الإمام يوسف بن عبد الهادي
وآثاره الفقهية
وبيان أثر حنابلة فلسطين في دمشق
مع تحقيق علمي لكتابه
-[ سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث ]-
إعداد ودراسة
الدكتور صفوت عادل عبد الهادي
سليل أسرة آل عبد الهادي الحنابلة
دار النوادر
الطبعة الأولى
1428 هـ - 2007 م(/)
كتاب سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث
جمع يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن عبد الهادي(1/417)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف
الحمد لله الذي أوضح منهاج الحق للراغب، وكشف ظلمة الباطل للطالب، وحسن التجائر للجالب، وكسر الجبابرة وقهرهم، فما تقرب إليه أحد إلا ورجع بالمكاسب، ولا بعد عنه أحد إلا ورجع بالمصائب، استوى على عرشه كما قال، لا كما يقول أولو المصائب، وارتفع فوق سماواته فيا سعادة الآيب، ((وينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا فيسأل: هل من مستغفرٍ؟ هل من تائبٍ؟)) فقم وسل حوائجك، فإن الباب بلا حاجب.(1/419)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد، ولا ند، ولا شبيه، ولا مقارب.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله، صلى الله عليه وآله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً كلما أمطرت السحائب.
وبعد: فهذا كتاب في بيان الطلاق الثلاث، وحكمه، وبيان اختلاف الناس فيه، سميته: كتاب ((سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث)) وأسأل الله الإعانة، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وجعلت فيه اثني عشر فصلاً:
الفصل الأول: في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثاً.
الفصل الثاني: فيمن قال بهذا القول، وأفتى به.
الفصل الثالث: في ذكر ما احتجت به هذه الطائفة.
الفصل الرابع: في أنه إنما يقع بالثلاث واحدة.
الفصل الخامس: فيمن قال بهذا القول، وأفتى به.
الفصل السادس: في ذكر ما احتجت به هذه الطائفة.
الفصل السابع: في ذكر فصل النزاع بين الفريقين.
الفصل الثامن: في ذكر مذاهب الناس في ذلك.
الفصل التاسع: في ذكر الثلاث إذا أتت متفرقة.(1/420)
الفصل العاشر: في ذكر أنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
الفصل الحادي عشر: في ذكر المحلل وأحكامه.
الفصل الثاني عشر: في أن الثلاث: هل تحرم أم لا؟(1/421)
الفصل الأول في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثاً
هذا هو الصحيح من المذهب، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ كما سيأتي، وهذا القول مجزوم فيه في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد؛ كـ ((الخرقي))، و((المقنع))، و((المحرر))، و((الهداية))، وغيرهم من كتب أصحاب الإمام أحمد، ولا يعدل عنه.
قال الأثرم: (سألت أبا .. .. ..(1/422)
عبد الله عن حديث ابن عباس ((كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ [وسنتين من خلافة] عمر، [طلاق الثلاث] واحدة)) بأي شيء تدفعه؟ فقال: برواية الناس عن ابن عباس أنها ثلاث)، وقدمه في ((الفروع))، وجزم به في ((المغني))، وأكثرهم لم يحك غيره. والله أعلم بالصواب.(1/423)
الفصل الثاني فيمن قال بهذا القول وأفتى به
قال به ابن عباس غير مرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأنس، ذكره في ((المغني))،(1/424)
وقال: ((هو قول أكثر أهل العلم))، وبه قال أحمد: والشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وابن أبي ليلى، والأوزاعي.
وقال به من أصحابنا الخرقي، والقاضي، وأبو بكر، وابن حامد، وابن .. .. ..(1/425)
عقيل، وأبو الخطاب، والشيرازي، والشيخ موفق الدين، والشيخ مجد الدين -وليس مطلقاً كما سيأتي-، والشريف، حتى أكثر أصحاب الإمام أحمد على هذا القول. وفي ((إجماع)) ابن المنذر ما يدل على أنه إجماع، ليس بصريح فيه. وهذا القول اختاره ابن رجب، وقد صنف رداً على من قال بخلافه. والله أعلم بالصواب.(1/426)
الفصل الثالث في ذكر ما احتجت به هذه الطائفة، ومالها، وما عليها
قال في ((أعلام الموقعين)) -بعد ذكره دليل الطائفة الأولى- ثم قال: (لكن رأى أمير المؤمنين عمر أن الناس استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة، بانت المرأة، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة، يراد للدوام، لا نكاح تحليل؛ فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك، كفوا عن الطلاق [المحرم].
فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدر من خلافته كان لا يليق بهم؛ لأنهم لم(1/427)
يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً، فلما تركوا تقوى الله، وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله، ألزمهم بما التزموه؛ عقوبة لهم؛ فإن الله إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة، فقد تعدى حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله، فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه، ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه، ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه، رحمةً منه وإحساناً، وليس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد.
وهذه قاعدة، وهي: ((من تعجل شيئاً قبل أوانه، عوقب بحرمانه)) وهذه من حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته، وقد وافقه الصحابة على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك.
قال عبد الله بن مسعود: ((من أتى الأمر على وجهه، فقد بين(1/428)
[الله له]، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم فنحمله عنكم. هو كما تقولون)).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك:
((أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟)) حتى قام رجل وقال: يا رسول الله! ألا أقتله؟.
ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع، وقال للسائل: ((إن هذا لأمرٌ ما لنا فيه قولٌ، فاذهب إلى عبد الله بن عباسٍ وأبي هريرة، فلما جاء إليهما، قال ابن عباسٍ لأبي هريرة: أفته؛ فقد جاءتك معضلةٌ))، ثم أفتياه بالوقوع.(1/429)
فالصحابة -رضي الله عنهم-، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب، لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وأرسلوا ما بيدهم منه، ولبسوا على أنفسهم، فلم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم، فأخذوا بالتشديد على أنفسهم، ولم يقفوا على ما حد لهم، ألزموهم بما التزموه، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة، بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه، ولم يقبل رخصة الله وتيسيره ومهلته.
ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مئة: ((عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً. {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً})).
وأتاه رجل، فقال: إن عمي طلق ثلاثاً. فقال:
((إن عمك عصى الله، فأندمه الله، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجاً. فقال: أفلا تحلها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه الله)).
وقال سعيد بن جبير: ((جاء رجلٌ إلى ابن عباس فقال: إني طلقت(1/430)
امرأتي ألفاً، فقال: أما ثلاث، فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزرٌ، اتخذت آيات الله هزواً)).
وقال مجاهد: ((كنت عند ابن عباس، فجاءه رجلٌ فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس! وإن الله قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}؛ فإنك لم تتق الله، فلم أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، فبانت منك امرأته)).
وليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في(1/431)
قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقواهم ربهم -تبارك وتعالى- في التطليق، فجرت عليهم رخصته وتيسيره شرعاً وقدراً، فلما ركب الناس الأحموقة، وتركوا تقوى الله، ولبسوا على أنفسهم، وطلقوا على غير ما شرعه الله لهم، أجرى الله الحكيم على لسان الخليفة الراشد، والصحابة معه، شرعاً، وقد ألزمهم بذلك، وإنفاذه عليهم، وإبقاءه الإصر الذي جعلوه في أعناقهم، وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان، فجاء أئمة الإسلام على آثار الصحابة، سالكين مسلكهم، قاصدين رضاء الله ورسوله، وإنفاذ دينه، فمنهم من ترك القول بحديث ابن عباس، لظنه أنه منسوخ، وهذه طريقة الشافعي).
وقال الشيخ موفق الدين في ((المغني)) مثل هذا، واستدل بما روي عن عبادة بن الصامت، قال: ( ((طلق بعض آبائي امرأته ألفاً، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! إن أبانا طلق أمنا ألفاً، فهل له مخرجٌ؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له من أمره مخرجاً، بانت منه(1/432)
بثلاثٍ على غير السنة، وتسعٌ مئة وسبعةٌ وتسعون إثمٌ في عنقه))؛ ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقاً، فيصح مجتمعاً كسائر الأملاك. فأما حديث ابن عباس، فقد صحت الرواية عنه بخلافه، وأفتى أيضاً بخلافه، قال الأثرم: ((سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: بأي شيء تدفعه؟ قال: أدفعه برواية الناس عن ابن عباس من وجوه أنها ثلاث)).
وقيل: ((معنى حديث ابن عباس أن الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ولا يسوغ لابن عباس أن يروي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه).
قال ابن رجب في كتاب ((مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة)):
(الحديث الأول: حديث طاوس عن ابن عباس قال: ((كان الطلاق(1/433)
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدةٌ، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم))، وأخرجه أيضاً من طريق إبراهيم بن ميسرة عن طاوس، بنحوه).
فهذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان:
أحدهما: وهو مسلك الإمام أحمد ومن وافقه، ويرجع إلى الكلام في إسناد الحديث بشذوذه، وانفراد طاوس به، وأنه لم يتابع عليه، وانفراد الراوي بالحديث، وإن كان ثقة، هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذاً ومنكراً إذا لم يرو معناه من وجه يصح. وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين؛ كالإمام أحمد، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم، وهذا الحديث لا يرويه عن ابن عباس غير طاوس.(1/434)
قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: ((كل أصحاب ابن عباس -يعني: روى عنه- خلاف ما روى طاوس)).
وقال الروشنائي: ((هو حديث شاذ، قال: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر، فلم أجد له أصلاً)).
قال المصنف: ((ومتى أجمع الأمة على اطراح العمل بحديث، وجب اطراحه، وترك العمل به)).
وقال ابن مهدي: ((لا يكون إماماً في العلم من عمل بالشاذ)).(1/435)
وقال النخعي: ((كانوا يكرهون الغريب من الحديث)).
وقال يزيد بن أبي حبيب: ((إذا سمعت الحديث، فانشده كما تنشد الضالة، فإن عرف، وإلا فدعه)).
وعن مالك قال: ((شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس)).
