الحافظ محمد بن طاهر المقدسي
(448 - 507 هـ)
ومنهجه في العقيدة
مع دراسة وتحقيق كتابه
الحجة على تارك المحجة
وهو شرح عقيدة
الإمام الحافظ محمد بن طاهر المقدسي
تحقيق
د. عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان
دار عالم الكتب
الطبعة الأولى
1429 هـ - 2008 م(/)
#367#
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله قبل كل مقال، وأمام كل حاجة وسؤال، وصلواته على رسوله المصطفى ونبيه المجتبى، وآله وصحبه وسلم تسليماً.
أخبرنا الشيخ الإمام الحافظ شمس الحفاظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي -رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه- قال:(2/367)
#368#
أخبرنا أبو علي الحسين بن عبد الرحمن بن الحسن العدل الشافعي -بمكة- رحمه الله قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن فراس، قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم الديبلي، قال: حدثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قال: ثنا سفيان #369# ابن عيينة، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: ((لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يوصي فيه، قلت: كيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟! قال: أوصى بكتاب الله وبسنته أن تتبع)).(2/368)
#370#
صحيح، أخرجه البخاري عن خلاد بن يحيى بن يحيى وأبي نعيم الفضل بن دكين عن مالك بن مغول. وأخرجه مسلم عن يحيى عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك كذلك.
وأخبرنا أبو القاسم #371# الفضل بن عبد الله بن المحب بنيسابور رحمه الله، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الخفاف، قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، #372# قال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن صفوان بن محرز قال: سئل ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال: ((ركعتان من خالف السنة كفر)).(2/370)
#373##374#
أخبرنا علي بن أحمد، قال: ثنا أبو عمر عبد الواحد بن #375# محمد بن مهدي، بالإسناد إلى مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رغب عن سنتي فليس مني)).
#376#
هذا طرف من الحديث المعروف لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر لما داوم [الصوم، و] بالنوم لما سهر، وبصحبة الأهل لما زهد في ذلك، ثم أتبع هذا اللفظ بقوله: ((من رغب عن سنتي فليس مني)).
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد البزاز ببغداد، #377# الإسناد إلى الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: ((كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن)).(2/374)
#378#
هذا الحديث وإن كان من قول حسان، فإن نص الكتاب يؤيده، وهو قوله عز وجل {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحيٌ يوحى}، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن شيء فيتوقف حتى يأتيه الوحي ثم يجيب السائل.
أخبرنا أبو بكر إسماعيل بن علي الخطيب #379# بالري، الإسناد إلى الأوزاعي، عن مكحول، قال: ((القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن)).
#380#
قال: وقال يحيى بن أبي كثير: ((السنة قاضية عن الكتاب وليس الكتاب قاضياً عن السنة)).(2/378)
#381#
وبعد؛ إخواني! رزقنا الله وإياكم سلوك طريق الاتباع، وجنبنا وإياكم محجة الأهواء والابتداع، فإني لو أوردت ههنا عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم في أمره باتباع سنته ونهيه عن الابتداع في شريعته، ثم ما ورد عن الصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا، لأطلت الكتاب ولخرج عن حد الاختصار.
وقد صنف أهل السنة فيما أشرنا إليه غير كتاب، وإنما #382# أوردت هذا الفصل لمعنى؛ وهو أني رأيت مشايخنا الماضين وأئمتنا المتقدمين نظموا في الاعتقاد قصائد استحسنها المنتهي، #383# وحفظها المبتدي، فأحببت أن أسلك طريقهم، وأقتدي بمثالهم، إذ كان نوعاً مسبوقاً إليه، ومعنى محتوياً عليه.
وقد أخبرنا أبو محمد قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن إبراهيم #384# الكتاني المقرئ، بالإسناد إلى ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {واجعلنا للمتقين إماماً} قال: ((نأتم بهم ونقتدي بهم حتى يقتدى بنا)).
من هذا فقلت -مع العلم بالقصور-:(2/381)
#385##387#
1 - أقول مقالاً يرتضيه ذوو البصر ... وأنصره بالآي حسب وبالأثر
2 - لأنهما نور الهدى وسواهما ... ظلامٌ بلا شك لمن مات وادكر
قال الله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكم من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً}.
قال عبد الله بن عباس: ((آيات الله كتابه، والحكمة #388# سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
وقال عز من قائل: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله}.
وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر}.
وقال جل وعلا: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً}.
أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة، الإسناد إلى سفيان بن عيينة في قول الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً} قال: ((إلى #389# كتاب الله وإلى سنة رسوله)).
فلما أنزل الله تعالى هذه الآيات التي قرن فيها طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته عز وجل -إذ كان المبين عنه، وبذلك أمره جل جلاله فقال: {لتبين للناس ما نزل إليهم}، كانت أوامره ونواهيه مفترضة، ومخالفة أمره في السمع والعقل محظورة- لزم كل مسلم شحيح #390# بدينه البحث عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفحص عن رواتها الذين هم المرقاة إلى المقتدى به المأمور باتباعه، ومعرفة عدلهم من مجروحهم، ثم التمييز بين تواتره وآحاده، وصحيحه وسقيمه، ومعلوله ومستقيمه، وغريبه ومشهوره، ومسنده ومقطوعه، ثم الاعتماد على ما اتصل بالنبي المرسل من رواية الأثبات المتقنين، من غير قطع ولا إرسال، ولا وقف ولا إعضال؛ فيجعل ذلك محجته وحجته.(2/387)
#391#
أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن البندار ببغداد قال: ثنا أبو القاسم إسماعيل بن الحسن الصرصري، الإسناد إلى زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((يا أيها الناس! أما بعد، إنما أنا بشير يوشك أن يأت رسول #392# ربي فأجيبه، وإني تارك فيكم الثقلين -يعني أولهما-: كتاب الله فيه الهدى والنور، فاستمسكوا بكتاب الله عز وجل، فخذوا به))، فحث على كتاب الله، ورغب فيه ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي -ثلاث مرات-)).
أخبرنا أبو علي الشافعي قال: أخبرنا محمد بن أحمد العدل، الإسناد إلى سفيان بن عيينة، عن عمر، عن رجل من ولد أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: كان بين الزبير بن العوام وبين رجل #393# خصومة في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فجاء الزبير والرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير، فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته! فأنزل الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية.
فجعل عز وجل في هذه الآية أن من شرط الإيمان وصحته #394# الانقياد لحكم رسوله، ودل على أن من خالفه غير منقاد للحق وغير ثابت الإسلام.(2/391)
3 - تحققت أن الله لا رب غيره ... بصنعته الأفلاك سبعاً وبالفكر
قال الله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابةٍ وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآياتٍ لقومٍ يعقلون}، وقال عز من قائل: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت}، وقال تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض}، {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} , وقال: {الله الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها}.
فأخبر -عز من مخبر- أن في خلق السموات والأرض آية لذوي العقول، ثم أمرهم بالتفكر في خلقها.
#395#
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا علي بن أحمد البسري ببغداد قال: أخبرنا أبو طاهر [محمد بن] عبد الرحمن المخلص، الإسناد إلى عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا رجلٍ مستلقي ينظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: والله [إني] لأعلم أن لك خالقاً ورباً، اللهم اغفر لي))، قال: ((فنظر الله إليه وغفر له)).(2/394)
4 - سميعٌ بصيرٌ قادرٌ متكلم ... مريدٌ بما يأتي عليمٌ بما يذر
#396##397#
5 - هو الحيوالباقي بأسمائه التي ... تزيد على التسعين تسعاً لمن خبر
#398#
6 - رواه البخاري في الصحيح ومسلمٌ ... وكل إمامٍ في الأحاديث قد نظر
7 - وأورده أهل الشآم بشرحه ... وفضلهم في القلب يا صاح قد وقر
#399##400#
قال الله في محكم كتابه: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}.
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا أبو علي الحسن بن عبد الرحمن العدل، الإسناد إلى الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى تسعةً وتسعين اسماً مائةً غير واحد من حفظها ومن أحصاها دخل الجنة)).
#401#
ورواه عن أبي هريرة جماعة، منهم: سعيد بن المسيب، وعطاء بن يسار، ومحمد بن جبير بن مطعم، ومحمد بن سيرين.
#402#
وأورده مسلم في كتابه.
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد النامقي بنيسابور إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله تسعةٌ وتسعون اسماً مائةً إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة، إنه وتر يحب الوتر)).(2/395)
8 - وأثبت إرسال النبي لما أتى ... به من دليلٍ صادقٍ معجزٍ بهر
أخبرنا الشيخ أبو سعيد مسعود بن ناصر السجزي #403# بنيسابور قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن بشرى قال: سمعت الشيخ أبا سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب بن طهمان ابن عبد الرحمن البستي رحمه الله بهراة يقول:
((فإن قال هؤلاء القوم: فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم #404# استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم؟ ومن أي دليل تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها؟!
قلنا: إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على #405# حدث العالم وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح #406# بياناً وأصح برهاناً، وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقةً، ومثبتو النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك(2/402)
#407#
وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات التوحيد وصفاته، وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه ومن الطريق التي يسلكونها، ويزعمون أن من لم يتوصل إليه من تلك الوجوه كان مقلداً غير موحد على الحقيقة! وهو أن الله تعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وقال له: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة أصحابه: ((ألا هل بلغت؟))، وكان الذي أنزل الله من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه؛ قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}، فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئاً من أمور الدين وقواعده وأصوله #408# وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال. ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسةً إليه أبداً في كل وقت وزمان، ولو أخر عنه التكليف لكان التكليف واقعاً بما لا سبيل للناس إليه، وذلك فاسد غير جائز.
وقد ثبت عند الموحدين أمر التوحيد من وجوه:
أحدها: ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم صلى الله عليه وسلم من #409# كتاب أعياهم أمره وأعجزهم شأنه، وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء، فكل عجز عنه ولم يقدر على شيء منه بوجه فالعجز موجود والانقطاع حاصل.
هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهورة عنه، كحنين الجذع لمفارقته، ورجف الجبل تحته وسكونه لما ضربه برجله، وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه، ونبع الماء بين أصابعه #410# وغير ذلك من المعجزات.
فلما استقر لما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم، وثبت ذلك في عقولهم صحت [عندهم] نبوته، ووجب تصديقه على ما أنبأهم من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى وإثبات صفاته، وقد نبههم الكتاب عليه، ودعاهم إلى تدبره #411# وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته، فقال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
وذكر الآيات التي قدمناها في التفكر في خلق السموات وغيرها.(2/407)
#412#
بيان ذلك في الأثر:
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد البزاز قال: أخبرنا أبو الحسين محمد الدقاق، الإسناد إلى جابر بن عبد الله قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا نزلنا وادياً أفيح، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته واتبعته، فنظر فلم ير شيئاً يستتر به، وإذا في شاطئ الوادي شجرتين، فانطلق إلى إحداهما -يعني فأخذ غصناً من أغصانها- فقال: ((انقادي معي بإذن الله))، فانقادت معه كالبعير الذي يصانع قائده، حتى أتى الأخرى فأخذ غصناً من #413# أغصانها، فقال: ((انقادي علي بإذن الله))، فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصفة مما بينهما فقال: ((التئمي علي بإذن الله))، فالتأمتا عليه.
أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد قال: أخبرنا أبو طاهر الذهبي، الإسناد إلى الحسن، عن أنس قال:
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة مستند ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ((ابنوا لي منبراً))، فبنوا له عتبتين، فلما قام على المنبر فخطب حنت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنين الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها #414# فاحتضنها فسكنت)). فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه لمكانه من الله عز وجل، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه!.
أخبرنا عثمان بن محمد بن عبد الله المزكي بنيسابور قال: #415# أخبرنا عبد الوهاب بأصفهان، الإسناد إلى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على #416# جبل حراء فتحرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسكن يا حراء، فما عليك إلا نبيٌّ أو صديق أو شهيد)). وكان عليه أبو بكر، وعمر وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص.(2/412)
#417#
قرئ على فاطمة بنت أبي علي الدقاق وأنا أسمع: أخبركم أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الأزهري قال: ثنا أبو عوانة الإسفراييني الحافظ، #418# الإسناد إلى سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد، حتى هممنا أن ننحر بعض ظهورنا، فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا أزوادنا، فبسطنا نطعاً فاجتمع زاد القوم عليه. قال: فتطاولت لأحزره كم هو؟ فحزرته كربضة البعير ونحن أربع عشرة مائة. قال: فأكلنا حتى شبعنا، ثم حشونا جربنا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((هل من وضوء؟))، فجاء رجل بإداوة #419# له فيها نقطة، فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة. قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فرغ الوضوء)).(2/417)
9 - وأعلم أن الله من فوق عرشه ... بلا كيف بل قولاً كما جاء في السور
وقال الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}.
وقال: {ثم استوى على العرش الرحمن}.
وقال: {رفيع الدرجات ذو العرش}.
وقال: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانيةٌ}.
