اللمحة اللطيفة في ذكر أحوال كسوة الكعبة الشريفة
الإمام الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني
تحقيق
الدكتور محمد علي فهيم بيومي
مكتبة زهراء الشرق
الطبعة الأولى
1429 هـ - 2008 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، وأقر قواعده الإبراهيمية على أشرف أساس، وأطاف به من الملائكة المكرمين الأنواع والأجناس، وأفاض عليهم من الأنوار الإلهية أشرف لباس، وخصه بالحجر(1/81)
المكرم الذي يشهد يوم القيامة لمقبله، وكذا يشهد إن شاء الله المستلم والماس، والحجر المعظم بإسماعيله الصادق الوعد من غير إلباس، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الناجم من شجرة عدنان عن أشرف غراس، والظافر ببطن مكة بعيدة الأوثان وسدنة الأرجاس، وعلى آله الذين هم فروع أصله الباقي فلا غرو إن صح إلحاقهم بدوحته الزاكية بالإجماع والقياس وعلى أصحابه الذين(1/82)
غدوا به نجوم هداية لمنير قبس أو مثير التباس، صلاة دائمة المزيد ما تعاقبت الأزمان وتوالت الأنفاس.
وبعد
فإن الله لما جعل طائفة من هذه الأمة ظاهرين بالحق إلى يوم القيامة متظاهرين بإقامة شعائر الشرائع رجا حسن الإقامة في دار المقامة، متتبعين آثار السلف الصالح، مثابرين على تشييد عقود المصالح، مقبلين على استماع النصائح، مسارعين إلى اقتناء المثوبات ولا سيما فيما يعم الطايف والعاكف والغادي والرائح، وكان الاهتمام بأمر الكعبة الشريفة من المتجر الرابح، والاحتفال بخلوص المال المنفق على كسوتها من أنجح المبار وأبر المناجح، وتطهيرها على أدناس المكوس مما ينور الضريح ويبيض الصحاف ويبصر الصفائح، أراد الله -وله المنة- أن تكون هذه المبرة مدخرة في موازين صالح(1/83)
المؤمنين السلطان الملك الصالح، خالدة في مآثر دولته الغراء ليغدو في الجنات بين أسرته الملوك المكرمين كالنجم الزاهر أو الكوكب اللائح، وذلك بسفارة من جعله الله للملك زماناً للإسلام نظاماً وللدين قواماً، وفي الحرب ليثاً وضرغاماً وفي السلم برداً وسلاماً، وفي العلم قدوة وإماماً، وفي الحكم حساماً، لأدواء الحيف حساماً، وفي العلم لكنوز دقائقه واصلاً ولجواهر أهله نظاماً، وهو المقر الأشرف، العالي، المولوى، السيدي، الأميري، العالمي، العادلي، العاملي، الكافي، المخدومي، السيفي، شيخ، كافل السلطنة المعظمة، وحافظ المملكة المكرمة، أعز الله تعالى أنصاره، وأعظم في الدارين مساره ومباره، فاقتضى حسن الرأي الشريف والتدبير المنيف أن لاستعمالات حلتها(1/84)
الشريفة، من خواص الأموال، وخالص المتحصل الحلال من القرى المعمورة، والأطيان والأراضي المزروعة، التي لا يدخل متحصلاتها مقرر مكس، ولا حقوق ديوان مما أفاء الله على مولانا السلطان من أراضي مملكته الموروثة عن آبائه الكرام، والبلاد الإسلامية التي جعل الله مصارف مصالحها مما بيد الإمام، وهذه منقبة لم يسبقه إليها سابق، ولا يلحقه مع ابتدائها وابتكارها لاحق، وإن كانت الملوك على تعاقب الأزمان وتوالي الأوان كانت تتنافس على هذه القربة، وتنافس من زاحمها أو سامها في اقتناء هذه الرتبة -أعني نفس(1/85)
الكسوة- وأن يكون لبعضهم ببعض فيها أسوة، أما الجمع بين حل المال وجميل العمل، فهذا لم تطمح إليه نفس متمنٍ، ولا انتهى إليه أمل، وهذه منة من الله علا وجل، جمعها الله لمن كان من أمر آخرته على وجل، فأراد خادم هذا البيت العريق في الولاء الحقيق برفع الدعاء يجمع مختصراً لطيفاً حجمه، كثيراً علمه، ينبه فيه على ما احتوت عليه هذه القربة من المفاخر، ويحقق قول من قال: كم ترك الأول للآخر، أذكر فيه ما وقع في أمر الكسوة الشريفة في الصدر الأول، ومن افتخر بها من الملوك الذين على فعلهم المعول؛ جعلته مختصراً غير مطول، حذفت أسانيد أحاديثه كي لا يمل، واقتضبت قصصه ليقع من نفس مطالعه في أسعد محل، وقصدت بذلك استكثار المحسن من العرب، وبث مآثر هذا الملك الذي قيض الله له من إذا نسي ذكره وإذا ذكر أعانه فهو إلى الخيرات الوصلة والسبب وسميته:(1/86)
((اللمحة اللطيفة في ذكر أحوال كسوة الكعبة الشريفة))
وجعلت مقاصده في عشرة أبواب:
الباب الأول: في أول من كسى الكعبة الشريفة.