وفي هذا الباب شيء كثير، لعدم جواز العمل بالغريب وغير المشهور.
قال ابن رجب: ((وقد صح عن ابن عباس -وهو راوي الحديث- أنه أفتى بخلاف هذا الحديث، ولزوم الثلاث مجموعة. وقد علل بهذا أحمد والشافعي كما ذكره في ((المغني))، وهذه أيضاً علة في الحديث بانفرادها، فكيف وقد ضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة؟!)).
وقال القاضي إسماعيل في كتاب ((أحكام القرآن)): ((طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة، منها هذا الحديث)).(1/436)
وعن أيوب: ((أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاوس)).
وقال ابن عبد البر: ((شذ طاوس في هذا الحديث)).
قال ابن رجب: ((وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل)).
المسلك الثاني: وهو مسلك ابن راهويه ومن تابعه، وهو الكلام في معنى الحديث، وهو أن يحمل على غير المدخول بها، نقله ابن منصور عن إسحاق، وأشار إليه إسحاق في كتاب ((الجامع))، وبوب عليه أبو بكر الأثرم في ((سننه))، وأبو بكر الخلال يدل عليه.
وفي ((سنن أبي داود)) من رواية حماد بن زيد عن أيوب، عن غير(1/437)
واحد، عن طاوس: أن رجلاً يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، قال: ((كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، وصدراً من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم، وأيوب إمام كبير.
فإن قيل: لكن الرواية مطلقة، قلنا: الجمع بين الدليلين، ونقول: هذا قبل الدخول.
قال ابن رجب: (الحديث الثاني: ((روى عبد الرزاق عن ابن جريجٍ: أخبرني بعض بني أبي رافعٍ مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباسٍ قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة، ونكح امرأةً من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة -لشعرةٍ أخذتها من رأسها- ففرق بيني وبينه.
فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حميةٌ، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: أترون(1/438)
فلاناً يشبه منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: طلقها ففعل، فقال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: قد علمت، راجعها، وتلا: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}. أخرجه أبو داود).
قال: (والكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: أن إسناده مجهول.
الثاني: أن الرجل الذي لم يسم في رواية عبد الرزاق، وهو محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، وهو رجل ضعيف الحديث بالاتفاق، وأحاديثه منكرة، وقيل: إنه متروك، فسقط هذا الحديث حينئذٍ.
الثالث: أنه محمد بن ثور الصاغاني: ثقة كبير عابد، ولم يذكر محمد بن ثور في روايته أنه طلقها ثلاثاً، وإنما قال: ((إني طلقتها))، وعبد الرزاق حدث في آخر عمره [أحاديث] منكرة جداً في فضائل أهل البيت وذم غيرهم، وكان له ميل إلى التشيع، وهذا الحكم مما يوافق هوى الشيعة.
الرابع: أن حديث عبد الرزاق لو صح متنه، فليس فيه أنه طلقها ثلاثاً(1/439)
بكلمة واحدة، فيحمل أنه طلق ثلاثاً في مرات متعددة، ولكن هذه الواقعة قبل حصر عدد الطلاق في الثلاث.
الخامس: أن أبا داود عارض حديث عبد الرزاق بما روى ولد ركانة عنه: ((أنه طلق امرأته البتة)) قال: ((وهو أصح من حديث والد أبي رافع)) ).
ثم قال ابن رجب في هذا الكتاب: ((فصل: اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيءٌ صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة، ما إذا سيق بلفظ واحد.
وعن الأعمش قال: ((كان بالكوفة شيخٌ يقول: سمعت علي بن أبي طالبٍ يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلسٍ واحدٍ فترد إلى واحدةٍ، والناس عنقٌ واحدٌ إلى ذلك، يأتونه ويستمعون منه، فأتيته، فقلت له: سمعت علي بن أبي طالبٍ يقول؟ قال: سمعته يقول: إذا طلق الرجل(1/440)
امرأته ثلاثاً في مجلسٍ واحدٍ، فإنها ترد إلى واحدةٍ، فقلت: أين سمعت هذا من علي؟ فقال: أخرج إليك كتابي، فأخرج كتابه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما سمعت علي ابن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلسٍ واحدٍ، فقد بانت منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، قلت: ويحك! هذا غير الذي تقول، قال: الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك)).
وعن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة قال:
((كانت عائشة بنت الفضل عند الحسن بن علي، فلما بويع بالخلافة هنأته، فقال: لا تظهرن الشماتة بقتل أمير المؤمنين، أنت طالقٌ ثلاثاً، ومتعها بعشرة آلافٍ، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جدي -أو سمعت أبي يحدث عن جدي صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً عند الأقراء، أو طلقها ثلاثاً مبهمةً، لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، لراجعتها)).(1/441)
قال ابن رجب: ((وإسناده صحيح)).
ثم قال ابن رجب بعد هذا: (فصل: وقد استدل على وقوع الثلاث المجمعة بأدلة متعددة من الكتاب والسنة، أما الكتاب، فمواضع:
أحدها: قوله: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}.
إلى قوله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} فاستنبط ابن عباس من قوله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} أن من طلق على ما أمره الله لاستقبال العدة طلاقاً رجعياً وتركها حتى تنقضي عدتها، أو استرجعها، فقد جعل الله له مخرجاً، أما مراجعتها في العدة، أو نكاحها بعدها من غير زوج ولا إصابة، ومن طلق على غير ما أمر به الله، فطلق ثلاثاً، فلم يجعل الله فرجاً ولا مخرجاً، وهذا ثابت عن ابن عباس.
الموضع الثاني: قوله في سياق آيات: {ولا تتخذوا آيات الله هزواً}، قال الحسن: ((كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ويقول: كنت لاعباً، ويعتق ويقول: كنت لاعباً، ويزوج ابنه ويقول: كنت لاعباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثٌ من قالهن لاعباً جائزاتٌ عليهم: العتاق، والطلاق، والنكاح، فأنزل الله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزواً}.(1/442)
الموضع الثالث: قال: وهو ما يظهر لي بحمد الله من الآية على أن المطلق مرتين مأمورٌ بالإمساك بالمعروف، أو تسريح بإحسان، فدلت الآية على أن المطلق مرتين مأمورٌ بالإمساك بالمعروف، وهو الرجعة باتفاق المفسرين، أو التسريح بإحسان.
وقد اختلف العلماء في المراد بالإحسان، فقالت طائفة: هو الطلقة الثالثة، وهو قول مجاهد وقتادة وغيرهما، واختاره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا.
والقول الثاني في الآية: أن المراد بالتسريح بالإحسان: تخلية سبيلها حتى تنقضي عدتها، فيخلي بينها وبين الأزواج).
وقد جعل ابن رجب في آخر كتابه هذا في إحداث عمر للطلاق، وأنه مقبول قوله، فقال: (فصل: أخرج البخاري من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم(1/443)
ناسٌ محدثون، فإن يك في أمتي أحدٌ، فإنه عمر)).
وفي رواية ذكرها تعليقاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد كان فيمن [كان] قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يتكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن منهم أحدٌ، فعمر))، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: من نبي ولا محدث)).
وأخرج مسلم من حديث أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قد كان يكون في الأمم [قبلكم] محدثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ، فعمر بن الخطاب، وعنده: قال ابن وهبٍ: ((تفسير محدثون: ملهمون)).
وقال الترمذي عن سفيان بن عيينة قال: ((يعني مفهمون)).(1/444)
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، زاد فيه: ((قالوا: يا رسول الله! كيف محدثٌ؟ قال: الملائكة على لسانه))). والله أعلم.
فصل
قال ابن رجب في آخر كتابه: ((اعلم أن ما قضى به عمر على قسمين:
أحدهما: ما لم يعلم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه قضاء بالكلية، وهذا على نوعين:
أحدهما: ما جمع فيه عمر الصحابة وشاورهم فيه، فأجمعوا معه عليه.
فهذا لا يشك أنه الحق، كهذه المسألة، والعمريتين، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه، وعليه القضاء والهدي، ومسائل كثيرة.
والثاني: ما لم يجمع الصحابة، بل مختلفين فيه في زمنه، وهذا يسوغ فيه الاختلاف، كمسائل الجد مع الإخوة.
القسم الثاني: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، بخلاف قضاء عمر، وهو على أربعة أنواع:
أحدها: ما رجع فيه عمر إلى قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا عبرة فيه بقول عمر الأول.(1/445)
الثاني: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حكمان، أحدهما موافق لقضاء عمر، فإن الناسخ من النصين ما عمل به عمر.
الثالث: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه رخص في أنواع من جنس العبادات، فيختار عمر للناس ما هو الأفضل والأصلح، ويلزمهم به، فهذا يمنع من العمل بغير ما اختاره.
الرابع: ما كان قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلة، فزالت العلة، فزال الحكم بزوالها، أو وجد مانع يمنع ذلك الحكم)).
قال: ((فهذه المسألة إما أن تكون من الثاني، وإما أن تكون من الرابع)).
وقال: ((لا يعلم من الأمة أحد خالف في هذه المسألة مخالفة ظاهرة، ولا حكماً ولا قضاء، ولا علماً ولا إفتاء، ولم يقع ذلك إلا من نفر يسير جداً، وقد أنكره عليهم من عاصرهم غاية الإنكار، وكان أكثرهم يستخفي بذلك، ولا يظهره، فكيف يكون إجماع الأمة على إخفاء دين الله الذي شرعه على لسان رسوله، واتباعهم اجتهاد من خالفه برأيه في ذلك؟ هذا لا يحل اعتقاده البتة، وهذه الأمة كما أنها معصومة من الاجتماع على ضلالة، فهي معصومة من أن يظهر أهل الباطل منهم على أهل الحق، ولو كان ما قاله عمر في هذا حقاً، للزم في هذه المسألة ظهور أهل الباطل على أهل الحق في كل زمان ومكان، وهذا باطل قطعاً.
