مراقي الجنان بالسخاء وقضاء حوائج الإخوان
تأليف
يوسف بن حسن بن عبد الهادي المقدسي
المتوفى سنة (909 هـ)
تحقيق
محمد خير رمضان يوسف
دار ابن حزم
الطبعة الأولى
1424 هـ - 2003 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم
[مقدمة]
الحمد لله مسبغ الإحسان، ومانح فضله سائر الحيوان. أحمده على زايد الامتنان، وأشكره على مواهب العرفان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبدٍ أتقن الإيمان وهي .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد عدنان. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه القائمين بحق الله في السر والإعلان، وسلم تسليماً. أما بعد:
فإني عزمت على أن [أجمع] نبدةً في السماحة وقضاء حوائج الإخوان. لأن ذلك أفضل ما تعاطاه الإنسان. وهذا أوان الشروع في ذلك، وبالله التوفيق والمستعان.(1/19)
[أحاديث وآثار وحكايات في الجود وقضاء الحوائج]
1- أخبرنا جماعةً من شيوخنا، منهم أبو حفص السليمي، وأبو محمد بن البقسماطي، وأبو علي بن .. .. ، وأبو إسحاق بن العماد، وأبو بكر بن الدينوري (؟) وغيرهم، أخبرنا ابن الزعبوب، ومنهم الشهاب بن زيد، وأبو عبد الله بن ..، وأبو حفص اللؤلؤي، وأبو عبد الله اللؤلؤي البياع.؟ أبو عبد الله اللؤلؤي الشافعي، و.. غيرهم، إجازةً من بعضهم، وسماعاً من بعضهم، قالوا: أخبرتنا عائشة بنت عبد الهادي، و .. .. وابن .. وابن الخياط، وغيرهم، أخبرنا ابن .. ابن .. ابن اليونانية. ومنهم أبو الفرج بن .. وغيره. أخبرنا ابن الحبال وابن ناصر الدين وغيرهما، قال ابن ناصر الدين: أخبرنا ابن .. ووكيل بيت المال وعائشة بنت عبد الهادي، قالوا: وابن .. وابن اليونانية .. زاد ابن المحب وابن اليونانية والقاضي سليمان وغيره: أخبرنا ابن الزبيدي؟ .. والفاروقي إجازة، أخبرنا عبد الأول بن عيسى السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا(1/21)
أبو محمد السرخسي، أخبرنا أبو عبد الله الفربري، أخبرنا أبو عبد الله البخاري، حدثنا عمرو بن عون، حدثنا حماد وهو ابن زيد، عن ثابت، عن أنس قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلةٍ، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: ((لن تراعوا، لن تراعوا))، وهو على فرس لأبي طلحة عزي ما عليه سرجٌ، في عنقه سيف، فقال: ((لقد وجدته بحراً))، أو: ((إنه لبحر)).
2- وبه إلى البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام، وكان جبريل يلقاه كل ليلةٍ من رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة!.
3- وبه إلى البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن ابن المنكدر قال: سمعت جابراً رضي الله عنه يقول:
ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ قط فقال لا.
4- قرئ على ابن جوارش الصالحي وأنا أسمع، أخبركم الحافظ(1/22)
أبو بكر بن المحب، أخبرنا أبو بكر بن عبد الدائم، أخبرنا أبو عبد الله الإربلي، أخبرنا أبو الحسن بن عساكر، أخبرنا أبو طالب عبد القادر بن محمد، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو محمد الحسين بن محمد الدقاق، أخبرنا أبو العباس أحمد بن مسروق، حدثنا أبو شيخ محمد بن حسين البرجلاني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا الحجاج بن أرطأة، عن سليمان بن سحيم، عن [طلحة بن عبيد الله] بن كريز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إن الله عز وجل جوادٌ يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها)).
5- وبه إلى البرجلاني: حدثنا الحسن بن بشر بن سلم، حدثنا المعافى بن عمران، عن خالد بن إلياس، عن مهاجر بن مسمار قال: أشهد لحدثني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله طيبٌ يحب الطيب، نظيفٌ يحب النظافة، كريمٌ يحب الكرم، جوادٌ يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود، تجمع الأكباء في دورهم)).(1/23)
6- قرأت على الشهاب بن الشريفة، وفاطمة بنت الحرستاني، أخبركما المشايخ الثلاثة: عبد الله بن خليل الحرستاني، وعلي بن أحمد المرداوي، وعمر بن محمد .. أخبرنا جماعة كثيرون منهم الحافظان أبو الحجاج المزي، وأبو محمد بن المحب، وابن عبد .. أخبرنا أبو الحسن بن البخاري، أخبرتنا ست الكتبة نعمة ابنة علي بن الطراح، أخبرنا أبو شجاع عمر بن محمد البسطامي، أخبرنا أبو القاسم أحمد بن محمد الحلبي، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا سفيان بن وكيع، أخبرنا جميع بن عمر العجلي، أخبرني رجلٌ من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: قال الحسين بن علي رضي الله عنهما:
سألت أبي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخابٍ ولا فحاش، ولا عيابٍ ولا مشاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه راجيه ولا يخيب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيبه ولا يعيره، ولا يطلب عورته، لا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، لا(1/24)
يتنازعون عنده الحديث. من تكلم عنده أنصتوا [له] حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم ويقول: ((إذا رأيتم طالب حاجةٍ يطلبها فأرفدوه)). ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحدٍ حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهيٍ أو قيام.
7- أخبرنا ابن السليمي وغيره، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا أبو عبد الله البخاري، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد قال:
جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردةٍ، فقال سهلٌ للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي شملة. فقال سهل: هي شملةٌ منسوجةٌ فيها حاشيتها. فقالت: يا رسول الله، أكسوك هذه.
فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها. فلبسها، فرآها عليه رجلٌ من أصحابه فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه فاكسنيها، فقال: ((نعم)).
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها وقد سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه. وفي رواية: لا يرد سائلاً.
فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلني أكفن فيها.
8- وبه إلى البخاري، حدثنا علي بن عياش، حدثنا أبو غسان،(1/25)
حدثني محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((كل معروفٍ صدقة)).
9- قرأت على شيخنا الحبال، والشهاب الفولاذي، قال الأول: أخبرنا ابن ناصر الدين، قال هو والثاني: أخبرنا التاج بن بردس، أخبرنا ابن الخباز، أخبرنا أبو محمد الإربلي، أخبرنا أبو الحسن الطوسي، أخبرنا أبو عبد الله الفراوي، أخبرنا عبد الغافر الفارسي، حدثنا محمد الجلودي، حدثنا أبو إسحاق الزاهد، أخبرنا مسلم بن الحجاج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه. من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه [بها] كربةً من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)).
10- وبه إلى مسلم: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا ابن المبارك وابن إدريس وأبو أسامة، كلهم عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/26)
((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً)).
11- وبه إلى مسلم: حدثنا محمد [بن عبد الله] بن نمير، حدثنا أبي، عن زكريا، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
وفي رواية: ((المسلمون كرجلٍ واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه، اشتكى كله)).
12- أخبرنا جدي وغيره إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، كذلك أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا ابن طبرزد، أخبرنا القاضي أبو بكر الأنصاري، أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، أخبرنا أبو عبد الله بن ماسي، حدثنا أبو مسلم، حدثنا أبو عبد الله الأنصاري، حدثنا جعفر بن أحمد، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شعيب، أخبرني سعيد بن بشير،(1/27)
عن أبان بن أبي عياش، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ يأتي وكر طائرٍ إذا فرخ، فيأخذ فرخيه، فشكا ذلك الطير إلى الله عز وجل ما يصنع ذلك الرجل، فأوحى الله عز وجل إليه: إن عاد فسأهلكه. فلما أفرخ خرج ذلك الرجل كما كان يخرج، وأخذ سلماً. فلما كان في طريق القرية، لقيه سائلٌ فأعطاه رغيفاً من زاده، ثم قضى حتى أتى ذلك الوكر، فوضع سلمه، ثم صعد فأخذ الفرخين، وأبواهما ينظران إليه، فقالا: يا رب إنك وعدتنا أن تهلكه إن عاد، وقد عاد فأخذهما ولم تهلكه.
فأوحى الله تعالى إليهما: أولم تعلما أني لا أهلك أحداً تصدق في يومٍ بصدقة ذلك اليوم بميتة سوء؟)).
13- أخبرنا ابن السليمي وغيره، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك، عن صفوان بن سليم، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل)).
وفي رواية عن أبي هريرة: ((كالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر)).(1/28)
14- وبه إلى البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثني عبد العزيز بن أبي حازم، حدثني أبي، سمعت سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، وقال بأصبعيه: السبابة والوسطى.
15- وبه إلى البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((على كل مسلمٍ صدقة)).
قالوا: فإن لم يجد؟.
قال: ((فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق)).
قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟.
قال: ((فيعين ذا الحاجة الملهوف)).
قالوا: فإن لم يفعل؟.
قال: ((فيأمر بالخير))، أو قال: ((بالمعروف)).
قالوا: فإن لم يفعل؟
قال: ((فيمسك عن الشر فإنه له صدقة)).
16- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن بردس كذلك،(1/29)
أخبرنا ابن الخباز، أخبرنا أبو الفضل السلامي، أخبرنا أبو علي بن البنا، حدثنا أبو الحسن البندنيجي، أخبرنا ابن وصيف، حدثنا علي بن ..، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا موسى بن إبراهيم، حدثنا موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله تعالى خلق خلقاً لحوائج الناس، فهم الآمنون يوم القيامة)).
17- قرأت على الشهاب الفولاذي، أخبرك التاج بن بردس، أخبرنا ابن الخباز، أخبرنا أبو محمد الإربلي، أخبرنا أبو الحسن الطوسي، أخبرنا أبو عبد الله الفراوي، أخبرنا الفارسي، أخبرنا الجلودي، أخبرنا أبو إسحاق الزاهد، أخبرنا مسلم بن الحجاج، حدثني أمية بن بسطام، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا روح، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((لا يستر الله على عبدٍ في الدنيا إلا ستره يوم القيامة)).(1/30)
18- وبه إلى مسلم: حدثنا حسن بن علي، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي والليث بن سعد، [جميعاً]، عن يزيد بن عبد الله، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:
أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمارٌ يتروح عليه إذا مل ركوب الراحلة، وعمامةٌ يشد بها رأسه. فبينا هو يوماً على ذلك الحمار، إذ مر به أعرابي، فقال: ألست [ابن] فلان ابن فلان؟ قال: بلى. فأعطاه الحمار وقال: اركب هذا. والعمامة، قال: اشدد بها رأسك.
فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تروح عليه، وعمامةً كنت تشد بها رأسك؟.
فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي)) وإن أباه كان صديقاً لعمر رضي الله عنه.
19- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن البالسي، كذلك أخبرنا المزي، أخبرنا ابن الأنماطي، أخبرنا أبو الحسن بن سيدهم، أخبرنا أبو الطاهر بن موهوب، أخبرنا أبو الفتح سلطان بن إبراهيم، أخبرنا أبو الحسين ..، أخبرنا أبو محمد بن النحاس، أخبرنا أبو القاسم البزاز، حدثنا محمد بن عبد الله..، حدثنا زهير بن عباد، حدثنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العباد أفضل وأحب إلى الله عز وجل؟
قال: ((أنفع الناس للناس. إن من أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن)).(1/31)
20- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازةً، أخبرنا ابن المحب وابن البالسي، كذلك أخبرنا المزي، أخبرنا أبو إسحاق الواسطي، أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا ابن التركي، أخبرنا ابن قريش، أخبرنا أبو الحسن بن الحمامي، أخبرنا أبو بكر النجاد، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا جدي عبيد الله بن الوازع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((خلقان يحبهما الله عز وجل، وخلقان يبغضهما الله عز وجل. فأما اللذان يحبهما: فالسخاء والسماحة، وأما اللذان يبغضهما: سوء الخلق والبخل. وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله على قضاء حوائج الناس)).
21- قرئ على ابن جوارش وأنا أسمع: أخبركم ابن المحب، أخبرنا أبو بكر بن عبد الدائم، أخبرنا أبو عبد الله الإربلي، أخبرنا أبو الحسن بن عساكر، أخبرنا أبو طالب بن محمد، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عبد الله الدقاق، أخبرنا أبو العباس بن مسروق، أخبرنا البرجلاني، حدثنا أبو إسحاق الضرير، حدثنا أبو عبيدة الناجي، سمعت الحسن يقول:(1/32)
الحياء والتكرم خصلتان من خصال الخير، لم يكونا في عبدٍ إلا رفعه الله تعالى بهما.
22- أخبرنا القطب الخيضري مناولةً وغيره إجازةً، أخبرنا ابن حجر، أخبرنا أبو المعالي، أخبرتنا عائشة بنت علي، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو القاسم البوصيري وأبو عبد الله الأرتاحي، أخبرنا أبو الحسن بن الفراء، أخبرنا أبو القاسم الضراب، أخبرنا أبي، أخبرنا الدينوري، حدثنا ابن أبي موسى، حدثني أحمد بن أعين، عن عمرو بن جميع، عن يحيى بن سعيد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إن الله تعالى خلق خلقاً لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله يوم القيامة)).
23- أخبرنا جدي وابن مقبل إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، كذلك أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا أبو القاسم الحرستاني، أخبرنا أبو محمد السلمي، أخبرنا أبو محمد الكناني، أخبرنا أبو القاسم تمام بن محمد الرازي، أخبرنا أبو علي بن حبيب، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، حدثنا معاوية بن يحيى، حدثنا الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/33)
((إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد، فمن بخل بتلك المنافع عن العباد نقل الله تلك النعمة عنهم وحولها إلى غيرهم)).
24- وبه إلى الرازي: أخبرنا أبو علي الثمامي، حدثنا أبو خليفة، حدثنا القعنبي، عن سلمة بن وردان، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن لله عباداً اختصهم بقضاء حوائج الناس، آلى على نفسه ألا يعذبهم بالنار، فإذا كان يوم القيامة خلوا مع الله عز وجل يحدثهم ويحدثونه، والناس في الحساب)).
25- أخبرنا جماعة من شيوخنا إجازة، أخبرنا المحب، كذلك أخبرنا أبو الفداء الحموي، أخبرنا أبو عمرو القرشي، أخبرنا السلفي، قرأت على عبيد الله الزهري: حدثكم أبو عبد الرحمن الواسطي، حدثنا محمد بن وزير،(1/34)
حدثنا أحمد بن معدان، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ما عظمت نعمة الله عز وجل على عبدٍ إلا عظمت مؤنة الناس عليه، فمن لم يحتمل تلك المؤنة فقد عرض نعمة الله عز وجل للزوال)).
26- أخبرنا جدي إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، كذلك أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا أبو القاسم الحرستاني، أخبرنا أبو محمد السلمي، أخبرنا أبو محمد الكيال، أخبرنا أبو القاسم الرازي، أخبرنا أبو الحسن ..، حدثنا محمد الغلابي، حدثنا العباس بن بكار، حدثنا محمد بن زياد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((شاب سفيه سخي أحب إلى الله من شيخٍ بخيلٍ عابد. إن السخي قريبٌ من الله، قريبٌ من الجنة، بعيدٌ عن النار. وإن البخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الجنة، قريبٌ من النار)).(1/35)
27- وفي كتاب الفردوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((إن الله تعالى يأمر بالكافر السخي إلى جهنم، فيقول لمالك خازن جهنم: عذبه، وخفف عنه العذاب على قدر سخائه الذي كان في دار الدنيا)).
28- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن المحب، كذلك أخبرنا ابن أبي الوحش، أخبرتنا فاطمة بنت الملك، أخبرنا ابن طبرزد، أخبرنا أبو غالب بن البنا، أخبرنا أبو الحسين بن الآبنوسي، أخبرنا عبيد الله بن حبابة، أخبرنا أبو القاسم البغوي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال:
كنت بالشماسية والمأمون يجري الحلبة، فسمعته يقول ليحيى بن أكثم وهو ينظر إلى كثرة الناس: أما ترى، أما ترى؟ ثم قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((الخلق كلهم عيال الله، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله)).(1/36)
29- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرنا ابن المحب، كذلك أخبرنا أبو الحجاج المزي، حدثنا عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الملك المقدسي، حدثنا أبو محمد عبد الجليل، حدثنا أبو المحاسن البرمكي، حدثنا أبو الحسين بن النقور، أخبرنا القاسم بن الجراح، أخبرنا أبو الحسن محمد بن نوح، أخبرنا عبد الله بن محمد الحارثي، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، حدثنا جهم بن عثمان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن لله عز وجل عبادًا يفزع الناس إليهم في قضاء حوائجهم، أولئك الآيسون من عذاب الله)).
30- أخبرنا جماعة من شيوخنا، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال:
آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء،(1/37)
فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟.
قالت: أخوك أبو الدرداء ليست له حاجةٌ في الدنيا.
فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كل، فإني صائم.
قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل.
فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم.
فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم.
فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن.
فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، [ولنفسك عليك حقاً]، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((صدق سلمان)).
31- وبه إلى البخاري: حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد الجريري، عن أبي عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما:
أن أبا بكر تضيف رهطاً، فقال لعبد الرحمن: دونك أضيافك، فإني منطلقٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فافرغ من قراهم قبل أن أجيء.
فانطلق عبد الرحمن، فأتاهم بما عنده، فقال: اطعموا. فقالوا: أين رب منزلنا؟ قال: اطعموا. قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجيء رب منزلنا. قال: اقبلوا عنا قراكم، فإنه إن جاء ولم تطعموا لنلقين منه.(1/38)
فأبوا، فعرفت أنه يجد علي. فلما جاء تنحيت عنه. فقال: ما صنعتم؟.
فأخبروه، فقال: يا عبد الرحمن! فسكت. ثم قال: يا عبد الرحمن! فسكت. فقال: يا غنثر أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لما جئت.
فخرجت، فقلت: سل أضيافك. فقالوا: صدق، أتانا به.
قال: فإنما انتظرتموني؟ والله لا أطعمه الليلة!.
فقال الآخرون: والله لا نطعمه حتى تطعمه.
قال: لم أر في الشر كالليلة! ويلكم، ما أنتم، ألا تقبلون عنا قراكم؟ هات طعامك.
فجاءه، فوضع يده فقال: بسم الله. الأولى للشيطان. فأكل وأكلوا.
32- وبه إلى البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).(1/39)
33- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن الشرائحي، أخبرنا ابن أميلة، أخبرنا ابن البخاري، أخبرنا ابن طبرزد، أخبرنا أبو بدر الكرخي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو عمر الهاشمي، أخبرنا أبو علي اللؤلؤي، أخبرنا أبو داود السجستاني، حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، قال عثمان: وجرير. وحدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا أسباط، عن الأعمش، عن أبي صالح. وقال واصل: حدثت عن أبي صالح، ثم اتفقوا عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((من نفس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
34- وبه إلى أبي داود: حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا ابن وهب، عن سليمان، يعني ابن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه)).
35- قرأت على الشيخ عمر اللؤلؤي، أخبرك ابن عروة، أخبرنا أبو(1/40)
العباس المحبوبي، أخبرتنا أم أحمد البعلية، أخبرنا أبو محمد المقدسي، أخبرنا ابن المهتدي، أخبرنا أبو طالب اليوسفي، أخبرنا أبو علي بن المذهب، أخبرنا أبو بكر القطيعي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبو بكر الباهلي، حدثنا الحكم بن سنان، حدثنا مالك بن دينار، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أحب العباد إلى الله أنفعهم لعباده)).
36- وبه إلى عبد الله: حدثنا أبي، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن الشعبي قال: كان عيسى بن مريم عليه السلام يقول:
إن الإحسان ليس أن تحسن إلى من أحسن إليك، إنما تلك مكافأةٌ بالمعروف، ولكن الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك!.
37- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن الحرستاني وابن البالسي وعلي بن أحمد المرداوي وغيره إجازةً، أخبرنا المزي، أخبرنا ابن البخاري. ح: وأخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن عروة، أخبرنا ابن الرحبي، أخبرنا ابن البخاري. ح: وأخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرتنا ابنة الشرائحي، أخبرنا ابن أميلة، أخبرنا ابن البخاري، أخبرنا أبو حفص بن طبرزد وأبو الحسن علي بن أبي الكرم بن البنا، أخبرنا أبو الفتح الكروخي، أخبرنا أبو عامر محمود بن القاسم الأزدي، وأبو نصر الترياقي، وأبو بكر(1/41)
الغورجي، أخبرنا أبو محمد المروزي، أخبرنا أبو العباس المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا محمود، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا خالد بن طهمان أبو العلاء، حدثني حصين قال:
جاء سائلٌ فسأل ابن عباس، فقال ابن عباسٍ للسائل: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: وتصوم رمضان؟ قال: نعم.
قال: سألت، وللسائل حق، إنه لحق علينا أن نصلك.
فأعطاه ثوباً ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((ما من مسلمٍ كسا مسلماً ثوباً إلا كان في حفظ الله، ما دام عليه منه خرقة)).
38- أخبرنا ابن السليمي وغيره، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزري، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت:
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى(1/42)
جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال: ((ما أنا بقارئ)). قال:
فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم}.
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: ((زملوني زملوني)). فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة، وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)).
فقالت خديجة: كلا والله، ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي! ماذا ترى؟.
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس(1/43)
الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أومخرجي هم؟)).
قال: نعم، لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.
39- وبه إلى البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار: بكرةً وعشية. فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟.
فقال أبو بكر: أخرجني قومي، وأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.
قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جارٌ، فارجع فاعبد ربك ببلادك.(1/44)
فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟!.
فأنفذت قريشٌ جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا.
قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكرٍ يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا بالقراءة في غير داره.
ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون منه، وينظرون إليه. وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن. فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، [وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره] فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكرٍ الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجلٍ عقدت له.(1/45)
قال أبو بكرٍ: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بمكة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أريت دار هجرتكم، رأيت سبخةً ذات نخلٍ)) بين لابتين، وهما الحرتان.
فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة. وتجهز أبو بكرٍ مهاجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي)).
قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت [وأمي]؟ قال: ((نعم)).
فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
40- وبه إلى البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال:
خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق، فلحقت عمر امرأةٌ شابةٌ فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبيةً صغاراً والله ما ينضجون كراعاً، ولا لهم زرعٌ ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت(1/46)
خفاف بن أيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسبٍ قريب.
ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً، وحمل بينهما نفقةً وثياباً، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير.
فقال رجلٌ: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها.
فقال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصناً زماناً فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهماننا فيه.
41- قرأت على الشمس اللؤلؤي الكتبي الشافعي، وقرئ على الشهاب بن زيد وأنا أسمع: أخبرتكما عائشة بنت عبد الهادي، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن اللتي، أخبرنا السجزي، أخبرنا ابن عبد الله الفارسي، أخبرنا أبو بكر الأنصاري، أخبرنا أبو القاسم البغوي، أخبرنا أبو الجهم العلاء بن موسى، حدثنا سوار، عن كليب بن وائل، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أيما مسلمٍ يصافح أخاه، ليس في صدر واحدٍ منهما على أخيه(1/47)
حنةٌ، لم تفرق أيديهما حتى يغفر لهما ما مضى من ذنوبهما. ومن نظر إلى أخيه نظرة مودة، ليس في قلبه أو صدره حنةٌ، لم يرجع إليه طرفه حتى يغفر الله لهما ما مضى من ذنوبهما)).
42- قرأت على الشهاب الفولاذي: أخبركم التاج بن بردس، أخبرنا ابن الخباز، أخبرنا الإربلي، أخبرنا الطوسي، أخبرنا الفراوي، أخبرنا الفارسي، أخبرنا الجلودي، أخبرنا أبو إسحاق الزاهد، أخبرنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال:
أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسانٍ منهم مائةً من الإبل. وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
فما كان بدرٌ ولا حابسٌ ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئٍ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع
قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائةً [من الإبل].
43- وبه إلى مسلم: حدثنا أبو الربيع الزهراني وقتيبة، كلاهما عن حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أفضل دينارٍ ينفقه الرجل: دينارٌ ينفقه على عياله، ودينارٌ ينفقه الرجل(1/48)
على دابته في سبيل الله عز وجل، ودينارٌ ينفقه على أصحابه في سبيل الله عز وجل)).
قال أبو قلابة: فبدأ بالعيال.
قال أبو قلابة: وأي رجلٍ أعظم أجراً من رجلٍ ينفق على عيالٍ صغارٍ يعفهم، أو ينفعهم الله به، ويغنيهم؟.
44- وبه إلى مسلم: حدثنا محمد بن المثنى، أخبرنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، عن المنذر بن جرير، عن أبيه قال:
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاء قومٌ حفاةٌ عراةٌ مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر. فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج، فأمر بلالاً، فأذن، وأقام، ثم خطب فقال: أيها الناس! {اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ} إلى آخر الآية: {إن الله كان عليكم رقيباً}. والآية التي في الحشر: {اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ واتقوا الله}. تصدق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة.(1/49)
قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصرةٍ، كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت عنها.
قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعامٍ وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل، كأنه مذهبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من سن في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ. ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ)).
45- قرئ على جدي وأنا أسمع: أخبركم الصلاح بن أبي عمر، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا حنبل الرصافي، أخبرنا أبو القاسم هبة الله، أخبرنا أبو علي التميمي، أخبرنا أبو بكر القطيعي، أخبرنا أبو عبد الرحمن بن أحمد بن حنبل، أخبرنا أبي، حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا الوليد بن الوليد، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من أظل رأس غازٍ أظله الله يوم القيامة، ومن جهز غازياً حتى يستقل بجهازه كان له مثل أجره، ومن بنى مسجداً يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتاً في الجنة)).(1/50)
46- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن المحب. كذلك أخبرنا القاضي سليمان، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الغني، أخبرنا شيخ الإسلام موفق الدين، أخبرنا أبو الفتح بن عبد الباقي، أخبرنا أبو الحسين بن عبد القادر، أخبرنا أبو القاسم بن بشران، أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا أبو عمر الضرير، حدثنا مغيرة بن زيد، عن الحسن قال:
احتاج إبراهيم عليه السلام حاجةً شديدة، فقال لسارة: أعطيني الجراب حتى آتي رجلاً في هذه القرية أستسلفه طعاماً.
قال: فأتاه فسأله، فقال له: يا أبا إسحاق، من استجاب ما لم يطلب .. من .. فلم يعطه شيئاً.
فمر بكثيبٍ من رمل، فملأ منه الجراب، واستحيا أن يدخل على سارة وليس معه شيء. فوضعه في مخدعٍ لها، ثم خرج. ثم رجع وهي تعجن، فقال لها: ما هذا الدقيق؟ قالت: هذا الذي جئت به. قال: ما كان إلا رملاً. قالت: قد حوله الله عز وجل دقيقاً.
قال: فأثري إبراهيم بعد ذلك وافتقر ذلك الرجل. فجاء إلى إبراهيم فقال: يا أبا إسحاق، قد أعلم أن يدي سوداء، وقد أصابتنا حاجةٌ فأسلفنا.
قال: مرحباً، لنعطينك ولنأخذن بيدك.
قال: جزاك الله خيراً، كان الله أعلم بك حين اتخذك خليلاً!.
47- أخبرنا جماعةً من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن المحب. كذلك أخبرتنا زينب بنت الكمال، أخبرنا أبو الحجاج الدمشقي، أخبرنا أبو طاهر الخشوعي، أخبرنا أبو محمد بن الأكفاني، أخبرنا عبد العزيز الكيالي، أخبرنا أبو الحسن الضراب، أخبرنا أبو الفوارس الشيرازي،(1/51)
أخبرنا أبو محمد السمرقندي وأبو الفضل البلخي، حدثنا أبو القاسم الجرجاني، حدثنا محمد بن إسماعيل الخطيب، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا عبد الملك بن إدريس، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من أكرم غريباً في غربته وجبت له الجنة. الغريب في غربته كالمجاهد في سبيل الله تعالى، يرفع الله بكل قدم درجة، ويكتب له خمسون حسنة. أكرموا الغرباء، إن لهم شفاعةً يوم القيامة، لعلكم تنجوا بشفاعتهم)).
48- قرأت على فاطمة ابنة الحرستاني، أخبرك ابن الحرستاني وابن البالسي وأحمد بن علي المرداوي، أخبرنا المزي، أخبرنا أبو العز بن الصيقل، أخبرنا أبو علي الواسطي، أخبرنا أبو سعد محمد بن يحيى، أخبرنا عمر بن عبد الكريم، أخبرنا أبو مسعود البجلي، أخبرني أبو القاسم القزويني، أخبرنا عباس (؟) بن محمد، حدثني عبد الله بن موسى الجوهري، عن أحمد بن علي الخراز، سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: حدثني شيخٌ بساحل دمشق يقال له علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي، حدثني أبي عن جدي قال:
وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعةٍ من قومي، فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزينا، فقال: ((ما أنتم؟))، فقلنا: مؤمنين.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن لكل قولٍ حقيقة، فما حقيقة قولكم وإيمانكم)).
قلنا: خمس عشرة خصلة، خمسٌ منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن(1/52)
بها، وخمسٌ أمرتنا رسلك أن نعمل بها، وخمسٌ تخلقنا بها في الجاهلية ونحن عليها، إلا أن تكره منها شيئاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تؤمنوا بها؟)).
قلنا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت.
قال: ((وما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها؟)).
قلنا: أمرتنا رسلك أن نقول: لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
قال: ((وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية؟)).
قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر على البلاء، والصدق في مواطن اللقاء، والصبر عند شماتة الأعداء، وإكرام الضيف.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((علماء حكماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا أزيدكم خمساً فيتم لكم عشرون خصلة. إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيءٍ غداً عنه تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون)).
قال أبو سليمان: قال لي علقمة بن يزيد: فانصرف القوم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حفظوا وصيته وعملوا بها. والله يا أبا سليمان ما بقي من أولئك النفر وأولادهم أحدٌ غيري.
قال: وبقي إلى أيامٍ قلائل ثم مات، رضي الله عنه.(1/53)
49- قرئ على النظام وأنا أسمع: أخبركم الحافظ أبو بكر بن المحب إجازة، أخبرتنا زينب بنت الكمال، أخبرنا محمد بن عبد الهادي إجازةً، أخبرتنا عجيبة بنت محمد، أخبرنا أبو موسى المديني، أخبرنا أبو عبد الله الخلال، حدثنا سعيد بن أبي سعيد، حدثنا أبو حامد الكندي، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد، حدثنا علي بن محمد القوسي، حدثنا أبو زكريا الرملي، حدثنا يزيد بن هارون، عن نوح بن قيس، عن سلامة الكندي، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي رضي الله عنه قال:
جاء رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي إليك حاجة، رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك.
فقال علي: اكتب على الأرض، فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك.
فكتب: إني محتاج. فقال علي رضي الله عنه: علي بحلة. فأتي بها، فأخذها الرجل، فلبسها، ثم أنشأ يقول:
كسوتني حلةً تبلى محاسنها ... فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمةً ... ولست تبغي بما قد نلته بدلا(1/54)
إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه ... كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في زهوٍ توافقه ... وكل عبدٍ سيجزى بالذي عملا
قال علي رضي الله عنه: علي بالدنانير. فأتي بمائة دينار، فدفعها إليه، فقال الأصبغ: فقلت: يا أمير المؤمنين، حلةً ومائة دينار؟ فقال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنزلوا الناس منازلهم)). وهذه منزلة هذا الرجل عندي.
50- قرئ علي للشهاب بن زيد وأنا أسمع: أخبرتكم عائشة بنت عبد الهادي: أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن اللتي، أخبرنا أبو الفتوح محمد بن أبي جعفر الطائي، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن أحمد، أخبرنا أبو عثمان الصابوني، حدثنا أبو عمرو بن الفرات (؟)، حدثنا عمران بن موسى، حدثنا أبو بكر السلمي، حدثنا أحمد بن نصر، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، حدثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، قال:
بينما رجلٌ وامرأةٌ في بني إسرائيل يتعشيان، فحضرهما سائلٌ فقال: تصدقوا على المسكين يرحمكم الله. وقد رفعت المرأة اللقمة لتضعها في فيها، فردت اللقمة عن فيها، وقامت حتى وضعتها في فم المسكين.
فلما كان من الغد غدا زوجها إلى مزرعةٍ له، وكان زراعاً، فلما تعالى النهار قامت المرأة فحملت طعام زوجها وبنيها معها، فمرت ببقولٍ في(1/55)
الجبال، فوضعت بنيها وجعلت تتخير البقول. فجاء ذئبٌ فأخذ بنيها، فرفعت يدها إلى السماء وقالت: اللهم كما رددت اللقمة من فمي فوضعتها في فم السائل، رد علي ابني.
قال: فعطف الذئب حتى وضع الصبي، وقال لها: إن هذه اللقمة بتلك اللقمة.
51- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، حدثنا مسدد، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أربعون خصلةً أعلاهن منيحةُ العنز، ما من عاملٍ يعمل بخصلةٍ منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة)).
قال حسان: فعددنا ما دون منيحة العنز، من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق، ونحوه، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة.
52- قرئ على ابن جوارش وأنا أسمع: أخبركم ابن المحب، أخبرنا أبو بكر بن عبد الدائم، أخبرنا أبو عبد الله الإربلي، أخبرنا أبو الحسن بن عساكر، أخبرنا أبو طالب، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عبد الله الدقاق، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا أبو شيخ البرجلاني، حدثني علي بن عبد الله، حدثنا سفيان الثوري قال:(1/56)
قال عمر لابن عياشٍ المنتوف، وكان قد لقي منه شدةً وأذى، فقال: يا هذا، لا تغرق في شتمنا، ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله عز وجل فينا بأكثر من أن نطيع الله تعالى فيه.
53- وبه إلى البرجلاني: حدثنا زيد بن الحباب قال: حدثنا مندل بن علي، عن عبد الله بن مروان، عن [ابن] أبي نعم:
أن رجلاً من آل عمر نازع عاصم بن عمر في أرضٍ كانت بينهما، فقال له الرجل: لقد هممت بكذا وكذا.
فقال له عاصم، وكان من الحلماء: أي أخي، وبلغ بك الأمر هذا؟ اذهب فهي لك.
فاستحيا الرجل، فرجعت إليه نفسه.
54- وبه إلى البرجلاني: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني عبد الله بن الوليد، عن أبي سليمان الليثي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((أطعموا طعامكم الأتقياء، ولوا معروفكم المؤمنين)).(1/57)
55- وبه إلى البرجلاني: حدثنا داود بن محبر، عن ربيعة بن كلثوم قال: سمعت الحسن يقول:
أطعم طعامك من تحب في الله عز وجل.
56- وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر العماني، حدثنا أبو سعيد الكوفي، حدثنا ضرار بن صرد، حدثنا عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن ابن زياد النخعي قال: قال علي بن أبي طالب:
يا سبحان الله، ما أزهد كثيراً من الناس في خير! عجباً لرجلٍ يجيئه أخوه المسلم في الحاجة، فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عذاباً، لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح.
فقام إليه رجلٌ فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.(1/58)
قال: نعم، وما هو خيرٌ منه، لما أتي بسبايا طيئ وقفت جارية حمراء، لعساء، دلفاء، عيطاء، شماء الأنف، لفاء الفخذين، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خذلة الساقين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.
قال: فلما رأيتها أعجبت بها، وقلت: لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها في سهمي.
فلما تكلمت أنسيت جمالها، لما رأيت من فصاحتها، فقالت: يا محمد، إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بن أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجةٍ قط. أنا ابنة حاتم طيئ.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((يا جارية، هذه صفة المؤمنين، حقاً لو كان أبوك مؤمناً لترحمنا عليه، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق)).
فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله، والله يحب مكارم الأخلاق؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((والذي نفسي بيده لا يدخل أحدٌ الجنة إلا بحسن الخلق)).(1/59)
57- قرأت على الشهاب ابن الشريفة: أخبرك المشايخ الثلاثة: ابن الحرستاني، وابن البالسي، والمرداوي إجازة، أخبرنا أبو محمد بن المحب. كذلك أخبرنا أبو الحسن الحلبي، أخبرنا إبراهيم بن خليل، أخبرنا أبو الفضل الجتروي (؟)، أخبرنا أبو الحسن السلمي، أخبرنا أبو القاسم المصيصي، أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر، أخبرنا عمي أبو علي معروف، أنشدنا أبو بكر بن دريد لأبي الأسود:
وعد من الرحمن فضلاً ونعمةً ... عليك إذا ما جاء للخير طالب
وإن امرأً لا يرتجى الخير عنده ... يكن هيناً ثقلاً على من يصاحب
ولا تمنعن ذا حاجةٍ جاء طالباً ... فإنك لا تدري متى أنت راغب
رأيت التوا هذا الزمان بأهله ... وبينهم فيه تكون النوائب
58- وقرأت عليه: أخبرك المشايخ الثلاثة إجازة، أخبرنا أبو الحجاج(1/60)
المزي. كذلك أخبرنا ابن الصيقل، أخبرنا أبو الفرج بن كليب، أخبرنا أبو السعود بن المجلي، أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سعيد، حدثنا أبو علي الكوكبي، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا أبو عائشة، عن أبيه قال:
كانت لرجلٍ من قيسٍ غيلان جارية، وكان بها معجباً، ولها مكرماً. فأصابته حاجةٌ وجهد، فقالت له: لو بعتني، فإن نلت طائلاً عدت به عليك.
فتعرض الرجل لعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي القرشي ليبيعها إياه، فأعجبته، فأخذها بمائة ألف درهم.
فلما نهضت لتدخل أنشأت تقول:
هنيئاً لك المال الذي قد أصبته ... ولم يبق في كفي إلا تفكري
أقول لنفسي وهي في كرب عشيةٍ ... أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري
إذا لم يكن للأمر عندك حيلةٌ ... ولم تجدي بداً من الصبر فاصبري
فأجابها مولاها:
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيءٌ سوى الموت فاعذري
أؤوب بحزنٍ من فراقك موجع ... أناجي به قلباً طويل التفكر
عليك سلامٌ، لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر(1/61)
فقال ابن معمر: خذ بيدها، فهي لك وثمنها.
وفي رواية: قد شئت، خذ بيدها، فهي لك وثمنها.
59- وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عمر بن بكير، عن أبي عبد الرحمن الطائي، عن أبيه، عن ملحان بن عركي بن حلبس الطائي، عن أبيه، عن جده، وكان أخا عدي بن حاتم لأمه، قال:
قيل لنوار امرأة حاتم: حدثينا عن حاتم.
قالت: كل أمره كان عجباً! أصابتنا سنةٌ حصت كل شيء، فاقشعرت لها الأرض، واغبرت لها السماء، وضنت المراضع على أولادها، وراحت الإبل هي وأولادها جدباء حدابير، ما تبض بقطرة، وجلف المال. وإنا لفي ليلةٍ صنبرة، بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى الأصبية من الجوع، عبد الله، وعدي، وسفانة. فوالله إن وجدنا شيئاً نعللهم به. فقام إلى أحد الصبيين فحمله، وقمت إلى الصبية فعللتها. فوالله إن سكتا إلا بعد هدأةٍ من الليل. ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد. ثم افترشنا قطيفةً لنا شاميةً ذات خمل، فأضجعنا الصبيان عليها، ونمت أنا وهو في حجرة، والصبيان بيننا. ثم أقبل علي يعللني لأنام، وعرفت ما يريد، فتناومت له، فقال: ما لك، أنمت؟ فسكت. فقال: ما أراها إلا قد نامت. وما بي نوم.(1/62)
فلما ادلهم الليل، وتهورت النجوم، وهدأت الأصوات، وسكنت الرجل، إذا جانب البيت قد رفع. فقال: من هذا؟ فولى. حتى إذا قلت قد أسحرنا أو كدنا عاد. فقال: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة يا أبا عدي، وما وجدت على أحدٍ معولاً غيرك. أتيتك من عند أصبيةٍ يتعاوون عواء الذئاب من الجوع. قال: أعجليهم علي.
قالت النوار: [فوثبت] فقلت: ماذا صنعت، والله لقد تضاغى أصبيتك فما وجدت ما تعللهم به، فكيف بهذه وبولدها؟.
فقال: اسكتي، فوالله لأشبعنك وإياهم إن شاء الله.
فأقبلت تحمل اثنين، ويمشي جنبتيها أربعة، كأنما نعامةٌ حولها رئالها. فقام إلى فرسه، فوجأ بحربته في لبتها، ثم قدح زنده وأورى ناره، ثم جاء بمدية فكشط عن جلده، ثم دفع المدية إلى المرأة فقال: دونك. ثم قال: ابعثي صبيانك. فبعثتهم. ثم قال: [سوءة]! تأكلون شيئاً دون أهل الصرم؟.
فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه، والتفع بثوبه، ثم اضطجع ناحيةً ينظر إلينا. لا والله ما ذاق مزعة، وإنه لأحوجهم إليه. وأصبحنا وما على الأرض منه إلا عظمٌ أو حافر!.(1/63)
60- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري. أخبرنا أبو عبد الله البخاري، حدثنا أحمد بن أبي بكر قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبد الله الجهني، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
أن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة. وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير، ولا يخدمني فلانٌ ولا فلانة. وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني. وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فيشقها، فنلعق ما فيها.
61- وبه إلى البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود، عن فضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.
أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((من يضم))، أو: ((يضيف هذا؟)).
فقال رجلٌ من الأنصار: أنا.
فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني.(1/64)
فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاءً.
فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصبح سراجها، فأطفأته. فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين.
فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
((ضحك الله الليلة))، أو: ((عجب من فعلكما)).
فأنزل الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةً ومن يوق شح نفسه، فأولئك هم المفلحون}.
62- أخبرنا جدي وابن مقبل إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر. كذلك أخبرنا الفخر بن البخاري. كذلك أخبرنا أبو الفرج بن الجوزي، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، حدثنا أحمد بن ثابت، أخبرنا أبو الطيب الطبري، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي، حدثنا أبو إسحاق الطلحي، حدثني عبد الله بن القاسم قال:
عشق التيمي -وهو عبد الله بن أيوب الشاعر- جاريةً عند بعض النخاسين، فشكا وجده بها إلى أبي عيسى بن الرشيد، فقال أبو عيسى(1/65)
للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن التيمي يجد بجاريةٍ لبعض النخاسين، وقد كتب إلي بيتين يسألني فيهما.
فقال له: ما كتب به إليك؟ فأنشده:
يا أبا عيسى إليك المشتكى ... وأخو الصبر إذا عيل اشتكى
ليس لي صبر على هجرانها ... وأعاف المشرب المشتركا
فأمر له بثلاثين ألف درهم. فاشتراها.
63- وبه إلى ابن الجوزي: أخبرنا أبو منصور القزاز، حدثنا أبو بكر أحمد بن علي، حدثنا أبو القاسم الأزهري، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن الحسين، حدثني علي بن الجهم، عن أبيه قال:
أصبحت ذات يوم وأنا في غاية الضيق، فطلبت الخادم فلم أجده، ثم جاء، فقلت: أين كنت؟ فقال: كنت في احتيال شيءٍ لك وعلفٍ لدابتك. فوالله ما قدرت عليه، فقلت: أسرج لي.
فركبت، فلما صرت في سوق يحيى، إذا أنا بموكبٍ عظيم، وإذا الفضل بن يحيى بن خالد. فلما أبصرني قال: سر. فسرنا قليلاً، وحجز بيني وبينه غلام يحمل طبقاً على بابٍ يصيح بجارية. فوقف الفضل طويلاً. ثم قال: سر. ثم قال: تدري ما سبب وقفتي؟ قلت: إن رأيت أن تعلمني؟ قال: كانت لأختي جارية، وكنت أحبها حباً شديداً، وأستحي من أختي أن(1/66)
أطلبها منها. ففطنت أختي لذلك. فلما كان في هذا اليوم، لبستها أختي وزينتها، وبعثت بها إلي. فما كان في عمري يوم أطيب من يومي هذا. فلما كان في هذا الوقت، جاءني رسول أمير المؤمنين، فأزعجني وقطع علي لذتي. فلما صرت إلى هذا المكان، دعا هذا الغلام صاحب الطبق باسم تلك الجارية، فارتحت لندائه ووقفت.
فقلت: أصابك ما أصاب أخا بني عامر، حيث يقول:
وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها وكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
فقال لي: اكتب لي هذين البيتين.
فعدلت أطلب ورقةً أكتب له فيها فلم أجد. فرهنت خاتمي عند بقال، وأخذت ورقة فكتبتهما فيها، وأدركته بهما. فقال لي: ارجع إلى منزلك.
فرجعت، فقال لي الخادم: أعطني خاتمك أرهنه على قوتك. فقلت: قد رهنته. فما أمسيت حتى بعث إلي بثلاثين ألف درهمٍ جائزة، وعشرة آلاف درهم سلفاً من رزقٍ أجراه لي!.
64- وبه إلى ابن الجوزي: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، حدثنا أحمد بن علي بن ثابت، حدثنا أبو القاسم الأزهري، حدثنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد بن خلف المرزبان، حدثنا يعقوب النخعي، حدثنا علي بن زيد، حدثني إسحاق بن إبراهيم، حدثني أبي قال:(1/67)
حج الرشيد ومعه جعفر بن يحيى البرمكي، وكنت معهم، فلما صرنا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم قال لي جعفر بن يحيى البرمكي: أريد أن تنظر لي جارية ولا تبقي غايةً في حذاقتها بالغناء والضرب، والكمال في الظرف والأدب. وجنبني قولهم صفراء.
قال: فأرشدت إلى جاريةٍ لرجل، فدخلت عليه، فرأيت رسوم النعمة، وأخرجها إلي، فلم أر أجمل منها ولا أصبح ولا أدب. ثم تغنت أصواتاً فأجادتها، فقلت لصاحبها: قل ما شئت.
فقال: أقول لك قولاً ولا أنقص منه درهماً.
قلت: قل.
قال: أربعين ألف دينار؟
قلت: قد أخذتها، وأتشرط عليك نظرة.
قال: ذاك لك.
قال: فأتيت جعفر بن يحيى، فقلت: أصبت حاجتك على غاية الظرف والأدب والجمال، ونقاء اللون، وجودة الضرب والغناء، وقد اشترطت نظرة، فاحمل المال ومر بنا.
قال: فحمل المال على حمالين، وجاء جعفر مستخفياً، فدخلنا على الرجل، فأخرجها، فلما رآها جعفر أعجب بها، وعرف أن قد صدقته. ثم غنت فازداد بها عجباً، فقال لي: اقطع أمرها.
فقلت لمولاها: هذا المال قد وزناه ونقدناه، فإن قنعت، وإلا فوجه من شئت لينقده.
قال: بل أقنع بما قلتم.(1/68)
قال: فقالت الجارية: يا مولاي، في أي شيءٍ أنت؟
فقال: قد عرفت ما كنا فيه من النعمة، وما كنت فيه من انبساط اليد، وقد انقبضت عن ذلك لتغيير الزمان علينا، فقدرت أن تصيري إلى هذا الملك فتنبسطي في شهواتك وإراداتك.
فقالت الجارية: والله يا مولاي لو ملكت منك ما ملكت مني ما بعتك بالدنيا وما فيها، وبعد، فاذكر العهد!.
وكان قد حلف لها أن لا يأكل لها ثمناً.
قال: فتغرغرت عين المولى وقال: اشهدوا أنها حرةٌ لوجه الله تعالى، وأني قد تزوجتها وأمهرتها داري.
فقال لي جعفر بن يحيى: انهض بنا.
قال: فدعوت الحمالين ليحملوا المال، فقال جعفر: والله لا يصحبنا منه درهم!.
قال: ثم أقبل على مولاها فقال: هو لك، مباركٌ لك فيه، أنفقه علينا وعليك.
وقمنا فخرجنا.
65- قرأت على الشهاب بن الشريفة: أخبركم المشايخ الثلاثة إجازة، أخبرنا ابن المحب وبنت الكمال، أخبرنا عبد الرحمن بن مكي، أخبرنا جدي السلفي، أخبرنا أبو الحسن التستري، أخبرنا أبو عبد الله الديباجي، حدثنا محمد بن داود، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا بقية قال:(1/69)
دعونا إبراهيم بن أدهم إلى طعام أعددناه، وأهل حمص أهل كلفةٍ وأصحاب ألوان، فجاء يأكل من تلك الألوان، فلما كان بعد ليلتين دعانا، فقدم لنا ثردة خل وزيتٍ بقثاء، ثم قال: لو أن الناس فعلوا مثل هذا ما ثقل على رجلٍ يدعو، ولا ثقل على رجلٍ أن يجيب!.
66- قرئ على الشهاب بن زيد وأنا أسمع: أخبرتكم عائشة بنت عبد الهادي، أخبرنا الحسين بن أبي التائب، أخبرنا أبو عبد الله الثلجي، أخبرنا السلفي، أخبرنا أبو الخطاب بن البطر، أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه، أخبرنا أبو علي الصفار، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عاصم، عن حفص بن غياث قال:
طفت أنا وسفيان الثوري يوماً في الحديث، فمررنا بالأعمش، فقال: تتغدون؟ قلنا: نعم. قال: يا جارية هاتي غدائي.
قال: فجاءت برغيفين، فأكلناهما، ثم قال: يا جارية هات غداءك.
قال: فجاءت برغيفين، فأكلناهما، ثم قال: يا جارية هات غداء الشاة!.
67- أخبرنا القطب مناولةً وغيره إجازة، أخبرنا ابن حجر أخبرنا أبو المعالي، أخبرتنا عائشة بنت علي، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا البوصيري والأرتاحي، أخبرنا ابن الفراء، أخبرنا أبو القاسم الضراب، أخبرنا أبي، أخبرنا أبو بكر الدينوري، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا علي بن عبد الله، عن سفيان بن عيينة قال: قال ابن عباس:(1/70)
ثلاثةٌ لا أكافئهم: رجلٌ بدأني بالسلام، ورجلٌ أوسع لي في المجلس، ورجلٌ اغبرت قدماه في المشي إلي إرادة التسليم علي. فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل!.
قيل: ومن هو؟
قال: رجلٌ نزل به أمر، فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته، فأنزلها بي.
68- وبه إلى الدينوري: أنشدنا محمد بن موسى لأبي الجهم الكاتب:
أعاذلٌ ليس البخل مني سجيةً ... ولكن رأيت الفقر شر سبيل
لموت الفتى خيرٌ من البخل للفتى ... وللبخل خيرٌ من سؤال بخيل
69- وبه إلى الدينوري: أنشدنا إسماعيل بن يونس، أنشدنا الرياشي للخليل بن أحمد:
أبلغ سليمان أني عنه في سعةٍ ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
أسخو بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
الرزق عن قدرٍ لا الضعف يمنعه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
70- ومن أبيات ذي الإصبع العدواني:
ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً ... هشوا إلي ورحبوا بالمقبل(1/71)
وهم الذين إذا حملت حمالةً ... ولقيتهم فكأنني لم أحمل
71- قرئ على الشهاب بن زيد وأنا أسمع: أخبرتكم عائشة بنت عبد الهادي، أخبرنا الحسين بن أبي التائب، أخبرنا أبو عمرو بن خطيب القرافة، أخبرنا السلفي، أخبرنا أبو الغنائم النرسي، أخبرنا أبو عبد الله العلوي، حدثنا محمد بن عبد الله الشيباني، حدثنا الحسين بن علي، حدثنا عبد الأعلى النرسي قال:
قدمت على المتوكل بسرمرا، فدخلت عليه يوماً فقال: يا أبا يحيى، قد كنا هممنا لك بأمر. فتدافعت الأيام به.
فقلت: يا أمير المؤمنين، سمعت مسلم بن خالد المكي يقول سمعت جعفر بن محمد يقول: لم يشكر النعمة من لم يشكر الهمة. وأنشده:
لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا أذمك إن لم يمضه قدرٌ ... والشيء بالقدر المحتوم مصروف
فجذب الدواة فكتبها، ثم قال: ينجز لأبي يحيى ما كنا هممنا به، وهو كذا، ويضعف بخبره هذا.
72- وقال الدارقطني: حدثني القاضي أبو عبد الله المحاملي، حدثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثني غنيم بن ثوابة بن حميد الطائي، عن أبيه، عن جده قال:
قالت امرأة حاتم لحاتم: يا أبا سفانة، أشتهي أن آكل أنا وأنت طعاماً وحدنا، ليس عليه أحداً.(1/72)
فأمر بها، فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ، وأمر بالطعام يهيأ، وهي مرخاة ستورها عليه وعليها. فلما قارب نضج الطعام، كشف عن رأسه ثم قال:
فلا تطبخي قدري وسترك دونها ... علي إذاً ما تطبخين حرام
ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إذا أوقدت لا بضرام
قال: ثم كشف الستور، وقدم الطعام، ودعا الناس، فأكلوا، فقالت: ما أتممت لي ما قلت لي. فأجابها: فإني لا تطاوعني نفسي، ونفسي علي أكرم من أن يثنى علي هذا وقد سبق لي السخاء. ثم أنشأ يقول:
أمارس نفسي البخل حتى أعزها ... وأؤثر نفسي الجود لا أستشيرها
ولا تشتكيني جارتي غير أنها ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع بعلها ... إليها ولم تقصر عليها ستورها
73- أخبرنا جدي إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا ابن الجوزي، أنبأنا علي بن عبيد الله، حدثنا أبو جعفر بن المسلمة، حدثنا إسماعيل بن سعيد، حدثنا أبو علي الكوكبي، حدثني أبو الفضل الربعي، عن أبيه قال:
كانت أم جعفر بنت جعفر ربت جارية وأدبتها، وكانت تختلف في مهم أمورها إلى كتابها وعمالها وديوانها. وكان لأم جعفر موضع تشرف منه(1/73)
على الديوان، ترى من فيه حيث لا يرونها. فقالت يوماً لجاريتها: تلك يا فلانة من أحسن من في الديوان؟ قالت: فلان مولاك. قالت: كيف ذاك، وهناك فلانٌ الهاشمي، وفلان الكاتب، وفلان [وفلان]؟ قالت: لأني علمت أنه يحبني. قالت: وكيف علمت أنه يحبك؟ قالت: لأني أخرج إلى الديوان في الأمر من أمورك، فإذا رآني مقبلةً ترك عمله حتى أخرج، ثم لا يزال ناظراً إلي موليةً حتى أغيب عن عينه، فعلمت أنه يحبني، فأحببته.
قالت: فاذهبي إليه الساعة حتى تقبليه قبلةً على فمه!.
فانطلقت، فلما رآها مقبلةً ألقى القرطاس والقلم من يده، ثم بهت ينظر إليها؟ فلما دنت منه ظن أنها جاءته برسالة أم جعفر. فأقبل عليها كالمصغي إليها، فقبلته! ففزع لذلك، ثم ثاب إليه عقله، وعلم أنه لم تفعل هذا إلا عن أمر.
