درء اللوم والضيم في صوم يوم الغيم
تصنيف
الإمام العلامة أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي
المتوفى سنة (597 هـ) رحمه الله
تحقيق وتعليق
جاسم بن سليمان الفهيد الدوسري
عفا الله عنه
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الأولى
1415 هـ - 1994 م(/)
الجزء الأول من كتاب: ((درء اللوم والضيم في صوم يوم الغيم))
تأليف الإمام العالم شيخ الإسلام سيد الفقهاء شرف الحفاظ مفتي الفرق جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي (قدس الله روحه ونور ضريحه)
رواية: ولده السيد العالم الأوحد الفقيه محيي الدين أبي محمد يوسف -أبقاه الله تعالى- عنه.
رواية: عبد الرازق بن رزق الله بن أبي بكر الحنبلي الرسعني عنه.(1/39)
(1/40)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم الأوحد، شيخ الإسلام، سيد العلماء، ناصر الحق جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي -رحمه الله-:
الحمد لله الذي حفظ شرعه المنقول عن الرسول بأئمة حفاظ، يعرفون ما صح وما لا يصح من جميع الألفاظ، وكمل من شاء منهم بعرفان الفقه فتم بهم الحفاظ، فهم ينفون تحريف الغالين وانتحال المبطلين بغزارة العلم وقوة الاستيقاظ، وصلى الله على سيد الأنبياء محمدٍ صلاةً للسان بها إلظاظ، وعلى أصحابه وأتباعه إلى أن تسوق جهنم ملائكتها الغلاظ،
أما بعد،
فإن الميل إلى الهوى والعصبية شأن السفهاء، وقد تلبس به جماعةٌ يعدون في العلماء، فلا ما عرفوه من العلم راضهم، ولا بلغوا -لافتضاح باطلهم- أغراضهم.
ومذهبنا –بحمد الله- محفوفٌ بالنقل محشودٌ، فهو لمكان فضله(1/41)
وفضائله محسودٌ، ولما بنى إمامنا أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- على أثبت أساسٍ، لم يستفد حساده إلا صداع الرأس!.
فمنهم: من يعيبه بالمفردات، وما فيها مسألةٌ وإلا وقد تقدمه فيها ساداتٌ. ومنهم من يقول: قد أفتى بمنام، وما يبقى مع المتخرص المباهت كلامٌ!.
ومنهم: من يسمينا: (الحشوية) إشارةً إلى رواية الحديث، وما يصدر هذا إلا عن عقدٍ خبيثٍ.
ومنهم: من يتعرض لذم تابعيه وصحابته، ثم يقول عند الموت: احملوني إلى تربته!.
وممن له قصدٌ لهذا المذهب طريفٌ عجيبٌ: أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، فإنه ملأ بعلم أحمد جميع كتبه، ثم تحامل عليه وعلى أهل مذهبه، وله في ((التاريخ)) وغيره وكزاتٌ، والله المجازي على المقاصد والنيات:
قال في ترجمة أحمد بن حنبل: ((إمام المحدثين))، وفي ترجمة(1/42)
الشافعي: ((زين الفقهاء))، فلم يذكر أحمد بالفقه، وما ضره ذلك فقد شهد له بالفقه الشافعي، والخطيب يروي هذا:
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج: قثنا الأصم قال: سمعت أبا يعقوب الخوارزمي يقول: سمعت حرملة بن يحيى يقول: سمعت الشافعي يقول: خرجت من بغداد وما خلفت بها أحداً أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل.
وحكى الخطيب في ترجمة حسين الكرابيسي أنه قال عن أحمد: أي شيءٍ نعمل بهذا الصبي؟! إن قلنا: لفظنا بالقرآن مخلوق. قال: بدعةٌ. وإن قلنا: غير مخلوقٍ: قال: بدعةٌ.(1/43)
فصل: وللخطيب دسائسٌ في ذم أصحاب أحمد [بن حنبل] عجيبةٌ، لا يفطن لها إلا المبرز في العلم والفهم، ومن ذلك:
أنه ذكر مهنى بن يحيى، وكان من كبار أصحاب أحمد [بن حنبل]، وذكر عن الدارقطني أنه قال: مهنى ثقةٌ نبيلٌ. ثم حكى بعد ذلك عن أبي الفتح الأزدي أنه قال: مهنى منكر الحديث. وهو يعلم أن الأزدي مطعون عليه عند الكل، لا يقبل قوله.
قال الخطيب: حدثني أبو النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد الأرموي، قال: رأيت أهل الموصل يوهنون أبا الفتح الأزدي ولا يعدونه شيئاً.
قال الخطيب: وحدثني محمد بن صدقة الموصلي أن أبا الفتح قدم(1/44)
بغداد على ابن بويه، فوضع له حديثاً: أن جبريل كان ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورته. فأعطاه دراهم.
أفلا يستحيي الخطيب أن يقابل قول الدارقطني في مهنى ومدحه يقول هذا!! وإن هذا يدل على قوة عصبيةٍ وقلة دينٍ.
ومال الخطيب على أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث بن أسد التميمي، وهذا التميمي قد سمع من أبي بكر النيسابوري، والقاضي المحاملي، ومحمد بن مخلد الدوري، ونفطويه وغيرهم. وكان جليل القدر، له تصانيف في الأصول والفروع والفرائض، فتعصب عليه الخطيب: فحكى عن أبي القاسم عبد الواحد بن علي العكبري أن التميمي وضع حديثاً.
وقد ذكر الخطيب أن هذا العكبري لم يكن من أهل الحديث والعلم، إنما كان يعرف شيئاً من العربية، ولم يرو شيئاً من الحديث.
وكان هذا العكبري أيضاً معتزلياً، وكان يقول: إن الكفار لا يخلدون في النار. فكيف يقبل قوله في الأئمة ومعلومٌ ما بين المعتزلة والحنابلة من العداوة؟!
غير أن الخطيب يبهرج بعصبيةٍ باردةٍ في ذم أصحابنا، وإذا ذكر المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم فخم أمرهم وذكر من فضائلهم ما يقارب(1/45)
الاستحالة. فإنه ذكر عن ابن اللبان أنه قال: حفظت القرآن ولي خمس سنين.
ومال الخطيب على أبي عبد الله بن بطة ميلاً لا يخفى على من له أدنى فهمٍ بعد أن ذكر عن الفضلاء مدحه:
فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: حدثني القاضي أبو حامد أحمد بن محمد الدلوي، قال: لما رجع أبو عبد الله بن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنةً فلم ير منها في سوقٍ، ولا رؤي مفطراً إلا في يوم الأضحى والفطر. وكان أماراً بالمعروف، ولم يبلغه خبرٌ منكرٍ إلا غيره.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أنبأ العتيقي، قال: كان ابن بطة شيخاً صالحاً مستجاب الدعوة.
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي عن أبي محمد الجوهري، قال: سمعت أخي الحسين بن علي أبا عبد الله يقول: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقلت: يا رسول الله! قد اختلفت علينا المذاهب، فبمن نقتدي؟ فقال: عليك بأبي عبد الله بن بطة. فلما أصبحت لبست ثيابي، وأصعدت إلى عكبرا، فدخلت إليه، فلما رآني تبسم وقال: صدق رسول الله، صدق رسول الله، صدق رسول الله. يقولها ثلاثاً.
فغمزه الخطيب وقدح فيه بقول عبد الواحد بن علي الأسدي الذي(1/46)
قدح في التميمي، وذكر عن غيره أنه قال: ابن بطة ما سمع ((المعجم)) من البغوي.
وهذه شهادةٌ على نفيٍ، وقد قال ابن بطة: قرأنا على البغوي ((المعجم)) في نفرٍ خاصٍ في مدة عشرة أيامٍ.
ثم روى الخطيب حديثاً، وقال: الحمل فيه على ابن بطة. فواعجباً للخطيب! كيف يحكي عن أشياخه الفضلاء مدح هذا الرجل، ويعلم كثرة رواياته، ثم ينسبه إلى تعمد الخطأ في حديثٍ واحدٍ، والراوي لهذا الحديث عن ابن بطة: عبد الواحد الأسدي، فلم يجعل الحمل على الأسدي المعتزلي الراوي عن ابن بطة، دون ابن بطة المتدين الصالح. هذا التعصب القبيح الذي لا يخفى على الصبيان.
ومال الخطيب على أبي علي بن المذهب لأجل روايته ((المسند))، فقال: ألحق اسمه في أجزاءٍ، وكان يروي عن ابن مالك ((كتاب الزهد))، ولم يكن له به أصلٌ عتيقٌ، وإنما كانت النسخة بخطه كتبها بآخره.
قلت: وهذا لا يوجب قدحاً، إنما أهل الغفلة من المحدثين يقدحون بهذا، فإنهم لو سمعوا رجلاً يقول: (حدثني فلان عن فلان) قبلوا، فإذا كتب سماعه بخطه توقفوا!. وهذا الرجل يجوز أن يكون ألحق سماعه في نسخته من نسخةٍ أخرى، أو تيقن سماع ما ألحق فيه سماعه.(1/47)
قال الخطيب: وحدث ابن المذهب عن ابن مالك عن أبي شعيب بحديثٍ، وجميع ما كان عند ابن مالك عن أبي شعيب جزءٌ، وليس ذلك الحديث فيه.
قلت: ومن الجائز أن يكون ذلك الحديث سقط من نسخه، ويجوز أن يكون سمعه منه في غير ذلك الجزء.
قال الخطيب: وكان يعرض علي أحاديث في أسانيدها أسماء، فيسألني عنهم، فأذكر له أنسابهم فيلحقها في تلك الأحاديث.
قلت: وهذا قلة فقهٍ من الخطيب، لأني إذا تيقنت اسم شخصٍ جاز لي أن أنسبه! ولا فرق بين قولي: (حدثنا ابن المذهب)، وبين قولي: (حدثنا الحسن بن علي)، فهذا يدل على قلة فقهٍ وفهمٍ.(1/48)
فصلٌ: واعلم أن تعصب الخطيب وميله قد بان لأكثر العلماء:
فأنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي عن أبيه، قال: سمعت إسماعيل بن أبي الفضل القومسي -وكان من أهل المعرفة بالحديث- يقول: ثلاثةٌ من الحفاظ لا أحبهم لشدة تعصبهم وقلة إنصافهم: الحاكم أبو عبد الله، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر الخطيب.
وكان إسماعيل هذا حافظاً ثقةً صدوقاً، له معرفةٌ بالرجال والمتون، عزيز الديانة، سمع أبا الحسين بن المهتدي، وابن النقور، وغيرهما. وقال الحق، فإن الحاكم كان متشيعاً ظاهر التشيع، والآخران كانا يتعصبان للمتكلمين والأشاعرة.
وما يليق هذا بأصحاب الحديث، لأن الحديث جاء في ذم الكلام حتى قال الشافعي: رأيي في أصحاب الكلام أن يحملوا على البغال ويطاف بهم.(1/49)
فصلٌ: وما زال أبو بكر الخطيب يميل على مذهبنا في تصانيفه ميلاً ظاهراً ينبئ عن حقدٍ.
ومن أعجب ما رأيت له: مسألة صوم يوم الغيم، فإنه أظهر فيها تعصباً زائداً في الحد، وتكلم فيها بكلام العوام الذين يقصدون التشفي من الأعداء، وقبح قول من يقول بها، كأنه ما قالها إلا أحمد بن حنبل وحده، وهو يروي أنه قد قال بها جماعةٌ من الصحابة والتابعين، ثم قال: ((أجمع علماء السلف على أن صوم يوم الشك غير واجبٍ، وهو إذا كانت السماء متغيمةً)).