فصل
ولا زال علماء مذهبنا يفتون بهذا إلى زماننا، إلا جماعة منهم))، فذكرهم، وقد رأيت شيخنا الشيخ تقي الدين بن قندس يجنح إليه، ويقول به، وكذلك عامة شيوخنا، إلا ما يأتي. والله أعلم بالصواب.(1/446)
الفصل الرابع في أنه إنما يقع بالثلاث باللفظ الواحد واحدة
وهذه رواية عن أحمد، وروايتها باطلة، لكنها قول في المذهب، حكاه الشيخ شمس الدين بن القيم في كتاب ((أعلام الموقعين))، وذكره في ((الفروع))، وقال: ((إنه اختيار شيخه)).
وهو اختاره بلا خلاف، وهو الذي إليه جنح الشيخ شمس الدين بن القيم في كتاب ((الهدى))، و((أعلام الموقعين))، و((إغاثة اللهفان))، وقواه جدنا جمال الدين الإمام، وقد صنف فيه مصنفات، وهو اختيار(1/447)
شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحكاه أيضاً عن جده الشيخ مجد الدين وغيره.
قال ابن القيم في ((أعلام الموقعين)): (قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: ((كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر واحداً)) بأي شيءٍ تدفعه؟ فقال: برواية الناس عن ابن عباسٍ من وجوه خلافه))، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس: ((أنها ثلاث))؛ فقد صرح بأنه إنما ترك القول به لمخالفة راويه له. وأصله مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح، لم يرده لمخالفة راويه له، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة، فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقاً، وترك رأيه.
وعلى أصله يخرج له قول: إن الثلاث واحدة، فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي، وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي(1/448)
لا توجب ترك الحديث، خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرجون على مذهبه أقوالاً دون ذلك.
والمقصود: أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله). والله أعلم.(1/449)
الفصل الخامس فيمن قال بهذا القول وأفتى به
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وجميع الصحابة إلى سنتين من خلافة عمر.
قال في ((أعلام الموقعين)): ((وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة، فتوى أو إقرار أو سكوت، ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة -ولله الحمد- على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرناً بعد قرن)). قال فيه: ((وإلى يومنا هذا، فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، كما رواه حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: إذا قال: ((أنت طالقٌ ثلاثاً بفمٍ واحدٍ، فهي واحدةٌ)). [وأفتى أيضاً بالثلاث، أفتى بهذا وهذا] وأفتى به [بأنها واحدة] الزبير بن العوام،(1/450)
وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح. وعن علي، وابن مسعود [روايتان، كما عن ابن عباس].
وأما التابعون، فأفتى به عكرمة، رواه إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب عنه، وأفتى به طاوس.
وأما تابعو التابعين، فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو، والحارث العكلي.(1/451)
وأما أتباع تابعي التابعين، فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنهم ابن المغلس، وابن حزم وغيرهما.
وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في شرح ((تفريع)) ابن الجلاب قولاً لبعض المالكية.(1/452)
وأفتى به بعض الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل.
وأفتى به بعض أصحاب الإمام أحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية [رحمه الله]: ((وكان الجد يفتي به أحياناً)).
قلت: وقد كان يفتي به فيما يظهر لي ابن القيم، وكان يفتي به شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بلا خلاف، وكان يفتي به جدنا جمال الدين الإمام، ولم يرد عنه أنه أفتى بغيره.
قلت: وقد كان يفتي به في زماننا الشيخ علي الدواليبي البغدادي،(1/453)
وجرى له من أجله محنة ونكاية فلم يدعه، وقد سمعت بعض شيوخنا يقويه. وظاهر إجماع ابن حزم أنه إجماع، لكنه لم يصرح به.(1/454)
الفصل السادس فيما احتجت به هذه الطائفة، وما لها وما عليها
قال في ((أعلام الموقعين)) و((الهدى)): (إذا جمع الطلاق الثلاث بفم واحد، جعلت واحدة، كما ثبت في ((صحيح مسلم)) عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: ((كان الطلاق [الثلاث] على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدةً، فقال عمر [بن الخطاب]: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم، وهذا الحديث لا دافع له؛ فإن مسلماً قد رواه في ((صحيحه))، ومسلم ملتزم الصحة، وإن كان ابن رجب قد قال فيه شيئاً، فهو خطأ؛ لأنه ليس شاذاً، ولا منكراً، ولا غريباً، ولا فيه أحد منكر؛ لأنه لو كان فيه علة، لم يكن في ((صحيح مسلم)).
وفي ((صحيحه)) أيضاً عن طاوس: ((أن أبا الصهباء قال لابن عباسٍ:(1/455)
ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وثلاثاً من إمارة عمر؟ فقال ابن عباسٍ: نعم))).
قلت: وهذا الحديث أيضاً لا دافع فيه، فإن مسلماً قد رواه في ((صحيحه)). والله أعلم.
وفي ((صحيحه)) عنه: ((أن أبا الصهباء قال لابن عباسٍ: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ واحدةً؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازهم. وهذا الحديث أيضاً لا دافع فيه؛ لكونه في ((صحيح مسلم)).
فهذه ثلاثة أحاديث في ((صحيح مسلم)) صحاح؛ لأن مسلماً شرطه الصحة، ومن قال غير هذا، فقد أخطأ، ونحن لنا هذه الثلاثة أحاديث من ((مسلم))، فأتونا أنتم بحديث واحد منه أو من ((الصحيح)).
وفي سنن أبي داود عن طاوس: ((أن رجلاً يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباسٍ، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، وصدراً من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، وصدراً من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيه، قال: أجيزوهن عليهم)).(1/456)
وفي ((مستدرك)) الحاكم من حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة، ((أن أبا الجوزاء أتى ابن عباسٍ فقال: أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى واحدةٍ؟ [قال: نعم] قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح)). هذا الحديث قد صححه الحاكم، وتصحيح الحاكم له يدل على أنه ليس فيه علة، لكنهم لا يتنازعون فيه كل النزاع، وهذه الطريق غير طريق طاوس عن أبي الصهباء.
وقال الإمام أحمد في ((مسنده)): ((حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي(1/457)
عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة -مولى ابن عباس- عن ابن عباسٍ قال: طلق ركانة بن عبد يزيد -أخو بني المطلب- امرأته ثلاثاً في مجلسٍ واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثاً في مجلسٍ واحدٍ. قال: نعم. فقال: إن تلك واحدةٌ، فأرجعها إن شئت، قال: فراجعها، فكان ابن عباسٍ يرى الطلاق عند كل طهرٍ)).
وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد، وحسنه، فقال في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على ابن أبي العاص بمهرٍ جديدٍ، ونكاحٍ جديدٍ)). هذا حديث ضعيف،(1/458)
أو قال: واهٍ، لم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي [والعزرمي] لا يساوي حديثه شيئاً.
والحديث الصحيح الذي روى: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول))، وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد هذا، وقد(1/459)
قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس عند الترمذي، فهو حجة، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عضده ما هو نظيره وأقوى منه؟
قال أبو داود: ((حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافعٍ مولى النبي صلى الله عليه وسلم -عن عكرمة- مولى ابن عباس - قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة، ونكح امرأةً من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة -لشعرة أخذتها من رأسها- ففرق بيني وبينه. فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حميةٌ، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: أترون فلاناً يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلاناً منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: طلقها، ففعل، قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: قد علمت، راجعها، وتلا: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}.
وقال أبو داود: ((حديث نافع بن جبير، وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه عن جده، أن ركانة طلق امرأته، فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم،(1/460)
أصح، لأنهم ولد الرجل وأهله، وأعلم به، وأن ركانة إنما طلق امرأته البتة، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة)). وأما قول ابن رجب: إسناد حديث ركانة مجهول، فهذا ليس بمجهول، ومن أين جهله؟ فوا عجباً لإمام يقول هذا، لا يبين الجهل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناسٌ دماء قومٍ وأموالهم)). وأما قوله: إنه لم يطلقها ثلاثاً، فهذا خطأ بإجماع المسلمين؛ فإن أهل بيته رووا عنه الحديث، وذكروا فيه الثلاث، فعجب لك تقول: مجهول، ثم تثبته وتقول: ليس الثلاث فيه؟!
وأما قولك: إنه ولو صح فليس فيه أنه طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة، فيحتمل أن تكون ثلاثاً متفرقة، ويكون قبل حصر الثلاث، فهذا ليس مسلماً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثٌ، وفي زمنه كان واحدة، ومن أين لك أنه كان قبل حصر الثلاث؟
وأما قولك: البتة، فليس البتة واحدة، بل قال غير واحد من العلماء: كانت البتة عندهم ثلاثاً، وأنت قد صححت هذا الحديث).
قال في ((أعلام الموقعين)) بعد ذكر هذا الحديث وتصحيحه: (قال(1/461)
شيخنا [رحمه الله]: وأبو داود [لما] لم يرو في ((سننه)) الحديث الذي في ((مسند)) أحمد -يعني الذي ذكره [آنفاً]- فقال: حديث ((البتة)) أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً؛ لأنهم أهل بيته، ولكن الأئمة الأكابر العارفين بعلل الحديث والفقه؛ كالإمام أحمد، وأبي عبيد، والبخاري ضعفوا حديث ((البتة))، وبينوا أن رواته قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد ثبت حديث الثلاث، وبين أنه الصواب، وقال: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، وفي رواية عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً، وأهل المدينة يسمون الثلاث: البتة)، قلت: فانظر إلى ابن رجب كيف ضعف الحديث الذي قوته الأئمة، وقوى الحديث الذي ضعفوه، وهذا يكفيه.
قال الأثرم: ((قلت لأحمد: حديث ركانة في البتة؟ فضعفه)).
