كتاب المكافأة وحسن العقبى
ابن الداية
أحمد بن يوسف الكاتب
340 هـ
حرره
دكتور علي محمد عمر
الناشر
مكتبة الخانجي
الطبعة الثانية
1421 هـ - 2001 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا أبو محمد عبد الله الفرغاني، قراءً مني عليه، قال: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن يوسف الكاتب، قراءةً مني عليه، قال:
شدد الله فكرك، وأحسن أمرك، وكفاك مهمك
إن أشد على الممتحن من محنته، عدوله في سعيه عن مصلحته، وتنكبه الصواب في بغيته، ولكل وجهة من الجدوى مأتى تستنزل به عوائدها، ويقرب معه ما استصعب منها، يستثيره حسن الروية، [ويهدي إليه] صالح التوفيق.
وقد رأيتك لا تزيد من رغبت إليه -فيما تحدوه على برك، وتحثه لما أغفل من أمرك- على نص مكارم من سلف. وترى أنه يهش إلى مساجلتهم، فلا تبلغ في هذا أكثر من إحراز الفضيلة للمرغوب إليه، ولا توجد في الراغب فضيلةً تحثه على شفيع قصده. ولو عدلت عن مكارم من رغب إليه، إلى حسن مكافأة من أنعم عليه، لكانت لك ذرائع يمت بها الراغب، توجد المرغوب إليه سبيلاً إلى الإنعام، وتفسح أمله في مواترة الإحسان.
ولم يؤت الجود من مأتًى هو أغمض من مغادرة حسن المكافأة. ولو أنعمت النظر فيها: لوجدتها أقوى الأسباب في متع القاصد، وحيرة الطالب. ولو كانت توجد مع كل فعل استحقها، لآثر الناس قاصديهم على أنفسهم، ولجروا على السنن المأثورة عنهم.(1/3)
[وقد كتبت لك] في هذه الرسالة أخباراً -في المكافأة على الحسن والقبح، تنعم الخاطر وتقرب بغية الراغب- مما سمعناه ممن تقدمنا، وشاهدناه بعصرنا، وبالله التوفيق.(1/4)
[1] المكافأة على الحسن
1 - حدثني أبو محمد يحيى بن الفضل، عن عبد العزيز بن خالد الأموي، عن أبيه خالد، قال: أخبرني محارب بن سلمة كاتب خالد القشري:
((أن ديوانبان خالد أخرج من ديوانه وثيقةً على بعض المتضمنين فدفعها إليه ببر تعجله منه لله فدعا به خالدٌ وأمر بقطع يده بين يديه، فقال له: ((استبقني، أصلح الله الأمير!))، فقال: ((وما يكون من مثلك؟))، فقال له: ((إن لم يقدر في الزمان رفعتي إلى منزلتك، فلا تأمنه على حطك إلى منزلتي، فيكون مني ما تحمده!))، فقال خالد: ((أطلقوه ففيه عظيمٌ!)).
فلم يمض حولٌ حتى ورد العراق يوسف بن عمر متولياً لعمله فحبسه في حجرة من ديوانه، ووكل بباب الحجرة جماعةٌ. فتدسس الديوانبان حتى دخل في جملتهم، وتلطف للجماعة حتى رأسها بالخبرة وحسن المداخلة. وتحرم خالدٌ طعام يوسف بن عمر -خوفاً من أن يكون مسموماً- فطوى.
#6#
وتأمل من ذلك الديوانبان، فجعل في منديلٍ نظيف ما يكف جوعته من طعامٍ قد تأنق فيه، ودخل إليه كالمتجسس عن حاله، فقال له: ((أنا الديوانبان الذي عفوت عنه، وهذا طعامٌ تأمن فيه ما تخافه من غرةٍ)). فأقام أياماً يأتيه من طرائف الأطعمة والفواكه ما ينسى به وحشته، ويكف فاقته، ثم دخل إليه فقال: ((ليس هذا الذي أفعله مقدار ما يقتضيه إحسانك إلي؛ وقد استأجرت الدار التي في هذه الحجرة، وأحضرت قوماً أثق بهم من حذاق النقابين، حتى نقبت سرباً إلى موضعك، ولم يبق إلا أن تركض بعض بلاط هذا المجلس ركضةً فتفضي إلى السرب.
وقد أعددت في الدار نجيبين أحدهما لك والآخر لي)).
فلما صلى الديوانبان العصر أغلق الباب، ومضى إلى الموضع المكترى، وركض خالدٌ الموضع وخرج من السرب، وركبا نجيبيهما وحثا المسير. فما فطن بخالدٍ إلا في غد ذلك اليوم، فطلبته الخيل والنجب ففاتها. ولم يزل يوضع في البلاد حتى لحق مسلمة بن عبد الملك، فشفع له إلى هشام ورده إلى عمله.(1/5)
2 - وحدثني هارون بن ملول، قال:
((كنت عند أحمد بن خالد الصريفي -وهو يتولى الخراج بمصر، ووجوهها عنده، وقد أكب على حاصل ما استخرج في أمسه، وهو يقابل به ثبت المصادرة-، فقال لصاحب حمالته: ((ما أرى اسم فلان المتضمن في هذا الحاصل، وقد صادرنا بالأمس على خمس مائة دينار؟)) فقال: ((ما صح له شيء!)) فقال: ابعث إليه من يسحبه صاغراً حتى يحمله على خطة المطالبة))، فقال له رجل من المتضمنين يعرف بما شاء الله بن مرزوق: ((الخمس المائة -أيدك الله- تصح لهذا الرجل في هذه العشية إن شاء الله، إن أعفى مما قد أمرت به فيه))، فقال: ((هي عليك؟))، فقال: ((نعم!))، فتقدم إلى صاحب الحمالة ألا يعرض له، فالتفت إلي ما شاء الله فقال: ((تعرف هذا الرجل؟))، فقلت: ((نعم! ومن العجب ألا تعرفه!))، فقال: ((يا أخي أمر في رجل يجري مجرانا في معاشنا بما لم أطق والله احتماله، وعندي ضعف ما طولب به، وكانت صيانته أحب إلي مما حويته. فإذا لقيته فعرفه أني أورد المال عنه لئلا يورد المال مضعفاً)).
وانصرفت من مجلس أحمد بن خالد، فلقيت الرجل في طريقي، وهو مجدودٌ، فسألته عن خبره وأخبرته الخبر، فقال: ((يا أخي! وما في هذا من #8# الفرج؟ إنما انتقلت من غمٍّ إلى رقٍّ! ومتى أقضي إلى هذا الرجل إحسانه إلي؟ والله لوددت أن أمر السلطان نفذ في، ولم أتحمل هذه العارفة منه!)).
قال أحمد بن يوسف، فقال لي هارون: ((وحضرت [موت] ما شاء الله بن مرزوق بعد هذا بأربع سنين -في الوقت الذي توفي- فاتفق أن كان إلى جانبي رجلٌ قد ألقى بعض ردائه على وجهه، وهو يعج بالبكاء والشهيق، ثم كشف وجهه فكان الرجل الذي أورد ما شاء الله عنه الخمس مائة الدينار. فقال: ((من الوصي من جماعتكم))، فقال له الوصي: ((هأنذا!))، فقال: ((عندي لهذا الرجل رحمه الله ألفا دينارٍ وخمس مائة دينار، فقلت له: ((حدثت بينكما معاملة بعدي؟))، فقال: ((لا والله، ولكنها الخمس مائة الدينار، صرت بها إليه عند تيسرها فقال: ((وما [أبغي بها]؟ تكون عندك إلى أوان حاجتي إليها)). فسألته [الإذن] في شغلها. فقال: ((هو مالك، اعمل به ما شئت)) فلم تزل تنمي وتزيد حتى بلغت هذا المقدار. فقال هارون: ((ووجدت ما خلفه ما شاء الله لبناتٍ كن معه شيئاً نزراً، فجبرهن الله بذلك المال)).(1/7)
3 - وحدثني أحمد بن دعيم -وكان من خاصة قواد أحمد بن طولون- بعد أن ترك الديوان، وحسن انقطاعه إلى الله، قال: ((قلدني أحمد بن طولون الصعيد الأوسط. وخرج عليه سوارٌ أبو عبد الرحمن العمري، فكتب إلي يستخبرني عن حاله، فأعلمته ضعف يده، وانتشار أمره لقلة المال. وقبضت على رئيسٍ من الأعراب اتهمته بمكاتبته وأنهيت خبره إليه. فكتب إلي أحمد بن #9# طولون: يأمرني بحمل الأعرابي، [وجمع] ما قدرت عليه من النجب، والشخوص إليه؛ ليقف من مشافهتي على مالا تبلغه المكاتبة. فامتثلت أمره.
فما سرت مرحلة حتى لحق بي وجوه تجار العمل، ومعهم شاب أعرابي، وقالوا لي: ((جئناك في أمر هذا الأعرابي المحمول، فإن معنا من يبذل في إطلاقه خمس مائة دينار))؛ فقلت لهم: ((قد أنهيت أمره إلى الأمير!))؛ فقال الأعرابي الذي معهم: ((فخذ الخمس مائة على أن تجعلني مكانه))؛ قلت: ((أفعل)). فأحضرت الأعرابي؛ وكان من عشيرتي؛ فقلت له: ((والله لقد كنت مغموماً بك حتى سرني خلاصك!))؛ قال: ((بماذا تخلصت؟ فقلت: ((بذل لي رجلٌ خمس مائة دينارٍ على أن يكون بمكانك وأطلقك!)).
فقال: ((ومن هذا الرجل؟))؛ فأحضرته إياه. فلما رآه قال: ((امض لشأنك))، ثم التفت إلي فقال: ((يحسن بشيخٍ مثلي أن يتربح في المعروف؟ هذا رجلٌ لقيته وقد أكبت عليه خيلٌ لتسلبه ثيابه وما كان معه، ففرقتها عنه حتى تخلص، فرام أن يخلصني بحصوله في موضع لا يخرج منه أخرى الليالي، و [هو] غرمٌ ثقيل على مثله. والله هذا مما لا أقبله ولا أركن إليه))، فقلت له: ((انصرف في حفظ الله فقد رضي الرجل))، فقال: ((والله لئن أمضيت هذا لألحقنك، ولأخبرن الأمير بصنيعك))، فتوقفت، وبكى الأعرابي فقال: ((إذا كان محبس الأمير على ما تصف، وليس ترجو خلاصاً منه؛ فما أعمل في عارفتك عندي؟ وأنا أنشدك الله لما قبلت مني ما بذلته وأعظم منه؛ وأزلت هذه العارفة عن عنقي؛ فإن عاراً ونقيصةً على الكريم أن يموت وعليه دين من ديون المعروف))؛ فقال له: ((إذا رأيت رجلاً أحاطت به خيلٌ تريغ سلبه فذدتها عنه؛ فقد #10# كافأت عارفتي؛ انصرف مصاحباً)). فعرض عليه ما معه من المال؛ فقال: ((ما بي إليه حاجةٌ!))، فأكب على رأسه ورجليه يقبلها ويبكي؛ فأبكى جماعتنا.
فلما دخلت على أحمد بن طولون شافهته من خبر العمري بما سره؛ وعرضت عليه النجب؛ فقال: ((حسنة والله))؛ فقلت: ((معي أيها الأمير ما هو أحسن من هذا)). وحدثته الحديث. فأحضر الأعرابي وخلع عليه وأثبته في ديوانه، وأمرني بإنفاذ رسولي معه في الأعرابي الآخر، فلما وافى خلع عليه وأثبته. فلم يزالا في خاصته إلى وفاته. (1/8)
4 - وحدثني موسى بن مصلح المعروف بأبي مصلح -وكان هذا من الثقات عند أحمد بن طولون-.
أن أحمد كان يراعي أمر المحبوس حتى يمضي له حولٌ، فإذا جازه لم يذكره. وكان يقول لي سراً: ((إذا تبينت من رجلٍ براءة ساحة فسهل عليه واستأمرني؛ فإني أستعمل التشدد للضرورة إليه)).
قال موسى بن مصلح: ((وكان في الحبس رجل قد زاد على سنتين منقطعاً إلى الله برغبته؛ لا يسألنا شيئاً من أمره؛ وهو يكب على الصلاة والتسبيح والتضرع إلى الله.
فقلت له يوماً: ((الناس يضطربون في أمورهم؛ ويسألوني إطلاق الرقعة إلى ذوي عناياتهم؛ وأنت خارجٌ عن جملتهم؟))، فجزَّاني خيراً. ورق قلبي عليه وكبر في نفسي محله، فخلوت به وقلت له: ((لو استجزت إطلاقك بغير إذن لفعلت؛ ولكن استعن بي في أمرك)). فقال: ((والله ما أعرف في هذا البلد #11# غير أبي طالب الخليج- وكان هذا الرجل يتولى شرطتي أحمد بن طولون بمصر -ولو وصلت إليه سراً؛ أو برسالة مع من يفهم، لرجوت تسهيل أمري)) فقلت له: ((والله لآتين في أمرك ما أخطر به على نفسي. أنا أطلقك سراً على أن توثقني بأيمان محرجة أنك لا تهرب عني ولا تخفرني))، فقال: ((إذا كنت عندك بمنزلة من يشك فيه؛ فلا حاجة لي بإخراجك إياي)). فوافقته -من غير يمينٍ ارتهنته بها- على أن يقيم ثلاثة أيام، فأطلقته ليلة الجمعة، وفارقته على أن يصير إلي ليلة الاثنين.
فلما كان سحر يوم السبت، وافاني كما فتحت باب السجن، فلما دخل سجد وحمد الله، وقال لي: ((بعثت إلى أبي طالب الخليج امرأةً من أهلنا وطويت عنه إطلاقي، وسألته أن يلطف في أمري فوعد بذلك، وخلف المرأة حتى ترجع إلي بالجواب. وركب إلى الأمير عشية الجمعة، فأقام إلى قريب من العتمة، ثم انصرفت إلى المرأة فقالت: ((وافى أبو طالب الأمير وهو مغمومٌ، فقال لي: ((كلمته فيه فقال: ((والله لقد أذكرتني رجلاً يحتاج إلى عقوبة!))، ثم تقدم إلى رجلٍ أن يصير بك إليه عند جلوسه في يوم السبت، ووجه إلي أن أرجع إلى الله عز وجل في أمرك، فليتني لم أتكلم فيك!)). فسحرت -مع ما تيقنته في أمري- خوفاً أن يأتيك رسوله فلا يجدني، فيلحقك مكروهٌ منه. ورأيت كل ما يوعدني به أسهل عليّ من أن أخفر ظنك بي، وتقديرك لي)).
فما ترجل النهار حتى وافى الرجل فتسلمه مني. وحضرت الدار -وقد #12# أحضره أحمد بن طولون، ومجلسه بين الخاص والعام - فلما رآه بكته بالإجلاب عليه في الثغر، فاعتذر بعذرٍ قبله، ولقيه بالرأفة، بضد ما خفته عليه، وأطلقه فكان من آثر إخواني عندي إلى أن فرقت الأيام بيني وبينه)).(1/10)
5 - وحدثني عمي إسحاق بن إبراهيم، قال:
((انتظرت أبا عبد الله الواسطي -كاتب أحمد بن طولون- في داره، حتى رجع من عند أحمد بن طولون. فأوصل إليه بعض الحجاب ثبت من وقف بالباب، فرأى فيه إسماعيل بن أسباط فسأل عنه. فقيل له: ((وقف بالباب طويلاً وانصرف)). فقال: ((إن هذا الرجل ممن عمر هذه المنزلة مدةً طويلة، ولست أشك أن مجيئه لحاجةٍ له، ومن الجميل أن أركب إليه فأقتضيه حوائجه، وأبلغ فيها محبته)). ثم ركب وسرت معه، حتى دخلنا دار إسماعيل بن أسباط -وهي التي ملكها الشير بعده-، فرأينا داراً عاريةً من الستور والفرش، وتأملنا من فيها من الحشم على حالٍ سيئةٍ. فاستقبله إسماعيل بالشكر والدعاء له، فقال له الواسطي: ((إنه لا فرق بينك الساعة عندي في المرتبة التي كنت فيها. ومن جمالنا فيما أفضى إلينا أن نحسن فيه خلافة من تقدمنا، وأن نراهم كالآباء المستحقين البر من أولادهم))، وسأله عن حاجته، فقال: ((أخبرك بها بعد أن أحدثك بشيءٍ يدل على أن المعروف ينفع عند مستحقه من غير المستوجبين له)).
((كانت لي -أيدك الله- دار خيلٍ نحو المنظر، وكنت أركب إليها في غداة الليلة التي أعاقر فيها إخواني. فركبت إليها يوماً فألفيت في الصحراء، جمعاً من العامة، وقد ضاقت بهم، ومعهم عامل المعونة. واستقبلتني امرأةٌ قد هتكت #13# سترها، وكشفت شعرها، فقالت: ((يا سيدي! أخي، وواحدي، وكافلي، يعرض على القتل الساعة!)). فعدلت إلى صاحب المعونة وسألته عن حال الناس، فقال: ((اجتمعنا لضرب خناقٍ بالسوط))، فقلت له بحضرة الناس: ((ما حق هذا إلا الإحراق بالنار، وأنا أكتب فيه إلى السلطان))، فأعلن الجميع بالدعاء لي، وانصرفوا. فسألته البعثة بالخناق إلي، فوعدني بذلك في المساء. فلما صليت عشاء الآخرة أنفذ إلي منه شاباً مكفهر الوجه لا تخفى قسوته، فقلت له: ((أما تستحي من الله وتخافه في طعمتك؟))، فقال: ((يا سيدي! أنا أشهد الله أني لا أعاود هذا الفعل أبداً))، فأوصيته بخير، وأضفت إليه من أخرجه عن البلد في حال سترٍ)).
((وأقمنا بعد ذلك سنين، وتقاصرت أمورنا وتغيرت أحوالنا بتقليد إسحاق بن تميم علينا. فلما بلحنا بما نطالب به، أشخصني وأخي أحمد إلى الحضرة، فطالبنا الوزير بما لفقه ابن تميم علينا، فشكونا إليه شدة اختلالنا، فقال: فلان!)) فوافاه رجلٌ بمنزلةٍ أثيرةٍ عنده: غليظ الطبع، كريه الوجه، تتأمل الشر في سجاياه، فقال: ((استخرج من هذين مائة ألف دينارٍ اليوم)).
فانتزعنا من بين يديه بفظاظةٍ أيقنتنا بالهلكة، ثم صار بنا إلى حجرةٍ له في دار الوزير، فسألنا عن بلدنا ونسبتنا، فلما سمع ((أسباط)) سكن فوره ورق قلبه، وقال: ((من تكونون من إسماعيل؟)) فقلت: ((أنا إسماعيل!)) فبكى وأنكب على رأسي ورجلي، وقال لي: ((يا سيديّ أتعرفني؟)) قلت: ((لا))، قال: ((أنا الخناق الذي أطلقتني بمصر! ووالله ما خنقت أحداً بحمد الله بعد إطلاقي، ولكن شراسة طبعي عدلت بي عن الزهادة إلى ما دون الخنق، وهو استخراجي للوزير الأموال بالتعذيب، وقد وجد عندي فيه ما لم يجده عند غيري)). ثم طعن في تلك الحجرة فأخرج إلي صندوقاً يحمله غلامان، فقال: ((في هذا من #14# المال والحلي ما نكتفي به، فقوموا بنا حتى نهرب لئلا يقع بكم باس)). فأعلمته أنا نخاف في الهرب تتبع الولد والأهل: فرجع إلى الوزير يبكي بين يديه ويحدثه محلنا -كان- وما أوليناه، فعجب الوزير من رقته علينا، لما وقف عليه من فظاظته، وكان -شهد الله- أقوى الأسباب في دفع المطالبة عنا.
((ثم سأل أبا عبد الله الواسطي -بعد هذا الحديث- حوائج وقع بها في مجلسه، ووكل بها متنجزاً من خاصته، ولم تزل ألطافه تعتاده إلى أن توفي)).(1/12)
6 - وحدثني يوسف بن إبراهيم والدي، قال: حدثني إبراهيم بن المهدي عن إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه:
أنه كان مع أبي عبد الله محمد بن علي -أبي الخلفاء- برصافة هشام بعد وفاة أبي محمد علي بن عبد الله، وأنه أقام ثلاثة أشهرٍ برصافة هشامٍ لا يأذن له هشامٌ عليه، إلى أن بلغ أبا عبد الله إجماع مسلمة القدوم على هشام، #15# فتلقاه على أميالٍ من الرصافة، وشكى إليه جفوة هشام وتأخيره الإذن عليه. فقال له مسلمة: ((أرجو أن يزول هذا بقدومي))، وأمره أن يقيم بباب هشام إذا دخل عليه مسلمة، ولا يريم ما أقام مسلمة عنده؛ فأقام أبو عبد الله إلى وقت زوال الشمس.
قال عيسى بن علي: فخرج مسلمة إليه، فقال له: ((قوض رحلك أبا عبد الله! فما لك عند الرجل من خيرٍ! لأني خاطبته في أمرك -بعد ما تقضى سلامي عليه-: ((محمد بن علي بن عبد الله على شابكة رحمه برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقيم ثلاثة أشهرٍ ببابك فلا يؤذن له عليك؟)). فقال: ((أله عنه أبا سعيد))، فأمسكت حتى حضر الطعام، فأعلمته أني لا أستجيز الأكل وإنه قائمٌ على الباب! فغضب غضباً زاد به حوله، وقال: ((يسمي ابنيه عبد الله وعبد الله، ويرجو بهذا أن يليا الخلافة، ثم يطمع في خيرٍ مني! والله لولا ماسة رحمه برسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعت من وسطه شبرا)).
ثم عانق أبا عبد الله، قال: ((رسولي إليك صائرٌ)). فرجع أبو عبد الله إلى رحله فقوضه، وبقي في حيرةٍ لعجزه عما ينهضه. ووافاه رسول مسلمة يقول: ((لم أقدر في سفري هذا طول اللبث، وأشهد الله أني ما حملت معي إلا ألفاً وثلاثمائة دينارٍ، وقد وجهت إليك بالألف، وخلفت الثلاثمائة لنفقتي)) قال إبراهيم بن المهدي: فحدث بهذا الحديث الرشيد في حديثة الموصل فبكى، وقال: ((وصلت أبا سعيدٍ رحمٌ، والله لا دخلت الرقة حتى أقضي عارفته عندنا!)). فلما وافينا حصن مسلمة، أحصى من فيه من ولده الذكور والإناث فوجدهم أربعين، فأمر لهم بأربعين ألف دينار)).(1/14)
7 - وحدثني أحمد بن وليدٍ، قال:
((ودعت إسحاق بن نصير العبادي في بعض خرجاتي إلى بغداد، فأخرج إلي ثلاثة آلاف دينارٍ وقال: ((إذا دخلت بغداد، فادفع ألف دينار إلى ثعلب، وألف دينار إلى المبرد، وصر إلى قصر وضاح فانظر إلى أول دكان للوراقين، فإنك تجد صاحبها -إن كان حيًّا لم يمت- قد شاخ، فاجلس إليه وقل له: ((إسحاق بن نصير يقرأ عليك السلام: وهو الغلام الذي كان يقصدك كل عشيةٍ -راجلاً من دار الروميين- بدراعة وعمامةٍ ونعلٍ رقيقةٍ. فيستعير منك الكتاب بعد الكتاب، فإذا اقتضيته كراء ما نسخ منه قال: ((اصبر علي إلى الصنع)). فإذا استقرت معرفتي في نفسه دفعت إليه هذه الألف الدينار وقلت له: ((هذه ثمرة صبرك علي)).
قال لي أحمد بن وليد: فلما دخلت بغداد -ودفعت الألفي دينار إلى ثعلب والمبرد-، مضيت إلى قصر وضاح، فألفيت الدكان التي وصف لي قفراً ليس فيه كتابٌ، ورأيت فيها الشيخ الذي وصفه لي في حالٍ رثةٍ وثيابٍ خلقةٍ، وقد أفضى به الأمر إلى التوريق للناس. فجلست إليه وسألته عن حاله، فقال: ((يا أخي! ما ظنك بحالٍ: ما تتأمله فيّ أحسن ما فيها؟)) ثم خرجنا إلى المسألة إلى أشياء #17# كان فيها خبر إسحاق بن نصير، فقال: ((قد كان يجيئني من دار الروميين غلام -ووصفه- فأسمح له بالنسخة بعد النسخة -يقال له: ((إسحاق))، وكان يعدني في كل شيء يأخذه إلى الصنع، وأخبرت أنه وقع بنواحي مصر وما حصل لي منه شيء!؟ فأخرجت الألف الدينار وقلت له: يقول لك: ((هذه ثمرة صبرك))، فكاد والله يموت فرحاً. فقلت له: ((ليست دراهم وهي دنانير!)). وانصرفت عنه وهو أحسن من في سوقه حالاً.
قال لي أحمد بن وليد: واجتزت بعد ذلك فرأيت دكانه معمورةً، وهو متصدرٌ فيها على أحسن حالٍ وأوفاها)).(1/16)
8 - وكان بنحو دار العنقود شيخٌ يتنخس في الدواب -يعرف بابن الزنق- قد لحق بمصر أكابرها، ورأيته في أيام أحمد بن طولون قد علت سنه، وضعف عن التصرف. وكان له ابن أخت -خفيف الروح، مقبول الصورة، حلو الألفاظ، يتنخس في الدواب -فخف على قلب القاسم بن شعبة. وكان شعبة من أكابر أصحاب أحمد بن طولون، ومات في طاعته، فرد إلى القاسم ابنه إحدى الشرطتين بمصر. فانصرف ابن أخت ابن الزنق من عند القاسم وقد خلع عليه دراعة خز من تحتها جبة ملحم، فنظر إليها خاله ابن الزنق، فقال: ((ما هذه الخلعة الرائعة؟))، فقال: ((خلعها علي القائد!))، يريد القاسم بن شعبة. فقال: ((يا بني! إن كنت تصبر على التدلي معه في محنه، كما تتدلى في نعمه، وإلا فاعتزله، ولا تفضحنا بالقعود عنه في نوائبه))، فقال: ((أرجو أن يصونه الله وما أنعم عليه به، من نائبةٍ تلحقه، أو مكروه يقع به))، فقال: ((وأنا أرجو هذا أيضاً له، ولكن ينبغي أن لا تنسى نصيبه منك في الشدة، كما عني بك في النعمة)).