وهذا ضد ما علمه ورواه! ثم نسي أن جماعةً من الفقهاء الأعلام انفردوا بمسائل وما شنعت عليهم، وأحمد فلم ينفرد. وأخذ هو يشنع بالمحال، ويقول: (خالف تعرف)، ويقول: (هذا خلاف الأحاديث(1/50)
الصحاح)، ويحتج بأحاديث ليس فيها حجةٌ، وأحاديث يعلم هو بطلانها، وينكر أن يحمل الحديث على شيءٍ فتبين بذلك قلة فقهه، وما زال الفقهاء يحملون الحديث على صورٍ، ثم يحمل أحاديثنا وينسى ما قال، وما علم أنه يأتي بعده أحدٌ يظهر عوار كلامه، ويبين تعصبه البارد، فرأيت أن أحرر هذه المسألة، وأذكر دليل المذهب فيها، وأبين فساد كلامه، والله الموفق.
مسألة: إذا حال دون مطلع الهلال غيمٌ أو قترٌ في ليلة الثلاثين من شعبان ففيه ثلاث رواياتٍ عن أحمد:
إحداهن: يجب صوم ذلك اليوم من رمضان: أنبأنا محمد بن عبد الملك بن خيرون، قال: أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسن بن عبد السلام المقرئ، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد البوراني القاضي، قال: حدثنا أبو بكر الأثرم، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا كان في السماء سحابةٌ أو علةٌ أصبح صائماً، فإن لم يكن في السماء علةٌ أصبح مفطراً. ثم قال: كان ابن عمر إذا رأى في السماء سحاباً أصبح صائماً. قلت لأبي عبد الله: فيعتد به؟. قال: كان ابن عمر يعتد به، فإذا أصبح عازماً على الصوم اعتد به، ويجزئه. قلت: فإن أصبح متلوماً: يقول: إن قالوا هو من رمضان صمت، وإن قالوا ليس من رمضان أفطرت؟ قال: هذا لا يعجبني، يتم صومه ويقضيه لأنه لم يعزم.(1/51)
وهذه الرواية قد نقلها عن أحمد: ابناه صالح وعبد الله، وأبو داود، وأبو بكر الأثرم، والمروذي، والفضل بن زياد.
وهي اختيارٌ عامة مشايخنا، منهم: أبو بكر الخلال، وصاحبه عبد العزيز، وأبو بكر النجاد، وأبو علي النجاد، وأبو القاسم الخرقي، وأبو إسحاق بن شاقلا، وأبو الحسن التميمي، وأبو عبد الله بن حامد، والقاضيان أبو علي بن أبي موسى، وأبو يعلى بن الفراء.
وهذا مرويٌّ من الصحابة: عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمرو بن العاصي، والحكم بن أيوب الغفاري، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق [رضي الله تعالى عنهم].
وقال به من كبراء التابعين: سالم بن عبد الله بن عمر، ومجاهد بن جبر، وطاووس، وأبو عثمان النهدي، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وميمون بن مهران، وبكر بن عبد الله المزني في آخرين.
فأما الرواية عن عمر بن الخطاب:
فروى أبو حفص بن رجاء العكبري، قال: حدثنا أبو أيوب المحور،(1/52)
قال: نا أبو الوليد القرشي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني ابن ثوبان عن أبيه.
عن مكحول أن عمر بن الخطاب كان يصوم إذا كانت السماء في تلك الليلة متغيمةً، ويقول: ليس هذا بالتقدم، ولكنه التحري.
وأما الرواية عن ابن عمر:
فالحديث الصحيح الذي سنذكره أنه كان إذا رأى في السماء علةً أصبح صائماً.
وأما الرواية عن علي بن أبي طالب:
فأنبأنا أبو منصور بن خيرون، قال: أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحرشي، قال: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، قال: أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أمه: فاطمة بنت حسين.
أن علي بن أبي طالب قال: أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان.
وأما الرواية عن أنس:(1/53)
فأنبأنا ابن خيرون، قال أنبأنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أبو طالب بن غيلان، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الشافعي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال:
ثنا يحيى بن أبي إسحاق، قال: رأيت الهلال إما الظهر وإما قريباً منها، فأفطر ناسٌ من الناس، فأتينا أنس بن مالك، فأخبرناه برؤية الهلال، وبإفطار من أفطر، فقال: هذا اليوم يكمل لي أحدٌ وثلاثون يوماً، وذاك أن الحكم بن أيوب أرسل إلي قبل صيام الناس إني صائمٌ غداً، فكرهت الخلاف عليه فصمت، وأنا متمٌ يومي هذا إلى الليل.
وأما معاوية:
فروى أحمد: قثنا المغيرة، قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: حدثني مكحول وابن حلبس.
أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول: لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان.(1/54)
وأما عمرو بن العاصي:
فروى أحمد: قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة.
عن عمرو بن العاصي أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان.
وأما أبو هريرة:
فروى أحمد: قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أبي مريم قال:
سمعت أبا هريرة يقول: لأن أتعجل في صوم رمضان بيومٍ أحب إلي من أن أتأخر، لأني إذا تعجلت لم يفتني، وإذا تأخرت فاتني.
وأما عائشة:
فأنبأنا ابن خيرون، قال: أنبأنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا الحسن بن أبي بكر، قال: أنبأ دعلج بن أحمد، قال: أخبرنا ابن زيد بن الصائغ، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو عوانة عن يزيد بن خمير عن الرسول الذي أتى عائشة في اليوم الذي يشك فيه من رمضان، قال:
قالت عائشة: لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان.(1/55)
وأما أسماء بنت أبي بكر:
فبالإسناد عن سعيد بن منصور، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة.
عن فاطمة بنت المنذر قالت: ما غم هلال رمضان إلا كانت أسماء تتقدمه وتأمرنا بتقديمه.
وروى أحمد: قال: ثنا روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان.
ذكر هذه الأحاديث الفضل بن زياد القطان عن أحمد بن حنبل في مسائله.
وقد تعرض لها أبو بكر الخطيب بالتأويلات الفاسدة، وروى عن أربابها ما لا يناقضها:
فروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ألا لا يتقدمن الشهر منكم أحدٌ.(1/56)
وهذا لا حجة فيه.
وروى أن عمر قال: صوموا لرؤية الهلال، وأفطروا لرؤيته، فإن غم فعدوا ثلاثين.
وهذا محمولٌ على الأخير.
وروى عن عثمان أنه كان لا يجيز شهادة الواحد في رؤية الهلال. وهذا لا يمس ما نحن فيه.
وروى عن علي أنه قال: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة.
وهذه إشارةٌ إلى الأخير، لأنه أقرب المذكورين.
وهذا المراد بما روي عن ابن مسعود أنه قال: فإن غم فعدوا ثلاثين.
وقال الخطيب: ((يحتمل أن يكون أسماء صامت تطوعاً)). فهذا تأويله(1/57)
البارد، وكيف تحث أسماء على صيامه تطوعاً، وقد نهي عن استقبال رمضان؟! والعجب لمن هذا تأويله كيف ينكر علينا تأويلاً أصلح من هذا؟!.
والرواية الثانية: عن أحمد في هذه المسألة: أن المرجع في الصوم والفطر إلى رأي الإمام: فإن صام وأمر الناس بالصوم وجب، وإن منع منه لم يجز صيامه:
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز عن أبي إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ثنا أبو الحسن محمد بن العباس بن الفرات، قال: أخبرنا حمزة بن القاسم الهاشمي، قال: حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا أرى صيام يوم الشك إلا مع الإمام ومع الناس.
وبهذه الرواية قال الحسن وابن سيرين.
والرواية الثالثة: لا يجوز صيامه من رمضان ولا نفلاً، بل يجوز صيامه نذراً أو كفارةً، ونفلاً يوافق عادةً.
وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز صيامه من رمضان، ويجوز صيامه ما سوى ذلك.(1/58)
لنا في الدليل على الرواية الأولى ثلاثة مسالك: النقل، وأقوال الصحابة، والمعنى.
أما النقل:
فأخبرنا هبة الله بن محمد بن الحصين، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن علي التميمي، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا إسماعيل، قثنا أيوب عن نافع.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الشهر تسعٌ وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)).
قال نافع: فكان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعٌ وعشرون يبعث من ينظر فإن رؤي فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحابٌ ولا قترٌ أصبح مفطراً، وإن حال دون منظره سحابٌ أو قترٌ أصبح صائماً.(1/59)
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، ولم يذكرا فعل ابن عمر. وذكره الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين.
أخبرنا عبد الأول، قال: أخبرنا الداوودي، قال: أخبرنا ابن أعين، قال: ثنا الفربري، قثنا البخاري، قثنا عبد الله بن مسلمة،
وأخبرنا محمد بن عبيد الله الزاغوني، قال: أخبرنا نصر بن الحسن الشاشي، قال: أخبرنا عبد الغافر بن محمد، قثنا محمد بن عيسى بن عمرويه، قثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، قثنا مسلم بن الحجاج، قثنا يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك عن نافع.
عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان، فقال: ((لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)).
أخرجاه أيضاً.
وقد رواه عن نافع جماعةً، منهم: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، وأخوه عبد الله، وسلمة بن علقمة، وفليح بن سليمان، وعمر بن محمد بن زيد العمري، وأسامة بن زيد الليثي، وعبد العزيز بن أبي رواد، والحكم بن عبد الله الأيلي.
وقد رواه سالم عن أبيه، وعبد الله بن دينار عن ابن عمر.
ووجه الحجة من هذا الحديث من جهتين:(1/60)
إحداهما: منفصلة عن الحديث، وهي فعل ابن عمر، وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم بمراده، فينبغي الرجوع إلى ما فهمه ابن عمر من هذا كما رجعنا إليه في خيار المجلس، فإنه كان إذا أراد بت البيع فارق صاحبه.
والجهة الثانية: تتعلق بنفس الحديث، وفيها دليلان:
أحدهما: قوله: ((إنما الشهر تسعٌ وعشرون))، فبين أن الأصل في الشهور ذلك. فإذا زال الأصل ثبت الأصل من الشهر الآخر.
وهذا أمرٌ جهل معناه الخطيب، فقال: ((ما أعظم غفلة المحتج بهذا؟! ومن ينازع أن الشهر يكون تسعاً وعشرين؟!)).
قلنا: أنت أحق بالغفلة، لأنك لم تفهم معنى قوله: ((إنما الشهر تسعٌ وعشرون))، ولفظة: (إنما) تثبت المشار إليه، وتنفي ما عداه، فلما كانت الزيادة قد تقع كان المراد أن الأصل في الشهور هذا، وما عداه متردد.
ويدل عليه:
ما أخبرنا به أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأ أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، قال: أنبأ أبو حفص عمر بن محمد بن علي الصيرفي المعروف بـ (ابن الزيات): قثنا قاسم بن زكريا المطرزي: قثنا أبو كريب، قثنا أبو بكر بن عياش، قال: أخبرنا الأعمش، قثنا أبو صالح.(1/61)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كم مضى من الشهر؟)). قالوا: يا رسول الله مضى ثنتان وعشرون، وبقي ثمان. فقال: ((مضى ثنتان وعشرون، وبقي سبعٌ. اطلبوها الليلة)). يعني: ليلة القدر.
قال المطرزي: وثنا محمد بن الصباح الجرجرائي، قثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: ذكرنا ليلة القدر عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((كم مضى من الشهر؟)) قلنا: قد مضى اثنتان وعشرون، وبقي ثمان. فقال: ((لا، بل سبع. الشهر تسع وعشرون)). ثم قال: عده حتى عد تسعاً وعشرين. ثم قال: ((التمسوها الليلة)).
قال المطرزي: وثنا أبو كريب وفياض بن زهير، قالا: ثنا أبو معاوية، قثنا الأعمش [عن أبي صالح عن أبي هريرة] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كم مضى من الشهر؟)) قلنا مضى اثنتان وعشرون، وبقيت ثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، بل مضت اثنتان وعشرون، وبقيت سبع))، [اطلبوها الليلة])).