#420#
وقال: {تعرج الملائكة والروح إليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ}.
وقال: {بل رفعه الله إليه}.
وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}.
قال الشيخ أبو سليمان الخطابي رحمه الله: ((هذه المسألة سبيلها التوقيف المحض، ولا يصل إليه الدليل من غير هذا الوجه، وقد نطق به الكتاب في غير آية، ووردت به الأخبار الصحيحة، فقبوله من جهة التوقيف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز، كما قالت أم المؤمنين أم سلمة رحمة الله عليها في قوله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى}، قالت: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر)).(2/419)
#421##422#
وروي أن مالك بن أنس سئل عن الاستواء فأجاب بمثل هذا الجواب.
بيان ذلك في الأثر:
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الهروي قال: أخبرنا
#423#
أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح قال: أخبرنا أبو القاسم البغوي، الإسناد إلى عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال:
قلت: يا رسول الله! إنا كنا حديثي عهد بجاهلية فجاءنا الله بالإسلام، وإن رجالاً منا يتطيرون!
#424#
قال: ((ذلك شيءٌ يجدونه في صدورهم)).
قلنا: ورجالاً منا يأتون الكهنة! قال: ((فلا تأتوهم)).
قلت: ورجالاً منا يخطون!
#425##426#
قال: ((قد كان نبيٌ من الأنبياء يخط فمن وافق فذاك)).
قال: وبينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة إذ عطس رجل فقلت: يرحمك الله.
قال: فحدقني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أماه! ما #427# لكم تنظرون إلي؟! قال: فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم فسكت.
فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته دعاني، فبأبي وأمي هو ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، والله ما ضربي ولا كهرني ولا سبني، ولكن قال لي: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، وإنما هو التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن)).
قال: واطلعت غنيمة لي ترعاها جارية لي فوجدت الذئب قد ذهب [منها] بشاة فأسفت لذلك وغضبت فلطمت وجهها، فأخبرت بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليه.
قلت: يا رسول الله! لو أعلم أنها مؤمنة لأعتقتها.
قال: ((ائتني بها)). فجئت بها فقال لها: ((أين الله؟)). قالت: في السماء. قال: ((فمن أنا؟)). قالت: أنت رسول الله. قال: #428# ((أعتقها إنها مؤمنة)). فأعتقها.(2/422)
#429#
ففي هذا الحديث دلالة أن من شرط الإيمان أن يعتقد الشخص بقلبه ويتلفظ بلسانه بأن الله عز وجل في السماء.
أخبرنا أبو بكر الشيرازي بقراءتي عليه غير مرة، أخبركم #430# الحاكم أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: ((من لم يقر بأن الله عز وجل على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر بربه، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون والمعاهدون بنتن ريح جيفته، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال عليه السلام)).
#431#
وإنما غلظ هذا التغليظ بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لها بالإيمان إذ اعتقدت أن الله عز وجل في السماء، فمن أنكر ذلك يكون مخالفاً لنص القرآن والسنة الصحيحة، ومن خالفهما خرج عن الإيمان.(2/429)
#432##433#
10 - وأشهد أن الله أسرى بعبده ... محمدٍ المبعوث منه إلى البشر
قال الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا}.
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب بن أبي عبد الله بن منده، #434# الإسناد إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلى الله تعالى لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)).
#435#
وفيه الدليل القاطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري بجسده ونفسه؛ لأنه لو قال: إني رأيت في المنام، لم تكذبه قريش كان مثله يمكن، وإنما كذبته لما جاء بأمر خارج عن عادات البشر، فبطل أن يكون مناماً، فصح بذلك ما قلناه.
وأما الحديث الذي يستدل به على صعوده تلك الليلة إلى السماء السابعة:(2/433)
#436#
فأخبرناه أبو عمرو اللخمي بنيسابور، الإسناد إلى أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
((بينما أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلاً يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بي، ثم أتيت بطست من ذهب فيها من ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا، فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه، فحشي إيماناً وحكمة، ثم أتيت بدابة أبيض يقال له: البراق، فوق الحمار ودون البغل، فحملت عليه ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الدنيا، ثم استفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: قد بعث إليه؟ قال: مرحباً ولنعم المجيء جاء، ففتح لنا فأتيت #437# على آدم فقلت: يا جبريلّ من هذا؟ قال: أبوك آدم، فسلمت عليه، فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الثانية فاستفتح كذلك ففتح لنا، فأتيت على يحيى وعيسى فقلت: يا جبريل! من هذان؟ قال: يحيى وعيسى -وأحسبه قال: ابنا الخالة-، فسلمت عليهما فقالا لي كذلك. ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الثالثة فاستفتح كذلك ففتح لنا، (فأتيت على يوسف فقلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: هو أخوك يوسف، فسلمت عليه فقال لي كذلك، ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الرابعة فاستفتح كذلك ففتح لنا)، فأتيت على إدريس (فقلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: أخوك إدريس)، فسلمت عليه فرد علي كذلك، ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الخامسة، فاستفتح كذلك فأتيت على هارون فقلت: يا جبريل! من هذا؟ فقال: أخوك هارون فسلمت عليه فرد علي كذلك، ثم انطلقنا حتى أتينا السماء السادسة فاستفتح كذلك ففتح لنا، فأتيت على موسى فقلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: أخوك موسى، فسلمت عليه فرد علي كذلك، فلما جاوزته #438# بكى، قيل: وما يبكيك؟ قال: رب! هذا الغلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي؟ ثم انطلقنا حتى أتينا السماء السابعة، فاستفتح كذلك ففتح لنا، فأتيت على إبراهيم فقلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: أبوك إبراهيم، فسلمت عليه فرد علي كذلك، ثم رفع لنا البيت المعمور يدخل كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم، ثم رفع لنا السدرة المنتهى -فحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن ورقها مثل آذان #439# الفيلة، وإن نبقها مثل قلال هجر، وحدث نبي الله أنه رأى أربعة أنهارٍ يخرجن من أصلها، نهران ظاهران ونهران باطنان-.
فقلت: يا جبريل! ما هذه الأنهار؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. قال: ثم أتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر خمر، فاخترت اللبن، فقال: أصبت أصاب الله بك وبأمتك على الفطرة، وفرضت علي الصلاة خمسين صلاةً في كل يوم وليلة، فأتيت على موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: فرضت علي خمسون صلاةً، قال: إني قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني #440# إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجعت إلى ربي فحط عني خمساً.
قال: فما زلت أختلف بين موسى وربي حتى صرت إلى خمس صلوات، فقال لي موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقلت: لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، فنوديت: إني أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وجعلت الحسنة بعشر أمثالها)).
أجمع أهل النقل على صحة هذا الحديث.
وأخرجه البخاري ومسلم في الصحيح.(2/436)
#441#
أخبرنا أحمد بن محمد البزاز، ببغداد قال: أخبرنا أبو طاهر، الإسناد إلى أبي سلمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {ولقد رآه نزلةً أخرى. عند سدرة المنتهى} قال: ((دنا ربه عز وجل منه))، {فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى} قال ابن عباس: ((قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم)).
وهذا الحديث صحيح متصل الإسناد إلى أبي العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
وأخرجه أبو عيسى الترمذي في ((جامعه)) #442# عن سعيد كذلك.
ومن احتج بقول عائشة رضي الله عنها فهو الحديث الذي أخبرناه أبو محمد عبد الله، الإسناد إلى الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها.
قال: قلت لها: {دنا فتدلى} قالت: ((ذلك جبريل عليه السلام)).
#443#
أخرج هذا الإسناد في الكتابين.
وهذا الحديث وإن صح سنده إلى عائشة فإن الكلام عليه من وجهين:
أحدهما: خالف ابن عباس -وهو إمام هذا الشأن، أعني علم تفسير القرآن-، ويقضى له على من خالفه.
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس قال: ((أدركت خمسين -أو سبعين- من #444# أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عن شيء لا يجيبون حتى يجيب ابن عباس، فيقولوا: هو كما قلت: أو صدقت)).
والثاني: أن قولها يدل على أن الموحى جبريل؛ لقوله تعالى: {دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى}. وأجمعت الأمة على أن الموحي هو الله عز وجل، وقوله عز وجل: {فأوحى إلى عبده ما أوحى}. رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون عبداً لجبريل، فصح بذلك ما قلناه، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس بأن يعلمه الله التأويل، ولا شك في إجابته فيه؛ فكان الرجوع إلى قوله أولى.
#445##446#
فأخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد البزاز، الإسناد إلى عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي #447# أريناك إلا فتنةً للناس} قال:
((هي رؤيا عين رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به))، {والشجرة الملعونة في القرآن} قال: ((هي شجرة الزقوم)).
أخرج هذا الحديث بصحته البخاري في ((كتابه)).(2/441)
11 - وأثبت أن الله جل جلاله ... تكلم بالقرآن لا قول من كفر
قال الله جل جلاله: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم #448# يجعل له عوجاً. قيماً}.
وقال تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه .. .. } الآية.
وقال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ} الآية.
وقال تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك .. .. } الآية.
وقال تعالى: {آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله}.
وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، و {الظالمون}، و {الفاسقون}.
وقال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} الآية.
#449#
وقال: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل}.
وقال: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق}.
وقال: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده}.
وقال: {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين}.
وقال عز من قائل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {بلغ ما أنزل إليك من ربك}.
وقال: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره .. .. } الآية.
وقال: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}.
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا أحمد بن محمد البزاز، الإسناد إلى عكرمة قال: ثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله إذا قضى الأمر من السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كصوت السلسلة على الصفوان، فذلك قوله: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير})). قال: ((ويسترق السمع فربما أدركه #450# الشهاب قبل أن يرمي إلى صاحبه، وربما لم يدركه الشهاب حتى يرمي بها إلى صاحبه، فيرمي بها هذا إلى هذا حتى يلقى على فم ساحر أو كاهن فيكذب معها مائة كذبة)).
قال: ((فيصدق، يقال: ألم يخبرنا يوم كذا بكذا فوجدناه حقاً؟! وهي الكلمة التي سمعت من السماء)).
صحيح، أخرجه البخاري واستدل به على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، واستنبط منه هذا المعنى الذي في قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} الآية، ولم يقل: ماذا خلق ربكم؟
وبالإسناد إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ((كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون فيه الوحي، فكان الوحي إذا نزل سمع له صوت كإمرار السلسلة على الحجر، فلا ينزل على سماء إلا صعقوا، حتى ينزل على السماء الدنيا ثم #451# يقال: يكون العام كذا، ويكون العام كذا، فيسمع الجن ذلك فتخبر به الكهنة، فتخبر الكهنة به الناس فيجدونه كما قالوا)).
قال: ((فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم دحروا)).
قال: ((فقالت العرب: هلك من في السماء! فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيراً، وصاحب البقر والشاة كذلك، حتى أسرعوا في أموالهم، فقالت ثقيفٌ -وكانت أعقل العرب-: أمسكوا عليكم أموالكم! فإنه لن يهلك من في السماء وإن هذا ليس بالشأن، أليس ترون مثالكم من النجوم كما هي؟! فقال إبليس: لقد حدث شيء من تربة الأرض، فجعل يشم تربة كل أرض حتى #452# شم تربة مكة، فقال: من ها هنا قد حدث الحدث! فنظرنا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث)).
أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب بن منده، الإسناد إلى خولة بنت حكيم أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا نزل أحدكم منزلاً فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه)). أخرجه مسلم.
واستدل شيخنا أبو إسماعيل عبد الله الهروي بهذا الحديث على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يبين موضع الاستدلال #453# لشهرته، ويؤيد هذا الاستنباط قوله تعالى: #454# {ألا له الخلق والأمر}.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الأديب قال: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه، الإسناد إلى محمد بن يحيى -يعني الذهلي- قال: ((قال الله تعالى في كتابه: {ألا له الخلق والأمر}، فبأمره خلق الخلق قال: كن، وكلامه من أمره ليس مخلوقاً، بهذا ندين الله تعالى بصدق نية، عليه نحيا وعليه نموت، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن في الله شيئاً مخلوقاً! وتعالى الله عن هذا)).(2/447)
#455#
واستدل أيضاً في هذه المسألة بقوله سبحانه: {إنما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}، فلو كان القرآن مخلوقاً لكان الله تعالى قائلاً له: كن، والقرآن قوله، ويستحيل أن يكون قوله مقولاً له؛ لأن هذا يوجب قولاً ثانياً، وهذا يقتضي ما لا نهاية له، وهو فاسد، وإذا فسد فسد أن (يكون القرآن مخلوقاً.
#456#
وقال تعالى: {الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان}، فلما) جمع في الذكر بين القول الذي هو كلامه وصفته، وبين الإنسان الذي هو خلقه ومصنوعه: خص القرآن بالتعليم والإنسان بالتخليق.
