركب: الصبر))، فالصبر: ثبات العبد بين يدي ربه في مقامه لأموره، وأحكامه، ومنه سميت المصبورة؛ صيرت هدفاً للسهام، فكذلك العبد أهدف نفسه لأموره، وأحكامه، ما خف منها وما ثقل، وما أحب وما كره، وما يسر وما عسر، فهو خير مركب ركب إلى الله، وهو(4/122)
مركب الوفاء بالعهد.
خلق الله الدنيا ممراً لعبيده إلى دار السلام، فالقوم مجتازون: يأخذون الزاد، ويمرون أولاً فأولاً، يدخلون قبورهم، فيخرجون إلى الله، جعل بابه الذي يدخلون عليه أمر باب، وأهوله؛ ليطهرهم من التلبس بالدنيا، فيلقوه طاهرين، فيمكن لهم في دار القدس، فمن الوفاء بعهده: أن لا يتلفت إلى شيء سوى الزاد، وإن تناولت منها ما تناولت تزوداً، وتمضي، يوف لك بالعهد أن يدخلك دار السلام.
قال: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون} أي: وإلي فارهبوا من نفوسكم، فالهرب والرهب: يرجعان إلى معنى واحد، إلا أن هذا في نوع، وذاك في نوع.
وقوله: ((انتظار الفرج من الله عبادةٌ))؛ ففي انتظار الفرج قطع العلائق والأسباب إلى الله، وتعلق به، وشخوص الآمال إليه، وتبرؤ من الحول والقوة، فهذا خالص الإيمان.(4/123)
الأصل التاسع والخمسون والمئة
884 - حدثنا محمد بن مقاتلٍ، قال: حدثنا معنٌ القزاز، قال: حدثنا عبد الله بن المؤمل المخزومي، عن أبي الزبير، عن جابرٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زمزم لما شربت له)).
فزمزم: سقيا الله وغياثه لولد خليله، فبقي غياثاً لمن بعده، فالغياث لكل نائبة، فإن شربت لمرض، شفيت، وإن شربت لغم، فرج عنك،(4/125)
وإن شربت لحاجة، استغنيت به، وإن شربت لنائبةٍ، صلحت.
فهو قوله: ((لما شربت له))؛ لأن أصله من الرحمة، بدءاً وغياثاً، ولأي شيء شربه ذلك المؤمن، وجد غوث ذلك الأمر.
وحدثني أبي رحمه الله، قال: دخلت الطواف في ليلة ظلماء، فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقذار، وذلك أيام الحج، فذكرت هذا الحديث: زمزم، فتضلعت منه، فذهب عني إلى الصباح.
وروي عن عبد الله بن عمرو: ((إن في زمزم عيناً من الجنة من قبل الركن)).(4/126)
الأصل الستون والمئة
885 - حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيدٍ الأموي، قال: حدثنا يحيى بن سعيدٍ الأنصاري، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت كأحدكم، يخيط ثوبه، ويعمل كأحدكم.(4/127)
قوله: ((يعمل)): أفهمني عنه غيره.
فهكذا شأن الأنبياء والأولياء؛ لأنهم خدموا وعملوا الدنيا والآخرة لهم خدمة؛ لأنهم عبيد الله، على العبودة وقفوا بين يديه، ورأوا أن هذه الأعمال التي للدنيا والآخرة تدبير الله في أرضه، وأنها كلها معلقة بعضها ببعض، وأنها لله، فما استقبلهم من أمرٍ، لم يؤثروا عليه شيئاً، ولا اختاروا من تلقاء أنفسهم أمراً، فلزموه، ورفضوا ما سواه؛ لأنهم يحبون أن يكونوا كالعبيد، ما وضع بين أيديهم عملوه عبودة، حتى يلقوا الله بها، فيضع عنهم يومئذٍ رق العبودة، ويرضى عنهم، هذا بغيتهم.
والآخرون اختاروا من الأعمال، وآثروا هذا على ذاك، وذاك على ذا، طلباً للأفضل؛ لينالوا أجراً، ويحتظوا من نعيم الجنان، فرفضوا كثيراً من الأعمال، ضيعوا به حقوقاً كثيرة، والاعتبار في هذا:
بمثل حديث جريج: نادته أمه: يا جريج! أرني وجهك من الصومعة، وهو في الصلاة، فقال: صلاتاه، وأماه، فآثرها على أمه.
886 - حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي، قال: حدثنا الحكم بن الريان اليشكري، قال: حدثني ليث بن سعدٍ، قال: حدثني يزيد بن حوشبٍ الفهري، عن أبيه،(4/128)
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو كان جريجٌ الراهب فقيهاً عالماً، لعلم أن إجابة أمه من عبادة ربه)).
فمن فقه عن الله أمره، ورأى تدبيره، لم يجد بداً من رفض الاختيار، فلا يؤثر أمراً على أمرٍ، ولا حالاً على حال.
وروي عن جعفر بن أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثهم إلى مؤتة، فأمر عليهم زيد بن حارثة، فقال: ((إن قتل زيدٌ، فجعفرٌ أميرٌ عليكم))، فقال: يا رسول الله! أتؤمر علي زيداً؟ فقال: ((إنك لا تدري في أي ذلك خيرٌ)).
وروي في الخبر: أن موسى عليه السلام قال: يا رب! أي عبادك أكثر ذنباً؟ قال: الذي يتهمني، قال ومن يتهمك يا رب؟ قال: الذي يستخيرني، فإذا خرت له، لم يرض بذلك.(4/129)
أو كما قال.
فمن جعل أمور الآخرة، وأمور الدنيا كلها لله، وأراد بذلك إقامة العبودة، فقد سقطت منه مؤنة الاختيار، ولم تملكه الأعمال، ولا الأحوال.(4/130)
الأصل الحادي والستون والمئة
887 - حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأودي، قال: حدثنا أبي، عن شريكٍ، عن محمد بن سعدٍ، عن أبي ظبية، عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المقة من الله، والصيت في السماء، فإذا أحب الله عبداً، نادى جبريل في السماء: إن الله يحب فلاناً، فأحبوه، فتنزل المقة في الأرض)).
والمقة: الحب والبغض.
كذلك قوله: ((الصيت في السماء)): يعني به: اضطراب الصوت والنداء.(4/131)
فالصوت والصيت بمعنى واحد، إلا أن ذاك عند اضطرابه والجهر به.
وأما نزول الحب: فهو قوله: {وألقيت عليك محبةً مني} قال: ملاحة وحلاوة.
888 - حدثنا عمر، قال: حدثنا هارون الراسبي، عن جعفر بن حبان، عن أبي رجاءٍ في قوله: {وألقيت عليك محبةً مني}، قال: الملاحة والحلاوة.
889 - حدثنا عمر، قال: حدثنا عثمان بن الهيثم، عن عوفٍ، عن معبدٍ الجهني في قوله: {وحناناً من لدنا}، قال: الحنان: المحبة.(4/132)
890 - حدثنا أبو بكر بن سابقٍ الأموي، قال: حدثنا أبو مالكٍ الجنبي، عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {سيجعل لهم الرحمن ودًّا} ما هو يا رسول الله؟ قال: ((المحبة يا علي في صدور المؤمنين، والملائكة المقربين، يا علي! إن الله أعطى المؤمن ثلاثاً: المقة، والمحبة، والحلا