فدعاها، ثم كتب رقعة، وقال لها: ارفعيها إلى أم جعفر. فإذا فيها:
قد وجدنا طعم الحرام لذيذاً ... فأذيقي مولاك طعم الحلال
فكتبت أم جعفر في أسفل رقعته:
ليس فيها من مطمعٍ لمحب ... إنما تقتنى لغير الرجال
فيئس منها، ثم أمرت بتزويجه إياها، وأمرت له بثلاثين ألف درهم، وأحسنت جهازها.
74- وبه إلى ابن الجوزي: أخبرنا أبو منصور القزاز، حدثنا أبو بكر أحمد بن ثابت، حدثنا القاضي أبو الطيب، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثني أبي قال: قال منصور البرمكي:
كان لهارون الرشيد جاريةٌ غلاميةٌ تصب على يده وتقف على رأسه،(1/74)
وكان المأمون معجباً بها وهو أمرد. فبينا هي تصب على هارون من إبريقٍ معها، والمأمون مع هارون قد قابل بوجهه وجه الجارية، إذ أشار إليها بقبلة، فغمزته بحاجبها، وأبطأت عن الصب في مهلةٍ ما بين ذلك.
فنظر إليها هارون فقال: ما هذا؟ فتلكأت عليه، فقال: ضعي ما معك، علي كذا إن لم تخبريني لأقتلنك.
فقالت: أشار إلي عبد الله بقبلة.
فالتفت إليه، وإذا هو نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه!.
فاعتنقه وقال: أتحبها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: قم فاخل بها في تلك القبة. فقام ففعل.
75- وبه إلى ابن الجوزي: أنبأنا هبة الله بن أحمد، أخبرنا محمد بن علي العشاري، حدثنا أبو الحسين بن أخي ميمي، حدثنا جعفر الخلدي: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق، حدثنا أبو عبد الله البرجلاني، حدثني أشرس بن النعمان، حدثني الجزري، حدثني موسى بن علقمة قال:
كان عندنا ها هنا بمكة نخاس، وكانت له جارية، وكان يوصف من جمالها وكمالها أمرٌ عجيب. وكان يخرجها أيام الموسم، وكان يبذل له فيها الرغائب فيمتنع من بيعها، ويطلب الزيادة في ثمنها.
فما زال كذلك حيناً، وتسامع بها أهل الأمصار، فكانوا يحجون عمداً للنظر إليها!.
وكان عندنا فتى من النساك قد نزع إلينا من بلده، وكان مجاوراً بمكة. فرأى الجارية يوماً في أيام العرض لها، فوقعت في نفسه. وكان(1/75)
يجيء طول أيام العرض ينظر إليها وينصرف. فلما حجبت أحزنه ذلك وأمرضه مرضاً شديداً، وجعل يذوب جسمه وينحل. واعتزل الناس، فكان يقاسي البلاء طول سنته إلى أيام الموسم، فإذا خرجت الجارية إلى العرض خرج [فنظر] إليها فسكن ما به، [حتى تحجب].
فبقي على ذلك سنين يذوب وينحل ويذبل، ولم أزل به ألح عليه، إلى أن حدثني بحديثه وما يقاسيه، وسأل أنه لا أذيع عليه ذلك، ولا يسمع به أحد.
فرحمته لما يقاسي وما صار إليه، فدخلت على مولى الجارية، ولم أزل أحدثه، إلى أن خرجت إليه بحديث الفتى [وما يقاسي]، وما صار إليه، وأنه [صار] على حالة الموت.
فقال: قم بنا إليه حتى أشاهده، وأنظر حاله.
فقمنا جميعاً، فدخلنا عليه، فلما دخل مولى الجارية ورآه وشاهد ما هو عليه، لم يتمالك أن رجع إلى داره، فأخرج ثياباً حسنةً سرية، وقال: أصلحوا فلانة، ولبسوها هذه الثياب، واصنعوا بها ما تصنعون بها أيام الموسم.
ففعلوا بها ذلك، فأخذ بيدها، وأخرجها إلى السوق، ونادى في الناس فاجتمعوا، فقال: معاشر الناس، اشهدوا أني قد وهبت جاريتي فلانة لهذا وما عليها ابتغاء ما عند الله.
ثم قال للفتى: تسلم هذه الجارية فهي هديةٌ مني إليك بما عليها!.
فجعل الناس يعذلونه ويقولون: ويحك، ما صنعت، قد بذل لك فيها الرغائب فلم تبعها، ووهبتها لهذا؟!.
فقال: إليكم عني، فإني أحييت كل من على وجه الأرض، قال الله عز وجل: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}.(1/76)
76- أخبرنا جماعة من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن البالسي، كذلك أخبرتنا زينب بنت الكمال وغيرها، أخبرنا يوسف بن خليل، أخبرنا أبو نزار ربيعة بن الحسن، أخبرنا أبو القاسم المعداني، أخبرنا سليمان بن إبراهيم، أخبرنا الجرجاني، حدثنا محمد بن محمد، أنشدنا أبو عبد الله بن عرفة نفطويه.
إذا أنت رافقت الزمان فكن فتى ... كأنك مملوكٌ لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذباً وبارداً ... على الكبد الحرى لكل صديق
77- وجدت بخط شيخنا ابن قندس، أن أبا جعفر الهروي قال:
كنت مع حاتم الأصم وقد أراد الحج، فلما وصل بغداد قال لي: يا أبا جعفر، أحب أن ألقى أحمد بن حنبل.
فسألنا عن منزله، ومضينا إليه، فطرقت على أحمد الباب، فلما خرج قلت: يا أبا عبد الله، أخوك حاتم.(1/77)
قال: فسلم عليه، ورحب به، وقال له بعد بشاشته: فيم التخلص من الناس يا حاتم؟!
قال: يا أحمد! في ثلاث خصال.
قال: وما هن؟.
قال: بأن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئاً، وتقضي حقوقهم ولا تستقضي أحداً منهم حقاً لك، وتحمل مكروههم ولا تكره أحداً منهم على شيء.
قال: فأطرق أحمد، فنكت بأصبعه الأرض، ثم رفع رأسه إليه، ثم قال: يا حاتم، إنها لشديدة، إنها لشديدة!.
فقال حاتم: وليتك تسلم، وليتك تسلم، وليتك تسلم.
78- وفي عيون الفردوس: عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إن بدلاء من أمتي يدخلون الجنة، لا بصوم ولا بصلاة، ولكن بسلامة الصدور، وسخاء النفوس، ونصيحة المسلمين)).
79- وفيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(1/78)
((إذا أراد الله بعبدٍ خيراً صير حوائج الناس إليه)).
80- أخبرنا جدي وابن مقبل إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا أبو اليمن الكندي، أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو الحسين بن المهتدي بالله، أخبرنا أبو حفص بن شاهين، حدثنا محمد الباغندي، حدثنا عبد الله بن الضحاك، حدثنا بقية بن الوليد، عن محمد بن زياد، عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه:
((ألا أحدثكم عن الخضر؟)).
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: ((بينما هو يمشي في سوقٍ من أسواق بني إسرائيل أبصر مكاتباً، فقال: تصدق علي بارك الله فيك.
قال الخضر: آمنت بالله، ما يقضي الله من أمرٍ يكون، ما عندي من شيءٍ أعطيكه.
قال المسكين: بوجه الله لما تصدقت علي، إني رأيت الخير في وجهك، ورجوت الخير عندك.
قال الخضر: آمنت بالله، إنك سألتني بأمرٍ عظيم، ما عندي من شيءٍ أعطيك، إلا أن تأخذني فتبيعني.
قال المسكين: وهل يستقيم هذا؟.(1/79)
قال: الحق أقول لك، إنك سألتني بأمرٍ عظيم، سألتني بوجه ربي تعالى، أما إني لا أخيبك إذ سألتني بوجه ربي.
فقدمه إلى السوق، فباعه بأربعمائة درهم. فمكث عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيء، فقال الخضر عليه السلام: إنك إنما ابتعتني التماس خدمتي، فمرني بعمل.
قال: إني أكره أن أشق عليك، إنه شيخٌ كبير.
قال: لست تشق علي.
قال: نعم، فقم فانقل هذه الحجارة.
قال: وكان لا ينقلها دون ستة نفرٍ في يوم. فقام فنقل الحجارة في ساعة. فقال لي: أحسنت وأجملت، وأطقت ما لم يطقه أحد.
قال: ثم عرض للرجل سفرٌ فقال: إني أحسبك أميناً، فاخلفني في أهلي خلافةً حسنة، وإني أكره أن أشق عليك.
قال: ليس يشق علي.
قال: فاضرب من اللبن شيئاً، أو قال: ابن حتى أرجع إليك.
قال: فخرج الرجل لسفره، ورجع وقد شيد بناءه. فقال له الرجل: أسألك بوجه الله ما خبرك وما أمرك؟
قال: إنك سألتني بأمرٍ عظيم، بوجه الله عز وجل، ووجه الله عز وجل أوقعني في العبودية، وسأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به، سألني مسكينٌ صدقةً فلم يكن عندي شيءٌ أعطيه، فسألني بوجه الله تعالى، فأمكنته من رقبتي، فباعني فأخبرك أنه من سأل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر على ذلك، وقف يوم القيامة ليس لوجهه جلدٌ ولا لحمٌ ولا عظمٌ ولا دمٌ يتقعقع.
قال الرجل: شققت عليك ولم أعرفك.
قال: لا بأس، أبقيت وأحسنت.(1/80)
قال الرجل: بأبي أنت وأمي، احكم في أهلي ومالي ما أراك الله، أخيرك وأخلي سبيلك!؟.
قال: أحب إلي بأن تخلي سبيلي فأعبد الله. فخلى سبيله.
قال الخضر: الحمد لله الذي أوقعني في العبودية وأنجاني منها)).
81- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا الحافظ أبو بكر بن المحب. كذلك أخبرتنا أم محمد ابنة الواسطي، أخبرنا جعفر بن علي، أخبرنا السلفي، أخبرنا ابن أشتة، أخبرنا أبو بكر بن شاذان، حدثنا محمد بن محمد المقري، حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا سوار بن عبد الله، حدثنا الأصمعي قال: قال أعرابي لبنيه:
عاشروا الناس معاشرةً إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم.
82- وقال المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أبو العباس المبرد، أخبرني الثوري، عن أبي عبيدة قال:(1/81)
لما بلغ حاتم طيئ قول المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفساد
وحفظ المال خيرٌ من فناه ... وعسفٍ في البلاد بغير زاد
قال: ما له -قطع الله لسانه- حمل الناس على البخل؟ فهلا قال:
فلا الجود يفني المال قبل فنائه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيد
فلا تلتمس مالاً بعيشٍ مقترٍ ... لكل غدٍ رزقٌ يعود جديد
ألم تر أن المال غادٍ ورائحٌ ... وأن الذي يعطيك غير بعيد؟
83- أخبرنا جدي إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا ابن الجوزي، أخبرنا ابن ناصر، حدثنا المبارك بن عبد الجبار، حدثنا أبو إسحاق البرمكي، حدثنا أبو الحسين الزينبي، حدثنا محمد بن خلف، حدثني عيسى بن جعفر، حدثني محمد بن سعيد، حدثني إسحاق بن جعفر قال: سمعت عمر بن عبد الرحمن يحكي عن بعض العمريين قال:
بينا أنا يوماً في منزلي، إذ دخل علي خادمٌ لي فقال: بالباب رجلٌ معه كتاب.
فقلت: أدخله، أو خذ كتابه.
فأخذ الكتاب منه، فإذا فيه:
تجنبك البلا ولقيت خيراً ... وسلمك المليك من الغموم
شكون بنات أحشائي إليكم ... هواها حين ألفتني كتوم(1/82)
وسألتني الكتاب إليك فيما ... يخامرها فدتك من الهموم
وهن يقلن يا ابن الجود إنا ... برمنا من مراعاة النجوم
وعندك لو مننت شفاء سقمٍ ... لأعضاءٍ دمين من الكلوم
فلما قرأت الكتاب قلت: عاشق! فقلت للخادم: أدخله.
فخرج، فلم يره. فقلت: أخطأت، فما الحيلة؟ فارتبت في أمره، وجعل الفكر يتردد في قلبي، فدعوت جواري كلهن، من يخرج منهن ومن لا يخرج، فجمعتهن، ثم قلت: أخبرنني الآن بقصة هذا الكتاب.
فجعلن يحلفن ويقلن: يا سيدنا ما نعرف لهذا الكتاب سبباً، وإنه لباطلٌ، من جاء بهذا الكتاب؟.
فقلت: قد فاتني، وما أردت بهذا القول إلا أني ضننت عليه بمن يهوى منكن، فمن عرفت منكن أمر هذا الرجل فهي له، فلتذهب إليه متى شاءت، وتأخذ كتابي إليه.
قال: وكتبت إليه كتاباً أشكره على فعله، وأسأله عن حاله، ووضعت الكتاب في موضع من الدار، وقلت: من عرفت شيئاً فلتأخذه.
فمكث الكتاب في موضعه حيناً لا يأخذه أحد، ولا أرى للرجل أثراً. فاغتممت غماً شديداً، ثم قلت: لعله بعض فتياننا. وقلت: إن هذا الفتى قد أخبر عن نفسه بالورع، وقد قنع ممن يحبه بالنظر. فدبرت عليه. فحجبت جميع جواري من الخروج. فما كان إلا يومٌ أو يومان إذ دخل الخادم ومعه كتاب. فقلت: ما هذا؟ قال: أرسل به إليك فلان. وذكر بعض أصدقائي. ففضضته، فإذا فيه:
ماذا أردت إلى روحٍ معلقةٍ ... عند التراقي وحادي الموت يحدوها
حثثت حاديها ظلماً فجد بها ... في السير حتى تولت عن تراقيها
حجبت من كانت تحيا عند رؤيتها ... روحي ومن كان يشفيني ترائيها
فالنفس ترتاح نحو الظلم جاهلةً ... والقلب مني سليمٌ ما يواتيها
والله لو قيل لي تأتي بفاحشةٍ ... وأن عقباك دنيانا وما فيها(1/83)
لقلت لا والذي أخشى عقوبته ... ولو بأضعافها ما كنت آتيها
لولا الحياء لبحنا بالذي كتمت ... بنت الفؤاد وأبدينا تمنيها
قال: فسكت. وقلت: لا أدري بما أحتال في أمر هذا الرجل. فقلت للخادم: لا يأتيك أحدٌ بكتابٍ إلا قبضت عليه حتى تدخله علي. ثم لم أعرف له خبراً بعد ذلك!.
فبينا أنا أطوف بالكعبة، إذ أنا بفتىً قد أقبل نحوي، وجعل يطوف إلى جنبي ويلاحظني، وقد صار مثل العود! فلما قضيت طوافي خرجت، واتبعني فقال لي: يا هذا، أتعرفني؟
قلت: ما أنكرك.
قال: أنا صاحب الكتابين!.
قال: فما تمالكت أن قبلت رأسه وبين عينيه، وقلت: بأبي أنت وأمي، والله لقد شغلت علي قلبي، وأطلت غمي بشدة كتمانك لأمرك، فهل لك فيما سألت وطلبت؟.
قال: بارك الله لك وأقر عينك، وإنما أتيتك مستحلاً من نظرٍ كنت أنظره على غير حكم الكتاب والسنة، والهوى داعٍ إلى كل بلاء، وأستغفر الله.
فقلت: يا حبيبي، أحب أن تصير معي إلى منزلي فآنس بك وتجري الحرمة بيني وبينك.
قال: ليس إلى ذلك سبيل، فاعذر وأجب إلى ما سألتك.
فقلت: يا حبيبي، غفر الله لك ذنبك، وقد وهبتها لك ومعها مائةً دينارٍ تعيش بها. ولك في كل سنةٍ كذا وكذا.(1/84)
قال: بارك الله لك فيها، فلولا عهودٌ عاهدت الله بها، وأشياء أكدتها على نفسي، لم يكن في الدنيا شيءٌ أحب إلي من الذي تعرضه علي، ولكن ليس إليه سبيل، والدنيا فانيةٌ منقطعة.
فقلت له: أما إذا لم تصر إلى ما دعوناك، فأخبرني من هي من جواري [حتى] أكرمها لك ما بقيت!.
فقال: ما كنت لأسميها لأحدٍ أبداً!.
ثم سلم علي ومضى، فما رأيته بعد ذلك!!.
84- وبه إلى ابن الجوزي، أخبرنا محمد بن ناصر، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، حدثنا أبو محمد الجوهري، حدثنا ابن حيويه، حدثنا أبو بكر بن المرزبان، أخبرني أبو محمد التميمي، أخبرني محمد بن عمرو، عن محمد بن عبد الرحمن، حدثني مطرف بن عبد الله.
أنه كان بالمدينة جاريةٌ قد قرأت القرآن وروت الأشعار، وكانت أحسن الناس وجهاً. وكان الأحوص وعبد الرحمن يختلفان إليها يطارحانها الشعر. فعلقاها، وعلقت هي عبد الرحمن، فكانت إذا حدثت أقبلت بحديثها على عبد الرحمن، وإذا حدث أنصتت له. فغاظ ذلك الأحوص، فقال: والله لأعرضن لها ببيتٍ من الشعر، فقال:
أرى الإقبال منك على خليلي ... وما لي في حديثك من نصيب(1/85)
فقالت الجارية:
لأن الله علقه فؤادي ... فأضحى الحب دونك والحبيبا
فقال عبد الرحمن:
خليلي لا تلمها فهي هواها ... ألذ العيش ما تهوى القلوب
فقال الأحوص: والله لأجهدن أن أفرق بينكما.
فخرج إلى يزيد بن عبد الملك فامتدحه، فأجازه وأحسن صلته، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة، قال: وما هي؟ قال: جاريةٌ خلفتها بالمدينة جميلة، قد قرأت القرآن، وروت الاشعار، وما تصلح إلا لمسامرة أمير المؤمنين.
قال: ويحك! صفها في أبيات شعر. فقال:
كملت في الجمال والحسن والملح ... وتمت في عقلها والعفاف
غضةٌ بضةٌ فتاةٌ كعوبٌ ... هضمة الكشح وعثة الأرداف
هي شمس النهار في الحسن إلا ... أنها فضلت بعطف الظراف
ولها منظرٌ ودل شهي ... وحديثٌ مرتلٌ غير جاف
خلقت فوق منية المتمني ... فاقبل النصح يا ابن عبد مناف
قال: قبلت.
فبعث فاشتراها بمائة ألف درهم. فلما صارت إلى الشام خرج الأحوص من الشام حتى قدم المدينة، فمر بعبد الرحمن بن حسان وهو جالسٌ بفناء داره يخط في الأرض، فوقف عليه أنشأ يقول:
يا مبتلى بالحب مفدوحا ... لاقى من الحب التباريحا(1/86)
ألجمه الحب فما ينثني ... إلا بفأس الحب مكبوحا
وصار ما يعجبه مغلقاً ... عنه وما يكره مفتوحا
قد حازها من أصبحت عنده ... ينال منها الشم والريحا
خليفة الله فسل الهوى ... وعز قلباً منك مجروحا
قال: فرفع عبد الرحمن رأسه إليه وهو يقول:
لا صبر لي عن شادن طرفه ... يورث باللحظ التباريحا
لو تخلص الريح إلى جسمه ... ظل لمس الريح مجروحا
لا حظ لي منه سوى أنني ... من نحوه أستنشق الريحا
وكلما استنشقتها مرةً ... عددتها غنماً ومفروحا
ووافق ذلك خروج غلام من بني أمية إلى يزيد بن عبد الملك فقال لعبد الرحمن بن حسان: ألك حاجة؟ قال: نعم، هذا الكتاب تلطف في إيصاله إليها. وكتب إليها يعلمها ما جرى بينه وبين الأحوص [من الشعر وشماتته به]، فكتبت الجارية إليه:
يا مشتكي الحب ولوعاته ... أصبح قلبي منك مقروحا
ما قرت العين بما نلته ... ولا عددت الملك مفروحا
شوقاً إلى وجهك ذاك الذي ... لم يبق لي في بدني روحا
فلما قرأ كتابها استفزه ذلك حتى خرج إلى الشام، إلى يزيد بن عبد الملك، فامتدحه، فأحسن صلته وجائزته، ثم مكث أياماً، وعلمت الجارية بقدومه، فجعلت توجه إليه تستخبر خبره، وكان الذي يختلف إليه(1/87)
خادمٌ لها، فقالت له يوماً: احتل في أن تدخله. فأتى يزيد فأعلمه بالليلة التي يدخل فيها، فجلس يزيد في موضع يراهم ولا يرونه ويسمع كلامهم، فلما دخل قامت فأخذت بيده، ثم جلست ناحيةً يتحدثان ويبكيان إلى أن طلع الفجر، فقام لينصرف، فأنشأت تقول:
من كان أضحى سلا باليأس عن سكنٍ ... فإنني عنك ما أمسيت بالسالي
والله والله لا أنساك يا سكني ... حتى تفارق مني الروح أوصالي
فأجابها:
أضحى المحبون بعد الوصل قد يئسوا ... وقد يئست وما أسلوا على حال
فلما أصبح يزيد، بعث إليهما، ثم أقبل عليهما فقال: حدثاني ما كان بينكما في هذه الليلة، فقد خبرني بعض من حضر مجلسكما.
فأخبراه بما كان. فأقبل على عبد الرحمن، فقال: أتحبها؟ قال: إي والله يا أمير المؤمنين، حباً تالداً غير طارفٍ ولا مستأنف.
فأقبل عليها، فقال: أتحبينه؟ قالت: إي والله يا أمير المؤمنين، حباً قد خرق شغاف قلبي.
فقال: خذ بيدها. ثم قال: مكانكما، إنها لا تنفعك بغير ما يصلحها. فأمر له بمائة ألف درهم. فقدم بها المدينة.
85- أخبرنا ابن الشريفة وغيره إجازة، أخبرنا المشايخ الثلاثة، كذلك أخبرنا المزي، أخبرتنا زينب بنت مكي، أخبرنا ابن طبرزد، حدثنا علي بن محمد بن بشران، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن الحسين، ثنا الأصمعي قال:
لما حضرت جدي علي بن أصمع الوفاة، جمع بنيه فقال: أي بني،(1/88)
عاشروا الناس معاشرةً إن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم.
86- أخبرنا القطب مناولةً وغيره إجازة، أخبرنا ابن حجر، أخبرنا أبو المعالي، أخبرتنا عائشة بنت علي، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا البوصيري وأبو عبد الله الأرتاحي، أخبرنا أبو الحسن بن القزاز، حدثنا أبو القاسم بن الضراب، حدثنا أبي، حدثنا أبو بكر الدينوري، أنشدنا المبرد:
إذا اعتذر الصديق إليك يوماً ... من التقصير عذر أخ مقر
فصنه عن عتابك واعف عنه ... فإن الصفح شيمة كل حر
87- قال: وأنشد محمد بن المغيرة:
أخوك الذي إن سؤته قال إنني ... أسأت وإن عاتبته لأن جانبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنبٍ مرةً ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
88- وبه إلى الدينوري: حدثنا ابن قتيبة، حدثنا عبد الرحمن، عن الأصمعي: لبعضهم:
إذا ما عملت الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني غير آكله وحدي
بعيداً قصياً أو قريباً فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وكيف يسيغ المرء زاداً وجاره ... خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد
89- وبه إلى الدينوري: حدثنا إبراهيم بن حبيب: سمعت أبا نعيم يقول:(1/89)
مر أبو الديك -وكان معتوهاً- على معلم كتابٍ في جبانة كندة وهو ينشد:
إن الصنيعة لا تكون صنيعةً ... حتى يصاب بها طريق المصنع
فقال أبو الديك: كذب. لا يكون المعروف معروفاً حتى يصرف في أهله وفي غير أهله، ولو كان لا يصرف إلا في أهله كيف كان ينالني منه شيء؟.
90- أخبرنا جماعة من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن الحرستاني وابن البالسي وابن المحب إجازة، أخبرنا أبو محمد بن المحب، أخبرنا علي بن نفيس، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي جرادة، أخبرنا أبو محمد بن ..، أخبرنا أبو الغنائم بن صصري، أخبرنا أبو القاسم الطرسوسي، أخبرنا أبو الحسين الأزدي، أخبرنا أبو القاسم الشيباني، أخبرنا أبو طالب أحمد بن نصر، أخبرنا الصاغاني، حدثنا علي بن قادم، حدثنا أبو عامر، عن سفيان قال -وذكرت عنده المواساة- فقال:
ذاك طريق نبت فيه العوسج.
91- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا أبو بكر بن المحب. كذلك أخبرتنا زينب بنت الكمال، أخبرنا سبط السلفي عبد الرحمن، أخبرنا جدي، أنشدني صديقنا أبو إبراهيم الغزنوي، أنشدنا أبو عبد الله الجربادقاني لبعض الأدباء:
إذا جاء محتاجٌ وطالب حاجةٍ ... فقل قول حر ماجدٍ يتسمح
على الرأس والعينين مني قضاؤها ... فمن يشتري حمد الرجال سيربح
وصاف كرام الناس تنج مسلماً ... فمن يصحب الأشرار يوماً سيجرح(1/90)
92- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا إجازة، أخبرنا ابن المحب. كذلك أخبرنا عبد الله بن الهيجاء .. .. وأبو العباس بن شجاع وأبو العباس بن معالي، أخبرنا خطيب مردا، أخبرنا ابن الموازيني، أخبرنا أبو يعلى السلمي، أخبرنا أبو الفتح المقدسي، أخبرنا أبو الفتح الرازي، أخبرنا أبو الحسين بن فارس، أخبرنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم، أخبرنا أبو يونس المديني، حدثنا أبو الحارث عثمان بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن يحيى، عن أبيه قال:
دخل سليمان بن عبد الملك [المدينة] حاجاً، فسأل: هل رجلٌ أدرك من الصحابة أحداً؟.
قالوا: نعم، أبو حازم.
فأرسل إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟.
قال: وأي جفاءٍ تعد مني يا أمير المؤمنين؟
قال: أتاني وجوه الناس غير واحدٍ ولم تأتني.
قال: والله ما عرفتني قبل هذا، ولا أنا رأيتك، فإي جفاءٍ تعتد مني؟.
فالتفت سليمان إلى ابن شهاب فقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا.
ثم قال: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟.(1/91)
قال: عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فأنتم تكرهون أن تخرجوا من العمران إلى الخراب!.
قال: يا أبا حازم، ليت شعري ما لنا عند ربنا عز وجل!.
قال: اعرض عملك على كتاب الله عز وجل.
قال: فأين أجده في كتاب الله عز وجل!.
قال: {إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم}.
قال سليمان: فأين رحمة الله؟.
قال أبو حازم: قريبٌ من المحسنين.
قال سليمان: يا أبا حازم، ليت شعري كيف العرض غداً على الله عز وجل؟.
قال أبو حازم: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.
فبكى سليمان حتى اشتد بكاؤه، ثم قال: يا أبا حازم، كيف لنا أن نصلح؟.
قال: أن تدعوا عنكم الصلف، وتتمسكوا بالمروءة، وتقسموا بالسوية.
قال: وكيف المأخذ لذلك؟.
قال: تأخذه من حقه وتضعه في أهله.
قال: يا أبا حازم، من أفضل الخلائق؟.(1/92)
قال: أولو المروءة والنهى.
قال: فما أعدل العدل؟.
قال: قول الحق عند من ترجوه وتهابه.
قال: يا أبا حازم، فما أسرع الدعاء إجابة؟.
قال: دعاء المحسن إليه للمحسن.
قال: فما أفضل الصدقة؟.
قال: جهد المقل إلى البائس الفقير، لا يتبعها من ولا أذى.
قال: يا أبا حازم، من أكيس الناس؟.
قال: رجلٌ ظفر بطاعة الله عز وجل فعمل بها، ثم دل الناس عليها فعملوا بها.
قال: فمن أحمق الخلق؟.
قال: رجلٌ انحط في هوى أخيه وهو ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره.
قال سليمان: يا أبا حازم، هل لك أن تصحبنا لتصيب منا ونصيب منك؟.
قال: كلا.
قال: ولم؟.
قال: إني أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا يكون لي منه نصير.
قال: يا أبا حازم، ارفع إلي حاجتك.
قال: نعم، تدخلني الجنة، أو تخرجني من النار!.
قال: ليس ذلك إلي.(1/93)
قال: فما لي حاجةٌ سواها.
قال: يا أبا حازم، ادع الله لي.
قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان سليمان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى.
قال سليمان: فقط؟.
قال أبو حازم: قد أكثرت وأطنبت، إن كنت من أهله وإن لم تكن من أهله، فما حاجتك أن ترمي عن قوسٍ ليس لها وتر؟.
قال سليمان: يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه!.
قال: أوتعفيني يا أمير المؤمنين؟.
قال: يا أبا حازم، أوصني.
قال: نعم، سوف أوصيك وأوجز. نزه الله تعالى وعظمه أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك من حيث أمرك. ثم قام.
فلما ولى قال: يا أبا حازم، هذه مائة دينارٍ أنفقها ولك عندي أمثالها كثير.
فرمى بها، وقال: ما أرضاها لك، فكيف لنفسي؟ أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً، وردي عليك بذلاً. إن موسى بن عمران عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمةً من الناس يسقون. ثم قرأ: {رب إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقيرٌ}.
فسأل موسى ربه عز وجل ولم يسأل الناس، ففطنت الجاريتان ولم يفطن الرعاء [لما فطنتا إليه]، فأتتا أباهما -وهو شعيبٌ عليه السلام-،(1/94)
فأخبرتاه، فقال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعاً. ثم قال لإحداهما: اذهبي ادعيه إلي.
فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت: {إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا}، فلما قالت: {أجر ما سقيت لنا} كره ذلك موسى وأراد أن لا يتبعها. ثم لم يجد بداً من أن يتبعها، لأنه كان في أرضٍ مسبعةٍ وخوف، فخرج معها، وكانت امرأةً ذات عجز، وكانت الرياح تضرب ثوبها فتصف لموسى عجزها، فيغضي مرةً ويعرض أخرى، حتى عيل صبره فقال: بالله كوني خلفي وأريني السمت - يريد الطريق.
فأتيا إلى شعيب والعشاء مهيأ، فقال: اجلس يا شاب فكل. فقال موسى: لا. قال شعيب: ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكني من أهل بيتٍ لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، وأخشى أن يكون هذا أجراً لما سقيت لهما.
قال شعيب: لا يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي قرى الضيف، وإطعام الطعام.
قال: فجلس موسى بن عمران فأكل.
قال أبو حازم: فإن كانت هذه المائة دينارٍ عوضاً عما حدثتك، فالميتة والدم ولحم الخنزير عند الاضطرار أحل منه، وإن كانت من بيت مال المسلمين فلي فيه شركاء ونظراء، فإن وازيتهم بي، وإلا فلا حاجة لي بها. إن بني إسرائيل، لم يزالوا على الهدى والتقوى حيث كان أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبةً في علمهم، فلما ارتكسوا وانتكسوا سقطوا من(1/95)
عين الله تعالى، وآمنوا بالجبت والطاغوت، وصار علماؤهم يأتون إلى أمرائهم فيشاركونهم في دنياهم ويشركون معهم في فتنتهم.
قال ابن شهاب: لعلك إياي تعني وبي تعرض.
فقال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع.
قال سليمان: يا ابن شهاب، تعرفه؟.
قال: نعم، هو جاري منذ ثلاثين سنة، ما كلمته قط.
قال أبو حازم: إنك نسيت فنسيتني، ولو أحببت أحببتني.
قال ابن شهاب: يا أبا حازم، لا تشتمني.
قال: ما شتمتك، ولكن أنت شتمت نفسك. أما علمت أن للجار على الجار حقاً كحق القرابة يجب؟.
فلما ذهب قال رجلٌ من جلساء سليمان: أتحب أن الناس كلهم مثله؟.
قال سليمان: لا.
93- قال [أبو] يونس: قال أبو الحارث عثمان بن إبراهيم: حدثنا عبد الله بن يحيى، عن أبيه قال:
دخل أبو حازم على سليمان بن عبد الملك بالشام في نفرٍ من العلماء، فقال سليمان: يا أبا حازم، ألك مال؟.
قال: نعم، لي مالان.
قال: ما هما بارك الله لك فيهما؟.(1/96)
قال: الرضا بما قسم الله تعالى لي، واليأس مما في أيدي الناس.
قال سليمان: يا أبا حازم، ارفع إلي حاجتك.
قال: هيهات! رفعتها إلى من لا تختزل الحوائج دونه، فما أعطاني شكرت، وما منعني صبرت. مع أني رأيت الأشياء شيئين: فشيءٌ لي، وشيءٌ لغيري. فما كان لي فلو جهد الخلق أن يردوه عني ما قدروا، وما كان لغيري فما نافست فيه أهله فيما مضى، فكيف فيما بقي، كما منع غيري رزقي كذلك منعت رزق غيري.
قال سليمان بن عبد الملك: يا أبا حازم، ما المخرج مما نحن فيه؟.
قال: بالصغائر من الأمر.
قال سليمان: وما هو؟.
قال أبو حازم: تنظر ما كان في يدك مما ليس بحق فترده إلى أهله، وما لم يكن لك لم تنازع فيه غيرك.
قال سليمان: ومن يطيق هذا؟.
قال: من خاف النار وأحب الجنة.
قال: يا أبا حازم، ادع الله عز وجل لي.
قال: ما ينفعك أن أدعو لك في وجهك ويدعو عليك مظلومٌ من وراء الباب، فأي الدعاء أحق أن يجاب؟.
فبكى سليمان حتى اشتد بكاؤه. وقام أبو حازم.
94- أخبرنا جدي وابن مقبل إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر. كذلك أخبرنا الفخر البخاري، أخبرنا ابن الجوزي، أخبرنا محمد بن ناصر،(1/97)
أخبرنا طلحة العاقولي، حدثنا أبو محمد الجوهري، حدثنا أبو عبد الله بن بطة، حدثنا أبو بكر بن دريد، حدثنا أبو عثمان المازني، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال:
كان بالحجاز رجلٌ له ابنةٌ جميلة، فهويها ابن عم لها، فبذل لأبيها أربعة آلاف درهم، فأبى أن يزوجها منه. فأجدبت البلاد وانقرض مال الرجل، فتحول أبو الجارية بأهله إلى الشام، وكثر خطابها. فبلغ ذلك ابن عمها، فصار إلى أبيها، فشكا إليه، فقال له: قد كنت بذلت لي أربعة آلاف درهم، فأعطناها فهي أحب إلينا من قرابتك!.
قال: أجلني شهراً.
قال: ولم يكن للأعرابي إلا ناقة، فركبها ولحق بعبد الملك بن مروان، فأصيب بناقته، فحمل الحلس والقتب على عنقه، ودخل على عبد الملك. فلما مثل بين يديه وضع الحلس والقتب بين يديه وأنشأ يقول:
ماذا يقول أمير المؤمنين لمن ... أدلى إليه بلا قربٍ ولا نسب
مدلهٌ عقله من حب جاريةٍ ... موصوفةٍ بكمال الدل والأدب
خطبتها إذ رأيت الناس قد لهجوا ... بذكرها والهوى يدعو إلى العطب
فقلت لي حسبٌ عالٍ ولي شرفٌ ... قالوا الدراهم خيرٌ من ذوي الحسب
إنا نريد ألوفاً منك أربعةً ... وليس أملك غير الحلس والقتب
فالنفس تعجب لما رمت خطبتها ... مني ويضحك إفلاسي من العجب
لو كنت أملك مالاً أو أحيط به ... أعطيتهم ألف قنطارٍ من الذهب
فأمنن علي أمير المؤمنين بها ... واجمع بها شمل هذا البائس العزب
فما وراءك بعد الله مطلبٌ ... أنت الرجاء ومني غاية الطلب
فضحك عبد الملك، وأمر له بأربعة آلاف، فقال: اصدقها هذه، وأربعة(1/98)
آلافٍ وقال: أولم بهذه، وأربعة آلافٍ وقال: اقتن هذه.
فأخذها الفتى، ورجع إلى الشيخ فتزوج ابنته.
95- وبه إلى ابن الجوزي: أخبرتنا شهدة بنت أحمد، أخبرنا أبو محمد بن السراج، حدثنا أبو علي الجازري إجازة، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أبو النضر العقيلي، حدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون، عن أبي بكر العجلي، عن جماعةٍ من مشايخ قريشٍ من أهل المدينة قالوا:
كانت عند عبد الله بن جعفر جاريةٌ مغنية، يقال لها عمارة، وكان يجد بها وجداً شديداً، وكان لها من قلبه مكانٌ لم يكن لأحدٍ من جواريه. فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معه، فزاره يزيد ذات يومٍ فأخرجها إليه، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه، مع يأسه من الظفر بها. فلم يزل يكاتم الناس أمرها إلى أن مات معاوية وأفضى الأمر إليه. فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قد علمت، وأنت لا تستجيز إكراهه، وهو لا يبيعها بشيءٍ أبداً، وليس في هذا إلا الحيلة.
فقال: انظروا لي رجلاً عراقياً له أدبٌ وظرفٌ ومعرفة.
فطلبوه، فأتوه به، فلما دخل عليه رأى بياناً وحلاوةً وفهماً. فقال له يزيد: إني دعوتك لأمر، إن ظفرت به فهو حظك آخر الدهر، ويدٌ أكافئك عليها إن شاء الله.(1/99)
ثم أخبره بأمره، فقال له: إن عبد الله بن جعفر ليس يرام ما قبله إلا بالخديعة، وإن يقدر أحدٌ على ما سألت فأرجو أن أكونه، والقوة بالله، فأعني بالمال. قال: خذ ما أحببت.
فأخذ من طرف الشام وثياب مصر، واشترى متاعاً للتجارة من رقيقٍ ودوابٍ وغير ذلك. ثم شخص إلى المدينة فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلاً إلى جانبه، ثم توسل إليه وقال: رجل من أهل العراق، قدمت بتجارةٍ وأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به.
فبعث عبد الله بن جعفر إلى قهرمانه أن أكرم الرجل ووسع عليه في نزله.
فلما اطمأن العراقي، سلم عليه أياماً وعرفه نفسه، وهيأ له بغلةً فارهةً وثياباً من ثياب العراق وألطافاً، فبعث بها إليه، وكتب معها: يا سيدي، إني رجلٌ تاجر، ونعمة الله علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيءٍ من لطفٍ، وكذا وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلةٍ خفيفة العنان، وطيئة الظهر، وأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبلت هديتي ولم توحشني بردها، وإني أدين الله تعالى بحبك وحب أهل بيتك. وإن أعظم أملي في سفرتي هذه أن أستفيد الأنس بك والتحرم بمواصلتك.
فأمر عبد الله بقبض هديته، وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله، فقام إليه وقبل يده، فرأى أدباً وظرفاً وفصاحة. فأعجب به وسر بمكانه ونزوله عليه. فجعل العراقي في كل يومٍ يبعث إلى عبد الله بلطفٍ يطرفه.
فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيراً، قد ملأنا شكراً وما نقد على مكافأته على ذلك.
فدعاه عبد الله، ودعا بعمارة في جواريه. فلما طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة، تعجب، وجعل يزيد في عجبه.(1/100)
فلما رأى ذلك عبد الله سر به، إلى [أن] قال له: هل رأيت مثل عمارة؟.
قال: لا والله يا سيدي، ما رأيت مثلها، وما تصلح إلا لك، وما ظننت أن يكون في الدنيا مثل هذه الجارية: حسن وجه، وحسن عمل.
قال: فكم تساوي عندك.
قال: ما لها ثمنٌ إلا الخلافة.
قال: تقول هذا لتزين لي رأياً فيها وتجتلب سروري؟.
قال له: يا سيدي، والله إني لأحب سرورك، وما قلت لك إلا الجد. وبعد، فإني تاجرٌ أجمع الدرهم إلى الدرهم طلباً للربح، ولو أعطيتنيها بعشرة آلاف دينارٍ لأخذتها.
فقال له عبد الله: عشرة آلاف؟.
قال: نعم.
ولم يكن يعرف في ذلك الزمان جاريةٌ تعرف بهذا الثمن.
فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف.
قال: قد أخذتها.
قال: هي لك.
قال: قد وجب البيع.
وانصرف العراقي. فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد وافى به. فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينارٍ وقال: هذا ثمن عمارة.
فردها، وكتب إليه: إنما كنت أمزح معك، ومما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها.(1/101)
فقال العراقي: جعلت فداك، إن الجد والهزل في البيع سواء.
فقال له عبد الله: ويحك! ما أعلم جاريةً تساوي ما بذلت، ولو كنت بائعها من أحدٍ لآثرتك، ولكني كنت مازحاً، وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموضعها من قلبي.
فقال العراقي: إن كنت مازحاً فإني كنت جاداً، وما اطلعت على ما في نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت إليك بثمنها، وليست تحل لك، وما لي من أخذها بد.
فمانعه إياها، فقال له: ليست لي بينة، ولكن أستحلفك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره.
فلما رأى عبد الله الجد قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارقٌ ولا نزل بنا نازلٌ أعظم بليةً منك. أتحلفني، فيقول الناس اضطهد عبد الله ضيفه وقهره وألجأه إلى أن استحلفه؟ أما والله ليعلمن الله عز وجل أني سائله في هذا الأمر الصبر وحسن العزاء.
ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه، وتجهيز الجارية بما يشبهها من الخدم والثياب والطيب، فجهزت بنحوٍ من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك، ولك عوضها مما ألطفتنا، والله المستعان.
فقبض العراقي الجارية وخرج بها. فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة، إني والله ما ملكتك قط، ولا أنت لي، ولا لمثلي تشترى جاريةٌ بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكني دسيسٌ من يزيد بن معاوية وأنت له، وفي طلبك بعث بي، فاستتري مني، وإن داخلني الشيطان في أمرك وتاقت نفسي إليك فامتنعي مني.
ثم مضى بها حتى ورد دمشق، فتلقاه الناس بجنازة يزيد، وقد(1/102)
استخلف ابنه معاوية بن يزيد. فأقام الرجل ثلاثة أيام، ثم تلطف للدخول عليه، فشرح له القصة. ويروى أنه لم يكن أحدٌ من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلاً ونسكاً. فلما أخبره قال: هي لك، وكل ما دفعه إليك من أمرها فهو لك، وارحل من يومك فلا أسمع بخبرك في شيءٍ من بلاد الشام.
فرحل العراقي، ثم قال للجارية: إني قلت لك ما قلت حين خرجت بك من المدينة، فأخبرتك أنك ليزيد، وقد صرت لي، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، وأني قد رددتك عليه، فاستتري مني.
ثم خرج بها حتى قدم المدينة، فنزل قريباً من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال له: هذا العراقي ضيفك الذي صنع بنا ما صنع، وقد نزل العرصة، لا حياه الله.
فقال عبد الله: مه! أنزلوا الرجل وأكرموه.
فلما استقر بعث إلى عبد الله: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي أذنةً خفيفةً لأشافهك بشيءٍ فعلت.
فأذن له، فلما دخل عليه سلم عليه وقبل يديه، وقربه عبد الله بن جعفر، ثم اقتص عليه القصة حتى فرغ، وقال: قد والله وهبتها لك قبل أن أراها وأضع يدي عليها، فهي لك ومردودةٌ عليك، وقد علم الله تعالى إنى ما رأيت لها وجهاً إلا عندك.
وبعث إليها فجاءت، وجاء بما جهزها به موفراً، فلما نظرت إلى عبد الله بن جعفر خرت مغشياً عليها، فأهوى إليها عبد الله فضمها إليه. وخرج العراقي، وتصايح أهل الدار: عمارة، عمارة. فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري: أحلمٌ هذا؟ ما أصدق هذا.(1/103)
فقال له العراقي: جعلت فداك، ردها عليك إيثارك الوفاء وصبرك على الحق وانقيادك له.
فقال عبد الله: الحمد لله، اللهم إنك تعلم أني تصبرت عليها وآثرت الوفاة وأسلمت لأمرك، فرددتها علي بمنك، فلك الحمد.
ثم قال: يا أخا العراق، ما في الأرض أعظم منةً علي منك، وسيجازيك الله تعالى.
وأقام العراقي أياماً، وباع عبد الله غنماً بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانه: احملها إليه، وقل له: اعذر، واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلاً لأكثر منه.
فرحل العراقي محموداً وافر العرض والمال.
96- وروى مصعب الزبيري، عن محمد بن عبد الله بن أبي مليكة، عن أبيه، عن جده قال:
دخل عبد الرحمن بن أبي عمار -وهو يومئذٍ فقيه أهل الحجاز- على نخاس، فعلق فتاة، فاشتهر بذكرها، حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه، فكان جوابه:
يلومني فيك أقوامٌ أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أم وقعا
فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر، فلم يكن له همةٌ غيره. فحج، فبعث إلى مولى الجارية، فاشتراها منه بأربعين ألفاً، وأمر قيمة جواريه أن(1/104)
تزينها وتحليها، ففعلت، وبلغ الناس قدومه، فدخلوا عليه فقال: ما لي لا أرى ابن أبي عمار زارنا.
فأخبر الشيخ فأتاه، فلما أراد أن ينهض استجلسه فقعد، فقال له ابن جعفر: ما فعل حب فلانة؟.
فقال: سيط به لحمي ودمي وعصبي ومخي وعظامي.
قال: أتعرفها إن رأيتها؟.
قال: ولا أعرف غيرها.
قال: فإني قد اشتريتها، ووالله ما نظرت إليها.
وأمر بها فأخرجت، فزفت في الحلي والحلل، فقال له: أهي هذه؟.
فقال: نعم، بأبي أنت وأمي.
قال: فخذ بيدها فقد جعلها الله لك، أرضيت؟.
قال: إي والله، وفوق الرضى.
فقال ابن جعفر: ولكني والله لا أرضى أن أعطيكها صفراً. احمل معه يا غلام مائة ألف درهمٍ كيلا يهتم بمؤونتها.
قال: فراح بها وبالمال.
97- وعن الوضاح بن معبد الطائي قال:
وفد حاتم الطائي على النعمان بن المنذر، فأكرمه وأدناه، ثم زوده(1/105)
عند انصرافه حملين ذهباً وورقاً، غير ما أعطاه من طرائف بلده.
فرحل، فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طيئ فقالت: يا حاتم، أتيت من عند الملك بالغنى وأتينا من عند أهالينا بالفقر.
فقال حاتم: هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه.
فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه. فخرجت إلى حاتم طريفة -جاريته- فقالت له: اتق الله وأبق على نفسك، فما تدع من هؤلاء ديناراً ولا درهماً ولا شاةً ولا معزاً. فأنشأ يقول:
قالت طريفة ما تبقى دراهمنا ... وما بنا سرفٌ فيها ولا خرق
إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا ... ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق
ما يألف الدرهم الكاري خرقتنا ... إلا يمر عليها ثم ينطلق
إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ... ظلت إلى سبل المعروف تستبق
98- وقال أبو بكر بن عياش:
قيل لحاتم: هل في العرب أجود منك؟.
فقال: كل العرب أجود مني. ثم أنشأ يحدث فقال: نزلت على غلامٍ من العرب يتيم ذات ليلة، وكانت له مائةٌ من الغنم، فذبح منها شاةً وأتاني بها، فلما قرب إلي دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ!.
قال: فذهب، فلم يزل يأتيني منه حتى قلت: قد اكتفيت. فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة شاة، وبقي لا شيء له!.(1/106)
فقيل له: ما صنعت به؟.
قال: ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء؟.
قالوا: على كل حال.
فقال: أعطيته مائة ناقةٍ من خير إبلي!.
99- قرئ على ابن جوارش وأنا أسمع: أخبركم الحافظ أبو بكر بن المحب، أخبرنا ابن عبد الدائم، أخبرنا أبو عبد الله الإربلي، أخبرنا أبو الحسن بن عساكر، أخبرنا أبو طالب، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عبد الله الدقاق، أخبرنا أبو العباس بن مسروق، أخبرنا البرجلاني، حدثنا علي بن عاصم، حدثنا الليث بن أبي سليم، عن محمد بن بشر الهمداني، عن ابن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال:
لأن أجمع ناساً من إخواني على صاعٍ من طعام، أحب إلي من أن أدخل سوقكم هذه فأبتاع نسمةً فأعتقها.
100- وبه إلى البرجلاني: حدثنا أبو عمر الضرير، حدثنا فضالة الشحام قال:
كان الحسن إذا دخل عليه إخوانه أتاهم بما يكون عنده، ولربما قال لبعضهم: أخرج السلة من تحت السرير. فيخرجها، فإذا فيها رطب، فيقول: إنما ادخرته لكم.(1/107)
101- وبه إلى البرجلاني: حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا عيسى بن طهمان قال: قال لنا أنس بن مالك:
لا تأتونا وأنت صيام.
102- وبه إلى البرجلاني: حدثني معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة بن قدامة، عن الأعمش قال:
كنا نأتي خيثمة فيقول: تناولوا السلة من تحت السرير.
فأتناولها وفيها خبيص، فيقول: إني لست آكله، ولكني أصنعه لكم.
102- قال الأعمش:
ورأيت على إبراهيم ثياباً بيضاً فقال: كسانيها خيثمة.(1/108)
104- قرأت على الشهاب الفولاذي: أخبركم ابن بردس، أخبرنا ابن الخباز، أخبرنا أبو محمد الإربلي، أخبرنا أبو الحسن الطوسي، أخبرنا أبو عبد الله الفراوي، أخبرنا عبد الغافر الفارسي، حدثنا محمد الجلودي، حدثنا أبو إسحاق الزاهد، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن حاتم، حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني! قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟.
يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلانٌ فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟.
يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلانٌ فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي)).
105- وبه على مسلم: حدثنا أبو كامل وإسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الصمد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقةً فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك)).
106- وبه إلى مسلم: حدثنا أبو غسان المسمعي، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا أبو عامر -يعني الخزاز- عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/109)
((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق)).
107- أخبرنا جدي وابن مقبل إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر. كذلك أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا ابن الجوزي، أخبرنا محمد بن ناصر، حدثنا محمد بن الحسن الباقلاوي، حدثنا القاضي أبو العلاء الواسطي، حدثنا أبو الفتح الأزدي، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري قال:
كان لعلي رضي الله عنه جارية، وكان له مؤذنٌ بالرحبة يؤذن بغلس، وكانت الجارية تخرج تستعذب له الماء من الفرات، فكانت تمر بالمؤذن، فيقول لها: يا فلانة، أنا والله أحبك.
فلما أكثر عليها شكته إلى علي، فقال لها: إذا قال لك: أنا والله أحبك، فقولي له: وأنا والله أحبك، فماذا؟.
فقال له: فقال: نصبر حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين.
فجاءت إلى علي فأخبرته، فقال: اذهبي فأتني به.
فلما دخل عليه رحب به وأدناه، وقال له: يا فلان، في قلبك شيءٌ من فلانة؟.(1/110)
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: فهل علم بذلك أحدٌ من الناس؟.
قال: لا والله.
فناشده ثلاثاً، كل ذلك يحلف له.
قال: فشأنك بها، فخذ بيدها فهي لك، فهذا من حكم الله، وهو خير الحاكمين.
108- وقال أبو محمد النيسابوري في فوائده: قرأت على الشيخ أبي حازم النيسابوري: حدثنا أبو بكر بن إبراهيم، حدثنا أبو بكر بن خلف، حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا، حدثنا عبد الله بن الضحاك، حدثنا الهيثم بن عدي، عن أبي عوانة قال:
لما استخلف عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وفد الشعراء عليه، فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك يوماً وقد أزمعوا الرجوع، إذ مر بهم رجاء بن حيوة، وكان من خطباء أهل الشام، فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشأ يقول:
يا أيها الرجل المرخي عمامته ... هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
قال: فدخل فلم يذكر من أمرهم شيئاً. ومر بهم عدي بن أرطأة فقال له جرير:
يا أيها الراكب المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرةً ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني(1/111)
قال: فدخل عدي على عمر فقال له: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك، وسهامهم مسمومة، وأقوالهم نافذة.
فقال: ويحك يا عدي! ما لي وللشعر؟
فقال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح فأعطى، ولك في ذلك أسوة. قال: كيف؟.
قال: امتدحه عباس بن مرداس فأعطاه حلةً قطع بها لسانه.
قال: وتروي من قوله شيئاً؟.
قال: نعم. وأنشده:
رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتاباً جاء بالحق معلما
سرحت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمراً مدلساً ... وأطفأت بالقرآن ناراً تضرما
فمن مبلغٌ عني النبي محمداً ... وكل امرئٍ يجزى بما قد تكلما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجها ... وكان قديماً ركنه قد تهدما
تعالى علواً فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
قال: ويحك يا عدي! ومن بالباب منهم؟.
قال: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة.
قال: أليس الذي يقول:
ثم نبهتها فهبت كعاباً ... طفلةٌ ما تبين رجع الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت ... ويلتى قد عجلت يا ابن الكرام
أعلى غير موعدٍ جئت تسري ... تتخطى إلي رؤوس النيام
ما تجشمت ما رأيت من الأمر ... ولا جئت طارقاً لخصام(1/112)
فلو كان إذ فجر كتم على نفسه. لا يدخل علي والله أبداً! فمن بالباب؟.
قال: همام بن غالب، يعني الفرزدق.
قال: أوليس هو الذي يقول:
هما دلياني من ثمانين قامةً ... كما انقض باز أقتم الرأس كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحي يرجى أم قتيلٌ نحاذره
لا يطأ والله هذا بساطي أبداً. فمن سواه بالباب منهم؟.
قال: الأخطل. قال: يا عدي، أليس هو الذي يقول:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست بآكلٍ لحم الأضاحي
ولست بزاجرٍ عيساً بكورٍ ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائرٍ بيتاً بعيداً ... بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائمٍ كالعير أدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يدخل علي، وهو كافر. فهل بالباب سوى من ذكرت؟!.
قال: نعم، الأحوص، قال: أوليس هو الذي يقول وقد أفسد على رجلٍ من أهل المدينة جاريته حتى هرب بها منه:
الله بيني وبين سيدها ... يفر مني بها وأتبعه
غريبٌ عليه، فما هو بدون من ذكرت. فمن ها هنا؟.
قال: جميل من معمر. قال: يا عدي، هو الذي يقول:(1/113)
ألا ليتنا كنا جميعاً وإن نمت ... يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا بطول الحياة براغبٍ ... إذا قيل قد سوى عليها صفيحها
فلو كان عدو الله يتمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحاً. والله لا يدخل علي أبداً. فهل سوى من ذكرت أحدٌ؟.
قال: نعم، جرير بن عطية. قال: أما إنه ليقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لا بد فهو.
فأذن لجرير، فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً ... جعل الخلافة في الإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه ... حتى ارعوى وأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً ... والنفس مولعةٌ بحب العاجل
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير! اتق الله ولا تقل إلا حقاً. فأنشأ يقول:
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني ما بلغت من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملةٍ ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوفٍ كأن به ... خبلاً من الجن أو مساً من البشر
خليفة الله ماذا تأمرون بنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم يؤرقني ... قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا بادٍ على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر(1/114)
زان الخلافة إذا كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حياً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمر
فقال: ويحك يا جرير! ما أرى لك فيما ها هنا حقاً.