#18#
واتصل بأحمد بن طولون عن القاسم بن شعبة شيء أنكره، فحبسه ووكل بداره جماعةً، واختفى النخاس في دار خاله. فسأله بعد يومين عن سبب ملازمته المنزل، فقال: ((وجدت علةًٌ))، إلى أن اتصل الخبر بالشيخ، فدخل إلى ابن أخته فقال: ((قبحك الله! سرقت معروف هذا القائد، وخليته يقارع شجوه بمحنته؟!)). وأسرج حماراً له وركبه، وجيرانه يناشدونه الله ألا يفعل، فقال: والله القتل أحسن مما أتى به هذا الوغد)).
ثم قصد دار القاسم بن شعبة -وعليها جماعةٌ من الموكلين وأصحاب الأخبار، فوقف على الباب فقال: ((كيف حال القائد أبي محمد أيده الله؟))، فقالوا: ((امض يا شيخ))، فقال: ((ما أمضي حتى أبلي عذراً! هذا رجل قد لزمتني له عارفةٌ، وهذا أوان قضائها)). فوقع خبره إلى أحمد بن طولون فأحضره، وقال: ((ما كنت تعمله للقاسم بن شعبة؟))، قال: ((أولاني في بعض أقاربي جميلاً، فانتصبت الساعة لما يحتاج إليه؛ وما أحق الأمير أن يفضلني بحسن المكافأة عن طاعة والده، فقد كان مشهوراً بها!)).
فحدثني أبو العباس الطرسوسي. أن أحمد بن طولون قال له في هذا المجلس: ((ما أحسن ما اهتدى هذا الشيخ إلى إذكاري بحق قاسم وعطفني عليه!)). ثم أحضر القاسم بن شعبة وخلع عليه خلعة رضًى، وصرفه إلى منزله، وعدل الشيخ ولم يدخل معه داره؛ وانصرف إلى بيته وقد قام بما قعد عنه ابن أخته. (1/17)
9 - وحدثني هارون بن ملول، قال:
لما مات أبي ورثت منه مالاً جماً ومستغلات نفيسةً -وكان يقصرني على #19# زي التجار، ويمنعني من التخرق والسرف في الهيئة-، فعمدت إلى أثواب وشي سعيدي كانت في المتاجر التي خلفها والدي فقطعتها، وقطعت لخدم -أرتبطهم للتجارة- من الملحم والديباج ما لا يتسمح به أحدٌ من أبناء الترفه وجلست في الوشي، وقام الغلمان بين يدي فيما قطعته لهم.
ووافانا إسحاق بن إبراهيم [بن تميم] مفتقداً، فتأملني فقال: ((لقد سرني بعد يتمتك وحسن زيك، بارك الله عليك، وأحسن إليك!)). ثم وافى جماعةٌ من إخوان أبي وأصفيائه، فوالله ما أنكر علي واحدٌ منهم ما خرجت إليه من زي أسلافي. فلما كان في عشي ذلك اليوم، وافاني رسول إسحاق بن تميم: ((عندي من لا تحتشمه، فتؤنس جماعتنا بحضورك؟ فقد أعجبني اليوم حسن زيك!)). فزدت في الخلعة وركبت، فلما دخلت إليه لم أفقد عنده أحداً من إخوان والدي. فلما توسطت الصحن ابتدرني الغلمان، وصاح بي إسحاق: ((تتوهم يا جاهل أن أباك مضى واسترحت! ولا تعلم أن أباك خلف لك هؤلاء الآباء بأسرهم يردونك عن الخطإ بأليم العقوبة، ولا يشفعون في مصلحتك من عظيم ما كان أبوك يرق عنه فيك؟)) ثم بطحت في وسط الدار، فصحت بهم: ((يا سادتي! والله ما قرعت قط بمقرعةٍ!))، فقال إسحاق: ((ولا أتيت بمثل هذا الفعل!)). وضربت ضرباً مبرحاً، ولم ترفع المقرعة عني حتى حلفت لهم ألا أزيد على معرض والدي واقتصاده، فأقمت على هذا إلى اليوم)).
ومازال عنه إلى أن توفى. (1/18)
10 - ولما استفحل أمر ابن الخليج، انحاز عنه جيش مصر إلى الإسكندرية وخلا الفسطاط منهم، وكنت بمدينة أهناس، واضطربت النواحي، واحتجت إلى مشاهدة الفسطاط، فتخفرت بأربعة نفرٍ من القيسية. دفعت إليهم عشرين ديناراً وخرجت معهم، فأحسنوا العشرة، وأجملوا الصحبة. وكنا لا نجتاز بحي لا وجماعة إلا كفونا مؤونة كلامهم، وصرفوا عنا بأسهم. ولم يزل كذلك دأبنا حتى بلغنا قصر الجيزة، فأقبلت رعلة من الأعراب -قدرتها برأي العين خمسين فارساً- كانت من غير حيهم، فصممت نحونا برماحها، وعملت على نهبنا وقتلنا، ورأيت الموت في أسنتهم. وأحسن الأربعة -الذين تخفرنا بهم- لقاءها والتضرع إليهم، وناشدوهم ألا يخفروا ذمتهم، وأجملوا التأتى حتى انصرفوا.
وجددنا في السير حتى انتهينا إلى حي المخفرين لنا، فقال المخفرون: ((قد بلغت إلى من تأمنه، فحط رحلك، فما تستقل دوابك الزيادة على هذا السير)). فنزلت وتقدمت إلى الغلمان في إطعامهم، ولم أجد للطعام مساغاً من فرط ما لحقني من الروع. وعملت في المخفرين هذه الأبيات:
جزى الله خيراً معشراً حقنوا دمي ... وقد شرعت نحوي المثقفة السمر
دراهمهم مبذولةٌ لضعيفهم ... وأعراضهم من دونها الغفر والستر
إذا ما أغاروا واستباحوا غنيمةً ... أغار عليهم في رحالهم الشكر
وإن نزلوا قطراً من الأرض شاسعاً ... فما ضره ألا يكون بها قطر
فلحظني واحد ٌمنهم وأنا أكتبها، فظن أني أكتب إلى السلطان فأشتكي ما كان من الفرسان الذين لقونا بقصر الجيزة، فقال: ((قد سلمك الله من أولئك #21# القوم، وقد أحسنوا إلينا في حسن الإجابة لنا، فلا تكتب فيهم بشيء)). فقلت: ((والله ما كتبت فيهم ولا في غيرهم إلى السلطان بشيء))، فقال لي شيخٌ من المخفرين -وقد قرب مني-: ((فما تكتب؟))، قلت: ((أكتب أبياناً مدحتكم فيها))، فقال: ((وإنك لتقرض الشعر؟))، قلت: ((نعم!))، قال: ((أنشدني على اسم الله))، فأنشدته إياها، فقال: ((برك الله ووصلك!)).
ثم صاح بالثلاثة، فلما اجتمعوا أنشدهم إياها، فما خرم -شهد الله- حرفاً واحداً، فعجبت من حفظه لها ولم أعد عليه حرفاً منها، وتبينت الفرح في سائرهم، وحفظوها بأجمعهم. ثم صاح بهم الشيخ: ((ما تنتظرون؟ ارحضوا السوءة عنكم)). فأدخلوا أيديهم في جيوبهم، وجمعوا شيئاً أخذه الشيخ منهم، ثم قال لي: ((قد شكرنا صنيعتك، والله لا نجمع بين شعرك ووفرك!))، ووضع العشرين الدينار بين يدي فأكبرت ذلك وأعظمته. فقال لي: ((والصواب ألا يعلم بها عشيرتنا، فيرجع عليك منها أكثر مما خفته ممن لقيك بقصر الجيزة)). وركبت فسرت مع جمعٍ كثيرٍ منهم وهم ينشدون تلك الأبيات، فالتمست أن يقبلوا مني برًّا فلم أصل إلى ذلك، ورأوا أن الشعر أحسن موقعاً مما ملكته.(1/20)
11 - ونزل في حارتنا غلامٌ أمرد تأخذه العين، وكنت أسلم عليه إذا اجتزت به، كما أفعل هذا بغيره من جيرتي. فانصرفت يوماً إلى منزلي فوجدته قائماً على بابه، فدفع إلي رقعةً يذكر فيها أنه عباسيٌّ من ولد المأمون، ويسألني فيها بره. ودخل من كان معي بدخولي، فقضيت شغلي بالجماعة حتى انصرفوا، ووضعت المائدة بيني وبين العباسي فأكلنا، وهو يتأملني فلا يجد في شيئاً قدره. فلما غسل يده، دفعت إليه ثلاثة دنانير، واعتذرت إليه من تقصيري في حقه، وانصرف وقد رأيت تبجيلي في حماليق عينيه.
#22#
فلما كان بعد ذلك بسنيات -وأنا في ضياع تقبلت بها ولي فيها غلةٌ بمالٍ جسيم، فخفت أن أدخل الفسطاط فتخرب الضياع وتتعطل عمارتها، فكنت أكمن نهاراً في بعض منازل الفلاحين، وأظهر ليلاً فأعقد منها ما تهيأ لي عقده. فإني لكامنٌ في يومٍ من الأيام حتى سمعت رجة شديدةً، فدخل إلي بعض غلماني. فقال: ((دخل أصحاب دميانة الضيعة، وعملوا على نقل الغلات!))، وأيقنت بتلف أكثر ما أملكه، ثم سكنت أصواتهم.
ودخل إلي غلام لي فقال لي: ((يا مولاي! كانت هذه الضياع قد أشفت على نقل ما فيها، حتى نظر إلي العباسي الذي كان في جوارنا، فقال لي: ((ألست غلام أحمد بن يوسف؟)) قلت: ((نعم!)) قال: ((فهذه ضياعه؟))، قلت: ((نعم!)) فصاح بالجماعة التي دخلت من أصحاب دميانة: ((اخرجوا بأسركم عنها))، فخرجوا. ثم قال لي: ((قل لمولاك: يا سيدي! محلي عند الأمير دميانة محل الأخ، فاظهر واركب إليه، فقد آمنك الله على نفسك ومالك)). فسألت الغلام: ((ما كان زيه؟)) قال: ((كان عليه كساء صوفٍ مما ينام فيه؛ وتحته خُفْتانٌ)).
فأحضرت بعض مشايخ الضيعة، وحملت معه إليه دراعة خز كحليةً، ومطرف خز، وخمسين ديناراً، وسألته أن يقبل ما يحتاج إليه من ناحيتي. #23# فقبل الدراعة الخز، ورد المطرف والدنانير، وقال لرسولي: ((والله للثلاثة الدنانير -التي وهبها لي لشرفي لا لشيء مما ظننته به- أحسن موقعاً عندي مما رددته إليه، فكثر الله في الناس مثله!)).
فلم يزل عضداً لي وستراً علي، حتى انصرف دميانة عن الناحية. (1/21)
12 - وحدثني يحيى بن الفضيل، عن يحيى بن نجه -وكان هذا الرجل حسن الكتابة- قال:
((ترددت إلى عمر بن فرج الرخجي مدةً، فدخلت عليه في يوم من الأيام. فقال: ((قد أنضيناك! قد استتممت في هذا اليوم سنةً))، ووقع لي بتقليد عمل سني. واضطربت فيما أحتاج إلى التجهز به، فلما لم يبق علي إلا نص ركابي، برزت ظهري وثقلي، ووقفت على باب دار أمير المؤمنين المنتصر أنتظر توديع عمر والخروج إلى عملي. فرأيت غلمان عمر يتسللون فسألت عن السبب، فقيل لي: ((سخط أمير المؤمنين على عمر!)) فحرت، #24# وخفت أن أرجع إلى منزلي فأخسر جميع ما أنفقته. فإني لفي تلك الحيرة حتى خرج عمر بن فرج، ومعه رجلٌ من شيعة بني العباس، فقال لي: ((أين كل من كان معي؟))، فقلت: ((تسللوا للحادث!))، فقال: ((وقد وكل بي هذا الشيعي على أن ينفيني إلى بلاد الترك، ولم أعد شيئاً ولا أجد من يعده لي))، قلت: ((هذه قبةٌ وظهر يقلك، وأنا أصحبك شكراً على ما أسلفتني من التقليد)).
فركب القبة، وأحضر الشيعي قبةً له، وركبنا وأنا أعادله، وانتهى المسير بنا إلى خراسان. وكنا لا نفضي من بلدان خراسان إلى بلدٍ إلا وجدناه أغلظ طبعاً من البلد الذي فارقناه، حتى بلغنا بخارى، فرأينا قوماً في نهايةٍ من غلظ الطباع، فقال لي -حين رآني أتعجب منهم-: ((كيف لو رأيت الترك وبلدانهم؟ يقتلون المستجير بهم، ويغير بعضهم على بعض، فيهلك النازع إليهم بينهم!))، فزادني هذا القول تهيباً للسير معه، ثم ملكت ما استغرب مني، وتماسكت.
وجد بنا السير عن بخارى إلى أرض الترك، وإني معه في القبة وهو يحدثني بشيء قد شغلني عن تبينه ما يقلقني من ركوب ما أقدمت عليه من الخطر -حتى سمعنا حلق البريد، فتشوفنا لها، ووافى بها رسول أمير المؤمنين وكتابه بما أمره بالحضرة: من الرضا عنه ورده إلى مرتبته؛ ويأمره فيه بكشف مدن خراسان، وتجريد عقودها على أصوب ما استقرت عليه، واستثارة التوفير بها والزيادة فيها. فلما استتم قراءته؛ حمد الله، وألقى الكتاب إلي؛ وقال: ((بارك الله لك في الخلاص وهنأك المزيد)). ورد إلي تأمل ما أمر به أمير المؤمنين من كشف عقود النواحي)).
#25#
فانصرفت إلى منزلي بمائة ألف دينار؛ مع ارتهان شكر المعاملين وإحماد السلطان)).(1/23)
13 - وحدثنا أحمد بن يوسف، قال:
((حبس أحمد بن طولون يوسف بن إبراهيم والدي في بعض داره -وكان اعتقال الرجل في داره يؤيس من خلاصه-، فكاد ستره ينهتك لخوف شمله عليه. وكان له جماعةٌ من أبناء الستر يتحمل مؤنها، مقيمة عليه لا تنقطع إلى غيره. فاجتمعوا -وكانوا زهاء ثلاثين رجلاً- فركبوا إلى دار أحمد بن طولون، فوقفوا بباب له يعرف بباب الجبل، واستأذنوا عليه فأذن لهم. فدخلوا إليه، وعنده محمد بن عبد الله بن الحكم وجماعةٌ من أعلام مستوري مصر، فابتدروا كلامه بأن قالوا: ((قد اتفق لنا -أيد الله الأمير- من حضور هذه الجماعة مجلسه، ما رجونا أن يكون ذريعة إلى ما نأمله؛ ونحن نرغب إلى الأمير في أن يسألها عنا، ليقف على منازلنا)). فسألهم عنهم، فقالوا: ((قد عرضت العدالة على أكثرهم فامتنع منها)).
فأمرهم أحمد بن طولون بالجلوس؛ وسألهم تعريفه ما قصدوا له؛ فقالوا: ((ليس لنا أن نسأل الأمير مخالفة ما أمر به في يوسف بن إبراهيم، لأنه أهدى إلى الصواب فيه، ونحن نسأله أن يقدمنا إلى ما اعتزم عليه فيه: إن آثر قتله أن يقتلنا؛ #26# وإن آثر غير ذلك أن يسلف بنا، وهو في حل وسعة منه))، قال: ((ولم ذلك؟))، فقالوا: ((لنا ثلاثون سنة ما فكر في ابتياع شيء مما احتجنا إليه؛ ولا وفقنا بباب غيره. ونحن والله أيها الأمير نرتمض البقاء بعده من السلامة من شيء من المكروه وقع فيه))، وعجوا بالبكاء بين يديه. قال أحمد بن طولون: ((بارك الله عليكم فقد كافأتهم إحسانه وجازيتم إنعامه))، ثم قال: ((علي بيوسف بن إبراهيم))، فأحضر. فقال: ((خذوا بيد صاحبكم وانصرفوا)). فخرجوا معه؛ وانصرف بهم إلى منزله)).(1/25)
14 - قال:
((وطالبني بعض عمال الخراج بمصر بمالٍ زاد على ما في حاصلي؛ فاحتجت إلى معاملة بعض التجار عليه؛ فدللت على رجل من أهل الشام يعامل برهون؛ فصار إلي -وأنا في بيت المال- منه شيخٌ حسن الصورة جميل اللقاء، فقال: ((إلى كم تحتاج؟)) قلت: ((إلى مائتي دينار)). فأخرج من كمه مالاً فوزنه، واستزاد من غلامٍ كان معه دنانير حتى أكمل المائتين، ثم سلمها إلي واقتضاني خطًّا بها، وقال: ((قد كفيت مؤونة الرهن))، فقلت: ((فكيف أكتب الخط؟)) قال: ((بمائتي دينارٍ كما أعطيتك))، فقلت له: ((سبيل المعاملة غير هذا!))، فقال: ((والله لا قبلت منك فيها ربحاً، ولو وهبتها لك لكان من أصغر حقوقك عليّ))، ثم قال لي: ((تعرفني؟))، قلت: ((لا!)).
قال: ((ركبت مركباً أريد الفسطاط من تنيس، وحملت فيه تجارةً لي #27# ما كنت أملك غيرها، حتى إذا بلغت المحلة، ووازيت ضياعاً كانت في يدك، كسر بنا، وغرق جميع ما أملكه، وسلمت بحشاشة نفسي، فجلست على الشط أبكي وأنتحب، فأقبلت في جماعة معك فسألتني عن حالي فأخبرتك بها، فبثثت في حشد من يغوص على المركب وما فيه وحططت على الشط، فأخرجوا بزاً كان لي وتلف ما سواه؛ واستحلفتني على ما ذهب لي فأخبرتك به -وكانت قيمته سبعين ديناراً- فقسمتها لي على وكلائك وكتابك فلما حصلت لي أعطيتني دنانير من عندك وقلت لي: ((هذا أرش ما لحقك في الثياب))، وأمرت أن يكترى [لي] إلى تنيس، وكتبت لي إلى جماعة معامليك بتنيس بما لحقني، وبمعونتي على أمري، فرجع بك إليَّ ما أملك، واكتسبت جاهاً بتنيس تضاعف مالي به، وحسنت معه حالي)).
((وأخذ خطي بالمال وانصرف)).(1/26)
15 - وسمعت أبا العباس أحمد بن بسطام يحدث أبا الطيب أحمد بن علي قال:
((لما سخط الموفق على صاعدٍ وكل به من يطالبه، وأقرني والطائي على ما كنا نتقلده له. وكان صاعدٌ محسناً إلينا، جميل العشرة لنا، #28# فلم نترك شيئاً نصل إليه مما خفف عنه إلا بلغناه. وكانت بيني وبين الطائي إحنة، فدعاني الموفق في يوم من الأيام -ونحن بواسط وقد بلح صاعدٌ، واستنزل المستخرج جميع ما وصل إليه منه-، فقال لي: ((أحمد! ادخل إلى صاعدٍ فقل له: أظنك أرضيت المستخرج حتى فتر في مطالبتك، وتالله لئن لم تخرج محتجبك لأتولين تعذيبك بنفسي!)).
فدخلت إليه وأديت الرسالة، فقال لي: ((يا أحمد! والله ما بقي لي شيءٌ، وما ملكت قط ما هو أحب إلي من نفسي، فتقول له: يا سيدي! والله ما أملك على الأرض ولا فيها ديناراً ولا درهماً ولا جوهراً، وأنت أولى بالتطول على خادمك)). فانصرفت من عنده وأنا أخاف أن يغريه ذلك الجواب. ودخلت إليه وقلت له: يقول لك: ((يا سيدي! ما أملك على وجه الأرض ولا بطنها غير مائة ألف دينارٍ عند الطائي)). فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه، قال له: ((المائة الألف الدينار التي لصاعد عندك، قد بعث إلي يحلف أنه لا يملك غيرها)). فقال له: ((وهي بمدينة السلام، فينظرني الأمير مسافة الطريق، وأنا أستسلف له ما تيسر منها من التجار هاهنا؟)) فقال له: ((اكتب خطك بها)). فكتبه وسلمه إلى الموفق، فسلمه إلى غلامٍ من خاصته، وانصرف الطائي.
فاستقبحت ما صدر مني فيه، وعظم في نفسي لتصديقه صاحبه، وترك معارضته بما يدفع به المرء عن نفسه. فدنوت من الموفق وقلت له: ((أيها الأمير! جميع ما أديته إليك عن صاعد مني تقولته، وقد قبح في عيني، وسيدي مخيرٌ بين الصفح عنه والعقوبة عليه)). فقال: ((أحسنت! بارك الله عليك)). ثم أمر برد الطائي، فقال: ((لِمَ لم تتقرب إلي بذكر هذا المال؟)) فقال: ((أيها الأمير! يمنعني من ذلك ما تولاه من اصطناعي)) فقال له: ((ليس يقنعني إلا أن تحلف برأسي على هذا المال، وفي أي وقت دفعه إليك)). فقال: ((يعفيني #29# الأمير من ذلك)). فقال: ((والله لا فعلت)). فقال: ((وحق رأس الأمير ماله عندي درهم واحد فضلاً عنه، ولكني لما رأيته قد عاذ بالدعوى علي، تيقنت أنه لم يبق له حيلة في المدافعة عن نفسه، فعملت على تحمل هذا المال، ووالله ما أملكه، ورجوت أن أصل إليه بجاهي ولطيف حيلتي)) فاستحضر الموفق الخط ودفعه إلى الطائي، فقال له: ((خرقه)). ثم تقدم بإعفاء صاعد من المطالبة)).(1/27)
16 - وكان نجاح بن سلمة -مع ما يؤثر عنه من زعارة أخلاقه، وقبح تسلطه- يحب التبسط على طعامه، ويحسن المكافأة عليه. فحدثني يعقوب بن إسحاق بن تميم، قال:
أقام إسحاق والدي ببغداد خمساً وعشرين سنة في رفع حسابه، ينقض الكتاب جماعاته ويسلطون الإعنات عليه، قال لي يعقوب، فحدثني أبي: أن أغلظ الكتاب بأسرهم كان عليه، نجاح بن سلمة. قال: فلما أفرط علي سوء تحكمه، جلست في منزلي، فمر به اسمي، فقال: ((قد عزم إسحاق بن تميم على أن يتربص بنا كما كان يتربص بمن كان قبلنا؟)). ثم نظر إلى بعض المضمومين إليه فقال: ((بكر إلى إسحاق بن تميم فأحضره الدار إلى أن أنصرف)). قال: فباكرني فظٌّ من الجند لم أملك نفسي معه حتى صار [بي] إلى دار نجاح، فوجدناه قد ركب.
فحصلني على الباب وجلس معي، وتعالى النهار واشتد جوعي، فقلت #30# له: ((امض معي إلى المنزل لنأكل جميعاً ونرجع!)) فأبى فقلت لحاجب نجاح -ورأيته متمكناً من داره: -وأصلحك الله، إني قليل الصبر على الجوع، وأخاف أن يتأخر الأستاذ وأضعف عن حجتي في حضوره لغلبة الصفراء علي، وقد سألت هذا الرجل أن يطلق لي الذهاب إلى منزلي لآكل وأرجع فأبى))، قال: ((لم لا تأكل هاهنا؟)). وأجلسني في بشخانة فيها، واستحضر الطعام، فأحضرت مائدة نجاح بن سلمة، ولم يبق حلوٌ ولا حامضٌ ولا حار ولا باردٌ إلا نقل علينا. حتى إذا بلغت إلى الحلواء من الطعام، دخل الدار نجاحٌ فجلس في المجالس، ورآني في دخوله، ومكاني من البشخانة، فبعث إلي غلاماً له [يقول]: ((بحياتي استتم أكلك ولا تتجوز فيه)). فأقمت حتى فرغ الطعام، وجاؤوني بالغسل والبخور، ثم قمت. فلما رآني ضحك إلي وقال: ((من علمك على هذا؟))، قلت: ((التوفيق))، قال: ((أجل!))، ثم قال لي: ((ارفع حسابك كيف شئت واحشه، فقد أمنك الله من اعتراضك بشيء تكرهه)).
قال يعقوب: قال لي أبي: ((فغدوت إليه بحسابي، فوالله ما زاد على التوقيع في الجماعات بإمضائها وتخليدها. ثم قال: ((متى تعزم على بلدك؟))، فقلت: ((يا سيديّ إنما أنتظر فيه إذنك، فكل شيء لي مفروغٌ منه))، فقال: ((اجعله بعد صلاة الجمعة))، قلت: ((أفعل)). ثم قال لي: ((تروح إلي لألقاك في حوائج لي؟))، فقدرت أن يحملني في الحوائج غرم الألف الدينار.
فلما رحت إليه. دخلت وهو خالٍ، فقال لي: ((إنك ترجع إلى بلد قد يئس منك فيه أهله، فأدخل الجار من جيرانك الخشبة في حائطك، والجار في البستان قد تحيف حدودك، فهب لي ما بينك وبينهم)). قلت: ((أفعل)).
#31#
قال: ((وترى ببلدك جماعة قد ارتفعوا، أبناء خاملين، فلا تنهرهم بدقة أصولهم، وانصرف عما كان عليه سلفهم، فإنه يزرع لك المقت في قلوبهم)). قلت: ((أفعل)).
قال: ((وأصحاب البريد، فاحذر أن يرد في كتبهم ذكرٌ لك بخير ولا شرٍ)). قلت: ((أفعل)).
ثم أومى إلي يعانقني، قلت: ((يا سيدي! حوائجك؟)). قال: ((هي ما عددته عليك، إنك قد حللت مني بانبساطك محل القرابة الذي أسر بصوابه، ويغمني زلَله، فإن حزبك أمرٌ في بلدك فلا تعدل به عني، وأنا أستودعك الله)).
((فانصرفت عنه وأنا على غاية من الشكر)).(1/29)
17 - وحدثني محمد بن يزيد -وكان حسن التقشف، سديد الرأي- قال:
أطلق جماعةٌ من حبس أحمد بن طولون كانت قد وقعت بهم ظنةٌ بالتلصص، وكانوا ينزلون كورة أهناسٍ. فإني عند بعض أصحاب الأكسية حتى وافاه غلامٌ أصفر، خبيث المنظر، متمكن من نفسه، من الخارجين من الحبس، فرحب به، وجلس عنده، وهنأه بسلامته. ثم سأل عن حاله، فقال: ((خرجت من الحبس كما تراني، وما معني نفقةٌ تبلغني منزلي)).