(والمقصود: أن عمر بن الخطاب لم يخف عليه أن هذا هو السنة،(1/462)
وأنه توسعة من الله لعباده؛ إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة، لم يملك المطلق إيقاع مراته كلها جملة واحدة، كاللعان، فإنه لو قال: أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين، كان مرة واحدة. ولو حلف في القسامة [وقال: أقسم] بالله خمسين أن هذا قاتله، كان ذلك يميناً واحدة، ولو قال المقر بالزنا: أنا أقر أربع مرات [أني] زنيت، كان مرة واحدة، فمن اعتبر الأربع، لا يجعل ذلك إلا مرة واحدة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال في يومه: سبحان الله وبحمده، مئة مرةٍ، حطت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر))، فلو قال: سبحان الله وبحمده مئة مرة، لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة، وكذلك قوله: ((من سبح الله [في] دبر كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وكبره ثلاثاً وثلاثين -الحديث، لا يكون عاملاً به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة، لا يجمع الكل بلفظ واحد، وكذلك قوله: ((من قال في يومه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ مئة مرةٍ، كانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي))، لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة، وهكذا قوله: {يأيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث(1/463)
مراتٍ}، وهكذا قوله في الحديث: ((الاستئذان ثلاثٌ، فإن أذن لك، وإلا فارجع))، لو قال الرجل ثلاث [مرات] هكذا، كانت مرة واحدة، حتى يستأذن مرة بعد مرة، وهكذا كما أنه في الأقوال والألفاظ، فكذلك هو في الأفعال سواء؛ كقوله تعالى: {سنعذبهم مرتين}.
إنما هو مرة بعد مرة، وكذلك قول ابن عباس: ((رأى محمدٌ ربه بفؤاده مرتين))، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يلدغ المؤمن من جُحرٍ [واحدٍ] مرتين))، فهذا المعقول من اللغة والعرف والأحاديث المذكورة.
وهذه النصوص المذكورة من قوله: {الطلاق مرتان}، كلها من باب واحد، ومشكاة واحدة، والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله: {الطلاق مرتان}، كما أن حديث اللعان يفسر قوله: {فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ بالله}.
فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسول الله، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم معه من عصره، وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب، فلو عدهم العاد(1/464)
بأسمائهم واحداً واحداً، [لوجد] أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة، إما بفتوى، وإما بإقرار عليها، ولو فرض فيهم من لم يكن يرى ذلك، فإنه لم يكن منكراً للفتوى به، بل كانوا ما بين مفتٍ، ومقر بفتيا، وساكت غير منكر، وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وهم يزيدون على الألف قطعاً).
قلت: فألوف كثيرة، فكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة، فتوى أو إقرار أو سكوت، ولهذا قال بعض أهل العلم: هذا إجماع قديم، ولم تجتمع الأمة على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرناً بعد قرن، وإلى يومنا هذا، ولله الحمد، انتهى.
فصل
وأما قول ابن رجب: لم يقل بهذا القول أحد من الصحابة والتابعين، ولا من السلف، فليس بمسلم، بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة بأجمعهم، وقد ثبت عن جماعة كما في الفصل الذي قبله، وأفتى به من التابعين خلق كثير.
وأما استدلاله بالآية: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}، فاستدلاله بها فليس بمسلم؛ لأن في حديث ركانة لما قال له ((راجعها تلا هذه الآية، فهذه الآية دليل لنا لا لكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى له بهذا، استدل بالآية، فلو يكون فيها دليل عليه، لم يستدل بها،(1/465)
واستدلاله في الآية بقول ابن عباس، فإن ابن عباس قد صح عنه أنه كان يفتي بهذا القول كما تقدم، فليس لكم في الآية دليل.
وأما استدلاله بقوله: {ولا تتخذوا آيات الله هزواً}، واستدلاله بالحديث، فالآية والحديث ليس فيهما دليل له؛ لأنه لم يثبت طلاق الثلاث بالكلية، وإنما كان يطلق ويقول لاعباً، فنزلت هذه الآية: أن الطلاق لا لعب فيه، فليس في هذا دليل.
وأما استدلاله بالآية الأخرى: {الطلاق مرتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان}، فليس فيها دليل أيضاً؛ لأن الطلاق هنا لم يذكر أنه بلفظ واحد، بل الآية فيها إذا أتى بالطلاق مرة بعد أخرى، وليس في الآيات دليل له، بل كلها دليل عليه، والله أعلم بالصواب.
فصل
قال الشيخ جمال الدين الإمام -رضي الله تعالى عنه- في أول أحد كتبه في هذا: ((وقد جعلت لله علي إن وجدت ما يقويه أصل أو دليل يردني أن أتصدق بألف أو نحوه)).
ثم قال: ((الطلاق الثلاث واحدة، كما صحت به السنة، واجتمعت عليه الصحابة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلافة أبي بكر، وبعض خلافة عمر، قال الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ}، إلى قوله سبحانه: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}، إلى قوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره}، فقد حكم الله -تعالى- في هذه الآيات الكريمات في هذه المسألة ثلاثة أحكام، فمن فهمها، وتصورها على حقيقة ما هي عليه -وقد أراد الله هدايته إلى قبول الحق إذا ظهر إلى القول به- صح كلامه.(1/466)
واعلم أن كتاب الله نص صريح أن الطلاق الثلاث واحدةٌ شرعاً، لا يحتمل خلافاً صحيحاً، وهذا هو النص شرعاً، فإن كل كلام له معنى لا يحتمل غيره، فهو نص فيه، فإن كان لا يحتمل غيره لغة، فهو نص لغة، وإن كان لا يحتمل غيره شرعاً، فهو نص شرعاً، وكتاب الله في هذه الآيات لا يحتمل شرعاً غير أن الطلاق الثلاث واحدة.
ومن تصور هذه الأحكام وفهمها، عرف موارد الشرع ومصادره، وكل واحد من هذه الدلائل السبعة على انفراده حجة، وهي: الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، ومقتضى القياس، والاعتبار الصحيح، وقواعد المذاهب، ولغة العرب، وقد دلت عليه السبعة، وقد قال الله -تعالى- أيضاً: {وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ}، وقد قال الله -عز وجل-: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}، معناه: وإلا فلستم بمؤمنين حقاً، والألف واللام في قوله: {الطلاق مرتان} للعهد، والمعهود هنا هو الطلاق المفهوم من قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ}، وهو الرجعي بقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}، فصار المعنى: الطلاق الذي الزوج أحق فيه بالرد مرتان فقط، فقد تقيد الرد الذي كان مطلقاً، في كل مرة من الطلاق بمرتين منه فقط، فلم يعرف، ولا فرق في الآية بين قوله في كل مرة: طلقتك واحدة، أو ثلاثاً، أو ثلاثين ألف.
فمن تصور معاني هذه الأحكام من الألفاظ، وأراد الله هدايته، علم أن لله نصاً صريحاً شرعاً في أن الطلاق الثلاث واحدة؛ لأن هذه الآيات لا تحتمل شرعاً غير ذلك عند من يفهم النص الشرعي، وينصف فيه، ويريد الله هدايته إلى قبول الحق، وينزع من قلبه الهوى والحمية في الانتصار للمذاهب، أو على ابن تيمية. وكتاب الله في هذه الآيات شرعاً(1/467)
لا يحتمل غير أن الطلاق الثلاث واحدة عند من يفهم، وينصف، ويعرف قوته من الصحة من جهة سنده، وموافقة الأصول لمعناه، ويخاف الله فيما يقضي به في دينه أو في عباده، ويعرف أن الله قد استرعى العلماء على دينه، كما أنه استرعى الحكام على عباده. ((وكل راعٍ مسؤولٌ عن رعيته))، ويتهيأ للاحتجاج بين يدي الله -تعالى- إذا سأله عما قضى به في دينه أو في عباده، وهو حاف عريان مكشوف الرأس بادي السوءة أقلف، يده مغلولة إلى عنقه. وليس في شريعة الإسلام ما يدل على أن الله شرع طلاق الثلاث جملة، لا لفظاً ولا معنىً ولا حكماً، ومن زعم هذا، ولم يقم عليه دليلاً صحيحاً، فقد قال على الله بغير علم. وقد دلت الآية التي في ((الأعراف)) على أن القول على الله بغير علم أشد من الشرك، وهي قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} إلى قوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وذلك عند من يفهم وينصف، ويفهم معنى هذه الآية الكريمة، وما فيها من عطف البعض على الكل، وأنه قد تكرر فيها تحريم القول على الله بغير علم، بالعطف خمس مرات، والشرك أربع مرات، والبغي بغير حق ثلاث مرات، والإثم مرتين، والفاحشة مرة)).
ثم قال: ((فصل: الكلام هنا على معنى الآيات الكريمات في حكم الطلاق الثلاث جملة، سواء كانت ثلاث مرات، أو مئة مرة، أو ثلاثين ألفاً)). ثم قال: ((وذلك أن ضمير الآية في قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل(1/468)
له}، أ، إن طلقها مرة ثالثة، فلا تحل له بعدها، المفهوم من قوله: {الطلاق مرتان}، لا يجوز فيه شرعاً غير ذلك، وهذا الحكم مختص به شرعاً؛ أي: بتحريم المطلقة عليه حتى تنكح زوجاً غيره، ويلزم أن يكون التحريم فيما بعد المرتين الأوليين، فإن كل واحدة من الأوليين له فيها الخيار بين الإمساك والتسريح بنص الآية، فيكون التقدير: فإن طلقها مرة ثالثة، فلا تحل له، هذا لا يحتمل خلافاً)).
قلت: فهذه الآية صريحها على هذا أن الثلاث متفرقات، والله أعلم.