قال: بلى يا أمير المؤمنين، أنا ابن سبيلٍ ومنقطعٌ بي.
فأعطاه من صلب ماله مائة درهم.
قال: وذكر أنه قال له: ويحك يا جرير! ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلاثمائة درهم، فمائةٌ أخذها عبد الله، ومائةٌ أخذتها أم عبد الله. يا غلام، أعطه المائة الباقية.
قال: فأخذها وقال: والله لهي أحب مالٍ اكتسبته.
قال: ثم خرج من عنده، فقال له الشعراء: ما وراءك؟.
قال: ما يسوؤكم. خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض. وأنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
109- قرأت على الفخر المرشدي: أخبركم ابن الجزري، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر. وأخبرنا جدي وابن مقبل إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا أبو عبد الله بن راجح، أخبرنا السلفي، أخبرنا أبو الحسن بن العلاف، أخبرنا أبو عمر النحوي، عن الفضل بن الربيع قال:(1/115)
بينا أنا ذات ليلةٍ في منزلي بمكة، إذ أتاني رجلٌ فدق بابي، فخرجت، فإذا أنا بهارون، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي حتى آتيك؟.
قال: ويحك يا عباسي! إنه حاك في صدري شيء، فهل تعرف لي أحداً من العلماء؟.
فقلت: نعم، سفيان بن عيينة.
قال: وهو شاهد؟ قلت: نعم.
فانطلقنا إليه، فدققت عليه الباب، فقال: من هذا؟.
فقلت: أجب أمير المؤمنين.
فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي حتى آتيك؟.
قال: خذ لما جئناك به.
فحدثه ساعة، ثم قال له: يا ابن عيينة، أعليك دين؟.
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: يا عباسي، اقض دينه.
فخرجنا من عنده، فقال لي: يا عباسي، ما أغنى صاحبك شيئاً، فهل تعرف لي غيره؟.
قلت: نعم، عبد الرزاق الصنعاني.
فدققت الباب، فقال لي: من هذا؟.
فقلت: أجب أمير المؤمنين.
فخرج مسرعاً، فقال مثلما قال سفيان، فقال: خذ لما جئناك له.(1/116)
فحدثه ساعة، فقال: يا عبد الرزاق، أعليك دين؟.
قال: نعم. قال: يا عباسي، اقض دينه.
قال: فخرجنا، فقال: يا عباسي، ما أغنى عني صاحباك شيئاً، فهل تعرف غيرهما؟.
قلت: نعم، ها هنا فضيل بن عياض.
قال: وهو شاهد؟ قلت: نعم.
قال: فأتينا فضيلاً، فإذا هو في غرفةٍ له قائمٌ يصلي، يتلو آيةً من القرآن، فجعل يرددها، فجعل هارون يستمع ويبكي، وكان هارون رجلاً رقيقاً.
قال: فدققنا عليه الباب، فقال: من هذا؟.
فقلت: أجب أمير المؤمنين.
قال: ما لي ولأمير المؤمنين؟.
قلت: رحمك الله، أوما عليك طاعة؟.
قال: أوليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس للمؤمن أن يذل نفسه))؟ فنزل، ففتح الباب، ثم طلع الغرفة، فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاويةٍ من(1/117)
زوايا الغرفة. قال: فجعلت أجول أنا وهارون في البيت بأيدينا، فسبقت كف هارون كفي إليه، فسمعته وهو يقول: أوه من كف ما ألينها إن نجت من عذاب الله تعالى!.
قال: فعلمت أنه سيكلمه بكلامٍ نقي من قلبٍ تقي.
قال: خذ لما جئناك له.
فقال: يا أمير المؤمنين، لما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة دعا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة الكندي، فقال: ((ويحكم! إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا علي))، فعد الخلافة بليةً وعددتها نعمة أنت وأصحابك.
فقال سالم بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إذا أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل فصم الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت!.
وقال محمد بن كعب القرظي: يا أمير المؤمنين، إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً. فأكرم أباك، ووقر أخاك، وتحنن على ولدك.
وقال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين، إذا أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت. وإني لأقول لك هذا وإني لأخاف عليك أشد الخوف من يومٍ تزل فيه الأقدام.
فهل معك مثل هذا -رحمك الله- أو من يأمرك بمثل هذا؟.
فبكى هارون حتى غشي عليه. فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين رحمك الله!.
قال: يا ابن أم الربيع، تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا!.(1/118)
قال: فأفاق هارون، ثم استوى جالساً فقال: زدني.
فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن والياً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه، فكتب إليه: ((يا أخي، اذكر طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فإن أجلك يطردك إلى الموت نائماً ويقظان، وإياك أن ينصرف بك من عند الله عز وجل فيكون آخر العهد وينقطع الرجاء)). فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر، فقال: ما أقدمك؟ قال: قد خلعت قلبي بكتابك، ولا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل.
فبكى هارون حتى غشي عليه، ثم استوى جالساً فقال: زدني يرحمك الله.
قال: إن أباك عم المصطفى صلى الله عليه وسلم سأل المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: أمرني.
فقال: ((يا عباس، يا عم رسول الله، نفسٌ تحييها خيرٌ من إمارةٍ لا تحصيها، فإن الإمارة حسرةٌ وندامةٌ يوم القيامة)).
قال: زدني.
قال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه الحسن من النار فافعل، ولا تصبح وتمس وفي قلبك لأحدٍ من أهل ولايتك غش، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((من ولي من أمر المسلمين فأصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة)).(1/119)
قال: رحمك الله، هل عليك دين؟.
قال: نعم، دينٌ لربي تبارك وتعالى لم يحاسبني بعد، فويلٌ لي إن ناقشني، وويلٌ لي إن ساءلني، وويلٌ لي إن واقفني، وويلٌ لي إن لم ألهم حجتي!.
قال: أعليك من دين العباد؟.
قال: لا، لأن عندي خيراً كثيراً لا أحتاج معه إلى ما في أيدي الناس.
قال أبو عمر: كأنه يعني القرآن واليقين والدعاء.
قال: فهذه ألف دينار خذها تستعين بها على عيالك وزمانك، وتوسع بها عليهم.
قال: إن ربي عز وجل لم يأمرني بهذا، أمرني أن أطيع أمره، وأصدق وعده، وقد قال تبارك وتعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.
فراجعه، فقال: يا هذا، أنا أصف لك طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟.
ثم صمت فلم يرد علينا شيئاً، حتى خرجنا من عنده، فقال هارون: يا عباسي، إذا دللتني فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين!.(1/120)
110- وقد قرأت هذه الحكاية على الشهاب بن هلال، فكتب لي بخطه: عن ابن المحب، عن النابلسي، عن الواسطي، عن الشيخ موفق الدين. وبعضهم ينكر ذلك.
111- وقرأت على الشهاب بن الشريفة، عن المشايخ الثلاثة إجازة، أخبرنا شيخ الإسلام ابن أبي عمر وغيره، أخبرنا شيخ الإسلام موفق الدين، أخبرنا محمد، حدثنا أحمد، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا أبو عمر الجرمي، حدثنا الفضل بن الربيع.
فذكره، وفيها أن هارون قال له: هذه ألف دينار خذها لك فأنفقها وتقو بها على عبادة ربك.
فقال: يا سبحان الله، أدلك على النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك.
ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده. فلما أن صرنا من عنده على الباب قال لي هارون: يا عباسي، إذا دللتني على رجلٍ فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.
قال غير أبي عمر: فبينا نحن كذلك، إذ دخلت عليه امرأةٌ من نسائه فقالت: يا هذا، قد ترى سوء ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال تفرحنا به؟.
فقال: مثلي ومثلكم كمثل قومٍ لهم بعيرٌ يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه وأكلوا لحمه!.
فلما سمع هارون الكلام قال: نرجع، فعسى أن يقبل المال.(1/121)
قال: فدخل، فلما علم فضيلٌ خرج فجلس على ترابٍ في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلم يجبه. فبينما نحن كذلك إذ خرجت جاريةٌ سوداء فقالت: يا هذا، قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله. فانصرفنا.
112- وقال محمد بن جعفر الخرائطي: حدثنا العباس بن الفضل، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني حماد الراوية ومشيخةٌ من مشيخة طيئ قالوا:
كانت عتبة بنة عفيف بن عمرو بن امرئ القيس أم حاتم لا تمسك شيئاً؛ سخاءً وجوداً، وكان إخوتها يمنعونها فتأبى. وكانت امرأةً موسرة. فحبسوها في بيتٍ سنةً يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع، ثم أخرجوها بعد سنةٍ وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق، فدفعوا إليها صرمةً من مالها، وقالوا: استمتعي بها.
فأتتها امرأة من هوازن -وكانت تغشاها- فسألتها، فقالت: دونك هذه الصرمة، فقد والله مسني من الجوع ما آليت أن لا أمنع سائلاً شيئاً. ثم أنشأت تقول:
لعمري لقدما عضني الجوع عضةً ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا
فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
فماذا عسيتم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو منع من كان مانعا
ومهما ترون اليوم إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا بني الطبائعا؟(1/122)
113- وقال الهيثم بن عدي، عن ملحان بن عركي بن عدي بن حاتم، عن أبيه، عن جده قال:
شهدت حاتماً يكيد بنفسه، فقال لي: أي بني، إني أعهد من نفسي ثلاث خلال: والله ما خاتلت جارةً لريبة قط، ولا اؤتمنت على أمانةٍ إلا أديتها، ولا أتي أحدٌ قط من قبلي بسوء.
114- قرئ على ابن جوارش وأنا أسمع: أخبركم ابن المحب، أخبرنا أبو بكر بن عبد الدائم، أخبرنا أبو عبد الله الإربلي، أخبرنا أبو الحسن بن عساكر، أخبرنا أبو طالب، أخبرنا أبو محمد الجواهري، أخبرنا أبو عبد الله الدقاق، أخبرنا أبو العباس بن مسروق، أخبرنا أبو شيخ البرجلاني، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا أبو خلدة قال:
دخلنا على محمد بن سيرين أنا وعبد الله بن عون، فرحب بنا وقال: ما أدري ما أتحفكم، كل رجلٍ منكم في بيته خبزٌ ولحم، لكن سأطعمكم شيئاً لا أراه في بيوتكم.
فجاء بشهدة، فكان يقطع بالسكين ويطعمنا!.
115- وبه إلى البرجلاني: حدثنا عمرو بن خالد الأعشى -أعشى بني أسد-، حدثنا الحر بن كثير الكندي، عن أبيه قال:
خرجت مع الحسين بن علي من المسجد أشيعه، حتى انتهينا إلى بني(1/123)
تميم -وكان متزوجاً منهم- فلما انتهينا إلى بابه وقف، قال: ادخل أيها الرجل، فقلت: بارك الله لك يا ابن رسول الله في منزلك وطعامك.
قال: علي أن لا ندخرك ولا نكلف لك.
فدخلت، فدعا لي بطعام، فأتيت به، فأصبت منه، ودعا بطيب فأصبت منه، ثم رفع مصلاه فأخرج من تحته كيساً فيه دراهم، فدفعه إلي فقال: استنفق هذه.
قال: فخرجت، فعددتها فإذا هي خمسمائة درهم!.
116- وبه إلى البرجلاني: حدثنا عمرو بن محمد، عن سفيان، عن رجل قال: قال الأحنف بن قيس:
ثلاثٌ ليس فيهن انتظار: الجنازة إذا وجدت من يحملها، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً، والضيف إذا نزل لم ينتظر به الكلفة.
117- وبه إلى البرجلاني: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبيد الله بن الوليد، حدثني عبد الله بن عبيد قال: قال رجلٌ رابه:
هلاكٌ بالرجل إذا دخل عليه الرجل من إخوانه فيحتقر ما في بيته أن يقدمه، وهلاكٌ بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليهم.(1/124)
118- وبه إلى البرجلاني: حدثنا أبو الجنيد الضرير، حدثنا مسلم بن عتاب قال: سمعت بكر بن عبد الله يقول:
إذا أتاك ضيفٌ فلا تنتظر به ما ليس عندك وتمنعه ما عندك، قدم إليه ما حضر وانتظر به بعد ذلك ما تريد من إكرامه.
119- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرنا ابن الزعبوب وابن اليونانية وعائشة بنت عبد الهادي، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي مليكة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، أخبره عن أسماء بنت أبي بكر، أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
((لا توعي فيوعي الله عليك، ارضخي ما استطعت)).
وفي رواية: ((لا توكي فيوكى عليك)).
وفي رواية: ((لا تحصي فيحصي الله عليك)).
120- وبه إلى البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثني أخي، عن سليمان، عن معاوية بن أبي مزرد، عن أبي الحباب، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(1/125)
((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)).
121- وقال المرزباني: حدثني عمر بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب، عن الزبير بن بكار قال: حدثني مؤمن بن عمر بن أفلح، أخبرني بلال مولى ابن أبي عتيق في حديث طويل قال:
لما سمع ابن أبي عتيق قول ابن أبي ربيعة: من رسولي إلى الثريا قال إياي أرادوني، نوه، لا جرم والله لا أذوق أكلاً حتى أشخص إليه لأصلح بينهما.
فنهض ونهضت معه، فجاء قوماً من بني الدئل بن بكر لم تكن النجائب تفارقهم، يكرونها، فاكترى منهم راحلتين وأغلى لهم بها، فقلت: لو استوضعتهم شيئاً، أو دعني أماكسهم فقد اشتطوا.
فقال: ويحك! أما علمت أن المكاس ليس من خلق الكرام؟!
وركب على إحداهما، وركبت الأخرى، فسار سيراً شديداً، فقلت: ارفق على نفسك فإن ما تريد لا يفوتك.
فقال: أبادر حبل الود أن ينقضب، وما ملح الدنيا أن يتم الصدع بين عمر والثريا؟.(1/126)
فقدمنا مكة ليلاً غير محرمين، فدق على عمر بابه، فخرج إليه، فسلم عليه، فما نزل ابن أبي عتيق عن راحلته، وقال لعمر: اركب أصلح بينك وبين الثريا، فأنا رسولك الذي سألت عنه.
فركب معنا، فقدمنا الطائف، فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جشمني سفر المدينة، فجئتك به معترفاً بذنبٍ لم يجنه، معتذراً من إساءتك إليه، فدعيني من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون.
فصالحته أحسن صلح، وكررنا راجعين إلى المدينة، ولم يقم ابن أبي عتيق بمكة ساعةً واحدة. وقول عمر بن أبي ربيعة فيها:
من رسولي إلى الثريا فإني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب
وهي مكنونةٌ تحير منها ... في أديم الخدين ماء الشباب
سلبتني مجاجة المسك عقلي ... فسلوها بما يحل اغتصابي
أزهقت أم نوفلٍ إذ دعتها ... مهجتي ما لقاتلي من متاب
حين قالت [لها] أجيبي فقالت: ... من دعاني، قالت: أبو الخطاب
أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها؟ قلت: بهراً ... عدد القطر والحصى والتراب
122- أخبرنا جدي وابن مقبل إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا ابن طبرزد، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن أحمد، حدثنا أبو طالب العشاري، حدثنا ابن سمعون، حدثنا أحمد بن(1/127)
عثمان، حدثنا جعفر بن كزال، حدثنا أبو بلال الأشعري، حدثنا أبو كدينة، عن ليث، عن مجاهد قال:
كانوا يقولون: لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له.
123- وبه إلى ابن سمعون: حدثنا أبو محمد الصوفي، حدثنا أحمد الطوسي، حدثنا أحمد بن الحارث، سمعت المأمون يقول: حدثنا أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث قال: قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:
من كثر صديقه ركب رقاب أعدائه.
124- وبه إلى ابن سمعون: حدثنا أبو محمد بن بصير، حدثنا أحمد الطوسي، حدثنا أبو يعقوب الصفار، حدثنا أبو أسامة، عن المبارك بن فضالة، عن حميد الطويل قال: قال أبو قلابة:
إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تجد عليه فيه فاطلب له العذر جهدك، فإن لم تجده فقل: عسى عذره لم يبلغ علمي.
125- وبه إلى الطوسي: حدثنا الصلت بن مسعود، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، حدثنا أبو يونس، عن الحسن، أن موسى عليه السلام قال:
أي رب، أخبرني بجماعٍ أعمل به.
قال: انظر ما تحب أن يصاحبك به الناس فصاحبهم بمثله!.
126- أخبرنا ابن جوارش، أخبرنا ابن المحب، أخبرنا ابن عبد الدائم، أخبرنا الإربلي، أخبرنا ابن عساكر، أخبرنا أبو طالب، أخبرنا الجوهري،(1/128)
أخبرنا الدقاق، أخبرنا ابن مسروق، أخبرنا البرجلاني، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن عون، عن محمد قال:
كان يقال: لا تكرم صديقك فيما يشق عليه.
127- وبه إلى البرجلاني: حدثنا هوذة بن خليفة وسعيد بن عامر، عن عوف، عن زرارة بن أبي أوفى، عن عبد الله بن سلام قال:
لما رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أن وجهه ليس وجه كذاب. وكان أول ما سمعته يقول:
((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).
128- وبه إلى البرجلاني: حدثنا داود بن محبر، حدثنا أبو حفص قال: سمعت أبا السوار العدوي يقول:
كان رجالٌ من بني عدي يقيلون في هذا المسجد، ما أفطر أحدٌ منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه.(1/129)
129- وبه إلى البرجلاني: حدثني خالد بن يزيد، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن:
أن ابن عمر كان لا يأكل طعاماً إلا ويقيم معه على مائدته، يعني من يأكل معه.
130- وبه إلى البرجلاني: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا هشيم بن بشير، عن عبد الرحمن بن يحيى الصدفي، عن حبان بن أبي جبلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن أسرع صدقةٍ تصعد إلى السماء أن يصنع الرجل طعاماً طيباً ثم يجمع عليه ناساً من إخوانه)).
131- وبه إلى البرجلاني: حدثنا أحمد بن عبد الله، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال:
قلت: يا رسول الله، إني مررت برجلٍ فلم يضيفني ولم يقرني، فمر بي، أفأجازيه؟.
قال: ((لا، بل أقره)).
132- وبه إلى البرجلاني: حدثنا أبو إسحاق الطالقاني، عن ضمرة، عن ابن شوذب قال:(1/130)
كان أبان بن أبي عياش يدعو إخوانه، فيصنع لهم الطعام، ويجيزهم بالدراهم.
133- وبه إلى البرجلاني: حدثنا داود بن مهران، حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت عطاء يقول:
ما رأيت مجلساً قط أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقهاً، وأعظم جفنة. إن أصحاب القرآن عنده، وأصحاب النحو عنده، وأصحاب الشعر عنده، وأصحاب الفقه عنده، يسألونه، كلهم يصدرهم في وادٍ واسع.
134- وبه إلى البرجلاني: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الله بن أبي الوسيم قال:
أتينا عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله نسأله في دينٍ على رجلٍ من أصحابنا، فأمر بالموائد فنصبت، ثم قال: لا، حتى تصيبوا من طعامنا، فيجب علينا حقكم وذمامكم.
قال: فأصبنا من طعامه، فأمر لنا بعشرة آلاف درهمٍ في قضاء دينه، وخمسة آلاف درهم نفقةً لعياله.
135- وبه إلى البرجلاني: حدثنا إسحاق بن منصور، سمعت داود الطائي يقول:(1/131)
كان حماد بن أبي سليمان سخياً على الطعام، جواداً بالدنانير والدراهم.
136- وبه إلى البرجلاني: حدثنا إسحاق بن سليمان، سمعت حماد بن أبي حنيفة يقول:
لم يكن بالكوفة أسخى على طعامٍ ومالٍ من حماد بن أبي سليمان، من بعده خلف بن حوشب.
137- وبه إلى البرجلاني: حدثنا داود بن محبر، عن حسن بن صالح قال:
سئل الحسن عن حسن الخلق فقال: الكرم، والبذلة، والاحتمال.
138- وبه إلى البرجلاني: حدثني هارون بن معروف، عن ضمرة، عن رجاء، عن ابن عون قال:
دخلنا على الحسن، فقدم إلينا مرقاً ما فيه لحم.(1/132)
139- وبه إلى البرجلاني: حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبو عاصم الثقفي، حدثنا الشعبي قال:
انطلقت أنا ورجلٌ حتى دخلنا على فاطمة بنت قيس، فقلنا: حدثينا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأطعمتنا رطباً، وسقتنا سلتاً، وقالت: نعم. ثم قص الحديث.
140- وبه إلى البرجلاني: حدثنا الصلت بن حكيم، عن الصلت بن بسطام قال:
كان حماد بن أبي سليمان يفطر في كل ليلةٍ في شهر رمضان مائة إنسان، فإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوباً ثوباً، وأعطاهم مائةً مائة.
141- وقال الرياشي: قال حماد الراوية:
أتيت مكة، فجلست في حلقةٍ فيها عمر بن أبي ربيعة، فتذاكروا العذريين، فقال عمر بن أبي ربيعة:
كان لي صديقٌ من عذرة يقال له الجعد بن مهجع، وكان أحد بني سلامان، وكان يلقى مثل الذي ألقى من الصبابة بالنساء والوجد بهن، على أنه كان لا عاهر الخلوة، ولا سريع السلوة، وكان يوافي الموسم في كل سنة، فإذا راث عن وقته توكفت له الأسفار، وترجمت عنه الأخبار(1/133)
حتى يقدم. فغمني ذلك سنة إبطاؤه حتى قدم حجاج عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي، وإذا غلامٌ قد تنفس الصعداء، ثم قال: عن أبي مسهرٍ تسأل؟.
قلت: عنه أسأل وإياه أردت.
قال: هيهات هيهات، أصبح والله أبو مسهر لا مؤيس فيهمل ولا مرجو فيعلل، أصبح والله كما قال القائل:
لعمرك ما حبي لأسماء تاركي ... أعيش ولا أقضى به فأموت
قال: قلت: وما الذي به؟.
قال: مثل الذي بك في تهوككما في الضلال وجركما أذيال الخسار، فكأنكما لم تسمعا بجنةٍ ولا نار.
قلت: من أنت منه يا ابن أخي؟ قال: أخوه.
قلت: أما والله يا ابن أخي ما يمنعك أن تسلك مسلك أخيك من الأدب وأن تركب مركبه إلا أنك وأخاك كالبرد والبجاد، لا ترفعه ولا يرفعك.
ثم صرفت وجه ناقتي وأنا أقول:
أرائحةٌ حجاج عذرة وجهةً ... ولما يرح في القوم جعد بن مهجع
خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى ... متى ما يقل أسمع وإن قلت يسمع
ألا ليت شعري أي شيءٍ أصابه ... فلي زفراتٌ هجن من بين أضلعي
فلا يبعدنك الله خلا فإنني ... سألقى كما لاقيت في الحب مصرعي(1/134)
ثم انطلقت حتى وقفت موقفي من عرفات، فبينا أنا كذلك إذا أنا بإنسانٍ قد تغير لونه وساءت هيئته، فأدنى ناقته من ناقتي حتى خالف بين أعناقهما، ثم عانقني، وبكى حتى اشتد بكاؤه، فقلت: ما وراءك؟.
قال: برح العذل وطول المطل. ثم أنشأ يقول:
لئن كانت عيينة ذات لب ... لقد علمت بأن الحب داء
ألم تنظر إلى تغيير جسمي ... وأني لا يفارقني البكاء
وأني لو تكلفت الذي بي ... لقف الكلم وانكشف الغطاء
وأن معاشري ورجال قومي ... حتوفهما الصبابة واللقاء
إذا العذري مات خلي ذرعٍ ... فذاك العبد يبكيه الرشاء
فقلت: يا أبا مسهر، إنها ساعةٌ نضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، ولو دعوت كنت قمنا أن تظفر بحاجتك وأن تنصر على عدوك.
قال: فتركني وأقبل على الدعاء. فلما تدلت الشمس للغروب وهم الناس أن يفيضوا، سمعته تكلم بشيء، فأصغيت إليه فإذا هو يقول:
يا رب كل غدوةٍ وروحه ... من محرمٍ يشكو الضنى ولوحه
أنت حسيب الخطب يوم الدوحه ...
فقلت: وما يوم الدوحة؟.
قال: والله لأخبرنك ولو لم تسألني!.
فيممنا نحو مزدلفة، فأقبل علي وقال: إني رجلٌ ذو مالٍ كثير، من(1/135)
نعم وشاء، وذو المال لا يصدره القل ولا يرويه الثماد، وإني خشيت عام أولٍ على مالي التلف، ونصر الغيث أرض كلب فانتجعت أخوالي منهم، فأوسعوا لي عن صدر المجلس، وسقوني جمة الماء، وكنت فيهم في خير أحوال.
ثم إني عزمت على موافقة إبلي بماءٍ لهم يقال له الجوذاب، فركبت فرسي، وسمطت خلفي شراباً كان أهداه إلي بعضهم، ثم مضيت، حتى إذا كنت بين الحي ومرعى الغنم رفعت لي دوحةٌ عظيمة، فنزلت عن فرسي، وشددته بغصنٍ من أغصانها، وجلست في ظلها.
فبينا أنا كذلك، إذ سطع غبارٌ من ناحية الحي، ثم رفعت له شخوصٌ ثلاثة، ثم تبينت فإذا فارسٌ يطرد مسحلاً وأتاناً، فتأملته فإذا عليه درعٌ أصفرٌ وعمامة خز سوداء، وإذا فروع شعره تضرب خصريه، فقلت: غلام حديث عهدٍ بعرسٍ أعجلته لذة الصيد فترك ثوبه ولبس ثوب امرأته. فما جاز عني إلا يسيراً حتى طعن المسحل، وثنى طعنه الأتان فصرعهما، وأقبل راجعاً نحوي وهو يقول:
فطعنهم سلكى ومخلوجةً ... كرك لأمين على نابل
فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت، فلو نزلت.
فثنى رجله فنزل، وشد فرسه بغصنٍ من أغصان الشجرة، وألقى(1/136)
رمحه، وأقبل حتى جلس، فجعل يحدثني حديثاً ذكرت به قول أبي ذؤيب:
وإن حديثاً منك لو تبدلينه ... جنى النحل في ألبان عوذ مطافل
وقمت إلى فرسي فأصلحت من أمره، ثم رجعت وقد حسر العمامة عن رأسه، فإذا غلامٌ كأنه الدينار المنقوش، فقلت: سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك وأحسن صنعتك.
فقال لي: مم ذاك؟ فقلت: مما راعني من جمالك وبهرني من نورك.
فقال: وما الذي يروعك من حبيس التراب وأكيل الدواب، ثم لا يدري أينعم بعد ذلك أن يبأس؟
قلت: لا يصنع الله بك إلا خيراً.
ثم تحدثنا ساعة، فأقبل علي فقال: ما هذا الذي أرى قد سمطت في سرجك؟
قلت: شرابٌ أهداه إلي بعض أهلك، فهل لك فيه من أرب؟.
قال: أنت وذاك.
فأتيته به فشرب منه، وجعل بنكث أحياناً بالسوط على ثناياه، فجعل والله يتبين لي ظل السوط فيهن، فقلت: مهلاً، فإني خائفٌ أن تكسرهن!.
فقال: ولم؟ قلت: لأنهن رقاقٌ وهن عذاب.(1/137)
قال: فرفع عقيرته يتغنى:
إذا قبل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يأثم وكان له أجرا
فإن زاد زاد الله في حسناته ... مثاقيل يمحو الله عنه بها الوزرا
ثم قام إلى فرسه فأصلح من أمره، ثم رجع.
قال: فبرقت لي بارقةٌ تحت الدرع، فإذا ثدي كأنه حق عاج، فقلت: نشدتك الله، أأمرأةٌ أنت؟.
قال: إي والله، إلا أنها تكره العشير وتحب الغزل؟.
ثم جلست، فجعلت تشرب معي، ما أفقد من أنسها شيئاً، حتى نظرت على عينيها كأنهما عينا مهاةٍ مذعورة، فوالله ما راعني إلا ميلها على الدوحة سكرى، فزين -والله- لي الغدر وحسن في عيني، ثم إن الله عز وجل عصمني منه، فجلست منها حجرة، فما لبثت إلا يسيراً حتى انتبهت فزعة، فلاثت عمامتها برأسها، وجالت في متن فرسها، وقالت لي: جزاك الله عن الصحبة خيراً.
قلت: ألا تزودينني منك زاداً؟ فناولتني يدها فقبلتها، فشممت -والله- منها ريح السياب الفتوق، فذكرت قول الشاعر:
كأنها إذ تقضى النوم وانتبهت ... سحابةٌ ما بها عينٌ ولا أثر
قلت: وأين الموعد؟.(1/138)
قالت: إن لي إخوةٌ شوساً وأباً غيوراً، والله لأن أسرك أحب إلي من أن أضرك.
ثم انصرفت. فجعلت أتبعها بصري حتى غابت. فهي والله يا ابن أبي ربيعة أحلتني هذا المحل، وأبلغتني هذا المبلغ.
فقلت: يا أبا مسهر، إن الغدر بك مع ما تذكر لمليح!.
فبكى واشتد بكاؤه، فقلت له: لا تبك، فما قلت لك ما قلت إلا مازحاً، ولو لم أبلغ في حاجتك بمالي لسعيت في ذلك حتى أقدر عليه.
فقال لي خيراً. فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشد على ناقته، ودعوت غلامي فشد على بعيرٍ له، وحملت عليه قبةً حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة، وحملت معي ألف دينار ومطرف خز، وانطلقنا حتى أتينا بلاد كلب، فنشدنا عن أبي الجارية فوجدناه في نادي قومه، وإذا هو سيد الحي، وإذا الناس حوله. فوقفت على القوم، فسلمت، فرد الشيخ السلام، ثم قال: من الرجل؟.
قلت: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة.
فقال: المعروف غير المنكر. فما الذي جاء بك؟.
قلت: خاطباً، قال: الكفء والرغبة.
قلت: إني لم آت ذلك لنفسي، عن غير زهادة فيك ولا جهالةٍ بشرفك، ولكني أتيت في حاجة ابن أخيكم العذري، وها هو ذاك.
فقال: والله إنه لكفيء الحسب، رفيع البيت، غير أن بناتي لم يقعن إلا في هذا الحي من قريش.
فوجمت لذلك، وعرف التغير في وجهي فقال: أما إني صانعٌ بك ما لم أصنع بغيرك.(1/139)
قلت: فما ذاك، فمثلي [من] شكر.
قال: أخيرها، فهي وما اختارت.
قلت: ما أنصفتني إذ تختار لغيري وتولي الخيار غيرك.
فأشار إلي العذري أن دعه يخيرها.
فأرسل إليها أن من الأمر كذا. فأرسلت إليه: ما كنت لأستبد بأمرٍ دون القرشي، فالخيار في قوله، حكمه.
فقال لي: إنها قد ولتك أمرها، فاقض ما أنت قاض.
فحمدت الله تعالى وأثنيت عليه، وقلت: اشهدوا أني قد زوجتها من الجعد بن مهجع، وأصدقتها هذا الألف دينار، وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة، وكسوت الشيخ المطرف. وسألته أن يبني بها عليه من ليلته، فأرسل إلى أمها، فأتت فقالت: تخرج ابنتي كما تخرج الأمة؟.
فقال الشيخ: هجري في جهازها.
فما برحت حتى ضربت القبة في وسط الحريم، ثم أهديت إليه ليلاً، وبت أنا عند الشيخ.
فلما أصبحت أتيت القبة، فصحت بصاحبي، فخرج إلي وقد أثر السرور فيه، فقلت: كيف كنت بعدي، وكيف هي بعدك؟.
فقال: أبدت لي والله كثيراً مما كانت أخفته عني يوم لقيتها، فسألتها عن ذلك فأنشأت تقول:
كتمت الهوى لما رأيت جازعاً ... وقلت فتىً بعض الصديق يريد
وأن تطرحني أو تقول فتيةٌ ... يضر بها برح الهوى فتعود
فوريت عما بي وفي داخل الحشا ... من الوجد برح فاعلمن شديد(1/140)
فقلت: أقم على أهلك بارك الله لك فيهم. وانطلقت وأنا أقول:
كفيت أخي العذري ما كان نابه ... وإني لأعباء النوائب حمال
أما استحسنت مني المكارم والعلا ... إذا طرحت إني لمالي بذال
وقال العذري:
إذا ما أبو الخطاب خلى مكانه ... فأف لدنيا ليس من أهلها عمر
فلا حي فتيان الحجازين بعده ... ولا سقيت أرض الحجازين بالمطر؟
142- وقال ابن معمر القيسي:
حججت سنة، ثم دخلت مسجد المدينة لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا جالسٌ بين القبر والمنبر، إذ سمعت أنيناً، فأصغيت إليه فإذا هو يقول:
أشجاك نوح حمائم السدر ... فأهجن منك بلابل الصدر
أم عز نومك ذكر غانيةٍ ... أهدت إليك وساوس الفكر
يا ليلةً طالت على دنفٍ ... يشكو السهاد وقلة الصبر
أسلمت من يهوى لحر جوي ... متوقدٍ كتوقد الجمر
فالبدر يشهد أنني كلفٌ ... مغرى بجب شبيهة البدر
ما كنت أحسبني أهيم بها ... حتى بليت وكنت لا أدري
ثم انقطع الصوت، فلم أدر من أين جاء، وإذا به قد أعاد البكاء والأنين، ثم أنشد:(1/141)
أشجاك من ريا خيالٌ زائر ... والليل مسود الذوائب عاكر
واعتاد مهجتك الهوى برشيشه ... واهتاج مقلتك الخيال الزائر
ناديت ريا والظلام كأنه ... يم تلاطم فيه موجٌ زاخر
والبدر يسري في السماء كأنه ... ملكٌ ترجل والنجوم عساكر
وترى به الجوزاء ترقص في الدجى ... رقص الحبيب علاه سكرٌ ظاهر
يا ليل طلت على محب ما له ... إلا الصباح مساعدٌ ومؤازر
فأجابني: مت حتف أنفك واعلمن ... أن الهوى لهو الهوان الحاضر
قال: وكنت قد ذهبت عند ابتدائه، فلم ينته إلا وأنا عنده، فرأيت شاباً، مقتبلاً شبابه، قد حرق الدمع في خده حرقين، فسلمت عليه، فقال: اجلس، من أنت؟.
قلت: عبد الله بن معمر القيسي. قال: ألك حاجة؟.
قلت: نعم، كنت جالساً في الروضة، فما راعني إلا صوتك، فبنفسي أفديك، فما الذي تجد؟.
قال: أنا عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري، غدوت يوماً إلى مسجد الأحزاب، فصليت فيه، ثم اعتزلت غير بعيد، فإذا بنسوةٍ قد أقبلن يتهادين مثل القطا، في وسطهن جاريةٌ بديعة الجمال كاملة الملاحة. فوقفت علي وقالت: يا عتبة! ما تقول في وصل من يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبت، فلم أسمع لها خبراً، ولا قفوت لها أثراً، وأنا حيرانٌ أتنقل من مكانٍ إلى مكان. ثم صرخ وأكب مغشياً(1/142)
عليه، ثم أفاق كأنما صبغت وجنتاه بورس، ثم أنشد:
أراكم بقلبي من بلادٍ بعيدة ... فيا هل تروني بالفؤاد على بعد
فؤادي وطرفي يأسفان عليكم ... وعندكم روحي وذكركم عندي
ولست ألذ العيش حتى أراكم ... ولو كنت في الفردوس أو جنة الخلد
فقلت: يا ابن أخي، تب إلى ربك واستغفر من ذنبك، فبين يديك هول المطلع.
فقال: ما أنا بسالٍ حتى يؤوب القارظان.
ولم أزل معه إلى أن طلع الصبح. فقلت: قم بنا إلى مسجد الأحزاب، فلعل الله أن يكشف كربك.
قال: أرجو ذاك إن شاء الله ببركة طلعتك.
فذهبنا حتى أتينا مسجد الأحزاب، فسمعته يقول:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النهى طربا
ما إن يزال غزال منه يقلقني ... يأتي إلى مسجد الأحزاب منتقبا
يخبر الناس أن الأجر همته ... وما أتى طالباً للأجر محتسبا
لو كان يبغي ثواباً ما أتى طهراً ... مضمخاً بفتيت المسك مختضبا
ثم جلسنا حتى صلينا الظهر، وإذا بالنسوة قد أقبلن وليست الجارية فيهن، فوقفن عليه وقلن: يا عتبة، ما ظنك بطالبة وصلك وكاشفة بالك؟.(1/143)
قال: وما بالها؟.
قلن: أخذها أبوها وارتحل بها إلى أرض السماوة.
فسألتهن عن الجارية فقلن: هي ريا بنة الغطريف السلمي.
فرفع عتبة رأسه إليهن وقال:
خليلي ريا قد أجد بكورها ... وسارت إلى أرض السماوة عيرها
خليلي إني قد غشيت من البكا ... فهل عند غيري مقلةٌ أستعيرها
فقلت له: إني قد وردت بمالٍ جزيلٍ أطلب به أهل الستر، ووالله لأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضا، فقم بنا إلى مسجد الأنصار.
فقمنا، وسرنا حتى أشرفنا على ملأ منهم، فسلمت، فأحسنوا الرد، فقلت: أيها الملأ، ما تقولون في عتبة وأبيه؟.
قالوا: من سادات العرب.
فقلت: إنه قد رمي بداهية من الهوى، وما أريد منكم إلا المساعدة إلى السماوة.
فقالوا: سمعاً وطاعة.
فركبنا، وركب القوم معنا، حتى أشرفنا على منازل بني سليم، فأعلم الغطريف بنا، فخرج مبادراً، فاستقبلنا وقال: حييتم بالإكرام.
فقلنا: وأنت فحياك الله، إنا لك أضياف.
فقال: نزلتم أكرم منزل.(1/144)
ثم نادى: يا معشر العبيد، أنزلوا القوم.
ففرشت الأنطاع والنمارق، وذبحت الذبائح، فقلنا: لسنا بذائقي طعامك حتى تقضي حاجتنا.
فقال: وما حاجتكم؟.
قلنا: نخطب عقيلتك الكريمة لعتبة بن الحباب بن المنذر.
فقال: إن التي تخطبونها أمرها إلى نفسها، وأنا أدخل أخبرها.
ثم دخل مغضباً على ابنته، فقالت: يا أبت، ما لي أرى الغضب في وجهك؟.
فقال: قد ورد الأنصار يخطبونك مني.
قالت: سادات كرام استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلمن الخطبة منهم؟.
قال: لعتبة بن الحباب.
قالت: والله لقد سمعت عن عتبة هذا أنه يفي بما وعد، ويدرك إذا قصد.
فقال: أقسمت لا أزوجك به أبداً، ولقد نمي إلي بعض حديثك معه.
فقالت: ما كان ذلك، ولكن إذا أقسمت فإن الأنصار لا يردون رداً قبيحاً، فأحسن لهم الرد.
فقال: بأي شيء؟.
قالت: أغلظ لهم المهر، فإنهم يرجعون ولا يجيبون.
فقال: ما أحسن ما قلت.(1/145)
ثم خرج مبادراً فقال: إن فتاة الحي قد أجابت، ولكني أريد لها مهر مثلها، فمن القائم به؟
قال عبد الله بن معمر، أنا، فقل ما شئت.
قال: ألف مثقالٍ من الذهب، ومائة ثوب من الأبراد، وخمسة أكرشة عنبر.
فقال عبد الله: لك ذلك، فهل أجبت؟ قال: أجل.
قال عبد الله: فأنفذت نفراً من الأنصار إلى المدينة، فأتوا بجميع ما طلب. ثم صنعت الوليمة، وأقمنا على ذاك أياماً، ثم قال: خذوا فتاتكم وانصرفوا مصاحبين.
ثم حملها في هودج، وجهزها بثلاثين راحلة من المتاع والتحف، فودعناه، وسرنا، حتى إذا بقي بيننا وبين المدينة مرحلةٌ واحدة، خرجت علينا خيل تريد الغارة، وأحسبها من سليم. فحمل عليها عتبة، فقتل منهم رجالاً وخذل منهم آخرين، ثم رجع وبه طعنةٌ تفور دماً. فسقط إلى الأرض، وأتتنا نجدةٌ فطردت عنا الخيل، وقد قضى عتبة نحبه.
فقلنا: واعتبتاه. فسمعتنا الجارية فألقت نفسها عن البعير، وجعلت تصيح بحرقة، وأنشدت:
تصبرت لا أني صبرت وإنما ... أعلل نفسي أنها بك لاحقه
فلو أنصفت روحي لكانت إلى الردى ... أمامك من دون البرية سابقه
فما أحدٌ بعدي وبعدك منصفٌ ... خليلاً ولا نفسٌ لنفسٍ موافقه
ثم شهقت وقضت نحبها، فاحتفرنا لهما قبراً واحداً ودفناهما فيه. ثم رجعت فأقمت سبع سنين. ثم ذهبنا إلى الحجاز، ووردت المدينة فقلت: والله لآتين قبر عتبة بن الحباب أزوره. فأتيت القبر، فإذا عليه شجرةٌ عليها(1/146)
عصائب حمر وصفر، فقلت لأرباب المنزل. ما يقال لهذه الشجرة؟ قالوا: شجرة العروسين!.
143- أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثني يزيد، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو:
أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟.
قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).
144- أخبرنا ابن جورش، أخبرنا ابن المحب، أخبرنا أبو بكر بن عبد الدائم، أخبرنا أبو عبد الله الإربلي، حدثنا ابن عساكر، حدثنا أبو طالب، أخبرنا أبو محمد الجوهري، حدثنا أبو عبد الله الدقاق، حدثنا أبو العباس بن مسروق، حدثنا البرجلاني، حدثني محمد بن معاوية، حدثنا حماد بن عبيد، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال:
كنت من جلساء علي رضي الله عنه، فكان يطعم على مائدته لوناً واحداً، لا يزيد على ذلك.
145- وبه حدثنا زكريا بن عدي، عن ابن إدريس قال:
كنت مع حماد بن أبي سليمان، فانقطع زره، فتقدم إلى خياطٍ فأصلحه له، فدفع إليه درهماً، وجعل يعتذر إليه ويقول: ليس معي غيره، ليس بحضرتي الآن غيره.(1/147)
146- وبه إلى البرجلاني: حدثنا عثمان بن زفر، سمعت محمد بن صبيح يقول:
لما قدم أبو الزناد الكوفة على الصدقات، كلم رجلٌ حماد بن أبي سليمان في رجلٍ يكلم له أبا الزناد، يستعين به في بعض أعماله، فقال حماد: كم يؤمل صاحبك من أبي الزناد أن يصيب منه؟ قال: ألف درهم. قال: فقد أمرت له بخمسة آلاف درهم ولا تبذل وجهي إليه. قال: جزاك الله خيراً، فهذا أكثر مما أمل ورجا.
قال عثمان: وقال ابن السماك: وكلمه آخر في ابنه أن يحوله من كتاب إلى كتاب، فقال للذي يكلمه: إنما يعطى المعلم ثلاثين كل شهر، وقد أجريناها لصاحبك مائة، دع الغلام مكانه.
147- وبه إلى البرجلاني: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا الصلت بن بسطام التيمي، عن أبيه قال:
كان حماد بن أبي سليمان يزورني، فيقيم عندي سائر نهاره، ولا يطعم شيئاً، فإذا أراد أن ينصرف قال: انظر الذي تحت الوسادة فمرهم أن ينتفعوا به.
قال: فأخذ الدراهم الكثيرة.
148- وبه إلى البرجلاني: حدثنا الحميدي، عن سفيان، عن زهير أبي خيثمة قال:(1/148)
استقرض أبي من الحسن بن الحر ألف درهم، فلما جاء يردها عليه قال له الحسن بن حر: اذهب فاشتر بها لزهير سكراً!.
149- وبه إلى البرجلاني: حدثنا خالد بن يزيد، عن أبي شهاب الحناط، عن عمرو بن قيس قال:
حج خيثمة مع نفر من أصحابه، فلما كانت ليلة جمع، سمع رجلاً يحدث رجلاً، أن رجلاً [من جعفى] ذهبت نفقته وضلت راحلته. فأتاه خيثمة فقال له: هل عرفت رحل هذا الرجل الذي أصيب وأين نزل منا؟.
قال: نعم، موضع كذا وكذا. فأخبره بموضعه.
فلما كان بعد الظهر من يوم النحر، أتى الموضع فسأل عن الرجل، فإذا هو برجلٍ لا يعرفه. فسأل عما أصيب، فأخبره. فدفع إليه صرةً كانت فيها ثلاثون ديناراً، وأثواباً كانت معه، فقال: تجهز بها إلى أهلك.(1/149)
فصل [أشعار في السخاء والكرم]
ونحن نذكر نبذةً من أشعار العرب في ذلك ومدحهم السخاء والكرم وافتخارهم به.