الباب الثاني: في سبب كسوتها أولاً.
الباب الثالث: فيما كساها به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.
الباب الرابع: فيمن كساها الخز والديباج.(1/87)
الباب الخامس: في الأزمنة التي كانت تكسى فيها.
الباب السادس: فيمن خلقها وطيبها.
الباب السابع: في أن كسوتها كانت أولاً من السنن الشرعية.
الباب الثامن: في أن كسوتها الآن من الواجبات المرعية.
الباب التاسع: في أن إنفاق المال على كسوتها أصل من أصول الشريعة.
الباب العاشر: فيما يفعل في مخلق الكسوة وما حكمها شرعاً.
ومن هنا أفتتح الأبواب وأسأل الله التوفيق لصوب الصواب، إنه أعظم من دعي وأكرم من أجاب.(1/88)
الباب الأول: ((في أول من كسا البيت الشريف))
قال الإمام أبو هلال الحسن بن علي العسكري في كتاب الأوائل له بسنده عن الواقدي. قال: حدثني حرام بن هشام عن(1/89)
أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسب أسعد الحميري وهو تبع، وقال: إنه أول من كسا البيت، وزاد غيره فقال: هو أبو كرب، وهو أول من جعل للبيت مفتاحاً وقال مفتخراً:
وكسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء معضداً وبروداً(1/90)
ونطاعاً من الخصاف فرشنا ... وجعلنا لبابه إلا قليلاً
ونحرنا بالشعب سنة ألف ... فترى الناس نحوهن ورداً
وخرجنا منه نؤم سهيلاً ... قد رفعنا لواءنا المعقودا
وقال: فهاتان منقبتان للعرب ليس لهما أخت ولا شبه
وعن محمد بن إسحاق صاحب المغازي أنه قال: أسعد أبو كرب وهو تبع الأخير ابن(1/91)
كلكئ كرب بن زيد، وهو تبع الأول وساق نسبه إلى يعرب بن قحطان، وفيه تقول سبيعة بنت الأجب:(1/92)
ولقد غزاها فكسا بنيتها الخبير
وأذال زي ملكه فيها فأوفى بالنذور
وذكر ابن قتيبة أن: هذه القصة كانت قبل الإسلام(1/93)
بسبعمائة سنة، وفي معجم الطبراني يرفعه إلى سهل بن سعد الساعدي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تسبوا تبعاً فإنه أسلم))، قال: ولا يروى عن سهل إلا بهذا الإسناد تفرد ابن(1/94)
لهيعة، ومن مغايض الجوهر في أنساب حمير أنه كان يدين بالزبور، وفي كتاب الكلبي: تبع بن حسان بن(1/95)
تبع، وهو تبع الأصغر، وهو آخر التبابعة، والذي كسا البيت وطاف وخلق كما فعل جده تبع الأوسط، وكسا البيت الملا والخز والديباج، قال: والأول أصح، وهو الذي عليه علماء اليمن، وذكر ابن أبي الأزهر في تاريخه أن أول من كسا الكعبة عدنان بن أدد، وقال(1/96)
الأزرقي عن الواقدي يرفعه إلى النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت رضي الله عنه: رأيت على الكعبة قبل الدريد كسا، ومطارف(1/97)
خز خضراً وصفراً وكراراً، وأكسية من أكسية العرب، وعن عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم السلمي قال: نذرت أمي(1/98)
بدنة تنحرها عند البيت وجللتها شقتين من شعر ووبر، فنحرت البدنة وسترت الكعبة بالشقتين، وعن ابن جريج عن ابن أبي مليكة قال: بلغني أن الكعبة كانت تكسى في الجاهلية كسىً شتى، كانت البدن تجلل الحبر، والبرود، والكسا، كل هذا يعدي إلى الكعبة من خز،(1/99)
وأنماط، فتكسى الكعبة ويجعل ما بقى في خزانتها، فإذا بلى منها شيء أخلف عليها غيره، وعن ابن أبي مليكة، كانت قريش في الجاهلية تتساعد في كسوة الكعبة، ويضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها من عهد قصي بن كلاب حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان(1/100)
يختلف إلى اليمن للتجارة، فأثري في المال فقال لقريش: أنا أكسو الكعبة سنة وحدي، وجميع قريش تكسوها سنة، فكان يفعل ذلك حتى مات، وكان يأتي بالحبرة الجيدة فيكسو الكعبة، وسمته قريش بالعدل، لأن فعله وحده عدل فعل قريش كلها، وسموه إلى اليوم العدل، ويقال لولده، ولد العدل، فدلت هذه النقول بأسرها على أن الافتخار بكسوة هذا البيت الشريف لم يزل مطلوباً في الجاهلية والإسلام.(1/101)
الباب الثاني: ((في سبب كسوتها))
قال محمد بن إسحاق في كتابه في السيرة أن تبعاً الأخير وهو تبع بن كلكي كرب كان هو وقومه يعبدون الأوثان، وأنه توجه إلى مكة حتى إذا كان بين عسفان، وأمج أتاه نفر من هذيل بن مدركة، قالوا: ألا ندلك على بيت مال داثر؟ قال: بلى، قالوا: مكة، وإنما أرادوا هلاكه لعلمهم بأنه من قصدها(1/102)