فقلت له: ((ما اسمك؟))، فقال: ((مسافر))، فقلت له: ((يا فتى! قدم الله في أمورك ولا تعدل عنه، فإن الراحة في ظله))، فقال لي: ((يا سيدي! الحق فيما قلته، والنفس بالسوء، والتوفيق إلى الله دون خلقه))، فأعجبني جوابه، #32# وقلت له: ((كم يكفيك إلى منزلك؟)) فقال: ((دينار!))، فدفعته إليه وقلت له: ((إذا حدثتك نفسك بإخافة السبيل فابعث إلي حتى أمسك من رمقك، وأكف فاقتك)).
فما مضى شهر حتى اضطربت ناحية أهناس والبهنسا بتسلط رجلٍ من اللصوص -في جمع كثير، على كثيرٍ من المواضع، وكبسهم الضياع. وكانت لي أسلافٌ بسمسطا ونواحيها، فخرجت لقبضها في رفقةٍ من التجار، قد حملوا البز والطيب وما يحتاج إليه للأرياف. فإنا بنواحي المحرقة، حتى لقينا قطعةً من اللصوص، فساقتنا بأسرنا إلى موضع منقطع عن المارة، وفيه شابٌّ أصفر راكب فرسٍٍ، ومعد مقدار خمسة فوارس، فعرضت الجماعة عليه إلى أن بلغني، فتأملته فوجدته ((مسافراً))، فأكب على رأسي وتحفى بي، ثم قال لأصحابه: ((أخطأ والله حزركم، هذه رفقة شيخي وسيدي، ووالله لا دخل إلي منها شيء)). وسار معنا حتى أخرجنا إلى الأمن، ثم قال لي: ((أنا أعلم أنك لا تأكل طعامي، ولا تقبل شيئاً مني، وقد والله يا سيدي حببت إلي مجانبة ما أنا بسبيله، فنشدتك الله لما جعلتني طريقك في الرجعة!)). فتضمنت له ذلك.
ودخلنا مدينة أهناس، فشاع خبر ما أولاني في الناس. وكان المتقلد لها رجلاً من أصحاب أحمد بن طولون -يُعرف بفهم- متقدماً عنده أثيراً لديه فبعث إلي، وعرف مذهبي، فقال: ((قد أحفيت المسألة عن هذا الغلام، فرأيته لا يرى القتل، ولا هتك الحريم، وإنما يتعلق بأطراف الأموال ولا يبلغ #33# الاجتياح. وأنا أسألك أن تسفر بيني وبينه، فإن أؤمنه وأكرمه وأقلده سيارة البلد)). فرجعت في حاجة فهم إليه، فألقيته والجماعة بين يديه، فأديت إليه رسالته، وأعلمته أن هذا الرجل صحيح الضمان، فقال: ((يا سيدي! ما بيني وبينه في الأعمال إلا أنس الناس به)). ثم قال لأصحابه: ((من يساعدني على الخروج إلى الله عز وجل؟))، فقالوا بأجمعهم: ((نحن!)). فسار معي حتى إذا قربنا من أهناس، وضع حبلاً في عنقه وقال: ((ادخل بي في زي الأسرى وهذه الجماعة))، فدخلوا، والناس يبكون لما اتفق لهم من حسن الهداية، ورأى الناس عجباً من سوق شيخ مثلي ضعيفٍ رجلاً قد أعجز خيل السلطان. فطلب فهم أن يقبل له خلعةً، فامتنع من ذلك، وأضاف أصحابه إلى فهم، وأقام إلى وقت الحج فخرج إلى مكة راجلاً، ثم فقدته)).(1/31)
18 - وحدثني أبو حبيب المقري، قال: ((ضاقت أحوالي، فلم يبق لي إلا جارية أحبها، ومنزلاً أسكنه. فبعت المنزل بألف دينار، وخرجت إلى مكة بالجارية، فقلت لها: ((يكون هذا المال في وسطك)) فكانت إذا نزلت في منزلٍ حفرت في خيمتها حفيرةً، وأودعت المال فيها وطمتها. فإذا نودي بالرحيل أثارته وشدته في وسطها.
قال: فاتفق أن رحلنا عن منهلٍ ونسيت المال في الحفرة، فأخبرتني الجارية بذلك، قال: فحار فكري، وطاش روعي، ولم أدر ما أعمل. ودخلنا مكة، #34# فحدثتني نفسي ببيعها فلم يطعني قلبي. فلما رجعنا ونزلنا المنهل الذي خلفت فيه الكيس، رأيت صحراء، وغلام على رابية يرعى غنيماتٍ له، وأقبلت أدور وأنظر إلى الأرض، فقال لي: ((ويحك! ما تطلب؟))، قلت ((شيئًا أودعته أرض هذا المنهل))، فقال لي: ((صفه لي))، قلت: ((كيس أحمر فيه مال))، فقال: ((ومالي فيه إن دللتك عليه؟))، قلت: ((نصفه!)) قال: ((ها هو ذاك في الرابية)). فلما رأى تحيري فيه، قام حتى أخرجه ووضعه بين يدي، فحمدت الله، وقسمت الكيس قسمين وخيرته أحدهما، فقال لي: ((إني أرى قسمي منه كثيراً، وأنا أكتفي بنصف أحد القسمين، فقسمته بقسمين، فقال: ((تقسمه أيضاً بقسمين))، ففعلت، فقال: ((ما أعجب أمرك! أتركه كله حراماً، ونصفه حلالاً، وآخذ منه شيئاً! هذا ما لا يكون، انصرف بمالك)). فقلت له: ((يا غلام! أنت حرٌّ أو مملوك؟)) فقال: ((مملوك))، فقلت: ((لمن؟))، فقال: ((لشيخ هذا الحي)).
فدخلت الحيّ فألفيت الشيخ والناس عنده، فقلت له: ((رأيت غلاماً في المنهل يرعى غنيمات وأسألك أن تبيعنيه))، فقال: ((اشتريته بعشرة دنانير))، فقلت: ((أنا آخذه بعشرين))، فقال: ((إن لم أبعه؟))، قلت: ((أعطيك به ثلاثين ديناراً))، فقال لمن حوله: ((أما تسمعون ما يقول؟ وما يحملك على أن تبذل به هذا الثمن؟))، فقلت: ((جمع علي ضالةً، فنذرت أن أعتقه وأبتاع الغنم [التي] يرعاها له، وأملكه إياها))، فقال: ((نذرت أن تفعل به هذا لفعلةٍ واحدةٍ من الجميل أولاكها، ولنا في كل يوم منذ ملكناه حسنة تقتضي أكثر مما نأتيه له. وأنا أشهد الجماعة أنه حرٌّ لوجه الله، وأن ما يرعاه له)).
فانصرفت عن الشيخ وقد بلغ بي ما أملته له)).(1/33)
19 - وقلت يوماً لأحمد بن محمد المعروف بابن أبي عصمة كاتب أحمد ابن طغان -وكان لي صديقاً مصافياً-: ((قد كثر الناس في إصابتك مع ابن طغان!))، فقال: ((ما أخطئوا في التكثير، وكان صاحبي سمحاً، ولقد أصابني منه في جهةٍ واحدةٍ ثلاثون ألف دينار))، فسألته عن تلك الجهة، فقال: ((كان لا يمسك مالاً، ولا يعتقد ذخيرة، فقال لي يوماً: ((لم يصبح في حاصلي درهم واحد، فاستسلف لي شيئاً أنفقه)). فمضيت إلى منزلي فحملت إليه ألف دينار. فلما وضعتها بين يديه، فتح الكيس وقلب ما فيه، فلما رأى الدنانير صحاحاً جيدة، قال: ((ما هذه دنانير صيرفي، فبحياتي ممن أخذتها؟))، فقلت له: ((كانت عندي))، فقال: ((ما ظننت هذا موضعك!))، وسكت.
وكان له في كل شهر ألف دينار نزلٌ، فجئته به عند استيجابه إياه، فقال لي: ((ما هذا؟))، قلت: ((النزل))، فقال: ((اقض به دنانير الرجل)). ثم جئته به مرة أخرى بنزل الشهر الثاني، فقال: ((اصرفه إلى الرجل))، قلت: ((قد قضيته!))، فقال: ((اصرفه إليه كما آمرك)). فلم يزل يفعل بي هذا حتى مضى ثلاثون شهراً حصلت فيها ثلاثين ألف دينار)).(1/35)
20 - حدثني هارون بن ملول، قال: حدثني ياسين بن زرارة، قال:
((كان ببعض أرياف مصر نصراني من أهلها كثير المال، فاشي النعمة، سمح النفس؛ وكانت له دار ضيافةٍ، وجراياتٌ واسعةٌ على ذوي الستر #36# بالفسطاط، فهرب من المتوكل رجلٌ -كنى عن اسمه- خطير المنزلة. لميلٍ كان من المنتصر إليه، وتبرأ من حاشيته ولبس جبة صوف، فانتهى به المسير إلى مصر. فلما دخلها رأى فيها كثيراً من أهل بغداذ. فخاف أن يعرف فنزع إلى أريافها، فانتهى به المسير إلى ضياع النصراني، فرأى فيها منه رجلاً جميل الأمر. وسأله النصراني عن حاله، فذكر أن الاختلال انتهى به إلى ما ظهر عليه، فغير هيأته، وفوض إليه شيئاً من أمره فأحكمه فيما أسند إليه واضطلع به، ولم يزل حاله يتزايد عنده حتى غلب على جميع أمره، وقام به أحسن قيام، فكان محل الرجل الهارب من النصراني، يفضل كل ما ذهب له.
وورد على النصراني مستحثٌّ بحمل مال وجب عليه، [وسأله] النصراني عن خبر الناس بالفسطاط، فقال: ((ورد خبر قتل المتوكل وتقلد المنتصر، ووافى رسولٌ من المنتصر في طلب رجل هرب في أيام المتوكل يعرف بفلان بن فلان، ويوعز إلى عمال مصر والشام بأن يتلقوه بالتكرمة والتوسعة، فيلحق أمير المؤمنين في حال تشبه محله عنده)).
فعدل النصراني بالمستحث إلى بعض من أنزله عليه، وخلا الهارب بالنصراني فقال: ((أحسن الله جزاءك فقد أوليت غاية الجميل، وأحتاج إلى أن تأذن لي في دخول الفسطاط))، فقال: ((يا هذا! إن كنت استقصرتني فاحتكم في مالي، فإني لا أرد أمرك، ولا أزول عن حكمك، ولا تنأى عني، فقال له: ((أنا الرجل المطلوب بالفسطاط، وقد خلفت شملاً جمًّا ونعمةً واسعة، وإنما عدل بي #37# الخوف على نفسي))، فقال له: ((يا سيدي! فالمال في يدك، وما عندك من الدواب فأنت أعرف به مني، فاحتكم فيه)) فأخذ بغالاً وما صلح لمثله، وخرج النصراني معه، وقدم كتاباً إلى عامل المعونة من مستقره)) فتلقاه عامل المعونة في بعض طريقه، ووصاه وجميع العمال بالنصراني. وصار إلى الحضرة، فأصدر إليهم الكتب في الوصاة به؛ إلى أن قدم بعض العمال المتجرة، فتتبع النصراني ورام الزيادة عليه، فخرج إلى بغداذ.
قال لي هارون: إن ياسين قال له: إن النصراني حدثه، أنه دخل بغداذ فلم ير بها أوفى محلاً وأكثر قاصداً منه.
((ثم استأذنت عليه وعنده جمعٌ كثير، فخرج أكثر غلمانه حتى استقبلوني، فلما رآني قام على رجليه ثم قال: ((مرحباً بأستاذي وكافلي والقائم بي حين قعد الناس عني))، وأجلسني معه. وانكب علي ولده وشمله، وأنا أتأمل مواقع الإحسان من الأحرار. وسألني عن حالي في ضياعي، فأخبرته خبر العامل، وكان أخوه في مجلسه، فنظر إليه من كنا عنده وقال له: ((كنت السبب في تقليد أخيك، فصار أكبر سبب في مساءتي!)). فكتب من مجلسه كتاباً إليه بجلية الخبر وأنفذه. وأقمت عنده حولاً في أرغد عيشة وأعظم ترفهٍ. وورد علي كتب أصحابي، فخبروني بانصراف العامل عن جميع ما كان اعترض عليه في أمري، وأخرج أمر السلطان في إسقاط أكثر خراج ضياعي، والاقتصار بي على يسيرٍ من مالها.
قال ياسين، فكتب النصراني ببغداذ حجة أشهد فيها على نفسه أن أسهمه في جميع الضياع التي في يده -وسماها وحددها- لهذا الرجل الذي كان هرب، وصار بها إليه، فقال له: ((قد سوغك الله هذه الضياع، فإني أراك #38# أحق بها من سائر الناس))، فامتنع الرجل من ذلك، وقال له: ((عليك فيها عاداتٌ تحسن ذكرك، وترد الأضغان عنك، ولست أقطعها بقبض هذه الضياع عنك)).
ورجع النصراني إلى الفسطاط فجدد الشهادة له فيها. فلما توفي النصراني أقرها في يد أقاربه، ولم يزالوا معه بأفضل حال)).(1/35)
21 - حدثني أحمد بن أبي يعقوب عن أبيه، قال:
((كان يحيى بن خالد بن برمك قد تبنى الفضل بن سهلٍ، وأجراه مجرى الولد -ونظر إلى ولده بعين الأخ لهم-. فضمه إلى المأمون. وكان يحيى بن خالد حسن المعرفة بالنجوم، والفضل بارعاً فيها، فاتفقا على ما توجبه النجوم في مدد البرامكة، وتبينا سعادةً تنتهي إليها حال الفضل، وكان كل واحدٍ منهما كالمشاهد لما انتهى إليه.
#39#
وأوقع الرشيد بالبرامكة، فاعتصم الفضل بمحله من خدمة المأمون؛ وكانت يده تعجز عما يصلح يحيى وولده عند الرشيد، فوجه إليه: ((سيدي! قد كربني أمرك، ولست أصل إلى حسن الدفاع عنك، فأحل ذمامه في هذه المحنة؛ فإني أرجو أن أقضيه عنك عند انتهائي إلى سعادتي)).
قال ابن أبي يعقوب: فحدثني أحمد بن أبي خالد الأحول، قال: ((اتصل بي من ضيق يحيى ما كدر عيشي. وذكرت إحسانه إلي، وحسن صنيعه بي، فضاق بي العريض. ووجدت ما أملكه أربعة آلاف دينار، فقسمتها قسمين، وحملت أحدهما، وتوصلت إلى الدخول إليهم في محبسهم، فوضعتها بين يدي يحيى بن خالد، فقال لي: ((ليس يحسن بنا أن نغرك من أنفسنا، ولا أن نعدك عنا مالا تفي به الأيام لك، وقد انتهى أمرنا، فإن كنت تقدر أن أحوالنا تصلح فأمسك عليك مالك)).
فقلت: ((ما ذهبت في ذلك إلا لقضاء بعض الحق عني)). فأخذ بيضاء فكتب فيها: ((يا أبا العباس أيدك الله! هذا رجل خلص على تجربتنا، وأحسن بنا مع استحكام بأسه منا، وأنا أذكرك العهد، وأرغب إليك في قضاء حقه عني، وتخفيف ثقله علي، أحسن الله عونك، وكفاك ما أعجزك)). ثم ثناها وقطعها عرضاً بقطعتين، وقال لي: ((احفظ هذا النصف معك، ولا تفرط فيه فيفوتك حظٌّ كبيرٌ)).
ثم فرق ذلك المال في قوم ضعفت أحوالهم بما لحقه، وانصرفت من عنده وقد آيسني من رجوع حاله، وأعطاني نصف رقعة لا أقف على ما توصل إليه، وتقضى أمرهم، ومات الرشيد بطوس، وغلب الفضل بن سهل على المأمون بخراسان، وخلفه على جميع أمره، وشجر الأمر بين الأمين والمأمون، فظهر #40# المأمون عليه، وصحت وزارة الفضل بن سهل للمأمون، ووردت بادرة المأمون بذلك إلى سائر النواحي. وطالت عطلتي، واشتدت فاقتي، وفقدت من كل يؤثرني وينحاش إلي.
فإني لجالس في منزلي -في يوم قد أعوزني فيه قوت يومي، وعلي ثوب خلقٌ، وليس لي إلا خلعة أركب فيها- حتى دخل إلي غلامي فقال: ((بالباب جماعة من أصحاب طاهر بن الحسين!))، فلبست ثياب ركوبي، وأذنت لهم، وتقدمهم رئيس لهم تبينت إعظامي في نفسه، فقال: ((الأمير طاهرٌ يسألك المسير إليه)). فنهضت، فلما دخلت قدمني وأعظمني وقال: ((ورد كتاب الوزير أيده الله علي في حملك إلى حضرته على حالٍ تكرمةٍ، ومعك نصف الرقعة التي دفعها إليك يحيى بن خالد، وأمرني بدفع ألفى دينار إليك لحمولتك ومخلفيك)).
فقويت نفسي، وانفسح رجائي، وخرجت بعد قبض المال مع رسول طاهرٍ. فلما دخلت إلى الفضل بن سهل، لقيني بأجمل لقاء، وسألني عن نصف الرقعة فأحضرتها، ثم أسر إلى بعض خاصته شيئاً، فمضى، وجاء برقعة فوصلها بها فكملت، فلما استتم قراءتها بكى، ثم قال: ((رحم الله أبا العباس! فما كان أعرفه بتصرف الأيام، واستدعاء الشكر فيها، والتحيز من الذم بها!)).
ثم أدخلني إلى المأمون، وواكد أمري عنده، حتى بلغت معه إلى أخص أحوال كتابه، ومن وثق به في مهم أمره)).(1/38)
22 - وحدثني علي المتطبب المعروف بالديدان -وكان حسن المعرفة بكتب أفلاطون ورموزه، ومبرزاً في الطب-، قال:
((خرجت مع رجل -يعرف بابن فروخ- من قواد السلطان إلى #41# طرسوس، فغنم سبياً كثيراً، وكان السبي في دار خرابٍ في الموضع الذي نزل فيه، فدخلت لتأمله؛ فوجدت في السبي شاباً حسن الصورة جميل السمت، وأكثر السبي حوله، ومكانه منهم مكان المولى من المماليك: يتسرعون إلى جميع ما أومأ إليه، ويكفونه أخذه بنفسه. فكلمت فيه بعض السبي وسألته عنه، فقال لي: ((هذا من ولد أفلاطون!))، فارتحت إليه لانتفاعي بجده، ودخلت إلى ابن فروخ فقلت: ((هب لي من هذا السبي غلاماً))، فقال لي: ((خذه)).
فدعوت بغلامٍ يشتمل على أمري، ووصفت له الشاب الذي في السبي، وقلت له: ((إذا سلمه إليك غلام ابن فروخ فأطعمه مما أعددت من طعامي، وألبسه من فاخر ثيابي، وطيبه ومكنه من مجلسي إلى أن أنصرف إليكم)). وتشاغلت بأمور ابن فروخ إلى آخر النهار، وانصرفت، فوجدته على الهيئة التي آثرتها، ورام مني ما يفعله غلماني من الوقوف، فمنعته من ذلك، فقال لي بالرومية: ((يا سيدي! ما الذي وعدتك به نفسك مني؟ فإن كان عندي بذلته لك وكنت حقيقاً به، وإن لم يكن لدي صدقتك عنه، ولم أتغنم منك ما لا يشبهني تغنمه))، فقلت له: ((قد اقتبسنا من جدك أنواراً حسن بها أثره علينا، ووجب علينا بها وقايتك بأنفسنا))، فقال: ((والله إن الطباع التي لأسلافنا معنا، ولكنا شغلناها في رعي الخنازير، فبعدت بها ممن قربتني له، وأكرمتني بسببه)).
فخيرته بين الدخول معي إلى مصر، على أن أشاطره ملكي وعيشي، أو أحتال له في رده إلى بلده؟ فاختار رده إلى بلده. فلطفت له -بإنفاذ بعض من أثق به مع الرسل المتوجهين معه- حتى وصل إلى بلده)).(1/40)
23 - وكانت تنتاب عجائزنا عجوزٌ جميلة المذهب، ضعيفة الحال -تعرف بأم محمد-، فيجتمعن على كل صالحة، وكنت أخصها بكفايتها. فلما دخل محمد بن سليمان مصر، نزل في ظاهرها، واستدعى الواحد بعد الواحد من أسباب الطولونية، فاستصفى ماله بالسوط وعظيم الإخافة، فراعني أمره، وخفت أن يلحقني عسفه.
فإني لجالسٌ في يوم من الأيام وأنا خائف، حتى دخلت جارية أم محمد العجوز، فسلمت علي، فظننتها والله تقتضي بعض ما عودتها، فقالت: ((سيدتي أم محمد تقرأ عليك السلام وتقول: ((جاءني الساعة رسول ابن عمي وسيدي أبي علي محمد بن سليمان يسأل عني فعرفته أني كنت في كفايتك))، والرسول على الباب يريغ الوصول إليك))، فقلت: ((يدخل)).
فدخل شابٌّ حسن الصورة يعرف بناشي، فقال: ((جزاك الله خيراً! فقد وصفتك ابنة عم سيدي بما أرجو أن يحسن أثره عليك)). ودعا بأصحاب الأرباع، فتقدم إليهم بأن يمنعوا من تعرضني، فعرضت عليه برًّا فقال: ((وأي برٌّ أكثر مما أتيته إلينا؟!))، وانصرف عنا.
فرجع إلي ناشي هذا برقعة بخط ابن سليمان: ((سر إلينا لننظر في أمرك، ونبلغ فيه محبتك، فإني أرعى لك متقدم حرمتك، ووكيد أسبابك، إن شاء الله)). وما لحقني منه شيء أكرهه حتى انصرف عن البلد.(1/42)
24 - وكان أبو الفياض سوار بن أبي شراعة الشاعر صديقاً لي، ومائلاً إليّ، فلما اعتزم على الرجوع إلى العراق، سألني أن أكتب له شيئاً من شعري، فكتبت له مقدار خمسين ورقةً منه، وكان يستحسنه ويعجب به. فصار إلى بغداذ وعرضه على جماعة الأحرار، وأحسن وصفي لهم بسلامة مذهبه، وطهارة نيته.
ودخل محمد بن سليمان مصر، وقد رد البريد بها إلى أبي عبيد الله أحمد بن صالح، فسأله عند دخوله إياها عن أحمد بن يوسف، فأحضر أحمد بن يوسف -كاتباً كان لأحمد بن وصيفٍ، ولابن الجصاص بعده-، فقال له: ((تعرف أبا الفياض؟))، قال: ((لا!)). فقال لهم: ((ليس هذا الرجل الذي طلبت))، فأحضرت، فلما رآني استشرف إلي، وقال: ((تعرف أبا الفياض؟))، فقلت: ((ذكرك الله وإياه بكل صالحةٍ! نعم أعرفه، وكان خلاًّ لي!))، فقال: ((هل أنشدك من شعره؟:
ظللنا بها نستنزل الدن صفوه ... فينزل أقباساً بغير لهيب))
قلت: ((لا يا سيدي! ولكن أنشدته إياه من شعري!))، فضحك وقال: ((والله لقد اشتقت إلى الدخول إلى مصر من أجلك!)). وكان والله أفضل عون لي على أموري.(1/43)
25 - وحدثني أحمد بن سقلاب، قال:
((كان بمصر رجلٌ من الفقهاء مشهور الاسم، وله حلقةٌ عظيمة بالجامع. #44# فبينا هو في صدرها إذ وافى علان بن المغيرة، فلما رآه مقبلاً نحوه قام إليه على رجليه، ثم خطا إليه حتى لقيه، فأكثرت الجماعة قيام شيخٍ مثله إلى حدثٍ مثل علان، وتحفيه به، وعرض نفسه عليه، وأنه لم يدع شيئاً يفعله تابع بمتبوع إلا بذله، وأسررنا الموجدة عليه. فلما قام علان قال لجماعتنا: ((ما أعلمني بما أضمرتم! ولكني أريكم عذري فيما خرجت إليه:
((كانت عندي ألف دينار وديعةً لرجلٍ بالمغرب قد طال مقامها، وطالب زوج ابنتي بإدخال امرأته عليه، فجلست أمها بحضرتي فقالت لي: ((ما الذي تراه فيما قد ألح فيه هذا الرجل؟))، فقلت لها: ((نستعمل فيه التجوز))، فقالت لي: ((لنا حساد نخاف شماتتهم، ولا بد من أن تعينني على التجمل))، فقلت: ((إن كان ما تريدين في قدرتي لم أبخل به عليكم)). قالت: ((هو في قدرتك!)) قلت: ((ما هو؟))، قالت: ((تمكنني من هذه الوديعة، ونحتاط فيما نبتاعه من الجهاز حتى يصل إلينا ثمنه في أي وقتٍ أردناه، وندخل هذه الصبية على زوجها. فإن جاء صاحب الوديعة بعنا ما اشتريناه ولم نوضع فيه إلا ما يسهل علينا غرمه))، قلت: ((هذا قبيح عند الله وعند خلقه!)). فلم تزل تلح بي وتحتال علي، حتى أجبتها. فجهزت ابنتها بجميع المال، وأدخلتها على زوجها.
فلم يمض بنا بعد ذلك إلا شهران حتى وافى صاحب الوديعة يطلبها، فقلت لها: ((ما تفعلين؟))، فقالت: ((أمضي فأحمل المتاع وأبيعه)). فمضت إلى ابنتها ورجعت إلي، فقالت: ((لا تشغل نفسك بهذا المتاع، فقد حلف زوجها بطلاقها أنه لا يخرج منه شيءٌ عن منزله))، فسقط في يدي، ورأيت الفضيحة في الدارين متصديةً لي، فوضع إفطاري بين يدي فلم أطعم، واعتراني ما خفت #45# منه على عقلي، وبت بليلة ما بت بمثلها، وأنا أتبين سهولة ذلك على زوجتي في جنب ما أحرزته لبنتها. ثم انتبهت قبل الفجر بمنازل، فصحت بالغلام ((أسرج لي!)) فقام وأسرج، وقال: ((يا سيدي! أين تمضي؟))، فقلت: ((ليس لك الاعتراض علي)).