150- قال أبو كدراء العجلي:
يا أم كدراء مهلاً لا تلوميني ... أني كريمٌ فإن اللوم يؤذيني
فإن بخلت فإن البخل مشتركٌ ... وإن أجد أعط عفواً غير ممنون
ليست بباكية إبلي إذ فقدت ... صوتي ولا وارثي في الحي يبكيني
بنى البناة لنا مجداً ومكرمةً ... لا كالبناء من الآجر والطين
151- وقالت الإيادية:
الخيل تعلم يوم الروع إن هزمت ... أن ابن عمرو لدى الهيجاء يحميها(1/150)
لم يبد فحشاً ولم يهدد لمعظمةٍ ... وكل مكرمةٍ تلفى يساميها
المستشار لأمر القوم يحزبهم ... إذا الهنات أهم القوم ما فيها
لا يرهب الجار منه غدرةً أبداً ... وإن ألمت أمورٌ فهو كافيها
152- وقالت أخت النضر بن الحارث:
الواهب الألف لا يبغي بها بدلاً ... إلا الإله ومعروفاً بما اصطنعا
153- وقال نهار بن توسعة:
آل المهلب قوم خولوا شرفاً ... ما ناله عربي لا ولا كادا
آل المهلب قومٌ إن مدحتهم ... كانوا الأكارم آباءً وأجدادا
إن العرانين تلقاهم محسدةً ... ولا ترى للئام الناس حسادا
لو قيل للمجد حد عنهم وخلهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا
إن المكارم أرواحٌ يكون لها ... آل المهلب دون الناس أجسادا
154- وقال أمية بن أبي الصلت، ويروى لغيره:(1/151)
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فرعٌ ... لك الحسب المهذب والسناء
خليلٌ لا يغيره صباحٌ ... عن الخلق الجميل ولا مساء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
وأرضك كل مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء
نباري الريح مكرمة ومجداً ... إذا ما الكلب أحجره الشتاء
155- وقال زياد الأعجم:
أخٌ لك لا تراه الدهر إلا ... على العلات بساماً جوادا
أخٌ لك ليس خلته بمذقٍ ... إذا ما عاد فقر أخيه عادا
156- وقال نصيب في عمر بن عبيد الله بن معمر:
فوالله ما يدري امرؤ ذو جنابة ... ولا جار بيتٍ أي يوميك أجود
أيومٌ إذا لاقيته ذا يسارةٍ ... فأعطيت عفواً منك أم يوم تجهد(1/152)
وإن خليليك السماحة والندا ... مقيمان بالمعروف ما دمت توجد
مقيمان ليسا تاركيك لخلةٍ ... من الدهر حتى يفقدا حين تفقد
157- وقال المتوكل الليثي:
مدحت سعيداً واصطفيت ابن خالد ... وللخير أسبابٌ بها يتوسم
فكنت كمحتس بمحفاره الثرى ... فصادف عين الماء إذ يترسم
فإن يسأل الله الشهور شهادةً ... ستنبي جمادى عنكم والمحرم
بأنكم خير الحجاز وأهله ... إذا جعل المعطي يمل ويسأم
158- وقال الكميت في مسلمة:
فما غاب عن حلمٍ ولا شهد الخنا ... ولا استعذب العوراء يوماً فقالها
يدوم على خير الخلال ويتقي ... تصرفها من شيمةٍ وانتقالها
وتفضل أيمان الرجال شماله ... كما فضلت يمنى يديه شمالها
وما أجم المعروف من طول كره ... وأمراً بأفعال الندى وافتعالها
ويبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقاً عليه ابتذالها
بلوناك في أهل الندى ففضلتهم ... وباعك في الأبواع قدماً فطالها(1/153)
وأنت الندى فيما ينوبك والسدى ... إذا الخود عدت عقبة القدر مالها
159- وقال أعشى ربيعة:
أتينا سليمان الأمير نزوره ... وكان امرأً يحبى ويكرم زائره
إذا كنت في النجوى به متفرداً ... فلا الجود مخليه ولا البخل حاضره
كلا شافعي زواره من ضميره ... عن البخل ناهيه وبالجود آمره
160- وقال المتوكل الليثي:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثلما فعلوا
161- وقال خلف بن خليفة:
عدلت إلى فخر العشيرة والهوى ... إليهم وفي تعداد مجدهم شغل
إلى هضبة من آل شيبان أشرفت ... لها الذروة العلياء والكاهل العبل
إلى النفر البيض الذين كأنهم ... صفائح يوم الروع أخلصها الصقل
إلى معدن العز المؤثل والندى ... هناك، هناك الفضل والخلق الجزل
أحب بقاء القوم للناس إنهم ... متى يظعنوا عن مصرهم ساعةً يخلوا
عذابٌ على الأفواه ما لم يذقهم ... عدو وبالأفواه أسماؤهم تحلو(1/154)
عليهم وقار الحلم حتى كأنما ... وليدهم من فرط هيبته كهل
هم الجبل الأعلى إذا ما تناكرت ... ملوك رجالٍ أو تخاطرت البزل
إذا استجهلوا لم يعزب الحلم عنهم ... وإن آثروا أن يجهلوا عظم الجهل
ألم تر أن القتل غالٍ إذا رضوا ... وإن غضبوا في موطن رخص القتل
لنا فيهم حصنٌ حصينٌ ومعقلٌ ... إذا حرك الناس المخاوف والأزل
لعمري لنعم الحي يدعو صريخهم ... إذا الجار والمأكول أرهقه الأكل
سعاةٌ على أفناء بكر بن وائل ... وتبل أقاصي قومهم لهم سبل
إذا طلبوا ذحلاً فلا الذحل فائتٌ ... وإن ظلموا أكفاءهم بطل الذحل
مواعيدهم فعلٌ إذا ما تكملوا ... بتلك التي إن سميت وجب الفعل
بحورٌ تلاقيها بحورٌ عزيزة ... إذا زخرت قيسٌ وإخوتها ذهل
162- وقال رجلٌ من العرب:
لقل عاراً إذا ضيفٌ تضيفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
جهد المقل إذا أعطاك نائله ... ومكثرٌ في الغنى سيان في الجود
163- وقال أعرابي:
وزادٍ وضعت الكف فيه تأنساً ... وما بي لولا أنسة الضيف من أكل
وزادٍ رفعت الكف منه تكرماً ... إذا ابتدر القوم القليل من الثفل(1/155)
وزادٍ أكلناه ولم ننتظر به ... ألا إن بخل المرء من أسوأ الفعل
164- وقال ابن المولى ليزيد بن حاتم:
وإذا تباع كريمةٌ أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا توعرت المسالك لم يكن ... منها السبيل بذلك المتوعر
وإذا صنعت صنيعةً يممتها ... بيدين ليس نداهما بمكدر
وإذا هممت لمعتفيك بنائلٍ ... قال الندى فأطعته لك أكثر
يا واحد العرب الذي ما إن لهم ... من مذهبٍ عنه ولا من مقصر
وإذا تخيل من سحابك لامعٌ ... سبقت مخيلته بك المستمطر
165- وقال يزيد بن الجهم الهلالي:
تسائلني هوازن أين مالي ... وهل لي غير ما أنفقت مال
فقلت لها: هوازن إن مالي ... أضر به الملمات الثقال
أضر به نعم، ونعم قديماً ... على ما كان من مالٍ وبال(1/156)
166- وقال رجلٌ من العرب:
كريمٌ رأى الإقتار عاراً فلم يزل ... أخا طلبٍ للمال حتى تمولا
فلما أفاد المال عاد بفضله ... على كل من يرجو نداه مؤملا
167- وقال دريد بن الصمة:
تراه خميص البطن والزاد حاضرٌ ... كثيرٌ ويغدو في القميص المقدد
وإن مسه الإقواء والجهد زاده ... سماحاً وإتلافاً لما كان في اليد
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبورٌ على الضراء طلاع أنجد
قليل التشكي للمصيبات حافظٌ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد
168- وقال الشماخ:
وأشعث قد قدَّ السفار قميصه ... وحر شواءً بالعصا غير منضج
دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريمٌ من الفتيان غير مزلج(1/157)
فتىً ليس بالراضي بأدنى معيشةٍ ... ولا في بيوت الحي بالمتولج
فتىً يملأ الشيزى ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكمي المدجج
169- وقال عبد الله بن الحشرج:
ألا بكرت تلومك أم سلمٍ ... وغير اللوم أدنى للسداد
وما بذلي تلادي دون عرضي ... بإسراف أميم ولا فساد
فلا وأبيك لا أعطي صديقي ... مكاشرتي وأمنعه تلادي
ولكني امرؤٌ عودت نفسي ... على عاداتها جري الجواد
170- وقال جؤية بن النضر:
[قالت] طريفة ما تبقى دراهمنا ... وما بنا سرفٌ فيها ولا خرق
[إنا] إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ... ظلت إلى طرق المعروف تستبق
لا يألف الدرهم السباح صرتنا ... إلا قليلاً لماماً ثم ينطلق
ولا تخافي علي الفقر وانتظري ... فضل الذي بالغنى من عنده نثق
حتى يصير على نذلٍ يصرره ... يكاد من صره إياه ينمرق(1/158)
إن قل ما عندنا فالله يرزقنا ... ومن سوانا ولسنا نحن نرتزق
171- وقال المقنع الكندي:
نزل المشيب فأين تذهب بعده ... وقد ارعويت وحان منك رحيل
كان الشباب خفيفة أيامه ... والشيب محمله عليك ثقيل
ليس العطاء من الفضول سماحةً ... حتى تجود وما لديك قليل
172- وقال سوادة اليربوعي:
ألا بكرت مي علي تلومني ... تقول ألا أهلكت من أنت عائله
ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى ... ولا يهلك المعروف من هو فاعله
173- وقال آخر:
إني وإن لم ينل ما لي مدى خلقي ... وهاب ما ملكت كفي من المال
لا أحبس المال إلا ريث أتلفه ... ولا تغيرني حالٌ على حال
174- وقال يزيد بن الجهم الهلالي:
لقد أمرت بالبخل أم محمدٍ ... فقلت لها لومي على البخل أحمدا
فإني امرؤٌ عودت نفسي عادةً ... وكل امرئٍ جارٍ على ما تعودا
أحين بدا في الرأس شيبٌ وأقبلت ... إلي بنو غيلان مثنى وموحدا(1/159)
رجوت سقاطي واعتلالي ونبوتي ... وراءك عني طالقاً وارحلي غدا
175- وقال عروة بن الورد:
أرى أم حسان الغداة تلومني ... تخوفني الأعداء والنفس أخوف
لعل الذي خوفتنا من أمامنا ... يصادفه في أهله المتخوف
إذا قلت قد جاء الغنى حال دونه ... أبو صبيةٍ يشكو المفاقر أعجف
له خلةٌ لا يدخل الحق دونها ... كريمٌ أصابته حوادث تجرف
تقول سليمى لو أقمت لسرنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف
176- وقال المرار الفقعسي:
آليت لا أخفي إذا الليل جنني ... سنا النار عن سارٍ ولا متنور
فيا موقدي ناري ارفعاها لعلها ... تضيء لسارٍ آخر الليل مقتر
وماذا علينا أن يواجه نارنا ... كريم المحيا شاحب المتحسر
إذا قال من أنتم ليعرف أهلها ... رفعت له باسمي ولم أتنكر(1/160)
فبتنا بخيرٍ من كرامة ضيفنا ... وبتنا نهدي طعمه غير ميسر
177- وقال مسكين الدارمي:
لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزالٌ مقنع
أحدثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع
178- وقال رجلٌ من آل حرب:
باتت تلوم وتلحاني على خلقٍ ... عودته عادةً والخير تعويد
قالت أراك بما أنفقت ذا سرفٍ ... فيما فعلت فهلا فيك تصريد
قلت اتركيني أبع مالي بمكرمةٍ ... يبقى ثنائي بها ما أورق العود
إنا إذا ما أتينا أمر مكرمةٍ ... قالت لنا أنفسٌ حربيةٌ عودوا
179- وقال آخر:
أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا ... محاذرةً من أن يقال لئيم
وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم(1/161)
180- وقال حاتم بن عبد الله:
أكف يدي عن أن تنال أكفهم ... إذا ما مددناها وحاجتنا معا
أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم إن أتضلعا
وإني لأستحيي رفيقي أن أرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
فإنك إما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
181- وقال:
وعاذلةٍ قامت علي تلومني ... كأني إذا أعطيت مالي أضيمها
أعاذل إن الجود ليس بمهلكي ... ولا يخلد النفس الشحيحة لؤمها
وتذكر أخلاق الفتى، وعظامه ... مغيبةٌ في اللحد بالٍ رميمها
ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها
182- وقال جابر بن حيان:
فإن يقتسم مالي بني وإخوتي ... فلن يقسموا خلقي الكريم ولا فعلي
أهين لهم مالي وأعلم أنني ... سأورثه الأحياء سيرة من قبلي
وما وجد الأضياف فيما ينوبهم ... لهم عند علات الزمان أباً مثلي(1/162)
183- وقال مسكين الدارمي:
كأن قدور قومي كل يومٍ ... قباب الترك ملبسة الجلال
كأن الموقدين لها جمالٌ ... طلاها الزفت والقطران طالي
بأيديهم مغارف من حديدٍ ... أشبهها مقيرة الدوالي
184- وقال شريح بن الأحوص الكلابي:
ومستنبح يبغي المبيت ودونه ... من الليل سجفا ظلمةٍ وستورها
رفعت له ناري فلما اهتدى بها ... زجرت كلابي أن يهر عقورها
185- وقال الفرزدق:
وداعٍ بلحن الكلب يدعو ودونه ... من الليل سجفا ظلمةٍ وغيومها
دعا وهو يرجو أن ينبه إذ دعا ... فتىً كابن ليلى حين غارت نجومها
بعثت له دهماء ليست بلقحةٍ ... تدر إذا ما هب نحساً عقيمها
كأن المحال الغر في حجراتها ... عذارى بدت لما أصيب حميمها(1/163)
غضوباً كحيزوم النعامة أحمشت ... بأجواز خشبٍ زال عنها هشيمها
محضرةٌ لا يجعل الستر دونها ... إذا المرضع العوجاء جال بريمها
186- وقال النمري:
وداعٍ دعا بعد الهدو كأنما ... يقاتل أهوال السرى وتقاتله
دعا يائساً شبه الجنون وما به ... جنون ولكن كيد أمرٍ يحاوله
فلما سمعت الصوت ناديت نحوه ... بصوتٍ كريم الجد حلوٍ شمائله
فأبرزت ناري ثم أثقبت ضوءها ... وأخرجت كلبي وهو في البيت داخله
فلما رآني كبر الله وحده ... وبشر قلباً كان جماً بلابله
فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... رشدت ولم أقعد إليه أسائله
وقمت إلى بركٍ هجانٍ أعده ... لوجبة حق نازلٍ أنا فاعله
بأبيض خطت نعله حيث أدركت ... من الأرض لم تخطل علي حمائله
فجال قليلاً واتقاني بخيره ... سناماً وأملاه من الني كاهله
بقرمٍ هجانٍ مصعبٍ كان فحلها ... طويل القرا لم يعد أن شق بازله(1/164)
فحز وظيف القرم في نصف ساقه ... وذاك عقالٌ ولا ينشط عاقله
فعجلته من لحمها وسديفها ... شواءً وخير الخير ما كان عاجله
بذلك أوصاني أبي وبمثله ... كذلك أوصاه قديماً أوائله
187- وقال حماس بن ثامل:
ومستنبح في لج ليلٍ دعوته ... بمشبوبةٍ في رأس صمدٍ مقابل
فقلت له أقبل فإنك راشدٌ ... وإن على النار الندى وابن ثامل
188- وقال رجلٌ من العرب:
إذا هي لم تمنع برسلٍ لحومها ... من السيف لاقت حده وهو قاطع
تدافع عن أحسابنا بلحومها ... وألبانها، إن الكريم مدافع
ومن يقترف خلقاً سوى خلق نفسه ... يدعه وترجعه إليه الرواجع
189- وقال إياس بن الأرت:
وإني لقوال لعافي: محرباً ... وللطالب المعروف: إنك واجده(1/165)
وإني لممن يبسط الكف بالندى ... إذا شنجت كف البخيل وساعده
لعمرك ما تدري أمامة أنها ... ثنى من خيالٍ ما أزال أعاوده
فشقت علي صحبي وعنت ركائبي ... وردت علي الليل قرناً أكابده
190- وقال الهذيل بن مشجعة البولاني:
إني وإن كان ابن عمي غائباً ... لمقاذفٌ من دونه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرأً ... متزحزحاً في أرضه وسمائه
ومتى أجده في الشدائد مرملاً ... ألق الذي في مزودي لوعائه
وإذا تتبعت الجلائف ما له ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا أتى من وجهةٍ بطريفةٍ ... لم أطلع مما وراء خبائه
وإذا اكتسى ثوباً جميلاً لم أقل: ... يا ليت أن علي حسن ردائه
وإذا غدا يوماً ليركب مركباً ... صعباً فعدت له على سيسائه
وإذا استراش وفرته وحمدته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه
191- وقال زيد الفوارس:
أقلي علي اللوم يا ابنة منذرٍ ... ونامي، فإن لم تشتهي النوم فاسهري(1/166)
ألم تعلمي أني إذا الدهر مسني ... بنائبةٍ صماء لم أتترتر
يراني العدو بعد غب لقائه ... خلياً نعيم البال لم أتغير
وراكدةٍ عندي طويل صيامها ... قسمت على ضوءٍ من النار مبصر
طروقاً فلم أفحش وقسمت لحمها ... إذا اجتنب العافون نار العذور
192- وقال آخر:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخاً طارقاً أو جار بيتٍ فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وللموت خيرٌ من زيارة باخلٍ ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما في إلا تلك من شيم العبد
193- وقال آخر:
جزى الله خيراً غالباً من عشيرةٍ ... إذا حدثان الدهر نابت نوائبه
فكم دافعوا من كربةٍ قد تلاحمت ... علي، وموجٍ قد علتني غواربه
إذا قلت: عودوا عاد كل شمردلٍ ... أشم من الفتيان جزل مواهبه(1/167)
إذا أخذت بزل المخاض سلاحها ... تجرد فيها متلف المال كاسبه
194- وقال المساور بن هند:
فدىً لبني هندٍ غداة دعوتهم ... بجو وبال، النفس والأبوان
إذا جارةً شلت لسعد بن مالكٍ ... لها إبلٌ شلت لها إبلان
إذا عقدت أفناء سعد بن مالكٍ ... لها ذمةٌ عزت بكل مكان
إذا سئلوا ما ليس بالحق فيهم ... أبى كل مجني عليه وجان
ودار حفاظٍ قد حللتم مهانةٍ ... بها نيبكم، والضيف غير مهان
195- وقال حجر بن حية العبسي:
ولا أدوم قدري بعدما نضجت ... بخلاً لتمنع ما فيها أثافيها
لا أحرم الجارة الدنيا إذا اقتربت ... ولا أقوم بها في الحي أخزيها
ولا أكلمها إلا علانيةً ... ولا أخاطبها إلا أناديها
196- وقال القاسم بن حنبل المري في زفر بن أبي هاشم:
أرى الخلان بعد أبي خبيبٍ ... وحجرٍ قد جنى بهم جفاء(1/168)
من البيض الوجوه بني سنانٍ ... لو أنك تستضيء بهم أضاؤوا
لهم شمس النهار إذا استقلت ... ونورٌ لا يغيبه العماء
هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاؤوا
بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤهم من الكلب الشفاء
فأما بيتكم إن عد بيتٌ ... فطال السمك واتسع الفناء
وأما أسه فعلى قديم ... من العادي إن ذكر البناء
فلو أن السماء دنت لمجد ... ومكرمةً: دنت لهم السماء
197- وقال المثلم بن رياح بن ظالم المري:
بكر العواذل بالسواد يلمنني ... -جهلاً- يقلن: ألا ترى ما تصنع
أفنيت مالك في السفاه، وإنما ... أمر السفاهة ما أمرنك أجمع
وقتود ناجيةٍ وضعت بقفرة ... والطير غاشية العوافي وقع
بمهندٍ ذي حليةٍ جردته ... يبري الأصم من العظام ويقطع
لتنوب نائبةٌ فتعلم أنني ... ممن يغر على الثناء فيخدع
إني مقسم ما ملكت؛ فجاعلٌ ... أجراً لآخرة ودنيا تنفع
198- وقال آخر:
أجلك قومٌ حين صرت إلى الغنى ... وكل غنى في العيون جليل(1/169)
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى ... عشية يقري أو غداة ينيل
إذا مالت الدنيا إلى المرء رغبت ... إليه ومال الناس حيث يميل
ولم يفتقر يوماً وإن كان معدماً، ... جوادٌ، ولم يستغن قط بخيل
199- وقال آخر:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت، وأعداني فأتلفت ما عندي
200- وقال عمرو بن الأهتم:
ذريني فإن الشح -يا أم هيثم- ... لصالح أخلاق الكرام سروق
ذريني وحطي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
ذريني فإني ذو فعالٍ تهمني ... نوائب يغشى رزؤها وحقوق
وكل كريمٍ يلتقي الذم بالقرى ... وللحمد بين الصالحين طريق
لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
201- وقال آخر:
سأقدح من قدري نصيباً لجارتي ... وإن كان ما فيها كفافاً على أهلي
إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي ... يكون قليلاً: لم تشاركه في الفضل(1/170)
202- وقال آخر:
ومستنبح تهوي مساقط رأسه ... إلى كل صوتٍ فهو للسمع أصور
يصفقه أنف من الريح باردٌ ... ونكباء ليلٍ من جمادى، وصرصر
حبيب إلى كلب الكريم مناخه ... بغيضٌ إلى الكوماء والكلب أبصر
حضأت له ناري فأبصر ضوءها ... وما كاد لولا حضاة النار يبصر
دعته بغير اسم: هلم إلى القرى ... فأسرى يبوع الأرض والنار تزهر
فلما أضاءت شخصه قلت: مرحباً ... رشدت، وللصالين بالنار: أبشروا
فجاء ومحمود القرى يستفزه ... إليها، وداعي الليل بالصبح يسفر
تأخرت حتى لم تكد تصطفي القرى ... على أهله، والحق لا يتأخر
وقمت بنصل السيف والبرك هاجدٌ ... بهازره، والموت في السيف ينظر
فأعضضته الطولى سناماً، وخيرها ... بلاءً، وخير الخير ما يتخير
فأوفضن عنها وهي ترغو حشاشةً ... بذي نفسها، والسيف عريان أحمر
فباتت رحاب جونةً من لحامها ... وفوها بما في جوفها يتغرغر(1/171)
203- وقال آخر:
ومستنبح بعد الهدو دعوته ... بشقراء مثل الفجر، ذاكٍ وقودها
فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحباً ... بموقد نار محمدٍ من يرودها
نصبنا له جوفاء ذات صبابةٍ ... من الدهم مبطاناً طويلاً ركودها
فإن شئت أثويناك في الحي مكرماً ... وإن شئت بلغناك أرضاً تريدها
204- وقال حجر بن خالد:
سمعت بفعل الفاعلين فلم أجد ... كمثل أبي قابوس حزماً ونائلا
فساق الإله الغيث من كل بلدةٍ ... إليك فأضحى حول بيتك نازلا
فأصبح منه كل وادٍ حللته ... من الأرض مسفوح المذانب سائلا
متى تنع ينع البأس والجود والندى ... وتصبح قلوص الحرب جرباء حائلا
فلا ملكٌ ما يدركنك سعيه ... ولا سوقةٌ ما يمدحنك باطلا(1/172)
205- وقال آخر:
إني ورب الراقصات إلى منىً ... بجنوب مكة هديهن مقلد
أولي على هلك الطعام أليةً ... أبداً، ولكني أبين وأنشد
وصى بها جدي، وعلمني أبي ... نفض الوعاء، وكل زادٍ ينفد
206- وقال عمرو بن الإطنابة:
إني من القوم الذين إذا انتدوا ... بدأوا بحق الله، ثم النائل
المانعين من الخنا جاراتهم ... والحاشدين على الطعام النازل
والخالطين فقيرهم بغنيهم ... والباذلين عطاءهم للسائل
207- وقال الفرزدق في علي بن الحسين رضي الله عنهما:
إذا رأته قريش قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفة، والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم(1/173)
أي القبائل ليست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم
بكفه خيزرانٌ ريحه عبقٌ ... من كف أورع في عرنينه شمم
يغضي حياءً، ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
208- وقال آخر:
كريمٌ يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دواني
وكالسيف إن لاينته لان لمسه ... وحداه إن خاشنته خشنان
209- وقال شقران مولى سلامان من قضاعة:
لو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... علي لإنسانٍ من الناس درهما
ولكنني مولى قضاعة كلها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما
أولئك قومي بارك الله فيهم ... على كل حالٍ ما أعف وأكرما
ثقال الجفان ولحلوم، رحاهم ... رحى الماء يكتالون كيلاً غذمذما(1/174)
جفاة المحز لا يصيبون مفصلاً ... ولا يأكلون اللحم إلا تخدما
210- وقال آخر:
ولم أر معشراً كبني صريم ... تلفهم البهائم والنجود
أجل جلالة وأعز فقداً ... وأقضى للحقوق وهم قعود
وأكثر ناشئاً مخراق حربٍ ... يعين على السيادة أو يسود
211- وقال أبو الطمحان القيني:
إذا قيل: أي الناس خير قبيلةٍ ... وأصبر يوماً لا توارى كواكبه
فإن بني أوسٍ بن لأيٍ أرومةً ... سمت فوق صعبٍ لا تنال مراقبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وما زال فيهم -حيث كانوا- مسودٌ ... تسير المنايا حيث سارت كتائبه
لهم مجلسٌ لا يحصرون عن الندى ... إذا مطلب المعروف أجدب راكبه
وإني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه
نجوم سماءٍ كلما غاب كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه
212- وقال آخر في عروة بن زيد الخيل:(1/175)
يا أيها المتمني أن يكون فتىً ... مثل ابن زيدٍ، لقد خلى لك السبيلا
أعد ثلاث خلالٍ قد عرفن له: ... هل سب من أحدٍ، أو سب، أو بخلا؟
213- وقال الحسين بن مطر الأسدي:
له يوم بؤسٍ فيه للناس أبؤسٌ ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم
فيمطر يوم الجود من كفه الندى ... ويمطر يوم البأس من كفه الدم
ولو أن يوم البأس خلى عقابه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أن يوم الجود خلى يمينه ... على الناس لم يصبح على الأرض معدم
214- وقال العرندس الكلابي:
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد
ولو أن شيئاً يستطاع استطعته ... ولكن ما لا يستطاع شديد
215- وقال أبو زياد الأعرابي:(1/176)
له نارٌ تشب على يفاع ... إذا النيران ألبست القناعا
ولم يكن أكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
216- وقال آخر:
سأشكر عمراً إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتىً غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
إذا استقبلت منه المودة أقبلت ... وإن عمرت منه القناة اكفهرت
217- وقال ابن عنقاء الفزاري يمدح عميلة الفزاري:
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي؛ أسر كما جهر
دعاني فآساني ولو ضن لم ألم ... على حينٍ لا بادٍ يرجى ولا حضر
غلامٌ رماه الله بالحسن يافعاً ... له سيمياءٌ لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت في جبينه ... وفي نحره الشعرى، وفي خده القمر(1/177)
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليلٌ بلا ذل، ولو شاء لانتصر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردى رداءً واسع الذيل، واتزر
فقلت له خيراً، وأثنيت فعله ... وأوفاك ما أسديت من ذم أو شكر
218- وقال قيس بن عاصم المنقري:
إني امرؤٌ لا يعتري خلقي ... دنسٌ يغيره ولا أفن
من منقرٍ في بيت مكرمةٍ ... والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه، مصاقعٌ، لسن
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
219- وقال أبو تمام: ذكر أن [أخا امرأة] سالم بن قحفان العنبري أتاه رجلٌ فأعطاه بعيراً من إبله، وقال لامرأته: هاتي حبلاً نقرن به ما أعطيناه إلى بعيره. ثم أعطاه بعيراً آخر، وقال: هاتي بعيراً نقرن، ثم أعطاه ثالثاً، وقال: هاتي حبلاً، فقالت: ما بقي عندي حبلٌ، فقال:(1/178)
علي الجمال وعليك الحبال، فأعطته خمارها؛ فقال:
لقد بكرت أم الوليد تلومني ... ولم أجترم جرماً، فقلت لها: مهلا
ولا تعذليني في العطاء ويسري ... لكل بعيرٍ جاء طالبه حبلا
فإني لا تبكي علي إفالها ... إذا شبعت من روض أوطانها بقلا
فلم أر مثل الإبل مالاً لمقتنٍ ... ولا مثل أيام الحقوق لها سبلا
فأجابته امرأته:
وتقسم ليلى -يا ابن قحفان- بالذي ... تكفل بالأرزاق في السهل والجبل
تزال حبالٌ محصداتٌ أعدها ... لها ما مشى منها على خفه جمل
فأعط، ولا تبخل لمن جاء طالباً ... فعندي لها خطمٌ، وقد زاحت العلل
220- وقال ابن هرمة:
ومستبح تستكشط الريح ثوبه ... ليسقط عنه -وهو بالثوب- معصم
عوى في سواد الليل بعد اعتسافه ... لينبح كلبٌ، أو ليفزع نوم
فجاوبه مستسمع الصوت للقرى ... له عند إتيان المهبين مطعم(1/179)
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً ... يكلمه من حبه وهو أعجم
221- وقال:
أغشى الطريق بقبتي ورواقها ... وأحل في قلل الربى فأقيم
إن أمراً جعل الطريق لبيته ... طنباً وأنكر حقه للئيم
222- وقال آخر:
وإنا لمشاؤون بين رحالنا ... إلى الضيف منا لاحفٌ ومنيم
فذو الحلم منا جاهلٌ دون جاره ... وذو الجهل منا عن أذاه حليم
223- وقال العجير السلولي:
سلي الطارق المعتر يا أم مالكٍ ... إذا ما اعتراني بين قدري ومجزري
أيسفر وجهي أنه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكر
224- وقال آخر:
تركت ضأني تود الذئب راعيها ... وأنها لا تراني آخر الأبد(1/180)
الذئب يطرقها في الدهر واحدةً ... وكل يومٍ تراني مديةٌ بيدي
225- وقال آخر:
ومستنبح قال الصدى مثل قوله ... حضأت له ناراً لها حطبٌ جزل
فقمت إليه مسرعاً فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبل
فأوسعني حمداً، وأوسعته قرى ... وأرخص بحمدٍ كان كاسبه الأكل
226- وقال عتيبة بن جبير المازني:
ومسنبح بات الصدى يستتيهه ... إلى كل صوتٍ؛ فهو في الرحل جانح
فقلت لأهلي: ما بغام مطيةٍ ... وسار أضافته الكلاب النوابح؟
فقالوا: غريبٌ طارقٌ طوحت به ... متون الفيافي والخطوب الطوائح
فقمت ولم أجثم مكاني، ولم تقم ... مع النفس علات البخيل الفواضح
وناديت شبلاً فاستجاب، وربما ... ضمنا قرى عشر لمن لا يصافح
فقام أبو ضيفٍ كريمٌ كأنه ... وقد جد -من فرط الفكاهة- مازح(1/181)
إلى جذم مالٍ قد نهكنا سوامه ... وأعراضنا فيه بواقٍ صحائح
جعلناه دون الذم كأنه ... -إذا عد مال المكثرين- منائح
لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مالٌ مع الليل رائح
227- وقال رجلٌ من بني أسد:
دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس، وألقوا دونه الأزرا
فكابروا المجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله؛ ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
228- وقالت زينب بنت الطثرية ترثي أخاها يزيد:
أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري ... مقيماً، وقد غالت يزيد غوائله
فتىً قدّ قدّ السيف، لا متضائلٌ ... ولا رهلٌ لباته وأباجله
إذا نزل الأضياف كان عذوراً ... على الحي حتى تستقل مراجله(1/182)
وقد كان يروي المشرفي بكفه ... ويبلغ أقصى حجرة الحي نائله
كريم إذا لاقيته متبسماً ... وأنى تولى أشعث الرأس جافله
إذا القوم أموا بيته فهو عامدٌ ... لأحسن ما ظنوا به؛ فهو فاعله
ترى جازريه يرعدانٍ، وناره ... عليها عدولي الهشيم وصامله
229- وقال النابغة الجعدي:
فتىً كان فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
فتىً كملت أخلاقه؛ غير أنه ... جوادٌ، فما يبقي من المال باقيا
230 وقال التيمي في منصور بن زياد:
لهفي عليك للهفة من خائفٍ ... يبغي جوارك حين ليس مجير
أما القبور فإنهن أوانسٌ ... بجوار قبرك، والديار قبور
عمت فواضله؛ فعم مصابه ... فالناس فيه -كلهم- مأجور
يثني عليك لسان من لم توله ... خيراً: لأنك بالثناء جدير
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور(1/183)
فالناس مأتمهم عليه واحدٌ ... في كل دارٍ رزية وزفير
عجباً لأربع أذرعٍ في خمسةٍ ... في جوفها جبلٌ أشم كبير
231- وقال أشجع بن عمرو السلمي في محمد بن منصور بن زياد:
أنعى فتى الجود إلى الجود ... ما مثل من أنعى بموجود
أنعى فتىً مص الثرى بعده ... بقية الماء من العود
وانثلم الجود به ثلمةً ... جانبها ليس بمسدود
فالآن تخشى عثرات الندى ... وصولة البخل على الجود
232- وقال آخر:
ماذا أجال وثيره بن سماك ... من دمع باكيةٍ عليه وباك
ذهب الذي كانت معلقة به ... حدق العناة وأنفس الهلاك
233- وقال الحسين بن مطير الأسدي في معن:(1/184)
ألما على معنٍ فقولا لقبره: ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معنٍ، أنت أول حفرةٍ ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا
ويا قبر معنٍ، كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
بلى، قد وسعت الجود، والجود ميتٌ ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
فتىً عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
ولما مضى معنٌ مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
234- وقال آخر:
لقد مات بالبيضاء من جانب الحمى ... فتىً كان زيناً للمواكب والشرب
يلوذ به الجاني مخافة ما جنى ... كما لاذت العصماء بالشاهق الصعب
تظل بنات الخال والعم حوله ... صوادي لا يروين بالبارد العذب
يهلن عليه بالأكف من الثرى ... وما من قلى يحثى عليه من الترب
235- وقال أبو الشغب العبسي في خالد بن عبد الله القسري:(1/185)
ألا إن خير الناس حياً وميتاً ... أسير ثقيفٍ عندها في السلاسل
لعمري لئن عمرتم السجن خالداً ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل
لقد كان نهاضاً لكل ملمةٍ ... ومعطي اللهى غمراً، كثير النوافل
لقد كان يبني المكرمات لقومه ... ويعطي اللهى في كل حق وباطل
236- وقال آخر:
إذا ما امرؤٌ أثنى بآلاء ميتٍ فلا ... يبعد الله الوليد بن أدهما
فما كان مفراحاً إذا الخير مسه ... ولا كان مناناً إذا هو أنعما
ونادى المنادي آخر الليل باسمه ... إذا حجز الليل البخيل المذمما
لعمرك ما وارى التراب فعاله ... ولكنما وارى ثياباً وأعظما
237- وقال العجير السلولي:
تركنا أبا الأضياف في ليلة الصبا ... بمرو ومردى كل خصم يجادله
تركنا فتىً قد أيقن الجوع أنه ... -إذا ما ثوى في أرحل القوم- قاتله
فتىً قدّ قد السيف لا متضائلٌ ... ولا رهلٌ لباته وأباجله
إذا جد عند الجد أرضاك جده ... وذو باطلٍ إن شئت ألهاك باطله(1/186)
يعينك مظلوماً وينجيك ظالماً ... وكل الذي حملته فهو حامله
إذا نزل الأضياف كان عذوراً ... على الحي حتى تستقل مراجله
238- وقال الهذلول بن كعب العنبري:
تقول -وصكت نحرها بيمينها-: ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس؟
فقلت لها: لا تعجلي وتثبتي ... فعالي إذا التفت علي الفوارس
ألست أرد القرن يركب ردعه ... وفيه سنانٌ ذو غرارين يابس؟
وأحتمل الأوق الثقيل وأمتري ... خلوف المنايا حين فر المغامس
وأقري الهموم الطارقات حزامه ... إذا كثرت للطارقات الوساوس
إذا خام أقوام تقحمت غمرةً ... يهاب حمياها الألد المداعس
لعمر أبيك الخير، إني لخادمٌ ... لضيفي، وإني إن ركبت لفارس
وإني لأشري الحمد أبغي رباجه ... وأترك قرني وهو خزيان ناعس
239- وقال آخر:(1/187)
نزلت على آل المهلب شاتياً ... غريباً عن الأوطان في زمن المحل
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ... وبرهم؛ حتى حسبتهم أهلي
فلله قومٌ لم يلدك أبوهم ... كأنك منهم في المناسب والشكل
240- وقال يزيد بن حمار السكوني:
إني حمدت بني شيبان إذ خمدت ... نيران قومي، وفيهم شبت النار
ومن تكرمهم في المحل: أنهم ... لا يعلم الجار فيهم أنه جار
حتى يكون عزيزاً من نفوسهم ... أو أن يبين جميعاً وهو مختار
كأنه صدعٌ في رأس شاهقةٍ ... من دونه لعتاق الطير أوكار
241- وقال السموأل بن عادياء الغساني، وتروى لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداءٍ يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
وعاذلةٍ قامت بليلٍ تلومني ... ولم يغتفرني قبل ذاك عذول(1/188)
تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل
وما قل من كانت بقاياه مثلنا: ... شبابٌ تسامى للعلى، وكهول
وما ضرنا أنا قليلٌ؛ وجارنا ... عزيزٌ، وجار الأكثرين ذليل؟
لنا جبلٌ يحتله من نجيره ... منيعٌ، يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى، وسما به ... إلى النجم فرعٌ لا ينال، طويل
هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه، ويطول
وإنا لقوم لا نرى القتل سبةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم، فتطول
وما مات منا سيدٌ حتف أنفه ... ولا طل منا -حيث كان- قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليس على غير الظبات تسيل
صفونا فلم نكدر، وأخلص سرنا ... إناثٌ أطابت حملنا، وفحول
علونا إلى خير الظهور، وحطنا ... لوقتٍ إلى خير البطون نزول
فنحن كماء المزن: ما في نصابنا ... كهام، ولا فينا يعد بخيل
وننكر -إن شئنا- على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
إذا سيدٌ منا خلا قام سيدٌ ... قؤولٌ لما قال الكرام، فعول
وما أخمدت نارٌ لنا دون طارقٍ ... ولا ذمنا في النازلين نزيل
وأيامنا مشهورةٌ في عدونا ... لها غرةٌ معروفةٌ، وحجول
وأسيافنا في كل شرقٍ ومغربٍ ... لها من قراع الدارعين فلول(1/189)
معودةٌ ألا تسل نصالها ... فتغمد حتى يستباح قبيل
إذا قصرت أسيافنا عن عدونا ... جعلنا خطانا وصلها؛ فتطول
سلي -إن جهلت- الناس عنا وعنهم ... وليس سواءً عالمٌ وجهول
فإن بني الديان قطبٌ لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول
242- وقال بعض بني قيس بن ثعلبة، وقيل: إنها لبشامة النهشلي:
إنا محيوك -يا سلمى- فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى علياً ومكرمةٍ ... يوماً سراة كرام الناس فادعينا
إن تبتدر غايةٌ يوماً لمكرمةٍ ... تلق السوابق منا والمصلينا
وليس يهلك منا سيدٌ أبداً ... إلا افتلينا غلاماً سيداً فينا
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن أغلينا
بيضٌ مفارقنا، تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا
إنا لمن معشرٍ أفنى أوائلهم ... قيل الكماة: ألا أين المحامونا
لو كان في الألف منا واحدٌ؛ فدعوا: ... من فارسٌ؟ خالهم إياه يعنونا
إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم ... حد الظبات وصلناها بأيدينا(1/190)
ولا نراهم -وإن جلت مصيبتهم- ... مع البكاة على من مات يبكونا
ونركب الكره أحياناً فيفرجه ... عنا الحفاظ، وأسيافٌ تواتينا
243- وقال آخر:
تعود بسط الكف؛ حتى لو أنه ... ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها، فليتق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته: ... فلجته المعروف، والجود ساحله
244- وأنشد حسان في بني غسان:
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
245- قرئ على النظام وأنا أسمع: أخبركم ابن المحب إجازةً: أخبرنا المزي، أخبرنا ابن البخاري، أخبرنا ابن طبرزد، أخبرنا القاضي أبو بكر الأنصاري، أخبرنا ابن المهتدي بالله، أخبرنا ابن المأمون، أخبرنا ابن الأنباري، أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب:
إذا مالت الدنيا مع المرء رغبت ... إليه، ومال الناس حيث يميل
ولم يفتقر يوماً من الدهر معدمٌ ... جوادٌ، ولم يستغن قط بخيل
أرى علل الدنيا علي كثيرة ... وصاحبها حتى الممات عليل
إذا انقطعت عني من العيش مدتي ... فإن غناء الباكيات قليل
سيعرض عن ذكري، وتنسى مودتي ... ويصبح بعدي للخليل خليل
246- وبه إلى ابن الأنباري: أنشدنا أحمد بن سعيد: أنشدنا الزبير بن(1/191)
بكار لإبراهيم بن هرمة يمدح الحسين بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم:
قد سرني خبر الحجاج إذ صدروا ... عن ابن زيدٍ جميلٌ صادف الرشدا
قالوا حججنا ووافينا مني معه ... وكان كالبحر يكسو الساحل الزبدا
أقام للناس معروفاً ومأدبةً ... آثار صدارها يهدين من وردا
له جفانٌ من الشيزى موضعةٌ ... رواكد قد كساها اللحم والفخذا
وساقيان على حوضين من عسلٍ ... كأنما قيلا من مزنةٍ بردا
ذاك الذي لم يلم في المدح مادحه ... ألا ينال الذي فيه ولو جهدا
والله أنفك أحبوه وأمنحه ... حبي وأرغم فيه أنف من حسدا
ما لم تسر شفعات الصخر من حضنٍ ... وما رأى أهل سلعٍ بالضحى أحدا
مراغمٌ لذوي الحاجات منزله ... حصنٌ إذا استشكدوه نائلاً شكدا
تخضر عيدانه للنازلين به ... بالغيث يغشي على أمحاله البلدا
خلفت زيداً فلا نكسٌ ولا برمٌ ... والشبل يخلف في غاباته الأسدا
هذا وعوراء من قول امرئٍ خطلٌ ... فرجتها بمقالٍ يبرئ الرمدا
ولو أردت معاباً عبت نبعته ... ولو أراد معاباً فيك ما وجدا
وبهمةٍ ذات أهوالٍ دعوك لها ... كشفتها بمقالٍ يتبع السددا
247- ولي من الأبيات:
تكنفني الأصحاب من كل جانبٍ ... فلست ضجوراً منهم أتبرم(1/192)
وقسمت في الإخوان قسمةً عدةٍ ... وما عدةٌ مثلي كمثلي يقسم
توزعت فيهم قدر شغل جميعهم ... فلست لنفسي سادتي أتخدم
وقد صرت فرداً في الأمور مقسماً ... وما عجبٌ من واحدٍ يتقسم
فقد عجب الماضون من قسم واحدٍ ... ولو شاهدوا شأني لصحوا وأسلموا
وقد لامني أهلي وعرسي ووالدي ... وأوذيت منهم كثر ما يتبرم
يقولون مجنونٌ مهانٌ مبذرٌ ... وليس يعال في الهوان متيمم
يرى الذل فخراً والبطالة قربةً ... ويرتاح في الرذلاء ذربٌ مصمم
وفي كل يومٍ يجمعون عداوتي ... فقد طال ما يبنوا علي ويهدموا
يقولون لا تنفك تلسع دائماً ... ويؤذيك ذو الحسنى ويردي ويحرم
فقلت اتركوني لست أعرف عذلكم ... وفضل إلهي بالمكارم يغنم
ولا سيما إن كان ذاك لعاقرٍ ... فلي الأجر مثنى والحياء مخيم
دعوني دعوني لست أترك عادتي ... ولا نازحٌ عما عليه أحوم
فيا رب عني واصطبرني عليهم ... فلا حول لي إن لم أكن بك معصم(1/193)
فصل [أجود الأشياء]
248- أجود الخلق الأنبياء، وأجود الأنبياء الرسل، وأجود الرسل أولو العزم، وأجود أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم.
وأجود الخلق العرب، وأجودهم قريش.
وأجود البلاد الأرض المقدسة، وحوران، فإن أهل هذه البلاد أكرم وأجود من غيرهم. وكذلك أرضهم في البركة.
وأما في الفضل فأفضل البلاد في نفسها مكة، ثم المدينة، ثم بيت المقدس، ثم الشام جميعها.
وأجود الناس أيضاً الصالحون، وأجودهم العلماء. فإذا اجتمع الصلاح، والعلم، والنسب إلى العرب؛ كان غايةً في الجود.
وأجود الحيوانات المأكولة الغنم، وأجود المركوبة الخيل.
وأجود الحبوب البر، وأجود الثمار العنب والنخل.
وأجود الزمن الربيع.
وأجود أيام الأسبوع يوم الجمعة، وأيام السنة يوم الأضحى.
وأجود الشهور رمضان.
وأجود الجنة الفردوس.(1/194)
وأجود السماوات السابعة.
وأجود الأرضين أرضنا، وهي السابعة.
وأجود الجبال أحد.
وأجود البحار النيل.
وأجود الأنهار بردى.
وأجود الآبار زمزم.
وأجود العيون الزرقاء.
وأجود البيوت الكعبة.
وأجود القبور قبر محمد صلى الله عليه وسلم.
وأجود النساء نساء قريش، وأجود النساء البكر.
وأجود الصلاة الفرض، ثم صلاة الليل.
وأجود هذه الأمة الصحابة، وأجود الصحابة أصحاب بيعة الرضوان، وأجودهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وأجودهم الخلفاء الأربعة، وأجودهم أبو بكر الصديق.(1/195)
فصل في تعداد نبذة من الأجواد(1/197)
[من جود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]
249- أجود الأجواد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي الكثير. وقد أتاه أعرابي فأعطاه غنماً بين جبلين، فقال: إن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وفي رواية: الفاقة.
250- وقال: ((ما يسرني أن لي أحداً ذهباً تمر علي ثلاث وعندي منه درهم)).
251- وقد ورد عنه من ذلك، ما يحير العقول. وقد قال فيه أبو طالب:(1/199)
ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد نابذونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوماً علينا أظنةً ... يعضون غيظاً خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحةٍ ... وأبيض عضبٍ من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت أهل وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياماً معاً مستقبلين رتاجه ... لدى حيث يقضي حقه كل نافل
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى سيولٍ من إساف ونائل
موسمة الأعضاد أو قصراتها ... مخيسة بين السديس وبازل
ترى الودع فيها والرخام وزينةً ... بأعناقها معقودةً كالعثاكل
أعوذ برب البيت من كل طاعنٍ ... علينا بسوءٍ أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبةٍ ... ومن ملحقٍ في الدين ما لم نحاول
وثورٍ ومن أرسى ثبيراً مكانه ... وراقٍ ليرقى في حراء ونازل(1/200)
وبالحجر المسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافياً غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورةٍ وتماثل
ومن حج بيت الله من كل راكبٍ ... ومن كل ذي نذرٍ ومن كل راجل
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له ... إلالٌ إلى مفضى الشراج القوابل
وتوقافهم فوق الجبال عشيةً ... يقيمون بالأيدي صدور الرواحل
وليلة جمعٍ والمنازل من منى ... وهل فوقها من حرمةٍ ومنازل
وجمع إذا ما المعربات أجزنه ... سراعاً كما يخرجن من وقع وابل
وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها ... يؤمون قذفاً رأسها بالجنادل
وكندة إذ هم بالحصاب عشيةً ... تجيز بهم حجاج بكرٍ بن وائلٍ
حليفان شدا عقد ما احتلفا له ... وردا عليه عاطفات الوسائل
وحطمهم سمر الصفاح وسرحه ... وشبرقه وخد النعام الجوافل
فهل بعد هذا من معاذٍ لعائذٍ ... وهل من معيذٍ -يتقي الله- عاذل
يطاع بنا الأعدا وودوا لو أننا ... يسد بنا أبواب ترك وكابل(1/201)
كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزي محمداً ... ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قومٌ بالحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وحتى ترى ذا الضغن يركب ردعه ... من الطعن فعل الأنكب المتحامل
وإنا لعمر الله إن جد ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع ... أخي ثقةٍ حامي الحقيقة باسل
شهوراً وأياماً وحولاً مجرماً ... علينا وتأتي حجةٌ بعد قابل
وما ترك قومٍ -لا أبا لك- سيداً ... يحوط الذمار غير ذربٍ مواكل
وأبيضُ يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمةٍ وفواضل
لعمري لقد أجرى أسيدٌ وبكره ... إلى بغضنا وجزآنا لآكل
وعثمان لم يربع علينا وقنفذٌ ... ولكن أطاعا أمر تلك القبائل
أطاعا أبياً وابن عبد يغوثهم ... ولم يرقبا فينا مقالة قائل(1/202)
كما قد لقينا من سبيع ونوفل ... وكل تولى معرضاً لم يجامل
فإن يلقيا أو يمكن الله منهما ... نكل لهما صاعاً بصاع المكايل
وذاك أبو عمرو أبى غير بغضنا ... ليظعننا في أهل شاءٍ وجامل
يناجي بنا في كل ممسىً ومصبح ... فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل
ويؤلي لنا بالله ما إن يغشنا ... بلى قد نراه جهرةً غير حائل
أضاق عليه بغضنا كل تلعةٍ ... من الأرض بين أخشبٍ فمجادل
وسائل أبا الوليد ماذا حبوتنا ... بسعيك فينا معرضاً كالمخاتل
وكنت امرأً ممن يعاش برأيه ... ورحمته فينا ولست بجاهل
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشحٍ ... حسودٍ كذوبٍ مبغضٍ ذي دغاول
ومر أبو سفيان عني معرضاً ... كما مر قيل من عظام المقاول
يفر على نجدٍ وبرد مياهه ... ويزعم أني لست عنكم بغافل
ويخبرنا فعل المناصح أنه ... شفيقٌ ويخفي عارمات الدواخل
أمطعم لم أخذلك في يوم نجدةٍ ... ولا معظمٍ عند الأمور الجلائل
ولا يوم خصم إذا أتوك أشدةً ... أولي جدلٍ من الخصوم المساحل
أمطعمُ إن القوم ساموك خطةً ... وإني متى أوكل فلست بوائل
جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلاً ... عقوبة شر عاجلاً غير آجل(1/203)
بميزان قسط لا يخيس شعيرةً ... له شاهدٌ من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قومٍ تبدلوا ... بني خلفٍ قيضاً بنا والغياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم ... وآل قصي في الخطوب الأوائل
وسهمٌ ومخزومٌ تمالوا وألبوا ... علينا العدا من كل طملٍ وخامل
فعبد منافٍ أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل
لعمري لقد وهنتم وعجزتم ... وجئتم بأمرٍ مخطئٍ للمفاصل
وكنتم حديثاً خطب قدرٍ وأنتم ... الان حطاب أقدرٍ ومراجل
ليهن بني عبد المناف عقوقنا ... وخذلاننا تركاً كفعل المعامل
فأبلغ قصياً أن سينشر أمرنا ... وبشر قصياً بعدنا بالتخاذل
ولو طرقت -ليلاً- قصياً عظيمةً ... إذاً ما لجأنا دونهم في المداخل
ولو صدقوا ضرباً خلال ديارهم ... لكنا أسىً عند النساء المطافل
فكل صديقٍ وابن أختٍ نعده ... -لعمري- وجدنا غبه غير طائل
سوى أن رهطاً من كلاب بن مرةٍ ... براءٌ إلينا من معقة خاذل(1/204)
ونعم ابن أخت القوم غير مكذبٍ ... زهيرٌ حساماً منفرداً، من حمائل
أشم، من الشم البهاليل ينتمي ... إلى حسبٍ في حومة المجد فاضل
لعمري لقد كلفت وجداً بأحمدٍ ... وإخوته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس -إني مؤملٌ- ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل؟
حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائشٍ ... يوالي إلهاً ليس عنه بغافل
كريم المساعي، ماجدٌ وابن ماجدٍ ... له إرث مجدٍ ثاقبٍ، غير ناصل
وأيده رب العباد بنصره ... وأظهر ديناً حقه غير زائل
فوالله لولا أن أجيء بسبةٍ ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا تبعناه على كل حالةٍ ... من الدهر جداً غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذبٌ ... لدينا ولا يغنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومةٍ ... تقصر عنها سوره المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرا والكلاكل(1/205)
252- ومنهم إبراهيم الخليل عليه السلام. وقد قدمنا عنه خبراً. وقد أخبر الله عز وجل عن ضيافته وأضيافه. وهذا أمرٌ مشهور، شهرته تغني عن ذكره، فقد كان عليه السلام من الأجواد الكرماء المعروفين بالضيافة.
253- ومنهم عيسى عليه السلام. وكان من الأجواد الكرماء المشهورين بذلك.
254- ومنهم آدم عليه السلام. وإنما لم ينقل عنه ذلك لأن الكل ولده، والجود على الأولاد لا ينقل.
255- ومنهم نوح عليه السلام. وفي الصحيح أنه عليه السلام ذكر نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يسمح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)). ذكر غير واحدٍ أنه نوح.
256- ومنهم إسماعيل عليه السلام. وهو أمرٌ مشهورٌ عنه، حتى إن زوجته كانت تضيف، فإن أباه إبراهيم عليه السلام حين جاء زوجته -وهي لا تعرفه- قالت له: ألا تنزل فتأكل وتشرب؟
257- ومنهم إسحاق عليه السلام. كان جواداً.
258- ومنهم يعقوب عليه السلام. كان جواداً.
259- ومنهم يوسف عليه السلام. كان جواداً. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)).(1/206)
وقد أطعم أهل مصر وملكهم ثم أعتقهم. وكان يضيف، كما ورد عنه حين قدم عليه إخوته.
260- ومنهم داود عليه السلام: كان جواداً.
261- ومنهم سليمان عليه السلام. كان من الأجواد المعروفين بذلك.
262- ومنهم شعيب عليه السلام. وقد ورد عنه أنه لما ضيف موسى قال: إنها عادتي وعادة آبائي.(1/207)
فصل في ذكر الأجواد من غير هذه الأمة
263- منهم حاتم الطائي، الذي بذكره .. الأسماع، وسار في جميع الأقطار والبقاع، وضرب به المثل. وكان له مآثر وأمورٌ عجيبة، وأخبارٌ مستغربةً في كرمه. وقد قدمنا نبذةً من أخباره. وقد أقرى بعد موته في خبرٍ مشهور!.(1/208)
264- ولكن روى أبو بكر البزار بسنده عن ابن عمر قال:
ذكر حاتم عند النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((ذاك أراد أمراً فأدركه)).
وهو حديثٌ غريب. قال الدارقطني: تفرد به عبيد بن واقد عن أبي مضر، ولم يسم أبو مضر، لكن في رواية لابن عساكر: عن أبي مضر شيبة.
265- وروينا في مسند الإمام أحمد، عن عدي بن حاتم قال:
قلت: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل ويفعل، فهل له في ذلك، يعني من أجر؟
قال: ((إن أباك طلب شيئاً فأصابه)).
ورواه أبو القاسم البغوي ولفظه:
((إن أباك أراد أمراً فأدركه)) يعني الذكر.
266- وروى الطبراني أن عدياً قال:
يا رسول الله، إن أبي كان يصل القرابة، ويحمل الكل، ويطعم الطعام.
قال: ((هل أدرك الإسلام؟))، قال: لا.(1/209)
قال: ((فإن أباك كان يحب أن يذكر فذكر)).
267- ومنهم عبد الله بن جدعان. كان من الكرماء الأجواد في الجاهلية المطعمين. وكان في بدء أمره فقيراً مملقاً، وكان شريراً؛ حتى أبغضه قومه وعشيرته. فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائراً، فرأى شقاً في جبل، فظن أن يكون به شيءٌ يؤذي. فقصده لعله يموت، فيستريح مما هو فيه. فلما اقترب منه إذا ثعبان يخرج إليه ويثب عليه، فجعل يحيد عنه ويثب ولا يغني شيئاً. فلما دنا منه إذا هو من ذهب، وله عينان إذا هما ياقوتتان. فكسره وأخذه، ودخل الغار فإذا فيه قبورٌ لرجالٍ طوالٍ من ملوك جرهم، منهم: الحارث بن مضاض الذي طالت غيبته فلا يدرى أين ذهب!.
ووجد عند رؤوسهم لوحاً من ذهب، فيه تاريخ وفاتهم ومدد ولايتهم، وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة شيءٌ كثير، فأخذ منه حاجته ثم خرج، وعلم باب الغار، ثم انصرف إلى قومه، فأعطاهم، حتى أحبوه، وسادهم وجعل يطعم الناس، وكلما قل ما في يده، ذهب إلى ذلك الغار، فأخذ حاجته ثم رجع.
268- وكانت له جفنةٌ يأكل منها الراكب على بعيره، ووقع فيها صغيرٌ فغرق.
269- وذكر ابن قتيبة وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي)).(1/210)
أي: وقت الظهيرة.
270- وفي حديث مقتل أبي جهلٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
((تطلبوه بين القتلى، وتعرفوه بشجةٍ في ركبته، فإني تزاحمت أنا وهو على مأدبةٍ لابن جدعان، فدفعته، فسقط على ركبتيه، فانهشمت، وأثرها باقٍ في ركبته)). [فوجدوه كذلك].
271- وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق، ويسقي اللبن، حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت:
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان
فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بغير، تحمل البر والشهد والسمن، وجعل منادياً ينادي كل ليلةٍ على ظهر الكعبة، أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان. فقال أمية في ذلك:
له داعٍ بمكة مشمعل ... وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردحٍ من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد
272- وروينا في صحيح مسلم أن عائشة قالت:
يا رسول الله، إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟.(1/211)
فقال: ((إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)).
273- ومنهم هاشم جد أبي النبي صلى الله عليه وسلم. كان من الأجواد المشهورين، وإنما سمي هاشماً لأنه هشم الثريد لقومه زمن المحل.
وفيه يقول الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وهو أول من سن رحلة الشتاء والصيف.
274- ومنهم عبد المطلب، جد النبي صلى الله عليه وسلم. كان من الأجواد الكبار. ويقال له شيبة الحمد لجوده.
وبلغ من جوده أنه كان يطعم الوحوش في البرية!.
275- ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل، وكان من بقايا أهل الكتاب. وكان من جوده أنه يحيي الموؤودة، إذا ولد لرجلٍ بنتٌ يقول: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها. فيأخذها، فإذا ترعرعت قال له: إن شئت أنكحتها، وإن شئت دفعتها إليك.
276- ومنهم الثلاثة أصحاب الغار من بني إسرائيل.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، حدثنا إسماعيل بن خليل، حدثنا علي بن(1/212)
مسهر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((بينما ثلاثة نفرٍ ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار، فانطبق عليهم. قال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق. فليدع كل رجلٍ منكم بما علم أنه قد صدق فيه.
فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل [لي] على فرق أرز، فذهب وتركه، وأني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقراً وراعيها، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها. فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز. فقلت: اعمد إلى تلك البقر فإنها من تلك الفرق. فساقها. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساحت عنهم الصخرة.
فقال الآخر: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت آتيهما كل ليلةٍ بلبن غنم لي، فأبطأت عنهما ليلة، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، وكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت [عنهم] الصخرة حتى نظروا إلى السماء.
فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحب الناس إلي، وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار. فطلبتها حتى قدرت عليها، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها. فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فقمت(1/213)
وتركت المائة دينار. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. ففرج الله عنهم. فخرجوا)).
277- ومنهم أعمى في بني إسرائيل:
روينا في الصحيحين وغيرهما: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((إن ثلاثةً في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، أراد الله تعالى أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ فقال: لونٌ حسن، وجلدٌ حسن، قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب، وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً. فقال: أي المال أحب إليك؟ فقال: الإبل، أو قال البقر. شك في ذلك. إلا أن الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر البقر. فأعطي ناقة عشراء، وقال: يبارك الله لك فيها.
وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس. فمسحه فذهب، وأعطي شعراً حسناً، وقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرةً حاملاً وقال: يبارك لك فيها.
قال: وأتى الأعمى فقال: أي شيٍ أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس. قال: فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطاه شاةً والداً.
فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من الغنم.(1/214)
ثم أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجلٌ مسكينٌ تقطعت به الحبال في سفره فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال: بعيراً أتبلغ به في سفري.
فقال: إن الحقوق كثيرة.
قال: فكأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذروك الناس، فقيراً فأعطاك الله عز وجل؟!.
قال: لقد ورثت [هذا المال] كابراً عن كابر.
قال: فإن كنت كاذباً فصيرك الله كما كنت!.
وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثلما قال لهذا، ورد عليه مثلما رد عليه، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى في صورته فقال: رجلٌ مسكين تقطعت بي الحبال فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري.
فقال: قد كنت أعمى فرد الله علي بصري، فقيراً، فأغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أحمدك اليوم بشيءٍ أخذته لله عز وجل.
فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي عنك، وسخط على صاحبيك)).(1/215)
278- ومنهم صاحب السلف:
أخبرنا جدي وغيره إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا حنبل الرصافي، أخبرنا أبو القاسم، أخبرنا أبو علي التميمي، أخبرنا أبو بكر القطيعي، أخبرنا عبد الله بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا الليث، عن جعفر بن محمد، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بشهداء أشهدهم. قال: كفى بالله شهيداً. قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مسمى. فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يقدم عليه للأجل الذي [كان] أجله، فلم يجد مركباً. فأخذ خشبة، فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفةً معها إلى صاحبها، ثم رجع موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استلفت فلاناً ألف دينار، فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك، وإني قد جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركباً، وإني استودعكها.
فرمى بها البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف [ينظر]، وهو في ذلك يطلب مركباً [يخرج] إلى بلده. فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً يجيئه بماله. فذهب فإذا هو بالخشبة التي فيها المال. فأخذها لأهله حطباً، فلما كسرها وجد المال والصحيفة.
ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينارٍ وقال: والله ما(1/216)
زلت جاهداً في مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل هذا الذي جئت فيه.
[قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟.
قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل هذا الذي جئت فيه؟].
قال: فإن الله تعالى أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بألفك راشداً)).
279- ومنهم صاحب الجرة:
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرنا ابن الزعبوب وابن اليونانية، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((اشترى رجلٌ من رجلٍ عقاراً [له]، فوجد [الرجل] الذي اشترى العقار [في عقاره] جرةً فيها ذهب، فقال [له] الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع [منك] الذهب. فقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض بما فيها. فتحاكما إلى رجلٍ، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام. وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه، وتصدقا)).
280- ومنهم عدنان. وكان من الأجواد الكبار.(1/217)
281- ومنهم معد ولد عدنان. كان من الأجواد أيضاً.
ولو ذهبنا نعد أجواد القرون الماضية لطال ذلك، وعجزنا عن استقصائه.(1/218)
فصل في الأجواد من هذه الأمة
282- منهم أبو بكر الصديق. وكان من أجود الأجواد. وقد أنفق جميع ماله، حتى تخلل بالعباء.
وقد قال ابن الدغنة -وهو غير مسلم-: إنه يحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق. وحسبك بمن يمدحه عدوه بمثل هذا.
وله الفعال العجيبة في الإسلام التي لا يوجد مثلها. وأعتق جماعةً من الصحابة، كبلالٍ وغيره. وكان من الأجواد المشهورين في قريشٍ في الجاهلية والإسلام، وشهرته تغني عن ذكره.
283- وقد قرأت على فاطمة بنت الحرستاني: أخبرك المشايخ الثلاثة إجازة، أخبرنا أبو محمد بن المحب، أخبرنا أبو الفضل بن النحاس، أخبرنا يوسف بن خليل، أخبرنا الثقفي، أخبرنا أبو علي الحداد، أخبرنا الحافظ أبو نعيم، أخبرنا أبو محمد الجابري، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أنها بلغها:
أن قوماً تكلموا في أبيها رضي الله عنه، فبعثت إلى أزفلةٍ من(1/219)
الناس، وعلت وسادتها، وأرخت ستارها، ثم قالت:
أبي وما أبيه؟ والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود منيف، وظل مديد. هيهات، كذبت الظنون، أنجح والله إذ أكديتم، وسبق -إذ ونيتم- سبق الجواد إذا استولى على الأمد. فتى قريش ناشئاً وكهفها كهلاً، يريش مملقها ويرأب شعبها ويلم شعثها حتى حليته قلوبها. ثم استشرى في دينه. فما برحت شكيمته في ذات الله حتى اتخذ بفنائه مسجداً، ويحيي فيه ما أمات المبطلون.