بسوء هلك، فقال له: حبران كانا معه، إنما أراد هؤلاء هلاكك، قال: فيما تأمراني قالا: تضع عنده ما يصنع أهله تحلق وتطوف وتنحر ففعل، وأقام بمكة ستة أيام ينحر للناس ويطعمهم، فأري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف،(1/103)
وهو مما يظفر [به] من الخوص، فكساه المعافر؛ وهي ثياب يمانية ثم أري أن يكسوها أحسن من ذلك فكساه الملا، والوصايل، فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وعند الأزرقي عن ابن جريج أنه أول من كساه كسوة كاملة، أري في المنام أن يكسو الكعبة فكساها(1/104)
الأنطاع، ثم أري أن يكسوها أحسن من ذلك، فكساها ثياب حبرة من عصب اليمن، ثم كساها الناس في الجاهلية، وقال السهيلي في الروض الأنف: أن تبعاً كسا البيت الأنطاع والمسوح، فانتفض البيت فزال ذلك عنه، وفعل ذلك حين كساه الخصف، فلما كساه الملا والوصايل قبلها، والوصايل: ثياب موصلة من اليمن.(1/105)
الباب الثالث: ((فيما كساها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده والخلفاء الراشدون))
عن الحسن بن أبي الحسن البصري -رحمه الله- أن أول شيء كسيته الكعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساها قباطي، وقال الأزرقي:(1/106)
كساها الثياب اليمانية، أقول: وهذا الذي يظهره، لأن مصر إذ ذاك لم تكن قد فتحت، وثياب اليمن ومتاجرها متواصلة إلى مكة، وهذا هو الذي أورده ابن لجوزي في كتابه المعروف بمثير الغرام الساكن، وأقول: يحمل قول الحسن: أن أول كسوة في الإسلام، قال الأزرقي: ثم كساها أبو بكر، ثم(1/107)
عمر، ثم عثمان القباطي، وكان يكتب إلى مصر تحاك له بها الكسوة، وكذا فعل عثمان، ثم كساها معاوية، وابن(1/108)
الزبير، فمن بعدهما، وسيأتي ذكر أول من كساها الديباج من الخلفاء، وعن ليث بن أبي سليم: كانت كسوة الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الأنطاع والمسوح، وفي المصنف(1/109)
لابن أبي شيبة يرفعه إلى ابن إسحاق، حدثنا عجوز من أهل مكة، قالت: أصيب ابن عفان رضي الله عنه، وأنا بنت أربع عشرة سنة، ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس الكسا الأحمر يطرح عليه، والثوب الأبيض الكسا الصوف، وما كسي من شيء علق عليه، ولقد رأيته وما فيه ذهب ولا فضة، قال محمد: لم يكس البيت على عهد أبي بكر ولا عمر، وأن(1/110)
عمر بن عبد العزيز كساها القباطي والوصايل، أقول: مقالة ابن إسحاق معارضة من وجهين: أحدهما: ما تقدم من نقله من قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
والثاني: ما بوب عليه البخاري رحمه الله فقال: باب كسوة الكعبة يرفعه إلى أبي وائل قال: جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة، فقال: أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا(1/111)
قسمتها، فقلت: إن صاحبيك لم يفعلا ذلك، قال: هما المرءان أقتدي بهما، وأخرجه في الاعتصام في باب الاقتداء بالسنة، وفيه: ما أنت بفاعل: قال: لم قلت: لم يفعله صاحبيك؟ فقال: هما المرءان يقتدى بهما، قال الإسماعيلي: ليس في هذا الخبر لكسوة الكعبة ذكر، قال ابن بطال: معنى الترجمة صحيح،(1/112)
وذلك معلوم، لأن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون [بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره كانوا يتفاخرون] بتسبيل الأموال إليها، وأراد البخاري -رحمه الله- أن عمر -رضي الله عنه- لما رأى قسمة المال من الذهب والفضة الموقوفين بها على أهل الحاجة صواباً كان حكم الكسوة كذلك، وفي تراجم البخاري لابن المنير:(1/113)
يحتمل أن يكون المقصود بالترجمة أن كسوة الكعبة مشروع ومأثور، ولم تزل تقصد بمال يوضع فيها على سبيل الزينة والجمال إعظاماً لحمرتها في الجاهلية والإسلام، والكسوة من هذا القبيل والله أعلم.(1/114)
الباب الرابع: ((فيمن كساها الديباج))
فيه أقوال أحدها: في كتاب الكلبي أولهم: تبع بن حسان بن تبع بن كلكي كرب، وهو تبع الأصغر آخر التبابعة، أتى مكة فطاف بها وخلق كالذي فعل جده تبع الأوسط، وكسى البيت الملاء والخز والديباج، وقيل: أول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف الثقفي، قاله العسكري في الأوائل له، ثم قال: والصحيح أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، وقيل: يزيد بن معاوية كساها الديباج(1/115)