ثم قال: ((ويدل على التقدير لزوم أنه لا يجوز في الآية أن يقال: فإن طلقها، فلا تحل له. لا يجوز أن يكون مستقلاً بنفسه، منفصلاً عما قبله؛ لما في ذلك من لزوم نسخ مشروعية الرجعة في الطلاق من دين الإسلام، ولا قائل به، وذلك لما فيه من عود ضمير المطلق فيه إلى غير موجود في الكلام قبله، معينٍ له، مختص بحكمة، فيكون عاماً في كل مطلق ومطلقة، ولا قائل به، وذلك أن قوله: {فإن طلقها فلا تحل له}، جملة مقيدة، والجملة نكرة، وهي في سياق شرط ونفي، فتعم كل مطلق ومطلقة، فيكون ذلك ناسخاً لمشروعية الرد في الطلاق في دين الإسلام، ولا قائل به، فتعين أن يكون قوله: {فإن طلقها فلا تحل له} إتماماً لما قبله؛ أي: متصلاً به، ويكون الضمير فيه عائداً على موجود في الكلام قبله، معين له، مختص بحكم تحريمه في طلاقه إن طلق، وليس فيما قبله ما يصلح عود هذا الضمير إليه، واختصاصه بهذا الحكم من التحريم شرعاً إلا المطلق المفهوم من قوله: {الطلاق مرتان}؛ لأنه لو عاد إلى من يطلق في صورة المفاداة المذكورة قبله، كان التحريم مختصاً بطلاق المفاداة، ولا قائل به، ولو عاد إلى من يطلق في صورة الإيلاء المذكورة(1/469)
قبل هذه الآيات، كان التحريم مختصاً بطلاق المؤلي، ولا قائل به، فتعين أن يكون الضمير عائداً إلى المطلق المفهوم من قوله: {الطلاق مرتان}، وهو في نظم الكلام متعين له شرعاً، لا يجوز عوده إلى غيره شرعاً، وأن يكون تقدير الكلام: فإن طلقها مرة ثالثة، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
وقد تبين أن معنى هذا الكلام وتقديره: أن الطلاق الرجعي مرتان، فإن طلقها بعدهما مرة ثالثة، فلا تحل له به بعدها حتى تنكح زوجاً غيره، فلم يشرع الله التحريم إلا بعد المرة الثالثة من الطلاق، والمرة الثالثة لا تكون إلا بعد مرتين شرعاً ولغة، وعرفاً، وإجماعاً، إلا ما وقع في هذه المسألة بقضاء الله وقدره)).
ثم قال: ((فصل: ومما يبين ويوضح بطلان تركيبهم شرعاً ولغة في الطلاق الثلاث وفي غيره أن لفظ التعدد فيه منصوب نصب المصدر، فإن تقدير الكلام: طلقتك طلاقاً، ومعنى المصدر في الكلام، طلقتك تطليقات ثلاثاً، ومعنى المصدر في الكلام إنما هو حكاية حال الفعل في صدوره عن الفاعل، والفعل له حالتان في صدوره عن الفاعل: حالة يكون فيها خبراً عما صدر وقوعه من الفاعل في الماضي، وحالة يكون فيها أداة لما يستعمل فيه من إنشاء العقود والفسوخ استعارة أو اشتراكاً، فإذا أريد به الحكاية والخبر عن الماضي، فإن أريد به إخبار عن حقيقة الفعل ونفي المجاز عنه، أتبع بالمصدر مطلقاً، وأما إذا استعمل الماضي في إنشاء عقد أو فسخ عقد، سواء قيل: إنه على وجه الاستعارة أو الاشتراك، فإن أريد العقد أو الفسخ، أتبع المصدر مطلقاً؛ مثل: طلقتها تطليقاً، وأما إن أريد تعدد العقد أو الفسخ بلفظ واحد في مرة واحدة بمنزلة تعدده بالتكرار مرة(1/470)
بعد مرة، وأتبع بالعدد وحده، أو مضافاً إلى المصدر ((المجموع)) مثل: طلقتك ثلاثاً، وقصد به التعدد، أو قال في اللعان: أشهد بالله خمساً أو خمس شهادات، أو قال في القسامة: أقسم بالله خمسين يميناً، أو قال بعد الصلاة: سبحان الله مرة، ثم قال: ثلاثاً وثلاثين، وكذا: الحمد لله، وكذا الله أكبر، وكذا لو قال في اليوم مرة واحدة: سبحان الله وبحمده، وأتبعها: مئة مرة، لم يكن بتكراره في الأيام والأوقات والعدد، فأما غير الطلاق، فلا خلاف فيه، وأما الطلاق، فوقع الغلط فيه من بعد الصحابة)).
ثم قال: ((فصل: وليس في شريعة الإسلام أن الله -سبحانه- شرع للرجل في طلاق امرأته ثلاث طلقات، ولا أنه حرمها عليه بثلاث طلقات، حتى يقع الشك في جواز جمعها بمثل هذا التركيب مرة واحدة، أو أنه لا يجوز، والطلاق أبغض الحلال إلى الله، والله أعلم)).
ثم قال: ((فصل: والقول في هذه المسألة بوقوع الطلاق جملة قد شذ، وهو غريب منفرد عن أمثال هذه المسألة، ليس له دليل في الشرع، ولا نظير في اللغة، ولا في قواعد المذاهب، بل كل مسألة تماثل هذه المسألة فقواعد المذاهب فيها بخلافه)).
ثم قال: ((وإنما غلط الناس في معاني دلائل هذه المسألة، وفي معنى سنة عمر في العقوبة بإمضاء طلاق الثلاث جملة، لما أكثر الناس منه على ما فيه من التلاعب بحكم الله، كما غضب منه عمر، وغضب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً.
وقد ذكر الشيخ شمس الدين بن القيم في ((ذم مصائد الشيطان)) لما تكلم على هذه المسألة: ((أن عمر -رضي الله عنه- ندم على ما فعله فيها من إمضاء الثلاث)).(1/471)
فإن صح ذلك فهو -والله أعلم- خوفاً من مثل ما وقع فيها بسبب ذلك، من قيام سوق التحليل بتيوس اللعنة، فإنه إنما سن العقوبة بإمضاء الثلاث لما تمكن الشيطان من التلاعب بالناس في ذلك كثيراً، بخلاف ما كان قبل ذلك في زمن النبوة، وفي خلافة النبوة، فإنه كان قليلاً في ذلك الوقت)).
ثم قال: ((فصل: وقد قدر الله -سبحانه وتعالى- بحكمته البالغة التي لا تدركها عقول عباده غلط أكثر الناس بعد الصحابة -رضي الله عنهم- في معنى ما سنه عمر من إمضاء الثلاث، واتخذوه شرعاً محتوماً من الشارع، وقضوا به على الناس، وفي هذا حرج عظيم على الناس، ولا ريب عند من يفهم وينصف ويريد الله هدايته إلى قبول الحق إذا تبين أن دلائل الشرع تدل على أنه واحدة شرعاً بالكتاب والسنة، فجعل الله غلط الغالطين في سنة عمر سبباً لما قدره من تضييع حكم هذه المسألة، كما قد يضيع حكم غيرها)).
ثم قال في آخر هذا الكتاب: ((فصل: فقد اجتمع عندي من الدلائل الصحيحة على صحة القول بأن الطلاق الثلاث واحدة سبعة أبواب من دلائل صحيحة، لا يعرف اجتماع مثلها على قول في مسألة خلافية، بل ولا في مسألة إجماعية فيما عرفت، ولا أعرف للقول بمضي طلاق الثلاث في مثل هذا الوقت -وقد قامت سوق التحليل- له مجالاً في دين الإسلام، ولا فيه شبهة صحيحة ولا قوية، ولا هذا يشكل على من يفهم(1/472)
وينصف ويريد الله هدايته إلى قبول الحق إذا تبين بعد نظره في هذه الدلائل، فإن كل باب منها على انفراده يكفي حجة بين يدي الله وعند من يفهم وينصف على القضاء في دينه بأن الطلاق الثلاث واحدة، مع معرفة حديث (بريدة):
أحدهما: كتاب الله على وجه التنصيص، كما تقدم.
الثاني: السنة، وهي الأحاديث الثلاثة الصحيحة التي رواها طاوس عن ابن عباس وأبي الصهباء: ((أن الطلاق الثلاث كانت واحدةً في زمن النبوة، وفي خلافة النبوة، وفي بعض زمن عمر))، ولم يصح في الباب شيء غيرها، وليس للطعن فيها مجال.
الثالث: الإجماع في زمن النبوة، وخلافة النبوة وبعض زمن عمر، ولا تشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في الإجماعات أصح من هذا الإجماع.
الرابع: القياس الصحيح على مواقع الإجماع في كل ما يماثل حكم هذه المسألة.
الخامس: الاعتبار الصحيح بأحكام الله في عباده، الموافقة لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ}.(1/473)
السادس: قواعد المذاهب بالحكم في كل ما يماثل هذه المسألة بما يماثل هذا القول: بأن الطلاق الثلاث واحدة.
السابع: قواعد اللغة كما تقدم)).
قال: (وقد بسط الكلام في كتاب ((التحفة والفائدة)) ) ثم قال: ((وقد جعلت على نفسي في كل مسألة من هذه المسائل التي أراني الله فيها أن قول ابن تيمية هو شريعة الإسلام، من يريني شريعة إسلامية يصح الاعتماد عليها في مخالفتي، أو أجد أحداً فاهماً لبيباً يفهم ما يقول، وما يقال: وكيفية الاستدلال، بحيث يعرف من نفسه فيما يعرفه أنه يعرفه، فلا يتمارى فيه، وفيما لا يعرفه أنه لا يعرفه، فلا يماري فيه، ولا أجد إلا من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فلا حول ولا قوة إلا بالله)). ولم يذكر شيئاً هنا.