وكان رضي الله عنه غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج، فانقصفت عليه نسوان أهل مكة وولدانهم يسخرون منه ويستهزئون به، {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} فأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت قسيها وفوقت سهامها، وانتثلوه غرضاً، فما فلوا له صفاة، ولا قصموا له قناة، ومضى على سيسائه، حتى(1/220)
إذا ضرب الدين بجرانه، ورست أوتاره، ودخل الناس فيه أفواجاً، ومن كل فرقةٍ أرسالاً وأشتاتاً، اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده.
فلما قبض الله نبيه اضطرب حبل الدين، ومرج أهله، وبغى الغوائل، وظلت رجالٌ أن قد اكتثبت نهزها، ولات حين يظنون، وأنى والصديق بين أظهرهم؟ فقام حاسراً مشمراً، [فجمع حاشيته، ورفع قطريه، فرد نشر الإسلام على غربه، ولم شعثه] بطيه فأقام أوده بثقافة حتى امذقر النفاق.
فلما انتاش الدين بنعشه، وأراح الحق على أهله، وقرت الرؤوس في كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، حضرت منيته، فسد ثلمته بنظيره في السيرة والمرحمة. ذاك ابن الخطاب. لله در أم حملت به ودرت عليه. لقد أوجدت فيه فديخ الكفرة وفنخها، وشرد الشرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها حتى قاءت أكلها، ترأمه ويصد عنها، وتصدى له فيأباها. فأروني ماذا تريبون، وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟.(1/221)
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
ثم التفتت إلى الناس فقالت: سألتكم بالله، هل أنكرتم مما قلت شيئاً؟.
قالوا: اللهم لا.
284- ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كان من الأجواد المشهورين في الجاهلية والإسلام. وقد قدمنا خبر المرأة التي لقيته في الطريق فانطلق بها فأعطاها بعيراً وطعاماً وثياباً ونفقة، وقال لها: اذهبي فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير.
285- وقد روينا في الصحيح أنه قسم مروطاً، فبقي منها مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، اعط هذا بنت النبي صلى الله عليه وسلم التي عندك. -يريدون أم كلثوم-.
فقال: أم سليط أحق به -وأم سليط من نساء الأنصار، ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم-.
قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد.
286- وعن قتادة قال:
آخر ما قدم على عمر -رضي الله عنه- ثمانمائة ألف درهم من البحرين، فما قام من مجلسه حتى أمضاه.(1/222)
وله من الأخبار في ذلك ما يكثر ويعسر استقصاؤه، وقد ذكرنا نبذةً منه في كتابنا الذي وضعناه في فضائله. رضي الله عنه.
287- ومنهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد حصل له من ذلك ما لم يحصل لأحد. من ذلك أنه جهز جيش العسرة وحده، وحفر بئر رومة، وزاد في المسجد. وكان له الجود الكثير، والفضل الغزير. وقد ذكرنا طرفاً من جوده في كتابنا الذي وضعناه في فضائله.
288- ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. كان من الأجواد المشهورين. وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في كتابنا الذي وضعناه في فضله.
289- ومنهم طلحة بن عبيد الله. كان من الأجواد، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في كتابنا الذي وضعناه في فضله.
290- ومنهم الزبير بن العوام. كان من الأجواد المشهورين. وقد أنشد الشاعر فيه:
نعى الناعي الزبير فقلت ينعى ... فتى أهل الحجاز وأهل نجد
خفيف الحاذ تسآل الفيافي ... وعبدٌ للصحابة غير عند
وقد ذكرنا نبذةً من فضائله وجوده في كتابنا الذي وضعناه في فضله.
291- ومنهم سعد بن مالك الزهري. كان من الأجواد المشتهرين، وقد ذكرنا طرفاً من جوده في كتابنا الذي وضعناه في فضله.(1/223)
292- ومنهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. كان من الأجواد المشهورين. وقد ذكرنا طرفاً من جوده في كتابنا الذي وضعناه في فضله.
293- ومنهم عبد الرحمن بن عوف. كان من الأجواد المشهورين. وقد ذكرنا نبذةً من جوده في كتابنا الموضوع في فضائله.
294- ومنهم أبو عبيدة بن الجراح. كان من الأجواد المشهورين. وقد ذكرنا نبذةً من جوده في كتابنا الموضوع في فضله.
فهؤلاء العشرة أجود هذه الأمة، وشهرتهم تغني عن ذكرهم. ويقال لهم: العشرة الكرام البررة.
295- ومنهم عائشة أم المؤمنين. كانت من الأجواد الكبار، وكانت لا تمسك شيئاً من الدنيا.
وقد روينا في الصحيح: أن عائشة رضي الله عنها كانت لا تمسك شيئاً من الدنيا، فقال ابن الزبير: ينبغي أن يؤخذ على يدها؟.
فقالت: أهو قال ذلك؟ لله علي نذرٌ إن كلمته.
فاستشفع إليها بالزهريين أخوال النبي صلى الله عليه وسلم فلم تقبل.
فقالوا له: إنا نستأذن عليها، فإذا استأذنا فاقتحم معنا.
فاستأذنوا، فأذنت لهم، فاقتحم معهم، فدخل فأكب عليها، وجعل يقبلها وهم يناشدونها، فقالت: إني نذرت، والنذر شديد.
قال: فكلمته، فأرسل إليها عشر رقابٍ فأعتقتهم. ثم لم تزل تعتقهم حتى بلغوا أربعين!.(1/224)
296- وذكر أنه أتاها مال، فجعلت تفرقه حتى لم يبق منه درهم؛ فقالت لها جاريتها: لو تركت لنا درهماً نشتري به لحماً.
فقالت: لو ذكرتيني.
297- ومنهم جعفر بن أبي طالب. وقد قدمنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وكان من الأجواد الكرماء المشهورين بكثرة البذل إلى الفقراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
298- ومنهم أسماء بنت أبي بكر الصديق. كانت من الأجواد المشتهرين بذلك. وهي التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:
((لا توعي فيوعي عليك)).
299- وهي التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:
إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟.
قال: ((نعم صليها)).
وكانت لها أمورٌ وصلاتٌ وأشياءٌ متعددة.
300- ومنهم سعد بن معاذ. كان من الأجواد المشتهرين الكبار، رضي الله عنه.
301- ومنهم سعد بن عبادة. كان من الأجواد المشاهير، وكانت له جفنةٌ تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث دار من نسائه.
302- ومنهم حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من الأجواد المشاهير.(1/225)
303- ومنهم الحسن بن علي رضي الله عنه. كان من الأجواد المشاهير المشتهرين بذلك، البذالين للنوال الكثير والمال الغزير. لم يكن من الصحابة وأبنائهم -غير العشرة- أبذل منه ولا أوسع عطاءً منه. كان يعطي العشرة الآلاف والخمسة في المرة الواحدة. وكان مطلاقاً، ولا يطلق امرأةً حتى يعطيها حقها.
وكان يجود بالطعام والطيب والمال. وقاسم الله عز وجل ماله ثلاث مرات. وخرج من ماله كله لله عز وجل مرتين.
قال ابن سيرين: ربما أجاز الحسن بن علي الرجل الواحد بمائة ألف درهم! وأموره في ذلك مشهورةٌ كثيرة، لا يمكن استقصاؤها.
304- ومنهم عبد الله بن عمر. كان من الأجواد الكبار المشاهير. وكان لا يعجبه شيءٌ من ماله إلا تصدق به.
305- ومنهم عبد الله بن الزبير. وفي صحيح البخاري: أنه كان يرزقهم التمر في زمن المحل.
وما ذكره بعضهم أنه من البخلاء غير مسلم، وهو كذب.
306- ومنهم خديجة رضي الله عنها. كانت من الأجواد. وقد بذلت للنبي صلى الله عليه وسلم مالها ونفسها.
307- ومنهم معاوية بن أبي سفيان. كان من الأجواد المشاهير.(1/226)
308- ومنهم عبد الله بن عباس. كان من الأجواد الكبار. وقد قدمنا عنه خبراً بذلك.
309- ومنهم الحسين بن علي رضي الله عنه. كان من الأجواد أيضاً.
310- ومنهم سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً)).
فكانت هي أطولهن يداً. وإنما طول يدها الصدقة.
311- ومنهم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
312- ومنهم بلال بن رباح مولى أبي بكر رضي الله عنهما. وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم:
((أنفق بلال ولا تخش من ذي العرض إقلالاً)).
313- ومنهم العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. كان جواداً مشهوراً. وأعتق في الإسلام سبعين مملوكاً.(1/227)
314- ومنهم عمرو بن معد يكرب. كان من الأجواد. وهو القائل:
أعاذل عدتي سيفي ورمحي ... وكل مقلص سلس القياد
أعاذل إنما أفنى شبابي ... إجابتي الصريخ إلى المنادي
مع الأبطال حتى سل جسمي ... وأقرح عاتقي حمل النجاد
فمن ذا عاذري من ذي سفاهٍ ... يرود بنفسه شر المراد
ويبقى بعد حكم القوم حكمي ... ويفنى قبل زاد القوم زادي
315- ومنهم طليحة الأسدي، الذي كان ادعى النبوة ثم أسلم. وكان من الأجواد الشجعان.
316- ومنهم خالد بن الوليد. كان من الأجواد المشاهير.
317- ومنهم يزيد بن أبي سفيان. كان من الأجواد. ولذلك كان يقال له يزيد الخير.
318- ومنهم عكرمة بن أبي جهل. كان من الأجواد السادات المشهورين في الجاهلية والإسلام.
319- ومنهم عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول. كان من الأجواد السادات، وكان من أشد الناس على أبيه.
320- ومنهم عدي بن حاتم. كان من الأجواد في الإسلام كما كان أبوه في الجاهلية.(1/228)
321- وذكر أن الأشعث بن قيس أرسل يستعير منه أواني أبيه، فملأها طعاماً وأرسل بها إليه، فقال له: إنما طلبت منك الأواني فارغة.
فقال له: إنا قومٌ لا نخرج أوعيتنا فارغة.
322- وروينا في صحيح مسلم، عن تميم بن طرفة أنه قال:
جاء سائلٌ إلى عدي بن حاتم، فسأله نفقة في ثمن خادم، أو في بعض ثمن خادم، فقال: ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري، فأكتب إلى أهلي أن يعطوكها.
قال: فلم يرض، فغضب عدي فقال: أما والله لا أعطيك شيئاً.
ثم إن الرجل رضي، فقال: أما والله لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حلف على يمينٍ فرأى أتقى لله منها فليأت التقوى)). ما حنثت يميني.
323- وعن تميم قال:
سمعت عدي بن حاتم وأتاه رجلٌ يسأله مائة درهم فقال: تسألني مائة درهم وأنا ابن حاتم؟ والله لا أعطيك!.
ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حلف على يمينٍ ثم رأى خيراً منها فليأت الذي هو خير)). وفي رواية: وزاد: لك أربعمائة في عطائي.
324- ومنهم الأشعث بن قيس. كان من الأجواد المشاهير.
325- ومنهم حكيم بن حزام. كان من الأجواد الكبار في الجاهلية والإسلام.(1/229)
326- ومنهم عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. كان من الأجواد الكبار المشهورين كأبيه، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يكن في أبناء الصحابة أجود منه ومن الحسن رضي الله عنهما.
327- وذكر ابن عائشة قال:
دخل زياد الأعجم على عبد الله بن جعفر، فسأله في خمس دياتٍ فأعطاه، ثم عاد فسأله في خمس دياتٍ فأعطاه، ثم عاد فسأله في عشر دياتٍ فأعطاه. فأنشأ يقول:
سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا
مراراً لا أعود إليه إلا ... تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا
328- وروى الأصمعي عن جدته:
أن عبد الله بن جعفر أسلف للزبير ألف ألف درهم. فلما توفي الزبير قال ابن الزبير لعبد الله بن جعفر: إني وجدت في كتب أبي أن له عليك ألف ألف درهم.
قال: هو صادق، فاقضها إذا شئت.
ثم لقيه بعد فقال: وهمت عليك! المال لك علي!.
قال: فهو له!.
قال: لا أريد ذلك!.
قال الذهبي: هذه الحكاية أبلغ ما ورد في السؤدد والجود!.(1/230)
329- وقال ابن سيرين: جلب رجلٌ سكراً إلى المدينة فكسد عليه، فبلغ عبد الله بن جعفر، فأمر قهرمانه أن يشتريه وأن يهبه للناس.
330- ومنهم أسيد بن حضير. كان من الأجواد. وكان سيد قومه ورئيسهم وشريفهم بعد أبيه، ومات وعليه من الدين أربعة آلف!.
331- ومنهم أم سليم. كانت من الأجواد. وقد أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج.
332- ومنهم أنس بن مالك. كان من الأجواد.
333- ومنه جابر بن عبد الله. كان من الأجواد الكبار. وهو الذي أضاف أهل الخندق وصنع لهم الطعام.
334- ومنهم جبير بن مطعم. كان من الأجواد والأشراف.
335- ومنهم جرير بن عبد الله البجلي. كان من الأجواد. وكان سيد قومه. ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسط له ثوباً ليجلس عليه، وقال:
((إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه)).
336- ومنهم الحارث بن هشام المخزومي. كان من الأجواد.(1/231)
337- ومنهم حذيفة بن اليمان. كان من الأجواد. وكان إذا أتاه عطاؤه فرقه كله.
338- ومنهم أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد. كان من الأجواد.
339- ومنهم أبو الدرداء. كان من الأجواد. وقد زاره سلمان فصنع له طعاماً، وقال: إنا لنكشر في وجوه قومٍ وإن قلوبنا لتلعنهم.
340- ومنهم أبو طلحة الأنصاري. كان من الأجواد. ويقال: هو الذي ضيّف ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل فيه: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} هو وزوجته أم سليم. واستبعد ذلك الخطيب.
341- وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقةٌ لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.(1/232)
342- ومنهم ثابت بن قيس. كان من الأجواد. ويقال إنه هو الذي ضيف ونزلت فيه الآية.
343- ومنهم زيد بن الخطاب، أخو عمر بن الخطاب. كان من الأجواد.
344- ومنهم عبد الله بن رواحة. كان من الأجواد الكبار. ويقال: هو الذي ضيف الرجل ونزلت فيه الآية.
345- ومنهم أبو شعيب، الذي ضيف النبي صلى الله عليه وسلم، هو وخمسةً.
346- ومنهم أبو هريرة. وقد روي عن أبي عثمان قال: تضيفت أبا هريرة سبعاً. وكان من الأجواد حين أصاب المال والدنيا.
347- ومنهم سلمان الفارسي. كان من الأجواد. كان يشتري الخوص ويبيعه بثلاثة دراهم، فيعيد درهماً فيه. وينفق على عياله درهماً، ويتصدق بدرهم!.
348- وكان إذا خرج عطاؤه أمضاه وأكل من عمل يده.
349- واشترى رجلٌ مرةً لفرسه علفاً، فقال لسلمان: تعال يا فارسي فاحمل. فحمل واتبعه، فجعل الناس يسلمون على سلمان. فقال: من هذا؟ قالوا: سلمان. قال: والله ما عرفتك، أعطني. قال: إني أحتسب بما صنعت لك أني أنفيت عني الكبر، وأعين مسلماً على حاجته، ولو لم تسخرني لسخرت من هو أضعف عني، فوقيته بنفسي.(1/233)
350- ومنهم عائذ بن عمرو بن هلال. كان من الأجواد. زوج في غداةٍ واحدةٍ أربعين رجلاً من مزينة، كل امرأةٍ على ألف ٍ ووصيف!.
351- ومنهم عبد الله بن صفوان بن أمية. أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من الأجواد. قدم رجلٌ على معاوية فقال: من يطعم اليوم بمكة؟ قال: عبد الله بن صفوان. قال: تلك نارٌ قديمة.
352- ولما حج معاوية لقيه على بعيرٍ في خفين وعمامة، فسايره، فقال أهل الشام: من هذا الأعرابي الذي يساير أمير المؤمنين؟ ثم قسم فيهم شاءً وجزراً، فقالوا: ما رأينا أسخى من ابن عم أمير المؤمنين هذا الأعرابي!.
353- ومنهم عبد الله بن عكيم. كان من الأجواد. وكان إذا أخذ عطاءه ينفق، ولا يربط رأس كيسه، ويقول: سمعت الله تعالى يقول: {وجمع فأوعى}.
354- ومنهم أبو موسى الأشعري. كان من الأجواد. وحديثه في الصحيحين حين أخرج طعامه، وقال لذلك الرجل: تعالى فكل.(1/234)
355- ومنهم أبو بردة بن نيار. كان من الأجواد. وفي الصحيح أنه ذبح قبل الصلاة لأجل ناسٍ من جيرانه كانت بهم حاجة.
356- ومنهم أم الفضل. كانت من الأجواد. وقد أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبنٍ وهو واقفٌ بعرفة فشربه.
357- ومنهم أنس بن مالك. كان من الأجواد. وفي الصحيح:
كنا نأتي أنساً وخبازه قائم، فقال: كلوا، فما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أكل خبزاً مرققاً.
358- ومنهم أبو أسيد الساعدي. كان من الأجواد. وفي الصحيح:
أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن.(1/235)
359- ومنهم عمرو بن العاص. كان من الأجواد. وكذلك أبوه في الجاهلية، وولده في الإسلام أيضاً.
360- ومنهم عبادة بن الصامت. كان من الأجواد. وكذلك زوجته أم حرام بنت ملحان.
وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليها فتطعمه وينام عندها.
361- ومنهم كعب بن مالك الأنصاري، أحد الثلاثة الذي تيب عليهم. كان من الأجواد. وقد قال -حين تيب عليه- للنبي صلى الله عليه وسلم: إن من توبتي أن أتخلع من مالي صدقة لله.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك)).
362- ومنهم المغيرة بن شعبة. كان من الأجواد.
363- ومنهم أبو ذر الغفاري. كان من الأجواد الكبار. وله صدقات وعطياتٌ كثيرة. كان عطاؤه أربعة آلاف، وكان لا يدخر منه إلا قدر كفايته، ويصرفه فلوساً، حتى لا يدخل في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة}.
364- ومنهم أبو سلمة بن عبد الرحمن. كان من الأجواد الكبار.
365- ومنهم زينب بنت جحش. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت امرأةً قط خيراً في الدين، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم أمانةً وصدقةً من زينب.(1/236)
366- وكانت تعمل بيدها وتتصدق. أخرجه مسلم.
367- وأرسل إليها عمر رضي الله عنه مرةً بعطاياها فقالت: غفر الله لعمر، غيري كان أقوى على قسم هذا مني.
قال: هذا كله لك.
قالت: سبحان الله! واستترت منه بثوبٍ وقالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً.
ثم طفقت تفرقه من رحمها وأيتامها، حتى بقيت بقية، قالت برزة: فقلت: يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا فيه حق.
قالت: فلكم ما بقي. فوجدناه خمسة وثمانين درهماً.
ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا. فماتت.
368- وروي أن عطاءها كان اثني عشر ألفاً.
369- ومنهم صفية بنت حيي أم المؤمنين. كانت من الأجواد. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم بها وهبت فاطمة خرصاً من ذهب.
370- ومنهم أم سلمة. كانت من الأجواد. وكان أبوها أحد الأجواد ويلقب زاد الراكب.
371- ومنهم المرأة صاحبة المزرعة التي كانت تأخذ أصول السلق(1/237)
والشعير تطبخه وتضيف الصحابة كل جمعة. وذكر ابن حجر وغيره أنها لم تسم.
قلت: قد رأيتها مسماةً في بعض روايات الحديث، ولم يحضرني ذلك الآن.
372- ومنهم أبو قتادة الأنصاري. كان من الأجواد.
373- ومنهم هند أم معاوية. كانت من الأجواد. ولهذا جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إن أبا سفيان رجلٌ شحيح.
374- ومنهم زينب امرأة عبد الله بن مسعود. كانت من الأجواد. وهي التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صدقتها أتجري على زوجها وأيتامٍ في حجرها؟.
375- ومنهم أم هانئ بنت أبي طالب. كانت من الأجواد.
376- ومنهم عتبان بن مالك الأنصاري. كان من الأجواد. وهو الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنكر بصره، وأراد أن يصلي صلى الله عليه وسلم في بيته مكاناً يتخذه مصلى، وصنع للنبي صلى الله عليه وسلم خزيرة، وأنه ناب في البيت رجالٌ ذوو عددٍ لذلك.(1/238)
377- ومنهم خالة ابن عباس. أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضباً وأقطاً ولبناً.
وفي رواية: ضباً وأقطاً وسمناً.
وفي رواية: أضباً ولبناً وأقطاً.
وفي بعض الروايات: أن حفيدة خالة ابن عباس أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تسم في بعضها.
378- ومنهم أسماء بنت عميس. كانت من الأجواد الكبار.
379- ومنهم أسامة بن زيد. كان من الأجواد.
380- ومنهم أبوه زيد بن حارثة. كان من الأجواد.
381- ومنهم أشج عبد القيس. كان من الأجواد. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)).
382- ومنهم أبو مسعود. كان من الأجواد. وقد أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا(1/239)
البخاري، أخبرنا سعيد بن يحيى، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن أبي مسعود الأنصاري قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق، فيحامل، فيصيب المد، وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف.
383- ومنهم زاهر. كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالهدايا من البادية.
قرأت على ابن الشريفة وابنة الحرستاني، أخبركما المشايخ الثلاثة: ابن الحرستاني وابن البالسي وأحمد بن علي المرداوي، أخبرنا أكثر من عشرين شيخاً، منهم المزي وابن المحب وابن عبد الهادي، أخبرنا ابن البخاري وابن .. عمر وغيرهما، أخبرنا أبو اليمن الكندي، أخبرنا أبو شجاع البسطامي، أخبرنا أبو القاسم البلخي، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ثابت، عن أنس:
أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((إن زاهراً بادينا ونحن حاضروه)).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلاً دميماً، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: من هذا؟ أرسلني. فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم [حين عرفه]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يشتري العبد))؟.
فقال الرجل: يا رسول الله، إذاً والله تجدني كاسداً!.(1/240)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكن عند الله لست بكاسد)).
384- ومنهم يزيد أبو معن. كان من الأجواد. وقد أخبرنا الجماعة، أخبرنا ابن الزعبوب، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا إسرائيل، حدثنا أبو الجويرية، أن معن بن يزيد حدثه قال:
بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجدي، وخطب علي فأنكحني، وخاصمت إليه، كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجلٍ في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت. فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
((لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن)).
385- ومنهم أبو عقيل. أخبرنا الفولاذي وغيره، أخبرنا ابن بردس، أخبرنا ابن الخباز، أخبرنا الإربلي، أخبرنا الطوسي، أخبرنا الفراوي، أخبرنا الفارسي، أخبرنا الجلودي، أخبرنا أبو إسحاق الزاهد، أخبرنا مسلم بن الحجاج، حدثنا بشر بن خالد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال:
أمرنا بالصدقة. قال: كنا نحامل. قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع.(1/241)
قال: وجاء إنسانٌ بشيءٍ أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله عز وجل لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياءً. فنزلت: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم}. والذي جاء بالكثير هو عبد الرحمن بن عوف.
386- ومنهم رجلٌ لم يسم. أخبرنا جماعة من [شيوخنا]، أخبرتنا عائشة بنت عبد الهادي، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((قال رجل: لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق! فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق! فقال: اللهم لك الحمد. لأتصدقن بصدقة.
فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية! فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية! فقال: اللهم لك الحمد على زانية. لأتصدقن بصدقة.
فخرج بصدقته فوضعها في يد غني! فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غنيّ فقال: اللهم لك الحمد على سارقٍ، وعلى زانية، وعلى غني.
فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارقٍ فلعله أن يستعف عن سرقته. وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها. وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله)).(1/242)
387- ومنهم رجلٌ من الأنصار لم يسم. وقد تقدم الحديث حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم أولئك القوم المجتابي النمار، قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصرةٍ كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت.
388- ومنهم ميمونة بنت الحارث. وقد روينا في الصحيحين وغيرهما أنها أعتقت وليدةً لها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
((لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)).
389- ومنهم عمير مولى آبي اللحم. أخبرنا شيخنا أبو الفرج بن الحبال قراءةً عليه، أخبرنا ابن ناصر الدين وغيره، أخبرنا التاج بن بردس، أخبرنا ابن الخباز، أخبرنا الإربلي، أخبرنا الطوسي، أخبرنا الفراوي، أخبرنا الفارسي، أخبرنا الجلودي، أخبرنا أبو إسحاق الزاهد، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا ابن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب، عن حفص بن غياث، عن محمد بن زيد، عن عمير مولى آبي اللحم قال:
كنت مملوكاً، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتصدق من مال مولاي بشيء؟ قال: ((نعم، والأجر بينكما نصفان)).
وفي رواية: أمرني مولاي أن أقدد لحماً، فجاءني مسكين، فأطعمته منه، فعلم بذلك مولاي، فضربني، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فدعاه فقال: ((لم ضربته؟)).
قال: يعطي طعامي بغير أن آمره.(1/243)
قال: ((الأجر بينكما)).
390- ومنهم قيس بن سعد بن عبادة. كان من الأجواد. قال عمرو بن دينار في حديث جابر:
خرجنا في بعثٍ ثلاثمائة، وعلينا أبو عبيدة، فأصابنا جوع، فنحر رجلٌ ثلاث جزائر، ثم نحر من الغد كذلك، ثم نهاه أبو عبيدة.
سمعت أبا صالح ذكوان يقول: هو قيس بن سعد، نحر لهم تسع ركائب.
391- وقال عمرو بن الحارث: حدثنا بكر بن سوادة، عن أبي حمزة الحميري، عن جابر:
أن قيس بن سعد نحر لهم تسع ركائب. فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال:
((إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت)).
393- وقال عروة بن الزبير: باع قيس مالاً من معاوية بسبعين ألفاً،(1/244)
فأمر منادياً فنادى في المدينة: من أراد القرض فليأت منزل سعد. فأقرض الشطر وأجاز بالباقي. وكتب على من أقرضه صكاً. فمرض مرضاً قل عواده، فقال لزوجته قريبة أخت الصديق: ألا ترين قل عوادي؟ قالت: لدينك.
فأرسل إلى كل رجلٍ بصكه.
393- قال عروة: قال قيس: اللهم ارزقني مالاً، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.
394- وقال عمرو بن دينار، عن أبي صالح:
إن سعد بن عبادة قسم ماله بين ولده، وخرج إلى الشام فمات، فولد له ولدٌ بعده، فجاء أبو بكر وعمر إلى ابنه قيس فقالا: إن سعداً توفي ولم يعلم ما هو كائن، فنرى أن تردوا على هذا الغلام.
فقال: ما أنا بمغير شيئاً صنعه سعد، ولكن نصيبي له.
وأخباره في ذلك كثيرةٌ جداً يطول استقصاؤها.
395- وكان رضي الله عنه من الدهاة. وكان يقول: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المكر والخديعة في النار)) لكنت من أمكر هذه الأمة!.(1/245)
396- وكان من الطوال. وهو الذي أرسل معاوية سراويله إلى ملك الروم. رضي الله عنه.
397- ومنهم سعيد بن العاص بن أبي أحيحة. كان من الأجواد. قال ابن عبد البر: جمع الشرف والسخاء والفصاحة. وفيه يقول الفرزدق:
ترى الغر الجحاجح من قريشٍ ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا
قياماً ينظرون إلى سعيدٍ ... كأنهم يرون به هلالا
398- وعن ابن عمر قال:
جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردٍ فقالت: إني نويت أن أعطي هذا البرد أكرم العرب!.
فقال: ((أعطيه هذا الغلام))، يعني سعيد بن العاصي.
399- وقال معاوية: لكل قومٍ كريم، وكريمنا سعيد بن العاص.
400- وعن عبد الحميد بن جعفر قال:
قدم أعرابي المدينة يطلب في أربع ديات، فأعطاه سعيد بن العاص أربعين ألفاً!.(1/246)
401- وقال ابن عيينة:
كان سعيد بن العاص إذا سأله سائل، ولم يكن عنده، قال: اكتب بمسألتك علي سجلاً إلى ميسرتي.
402- وعن شبيب بن شيبة قال:
لما احتضر سعيد بن العاص قال لبنيه: أيكم يقبل وصيتي؟.
قال ابنه الأكبر: أنا.
قال: فإن فيها قضاء ديني.
قال: وما هو؟.
قال: ثمانون ألف دينار!.
قال: وفيم أخذتها يا أبه!.
قال: كريمٌ سددت منه خلةً، وفي رجلٍ أتاني في حاجةٍ ودمه بينٌ في وجهه من الحياء، فبدأته بها قبل أن يسألني.
403- ويقال: أجواد الحجاز ثلاثة: عبد الله بن جعفر، وعبيد الله بن العباس، وسعيد بن العاص.
404- ومنهم شرحبيل بن السمط. كان من الأجواد. وهو مختلفٌ في صحبته.
405- ومنهم عبيد الله بن عباس. له صحبة. وكان من الأجواد الكبار. قال الذهبي وغيره:(1/247)
كان أحد الأجواد الممدحين.
وقال ابن سعد: كان شيخاً جواداً.
وقال يعقوب السدوسي: كان جواداً.
وقال الواقدي: سمعت عمي يقول: كان يقال بالمدينة: من أراد العلم والسخاء والجمال فليأت دار العباس. أما عبد الله فكان أعلم الناس، وأما عبيد الله فكان أسخى الناس، وأما الفضل فكان أجمل الناس.
406- وقال حميد بن هلال: تفاخر رجلان من قريش من بني هاشم وبني أمية، فقال أحدهما للآخر: سل في قومك حتى أسأل في قومي.
فسأل الأموي عشرةً من بني قومه فأعطوه مائة ألف، وجاء الهاشمي إلى عبيد الله بن عباس فسأله فأعطاه مائة ألف. ثم سأل الحسن بن علي فأعطاه مائة وثلاثين ألفاً. ثم أتى الحسين فأعطاه كذلك. ففخر الهاشمي الأموي.
فرجع الأموي إلى قومه فأخبرهم الخبر، ورد عليهم المال فأخذوه، ورجع الهاشمي إلى قومه فأخبرهم. ورد عليهم المال فأبوا أن يقبلوه.
407- ومنهم قيس بن عاصم بن سنان. كان من الأجواد. قال الذهبي: كان عاقلاً حليماً جواداً. وقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((هذا سيد أهل الوبر)).(1/248)
408- وقد قال:
إني امرؤٌ لا يعتري خلقي ... دنسٌ يفنده ولا أفن
من منقرٍ في بيت مكرمةٍ ... والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه أعفة لسن
لا يفطنون لعار جارهم ... وهم بحسن جواره فطن
409- وقال عبيدة بن الطبيب يرثيه:
عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ... ورحمته ما شاء الله أن يترحما
تحية من أوليته منك نعمةً ... إذا زاد عن شحط بلادك سلما
وما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
410- ومنهم الأحنف بن قيس. كان من الأجواد المشاهير. وكان سيد قومه.
411- ومنهم عمر بن عبد العزيز. كان من الأجواد الكبار، رضي الله عنه. وتقدم خبر الشعراء معه.
412- ومنهم حبيب بن مسلمة القرشي. كان من الأجواد. وهو مختلفٌ في صحبته.(1/249)
413- ومنهم عاصم بن عمر بن الخطاب. كان من الأجواد. وولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
414- ومنهم قيس بن عباد القيسي. كان من الأجواد الكبار. كان يركب الخيل ويرتبطها، وكانت له فرسٌ عربيةٌ كلما نتجت مهراً فأدرك حمل عليه في سبيل الله.
415- وقال محمد بن فضيل: أخذ رجلٌ بلجام قيس بن عباد، فجعل يذكره ويسبه، فلما بلغ إلى منزله قال: خل عن لجام الدابة، يغفر الله لي ولك. وقتله الحجاج.
416- ومنهم الليث بن سعد. كان من الأجواد.
قال ابن سعد: كان سيداً من الرجال نبيلاً، شيخاً له ضيافة.
417- وقال قتيبة بن سعيد: قدم منصور بن عمار على الليث فوصله بألف دينار!.
واحترق بيت ابن لهيعة فوصله بألف دينار!.
ووصل مالك بن أنس بألف دينار.
وكساني قميص سندسٍ فهو عندي.(1/250)
418- وقال السراج: سمعت قتيبة يقول: أقبلنا مع الليث من الإسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن: سفينةٌ فيها مطبخه، وسفينةٌ عياله، وسفينةٌ فيها أضيافه.
419- وقال شعيب بن الليث: حججت مع أبي، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بطبق رطب، فجعل على الطبق ألف دينارٍ ورده إليه!.
وكان أبي يشتغل في السنة ما بين عشرين ألف دينارٍ إلى خمسةٍ وعشرين ألفاً، تأتي عليه السنة وعليه دين!.
420- وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث ثمانين ألف دينار، ما وجب عليه زكاة!.
421- وقال ابن وهب: كان الليث يصل مالكاً بمائة دينارٍ كل سنة، وكتب إليه مالك أن علي ديناً، فبعث إليه خمسمائة دينار!.
422- وكتب إليه: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها فابعث إلي شيئاً من عصفر. فبعث إليه ثلاثين حملاً من العصفر، فباع منه بخمسمائة دينار!.
423- وقال أبو صالح -كاتب الليث-: سألت امرأة الليث بن سعد شيئاً من عسل، فأمر لها بزق!.(1/251)
424- وعن الحارث بن مسكين، أن قوماً اشتروا من الليث ثمرة، فأمر لهم بخمسين ديناراً، وقال: آملوا فيما اشتروا فأحببت أن أعوضهم من أملهم.
425- وقال أبو صالح: صحبت الليث عشرين سنةً لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، ولا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض!.
426- وقال أشهب بن عبد العزيز: كان لليث كل يوم أربعة [مجالس يجلس فيها]: مجلسٌ لنيابة السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من أمر القاضي أمراً، أو من السلطان أمراً، كتب إلى أمير المؤمنين، فيأتيه العزل.
ويجلس لأصحاب الحديث.
ويجلس للمسائل يغشاه الناس يسألونه.
ويجلس لحوائج الناس، لا يسأل أحدٌ فيرد.
وكان يطعم الناس في الشتاء الهرايس بالعسل والسمن، وفي الصيف سويق اللوز بالسكر.
427- وقال سعيد بن آدم: مررت بالليث فقال: اكتب لي من يلزم المسجد ممن لا بضاعة له ولا غلة.
فقلت: جزاك الله خيراً أبا الحارث.
فذهبت، فكتبت في القنداق: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قلت: فلان ابن فلان. ثم بدرتني نفسي فقلت: فلان ابن فلان.
فبينا أنا كذلك إذ أتاني آتٍ فقال: ها الله يا سعيد، تأتي قوماً عاملوا(1/252)
الله سراً فتكشفهم لآدمي! مات الليث ومات شعيب بن الليث، أليس مرجعهم إلى الذي عاملوه؟.
فقمت ولم أكتب شيئاً. فلما أصبحت أتيت الليث، فلما رآني تهلل وجهه، فأعطيته القنداق، فنشره، فأصاب فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم)). ثم ذهب ينشره. فقلت: ما فيه غيرها! قال: ما الخبر؟.
فأخبرته بصدقٍ عما كان، فصاح صيحة، فاجتمع عليه الناس من الخلق، فقال: ليس إلا خيراً.
ثم أقبل الليث فقال: يا سعيد! تبينتها وحرمتها، صدقت، مات الليث، أليس مرجعهم إلى الله؟.
وحكاياته وأخباره في ذلك كثيرةٌ جداً لا تحصر. وكان ولده شعيب أيضاً من الأجواد الكبار. رحمة الله عليهما.
428- ومنهم محمد بن الحنفية، ابن علي بن أبي طالب. كان من الأجواد الكبار، وكان يقول: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً؛ حتى يجعل الله له فرجاً أو مخرجاً. رضي الله عنه.
429- ومنهم مصعب بن عبد الله بن الزبير. كان من الأجواد الكبار. قال الزبير: كان عمي وجه قريشٍ مروءةً وعلماً وشرفاً وبياناً وقدراً وجاهاً. وفيه يقول ابن أبي صبح:
وما عيشنا إلا الربيع ومصعبٌ ... يدور علينا مصعبٌ وندور
وفي مصعبٍ إن غبنا القطر والندى ... لنا ورقٌ معرورق وشكير(1/253)
متى ما يرى الزوار غرة مصعب ... ينير بها إشراقه فينير
يروا ملكاً كالبدر أما فناؤه ... فرحبٌ وأما قدره فكبير
له نعم من عد قصر دونها ... وليس بها عما يريد قصور
عددنا فأكثرنا ومدت فأكثرت ... فقلنا كثيرٌ طيبٌ وكبير
لعمري لئن عددت نعماء مصعبٍ ... لأشكرها إني إذاً لشكور
430- ومنهم المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. كان من الأجواد. كان يطعم الطعام حيثما نزل. ينحر الجزور فيطعم من جاءه.
وقيل: كان ينحر كل يومٍ جزوراً، ويوم الجمعة جزورين.
431- ومنهم المقداد بن عمرو الكندي. كان من الأجواد. وقد أوصى للحسن والحسين بستةٍ وثلاثين ألف درهم. ولكل واحدةٍ من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة آلاف.
432- ومنهم أبو مسلم الخولاني. كان من الأجواد الكبار.(1/254)
433- ومنهم أحمد بن إسحاق السرماري. كان من الأجواد الكبار. ومن الشجعان. خرج له البخاري وغيره.
434- ومنهم أبو دلف. كان من الأمراء الأجواد. قال ابن الجوزي: كان غاية في الجود والكرم.
435- ومنهم معن بن زائدة. كان من الأجواد الكبار. وأنشد فيه الحسين بن مطير:
ألما على معنٍ فقولا لقبره ... سقيت الغوادي مربعاً ثم مربعا
أيا قبر معنٍ كنت أول حفرةٍ ... من الأرض حطت للسماحة مضجعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ ... ولو كان حياً ضفت حتى تصدعا
ومنها:
فتىً عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مترعا
ولما مضى معنٌ مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
436- وقال المرزباني: أخبرني يوسف بن يحيى المنجم، عن أبيه، حدثنا محمد بن القاسم، حدثنا أبو يزيد الحكم بن موسى، حدثنا أبي قال:
كان معن بن زائدة من أصحاب يزيد بن عمرو بن هبيرة، وكان مستتراً حتى كان يوم الهاشمية، فإنه حضر وهو معتم متلثم، فلما نظر إلى القوم وقد وثبوا على المنصور تقدم وأخذ بلجام بغلته، ثم جعل يضربهم بالسيف قدامه، فلما أفرجوا له وتفرقوا عنه قال له: من أنت ويحك!؟.(1/255)
قال: أنا طلبتك معن بن زائدة.
فلما انصرف المنصور حياه وكساه وزينه، ثم قلده اليمن. فلما قدم عليه من اليمن قال له: هيه يا معن، تعطي مروان بن أبي حفصة مائة ألف درهمٍ على أن قال لك:
معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً إلى شرفٍ بنو شيبان
إن مد أيام الفعال فإنما ... يوماه يوم ندىً ويوم طعان
قال: كلا يا أمير المؤمنين، ولكني أعطيته على قوله:
ما زلت يوم الهاشمية معلماً ... بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كل مهندٍ وسنان
فقال له: أحسنت يا معن.
437- وفي خبرٍ آخر أنه دخل على المنصور فقال له: ويلك يا معن! ما أظن ما يقال فيك من ظلمك لأهل اليمن واعتسافك إياهم إلا حقاً.
قال: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟.
قال: بلغني أنك أعطيت شاعراً -كان يلزمك- ألفي دينار، وهذا هو السرف الذي لا شيء مثله.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته من فضول وغلات ضياعي وفضلات رزقي، وكففت عن عرضي، وقضيت الواجب من حقه علي وقصده وملازمته لي.
قال: فجعل أبو جعفر ينكت بقضيب في يده الأرض ولم يعاوده القول.
438- وذكر عنه أن الحجبة حجبت عنه الناس لكثرة عطائه، فخرج يوماً إلى بعض البساتين وقناة ماءٍ تدخله من خارج، فكتب رجلٌ على خشبة:(1/256)
أيا جود معنٍ ناج معناً بحاجتي ... فما لي إلى معنٍ سواك سبيل
ثم وضعها على الماء، فدخلت البستان. فبينا هو على تلك القناة إذا بها، فأخذها، فإذا فيها هذا البيت، فقال: علي بالرجل!.
فجيء به، فأمر له بعطاءٍ جزيل.
فلما كان في اليوم الثاني نظر فيها فقال: علي به!.
فأمر له بمثل ذلك. فلما كان في اليوم الثالث كذلك. فلما كان في اليوم الرابع كذلك. فهرب الرجل من تلك البلدة!.
فلما كان في اليوم الخامس نظر فيها فقال: علي به! فطلب فلم يوجد! فأخبر فقال: أما والله لو أقام لأعطيته حتى يفرغ كل ما عندنا!.
439- ومثل هذه الواقعة وقع لعمر بن الخطاب، أنه دخل عليه رجلٌ في وجهه شجة. فقال: ما هذه الشجة؟.
فقال: ضربتها في غزوة كذا وكذا.
فأمر له بمائة دينار. فذهب فقبضها.
ثم دخل فقال له: ما هذه الشجة؟ قال: ضربتها في غزوة كذا وكذا. فأمر له بمثل ذلك. فذهب فقبضه.
ثم عاد فقال له مثل ذلك، ورد عليه مثل ذلك، فذهب فقبضه!.
ثم عاد، فاستحيى الرجل، فذهب. فانتظره ساعةً فلم يدخل. فقال: أين الرجل؟ قيل: استحيى فذهب!.
فقال: أم والله لو أقام يدخل لأعطيته حتى لا يبقى عندنا درهم! وأي رجلٍ أعظم أجراً من رجلٍ ضرب ضربة في سبيل الله حفرت في وجهه حفراً!.(1/257)
440- ومنهم عمر بن أبي ربيعة. كان من الأجواد الكبار. وقد تقدم عنه بعض أخبار.
441- ومنهم عبد الله بن معمر القيسي. كان من الأجواد. وقد ذكرناه في قصة تقدمت.
442- ومنهم أبو حنيفة النعمان. كان من الأجواد.
443- ومنهم صاحبه أبو يوسف. كان من الأجواد الكبار.
444- ومنهم مالك بن أنس. كان من الأجواد الكبار.
445- ومنهم طاهر بن الحسين. قدم عليه أحمد بن سعيد الدارمي فوصله بأربعة آلاف درهم.
446- ومنهم أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي. كان من الأجواد الكبار المشهورين.
447- ومنهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل. كان من الأجواد الكبار.
قال المروذي: كنت مع أبي عبد الله في طريق العسكر، فنزلنا منزلاً، فأخرجت رغيفاً، ووضعت بين يديه كوز ماء، وإذا بكلبٍ قد جاء فقام بحذائه، وجعل يحرك ذنبه، فألقى إليه لقمة، وجعل يأكل ويلقي إليه لقمة، فخفت أن يضر بقوته، فقمت فصحت به لأنحيه من بين يديه، فنظرت إلى(1/258)
أبي عبد الله قد احمار وتغير من الحياء، وقال: دعه، فإن ابن عباس قال: لها أنفس سوء.
448- وقال علي بن يحيى: صليت الجمعة إلى جنب أحمد بن حنبل، فلما سلم الإمام قام سائلٌ يسأل الناس، فأخرج أحمد قطعةً فدفعها إليه.
فقال رجلٌ: ناولنيني قطعتك ولك لها درهم.
فما زال يزيده حتى بلغ خمسين درهماً! فقال له السائل: لا أعطيك إني لأرجو فيها ما ترجو.
449- وقال أبو محمد النسائي: قال أبي أبو عبد الله يوم عيد: ادخل. فدخلت، فإذا مائدةً وقصعةً على الخوان وعليها عراق، وقدرٌ إلى جانبه، فقال لي: كل. فلما رأى ما بي قال: كان الحسن يقول: والله لتأكلن، وكان ابن سيرين يقول: إنما وضع الطعام ليؤكل. وكان إبراهيم بن أدهم يبيع ثيابه وينفقها على أصحابه، وكانت الدنيا أهون عليه من ذلك. وأومأ إلى جذع مطروح، فانبسطت وأكلت!.
450- وقال أبو بكر المروذي: كان أبو عبد الله ربما واسى من قوته. وجاءه أبو سعيد الضرير، فشكا إليه، فقال له: يا أبا سعيد، ما عندنا إلا هذا الجذع!.
فجيء بحمالٍ يحمله، قال: فأخذت الجذع فبعته بتسعة دراهم ودانقين.
وكان أبو عبد الله شديد الحياء، كريم الأخلاق، يعجبه السخاء.(1/259)
451- وقال هارون المستملي: لقيت أحمد فقلت: ما عندنا شيء. فأعطاني خمسة دراهم وقال: ما عندنا غيرها!.
452- وقال يحيى بن هلال الوراق: جئت إلى محمد بن عبد الله بن نمير، فشكوت إليه، فأخرج إلي أربعة دراهم أو خمسة دراهم، وقال: هذا نصف ما أملك!.
قال: وجئت مرةً إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فأخرج إلي أربعة دراهم وقال: هذا جميع ما أملك!.
453- وقال عبد الله بن أحمد: قال أبو سعيد بن أبي حنيفة المؤدب: كنت آتي أباك، فربما أعطاني الشيء وقال: أعطيتك نصف ما عندنا!.
فجئت يوماً فأطلت القعود، فخرج ومعه أربعة أرغفة، فقال: يا أبا سعيد، هذا نصف ما عندنا!.
فقلت: يا أبا عبد الله، هذه الأربعة الأرغفة أحب إلي من أربعة آلافٍ من غيرك.
454- وقال أبو حفص الطرسوسي: وقع من يد أبي عبد الله مقراضٌ في البئر، فجاء ساكنٌ له فأخرجه، فلما أن أخرجه ناوله أبو عبد الله مقدار نصف درهم وأكثر، فقال: المقراض يساوي قيراطاً، لا آخذ شيئاً.
فلما كان بعد أيامٍ قال له: كم عليك من كري الحانوت؟.
قال: كري ثلاثة أشهر، وكراه في كل شهرٍ ثلاثة دراهم.
فضرب على حسابه وقال: أنت في حل.(1/260)
455- وقال صالح بن أحمد: إن رجلاً أهدى إلى أبيه فاكهة، فبعث إليه ثوباً!.
456- وقال أبو بكر المروذي: رأيت أبا عبد الله وقد أهدى إليه إنسانٌ ماء زمزم. فأرسل إليه سويقاً وسكراً.
قال: وأمرني أن أشتري لإنسانٍ هديةً بقريبٍ من خمسة دراهم، وقال: اذهب إلى صبيانه، فإنه قد وهب لسعيدٍ شيئاً.
457- وقال إسحاق بن إبراهيم: أهدى جوين -جارٌ لأبي عبد الله- إلى أبي عبد الله شيئاً من جوزٍ وزبيبٍ وتينٍ في قصعةٍ، ما يساوي ثلاثة دراهم أو أقل، فأعطاني أبو عبد الله ديناراً، وقال: اذهب فاشتر بعشرة دراهم سكراً، وبسبعة دراهم تمراً، واذهب به إليه في الليل. ففعلت.
وأخباره في هذا الباب كثيرةٌ جداً. رضي الله عنه.
458- ومنهم إبراهيم بن أدهم. كان من الأجواد الكبار. وتقدم أن الإمام أحمد قال عنه: إنه كان يبيع ثيابه ويطعم بها إخوانه، وأن الدنيا كانت أهون عليه من عود!.
459- ومنهم أحمد بن أبي الحواري. كان من الأجواد الكبار.
460- ومنهم هارون الرشيد. كان من الأجواد الكبار. وله حكاياتٌ في الجود أكثر من أن تحصر.
461- ومنهم جعفر البرمكي. وله أخبارٌ كثيرةٌ مشهورة، هو وجميع(1/261)
البرامكة كانوا من الجود على غاية، حتى إنه يضرب بهم المثل في ذلك.
462- ومنهم إسحاق بن راشد الجزري. كان من الأجواد.
463- ومنهم إسماعيل بن عياش الحمصي. كان من الأجواد. ورث من أبيه أربعة آلاف دينارٍ فأنفقها كلها في طلب العلم.
464- ومنهم أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص الأموي. ولي خراسان لعبد الملك. كان من الأجواد. وفيه يقول الشاعر:
أمية يعطيك اللها ما سألته ... وإن أنت لم تسأل أمية أضعفا
ويعطيك ما يعطيك جذلان ضاحكاً ... إذا عبس الكز اليدين وقفقفا
465- ومنهم إياس بن معاوية البصري القاضي. كان من الأجواد.
466- ومنهم أيوب بن أبي تميمة. كان من الأجواد.
467- ومنهم بشر بن الحارث. وهو بشر الحافي. كان من الأجواد.(1/262)
468- ومنهم بلال بن مرداس المصيصي. كان من الأجواد. وفد عليه عكرمة فأجازه بثلاثة آلاف.
469- ومنهم جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. كان من الأجواد الكبار. كان يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء.
وقال: لا يتم المعروف إلا بثلاثة: بتعجيله، وتصغيره، وستره.
470- ومنهم الحارث المحاسبي. كان من الأجواد.
471- ومنهم حبيب العجمي. كان من الأجواد. وقد اشترى نفسه من ربه بماله، وتصدق به كله!.
472- ومنهم حجاج بن أرطأة. كان من الأجواد. وكان يقول: أهلكني حب الشرف!.
473- ومنهم الحسن بن الحر. كان من الأجواد. قال زهير بن(1/263)
معاوية: استقرض أبي من الحسن بن الحر ألف درهم، فلما جاء ليردها قال: اذهب اشتر بها لزهير سكراً.
474- وكان يجلس على بابه، فإذا رأى بائعاً رأس ماله نحو الدرهمين فيقول: إن أعطيت خمسة دراهم تأكلها؟ فيقول: لا. فيعطيه خمسة دراهم، فيقول: اجعلها رأس مالك. ويعطيه خمسةً أخرى ويقول: اشتر بها لأهلك طعاماً. ويعطيه خمسةً أخرى فيقول: اشتر بها لأهلك قطناً ليغزلوا!.
475- ومنهم الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. كان من الأجواد.
476- ومنهم الحسن بن عيسى النيسابوري. كان من الأجواد. وأنفق في الحجة التي مات فيها ثلاثمائة ألف درهم!.
477- ومنهم الحسين بن حفص الهمداني. كان من الأجواد. كان دخله كل سنةٍ مائة ألف درهم، وما وجبت عليه زكاةٌ قط! كانت جوائزه وصلاته دارةً على المحدثين وأهل العلم والفضل.
478- ومنهم الحسين بن الوليد النيسابوري. كان من الأجواد. قال(1/264)
محمد بن عبد الوهاب: كان الحسين بن الوليد يطعم أصحاب الحديث الفالوذج، وكان يجري عليهم. كان سخياً.
وقال غيره: كان صاحب مال، وكان يقول: من تعشى عندي فقد أكرمني! ثم إذا خرج أعطاه صرة.
وقال الحاكم: كان شيخ بلدنا في عصره، وكان من أسخى الناس وأورعهم وأقرئهم للقرآن.
479- ومنهم حفص بن غياث. كان من الأجواد. وكان يقول: من لم يأكل طعامنا لم نحدثه!.
480- ومنهم الحكم بن عمر بن مجدع. كان من الأجواد.
481- ومنهم حماد بن أبي سليمان. كان من الأجواد. قال داود الطائي:
كان سخياً على الطعام، جواداً بالدنانير والدراهم.
482- وعن الصلت بن بسطام قال: كان حماد يفطر في كل ليلةٍ في رمضان خمسين إنساناً، فإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوباً ثوباً.
483- وقال حماد بن أبي حنيفة: لم يكن بالكوفة أسخى على الطعام والمال من حماد بن أبي سليمان، ومن بعده خلف بن حوشب.(1/265)
484- وقال عثمان بن زفر: سمعت محمد بن صبيح يقول:
لما قدم أبو الزناد الكوفة على الصدقات، كلم رجلٌ حماد بن أبي سليمان في رجلٍ يكلم له أبا الزناد يستعين به في بعض أعماله، فقال: كم أملك له؟ قال: ألف درهم. قال: فأمر له بخمسة آلاف.
485- ومنهم حمران بن أبان. كان من الأجواد.
486- ومنهم خارجة بن زيد. كان من الأجواد.
487- ومنهم خالد بن عبد الله الواسطي. كان من الأجواد. اشترى نفسه من الله تعالى ثلاث مرات، يتصدق بوزن نفسه فضة!.
488- ومنهم خالد بن عبد الله القسري. كان من الأجواد. قال بعضهم: كان جواداً ممدحاً معطياً.
وقال الأصمعي: دخل أعرابي على خالد بن عبد الله في يوم مجلس الشعراء عنده، وقد كان قال فيه بيتي شعر امتدحه، فلما سمع قول الشعراء أصغر عنده ما قال. فلما انصرف الشعراء بجوائزهم بقي الأعرابي، فقال له خالد: ألك حاجة؟ فأنشد البيتين، وهما:
تعرضت لي بالجود حتى نعشتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهب
قال: سل حاجتك.(1/266)
فقال: علي من الدين خمسون ألف درهم.
قال: قد أمرت لك بها وشفعها بمثلها.
فأمر له بمائة ألف!.
489- قال أبو عبيدة: لما قتل خالد لم يرثه أحدٌ من العرب، على كثرة أياديه عندهم، إلا أبو الشغب العبسي، فقال:
ألا إن خير الناس حياً وهالكاً ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل
لعمري لقد أعمرتم السجن خالداً ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل
فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل
490- ومنهم خيثمة بن عبد الرحمن. كان من الأجواد الكبار. قال أحمد العجلي: كان ثقةً، رجلاً صالحاً سخياً. ورئي على إبراهيم النخعي قباء، فقيل له: من أين لك هذا؟ قال: كسانيه خيثمة.
491- وقال الأعمش: ورث مائتي ألف درهم فأنفقها على القراء والفقهاء.
492- قال: ورأيت على إبراهيم ثياباً بيضاً، فقال لي: كسانيها خيثمة.
493- وقال العلاء بن المسيب وغيره: كان خيثمة يحمل صرراً، وكان موسراً، فيجلس في المسجد، فإذا رأى رجلاً من أصحابه في ثيابه خرقٌ أو رقعةٌ أعطاه صرةً.(1/267)
494- وقال الأعمش: كان قوم يؤذون خيثمة، فقال: إن هؤلاء يؤذونني، ولا والله ما طلبني أحدٌ بحاجةٍ إلا قضيتها، ولا أدخل على أحدٍ منهم أذى، ولأنا أبغض فيهم من الكلب الأسود!.
495- ومنهم ربيعة بن أبي عبد الرحمن. كان من الأجواد.
ذكر ابن وهب [أنه] أنفق على إخوانه أربعين ألف دينار، ثم جعل يسأل إخوانه في إخوانه.