أخبرنا أبو إسماعيل الأنصاري، الإسناد إلى ابن أبي الدميك قال: حضر ابن الوليد المأمون [وعنده] بشرٌ #457# المريسي وأصحابه، فقيل للمأمون: إنه مشبه! فقالوا له: ما تقول في القرآن؟ فالتفت إلى المأمون وقال: هؤلاء لا عقول لهم! ثم قال للمأمون: قال الله عز وجل: {حق القول مني}، فمن الله شيء مخلوق؟! فاستحيى المأمون ورفع الستر ودخل.
بشر بن الوليد هذا هو الكندي، أحد أئمة أهل السنة، روى عنه أئمة الحفاظ.(2/455)
#458#
12 - كلامٌ بصوتٍ لا كأصوات خلقه ... رواه أبو يحيى وحسبك مفتخر
#459#
أبو يحيى عبد الله بن أنيس الأنصاري.
#460#
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد البزاز، الإسناد إلى عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، أن جابر بن عبد الله حدث رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((يحشر العباد -أو قال: يحشر الناس، وأومأ بيده إلى الشام- عراةً غرلاً بهماً)). قال: ما بهماً؟ قال: ((ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة)).
قلنا: كيف؟ وإنما نأتي الله عراةً غرلاً بهماً؟ قال: ((بالحسنات والسيئات)).(2/458)
#461#
13 - وحرفٍ كما قد جاء في الخبر الذي ... رواه ابن مسعود فأنصف واعتبر
#462#
أخبرنا علي بن أحمد البزاز، الإسناد إلى عطاء بن السائب،
#463#
عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((اقرؤوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر؛ فتلك ثلاثون)).
أخبرنا أبو عمرو عبد الرحمن بن منده، الإسناد إلى سعيد بن جبير، عن [ابن] عباس قال: #464# {كهيعص}: كافي، هادي، كريم، عزيز، صادق.
#465##466#
أخبرنا أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الإمام، الإسناد إلى سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ القرآن فأعربه كله كان له بكل حرف أربعون حسنة، ومن أعرب بعضه ولحن في بعض كان له بكل حرف عشرون حسنةً، ومن لم يعرب منه شيئاً كان له بكل حرف عشر حسنات)).(2/461)
14 - ومتلوٍ [و] مسموعٍ بلفظٍ بكل ذا ... ندين ومكتوبٍ خلاف الذي نفر
#467#
قال الله تعالى في قصة الجن: {فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً} لما سمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا أبو الحسين عاصم بن الحسين الأديب، الإسناد إلى زيد بن أرطأة، عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تقرب العبد إلى [الله] بمثل ما خرج منه)) -يعني القرآن-.
#468#
وقد روى هذا المعنى جماعة من الصحابة أسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم:
ابن عباس، وأنس بن مالك.
وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا تابعي قفا، إلا [عمن في] قوله العناء والشقاء.
#469#
أخبرنا الحسن بن أحمد الحافظ، الإسناد إلى أحمد بن حامد قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن وسئل عن اللفظ بالقرآن فقال: ((ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة، ومن قال: اللفظ بالقرآن مخلوق، فهو جهميٌ، ولا أرى فيه شيئاً خيراً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ورد العباد إلى الله عز وجل بشيء أفضل من شيء #470# خرج منه))، وقول الجن حيث قالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً}، أليس سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فمن قال: اللفظ مخلوق، فقد جعل القرآن مخلوقاً)).
قال أبو محمد -وكان من أهل السنة قال-: قرأت على محمد بن إسماعيل البخاري سورةً من القرآن فقلت له: هذا المسموع الذي وقع في أذنيك من قراءتي أيش هو؟ قال: ((هذا كلام الله غير مخلوق)).(2/466)
#471##473#
15 - قديمٌ بلا شكٍ وليس بمحدثٍ ... رووه لنا عن أصدق الخلق والبشر
#474##475#
16 - فمن قال مخلوقٌ فقد فارق الهدى ... بفريته والله يدخله سقر
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى حماد بن سلمة، عن #476# عمار قال: سمعت أبا هريرة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقي آدم موسى فقال موسى لآدم: أنت الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، فعلت ما فعلت وأخرجت الناس من الجنة. فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلمك، وآتاك التوراة، أنا أقدم أم الذكر؟ قال: بل الذكر)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فحج آدم موسى -ثلاثاً-)).
أجمع أئمة أهل السنة من أهل الحل والعقد المرجوع إلى قولهم في الحلال والحرام، وأهل النقل قاطبةً على تكفير من قال بخلق القرآن، وقد صنف أئمتنا كتباً في ذكر من كفرهم من أئمة المسلمين، نذكر في هذا الباب طرفاً منه:
أخبرنا أبو الفتح عبد الوهاب الشيرازي، الإسناد إلى أبي #477# محمد يحيى بن خلف المقري قال: ((كنت عند مالك بن أنس سنة ثمان وستين ومائة، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله! ما تقول فيمن يقول: إن القرآن مخلوق؟ فقال: كافر مرتد، فاقتلوه. قال: إنما أحكي كلاماً سمعته! قال: إني لم أسمعه من أحد إنما سمعته منك.
قال أبو محمد: فغلظ ذلك علي، فقدمت إلى مصر فلقيت #478# الليث بن سعد فقلت: يا أبا محمد! ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ وحكيت له كلام الرجل الذي كان عند مالك، فقال: كافر.
فلقيت ابن لهيعة فقلت له مثل ما قلت لليث بن سعد فقال: كافر.
فأتيت مكة فلقيت سفيان بن عيينة وحكيت له كلام الرجل فقال: كافر.
ثم قدمت إلى الكوفة فلقيت أبا بكر بن عياش فقلت #479# له مثلما قلت لسفيان، فقال: كافر، وقال أبو بكر بن عياش: من لم يقل ((هو كافر)) فهو كافر.
فلقيت علي بن عاصم وهشيماً فقلت لهما وحكيت لهما كلام الرجل فقالا: كافر.
فلقيت عبد الله بن إدريس، وأبا سلمة، وعبدة بن سليمان الكلابي، ويحيى بن زكريا بن [أبي] زائدة، ووكيعاً #480# فحكيت لهم فقالوا: كافر)).
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله فيما أذن لنا في روايته عنه قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: سمعت عمران بن موسى الجرجاني يقول: سمعت سويد بن سعيد يقول:
((سمعت مالك بن أنس، وحماد بن (زيد، و) سفيان بن عيينه، والفضيل بن عياض، #481# وشريك بن عبد الله، ويحيى بن سليمان، ومسلم بن خالد، وهشام بن سليمان المخزومي، وجرير بن عبد الحميد، وابن إدريس، وحفص بن غياث، #482# ووكيع، ومحمد بن فضيل، وعبد الرحمن بن سليمان، وعبد العزيز بن أبي حازم، والدراوردي، وإسماعيل بن جعفر، وحاتم بن إسماعيل، وعبد الله بن يزيد المقري، وجميع من حملت عنهم العلم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، #483# والقرآن كلام الله من صفة ذاته غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر بالله العظيم)).
وهذا إجماع من أئمة الأقطار، إذ كان هؤلاء المذكورون أهل الحل والعقد والفتيا بالحجاز ومصر والشام والعراق وخراسان.(2/473)
#484#
أخبرنا أبو إسماعيل الأنصاري، الإسناد إلى ابن عيينة قال: ((قال الله تعالى في كتابه: {ألا له الخلق والأمر}، فجعل الخلق خلقاً والأمر أمراً، فمن زعم أنها واحد فقد كفر)).
قرأت على أبي بكر السمسار بأصبهان، أخبركم جعفر الفقيه قال: ((سألت أبا القاسم سليمان #485# الطبراني: ما قولك -رحمك الله- فيمن يقول: إن أهل التوحيد يخرجون من النار إلا من يقول: القرآن مخلوق؟ فكتب في جوابه:
من قال: القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم بلا اختلاف بين أهل العلم والسنة؛ لأنه زعم أن الله تعالى مخلوق؛ لأن القرآن كلام الله عز وجل تكلم به وكلم به جبريل الروح الأمين، وأنزله جبريل عليه السلام من عند الله هكذا. قال الله تبارك وتعالى: {نزل به الروح الأمين}، وأنزله جبريل على قلبك، من قال: إنه مخلوق، فهو شر من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، وليس من أهل التوحيد المخلصين الذين أدخلهم الله النار عقوبة منه لأعمال استوجبوا بها النار، فيخرجهم الله من النار برحمته وشفاعة نبيه محمد #486# صلى الله عليه وسلم وشفاعة الشافعين، ومن زعم أن من يقول: ((إن القرآن مخلوق)) يخرج من النار فهو كافر كمن زعم أن اليهود والنصارى يخرجون من النار.
آخر الجزء الأول وأول الثاني.(2/484)
#487#
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وصلى الله على محمد.
17 - وأشهد أن الخير والشر كله ... يجيء من الله العظيم على قدر
#488##489#
أخبرنا أبو الحسين أحمد البزاز، الإسناد إلى ابن عمر قال: ((بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجلٌ أبيض الثياب طيب الريح، فوضع يده على ركبتيه فقال: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: ((تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والجنة والنار والقدر خيره وشره)). قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: ((نعم)) .. .. )) وذكر الحديث بطوله.
أخبرنا أبو عمرو عثمان بن محمد العدل، الإسناد إلى عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر #490# قال: ((كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فخرجت أنا وحميد الحميري فأتينا المدينة، فقلنا: لو لقينا رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن هذا الأمر الذي أحدثه هؤلاء القوم. قال: فلقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهو خارج من المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إن قبلنا قوم يقرؤون القرآن ويطلبون العلم يزعمون أن الأمر أنف وأنه لا قدر! فقال: كذب أولئك! إذا لقيتهم فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني #491# برآء، والذي نفس ابن عمر بيده لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهباً ما قبله الله تعالى منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره. ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل شديد سواد الشعر .. .. )) وذكر الحديث بطوله.
أخرجه مسلم في أول الكتاب عن زهير بن حرب، عن وكيع بن الجراح.
كذلك أخبرنا أبو محمد أحمد بن علي العدل، الإسناد إلى أبي عبد الرحمن السلمي، #492# عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ((ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت -يعني شقيةً أو سعيدةً-)). قال: فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ فقال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة))، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى. وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى}. أخرجاه في #493# الصحيحين عن جرير بن عبد الحميد.
كذلك أخبرنا أبو محمد عبد الله الخطيب، الإسناد إلى عطاء، عن ابن عباس قال: بينا أنا ردف النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لي: ((يا غلام! احفظ الله يحفظك .. .. )) وذكر الحديث بطوله.(2/487)
#494#
أخبرنا أبو الحسين البزاز، الإسناد إلى سعيد بن زياد القرشي قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: ((إني طلبت هذا القدر فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فوجدته في {اقتربت الساعة}، {وكل صغيرٍ وكبيرٍ مستطرٌ})).
أخبرنا أبو منصور محمد بن أحمد العكبري ببغداد، الإسناد إلى عاصم الأحول، #495# عن الحسن قال: ((من كذب بالقدر فقد كذب بالحق، خلق الله عز وجل خلقاً، وقدر له رزقاً، وقدر معصيةً، وقدر عافيةً، من كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن)).
أخبرنا أبو القاسم عبد الله الخلال، الإسناد إلى صالح بن محمد قال: ثنا أخي صدقة قال: ((قيل لبزرجمهر: تعال نتناظر #496# في القدر، فقال: ما أصنع بالمناظرة في القدر؟ رأيت ظاهراً استدللت به على باطن، رأيت أحمقاً مرزوقاً وعاقلاً محروماً، فعلمت أن التدبير ليس إلى العباد)).(2/494)
18 - وأعلم أن الجسر بين جهنمٍ ... وجنة عدنٍ كالطريق لمن عبر
#497#
أخبرنا الشريف أبو نصر الهاشمي، #498# الإسناد إلى أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حتى يزلف الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك، اعمدوا إلى إبراهيم خليل الله فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليماً، فيأتون موسى فيقول: لست بصاحب ذلك، اعمدوا إلى كلمة الله وروحه عيسى، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيؤذن له، ويوصل معه الأمانة والرحم، فيقفان بالصراط يمينه وشماله، فيمر أولكم كمر البرق)). قلت: بأبي وأمي أي شيء مر البرق؟ قال: ((ألم تر إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة؟ ثم كمر الريح، ومر الطير، وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيهم قائم على الصراط فيقول: سلم سلم، حتى تعجز #499# أعمال الناس، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع أن يمر إلا زحفاً)). قال: ((وفي حافتي الصراط كلاليب من نار معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومنكوس في النار)). والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم تسعون خريفاً. أخرجه مسلم.
أخبرنا إبراهيم بن محمد الطيان الإسناد إلى سليمان بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوضع الصراط بين ظهراني #500# جهنم .. .. )). قال: ((فلا أعلمه إلا أنه كحرف السيف، له حسك كحسك السعدان .. .. )) وذكر الحديث.(2/496)
19 - ولا أنكر الميزان والحوض عامداً ... ولا أنكر التسآل في القبر والنظر
#501##503#
قال الله تعالى: {ونضع الموازين القسط}.