الخسرواني، وقيل: عبد الملك بن مروان، أقول: كذا ذكره أبو عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي في أخبار مكة، قال: أول من كساها الديباج عبد الملك، وقال الواقدي عن أشياخه: أن عبد الملك كان كل سنة يبعث بالديباج إلى المدينة الشريفة على ساكنها أفضل السلام والتحية، فينشر يوماً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأساطين، ثم يطوي ويبعث به إلى مكة التي شرفها الله تعالى.(1/116)
الباب الخامس: ((في الأزمنة التي كانت تكسى فيها))
قال الأزرقي: كانت تكسى في عاشوراء ورفعه بسند إلى خالد بن المهاجر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عاشوراء، فقال: ((هذا يوم تنقضي فيه (سنة) وتستر فيه الكعبة))، فقال ابن جريج: كانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحاج حتى كانت بنو هاشم يعلقون(1/117)
عليها القمص يوم التروية من الديباج لأن يرى الناس ذلك عليها زينة وجمالاً، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار ثم صار معاوية يكسوها مرتين، والمأمون كان يكسوها ثلاث(1/118)
مرات، يكسو الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان، وكان ذلك سنة ست ومائتين، وفي مثير الغرام الساكن لأشرف الأماكن لابن الجوزي: أن المأمون زادها كسوة رابعة من ديباج أبيض أيضاً، وجعل لها في كل شهرين كسوة، قال الأزرقي: ثم رفع إلى أمير المؤمنين جعفر(1/119)
المتوكل، أن إزار الديباج الأحمر يبلى قبل هلال رجب من مس الناس وتمسحهم بالكعبة، فزادها إزارين مع الإزار، وأذال قميصها الديباج الأحمر أي أسبله حتى بلغ الأرض قال الشاعر:
على ابن أبي العاص دلاص حصينة ... أجا المدد سردها فأزالها
قال: وكان ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائتين.(1/120)
الباب السادس: ((فيمن خلقها وطيبها))
قال الأزرقي بسند يرفعه إلى عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم أن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أطيب الكعبة أحب إلي من [أن] أهدي لها ذهباً أو فضة، وعنها أنها قالت: طيبوا البيت فإن ذلك من تطهيره، وعن هشام بن عروة: أن عبد الله بن الزبير كان(1/121)
يبخر الكعبة كل يوم برطلين من مجمر قال العسكري في الأوائل: إن أول من خلق البيت ابن الزبير، وكذا قال ابن إسحاق، وأول(1/122)
من أخدمه يزيد بن معاوية، وفي كتاب ابن إسحاق أن أول من خلقها عبد المطلب بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم [وهو من] الذين أخذهما من كنز الكعبة، وقال:(1/123)
ابن دحية: المهدي أول من حلاها(1/124)
وطلا جدرانها بالمسك والعنبر من أعلاها إلى أسفلها، وفي الأزرقي عن محمد بن إسماعيل الحجبي، قال: صعدنا على ظهر الكعبة بقوارير الغالية، ثم(1/125)
كساها المهدي ثلاث كسى من قباطي من خز وديباج، المهدي قاعد على باب المسجد مما يلي دار الندوة، وذلك في سنة ستين ومائة، وقال السهيلي في الروض الأنف: أن الوليد بن عبد(1/126)
الملك زاد في حديثها، وصرف في ميزابها وسقفها ما كان في مائدة سليمان(1/127)
ابن داود عليهما السلام من ذهب وفضة، وكانت حملت من طليطلة من جزيرة الأندلس، فضرب منها الوليد حلية الكعبة، وذكر الأزرقي عن ابن جريج أن(1/128)
معاوية أول من طيبها بالخلوق في الموسم وفي رجب وأجرى لها وظيفة الطيب في كل صلاة وأخدمها عبيداً، وأجرى زيت قناديل المسجد من بيت المال، وكان أيضاً يكسوها كسوتين في عاشوراء، ورمضان، وأن [أبا] جعفر المنصور، وابنه المهدي زادا في إتقان بناء البيت وتوسعة بنيته على ما هو عليه الآن.(1/129)
الباب السابع: ((في أن كسوتها كانت من السنن الشرعية في صدر الإسلام))
وذلك لما تقدم من كسوته عليه السلام لها، والسنة عبارة عن اتباع سنته في أقواله وأفعاله ما لم ينص على الوجوب أو تظهر خصوصيته به، وأصل السنة في اللغة هي الطريقة وقال تعالى: {سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا}، أي من طريقتهم وسبيلهم لاسيما وهذه قربة محققة على رأي من يشترط في تسمية السنة ملاحظة القربة.