496- ومنهم ابن سيرين. كان من الأجواد الكبار، وقال ابن عون: ما أتيناه في يومٍ قط إلا أطعمنا خبيصاً، أو قال: فالوذجاً!.
497- وقال أبو خلدة: دخلنا على ابن سيرين فقدم لنا شهداً.
498- ومنهم القاسم بن محمد. كان من الأجواد.
499- ومنهم رجاء بن حيوة. كان من الأجواد.
500- ومنهم زبيد اليامي. كان من الأجواد. وكان يقول للصبيان: تعالوا صلوا أهب لكم الجوز. فكانوا يصلون ثم يحوطون به. فقيل له،(1/268)
فقال: وما علي، أشتري لهم جوزاً بخمسة دراهم ويتعودون الصلاة؟.
501- وكان إذا كانت ليلةٌ مطيرةٌ يطوف على عجائز الحي يقول: ألكم في السوق حاجة؟!
502- ومنهم الزبير بن بكار. كان من الأجواد. وفيه يقول القائل:
ما قال لا قط إلا في تشهده ... ولا جرى لفظه إلا على نعم
بين الحواري والصديق نسبته ... وقد جرى ورسول الله في رحم
503- ومنهم زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. كان من الأجواد.
قال بعضهم: كان جواداً ممدحاً .. .. وفيه يقول الشاعر:
إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة ... نفى جدبها واخضر بالنبت عودها
وزيدٌ ربيع الناس في كل شتوةٍ ... إذا اختلفت أبرادها ورعودها
حمول لأسباق الزمان كأنه ... سراج الدجى إذ قارنته سعودها(1/269)
504- ومنهم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. كان من الأجواد.
505- ومنهم سالم بن أبي الجعد. كان من الأجواد.
قال مالك بن مغول: ذكر لي عن سالم بن أبي الجعد أنه كان يعطي، فعاتبته امرأته. فقال: لأن أذهب بخيرٍ وأترككم بشر، أحب إلي من أن أذهب بشر وأترككم بخير!.
506- ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر. كان من الأجواد.
قال ابن جدعان: دخلت على سالم بن عبد الله، وكان لا يأكل إلا ومعه مسكين، وكان إذا خرج عطاؤه: إن كان عليه دينٌ قضاه، ثم يصل ويتصدق.
507- ومنهم سعيد بن جبير. كان من الأجواد.
508- ومنهم سعيد بن المسيب. كان من الأجواد.
509- ومنهم سفيان الثوري. كان من الأجواد.
قال أحمد بن يوسف: أكلت عند سفيان خشكنانج، فقال: هذا أهدي لنا.
510- ومنهم سفيان بن عيينة. كان من الأجواد.
511- ومنهم سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي، أمير البصرة. كان من الأجواد.(1/270)
قال أبو زرعة الدمشقي: كان جواداً ممدحاً كريماً. ثم قال: قيل: إنه كان يعتق في كل موسم عشية عرفة مائة نسمة. وبلغت صلاته في الموسم وقريش والأنصار وغيرهم خمسة آلاف ألف!.
ويقال: إنه سمع وهو في السطح نسوةً يقلن: ليت الأمير اطلع علينا فأغنانا، وكن يغزلن، فقام ودار في قصره. فجمع حلياً وجواهر، فألقاه إليهن. فماتت أحداهن فرحاً!!.
512- ومنهم سليمان بن مهران الأعمش. كان جواداً مع فقره. قال أبو بكر بن عياش: كان يخرج إلينا الشيء فنأكله، فقلنا يوماً: لا يخرج إليكم الأعمش شيئاً إلا أكلتموه! فأخرج شيئاً فأكلناه، وأخرج شيئاً فأكلناه، فدخل فأخرج فتيتاً فشربناه، فدخل فأخرج إجانة صغيرةً فيها تبن. فقال: فعل الله بكم وفعل، أكلتم قوتي وقوت امرأتي، وشربت فتيتنا، كلوا هذا علف الشاة.
513- ومنهم شبيب بن شيبة. كان من الأجواد.
قال الأصمعي: كان رجلاً شريفاً، يفزع إليه أهل البصرة في حوائجهم.
514- ومنهم شريح القاضي. كان من الأجواد.
515- ومنهم شعبة بن الحجاج. كان من الأجواد.
قال مسلم بن إبراهيم. كان أبا الفقراء وأمهم. سمعته يقول: والله لولا الفقراء ما جلست إليكم!.(1/271)
وقال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين منه!.
516- وقال يحيى القطان: كان شعبة من أرق الناس، كان ربما مر به السائل فيدخل فيعطيه ما أمكنه.
517- وقال قراد أبو نوح: رأى علي شعبة قميصاً فقال: بكم هذا؟ فقلت: بثمانية دراهم. قال: ويحك! أما تتقي الله؟ ألا اشتريت قميصاً بأربعةٍ وتصدقت بأربعة؟!.
518- وسأله رجلٌ فأعطاه حماره!.
519- وقال بعضهم: كان سخي النفس.
520- وقال أبو داود الطيالسي: كنا عند شعبة، فجاء سليمان بن المغيرة يبكي، وقال: مات حماري، وذهبت مني الجمعة.
قال: بكم أخذته؟ قال: بثلاثة دنانير.
قال شعبة: فعندي ثلاثة دنانير، والله لا أملك غيرها! فدفعها إليه!.
521- ووهب المهدي له ثلاثين ألفاً، فقسمها.
522- ومنهم أبو وائل شقيق بن سلمة. كان من الأجواد.
523- ومنهم طاوس. كان من الأجواد.
524- ومنهم طلحة بن عبد الله بن خلف بن سعد الخزاعي، طلحة(1/272)
الطلحات، أحد الأجواد المشهورين. سمي طلحة الطلحات لأنه كان أجودهم. وفيه يقول كثير:
يا ابن الذوائب من خزاعة والذي ... لبس المكارم وارتدى ببجاد
حلت بساحتك الوفود من الورى ... فكأنما كانوا على ميعاد
لتعوذ سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعواد
فاستوى جالساً وأمر له بعطيةٍ سنية، وقال: هي لك ما عشت في كل سنة!.
525- ومنهم طلحة بن عبيد الله التيمي. كان من الأجواد. وهو أحد الطلحات. ويقال له: طلحة الفياض.
526- ومنهم طلحة بن عمر بن عبيد الله التيمي. كان من الأجواد. وهو أحد الطلحات. ويقال له: طلحة الجود؛ لكثرة جوده.
527- ومنهم طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري. كان من الأجواد. وهو أحد الطلحات. قال بعضهم: كان أحد الأجواد، ويقال له طلحة الندى.
528- ومنهم طلحة بن الحسن بن علي. كان أحد الأجواد. وهو أحد الطلحات الذين يضرب بهم المثل في الجود، ويقال له: طلحة الجود، لكثرة خيره.
529- ومنهم غياث بن ورقاء. كان من الأجواد الكبار. وهو أحد أجواد الكوفة.(1/273)
ويقال: أجواد الكوفة ثلاثة: غياث بن ورقاء، وأسماء بن خارجة، وعكرمة بن ربعي.
530- ومنهم أسماء بن خارجة. كان من الأجواد الكبار الذين يضرب بهم المثل.
531- ومنهم عكرمة بن ربعي. كان من الأجواد الكبار. وهو أحد أجواد الكوفة.
532- ومنهم عبيد الله بن أبي بكرة. كان من الأجواد الكبار.
ويقال: أجواد أهل البصرة ثلاثة: عبد الله بن أبي بكرة، وعبد الله بن معمر، وطلحة بن عبد الله الخزاعي.
533- ومنهم طلحة بن مصرف. كان من الأجواد.
534- ومنهم عامر بن عبد الله بن الزبير. كان من الأجواد. واشترى نفسه من الله بسبع دياتٍ وتصدق بذلك!.
535- ومنهم عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور. كان من الأجواد.
536- ومنهم عبد الله بن سبرة بن طفيل، أبو سبرة الضبي. كان من الأجواد.
قال العجلي: كان حسن الخلق، جواداً.
537- ومنهم عبد الله بن عثمان المروزي، عبدان. كان من الأجواد.(1/274)
قال: ما سألني أحدٌ حاجةً إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنت بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت بالسلطان!.
538- ومنهم عبد الله بن عمرو بن عثمان.
قال بعضهم: كان شريفاً، نبيلاً، جواداً، ممدحاً.
539- ومنهم عبد الله بن المبارك. كان من الأجواد الكبار.
قال حبان بن موسى: عوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان ولا يفعل في بلده، فقال: إني أعرف مكان قومٍ لهم فضلٌ وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا الطلب للحديث، وحاجة الناس إليهم شديدة، وقد احتاجوا، فإن تركناهم ضاع عملهم، وإن أغنيناهم نشروا العلم. ولا أعلم بعد النبوة درجةً أفضل من بث العلم.
540- وقال الفضيل بن عياض لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام؟.
فقال: إنما أفعل ذا لأصون به عرضي، وأكرم به عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه.
541- وعن معاذ بن خالد قال: تعرفت إلى إسماعيل بن عياش بابن المبارك، فقال: ما على وجه الأرض مثله، ولا أعلم أن الله خلق خصلةً من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله. ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة، فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم!.(1/275)
542- وقال محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، عن أبيه: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك يا أبا عبد الرحمن. فيقول: هاتوا نفقاتكم. فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ثم يكتري لهم ويخرجهم إلى بغداد. ولا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلواء، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا وصلوا إلى المدينة قال لكل واحدٍ منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا. ثم يفعل كذلك بمكة. ولا يزال ينفق عليهم إلى مرو، فيجصص أبوابهم ودورهم. فإذا كان بعد ثلاثٍ صنع لهم وليمةً وكساهم. ثم دعا بالصندوق، فيفتحه، ويدفع إلى كل واحدٍ صرته باسمه.
543- قال: وأخبرني خادمه، أنه عمل آخر سفرةٍ سافرها دعوة، فقدم إلى الناس خمسةً وعشرين خواناً فالوذج.
544- قال: وبلغنا أنه قال للفضيل: لولا أنت وأصحابك ما اتجرت!.
545- قال: وكان ينفق على الفقراء في السنة مائة ألف! وأنفق في الخير أربعمائة ألف!.
546- ولما قدم الرشيد الرقة انجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد الرشيد، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: عالمٌ من أهل خراسان.(1/276)
فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجتمع الناس إلا بشرطٍ وأعوان!.
547- وعن عمر بن حفص الصوفي قال: سار ابن المبارك من بغداد إلى المصيصة، فصحبه الصوفية، فقال لهم: أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم. يا غلام، هات الطست. فألقى على الطست منديلاً ثم قال: يلقي كل رجلٍ منكم تحت المنديل ما معه. فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم، والرجل يلقي عشرين. فأنفق عليهم إلى المصيصة. فلما وصل قال: هذه بلاد نفير. فقسم ما بقي. فجعل يعطي الرجل عشرين ديناراً، فيقول: يا أبا عبد الرحمن، إنما أعطيت عشرين درهماً! فيقول: وما تنكر أن يبارك الله للغازي [فيء نفقته].
548- وقال سلمة بن سليمان: جاء رجلٌ إلى ابن المبارك، فسأله أن يقضي عنه ديناً، فكتب إلى وكيله، فلما ورد عليه الكتاب قال للرجل: كم سألته أن يقضي عنك؟ قال: سبعمائة درهم. فكتب إلى عبد الله: إن هذا سألك أن تقضي عنه سبعمائة درهم، فكتبت إلي بسبعة آلاف، وقد فنيت الغلات!.
فكتب إليه: إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضاً قد فني، فأجز له ما سبق به قلمي.
549- وروي أنه قضى عن شابٍ عشرة آلاف درهم.
550- وقال أحمد الدورقي: حدثنا حبان قال: رأيت سفرة ابن المبارك تجر على عجلة!.(1/277)
551- وقال أبو إسحاق الطالقاني: رأيت بعيرين مملوأين دجاجاً مشوياً لسفرة ابن المبارك.
552- وقال ابن سهم الأنطاكي: كنت مع ابن المبارك، فكان يأكل كل يوم، ويشوي [له] جدي، ويتخذ له فالوذج. فكلم في ذلك فقال: إني دفعت إلى وكيلي ألف دينار، وأمرته أن يوسع علينا.
553- وقال الحسن بن حماد: دخل أبو أسامة على ابن المبارك، فوجد في وجهه أثر الضر، فلما ذهب وجه إليه ابن المبارك أربعة آلاف درهم.
554- وقال المسيب بن واضح: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سد بها فتنة القوم عنك!.
555- وقال عيسى بن يونس: كان ابن المبارك يقدم ومعه الغلمة الخراسانية والبزة الحسنة، فيصل العلماء ويعطيهم.
556- وقال نعيم بن حماد: قدم ابن المبارك أيلة على يونس ومعه غلامٌ مفرغٌ يضرب الفالوذج لأصحاب الحديث.(1/278)
557- ومنهم عبد الأعلى بن عبد الله البصري. كان من الأجواد الأشراف.
558- ومنهم عبد الرحمن بن أبان بن عثمان. كان من الأجواد. كان يشتري أهل البيت، ثم يأمر بهم فيكسون ويدهنون، ثم يعرضون عليه فيقول: أنتم أحرارٌ لوجه الله تعالى، أستعين بكم على غمرات الموت.
559- ومنهم عبد الرحمن بن آدم البصري. كان من الأجواد.
560- ومنهم عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني المصري. كان من الأجواد. كان يأخذ رزقه في السنة ألف دينار، فما كان يحول عليه الحول وعنده ما تجب فيه الزكاة!.
561- ومنهم أبو عثمان النهدي، عبد الرحمن، كان من الأجواد. كان له يتامى يحضرون طعامه، فوقع الطاعون فماتوا، فكان يقول: مات أصحابي.
562- ومنهم عبد الرحمن بن مهدي. كان من الأجواد.
563- ومنهم عبد الرزاق بن همام. كان من الأجواد الكبار.
564- ومنهم المهدي الخليفة. كان من الأجواد.
565- ومنهم المنصور. كان من الأجواد.(1/279)
566- ومنهم عبد العزيز بن عمران بن أبي ثابت. كان من الأجواد. قال الخطيب: كان ذا شرف ومروءة [وبر] وأفضال.
567- ومنهم عبد العزيز بن مروان. كان من الأجواد.
قال سويد بن قيس: بعثني عبد العزيز بن مروان بألف دينارٍ إلى ابن عمر، فجئته بها، فدفعها.
568- وعن محمد بن أبي سعيد قال: قال عبد العزيز بن مروان: ما نظر إلي رجلٌ قط فتأملني إلا سألته عن حاجته، ثم أتيت من ورائها.
569- وكان يقول: وا عجباً للمؤمن، يوقن أن الله تعالى يرزقه، ويوقن أن الله تعالى يخلف عليه، كيف يدخر مالاً عن عظيم أجرٍ وحسن سماع؟!.
570- ومنهم عبد الوهاب بن عبد المجيد. كان من الأجواد. كان ينفق كل سنةٍ على أصحاب الحديث أكثر من أربعين ألفاً!.
571- ومنهم عبدة بن أبي لبابة. كان من الأجواد الكبار. وقدم هو(1/280)
والحسن بن الحر -وكانا شريكين- مكة ومعهما أربعون ألف درهم في تجارة، فوافقا أهل مكة، وبهم حاجةٌ شديدة، فقال له الحسن. هل لك في رأي؟ قال: وما هو.
قال: نقرض ربنا عشرة آلاف درهمٍ ونقسمها بين المساكين.
قال: فأدخلوا مساكين أهل مكة داراً، وأخذوا يخرجون واحداً واحداً فيعطونهم. فبقي ناسٌ كثير، قال: هل لك أن نقرضه عشرة آلافٍ أخرى؟.
فقسموها، حتى قسموا المال الذي معهم أجمع! وتعلق بهم المساكين وأهل مكة، وقالوا: لصوصٌ بعث معهم أمير المؤمنين بمالٍ يقسمونه فسرقوه!! فاستقرضوا عشرة آلاف فأرضوا بها الناس، وطلبهما السلطان فاختفيا. حتى ذهب أشراف أهل مكة فأخبروا الوالي عنهما بصلاحٍ وفضلٍ، فخرجا بالليل.
وقد تقدم خبر الحسن بن الحر، وكان من الأجواد الكبار.
572- ومنهم أبو زرعة الرازي. كان من الأجواد. وكان يقول: لو أن لي صحة بدنٍ على ما أريد، كنت أتصدق بمالي كله وأخرج إلى الثغور، وآكل المباحات وألزمها.
573- ومنهم عبيد الله بن محمد العيشي. كان من الأجواد. وكان يلقى كل من يلقاه بالبشر.(1/281)
قال الساجي: كان من سادات البصرة، وكان شيخاً كريماً. سأل رجلٌ مرةً في المسجد وعليه مطرفٌ خز، فأعطاه إياه، وقال: ثمنه أربعون ديناراً.
574- وقال يعقوب بن شيبة: أنفق ابن عائشة على إخوانه أربعمائة ألف دينار!.
575- وقال ابن عيينة: أنفق ابن عائشة على إخوانه حتى باع سقف بيته!.
576- ومنهم عروة بن الزبير، كان من الأجواد. وكان يتألف الناس على حديثه. وكان إذا كان في أيام الرطب يثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحملون.
577- ومنهم عروة بن محمد بن عطية. كان من الأجواد. ولي اليمن سنين، وخرج منها وما معه إلا سيفه ورمحه ومصحفه.
578- ومنهم علي بن الجعد. كان من الأجواد. وأتاه أحمد بن حنبل وابن معين فصنع لهما طعاماً.(1/282)
579- ومنهم علي زين العابدين بن الحسين بن علي. كان من الأجواد.
ذكر ولده أن أباه قاسم الله ماله مرتين.
580- وذكر ابن عيينة، عن أبي حمزة الثمالي: أن علي بن حسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتتبع به المساكين في ظلمة الليل، ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب عز وجل.
581- وقال ابن إسحاق: كان ناسٌ بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل.
582- وقال جرير بن عبد الحميد، عن عمرو بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثراً، فسألوا عنه فقالوا: هذا مما كان ينقل الخبز على ظهره إلى منازل الأرامل.
583- وعن سعيد بن مرجانة قال: أعتق علي بن الحسين غلاماً له أعطي به عشرة آلاف درهم!.
584- وعن عمرو بن دينار قال: دخل على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه علي بن الحسين، فجعل يبكي، قال: ما شأنك؟ قال: علي دين. قال: كم هو؟ قال: خمسة عشرة ألف دينار، أو بضعة عشر ألف دينار. قال علي: هو علي.
585- وسبه رجلٌ فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر. ألك حاجةٌ نعينك عليها؟.(1/283)
فاستحيى الرجل ورجع إلى نفسه، فألقى إليه علي خميصة، وأمر له بألف درهم! فقال: أشهد أنك من أولاد المرسلين!.
586- وقيل: إن رجلاً استطال عليه، فتغافل عنه، فقال الرجل: إياك أعني.
فقال علي: وعنك أغضي.
587- ومنهم ولده أبو جعفر الباقر. كان من الأجواد.
588- ومنهم علي بن موسى بن جعفر المعروف بالرضى. كان من الأجواد.
589- ومنهم عمرو بن حريث. كان من الأجواد.
590- ومنهم عمرو بن سعيد بن العاص. كان من الأجواد الكبار.
591- ومنهم أبو ميسرة الهمداني. كان من الأجواد. وكان إذا أخذ عطاءه تصدق منه، فإذا جاء إلى أهله فعدوه وجدوه سواء! فقال لبني أخيه: ألا تفعلون مثل هذا؟ قالوا: لو علمنا أنه لا ينقص لفعلنا. قال: إني لست أشترط هذا على ربي.
592- ومنهم عمرو بن عتبة بن فرقد. كان من الأجواد. تصدق(1/284)
مرةً بسبعين ألفاً! وكان يشترط على أصحابه أن يكون خادمهم!.
593- ومنهم عمران بن حطان. كان من الأجواد.
594- ومنهم عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. كان من الأجواد. وكانت له جاريةٌ يقال لها بشرة، أعطي بها ألف دينار، فقال لها يوماً: يا بشرة، قد أعطيت بك ألف دينارٍ لحسن صوتك، اذهبي فأنت حرةٌ لوجه الله تعالى.
595- ومنهم العلاء بن الحضرمي. كان من الأجواد.
596- ومنهم العلاء بن زياد، أبو نصر العدوي. كان من الأجواد. كان له مال ورقيق، فأعتق بعضهم ووصل بعضهم.
597- ومنهم فاتك بن فضالة الأسدي. كان من الأجواد. قال الذهبي: أحد الأشراف الأجواد، وكان كريماً على بني أمية.
598- ومنهم عبد الله بن طاهر. قال عبد الله بن أحمد: عرضت كتاب ((غريب الحديث)) عليه فاستحسنه وقال: إن عقلاً تعب صاحبه على(1/285)
تحمل هذا لحقيقٌ أن لا يخرج إلى طلب المعاش. فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر.
وكان أبو عبيد إذا صنف كتاباً أهداه إليه، فيحمل إليه مالاً خطيراً. بعث مرةً إلى محمد بن رافع بخمسة آلاف.
599- ومنهم القاسم بن عبد الرحمن الهذلي. كان من الأجواد. قال محارب بن دثار: صحبناه إلى بيت المقدس، ففضلنا بكثرة الصلاة وطول الصمت وسخاء النفس.
600- ومنهم عبد الله ابن الإمام أحمد. كان من الأجواد الكبار.
601- ومنهم القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي. كان من الأجواد. قال عبد الرحمن بن يزيد: ما رأيت أحداً أفضل منه. كنا بالقسطنطينية، وكان الناس يرزقون رغيفين في كل يوم، فكان يتصدق برغيفٍ ويصوم ويفطر على رغيف!.
602- ومنهم عمرو بن عبيد الله التيمي. كان من الأجواد. وأرسل مرةً إلى القاسم بن محمد بخمسمائة دينار، فأبى أن يقبلها.
603- ومنهم القاسم بن مخيمرة. كان من الأجواد الكبار. قال: لم يجتمع على مائدتي لونان من طعامٍ قط، وما أغلق بابي قط.
604- ومنهم محمد بن سوقة. كان من الأجواد. قال محمد بن عبيد: قال محمد بن سوقة: جفاني إخواني حين ذهب ما في يدي. وكان أنفق على إخوانه مائة ألف درهم!.(1/286)
605- وقال العجلي: كان خزازاً، جمع من الخز مائة ألف درهم، ثم أتى إلى مكة فقال: ما جمعت هذه لخير، فتصدق بها!.
606- وقال الثوري: محمد بن سوقة ممن يدفع به عن البلاد، كان له عشرون ومائة ألفٍ فتصدق بها.
607- وقال أبو الأحوص: ورث مائة ألف، فقيل له: لا تجتمع مائة ألف [من حلال]. فتصدق بها كلها.
608- وقال الثوري: ما رأيت بالكوفة شيخاً أفضل من ابن سوقة، كان له مال، فلم يزل يحج ويغزو.
609- ومنهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، أبو عبد الله. كان من الأجواد. قال الخطيب: كان جواداً ممدحاً، ظاهر المروءة.
610- قال ابن السائب: كتبت إليه أن يبعث إلي بلقحة، فبعث إلي بتسع عشرة لقحةً وبعبدٍ يرعاها. فبعثت منهن بثلاثمائة دينار، وحبست الباقي.
611- وفيه يقول الشاعر:
وجدنا المحض الأبيض من قريش ... فتىً بين الخليفة والرسول
أتاك المجد من هنا وهنا ... وكنت له بمعتلج السيول(1/287)
فما للمجد دونك من مبيتٍ ... وما للمجد دونك من مقيل
ولا ممضى وراءك تبتغيه ... وما هو قابلٌ بك من بديل
فلولا أنت ما رحلت ركابي ... مؤثلة وما حمدت رحيلي
612- ومنهم ابن أبي ذئب. كان من الأجواد. قال الواقدي: كان رجلاً كريماً يجلس إليه كل أحدٍ ويغشاه.
613- ومنهم الواقدي محمد بن عمر. كان من الأجواد. وقال الخطيب: كان جواداً كريماً مشهوراً بالسخاء.
614- ومنهم محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب. قال مالك: كان من أسخى الناس، فلما أصاب تلك الأموال، قال له مولىً له: قد رأيت ما مر عليك من الضيق، فأمسك مالك.
قال: ويحك! إني لم أر السخي تنفعه التجارب!.
وكان ينفق على بني أمية.
615- وقال الليث: ما رأيت أكرم منه! كان يعطي كل من جاء، فإذا لم يبق معه شيءٌ استلف.(1/288)
616- وكان يسمر على العسل كما يسمر أهل الشراب على شرابهم، ويقول: اسقونا وحادثونا.
ولعابد بن رواحة يمدحه:
دع ذا وأثن على الكريم محمدٍ ... واذكر فواضله على الأصحاب
وإذا يقال من الجواد بماله ... قيل الجواد محمد بن شهاب
أهل المدائن يعرفون مكانه ... وربيع ناديه على الأعراب
617- وقال الشافعي: مر تاجرٌ بالزهري وهو في قريته، والرجل يريد الحج، فابتاع منه بزاً بأربعمائة دينارٍ إلى أن يرجع من حجه. فلم يبرح حتى فرقه. فلما رجع وفاه وزاده ثلاثين ديناراً!.
618- وقال سعيد بن عبد العزيز: كنا نأتي الزهري بمحلة الراهب، فيقدم لنا كذا وكذا لوناً.
619- ومنهم محمد بن المنكدر. كان من الأجواد. كان يطعم الطعام، ويجتمع عنده القراء.
620- ومنهم محمد بن ميمون، أبو حمزة السكري. كان من الأجواد. قيل: إن جاراً له أراد أن يبيع داراً له، فقيل له: بكم؟ قال: بألفين ثمن الدار، وألفين جوار أبي حمزة!.
فبلغ ذلك أبا حمزة، فوجه إليه بأربعة آلاف، وقال: لا تبع دارك.(1/289)
621- ومنهم محمد بن واسع. كان من الأجواد.
622- ومنهم مالك بن دينار. كان من الأجواد الكبار.
623- ومنهم محمد بن يحيى الذهلي. كان من الأجواد.
624- ومنهم محارب بن دثار. كان من الأجواد.
625- ومنهم مسلمة بن عبد الملك بن مروان. كان من الأجواد.
وقال لنصيب: سلني قال: لا، لأن كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان. فأعطاه ألف دينار!.
626- وأوصى بثلث ماله لأهل الأدب.
627- ومنهم مطرف بن عبد الله. كان من الأجواد.
628- ومنهم المعافى بن عمران. كان من الأجواد. قال بعضهم: كان زاهداًَ فاضلاً، شريفاً كريماً عاقلاً.
629- وقال بشر: كان المعافى صاحب دنيا واسعةٍ ومتاع.
وقيل: إن ماله خف وقل، وأفناه الجود والبر، وكان له أربعةٌ وثلاثون رجلاً يقوم بهم.
630- ومنهم مكحول. كان من الأجواد. أعطى مرةً عشرة آلاف دينار. وكان يعطي الرجل خمسين ديناراً ثمن الفرس.
631- ومنهم مكي بن إبراهيم. كان من الأجواد.
632- ومنهم المهلب بن أبي صفرة. كان من الأجواد الكبار.(1/290)
633- ومنهم مورق العجلي. كان من الأجواد. قال حماد بن زيد، عن جميل بن مرة:
كان مورق العجلي يجيئنا فيقول: أمسكوا لنا هذه الصرة عندكم، فإذا احتجتم إليها فأنفقوها. فيكون آخر عهده بها!.
634- وقال جعفر بن سليمان: كان مورق يتجر فيصيب المال، فلا يأتي عليه جمعةٌ وعنده منه شيء!.
635- ومنهم موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين. كان من الأجواد الكبار، وهو الملقب بالكاظم.
قال العلوي: كان كريماً سخياً، يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه، فيبعث إليه بصرةٍ فيها ألف دينار. وكان يصرر الصرر فيها ثلاثمائة دينارٍ وأقل وأكثر، ثم يقسمها بالمدينة، فمن أصابته صرة موسى أغنته.
636- وذكر أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً، حتى قال له بعض حاشيته: دعنا نقتله. فزجرهم، وركب إليه إلى مزرعته، فدخلها بحماره، فناداه: لا تطأ زرعنا. فوطأه حتى وصل إليه، فنزل عنده وضاحكه، وقال: كم غرمت في زرعك؟ قال: مائة دينار، وأرجو أن يجيء منه مائتا دينار. فأعطاه ثلاثمائةٍ وقال: هذا زرعك بحاله. فقام العمري فقبل رأسه وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته. ثم جعل يدعو له كلما دخل المسجد وخرج.
قال: وله حكاياتٌ كثيرةٌ في الجود والسخاء والمروءة.
637- ومنهم هشام بن عروة. كان من الأجواد.(1/291)
638- ومنهم واصل بن أبي جميل. كان من الأجواد. وكان لا يتكلف في ضيافته.
639- ومنهم يحيى بن عبد الله بن الضحاك. كان من الأجواد. ولما قدم يحيى بن معين حران وجه إليه بمائة دينارٍ وطعامٍ طيب، فرد الذهب وقبل الطعام. فقيل ليحيى: ما تقول في البابلتي؟ فقال: والله إن صلته حسنة، وطعامه طيب.
640- ومنهم يحيى بن معين. كان من الأجواد.
641- ومنهم يونس بن عبيد. كان من الأجواد.
642- ومنهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. كان من الأجواد. قال الواقدي: كان عالماً سخياً.
643- ومنهم أبو عبد رب الدمشقي. كان من الأجواد الكبار. قال سعيد بن عبد العزيز: خرج أبو عبد رب من عشرة آلاف دينار.
644- وذكر ابن جابر أن أبا عبد رب كان من أكثر أهل دمشق مالاً، فخرج إلى أذربيجان في تجارة، فلما رجع تصدق بصامت ماله وجهزه في سبيل الله، وباع عقده فتصدق بها، إلا داراً له بدمشق.(1/292)
ثم ذكر أنه باعها بعد ذلك بمالٍ عظيمٍ وفرقه، فكان ذلك مع موته، فما وجدنا من ثمنها إلا قدر ثمن الكفن.
645- وقرأت على الشهاب بن هلال، فكتب لي عن ابن المحب، عن البالسي، عن الواسطي، عن الشيخ موفق الدين: وبعضهم ينكره.
646- وقرأت على ابن الشريفة: أخبرك المشايخ الثلاثة إجازة، أخبرنا المزي وابن المحب وغيرهما، أخبرنا ابن أبي عمر وغيره، أخبرنا شيخ الإسلام موفق الدين، أخبرنا محمد، أخبرنا حمد، أخبرنا أحمد، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا أبو زرعة، حدثنا إبراهيم بن العلاء، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن جابر:
أن أبا عبد الرب كان من أكثر أهل دمشق مالاً، فخرج إلى أذربيجان في تجارة، فأمسى إلى جانب مرجٍ ونهر، فنزل به، قال أبو عبد الرب: فسمعت صوتاً يكثر حمد الله تعالى في ناحية المرج، فاتبعته، فوافيت رجلاً في حفيرةٍ من الأرض ملفوفاً في حصير، فسلمت عليه وقلت: من أنت يا عبد الله؟ قال: رجلٌ من المسلمين. قال: قلت: ما حالك هذه؟ قال: حال نعمةٍ يجب علي حمد الله تعالى فيها. قال: كيف وإنما أنت في حصير؟ قال: وما لي لا أحمد الله الذي خلقني فأحسن خلقي، وجعل مولدي ومنشأي في الإسلام، وألبسني العافية في أركاني، وستر علي ما أكره ذكره ونشره؟ فمن أعظم نعمةً مما أمسي فيما أنا فيه؟ قال: قلت: رحمك الله، إني رأيت أن تقوم معي إلى المنزل فإنا نزولٌ على النهر. قال: ولمه؟ قلت: لتصيب من الطعام، [ولنعطيك ما] يغنيك عن لبس الحصير. قال: ما بي حاجة.(1/293)
قال الوليد: فحسبت أنه قال: إن لي في أكل الحشيش عما قلت كفاية.
قال أبو عبد الرب: فأردته على أن يتبعني فأبى، قال: ما لي به من حاجة.
قال أبو عبد الرب: فانصرفت، وتقاصرت إلي نفسي ومقتها أني لم أخلف رجلاً بدمشق في الغنى يكاثرني وأنا ألتمس الزيادة فيه، وقال: اللهم إني أتوب إليك من سوء ما أنا فيه.
فبت ولم يعلم إخواني بما قد أجمعت به. فلما كان من السحر رحلوا كنحوٍ من رحيلهم فيما مضى، وقدموا إلي دابتي، فركبتها وانصرفت إلى دمشق، وقلت: ما أنا بصادق التوبة إن مضيت في متجري. فسألني القوم فأخبرتهم، وعاتبوني على المضي فأبيت.
قال ابن جابر: فلما قدم تصدق بصامت ماله، يجهزها في سبيل الله.
قال ابن جابر: فحدثني بعض إخواني قال: ماكست صاحب عباءةٍ في عباءة، أعطيته ستةً، وهو يقول: سبعة. فلما أكثرت قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل دمشق. قال: ما تشبه شيخاً وفد علي أمس يقال له أبو عبد الرب، اشترى مني سبعمائة كساءٍ بسبعةٍ سبعة، ما سألني أن أضع له درهماً، وسألني حملها له فبعثت أعواني، فما زال يفرقها بين فقراء الجيش، فما دخل إلى منزله منها كساء!.
قال ابن جابر: وباع عقاره وتصدق بها، وباع داره بمالٍ عظيمٍ وفرقه، وكان بعد ذلك موته، فما وجد له منها إلا قدر ثمن الكفن.
وكان يقول: والله لو أن نهركم هذا -يعني بردى- سال ذهباً وفضة، من شاء خرج إليه فأخذ منه، ما خرجت إليه، [ولو قيل]: من مس هذا العمود مات، لسرني أن أقوم إليه شوقاً إلى الله وإلى رسوله!.(1/294)
647- ومنهم عائشة بنت طلحة. كانت من الأجواد.
648- ومنهم دعبل الخزاعي. كان من الأجواد.
649- ومنهم رجلٌ من الملوك تاب:
أخبرنا الشهاب بن هلال، عن ابن المحب، عن النابلسي، عن الواسطي، عن الشيخ موفق الدين قال:
روي عن مالك بن دينار أنه كان يوماً ماشياً في أزقة مدينة البصرة، فإذا هو بجاريةٍ من جواري الملوك راكبةً ومعها الخدم، فلما رآها مالكٌ ناداها وقال: أيتها الجارية، يبيعك مولاك؟ قالت: كيف قلت يا شيخ؟ قال: أيبيعك مولاك؟.
قالت: ولو باعني كان مثلك يشتريني؟.
قال: نعم، وخيراً منك!.
فضحكت، وأمرت أن يحمل إلى دارها. فحمل، فدخلت إلى مولاها، فأخبرته، وضحك، وأمر أن يدخل إليه، فدخل، وألقيت له الهيبة في قلب السيد، فقال: ما حاجتك؟ قال: بعني جاريتك. قال: أوتطيق أداء ثمنها؟ قال: قيمتها عندي نواتان مسوستان! فضحكوا، وقال: كيف كان ثمنها عندك هذا؟! قال: لكثرة عيوبها. قال: وما عيبها؟ قال: إن لم تتعطر زفرت، وإن لم تستك بخرت، وإن لم تمتشط وتدهن قملت وشعثت، وإن تعمر عن قليلٍ هرمت، ذات حيضٍ وبولٍ وأقذارٍ جمة، فلعلها لا تودك إلا لنفسها، ولا تحبك إلا لتنقمها بك، لا تفي بعهدك، ولا تصدق في ودك، ولا يخلف عليها أحدٌ من بعدك إلا رأته مثلك، وأنا أجد بدون ما سألت في جاريتك جاريةً خلقت من سلالة الكافور، لو مزج بريقها أجاجٌ لطاب، ولو دعي بكلامها ميتٌ لأجاب، ولو بدا معصمها للشمس لأظلمت(1/295)
دونه، ولو بدا في الليل لسطع نوره، ولو واجهت الآفاق وعليها حللها لتزخرفت. نشأت بين رياض المسك والزعفران، وقصرت في أكناف النعيم، وغذيت بماء التسنيم، فلا تخلف عهدها، ولا تبدل ودها. فأيهما أحق برفعة الثمن؟.
قال: التي وصفت.
قال: فإنها الموجودة الثمن، القريبة المخطب.
قال: فما ثمنها رحمك الله؟.
قال: اليسير المبذول، أن تتفرغ ساعةً في ليلك، وتصلي ركعتين تخلصهما لربك، وأن تضع طعامك فتذكر جائعك فتؤثر الله على شهوتك، وأن ترفع عن الطريق حجراً أو قذراً، وأن تقطع أيامك بالبلغة، وأن ترفع همك عن دار الغفلة، فتعيش في الدنيا بعز القنوع، وتأتي غداً إلى موقف الكرامة آمناً، وتنزل غداً في الجنة مخلداً.
فقال الرجل: يا جارية، أسمعت ما قال شيخنا هذا؟ قالت: نعم.
قال: أصدق أم كذب؟.
قالت: بل صدق وبر ونصح.
قال: فأنت إذاً حرةٌ لوجه الله، وضيعة كذا وكذا صدقةٌ عليك، وأنتم أيها الخدم أحرار، وضيعة كذا وكذا لكم، وهذه الدار صدقةٌ مع جميع مالي في سبيل الله.
ثم مد يده إلى ستر خشنٍ كان على بعض أبوابه، فاجتذبه، وخلع جميع ما عليه من الثياب واستتر به.(1/296)
قالت الجارية: لا عيش بعدك يا مولاي. فرمت كسوتها، ولبست ثوباً خشناً، وخرجت معه. فودعهما مالك، ودعا لهما. فأخذا طريقاً، وأخذ غيره. فتعبدا جميعاً، حتى جاء الموت فنقلهما على حال العبادة. رحمة الله عليهما.
650- ومنهم القاضي أبو يعلى محمد بن الفراء. كان من الأجواد.
651- ومنهم يحيى بن هبيرة، صاحب ((الإفصاح)). كان من الأجواد الكبار. وله حكاياتٌ كثيرةٌ في ذلك.
652- ومنهم محمد بن طاهر الهاشمي. كان من الأجواد الكبار.
حكي أن أباه مات وخلف له مقدار مائة ألف دينار، فأنفقها على الشعراء والزوار وفي سبيل الله، فقصده البحتري، فلما وصل إلى حلب قيل: إنه قعد في بيته من ديون ركبته، فاغتم لذلك غماً شديداً، وبعث المدح إليه مع بعض مواليه، فلما وصلته ووقف عليها بكى، ودعا بغلامٍ له وقال له: بع داري!.
فقال: تبيع دارك وتبقى على وجوه الناس؟.
قال: لا بد من بيعها.
فباعها بثلاثمائة دينار، وأخذ صرةً وأودعها مائة دينار، وأنفذها إلى البحتري، وكتب معها:
لو يكون الحباء حسب الذي أنت ... لدينا به محل وأهل
لحبيت اللجين والدر واليا ... قوت حثواً وكان ذاك يقل(1/297)
والأديب الأريب يسمح بالعذر ... إذا قصر الصديق المقل
فلما وصلت الرقعة إلى البحتري، رد الدنانير وكتب إليه:
بأبي أنت، أنت للبر أهل ... والمساعي بعد، وسعيك قبل
والنوال القليل يكثر إن شاء ... مرجيك والكثير يقل
غير أني رددت برك إذ كان ... رباً، والربا لا يحل
وإذا ما جزيت شعراً بشعرٍ ... قضي الحق والدنانير فضل
فلما عادت الدنانير، حل الصرة، وضم إليها خمسين ديناراً أخرى وردها إليه، وحلف أنه ما يعيدها.
فلما وصلت إلى البحتري قال:
شكرتك إن الشكر للعبد نعمه ... ومن شكر المعروف فالله زائده
لكل زمانٍ واحدٌ يقتدى به ... وهذا زمانٌ أنت لا شك واحده
653- ومنهم شيخ الطريقة الجنيد. كان من الأجواد الكبار.
654- ومنهم شيخ وقته عبد القادر الكيلاني. كان من الأجواد الكبار المشهورين. وله حكاياتٌ في ذلك كثيرة.
655- ومنهم أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز. كانت من الأجواد.
أخبرنا ابن الشريفة قراءةً عليه، أخبرنا المشايخ الثلاثة، أخبرنا المزي وغيره، أخبرنا ابن أبي عمر وغيره، أخبرنا شيخ الإسلام موفق الدين، أخبرنا أبو الفتح محمد، أخبرنا محمد بن أبي نصر، أخبرنا الخضر بن ميمون، أخبرنا أبو بكر البزار، حدثنا أبو منصور [محمد بن] عيسى بن عبد العزيز، حدثنا علي بن الحسن، حدثنا أبو علي الدقاق، عن يعقوب بن(1/298)
إسحاق، سمعت إبراهيم بن الجنيد، حدثنا مموس القطان، حدثنا أحمد بن محمد، [حدثنا أبو علي]، حدثنا محمد بن علي الزعفراني، سمعت أحمد بن رياح الكاتب يحكي عن الهيثم بن عدي، عن مروان بن محمد قال:
دخلت عزة صاحبة كثير على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر، فقالت لها: يا عزة، ما معنى قول كثير:
قضى كل ذي دينٍ علمت غريمه ... وعزة ممطولٌ معنى غريمها
ما هذا الدين الذي يذكره؟ قالت: اعفيني. قالت: لا بد من إعلامك إياي.
فقالت عزة: كنت وعدته قبلة، فأتاني لينتجزها، فتحرجت ولم أف بها له.
فقالت لها أم البنين: أنجزيها منه وعلي إثمها!.
ثم راجعت نفسها، واستغفرت الله، وأعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة!.
وكانت إذا ذكرت ذلك بكت حتى تبل دموعها خمارها، وتقول: يا ليتني خرس لساني عندما تكلمت بها.
وتعبدت عبادةً ذكرت بها في عصرها من شدة اجتهادها، فرفضت فراشها، وأعتقت ما ملكت، وكانت تحيي ليلها. وكانت كل جمعةٍ تحمل على فرسٍ في سبيل الله. وكانت تبعث إلى نسوةٍ عابداتٍ يتحدثن عندها، فقالت: أحب حديثكن، فإذا قمت إلى الصلاة لهوت عنكن.
وكانت تقول: البخيل كل البخيل، من بخل على نفسه بالجنة.
وكانت تقول: جعل لكل إنسانٍ نهمةٌ في شيء، وجعلت نهمتي في(1/299)
البذل والعطاء. والله للعطية والصلة والمواصلة في الله أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، والشراب البارد على الظمأ. وهل ينال الخير إلا بالاصطناع؟.
وكانت على مذهبٍ جميلٍ حتى توفيت. رحمها الله.
656- قرأت على الشهاب بن هلال، فكتب لي: عن ابن المحب، عن النابلسي، عن الواسطي، عن الشيخ موفق الدين -وبعضهم ينكره- أخبرنا أبو الفتح بن عبد الباقي، حدثنا أبو الفضل الحداد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبو بكر البغدادي، حدثنا عباس بن أحمد، حدثنا أبو عقيل الرصافي، حدثنا أحمد بن عبد الله قال: قال علي بن محمد بن شقيق:
كان لجدي ثلاثمائة قرية، ولم يكن له يوم مات كفن يكفن فيه، قدمه كله بين يديه.
قال: وكان خرج إلى بلاد الترك للتجارة -وهو حدث- إلى قومٍ يقال لهم الخلوخية، يعبدون الأصنام. فدخل إلى بيت أصنامهم وعالمهم قد حلق رأسه ولحيته، ولبس ثياباً حمراء أرجوانية، فقال له شقيق: إن هذا الذي أنت فيه باطلٌ ولهو، ولهؤلاء الخلق خالقٌ وصانع، ليس كمثله شيء، له الدنيا والآخرة، قادرٌ على كل شيء، رازق كل شيء.
فقال له الخادم: ليس يوافق قولك فعلك.
فقال له شقيق: كيف ذلك؟.
قال: زعمت أن لك خالقاً قادراً على كل شيء، وقد تعنيت إلى ها هنا تطلب الرزق، ولو كان كما تقول، كان الذي يرزقك هنا يرزقك هناك، وتربح العناء.(1/300)
قال شقيق: فكان كلام التركي سبب زهدي.
فرجع فتصدق بجميع ما ملك، وطلب العلم.
657- ومنهم أحمد بن خضرويه. كان من الأجواد الكبار. وله حكاياتٌ وأخبارٌ مشهورة.
658- ومنهم شاب لم يسم.
أخبرنا الشهاب بن الشريفة قراءةً عليه، أخبرك المشايخ الثلاثة إجازة، أخبرنا المزي وابن المحب وغيرهما، أخبرنا ابن أبي عمر وغيره، أخبرنا شيخ الإسلام موفق الدين، أخبرنا أبو الفرج، حدثنا أبو بكر الصوفي، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا أبو عبد الله بن باكويه، حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا يوسف بن أحمد، حدثنا العباس بن محمد، حدثنا الحسن بن أبي مريم، حدثني جعفر بن سليمان قال:
مررت أنا ومالك بن دينار بالبصرة، فبينا نحن ندور فيها، مررنا بقصرٍ يعمر، وإذا شاب جالسٌ، ما رأيت شاباً أحسن وجهاً منه، إذا هو يأمر ببناء القصر، ويقول: افعلوا واصنعوا. قال لي مالك: ما ترى هذا الشاب وإلى حسن وجهه وحرصه على هذا البناء؟ ما أحوجني أن أسأل ربي أن يخلصه، فلعله يجعله من شباب الجنة. يا جعفر، ادخل بنا إليه.
قال جعفر: فدخلنا، فسلمنا، فرد السلام، ولم يعرف مالكاً. فلما عرفوه إياه، قام إليه فقال: حاجة؟.
قال: كم نويت أن تنفق على هذا القصر؟.(1/301)
قال: مائة ألف درهم.
قال: ألا تعطيني هذا المال فأضعه في حقه، وأضمن لك على الله تعالى قصراً خيراً من هذا القصر، بولدانه وخدمه، وقبابه وخيامه، من ياقوتةٍ حمراء مرصع بالجواهر، ترابه الزعفران، وملاطه المسك، أفيح من قصرك هذا، لا يخرب، ولا يمسه يدان، ولا يبنيه بناء، قال له الجليل كن فكان.
قال: أجلني الليلة، وبكر علي غداً.
قال جعفر: فبات مالكٌ وهو يفكر في الشاب. فلما كان في وقت السحر، دعا وأكثر من الدعاء. فلما أصبحنا غدونا وإذا بالشاب جالس. فلما عاين مالكاً هش إليه، ثم قال: ما تقول فيما قلت بالأمس؟ قال: تفعل؟ قال: نعم.
فأحضر البدر، ودعا بدواةٍ وقرطاس، ثم كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما ضمن مالك بن دينار لفلان بن فلان، إني ضمنت لك على الله قصراً بدل قصرك. بصفته كما وصفت، والزيادة على الله، وشريت لك بهذا المال قصراً في الجنة أفيح من ظل ظليل، بقرب العزيز الجليل.
ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الشاب، وحملنا المال. فما أمسى مالكٌ وقد بقي عنده مقدار قوت ليلة! فما أتى على الشاب أربعون يوماً، حتى صلى مالكٌ ذات يومٍ الغداة، فلما انفتل، فإذا بالكتاب في المحراب موضوع! فأخذه مالكٌ فنشره، فإذا في ظهره مكتوبٌ بلا مداد: هذا براءةٌ من الله العزيز الحكيم لمالك بن دينار، أنا وفينا الشاب القصر الذي ضمنت له وزدناه سبعين ضعفاً.(1/302)
قال: فبقي مالكٌ متعجباً، وأخذ الكتاب. فقمنا فذهبنا إلى منزل الشاب، فأقبلنا فإذا الباب مسود، والبكاء في الدار. فقلنا: ما فعل الشاب؟ قالوا: مات بالأمس.
فأحضرنا الغاسل، فقلنا: أنت غسلته؟ قال: نعم. قال مالك: حدثنا كيف صنعت؟.
قال: قال لي قبل الموت: إذا أنا مت وكفنتني اجعل هذا الكتاب بين كفني وبدني. فجعلت الكتاب بين كفنه وبدنه، ودفنته معه.
فأخرج مالكٌ الكتاب، فقال الغاسل: هذا الكتاب بعينه، والذي قبضه لقد جعلته بين بدنه وكفنه بيدي.
قال: فكثر البكاء، فقام شاب فقال: يا مالك، خذ مني مائتي ألف درهم واضمن لي مثل هذا.
قال: هيهات هيهات. كان ما كان، وفات ما فات، والله يحكم ما يريد.
فكلما ذكر مالكٌ الشاب بكى ودعا.
659- ومنهم الشيخ الكبير أحمد بن قدامة. كان من الأجواد الكبار.
660- ومنهم ولد الشيخ الكبير أبو عمر المقدسي. كان من الأجواد الكبار، وكانت له صلاتٌ وأمورٌ مشهورة، وهو الذي كان يقوم بأمر غالب المقادسة، ويطعم عيالهم في رحلاتهم إلى البلاد. وكان يتفقد الإخوان والأصحاب، ويذهب إلى بيوتهم في الليل بالدقيق وغيره. وهو الذي بنى المدرسة المشهورة.(1/303)
661- ومنهم أخوه موفق الدين. كان من الأجواد الكبار المشهورين.
662- ومنهم الحافظ العماد. كان من الأجواد الكبار. وله صلاتٌ وقيامٌ بمصالح الإخوان، وحكاياتٌ في ذلك مشهورة.
663- ومنهم الحافظ ضياء الدين المقدسي. كان من الأجواد الكبار المشاهير، وله صلاتٌ وأمورٌ مشهورة.
664- ومنهم الحافظ عبد الغني المقدسي. كان من الأجواد الكبار، وأمره مشهور، وحكاياته مشهورةٌ في ذلك.
665- ومنهم الشيخ عبد الله الفندقي. شيخٌ كبيرٌ مشهور. كان من الأجواد.
666- ومنهم السلطان صلاح الدين يوسف. كان من الأجواد الكبار، صاحب العطيات الكثيرة، والصلات الوافرة.
667- ومنهم المستظهر بالله أحمد ابن المقتدي بالله. قال الذهبي وغيره: كان كريم الأخلاق، مسارعاً في أعمال البر.
668- وأبوه المقتدي بالله. كان من الأجواد الكبار.(1/304)
669- ومنهم الراشد بالله أبو جعفر منصور ابن المسترشد بالله. كان من الأجواد.
قال الذهبي وغيره: كان حسن السيرة، جواداً، كريماً.
670- وكذلك أبوه المسترشد بالله. كان من الأجواد.
671- ومنهم نور الدين الشهيد. كان من الأجواد الكبار، صاحب العطيات الكثيرة، والصلات الغزيرة، والأوقات الزائدة، والبر الكثير، الذي يضرب بعطائه وصلاته المثل.
672- ومنهم المقتفي. كان من الأجواد.
673- ومنهم أبو حكيم النهرواني الحنبلي. كان من الأجواد الكبار، وكان يضرب به المثل في الحلم وبناء المدارس بباب الأزج من بغداد.
674- ومنهم المستضيء بأمر الله. قال ابن الجوزي: أظهر العدل والكرم ما لم نره في أعمارنا، وفرق مالاً عظيماً في الهاشميين وفي المدارس، وكان ليس للمال عنده وقع.(1/305)
675- ومنهم الشيخ عبد الله اليونيني. كان من الأجواد الكبار، ومن أكابر الأولياء والعلماء.
676- ومنهم الملك المظفر. كان من الأجواد الكبار، وهو الذي بنى الجامع الكبير بالصالحية.
677- ومنهم الملك المعظم. كان من الأجواد الكبار، وهو الذي عمل الموضع المعروف بطريق الحج لجمع الماء.
678- ومنهم الملك الأشرف أخو المعظم. كان من الأجواد الكبار وأصحاب البر والصلات والعطيات الزائدة، وهو الذي بنى دار الحديث، ووقف عليها القرى الخمسة من البقاع، ووقفه هذا جار على الحنابلة إلى يومنا هذا، وحصل الخير الكثير والفضل الزائد. رحمه الله تعالى.
679- ومنهم الشيخ عبد الله الأرموي. كان من الأجواد الكبار، وهو صاحب المغارة المعروفة اليوم بالأرموية. وكان مطرحاً للتكلف.
680- ومنهم شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية. كان من الأجواد الكبار. وله العطايا الوافرة والصلات الكثيرة، ولم يكن للدنيا عنده قدرٌ بالكلية، على أنه كان يجود بثيابه، وكان يعتم بالثوب الخام، فلا يزال يفرق الخرق حتى لا يبقى منه شيء! وأمره في ذلك مشهور، وحكاياته كثيرةٌ جداً، وكل ذلك مع فقره وضيق يده.
681- ومنهم الشيخ عبد الرحمن أبو شعر. كان من الأجواد الكبار، وله العطيات الكثيرة.(1/306)
682- ومنهم شهاب الدين ابن عبد الرزاق الديوان. كان من الأجواد الكبار المشاهير، حتى إنه يقال: إنه أعظم من البرامكة!.
ومما يحكى عنه أن سائلاًَ وقف عليه يطلب منه كما يطلب السؤال الفلس، ونحوه، فأدخل يده إلى جيبه، وأخرج خمسة دنانير وقال: والله لم أجد في جيبي غيرها.
وكان غالب الجماعة يرسل إليهم بالعطيات الكثيرة، من القمح والثياب والنفقة وغير ذلك.
وأخبرني بعض أصحابنا، أنهم لما قدموا من الأرض المقدسة لاستيطان الصالحية، أرسل إليهم غرارة قمحٍ ورأسين غنماً ونفقة.
وأمره في ذلك مشهور، وحكاياته كثيرة.
683- ومنهم الشيخ علاء الدين بن عروة. كان من الأجواد مع فقره.
684- ومنهم شيخنا الشيخ خلف. كان من الأجواد. كثير الإحسان إلى الفقراء.
685- ومنهم شيخنا الشيخ شهاب الدين بن زيد. كان من الأجواد الكبار، كثير الضيافة لمن يغشاه، يصنع لهم الأطعمة الفاخرة، ويصلهم، ويهدي إليهم.
686- ومنهم شيخنا الشيخ زين الدين بن الحبال. كان من الأجواد الكبار، يشتري الورق ويفرقه، ويشتري الأقلام ويفرقها، ويصنع الحبر ويفرقه، وهو والناس في بيته سواء.
687- ومنهم قاضي الحنابلة علاء الدين بن مفلح الحنبلي. كان من الأجواد الكبار.(1/307)
688- ومنهم شيخنا أبو عبد الله القطب الخيضري. من الأجواد الكبار، لا سيما حين حصل القحط والغلاء والجهد الشديد، أظهر أموراً زائدةً صار بها حاتم زمانه!.