وركبت وسرت بطوع عناني، فلم يزل بغلي يسير حتى دخلت زقاق علان ابن المغيرة، فوقفت على باب داره، وصاح الغلام بالبواب وعرفه بموضعي. فسمعت حركة في داره، ثم فتح الباب وأذن لي بالدخول. فدخلت عليه، فوجدت بين يديه شمعةً وهو يكتب جوابات كتب وكلائه. فلما رآني قام إلي، وقال لمن حضره من الغلمان، ((تنحوا!))، وأقبل علي فقال: ((والله لو بعثت إلي لسرت إليك ولم أجشمك السعي إلي، فاشرح لي أمرك))، فغلبتني العبرة وحالت بيني وبين الكلام، فما زال يسكنني حتى نصصت له إنفاق الوديعة، وهو مغمومٌ بأمري. ثم قال: ((فكم هذه الوديعة؟))، فقلت: ((ألف دينار!))، فضحك، وقال: ((فرجت والله عني! ما توسمت أني أملكها، فكان الغم يقع بها، فأما وهي في القدرة فما أسهلها علي، وأخفها لدي!))، ثم قال لغلامه: ((جئني بتلك الصرار التي وردت علينا من المغرب في هذا الشهر))، فجاء بأربع صرارٍ فنظر فيما عليها وجمعه وقال: ((هذه ألف دينار وخمس مائة دينار، ألفٌ للوديعة، وخمس مائة تصلح بها ما بينك وبين من عندك))، ثم قال لي: ((متى أشكر إفرادك إياي -بعد الله عز وجل ذكره- بتأميلي في حادثةٍ حدثت عليك، فأعانني الله على مكافأتك؟)). وأضاف إلي من خفرني إلى منزلي)).
فقالت الجماعة: ((قد سمعنا عذرك، وعلينا عهد الله إن لقيناه أبداً إلا قياماً)).(1/43)
26 - وبعث أحمد بن طولون -في الساعة التي توفي فيها يوسف بن إبراهيم والدي- بخدمٍ فهجموا الدار، وطالبوا بكتبه: مقدرين أن يجدوا فيها كتاباً ممن ببغذاذ. فحملوا صندوقين وقبضوا علي وعلى أخي، وصاروا بنا إلى داره. وأدخلنا إليه وهو فيها جالس، وبين يديه رجل من أشراف الطالبيين. فأمر بفتح أحد الصندوقين، وأدخل خادمٌ [يده]، فوقع دفتر جراياته على الأشراف وغيرهم. فأخذ الدفتر بيده وتصفحه -وكان- جيد الاستخراج -فوجد اسم الطالبي في الجراية، فقال له وأنا أسمع: ((كانت عليك جراية ليوسف بن إبراهيم؟))، فقال: [له: ((نعم! أيها الأمير!]، دخلت هذا البلد وأنا مملقٌ، فأجرى علي في كل سنة مائتى دينار ومائتى إردب قمحٍ، أسوةً بابني الأرقط والعقيقي وغيرهما. ثم امتَتّت يداي بطول الأمير فاستعفيته منها، فقال لي: ((نشدتك الله إن قطعت سبباً لي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!))، وتدمع الطالبي، فقال أحمد بن طولون: ((يرحم الله يوسف بن إبراهيم!)). ثم قال لنا: ((انصرفوا إلى منازلكم، لا بأس عليكم)).
فانصرفنا فلحقنا جنازة والدنا، وحضرنا العلوي وقد أحسن مكافأة والدنا في مخلفيه.(1/46)
27 - وحدثني موسى بن مصلح، قال:
أنفذ إلي حسن بن مهاجر -كاتب أحمد بن طولون- عشرة رجال من #47# التجار، وقال: اعتقلهم بمعزلٍ عن المسجونين، حتى أعرضهم في غدٍ على الأمير)). فتسلمت منه قوماً تشهد لهم القلوب بالفضل، فآنست وحشتهم، وفسحت رجاءهم. فقالوا لي: ((قد شكرنا جميل صنيعك، ولنا إليك حاجة))، قلت: ((ما هي؟))، قالوا: ((فينا فتىً يضعف قلبه عن لقاء الأمير، فتقبل منا بدلاً به، ولك علينا مائة دينار))، قلت: ((أنا أفعل، إن وجدتم من يجيب إلى هذا!)).
-وكان عندي أنه كالممتنع-؛ فأخذ شيخٌ منهم رقعةً وكتب فيها إلى رجلٍ كان قد أولاه عارفةً، فسأله ذلك، فأجابه الرجل: ((إني بإثر رقعتي)).
قال موسى: ((فتوهمت أن هذا قولٌ لا ثمرة له، فلم أشعر به حتى وافى فقال: ((ما أخرني عنك إلا أني جددت وصيةً، وأحكمت ما خفت أن يقطعني عنه ما دعوتني إليه))، وقال: ((لست أجيبك إلى ما التمست، حتى تكون المائة الدينار من عندي دون جماعتكم))، وأخرجها من كمه ودفعها إلي، وصرفت الرجل. وأقام هذا مكانه، فلم أتبين منه غمًّا بهذا ولا قلقاً له. وظلوا ليلتهم يتحدثون ويتناشدون، والسلامة غالبةٌ على خواطرهم، حتى أصبحوا. وأخرجهم حسن بن مهاجر فعرضهم على أحمد بن طولون، فتبين تحامله عليهم، فأمره بترك التعرض لهم. فانصرفوا. وكانت ألطافهم ترد علي حتى فقدتهم)).(1/46)
28 - وحدثني أحمد بن أيمن كاتب أحمد بن طولون، قال: ((دخلت بالبصرة إلى تاجر ذهب عني اسمه، فرأيت بين يديه ابنين له في نهاية من النظافة، فلما رآني أقبل بنظري إليهما، قال لي: ((أحب أن تعوذهما))، ففعلت، وقلت له: ((استجدت الأم فحسن نسلك!))، فقال: ((ما بالبصرة أقبح من أمهما، ولا أحب إليّ منها. ولها معي خبر عجيب))، فسألته أن يحدثنيه، فقال: #48# ((كنت أنزل الأبلة وأنا متعيش، فحملت منها تجارةً إلى البصرة فربحت، وحملت من البصرة إلى الأبلة فربحت ولم أزل أحمل من هذه إلى هذه فأربح ولا أخسر، حتى كثر مالي، وتعالم الناس إقبالي، وآثرت السكنى بالبصرة، وعلمت أنه لا يحسن بي المقام بها بغير زوجةٍ، ولم يكن بها أجل قدراً من جد هذين الغلامين. وكانت له بنت قد عضلها، وتعرض لعداوة خطابها. فحدثتني نفسي بلقائه فيها، فجئته على خلوةٍ، وقلت له: ((يا عم! أنا فلان بن فلان التاجر))، فقال: ((ما خفي عني محلك ومحل أبيك!)). فقلت: ((قد جئتك خاطباً لابنتك))، فقال: ((((والله ما بي عنك رغبةٌ، ولقد خطبها إلي جماعةٌ من وجوه البصرة وما أجبتهم، وإني لكارهٌ من إخراجها عن حصني إلى من يقومها تقويم العبيد))، فقلت: ((قد رفعها الله عن هذا الموضع، وأنا أسألك أن تدخلني في عددك وتخلطني بشملك))، فقال: ((ولابد من هذا!))، قلت: ((لابد، وهو زائدٌ في فضلك علي، واصطناعك إياي))، فقال: ((اغد علي برجالك)).
فانصرفت عنه إلى ملأ من التجار ذوي أخطارٍ، فسألتهم الحضور معي في غدٍ، فقالوا: ((إنك لتحركنا إلى سعيٍ ضائع))، قلت: ((لابد من ركوبكم معي)). فركبوا على ثقةٍ من أنه يردهم، وغدونا عليه فأحسن الإجابة وزوجني، وأطعم القوم، ونحر لهم، وانصرفوا.
ثم قال لي: ((إن شئت أن تبيت بأهلك فافعل، فليس لها ما يحتاج إلى التلوم عليه))، فقلت: ((هذا يا سيدي ما أحبه)). فلم يزل يحدثني بكل حسنٍ حتى #49# كانت المغرب، فصلاها بي، ثم سبح وسبحت، ودعا ودعوت، إلى أن كانت العتمة فصلاها بي، وأخذ بيدي، فأدخلني إلى دارٍ قد فرشت بأحسن فرشةٍ، بها خدمٌ وجوارٍ في نهاية من النظافة، فما استقر بي الجلوس حتى نهض، وقال: ((أستودعك الله، وقدم الله لكما الخيرة، وأحرز التوفيق)). واكتنفنني عجائز من شمله، فجلون ابنته علي. فما تأملت طائلاً.
وأرخت الستور علينا، فقالت: ((يا سيدي! إني سرٌّ من أسرار والدي، كتمه عن سائر الناس وأفضى به إليك، ورآك أملاً لستره عليه، فلا تخفر ظنه فيه. ولو كان الذي يطلب من الزوجة حسن صورتها دون حسن تدبيرها وعفافها، لعظمت محنتي. وأرجو أن يكون معي منهما أكثر مما قصر بي في حسن الصورة)) ثم وثبت فجاءت بمال في كيسٍ، فقالت: ((يا سيدي! قد أحل الله لك معي ثلاث حرائر وما آثرته من الإماء، وقد سوغتك تزوج الثلاث وابتياع الجواري من مال هذا الكيس، فقد أوقفته على شهواتك، ولست أطلب منك إلا ستري فقط)).
فقال لي أحمد: فحلف لي التاجر: ((إنها ملكت قلبي ملكاً لم تصل إليه حسنةٌ بحسنها، فقلت لها: جزاء ما قدمتيه ما تسمعيه مني: ((والله لا أصبت من غيرك أبداً، ولأجعلنك حظي من دنياي فيما يؤثره الرجل من المرأة!))، وكانت أشفق النساء، وأضبطهم، وأحسنهم تدبيراً فيما تتولاه بمنزلي، فتبينت وقوع الخيرة في ذلك ولحقتني السن، فصارت حاجتي إلى الصواب أكثر منها #50# إلى الجماع. وشكر الله لي ما تلقيت به جميل قولها، وحسن فعلها، فرزقني منها هذين الابنين الرائعين لك، ونحن منقطعون إلى جوده فينا، وإحسانه إلينا)).(1/47)
29 - حدثني أحمد بن أبي يعقوب قال:
((أنكر المهدي على هرثمة بن أعين تحككه بمعن بن زائدة، وأمر بنفيه إلى المغرب الأقصى، فكلمه الرشيد فيه، واستل سخيمته عليه. ومات معنٌ، وزادت حال هرثمة، وشكر للرشيد ما كان منه، وأفضت الخلافة إلى موسى الهادي، فتمكن منه هرثمة. وحدثت الهادي نفسه بخلع الرشيد، وجمع الناس على تقليد ابنه العهد بعهده، وعلم بهذا هرثمة، وتذكر عارفة الرشيد، فتمارض.
وجمع الهادي الناس ودعاهم إلى خلع الرشيد ونصب ابنه مكانه، فأجابوه وحلفوا له. وأحضر هرثمة، فقال له: ((تبايع يا هرثمة؟)). فقال: ((يا أمير المؤمنين! يميني مشغولةٌ ببيعتك، ويساري مشغولة ببيعة أخيك! فبأي يد أبايع؟ والله يا أمير المؤمنين لا أكدت في الرقاب من بيعة ابنك، أكثر مما أكده أبوك لأخيك في بيعته، ومن حنث في الأولى حنث في الأخرى. ولولا تأول هذه #51# الجماعة بأنها مكرهة، وإسرارها فيك خلاف ما أظهرت، لأمسكت عن هذا)). فقال لجماعة من حضر: ((شاهت وجوهكم! والله لقد صدقني مولاي وكذبتموني، ونصحني وغششتموني)).
وسلم إلى الرشيد ما قدره الهادي فيه)).(1/50)
30 - وسمعت يوسف بن إبراهيم والدي يقول:
((لم يتمكن أحدٌ من أحدٍ تمكن أبي يوسف القاضي من الرشيد. ولقد سألت إبراهيم بن المهدي عن السبب في ذلك، فقال: ((كان يستحق هذا منه لما حدثني به مسرورٌ الكبير، قال:
((كنت في خدمة المهدي، وكان الرشيد حفيًّا بي، محسناً إلي، فلما انتقل أمر الخلافة إلى الهادي، قال لي الرشيد: ((إن أخي قوي الشراسة، وأنا أخاف إيقاعه بي وجمع الناس على بيعة ابنه بعده. وأنا على غاية من الثقة بك، فاعدل إليه وكن لي عيناً عليه)). فتقدمت عند الهادي حتى توليت ستر بيت خلوته. وكان المهدي قد قرن أبا يوسف بالهادي فتمكن منه، وقبل في مهماته مشورته، فلما حلا بقلبه شاوره في ذلك، فقال: ((يا أمير المؤمنين! لا تحمل نفسك على قطيعة رحمك، وأولياءك على الحنث بأيمانهم، واستدع من الله زيادته بما يرضيه عنك))، فتوقف بعض التوقف. وسعى إليه بالرشيد، وقيل له: ((إنه [عاملٌ] على أن يغتالك)). فدعا بأبي يوسف وأخبره بما تأدى إليه فقال: #52# ((يا أمير المؤمنين! لا تسمع هذا، وأنا الضامن لك حسن طاعته ووكيد موالاته)). فكنت أنهي جميع ذلك إلى الرشيد فيشتد سروره به، ويرغب إلى الله في معونته على مكافأته.
فلما أفضت الخلافة إليه، دعا به وقال له: ((يا يعقوب! لو جاز لي إدخالك في نسبي، ومشاركتك في الخلافة المفضية إلي، لكنت حقيقاً به! ألست القائل لأخي وقت كذا: كذا؟ وفي وقت كذا: كذا؟، فقال: ((يا أمير المؤمنين! من أنبأك بهذا؟ فوالله ما كان معنا ثالث!)). فضحك الرشيد وقال: ((مسرورٌ كان يتولى ستر بيت خلوته، وكان ينهي إليّ جميع ما صدر عنه)).
قال مسرور: ((فوالله ما برحت بي عناية أبي يوسف حتى بلغت مع الرشيد هذا المبلغ!)). (1/51)
31 - وحدثني أحمد بن أبي عمران الفقيه، أن ابن الثلجي حدثه، أن بشراً المريسي -وكان متزهداً- قال:
((ما اشتهيت من مراتب السلطان إلا مرتبةً رأيت أبا يوسف بلغها في عشيةٍ من العشايا. كنت اجتزت به مسلماً عليه، فقال لي: ((تقيم عندي العشية لنتناظر في طائفة من العلم؟)). فإني لجالسٌ عنده -وقد ابتدأ فيما أثرناه- حتى وافى إليه رسول أمير المؤمنين الرشيد، فقال لي: ((انتظرني))، ومضى؟ فغاب عني مقدار ساعتين، ورجع، وخلفه غلمان يحملون مالاً، فوضعوه بين يديه وانصرفوا فقال: ((دفعت الليلة إلى عجائب!))، قلت: ((ما هي؟))، قال: ((دخلت إلى دار أمير #53# المؤمنين، فانتهى بي رسوله إلى ستر مسبلٍ على بابٍ، مسرورٌ الكبير يمسكه، فقال لي: ((سلم على أمير المؤمنين!))، فسلمت، فقال: ((وعليك [السلام] يا يعقوب! ادخل وحدك))، فرفع الستر حتى دخلت، فألفيت عنده محمد بن جعفر بن المنصور -مولى الجارية المعروفة ببذلٍ- ووجه كل واحد منهما محولٌ عن صاحبه، وبين يدي الرشيد سيفٌ مشهور.
فقال لي: ((يا يعقوب! هذا الرجل يديرني مذ الظهر على قتله!))، فقال له: ((ترضى به حكماً بيننا؟))، قال: ((نعم!))، قال: ((ألق هذا السيف من يدك، وارض بالحق لك وعليك)). واستدارا جميعاً حتى جلسا مجلس الخصوم بين يدي.
ثم قال الرجل: ((سألني أمير المؤمنين أن أبيعه جاريةً علي فيها أيمان محرجة لا كفارة لها، ألا أبيعها ولا أهبها))، قال فقلت له: ((فتسمح بها لأمير المؤمنين إن أخرجتك من يمينك))، قال: ((إي والله! وإن ذلك لسهلٌ علي))، فقلت: ((هب لي نصفها، وبعه نصفها)). فقال: ((قد أجبت، وجعلت ثمن النصف هديةً لك)). وتعانقا جميعاً، وانصرفت إليك، ولحقني هذا المال)). فوجدنا المال المحمول خمسة وعشرين ألفاً، فقلت في نفسي: ((أحيا نفساً، وأصلح بين خليفةٍ وابن عمه في مقدار ساعتين من النهار!)).
قال بشر: ((فوالله ما فرغنا من صلاة المغرب حتى ابتدرنا الغلمان يحملون مالاً وبزًّا وطيباً، ومعهم جارية حصيفةٌ، فقالت: ((تقرأ عليك السلام سيدتي وتقول لك: ((أجازني سيدي أمير المؤمنين بما حملته إليك، فجعلته ثواب الفتيا التي كانت سبب وصولي إليه)).
فكان المال منه خمسة وعشرين ألفاً)).(1/52)
32 - حدثني أحمد بن أبي يعقوب قال: حدثني أبي أبو يعقوب، عن جدي واضح مولى المنصور، قال:
((كنت بين يدي المنصور، وقد أحضر رجلاً كان من رجال هشام بن عبد الملك، وهو يسائله عن سيرة هشام لأنها كانت تعجب المنصور. فكان الرجل يترحم عند كل جارٍ من ذكره، فأحفظ ذلك جماعتنا، فقال له الربيع: ((كم تترحم على عدوّ أمير المؤمنين؟))، فقال الرجل للربيع: ((مجلس أمير المؤمنين -أيده الله- أحق المجالس بشكر المحسن، ومجازاة المجمل، ولهشام في عنقي قلادةٌ لا ينزعها إلا غاسلي))، فقال له المنصور: ((وما هذه القلادة؟)). قال: ((قلدني في حياته، وأغناني عن غيره بعد وفاته!))، فقال له المنصور: ((أحسنت بارك الله عليك! وبحسن المكافأة تستحث الصنائع، وتزكو العوارف))، ثم أدخله في خاصته)).(1/54)
بعض أقوال الفلاسفة في حسن المكافأة
وقد مثل بعض الفلاسفة لحسن المكافأة، بالحسام الصقيل الذي يحدث له وقوع الشمس عليه: انبعاث شعاع منه يجلو غياهب الأمكنة المظلمة، ويكون وفور شعاعه على حسب صقاله.
#55#
وقال أفلاطون: ((مم حسنت مكافأته، لم تغضبه خيبته فيما التمسه؛ لأنه يقيم العوارف مقام ديونٍ يتحملها لا يسعه إغفال قضائها. وإنما يغضب من المنع: من آثر تحصيل العارفة وإغفال المكافأة عليها)).
ولأن المرغوب إليه إذا كان يحتاج إلى مطالعة حسن المكافأة للإحسان فيثابر عليه، وسوء المكافأة على الإساءة فيتأخر عنه، كان الراغب محتاجاً إلى أن يكون في خلده من أخبار من أساء الصنيع فساءت مكافأته، ما يوازي ما أثبتناه من حسن المكافأة للإحسان. (1/54)
المكافأة على القبح
33 - حدثني أحمد بن يوسف بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن جده مولى عبد الله بن المقفع -أن عبد الله حدثه، قال:
((كان فيما ترجمته من سير الفرس: أن فيروزاً لما تقلد مملكة فارس حدثته نفسه باجتياز بلد الهياطلة. وكان به للهياطلة ملك صحيح الرأي حسن الجوار، فجمع ذوي الرأي في بلده وسألهم عما يرون، فعرضوا عليه أموالهم والخروج معه، فجزاهم خيراً وانصرفوا. وخلا به وزيره -وكان عالي السن- فقال له: ((أيها الملك إن يسير الحيلة ربما بلغ أوفى منازل المكافحة والذي عندي من الرأي أن تظهر السخط علي فتقطع يدي ورجلي، وتنفيني إلى أقاصي عملك، وتكتب إلى عاملك هناك في حبسي، وتظهر أنك تبينت مني ميلاً إلى فيروز))، فقال له: ((إن حسن الحيلة إنما يقع بغير إضرار يلحق صاحبها، وإذا بلغنا بك هذا، فقد جاوزنا بك ما تخافه من فيروز لو حصلت في يده)).
فقال: ((أنا مذ تكامل تمييزي أحسب مالي وعلي، فإذا وهبت لي نعمةٌ علمت أن علي فيها محنة، وأن الرغائب بالنوائب. وقد عشت في سلطانك -أيها الملك- في هذه السن العالية، عزيز الجانب، خصيب الأفنية، وشملي في نهاية من رفاغة العيش. وليس من الجميل أن أمسك عن قضاء حق النعمة علي لسلطاني وشملي وأهلي وولدي وصيانتهم مما عراهم بنفسي. وأعلم #57# أني لم خدمت السلامة لنفسي، لمات ذكري بموتي، ولم أبق شرفاً لأهلي! ولعل أجلي قريبٌ، فأفوز بحسن الذكر فيما أتيته وقضيت به حق سوالف الإنعام علي، والإحسان إلي. وإنما اعتمدت هذا الأمر الفظيع لأعدل بفكر فيروز عن الحيلة، وأضطره إلى السكون إلي)).
((فلما رأى أنه لا يرجع عما أشار به عليه، دعا به وقطع يديه ورجليه، ونفاه إلى آخر مسالحه، فكان محبوساً هناك.
((وجد فيروز في سفره، فوافى الموضع الذي فيه الوزير، فوجده خالياً ممن كان فيه، ولم ير به غير رجلٍ مقطوع اليدين والرجلين، فسأله عن حاله فقال: ((كنت وزيراً لهذا الخائن فاستشارني، فأشرت عليه أن لا يناهضك، وأن يسألك إقراره في البلد، وحمل خراجه إليك. فاستشاط، وسولت له نفسه مناوأتك، وقد جمع جيشاً له كثير العدد قوي النكاية، وقدر أن يلقاك في هذه الطريق. وعندي حيلةٌ أجازيه بها على سوء صنيعه)).
واستجلى فيروز الوزير فقال له: ((إن عدلت عن هذه الطريق وتجشمت قطع برية يقيم السائر فيها يومين، تحتاج إلى حمل الماء إلى مسيرة يوم منها، ثم تفضي إلى مياهٍ متدفقة. فإذا قطعتها وصلت إلى بلد الهياطلة، وهو وجمعه في الطريق الذي آثرت سلوكها، فتدخل البلد بغير حربٍ)).
((فحملته الاستنامة إليه -لما رآه به- على تصديقه ولحج في البرية بجميع جيشه، -وقد كان واطأ [الوزير] الملك على تكمين جمع له آخر في البرية-، فسار يومه وبعض غده في قفرٍ لا يوجد به ماء ولا نبتٌ، #58# فتساقطت الدواب من العطش، وافترق الجيش لطلب الخلاص، وخرج عليه منسرٌ من جيش الهياطلة فأمروا عليهم، وأخذوا فيروزاً أسيراً. فمن عليه ملك الهياطلة بالإمساك عن قتله، وجمع وجوه بلده وأضاف إليهم وجوهاً من عسكر فيروز، واستحلف فيروزاً بحضرتهم أنه لا يجاوز حجراً جعله فصلاً مشتركاً بينه وبينه. وأثبت المفارقة في صحيفةٍ بخط فيروز، وأشهد عليه الجماعة، وأطلقه على غايةٍ من التبجيل والإكرام.
((فدخلت فيروزاً خجلةٌ من رجوعه إلى مملكته بعد أسر ملك الهياطلة له وتعفيره به، وحدثته نفسه بمعاودة قتاله، فخرج إليه. وسولت له نفسه أنه إن حمل الحجر حتى يدخل به بلد الهياطلة لم يحنث في يمينه، فحمله بين يديه وسار بجمع كثير. وخرج إليه ملك الهياطلة، فالتقيا في منتصف طريقيهما.
((فلما ترآى الجمعان، انفرد ملك الهياطلة عن جمعه، وسأل فيروزاً موازاته ليسمع منه شيئاً. فبرز فيروز. فقال له: ((أنا وإياك في قبضة من حنثت في اليمين به، وهو عز وجل يشكر للمحسن إحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته. وقد أنعمت عليك، وأحسنت إليك، وأنا أخوفك الله وأحذرك سطواته، فإني أعلم أن حياءك مما جرى عليك هو الذي ردك، فينبغي أن يكون استحياؤك من الله عز وجل أشد من استحيائك من خلقه. وليس يخرجك من يمينك حمل هذا الحجر بين يديك، لأن اليمين إنما تكون على نية المستحلِف لا على نية المستحلَف. فتدبر قولي، واعلم أن من سمعك من أصحابي على غاية من الثقة بالله في نصره، #59# ومن سمعك من أصحابك على ذعر من أن تهلك بحوبك)). فقال له: ((لست أرجع عن قتالك)).
((فأمر أن تركب الصحيفة على أطول رمحٍ في العسكر وحمل عليه، فهزم جيش فيروز، وقتل فيروز في المعركة)).(1/56)
34 - وسمعت أبا جعفر محمد بن هرثمة يقول:
((كان محمد بن عبد الملك الزيات يسعى على المتوكل - في أيام الواثق ويحرضه عليه، فتغيرت عليه نيته، حتى أداه ذلك إلى حبسه عند محمد بن عبد الملك.
((فسمعت المتوكل يقول -في اليوم الذي تقدم في إدخاله إلى التنور الحديد-: لم يمن أحدٌ بمثل ما منيت به من ابن الزيات! ضيق علي محبسي، ومنعني مما اقتضتنيه عادتي. وكنت قد ربيت وفرة فلم يطلق [لي] تنظيفها، فكثرت الدواب فيها. وتأدى ذلك إلى والدتي، فكتبت إلى الواثق رقعةً، فقال لمحمد بن عبد الملك: ((أطلق لجعفر طم شعره، وتنظيف ثوبه وتطييبه)). فانصرف كالمغيظ وضرب الموكل بي، وقال: ((تركت محبس جعفر شارعاً من #60# الشوارع حتى سهل شكوى أمه!)). ثم أمر بإخراجي، فخرجت، فوجدت أمارات الغضب في وجهه، فوقفت ساعةً لا يرفع فيها وجهه إلي، ثم قال: ((نطعٌ))، -فأوهمني أن الواثق أمر بضرب عنقي- فبسط بين يديه، ثم أومى إلى الغلمان بإدخالي فيه، ولم أشك في القتل، ثم قال: ((الحجام))، فقلت: ((أظنه يخلع أضراسي قبل قتلي))، وأنا في سائر هذا قائمٌ. فلما وافى الحجام قال: ((احلق شعره))، فأجلسني يحلق شعري. فآليت على نفسي أني لا أستبقيه لحظةً إن ظفرت بالخلافة)). فمات محمد بن عبد الملك بالتنور في اليوم الثالث)).(1/59)
35 - وحدثني نسيمٌ خادم أحمد بن طولون، قال:
((صار إلي ابن سليمان بن ثابت -وكان ابن سليمان هذا يكتب لخادم يعرف بشقير، يتقلد الطراز من خدم السلطان، ثم عمل سليمان بعد ذلك لأحمد بن طولون على أملاكه- ومعه رقعةٌ، فقال: ((توصلها لي إلى الأمير؟)). فقرأتها، فكان يذكر فيها أن شقيراً أودع أباه أربع مائة ألف دينار. فلما قرأها الأمير قال: ((انظر ما تقول واصدقني عنه!))، فقال: ((الأمر والله على ما وصفته للأمير))، فقال: أمسك عن هذا، واطو مجيئك إلي عن أبيك وعن سائر الناس، وانصرف مكلوًّا)).