وقد فعل خلفاؤه الراشدون وأصحابه المرضيون بعده ذلك، وواظبوا عليه فعلمنا أن ذلك سنة تتبع، لما ثبت لها من هذا الأصل الأصيل، وإن اختلفت الكيفيات والأزمنة فكل طلب ما يتقرب به إلى الله تعالى من تعظيم هذا البيت الشريف بحسب اجتهاده وقدرته، وما زالت الخلفاء والملوك يتنافسون على ذلك ويفتخرون بخدمة الحرمين الشريفين، وإن كانوا هم سادات الناس فهم خدموا هذا البيت:
نحن الموالي في القبائل كلها ... وفي حي ليلى من أقل عبيدها
وآخر من استقر كونها بهذا السواد، لأنه شعار بني العباس الذين استقرت فيهم الخلافة واستقر أمر الكسوة يوم التروية بأن الناس يصعدون فكأنه آخر ما اجتمع الناس جملة بمكة.(1/130)
الباب الثامن: ((في أن كسوتها الآن من الواجبات المرعية))
فيما يلاحظ من وجوبها الآن وتوكيدها في هذا الزمان، وذلك أن قاعدة الشرع تعظيم هذا المحل بل طلب زيادة تعظيمه وتبجيله في النفوس، ومضاعفة مهابته ألا ترى أنه عليه السلام ندب لمن وقع بصره على الكعبة الشريفة أن يقول: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وتكريماً، وزد من شرفه وعظمه إلى آخر الدعاء المشهور، وعلمنا أن إسدال ستوره على أجمل صورة من التجديد والجمال من باب التعظيم، وفي الحديث (الشريف) أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته حلل فرقمها على أصحابه، فقال له عمر رضي الله عنه: اجعل هذه الحلة لك لتلبسها(1/131)
للوفود، فدل قول عمر رضي الله عنه ذلك على أن التجمل بالملابس للوفود مطلوب شرعاً، معتبر عرفاً، والعالم يفدون من سائر الأقطار إلى هذه البنية الشريفة، فيجب أن تكون على أكمل هيئات التعظيم، وتعظيم ظاهرها بهذا الإلباس وقد قال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجدٍ}، وقال تعالى ممتناً على عباده: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس(1/132)
التقوى}، وقد نهى عليه السلام عن زخرفة المساجد، ومع ذلك فقد أباح تحلية هذا البيت الشريف بأنواع الذهب والفضة والتضميخ بأصناف الطيب والخلوق، وألبسة الحرير وتقبيل أركانه واستلام جدرانه، فعلمنا أن له حكماً يخصه، وأن لكل ذات جمال يتعلق بها، وجماع ذلك كله التعظيم، وزمامه التبجيل، وأن ترك ذلك يفضي إلى الامتهان وعدم الاهتمام، ويباين المقصد الأول من التبجيل، وقد قال الشيخ ناصر الدين بن المنير -رحمه الله-: الكسوة في هذه الأزمنة أهم الأمور [إذ الأمور] المتقادمة تتأكد حرمتها في النفوس، وقد صار ترك الكسوة في هذا الزمان عضاً في الإسلام وإضعافاً لقلوب المسلمين،(1/133)
أقول: وفي الترك أيضاً عدول عما لاحظه الشارع صلوات الله عليه من إظهار القوة والملكة والملاءة لأعداء الدين، فقد أباح الشرع لبس الحرير، وتحلية آلة الحرب، واستعمال الذهب والفضة المحظورة شرعاً في الحروب للجمال، ووقوع المهابة في النفوس، فلو أهمل -والعياذ بالله- إلباس الكعبة كسوتها لأدى إلى ضد(1/134)
التعظيم، والتعظيم واجب، وما عطل الواجب فتركه واجب فينتج الإكرام، والإكرام واجب، وأيضاً فإن صون هذه البنية المباركة مطلوبة شرعاً وعرفاً، وعدم إلباسها سترها وملاقات جدرانها الرياح والشمس، ولاسيما في ذلك القطر الحار مع تطاول الأزمنة وسرعة الانهدام وملاحظة بقا تلك العين واجب، والإلباس يتوصل به إلى ذلك، وما كان سبباً للواجب فهو واجب؛ لاسيما وهذا مقدور حثاً مطلوب شرعاً، وأيضاً قد يلاحظ(1/135)
بقا تلك البنية الأولى المصروف عليها من حلال الأموال قطعاً، والحجاج وإن تعقب ابن الزبير بتنقص ما [كان] زاد فيها من حجر إسماعيل عليه السلام، وفتح الباب الذي سده الحجاج،(1/136)