منها: أنه رتب ثلاثة مطابخ بدمشق للفقراء، وصار يعطي كل من أقبل وأدبر على قدر حاله. وقد شاهدته في كل يومٍ يضع بين يديه كيسين من دراهم، ولا يزال يعطي كل من أتاه إلى الليل! وما رأيته رد سائلاً، بل يحادثهم ويسائلهم عن أحوالهم، ويقول: أحب محادثتهم. ويتلهف عليهم وعلى سائر المسلمين، ويتحرق لذلك، ويجتهد في الدعاء برفع ذلك.
وكان ربما قيل له عن بعض الفقراء: إنه يحصل. فيقول: أيش يحصل حتى يحصل في هذا الغلاء؟ أكثر ما يحصل كذا وكذا، وهو لا يكفيه للخبز.
وكان يعطيهم الكسوة والدراهم، كل على حسب حاله، يعطي بعضهم العشرين والعشرة، والأربعة، والدرهمين، والدرهم، على قدر ضرورته وحاله. وما كان يسائلهم إلا ليعلم حقيقة أحوالهم؛ لأنه صحيح النظر مستقيم الرأي.
وكنت ربما أطلت الجلوس عنده أتحرى أقواله وأفعاله، وعطاءه وبذله، وأقتفي من مجالسه أموراً عديدة.
وكان إذا دخل عليه السائل أو طالب الحاجة، علمه من دخوله ومن سؤاله.
وقد كنت عنده يوماً، فدخل عليه فقيرٌ متصوفٌ يطلب ثمن قميص، فأعطاه وسأله الدعاء. ثم دخل تركماني فأعطاه وتلهف عليه. ثم دخل رجلٌ قصيرٌ كأنه فلاح، فقال له: ليش ما تصلي؟.(1/308)
فقال: يا سيدي ليس لي حذاء.
فقال له: لا عدت تترك الصلاة، من لم يصل ليس بمسلم.
فأعطاه وقال: اذهب فاشتر حذاء وصل يحصل لك الخير. أو ما هذا معناه.
وأخبرت عنه أنه في شهر رمضان أعد سماطاً كبيراً للفقراء بالجامع حين يعتكف، ويأكل معهم.
وأخباره في ذلك كثيرة، ولم نشاهد في زمننا من الأعيان والأكابر مثله.
689- ومنهم شيخنا الشيخ صفي الدين بن الصفي. كان من الأجواد، كثير الإحسان إلى فقراء المدرسة.
690- ومنهم شيخنا الشيخ عمر اللؤلؤي. كان من الأجواد. كثير الإحسان إلى الفقراء، سمح النفس مع فقره.
691- ومنهم شيختنا أسماء المهرانية الكاتبة. كانت من الأجواد أول ما دخلنا عليها للأخذ عنها وجدناها مريضة، وعندها كمثري كثير، وهو عزيزٌ قليل الوجود. فقدمته إلينا وقالت: كلوه. فقلنا: لا، أنت أحوج منا إليه. فقالت: كلوه. وحلفت، وقالت: أرى من دخل على قومٍ ولم يطعم عندهم فكأنما دخل جبانة!.
692- ومنهم قاضي القضاة بدر الدين الحنبلي، قاضي الديار المصرية. كان من الأجواد.(1/309)
693- ومنهم شيخنا قاضي القضاة عز الدين الحنبلي، قاضي الديار المصرية، كان من الأجواد الكبار.
ولو ذهبنا نعدد كل أجواد هذه الأمة لطال ذلك علينا، ولكن أتينا من ذلك بنبذةٍ يسيرة. ومن تركنا أكثر ممن ذكر.(1/310)
فصل [الجود كيف يكون؟]
694- قال بعضهم: الجواد ليس هو الذي يحسن إلى من أحسن إليه، لأن تلك مكافأة. إنما الجود أن تحسن إلى من لم يحسن إليك.
695- وقال غيره: ليس الجود إلى من تعرفه، إنما الجود إلى من لم تعرفه.
696- وعند العرب: لا كرم مع السعة، إنما الكرم مع القلة.
697- وأنشد بعضهم:
ليس العطاء من الفضول سماحةً ... حتى تجود وما لديك قليل
وقد جاد أبو بكر حتى تخلل بالعباء. وكان بعض الصحابة يعمل بيده ثم يجود به.
698- وقال بعضهم: لا جود إلا بموجود.
699- وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول)).(1/311)
700- وفي الحديث:
((أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيحٌ شحيح، [تخشى الفقر وتأمل الغنى]، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلان)).
701- وعند العرب: الكرم في صنفين مذموم: النساء والصبيان. وأنشد بعضهم:
لا عيب فيهم غير شح نسائهم ... ومن السماحة أن يكن شحاحا
702- وأردى الشح في ثلاثة: في السلطان، والغني، والعالم.
703- ومن المعلوم عند الناس أن الشجاعة ملازمةٌ للسخاء، قل أن يوجد سخي إلا شجاع، أو شجاعٌ إلا وهو سخي. والبخل ملازمٌ للجبن، قل أن يوجد جبانٌ إلا وهو بخيل، ولا بخيل إلا وهو جبان. ولهذا قرن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، حتى تعوذ منهما فقال:
((أعوذ بك من الجبن والبخل)).
704 وفي الحديث المشهور: ((اطلبوا الخير))، وفي رواية:(1/312)
((الحاجات عند حسان الوجوه)).
705- وفي الحديث المشهور: ((خيركم خيركم لأهله)).
706- وأخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرنا ابن الزعبوب وابن اليونانية وابنة عبد الهادي، أخبرنا الحجار، أخبرنا ابن الزبيدي، أخبرنا السجزي، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، أخبرنا أبو عبد الله البخاري، أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن وعلي بن حجر، أخبرنا عيسى بن يونس، حدثنا هشام بن عروة، عن عبد الله بن عروة، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
جلس إحدى عشرة امرأةً فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً!.
قالت الأولى: زوجي لحم جمل، غث على رأس جبل، لا سهلٌ فيرتقى، ولا سمينٌ فينتقل.
قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره.
قالت الثالثة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق.(1/313)
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة.
قالت الخامسة: زوجي إذا دخل فهد، وإذا خرج أسد، ولا يسأل عما عهد.
قالت السادسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.
قالت السابعة: زوجي عياياء -أو غياياء- طباقاء، كل داءٍ له داء، شجك أو فلك أو جمع كلا لك.
قالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد.
قالت العاشرة: زوجي مالكٌ وما مالك، مالكٌ خيرٌ من ذلك، له إبلٌ كثيرات المبارك، قليلات المسارح، وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع، أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبحجني فبحجت إلي نفسي، وجدني في(1/314)
أهل غنيمةٍ بشق فجعلني في أهل صهيلٍ وأطيط، ودائسٍ ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنح.
أم أبي زرعٍ فما أم أبي زرع! عكومها رداح، وبيتها فساح.
ابن أبي زرعٍ، فما ابن أبي زرع! مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة.
بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع! طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها وغيظ جارتها.
جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً.
قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأةً معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطياً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحةٍ زوجاً، وقال: كلي أم زرعٍ وميري أهلك.
قالت: فلو جمعت كل شيءٍ أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع!.(1/315)
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كنت لك كأبي زرعٍ لأم زرع)).(1/316)
فصل من أمثال العرب
707- قال ابن الأعرابي: العرب تقول: ((جاءني بطعامٍ لا ينادي وليده)): إذا جاء بطعامٍ كثيرٍ لا تزاد فيه زيادة.
ومعنى قولهم: لا ينادي وليده، قال: لا يدعى له الصبيان، ولا يستعان فيه إلا بكبار الرجال.
وقال الأصمعي: أصله من الشدة تصيب القوم، حتى تذهل الأم عن ولدها فلا تناديه؛ لما هي فيه، ثم صار مثلاً لكل شدة، ولكل أمرٍ عظيم.
وقال الكلابي: أصله من الكثرة والسعة، فإذا أهوى الوليد إلى شيءٍ لم يزجر عنه حذر الإفساد، لسعة ما هم فيه. ثم صار مثلاً لكل كثرة.
قال الفراء: وهذا القول يستعار في كل موضعٍ يراد به الغاية. وأنشد:
لقد شرعت كفاً يزيد بن مزيدٍ ... شرائع جودٍ لا ينادى وليدها
قلت: وله وجهٌ آخر، وهو أنه ترك للصبيان ما يكفيهم، فلم ينادهم للأكل مع الضيف، لكنه قد ترك لهم كفاية.
ويقال: إن حضور الولدان عند الضيف ليس بمحمود.(1/317)
708- وقال بعضهم: من أدب الضيف أن لا يقرفه ولا يتخمه ولا يؤثمه. فلا يحضر ولده فيقرف منهم، ويكون قد شبع فيطلب منه الزيادة فيتخم، ويكون قد حلف لا يأكل فيحلف أن يأكل فيؤثمه.
709- وقد قال الإمام أحمد: إذا حضر الأكل فكل، فإن الأكل أهون من أن يحلف عليه.
710- وقال بعض العرب لبنيه: يا بني، إذا اتخذتم عند رجلً يداً فانسوها.
711- قال أبو محمد الأموي: والعرب تقول: إنما سميت هانئاً لتهنئ، أي لتفضل على الناس.
712- وقال أبو عبيدة: العرب تقول: لا ينفعك من زادٍ تبق. أي: إذا أبقيته فسد. وكذلك المال: لا يبقى لك فأنفقه.
713- وقال أبو ذر: إن لك في مالك شريكين: الحدثان والوارث، فإن قدرت ألا تكون أخس الشركاء حظاً فافعل.
714- وقال الربيع بن خثيم: كن وصي نفسك، ولا تجعل أوصياءك الرجال. أي: أنفقه في حياتك، ولا تخلفه بعدك فتوصي به.(1/318)
715- وقالوا: لا يذهب العرف بين الله والناس.
716- وقال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
717- وفي حديث: ((اصطناع المعروف يقي مصارع السوء)).
718- وفي حديث آخر: ((أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)).
719- وفي حديث آخر: ((السخي قريبٌ من الله، قريبٌ من الناس، قريبٌ من الجنة، بعيدٌ من النار)).(1/319)
720- قال الأصمعي: والعرب تقول: أعطاه إياه بقوف رقبته: إذا أعطاه بعينه، ولم يقبض له ثمناً ولا أجراً.
721- قال الأصمعي: ويقولون: من حقر حرم. يريدون: من حقر إعطاء اليسير؛ حرم الإعطاء.
722- وفي الحديث: ((لا يرد السائل ولو بظلفٍ محرق)).
723- وفي آخر: ((لا تحقرن شيئاً من المعروف ولو أن تعطي صلة الحبل)).
724- قال أبو زيد: وقالوا: إن الرثيئة تفثأ الغضب.(1/320)
أصله: أن رجلاً غضب على قوم -وكان جائعاً- فسقوه رثيئة، فسكن غضبه وكف عنهم.
والرثيئة: اللبن الحامض يخلط بالحلو.
725- قال أبو زيد: وقالوا: ما حللت بطن تبالة لتحرم الأضياف.
ومعناه: إنك لا تبتدئ في أول أمرك بالتفضل والنيل وأنت تريد تركه.
وتبالة بلادٌ باليمن مخصبة، فجعلها مثلاً لنواله.
726- وقال الأحمر: قالوا: هذا بيتي يبخل لا أنا. يقول: ليس البخل من أخلاقي، ولكن ليس لي ما أجود به.
727- وقالوا: شغلت شعابي جدواي. يقول: شغلتني أموري عن الناس والإفضال عليهم.
728- قال أبو عبيدة: وقالوا: بالساعد تبطش الكف، أي: إنما أقوى على ما أريد بالمقدرة والسعة، وليس ذلك عندي.(1/321)
729- قال أبو عبيدة: وقالوا: الحر يعطي والعبد يألم قلبه، أي: الجواد يجود، والبخيل يشق عليه جود غيره!.
730- وقال أبو بكر رضي الله عنه: وأي داءٍ أدوأ من البخل؟.(1/322)
فصل [في البركة]
731- نظرت في الأمور وتحريتها، فلم أجد أعظم بركة مما يأكل منه الناس. وقد شاهدت من ذلك أمراً عظيماً. فإني كنت أشتري الشيء اليسير وأضعه، وأطعم منه الشيء الكثير ويقيم الدهر الكثير. وما لا نطعم منه نأكله في دهرٍ أقل من ذلك!.
732- وشاهدت في الأشجار من ذلك أمراً عظيماً! كنا ما نبيعه يحترص على من ابتاعه، وما تركناه لنا يأكل الناس منه الأكل الكثير، وبعد ذلك نأخذ منه أكثر مما يأخذ أولئك. حتى إنه يحصل لهم من ذلك العجب! حتى إن بعضهم كان يقول حين يشاهد ذلك: لآتين بأهل المدرسة فأطلقهم في شجرنا! ويكذب، لا تسمح أنفسهم بذلك.
733- ونظرت في الأمور [فرأيت] تكسير الخبز أعظم بركة، فإني قد تأملت ذلك حتى في الشخص الواحد، فكنت إذا كسرته يفضل من الرغيف عنه قدر الثلث أو الربع ونحو ذلك، وإذا تركته على حاله أكل الرغيفان وأكثر!.
وقد روي عن أحمد رحمه الله أنه كره الخبز الكبار، وقال: ما فيه بركة!.(1/323)
734- ووجدت أعظم بركةً من التكسير الثريد. فإني تأملته، فربما كفى الرغيف الواحد الرجلين.
وقد ورد في الحديث: ((إن فيه البركة)). وهو كل خبزٍ فت ووضع عليه طعام أو مرق.
وأصله الخبز يفت ويوضع عليه اللحم. قال الشاعر:
إذا ما الخبز تأدمه بلحمٍ ... فذاك أما نقاؤه الثريد
735- وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((فضل عائشة على الناس كفضل الثريد على سائر الطعام)).
736- والمرق فيه البركة. وفي الحديث:
((إذا طبخت عرقاً فكثر المرق وتفقد جيرانك)).(1/324)
737- وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((طعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة)).
738- وقال مرة:
((من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة، ومن كان عنده طعام ثلاثةٍ فليذهب بأربعة)). أو نحو ذلك.(1/325)
فصل [في استحباب الصدقة]
739- تستحب الصدقة في جميع الأوقات. قال بعض الفقهاء: بالإجماع.
والأفضل أن تكون بطيب نفسٍ من المتصدق.
وهي في الصحة أفضل من المرض.
وصدقة السر أفضل من صدقة العلانية. وفي الحديث:
((سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)).
فذكر منهم رجلاً تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
740- وهي في شهر رمضان وأوقات الحاجات أفضل.
وأكد جماعةٌ من فقهاء أصحابنا، منهم صاحب ((الهداية))(1/326)
و((المستوعب)): يستحب الإكثار منها في شهر رمضان، وتأكد فضلها تارةً يكون بالنسبة إلى الوقت، كشهر رمضان، والعشر الأخير منه، وعشر ذي الحجة، ونحو ذلك. وتارةً بالنسبة إلى المكان، كالحرمين والأقصى ونحو ذلك. وتارةً بالنسبة إلى المدفوع إليه، كذي الرحم والجار وذي الحاجة الشديدة. وفي الحديث:
((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقةٌ وصلة)).
741- ولأحمد وغيره مرفوعاً:
((أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح)).
742- وقال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.
743- وقال: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}.
744- وفي الحديث: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)).
745- وفي الحديث: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمةٍ طيبة)).
746- وقال: ((أفضل الصدقة جهد المقل)).(1/327)
747- و((درهم سبق مائة ألف)).
748- قال صاحب ((الحاوي)) من أصحابنا: يتأكد استحبابها على القرابة والجار وإن تشاحنا.
وقال صاحب ((الفروع)): وهي على الجار أفضل، لا سيما مع عداوته.
749- ويستحب أن تكون من الفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام، ذكره جماعة. وأطلق جماعةٌ فلم يذكروا ((دائماً)). وجعله صاحب ((الفروع)) مرادهم. ووجود الكفاية دائماً: إما بضاعة، أو متجراً، أو غلة ملكٍ أو وقف.
قال صاحب ((الفروع)): وفي الاكتفاء بالصنعة نظر.
قلت: لأنه ربما عجز عنها أو ضعف أو كبر ولم يقدر عليها.
وقال ابن الجوزي: لا تكفي غلة الوقف.(1/328)
وقال ابن عقيل في موضع: أقسم بالله لو عبس الزمان في وجهك مرةً لعبس في وجهك أهلك وجيرانك. ثم حث على إمساك المال.
وذكر ابن الجوزي في كتابه ((السر المصون)) أن الأولى أن يدخر لحاجةٍ تعرض، وأنه قد يتفق له مرفقٌ فيخرج ما في يده، فينقطع مرفقه، فيلاقي من الضر أو من الذل ما يكون الموت دونه! فلا ينبغي للعاقل أن يعمل بمقتضى الحال الحاضرة، بل يصور كل ما يجوز وقوعه. وأكثر الناس لا ينظرون إلى العواقب.
قال: وقد تزهد خلقٌ كثير، فأخرجوا ما بأيديهم ثم احتاجوا؛ فدخلوا في المكروهات. والحازم من يحفظ ما في يده. والإمساك في حق الكريم جهاد، كما أن إخراج ما في يد البخيل جهاد. والحاجة تخرج إلى كل محنة.
قال بشر الحافي: لو أن لي دجاجةً أعولها خفت أن أكون عشاراً على الجسر!.
وقال الثوري: من كان بيده مالٌ فليجعله في قرن ثور، فإنه زمانٌ من احتاج فيه كان أول ما يبذل دينه.
قال ابن الجوزي: وبعد، فإذا صدقت نية العبد وقصده رزقه الله وحفظه من الذل، ودخل في قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً. ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
وقوله: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}.
قال ابن عباس: يجعل له مخرجاً من كل ما وقع فيه.(1/329)
وذكر ابن الجوزي: لا يجوز أن يتصدق بما يضر به إخراجه.
وذكر جماعةٌ من أصحابنا: لا يجوز أن يترك واجباً لأجل تطوع.
وقال أصحابنا: إن أضر بنفسه أو بمن تلزمه نفقته، زاد جماعةٌ: أو بغريمه، زاد بعضهم: أو بكفالته: أثم.
وللشافعية ثلاثة أوجه: أحدها: يأثم فيمن يمونه لا في نفسه، والثاني: يأثم، والثالث: لا يأثم.
وذكر بعض أصحابنا: يكره التصدق قبل الوفاء والإنفاق الواجب.
وقال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ}.
وتقدم الأنصاري الذي نزلت فيه، وبات هو وزوجته وصبيانه بلا عشاء، ومدحه الله تعالى على ذلك، ولو كان محرماً لم يمدحه عليه. وظاهر هذا لا يحرم بما نقص من كفايته أو كفاية من يمونه.
فإن قيل: الزوجة هي التي تصدقت بكفايتها وآثرت؟ قيل: الصبية لم يتصدقوا، بل هما نوماهم، وقد أضر بهم.
وكان جماعةٌ من أصحابنا، منهم أبو العباس بن تيمية، والشيخ أبو عمر، والشيخ موفق الدين، والحافظ عبد الغني وغيرهم، يتصدقون بما هم أحوج إليه ممن أخذه، وبعضهم كان عياله أحوج إليه من الآخذ، فكيف استحلوا ذلك مع علمهم الوافر؟ ومعاذ الله أن يعلموا أنه محرمٌ ثم يقدمون عليه. وقد فعله بعض الصحابة.(1/330)
فصل [في مقدار الصدقة]
750- من أراد الصدقة بماله كله: فإن كان وحده، وعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة: جاز له ذلك.
وذكر بعضهم: يستحب؛ وفاقاً للشافعية.
وذكر القاضي عياض المالكي أنه جوزه جمهور العلماء وأئمة الأمصار.
وعن عمر: رد جميع صدقته.
ومذهب أهل الشام: ينفذ في الثلث.
وعن مكحول: في النصف.
وقال الطبري: المستحب الثلث.
وقد تصدق أبو بكر رضي الله عنه بماله حتى تخلل بالعباء.
وإن لم يعلم من نفسه الصبر عن المسألة وحسن التوكل: حرم عليه(1/331)
ذلك. قاله أصحابنا. ذكره أبو الخطاب وغيره. ويمنع من ذلك ويحجر عليه.
وذكر الشيخ موفق الدين وغيره: يكره ذلك؛ وفاقاً للشافعية.
وإن كان له عيال: فإن لم يكن لهم ما يكفيهم: حرم عليه ذلك.
وإن كان لهم ما يكفيهم من غلةٍ من ملكٍ أو وقف، أو هم أغنياء بمكسبه: جاز له أن يتصدق بجميع ماله؛ لقصة الصديق رضي الله عنه.
ويكره لمن لا صبر له على الضيق، ولا عادة له به أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة. نص عليه أحمد.
قال صاحب ((الفروع)): وظهر مما سبق أن الفقير لا يقترض، ويتصدق.
ونص أحمد رحمه الله في فقير لقريبه وليمةً: يستقرض، ويهدي له. ذكره القاضي أبو الحسين في طبقات متقدمي أصحاب أحمد.
قال أبو العباس بن تيمية: فيه صلة الرحم بالقرض.
قال صاحب ((الفروع)): ويتوجه أن مراده ومراد الإمام أحمد أنه يظن وفاء. والله أعلم.(1/332)
فصل [في التعفف]
751- ويستحب التعفف، وأن لا يأخذ الغني صدقة، ولا يتعرض لها. فإن أخذها مظهراً للفاقة، فقال أصحابنا: يحرم.
ويحرم المن بالصدقة وغيرها، من هديةٍ ومعروفٍ وعاريةٍ وإحسانٍ ونحو ذلك، وهو كبيرةٌ على نص أحمد: الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة. ويبطل الثواب بذلك للآية. ذكره بعض أصحابنا. وذكر غيره خلافاً في ذلك. وفي بطلان الطاعة بالمعصية. واختار أبو العباس بن تيمية الإحباط، بمعنى الموازنة، وذكر أنه قول أكثر السلف.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة ولم يعط الأنصار، فكأنهم وجدوا، فقال:
((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم بي، وعالةً فأغناكم الله بي؟)).
فقالوا: الله ورسوله أمن.(1/333)
فقال: ((ألا تجيبون؟ لو شئتم لقلتم: جئتنا كذا وكذا)) الحديث.
قال بعض أصحابنا: يحتمل أن يقال فيه كما قال ابن حزم: لا يحل أن يمن إلا من كفر إحسانه وأسيء إليه، فله أن يعدد إحسانه.
ويحتمل أن يقال كما قال شارح ((الأحكام الصغرى)): إن هذا دليلٌ على إقامة الحجة عند الحاجة إليها على الخصم، ولما كانت نعمة الإيمان أعظم قدمها. ثم نعمة الألفة أعظم من نعمة المال، لأن المال يبذل في تحصيلها. والله أعلم.(1/334)
فصل [في الرجوع في الصدقة]
752- من أخرج شيئاً يتصدق به، أو وكل في ذلك، ثم بدا له إمساكه، استحب أن يمضيه، ولا يجب.
نقل محمد بن داود، أن أبا عبد الله سئل عن رجلٍ بعث دراهم إلى رجلٍ يتصدق بها عليه، فلم يجده الرسول، فبدا للمرسل أن يمسكها؟ قال: ما أحسن أن يمضيه. وكذلك نقل الأثرم.
وقال ابن منصور لأبي عبد الله: سئل سفيان عن رجلٍ دفع إلى رجلٍ مالاً يتصدق به، فمات المعطي؟ قال: ميراث. قال أحمد: أقول: إنه ليس بميراثٍ إذا كان من الزكاة أو شيءٌ أخرجه للحج، وإن كان غير ذلك فهو ميراث.
وقال إسحاق مثلما قال أحمد. وكذلك نقل صالح عن أبيه.
ولم يرد أحمد رحمه الله أن الوكيل يخرجه، بل يعتبر ما عينه الميت.
وقال حبيش: قيل لأبي عبد الله: رجلٌ دفع إلى رجلٍ دراهم، فقال(1/335)
له: تصدق بهذه الدراهم. ثم إن الدافع جاء إلى صاحبه فقال له: رد علي الدراهم. ما يصنع المدفوع إليه؟.
قال: لا يردها عليه، يمضيها فيما أمره به.
ونقل جعفر أن أبا عبد الله سئل عن رجلٍ أخرج صدقةً من ماله، فأمر بها أن توضع في أهل السكة، أله أن يرجع؟ قال: مضى. فراجعه صاحب المسألة فأبى أن يرخص في ذلك.
وترجم الخلال: الرجل يخرج الصدقة فلا يردها إلى ماله بعد أن سماها صدقة.
وقد صح عن عمرو بن العاص أنه كان إذا أخرج الطعام للسائل فوجده قد ذهب، عزله حتى يجيء سائلٌ آخر.
وصح ذلك عن الحسن.
ورواه الليث عن طاوس.
وصح عن حميد وبكر بن عبد الله المزني أنهما قالا: لا يعطيه سائلاً آخر. روى ذلك الأثرم.
ومن سأل فأعطي فقبضه، وسخطه فرده؛ لم يعط لغيره. قاله بعض أصحابنا.
وعن علي بن الحسين أنه كان يفعله. رواه الخلال. وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف.(1/336)
فصل [التصدق من غير إذن]
753- وتجوز صدقة التطوع على كافرٍ وغني. نص عليه أحمد. ولهم أخذها. والأخذ من صدقة التطوع أولى من الأخذ من الزكاة.
ومن أذن لرجلٍ في أكل شيء، فهل يجوز له الصدقة به؟.
قال الشيخ موفق الدين في ((مسألة غير المأذون له)): هل [له] الصدقة من قوته إذا لم يضر به؟ أن الضيف لا يملك الصدقة بما أذن له في أكله.
وقال: إن حلف أن لا يهبه فأضافه لم يحنث؛ لأنه لم يملكه شيئاً، وإنما أبلغه الأكل. ولهذا لا يملك التصرف فيه لغيره.
وهذا يدل على أنه لا يجوز من طعام الوليمة بغير إذن رب الطعام.
وذكر بعضهم في [إطعام] كلبٍ وهر ونحوه من الطعام وتطعيم قائم: يجوز. وظاهر كلام بعضهم: لا يفعل ذلك إلا بإذن رب الطعام.
ويحرم الأكل بلا إذنٍ صريحٍ أو قرينة. نص عليه أحمد.
ويكره ذم طعام من دعاه. ولصاحبه مدحه أو لقويمه. وحرم ذلك للشيخ عبد القادر في الغنية.
قال أحمد: يأكل بالسرور مع الإخوان، وبالإيثار مع الفقراء، وبالمروءة مع أبناء الدنيا.(1/337)
فصل [في الحث على الاكتساب]
754- يستحب الاشتغال بشيءٍ يستغني به هو وعياله عن سؤال الخلق. ومتى ترك ذلك أو قصر فيه أثم. ذكره بعض أصحابنا.
وقد حث الإمام أحمد على التجارة. وصنف الخلال في ذلك كتاباً سماه ((غاية الحث على التجارة)).
قال المروذي: سمعت أبا عبد الله يقول: قد أمرتهم -يعني ولده- أن يختلفوا إلى السوق، وأن يتعرضوا للتجارة.
وقال: قد روي عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((أطيب ما أكل الرجل من كسبه)).(1/338)
755- وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد يأمر بالسوق، ويقول: ما أحسن الاستغناء عن الناس.
756- وقال علي بن جعفر: مضى أبي إلى أبي عبد الله، وذهب بي معه، فقال له: يا أبا عبد الله، هذا ابني. فدعاني وقال لأبي: ألزمه السوق وجنبه أقرانه.
757- ونقل يوسف بن موسى: قيل لأبي عبد الله: قال طاوس: اللهم امنعني المال والولد!.
قال قد روي هذا عن طاوس، من كان مثل طاوس؟.
ثم قال: الغنى من العافية.
758- ونقل أبو بكر المطوعي: سئل أحمد عن أربعة دراهمٍ: درهمٌ من تجارة [برة]، ودرهم من صلة إخوان، ودرهم من أجرة المعلم، أو قال: التعليم، ودرهم من غلة بغداد؟.
فقال: أحبها إلي من تجارة برة، وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان. وأما أجر المعلم، أو قال: التعليم، فإن احتاج فليأخذه، وأما غلة بغداد فأنت تعرفها، فأي شيء يسأل عنها؟.(1/339)
759- وقال محمد بن ثور: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوسٌ في المسجد الحرام، فيقول: ما يجلسكم؟ فنقول: فما نصنع؟ قال: اطلبوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
760- وقال علي بن بكار: كان إبراهيم بن أدهم يؤجر نفسه، وكان سليمان الخواص يلقط، وكان حذيفة يضرب اللبن. ولقط أحمد بن حنبل مراراً، واحتاج مرةً فنسخ بالأجرة، واحتاج مرةً فأجر نفسه من الحمالين، واحتاج مرةً فرهن نعله.
761- وكان إبراهيم بن أدهم إذا قيل له: كيف أنت؟ قال: بخيرٍ ما لم يتحمل مؤنتي غيري!.
762- وقال الحسن بن الربيع: لأن أكسب قيراطاً أحب إلي من أن يصلني أحدٌ بعشرة دراهم.
763- وقال الحسن: مطعمان طيبان: حمل الرجل على ظهره، وعمله بيده.
764- وقال عبد الله: سمعت أبي يقول: الاستغناء عن الناس بطلب العمل أعجب إلينا من الجلوس وانتظار ما في أيدي الناس.
765- ونقل صالح أنه سأل أباه عن التوكل، قال: التوكل حسن، ولكن لا ينبغي للرجل أن يكون عيالاً على الناس، ينبغي أن يعمل حتى يغني نفسه وعياله، ولا يترك العمل.(1/340)
وسئل أبي وأنا شاهدٌ عن قومٍ لا يعملون ويقولون: نحن متوكلون؟ قال: هؤلاء مبتدعة.
766- ونقل عبد الله: قلت لأبي: ترى إن اكتسب رجلٌ قوت يومٍ أفضل؟ قال: إن اكتسب فضلاً فعاد به على قرابته أو داره أو ضعيفٍ فهو أحب إلي من أن لا يكتسب. وأحب إلي أن يستعف.
767- ونقل أبو الحارث: سألت أبا عبد الله: الرجل يدع العمل ويجلس ويقول: ما أعرف إلا ظالماً أو غاصباً، فأنا لا آخذ من أيديهم ولا أعينهم ولا أقويهم على ظلمهم! قال: ما ينبغي لأحدٍ أن يدع العمل ويقعد ينتظر ما في أيدي الناس، أنا أختار العمل، والعمل أحب إلي، إذا جلس الرجل ولم يحترف دعته نفسه إلى أن يأخذ ما في أيدي الناس، فإذا أعطوه أو منعوه أشغل نفسه بالعمل والاكتساب لترك الطمع. قال صلى الله عليه وسلم:
((لأن يحمل الرجل حبلاً ليحتطب ثم يبيعه في السوق ويستغني به خيرٌ له من أن يسأل الناس: أعطوه أو منعوه)).
قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العمل خيرٌ من المسألة.
وقال الله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.(1/341)
فقوله هذا إذنٌ في الشراء والبيع. وأنا أختار للرجل الاضطراب في طلب الرزق، والاستغناء عما في أيدي الناس، وهو عندي أفضل.
قلت: إن ها هنا قوماً يقولون: نحن متوكلة، ولا نرى العمل، إلا لغير الظلمة والقضاة، وذلك لأني لا أعرف إلا ظالماً؟.
فقال أبو عبد الله: ما أحسن الاتكال على الله عز وجل، ولكن لا ينبغي أحدٍ أن يقعد ولا يعمل شيئاً حتى يطعمه هذا وهذا، ونحن نختار العمل، ونطلب الرزق، ونستغني عن المسألة، والاستغناء عن الناس بالعمل أحب إلي من المسألة.
768- وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن رجلٍ جلس في بيته ويقول: أجلس وأصبر في البيت ولا أطلع على ذلك أحداً، وهو ممن يرى أن يحترف؟
فقال: لو خرج فاحترف لكان أحب إلي، وإذا جلس خفت أن يخرجه جلوسه إلى غير هذا.
قلت: إلى أي شيءٍ يخرجه؟.
قال: يخرجه إلى أن يكون يتوقع أن يرسل إليه.
قلت: فإذا كان يبعث إليه بالشيء فلا يأخذه؟.
قال: هذا جيد.
769- وقال رجلٌ لأحمد: التعليم أحب إليك أو المسألة؟.
قال: التعليم أحب إلي.(1/342)
770- وقال المروذي: سمعت رجلاً يقول لأبي عبد الله: إني في كفاية.
قال: الزم السوق، تصل به الرحم، وتعود به.
771- وقال للميموني: استغن عن الناس، فلم أر مثل الغنى عن الناس.
772- وقال يعقوب بن بختان: سمعت أحمد وسئل عن التوكل، فقال: هو قطع الاستشراف باليأس من الخلق.
قيل له: ما الحجة؟.
قال: إبراهيم لما وضع في المنجنيق ثم طرح في النار، فاعترضه جبريل عليه السلام فقال: لك حاجة؟.
فقال: أما إليك فلا.
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون.
773- وقال لقمان لابنه: يا بني، استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحدٌ قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقةٌ في دينه، وضعفٌ في عقله، وذهاب مروءته. وأعظم من ذلك استخفاف الناس به.
774- قال في الرعاية والآداب: أفضل المعايش التجارة، وأفضلها في البز والعطر والزرع والفرس والماشية، وأنقصها في الصرف.(1/343)
775- وقال في موضع آخر: أفضل الصنائع الخياطة، وأدناها الحياكة والحجامة ونحوهما، وأشدها كراهةً الصبغ والصياغة والحدادة.
776- وقال في موضع آخر: يكره كسب الحجام والفصاد ونحوه، وعسب الفحل والماشطة ونحوها، والنائحة والبلان والمزين والجرائحي والصائغ والصباغ والحداد، وقيل: والبيطار ونحو ذلك.
777- وقال الشيخ يحيى بن يحيى الأزجي الحنبلي في كتاب ((النهاية)) له:
اختلف الناس في أطيب الاكتساب، فقال قوم: الزراعة، قال: وهو الأشبه عندي، لما فيه من الاستسلام لقضاء الله والتوكل عليه، وهو خارجٌ من بركة الأرض، فهو أبعد من الشبهة.
وقال قوم: التجارة أطيب؛ لأن الله تعالى صرح بإحلال ذلك في كتابه، ولفعل غالب الصحابة.
778- وقال عباس الدوري: سمعت أحمد بن حنبل يقول -وسئل عن الدقاقين-: إن أموالاً جمعت من عموم المسلمين إنها لأموال سوء.
قال بعض أصحابنا: مراده الذين يتجرون في الدقيق، لما فيه من احتكار الأقوات وإرادة غلائها. واحتج به القاضي على كراهة التجارة في القوت والطعام.
779- وقال أبو العباس بن تيمية: يكره للرجل أن يحب غلو أسعار المسلمين ويكره الرخص، ويكره المال المكتسب من ذلك.
780- وقال القاضي: المستحب منها البز، لما روى ابن أبي الدنيا(1/344)
عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم استشاره رجلٌ في البيوع، فأشار عليه بالبز، وقال:
((إنك إذا عالجت البز أحببت الخصب للمسلمين)) كذا وكذا. وعدد أشياء.
781- وفي حديث:
((إن أهل الجنة لو تبايعوا، ولا يتبايعون، ما تبايعوا إلا البز)).
782- وعن عمر: لو كنت تاجراً ما اتجرت غير العطر، فإن فاتني ربحه لم يفتني ريحه! وروي مرفوعاً.
783- وفي الحديث:(1/345)
((من بورك له في شيء فليلزمه)).
784- وفي حديث ابن مسعود: ((لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا)).
رواه أحمد والترمذي وحسنه.
والمراد بالضيعة ونحوها ما قال ابن عبد البر.
785- وكان يقال: إذا لم يرزق الإنسان ببلدٍ فليتحول إلى أخرى.(1/346)
فصل [هل في المال حق سوى الزكاة؟]
786- قال الأكثر: ليس في المال حق سوى الزكاة.
787- وعن الحسين بن علي مرفوعاً:
((للسائل حق وإن جاء على فرس)).
رواه الإمام أحمد وقال: ليس له أصل. ورواه أبو داود من رواية يعلى بن أبي يحيى وهو مجهول.
788- وليست المسألة بحرفةٍ إذا قدر على التكسب، قاله أصحابنا.
وقال أبو العباس بن تيمية: إعطاء السؤال فرضٌ إذا صدقوا. ولهذا جاء في الحديث:
((لو صدق لما أفلح من رده)).(1/347)
واستدل الإمام أحمد بهذا وقال: إذا أتى طارقٌ جائعٌ وظهر صدقه وجب إطعامه. وأخذه من تأويل قوله تعالى: {والذين في أموالهم حقٌ معلوم. للسائل والمحروم}.
وإن ظهر كذبهم لم يجب إعطاؤهم، كما لو سألوا مطلقاً لغير معين، ولو أقسموا.
وقال الإمام أحمد في الحديث: ليس بصحيح.
789- وإطعام الجائع ونحوه واجب. قال بعض أصحابنا: بالإجماع، قال: مع أنه ليس في المال حق سوى الزكاة بالإتفاق.
790- وعن ابن عباس مرفوعاً:
((إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم)).
791- وعن أبي هريرة مرفوعاً:
((إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك)).
رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب.
792- وعن ابن عمر في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة}: إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت جعلها الله تعالى طهراً للأموال.(1/348)
رواه البخاري تعليقاً. ولمالكٍ معناه. وكذا عن ابن عباس، رواه سعيد.
793- قال القرطبي: اتفق العلماء على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجةٌ بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها.
قال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم.
قال القرطبي: وهذا بالإجماع.
واختار الآجري من أصحابنا أن في المال حقاً سوى الزكاة. وهو قول جماعةٍ من العلماء. قال: نحو مواساة قرابة، وصلة إخوان، وإعطاء سائل، وإعانة محتاج، دلوها وركوب ظهرها وإطراق فحلها، وسقي منقطع حضر حلابها حتى يروى.
وذكر القاضي عياض المالكي أن الجمهور قال: إن الحق في الآية المراد به الزكاة، وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وما جاء حمل على الندب ومكارم الأخلاق.
وقيل: هي منسوخة.
قال: وذهب جماعة، منهم الشعبي والحسن وطاوس وعطاء ومسروق وغيرهم إلى أنها محكمة، وأن في المال حقاً سوى الزكاة، من فك الأسير، وإطعام المضطر، والمواساة في العسر، وصلة القرابة. واقتصر عليه في شرح مسلم. واستعجبه بعض أصحابنا واستغربه.
قال بعض أصحابنا: ولو جهل حال السائل: هل هو جائعٌ أو محتاج: فلا وجوب.(1/349)
794- وقال ابن عقيل في ((الفنون)) في قوله عليه السلام: ((كيتان)) لمن خلف دينارين.
قال: لعل ذلك إلى من كان يظهر التجرد والفقر بحاله، فكان ذلك لمكان التزوير، لا لتحريم الادخار.
وقال غيره: أظهر ذلك ليتصدق عليه، أو ليطعم ونحوه.
795- وروى أبو نعيم عن ضمرة بن حبيب قال:
حضرت الوفاة ابناً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فجعل الفتى يلحظ إلى وسادة. فلما توفي قالوا لأبي بكر: رأينا ابنك يلحظ إلى الوسادة.
قال: فرفعوه عن الوسادة، فوجدوا تحته خمسة دنانير، أو ستة دنانير، فضرب أبو بكر بيده على الأخرى يسترجع ويقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ما أحسب جلدك يتسع لها.
قلت: ظاهر الحديث المتقدم وهذا: يكره الادخار أو يحرم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو:
((اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)).(1/350)
وكان يقول:
((اللهم ارزق آل محمدٍ قوتاً)).
لكن ورد في حديث سعد: ((إنك أن تترك ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تتركهم عالةً يتكففون الناس)).
فقد يحمل ذلك على من لا وارث له، وهذا على من له وارث.(1/351)
فصل [في المسألة وحكمها]
796- من أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله. نص عليه أحمد، واختاره أكثر أصحابه.
وعن أحمد رحمه الله: يحرم السؤال على من عنده قوت يومه، غداء وعشاء.
قال ابن عقيل: اختاره جماعةٌ من أصحاب أحمد، وأنه يباح له الأخذ من غير مسألة.
وقال القاضي في ((الجامع الصغير)): اختلفت الرواية عن أحمد: هل تحرم المسألة على من تحل له الصدقة على ما تبين ونحوه؟.
قال القاضي أبو الحسين في ((نهايته)): وقال: أصحهما تحرم.
وعن أحمد -رحمه الله-: تحرم المسألة على من ملك الغداء والعشاء.
وعن أحمد -رحمه الله-: إنما تحرم على من ملك خمسين درهماً.(1/352)
وذكر ابن الجوزي في ((المنهاج)): إن علم أنه يجد من يسأله كل يوم لم يجز أن يسأل أكثر من قوت يومٍ وليلة، وإن خاف أن لا يجد من يعطيه، أو خاف أن يعجز عن السؤال، أبيح له السؤال أكثر من ذلك.
قال صاحب الفروع: ولا يجوز له في الجملة أن يسأل فوق ما يكفيه لسنته.
قال: وعلى هذا ينزل الحديث في الغني بخمسين درهماً، فإنها تكفي المنفرد المقتصد لسنته.
وقال ابن حزم: اتفقوا أن المسألة حرامٌ على كل قوي على الكسب، أو غني، إلا من تحمل حمالة، أو سأل سلطاناً، وما لا بد منه.
واتفقوا أن ما كان أقل من مقدار قوت اليوم فليس غنى.
797- نقل جماعةٌ عن أحمد في الرجل له أخٌ من أبيه وأمه ويرى عنده الشيء يعجبه فيقول: هب هذا لي، وقد كان ذلك يجري بينهما، ولعل المسؤول يحب أن يسأله أخوه ذلك؟.
قال: أكره المسألة كلها. ولم يرخص فيه.
إلا أنه بين الأب والولد أيسر. وذلك أن فاطمة -رضي الله عنها- أتت النبي صلى الله عليه وسلم وسألته.
وإن اشترى شيئاً وقال: قد أخذته بكذا، فهب لي فيه كذا؟.(1/353)
فنقل محمد بن الحكم: لا تعجبني هذه المسألة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحل المسألة إلا لثلاثة)).
ونقل إبراهيم بن إسحاق في الرجل يشتري الحاجة فيستوهب عليها: لا يعجبني.
ونقل حرب: إن استوضعه أو استوهبه لا يجوز.
ونقل ابن منصور: يكره.
قال القاضي: كرهه أحمد، وإن كان يلحق بالبيع؛ لأنه في معنى المسألة، من جهة أنه لا يلزمه بذل ما سأله.
واختار صاحب ((المحرر)): لا يكره، لأنه لا يلزم السائل أيضاً العقد بدونها، فتصير ثمناً لا هبة.
798- وسؤال الشيء اليسير، كشسع النعل والحذاء، هل هو كغيره في المنع أم يرخص فيه؟.
فيه روايتان عن الإمام أحمد. والأولى الترخيص في ذلك.
ولا بأس بمسألة شرب الماء. نص عليه أحمد. واحتج بفعله عليه السلام.
وقال في العطشان: لا يستسقي يكون أحمق.(1/354)
799- ولأبي داود عن عبد الله مرفوعاً:
((من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشٌ أو خدوشٌ، أو كدوحٌ في وجهه.
فقيل: يا رسول الله، وما الغنى؟.
قال: ((خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب)).
قال الخطابي: الخموش هي الخدوس. يقال: خمشت المرأة وجهها إذا خدشته بحديدةٍ أو ظفرٍ أو نحو ذلك.
وفيما قاله نظر. فإنه عليه السلام غاير بينهما. فيحتمل أن يكون الخموش ما سال من الدم، والخدوش ما لم يسل منه. ولهذا في حديث قيس بن عاصم: كانت بيننا وبينهم خماشاتٌ في الجاهلية، أي جراحات.
والكدوح: الأثر من الخموش والعض وغيره.(1/355)
800- ولأبي داود، عن رجلٍ من بني أسد قال:
ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله، فوجدت رجلاً عنده يسأله، فقال صلى الله عليه وسلم:
((من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً)).
قال الأسدي: لقحة لنا خيرٌ من أوقية. قال: فرجعت ولم أسأله.
801- وله عن سهل بن الحنظلية قال:
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن حصن والأقرع بن حابس فسألاه، فأمر لهما بما سألا، وأمر معاوية -رضي الله عنه- فكتب لهما بما سألا. فأما الأقرع بن حابس فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مكانه فقال: أتراني يا محمد حاملاً إلى قومي كتاباً لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار)).
فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟.
قال: ((قدر ما يغذيه ويعشيه)).(1/356)
قال الخطابي: قد اختلف الناس في تأويله، فقال بعضهم: من وجد غداء يومه وعشاءه لم يحل له المسألة.
وقال بعضهم: إنما هو من وجد غداءً وعشاءً على دائم الأوقات. فإذا كان ما عنده يقوته المدة الطويلة فقد حرمت عليه المسألة.
وقال آخرون: هذا منسوخ.
802- ولأبي داود عن سمرة مرفوعاً:
((المسائل كدوحٌ يكدح بها الرجل في وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمرٍ لا يجد منه بداً)).
803- وله عن أنس بن مالك:
أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم [يسأله]، فقال له: ((أما في بيتك شيء؟)) [قال: بلى]، حلسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعبٌ نشرب فيه [الماء].
فقال: ((ائتني بهما)).
فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال:
((من يشتري هذين؟)).
فقال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهم.
قال: ((من يزيد على درهم؟)) مرتين أو ثلاثاً.(1/357)
فقال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين.
فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: ((اشتر بأحدهما طعاماً فأنفذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فائتني به)).
فآتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قال له: ((اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً)).
فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((هذا خيرٌ لك من أن تجيء المسألة نكتةً في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لذي فقرٍ مدقع، أو لذي غرمٍ مفظع، أو لذي دم موجع)).
الفقر المدقع: الشديد. وأصل من الدقعاء، وهو التراب. ومعناه: الفقر الذي يفضي به إلى التراب. ولا يكون عنده ما يقي به التراب.
والغرم المفظع: هو أن تلزمه الديون الفظيعة.
والدم الموجع: هو أن يتحمل حمالةً في حقن الدماء.
804- وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود مرفوعاً:
((لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه، فما يكون له عند الله وجه)).(1/358)
805- وفيهما مرفوعاً:
((لا يزال العبد يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعةُ لحم)).
806- وفيهما مرفوعاً:
((لأن يأخذ الرجل حبله فيغدو فيحتطب، خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
807- وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعةً من الصحابة على أن لا يسألوا الناس شيئاً، منهم الصديق وأبو ذر وثوبان. وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله. رضي الله عنهم.
808- وقال الآجري: يجب أن يعلم حل المسألة ومتى تحل.(1/359)
وما قاله معنى قول أحمد في أن تعلم ما يحتاج إليه من العلم لدينه فرض.
ولما علم عمر -رضي الله عنه- أن مسألة ذلك السائل كانت استكثاراً، كان عنده أنه غير مستحقٌ، فبين ذلك.
809- قال ابن الجوزي في ((المنهاج)): وإن أخذ من يعلم أنه إنما أعطاه حياءً، لم يجز الأخذ، ويجب رده إلى صاحبه.
فدل أن الملك لا ينتقل. وظاهر كلام غيره خلافه. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من السؤال من لا يريد إعطاءه.
810- وفي الصحيحين وغيرهما أن حكيماً سأل النبي صلى الله عليه وسلم مراراً فأعطاه، ثم قال:
((إن هذا المال خضرةٌ حلوة، فمن أخذه بطيب نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع)).
وكان بعد ذلك عمر يدعوه ليعطيه العطاء فيأبى، فيقول: يا معشر المسلمين، أشهدكم أني أعرض على حكيمٍ حقه من هذا المال فيأبى.(1/360)
فلم يرزأ حكيم أحداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
811- وفي ((كشف المشكل)) عن ابن عقيل قال: ما جاء بمسألتك فإنك اكتسبت فيه السؤال، ولعل المسؤول استحيى أو خاف ودك، ولا خير في مالٍ خرج لا عن طيب نفس.
812- وذكر ابن الجوزي في كتاب ((السر المصون)) أن الشبلي طلب شيئاً من بعض أرباب الدنيا فقال: يا شبلي، اطلب من الله.
فقال له: أنا أطلب من الله، وأطلب الدنيا من خسيسٍ مثلك!.
فبعث إليه مائة دينار.
قال ابن عقيل: إن كان بعث إليه اتقاء ذمه فقد أكل الشبلي الحرام.
813- وعن معاوية مرفوعاً:
((إنما أنا خازن، فمن أعطيته عن طيب نفسٍ فيبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشرهٍ كان كالذي يأكل ولا يشبع)).
وفي لفظ: ((لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحدٌ منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته)).
رواهما مسلم.(1/361)
814- وقد كره -عليه السلام- كثرة المسألة مع إمكان الصبر والتعفف.
815- وذكر بعض أصحابنا: الأولى لمن أبيح له السؤال أن يعدل إلى رفع قصةٍ أو مراسلة.
قال مطرف بن الشخير فيمن له إليه حاجة: ليرفعها في رقعةٍ ولا يواجهني بها، فإني أكره أن أرى في أحدكم ذل المسألة. وكذا روي عن يحيى بن خالد بن برمك. وتمثل فقال:
ما اعتاض باذلٌ وجهه بسؤاله ... عوضاً ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخف كل نوال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً ... فابذله للمتكرم المفضال
816- قلت: المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
- سؤال صدقةٍ وجوارٍ وأخوة، كسؤال الإخوان الحاجة ونحوها. فهذا يباح.
- الثاني: سؤال السؤال للأخذ. وهو سؤال الأدنى الأعلى. فمن ملك ما يقوم به حرم، كما تقدم، وإلا فلا.
- الثالث: سؤال العبودية والانكسار، فلا يباح إلا لله عز وجل.
قال ابن رجب: واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلاً وشرعاً، وذلك من وجوهٍ متعددة:(1/362)
- منها: أن السؤال فيه بذلٌ لماء الوجه، وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، ولا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة.
وكان الإمام أحمد -رضي الله عنه- يقول: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك.
ولهذا كان عقوبة من أكثر من المسألة لغير حاجةٍ أن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم؛ لأنه أذهب عن وجهه صيانته في الدنيا فأذهب الله تعالى من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي، فيصير عظماً بغير لحم، ويذهب عزه وجماله المعنوي فلا يبقى له عند الله وجاهة.
- ومنها: أن السؤال عبوديةٌ عظيمة، لأنها إظهار الافتقار إليه، والاعتراف بقدرته على قضاء الحوائج. وفي سؤال المخلوق ظلم، لأن المخلوق عاجزٌ عن ذلك. قال أبو العتاهية:
لا تسألن أخاك يوماً حاجةً ... وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبنو آدم حين يسأل يغضب
فاجعل سؤالك للإله فإنما ... في فضل نعمة ربنا نتقلب
وأنشد الشيخ موفق الدين:
لا تسأل الناس واسأل رازق الناس ... فاليأس منهم غنىً فاستغن بالياس
واسترزق الله مما في خزائنه ... فإن ربك ذو فضلٍ على الناس
فليس للناس أن يعطوك خردلةً ... ولا يعيذوك من فقرٍ وإفلاس(1/363)
فصل [فروع في المسألة]
817- لا يأثم بامتناعه عن المسألة:
وذكر القاضي في كتاب ((الروايتين)): إذا امتنع المسكين عن المسألة، فمات، هل يأثم أم لا؟.
فالظاهر كلام أحمد يقتضي روايتين: إحداهما: لا يأثم.
قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: الرجل يكون مع القوم، فيحتاج، ويقدر على الميتة والمسألة، أيهما أفضل؟.
قال: يأكل الميتة وهو مع الناس؟ هذا يشنع.
قيل له: فإن اضطر إلى الميتة؟ قال: هي مباحة.
قيل له: فإن تعفف؟ فقال: ما أظن أحداً يموت من الجوع، الله يأتيه برزقه. ثم ذكر حديث أبي سعيد: ((من استعف أعفه الله)).(1/364)
قال القاضي: وظاهر هذه أنه لا إثم عليه بترك ذلك، لأنه قال: فإن تعفف؟ [قال]: ما أظن أحداً يموت من الجوع، الله يأتيه برزقه.
ونقل محمد بن حمران العطار: سمعت أبا عبد الله وقد .. في مسجد باب التبن قنطرة التبانين، قال: فصلى خلف جماعة، فسمعت رجلاً من الصف الثاني أو الثالث وهو قاعدٌ فقال: تصدقوا علي. فسمعته وهو يقول: أيها الشاب، قم قائماً -عافاك الله- حتى يرى إخوتك ذل المسألة في وجهك، فيكون لك عذرٌ عند الله عز وجل.
قال القاضي: ظاهر هذا أنه إن ترك ذلك أثم؛ لأنه أمره بالقيام حتى يعرف، وأن ذلك يكون عذراً، ولا يكون العذر إلا في ترك واجب.
وقال أبو داود الطائي: كنت عند أحمد بن حنبل وجاءه رجلٌ فقال له: يا أبا عبد الله، الرجل يكون عطشان بين الناس فلا يستسقي؟ فأظنه قال: في الورع ما يكون أحمق.
قال القاضي: وظاهر هذا الإنكار عليه في ترك طلب الماء.
818- وهل يباح أن يسأل لغيره المحتاج؟.
نقل محمد بن داود: لا يعجبني أن يتكلم لنفسه، فكيف لغيره؟ التعريض أعجب إلي.
ونقل المروذي وجماعة: لا، ولكن يعرض. ثم ذكر حديث الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وحث على الصدقة، ولم يسأل.
زاد في رواية محمد بن أبي حرب: ربما سأل رجلاً فمنعه فيكون في نفسه عليه.(1/365)
ونقل المروذي أنه قال لسائل: ليس هذا عليك. ولم يرخص له أن يسأل.
ونقل حربٌ وغير واحدٍ أنه رخص في ذلك.
وفي مسائل ابن هانئ: سئل عن رجلٍ يصحب الرجل وهو محتاج، أيسأله؟.
قال: لا يعجبني أن يسأله، ويعرض كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال صاحب المحرر: هل يكره أن يسأل للمحتاج أم لا؟ على روايتين.
ونقل المروذي عن أحمد أن رجلاً سأله عن امرأةٍ مات زوجها بالثغر وليس لها ثم أحد، فترى أن أكلم قوماً يعينوني حتى أجهز عليها وأجيء بها؟.
قال: ليس هذا عليك. ولم يرخص له أن يسأل.
ونقل حرب عنه في الرجل يقوم في المسجد فيسأل للرجل فيجمع له دراهم؟ فرخص فيه. وذكر أن شعبة كان يفعل ذلك.
وكذا نقل عنه إبراهيم ويعقوب.
819- ونقل أبو طالب عن أحمد في الرجل يسأل الرجل الحذاء، والإسكاف الشسع؟ قال: لقد شددت.
قال عبد الله: كأنه لم يره مسألة.(1/366)
ونقل حربٌ ويعقوب عنه في الرجل يمر بالرجل فيسأله الشسع لنعله؟ فكأنه لم يرخص في شيء منه.