#504#
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا أبو محمد الخطيب، الإسناد إلى معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: صعد ابن مسعود شجرة فجعلوا يضحكون من دقة ساقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هما في الميزان أثقل من أحد)).
#505#
أخبرنا أبو بكر أحمد الأديب، الإسناد إلى أم الدرداء، عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن)).
هذا القدر في ذكر الميزان كافٍ إن شاء الله تعالى.
#506#
أخبرنا عمر بن عبيد الله المقرئ، الإسناد إلى أبي بكر بن عبيد الله، عن جده أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت حوضي فإذا على حافتيه مثل عدد نجوم السماء، فأدخلت يدي فيه فإذا عنبر أذفر)).(2/500)
#507#
أخبرنا أبو محمد الصريفيني، الإسناد إلى أبي حمزة الأنصاري، عن زيد بن أرقم قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في منزل نزلوه: ((ما أنتم بجزء من مائة جزء ممن يرد على الحوض من أمتي)).
هذا القدر في ذكر الحوض كافٍ إن شاء الله تعالى.
أخبرنا علي بن أحمد البندار، الإسناد إلى أبي سعيد #508# قال: قال زيد بن ثابت: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له، فحادت به فكادت أن تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: ((من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟)). فقال رجل: أنا، فقال: ((متى مات هؤلاء؟))، فقال: ماتوا في الإشراك. فقال: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا دعوت الله تعالى أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)). ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب النار)). قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر)). قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: ((تعوذوا بالله من الفتن))، قلنا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: ((تعوذوا بالله من الدجال))، قلنا: نعوذ بالله من فتنة الدجال.
أخبرنا أبو محمد الصريفيني، الإسناد إلى مصعب بن سعد، #509# عن أبيه أنه كان يأمر بخمس، ويذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدجال، وأعوذ بك من فتنة القبر)).
وهذا القدر في ذكر القبر كافٍ إن شاء الله تعالى، والله الموفق لما يرضيه.(2/507)
20 - وأشهد أن الله من بعد حشرنا ... نراه بلا شك كما ننظر القمر
قال الله تعالى: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ. إلى ربها ناظرةٌ}.
#510#
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد البزاز، الإسناد إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ} فقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أهل الجنة وأهل النار نادى منادٍ: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجنا من النار؟ فيكشف لهم عن الحجاب، فينظرون إلى الله تعالى، فما شيء أعطوه أحب إليهم من النظر إلى الله تعالى، وهو الزيادة)).
أخرجه مسلم.
#511#
أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد، الإسناد إلى [ابن] أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلع القمر ليلة البدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنكم ترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا [على] صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)).
اتفقا على إخراجه.
#512#
أخبرنا أبو عمرو عثمان بن محمد العدل، الإسناد إلى عطاء بن يزيد الليثي، أن أبا هريرة أخبره، أن ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل نرى ربنا في الشمس ليس دوننا سحاب يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تضارون في القمر ليلة البدر؟)). قالوا: لا يا رسول الله! قال: ((هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)). قالوا: لا. قال: ((فإنكم ترونه كذلك)) .. .. وذكر الحديث بطوله. أخرجه مسلم.(2/509)
#513##514#
21 - وأثبت حقاً للرسول شفاعةً ... وللمؤمنين المخلصين ذوي الخطر
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى أبي حمزة العطار، عن الحسن في قوله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} قال: ((هي الشفاعة التي وعده الله تعالى)).
#515##516#
أخبرنا عبد الله بن الحسن الخلال، الإسناد إلى سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: ((لقد ظننت -يا أبا هريرة- أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قبل نفسه)).
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى قتادة، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل نبي دعوة دعا بها فاستجيب له، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة)). أخرجاه.
أخبرنا أبو القاسم البسري، الإسناد إلى أبي نضرة، عن #517# أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر)).
أخبرنا أبو محمد الصريفيني، الإسناد إلى أبي الزبير، عن #518# جابر قال في جمع ظني ولست أشك أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إذا ميز أهل الجنة من أهل النار، فيدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قامت الرسل فيشفعوا فيقول: انطلقوا واذهبوا فمن عرفتم فأخرجوه، فيخرجونهم قد امتحشوا، فيلقوا على نهر -أو في نهر- يقال له: الحياة، فيسقط محاشهم على حافتي النهر، ويخرجون بيضاً مثل الثغابير، ثم يشفعون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه قيراطاً من إيمان فأخرجوه، فيخرجون بشراً، ثم يشفعون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال #519# حبة خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون بشراً، ثم يقول الله عز وجل: أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي، فيخرج أضعاف ما أخرجوه وأضعافه، وكتب في رقابهم: عتقاء الله، فيدخلون الجنة، فيسمون الجهنميون)).(2/514)
أخبرنا أبو عمرو عثمان بن محمد المزكي بنيسابور، الإسناد إلى أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشةً، ثم #520# قال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ إن الله يجمع الناس يوم القيامة الأولين والآخرين على صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس منهم، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغتم؟ ألا تنظرون من يشفع إلى ربكم، فيقول بعض الناس: أبوكم آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، سماك الله عبداً شكوراً، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه كان لي دعوةٌ دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
#521#
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، فضلك برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، كلمت الناس في المهد وكهلاً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً -نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمدٍ.
#522#
فيأتون فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، وما قد بلغنا.
فانطلق فآتي تحت العرش فأخر ساجداً لربي، ثم يفتح الله تعالى علي من الثناء، ويلهمني من محامده شيئاً لم يفتحه على أحدٍ من قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تُعط، اشفع تُشفَّع.
فأرفع رأسي فأقول: أمتي أمتي أمتي! -ثلاث مرات- فيقال: يا محمد! أدخل الجنة من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سِوى ذلك من الأبواب)). قال: ((والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريعِ الجنة كما بين مكة وهجر، #523# أو كما بين مكةً وبُصرى)). مجمع على صحته وأخرجاه.(2/519)
وأما شفاعة المؤمنين لإخوانهم:
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى الحارث بن قيس، عن أبي بردة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أمتي من يشفع لأكثر من ربيعة ومضر، وإن أمتي من لم تعظم النار حتى تكون #524# زاوية من زواياها)).
أخبرنا عثمان بن محمد، الإسناد إلى عطاء بن السائب، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا، فالذي نفسي بيده ما أحدٌ بأشد مناشدةً في الحق يريد [مضياً] له من المؤمنين في إخوانهم إذا رأوهم #525# قد خلصوا من النار، يقولون: أي ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويجاهدون معنا ويحجون معنا قد أخذتهم النار! يقول: اذهبوا فمن عرفتم صورته فأخرجوه، وتحرم صورهم على النار، فيجدون الرجل قد أخذته النار إلى قدميه، وإلى أنصاف ساقيه، وإلى ركبتيه، وإلى حقويه، فيخرجون منها بشراً كثيراً، ثم يعودون فيتكلمون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قيراط من خير فأخرجوه، فيخرجون منها بشراً كثيراً، ثم يعودون #526# فيتكلمون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه نصف قيراط فأخرجوه، فيخرجون منها بشراً كثيراً، ثم يعودون فيتكلمون فلا يزال يقول لهم ذلك حتى يقول: اذهبوا فأخرجوا من وجدتم في قلبه ذرة من خير -فكان أبو سعيد إذا حدث بهذا الحديث يقول: إن لم تصدقوني فاقرؤوا: {إن الله لا يظلم مثقال ذرةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} -فيقولون: ربنا لم ندع فيها خيراً، فيقول: قد شفعت الملائكة، وشفع الأنبياء، وشفع المؤمنون، فما بقي إلا أرحم الراحمين)).
قال: ((فيأخذ قبضةً من النار فيخرج قوماً قد عادوا حمماً لم يعملوا له عمل خير قط، فيطرحون في نهر من أنهار الجنة يقال له: نهر الحياة، فينبتون فيه، والذي نفسي بيده كما تنبت الحبة في #527# حميل السيل، ألم تروها وما يليها من الظل أصيفر، وما يليها من الشمس أخيضر؟)).
قلنا: يا رسول الله! كأنك كنت في الماشية. قال: ((فينبتون كذلك، فيخرجون مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخواتم، ثم يرسلون في الجنة، يقولون: هؤلاء الجهنميون، هؤلاء الذين أخرجهم الله عز وجل من النار بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. يقول الله تعالى لهم: ادخلوا وخذوا فلكم ما أخذتم، فيأخذون حتى ينتهوا، ثم يقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول الله عز وجل: فإني قد أعطيتكم أفضل مما أخذتم. فيقولون: ربنا وما أفضل مما أخذتم؟ فيقول: رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)). اتفقا عليه بطوله. والله أعلم.(2/523)
#528#
22 - ويخرج أقوامٌ من النار بعدما ... أصابهم سفعٌ من النار والشرر
أخبرنا أبو القاسم البندار، الإسناد إلى عمرو بن ميمون، أن ابن مسعود حدثهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يكون في النار قوم ما #529# شاء الله أن يكونوا، ثم يرحمهم الله عز وجل فيخرجهم، فيكونوا في أدنى الجنة فيغتسلون في نهر الحياة، فيسمهم أهل الجنة الجهنميون، لو أضاف أحدهم أهل الدنيا لأطعمهم وسقاهم، وفرشهم ولحفهم -قال حماد: وأحسبه قال: وزودهم- لا ينقص ذلك مما عنده شيء)).
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد، الإسناد إلى ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر، ورجمت)) -قال: وأراد أن يكتب حد الرجم في المصحف-.
#530#
قال: ((وسيجيء قوم يكذبون بالرجم، [و] بالحوض، وبالشفاعة، وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا)).
اللفظ لعبيد الله بن يحيى. والله أعلم.
آخر الجزء الثاني وأول الثالث.(2/528)
#531#
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
23 - وأثبت أخبار الصفات ولا أرى ... تأولها وهو الصحيح لمن سبر
أخبرنا القاضي أبو منصور محمد بن أحمد، الإسناد إلى أبي الرجال #532# عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن -وكانت في حجر عائشة-، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قل هو الله أحدٌ}، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟))، فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخبروه أن الله يحبه)).
هذا الحديث يدل على إثبات الصفة لله عز وجل، إذ لو كان ذلك غير جائز لأنكر عليه قوله، ولم يبشره بمحبة الله له. اتفقا على إخراجه في الصحيحين.
أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد، الإسناد إلى عبيد الله بن مقسم، عن ابن عمر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره: {وما قدروا #533# الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة}، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا ويمجد نفسه يعني الله عز وجل: ((أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر)) تعالى الله عز وجل، فرجف به المنبر حتى قلنا: ليخرن به الأرض.
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} قال: ((وضع إبهامه على قريب من طرف أنملة خنصره فساخ الجبل)). فقال حميد لثابت: تقول هذا؟
#534#
فرفع ثابت يده فضرب بها صدر حميد، وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس، وأنا أكتمه؟!.
أخبرنا أبو بكر الخطيب، الإسناد إلى عباد بن العوام قال: قدم علينا شريك بن عبد الله النخعي نحواً من خمسين سنة، فقلت: يا أبا عبد الله! إن عندنا قوماً ينكرون هذه الأحاديث، يعني الصفات. قال: فحدثني بنحوٍ من عشرة أحاديث في هذا، وقال: نحن أخذنا ديننا عن التابعين عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهم عمن أخذوا؟.
#535#
وإثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله -جل وعز- لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع، وبالأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات هذه الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن #536# الله تعالى لا يشبه شيء، وعلى هذا جرى قول علماء السلف في أحاديث الصفات.
أخبرنا القاضي أبو منصور وأبو إسحاق القفال، الإسناد إلى ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان الكتاب الأول نزله من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتهم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا)).(2/531)
#537#
24 - وأشهد أن الله ليس كخلقه ... ومن قال بالتشبيه يوماً فقد خسر
أخبرنا أبو الحسين أحمد البزاز، الإسناد إلى أبي بردة قال: وفدنا إلى الوليد بن عبد الملك، فكان الذي يقبل في حوائجي عمر بن عبد العزيز. قال: فلما ودعته وسلمت عليه #538# ذكرت حديثاً حدثني به أبي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا، ويبقى أهل التوحيد، فيقال لهم: ما تنتظرون وقد ذهب الناس؟ فنقول: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا لم نره. قال: وتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم؛ لأنه لا شبه له، فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إلى الله عز وجل، فيخرون له سجداً، ويبقى أقوام في ظهورهم مثل صياصي البقر، فيريدون السجود فلا يستطيعون، فذلك قول الله تعالى: {يوم يكشف عن ساقٍ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون}، فيقول الله عز وجل: عبادي! ارفعوا رؤوسكم، فقد جعلت بدل كل رجل مسلم منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار)).
#539#
فقال عمر بن عبد العزيز: آلله الذي لا إله إلا هو لحدثك أبوك بهذا الحديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحلفت له ثلاثة أيمان على ذلك، فقال عمر: ما سمعت في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إلي من هذا.