فصل
قال الشيخ جمال الدين في كتاب ((التحفة والفائدة)): ((أما بعد، فإن الله -تعالى- قد أطلعني بفضله ورحمته على شيء من غوامض علمه المخزون في غوامض شريعته التي أرسل إلينا بها عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وهي كتابه وسنة رسوله، وذلك في أصول الدين وفروعه، وذلك مع بعد ذهني، وقلة علمي وقدري، وقد أطلع الله من شاء من عباده على ما يشاء من علمه، ويسر من شاء منهم للقيام فيه بالقسط، وانظر إلى تواضعه، ولطافته؛ فإنه كان في الزهد والورع والعبادة والتأله، والصدقة والخير، على ما لا(1/474)
يعلمه إلا الله تعالى. وأما ابن رجب، فإنه كان زاهداً ورعاً أيضاً، لكن بلغني أنه ما عمل كتابه إلا حمية، وذلك أنه كان متباغضاً هو وأولاد مفلح والحنابلة المقادسة، فعمل هذا الكتاب لأجلهم، وبلغني أنه كان شخص يقال له ((الحريري))، وكان حنبلياً، وكان يفتي بهذا، فأذاه ابن رجب وضربه)).
كما جرت للدوالبي على زماننا كما تقدم، والذي يظهر أن أولاد مفلح والحنابلة المراودة، والذين كانوا على زمانه كانوا يفتون بهذا، وهذا الذي فعله لا يجوز له، فإن أحداً لا يجوز له أن يلعب في دين الله لأجل معاداة الغير. والله أعلم.
ثم قال الجد في هذا الكتاب: ((فصل: وقد أجهدت نفسي في هذه المسألة، وأطلت النظر فيها من نحو العشرين سنة، ولا سيما في هذا الوقت بسبب ما وقع من الرجل الظالم في حق الرجل الصالح فيها))، قلت: وأظن الرجل الظالم ابن رجب، والرجل الصالح الحريري.
ثم قال: ((ووددت أن أجد في شريعة الإسلام نصاً يصح الاعتماد عليه والاحتجاج به بين يدي الله في موقف القيامة، على صحة المنقول في المذاهب، من القول بوقوع الطلاق الثلاث جملة)).
ثم قال في آخر هذا الكتاب: ((فصل: وقد ألجأني الغضب لله -سبحانه وتعالى-، ولرسوله في هذه المسألة، ولنفسي أيضاً، واللجاج من حدة النفس إلى أن جعلت على نفسي جعالة شرعية ألف درهم لمن يعرف(1/475)
شريعة من شرائع الإسلام يصح الاحتجاج بها بين يدي الله على صحة القول بوقوع الطلاق الثلاث جملة شرعاً، أو على جواز العقوبة بإمضائه في هذا الوقت، مثل جوازها لعمر، أو على جواز التمسك في ذلك بالمنقول في المذاهب بعد بيان مخالفة دلائل الشرع له، فيتحقق بها، ويعلمني أنها بالتحرير والتحقيق، ولم أجعل ذلك لوهم تلبد، ولا لمشاغب مصادر، يماري ويكابر بدعوى التقليد بالتلفيق، من غير تحرير ولا تحقيق، ولذلك جعلت على نفسي في مسألة الحلف بالطلاق بأداة الشرط والجزاء وغيرها مما وهم فيه الغالطون على شيخ الإسلام ابن تيمية مثل مسألة الوقف المترتب على الذرية إذا مات منهم أحد قبل قبول الوقف إليه، وخلف ولداً، ومسألة الزيارة، ومسألة الحوادث، فكل منها قد جعلت على نفسي فيه مثلما جعلت على نفسي في هذه المسألة على هذا الوجه، وهذا القدر المجعول هو قدري بالنسبة إلى حالي، لا قدر هذه الدلائل، ولا قدر من يعرفها ويعلمها؛ فإن الدنيا لا تقوم عندي لذلك؛ لما أجده في قلبي من الهم والحزن من تعطل هذه المسائل عن العمل فيها بمقتضى دلائل الشرع ظاهراً، ولا أجد للحق ناصراً، حتى إن خوفي من إظهار الحق في ذلك أشد من خوفي من أرباب المنكر المجمع على تحريمه، وليس فيه إلا ما قدره الله، وحكمته اقتضت بتسلط الشيطان على هذا النوع الآدمي من خلقه، حتى صاروا حطباً إلى النار، إلا واحداً من كل ألف إلى الجنة، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، والله الموفق)).(1/476)
الفصل السابع في فصل النزاع بين الفريقين
فصل النزاع أن يقال: إن كانت مدخولاً بها، وقع ثلاثاً، وإن لم يكن مدخولاً بها، وقع واحدة، كما قد ذكره ابن رجب وأقره. وقد ثبت عن أكثر أهل العلم، فقد وردت أحاديث بالوقوع، وأحاديث بعدمه، فنجمع بين الأحاديث ونقول: يقع بالمدخول بها ثلاثاً، وبغير المدخول بها واحدة؟ فكيف وقد وردت أحاديث أنه يقع بالمدخول بها ثلاثاً، وبغير المدخول بها واحدة؟ فلو لم ترد أحاديث، وجمعنا بين الأدلة، لجاز، فكيف وقد ورد في هذا أحاديث غير واحد؟ والله أعلم.
فصل
وفصل النزاع أيضاً أن يقال: يقع بالبكر واحدة، وبغير البكر ثلاثاً، جمعاً بين الأدلة، وهذا قد ورد عن طائفة من العلماء.
قال في ((المغني)): و((كان عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وأبو(1/477)
الشعثاء، وعمرو بن دينار، يقولون: من طلق البكر ثلاثاً، فهي واحدة)). وهذا قد ورد عن هؤلاء، فنجمع بين الأدلة، والله أعلم بالصواب.
فصل
وفصل النزاع أيضاً أن يقال: إن كان متقي الله -سبحانه وتعالى- في الطلاق، ولا يطلق كثيراً، وقع واحدة، وإن كان ممن لا يتقي الله -تعالى- في الطلاق، ويطلق كثيراً، وقع ثلاثاً، ردعاً له، كما هو ظاهر الحديث، فإنهم قالوا: إنما كان الطلاق واحدة، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر؛ لأنم كانوا يتقون الله في الطلاق، وإنما أحدثه عمر لتهاونهم فيه وكثرته منهم. فهذا فصل النزاع فيها، وهو ظاهر، ونص الشارع، وأكثر الأحاديث تدل عليه، والله أعلم بالصواب.
فصل
وفصل النزاع أيضاً أن يقال: إن كان الزوجان زاهدين في بعضهما، وقع ثلاثاً، وإن كانا راغبين في بعضهما؛ لوجود الولد أو نحوه، وقع واحدة، كما هو صريح حديث ((ركانة))، وهو قوي أيضاً، ويجمع بين الأدلة فيه أيضاً. والله أعلم بالصواب.(1/478)
فصل
قال الإمام جمال الدين عن ابن القيم: ((إن عمر ندم على ما فعل، وصح)).
والله أعلم بصحة هذا، والله أعلم بالصواب.(1/479)
الفصل الثامن في مذاهب الناس في ذلك
المذهب الأول: أن الثلاث تقع باللفظ الواحد ثلاثاً، وهو مذهب من تقدم ممن ذكر أنه أفتى به.
المذهب الثاني: أنه لا يقع إلا واحدة، وهذا مذهب من تقدم أنه أفتى به أيضاً.
المذهب الثالث: يقع بالمدخول بها ثلاثاً، وبغير المدخول بها واحدة، وهذا قواه ابن رجب في كتابه، ونصره.
المذهب الرابع: يقع بالبكر واحدة، وبغيرها ثلاثاً، وهو مذهب عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، وعمرو بن دينار.
المذهب الخامس: أن يقال: يقع بالمتقي الله واحدة، وبالمطلق كثيراً ثلاثاً، كما هو ظاهر الواقعة.
المذهب السادس: إن كانا راغبين في بعضهما من وجود ولد ونحوه، وقع واحدة، كما هو صريح حديث ((ركانة)).
المذهب السابع: الوقف في هذه المسألة، وهو قول عبد الله بن الزبير، فإنه لما جاءته، توقف فيها، وقال: ((إن هذا لأمر مالنا فيه قولٌ، فاذهب إلى عبد الله بن عباسٍ، وأبي هريرة)).(1/480)
المذهب الثامن: إن نوى الثلاث، وأنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وقع، وإلا فلا. ومثل هذه المسألة في المذاهب، ما إذا قال: أنت علي حرام، فإن فيها خمسة عشر مذهباً حكاها في ((أعلام الموقعين)).
أحدها: أنه لغو باطل لا شيء عليه فيه، وهو أحد الروايتين عن ابن عباس، وبه قال مسروق، وأبو سلمة، وعطاء، والشعبي، وداود، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد أقوال المالكية، اختاره أصبغ. والله أعلم.
المذهب الثاني: أنها ثلاث تطليقات، وهو قول علي، وزيد [بن ثابت]،(1/481)
وابن عمر، والحسن البصري، ومحمد بن عبد الرحمن [بن أبي ليلى].
المذهب الثالث: أنها بهذا القول حرام عليه، صح عن أبي هريرة، والحسن، وخلاس، وجابر بن زيد، وقتادة، وعلي، فيكون عنه روايتان.
المذهب الرابع: الوقف فيها، صح عن علي، وهو قول الشعبي.
المذهب الخامس: أنه إن نوى به الطلاق، كان طلاقاً، وإلا، فهو يمين، وهو قول طاوس، والزهري، والشافعي، ورواية عن الحسن.
المذهب السادس: أنه إن نوى الثلاث، فثلاث، وإن نوى واحدة، فواحدة بائنة، وإن نوى يميناً، فهو يمين، وإن لم ينو شيئاً، فلا شيء، قاله سفيان، وحكاه النخعي عن أصحابه.
المذهب السابع: مثل هذا، إلا أنه إن لم ينو شيئاً، فهو يمين يكفرها، وهو قول الأوزاعي.(1/482)
المذهب الثامن: مثل هذا أيضاً، إلا أنه إن لم ينو شيئاً، فواحدة بائنة.
المذهب التاسع: أن فيها كفارة ظهار، صح عن ابن عباس، وأبي قلابة، وسعيد بن جبير، ووهب بن المنبه، وعثمان التيمي، وهو إحدى الروايات عن أحمد.
المذهب العاشر: أنها تطليقة واحدة، وهو إحدى الروايتين عن عمر، وقول حماد بن أبي سليمان.