فقال: ((فكثر تعجبي من إمساكه عن ذكر هذا لأبيه، فلم يمض حولٌ حتى #61# مات سليمان بن ثابت، فأظهر غمًّا به وتفجعاً عليه. ثم دعا بابنه الرافع للرقعة، فرد إليه ما كان بيد أبيه من أملاكه، وضم إليه من الرجال من تقوى به يده. وأقام به شهوراً ثم دعاه وأنا قائم بين يديه، فقال له: ((كيف حالك مع مخلفي أبيك؟ وهل أنكرت شيئاً منهم؟))، فقال: ((قد أعز الله جانبي بالأمير ومنع مني))، فقال له: ((احمل إلي الأربعمائة ألف التي عندكم لشقير الخادم))، فلجلج، فرد أمره إلى أحمد بن إسماعيل بن عمار، وأمره بمطالبته بالسوط. فضربه خمسين سوطاً، اصطفى ما كان له، فلم يجد عنده بعض ما تقوله على أبيه. وعاود مطالبته، فضربه مرةً أخرى فمات.
فقال لي: ((فعجبت من هلاكه بهذا المقدار من الضرب. فأخبرت أن هذا المضروب كان يستزير الفواسد من النساء في وفور حاله، فزارته امرأةٌ كانت ربيطةً لجلادٍ بالسوط، وعلم الجلاد بذلك فبكر إليه ووقف له، حتى إذا خرج، انكب على فخذه وقبله، ثم قال: ((يا سيدي! قد أغناك الله عن مساءتي بما بسطه من الرزق عليك وظاهره من الإحسان لديك، وكانت مهجتي عندك البارحة. فإن رأيت أن تهبها لي! فلك منها عوضٌ، وليس لي عنها معدل!))، فصاح في وجهه وأمر بإبعاده. فلما شد بالعقابين، تقدم الجلاد فضربه ضرب القتل فأتى على نفسه)).(1/60)
36 - وحدثني نسيم الخادم أيضاً:
((أن أحمد بن طولون كان مذعوراً من خروج أبي عبد الرحمن العمري، فوافاه الخبر بقتل غلمان أبي عبد الرحمن إياه وانتشار أمره. ثم صار إليه جماعةٌ تقارب العشرة ومعهم رأس فقالوا: ((نحن غلمان العمري، وهذا رأسه!)). فجمع الخاص والعام وأدخلهم إليه، واستحضر قوماً استأمنوا إليه، فسألهم عن الرأس، فأجمعوا على أنه رأس أبي عبد الرحمن، وأن الغلمان من خاصته.
فقال أحمد بن طولون لهم: ((هل كان مسيئاً إليكم؟)). قالوا: لا والله، ولقد كان محسناً إلينا، ومفضلاً علينا)). قال: ((فما حملكم على قتله؟))، قالوا: ((طلبنا الحظوة عندك، والمكانة منك!))، فقال: ((قتلتم مولاكم المحسن إليكم بالتطرب إلى المزيد؟)).
((ثم أمر بهم فشق عن جماعتهم، وأخذتهم السياط حتى سقطوا وضربوا على رؤوسهم بالشدوخ حتى ماتوا جميعاً. وأمر بدفن رأس أبي عبد الرحمن)).(1/62)
37 - وسمعت أبا عبيد علي بن الحسين القاضي يحدث قال: ((كانت لي بواسط حصة أودي عنها على السلطان خرجاً فقدم علينا عاملٌ قد جمع من الظلم، وسوء التسلط، وفظاظة الطبع. فجمع المعاملين بأسرهم على التحيل له بما لا يوصل إليه من أملاكهم، ولا يستحقه عليهم، فضرب قوماً، واستخف بآخرين، فقال له رجل ممن حضر: ((إن رأيت أن تؤخرني إلى نصف النهار!))، #63# فقال له: ((لعلك ممن يقول: إن من عمودٍ إلى عمود فرجاً!)) فقال له الرجل: ((أنا والله أعتقد من لحظة إلى لحظةٍ فرجاً يرجى من الله))، فتضاحك من كلامه. فوالله ما مضت ساعة حتى دخلت إلينا -في الموضع الذي كان فيه- رعلةٌ من الخوارج وهي تقول: ((السليطين السليطين!!))، فقطعته بأسيافها وخرجت، ولم تقتل غيره، ولا طلبت شيئاً لأحد. فعلمت أنهم عقوبة اعتمدته)).(1/62)
38 - وحدثني عمر بن يزيد البرقي -وكان جميل المذهب- قال:
((حضرت مصدقاً شديد الاستحلال، بعيداً من الرأفة، وهو جالس على رابيةٍ، وبين يديه حواءٌ يحتاز به ما يحصل له من الإبل. قال: ((فعرضت نعم رجلٍ حسن الطريقة، متعالم بعفاف الطعمة. فتخير عليه المصدق ما احتازه من إبله واستعمل من سوء التحكم عليه ما لا يصبر عليه غيره. فأمسك، ثم نظر بعد انفصال ما بينهما إلى فصيلٍ سمينٍ كان في إبله؛ فقال لغلمانه: ((خذوا هذا الفصيل حتى يصلح لنا غداءً))، فقال صاحب الإبل له: ((قد أخذت زيادةً على حقك، فما هذا؟))، قال: ((لابد لي من أخذه))، قال: ((فإني لا أسلمه)).
فأمر بوجئ عنقه، وأخذت مقادته من يده، فصاح بأعلى صوته: ((كل هذا بحينك يا جبار!)). فحلف لي عمر أنه جاء من الحواء فحلٌ -وخرج منه #64# وهو يرغو-، فأخذ بعضده، ولم يزل يضرب به الأرض حتى قتله. وانصرف الرجل بفصيله)).(1/63)
39 - وفيما أخبر به الهيثم بن عدي قال:
((كان عدي بن زيد قد تقدم عند كسرى أبرويز في ترجمة العربي إلى الفارسي، وكان رجلاً جاراً للنعمان بن المنذر، فرام منه النعمان أن يكون عيناً له على كسرى، فامتنع من ذلك، ولم يرض بهذه السجية. فتركه النعمان حتى اطمأن إليه، ثم سأله أن يزوره. فكلم كسرى، وسأله أن يأذن له في زيارته شهراً واحداً، ونصب عديٌّ ابنه مكانه -وكان حلو الشاهد مضطلعاً بما يسند إليه-، فأذن له. فلما حصل في يد النعمان قتله، وكتب إلى ابنه يخبره بأنه مات حتف أنفه، وأنه على غاية من الأسى عليه. وتأدى خبر عدي إلى ابنه على الصحة، فلم يخرق فيه، وأقام يتتبع غوائله، ويعمل الحيلة في افتراص وتره.
#65#
فجرى في يوم من الأيام ذكر الجواري بين كسرى وبين ابن عدي -وكان أبرويز مستهتراً بهن-، فقال ابن عدي: ((أحسن النساء حرقة بنت النعمان)). فكتب أبرويز إلى النعمان كتاباً يأمره فيه بحمل حرقة ابنته إليه. فعظم هذا على النعمان، وكتب إليه كتاباً يذكر فيه قشف تربية العرب لأولادها، وتقصيرهم ببذاذة الهيئة ووسخ المهنة، وأن في عين العراق للملك عوضاً منهن؛ وأنفذ الكتاب إلى كسرى. فأمر كسرى ابن عدي أن يقرأه عليه، فأمره على طرفه ثم ألقاه، وضرب بيده على جبينه، وقال: ((لا يستطيع لساني مواجهة الملك بما فيه!))، فعزم عليه الملك ليخبرنه. فقال: ((ابنتي لا تصلح لك، فإذا قرمت إلى الجماع فعليك بالبقر)). فغضب كسرى، وأنفذ رسلاً إليه فأشخص. فلما قرب من مقر كسرى، أخرج أربعة آلاف جارية بالحلي وفاخر الكسوة، وأذن له، ثم قال له بالفارسية: ((يا كلب! من كان له هؤلاء يصلح له مجامعة البقر!))، وأمر بشد يديه ورجليه، وألقاه في الأرض، وأطلق الفيلة عليه فوطئته، حتى مات تحت قوائمها)).(1/64)
40 - وفيما جاء به الزبير بن بكار، قال:
((اجتاز رجل من أشراف المدينة بمريض ملقًى على كناسةٍ قريبة من منزل #66# رجل من الأولياء اختلت حاله، ومرض ولا قيم عليه وتبرم به رفقاؤه فأخرجوه من منزلهم، وهو ملقًى في الطريق. فأمر الشريف بحمله إلى منزله، وتقدم إلى ابنة عمه في حسن القيام عليه بحشمها، وأن ترفه عيشه إلى أن تقضي علته. فابتدره كل من في منزل الشريف بالخدمة حتى تكاملت صحته، وصار في منزلهم كأحدهم، وقفل إلى دمشق.
فلما كان في الوقت الذي توجه جيش يزيد للحرة، وافى فوقف على باب دارهم، فظنوا به أنه وافى لحمايتهم، وحسن المدافعة عنهم، ليقضيهم سوالفهم لديه. فدخل الدار ومعه ثلاثة غلمان، فلما تمكن منها أخذوا في جمع الأثاث، فقال لهم الشريف: ((ما هذا؟))، فقال: ((إني استوهبت دارك بما فيها من الأمير ووهبها لي، وكنت أحق الناس بها، إذ كانت الأحوال بيني وبينكم وكيدة))، فقال له الشريف: ((رجعت يا ابن اللخناء إلى لؤم أصلك، وفساد مركبك)) ثم علاه بسيفه. وفر الغلمان، وهدأت وقدة الفتنة، وطل دمه)).(1/65)
41 - وحدثني نافع بن مصقلة الحمصي، قال: سمعت أبي يقول:
((رأيت مشايخنا مجتمعين على أمرٍ لحقه أسلافهم: أنه كان يسكن بحمص شابٌّ من أهل العراق، حسن الصورة، لين العريكة، فأقام معهم مدة. ثم صار #67# الأمر بعد ذلك إلى بني العباس، فتقلد ذلك الفتى حمص، وكان مولى من موالي أبي العباس. فلما دخلها قصد إلى دار رئيس كان بها -من أصحاب بني أمية- فذبحه فيها وجماعةٌ من غلمانه. ثم خرج.
فأحسن السيرة، وألان الجانب، فقيل له: ((ليس يشبه ما أنت عليه، ما فرط منك إلى الرجل الذي ذبحته وشمله!))، فقال: اسمعوا مني ما جرى على علته.
((اجتزت به -وقد نظفت أثواباً لي لا أملك غيرها، وقد دعيت إلى أمر لا يسعني التأخر عنه، أحتاج فيه إلى حسن الهيئة وإظهار التجمل، ومعي رسول من استحضرني- وهو قاعدٌ على الباب، فراثت دابتي بحيث تقع عليه من رحبةٍ مبلطة لداره. فأمصني، وأمر الغلمان بترجيلي وضربي، فركبتني أيديهم. ثم حلف ألا أبرح حتى أكنس روث دوابه بيدي في كمي، وأحمله في ثوبي وحجري، وأخذت فجررت إلى ذلك، ولم تزل حاشيته تضحك مما نزل بي، فحدثت مولاي، فاستحلفني بحقه على غليظ ما أتيته إليه)).(1/66)
42 - ومما قرأته من سير العجم:
أن جماعة المنجمين حكموا لبعض الأكاسرة أن ابنه يقتله ويتولى ملكه، فعمد كسرى إلى سموم وحيةٍ فجعلها في قوارير، وختمها وكتب عليها: ((دواءٌ للجماع، الشربة مثقال))، وكانت وزنة قيراط تقتل من تلك السموم. وقال: ((إن كان الأمر كما حكاه المنجمون فسآخذ بطائلتي منه)). فعدا عليه #68# ولده وقتله، وكان شديد المحبة للجماع، ورأى تلك القوارير، فشرب مثقالاً فمات. (1/67)
43 - وحدثني أحمد بن أبي يعقوب، قال حدثني أبي، عن جدي واضح، قال:
((سمعت خالد بن سهم، يحدث المنصور -وكان هذا الرجل خاصاً بمروان بن محمد الجعدي- فطلب منه مروان جارية له كان يحبها، وتجرم عليه، فأطال حبسه، وأخذ الجارية منه. وكانت ذا رأي ونجدة. فلما استفحل أمر أبي مسلم وكسر عساكر مروان، أخرجه من الحبس ووعده جميلاً-، قال خالد:
((كان مروان يضحك من زي المسودة ويقول: ((لو أسرناهم ما بلغنا بهم ما بلغوا بأنفسهم من التشويه والشهرة!)). فلما اضطر إلى مكافحتهم وواقعهم، رأيته قد تهيب معاركتهم، فقال لي: ((يا أبا يزيد! -وما كناني قبل ذلك اليوم-، إني قد ارتعت، فهل ذلك بينٌ في؟))، قلت: ((بلى يا أمير المؤمنين!))، -وكنت أداجنه، ويسرني حؤول أمره، فقال: ((ما أجد قلبي يطيق مواقعتهم!))، فقلت: ((إن كان هذا، فتحصن منهم بالانهزام، فإن خيلك أنجى من خيلهم)).
#69#
فانهزم، وتوقف أصحاب أبي مسلم عن طلبه، فلما بلغ إلى سواده قال لي: ((قد عزمت على الدخول إلى بلد الروم)). -وكان من أصوب تدبيرٍ له-، فنفست عليه بالرأي، واستعلمت مغالطته فقلت: ((تدخل بأحداثٍ من ولدك وشملك مستجيرين بكافرٍ قد أمن سربه، واستقام أمره؛ ولعل ولدك يروقهم ما يرونه من مملكته، فيحملهم ذلك على التنصر! ولأن تمادى في مسيرك حتى تدخل مصر فتجد فيه الرجال والكراع والمال، تملك بها اختيارك [خيرٌ لك]. فركن إلى قولي، فسرنا. فلما دخلنا مصر خرج إلى صعيدها، واستأمنت إلى عامرٍ -لحالٍ كانت بيني وبينه-، وقتل ببوصير الأشمونين)).(1/68)
44 - ولما قدم أحمد بن طولون إلى مصر متقلداً بها عمل المعونة، أهدى إليه أحمد بن مدبر من دقّ مصر، ودوابها، والرقيق المجلوب إليها، ما مقداره عشرة آلاف دينار، فرد ذلك عليه، وذكر أنه لا حاجة له بشيء منه. #70# فثقل ذلك على ابن مدبرٌ، وقال: ((ما ينبغي أن يثق السلطان -بمن لم يكن لعشرة ألف دينار في عينه قدرٌ- على طرفٍ من أطراف مملكته!)).
فلما مضت أيام بعث إليه: ((قد كنت أنفذت إلي طائفةً من برك فرددتها عند وقوع الاستغناء عنها، وقد بلغني أن عندك مائة رجل من مولدة الغور، وبي إليهم أمس حاجة)). قال ابن المدبر: ((قد ظهرت في هذا الرجل علامةٌ أخرى، يرد الأعراض والأموال، ويستهدى الرجال!)).
وكان حسين بن شعرة -مضحك المتوكل على الله- قد انضوى إليه، فحمى به ضياعه وأملاكه. ووقف على استثقال ابن مدبر لأحمد بن طولون، وأخرج حكايته في تزمته وكلامه، فيضحك ابن مدبرٌ ومن حضره، فاتصل ذلك بابن طولون، فأحضره ثم قال له: ((بلغني أنك تتنادر بي، ولك في الناس مندوحةٌ فاحذرني، فإنك إن وقعت لم ينفعك ابن المدبر ولا غيره))، فجحد هذا واعتذر إليه منه. ثم انصرف إلى ابن المدبر وقال: ((يا سيدي! لو شاهدت أحمد بن طولون يؤنبني!))، فقال: ((ما قال لك؟))، قال: ((اصبر حتى أريك حكاية صورته ومعاتبته))، ثم تلبس وجلس يحكيه ويقتص ما لقيه به. ثم اتصل ذلك بأحمد بن طولون فأمسك عنه، وتتبع غوائله.
#71#
((واضطربت الرعية لنزاع السعر، وقد بلغ ثلاثة أرادب حنطةٍ بدينار. فركب وتقدم بعقوبة القماحين، وازدحمت النظارة من السطوح عليه. فوقع مركنٌ فيه ريحان إلى الأرض، بمزاحمة من تشوف إليه من النساء، فمسح كفل دابة أحمد بن طولون، فسأل عن الدار: ((لمن هي؟))، فقالوا: ((لحسين بن شعرة!))، فأحضره وضربه ثلاثمائة سوط، وطاف به. وكان ما أوقعه به من أجل متقدم سوالفه إليه، ولم يفلح الحسين بن شعرة بعدها.
((وزاد أمر أحمد بن طولون في القوة وزيادة المال ووفور الكفاية، حتى تهيبه ابن مدبر، فحدثني أبو العباس الطرسوسي، أنه سمع أحمد بن طولون يقول له: ((يا أبا الحسن! أنشدك الله إن تعرضت لي ولا ترسمت بعدواتي، فقد اجتهدت في استصلاحك فلم أصل إلى ذلك))، فقال له ابن مدبر: ((والله ما أرد أمرك فيما أتقلده، وإني فيه كالمقيم من قبلك، فأي شيء أنكرت علي حتى أتجنبه؟))، فقال: ((أنكر عليك المكاتبة إلى الحضرة، وقد قلدتك البغي))، فحلف له ابن المدبر أنه لا يكتب إلا بشكره.
((وصرف ابن المدبر عن مصر بأبي أيوب -ابن أخت أبي الوزير- فلما أجمع الشخوص عنها قال له أحمد بن طولون: ((يا أبا الحسن، لو أردت بك سوءاً لقدرت عليه، وأحتاج إلى أن تجدد تلك اليمين))، فحلف له بالمحرجات أنه لا يألو حرصاً في تزيين آثاره وتطييب أخباره، وأشهد عليه الله بذلك. وخرج عن مصر متقلداً للشام فأقام مع ماجور.
#72#
((فحدثتني نعت مولاة أحمد بن طولون؛ وأم ثلاث بناتٍ كن له - فقالت ((كنت عند مولاي بائتةً فسمعته يحلم في نومه، فخفت أن أنبهه فينكر علي هذا، فانتبه وجلس ومسح عينيه وقال: ((خيرٌ إن شاء الله)). فسألته عما رأى فقال: ((رأيت ابن مدبرٌ قائماً في وسط برية، ومعه قوسٌ موترةٌ وسهام، وأنا تجاهه قائم، ومعي جميع السلاح إلا القوس، وبيننا نهر، فكأنه يسدد السهم نحوي ويرمي، فأخطأني. وكأن قائلاً يقول: ((لو رماك يومه كله لما أصابك به، لأنه عاهدك، وما يضر هذا الفعل غير نفسه)) فكأنه اشتد علي انهماكه في الرمي لي، وليس في يدي غير سيفٍ وشرخ وما أشبههما، لا تعمل في البعد، وقد حال النهر بيني وبين العبور إليه. فإنا على هذا، حتى نضب النهر فلم يبق فيه قطرة، فعبرت إليه، فكأني كنت كلما قربت منه يصغر، حتى صار بمنزلة من يواريه الكف، فأخذته بيدي أستطرفه، ثم ألقيته من قامتي على رأسه فمات. فتأولت سهامه: المكاتبة في والتحريض علي، والنهر الذي منعني منه: مقام ماجور بدمشق، ونضوبه: موت ماجور، وصغره: قدرتي عليه، واحتيازه في كفي: قبضي عليه، وقول القائل لي في السهام أنها تخطئك: أن الله لا يعينه علي)).
((فحدثت هذا الحديث سعداً الفرغاني -غلام ابن طولون- فقال لي ما سمعت بهذا إلا منك، والذي عندي من خبره مطابق لهذه الرؤيا. وذلك أن الحسن بن مخلد برم بكيد الكتاب وانتقاض الأولياء. فكتب إلى أحمد بن طولون يذكر له رغبته في المقام بمصر. فكتب إليه أحمد بن طولون: ((إنما أنا وليك، ومقام صنيعةٍ من صنائعك!)). وصوب رأيه فيما آثره. فحج من #73# بغداد، وثنى عنانه إلى مصر، فمنعه صاحب البذرقة. فأنفذ كتباً إلى أحمد بن طولون، فكان أول ما صدر منها أربعين كتاباً جميعاً بخط ابن المدبر، يعظم فيها أمر أحمد بن طولون ويقول: ((إنه قد عزم على أن يجلس خليفةً))، ويصفه بكل غدر، فعجب منها ابن طولون. ثم مات ماجور، واحتاز دمشق والشام، وأنفذني إلى الرملة فقبضت عليه وأشخصته إليه. فأقام مدة في حبس ضيق، وجفوٍ مما جرت به عادته، حتى ذهب بصره ومات)).(1/69)
45 - وحدثني سهل بن شنيف، قال:
((رجعت [مرةً] مع أحمد بن محمد بن مدبر إلى داره، فاستقبلته امرأةٌ فقالت: ((أيها السيد! نحن مائة عيل على فلانٍ المتقبل، وقد ضاع شمله لحبسه، فاتق دعوة تعرج إلى الله منا فيك!))، فقال وهو متهزئٌ: ((إذا عزمتم على هذا، فليكن الدعاء في السحر فإنه أنجع له))! قال لي سهل: ((فارتعت من الكلمة، فما مضى له شهر حتى تقلد محمد بن هلال الخراج وصرفه عنه، واجتمعا عند أحمد بن طولون، فاهتدى محمد بن هلال إلى ما لم يظن أنه يقف عليه، لأنه أول ما ناظره قال: ((رزق الخراج: كذا وكذا، وأرزاق الدواوين المضافة إليه: كذا وكذا، فهل قبضت جملة هذه الأرزاق؟))، قال ابن المدبر: ((نعم! ما حضرني كتاب أمير المؤمنين بإطلاق جميع الرزق لك؛ لأنه يجوز أن يكون استعملك على جميع الأعمال برزق الخراج وحده)). فانقطع [إلى] ابن المدبر، وطالبه بالمال، فقال: ((ما يلزمني؟)). ورد إلى يد محمد بن هلال، فألبس جبةً كانت على بعض الساسة، وأقيم في الطريق على كناسة، وختمت الجبة في عنقه.
#74#
((فكان أول من وافاه الامرأة التي قال لها: ((يكون دعاؤك في السحر هو أنجع له))، فقالت: ((جزاك الله يا أبا الحسن خيراً، فقد نفعتنا بأكثر مما ضررتنا؛ لأننا جربنا ما أشرت به فوجدناه أنجع شيءٍ يلتمس [به])). فبكى ومن حوله من الموكلين به، وانصرفت المرأة داعيةً له)).(1/73)
46 - وكان محمد بن أبي الساج قد هادن خمارويه بن أحمد بن طولون، وحلف بالمحرجات أنه لا يشاقه ولا يجهز إليه جيشاً أبداً، وخلف عنده ابنه -المعروف بداود- رهينةً، فسكن خمارويه إلى هذا. ثم تواترت الأخبار بتجييشه عليه، وما آثره من المسير إليه، فدعا بابنه وقال: ((قد نقض أبوك ما بيني وبينه!))، فقال: ((يا سيدي! ما أعرف لي أباً غيرك)). فرق له وأجازه، وأقر أثرته، ثم توجه إلى ابن أبي الساج فالتقيا بالثنية، فحدثني أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن القاسم بن إبراهيم بن طباطبا -وكان معه- قال:
((لما ترآى الجمعان أمر بإلقاء حصير الصلاة فألقيت، ونزلت معه فصلى ركعتين، فلما استتمهما، أدخل يده في خفه، فأخرج منه خط ابن أبي الساج الذي حلف فيه بوكيد الأيمان أنه لا يحاربه، فقال: ((اللهم إني رضيت بما أعطانيه من الأيمان بك، ووثقت بكفايتك إياي غدره [بي] وبحلفه واجتراءه على الحنث بما أكده لي اغتراراً بحلمك عنه، فأدلني عليه!)). ثم ركب، #75# فرأيت ميمنة خمارويه قد انهزمت، وتبعتها ميسرته، فحمل في شرذمة يسيرةٍ على جيش ابن أبي الساج -وهو في غاية من الوفور- فانهزموا بأسرهم.
فوقف على نشز، وأطفت ومن حضره به، فاستأمنت إلينا عدة كثيرة. فقلت له: ((إن مقامنا أيها الأمير مع هذه الجماعة خطرٌ)) فأمرني بالمسير بهم إلى مستقر سواده. فسرت معهم -وأنا على رقبةٍ من طمع فيه أو كيدٍ له- فبلغوا نهراً احتاجوا إلى عبوره، فرأيتهم قد خلعوا الخفاف وحطوا الرحال، وسلكوا سلوك المطمئن، فأنست إليهم)).(1/74)
47 - وكان في حارتنا شابٌّ قد قدم من العراق، ذكي الروح هادئ السعي، يذكر أنه قرابةٌ لابن يعفر القائم كان باليمن، وكان بمصر في دون قومه، فأشار عليه من شاهد ابن يعفر وسعة أمره، بالخروج إليه، فأخذت له حجةً من بعض أهلنا، وأضفت إليها برٍّا يفي بتحمله، وخرج. فلقي بمكة عجوزاً يمانيةً جليلة القدر فيهم، فعرفها موضعه، فقالت: ((أنا أتكفل بمؤونتك وتحملك، وأغتنم هذه اليد عند الأمير))، وحملته حتى صارت به إلى عشيرتها، فقالت لهم: ((إن ابن يعفر قتل منا في العام الماضي رجلاً، ومعي قرابةٌ له فاقتلوه به))، واجتمع الحي، وتسلمه أولياء القتيل، فلما جرد السيف اضطرب وبكى، فقال أولياء القتيل: ما نرضى أن نقتل هذا بصاحبنا، صاحبنا شجاعٌ وهذا جبان!)).