أخبرنا أبو عمرو، الإسناد إلى سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس، أن بني إسرائيل وصفوا الرب عز وجل، فأنزل الله: {وما قدروا الله حق قدره}، ثم بين لعباده عظمته فقال: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطوياتٌ بيمينه}.(2/537)
#540#
25 - وأثبت أخبار النزول لما روى ... جماعةٌ من صحب الرسول ذوو البصر
26 - أبو بكر والدوسي وابن عرابة ... وجابر والخدري عنهم مستطر
27 - وعمرو سليم وابن قيس وحيدر ... ومثل أبي الدرداء وذلك مشتهر
28 - وجرثوم والصديقة الطهر عائشٌ ... وهندٌ وما يروي جبير الذي خبر
29 - وعثمان والعبسي ثم معاذنا ... وجد يزيد قد رووه في الأثر
30 - وأما ابن مسعود فقال كما رووا ... وأسنده عنه كما قاله نفر
#541#
أبو بكر الصديق.
وأبو هريرة الدوسي.
ورافع بن عرابة الجهني.
#542#
وجابر بن عبد الله الأنصاري.
وأبو سعيد الخدري.
وعمرو بن عبسة السلمي.
#543#
وعبد الله بن قيس.
وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقال [له]: حيدرة.
وأبو الدرداء عويمر بن عامر الأنصاري.
#544#
وجرثوم بن ناشب أبو ثعلبة الخشني.
والصديقة عائشة، وأم سلمة هند بنت أبي أمية -زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم-.
وجبير بن مطعم.
#545#
وعثمان بن أبي العاص.
وعقبة بن عامر بن عبس الجهني -نسبناه إلى جده عبس-.
#546#
ومعاذ بن جبل.
وأبو سلمة جديد بن سلمة.
#547#
وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
كل هؤلاء رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(2/540)
31 - نزول إله العرش في كل ليلة ... وليلة شعبان يقول إلى السحر
32 - ألا سائل أعطيه غاية سؤله ... ومستغفر يدعو فطوبى لمن غفر
أحاديث من قدمنا مشهورة،
#548#
وفي كتب أهل النقل مسطورة، نورد منها ما أجمع على صحته، ليرجع بذلك المبتدع عن شبهته:
قال الله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظللٍ من الغمام .. .. } الآية.
#549#
أخبرنا أبو عمرو عثمان العدل، الإسناد إلى أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له، من يسألني فأعطيه)).
أجمع أهل النقل على صحته، واتفق البخاري ومسلم على إخراجه.
#550#
وأما حديث النزول ليلة النصف من شعبان:
أخبرنا أبو بكر الخطيب، الإسناد إلى أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لأهل الأرض إلا مشرك أو مشاحن)).
أخرجه ابن ماجه في ((سننه)).(2/547)
33 - وينزل يوم الفطر جل ثناؤه ... إلى رقعة الدنيا يباهي بمن حضر
#551##552#
أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب الإمام، الإسناد إلى جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم عرفة ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً، من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: فلان مرهق! فيقول: قد غفرت لهم. فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة)).
أخبرنا عبد الله بن الحسن، الإسناد إلى أم سلمة قالت: ((نعم اليوم يوم ينزل الله عز وجل فيه إلى سماء الدنيا. قالوا: يا أم المؤمنين! وأي يوم هو؟ قالت: يوم عرفة)).
#553#
أخبرنا أحمد بن محمد البزاز، الإسناد إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كانت عشية عرفة باهى الله عز بالحاج، فيقول للملائكة: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً، قد أتوني من كل فج عميق، يرجون رحمتي ومغفرتي، أشهدكم أني قد غفرت لهم إلا ما كان من بعضهم بعضاً، فإذا كان غداة المزدلفة قال الله تعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم تبعات بعضهم، وضمنت لأهلها النوافل)).(2/550)
#554#
34 - وأعلم حقاً أن جنة ربنا ... ونار لظى مخلوقتان لمن أمر
أخبرنا أبو محمد عبد الله الخطيب، الإسناد إلى أبي رجاء، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء والمساكين، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)).
أخرجه مسلم في ((صحيحه)).
#555#
أخبرنا أبو محمد الخطيب، الإسناد إلى أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فأطال القيام حتى جعلوا يخرون، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم سجد سجدتين، ثم قام فصنع نحواً من ذلك، وجعل يتقدم ويتأخر، وكانت أربع سجدات، ثم قال:
((إنه عرض علي كل شيء توعدون به، فعرضت علي الجنة حتى لو أني تناولت منها قطفاً أخذته -أو قال: تناولت منها قطفاً فقصرت يدي عنه. قال هشام: أنا أشك-. قال: ((وعرضت علي النار فجعلت أتأخر رهبت أن تغشاكم، ورأيت فيها امرأةً حميرية سوداء طويلةً تعذب في هرة لها ربطتها ولم تدعها تأكل #556# من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار)).
أخبرنا أبو القاسم علي، الإسناد إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي #557# صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)).(2/554)
35 - وأعرف إيماناً يزيد بطاعةٍ ... وينقص بالعصيان لا قول من فجر
قال الله تعالى: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم}.
وقال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً}.
وقال تعالى: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً}.
وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون}.
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى أبي صالح، عن أبي #558# هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون باباً -أو بضع وسبعون باباً-، أفضلها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).
أخبرنا أبو القاسم الفضل المفسر، الإسناد إلى العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)).
أخبرنا أبو الحسن الكاتب، الإسناد إلى أبي [داود] #559# سليمان بن الأشعث قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ((الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، البر كله من الإيمان، والمعاصي تنقص من الإيمان)).
#560#
أخبرنا أبو منصور محمد القزويني، الإسناد إلى علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان)).(2/557)
#561#
36 - وأثبته بالقول والعمل الذي ... هما سببان للنجاة من الغرر
#562##563#
أخبرنا أبو محمد عبد الله الخطيب، #564# الإسناد إلى أبي جمرة قال: ((كنت أقعد مع ابن عباس، وكان يجلسني معه على سريره، فقالت لي امرأة: سله عن نبيذ الجر. قال: وكانت علي يمينٌ أن لا أسأله عن نبيذ الجر، فسألوه عن ذلك فنهاهم، فقلت: يا أبا عباس! إني أنتبذ في جرة لي خضراء فأشرب نبيذاً حلواً يتقرقر منه بطني. قال: لا تشربه وإن كان أحلى من العسل. قال: فقلت: إن وفد عبد قيس يشربون نبيذاً شديداً.
#565#
قال: اكسره بالماء إذا خشيت شدته، ثم قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من القوم؟ -أو من الوفد؟ -))، قالوا: ربيعة، قال: ((من كبار القوم غير خزايا ولا ندامى)). قالوا: يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة. قال: وسألوه عن الأشربة، فأمرهم بأربعة، ونهاهم عن أربعة، أمرهم بالإيمان بالله وحده. قال: ((تدرون ما الإيمان بالله وحده؟)). قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت، وأن تعطوا من المغنم الخمس)). ونهاهم عن أربعة: عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفت.
#566#
وقال: ((احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم)).
أخرجه البخاري، ورواه أبو داود في ((سننه)).
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد، الإسناد إلى سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإيمان أفضل؟ قال: ((إيمان بالله تعالى))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((ثم الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)).
آخر الجزء الثالث وأول الجزء الرابع، والحمد لله.(2/561)
#567#
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم
37 - وإجماع أصحاب الرسول وثيقةٌ ... لأنهم أهل التلاوة والبصر
قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}.
أجمع المفسرون أن الآية واردةٌ في لزوم اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه.
وقال عز وجل: {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}.
وقال عز وجل: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.
#568#
أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد، الإسناد إلى عقبة بن وساج، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله من سمع قولي ثم لم يزد فيه، ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)).
#569#
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد، الإسناد إلى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم)).
قال: يريد بالاختلاف الأهواء، لا يريد اختلاف الفتنة.
أخبرنا أبو محمد الصريفيني، الإسناد إلى ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي رضي الله عنه قال: ((اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره #570# الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي قال: ((فكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروون عن علي -رضوان الله عليه- كذبٌ)).(2/567)
#571#
38 - فمن جاء من بعد الرسول وصحبه ... بما لم يكن في عصرهم كان كالدهر
أخبرنا أبو القاسم البندار، الإسناد إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ)).
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد، الإسناد إلى أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا فرطكم على الحوض، #572# وليرفعن رجالاً منكم ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب! أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)). أخرجه البخاري.
#573#
قال البغوي: وحدثنا شيبان بن فروخ، الإسناد إلى مولى ابن مسعود قال: دخل ابن مسعود على حذيفة فقال: اعهد إلي، فقال: ألم يأتك اليقين؟ قال: بلى وعزة ربي! قال: فاعلم أن الضلالة حق الضلالة هو أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، إياك والتلون، فإن دين الله تعالى واحد.(2/571)
#574#
39 - وأحتج بالمنصوص في شرع أحمدٍ ... ومن قال فيه بالقياس فقد خسر
#575#
قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.
وقال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ}.
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا أحمد بن علي، الإسناد إلى علي بن الحسين، #576# عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول من قاس إبليس، فلا تقيسوا)).
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى أبي ذر قال: ((لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحه في السماء إلا هو يذكرنا منها علماً)).
#577#
أخبرنا أبو محمد الخطيب، الإسناد إلى ابن طاووس، عن أبيه، قال: قال عمر: ((إنا لا نحل أن نسأل عما لم يكن، فإن الله تعالى قد بين ما هو كائن)).
أخبرنا أبو بكر الأديب، الإسناد إلى أبي عبد الله محمد بن إسماعيل قال: ((كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، #578# ليس بينهم رأي ولا قياس)).
#579#
أخبرنا أبو القاسم علي بن الخشاب، الإسناد إلى الإمام أحمد بن حنبل قال: سألت الشافعي عن القياس، فقال: ((عند الضرورات)).(2/574)
40 - ولست أرى رأي الرجال وثيقةً ... لأن رسول الله عن ذاك قد زجر
أخبرنا أبو محمد الخطيب، الإسناد إلى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً #580# ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) أخرجاه.
أخبرنا أبو القاسم الخلال، الإسناد إلى حماد بن زيد قال: ((قال لي أيوب: لو جئت حتى تنظر في شيء من الرأي. قال: قلت: نعم. قال: فسكت سكتةً ثم قال: قيل لحمار: ما لك لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل!)).
#581#
أخبرنا أبو بكر الخطيب بالري، الإسناد إلى بقية، عن الأوزاعي، عن أرطأة بن المنذر قال: ((إن واطينا أهل الرأي يوشك أن يخرجونا من جميع الفرائض، وذلك أنهم قالوا: لا جهاد مع إمام جائر، ولا صلاة جمعة، ولا زكاة! ما بقي إلا أن يقولوا: لا حج، ولا صيام شهر رمضان معهم!!)).(2/579)
41 - ولا أرتضي في الدين قول مجادلٍ ... بما زخرفوه من فصولٍ لها كدر
قال الله تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقابٍ}.
#582#
وقال تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً} إلى قوله: {وجعلنا لمهلكهم موعداً}.
وقال تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً}.
وقال: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطانٍ أتاهم إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير}.
وقال تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد}.
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا أبو علي التتري بالبصرة، #583# الإسناد إلى القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هو الذين أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هن أم الكتاب} إلى: {أولوا الألباب}، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله عز وجل، فاحذروهم)).
أخرجه البخاري.
أخبرنا أبو الفضل عبد الواحد التميمي، الإسناد إلى أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا جدلا))، ثم قرأ: {ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قومٌ خصمون}.
#584#
أخبرنا علي بن أحمد البندار، الإسناد إلى عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج إلينا يعرف في وجهه الغضب، فقال: ((ألا إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب)).
أخبرنا القاضي أبو منصور، الإسناد إلى الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعد يقول: ((إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته)).(2/581)
#585#
42 - ولكن بالآيات والسنن التي ... أتت عن رسول الله في ذاك كالغرر
43 - فإن لم يكن في ذاك نصٌ فما أتى ... إلينا بإجماع عن السلف الشهر
44 - وأهجر أرباب الكلام بأسرهم ... فكن منهم يا صاح ويك على حذر
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القدرية مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا #586# تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشيعوهم)).
أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد، الإسناد إلى أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الناس يسألون حتى يقال لكم: هذا الله خلقنا فمن خلق الله تعالى!)). قال أبو هريرة: إني لجالس إذ قال لي رجل: هذا الله خلقنا فمن خلق الله تعالى؟! فجعلت أصبعي في أذني ثم صرخت: صدق الله ورسوله! الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، #587# ولم يكن له كفواً أحد.
أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة، الإسناد إلى الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فاعملوا منه ما تستطيعون)).
أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن مسعدة، الإسناد إلى بشر بن الوليد قال: سمعت أبا يوسف #588# يقول: ((من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غريب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس)).(2/585)
#589##590#
45 - لأنهم قد أبدعوا وتنطعوا ... وكانوا بلا ريبٍ على منهجٍ خطر
أخبرنا علي بن أحمد البندار، الإسناد إلى عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا هلك المتنطعون))، قالها ثلاثاً.