والثاني: قوله: ((فاقدروا له))، وفي معناه قولان:(1/62)
أحدهما: أن المعنى: قدروا للهلال زماناً يمكن أن يطلع فيه، وذلك ليلة الثلاثين. فأما الليلة التي بعدها فذاك لا يحتاج إلى تقدير، وهذا من قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} أي: ضيق.
والثاني: أن معنى ((اقدروا)): احكموا بطلوعه من جهة الظاهر، من قوله تعالى: {قدرناها من الغابرين} أي: حكمنا بذلك.
اعترضوا على هذا الحديث بأربعة أسئلة:
أحدها: أنكم فهمتم من الحديث ما لم يرد به، لأنكم حملتم قوله: ((فاقدروا)) على تضييق العدد، وليس المراد به ذلك، بل المراد به إكمال عدة شعبان. وبيان هذا من ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن في بعض ألفاظ الصحيحين: ((فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين)). وفي لفظٍ: ((فأكملوا العدة ثلاثين))، وفي رواية: ((فاقدروا له ثلاثين)).
قال الخطيب: ((وهذا قد فسر المجمل، وأوضح المشكل، وأبطل شبهة المخالف، وكشف عوار تأويله الفاسد، لأن قوله: ((فاقدروا له)) مجملٌ، وقوله: ((فأكملوا العدة ثلاثين)) و ((اقدروا له ثلاثين)) يفسره)).
والثاني: أن ابن عمر كان يمنع من صوم هذا اليوم:
فأنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: حدثنا محمد بن العباس بن الفرات، قال: حدثنا حمزة بن القاسم، قال: ثنا حنبل بن إسحاق، قال: حدثني أحمد بن حنبل، قثنا وكيع(1/63)
عن سفيان عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي، قال:
سمعت ابن عمر يقول: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه.
والثالث: أن ابن عمر كان يفتي بخلاف ما ذكرتم عنه:
قال الخطيب: فتواه أحج من فعله.
فأنبأنا ابن عبد الباقي، قال: أنبأنا البرمكي، قال: حدثنا ابن الفرات، قال: أخبرنا حمزة، قثنا حنبل، قثنا أحمد بن حنبل، قثنا عبيدة بن حميد، قال: أخبرني عبد العزيز بن حكيم، قال:
سألوا ابن عمر فقالوا: نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيءٌ؟. فقال: أفٍّ! أفٍّ! صوموا مع الجماعة.
وأما صوم ابن عمر فيحتمل أنه كان يصومه تطوعاً معتاداً أو نذراً أو كفارةً، ويحتمل أن يكون ابن عمر كان يصبح متلوماً ممسكاً حتى يبين مع ارتفاع النهار: هل تقوم البينة برؤيته أم لا؟ ويقدم النية في الليل ليكون عند قيام البينة قد أتى بصومٍ صحيحٍ.
قالوا: وقولكم: ((الأصل في الشهور تسعةٌ وعشرون)) لا يسلم، بل معنى الحديث: إن الشهر الذي لا يتصور النقصان منه: هذا العدد، فأما(1/64)
ما زاد فيحتمل أن يكون منه ومن غيره. ولو سلمنا قلنا: هذا اليوم الزائد ليس من هذا الشهر، ولا من الذي بعده بطريق الأصالة، بل هو محتملٌ للأمرين. وما هذا سبيله لا يجب صومه، لأنه إيجابٌ للعبادة بالشك.
وقولكم: (معنى ((اقدروا)): ضيقوا العدد). يحتمل هذا، ويحتمل أن يكون المعنى ضيقوا للهلال بأن لا تحكموا به إلا في الليلة التي لا يتأخر عنها، يدل على هذا قوله: ((فاقدروا له ثلاثين))، وقوله: ((فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)).
وأما قولكم: (إن المعنى: احكموا له بالوجود) فلا يستقيم، لأنه ضد المعروف في اللغة، ومعنى (قدرناها): علمناها.
السؤال الثاني:
على أصل الحديث: أنه مشترك الدلالة، لأن قوله: ((صوموا لرؤيته)) يدل على أنه لا يجب الصوم إلا برؤية الهلال في الليلة التي يمكن أن يطلع فيها، ويمكن أن لا يطلع. فتعارضت الدلالتان.
السؤال الثالث:
أن هذا خبر واحدٍ يخالف قياس الأصول فلا يقبل.
بيانه: أن سائر الأحكام المتعلقة بالشهور لا تثبت في يوم الثلاثين على هذا الوصف في شعبان ولا في غيره.
السؤال الرابع:
أن هذا الحديث معارضٌ بالأخبار التي نذكرها في حجتنا.
قلنا: أما قوله: ((فاقدروا له ثلاثين)) فجوابه من وجهين:(1/65)
أحدهما: أن أكثر أصحاب ابن عمر لم يرووا هذه الزيادة، وإنما رواها واحدٌ منهم على ظنه أن المعنى ذلك.
والثاني: أنها محمولةٌ على رمضان، بدليل قوله في أحاديث ستأتي: ((فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين، ثم أفطروا)).
وعليه يحمل قوله: ((فأكملوا العدة ثلاثين)).
وأما فعل ابن عمر فقد ذكرنا وجه الحجة فيه، ولا يقال: كان ذلك باجتهادٍ منه. لأن قوله: ((فاقدروا له)) دل على وجوب الصوم على ما قلنا، فقد عمل ابن عمر بما روى لا بما رأى.
ولو دل على الفطر كان قد عمل بخلاف ما روى، والأصل أن الصحابي لا يخالف ما يروي لا سيما مع تكرر ذلك منه، لأن الراوي قال: كان ابن عمر يفعل كذا. وهذا يدل على تكرر الفعل منه.
وما رويتم عنه أنه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه. جوابه من أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن راويه: عبد العزيز بن حكيم، قال أبو حاتم الرازي: ليس بالقوي.
والثاني: أن يوم الغيم ليس بشك على ما سيأتي بيانه.
والثالث: أن يريد به الشك في الصحو.
والرابع: أن يكون المراد [منه]: لم أصمه تطوعاً.(1/66)
وقول الخطيب: فتواه أحج من فعله. جوابه من وجهين:
أحدهما: أنه لا يصح عنه، لأنه يرويه عبد العزيز بن حكيم، وقد ضعفناه.
والثاني: أنه إنما أفتى فيمن يسبق قبل رمضان، فاحتجاج الخطيب به تغفيلٌ!.
ويدل على ما قلنا: قوله: ((إنما الشهر تسعٌ وعشرون)).
قولهم: المراد: أن الشهر لا يتصور نقصانه عن هذا.
قلنا: وبهذا يعرف أنه الأصل، وإن ما زاد قد يكون من الشهر وقد لا يكون.
وقولهم: ((اقدروا)). بمعنى: ضيقوا. قلنا: التضييق للهلال أن يحكم بطلوعه في ليلة الثلاثين، لأنه بذلك يضيق على شعبان، ومتى قدرناه في ليلةٍ بعدها كان التضييق عليه، لأنه يتسع شعبان، والتضييق للشيء توسعةً له، وتضييقٌ على غيره.
يدل على ما قلنا شيئان:
أحدهما: أن قوله: ((فاقدروا)) يقتضي إثبات فعلٍ من جهتنا، والهاء في ((له)) عائدةٌ إلى الهلال، فلا يجوز أن يراد إثباته من شعبان، لأن ذلك لا يحتاج إلى فعلٍ من جهتنا لأنه مستفادٌ من البقاء على الأصل، فثبت أن المراد إثباته من رمضان.(1/67)
والثاني: أنه لو أراد ما قلتم لقال: فإن غم عليكم فأفطروا. وقد قال الزجاج في قوله تعالى: {قدرناها} دبرناها. والتدبير في مسألتنا لا يتحقق إلا بأن يحكم بالهلال ليلة الغيم، فأما وجوده فيما بعدها فثابتٌ من غير تدبيرٍ.
يدل عليه: أن تقدير الشيء بكذا تخمينٌ وحسبان، وهذا لا يكون إلا في المحتمل.
وقولهم: ((هو مشترك الدلالة)) لا نسلم، بل التقدير والاحتياط فيما قلنا.
قولهم: ((هو مخالفٌ لقياس الأصول)) قلنا: الأصول هي الأخبار الصحاح.
وأما إيجاب العبادة بالشك، وبقية الأحكام والمعارضة فسيأتي جوابه إن شاء الله تعالى.
وأما أقوال الصحابة فقد تقدمت.
وأما المعنى فلنا فيه أربعة مسالك:
المسلك الأول:
أن نقول: الفطر في هذا اليوم مترددٌ بين الحظر والإباحة فوجب فيه الصوم، كما لو غم الهلال في آخر رمضان.(1/68)
والدليل على تردد الفطر: أن هذا اليوم يجوز أن يكون من رمضان فيكون الفطر فيه محظوراً، ويجوز أن يكون من شعبان فيكون الفطر فيه مباحاً، ولا سبيل إلى إنكار تجويز الأمرين.
وإذا تردد الأمر بين الحظر والإباحة ترجح جانب الحظر بدليل الحكم والمعنى.
أما الحكم فست مسائل:
إحداها: إذا غم الهلال في آخر الشهر فإنه يجب الصوم لما ذكرنا، وهذا أولى، لأن اليوم الأخير يجوز أن يكون من شوال فيحرم فيه الصوم، ويجوز أن يكون من رمضان فيجب فيه الصوم.
فإذا كنا نرجح الصوم مع تردده بين الوجوب والحظر، فلأن نرجح الصوم هاهنا مع تردده بين الوجوب والإباحة أولى.
الثانية: إذا اشتبهت الميتة بالمذكاة غلبنا جانب الحظر فحرمتا.
الثالثة: إذا اشتبهت أخته بنساءٍ أجانب حرمن لذلك أيضاً.
الرابعة: إذا اشتبه الماء بالبول حرم استعمالهما.
الخامسة: أنه يجب إمساك جزءٍ من الليل في أول الصوم وفي آخره في حق من لا يتيقن الفصل بين الزمانين ليسلم الواجب.
السادسة: إذا طلق إحدى نسائه ونسي عينها حرم الجميع.
وأما المعنى:
فهو أن فعل الشيء الذي يتردد بين الحظر والإباحة على تقدير أن يكون حراماً يلزم منه مفسدةٌ، وعلى تقدير أن يكون مباحاً لا يلزم منه مفسدةٌ.(1/69)
وما هذا سبيله يطرح لئلا يلزم منه المفسدة. وهذا ظاهر، فإن العاقل إذا أراد سلوك طريقٍ يستوي فيه احتمال السلامة والهلاك وجب عليه الكف عن سلوكها.
اعترضوا على هذا بستة أسئلة:
أحدها: لا نسلم أن الفطر مترددٌ بين الحظر والإباحة. قولكم: (يجوز أن يكون هذا اليوم من رمضان، وأن يكون من شعبان) مسلمٌ، ولكن الحظر لا ينبني على هذا، إنما الحظر ما أوجب الإثم، والإثم يكون مع ارتكاب المحظور مع العلم بأنه محظورٌ، والمفطر في هذا اليوم لا يعلم أنه من رمضان فلا يلحقه إثمٌ، كما لو شرب خمراً ظنه شراباً مباحاً.
الثاني: سلمنا أنه مترددٌ بينهما، ولكن: تردد على السواء، أو جانب الإباحة أرجح؟ إن قلتم: (على السواء) فممنوعٌ، وإن قلتم: (جانب الإباحة أرجح) فمسلمٌ. ولكن لم قلتم بوجوب الصوم في هذه الحالة؟.
وبيانه: أن كون هذا اليوم من شعبان أرجح بدليل الحكم المعنى:
أما الحكم:
فإنا أجمعنا أنه لو شد برؤية الهلال فاسق أو مجهول الحال لم تقبل شهادته، وكذلك لو تقاعد الجماعة عن ترائي الهلال لم يجب الصوم، ولا يتعلق بذلك اليوم حلول دينٍ ولا الطلاق المعلق برمضان.