فبعثوا به إلى ابن يعفر، وقالوا لرسولهم إليه: ((إنا لا نرضى أن نقتاد من هذا))، فلما وافى ابن يعفر، دعاء له بالسيف والنطع ليقتله، وقال: ((هتكتني في #76# هذا الحي من العرب!))، فقال له وزيره: ((إن هذا الفتى خرج من فاقةٍ وأمن إلى موقف تضرب فيه عنقه فاضطرب، وإنما يقتل الأمير من قاد الجيوش، وتطعم بحلاوة الأمر والنهي فيه، وتمكن من الرئاسة ثم عدل به طبعه إلى الخور، والذي أراه للأمير، أن يعقد له الرئاسة على جماعته، وينفذه إلى مهماته، فإن أكثر الفضائل إنما تظهر بحسن الارتياض)).
ففعل الملك ما أشار به عليه وزيره، فحدثني أبو عبد الله محمد بن عامر اليماني: أنه درج بهذا التدبير فظهر من شجاعته ما لم ير في آل يعفر مثله، ثم غزا الحي الذي كانت تلك العجوز منهم، فقتل أولاداً كانوا لها، وأقفر به ذلك الحي)).(1/75)
48 - وحدثني يوسف بن إبراهيم [والدي]. قال حدثني إبراهيم بن المهدي:
((أنه دخل على الخيزران أم الرشيد، فوجدها جالسةً في الدار المعروفة بها -وصارت إلى أم محمد بنت الرشيد بعدها- على نمط أرميني والنمط على بساط أرميني، وعن يمين النمط ويساره نمارق أرمينية، وعلى أعلى نمرقةٍ منها زينب بنت سليمان بن علي، وعلى يسار النمارق أمهات أولاد المنصور ونسوةٌ من نساء بني هاشم، إذ وقفت امرأةٌ على طرف البساط فسلمت ثم قالت: ((يا زوج أمير المؤمنين! أنا مرية زوج هشام بن عبد الملك، ثم مروان بن محمد من بعده، نكبها الزمن، وزلت بها النعل، حتى أصارها إلى عارية ما تستتر به مما #77# عليها))، فتبينت الدموع تدور في عين الخيزران. وخافت زينب أن تدخلها رقةٌ، فقطعت على مرية الكلام بأن قالت: ((يا أم أمير المؤمنين! اتقي الله أن تدخلك رأفةٌ بهذه الملعونة، فتتبوئي مقعدك من النار)).
ثم التفتت إلى مرية فقالت لها: ((بك فدام ما أنت فيه يا مرية! كأنك نسيت دخولي عليك بحران، وأنت جالسة بصحن دار مروان، على هذا النمط، وتحته هذا البساط، وعن يمين نمطك ويساره هذه النمارق، وعليها أمهات أولاد جبابرتكم، وقد مثلت في مثل هذا المكان الذي أنت فيه ماثلة، وأنا أسألك وأتضرع إليك في استيهاب جثة إبراهيم الإمام بن مروان لئلا يمثل به، وقولك وأنت كالحةٌ في وجهي: ((ما للنساء والدخول في أمور الرجال؟))، ثم أمرت بإخراجي من دارك بغلظةٍ، فلجأت إلى مروان فوجدته على حالٍ أشد تعطفاً على رحمه منك، وقال لي: ((لقد ساءتني وفاة ابن عمي وما دبرت المثلة [به])). وقد خيرني بين إطلاقي تجهيزه له، وبين تسلميه إلي، فاخترت تسليمه، وأمر له بجهازٍ فقبلته منه)).
قال إبراهيم: ((فالتفت مرية إلى زينب فقالت لها: ((كأنك يا بنت سليمان حمدت لي عاقبة أمري في قطيعتي رحمي، فأردت أن تزيني قطيعة الرحم لأم أمير المؤمنين!))، ثم التفت إلى الخيزران فقالت: ((صدقت زينب فيما ذكرت عني، وذلك الفعل مني أحلني هذا المحل. والسعيد من اتعظ بغيره))، وانصرفت، فبعثت إليها الخيزران ما أعاد إليها [حالها]، وكف اختلالها. (1/76)
49 - وحدثني يوسف بن إبراهيم والدي، أنه سمع بطرس -رجلاً- يحدث إبراهيم بن المهدي:
#78#
أن ((نقفور الملك)) -لما تأدى إليه الخبر بوفاة الرشيد- جعل ذلك اليوم عيداً للروم، ثم جعل عيداً أعظم منه في اليوم الذي تأدى إليه وقوع الشر بين محمد الأمين والمأمون، ثم عيد عيداً ثالثاً في الوقت الذي بلغه خروج أبي السرايا، ثم خرج إلى البرجان ليحاربهم فقتل.
فسأل بطارقة الروم بطريقهم اختيار رجلٍ ليقلد مملكتهم، فاتفق معهم على رجل من أبناء العرب يقال له ((اليون)) فملكوه -وكان ذا نكاية- فدفع عنهم وقدة البرجان. وقوي اليون على ضبط المملكة، وكانت الروم في أيامه أعز منها في أيام نقفور، إلا أنهم أنكروا عليه بسط اليد بالهبات، والعفو عن أسرى المسلمين. ثم اجتمعت البطارقة الاثنا عشر في مجلس على نبيذٍ لهم، فتذاكروا أمره، واستشنعوا فعله، وكان أغلظهم كدحاً عليه ميخائيل البطريق الذي ملكهم، وملكتهم امرأةٌ بعده، فبلغ اجتماعهم وما قالوا اليون، فوجه في يوم سبتٍ إلى ميخائيل فأحضره، ثم دعا بتليسٍ من شعر بطول ميخائيل، فأدخل رجلاه في قرارة التليس، ثم أمر بالتليس فرفع وأقيم ميخائيل، فبلغ رأس التليس إلى رأسه. ثم أمر أن يحشى رملاً فحشي، فبلغ الرمل فم التليس ثم أمر فخيط #79# بشعر جمة ميخائيل، ودعا الطباخين فأمرهم أن يعدوا له طعاماً كثيراً مثل ما يعد في الأعياد، ثم قال للبطارقة -وميخائيل بين يديه على تلك الحال-: ((إذا نحن تقربنا في غدٍ، ألقيت ميخائيل في البحر، ثم تغدينا وجعلناه يوم سرور!)).
قال بطرس: فاجتمع البطارقة بعد انصرافهم من عنده وقالوا: ((هذا العربي قد امتدت يده إلى ميخائيل، ونخاف أن يجترئ على كافتنا))، فأجمعوا على الاشتمال على سيوفهم، والدخول إليه وقتله، ففعلوا ذلك. ثم جلسوا للمشاورة فيمن ينصب بمكانه، واستشرف كل واحد منهم إلى أن يكون ملكاً، فقال أحدهم لسائر الجماعة: ((الصواب أن تملكوا ميخائيل؛ فإنه يرى أنكم أنعمتم عليه بالحياة)). فاستشرفوا إلى ذلك؛ ورأوا موضع السداد منه، فأخرجوه من التليس وغسلوه، وأحضروا البطريق وثياب الملك فألبسوه إياها، وأعلموه أن اليون قد قتل، وملكوه عليهم.
ثم صاروا إلى مجلس المملكة والموائد منصوبةٌ، فقالوا له: ((تغد أيها الملك بالطعام الذي دبر اليون أن يأكله بعد قتلك!))، فقال ميخائيل: ((عارٌ بالملك أن يطعم طعاماً وفي عنقه يدٌ لإنسانٍ من أوليائه ورعيته، قبل أن يكافئه عنها، وقد أحييتموني بعد موتي، ولست أطعم طعاماً حتى يخبرني كل إنسان منكم بجميع حوائجه في مدة عمره)). فقال كل واحد منهم ما تناهى إليه أمله، مما يصل ميخائيل الملك إليه. فقضى جميع حوائجهم، وسألوه الأكل فقال: ((قد فرغنا مما يجب لكم، وبقي [ما] لله وللملك اليون، ولا يحسن بي أن آكل حتى أفعل ما يجب لهما))، ثم قال للبطريق: ((ما جزاء من منع ملكاً عليه من شم النسيم وروح الحياة؟))، قال البطريق: يمنع النسيم وروح الحياة))، فقال لهم: ((قد حكم عيكم البطريق بما لا يجوز خلافه!)). وأمر بضرب أعناقهم وابتدأ بطعامه. (1/77)
50 - ومما نقله ابن المقفع عن الفرس وتعالمه العرب:
أن ملك الحبشة لما غلب على مملكة سيف بن ذي يزن، خرج إلى كسرى مستصرخاً إليه، ومستجيراً به عليه. وكان ملك الحبشة يجري على ترجمان كسرى رزقاً مثيباً على تحريف دعوى المتظلمين منه. وكان لكسرى يومٌ في كل شهر يركب فيه، ويقرب من عامته، ومن لا يصل إليه ممن انتجعه، فتوخى سيف بن ذي يزن ركوبه في ذلك اليوم، فلما رآه قال: ((أسعد الله الملك! أنا سيف بن ذي يزن، أغار علي متملك الحبشة بفرط تعديه وسوء جواره، فأخرجني من مملكة عمرتها أنا وآبائي مذ أكثر من مائتي سنة. وأنا أسأل الملك أن ينجدني عليه، ويردني بطوله إلى مملكتي ومملكة آبائي)). فسأل الترجمان عن قوله فقال: يقول: ((أنا رجل من جلة العرب، وقد اختلت حالي، واضطرب شملي لشدة الفاقة، وقد قصدت الملك مستتراً به، ومستميراً منه))، فأمر له بجائزة. فرأى سيف بن ذي يزن ما لا يشبه ما ابتدأه به.
وصبر إلى اليوم الذي يسهل فيه كلامه وانتظره فيه، فلما رآه قال: ((أنا أيد الله الملك ذو نعمةٍ وكفايةٍ، وإنما وفدت على الملك لأقتبس من عزه، وأنتصر بقوته))، فسأل الترجمان عما قال، فقال: ((يقول أمرت بما يقصر عن حاجتي))، فأمر له بجائزةٍ أخرى. فوقف على تحريف الترجمان لكلامه.
فانتظره في اليوم الثالث، فلما رآه قال: أيد الله الملك، إن الغادر .. .. فأدى إليه هذا الحرف، فقال: ((الخائن)) .. فرأى في وجه الملك الاستفهام، فقال: ((الكذاب)) .. فأشار إليه الملك بيده من هو؟ فأومى إلى الترجمان، فأحضر #81# الملك ترجماناً آخر، فقص عليه قصته، فضرب عنق الترجمان، وأحسن تلقي سيف بن ذي يزن لما تبين منه في التأتي لإفهامه.
ثم أحضره مجلسه فسأله عن مقدار حاجته، وما الذي يؤثره من أصناف الناس؟ فقال له: ((اسأل الملك أن يطلق لي من محابسه الكهول، فإنهم أصبر في المعارك، وأسمح بالنفوس، فأطلق له جملة من [في] الحبس كهولاً بأسرهم، فحملهم في مراكب، وركب معهم حتى وافى مملكته.
فلما نزل جميعهم، أحرق المراكب، واعتمد ذلك سراً منهم. فلما نظروا إلى المراكب قد أحرقت، قال للرجال: ((إنه لا يحسن بكم التعذير في القتال فتهلكوا، ولكن جدوا جد من لا نجاة له في البحر)). فجرد الجيش العناية، وصدقوا حتى برزوا على من أقام بمملكته، واحتازوا له طائفةً كبيرةً من أرض الحبشة، وقهر ملكها واتقى جانبه.(1/80)
51 - وحدثني هارون بن ملول، قال:
((تقلد أبو الوزير -خال أبي أيوب- الخراج على حال اضطراب من الأولياء، واستعمل -من فرط الاستقصاء على أرباب الخراجات، وإخراج البقوط عليهم- ما ثقلت به وطأته على الناس. وكان له كاتب ذهب عني اسمه، في النهاية من الجزالة والضبط، وكان يعزى إليه أكثر صنيع أبي الوزير، فقال لي هارون: ((فقصده جماعةٌ من الأولياء، فأحس بالشر فيهم، فأغلق الباب عنهم، ثم تأملهم حتى عرفهم، فكتب بفحمةٍ: ((يا سيدي قتلني فلان وفلان))، وسمى جماعة رؤسائهم، وكسروا الباب ودخلوا إليه فقتلوه. #82# وركب أبو الوزير حتى شاهده، ثم تأمل حائط مجلسه، فوجد الكتاب بالفحمة، فقبض عليهم فصدقوا عنه وقتلوا به)).(1/81)
52 - وكان لرجل من جلة كتاب الجيش بمصر -يعرف بابن الأبرد- رغبةٌ في وصفه بالنصح في أعمال السلطان، ولابسه محمد بن أبا [القائد]، فقدم العناية به والتعصب له، ومكن له عند خمارويه محلاً رد إليه بعض أعماله من الخراج، واحتاج فيه إلى كاتب يحمل عنه، فارتاد رجلاً يعرف بنصر بن القاسم -يخلف [ابن] الأبرد فيما أسند إليه-، فكان يسعى به إلى كاتب خمارويه. فكتب يوماً رقعة تشتمل على ما كرهه ابن الأبرد من التغميز به والانتقاص له، ويشير فيها بأشياء تفسد محله، وبعث بها إلى كاتب خمارويه، فغلط الغلام وجاء به إلى ابن الأبرد، فاستعرض فيها أشياء قبيحة، وفارق الكاتب. ورأى الكاتب أنه قد أحرز -بما أتاه من السعاية- مكانةً عند كاتب خمارويه. وقتل خمارويه، وثبتت يد كاتبه على الأمر، فرام نصر بن القاسم أن يدخل في جملته، فامتنع من ذلك وقال: ((من سعى إلينا سعى بنا))، فمات نصر بن القاسم كمداً. (1/82)
53 - وسمعت سعيد بن عبد الله بن الحكم يقول:
((وجد في أخبار مصر المسندة أن عمرو بن العاص عند تغلبه على مصر كان يتنكر ويخرج وحده، متشبهاً بالرجل من عامته، ليرى ما عليه القبط من النية للمسلمين. فتمادى به السير راجلاً حتى لحق بطرفٍ من الفسطاط، فرأى جماعةً قد التأمت على سوءٍ فيه، فقال لها: ((اعملوا بي كل ما تؤثرون من السوء #83# ولا تردوني إلى يد الأمير، فإني هربت منه))، فقال بعضهم: ((ردوه إلى يد الأمير فإنه يقتله، ويكون لكم بذلك عارفةٌ عند الأمير)). فساقوه إلى دار [الإمارة]، فأخذ يتضور ويتأبى في سياقته حتى قرب من الدار، فقام إليه الشرط. فقال: ((لا يفوتنكم منهم أحدٌ!))، فجمعوا له، فأتى على آخرهم، ولم يعاود التنكر)).(1/82)
54 - وكنت أعرف شيخاً في أيام خمارويه، حلو النادرة، مليح الألفاظ، يعرف بالدفاني، وكان معاشه من التوصل بكتب الولاة إلى معامليهم. فحدثني أنه خرج بكتبٍ إلى الشرقية، فالتقى مع رجل في زي بعض المانية من الأطباء: ((وهو على حمارٍ بخرجين، وكنت على حمار. فاستخبرني عن صناعتي، فتحسنت عنده بأن قلت: ((أنا تاجر في الغلات))، فطمع في، وكان مبنجاً، فقال لي: ((هذا موضعٌ طيبٌ، فلو أكلنا فيه!))، فقلت: ((ذاك إليك!))، فأخرج من أحد خرجيه رغيفين مشطورين، فوضع أحدهما بين يدي والآخر بين يديه, ثم أخذ كوزاً معه ومضى يسعى به، فشرهت نفسي إلى الرغيف الذي كان بين يديه، فأبدلته حتى صار بين يدي وصار رغيفي بين يديه، وجاء بالماء، وابتدأنا بالأكل، فما ابتلع لقمةً حتى شخص بصره وتمدد، واجتاز بنا جماعة فقالوا: ((ما لصاحبك؟))، قلت: ((لا أدري والله!))، فقالوا لي: ((أنت مبنجٌ بنجت هذا المسكين!))، وساقوني.
فكان من لطف الله أن خليفة لموسى بن طونيق كان ببلدهم ويجاورني يتقلد المعونة، فساقني القوم إليه، والرجل محمول معنا، وهم يقودون #84# الحمارين، وقالوا له: ((هذا مبنج وجدناه!)). فلما رآني ضحك إلي وقال: ((متى تعلمت التبنيج؟))، قلت: ((اليوم))، وقصصت عليه خبري، وأخرجت كتاب موسى بن طونيق في بري. ففتش خرجه، فوجد فيه شطائر تبنيج وشطائر خالية، ووجد معها أوتاراً للخنق، وأحجاراً للشدخ. فشدخ رأسه بها، وخنقه بتلك الأوتار حتى فاظ)).(1/83)
وإذ وفينا ما وعدناك به -من أخبار المكافأة على الحسن والقبيح- ما رجونا أن يكون ذلك عوناً للاستكثار من مواصلة الخير، وتطلب العارفة في الحسن، وزجر النفس عن متابعة الشر، وإبعادها عن سورة الانتقام في القبيح، وقد قالوا: الخير بالخير والبادي أخير، والشر بالشر والبادي أظلم .. .. ، رأيت أن أصل ذلك -حفظك الله- بطرفٍ من أخبار من ابتلي فصبر، فكان ثمرة صبره حسن العقبى؛ لأن النفس إذا لم تعن عند الشدائد بما يجدد قواها، تولى عليها اليأس فأهلكها.
وقد علم الإنسان أن سفور الحالة عن ضدها حتمٌ لابد منه، كما علم أن انجلاء الليل يسفر عن النهار. ولكن خور الطبيعة أشد ما يلازم النفس عند نزول الكوارث، فإذا لم تعالج بالدواء، اشتدت العلة وازدادت المحنة. والتفكر في أخبار هذا الباب، مما يشجع النفس، ويبعثها على ملازمة الصبر وحسن الأدب مع الرب عز وجل، بحسن الظن في مواتاة الإحسان عند نهاية الامتحان. والله ولي التوفيق. (1/84)
[3] حسن العقبى
55 - [ومما سمعته أن ابني عمر الأخباري لما مات أبوهما، وكان من رجال دولة المتوكل، هم المتوكل بمصادرة أمواله. فعزما أن يجعلاها وديعة عند شيخ كانا يريان فيه الصلاح وحسن المذهب، فكانا يبعثان إليه].
بالشيء بعد الشيء مما تخلف عن تلك الوديعة، وعجوزٌ تختلف بذلك، لها ولدٌ يتشطر ويلعب بالحمام، فوردت عليهما بدرة دراهم، وقد انتهى بهما السعي في الإيداع. فقالا للعجوز: ((صيري بها إلى ابنك مع هذا الغلام حتى تودعيها لنا عنده))، فمضت بها والغلام معها، فحدثنا الغلام قال:
((صرنا إليه وقد فتح باب البرج وأخرج فراخاًً زغباً، وهو ينظر إليها، فأدينا الرسالة إليه، فقال: ((ليس لي خزانةٌ ولا صندوق، ولكن اجعلها في هذه المحضنة الخالية من البرج))، قال: ((ففعلت)).
وانصرفنا جميعاً على أنه يمزقها مع الغلمان وسباق الحمام.
ثم صلح ما كان التاث من أمرنا، واطمأنت نفوسنا مما كان أخافنا، فبعثنا فيما كنا أودعناه الشيخ، فقال للغلام: ((غلطت بي، وليست الرسالة إلي))، فلما رجع بالجواب إلينا، تحيرنا وركبنا إليه، فاستمر في الجحود، وتضاحك مما #86# لقيناه به، ورجعنا وقد لحقنا من فقد الوديعة أكثر مما كنا نخافه من النكبة. وميلنا بين مطالبته بما ننبه به على مقدار ما أودعناه، ونطمع من خفناه، وبين الإمساك عنه، وتربص الأيام به، فمالت نفوسنا إلى الإمساك لما اجتمعت لنا الصغائر المغادرة للعدل. واجتازت بنا العجوز فقالت: ((قد رددنا ما أودعناه وبقي ابني)). واقتضتنا الغلام يحمل البدرة فبعثنا به معها.
فحدثنا الغلام قال: ((وافيناه بين يدي البرج، فأدت العجوز إليه الرسالة، فقال للغلام: ((ادخل فخذها من المحضنة التي خلفتها فيها))، فصار بها إلينا الغلام وعليها ذرق الحمام، فوزناها فوجدناها على ما كانت عليه. فكثر تعجبنا من أمانته؛ وأخرجنا من البدرة ألف درهم، وتقدمنا إلى الغلام بالمصير بها إليه. فرجع الغلام إلينا فقال: ((رمى بها إلي وشتمني))، فآثرنا ارتباطه، وقلنا للعجوز: ((صيري به إلينا الساعة!))، فوافانا، فقلنا: ((انبسطنا إليك فانقبضت عنا!))، فقال: ((الخيانة -أعزكم الله- أسهل من أخذ أجرة على الأمانة))، فقلنا: ((جزاك الله خيراً، فقد وجدنا فيك ما لم نجده في غيرك))، فقال: ((وتخلف عنكم شيء مما أودعتموه))، فقلنا: ((نعم!))، فقال: ((عروفني، فإني أرجو أن آخذه لكم بألطف حيلةٍ))، فرأيناه -لما فيه من فضل النفس وكرم السجية- أهلاً لأن نبثه وجدنا، فأخبرناه؛ فقال: ((ينبغي أن تتقدما إلى بعض من تثقان به من غلمانكما، أن يتيقظ؛ فلعلي أن أناديه الليلة))؛ فقلنا: ((وما تريد بذلك؟))، فقال: ((ما لا يجوز أن أبديه، وأرجو عون الله عليه، والتفريج عنكما به)) ففعلنا ذلك، وما يتطاول سؤلنا إلى ما أتاه.
#87#
فجمع إخواناً له في عدة كثيرة من الشطار، واقتحم على المستودع وقال له: ((ما جئنا لنهبك، ولا نتعرض لشيء من مالك، وما جئنا إلا لوديعة ابني عمر الأخباري. فإن أديتها خرجنا وكأنا ما دخلنا. وإن جحدت واعتمدت بصياحٍ قتلناك الساعة، وسهل علينا عقوبتنا فيك وقتلنا بك، لأنا نرزق الشهادة في القتل والمثوبة، إذ كنا نجاهد عما اختزلته))، وضرب إلى لحيته وأعجله، فقال: ((هي في هذه الخزانة))، ودعا بغلام فقال: ((أخرج جميع ما [أودعناه ابنا] عمر))، فأخرج سفطاً كان فيه جواهر، وسفطاً فيه أثواب وشي مذهبة صحاحاً، وبدوراً فيها مال، فقال: ((والله لئن خلفت شيئاً لنطلن دمك، ولئن كنت أديت الأمانة لنكونن أولياءك والمقيمين بأمرك)).
فوافوا باب منازلنا، فصاحوا بالغلام وهم يحملون الوديعة، فوضعها بين أيدينا وحدثونا بحديثهم، وقال: ((استعرضوا وديعتكم، فنحن في الدهليز حتى تفرغا وتخبرانا: هل بقي منها شيء أم لا؟))، فلما عرضناها على ثبتها عندنا، ما غادرت شيئاً منه، وعادت بما رد إلينا نعمتنا، وانحسمت فاقتنا، ولم نجد في الجماعة من قبل شيئاً مما بذلناه، وانصرفوا)).(1/85)
56 - وحدثني أحمد بن أيمن قال:
((كنت أكتب في حداثتي للعباس بن خالد البرمكي، وكان طويل اللسان مخشي الغضب. فإني لجالس بين يديه في داره بمدينة السلام، حتى دخل علينا #88# شابٌّ حسن الصورة رث الهيئة، فأكب عليه فقال: ((ألست ابن فلان صديقنا؟))، فقال: ((نعم، يا سيدي!))، فقال: ((قد كان حسن الظاهر جميل الهيئة؛ فما بلغ بك إلى ما أرى؟))، قال: ((كان تجمله أوفى من عائدته! وتوفى، فكنت أتبلغ بما يستعمله الموفى على جاهه، إلى أن خان طبعي البارحة ولم أطق ستر ما بي فقصدتك))، فدعا بمائة درهم، وقال: ((تمسك بهذه إلى أن أنظر لك في عائدٍ عليك من الشغل)). فلما قام من عنده قال لغلام يثق به: ((قص أثر هذا الفتى؛ فانظر ما يبتاعه بهذه الدراهم وأحصه عليه حتى يدخل منزله، واعرف المنزل وصر إلي)). فرجع إليه وقال: ((يا سيدي! هذا غلام عيار! ابتاع بنيفٍ وثلاثين درهماً سميذاً وسكراً وعسلاً ولحماً كثيراً وحوائج الأعراس، وأخذ طباخاً من طباخي الأعراس، وأحسب أن عنده دعوة وقد عرفت منزله))، فقال: ((دعه)).
فلم تمض إلا أيام يسيرةٌ حتى وافى فأعرض عنه، واستثقل جلوسه بين يديه؛ فقال: ((يا عمي وسيدي! ليس يشبه هذا اللقاء ما لقيتني به في الأولى!))، قال: ((كنت في الأولى راجياً لصلاحك، وأنا اليوم آيسٌ منه))، فقال: ((وكيف ظننت ذلك؟))، قال: ((أخبرني غلامي أنك أنفقت إلى أن بلغت منزلك نيفاً وثلاثين درهماً، وكان حقك أن لا تزيد على ثلاثة دراهم))، فقال: ((لو عرفت خبري لقدمت عذري!))، قال: ((ما خبرك؟)).