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة .. .. )) وذكر الحديث.
أخبرنا أبو محمد الصريفيني، الإسناد إلى مرة الهمداني قال: كان عبد الله يقول مثل الحديث المتقدم ويزيد: ((وإن ما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين)).(2/590)
#591#
46 - ولست أرى شق العصا لا ولا أرى ... خروجاً على السلطان [و] إن جار أو غدر
أخبرنا أبو محمد يحيى العلوي، الإسناد إلى أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما ذهب نبيٌ خلفه نبيٌ، وإنه ليس بكائن بعدي نبي)). قالوا: يا رسول الله! فما يكون؟ قال: ((يكون خلفاء ويكثرون))، قالوا: يا رسول الله! فما نصنع؟ قال: ((أوفوا ببيعة الأول فالأول، أدوا الذي عليكم ويسألهم الله عز وجل الذي عليهم)).
#592#
أخبرنا أبو القاسم البسري، الإسناد إلى أبي ذر قال: كنت نائماً في المسجد، فركضني رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله وقال: ((أتنام فيه؟!)). قلت: غلبتني عيني يا رسول الله! قال: ((فكيف بك إذا أخرجت منه؟!)). قال: قلت آتي الشام الأرض المقدسة المباركة، قال: ((فكيف بك إذا أخرجت منها؟!)). قال: قلت أعود إليه. قال: ((فكيف بك إذا أخرجت منه؟!)).قال: قلت أصنع ما تأمرني، آخذ سيفي؟ قال: ((لا، ولكن تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوا)).(2/591)
47 - وأبرأ من رأي الخوارج إنهم ... أراقوا دماء المسلمين كما اشتهر
أخبرنا أحمد بن علي، الإسناد إلى حصين، عن مصعب #593# ابن سعد، [عن سعد] في قول الله عز وجل: {يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} قال: قلت له: أهم الخوارج؟ قال: ((لا، ولكنهم أصحاب الصوامع، الخوارج الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم)).
#594#
أخبرنا محمد بن عبد العزيز، الإسناد إلى زياد قال: سمعت أبا هريرة قال [له] رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فارق الجماعة مات ميتةً جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يستحي #595# من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس من أمتي، ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية ويدعو إلى عصبية مات ميتةً جاهلية)).
أخرجه مسلم.
أخبرنا أحمد بن علي المقرئ، الإسناد إلى [ابن] أبي أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج: ((هم كلاب النار)).
#596#
وهذا الحديث قد اشتهر من طريق أبي غالب عن أبي أمامة الباهلي، والمحدثون يجمعون طرقه عنه.(2/592)
48 - ولست براضٍ أن يكفر مسلمٌ ... بذنبٍ جناه على الله قد غفر
#597##598#
أخبرنا أبو محمد الخطيب، الإسناد إلى أبي الزبير، عن جابر -وسأله رجلٌ: أكنتم تعدون الذنب شركاً؟ - قال: لا. قال: وسئل ما بين العبد وبين الكفر، قال: ترك الصلاة.
أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل المقرئ، الإسناد إلى أبي سفيان، عن جابر أنه قال له رجل: هل كنتم تسمون أحداً من أهل القبلة مشركاً؟ قال: معاذ الله! قال: فهل كنتم تسمونه كافراً؟ قال: لا.
أخبرنا أبو القاسم إسماعيل، الإسناد إلى عبد الله بن يزيد الدمشقي قال: حدثني أبو الدرداء وأبو أمامة وأنس بن مالك وواثلة #599# بن الأسقع قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء)). قالوا: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: ((الذين يصلحون إذا فسد الناس، فلا تماروا في دين الله عز وجل، ولا تكفروا أهل القبلة بذنب)).(2/596)
49 - وقال رسول الله يوماً محذراً ... من الخبر المشهور عنه الذي انتشر
50 - ستفترقوا مثل الذي كان قبلكم ... ثلاثاً وسبعين فكان كما ذكر
#600#
51 - فواحدةٌ تنجو وهم أهل سنتي ... فأبشر بذي الحسنى من الله واصطبر
52 - وسائرهم هلكى لقبح انتحالهم ... وخبث اعتقاد عنهم اليوم قد ظهر
أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد، الإسناد إلى أنس بن مالك قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: ((افترقت بنو إسرائيل على إحدى #601# وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة أو ثلاثة، كلهم في النار إلا السواد الأعظم)).
أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد، الإسناد إلى محمد بن عبد الله بن بشر قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد أحمد بن إبراهيم بن شاذان في المنام فقمت إليه فقلت: يا رسول الله! الحديث الذي روي عنك: ((ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة .. .. ))؟ قال: أنا #602# قلت. فقلت: يا رسول الله! فمن الناجية منهم؟ قال: أنتم أصحاب الحديث)).
#603#
أخبرنا أحمد بن علي، الإسناد إلى أبي إسماعيل المروزي قال: ((رأيت أبا أحمد الحافظ النيسابوري في المنام فقلت له: أي الفرق أكثر -أو قال: أسرع- نجاةً عندكم؟ فأشار بإصبعه السبابة فقال: أنتم)).(2/599)
#604#
53 - فمعبدٌ من قبل الذي خالف الورى ... بسحرٍ سيجزى في المعاد بما سحر
معبد الجهني: من أهل البصرة، أول من تكلم بالقدر، فلما بلغ الحجاج مقالته أخذه وقتله.
أخبرنا عبد الله بن الحسن الخلال، الإسناد إلى محمد بن زياد قال: ((كنا في المسجد إذ مر معبد الجهني إلى عبد الملك بن مروان، #605# فقال للناس: إن هذا لهو البلاء المبين! فسمعت خالد بن معدان يقول: ((إن البلاء كل البلاء إذا كانت الأئمة متهمة)).(2/604)
54 - وأما ابن كلابٍ فجاء ببدعةٍ ... وجعدٌ وجهمٌ والمريسي ذوو الدبر
#606#
عبد الله بن سعيد بن كلاب: كان نصرانياً من أهل البصرة، فأسلم وفارق قومه.
كما أخبرنا الإمام سعد بن علي، الإسناد إلى الحسن بن #607# محمد -وكان جاراً لابن كلاب- قال: لما أسلم ابن كلاب هجرته أخته، وكانت أكبر منه، وأخرجته من المحلة والدار، وكانت عالمةً في النصارى راهبةً مقبولة القول، يصدرون عن رأيها، فحمل عليها بكل أحد من مسلم ونصراني في أن تمكنه من الدخول عليها فأبت، فاحتال حتى تسلق عليها، فلما رأته صاحت وحملت عليه، فقال: يا سيدتي! تسمعي مني كلمةً واحدةً ثم افعلي ما شئت.
فقالت: هات. فقال: اعلمي أني وجدت هذا الإسلام ينتشر ويزداد كل يومٍ ظهوراً، والنصرانية تضمحل وتندرس آثارها، فوضعت فصولاً ووضعت مسائل -ذكرها لها-، قد أودعتها خفي النصرانية، وقد دسستها في الإسلام وشوشت عليهم أصولهم! فحين سمعت ذلك منه طابت نفسها.
#608#
وهو الذي يزعم أن ليس لله عز وجل كلام مسموع منه! وأن جبريل لم يسمع منه شيئاً مما أداه إلى رسله! وأن الذي نزل به إلى الأنبياء حكاية كلام الله! وأن كلام الله عز وجل ليس بأمر ولا نهي ولا استخبار، وإنما يعرف ذلك منه لمعنى آخر، وأنه ليس لله كلمات! وأن كلامه شيء واحد ليس بسور ولا آيات ولا لغة من اللغات!!.
#609#
وأما الجعد بن درهم فإنه أول من أنكر تكليم الله موسى بكلام مسموع منه!
فرفع أمره إلى خالد وهو أمير على العراق، فأشخصه إلى واسط، وأحضر جماعة من العلماء فنابشوه عن فعله، فأقر وأصر فأجمعوا على زندقته، فأحضره هشام بن عبد الملك #610# المصلى يوم عيد الأضحى، وحضر خالد، فخطب خالد ثم قال: أيها الناس! ارجعوا فضحوا، تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بالجعد بن درهم! إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً!! سبحانه وتعالى عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه.
وأما الجهم: هو الجهم بن صفوان الراسبي، كان كاتباً #611# للحارث بن شريح التميمي، فلما طرده تعبد، وكان يغشى مجلس أبي حنيفة، ثم أحدث مقالاً خبيثةً منه: أن علم الله تعالى محدث وكلامه محدث! لم يكن عالماً ولا متكلماً حتى أحدث لنفسه علماً وكلاماً! وأحدث مذهب الجبر، وأن الله تعالى جبر الخلق على الكفر والمعاصي، وله أن يفعل ما يشاء، وأن تكليف ما لا يطاق حكمة منه بالغة! وأن الإيمان علم بالقلب بوجود الله تعالى دون الإقرار والعقد والعمل! وأن الزيادة والنقصان والقوة والضعف لا يدخل الإيمان! وكان ترك الصلاة نيفاً وأربعين يوماً متعمداً، وقال: أنا في مهملة النظر حتى يصح لي ثبوت من أعبده!! وأن الجنة والنار ما خلقتا بعد!
#612#
فرفع أمره إلى أمير العراق، فجمع العلماء وأحضره، وسألوه عما يعتقده ويعول عليه.(2/605)
55 - وجاء ابن كرام بمينٍ وفريةٍ ... على الله والمبعوث منه وما شعر
قال شيخنا أبو القاسم سعد: هذا أبو عبد الله محمد بن كرام، وكان #613##614# من نواحي سجستان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، إلا أنه كان يتعبد ويظهر الزهد والتقشف والتخلي، وذلك في أصحابه إلى الآن حيث كانوا، وكثر ظهورهم بنيسابور وببيت المقدس، منهم طائفة قد عكفوا على قبره مال إليهم كثير من العامة؛ لاجتهادهم، وكان يقول: الإيمان قول باللسان مجرد عن عقد القلب وعملٍ بالأركان! فمن أقر بلسانه بكلمة التوحيد فهو مؤمن حقاً وإن اعتقد بقلبه الكفر والتثليث وارتكبها، وضيع جميع قواعد الشريعة وتركها، وأتى كل فاحشة كبيرة وارتكبها، إلا أنه مقرٌ بلسانه بكلمة التوحيد فهو مؤمن موحد لله تعالى من أهل الجنة! وأنه لا يضره سيئةٌ مع إقراره بالوحدانية، كما لا ينفعه حسنة مع إظهاره الشرك بالله العظيم.
فلزمهم من هذا القول أن المنافقين مؤمنون حقاً! وقد أكذبهم الله تعالى في غير موضع من كتابه، وحقق أنه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً، وذكر أن المنافقين في الدرك الأسفل #615# من النار ولن تجد لهم نصيراً، وغير ذلك من الآيات النصوص الواردة.
وطائفة منهم تسمى المهاجرية تقول بالجسم: أن الله تعالى جسم لا كالأجسام!!(2/612)
#616#
ويقولون: الأنبياء يجوز منهم كبائر المعاصي كلها إلا الكذب في البلاغ! وقالوا: لا يوصف الله عز وجل بالقدرة على غير ما فعل، وأنه لا يقدر على إفناء خلقه كلهم حتى يبقى وحده كما لم #617# يزل! ويجيزون كون إمامين في وقت واحد! ولهم غير ذلك، لا يستحل مسلم التلفظ بها.
فصار له -مع جهله- تبعٌ كثير وجمع كبير، فرفع أمرهم إلى إبراهيم بن الحصين أمير سجستان، فتعجب من ذلك، وأمر بإحضاره، فجاءه لابساً مسحاً معلقاً سبحةً بيده، معه أصحابه عليهم البرانس، ففاوضه فوجده عفطياً لا يعي ولا يعقل، فاستقرأه فاتحة الكتاب، فبدل ألفاظها! واستقرأه التشهد فقرأ: التهيات لله والسلوات التيبات!! فكثر تعجبه وغيظه، وأغرى بالعامة ونكل بهم حيث غواهم قشف هذا الرجل مع جهله، وقال: إني أرى نفيه #618# من هذا الإقليم ويتولى قتله غيري، ثم نفاه وأهدر دمه إن وجد في موضع من بلاده.
فخرج هو وأصحابه إلى أرض نيسابور، فاستقبله أهلها بالرحب، وقبلوه أحسن قبول، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة وأهل العلم وأعياهم أمره، فاجتمعوا إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وكان شيخ الوقت غير مدافع، وإماماً في سائر العلوم الدينية، فحين استفحل أمر ابن كرام وانتشر قوله كاتب محمد بن إسحاق إلى السلطان، وأن البلية قد عظمت بهذا الرجل، فكتب السلطان إلى نائبه بنيسابور أن يمتثل جميع ما يأمر به الشيخ محمد بن إسحاق، فجمع أهل العلم واستشارهم، فقالوا: ليس نجد رأياً أرشد من إخراجه من الناحية. فأخرج وخرج معه من أماثل البلد خلقٌ كثيرٌ، وامتد على حاله إلى بيت المقدس، وسكن هناك إلى أن مات، وبها قبره يقصد ويزار.