وأما المعنى:
فهو أن الأصل في الشهور: التمام، والنقصان على خلاف الأصل. فإذا ترجح احتمال الإباحة كان العمل به أولى.
الثالث: سلمنا أن الاحتمالين متساويان، ولكن: من كل وجهٍ، أو من الوجه الذي ذكرتم؟ الأول: ممنوعٌ، والثاني: مسلمٌ.(1/70)
بيانه: أنه يحتمل الأمرين، إلا أن احتمال الفطر أرجح من حيث إن الأصل إباحة الفطر، والتحريم طارئ عليه. والأصل بقاء ما كان على ما كان.
الرابع: سلمنا استواء الاحتمالين من كل وجهٍ، ولكن: هل قامت على احتمال حظر الفطر أمارةٌ؟ إن قلتم: قامت فممنوعٌ، لأنه لا أمارة على وجود الهلال تحت الغيم. وإن قلتم: لم تقم. فكيف يعمل بمجرد الاحتمال من غير أمارةٍ؟!.
الخامس: سلمنا أنه يعمل بهذا الاحتمال، ولكن: لم قلتم: إنه يجب الصوم؟ بل ينبغي أن يجب الإمساك، لأن به يحترز من الفطر المتردد بين الحظر والإباحة.
وقولكم: ((في الفطر مفسدةٌ)). الكلام عليه من خمسة أوجه:
أحدها: أن احتمال وقوع المفسدة بالفطر يعارضه مفسدة اعتقاد تحريم المباح.
بيانه: أنه يجوز أن يكون اليوم من شعبان فيكون الفطر مباحاً، وكما تحذر مفسدة الفطر في رمضان تحاذر مفسدة اعتقاد تحريم المباح، فيقع التعارض.
والثاني: أن نقول: هل تعين الصوم طريقاً في التحرز من هذه المفسدة، أم هو طريقٌ وغيره طريق؟ الأول: ممنوع، والثاني: مسلمٌ.
بيانه: أن المحذور في هذا اليوم الفطر، والفطر بالأكل والشرب والجماع، وهذا يحصل التحرز منه بتركه كما يتحرز عنه بالصوم، فلم قلتم: يجب الصوم؟.(1/71)
والثالث: سلمنا أن الصوم تعين طريقاً في التحرز، ولكن مطلق الصوم أو صوم رمضان؟ الأول: مسلمٌ، والثاني: ممنوعٌ.
بيانه: أن الصوم ضد الفطر، سواء كان من رمضان أو من غيره، والاحتراز من الفطر يحصل بمطلق الصوم لا بصومٍ مخصوصٍ.
والرابع: سلمنا أن صوم رمضان يتعين طريقاً في التحرز منه، ولكن أمكن إيجابه أم لم يمكن؟ الأول: ممنوع، والثاني: مسلمٌ.
وبيان عدم الإمكان من ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنا متى أوجبنا الصوم في هذا اليوم كان منهياً عنه، لأنه صوم يوم شك، وقد نهي عن ذلك. والمحظور لا يحترز عنه بفعل محظورٍ مثله بل أرجح منه! لأن حظر الفطر بناءٌ على احتمال، والنهي عن صوم يوم الشك مستندٌ إلى دليلٍ محكمٍ، فكان بالمنع أولى.
والوجه الثاني: أن إيجاب صومه من رمضان لا يخلو إما أن يكون بنيةٍ لرمضان -وهذا لا يجوز لأنه لا يتيقن أنه من رمضان، والنية ينبغي أن تكون على وفق المنوي- أو يقول: إن كان غداً من رمضان، فأنا صائمٌ. وهذا لا يجوز لأن تعليق النية بشرطٍ غير صحيحٍ.
والثالث: أن إيجاب صومه من رمضان يفضي إلى إيجاب صوم أحد وثلاثين يوماً، وهو إذا غم هلال رمضان وهلال شوال، وهذا مخالفٌ للإجماع.
والوجه الخامس:
أن ما ذكرتموه من المناسبة منقوضٌ بمسائل، منها:(1/72)
إذا شك في الطهارة بعد يقينها، فإنه يجوز أن يصلي مع احتمال أن يكون محدثاً، والصلاة مع الحدث محظورةٌ. وهكذا الثوب. وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة استدل بالنجوم مع جواز الخطأ في جهة الكعبة، والصلاة إلى غير [جهة] الكعبة محظورة.
وإذا انتقضت المناسبة لم يجز العمل بها.
وأما إذا غم هلال شوال فإنما وجب صومه لأنه خوطب بصيام شهر رمضان، والشهر قد يكون ثلاثين، والأصل بقاء وجوب الصوم، بخلاف مسألتنا فإنه شكٌ: هل وجد رمضان أم لا؟ وكذلك بقية المسائل، فإنه متيقنٌ للتحريم، شاكٌّ في التحليل، فبقي على اليقين، واليقين في مسألتنا: جواز الفطر، فلا نتركه بالشك.
السؤال السادس: على أصل الدليل:
أن ما ذكرتموه ينتقض بما إذا شهد برؤية الهلال فاسقٌ أو مجهول الحال فإنه لا يجب الصوم، وكذلك إذا اشتغل الناس عن الترائي مع احتمال الفطر للحظر والإباحة.
قلنا: أما المنع بأن الفطر مترددٌ بين الحظر والإباحة، فلا سبيل إليه.
وقولكم: تحريم الفطر يقف على العلم بكون اليوم من رمضان.
قلنا: لا نسلم بل يقف على العلم باحتمال كونه من رمضان بدلالة اليوم الأخير.
وكذلك إذا اشتبهت بالمذكاة الميتة، وجميع المسائل المشتبهة.(1/73)
قولهم: احتمال كونه من شعبان أرجح. جوابه من ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: لا نسلم، بل احتمال كونه من رمضان أرجح، لأن الأصل في الشهر أن يكون تسعةٌ وعشرين بدليل النص والمعنى.
أما النص:
فقد ذكرنا في الصحيحين من حديث ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إنما الشهر تسعٌ وعشرون)). وفي لفظ متفقٍ عليه من حديث ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((الشهر كذا وكذا))، وصفق بيديه مرتين بكل أصابعهما، ونقص في الصفقة الثالثة إبهام اليسرى. وهذه إشارةٌ إلى أصل الشهر.
وأما المعنى:
فهو أن يقين الشهر يزول بمضي تسعةٍ وعشرين، فلا يغلب على الظن يوم الثلاثين، وإذا زال اليقين وغلبة الظن لم يبق أصلٌ يدل على أنه قد زال يقين شعبان.
إن عند الخصم يحرم صوم هذا اليوم، ولو كان من شعبان لما حرم صومه، فدل على أن يقين شعبان قد زال.
فإن قالوا: فيلزمكم مثله إذا كانت السماء مصحيةً. قلنا: هناك شعبان موجودٌ حقيقةً وحكماً، ولم يوجد شكٌّ ولا شبهةٌ.(1/74)
الوجه الثاني:
سلمنا أنه لا يرجح كونه من رمضان، ولكن الاحتمالان على السواء، إذ لا دليل يدل على كونه من أحدهما، وسيأتي جواب الأحكام.
الوجه الثالث:
سلمنا أن احتمال كونه من شعبان أرجح، ولكن: لم لا يجب التحرز من الفطر؟ وبيانه: من وجهين:
أحدهما: أن احتمال المفسدة -وإن بعد- لا يؤمن معه وقوعها، فإذا لم يلزم من التحرز مفسدة تعين الاحتراز.
وأما إذا شهد برؤيته فاسقٌ فإنما لم يجب الصوم لأن احتمال وجود الهلال في غاية البعد، إذ لو كان موجوداً لأخبر به غيره لتوفر الدواعي على الترائي. وكذلك المجهول الحال.
وأما إذا تشاغلوا عن الرؤية، فيبعد أن يقع التشاغل من الكل من الشيوخ والنساء الذين هم بمعزلٍ عن الشواغل.
الوجه الثاني:
أن أكثر ما في هذا أن الأصل بقاء شعبان، ولكن يجوز أن يخالف الأصل لأصلٍ آخر. وهاهنا أصلٌ، وهو: الاحتياط للعبادة، كما قلنا فيمن أصابه نجاسةٌ وخفي عليه موضعها، فإنه يغسل الجميع، وإن كان الأصل الطهارة. ولا يقال: ((إن الذمة اشتغلت بيقينٍ، فينبغي أن لا يحصل فراغها إلا بيقينٍ)) فإنه إذا اشتبهت عليه القبلة وتحرى وصلى كفاه، وإن كان غير متيقنٍ أنها القبلة، وقد فرغت الذمة المشغولة بيقينٍ بما ليس بيقينٍ.
وكذلك إذا اشتبهت عليه الثياب النجسة بالطاهرة فإنه يتحرى عندهم(1/75)
ويصلي. وقد خرج من هذا جواب السؤال الثالث، وهو أن الأصل إباحة الفطر.
قولهم: ((هذا عمل بالاحتمال من غير أمارةٍ))، قلنا: نحن لا نعمل بالاحتمال، وإنما نعمل بالاحتياط في المحتمل تحرزاً من وقوع المفسدة. هذا إذا نزلنا عن أن الأصل في الشهر تسعةٌ وعشرون، فإن ارتكبناه فالأمارة على تحريم الفطر موجودةٌ على ما سبق تقريره.
وأما المطالبة: فقد سبق جوابها.
وقولهم: ((مفسدة الفطر معارضةٌ بمفسدة اعتقاد تحريم المباح)). قلنا: لا مفسدة في اعتقاد تحريم ما يجوز أن يكون حراماً وأن يكون مباحاً، مع تغليبنا للحرمة كما نعتقد تحريم العقد على الأجنبيات المختلطات بالأخت. وإنما يحاذر اعتقاد تحريم المباح في غير حالة الاشتباه.
قولهم: ((لم يتعين الصوم للتحرز من مفسدة الفطر)). قلنا: لا نسلم.
بيانه: أن كل موضعٍ حرم فيه الفطر وأمكن الصوم وجب الصوم، بدليل اليوم الأخير.
وإنما قلنا ذلك لأن المحذور في رمضان إخلاء يومٍ منه عن صومه، ومتى أمسك من غير نيةٍ وقع المحذور، لأنه يجب عليه القضاء، ويكون في حكم المفطر حتى لو جامع أو أكل لم يلزمه كفارةٌ.
وأما إذا بلغ الصبي وأسلم الكافر في أثناء اليوم ففي روايةٍ: لا يلزم الإمساك. وفي روايةٍ: يلزمهم الإمساك، ولا يسمى صوماً، لأن بعض النهار ليس بمحل للصوم، وفي مسألتنا الصوم ممكنٌ.(1/76)
قولهم: ((التحرز من الفطر يحصل بمطلق الصوم)). جوابه من وجهين:
أحدهما: لا نسلم، إنما يحصل بصوم رمضان، لأن المحظور ها هنا الفطر في رمضان، ولا يحترز عنه إلا بضده، وهو صوم رمضان.
والثاني: لا نسلم أنه يحصل بمطلق الصوم، ونقول: يصح صوم رمضان بنيةٍ مطلقةٍ، وعند أبي حنيفة: بنية النفل.
قولهم: ((لا يمكن التحرز من الفطر بإيجاب هذا الصوم)). قلنا: لا نسلم، بل قد أمكن.
وأما كونه صوم شك، فجوابه من وجهين:
أحدهما: لا نسلم، لأن الشك ما تردد بين أمرين متساويين، وقد بينا أن كون هذا اليوم من رمضان أرجح، فلا يكون يوم شكٍ.
والثاني: نسلم أنه يوم شكٍّ، ولكن: لم لا يجب صومه؟ فإن قالوا: للنهي عن صوم يوم الشك. فسنجيب عنه في حجتهم.
وقولهم: لا يمكن أن يصام بالنية. قلنا: يمكن. قالوا: فالأمر مترددٌ، فكيف يجزم؟.