المذهب الحادي عشر: أنه ينوي ما أراده من ذلك في إرادة أصل الطلاق وعدده، وإن نوى تحريماً بغير طلاق، فيمين مكفرة، وهو قول الشافعي.
المذهب الثاني عشر: أن ينوى أيضاً في أصل الطلاق وعدده، إلا أنه إن(1/483)
نوى واحدة، كانت بائنة، وإن لم ينو طلاقاً، فهو مؤلٍ، وإن نوى الكذب، فليس بشيء، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
المذهب الثالث عشر: أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين على كل حال، صح عن أبي بكر، وعمر، وابن عباس، وعائشة، وزيد، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعكرمة، وعطاء، ومكحول، وقتادة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، ونافع، والأوزاعي، وأبي ثور، والله أعلم.
المذهب الرابع عشر: أنها يمين مكفرة، فيها عتق رقبة، صح عن ابن عباس، وأبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وجماعة من التابعين.(1/484)
المذهب الخامس عشر: أنه طلاق، ثم إن كانت غير مدخول بها، فهو ما نواه من الواحدة وما فوقها، وإن كانت مدخولاً بها، فثلاث، وإن نوى أقل منها، وهو إحدى الروايتين عن مالك.
وذكر بعد هذا تحديد كل مذهب من الأربعة، والله أعلم بالصواب، ولو كان هذا الكتاب بصدده، ذكرناه، لكنه ليس بصدده، وذكرنا هذا لأجل الفائدة.(1/485)
الفصل التاسع في ذكر الثلاث إذا أتت متفرقة
هذه المسألة لا خلاف فيها أنه يقع ثلاثاً، لا لجمال الدين، ولا للشيخ تقي الدين، ولا لابن القيم، ولا لأحد من الأئمة، ولا لأحد من المسلمين، بل الإجماع منعقد على أنه يقع، وتحرم عليه إلا أن تنكح زوجاً غيره، بالكتاب من قوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره}، على ما ذكرناه، والسنة أشياء كثيرة، والإجماع منعقد عليه، والله أعلم بالصواب.(1/486)
الفصل العاشر في أنه إذا ثبت الثلاث، لا تحل حتى تنكح زوجاً غيره
هذا أيضاً من المسائل التي لا خلاف فيها، على أنه إذا طلقها ثلاثاً واحدة بعد واحدة، أو حيث قلنا بوقوع الطلاق الثلاث، فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا صحيح من الكتاب؛ لقوله: {حتى تنكح زوجاً غيره}، والسنة، والإجماع، وهذه المسألة لا خلاف فيها بين المسلمين، ومن قال بخلاف هذا، فقد خرج -والعياذ بالله- عن ملة الإسلام، ولزم استتابته، فإن تاب، وإلا قتل؛ لأنه أحل ما حرم الله ورسوله، فإن فعل هذا بالمحلل الذي متى أحلها طلقها، لم يجز هذا بإجماع المسلمين كما سيأتي ذكره؛ لأن هذا النكاح لا يصح، ووجوده وعدمه على حد سواء.(1/487)
الفصل الحادي عشر ذكر المحلل وأحكامه والله الموفق
قد صح عن عمر -رضي الله تعالى عنه-: ((أنه توعد فاعله بالرجم)). وانظر إلى هذه المفسدة، وهي كشف الفروج، وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد، بل عمى في عين الدين. وشجى في حلوق المؤمنين، من قبائح تشمت أعداء الدين به، فإنها قد غيرت من الدين رسمه، وسمي هذا الفاعل بالتيس المستعار، والتيس الملعون، لما حل إزارها، وكشف النقاب، وخلا في ذلك المرتع، والزوج أو الولي يناديه: لم نقدم لك هذا الطعام لتشبع منه، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ورب العالمين أنك لست معدوداً من الأزواج، ولا للمرأة [أو أوليائها بك رضا ولا فرح ولا ابتهاج]، وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب، الذي لولا هذه البلوى، لما رضينا وقوفك على الباب، فالناس يظهرون النكاح فرحاً وسروراً، ونحن نتواصى بكتمان هذا(1/488)
النكاح، ونجعله أمراً مستوراً بلا إعلان، بل التواصي بهس ومس والإخفاء والكتمان. فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها، والتيس لا يسأل عن شيء من ذلك؛ فإنه دخل على زوالها وعدم الإمساك. فسل التيس المستعار: هل له في ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد؟ وسله: هل يعد هذا نكاحاً في الشرع، أو العقل أو الفطرة؟ وكيف يلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أمته نكح نكاحاً شرعياً صحيحاً، ولم يرتكب في عقده محرماً ولا قبيحاً؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟ وكيف تعير به المرأة طول عمرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك بين النسوان؟ وسل هذا التيس: هل حدث نفسه بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟ وهل طمعت المصابة منه بشيء من ذلك؟ أو طلب منها ولداً نجيباً، أو أمل أن تتخذه عشيراً وحبيباً؟ وسل المرأة: هل تسأل عن حسبه أو ماله، أو حسن عشرته وسعة نفقته؟ وسل التيس: هل يسأل قط عما يسأل عنه من قصد حقيقة النكاح، والنقد الذي يتوصل به الخاطب إلى الملاح؟ وسله: هل هو أب يأخذ، أو أب يعطي؟ وسله عن وليمة عرسه: هل أولم ببعير أو بشاة، أو دعا أحداً من أصحابه فقضى حقه وأتاه؟ وسله: هل يهنأ ويسأل كما يسأل المزوجون، وهل قيل له: ((بارك الله لكما وعليكما، وجمع بينكما في خيرٍ وعافية))، أم ((لعن الله المحلل والمحلل له)) لعنة تامة وافية؟(1/489)
فصل
ثم سل أدنى من له اطلاعٌ على أحوال الناس: كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته، فصارت له بعد الطلاق من الأخدان، وكان بعلها منفرداً بوطئها، فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان! فلعمر الله كم أخرج التحليل بن مخدرة من سترها إلى البغاء، وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء، ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القنا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها! وسل [أهل] الخبرة: كم عقد المحلل على أم وابنتها، وكم جمع ماءه في أرحام ما زاد على أربع، وفي رحم الأختين! وكل ذلك محرم باطل في المذهبين. وهذه مفاسد التحليل، لا ينبغي أن تفرد بالذكر، وهي كموجة واحدة من الأمواج، ومن يستطع عد أمواج البحر؟ وكم من امرأة كانت قاصرة الطرف على بعلها، فلما ذاقت عسيلة المحلل خرجت على وجهها، فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد ذلك بشملها! و[ما] كان هذا سبيله، فيكف يحتمل أكمل الشرائع(1/490)
[وأحكمها] تحليله؟ فصلاة الله وسلامه على من صرح بلعنته، وسماه: التيس المستعار، كما شهد به علي، وعبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن عباس، وأخبر عبد الله بن عمر: ((أنهم كانوا يعدونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحاً)). وفي ((مسند)) الإمام أحمد، و((سنن)) النسائي، و((جامع)) الترمذي: عن ابن مسعود قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له))، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعنه أيضاً قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/491)
الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والمحلل والمحلل له، وآكل الربا وموكله))، رواه النسائي والإمام أحمد، وروى الترمذي عنه: ((لعن الله المحلل))، وصححه، ثم قال: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: عمر، وعثمان، وعبد الله بن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين. ورواه الإمام أحمد من حديث أبي الواصل، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المحلل والمحلل له)).
وفي ((المسند))، و((سنن)) أبي داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث الشعبي، عن الحارث، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه لعن المحلل والمحلل له)).
وفي مسند الإمام أحمد، وأبي بكر بن أبي شيبة من حديث عثمان بن الأخنس، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المحلل والمحلل له)). وعن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له)). قال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال: حديث حسن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا إسناده جيد.(1/492)
وعن جابر بن عبد الله: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له)).
وعن عقبة بن عامر قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له))، رواه الحاكم، وهو في سنن ابن ماجه.
وعن نافع عن أبيه قال: ((جاء رجلٌ إلى ابن عمر، فسأله عن رجلٍ طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخٌ له من غير مؤامرةٍ بينه ليحلها لأخيه [هل تحل للأول]؟ قال: لا، إلا نكاح رغبةٍ، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، [صححه الحاكم، وقال]: هذا على شرط الشيخين، [ولم يخرجاه، وقال بكر بن عبد الله المزني: ((لعن الله المحلل والمحلل له))] وكان يسمى في الجاهلية: التيس المستعار.
وعن الحسن البصري قال: ((كان المشركون يقولون: هذا التيس المستعار)).
فصل
فسل هذا التيس: هل دخل في قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً} وهل دخل في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} وهل دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج))؟(1/493)
وهل دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة؟ وهل دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ من سنن المرسلين: النكاح، والتعطر، والختان، وذكر الرابعة))؟ وهل دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((النكاح سنتي، ومن رغب عن سنتي فليس مني))؟ وهل دخل في قول ابن عباس: ((خير هذه الأمة أكثرها نساءً))؟ وهل له نصيب من قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، [والمكاتب يريد الأداء]،(1/494)
وذكر الثالث))؟ أو إنما دخل في لعن الله ورسوله؟ فهل يلعن الله ورسوله من يفعل مستحباً أو جائزاً أو مكروهاً أو صغيرة، أم لعنته مختصة بارتكاب الكبيرة؟
وسله: هل كان في الصحابة محلل، أو أقر رجل منهم على التحليل؟ وسله: لأي شيء قال عمر: لا أوتى بمحللٍ أو محللٍ له إلا رجمتهما))؟ فإذا كان نكاح المتعة الذي يتم الشهرين، بل الثلاثة والسنة حراماً. فكيف المحلل الذي يقيم ساعة ولا غرض له في النكاح البتة؟! فكيف يحل في شرع تحليل هذا؟ فهذا لا يباح في ملة من الملل قط، ولم يفعله أحد من الصحابة، ولا أفتى به. فألزم عمر بالثلاث إذا جمعوها، ليكفوا عنه، إذا علموا أن المرأة تحرم به، وأنه لا سبيل إلا إلى عودها بالتحليل. فإنه لما تغير الزمان، وبعد العهد بالسنة، وآثار القوم، وقام سوق التحليل، ونفق في الناس، فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقلله ويخفف شره. وإذا عرض على من وفقه الله، وبصره بالهدى، وفقهه في الدين مسألة كون الثلاث واحدة، ومسألة التحليل، ووازن بينهما، تبين له التفاوت، وعلم أي المسألتين أولى بالدين، وأصلح للمسلمين.