وابن الزبير إنما فعل ذلك لرواية عائشة رضي الله عنها قوله عليه السلام: أن قريشاً قصرت بهم النفقة ولولا حدثان عهد قومك بالإسلام لأدخلت الحجر، وفعلت كذا وكذا الحديث؛ ففعله ابن الزبير في خلافته، ونقضه الحجاج في زمن استيلائه، فالحجاج في هذه الحالة منقص لا مزيد وقد جاء أن هارون الرشيد يحج في خلافته، وكانت مدة خلافته يحج سنة ويغزو(1/137)
أخرى، فاتفق أن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وجده فقال: إني أريد أن أعيد البيت إلى ما كان فعله ابن الزبير، فقال له مالك رحمه الله: يا أمير المؤمنين لا تفعل ذلك حتى لا يتخذ الملوك هذا البيت ملعبة يتصرفون فيه بالهدم(1/138)
والبناء، وقد يكون الإمام رحمه الله لاحظ بقا البنية بذلك المال الأول، وأن لا يدخل فيه مال مشتبه، ومثل هذا ما يتطرق إليه الذهن، لاسيما مع ورع مالك وملاحظته سد باب الذرائع، وأيضاً فإن عدم الستر قد يفضي إلى وصول نجاسة صورية تضاف لأحجار الكعبة الشريفة من زرق الطير ومثله، وإن كان الطير السليم لا يعلوها غالباً، وإنما يعلوها(1/139)
المستشفي، فقد يصيب الذرق جوانبها ويتحقق صوبها عن ذلك طريقة الستر، والستر واجب، وقد قال الله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين} إلى آخر الآية والطهارة أتم من أن تكون صورية أو معنوية.(1/140)
الباب التاسع: ((في أن إنفاق المال على كسوتها أصل من أصول الشريعة))
في أن الاهتمام يجعل الإنفاق على استعمالات هذه الكسوة أصل من أصول الشريعة: قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}، والمراد بالطيب هنا الحلال ليس إلا لمفهوم قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}، وفي قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} أي من نباتها وقيل: من معادنها، وركازها، فإذا تفرد ذلك فقد وافق القصد الجميل(1/141)
المأمور به ما في الآية الكريمة؛ لأن هذا الإرصاد والإيقاف جمع بين الأمرين من كونه من الجنس الحلال وهو أراضي الفيء، وأن المأخوذ منه مما يكتسب(1/142)
من الزراعة، وللناس خلاف في التفضيل بين التجارة والزراعة وكلاهما كسب حلال، وهذا في الحقيقة زراعة دنيوية وتجارة أخروية، قال الله تعالى مفسراً لعبادة المتقين: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}، وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} وتحققنا أنهم مأمورون بأكل الحلال إذ هم معصومون عما سواه، وفي الصحيح عن أبي(1/143)
هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام أنى يستجاب له)).(1/144)
قال القرطبي: وقد اختلف الناس فيمن المخاطب بهذه الآية، فقال بعض العلماء: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قام مقام الرسل كلها، كما في قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم}، والمراد بالأول نعيم بن مسعود، واحتجنا إلى هذا التأويل؛ لأن الرسل إنما وجدوا في أوقات(1/145)
متفرقة لم يشملهم الخطاب جملة إلا أن قدرته خطاباً في الأزل، وقال الزجاج: الخطاب له عليه السلام، ودل على أن الرسل كلهم إذا أمروا وأكلوا الحلال، وقال الطبري: الخطاب لعيسى عليه السلام روي أنه كان يأكل من غزل(1/146)
أمه والمشهور أنه كان يأكل من بقل البرية ونباتها [وقال عليه السلام: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول]))، وقد نص الشارع على وجوب طهارة بدن المصلى [من الأدناس وطهارة ثوب المصلى إليه من الأدناس] وأوساخ الناس، وقد جاء أنه عليه السلام رأى نخامة في قبلة(1/147)