جوابه من وجهين:
أحدهما: أن لنا روايةٌ أنه يصح، وليس هذا شكٌّ في النية، بل في المنوي. وليس هو تعليق النية على شرطٍ، بل هو تعليق الصوم على شرط(1/77)
وذلك جائزٌ، كما لو قال: إن قدم زيدٌ في غدٍ فأنا صائمٌ. والصحيح من المذهب أنه يجزم على أنه من رمضان وإن لم يتحقق كما في اليوم الأخير.
وأما إذا غم الهلال في أوله وآخره فيجب صوم أحد وثلاثين تحرزاً من الفطر المحظور كما يجب خمس صلواتٍ في حق من نسي واحدة.
وأما النقض بالمسائل فلا يصح لما بينها وبين مسألتنا من الفروق:
أما إذا شك في الطهارة: فالفرق بينها وبين مسألتنا من وجهين:
أحدهما: أن الطهارة غير مقصودةٍ لنفسها، بل هي شرطٌ لغيرها، والشروط لا يحتاط لها كما يحتاط للأصول، والصوم أصلٌ.
والثاني: أن الحاجة داعيةٌ إلى بقاء الطهارة، لأن زمانها يطول، والنواقض كثيرةٌ، وشواغل الإنسان عن حفظ طهارته تكثر، فدعت الحاجة إلى إلقاء الشك لما في اعتباره من المشقة بالتكرر بخلاف الصوم. وهكذا طهارة الثوب.
وأما إذا اشتبهت عليه القبلة فجوابه من وجهين:
أحدهما: يصلي أربع صلواتٍ إلى أربع جهاتٍ ليحصل له اليقين كمسألتنا.
والثاني: نسلم أنه يصلي صلاةً واحدةً، ولكن الواجب عندنا في حالة الاشتباه التوجه إلى جهةٍ يغلب على ظنه أنها الكعبة، وقد حصل ذلك من غير شك، وليس الواجب عليه التوجه إلى الكعبة يقيناً في هذه الحال لأنه عاجزٌ عن ذلك. وفي مسألتنا هو قادرٌ على صوم هذا اليوم فوجب عليه.
وقولهم: فإذا غم هلال شوال هو مخاطبٌ بصوم رمضان، ولم يتيقن خروجه. قلنا: هو مخاطبٌ بصوم كل يومٍ على حدة، لأن كل يوم عبادةٌ(1/78)
منفردةٌ عن ما بعدها على ما بينا في مسألة إفاقة المجنون.
وإنما جمع في الخطاب بين عبادات الشهر كلها كما جمع في الخطاب بين الصلوات الخمس بقوله تعالى: {أقيموا الصلاة}، وقوله -عليه السلام- ((صلوا خمسكم)).
وفي ليلة الثلاثين من رمضان هو شاكٌّ: هل ذلك اليوم من رمضان؟ فتوجه الخطاب به.
وأما النقض فقد سبق جوابه، وهو: أن هذا الاحتمال في غاية البعد.
المسلك الثاني: أن نقول: الصوم عبادةٌ مقدرةٌ بوقت وجوبها، فوجبت مع الاشتباه كالصلاة في آخر الوقت، وكالصوم في اليوم الأخير. ولا إشكال في تقدرها بوقت وجوبها، فإن الصوم ممتدٌّ من أول اليوم إلى آخره، وليس هو كالصلاة التي يتسع وقتها لأمثالها.
وتقرير المطالبة: أن تقدرها بوقت وجوبها يمنع من الاستظهار في تحقق وقتها، لأنا إن أخرنا الصوم حتى يتحقق دخول وقته لم نأمن فواته، لأن زمان رمضان مختصٌّ بمصلحةٍ لا تحصل بالصوم في غيره، والدليل عليه: النص والحكم والمعقول:(1/79)
أما النص:
فأخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا علي بن محمد بن كيسان، قال: أخبرنا أبو يوسف القاضي، قثنا محمد بن أبي بكر، قثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت، قال: حدثني أبو المطوس عن أبيه.
عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أفطر يوماً من رمضان من غير مرضٍ ولا رخصةٍ لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه)).(1/80)
ومعلومٌ أنه لم يرد القضاء الذي تبرأ به الذمة، وإنما أراد القضاء الذي يحرز به فضيلة صوم رمضان.
وقد أخبرنا يحيى بن علي المدير، قثنا أبو الحسين أحمد بن السمناني قال: أنبأ أبو طاهر محمد بن علي بن مهدي، قثنا عثمان بن محمد السمرقندي، قثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، قثنا أبو نعيم عن أبي هاشم ابن بنت أنس عن عبد الوارث.
عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أفطر يوماً من رمضان من غير عذرٍ فعليه صوم شهرٍ)).
وقد روي عن جماعةٍ من السلف في المبالغة لقضاء يومٍ من رمضان:(1/81)
فروي عن علي -عليه السلام- أنه قال: من أفطر يوماً من رمضان متعمداً فعليه صوم أربعة آلاف يومٍ.
وعن النخعي: صوم شهرٍ. وروى أبو بكر الآجري في ((كتاب النصيحة)) أن مذهب إبراهيم النخعي أن من شرب الخمر في رمضان كان عليه صوم ثلاثة آلاف يومٍ.
قال: وقال سعيد بن المسيب: عليه صوم شهرٍ متتابعٍ. قال: وقال الربيع بن أبي عبد الرحمن: عليه صيام اثني عشر يوماً، لأن الله تعالى أوجب صيام شهرٍ من اثني عشر شهراً. [فيكون صيام كل يوم باثني عشر يوماً].(1/82)
وأما الحكم:
فإنه تلزم الكفارة بإفساد الصوم في رمضان، ولا تلزم في القضاء عنه، ولم يكن ذلك إلا لمعنىً في رمضان.
وكذلك المضي في فاسده، حتى أن من أفطر من غير عذرٍ لم يجز له أن يأكل مرةً أخرى. وكذلك من لم ينو الصوم.
وكذلك إذا قدم المسافر في أثناء النهار أمسك وإن لم يعتد له بذلك. كل ذلك لاحترام الوقت.
وأما المعقول:
فهو أن الشرع أوجب صوم رمضان على الفور مقدراً بوقت وجوبه ولم يوسعه، فدل ذلك على اختصاص المصلحة به. وإذا كان كذلك: وجب مع الاشتباه بدليل الحكم والمعنى:
أما الحكم:
فاليوم الأخير، وإمساكٌ جزءٍ من الليل في أوله وآخره وإن لم يكن محلاًّ للصوم. وإذا وجب الإمساك في زمانٍ ليس بمحلٍّ أصلاً ليتحقق صوم رمضان، فلأن يجب الصوم في زمانٍ يجوز أن يكون من رمضان أولى. وكذلك إذا شهد برؤيته واحدٌ في ليلة الغيم فإنه يجب الصوم عند أبي حنيفة.
وأما المعنى:
فنقول: لو لم نوجبه لم نأمن من فوات المصلحة، وإذا أوجبناه: فإن وافق زمان رمضان حصل الغرض، وإن لم يوافق لم يحصل ضررٌ. وصار هذا كما إذا شك في تضايق وقت الصلاة فإنه يجب عليه فعلها حذر الفوات.(1/83)
وخرج على ما قلنا الصلاة، فإنها غير مقدرةٍ بوقت وجوبها، بل وقتها يتسع لأمثالها، فإذا شككنا في دخول وقتها لم يجب فعلها حذراً من وقوعها قبل وقتها، فإذا أخرناها لم نخف الفوت. وفي مسألتنا: إذا قدمنا الصوم لم تفت وظيفته، ومتى أخرناه فاتت.
قالوا: لم قلتم: إن تقدرها بوقت وجوبها يوجب الصوم مع الشك؟
قولكم: ((مصلحة الصوم مختصةٌ برمضان))، جوابه من وجهين:
أحدهما: لا نسلم، بل مصلحة الصوم تحصل في كل زمان، لأن تلك المصلحة هي الابتلاء بترك مألوف النفس، وهذا لا يختلف بالأزمنة إلا أن الشرع أوجب هذا على الفور. فإذا أخر فاتت الفورية، والفورية صفةٌ زائدةٌ على الوجوب، فمتى لم يثبت الوجوب لم تثبت مصلحة الفورية.
وإن بان بعد ذلك أنه كان من رمضان سقطت الفورية للجهل بها، وبقي أصل المصلحة. ومن هاهنا وجبت الكفارة بالإفساد، لأنه يفوت الفورية بعد الوجوب مع العلم بها.
الوجه الثاني: سلمنا أن المصلحة مختصةٌ بزمان رمضان، ولكن لم قلتم: إنه يجب الاحتياط بهذه الطريق على هذا الوصف؟.
قولكم: ((قد أوجبنا الإمساك في الليل))، قلنا: هناك تحققنا وجوب الصوم فاحتطنا للخروج من عهدته، وهاهنا لم يتحقق.
قولكم: ((لا نأمن فوات المصلحة))، جوابه من وجهين:
أحدهما: أن هذا يشير إلى كونه من شعبان وكونه من رمضان، وقد سبق في هذا ما فيه كفايةٌ.
والثاني: أن هذا الاحتمال لا يؤمن مثله في شهادة الفاسق وترك(1/84)
التراءي وإذا لم ير مع الصحو، وقد يرى في مكان آخر.
فلو كان مجرد الاحتمال موجباً للصوم لوجب الصوم مطلقاً، وقد سبق العذر عن اليوم الأخير.
قلنا: أما المطالبة فقد سبق جوابها.
قولهم: ((مصلحة الصوم تحصل في كل زمان)). قلنا: هذا غلطٌ، لأنها لو حصلت في كل زمانٍ لم يكن لإيجابها على الفور في هذا الزمان مزيةٌ، فلا بد لتخصيصها من مرجحٍ علمناه أو جهلناه.
قولهم: ((الفورية صفةٌ زائدةٌ على الوجوب))، قلنا: متى أمكن أن يكون واجباً أمكنت الفورية، ونحن نحاذر من الفوات الممكن الذي لا يستدرك، ولهذا يجب إمساك جزءٍ من الليل.
قولهم: ((هناك تحققنا الوجوب)). قلنا: ونحن نتحقق الوجوب في اليوم الثاني، ونشك في هذا اليوم: هل هو من رمضان أم لا؟. فإذا كنا نوجب ما ليس بصومٍ ليتحقق الصوم، فلم لا نوجب ما يجوز أن يكون صوماً واجباً؟!، لأن هذا مراعاةٌ للشيء، وتلك مراعاةٌ لغيره.
قولهم: ((لو وجب هاهنا الاحتياط لوجب مع الصحو)). جوابه من وجهين:
أحدهما: أن الهلال مع الصحو لو كان موجوداً لرؤي، لأن محله يمكن اتصال النظر به، والدواعي متوفرةٌ على النظر.
والثاني: نقدر وجوده إلا أن الشرع أوجب الصوم مع الصحو بشرط رؤية الهلال لا بوجوده، فأما مع الغيم فله حكمٌ آخر بدليل آخر الشهر.(1/85)
هذا آخر الجزء، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. يتلوه في الجزء الثاني: ((المسلك الثالث: أحد طرفي الشهر .. .. )).
كتبه عبد الرازق بن رزق الله بن أبي بكر الحنبلي الرسعني -نفعه الله بالعلم-. وكان الفراغ منه يوم الأربعاء رابع وعشرين صفر سنة اثنتي عشرة وستمائة ببغداد بمدرسة ابن الجوزي.(1/86)
الجزء الثاني من كتاب: درء اللوم والضيم في صوم يوم الغيم
تأليف الإمام شيخ الإسلام جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي (قدس الله روحه ونور ضريحه)
رواية: ولده الإمام العالم جمال الإسلام محيي الدين أبي محمد يوسف عنه.
رواية: عبد الرازق بن رزق الله الحنبلي عنه.(1/87)
(1/88)
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن
المسلك الثالث: أحد طرفي الشهر:
فإذا حال دون المطلع غيم وجب صومه من رمضان كالطرف الآخر.