قال يعقوب: وكأنه كرهه. ولم يرخص في شيءٍ منه.
وقال الفضل بن زياد وإبراهيم بن هانئ: كان أبو عبد الله لا يرخص في مسألة الشسع.
قال بعض أصحابنا: مسألة الشيء اليسير على رواياتٍ عن أحمد: أحدها يجوز، والثانية يكره، والثالثة يحرم.
820- ونقل جعفر عن أحمد في الرجل يستعير الشيء: لا يكون مسألة.(1/367)
فصل [قبول المال من غير مسألة ورده، وجائزة السلطان]
821- ما جاءه من مالٍ أو غيره بلا مسألةٍ ولا إشراف نفسٍ منه وجب عليه أخذه. نقل الأثرم على أن يأخذه، ويضيق عليه أن يرده.
قال أبو بكر في ((التنبيه)) وصاحب ((المستوعب)): لأمره عليه السلام له بأخذه.
وقد احتج به أحمد أيضاً، وقال: هذا إذا كان من مالٍ طيب.
ونقل جماعةٌ عنه: أخاف أن يضيق عليه رده.
وقيل: يستحب ولا يجب. قواه صاحب ((النظم)) و((الحاوي)).
قال صاحب ((الحاوي)): والأقوى عندي عدم الوجوب.
وذكره غيرهما رواية عن أحمد.(1/368)
وعن أحمد رحمه الله: يباح الرد.
وعنه: يخير بين الأخذ والرد.
نقل إسحاق بن إبراهيم: لا بأس -إذا كان عن غير استشرافٍ- أن يرد أو يأخذ، هو بالخيار.
وكذا ترجم عليه الخلال أن القبول مباحٌ من غير استشراف. وعن أحمد أنه رد ذلك.
وذكر أبو الحسين في كراهة الرد روايتين.
وذكر صاحب ((المحرر)) رواية: يجوز الرد.
822- وذكر ابن الجوزي في ((المنهاج)) أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة إليه، إذا سلم من الشبهة والآفات، فإن الأفضل أخذه.
وما ذكره من سلامته من الشبهة يؤخذ من كلام غيره لأنه مكروه، ولا قبول لمكروه.
823- قال إسحاق بن راهويه: لما خرج أحمد بن حنبل إلى عبد الرزاق، انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء. وقد كان أصحابه عرضوا عليه المواساة فلم يقبل من أحدٍ شيئاً.
824- وقال عبد الرزاق: قدم علينا أحمد بن حنبل ها هنا فأقام سنتين إلا شيئاً، فقلت له: يا أبا عبد الله، خذ هذا الشيء فانتفع به، فإن أرضنا ليست أرض متجرٍ ولا مكسب. وأرانا عبد الرزاق كفه ومدها فيها دنانير. فقال أحمد: أنا بخير. ولم يقبل مني.
825- وقال أحمد بن سنان الواسطي: بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خبازٍ على طعامٍ أخذ منه عند خروجه من اليمن، وأكرى نفسه من(1/369)
ناسٍ من الجمالين عند خروجه، وعرض عليه عبد الرزاق دراهم صالحةً فلم يقبلها.
826- وقال أحمد بن منصور الرمادي: سمعت بحراً البقال يقول، وكان عندنا في قرية عبد الرزاق، وذكر أحمد بن حنبل، فقال: ما فعل؟ فقلت له: وما يدريك من أحمد؟.
فقال: كان عندنا ها هنا، فلما خرج أصحابه تخلف من بعدهم، فمر بي فقال: يا بحر، لك عندي درهم، خذ هذه النعل، فإن بعثت إليك من صنعاء بالدرهم، وإلا فالنعل بالدرهم، أرضيت؟ قلت: نعم. ومضى.
فأخبرت همام ابن أخت عبد الرزاق، فقال: ويحك، لأي شيءٍ أخذت النعل منه؟.
827- وذكره عبد الرزاق مرةً فدمعت عيناه وقال: قدم، وبلغني أن نفقته نفدت، فأخذت عشرة دنانير، وأقمته خلف الباب، وما معي ومعه أحد، وقلت: لا تجتمع عندنا الدنانير، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها، فأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ عندنا شيء.
فتبسم وقال لي: يا أبا بكر، لو قبلت شيئاً من الناس قبلت منك، ولم يقبل.
828- وقال عبد الله بن أحمد: حدثني أبي قال: عرض علي يزيد بن هارون خمسمائة درهم، أو أكثر أو أقل، فلم أقبل منه. وأعطى يحيى بن معين وأبا مسلم المستملي فأخذا منه.(1/370)
829- وقال حمدان بن سنان الواسطي: قدم علينا أحمد بن حنبل ومعه جماعة، فنفدت نفقاتهم، فبررتهم فأخذوا، وجاءني أحمد بفروةٍ فقال: قل لمن يبيع هذه ويجيئني بثمنها فأتسع به.
قال: فأخذت صرة دراهم، فمضيت بها إليه فردها.
فقالت امرأتي: هذا رجلٌ صالحٌ لعله لم يرضها، فأضعفها.
فأضعفتها فلم يقبل. وأخذ الفروة مني وخرج؟.
830- قال إسحاق بن إبراهيم بن حسان: حدثني رجلٌ كان رقيقاً لأبي عبد الله بواسط على باب يزيد بن هارون، فجاءه أبو عبد الله بجبةٍ يبيعها في هذا البرد، قال: فلم أزل به حتى صرفته عن بيعها. ثم صرت إلى يزيد بن هارون فقلت: يا أبا خالد، إن أحمد بن حنبل جاءني بجبته لأبيعها له في هذا البرد. فقال لجاريته: زني مائة درهمٍ وهاتيها. فدفعها إلي وقال: ادفعها إليه.
فجئت بها إليه فقلت: هذه بعثها أبو خالد. فقال: إني لمحتاجٌ إليها وإني لابن سبيل، ولكن لا أحب أن أعود نفسي هذا. ردها عليه.
فرددتها إليه، فدفع إلي جبته، فبعتها له.
831- وقال صالح بن أحمد: جاءتني حسن فقالت: يا مولاي، قد جاء رجلٌ بتليسةٍ فيها فاكهةً يابسةٌ وهذا الكتاب.
قال صالح: فقمت فقرأت الكتاب، فإذا فيه: يا أبا عبد الله، أبضعت لك بضاعةً إلى سمرقند، فوقع فيها كذا وكذا، ورددتها فوقع فيها كذا وكذا، وقد بعثت بها إليك أربعة آلاف درهمٍ وفاكهةً أنا لقطتها من بستاني، ورثته عن أبي، وأبي عن أبيه.(1/371)
قال: فجمعت الصبيان، فلما دخل علينا عليه وقلت له: يا أبه، ما ترق لي من أكل الزكاة؟ ثم كشفت عن رأس الصبية وبكيت، فقال: من أين علمت؟ دعني حتى أستخير الله الليلة.
قال: فلما كان من الغد قال: يا صالح صني، فإني قد استخرت الله الليلة فعزم لي أن لا آخذها.
قال: وفتح التليسة وفرقها على الصبيان، وكان عنده ثوبٌ عشاري فبعث إليه ورد المال.
قال صالح: فبلغني أن الرجل اتخذه كفناً.
832- وقال عبد الله بن أحمد: حدثني علي بن الجهم قال: كان لنا جار، فأخرج إلينا كتاباً، فقال: أتعرفون هذا الخط؟ قلنا: نعم، هذا خط أحمد بن حنبل، كيف كتب لك؟ قال: كنا بمكة مقيمين عند سفيان بن عيينة، ففقدنا أحمد بن حنبل أياماً لم نره، ثم جئنا إليه لنسأل عنه، فقال لنا أهل الدار التي هو فيها: هو في ذلك البيت، فجئنا إليه والباب مردودٌ عليه وإذا عليه خلقان، فقلنا له: يا أبا عبد الله، ما خبرك؟ لم نرك منذ أيام؟ فقال: سرقت ثيابي. فقلت له: معي دنانير، فإن شئت خذ قرضاً وإن شئت صلة، فأبى أن يفعل، فقلت: تكتب لي بأجرة؟ قال: نعم، فأخرجت ديناراً فأبى أن يأخذه وقال: اشتر لي ثوباً واقطعه نصفين، فأومأ إلى أنه يأتزر بنصف ويرتدي بالنصف الآخر، قال: جئني ببقيته. ففعلت وجئت بورقٍ فكتب لي، فهذا خطه.
833- وفي رواية: أنه رأى بيد رجلٍ من أهل الربض كتاباً بخط أبي عبد الله، قال: فقلت له: من أين لك دفتر أحمد بن حنبل؟ فقال لي: يا أبا الحسن، وتعرف خطه؟ قلت: نعم، فقال: ليس هذا دفتر أحمد بن(1/372)
حنبل ولكنه دفتري بخطه. فقلت له: وكيف صار هذا هكذا؟ فقال لي: كنا عند ابن عيينة سنةً من السنين، ولم يكن من أهل الربض تلك السنة مقيماً على ابن عيينة غيري وغيره، ففقدته أياماً، فسألت عنه، فدللت على موضعه، فجئت فإذا هو في شبيهٍ بكهفٍ [في جياد] على بابه قفص، فقلت: السلام عليكم. فقال لي: وعليكم السلام. فقلت: أدخل؟ فقال: لا. ثم قال لي: ادخل فدخلت فإذا عليه قطعة لبدٍ خلق، فقلت: لم حجبتني؟ قال لي: حتى استترت، فقلت له: ما شأنك؟ فقال: سرقت ثيابي.
فبادرت إلى منزلي فجئت بصرةٍ فيها مائة درهم، فعرضتها عليه فامتنع، وسألته أن يقبلها قرضاً فأبى علي، حتى بلغت عشرين درهماً، كل ذلك يأبى علي، فقمت مولياً وقلت: ما يحل لك أن تقتل نفسك وأنا أعرض عليك فلا تقبل! فقال لي: ارجع.
فرجعت، فقال لي: أليس قد سمعت معي من ابن عيينة سماعاً كثيراً؟ فقلت: بلى، فقال: أتحب أن أنسخه لك؟ قال: فقلت: نعم؛ فقال لي: اشتر ورقاً وجئني به، فكتب بدراهم ذكر مبلغها، فاكتسى منها ثوبين باثني عشر درهماً، وأخذ الباقي نفقة.
834- وقال إسماعيل بن أبي الحارث: كان عندنا شيخٌ مروزي، فجاء إليه أحمد بن حنبل ثم خرج، فقلت له: في أي شيءٍ جاءك أبو عبد الله؟ فقال: هو لي صديقٌ وبيني وبينه أنس، وتلكأ أن يخبرنا، فألححنا عليه فقال: كان استقرض مني مائتي درهم أو ثلاث مائة درهم، فجاءني بها، فقلت: يا أبا عبد الله، ما دفعتها وأنا أنوي أن آخذها منك، فقال: وأنا ما أخذتها إلا وأنا أنوي أن أردها إليك.
835- وقال صالح بن أحمد: دخلت على أبي في أيام الواثق -والله(1/373)
يعلم في أي حالةٍ نحن- وقد خرج لصلاة العصر، وكان له لبدٌ يجلس عليه، قد أتت عليه سنونٌ كثيرةٌ حتى قد بلي، فإذا تحته كتابٌ كاغد، وإذا فيه بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق، وما عليك من الدين، وقد وجهت إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان لتقضي بها دينك، وتوسع بها على عيالك، وما هي من صدقة ولا زكاة، وإنما هو شيءٌ ورثته من أبي.
فقرأت الكتاب، ووضعته، فلما دخل قلت: يا أبه، ما هذا الكتاب؟ فاحمر وجهه وقال: رفعته منك، ثم قال: تذهب بجوابه. فكتب إلى الرجل: وصل كتابك إلي ونحن في عافية، فأما الدين فإنه لرجل لا يرهقنا، وأما عيالنا فهم في نعمة الله والحمد لله.
فذهبت بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فقال: ويحك، لو أن أبا عبد الله قبل هذا الشيء، ورمى به مثلاً في دجلة كان مأجوراً، لأن هذا الرجل لا يعرف له معروف.
فلما كان بعد حين ورد كتاب الرجل بمثل ذلك، فرد عليه الجواب بمثل ما رد. فلما مضت سنةٌ أو أقل أو أكثر ذكرناها، فقال: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت.
ورواها الخلال وذكر أن الموجه [إليه] الحسن بن عيسى [بن ماسرجس] مولى ابن المبارك.
836- وقال محمد بن سعيد الترمذي: قدم صديقٌ لنا من خراسان فقال: إني أبضعت بضاعة ونويت أن أجعل ربحها لأحمد بن حنبل، والربح عشرة آلاف درهم، فاحملها إليه، قال: قلت: حتى أذهب إليه فأنظر كيف الأمر عنده؛ فذهبت إليه فسلمت عليه وقلت له: فلان، فإذا هو عارفٌ به؛ فقلت له: إنه أبضع بضاعةً وجعل ربحها لك، وهي عشرة(1/374)
آلاف درهم، فقال: جزاه الله عنا خيراً، نحن في غنىً وسعة. فأبى أن يأخذها رحمه الله.
ورواها الخلال عن المروذي وسمى الرجل محمد بن سليمان السرخسي، وقال فيها: فراجعه فقال: دعنا نكن أعزاء.
837- وقال محمد بن موسى البربري: حمل إلى الحسن بن عبد العزيز الجروي ميراثه من مصر مائة ألف دينار، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس، في كل كيسٍ ألف دينار، فقال: يا أبا عبد الله، هذه من ميراثٍ حلال، خذها فاستعن بها على عائلتك، قال: لا حاجة لي فيها، أنا في كفاية. فردها، ولم يقبل منها شيئاً.
838- وقال صالح: شهدت ابن الجروي أخا الحسن وقد جاء أبي بعد المغرب فقال: أنا رجلٌ مشهور، وقد أتيتك في هذا الوقت وعندي شيءٌ قد أعددته لك، فأحب أن تقبله وهو ميراث. فلم يزل به، فلما أكثر عليه قام ودخل. قال صالح: فأخبرت عن الحسن: قال لي أخي: لما رأيته كلما ألححت عليه ازداد بعداً، قلت: أخبره كم هو. قلت: يا أبا عبد الله، هو ثلاثة آلاف دينار. فقام وتركني. زاد صالح: وقال لي يوماً: أنا إذا لم يكن عندي قطعة أفرح.
839- وقال ابن الجروي: ذهبت إلى أحمد بن حنبل فقلت: هذه ألف دينار اشتر بها غلة للصبيان، فأبى أن يقبلها، قال: وكان يكرمني: فلما قلت له ذلك قال: أحب إذا كانت لك حاجة لا تجيء، فإن أردت أن تسألني عن شيءٍ فأرسل إلي: فحرمت نفسي.
840- وقال صالح: كنت عند أبي يوماً فدعاني النساء، فقلن: قل لأبيك ليس عندنا دقيق -أو قال: خبز- فقلت له: فقال: الساعة، ثم أبطأ(1/375)
عليهن فعاودنني، فقلت له، فقال: الساعة، فبينا نحن في ذلك إذا برجلٍ يدق الباب، فخرجت إليه، فإذا رجل خراساني يشبه الفيج على كتفه عصاً فيها جراب؛ فقلت له: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي إلى أحمد بن حنبل، فدخلت فأخبرته، فقال: عد إليه فقل له: فيم قصدت؟ في مسألةٍ؟ في حديث؟ فقال: ما قصدت في مسألةٍ ولا حديث. فقلت له؛ فقال: أدخله، فدخل الرجل فوضع العصا والجراب ثم قال له: أنت أحمد بن حنبل؟ قال: نعم؛ قال: أنا رجل من أهل خراسان، مرض جارٌ لي فعدته، فقلت له: هل لك من حاجة؟ فقال: هذه خمسة آلاف درهم تأخذها وتوصلها إلى أحمد بن حنبل بعد وفاتي، فقد قصدتك بها من خراسان. فقال له: بيننا وبين هذا الرجل قرابة؟ قال: لا. قال: فبيننا وبينه رحم؟ قال: لا؛ قال: فبيننا وبينه نعمة يربها؟ قال: لا؛ قال: ضمها رحمك الله. فراده فخشن له أبي، فحمل المال وانصرف.
فلما كان بعد مدةٍ كان جالساً بين الكتب، فنظر فيها فرفع رأسه فقال: تدري يا صالح منذ كم كان الخراساني عندنا؟ قلت: لا. قال: له اليوم أحدٌ وستون يوماً، هل جعتم فيها أو فقدتم شيئاً؟.
841- وقال فوران: مرض أبو عبد الله فعاده الناس -يعني قبل المئتين- وعاده علي بن الجعد، فجعل عند رأس أبي عبد الله صرة. فقلت له: إن علياً قد جعل عند رأسك هذه الصرة، فقال: كما رأيته فاذهب فردها إليه. قال: فذهبت فرددتها.
842- وقال صالح بن أحمد: قال فوران أبو محمد لأبي: عندي خف أبعث به إليك. فسكت؛ فلما عاد إليه أبو محمد قال: يا أبا محمد، لا تبعث بالخف، فقد شغل قلبي علي.(1/376)
843- قال صالح: ووجه رجلٌ من الصين بكاغد صيني إلى جماعةٍ من المحدثين فيهم يحيى وغيره، ووجه بقمطر إلى أبي فرده.
844- قال صالح: وقال لي أبي: جاءني ابن يحيى بن يحيى؛ وما خرج من خراسان بعد ابن المبارك رجلٌ يشبه يحيى بن يحيى؛ فجاءني ابنه فقال: إن أبي أوصى بمبطنةٍ لك، وقال: يذكرني بها. فقلت: جئني بها. فجاء برزمة ثياب، فقلت له: اذهب رحمك الله. يعني ولم يقبلها.
845- وقال ابن نيزك: كنت أتبع أحمد ويحيى فيمضون إلى سعدويه -أو قال غيره- فاتخذ لهم طعاماً، فلما فطن أحمد لذلك قال: قد قرب وقت الصلاة، وخرج. فما جسر واحدٌ منهم أن يكلمه، فجاء إلى سقاية فيها حب ماء، فأخرج فتيتاً معه في خرقة، وأخذ كوزاً من الحب وجعل يستفه ويشرب عليه الماء، وصلى الظهر، ثم جاء فاستأذن ودخل، وقد طعموا وصلوا، فقعد يكتب.
846- وقال حميد بن الربيع: قال أبو عبد الله يوماً لأصحاب الحديث: من منكم منزله في الكرخ؟ فقال له فتى: أنا يا عبد الله، فقال له: تلبث فإن لنا حاجة؛ فأخرج أبو عبد الله دراهم وقال: اشتر لنا بهذه ورقاً حتى تجيء به معك إذا جئت. قال: فاشترى الفتى ورقاً، وحشا في دسوت الورق دنانير. وجاء به إلى أبي عبد الله فأعطاه، وانقطع الفتى من المجيء، ففتح أبو عبد الله الورق فجعلت الدنانير تتناثر، فجمعها وجعل يقول لأصحاب الحديث: من منكم يعرف الفتى الذي اشترى لي ورقاً؟ فقال له رجل: أنا أعرف منزله، قال: فتلبث ها هنا، فإن لي حاجةً. وحمل أبو(1/377)
عبد الله الدنانير ومضى معه، فلما صار إلى قطيعة الربيع إذا الفتى قاعدٌ، فقال له الرجل: هذا صاحبك يا أبا عبد الله؟ فقال له أبو عبد الله: انصرف أنت. ثم جاء فسلم ووضع الدنانير في حجره وانصرف.
847- وقال أبو جعفر التستري: كان غلامٌ يختلف إلى أحمد بن حنبل، فناوله يوماً درهمين، فقال: اشتر به كاغداً، فخرج الغلام فاشترى له وجعل في جوف الكاغد خمس مائة دينار، وشده وأوصله إلى بيت أحمد، فسأل أحمد أهل بيته: أحمل شيءٌ من البياض؟ فقالوا: نعم، فوضع بين يديه، فلما أن فتحه تناثرت الدنانير، فردها في مكانها، وسأل عن الغلام حتى دل عليه، فوضعه بين يديه، فتبعه الغلام وهو يقول: الكاغد اشتريته بدراهمك خذه، فأبى أن يأخذ الكاغد أيضاً.
848- وقال المروذي: أخبرت أن أبا بكر المستملي لما قدم بأبي عبد الله من الثغر، خرج معه يخدمه، قال: فنزلنا في بعض المنازل، فإذا بعض إخوانه قد أرسل إليه بمئة دينار، وقال تنفقها يا أبا عبد الله في سفرك، فردها، فقال له: يا أبا عبد الله، أنا معيلٌ ورجلٌ من أهل الثغر، فدعني آخذها؛ قال: ويحك؛ إن عطيتهم أول مرةٍ ليست مثل الثانية، فدعنا نكن في عز, فردها ولم يقبلها.
849- وقال عبد الله: دق علينا الباب ليلةٍ دقاً خفيفاً، ففتحت، فإذا إنسانٌ قد وضع خواناً كبيراً عليه منديل أبيض، وقال: خذ هذا. ومر مبادراً؛ وكانت مائدةً كبيرة، فأدخلتها فوضعتها قدام أبي، فقال: أي شيءٍ هذا؟ من منزل أبي محمد؟ -يعني فوران-، قلت: لا، قال: من أين؟ من جاء به؟ قلت: وضعه ومر، وإذا طعام سري فيه جامات حلواء قد أنفق عليه دراهم كثيرة. فسكت ساعةً يفكر ثم قال: ابعث منه إلى منزل عمك،(1/378)
وصبيان صالح -وأومأ إلى الجارية والصبيان- وخذ أنت. قال عبد الله: ثم علمت بعد من أين جاء.
وكان قوم يهدون إليه فلا يصيب منه شيئاً، وكان عبدوس العطار ربما وجه إلينا بالشيء فلا يذوق منه.
850- وقال أحمد: جائزة السلطان خيرٌ من صلة الإخوان.
وذكر غير واحد: يجب قبول الصلة ما لم تكن من محرم، وقاله ابن حزم. قال: لأنه داخلٌ في وجوب النصيحة، فإن طابت نفسه عليه فحسن، وإن اتقاه فليصدق به، فيؤجر على كل حال.
ثم من الجهل استسهال .. يأخذ مال زيد ببيعٍ أو أجرة، ثم يتجنبه إذا أعطاه إياه بطيب نفس.
ثم احتج بقوله عليه السلام: ((من رغب عن سنتي فليس مني)).
قال: وكان مالكٌ والشافعي لا يردان ما أعطيا.
وظاهر كلام أصحابنا أن جائزة السلطان كغيرها.
وقد شدد أحمد فيها، وهجر عمه وولده لأجلها.
قال بعض أصحابنا: إنما شدد فيها لأجل الشبهة.
وقال في شرح مسلم: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور: يستحب القبول في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان: فحرمها قوم، وأباحها قوم، وكرهها قوم.(1/379)
قال: والصحيح: إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت، وإلا أبيح إن لم يكن في القابض مانعٌ من الاستحقاق.
وأوجب طائفةٌ الأخذ من السلطان وغيره.
واستحبه آخرون في عطية السلطان دون غيره.
851- ولم يقبل أحمد جوائز السلطان. وكذا لم يقبلها جماعةٌ من أصحابه، منهم إبراهيم الحربي، وردها، فرجع إليه الرسول فقال: يقول لك: فرقها على من تعرف. فقال: هذا شيءٌ لم نشغل أنفسنا بجمعه فلا نشغلها بتفريقه.
وقال لولده صالح: أحب أن تدع هذا الرزق، فلا تأخذه ولا توكل فيه أحداً. فلما خالفه هجره وسد الباب بينه وبينه.
وهجر ولده عبد الله أيضاً لأجل ذلك. وهجر عمه، وسد الأبواب بينه وبينهم، وتحامى منازلهم أن يدخل منها إلى منزله شيء. وكان قبل ذلك يأكل عندهم ويأكل من أموالهم.
وقال لعمه لأجل ذلك: يا عدو الله، نافقتني وكذبتني. وترك الصلاة خلفه!.
وأنكر عليهم مرةً وأمرهم برده وقال لهم: لم تأخذونه والثغور معطلةٌ غير مشحونة، والفيء غير مقسومٌ بين أهله؟.
وجاءه مرةً رطبٌ من قبل المتوكل فلم يطعم منه.
وقال عبد الله: دخل علي أبي رحمه الله في مرضي يعودني، فقلت: يا أبت، عندنا شيءٌ قد بقي مما كان سير به المتوكل أفتلج منه؟ قال:(1/380)
نعم. قلت: فإذا كان هذا عندك هكذا، فلم لم تأخذ؟ قال: يا بني ليس هو عندي حرام، إنني تنزهت عنه.
852- وإن استشرفت نفس الإنسان إلى ما بذل له من السلطان وغيره، بأن قال: سيبعث لي فلان، أو لعله يبعث لي، وإن يتعرض أو يعرض قلبه عسى أن يفعل: فلا بأس بالرد. ذكره جماعة.
قال إبراهيم بن هانئ: سمعت أبا عبد الله وسئل عن حديث عمر -رضي الله عنه- في الاستشراف، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((ما آتاك الله من هذا المال من غير مسألةٍ ولا إشراف نفس، فخذه وتموله)).
قال أبو عبد الله: وإشراف النفس أن يقول: يبعث إلي فلانٌ بكذا وكذا. ولا بأس أن يأخذه إذا كان من غير إشراف نفس. وله أن يرد أو يأخذ، هو بالخيار، وإذا كان عن إشراف نفسٍ فلا يأخذ.
وزاد أو داود من أصحابه: كأنه اختار الرد.
ونقل المروذي: ردها.
وقال الأثرم: فليس عليه أن يرده كما يرد المسألة؟ قال: ليس عليه.
وسأله جعفر: يحرم أخذه؟ قال: لا.(1/381)
ونقل إسحاق بن إبراهيم: لا يأخذه.
قال صاحب ((المحرر)): هذا للاستحباب.
وذكر أبو الحسين أنه لا تختلف الرواية أنه لا يحرم لعدم المسألة.
وقال أبو بكر في ((التنبيه)) وصاحب ((المستوعب)): إن استشرفت نفسه له أن يرده، وإن أخذه لم يحرم.
وفي ((الرعاية)): يكره أخذه. وقيل: رده أولى.
قال بعض أصحابنا: وقد دلت رواية الأثرم وكلام أبي الحسين وغيرهما أنه يحرم بالمسألة لتحريم سببه، وهو السؤال، وفاقاً للشافعية وغيرهم. ولهم وجهٌ ضعيف: لا يحرمان.
853- قال في شرح مسلم: بشرط أن لا يذل ولا يلح ولا يؤذي المسؤول، وإلا حرم اتفاقاً.
وسئل أحمد عن الرجل يكون له الكرم، فيقول الرجل له أيضاً: أطعمني من كرمك، أو اهد لي من أرضك؟ قال: هذه مسألةٌ لا تعجبني أن يسأله.
وقال إبراهيم بن هانئ: سمعته يقول: إبراهيم بن أدهم روى عن شعبة أنه قال: من صلى في المسجد فقام فأعطوه شيئاً فقد ألح في المسألة.
854- وقال إبراهيم بن هانئ: قلت -يعني لأحمد-: ما معنى: ((إن الله عز وجل يكره عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات))؟.(1/382)
قال: تمنع ما عندك وتمسك، ولا تصدق ولا تعطي، وتمد يدك تأخذ من الناس.
855- ومن أعطي شيئاً ليفرقه، فهل الأولى له أخذه أو عدمه؟.
حسن أحمد رحمه الله عدم الأخذ في رواية، وأخذ هو وفرقه في روايةٍ أخرى. فذكر بعض أصحابنا ذلك على روايتين. وقد يكون أخذه لصالح الدافع، وعدم الأخذ لعلةٍ في ذلك.(1/383)
فصل [الأكل مما يشتبه في حله]
856- مال غيره إن اعتقد حله أبيح الأكل منه، وإن اعتقد تحريمه حرم الأكل منه. وإن جهله: فذكر بعضهم: يباح أكله. وعندي هو أقسام:
- فتارةٌ يكون جهلاً مطلقاً فيباح.
- وتارةٌ يشك فيخير.
- وتارةٌ يظن فيه الحرام فيحرم.
وقال صاحب ((الفروع)): إن شك في تحريم المال: فإن كان أصله التحريم فمحرم، وإن كان أصله الإباحة أبيح، وإن لم يعرف أصله: فإن علم فيه حلالاً وحراماً فعلى أقوال.
وذكر الشيخ وغيره ثلاثة أقوال: هل يباح الأكل أو يحرم، أو إن غلب الحرام.
وقطع شرف الإسلام ابن أبي الفرج في كتابه ((المنتخب)) بالتحريم.(1/384)
وقال الأزجي في ((نهايته)): هذا قياس المذهب. وقال أحمد: لا يعجبني أن يأكل منه.
857- وسأل المروذي أبا عبد الله عن الذي يعامل بالربا: يؤكل عنده؟ قال: لا، لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند الشبهة. ومراده حديث النعمان بن بشير.
858- وقال أنس: إذا دخلت على مسلمٍ لا يتهم، فكل من طعامه واشرب من شرابه.
859- وعن الحسن بن علي مرفوعاً:
((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
860- وفي صحيح البخاري: قال حسان بن أبي سنان: ما رأيت أهون من الورع! دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
قال شيخنا ابن قندس مرة: صدق! هذا حلالٌ فكله، وهذا حرامٌ فلا تأكله.
قلت: أما أنا فأرى هذه الكلمة قاطعة الظهر. فإنها تقتضي أن كل ما(1/385)
حصل للإنسان منه ريبةٌ يتركه. ولهذا قال بعض السلف: لا يترك الحرام إلا بترك جزءٍ من الحلال.
وقال بعضهم: من أراد أكل الحلال ترك غالب الحرام.
861- وقدم صاحب ((الرعاية)): إن زاد الحرام على الثلث حرم الأكل، وإلا فلا.
وقطع ابن الجوزي في ((المنهاج)): إن كان الأكثر الحرام حرم، وإلا فلا.
وذكر أبو العباس بن تيمية: إن غلب الحرام هل تحرم معاملته أو تكره؟ على وجهين:
وقد نقل الأثرم وغير واحدٍ عن الإمام أحمد فيمن ورث مالاً: إن عرف شيئاً ببينةٍ رده، وإن كان الغالب على ماله الفساد تنزه عنه. أو نحو ذلك.
ونقل حربٌ عن أحمد في الرجل يخلف مالاً: إن كان غالبه نهباً أو رباً ينبغي لوارثه أن يتنزه عنه، إلا أن يكون .. .. يسيراً لا يعرف.
ونقل عنه أيضاً: هل للرجل أن يطلب من ورثة إنسانٍ مالاً مضاربةً ينفعهم وينتفع به؟ قال: إن كان غالبه الحرام فلا.
862- وقد أطلق جماعةٌ جواز الأكل. وقال بعضهم: مع الكراهة، وأن الكراهة تضعف بحسب قلة الحرام وكثرته. واختار ذلك الشيخ موفق الدين؛ لما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً:(1/386)
((إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاماً فليأكل من طعامه ولا يسأل عنه، وإن سقاه شراباً فليشرب من شرابه ولا يسأل عنه)).
وروى جماعةٌ عن ابن مسعود: أن رجلاً سأله فقال: لي جارٌ يأكل الربا ولا يزال يدعوني؟ فقال: مهناه لك وإثمه عليه.
قال الثوري: إن عرفته بعينه فلا تأكل.
وروى جماعةٌ عن سلمان قال: إذا كان لك صديقٌ عاملٌ فدعاك إلى طعامٍ فاقبله، فإن مهناه لك وإثمه عليه.
قال معمر: وكان عدي بن أرطاة -عامل [البصرة]- يبعث إلى الحسن كل يومٍ بخوان ثريد، فيأكل منها ويطعم أصحابه.
وبعث عدي إلى الشعبي وابن سيرين والحسن. فقبل الحسن والشعبي ورد ابن سيرين.
863- وسئل الحسن عن طعام الصيارفة فقال: قد أخبركم الله عن اليهود والنصارى أنهم يأكلون الربا وأحل طعامهم.
864- وقال منصور: قلت لإبراهيم النخعي: عريفٌ لنا يصيب من الظلم، فيدعوني فلا أجيبه؟.
فقال إبراهيم: للشيطان غرضٌ بهذا ليوقع عداوة، وقد كان العمال يهمطون ويصيبون، ثم يدعون فيجابون.
قلت: نزلت بعاملٍ فنزلني وأجازني؟ قال: اقبل.
قلت: فصاحب ربا؟ قال: اقبل ما لم تره بعينه.(1/387)
قال الجوهري: الهمط: الظلم.
وأطلق بعضهم الخلاف في الأكل من ماله في معاملته. وقال بعضهم: تباح معاملته.
وذكر ابن رجب في ((قواعده)): إذا اختلط مالٌ حلالٌ بحرام، وكان الحرام أغلب، فهل يجوز التناول منه أم لا؟ على وجهين؛ لأن الأصل في الأعيان الإباحة، والغالب هنا الحرام.
قال بعض أصحابنا: وكذلك حكم قبول صدقته وهبته وإجابة دعوته.
قال ابن الجوزي: إذا كان الأكثر الحرام يجب السؤال، وإن لم يكن فالورع التفتيش، ولا يجب. فإن كان هو المسؤول، وعلمت أن له غرضاً في حضورك وقبول هديته، لا ثقة بقوله.
وقد قوي للشيخ شمس الدين بن عبد الهادي جواز الأكل من عند الأمراء والسلاطين ونحوهم.
865- وذكر بعضهم: يستحب السؤال عن الأشياء: هل هي حلالٌ أو حرام؟.
وكذا إذا رأى في بيته شيئاً يسأل: من أين هو؟.
وكذا إذا قدم إليه طعام سأل: ما هو؟.
وأنكر بعضهم على السؤال، وقال: الأصل الإباحة، فيكره السؤال، كما لو سقط عليه ماءٌ من ميزاب.
فقلت أنا: بل يستحب ذلك لأدلة، منها ما في الحديث: أن أبا بكرٍ كان له غلامٌ يخرج [له] الخراج، وكان يأكل من خراجه، وكان كل ليلةٍ إذا أتاه بطعامه سأله: من أين هذا؟ فلما كان في ليلةٍ أتاه ولم يسأله، فقال له: ما لك؟ كنت تسألني كل ليلةٍ فلما كان الليلة لم تسألني؟!.(1/388)
قال: غلبني الجوع، ويحك! من أين هو؟!.
قال: كنت تكهنت لقومٍ ولا أحسن الكهانة، فلما كان اليوم لقيتهم فأعطوني هذا.
فأدخل يده فقاء كل شيءٍ في بطنه!.
ومنها ما في الصحيح: لما قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم الضب، وكان لا يأكل شيئاً حتى يخبر عنه، فقالت امرأة: أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم ما هو؟ [فقالوا]: هو الضب يا رسول الله.(1/389)
فصل [مال بيت المال وجوائز السلطان]
866- مال بيت المال: إن علمه حلالاً أو حراماً، أو علمهما فيه، فالحكم على ما سبق.
قال صاحب ((الفروع)): ولا يتجه إطلاق الحكم فيه، أي أن يقطع فيه بالحل أو التحريم.
وقطع بعضهم بذلك.
قال جماعةٌ من أصحابنا: يجوز العمل مع السلطان وقبول جوائزه. وقيده في ((الترغيب)) بالعادل. وقيده في ((التبصرة)) بمن غلب عدله، وأنها تكره في رواية.
وقيل للإمام أحمد في جائزته ومعاملته؟ قال: أكرهها، وجائزته أحب إلي. وقال: هي خيرٌ من صلة الإخوان، وأجرة التعليم خيرٌ منها. ذكره أبو العباس. وقال أيضاً: ليس بحرام. وقال أيضاً: يموت بدينه ولا يعمل معهم. يهجر ابنه ويحرجه إن لم ينته.
وقيل لأحمد: ترى أن يعيد من حج من الديوان؟ قال: نعم. وكذا معاملة الجندي وإجابة دعوته.
قال صاحب ((الفروع)): ومراده من تناول الحرام الظالم.
وامتنع جماعة من التابعين فمن بعدهم من بيت المال.(1/390)
وعلله بعض السلف بأن باقي المستحقين لم يأخذ. قاله ابن الجوزي. قال: وليس بشيء، لأنه يأخذ حقه ويبقى حق أولئك في مقام مظلوم، وليس المال مشتركاً. وقبل منه ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، والحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر -رضي الله عنهم- وجماعةٌ من التابعين، وغيرهم، ومالك، والشافعي، فقال: لحم ظبي ذكي.
قال ابن عبد البر: وكان الشعبي والنخعي والحسن وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان والفقهاء السبعة سوى سعيد بن المسيب يقبلون جوائز السلطان.
وكان الثوري -مع ورعه وفضله- يقول: هي أحب إلي من صلة الإخوان!.(1/391)
فصل [الصدقة أم الحج؟]
867- ويستحب للإنسان أن يتعاهد المنقطع، والغريب، والضعيف، والأعمى، والأرملة، والزمنى ونحوهم. وروى أبو هريرة مرفوعاً:
((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يقوم الليل ويصوم النهار)).
868- والصدقة المستحبة على القرابة والرحم أفضل من العتق. نقله حرب؛ لقوله عليه السلام لميمونة: ((لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)).
869- والعتق أفضل من الصدقة على الأجانب، إلا زمن الغلاء والحاجة. نقله بكر بن محمد وأبو داود.
870- وهل حج التطوع أفضل من صدقة التطوع؟.
سأل حرب أحمد: يحج نفلاً أم يصل قرابته؟ قال: إن كانوا محتاجين يصلهم أحب إلي.
قيل: فإن لم يكونوا قرابة؟ قال: الحج.(1/392)
وذكر أبو بكر -رحمه الله تعالى- روايةً أخرى عن أحمد -رحمه الله تعالى- أنه سئل عن هذه المسألة فقال: من الناس من يقول: لا أعدل بالمشاهد شيئاً.
وترجم أبو بكر فضل صلة القرابة بعد فرض الحج.
ونقل ابن هانئ في هذه المسألة: وإن [كان] قرابته فقراء؟ فقال أحمد: يضعها في أكبادٍ جائعةٍ أحب إلي.
قال صاحب ((الفروع)): فظاهره العموم.
وذكر أبو العباس بن تيمية أن الحج أفضل، وأنه مذهب أحمد.
وقد رأيت هذه المسألة منظومةً بخط القاضي برهان الدين بن التقي الحنبلي، وهي:
ماذا يقول أهل العلم في رجلٍ ... آتاه ذو العرش مالاً حج واعتمرا
فهزه الشوق نحو المصطفى أتروا ... الحج أفضل أم إيثار الفقرا
أم حجةٌ عن أبيه ذاك أفضل أم ... عن أمه ما الذي يا سادتي ظهرا
فأفتوا فديتكم عبدٌ يحبكم ... وذكركم دأبه إن غاب أو حضرا
الجواب:
نقول فيه بأن الحج أفضل من ... نفل التصدق والإعطاء للفقرا
والحج عن والديه فيه برهما ... والأم أسبق في البر الذي ذكرا
لكن إذا الفرض خص الأب كان ذا ... هو المقدم فيما يمنع الضررا
هذا جوابك يا هذا موازنةً ... وليس مفتيك معدوداً من الشعرا(1/393)
ثم رأيت هذه المسألة في مسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن الجواب له رضي الله عنه.
871- وفي ((المستوعب)): وصيته بالصدقة أفضل من وصيته بحج التطوع.
قال صاحب ((الفروع)): فيؤخذ منه أن الصدقة أفضل بلا حاجة.
وفي كتاب ((الزهد)) للإمام أحمد، عن الحسن قال: يقول أحدهم: أحج أحج، قد حججت، صل رحماً، تصدق على مغموم، أحسن إلى جار.
وفي كتاب ((الصفوة)) لابن الجوزي: إن الصدقة أفضل من الحج ومن الجهاد. وعلل بأنها سر لا يطلع عليها إلا الله عز وجل.
وعن أبي مسكين قال: كانوا يرون أنه إذا حج مراراً أن الصدقة أفضل.
وروى ابن أبي شيبة وغيره عن التابعين قولين: هل الحج أفضل من الصدقة؟.(1/394)
فصل [الحث على إجابة السائل]
872- من طلبت إليه حاجةٌ فلينظر في أمورٍ قبل قضائها:
ينظر أن السائل رآه محلاً لحاجته دون غيره، وأنه ظن فيه قضاءها، ولولا ذلك لم يأته.
وأنه يحبه، ولو أبغضه لم يأته.
وينظر ذله له وقيامه بين يديه وسؤاله إياه وذلته بين يديه، ثم يجعل نفسه محلاً لظنه وأهلاً لقضاء حاجته، وجبره بها، وإدخاله السرور عليه، واغتنام أجره ودعائه، وقضاء حوائج أخيه، وبلوغ درجة قضاء حوائج الإخوان وما فيها من الأجر، وبلوغ درجة الكرماء وأرباب السماحة، لا سيما وذلك يزيل الشحناء وينفي العداوة ويوجب المحبة، وربما جازاه بما هو أعظم منها، مع ما ينال من الثواب الزائد والأجر العظيم يوم القيامة من الله عز وجل.
وكثيرٌ من الناس تسمح نفسه عند السؤال فينعم، ثم يعرض له عارضٌ أو يندم، فيرجع عن ذلك، فيكون سبب الحرمان، فربما أجاب بالمنع عند إرادة الأخذ، فيحصل للسائل الغم الزائد [بدل] الفرح الزائد.(1/395)
وربما سوف بالمطل فحصل للسائل الاستهانة في التردد وكثرة الطلب، ثم كان بعد ذلك الكف. وقد قال بعض السلف: الرد الجميل خيرٌ من المطل الطويل.
873- وقد قرئ على النظام وأنا أسمع: أخبركم الحافظ أبو بكر بن المحب، أخبرنا المزي، أخبرنا ابن البخاري، أخبرنا ابن طبرزد، أخبرنا أبو بكر الأنصاري، أخبرنا ابن المهتدي بالله، أخبرنا ابن المأمون، أخبرنا ابن الأنباري، أنشدنا الحسن العنزي، أنشدنا العباس بن الفرج الرياشي، أنشدنا ابن عائشة للحطيئة:
أتينا نظهر الشكوى لجزءٍ ... كسنة غيرنا والناس ناس
على خيلٍ تساق بنا إليهم ... على من يجاذبنا دراس
فضاق بأمرنا وطرا عليه ... بحاجتنا نعاسٌ أو هلاس
فقلنا لا عليك فإن عوضاً ... إذا فقد الغنى حسبٌ وباس
أما في الأرض أسفل منك خصبٌ ... ومعتملٌ وليس عليك باس
سامت من المعالي لم تنلها ... وهن من أن تناولها شماس
فأنت بجانبٍ والعرف جنب ... وكل سامري لا مساس
فربما كان ذلك سبب هجوه والوقوع فيه بالكلام، ووسمه بميسم البخل.(1/396)
فصل [من حقوق الضيف]
874- قال أصحابنا: يجب على المسلم ضيافة المسلم المجتاز به في القرى دون الأمصار.
ونقل جماعةٌ عن أحمد: والذمي كذلك.
قال جماعةٌ من أصحابنا: إنما تجب إذا كان مسافراً، ولا تجب لحاضر.
وأطلق بعضهم في غير المسافر وجهين.
وأطلق بعض أصحابنا في المصر روايتين عن أحمد، وأن أحمد نص عليهما.
875- ويجب ضيافته ليلة. نص عليه أحمد. ونقل الجماعة عنه: ويوماً. واختاره الأكثر.
وقيل: تجب ثلاثة أيام، وأن ما فوقها صدقة.
وقال الأكثر: تجب يوماً وليلة، وتسن ثلاثاً، وما زاد صدقة.
فإن أبى أن يضيفه فله محاكمته. وللحاكم إلزامه بذلك.
ونقل الشالنجي عن أحمد: إذا بعثوا في السبيل يضيفهم من مروا به ثلاثة أيام، فإن أبوا أخذوا منهم بمثل ذلك.(1/397)
876- ولا يلزم إنزاله في بيته لعدم مسجدٍ وغيره. وأوجبه ابن عقيل في ((المفردات)) مطلقاً، كالنفقة.
وقال أكثر الأصحاب: لا ينزله في بيته إلا عند عدم المسجد والرباط.
877- والضيافة كفايته من خبزٍ وأدم. وليس له أن يشتهى. ولا يرد ما جاءه به وطلب غيره.
وفي ((الواضح)): ولفرسه تبن. ولا يجب الشعير. وقيل: يجب أيضاً.
وأوجب أبو العباس بن تيمية المعروف عادة، قال: كزوجةٍ وقريبٍ ورقيق.
878- وعن عائشة مرفوعاً:
((من نزل بقومٍ فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم)).
إسناده ضعيف. رواه الترمذي وابن ماجه.
قال في ((كشف المشكل)) في النهي عن [صوم] يوم الأضحى: الناس فيه تبعٌ لوفد الله عند بيته، وهو كالضيف، فلا يحسن صومه عند مضيفه.
ومن قدم لضيفانه طعاماً لم يجز لهم قسمه، لأنه إباحة. ذكره أبو الخطاب في ((الانتصار)) وغيره.
879- ويسن الدعاء لرب الطعام عقيب الأكل منه، فيقول: ((الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً. أكل طعامكم الأبرار، وأفطر عندكم الصائمون، وصلت(1/398)
عليهم الملائكة، وذكركم الله فيمن عنده. اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم. واجعله عوناً على طاعتك، ولا تجعله عوناً على معصيتك)).
880- ويسن لرب الطعام أن يباسطهم بالحكايات والتبسم، ويكره التعبس ونحوه، والتبرم بهم وإظهار الكراهة.
وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته)).
قيل: وما جائزته؟ قال: ((يومٌ وليلة)). ((ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يخرجه)).
ولا بأس أن يشهيه ما يريد، ويأتيه بما يعلم أنه يحبه، دون ما يعلم أنه يكرهه.
ويأكل الضيف بالأدب، وترك الشره مما قدمه، إلا أن يكون فاكهةً ونحوها.
ولا يرفع رب الطعام طعامه حتى يكتفي منه. وإن أكل معه يأكل حتى يفرغ. وإن علم أنه إنما ترك الأكل حياءً ونحوه أمره بالعود.(1/399)
وإن علم محبته لشيءٍ من الطعام قدمه له، كما فعل أنسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه يتبع الدباء.
وله أن يتركه يأكل وحده. وإن أكل معه فهو أولى.
ولا يكره أن يدع الأطفال يأكلون معه، خلافاً لعادة أهل زماننا.(1/400)
فصل [في الإحسان وجزاء المعروف]
881- قال بعضهم: إن لم يصنع الإحسان إلا إلى من يستحقه ضاع أكثر الناس وترك الإحسان. ولكن الإحسان يفعل إلى كل أحد.
وقال بعضهم: إنما يسدى الإحسان إلى أهله. وفي الحديث:
((لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)).
وقالوا:
ومن يصنع المعروف مع غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجيرٌ أم عامر
882- وقرأت على الشهاب ابن الشريفة: أخبرك المشايخ الثلاثة إجازة: ابن البالسي وابن الحرستاني وعلي بن أحمد المرداوي، أخبرنا المزي، أخبرنا ابن الصيقل، أخبرنا أبو الفرج بن كليب، حدثنا أبو علي المهتدي بالله إجازة، عن ابن رزمة، حدثنا عمر بن سيف، حدثنا ابن الأنباري، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن عبيد، عن المدائني قال:(1/401)
خرج فتيان في صيدٍ لهما، فأثارا ضبعاً، فنفرت، واتبعوها فلجأت إلى خباء رجلٍ، فخرج إليهم بالسيف مصلتاً، فقالوا له: يا عبد الله، لم تمنعنا من صيدنا؟.
قال: إنها قد استجارت بي.
فخلوا بينه وبينها. ونظر إليها مهزولةً مضرورة، فجعل يسقيها اللبن صبوحاً وغبوقاً وقيلاً، حتى سمنت وحسنت حالتها. فبينا هو ذات يومٍ متجرداً، عدت عليه فشقت بطنه وشربت دمه. فقال ابن عم له:
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
أعد لها لما استجارت بقربه ... مع الأمن ألبان اللقاح الدرائر
فأشبعها حتى إذا ما تمكنت ... فرته بأنيابٍ لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يوجه معروفاً إلى غير شاكر
883- قرئ على ابن ناظر الصالحية وأنا أسمع، أخبرك والدك إجازة، أخبرنا أبو محمد بن القيم وأم محمد ست العرب بنت محمد بن علي بن البخاري، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا أبو اليمن الكندي وابن طبرزد، أخبرنا أبو البركات بن ملاعب. (ح): وقرأت على الفخر المرشدي، أخبرك ابن الجزري، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر. وأخبرنا جدي وابن مقبل إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا أبو الفتح بن المنادي إجازة، أخبرنا أبو غالب الماوردي، أخبرنا أبو علي التستري، حدثنا القاضي عمر الهاشمي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد الأثرم، حدثنا أبو زيد النميري، حدثنا ابن الفزر العابد قال:(1/402)
كنت عند سفيان بن عيينة، فالتفت إلى شيخٍ فقال: حدث القوم بحديث الحية!.
فقال: حدثني عبد الجبار أن حمير بن عبد الله خرج إلى متصيده، فتمثلت بين يديه حية، فقالت: أجرني أجارك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
قال: ومم أجيرك؟ قالت: من عدو قد رهقني يريد أن يقطعني إرباً إرباً.
قال: وممن أنت؟ قالت: من أهل لا إله إلا الله.
قال: وأين أخبئك؟ قالت: في جوفك، إن كنت تريد المعروف!.
قال: ففتح فاه وقال: هاك. فدخلت جوفه، وإذا رجلٌ معه صمصامة، فقال: يا حمير، أين الحية؟ قال: ما رأيت شيئاً!.
قال: سبحان الله! قال: نعم، سبحان الله! ما رأيت شيئاً.
فذهب الرجل، فأطلعت الحية رأسها وقالت: يا حمير، أتحس الرجل؟ قال: قد ذهب.
قال: فاختر مني إحدى خصلتين: أن أنكتك نكنةً فأقتلك، أو أفرث كبدك فتلقيه من أسفل قطعاً!.
قال: و[الله] ما كافئتيني. قالت: حين تصنع المعروف عند من لا يعرفه، وقد عرفت عداوة ما بيني وبين أبيك قديماً، وليس معي مالٌ فأعطيك، ولا دابةٌ فأحملك.
قال: فأمهليني آتي سفح هذا الجبل فأمهد لنفسي.
فبينما هو يمشي، إذا فتىً حسن الوجه، طيب الريح، حسن الثياب،(1/403)
فقال لي: يا شيخ، ما لي أراك مستسلماً للموت، آيساً من الحياة؟ قال: من عدو في جوفي يريد هلاكي.
قال: فاستخرج شيئاً من كمه فدفعه إليه وقال: كله.
ففعل، فأصاب مغصاً شديداً، ثم ناوله أخرى فأكلها، فرمى الحية من أسفله قطعاً!.
قال: من أنت رحمك الله؟ فما أحدٌ أعظم علي منةً منك.
قال: أنا المعروف. إن أهل السماء لما رأوا غدر الحية بك اضطربوا، كل يسأل ربه أن يغيثك، فقال الله عز وجل لي: يا معروف، أدرك عبدي، فإياي أراد بما صنع.
884- ومن الناس من يقول: خيرٌ لا تعمل، شر ما تلقى!.
أخبرنا جدي وابن مقبل إجازة، أخبرنا الصلاح بن أبي عمر، أخبرنا الفخر بن البخاري، أخبرنا ابن الجزري، أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أخبرنا علي بن المحسن، عن أبيه قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثني الشريف أبو أحمد العلوي النقيب قال:
حدثني شيخٌ كان يخدمني أنه حلف بالطلاق لا يشيع جنازة!.
فسألته عن سبب ذلك فقال: خرجت يوماً ببغداد في نصف النهار من يوم حار لحاجة، فاستقبلتني جنازةٌ يحملها اثنان. فقلت: غريبٌ فقير، أرفعها فأثاب.
فدخلت تحتها بدلاً من أحد الحمالين، فحين استقرت على كتفي افتقدت الحمال. فصحت: يا حمال، يا حمال. فقال الآخر: أيش تريد؟ امش واسكت، قد انصرف الحمال.
فقلت: الساعة والله أرمي بها. فقال الحمال: والله إن فعلت لأصيحن.(1/404)
فاستحييت واحتملت الأذى، فقلت .. .. وما زلت أسير في الشمس والرمضاء إلى الشونيزية. فلما حططنا الجنازة في مسجد الجنائز هرب الحمال الآخر! فقلت في نفسي: ما لهؤلاء الملاعين؟ والله لأتمن الثواب!.
وأخرجت من كمي دراهم، وصحت: يا حفار، أين قبر هذه الجنازة؟ فقال: لا أدري. فقلت: احفر. فأخذ مني درهمين وحفر قبراً. فلما صوبت عليه الجنازة ليأخذ الميت ليدفنه، وثب من اللحد ولكمني، وجعل عمامتي في رقبتي، وصاح: يا قوم، قتيل!.
واجتمع الناس، فقال: هذا جاء برجلٍ مقطوع الرأس لأدفنه له!.
فحل، فوجد الأمر على ما قاله الحفار! فبهت وتحيرت، وجرى علي من المكروه من العار ما كادت نفسي تتلف! إلى أن حملت إلى صاحب الشرطة، فأخبر الخبر، فجردت للسياط وأنا ساكتٌ باهت. وكان له كاتب، فحين رأى حيرتي قال له: أنظرني حتى أكشف هذا الرجل، فإني أحسبه مظلوماً!.
فخلا بي وسألني، فأخبرته خبري، ولم أزد فيه ولم أنقص. فنحى الميت عن الجنازة وفتشها، فوجد فيها كتابةً أنها للمسجد الفلاني، للناحية الفلانية. فأخذ معه رجاله، ومضى فدخل المسجد متنكراً، فوجد فيه خياطاً، فسأله عن جنازةٍ هناك، كأنه يريد يحمل عليها ميتاً له، فقال الخياط: للمسجد جنازةٌ إلا أنها أخذت منذ الغداة لحمل ميتٍ ولم ترد.
فقال: من أخذها؟ قال: أهل تلك الدار. وأومأ إليها. فكبسها برجالة الشرطة، فوجد فيها رجالاً، فقبض عليهم وحملهم إلى الشرطة، وأخبر صاحبه الخبر.
فقدم القوم، وقررهم فأقروا أنهم تغايروا على غلامٍ أمرد، فقتلوه وحزوا رأسه، ودفنوه في بئرٍ حفروها في الدار، وحملوه على تلك الصورة، وأن الحمالين كانا أحد القوم. فضرب أعناق القوم، وخلي سبيلي؛ فهذا سبب توبتي أن أحضر جنازة!.(1/405)
قلت: من عمل الخير على التقوى وكان قصده حسناً، جعل الله عز وجل من كل ضيقٍ وقع فيه مخرجاً. كيف لا والله عز وجل يقول: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}، وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}.
تم وكمل.
والحمد لله، وصلى الله على من لا نبي بعده، وعلى [آله] وصحبه وسلم.(1/406)