المسجد فتمعر وجهه، وأمر بحكها وجعل مكانها خلوقاً، والنخامة مستقذرة لا نجسة، وتلك قبلة مسجد وهذه قبلة الإسلام؛ فيتعين تكريمها وصونها عن الأقذار والأنجاس والحرام، وما نشأ من الحرام، وقال الله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، وأتيح لنا هذا البحث، والتمثيل أن الطهارة المعنوية يتوقف عليها القبول، كما أن الطهارة الشرعية يتوقف عليها الصحة، وأن من قصده تطهير هذا الملبس الشريف عن المكوس، فقد أحيا من الشريعة الرسوم(1/148)
والمعالم، وكتب الله له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة؛ لأنها نية من يؤمن دل عمله على أنه حصل على درجة الاستقامة، والطريق الموصل إلى هذا القصد الأسنى وحسن الزيادة، وزيادة الحسنى ما وقع بهذه الإشارة الشريفة من وقف أراضي الخراج التي هي بقية فتوح الإسلام، ومما أفاء الله على رسوله إلى أن وصلت إلى يد هذا الإمام، فأثبت الله في صحايفه هذا(1/149)
الأجر الحسن، ومما كان يفعل قبل هذا الزمان من صرف أموال الاستعمالات لهذه الكسوة الشريفة من المكس المأخوذ من تجار الثوب، والحرير، والجهات المشوبة بالمظالم والتقرير، وقد وافق ذلك فعل الإمام عمر رضي الله عنه من وجهين:
أحدهما: أنه كان يصرف مال الكسوة من بيت المال، وكان إذ ذاك خراجاً صرفاً وفياً خالصاً، يصرف منه على زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجاهدين من الصحابة رضوان الله عليهم، وغيرهم، فجعل مصرف الكسوة، وذلك المصرف الحلال مصرفاً واحداً.
الوجه الثاني: أنه كان يرسل إلى عامل مصر يحوك له الكسوة من القباطي وهو أفخر ثياب مصر، ويحملوه في كل عام إلى مكة زادها الله شرفاً، وقد وافق نسجها وحملها من مصر فعل عمر، فهذا فعلان من مال خاص وبلد خاص. فالحمد لله الذي وافق فعل هذا السفير البشير بالخيرات فعل من وافق فعله فعل الله في أمور مهمات.(1/150)
الباب العاشر: ((فيما كان يفعل في مخلق الكسوة قديماً وما حكم الشرع فيها الآن))
وقد كان مولانا السلطان -خلد الله تعالى ملكه- في مجلسه الشريف حين وقف هذا الوقف المبارك، سأل من حضر مجلس الوقف عن هذه المسألة، فأجيب بالأمر الواقع لأن من بني شيبة. لا بما وقع من الاختلاف بين العلماء بالجواب الذي يزيل الريبة وما أمكن إذ ذاك بسط القول، وإلى الله أبرأ من القوة والحول -ثم أقول: اختلف الناس في هذه المسألة قديماً وحديثاً، وأصله الحديث الذي قدمنا ذكره، رواه البخاري في الصحيح من حديث شيبة عن عمر رضي الله عنه وقوله هما المرءان أقتدي بهما، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، قال شراح البخاري: الكسوة لما كانت مالاً من الأموال دخلت في عموم لفظ(1/151)
عمر رضي الله عنه، ورأيه في تفريق ما صدق عليه اسم مال على الفقراء والمساكين، وإن لم يجر للكسوة ذكر، قالوا: هذا من دقيق فهم البخاري، وقد قالوا: أن فقه كتابه في تراجمه وهذا على عادته في الاستنباط وعند ابن ماجه وغيره مال الكعبة يشمل الكسوة وغيرها، وكسوة البيت إضافة للتخصيص كما نقول: سرج الدابة ولجام الفرس، وقد قال عليه السلام: وهل لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، وقال ابن المنير: يحتمل أنه يريد التنبيه على(1/152)
حل الكسوة، وهل يجوز التصرف فيما عتق منها كما يصنع الآن؟ فنبه على أنه موضوع اجتهاد وبأن مقتضى رأي عمر أن يقسم في المصالح، وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه لم يفعلا ذلك، ثم قال: والظاهر جواز قسمة الكسوة العتيقة إذ بقاؤها تعريض لفسادها بخلاف النقدين، وأي جمال في كسوة عتيقة مطرحة، هذا كلامه، أقول: وفي تاريخ مكة للأزرقي عن ابن جريج قال: جرد شيبة بن عثمان الكعبة قبل الحريق عن ثياب كان أهل الجاهلية يكسونها ((إليها))، ثم خلقها، وطيبها، وكان شيبة يكسو تلك الثياب الناس، فرأى على امرأة حايض ثوباً من كسوة الكعبة حتى هلكت -أعني الثياب- وفيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن شيبة بن عثمان دخل عليها(1/153)