قال الخصم: أحد طرفي شعبان أو رمضان؟. الأول: مسلمٌ، والثاني: ممنوع. قالوا: والأصل حجةٌ عليكم من وجهين:
أحدهما: أنه يجب فيه البقاء على الأصل، والقضاء بعدم طلوع الهلال، فليكن في مسألتنا مثله تغليباً للبقاء على الأصل، وهو شعبان.
والثاني: أنا قد اتفقنا على التفريق بين حكم الهلال في أول الشهر وفي آخره في الصحو والغيم، ففي الصحو تقبل شهادة الواحد في إثبات رمضان، ويجب الصوم عندكم وعند الشافعي، وعند أبي حنيفة مع الغيم.
وكذلك إذا شهد رجلٌ في أول رمضان برؤية الهلال، وردت شهادته، فإنه يلزمه الصوم.
وإذا شهد في آخر الشهر فردت شهادته لم يجز له أن يعمل بمقتضى شهادته ولا يفطر، فاعتبار أول الشهر بآخره فاسدٌ.
والسبب في ذلك: أن ما يعرض في آخر الشهر يوجب الخروج عن(1/89)
الواجب بعد ثبوته واشتغال الذمة به، فلا يجوز الخروج عن يقين ذلك إلا بيقينٍ.
وما يعرض في أول الشهر يلزم الوجوب ويشغل الذمة، والأصل البراءة. هذا اعتراض من يفهم الفقه.
فأما الخطيب فقال: ((ما بالمخالف من الغباوة بهذا كله، فكيف استجاز أن يقول: يوم الشك أحد طرفي الشهر؟!))، قال: ((وهذا قياسٌ يخالف النص)).
قلنا: قد بينا أن الأصل في الشهر تسعةٌ وعشرون، فقد زال اليقين في يوم الثلاثين كما زال اليقين في آخر الشهر، فالظاهر كونه من رمضان.
وقولكم: الأصل أنه من شعبان. لا نسلم، وأما اليوم الأخير فالأصل أنه من شوال، إلا أن هذا الأصل عارضه معوقٌ، وهو: أنه يؤدي إلى صوم يومٍ محرمٍ.
ولهذا نقول فيمن أكل يظن أن الفجر ما طلع، أو أن الشمس قد غابت ولم يكن كذلك أنه يقضي، وإن كان الأصل بقاء الليل والنهار، وإنما فرقنا بين أول الشهر وآخره من جهة الشهادة احتياطاً أيضاً.
وإذ قد ثبت أن الأصل في الشهر تسعةٌ وعشرون، فقول الخطيب: ((هذه غباوةٌ)) أمرٌ ينقلب عليه، لأنه ما فهم ما ذهبنا إليه.(1/90)
وقوله: ((هذا خلاف النص)) لو فهم معنى (النص) علم أنه لا نص في هذه المسألة.
المسلك الرابع: أن الصوم عبادةٌ مقصودةٌ على البدن فجاز أن يجب فعلها حين الاشتباه على سبيل الاحتياط.
دليله: الصلاة، فإنه إذا نسي صلاةً من يومٍ لا يعرفها بعينها وجب عليه إبراء ذمته بفعل خمس صلواتٍ.
فإن قيل: الصلاة حجةٌ لنا من وجهٍ، وهو أنه: إذا شك هل دخل الوقت لم يجز له أن يصلي، ولو صلى لم يسقط فرضه. قلنا: إنما لم يجز لأن وقت الصلاة يتسع لأمثالها بخلاف الصوم.
قال الخطيب: ((العبادة لا يلزم فعلها إلا بعد وجوبها، فأما أن يحتاط ليجب، فذلك قول من ليس له تمييزٌ صحيحٌ)). قلنا: لو صح تميزك لميزت ما قلنا! وذاك أننا ما احتطنا ليجب، إنما احتطنا للواجب كما احتطنا بفعل صلواتٍ لا تجب لتحصل الواجبة.
احتجوا بأحاديث، منها:
ما أخبرنا به ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أنبأ القطيعي، قثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قثنا عمرو بن الهيثم، قثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة.
عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم ولا يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)).(1/91)
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين.
وهذا لا حجة لهم فيه، لأنا ننويه من رمضان، ونعتقده منه حكماً فما تقدمنا الشهر.
وقد روى أبو بكر الخطيب من حديث أبي عباد عن سعيد المقبري.
عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيام ستة أيامٍ: قبل رمضان بيومٍ، والأضحى، والفطر، وثلاثة أيام التشريق.
ولم يذكر الخطيب اسم أبي عباد حتى لا يعرف، واسمه: عبد الله، وهو ابن سعيد المقبري. قال أحمد بن حنبل والفلاس: هو منكر الحديث متروكه. وقال يحيى بن سعيد: استبان لي كذبه في مجلسٍ. وقال ابن معين: ليس بشيءٍ، لا يكتب حديثه. وقال النسائي والدارقطني:(1/92)
متروك، وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار، ويهم في الآثار حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها.
ثم أعاد الخطيب هذا الحديث من طريق سعد بن سعيد المقبري، قال: حدثني أخي عبد الله عن أبيه،
عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ستة أيام من السنة يكره صيامهن: يومٌ من شعبان يوصل به رمضان، ويوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق)).
وعبد الله هو أبو عباد، وسعدٌ أخوه، قال أبو حاتم بن حبان: ((لا يحل الاحتجاج بسعدٍ)).
فقد كثر الخطيب العدد بالفارغ، وقد كان يكفيه الحديث الصحيح الأول!. وأي حجةٍ في هذه الأحاديث، لأنا ما نصوم من شعبان ولا قبل رمضان إنما ننويه منه.
واحتجوا بما أنبأنا به أبو منصور بن خيرون، قال: أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، قال: أخبرنا الربيع بن(1/93)
سليمان، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أنبأ سفيان عن عمرو بن دينار عن محمد بن حنين.
عن ابن عباس قال: عجبت ممن يتقدم الشهر، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه)).
وهذا لا حجة فيه لأننا ما نتقدم الشهر.
وقوله: ((لا تصوموا حتى تروه)) محمولٌ على الصحو بدليلنا.
واحتجوا بقوله -عليه السلام-: ((فأكملوا العدة ثلاثين))، وفي لفظٍ: ((فعدوا ثلاثين)). واللفظتان مرويتان عن ابن عمر:
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قثنا روح، قثنا زكريا بن إسحاق، قال: سمعت أبا الزبير يقول:
سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(1/94)
((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين يوماً)).
أخبرنا محمد بن عبيد الله الزاغوني، قال: أخبرنا نصر بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الغافر بن محمد، قال: أخبرنا ابن عمرويه، قال: أخبرنا إبراهيم بن سفيان، قثنا مسلم بن الحجاج، قثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن زياد.
عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا العدة)).
أخرجه مسلم.
أنبأنا محمد بن عبد الملك، قال: أنبأنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن جعفر، قثنا أحمد بن محمد بن يحيى القصار، قثنا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل، قثنا أبي -رضوان الله عليه-، قثنا إسماعيل بن علية عن أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر قال: قال(1/95)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين)).
أنبأنا محمد، قال: أنبأنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد، قثنا يونس بن حبيب، قثنا أبو داود، قثنا عمران القطان عن قتادة عن الحسن،
عن أبي بكرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً)).
الجواب:
أن هذه الأحاديث محمولةٌ على الطرف الأخير، لأنه أقرب المذكورين، والدليل على أن الإشارة إلى الطرف الأخير:
ما أخبرنا به ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي -رضوان الله عليه-، قثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة،(1/96)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً)).
أخرجه مسلم في الصحيح.
أخبرنا ابن عبد الخالق، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن عبد الملك، قال: حدثنا علي بن عمر الدارقطني، قال: ثنا ابن صاعد، قال: حدثنا محمد بن زنبور المكي، قثنا إسماعيل بن جعفر، قثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا)).
ورواه أبو بكر بن عياش، وأسامة بن زيد عن محمد بن عمرو بهذا.
قال الدارقطني: ((وهي أسانيد صحاحٌ)).(1/97)
أنبأنا محمد بن عبد الملك، قال: أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أنبأ الحسن بن أبي بكر، قال: أنبأ محمد بن عبد الله الشافعي، قثنا علي بن حماد بن السكن، قثنا الواقدي، قثنا محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري عن أبيه عن حنظلة بن علي الأسلمي عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أحصوا عدة شعبان، لا تقدموا الشهر بيومٍ، وإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً ثم أفطروا. فإن الشهر هكذا وهكذا وهكذا)) ثلاثاً، وضم إبهامه في الثالثة.
أنبأنا محمد، قال: أنبأنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا القاضي أبو عمر الهاشمي، قثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي، قثنا أبو داود قثنا الحسن بن علي، قثنا حسين -يعني: الجعفي- عن زائدة عن سماك عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقدموا الشهر بصيام يومٍ ولا يومين، إلا أن يكون شيئاً يصومه أحدكم. لا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمامةٌ، فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا، والشهر تسعٌ وعشرون)).(1/98)
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن أبي علي المعدل، قال: أخبرنا إسحاق بن سعد النسوي، قثنا عبد الله بن زيدان، قثنا محمد بن عبيد، قثنا علي بن هاشم عن حريث بن أبي مطر عن الشعبي عن مسروق.
عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأتموا ثلاثين))، وقال بيده: ((الشهر هكذا وهكذا وهكذا)). -يعني: ثلاثين-، وخنس في الثالثة -يعني: تسعاً وعشرين-.
أنبأنا محمد بن عبد الملك، قال: أنبأنا أحمد بن علي، قال: أخبرني الحسن بن أبي طالب، قثنا محمد بن نصر بن مكرم، قثنا علي بن الفضل بن طاهر البلخي، قثنا عبد الصمد بن الفضل أن عصام بن يوسف حدثهم عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير عن محمد بن المنكدر.
عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أحصوا عدة شعبان لرؤية رمضان، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين)).(1/99)
وقد رواه الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين)).
قال الخصم: لا يصلح حمله على الطرف الأخير، لأنه قد جاء مفسراً في الحديث:
أخبرنا عبد الأول، قال: أخبرنا الداودي، قال: أخبرنا ابن أعين، قال: حدثنا الفربري، قال: حدثنا البخاري، قثنا آدم، قثنا شعبة، قثنا محمد بن زياد.
قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)).
انفرد بإخراجه البخاري.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قثنا أحمد بن جعفر، قثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قثنا إسماعيل، قال: أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة عن سماك بن حرب عن عكرمة قال:
سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحابٌ فكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً)).(1/100)
قال حاتم: يعني: عدة شعبان.
قال أحمد: وحدثنا روح، قثنا شعبة، قثنا عمرو بن مرة:(1/101)
عن أبي البختري، قال: تراءينا هلال رمضان بذات عرقٍ، فأرسلنا إلى ابن عباس نسأله، فقال: إن نبي الله قال: ((إن الله تعالى قد مده لرؤيته، فإذا غم فأكملوا العدة)).
أخرجه مسلم، وفي لفظٍ: ((فأكملوا العدة ثلاثين)).
قال أحمد: وثنا يحيى بن زكريا، قثنا حجاج عن حسين بن الحارث الجدلي قال:
خطب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في اليوم الذي يشك فيه، فقال: ألا إني قد جالست أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وساءلتهم، ألا وأنهم حدثوني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين وإن شهد شاهد أو شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا)).(1/102)
أخبرنا ابن عبد الخالق، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر، قثنا محمد بن عبد الملك، قثنا الدارقطني، قثنا محمد بن موسى بن سهل، قثنا يوسف بن موسى، قثنا جرير عن منصور عن ربعي.
عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة قبله، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة)).