قال الشيخ الإمام الحافظ رضي الله عنه: وكان مع هذه البدع #619# يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويضع الأحاديث فيما يوافق معتقده ورأيه.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الأديب، الإسناد إلى محمد بن إسحاق السراج قال: شهدت محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله وقد دفع إليه كتاب من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث، منها: سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم #620# قال: ((الإيمان لا يزيد ولا ينقص))، ومعمر عن الزهري بتمام الإسناد قال: ((الإيمان لا يزيد ولا ينقص)).
فكتب محمد بن إسماعيل على ظهر كتابه: ((من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد، والحبس الطويل)).
#621#
آخر الجزء الرابع وأول الجزء الخامس.(2/616)
#622#
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
56 - فهم أحدثوا هذا الكلام بعقلهم ... وكلهم عن منهج الحق قد عبر
57 - أرادوا به تشويش شرع محمدٍ ... فما بلغوا ما أملوه من الغرر
58 - محالٌ كقيعان السراب تخاله ... دليلاً ولكن في الحجاج قد انكسر
#623#
أخبرنا أبو بكر الخطيب، الإسناد إلى محمد بن زياد، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله نبياً فاستجمعت له أمته إلا كان فيهم مرجئة وقدرية، يشوشون على أمته من بعده، ألا وإن الله لعن المرجئة والقدرية على لسان سبعين نبياً، أنا آخرهم)).
ثم كل من الفريقين لا يعتمد في مقالته أصلاً صحيحاً، وإنما هو أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال ويدوم الاختلاف ويقل #624# الصواب. قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}، فأخبر سبحانه أن ما يكثر فيه الاختلاف فإنه ليس من عند الله عز وجل، وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي إلى التكفير والتضليل، وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله تعالى عنه، ثم قال في صفة الحق: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهقٌ}.(2/622)
59 - ألم تر أن الله سلط بعضهم ... يكفر بعضاً بالدليل وبالنظر
قال الله تعالى فيما أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن قوم إبراهيم عليه السلام لما أنذرهم: {وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعضٍ ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}.
وقال شيخنا أبو القاسم سعد بن علي رحمه الله تعالى: يريد إن استمررتم على ضلالتكم في عبادة الأوثان وطاعة الأزلام #625# وتولي الشيطان عاد رضاكم بها وميلكم إليها مدة كونكم في هذه الدنيا، فإذا كان يوم القيامة تبرأتم منها، وبان لكم سوء اختياركم، فصارت مودتكم في الدنيا عداوة في الآخرة، ورضاكم بها هناك سخطاً، فتلاعنتم فيما كان منكم. وهذه الطوائف لم يرضوا بما أعد الله لهم في الآخرة من التباغض والتلاعن والتنافر، فاستعجلوه في الدنيا قبل الآخرة، فصار يكفر هذا ذاك، ويلعنه الآخر، ويرمي بعضهم بعضاً بالبهت والعدوان. نسأل الله عز وجل العافية وحسن العاقبة والخاتمة.(2/624)
60 - وجنب أهل الحق سوء كلامهم ... وأيدهم بالنصر منه وبالظفر
أخبرنا أبو علي الحسن الشافعي بمكة شرفها الله تعالى، الإسناد إلى أبي أسماء، #626# عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى)).
أخرجه مسلم.
أخبرنا أبو محمد الصريفيني، الإسناد إلى معاوية بن قرة قال: سمعت أبي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال ناس من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)).
وقد روى هذا الحديث عدة من الصحابة.(2/625)
#627#
61 - فلم تر بدعيًّا يزن ببدعةٍ ... على الأرض إلا أخرجوه من القفر
قد تقدم في ذكر أئمة المبتدعة أن كل واحد منهم لما ظهر قتل أو نفي من الأرض التي ظهر فيها، فأغنى ذلك عن إعادته.
62 - فقل لذوي التحصيل هل يبلغ الذي ... ذكرتهم مقدار قومٍ على خطر
63 - كمالكٍ والثوري وابن عيينة ... وليثٍ وحماد بن زيدٍ ذوي الغرر(2/627)
#628#
اعلم أخي -وفقنا الله وإياك للخير- أن هؤلاء الأئمة الخمسة كانوا في عصرهم أئمة الحجاز والعراق ومصر، وقد صنف في فضائل كل واحد منهم أجزاء، إلا أنا نورد في هذا المختصر لكل واحد منهم ما يستدل به على إمامته وفضله.
أخبرنا محمد بن أحمد بالري، الإسناد إلى خلف بن عمر قال: كنت عند مالك بن أنس، فأتاه ابن كثير قارئ المدينة فناوله رقعةً، فنظر فيها مالك ثم جعلها تحت مصلاه، فلما #629# قام من عنده ذهبت أقوم فقال: اثبت يا خلف! فناولني الرقعة فإذا فيها: رأيت الليلة في منامي كأنه يقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأتيت المسجد، فإذا بناحية من القبر قد انفرجت، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس والناس حوله يقولون له: يا رسول الله أعطنا! يا رسول الله مر لنا! قال لهم: إني قد كنزت تحت المنبر كنزاً وقد أمرت مالكاً أن يقسمه فيكم، فاذهبوا إلى مالك. فانصرف الناس وبعضهم يقول لبعض: ما ترون مالكاً فاعلاً؟ فقال بعضهم: ينفذ ما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرق مالكٌ وبكى، ثم خرجت وتركته على تلك الحالة.(2/628)
#630#
وأما الإمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رحمة الله عليه:
أخبرنا أبو محمد الصريفيني، الإسناد إلى محمد بن علي قال: سألت الحسن بن الربيع عن قول ابن المبارك: ((ما رأيت أحداً أفضل من سفيان الثوري، ما أدري ما ابن عون)).(2/630)
#631#
وأما الإمام أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي رحمه الله:
أخبرنا أحمد بن علي الأديب، الإسناد إلى الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول: ((لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز)).
وأما أبو الحارث الليث بن سعد الفهمي: فقد فاق علماء #632# عصره بالكرم الذي جاوز الحد.
قال محمد بن رمح: ((كان دخل الليث في كل سنة ثمانين ألف دينار، وما أوجب الله عليه درهماً زكاةً قط)).
وفضائله في الفقه وسائر العلوم مجموعة.
وأما الإمام أبو إسماعيل حماد بن زيد الأزدي: مدحه العلماء، وأثنى عليه الفقهاء، ومناقبه غير محصورة.(2/631)
#633#
64 - ومن فخرت أرض الشآم بكونه ... ببيروت في جمعٍ عدادهم المطر
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشام وفقيههم، سكن ببيروت ومات بها.
ثم علماء أهل الشام قاطبةً قديماً وحديثاً كانوا على السنة والجماعة في الفروع والأصول.
#634#
أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله، الإسناد إلى أبي الحسين قال: سألت سفيان الثوري الكتاب إلى الأوزاعي فإني أريد الشام. قال: فتنفس صعداء ثم رحم، قلت: يا أبا عبد الله! قال: إني .. ويحك إني رأيت رؤيا لئن صدقت رؤياي لقد هلك الأوزاعي! قلت: وماذا رأيت؟ قال: رأيت ملكاً هبط من السماء إلى الأرض فاقتلع ريحانةً ثم عرج بها، ولا أعلمه أحداً يستحق هذه الرؤيا إلا الأوزاعي. قال: قلت: تكتب ويقضي الله ما أحب. فكتب، فلما كنت بأرض حمص #635# سمعتهم يتراوون خبر الأوزاعي وموته.
أخبرنا أبو محمد عبد الله الخلال، الإسناد إلى الوليد بن مسلم قال: قال لي سعيد بن عبد العزيز: هل رأيت الأوزاعي؟ قلت: نعم. قال: فاقتد به فلنعم المقتدى به.(2/633)
#636#
65 - ومثل ابن طهمان الإمام وبعده ... يزيد بن هارون الذي خصمه زبر
أخبرنا أبو المظفر موسى بن عمران الصوفي، الإسناد إلى عبد الله بن راشد قال: حدثني أبي قال: حدثني إبراهيم بن طهمان #637# في صفات الله تعالى أنه قال -جل وعز- فيما أنزل في كتابه على نبيه صلى الله عليه وسلم: أنه لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، لا تأخذه سنة ولا نوم، حي لا يموت، يحيى ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير، له ما سكن في الليل والنهار، وهو السميع العليم، يُطعم ولا يطعَم، يعلم ما تكن الصدور وما توسوس به الأنفس، ويعلم السر وأخفى، يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار، وهو اللطيف الخبير، ليس كمثله شيء وهو العلي #638# الكبير، الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والظاهر فوق كل شيء، إنما أمره لشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون، فأمر عباده وخلقه -أهل السماء منهم وأهل الأرض- أن يصدقوه فيما قال، وأن يؤمنوا به على ما وصف به نفسه، ثم أمرهم -بعد الإيمان والتصديق بما ذكر من وحدانيته وربوبيته وسلطانه وقدرته- أن يؤمنوا بملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وجنته وناره، ووعده ووعيده، وأن يجعلوا له ما قال، وأن يبرئوه مما تبرأ منه وينفوا عنه، تعالى عما يقول المبتدعة علواً كبيراً.
وأما أبو خالد يزيد بن هارون الواسطي:
أخبرنا عبد الصمد، الإسناد إلى ابن عرعرة قال: #639# حدثني يحيى بن أكثم قال: قال لي المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت [أن] القرآن مخلوق! فقال بعض جلسائه: ومن يزيد حتى يكون يتقى!؟ قال: فقال: ويحك! إني لأتقيه لا أن له سلطاناً أو سلطنة، ولكن أخاف إن أظهرته فيرد علي فيختلف الناس وتكون فتنة، وأنا أكره الفتنة.
أخبرنا يحيى بن ميمون إجازةً الإسناد إلى الحسن بن عرفة العبدي قال: رحلت إلى واسط إلى يزيد بن هارون ونظرائه، فرأيته من أحسن الناس وجهاً وعينين، ودخلت البصرة ورجعت فرأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه #640# فقلت: يا أبا خالد! ما فعلت العينان الحسنتان؟ قال: ذهب بهما التهجد وبكاء الأسحار.(2/636)
66 - ومثل وكيع وابن مهدي وبعده ... سليل دكينٍ كلهم سادةٌ زهر
أبو سفيان وكيع بن الجراح، وأبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي، #641# وأبو نعيم الفضل بن دكين: لهم في مواضع من هذا الكتاب حكايات احتججنا بها على أهل البدع.
أخبرنا أبو بكر الأديب، الإسناد إلى أحمد بن سهل قال: دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله بعد الفتنة، فسمعته يقول: ((كان وكيع بن الجراح إمام المسلمين في وقته)).
#642#
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الشيرازي، الإسناد إلى محمد بن أبي صفوان قال: سمعت علي بن المديني يقول: والله لو أخذت وحلفت بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، الإسناد إلى أبي عبد الله أحمد بن محمد بن الجراح قال: سمعت الرمادي #643# يقول: خرجت مع يحيى بن معين وأحمد بن حنبل إلى عبد الرزاق، فلما عدنا إلى الكوفة قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل: أريد أن أستبرئ أبا نعيم. فنهاه أحمد فلم ينته، فأخذ يحيى ورقةً وكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم، (وجعل في كل عشرة حديثاً ليس من حديثه، ثم أتينا أبا نعيم) فخرج إلينا، فجلس على دكان حذاء بابه، وأقعد أحمد بن حنبل عن يمينه، وأقعد يحيى بن معين عن يساره، وجلست أسفل الدكان، وقرأ عليه يحيى عشرة أحاديث وهو ساكت، ثم قرأ الحادي عشر ليس من حديثه، فقال له أبو نعيم: ليس هذا من حديثي فاضرب عليه. ثم قرأ العشرة الثانية، وقرأ الحديث فتغير وجه أبي نعيم، ثم قبض على ذراع أحمد بن حنبل فقال: أما هذا فورعه يمنعه عن هذا، وأما هذا -وأومأ #644# إلي -فأصغر من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل! ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين، وقام ودخل داره.
فقال له أحمد بن حنبل: ألم أنهك عن الرجل؟ فقال: هذه الرفسة أحب إلي من سفري.(2/640)
67 - ومن أشرق الإسلام من نور علمه ... إمام قريشٍ الشافعي الذي قهر
إمام الأئمة وفخر الأمة أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي رضي الله عنه.
#645#
أخبرنا عبد الملك بن أحمد الإسفراييني، الإسناد إلى محمد بن إسحاق المروزي قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: ((الأئمة في زماننا: الشافعي، والحميدي، وأبو عبيد)).
أخبرنا أبو بكر الخطيب، الإسناد إلى أبي العباس الأصم #646# قال: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: ((إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقى الله تعالى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الهوى)).
فضائله ومناقبه كثيرة، وقد جمعت في مجلدات.