قال: ((كنت مع تضايق حالي، أمسك نفسي عن المسألة، وأقتصر وأهلي على البلغة. وأنا ساكنٌ وأهلي في ظهر دار فلان -ووصف رجلاً ظاهر اليسار من التجار- وقال: ((له طاقاتٌ في مطبخه تفضي إلى منزلي. فأولم وليمةً لا أشك في حضروك إياها. فشرق منزلي بروائح الأطعمة، وكانت الصبية من #89# صبياني تخرج فتقول: ((رائحة جدي يشوى!)) وأخرى تقول: ((رائحة نقانق تقلى!)) وهذه تقول: ((يا أبه! أشتهي من هذا الفالوذج الذي قد شاعت رائحته لقمةً!))، وقولهم يقرح قلبي. وأملت أن يدعوني فأتحمل التزليل لهم، فوالله ما رآني أهلاً لذلك، فقلت: ((ولعله إذ نقصت عنده من منزلة من يدعون أن يبعث إلي؟ فوالله ما فعل. فبت بليلة لا يبيت بها الملدوغ، فأصحبت في الغداة فكنت أوثق في نفسي من سائر من بمدينة السلام. فلما أعطيتني تلك الدراهم اشتريت بها حوائج أصلح منها ما اشتهوه، فأكلوا أياماً منه، وهم يدعون الله في الإحسان إليك، والخلف عليك))، فقال له العباس: ((أحسنت! بارك الله عليك!))، ثم صاح: ((يا غلمان! أسرجوا لي))، ولبس ثيابه، وركب وركبت معه، ودخل إلى صاحب الصنيع فقال: ((دعوتني وجماعة وجوه بغداذ إلى طعام مقتنا الله عليه! وعرضت نعمتنا للزوال، وأنفسنا إلى اخترام الأعمار!))، وقص قصة الفتى، وقال: ((عزمت على أن أصدق عن كل من حضر وليتمك، وتكون سبباً لتخلف الناس عنك، والإمساك عن إجابتك أخرى الليالي))، فقال: ((أنا أفتدي إذاعتك بما غفلت عنه بخمس مائة دينار))، قال: ((أحضرها))، فأحضرها، فقال: ((اقبضها))، فقبضتها.
ثم ركب إلى جماعةٍ فقال: ((أعطوني في معونة رجلٍ من أبناء النعم اختلت حاله))، فأخذ منهم خمس مائة دينار أخرى، ورجع إلى منزله -وقد كان أمر الفتى ألا يبرح منه-، فأدخله إليه، وقال: ((فيم تهش إليه من التجارة؟))، فقال: ((في صناعة الأنماط، فإنها صناعة أسلافنا، ومن بها يعرف حقوقنا)). فدعا برجل منهم حسن اليسار، فأخرج إليه الألف الدينار التي أخذها، فقال: ((هذا #90# المال لهذا الفتى، فليكن في دكانك، واشتر له بها ما يصلحه من المتاع وبصره به))، ثم قال للفتى: ((احذر أن تنفق إلا من ربح)). فانصرف الفتى، وقد رد عليه ستره)).
فحلف لي أحمد بن أيمن: ((أن بضاعته تثمرت، وأرباحه اتصلت، وعامل السلطان، ودخل في جملة التجار وجلتهم)).(1/87)
57 - وحدثني أحمد بن أبي عمران، عن مسلم بن أبي عقبة، عن أبيه عقبة، -وكان عقبة هذا مصادقاً لأبي يوسف القاضي وترباً له-، قال:
((كان أبو يوسف قد انقطع إلى أنحاء الفقه، فأحسن القول عن أبي حنيفة؛ وكانت زيادته في العلم، بمقدار نقصانه في الرزق. وكان كل من يستعرض حاله بالكوفة، يشير عليه [بالرحلة] إلى بغداد. ويرى أبو يوسف صواب ما يشار به عليه، فيقعده نقصان حاله عن المركب الفاره، واللبسة التي تشبه من حل محله من العلم، ونزع إليه من أقصى النواحي.
((وكان له غلام كان لأبيه، حاذقٌ بعمل الجواشن والدروع وكثيرٍ مما يحتاج إليه من آلة الحرب، وكان يأتيه في كل شهر بما يقوته في حاضرة الكوفة، ولا يعينه على حضرة السلطان. فرغب في الغلام عامل للمهدي على الكوفة -قد ذهب عني اسمه-، فطلبه من أبي يوسف -وهو يومئذ من أصاغر رعاياه- فباعه منه بتسعين ديناراً.
((وخرج عند ذلك إلى بغداد، فارتاد دابةً وثياباً.
#91#
وكان لعبد الله بن القاسم الغنوي -أحد أصحاب الأعمش- محلٌّ من المهدي، ولم يكن في المجالس التي تنعقد ببغداد في الفقه أجل من مجلسه. فدخل أبو يوسف مع كافة من دخل، من غير تسليم على عبد الله، ولا مقدمة لحضور مجلسه. وكان أبو يوسف حسن الصورة، جميل الإشارة، لطيف التخلص والاحتجاج، فقبله قلب عبد الله ولم يعرفه.
((وجرت مسائل وأجوبةٌ، كان حظ القياس فيها مقصراً، وكان الاحتجاج على ظاهر القول. فتكلم أبو يوسف فيها فأحسن الاحتجاج وجود، وأعانه على هذا طول لسانه وحسن بيانه، ثم سألهم فقصروا عن الجواب، فأبان عنه لهم برفق. فلما تقضى المجلس عاتبه عبد الله على تخلفه عنه وتعريفه مكانه، وسأله أين نزل، فأخبره، فرغب له عن الموضع الذي سكنه، ودعاه إلى منزلٍ بالقرب منه، وقرر خبره عند أبي عبيد الله كاتب المهدي، فوصله بالمهدي وأسنى رزقه؛ ثم قرنه بالهادي فأقام معه مدة أيامه؛ وبلغ مع الرشيد ما لم يبلغه عالم بعلمه، ولا محبوبٌ بمرتبته)).(1/90)
58 - وحدثني علي بن سند -وكان انقطاعه في أيام الموفق والمعتضد إلى أحمد بن محمد بن بسطام، وكان آل عبيد الله بن وهب يحقدون [عليه] سوالف منكرةً، ولم يكن مع عبيد الله من سوء المباداة ما مع القاسم ابنه. فلما حبس أحمد بن محمد بن بسطام، قبض علينا معاشر خلفائه في الأعمال، #92# وأثبتنا في جريدةٍ، وتقدم بإحضارنا إلى داره، فيئسنا من الحياة-، وقال لي علي بن سندٍ:
((فلم يكن في جماعتنا أضعف حالاً مني ولا أقل ناصراً، فرأيت الموت. وحملنا إليه، وقد أحضر الجلادين والسياط والموكلين بالمعابر، قال: فقدم منا رجلٌ من جلة أصحاب أحمد بن بسطام فضرب، وأخذ خطه بما أعلم أنه لا تصل إليه يده. وبين يديه رجل ظهره إلينا لا نعرفه، فلما فرغ [من] أمره، سمعت الذي بين يديه وهو يقول: ((هنئني عارفتك!))، فقال: ((ذره! حتى يرى عظم ما سلم منه بك))، فقال: ((هو يراه غداً))، فقال القاسم: ((سلموا علي بن سند -لا رعاه الله! - إلى صاحبه أبي الجيش ثابت))، فرأيته وقد قبل يده، وردت عليَّ الحياة بشفاعته، وأطلقت من غير مصادره ولا عقوبة.
((فلما رجع ثابتٌ إلى مكانه، وصار بي رسول القاسم إليه، قال لي: ((مر بي اسمك في الجريدة فاستوهبتك، لأن أباك كان من إخواني)). فجزيته الخير على رعايته والدي في. (1/91)
59 - وحدثني محمد بن صالح الغوري، قال:
((كانت لي بضاعة أعود بفضلها على شملي، فافترقت في معاملاتٍ في الصعيد، وخرجت إلى من عاملته فجمعتها، وكان مقدارها خمس مائة دينار. وخرجت أريد الفسطاط في رفقة كثيرة الجمع، فلما كان منتصف طريقنا، وافى جمعٌ من الصعاليك فسلب الناس جميعاً. ودهشت، فرأيت منهم شاباً حسن الصورة، فقلت له: ((والله ما أملك غير هذا الكيس، فارفعه لي عندك!))، #93# فقال: ((وأين بيتك بالفسطاط؟))، فقلت: ((في دور عباس بن وليد))، فقال: ((ما اسمك؟))، قلت: ((محمد الغوري))، قال: ((امض لشأنك)). وجاء منهم من قلع ثيابي وسراويلي، وانصرفوا عنا. ولم أزد أن سوغت واحداً منهم جميع ما كان معي، ودخلنا إلى الفسطاط ونحن فقراء. فرجع كل واحد منهم إلى ما تخلف له، وبقيت ليس معي درهم أنفقه.
((وإني لجالس على درجة المسجد بين المغرب وعشاء الآخرة، حتى رأيت رجلاً قد وقف بي، فقال لي: ((هاهنا منزل محمد الغوري؟))، قلت: ((أنا هو!))، ولا والله! ما اهتديت إلى الرجل الذي أعطيته المال، لأنه كان عندي أول مالٍ ذاهبٍ، فقال لي: ((عنيتني!))، وأخرج الكيس فدفعه إلي، فردت علي جدتي وتطعمت الحياة.
وكان بالقرب منا قائد يعرف بابن قرا، كنت معاملاً له وكان له محلٌّ، فسألت اللص المبيت عندي ففعل. فأصبحت وصرت إلى ابن قرا وقصصت عليه قصة الرجل، فقال لي: ((الطف لي فيه، فوالله لأنوهن باسمه، ولأكافئنه عنك)). فرجعت إليه فأخبرته، فوالله ما ارتاع ولا اضطرب، ومضى معي؛ فأحسن تلقيه، وخلع عليه، وصيره سيارةً لعمله، وضم إليه عدة وافرة. ولم يزل في حيزه إلى أن توفي)).(1/92)
60 - حدثني أحمد بن أبي يعقوب، عن أبيه، عن جده واضح، قال:
((كانت بين المهدي وأخيه جعفر بن أبي جعفر عداوةٌ في أيام المنصور، وكان مصقلة بن حبيب ينقل عنه إلى جعفر ما يكره، ولا يمكن المهدي أن يسطو #94# على مصقلة ولا يمسه بسوءٍ. فلما تولى الخلافة نذر دمه، فاختفى. فحدثني مصقلة أنه نبا به موضعه الذي كان به، فخرج مستتراً يريد غيره، فلحقه رجل من أعدائه وصاح في أصحاب الأرباع، ((هذا بغية أمير المؤمنين!)): ((فتسرع إلي الشرط ورأيت الموت عياناً. فبينا أنا في أيديهم، اجتاز بي معن بن زائدة، فصحت به: ((يا سيدي! يا أبا المنذر! أجرني أجارك الله!))، فقال للشرط والرجل المتشبث بي: ((خلوا عنه))، فقال الرجل: ((ماذا أقول لأمير المؤمنين؟))، قال: ((تقول له إنه عندي))، ثم أمر بحملي على جنيبةٍ من جنائبه، وسار بي إلى منزله، وقدم طعامه فأكلت معه ومع ولده. فلما فرغنا من الطعام قيل له: ((وافى رسول أمير المؤمنين!))، فقال لولده: ((اقضوا حقي عليكم بألا تسلموا مصقلة، فقد استجار بي!)). فحلفوا له على ذلك، وركب.
فلما رآه المهدي قال: ((تجير علي يا معن؟))، قال: ((نعم يا أمير المؤمنين!))، قال: ((ونعم أيضاً؟))، قال: ((يا أمير المؤمنين! قتلت في دولتك زهاء ثلاثين ألف عدو، ولا أستحق أن أجير فيها عدواً واحداً!))، قال: ((نعم تستحق ذلك، قد وهبناك دمه))، فقال: ((يا أمير المؤمنين! ليس هكذا ينعم مثلك بالحياة! إذا تصدقت على أحدٍ بحياته فاجعلها في خفض عيشٍ من نعمتك)). قال: ((يعطى ألف دينار))، قال: ((يا أمير المؤمنين! لا تستوي جائزتك وجائزة عبدك معن! هذا ما سمحت له به))، فقال: ((ادفعوا إلى جار معن ألفي دينار))، فحملت معي إلى منزلي ثلاثة آلاف دينار، وأمنت على نفسي)).(1/93)
61 - وحدثني ربيعة بن أحمد بن طولون، قال:
((لما توفي خمارويه، قبض علي -وعلى مضر وشيبان ابنى أحمد بن طولون- جيش بن خمارويه، وحبسنا بدمشق. فلما قفل إلى مصر، حبسنا في حجرة من الميدان معه. وكانت لنا في كل يوم مائدةٌ نجتمع عليها، وكان في الحجرة رواق وبيتان، وجلوسنا في الرواق. فوافى خدمٌ له، فأدخلوا أخانا مضر في البيت وأغلقوا عليه الباب، فانفصل عنا وكانت المائدة تقدم إلينا، ونمنع أن نلقي إليه منها شيئاً، فأقام خمسة أيام لا يطعم ولا يستغيث. ثم وافانا ثلاثة من أصحاب جيش، فقالوا: ((ما مات أخوكم بعد؟))، فقلنا: ((ما نسمع له حساً!))، ففتحوا الباب فوجدوه حيًّا، ورام القيام فلم يصل إليه، ورماه الثلاثة بثلاثة أسهم في مقاتله فطفئ. وكانت الليلة التي دخلوا فيها ليلة جمعة، وأخرجوه وأغلقوا الباب علينا.
((وأقمنا يوم الجمعة والسبت لم يقدم إلينا طعامٌ، فظننا أنهم يسلكون بنا طريقه. فلما كان يوم الأحد، سمعنا رجةً في الدار وفتح باب الحجرة، وأدخل إلينا جيش بن خمارويه، فقلنا: ((ما خبرك فقال: ((غلب أخي على أمري))، وتولى إمارة البلد هارون بن خمارويه)) فقلنا: الحمد لله الذي قبض يدك، وأضرع خدك))، فقال: ((ما كان عزمي إلا أن ألحقكما بأخيكما)). وأنفذ #96# إلى جماعتنا مائدةً، فلما طعمنا بعث إلينا خادماً: ((إن جيشاً كان قد عزم على قتلكما كما قتل أخاكما، فاقتلاه وخذا بثأركما منه، وانصرفا على أمانٍ))، وبعث إلينا خدماً، فتسرعوا إليه فقتل. وانصرفنا إلى منازلنا وقد كفينا عدونا)).(1/95)
62 - وحدثني منصور بن إسماعيل الفقيه، قال:
((خرج رجل نعرفه بتجارةٍ، قصده إلى الهند؛ فرجع إلينا بأنواع من الطيب كثيرةٍ لها قيمةٌ خطيرة، وهو في نهاية السرور، فقلنا له: ((كم ربحت في التجارة التي خرجت بها من عندنا؟))، فقال: ((غرقت وسائر من كان معي، فسلمت بحشاشة نفسي في جزيرة من جزائر الهند، فتلقاني قوم فيها وجاءوا بي إلى ملكهم فقال لي: ((قد نفدت الموهبة الخارجة عنك، فما معك من الموهبة الثابتة عليك؟))، قلت: ((معي الكتاب والحساب))، فقال الملك: ((ما بقي لك، أفضل من الذي ذهب منك، والصواب أن تعلم ابني الكتاب بالعربية والحساب، فأرجو أن نعوضك أكثر مما [فقدته]))، وسلم إلي من ابنه: أذكى صبي وألطفه، فتعلم في مدة يسيرة ما يتعلمه غيره في مدة طويلة.
فلما رأى أنه قد توجه واستحققت منه الإحسان، صار إلي صاحب الملك فقال: معي هدية من الملك إليك، وأدخل إلي بقرة فتيةً، ثم قال: ((أدفعها لك إلى الراعي؟))، فقلت: ((افعل))، وصغر في عيني أمر الملك على عظم شأنه. فما مضى زمنٌ قصير حتى جاء الراعي فقال: ((ماتت البقرة!))، واستقبلني كل خاصة الملك بالتغمم. ثم ظهر في ابنه تزيدٌ، فبعث إلي ببقرة فتية أخرى فرددتها إلى الراعي، فما مضت مدة يسيرة حتى وافى يبشرني فقال: ((قد حملت #97# البقرة!))، فلما انتهى حملها وضعت فهنأني حاشية الملك بأسرهم. ثم جلس الملك مجلساً عاماً، وأحضر التجارة التي رأيتموها معي، ثم قال:
((لم يذهب علي ما يجب لك في تعليم ابني، ولم أبعث بالبقرة الأولى لفضل البقرة عندي، ولكن نزلت بك محنةٌ في البحر أتت على مالك، فامتحنت بالبقرة ما أنت عليه منها. وعلمت أني لو أعطيتك جميع ما ملكت يدي -وقد بقي منها شيءٌ- لضاع منك وهلك لديك. فلما أخبرت أنها ماتت علمت أنك فيها. ثم امتحنت أمرك بالبقرة الثانية، فلما أخبرت أنها قد حملت علمت أنها قد انحسرت عنك، فسررت لك بذلك، واستظهرت بانتظار الولادة. فلما ولدت شخصاً كاملاً صحيح الأعضاء، علمت أنك قد فارقت محنتك. وهذا ما أعددته لك!)). ثم وصلني بطيب قومته عشرين ألف دينار، وحملني في البر فسلمت، وزاد بأرض العرب ثمنه على ما قومته)).
قال منصور: ((فرأيته قد أيسر بعد الخلة والتلفيق في المعاش!)). (1/96)
63 - وحدثني أبو محمد يحيى بن الفضل، قال:
((اختفى عند والدي كاتبٌ للفضل بن يحيى بن برمك عند إيقاع الرشيد بهم، وكان يواصل البكاء عليهم، ولا يسمع الوعظ فيهم، فقال له أبي: ((أنا أرجو أن يخلف الله عليك ولا يضيعك))، فقال: ((والله ما بكائي لما فاتني منهم، وإنما بكائي لجلالة أخطارهم ونفاسة أقدارهم، ولقد كان لصاحبي في الجمعة السالفة مالم أسمع بمثله لقديمٍ ولا حديثٍ، قال لي: ((قد كثر الزوار علينا، فانظر #98# مقدار من انصرف، وارفع إلي عدة من بقي من الزوار لأتقدم في برهم؛ واحذر أن ترفع إلي رجلاً من أهل الشام)) -، لأنه كان يتشيع.
((فخرجت فألفيت من فضل عن المنصرفين أربعة وثلاثين رجلاً. وجاءني رجلٌ من أهل الشام كامل الأدب ظريف الشاهد، فأعلمه ما تقدم به إلي، فقال: ((يا أخي أسألك أن تغالط بي وتثبتني في وسط الجريدة))، ففعلت ذلك. فنظر إلى الأسماء ثم قال: ((ألم أتقدم إليك أن لا يكون في الجريدة شاميٌّ؟))، فقلت: ((وأين الشامي؟)). فوضع -شهد الله- يده على اسمه وحلق، ووقع بيده لكل واحد غير الشامي، فما قصر بأحدٍ عن مائة دينار، وأمرني بإطلاقها وإنفاقها فيهم. فجلست أفرقها، ووافى إلي الشامي، فأريته اسمه خالياً وحدثته حديثه، فقال: ((لو قضي شيء لكان، وأحسن الله جزاءك على ما قدمته من العناية بي))، وانصرف وقد غمني أمره، ولم يبق في الزوار أحدٌ حتى أخذ.
((فأنا في منزلي قريباً من نصف الليل، حتى وافاني رسوله، فصرت إليه، فقال: ((أويت الساعة إلى فراشي، واستعرضت بفكري شغل الزوار وما أمرت به لهم، فحسن عندي، ثم قبحه في عيني حرمان الشامي المسكين، ورأيته نقصاً في مروتي، فتقدم في دفع مقدار ما وصل إلى جماعة الزوار إليه))، فقلت: ((يا سيدي! وصل إلى جماعة الزوار خمسة عشر ألف دينار، وهذا يكفيه ألف دينار!))، فقال: ((والله ما تفي ألف دينار بغمه وقد رأى غيره يأخذ وقيامه عنك محروماً، قم فادفع إليه الخمسة عشر ألف ولا تعذلني، فالخطأ في الجميل أحسن من الصواب في القبيح، وليس يشكر الناس من البر إلا ما أفرط، فأما ما بلغ الحاجة فمنسيٌّ عند أكثرهم، والواجب على من آثر جميل الذكر أن يتغنم أيامه، ولا يسوف بشيء من فعله)).
#99#
قال أبو محمد: ((فبكى والله أبي عند هذا الفصل من حديثه حتى خفت عليه، وقال: ما أجهل الناس بقدر ما فقدوه من هذا الرجل!.
قال الكاتب: ((فخرجت وبثثت الرسل في طلب الشامي حتى وجدوه، فوافاني وقد انحط أكثر لحمه في يومٍ واحد، فقصصت عليه القصة، فحمد الله وأثنى عليه وشكرنا جميعاً، وقبض المال وانصرف على أحسن حال)).(1/97)
64 - وسمعت يوسف بن إبراهيم والدي، وهو يقول:
((كانت بيني وبين أحمد بن محمد بن مدبر سوالف ترعى ويحافظ عليها، فلما تولى مصر رأى حسن ظاهري، فظن ذلك عن أموالٍ جمةٍ لدي، فجد بي في المطالبة، وأخرج علي بقايا لعقودٍ انكسرت من آفات عرضت لضياعها، ولم يسمع الاحتجاج فيها، واستقصر ما أوردته، و [ظنه] إنما كان عن حيلةٍ، فاحتبسني مع المتضمنين. فكان يغدو في كل يوم غلامٌ له يحجبه يعرف بفضل، فيكتب على كل رجل ما يؤديه في يومه، فإن شكا أنه لا يصل إلى شيء، أخرجه فحملت عليه الحجارة، وطولب أعنف مطالبة.
((فلم يزل بي إلحاحه حتى بعت حصر داري فضلاً عما فيها، وعرضت داري فمنعني من بيعها، ووجه إلي: ((فأين يكون حرمك؟)). فوافاني كاتبي في يوم من الأيام فقال لي: ((يشهد الله أنا ما نصل لك اليوم إلى ما يقيمك، فضلاً عن شيء تؤديه!)).
وأمسك فضل غلامه عن الدخول في ذلك اليوم علينا، وتعرف ما يؤديه كل واحد منا. فلما صليت الظهر من ذلك اليوم أنفذ إلي توقيعاً نسخته:
((يا أبا الحسن أعزك الله! قد ألويت بما بقي عليك، وهو سبعة عشر ألف دينار، وآثرنا صيانتك عن خطة المطالبة هذه المدة، فإن أزحت العلة فيها، #100# وإلا سلمناك إلى أبي الفوارس مزاحم بن خاقان أيده الله، وسببت به عليك لأصحابه)).
فكتبت إليه رقعة أحلف فيها: ((إني ما أملك عدد هذا المال حب حنطةٍ: ولو كان لي شيء لصنت به نفسي! فإن رأي السيد رعاية السالف بيني وبينه وستر مخلفي، كان أهلاً لما يأتيه، وإن سلمني إلى هذا الرجل رجوت من الله عز وجل ما لا يخطئ من رجاه)).
((فرجع إلي بعض غلمانه ومعه رقعة مختومة، فاستركبني. وسار بي إلى مزاحم، فلما قرئت عليه الرقعة أدخلني إليه، وعنده كاتب له يعرف بالمروزي فعرفني مزاحم ولم أعرفه-: وكان أبوه في الحارة التي فيها دار أبي بسر من رأى، وربته أم امرأةٍ لي تعرف بميمونة، مولاة أم محمد بنت الرشيد؛ ولا علم لي بشيء من هذا فقال: ((أنت كاتب إبراهيم بن المهدي؟))، قلت: ((نعم! أيد الله الأمير))، قال: ((كنت أراك وأنا صبيٌّ في حارتنا، ووالله ما طلب ابن المدبر أن يروج علي مالاً، وإنما أراد أن أقتلك بالمطالبة. وقد قبلت التسبيب، ورأيت أن أكتب إلى أمير المؤمنين أعرفه رزوحك وقصور يدك عن هذا المال، فإن سهل، وإلا نجمه علي وعلى رجالي حتى يقاضوا به في كل نجمٍ))، ثم قال للمروزي: ((هذا رجل من مشايخي، وأم زوجته ببغذاذ تولت تربيتي، وقد استكتبته على أموري وما أحتاج إلى قبالته من الضياع بمصر، وليس يزيلك عن رسمك))، وأخذ خاتماً قد كان تختم به الكتب بحضرته فأعطانيه. #101# وسألني عن العجوز التي ربته، فقلت: ((هي بمصر معي!))، وانصرفت من عنده إلى منزلي. فكان أول من هنأني بمحلي منه ابن المدبر، ورجعت إلى نعمتي معه في مدة يسيرة)).(1/99)
65 - وحدثني أبو كامل شجاع بن أسلم الحاسب، قال: ((كان إبراهيم بن الأعجمي المهندس قد تقاصرت يده واختلت حاله، فتكلم على شكل من أشكال الهندسة ورفعه إلى من أوصله إلى المأمون، قال أبو كامل: فحدثني سند بن علي فقال:
((سأل المأمون محمد وأحمد ابنى موسى بن شاكر المنجم، عن منزلة إبراهيم بن الأعجمي في الهندسة، فقالا: ((منزلة ضعيفةٌ، وفيه عاميةٌ))، فقال المأمون للسندي بن شاهك: ((أحضرني إبراهيم بن الأعجمي)) فلما أحضره ووقف بين يدي المأمون، تهيبه، فلم تبد منه كلمةٌ، قال: فرأيت انقطاعه قد سر ابني موسى، وقالا للمأمون: ((قد عرفنا أمير المؤمنين أنه ليس بمحل من يدخل إليه، فقلت: ((يا أمير المؤمنين! لولا أنك تبسطنا بمناجاتك والمواظبة عليها، لكنا بمنزلة إبراهيم في الانقطاع من كلامك؛ فأما تقصير هذين به في الهندسة، فإني أشهد سيدي أمير المؤمنين أني من بعض تلامذته، وعليه ابتدأت قراءة الهندسة!))، فأمر بإيصاله إليه مع خاصته، وأجرى عليه ما وسعه)).
((فقلت للسندي: ((متى قرأت الهندسة؟))، فقال: ((امتعضت والله مما #102# لحقه من تعسف هذين الرجلين، فنزلت هذا القول لأرد به الإصغار عنه))، فصلحت حاله، ورجع إلى أفضل ما كان عليه)).(1/101)
66 - وحدثني [أبو كامل] شجاع بن أسلم الحاسب أيضاً، قال:
((كان محمد وأحمد ابنا شاكر -في أيام المتوكل- يكيدان كل من ذكر [بالتقدم] في معرفةٍ. فأشخصا سند بن علي إلى مدينة السلام وباعداه عن المتوكل. ودبرا على الكندي حتى ضربه المتوكل، ووجها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها، فأفرداها في خزانة سميت الكندية، ومكن هذا لهما استهتار المتوكل بالآلات المتحركة.