ورواه منصور عن ربعي عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثلاثين ثم تصوموا، ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تتموه وتكملوا العدة ثلاثين)).(1/103)
أنبأنا محمد بن عبد الملك، قال: أنبأنا أحمد بن علي، قثنا الحسن بن أبي طالب، قثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ، قثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قثنا محمد بن عمرو بن سليمان، قثنا عبد الوهاب الثقفي، قثنا هشام -وهو: ابن حسان-، عن محمد بن جابر عن قيس بن طلق.
عن أبيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رجلاً سأله، فقال: يا رسول الله! اليوم يصبح الناس، يقول القائل: هو رمضان، ويقول القائل: ليس هو من رمضان. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فأتموا العدد ثلاثين)).
أنبأنا محمد بن عبد الملك، قال: أنبأنا أحمد بن علي، قثنا عبيد الله بن أبي الفتح، قثنا ابن شاهين، قثنا محمد بن هارون الحضرمي،(1/104)
قثنا إسماعيل بن الهيثم، قثنا أبو قتيبة، قثنا حازم بن إبراهيم البجلي عن سماك عن عكرمة.
عن ابن عباس قال: تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم. وقال بعضهم: غداً. فجاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر أنه قد رآه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟)). قال: نعم. فأمر النبي بلالاً فنادى في الناس: صوموا. ثم قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم صوموا، ولا تصوموا قبله يوماً)).
قال الخطيب: وهذا أولى أن يؤخذ به من حديث ابن عمر لما فيه من البيان الشافعي، واللفظ الواضح الذي لا يحتمل التأويل.
أخبرنا ابن عبد الخالق، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد، قثنا محمد بن عبد الملك، قثنا الدارقطني، قثنا عبد الله بن محمد بن زياد، قثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، قثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس.
عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحفظ من هلال شبعان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام.(1/105)
والجواب عن هذه الأحاديث أن أكثرها معلولٌ:
أما حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه لم يقل فيه: ((فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) غير البخاري، وكل من روى عن آدم وعن شعبة قال: ((وإن غم عليكم فعدوا ثلاثين))، فيحمل على أن يكون آدم قد رواه للبخاري على التفسير من عنده للخبر.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا ثابت بن بندار، وأخبرنا يحيى بن ثابت، قال: أخبرني ثابتٌ أبي، قثنا أبو بكر البرقاني، قثنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، قثنا الحسن بن علوية، قثنا عاصم بن علي، قثنا شعبة عن محمد بن زياد، قال:
سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(1/106)
((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، فإن غم عليكم الشهر فعدوا ثلاثين)).
قال الإسماعيلي: ((قد رواه البخاري عن آدم عن شعبة فقال فيه: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين))). قال: ((وقد روينا عن غندر، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن علية، وعيسى بن يونس، وشبابة، وعاصم بن علي، والنضر بن شميل، ويزيد بن هارون، وابن داود، وآدم كلهم عن شعبة، لم يذكر أحدٌ منهم: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين).
قال: ((وهذا يجوز أن يكون من آدم، رواه على التفسير من عنده للخبر، وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا من بين من رواه عنه ومن بين سائر من ذكرنا ممن يرويه عن شعبة وجهٌ. ورواه المقرئ عن ورقاء عن شعبة على ما ذكرناه أيضاً)).(1/107)
قلت: فتحمل رواية الجماعة على أن تكون الإشارة بقوله: ((فإن غم)) إلى آخر الشهر، لأنه أقرب المذكورين.
والجواب الثاني: أنا نحمل ما انفرد به البخاري من ذكر شعبان -إذا لم يكن غلطاً- على ما إذا غم هلال رمضان وهلال شوال فإنا نحتاج إلى إكمال شعبان ثلاثين احتياطاً للصوم، وإن كنا قد صمنا يوم الثلاثين من شعبان فلسنا نقطع أنه من رمضان، إنما صمناه حكماً.
وأما حديث ابن عباس الأول، فجوابه من ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن راويه: سماك بن حرب عن عكرمة، وكان شعبةٌ وسفيان يضعفانه، وقال ابن عمار: كانوا يقولون أنه يغلط، ويختلفون في حديثه. وقال ابن معين: أسند أحاديث لم يسندها غيره. وقال أحمد بن عبد الله العجلي الحافظ: كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء عن ابن عباس، وربما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)).
والثاني: أن قد روينا فيما تقدم هذا الحديث عن عكرمة عن ابن عباس: ((فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا)). فقول حاتم: (يعني: عدة شعبان) رأيٌ منه.
والثالث: أنا نكمل عدة شعبان إذا غم هلال رمضان وشوالٍ على ما سبق بيانه.(1/108)
وأما حديث ابن عباس الثاني فالذي في الصحيح منه: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة))، وهذا محمولٌ على آخر الشهر. وأما ذكر شعبان فيه فانفرد بروايته آدم بن أبي إياس دون جميع من رواه، فالظاهر أنه على سبيل التفسير من آدم كما قال في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري من طريق آدم، فيكون آدم قد فسر الحديثين من عنده، أو روى على ما يظنه المعنى.
وأما حديث حذيفة فقد ضعفه أحمد، وقال: ((ليس ذكر حذيفة فيه بمحفوظ)). ثم هو محمولٌ على حالة الصحو، أو على ما إذا غم هلال رمضان و [هلال] شوال.
وقد استعظم أبو بكرٍ الخطيب هذا الحمل لعدم علمه بالفقه، وقال: ((من خلت يداه من الدليل لجأ إلى هذا التأويل، وكيف يجوز أن يحمل الخبر العام على الخصوص بغير دليل؟!)).(1/109)
قلنا: لو فهمت ما قلت ما قلت! فما حملناه بلا دليلٍ، وإنما حملناه بدليلنا لنجمع بين الأحاديث، والفقهاء يحملون الحديث على صورٍ بعيدةٍ ليجمعوا بين الأحاديث.
وأما حديث طلقٍ فيرويه محمد بن جابر، قال يحيى بن معين: ليس بشيءٍ. وقال أحمد بن حنبل: لا يحدث عنه إلا شرٌّ منه. فقرت عين الخطيب!.
وقال الفلاس: هو متروك الحديث. وقال ابن حبان: كان يلحق في كتبه ما ليس من حديثه، ويسرق ما ذوكر به فيحدث به.
وأما حديث ابن عباس الذي زعم الخطيب أنه أولى من حديث ابن عمر فنبين بما نذكره فساد زعمه من أربعة أوجه:
أحدها: أن حديث ابن عمر في الصحاح كلها، وهذا ليس في الصحاح.
والثاني: أنا قد ذكرنا تضعيف راويه، وهو: سماك بن حرب.
والثالث: أنه قد اختلف على سماك فيه: فرواه سفيان وغيره عن سماك عن عكرمة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً. قال أبو داود: وقد رواه جماعةٌ كذلك، ورواه وكيع عن سفيان عن سماكٍ قوله.(1/110)
وروينا في حجتنا عنه أنه قال: (ثم أفطروا)، وإذا كان قد اختلف في هذا الحديث على هذه الأوصاف مع ما سبق من تضعيف ما يرويه سماك، وأنه قد يرفع ما ليس بمرفوعٍ، فيكف يحسن بالخطيب أن يعارض به الحديث المتفق على صحته؟!. ثم لا يستحيي ويقول: قد اختلفت الرواية عن ابن عمر اختلافاً يؤول إلى موافقة ما يقوله، وإنما روى عن ابن عمر النهي عن التقدم قبل رمضان. فما أقبح هذا التعصب البارد!.
والرابع: أن قوله: ((تماروا، فقال بعضهم: هو اليوم. وقال بعضهم: غداً)). دليل على أن ذلك الأمر كان في النهار لا عن غيمٍ، ويكون الأمر قد خفي عليهم في الصحو، وقد تتاركوا الرؤية فحينئذٍ يعدون ثلاثين ثم يصومون.
وأما حديث عائشة:
فيرويه معاوية بن صالح، قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه، فإذا روى ابن مهدي عن معاوية بن يحيى زبره يحيى بن سعيد.(1/111)
وأما حديث أبي هريرة:
فعنه جوابان:
أحدهما: أنه يرويه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال الدراقطني: ليس بشيءٍ. وقال النسائي: متروكٌ. وقال ابن حبان: تجب مجانبته.
وأما رواية الأعرج فيرويها علي بن غراب، قال ابن حبان: حدث بالأشياء الموضوعة، فبطل الاحتجاج به.
فالعجب من الخطيب كيف كثر العدد بالفارغ؟!.
والثاني: أنا قد تكلمنا على معناه.(1/112)
واحتج المخالف بالنهي عن صوم يوم الشك:
أخبرنا ابن عبد الخالق قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن عبد الملك، قثنا الدارقطني، قثنا محمد بن عمرو بن البختري، قثنا أحمد بن الخليل، قثنا الواقدي، قثنا داود بن خالد ومحمد بن مسلم عن المقبري.
عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيام ستة أيام: اليوم الذي يشك فيه من رمضان، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق.
وأخبرنا عبد الملك الكروخي، قال: أنبأ أبو عامر الأزدي وأبو بكر الغورجي، قالا: أخبرنا الجراحي، قثنا المحبوبي، قثنا الترمذي، قثنا أبو سعيد عبد الله بن سعيد الأشج، قثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر.
قال: كنا عند عمار بن ياسر فأتي بشاةٍ مصليةٍ، فقالوا: كلوا. فتنحى بعض القوم، فقال: إني صائمٌ. فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-.(1/113)
وروى الخطيب عن جماعةٍ أنهم نهوا عن صوم يوم الشك، منهم: عمار، وحذيفة، وابن عباس.(1/114)
والجواب:
أما الحديث الأول: فراويه الواقدي قال أحمد بن حنبل: الواقدي كذاب. وقال يحيى بن معين: ليس بشيءٍ. وقال البخاري: متروك الحديث. وذكر أبو حاتم الرازي وأبو عبد الرحمن النسائي أنه كان يضع الحديث. وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظةٍ، والبلاء منه.
وأما الحديث الثاني: فمحمولٌ على أن المراد به الشك في الصحو. وقد فسر أحمد بن حنبل الشك، فقال: الشك أن يشهد برؤيته واحدٌ فيرد الحاكم شهادته، أو أن تكون السماء مصحيةً ويتقاعد الناس عن طلب الهلال. وجميع ما روي في النهي عن صوم الشك محمولٌ على ذلك.(1/115)
وقول الخطيب: ((يوم الثلاثين من شعبان هو يوم الشك)). ليس بصحيح، لأن الناس اتفقوا على كراهة صوم يوم الشك، وقد ذهب جماعةٌ من الفقهاء إلى جواز صوم هذا اليوم عن نذرٍ، وكفارةً وتطوعاً.
ونحن لا نسمي يوم الغيم شكاً، ومن سماه شكاً فللتعريف، وبيان هذا:
أن الشك تردد بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وهاهنا مزيةٌ، وهو: أنه قد خرج الأصل في الشهور، والأصل: تسعةٌ وعشرون، فبقي اليوم الأخير خارجاً عن الأصل، وهذا وإن سمي يوم شك فإنه يجوز صومه عندكم قضاءً ونذراً ونفلاً يوافق عادةً.
ولنا: يوم شك يجب صومه على الكل، وهو إذا غم هلال شوالٍٍ، ولنا: يوم شك يجب صومه على شخصٍ دون شخصٍ، وهو إذا أخبر رجلٌ برؤيته فرد الحاكم شهادته، فإنه يجب عليه صومه.
قال الخطيب: ((إذا كانت السماء مصحيةً، وتراءى الناس الهلال فلم يروه لا يسميه يوم شك إلا من عميت بصيرته!)).
قلنا: من قال ما قلت فقد عميت بصيرته! لأن الناس إذا تراؤوا الهلال في الصحو فلم يروه لم يسم أحد ذلك اليوم شكاً، إنما إذا تشاغلوا عن التراءي سمي شكاً.