فهذه حجج المسألتين قد عرضت عليك، وقد أهديت -إن قبلتها- إليك. وما أظن عمى التقليد إلا يزيد الأمر على ما هو عليه،(1/495)
ولا يدع التوفيق يقودك اختياراً إليه، وإنما أشرنا إلى المسألتين إشارة تطلع العالم على ما وراءها. وبالله التوفيق.
فصل
فانظر إلى المسألتين، فهذه المسألة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وبعض خلافة عمر، حتى قيل: إنه إجماع، والنصوص مانعة من التحليل، مصرحةٌ بلعن فاعله، وفيه أحاديث كثيرة جداً، والسلف مجمعون عليها، والإجماع على أنه محرم، ثم صار على عهد عمر: الثلاث ثلاث، والتحليل ممنوع منه، وعمر من أشد الصحابة فيه، وكلهم على مثل قوله فيه، ثم صار في هذه الأزمنة التحليل كثيراً مشهوراً، والثلاث ثلاث.
وعلى هذا فيمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بمعاقبة عمر من وجهين:
أحدهما: أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام، لاسيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه، فكيف يعاقب من لم يرتكب محرماً عند نفسه؟
الثاني: أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدوداً على عهد الصحابة، والعقوبة إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه، كان تركها أحب إلى الله ورسوله. ولو فرضنا أن التحليل مما أباحته الشريعة -ومعاذ الله- لكان المنع منه إذا وصل إلى هذا الحد الذي قد تفاحش قبحه من باب سد الذرائع، وتعين على المفتين والقضاة المنع منه جملة، وإن فرض أن بعض أفراده جائز؛ إذ لا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وصدراً(1/496)
من خلافة عمر أولى من الرجوع إلى التحليل، والله الموفق. انتهى كلامه في ((أعلام الموقعين)).
فصل
وهذا مذموم من وجوه:
أحدها: أن الله ورسوله والصحابة والتابعين لعنوه، ولعنهم له لا يكون إلا عن كبيرة جداً.
الثاني: أن ما فعله زنا؛ لأن هذا ليس بنكاح، ولا يصح هذا النكاح عند أهل العلم، ولهذا قال عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- برجمه.
الثالث: أنه ارتكب كبيرة، وذلك يخشى عليه منها، فإن من ارتكب الكبائر يخشى عليه أن يموت على غير الملة المحمدية.
الرابع: أن النبي والصحابة والتابعين سموه تيساً، والتيس لا يكون إلا من باب الذم والمهانة والاحتقار، وشبه بالتيس؛ لأن التيس يضرب الغنم بلا عقد ولا صداق ولا غيره، فشبه به، وكل ما شابه الشيء أعطي حكمه، فهو يأخذ بلا مهر، ويجامع هذه وهذه بلا عقد، لأن العقد وجوده وعدمه عنده سواء، وكذا الحلال والحرام، والمرأة وبنتها، فشبه بالتيس.
الخامس: أنه سماه سفاحاً، والسفاح هو مثل التيس الذي يجامع بلا عقد ولا غيره، كما قيل في التيس، وهو مذموم من جميع الوجوه.
فصل
والمحلل له أيضاً ملعون، ومذموم معه، لأنه أعانه على هذا كما قالوا في آكل الربا وموكله، فإنه لولا هذا، ما حلل هذا، والمرأة أيضاً مذمومة(1/497)
معهم؛ لأنها أمكنته من نفسها، ولهذا قال عمر -رضي الله تعالى عنه- برجمهم؛ لأنها هي أيضاً حكمها حكم الزانية سواء، فترجم هي وهو. والله الموفق.
فصل
قال الشيخ جمال الدين الإمام: ((وهذا مسافح ليس بزوج، ولا ناكح شرعاً، فإن الزوج الناكح لا يكون إلا على الوجه الذي شرعه الله وأحله، كما قال -سبحانه- في آية المحرمات في النكاح: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم} الآية، إلى أن قال: {كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين}، فجعل -سبحانه- المبتغي بماله المحصن غير المسافح، فمن لم يكن مبتغياً بماله محصناً لنفسه، فليس بزوج، ولا ناكح شرعاً، فهو مسافح وتيس اللعن في هذا الوقت)).
قلت: وقد دل الحديث على أن هذا سفاح، كما في الحديث المتقدم: ((كنا نعده على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سفاحاً))، فهو مسافح.
فإن قيل: صورة النكاح والطلاق قائمة فيه بخلاف المسافحة، قيل: قائمة على مخادعة الله ورسوله، وليس يعمل فيها إلا بمعنى المؤاجرة، فهي مؤاجرة، وليست مناكحة حقيقية، فهي مسافحة. والله أعلم بالصواب.
قال ابن مفلح في ((الفروع)): ((وإذا أفضى إيقاع الثلاث إلى التحليل، كان ترك إيقاعه خيراً من إيقاعه)).(1/498)
الفصل الثاني عشر في أن الثلاث هل تحرم أو لا؟
هذه المسألة فيها روايات:
إحداهن: تحرم، جزم به في ((العمدة))، و((الإيضاح))، وقدمه في ((الفروع))، وقال: ((اختاره الأكثر))، واختارها أبو بكر، وأبو حفص.(1/499)
وروي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، كما روي عن عمر: ((أنه كان إذا أتي برجلٍ طلق ثلاثاً أوجعه ضرباً)).
وعن مالك بن الحارث قال: ((جاء رجلٌ إلى ابن عباسٍ فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثاً، فقال: إن عمك عصى الله، وأطاع الشيطان، وذلك لقوله تعالى: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} إلى قوله: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}، ثم قال بعد ذلك: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}، {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً}، ومن جمع ثلاثاً، لم يتق الله، ولم يجعل الله له مخرجاً، ولا من أمره يسراً)).(1/500)
وعن محمود بن لبيد، قال: ((أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فغضب، ثم قال: أيلعب بكتاب الله [عز وجل] وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجلٌ فقال: يا رسول الله! ألا أقتله؟)).
وفي حديث ابن عمر قال: ((قلت: يا رسول الله! أرأيت لو طلقتها ثلاثاً؟ فقال: إذاً عصيت ربك، وبانت منك امرأتك)).
وروى الدارقطني بإسناده عن علي قال: ((سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً طلق امرأته البتة، فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزواً -أو دين الله هزواً ولعباً؟- من طلق البتة ألزمناه ثلاثاً، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج، فحرم كالظاهر. وعنه: في الطهر، لا الأطهار، قدمه في ((الفروع)) بعد الأول. وعنه: لا يحرم.(1/501)
اختاره الخرقي، وقدمه في ((الروضة))، وغيرها. فعلى هذه الرواية يكره ذكره في ((الفروع)).
وقدم اختيار الخرقي في ((المغني)). وهو مذهب الشافعي، وأبي ثور، وداود. وروي ذلك عن الحسن بن علي، وعبد الرحمن بن عوف، والشعبي.
وعنه: يباح. ذكرها القاضي أبو يعلى في ((شرح الخرقي))، وذكر أنه اختيار الخرقي، وليس هو الصواب، وإنما الصواب على ما ذكره في ((المغني)) أنه ليس حراماً.
بقي هل هو مباح؟ أم مكروه؟ لم يذكره الخرقي، وقال: هو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك. قال: وهو قول أصحابنا. والله أعلم.(1/502)
وقدم للإباحة في ((إدراك الغاية)). ونقل أبو طالب: هو طلاق السنة. وقدم في ((الانتصار)) رواية تحريمه حتى تفرغ العدة. وجزم به في ((الروضة)). والله أعلم بالصواب.
فصل
وإنما عملت هذا الكتاب لأنصف بين الفريقين، فإن الجد جمال الدين الإمام، والشيخ تقي الدين في جهة، وقد صنف جمال الدين فيه كتاباً في أنه واحدة. وابن رجب في جهة، فإنه صنف في الوقوع كتاباً، وابن القيم ذكر القولين، لكن ميله إلى عدم الوقوع.
فليختر العاقل ما يوجب الإنصاف، ويختار جواباً يقدم به على رب العباد، ولا يختار شيئاً حمية ورياء؛ فإن الدنيا مفروغ منها، وهي زائلة، فيتخذ لنفسه ما يصلح لنفسه، وليتخذ جواباً يقف به بين يدي الله -عز وجل-، حين يقف حاسراً عريان مكشوف الرأس حيران، فالدنيا جميعها ما تساوي فلساً. ولينصف حيث يجب الإنصاف، ولا يقل في المسائل باجتهاد نفسه؛ فإن العلماء رعاة على دين الله، والراعي مسؤول(1/503)
عن رعيته، فإنه إذا أبصر يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، الأهوال والأمور، ود لو أنه اتبع الحق، وخلى الفجور. وليس أقول هذا في هذه المسألة، بل في جميع المسائل، والحذر كل الحذر من أن يبيح ما حرم، أو يحرم ما حلل، أو يتكلم في صفات الله بغير علم، أو يقول ما يخرج به عن الإسلام. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أنجز هذا الكتاب يوم الخميس في شهر جمادى الأولى سنة ستين وثمان مئة على يد جامعه العبد الفقير الضعيف الحقير المعترف بالذنب والتقصير: يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي الجماعيلي. عفا الله عنه، وختم له بخير، ولجميع المسلمين.(1/504)