وتقدم إليهما في حفر النهر المعروف بالجعفري، فأسندا أمره إلى أحمد بن كثير الفرغاني -الذي عمل المقياس الجديد بمصر، وكانت معرفته أوفى من توفيقه، لأنه ما تم له عمل قط -فغلط في فوهة النهر وجعلها أخفض من سائره، فصار ما يغمر الفوهة لا يغمر سائره، فدافع محمد وأحمد ابنا شاكر في أمره. واقتضاهما المتوكل، فسعي بهما إليه فيه. فأنفذ مستحثًّا في إحضار سند بن علي من مدينة السلام، فوافى.
فلما تحقق محمد وأحمد ابنا شاكر أن سنداً قد شخص، أيقنا بالهلكة ويئسا من روح الحياة.
فدعا المتوكل سنداً وقال [له]: ما ترك هذان الرديئان شيئاً من سوء القول إلا وقد ذكراك عندي به، وقد أتلفا جملةً من مالي في هذا النهر، فاخرج إليه حتى تتأمله وتخبرني بالغلط فيه، فإني قد آليت على نفسي -إن كان الأمر على #103# ما وصف- أن أصلبهما على شاطئه)). وكل هذا بعين محمدٍ وأحمد وسمعهما، فخرج وهما معه.
((فقال محمد [بن موسى لسند]: يا أبا أحمد ((إن قدرة الحر تذهب حفيظته، وقد فزعنا إليك في أنفسنا التي هي أنفس أعلاقنا، وما ننكر أنا قد أسأنا، والاعتراف يهدم الاقتراف، فتخلصنا كيف شئت)).
قال لهما: ((أنتما تعلمان ما بيني وبين الكندي من العداوة والمباعدة، ولكن الحق أولى ما اتبع. أكان من الجميل ما أتيتما إليه في أخذ كتبه؟ والله لا ذكرتكما [بصالحةٍ] حتى ترداها عليه!)). فتقدم محمد بن شاكر في حمل الكتب إليه، وأخذ خطه باستيفائها. فوردت رقعة الكندي أنه تسلمها عن آخرها، فقال لهما: ((قد وجب لكما علي ذمامٌ برد كتب هذا الرجل، ولكما علي ذمامٌ بالمعرفة التي لم ترعياها في؛ والخطأ في هذا النهر يستتر مدة أربعة أشهرٍ بزيادة دجلة، وقد أجمع الحساب على أن أمير المؤمنين لا يبلغ هذا المدى، وأنا أخبره الساعة أنه لم يقع خطأ في النهر إبقاءً على أرواحكما، فإن صدق المنجمون أفلتنا الثلاثة، وإن كذبوا -وجازت مدته حتى تنقص دجلة وينضب النهر- أوقع بنا ثلاثتنا)).
((فشكر محمد وأحمد هذا القول منه، واستتر الأمر واسترقهما به، ودخل إلى المتوكل فقال [له]: ((ما غلطا))، وزادت دجلة، وأجرى الماء فيه، واستتر حال النهر، وقتل المتوكل بعد شهر [ين] من إجرائه. وسلم محمد وأحمد بعد شدة الخوف مما توقعا)).(1/102)
67 - وحدثني الحسن بن مسلم الأقريطشي -ورأيته بعد أن علت سنه وبلغ المائة سنة، وكان صحيح التمييز، سليم الحواس- قال:
((ألح غزونا على الروم، ونالهم منا مكروهٌ عظيم، فوجد متملك الروم من هذا، ونذر أن يخرب أقريطش ولو أنفق ذخائر مملكته. فنظر إلى راهب محبوب تتعالم الروم زهادته، فأنزله من متعبده، وضم إليه أكثر جيوشه، فوافى جمعٌ لم يحط بأقريطش مثله قط. ففزعنا إلى غلق الحصن، وتسرع الروم إلى بناء مساكن لهم، وخرجوا من المراكب، وغلبونا على ميرة البلد وما يكون في جواره. واشتد الحصار، ونزع السعر، وتحلق المأكول، وشاع الجهد.
ثم زادت المكاره حتى أكل الناس ما مات من البهائم جوعاً، وأجمعوا على أن يفتحوا الباب له، فقال لهم شيخ: ((إني قد أراكم قد حرمتم التوفيق في قوتكم وضعفكم! والصواب أن تقبلوا مني ما أشير به عليكم!))، قالوا: ((قل))، قال: ((اتركوا لله قبيح ما يحملكم عليه تظاهر النعمة والسلامة، وأخلصوا له إخلاص من لا يجد فرجه إلا عنده، وافصلوا صبيانكم من رجالكم، ورجالكم من نسائكم)). فلما ميزهم هذا التمييز صاح بهم: ((عجوا بنا إلى الله!))، فعجوا عجةً واحدةً، وبكى الشيخ وبكى أكثر الناس. ثم قال: ((عجوا أخرى، ولا تشتغلوا بغير الله))، فعجوا عجةً أعظم من الأولى، وبكى الناس أيضاً. ثم #105# عج الثالثة وعج الناس معه، وقال: ((تشرفوا من الحصن، فإني أرجو أن يكون الله قد فرج عنا)).
فحلف لي الحسن: ((إني تشرفت مع جماعةٍ فرأيت الروم قد قوضوا [رجالهم]، وركبوا مراكبهم. وفتح باب الحصن، فوجدوا قوماً من بقاياهم فسألوهم عن حالهم: فقالوا: ((كان عميد الجيش بأفضل سلامةٍ إلى اليوم، حتى سمع ضجتكم في المدينة فوضع يده على قلبه وصاح: ((قلبي! قلبي!))، ثم طفئ)). فانصرف من كان معه إلى بلد الروم. وخرجنا عن الحصن، فوجدنا في تلك الأبنية من القمح والشعير ما وسع المدينة وأعاد إليها خصبها، [وكفينا] جماعتهم من غير قتال)).(1/104)
68 - قال أبو جعفر:
((ولما غلب ابن الخليج على مصر ونواحيها، لم يكن بمصر أسوأ قدرةً على أسباب أبي [علي] الحسين بن أحمد الماذرائي من أحمد بن سهل بن شنيف، فلم يمض شهور حتى انهزم ابن الخليج وظفر به وحمل إلى العراق. ودخل بعد ذلك بشهور أبو العباس أحمد بن محمد بن بسطام إلى مصر متولياً بالأمانة على الحسين بن أحمد، وكاشفاً لما جرى عليه أمر الضياع بعد ابن الخليج وأصحابه.
فقرر أبو علي أمر المتضمنين بالحضرة عند أبي العباس، فعرض بسهل بن شنيف ولم يدع سوءاً إلا ذكره به. فقال أبو العباس: ((سيعلم ما يجري عليه مني!)). واتصل [الخبر] بسهل بن شنيف فاستطير قلبه وكسف باله. وأحضر مع جماعةٍ أجلبوا من الكتاب مع ابن الخليج، فلما دخلوا عليه كاد #106# يقوم إلى سهل بن شنيف، ثم رفعه حتى كان أقرب إليه من أخص أصحابه. ودعا ابن حبيش فساره، فنظر إلى سهل، وقال لأبي العباس: ((الأمر على ما وصفت))، ثم أطلق سهلاً من ساعته إلى منزله. فسأله أبو علي: ((هل تعرفه قبل هذا؟))، فقال: ((لا والله! ولكنه ورد علي منه أشبه الناس بأبي.
وأفرخ روع سهل بتوفيق الله ولطفه، وما زال حفياً به حتى مات)).(1/105)
69 - قال:
((وكنت قد عملت في أيام ابن الخليج لحماية ضياع كانت في يدي. فلما تمخضت دولته اختفيت ونهبت، وخفت الإيقاع بي، واعتور ضياعي العمال، وأضاقت حالي، فاجتمع الخوف والفاقة. فرأيت -بعد قدوم أبي العباس بن بسطام- فيما يرى النائم، يوسف بن إبراهيم والدي، وأنا أشكو إليه خلتي وخوفي، فكأنه يقول: ((أنا أتكلم في أمرك حتى تعود إلى محبتك)). فلما أصبحت قصصت الرؤيا على من كنت مختفياً عنده، وكان حاذفاً بالعبارة، فقال: ((يجري لك فرج بذكر أبيك)).
وطلب أبو العباس بن بسطام الدستورات القديمة ليعتبر منها عبر الضياع. فأخرج إليه ما كان لسنة خمسين ومائتين وما قبلها، فرأى فيها اسم والدي في ضياع كثيرة، فقال: ((من هذا يوسف بن إبراهيم؟)) فقال له أبو علي: ((هذا صاحب إبراهيم بن المهدي، ورضيع المعتصم!))، قال أبو العباس: #107# ((وصاحب كتاب الطبيخ؟))، قال أبو علي: ((نعم!))، قال: ((فله ولدٌ؟))، قال: ((نعم في ناحيتي!))، قال: ((فخذ لي منه كتاب الطبيخ، وكتاب أخبار إبراهيم بن المهدي، وصر به إلي حتى يقرأهما علي))، قال: ((أفعل)).
وكان إسحاق ين نصير يعرف موضعي، فقال له: ((أحتاج إلى أحمد بن يوسف))، قال: ((تؤمنه، وعلي إحضاره!)) فكتب له أماناً بخطه، وحلف فيه ألا يسوءني ولا يطالبني. فخرجت إليه وأحضرته الكتابين. وفرج الله عني بأضعف سبب)).(1/106)
70 - وحدثتني أم آسية -قابلة أولاد خمارويه بن طولون، وكان لها دينٌ ومذهب جميلٌ، ومحلٌّ لطيفٌ من خمارويه. وقد تذاكرنا لطف الله عز وجل في أرزاق عباده، وحسن الدفاع عنهم-: أنه تزوجها وأختها أخوان، فأقبلت حال زوج أختها وأدبرت حال زوجها، قالت: وتوفي زوجها بأسوأ حالة، وخلف لها بناتٍ، وتعذر عليها تجهيزه من اختلاله. وتوفي زوج أختها، وقد خلف من العين والمساكن والأواني لولد أختها.
قالت: ((فكنت أجاهد في مؤنة ولدي، وإذا وقف أمري، صرت إلى أختي فقلت: ((أقرضيني كذا وكذا))، استحياءً من أن أقول لها: ((هبي لي .. )). ودخل شهر رمضان، فلما مضى نصفه، اشتهوا علي صبياني حلوى في العيد، فصرت إلى أختي فقلت لها: ((أقرضيني ديناراً أعمل به للصبيان حلوى في العيد))، فقالت: ((يا أختي! تغيظيني بقولك: ((أقرضيني))، وإذا قرضتك من أين تعطيني؟ أمن غلة دورك أو بستانك؟ لو قلت: ((هبي لي)) كان أحسن)). فقلت لها: ((أقضيك من لطف الله تعالى الذي لا يحتسب، وجوده الذي يأتي من حيث لا يرتقب!)). فتضاحكت وقالت: ((يا أختي! هذا والله من المنى، والمنى بضائع النوكى!)). فانصرفت عنها أجر رجلي إلى منزلي.
#108#
وكان في جوارنا خادم أسود لبنت اليتيم امرأة خمارويه، فلما بلغت حارتنا قال لي: ((في جوارنا امرأةٌ تطلق قد أوجعت قلبي ادخلي إليها فليس لها قابلةٌ)). قالت أم آسية: ((والله ما عانيت ممخوضةً قط، فدخلت إليها، فمسحت جوفها، وأجلستها كما كان القوابل يجلسنني في طلقي، فولدت من ساعتها. فلما أمسك صياحها، جاء الخادم يسأل عنها، فقلت: ((قد ولدت!))، فعجب من سرعة أمرها، وظن أن هذا شيئاً قد اعتمدته بحذق صناعةٍ، ولطفٍ في مهنةٍ. فمضى إلى سته بنت اليتيم -وكان مقرباً بأول ولدٍ حمل لأبي الجيش، وقد عرض عليها قوابل استثقلتهن-، فقال: ((في جوارنا قابلةٌ أحضرناها لمرأةٍ في حارتنا تطلق، فوضعت يدها على جوفها فسقط ولدها!)) ووصفني بما لا يوجد في قدرة أحدٍ إلا بالله عز وجل! فقالت للخادم: ((إذا كان غداً فجئني بها))، فأتى الغلام ودعاني إلى مولاته، فأجبت بانشراح صدر وثقةٍ بالله تعالى. فاستخفت روحي وقالت: ((إلى التمام تقدير الله تبارك وتعالى)). ثم شكت مغساً تجده المقرب، فأدخلت يدي في ثيابها ومسحت جوفها، وعججت إلى الله تعالى في سري بتوفيقي، وكنت أدعو -ومن حضر من أهلها يتوهم أني أرقي- فسكن ما وجدته وتبركت بي. ودخل إليها خمارويه وقال: ((ما وجدتي)) فقالت: ((مغساً في جوفي، فوضعت قابلةٌ أردتها يدها عليه، فزال ما أجده!))، وأخرجتني إليه -وكان قريباً من حرمه-، فقال لي: ((أرجو أن يخلصها الله عز وجل ببركتك)) ,
قالت أم آسية: ((ودخلنا في العشر الأواخر من شهر رمضان، وقد تمسكت من الإخلاص لله عز وجل بما لا يصل إليه من ساح في الجبال، خوفاً من شماتة #109# أختي بي. فلم تمض إلا ثلاثة أيام حتى مخضت، فأجلستها على كرسي الولادة -وكان مقدار طلقها ساعتين-، فولدت ابناً أسهل ولادةٍ، وأبو الجيش يقوم ويقعد، ويذهب ويجيء. فلما ولدت -وكانت تتوقع من الولادة أمراً عظيماً- فلما ألقته قالت لي: ((هذا الطلق؟))، قلت: ((نعم!)) فقبلت -يعلم الله- عيني من الفرح. وصاح خمارويه: ((أخبريني يا مباركة بخبرها))، فقلت: ((وحياة الأمير إنها في عافية، وقد ولدت غلاماً سوي الخلق بحمد الله)). فوجه إلي بألف دينار، وألح أبو الجيش في النظر إليها لفرط إشفاقه عليها، فاستوقفته إلى أن نقلت حوائج الولادة وقلت لها: ((يا سيدتي! اضحكي في وجهه كما تريه)). فلما دخل إليها ضحكت في وجهه، فتقدم بصدقة بمالٍ كثير عنها وعن ولده)).
وقالت لي أم آسية: ((لما كان يوم الأسبوع -ووقع قبل العيد بيوم واحدٍ-، أمرت لي بخمس مائة دينار، وحصل من أتباعها ألف دينار، فحصل لي ألفان وخمس مائة دينار. وخلعت علي وسائر حشمها أكثر من ثلاثين خلعةً، وحمل إلي مما أعد للعيد ثلاث موائد خاصة. وانصرفت إلى منزلي، فأرسلت إلى أختي مائدةً، ووافتني مهنئة، وقد تقاصر طولها، فأريتها ما حصل لي من المال والخلع والطيب وقلت لها: ((يا أختي! أنكرتي علي قوله: ((أقرضيني)) ومن هذا كنت أقضيك. فلا تستصغري من كان الله مادته، وعليه مدار ثقته وتعويضه)).
واكتسبت هذه المرأة بمحلها من أبي الجيش مالاً كثيراً، وقضت لجماعةٍ من وجوه البلد حوائج خطيرة. (1/107)
71 - وحدثني شجاع بن أسلم الحاسب، قال: قلت لسند بن علي: ((من كان سببك إلى المأمون، حتى اتصلت به، وكنت [في جلسائه] من العلماء؟)). فقال: ((أحدثك به:
#110#
((كان والدي يتكسب بصناعة أحكام النجوم مع قومٍ من أسباب السلطان يودونه ويحبونه. وتعلق قلبي بعد فراغي من قراءة كتاب أقليدس بكتاب المجسطي. وكان -في أيام المأمون بسوق الوراقين- رجلٌ يعرف بمعروفٍ، يورق هذا الكتاب ويبيعه -بعد تكامل خطه وأشكاله وتجليده- بعشرين ديناراً فسألت والدي ابتياعه لي، فقال: ((أنظرني يا بني إلى أن يتهيأ لي شيء آخذه، إما من رزقٍ وإما من فضل، وأبتاعه لك.
وكان لي أخٌ لا يشتهي مما [تقدمت] أنا فيه من العلم شيئاً؛ إلا أنه كان يخدم أبي في حوائجه والإشفاق عليه. فلما سوفني أبي بالكتاب وطالت المدة فيه، ركبت معه لأمسك دابته في دخوله إلى من يدخل إليه، ولي إذ ذاك سبع عشرة سنة. فخرج إلي غلمان من كان عنده فقالوا: ((انصرف، فقد أقام أبوك عند مولانا)). فمضيت بالدابة فبعتها بسرجها ولجامها بأقل من ثلاثين ديناراً، ومضيت إلى معروفٍ فاشتريت الكتاب بعشرين ديناراً.
وكان لي بيتٌ أخلو فيه، وجئت إلى أمي فقلت لها: ((قد جنيت عليكم جنايةً))، واقتصصت عليها القصة، وحلفت لها: إن شحذت أبي علي حتى يمنعني من النظر في الكتاب لأخرجن عنهم إلى أبعد غاية، ورددت عليها فضل ثمن الدابة، وقلت لها: ((أنا أغلق باب هذا المنزل الذي لي، وأرضى منكم برغيفٍ يلقى إلي كما يلقى إلى المحبوس، إلى أن أقرأه جميعه)). فتضمنت لي بتسكين فورته، ودخلت البيت وأغلقته من عندي. فمضى أخي إلى والدي في الموضع الذي كان فيه، فأسر إلي الخبر، فتغير وجهه، وتلجلج في حديثه، فقال له من كان عنده: ((قد شغلت قلبي وقلب من حضر بما ظهر #111# منك، فبحقي عليك إلا أخبرتنا لم ذا؟))، قال فحدثته، فقال: ((هذا والله يسرنا في ولدك؛ فاتعد فيه بكل جميل))، ثم استحضر من إسطبله بغلاً أفره من بغل أبي، وسرجاً خيراً من سرجه، وقال لأبي: ((اركب هذا البغل، ولا تكلم ابنك بحرفٍ)).
قال سند: ((وأقمت ثلاث سنين كيومٍ واحدٍ، لا يرى لي أبي صورة وجهٍ، وأنا مجدٌّ حتى استكملت كتاب المجسطي. ثم خرجت وقد عملت أشكالاً مستصعباتٍ ووضعتها في كمي. وسألت: ((هل للمهندسين والحساب موضعٌ يجتمعون فيه))؛ فقيل لي: ((لهم مجلس في دار العباس بن سعيد الجوهري ترب المأمون، يجتمع فيه وجوه العلماء بالهيئة والهندسة)). فحضرته، فرأيت جميع من حضر مشايخ، ولم يكن فيهم حدثٌ غيري، لأني كنت في العشرين سنة.
((فقال العباس: ((من تكون؟ وفيم نظرت؟)) فقلت: ((غلام يحب صناعة الهندسة والهيئة))، قال: ((ما قرأت؟)) قلت: ((أقليدس والمجسطي))، قال: ((قراءة إحاطة؟))، قلت: ((نعم)). فسألني عن شيء مستصعب في كتاب المجسطي، كان تفسيره في الأوراق التي كانت في كمي، فأجبته. فعجب وقال: ((من أفادك هذا الجواب؟))، قلت: ((استخرجته قريحتي، وما سمعته من غيري، وهو وغيره فيما مر بي في ورقٍ معي))، قال: ((هاته)). فلما رآه اغتاظ واضطرب، ثم قال لبعض من بين يديه من غلمانه: ((السفط))، فجيء به، فنظر إلى خاتمه فوجده بحاله، ثم فضه وأخرج منه كراسةً فجعل يقابل بها الورق الذي كان معي، فكان الكلام فيما معه أحسن رصفاً من الكلام الذي معي. والمعنى واحد.
#112#
((فقال: ((هذا شيءٌ توليت تبيينه من كتاب المجسطي، فلما أحضرتنيه توهمت أنه سرق مني، حتى تبينت اختلاف اللفظين مع اتفاق المعنى)). ثم أمر أن تقطع لي أقبية، وترتاد لي منطقةٌ مذهبة، ففرغ من جميع ذلك في تلك الليلة، ودخل بي إلى المأمون، وأمرني بملازمته؛ وأجرى لي أنزالاً ورزقاً. (1/109)
72 - وحدثني أحمد بن أبي يعقوب، قال: حدثني أبي:
((أن جبريل بن بختيشوع كان يخلف الأطباء في دار الرشيد وكانت به نزاهةٌ، وبه فاقة شديدةٌ، ورزقه يومئذ ثلاثمائة درهم في كل شهر. فوقع الرشيد في غشية لم يتقدمها علة، فأجمع الأطباء على أنه تالفٌ، وأخبر ابن يختيشوع، فقال: ((ما له إلا علاج واحد وهو أن يحجموه))؛ فقال محمد الأمين: ((أخاف أن أخاطر به))؛ ثم قال: ((قد أيسنا منه، والصواب أن نمتحن هذا فيه)). فأحضروا الحجام فجمع الدم في أخدعيه وهو مستلقٍ؛ ثم أخرج من دمه محجمتين، ففتح الرشيد عينيه، واستدعى طعامه، وأكل ونام.
فلما انتبه اقتص عليه المأمون ما جرى عليه [أمره، وأذن] للداخلين في تهنئته بالسلامة. فلما اكتملوا قال لهم: ((يا معاشر الأمراء والأطباء! إنما ارتبطتكم لحراسة نفسي، وقد حدث علي حادثٌ لم يغن عني فيه بعد الله عز وجل إلا هذا الغلام! ونصيبه مني نزر، ونصيبكم وافرٌ. فاعدلوا ميل المملكة بأن يجعل له كل رجل منكم نصيباً من إنعامي عليه وإحساني إليه، حتى يكون له من جماعتكم ما يوازي ما تقدم عليه به في حسن الدفاع عني)).
#113#
فتسرع الناس إلى جبريل فأعطوه الضياع والدور والأموال. وما برح حتى كان أيسر من في المملكة، وتربت النعمة لديه وولده حتى وازت نعم الخلفاء. (1/112)
73 - وحدثني عمرو بن محمد بن عمرو بن عثمان، عن أبيه، عن جده، قال:
((كان لي مجلس في ديوان الإنشاء قليل الجدوى عليّ، وحالي حالٌ لا تنهض بما يحتاج إليه المقتصد، وقد لزمتني يمينٌ لا كفارة لها في ترك النبيذ. فكان جماعة الكتاب يجلسون ما جلس الوزير -وهو يومئذ الفضل بن الربيع-، فإذا انصرف إلى منزله، انصرفوا إلى ما عقدوا عليه أمرهم من الاجتماع، وأقيم وحدي في الديوان إلى أن يغلق.
فبكرت إليه في يومٍ في الأيام، وجاءت مطرة تطرب الوزير فيها إلى الشرب، لتشاغل الرشيد في دعوة لزبيدة، فلم يبق في ديوان الإنشاء غيري. فإني لجالس حتى دخل إلي خادمٌ من خاصة الرشيد، فأخذ بيدي، وأدخلني إلى الرشيد. فلما مثلت بين يديه، ((قال اقرأ هذا الكتاب!))، فقرأته، فبينته وأعربته فقال: ((أجب عنه بين يدي))، فأجبت عنه بأحسن معانٍ وأجود لفظٍ. فقال: ((اقرأه علي))، فقرأته، فقال لمسرور الكبير: ((ألف دينار)). فجاء بها، فقال: ((ادفعها إليه، وقل للفضل يصرف إليه ديوان الإنشاء. فهو أحق به ممن غادره)). ثم قال لي: ((خذ هذا المال، وسأنظر لك في الوقت بعد الوقت ما يزيد في اصطناعي لك، فلا يفسد الغني ما أصلحته الفاقة من حسن ملازمتك، واستزدني أزدك)).
قال عمرو: ((فاجتهد الفضل بن الربيع أن يشرك بيني وبين من كان يتولى #114# الإنشاء، فلم يطلق له الرشيد ذلك وأفردني به، حتى فرقت الأيام بيننا)).(1/113)
خاتمة
قال أبو جعفر قال بزرجمهر: ((الشدائد قبل المواهب، تشبه الجوع قبل الطعام: يحسن به موقعه، ويلذ معه تناوله)).
وقال أفلاطن؛ ((الشدائد تصلح من النفس بمقدار ما تفسد من العيش، والتترف يفسد من النفس بمقدار ما يصلح من العيش)).
وقال: ((حافظ على كل صديق أهدته إليك الشدائد، واله عن كل صديق أهدته إليك النعمة)).
وقال أيضاً: ((الترفه كالليل: لا تتأمل فيه ما تصدره أو تتناوله، والشدة كالنهار: ترى فيها سعيك وسعي غيرك)).
وقال أردشير: ((الشدة كحلٌ ترى به ما لا تراه بالنعمة)).
وملاك مصلحة الأمر في الشدة شيئان: أصغرهما قوة قلب صاحبها على ما ينوبه، وأعظمهما حسن تفويضه إلى مالكه ورازقه.
وإذ صمد الرجل بفكره نحو خالقه، علم أنه لم يمتحنه إلا بما يوجب له مثوبة، أو يمحص عنه كبيرةً، وهو مع هذا من الله في أرباحٍ متصلةٍ، وفوائد متتابعة. (1/114)
فأما إذا اشتد فكره تلقاء الخليقة، كثرت رذائله، وزاد تصنعه، وبرم بمقامه فيما قصر عن تأميله، واستطال من المحن ما عسى أن ينقضي في يومه، وخاف من المكروه ما لعله أن يخطئه.
وإنما تصدق المناجاة بين الرجل وبين ربه لعلمه بما في السرائر، وتأييده البصائر. وهي بين الرجل وبين أشباهه كثيرة الأذية، خارجة عن المصلحة.
ولله تعالى روح يأتي عند اليأس منه يصيب به من يشاء من خلقه، وإليه الرغبة في تقريب الفرج وتسهيل الأمر، والرجوع إلى أفضل ما تطاول إليه السؤل؛ وهو حسبي ونعم الوكيل.
تم الكتاب والحمد لله وحده وصلاته على سيدنا محمد النبي وعلى آله وعترته الطاهرين وسلامه.(1/115)