قال الخطيب: ((وقد روي في هذه المسألة حديثٌ فيه كفايةٌ عن ما سواه)). أنبأنا محمد بن عبد الملك بن خيرون، قال: أنبأنا أحمد بن(1/116)
علي بن ثابت، قال: أخبرني عبد الله بن أبي الفتح، قال: أنبأ أبو بكر بن شاذان، قثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي، قال: حدثني هشام بن القاسم الحراني، قثنا يعلى بن الأشدق عن عبد الله بن جراد، قال: أصبحنا يوم الثلاثين صياماً، وكان الشهر قد أغمي علينا، فأتينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأصبناه مفطراً، فقلنا: يا نبي الله! صمنا اليوم؟. قال: ((أفطروا، إلا أن يكون رجلٌ يصوم هذا اليوم فليتم صومه، لأن أفطر يوماً من رمضان يتمارى فيه أحبُّ إلي من أن أصوم يوماً من شعبان ليس منه)). يعني: ليس من رمضان.
قلت: لا تكون عصبيةٌ تخرج من الدين أقوى من هذه العصبية! فليته لما روى هذا الحديث سكت، فأما أن يقول: (فيه كفايةٌ) فلقد زرى بذلك على علمه ودينه.
أتراه: ما علم أن أحداً يعرف قبح ما أتى! كيف والأمر ظاهرٌ لمن شدا شيئاً من علم الحديث؟ فكيف بمن أوغل فيه؟!.
أتراه: ما علم أنه في الحديث الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من روى حديثاً يرى أنه كذبٌ فهو أحد الكاذبين))!.(1/117)
وما كان يخفى على الخطيب أن هذا الحديث كذبٌ موضوعٌ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو خفي هذا عليه كان يزري بعلمه ويسلم دينه، فأما إذا كان يعلم أنه كذبٌ فقد ذهب الدين بالعصبية، ولم ينفع العلم.
وهذا الحديث لا أصل له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا ذكره أحدٌ من الأئمة الذين جمعوا السنن، وترخصوا في ذكر الأحاديث الضعاف، وإنما هو مذكورٌ في نسخة يعلى بن الأشدق عن ابن جراد، وهي نسخةٌ موضوعةٌ.
قال أبو زرعة الرازي: يعلى بن الأشدق ليس بشيءٍ. وقال البخاري: يعلى لا يكتب حديثه. وقال أبو أحمد بن عدي الحافظ: روى يعلى بن الأشدق عن عمه عبد الله بن جراد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرةً منكرةً، وهو وعمه غير معروفين.
قال ابن عدي: وبلغني عن أبي مسهرٍ، قال: قلت ليعلى بن الأشدق: ما سمع عمك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: ((جامع سفيان))، و ((موطأ مالك))، وشيئاً من الفوائد!!.
وقال أبو حاتم بن حبان الحافظ: ((لقي يعلى عبد الله بن جراد، فلما كبر اجتمع عليه من لا دين له، فوضعوا له شبيهاً بمائتي حديثٍ نسخةً عن ابن جراد، فجعل يحدث بها وهو لا يدري، وقد قال له بعض مشايخ أصحابنا: أي شيءٍ سمعت من عبد الله بن جراد؟ قال: هذه النسخة(1/118)
و ((جامع سفيان))!. لا تحل الرواية عنه بحالٍ، ولا الاحتجاج به)).
ومثل هذا لا يخفى على الخطيب، وقد عرف ما قال ابن حبان في ذلك، وعلم مقدار علم ابن حبان، وأثنى عليه، وعد تصانيفه، وحث على التشاغل بها.
وليس هذا بوهمٍ يؤخذ على الخطيب، لأن الوهم غلطٌ لا يعلم به الواهم، إنما هذا يدل على قلة دينٍ وعصبيةٍ مخرجةٍ عن التقوى. ومن فعل مثل هذا فكيف يعيب من يأخذ بحديثٍ صحيحٍ قد فسره صحابي، وينسبه إلى الهوى؟! وكيف يجوز أن يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لأن أفطر يوماً من رمضان يتمارى فيه أحب إلي من أن أصوم يوماً من شعبان)) وقد ذكرنا أن خلقاً من الفقهاء أجازوا صوم يوم الغيم نذراً، ونفلاً يوافق عادةً؟!.
ولو لم يذكر الخطيب هذا الحديث كان أصلح له، فلقد فضح نفسه بذكره، ولكنه لسوء قصده حرم التوفيق. وقد قال القائل:
من آذن الله في فضيحته ... أغرى يديه بكشف عورته
وقال الآخر في حساد أحمد -رضي الله عنه-:
أضحى ابن حنبل محنةً مأمونةً ... وبحب أحمد يعرف المتنسك
وإذا رأيت لأحمدٍ متنقصاً ... فاعلم بأن ستروه ستهتك(1/119)
وأما المعنى، فلهم فيه ثلاثة مسالك:
الأول:
قالوا: الواجب عليه صوم رمضان، وهذا اليوم ليس من رمضان فلا يجب صومه. ولا نزاع في المقدمة الأولى.
فأما الدليل على أنه ليس من رمضان فالحكم والمعنى:
أما الحكم:
فإنه ليس من رمضان في الدين المؤجل، والعدد، والطلاق المعلق به، والأيمان، فلا يكون من رمضان في الصوم.
وأما المعنى:
فهو أن رمضان يثبت إما بالقطع، وهي: الرؤية من الجميع، أو كمال عدد شعبان، أو بغلبة الظن فيشهد العدل الواحد عند قومٍ، والعدد عند آخرين، ولم يوجد في مسألتنا شيءٌ من ذلك، لأن الغيم لا يدل على وجود الهلال، ولا على عدمه. ولم يكن الشهر ثابتاً فلا يثبت بمجرد الشك، وصار كما لو شك في وقت الصلاة، وهل طلع الفجر؟ فإنه لا يحرم عليه الأكل. وخرج على هذا اليوم الأخير، لأن الأصل وجوب الصوم، وها هنا الأصل الفطر.
المسلك الثاني:
قالوا: الشك بالغيم ليس بأكثر من الشك الحاصل بشهادة من رد الحاكم شهادته. ثم هناك لا يجب فيه الصوم، فكذلك في الغيم، لأنه في الموضعين يحتمل أن يكون الهلال طالعاً.(1/120)
ويوضح هذا: أن الغيم ليس بسببٍ في وجوب الصوم، إنما السبب رؤيةٌ أو شهادةٌ برؤيته، ونحن على الأصل، وهو شعبان، فلا بد من ناقلٍ عن هذا الأصل، والغيم لا يصلح ناقلاً.
المسلك الثالث:
عبادة فلا يجوز الدخول فيها إلا على يقينٍ كسائر العبادات.
وتصحيحه: أن الشرع لما أوجب العبادات المؤقتة نصب لها أسباباً وأعلاماً. فدخول وقت الصلاة سببٌ لوجوبها، فلو شك فيه لم يجز له فعلها. وكذلك لو شك في ملك نصابٍ، أو في وجود الزاد والراحلة، وهل طلق أو أعتق أم لا؟
ويوضحه: أن الخطاب يتعلق بالذمة فيقصد بأداء العبادة أن تبرأ، وهاهنا لم يتعلق بذمته شيءٌ يحتاج أن يبرأ منه.
والجواب:
قولهم: ((ليس هذا من رمضان))، جوابه من أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن نقول: ليس من رمضان قطعاً أو ظاهراً؟.
الأول: مسلمٌ، والثاني: ممنوعٌ. وبيانه: أن الأصل في الشهور النقصان على ما سبق. وقد كان مقتضى هذا أن لا يجب صوم اليوم الأخير، لكن أوجبناه احتياطاً.
والثاني: سلمنا أنه ليس من رمضان ظاهراً، ولكن يحتمل أن يكون منه أم لا؟(1/121)
الأول: مسلمٌ.
والثاني: ممنوعٌ. بيانه: أن كونه من رمضان وكونه من شعبان على السواء في الاحتمال، فوجب أن يصام احتياطاً.
والثالث: سلمنا أن كونه من رمضان أبعد من كونه من شعبان، ولكن: لم لا يجب صومه توصلاً إلى أداء الواجب بقينٍ، كما أوجبنا غسل قصاص الشعر مع الوجه؟.
والرابع: أن ما ذكروه ينتقض باليوم الأخير، وقد أجبنا عن عذرهم.
وأما ما ذكروه من الأحكام فجوابها من وجهين:
أحدهما: أنها كمسألتنا.
والثاني: أنها لم تثبت، لأنا إنما أوجبنا الصوم احتياطاً، والاحتياط أن لا يحل الدين، ولا تنقضي العدة. وأما الأيمان والطلاق فمبناها على العرف، والعرف أن هذا لا يقال أنه من رمضان. على أنا نقول: الطلاق والعتاق حقوقٌ لآدميين ثابتةٌ، فلا ترفع إلا بيقينٍ.
وكذلك لو حلف ليدخلن الدار أول يومٍ من رمضان لم يبر بدخوله في هذا اليوم، لأنا قد تحققنا انعقاد اليمين فلا تبرأ ذمته إلا بيقين.
وأما من رد الحاكم شهادته، فإنا نقول: ذكر رؤية الهلال خبرٌ لا شهادةٌ، وليس من شرط الخبر أن يقبله حاكمٌ، وإن رد خبره لفسقه فليست تلك شهادةً ولا خبراً يوجب شكاً. ولو سلمنا أنها شهادةٌ فإن رد الحاكم إياها إسقاطٌ لها فكأنها لم توجد.
وقولهم: ((الغيم ليس بسببٍ)). قلنا: ليس بسببٍ بانفراده مسلمٌ، ولكن قد أضيف إليه ما يوجب الترجيح، وهو صلاحية الزمان لطلوع الهلال،(1/122)
وذلك يوجب الاحتياط للصوم كما نقول في آخر الشهر.
يدل عليه: أن أبا حنيفة قبل شهادة الواحد مع الغيم، ولم يقبلها مع الصحو. والشافعي أجاز أن ينوي من الليل رمضان، فإن بان من النهار أنه كان من رمضان أجزأه، وليس كذلك في الصحو.
وإن قلتم: ليس بسببٍ مع غيره. فهي مسالة الخلاف، وحصركم الأسباب ممنوعٌ.
وعندنا سببٌ آخر، وهو: الغيم في الزمان الصالح لطلوع الهلال.
وقولكم: ((لا ندخل في العبادات بالشك)). قلنا: لا نسميه شكاً على ما سبق. ثم لو سلمنا فقد ذكرنا أن من العبادات ما يلزم مع الشك، وهو إذا نسي صلاةً لا يعلم عينها.
وأما دخول الوقت فقد سبق جوابه، وهو أن تأخير الصلاة لا يؤدي إلى ترك الاحتياط بخلاف مسألتنا.
وقولهم: ((لم يتعلق بذمته شيءٌ)). لا نسلم.(1/123)
فصلٌ: فإن قال قائل: فهل تصلون التراويح في ليلة الغيم؟. قلنا: لنا وجهان:
أحدهما: نصلي، وهو ظاهر كلام أحمد، واختيار أكثر مشايخنا المتقدمين ووجه ذلك: أن الصلاة تبعٌ للصوم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله تعالى فرض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه)).
ومن جهة المعنى نقول: كل يومٍ فرض صيامه سنت صلاة التراويح في ليلته كسائر أيام الشهر.(1/124)
والوجه الثاني: لا نصلي فيها التراويح، وهو اختيار أبي حفص من أصحابنا. وعلل بأنها نافلةٌ لا تحتاج إلى احتياطٍ، بخلاف الصوم فإنه فرضٌ فاحتيط له. وهذا هو الصحيح.
آخر الكتاب والحمد لله
نقلته من خط مصنفه -رضي الله عنه وأرضاه-، وكان الفراغ منه يوم الأربعاء أول ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وستمائة ببغداد.
وكتبه عبد الرازق بن رزق الله الرسعني الحنبلي.
-نفعه الله بالعلم، وزينه بالحلم، بمنه وكرمه-.(1/125)