فقال: يا أم المؤمنين ليجتمع عليها الثياب فتكثر فنعمد إلى محل في حفرة وتعمقه فندفن فيه ثياب الكعبة كل لا يلبسها الحايض والجنب، قالت عائشة رضي الله عنها: ما أصبت وبئس ما صنعت [لا تعد لذلك فإن ثياب الكعبة] إذا نزعت عنها لا يضرها من لبسها من حايض وجنب، ولكن بعها واجعل ثمنها في سبيل الله للمساكين وابن السبيل، وفيه عن ابن عباس مثله، وأجاب بجواب عائشة، وفيه أيضاً أم سلمة كذلك، أقول: وفي(1/154)
شروح المهذب للنواوي رحمه الله، قال صاحب التلخيص وهو أبو المعالي من أكابر أصحاب الشافعية: لا يجوز بيع أستار الكعبة المشرفة، وكذا(1/155)
قال أبو الفضل بن عبدان: لا يجوز قطع أستارها، وكذا قال الحليمي: لا ينبغي أن يتعرض إلى أستارها بشيء، وقال الشيخ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح الأمر فيها إلى الإمام يصرفه في بعض مصارف بيت المال بيعاً وعطاءً،(1/156)
واحتج بما ذكره الأزرقي أن عمر رضي الله عنه كان ينزع كسوة البيت في كل سنة فيقسمها على الحاج، أقول: وقد تقدم النقل عن الأزرقي أن ابن عباس، وعائشة، وأم سلمة رضوان الله عليهم أقروا شيبة على فعله في كسوة الكعبة لمن شاء، وأمرته عائشة أن يبيعها ويصرفها في سبيل الله، ولم ينكروا عليه إلا دفنها وتعريضها للبلاء من غير نفع، وهذا يدل على أن ما يفعله بنو شيبة الآن كان مشروعاً في الزمن السالف من زمن الصحابة رضي الله عنهم،(1/157)
ثم قال النواوي في الروضة، والذي اختاره الشيخ ابن الصلاح حسن متعين لئلا تتلف بالبلاء، وبه قال ابن عباس، وعائشة، وأم سلمة هذا كلامه، وفيه المناقشة؛ لأن مقتضى ما أسنده ابن الصلاح إلى الأزرقي عن فعل عمر أن التصرف للإمام، ومقتضى ما نقله عن عائشة وغيرها أن التصرف لشيبة، وهو ما عليه الناس الآن مع بنية فليتأمل، وفي الروضة في باب السرقة: أنه إذا سرق السارق شيئاً من أستار الكعبة المخيطة عليها، قطع السارق فإنها محترزة بالخياطة، وفي باب الوقف في الروضة أو أستار الكعبة إذا لم يبق فيها منفعة ولا جمال في جواز بيعها وجهان:
أصحهما [الأول]: تباع لئلا تضيق وتضيق المكان بلا فائدة.
والثاني: لا تباع بل تبقى أبداً وعلى الأول قالوا يصرف ثمنها في مصالح المسجد، وفي خلاصة الفتاوى لرشيد الدين البخاري الحنفي ناقلاً عن فتاوى(1/158)
قاضي خان ما صورته، رجل اشترى ستر الكعبة من بعض السدنة، أجاب: لا يجوز؛ لأنه اشترى ما لا يملكه البايع، فإن نقله إلى بلد آخر كان عليه أن يتصدق به على الفقراء، فجعل العلة المفسدة الشراء من غير مالك، ولم يجعل العلة عدم جواز البيع مطلقاً ومفهومه: أنه لو اشترى من الإمام أو من نائبه المتصرف في مصالح بيت المال أو المسجد جاز، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا تجوز أخذ طيب الكعبة ومن أراد التبرك أحضر طيباً من عنده فيمسحها به ثم يأخذ تبركاً، والله أعلم.
هذا آخر ما قصد التنبيه عليه من هذه المثوبة الذي عظم أجرها وكرم عند الله زخرها، وفاز السابق إليها، وحاز المثوبات الحاث إليه، والله تعالى أسأل أن يتقبلها بقبول حسن، وأن يجزي كل من تكفل بصلاتها من سعادة الدارين على أقوم سنن بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
والحمد لله وحده وصلوات على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.(1/159)