#647##648#
فاقتصرنا على ذكره هنا.(2/644)
68 - ومن عصبةٍ ابن المبارك فيهم ... بمروٍ ونيسابور والري ذي العبر
الإمام المجمع على محبته وإمامته أبو محمد عبد الله بن #649# المبارك المروزي، فضائله في أنواع العلوم مشهورة، وألفاظه في الزهد والورع مأثورة.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الشيرازي، الإسناد إلى العباس بن مصعب قال: ((جمع عبد الله بن المبارك الحديث، والفقه، #650# والعربية، والسخاء، والشجاعة)).
أخبرنا أبو عمرو عبيد الله بن عمر العدل، الإسناد إلى عبدان قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: ((ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث)).(2/648)
69 - ويحيى وإسحاق وأحمد الذي ... به نظم التقوى كما ينظم الدرر
أبو زكريا يحيى بن معين، إمام الجرح والتعديل.
#651#
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد البزاز، الإسناد إلى حبيش بن مبشر قال: ((رأيت يحيى بن معين في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أدخلني عليه في دار كرامته، وزوجني ثلاثمائة حوراء، ثم قال لملائكته: انظروا إلى عبدي كيف نظر وأحسن)).
#652#
وأبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، إمام المشرق في الفقه والحديث. قال أحمد بن حنبل: ((ما قطع الجسر مثل إسحاق)).
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبد الرحمن السبط بأصبهان، الإسناد إلى محمد بن إسماعيل الترمذي، قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: ((اجتمعت الجهمية إلى عبد الله بن الطاهر يوماً #653# فقالوا له: أيها الأمير! إنك تقدم إسحاق وتكرمه وتعظمه وهو رجل كافر يزعم أن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا في كل ليلة ويخلو منه العرش! قال: فغضب عبد الله بن طاهر وبعث إلي، فدخلت عليه فسلمت عليه فلم يرد علي السلام غضباً، ولم يستجلسني، ثم رفع رأسه وقال لي: ويلك يا إسحاق! ما يقول هؤلاء؟
قال: قلت: لا أدري. قال: تزعم أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة ويخلو منه العرش!
قال: فقلت: أيها الأمير! لست أنا أقوله، قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ (قال أبو بكر بن عياش: عن أبي إسحاق، عن الأغر أبي #654# مسلم): أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا في كل ليلة ثم يقول: من يدعوني فأستجيب له .. .. )) الحديث، ولكن مرهم يناظروني. فلما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم سكن غضبه وقال لي: اجلس، فجلست، فقلت: مرهم يناظروني، قال: ناظروه.
قال: فقلت لهم: هل يستطيع أن ينزل إلى سماء الدنيا ولا يخلو منه العرش أو لا يستطيع؟ قال: فسكتوا وأطرقوا رؤوسهم، فقلت له: أيها الأمير! مرهم يجيبوا، فسكتوا، فقال الأمير: فأيش هذا؟
قلت: إن زعموا أنه لا يستطيع أن ينزل إلا أن يخلو منه العرش فقد زعموا أن الله عاجز مثلي ومثلك، وقد كفروا، وإن زعموا أنه يستطيع أن ينزل ولا يخلو منه العرش فهو ينزل إلى السماء #655# الدنيا كيف شاء ولا يخلو منه مكان.
#656#
قال: فقال: زه -وكانت الأمراء عندنا إذا قالوا للشيء: زه، #657# أخذ قلنسوة صاحبه فضرب وجهه حتى تحترق عليه- ثم أمرهم فأخرجوا، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم)).(2/650)
#658#
70 - إمامٌ لأهل النقل [و] المقتدى به ... [و] في السنة [الغرا إمام] الذي صبر
#659#
حبر الأمة أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمة الله عليه.
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بنيسابور، الإسناد إلى حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: ((خرجت من #660# بغداد وما خلفت بها أتقى ولا أورع ولا أفقه، ولا أعلم من أحمد بن حنبل)).
أخبرنا أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري، الإسناد إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: سمعت الشافعي يقول: ((أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث فقولوا لنا حتى نذهب إليه)).
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى جعفر بن محمد الفريابي قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: ((إذا رأيت الرجل #661# يحب أحمد بن حنبل فإنه على السنة، ومن خالف هذا فإنه مبتدع)).
وفضائله كثيرة جمعت في دواوين.(2/658)
#662#
71 - ومن حل في مصرٍ ودان بسنةٍ ... وحج إلى البيت المحرم واعتمر
أئمة مصر من الفقهاء والمحدثين والقراء قديماً وحديثاً لا يحصرهم العدد كانوا على هذا الاعتقاد: أصحاب الليث بن سعد، وأصحاب ابن وهب.
72 - ومن بالعراق المستنير كشعبةٍ ... وكابن بشيرٍ وابن طرخان معتمر
#663#
أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، محدث العراق وناقد رجالها، حدث عنه الأئمة، ودار عليه أكثر أحاديث الصحيحين.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن عفيف، الإسناد إلى #664# عبد الرحمن بن مهدي قال: كان سفيان الثوري يقول: ((شعبة أمير المؤمنين في الحديث)).
أبو معاوية هشيم بن بشير الواسطي.
#665#
أخبرنا أبو بكر الأديب، الإسناد إلى محمد بن رافع قال: سمعت يحيى بن يحيى يقول: كان يعد أربعة من الحفاظ، شيخين وكهلين، فأما الشيخان: فهشيم ويزيد بن زريع، وأما الكهلان: فوكيع ويزيد بن هارون)).(2/662)
#666#
73 - ومثل ابن سلام ومن سار سيره ... كليثٍ لدى الغابات عن عرسه هدر
أخبرنا أبو بكر أحمد الأديب، الإسناد إلى إبراهيم بن أبي طالب قال: سألت أبا قدامة عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، #667# وإسحاق، وأبي عبيد، فقال: ((أما أفقههم فالشافعي، إلا أنه قليل الحديث، وأما أورعهم فأحمد بن حنبل، وأما أحفظهم فإسحاق، وأما أعلمهم بلغات العرب فأبو عبيد)).
أبو قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي، من كبار المحدثين وساداتهم وعلمائهم، حدث عنه البخاري فمن بعده.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: ((تكلم أبو عبيد في خمسة وعشرين علماً، ونحن نتكلم في علم واحد)).(2/666)
74 - ومثل ابن وهبٍ وابن يحيى وبعده ... إمام بخارى الذي فضله غمر
#668#
أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم المصري.
أخبرنا أبو القاسم الفضل بن حرب، الإسناد إلى أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: ((كان عمي بالإسكندرية فكثر عليه #669# الناس، ومنعوه من الصلاة فقال: إنما قدمت هذه البلدة للعبادة وقد شغلني الناس، وأرى أن أقطع بهم وأوثر نفسي. فشغل نفسه بالصلاة والعبادة، وقطع عنهم أياماً، فجاءه يوماً رجلٌ لا بأس به، وقال: إني رأيت رؤيا، رأيت كأن النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد عظيم، ومعه أبو بكر وعمر، وأنت رابع القوم، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم قناديل تزهر لا يطفأ منها قنديل، يقول لك النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا عبد الله فأوقد! ففعل ذلك مراراً، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! ألا ترى إلى هذه القناديل كيف تطفئ؟ فقال: هذا عمل عبد الله بن وهب. فقال: هذا ما تركت من نشر العلم! فرجع إلى نشر العلم وترك العبادة)).
وأبو عبد الله محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، إمام عصره.
#670#
أخبرنا أبو بكر الأديب، الإسناد إلى محمد بن سهل بن عسكر قال: ((كنا عند أحمد بن حنبل، فدخل محمد بن يحيى فقام إليه أحمد، وتعجب منه الناس ثم قال لبنيه وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله واكتبوا عنه)).
ورآه أحمد بن نصر أبا عمرو في المنام بعد وفاته فقال: ((يا أبا عبد الله! ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: فما فعل بحديثك؟ قال: كتب بماء الذهب، ورفع في عليين)).
وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صاحب ((الصحيح)).
#671#
أخبرنا إسماعيل بن مسعدة، الإسناد إلى محمد بن حمدويه قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: ((أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح)).
أخبرنا أحمد بن علي الشيرازي، الإسناد إلى [أبي] جعفر محمد بن أبي حاتم قال: ((قال لي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل #672# البخاري يوماً: تعلم كم أدخلت في مصنفاتي من الحديث؟ فقلت: لا، فقال: ينبغي أن يكون مائتي ألف حديث مسندة. فقلت له: متى عددت هذا يا أبا عبد الله؟ فقال: البارحة، ما نمت حتى عددته)).
وقال: سأله بعض أصحابنا عن حديث فقال: ((يا فلان! أتراني أدلس؟! تركت اثني عشر ألف حديث لرجل لي فيه نظر!)).
وفضائل هذا الإمام مجموعة أجزاء كثيرة.(2/667)
#673#
75 - ومثل ابن إدريس ومن دان دينه ... أبو زرعة الرازي في حفظه ندر
جمعت مناقب هذين الشيخين الإمامين في تواريخ الحفاظ في أجزاء.
أخبرنا أبو القاسم الإسماعيلي، الإسناد إلى محمد بن إبراهيم الهاشمي قال: ثنا أحمد بن سلمة قال: ((ما رأيت بعد إسحاق ومحمد بن يحيى أحفظ للحديث، ولا أعلم بمعانيه من #674# أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي)).
أخبرنا يحيى بن الحسين العلوي، الإسناد إلى أبي حفص عمر بن محمد قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول في جامع المنصور: سمعت أبا زرعة الرازي يقول: ((كان أحمد #675# ابن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل: وما يدريك؟ قال: ذاكرته وعددت عليه الأبواب)).(2/673)
76 - ومثل أبي داود وابن خزيمة ... ويحيى بن يحيى والحميدي قد [وزر]
أبو داود سليمان بن الأشعث، صاحب ((السنن)).
#676#
وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، المعروف بالسنة.
وأبو زكريا يحيى بن يحيى النيسابوري.
وعبد الله بن الزبير المكي الحميدي.
#677#
أخبرنا أبو القاسم الخشاب، الإسناد إلى إسماعيل بن محمد الصفار قال: سمعت محمد بن إسحاق يقول: ((لين لأبي داود الحديث كما لين لداود النبي صلى الله عليه وسلم الحديد)).
أخبرنا أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري، الإسناد إلى إبراهيم الجرجاني #678# قال: سمعت أبا بشر القطان يقول: ((رأى جار لابن خزيمة من أهل العلم فيما يرى النائم كأن لوحاً عليه صورة النبي صلى الله عليه وسلم ومحمد بن خزيمة يصقله، فقال المعبر: هذا رجل يحيي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
أخبرنا أبو مسعود الوراق، الإسناد إلى أحمد بن حنبل قال: #679# ((ما أخرجت خراسان بعد ابن المبارك مثل يحيى بن يحيى)).
اعلم يا أخي أني ذكرت من مشاهير أهل السنة هذا القدر بقدر القوافي وإدخال أساميهم في الوزن، لا أني استقصيت أسماءهم، فإن ذلك لا يحيط به ديوان عالم، فإنه الجم الغفير [في] السواد الأعظم، والله يعصمنا وإياك من البدع بمنه وكرمه.(2/675)
77 - فمن فارق الإجماع ثم اقتدى بمن ... تقدم ذكرانا لهم كان قد خسر
أعني أئمة البدعة.
78 - فأسأل ربي إذ هداني لهديهم ... رفاقتهم في الخلد مع صالح الزمر
#680#
أعني أئمة السنة.
آخر الجزء الخامس وأول الجزء السادس.(2/679)
#681#
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر
79 - وأثبت من بعد الرسول خليفة ... إماماً به الإسلام من بعده افتخر
80 - أبو بكرٍ الصديق أولاهم بها ... ومن بعده الفاروق أعني به عمر
قال الشيخ أبو سليمان الخطابي رحمه الله:
((قد نطق الكتاب بإمامة أبي بكر رضي الله عنه في قوله عز وجل: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قومٍ أولى بأسٍ شديدٍ} إلى آخر الآية: نزلت في أعراب حول المدينة [تخلفوا] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، #682# فاختلف أهل التفسير فيه على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنهم أهل اليمامة، وقد دعاهم إليه أبو بكر.
#683#
والثاني: الروم، وقد دعاهم إليه أبو بكر ثم عمر، وهو الذي استخلف عمر.
والثالث: أنهم فارس، وقد دعاهم عمر، وفي ثبوت خلافة عمر خلافة أبي بكر، وقوله سبحانه: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات .. .. } الآية.
بيان ذلك من الأثر:
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى عروة، عن عائشة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وجعاً، فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفةً فجاء فقعد إلى جنب أبي بكر، فأم رسول الله أبا بكر، وأم أبو بكر الناس وهو قائم)).
أخبرنا أبو نصر محمد الهاشمي، الإسناد إلى هشام، عن #684# أبيه، عن عائشة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)). قالت عائشة لحفصة: قولي له إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكن لأنتن صواحبات يوسف! مروا أبا بكر يصلي بالناس)). قالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً!
لهذا الحديث طرق كثيرة مجموعة عند أهل النقل، وهو #685# من الأحاديث التي أجمع على صحتها، فأغنى الاستدلال والتصحيح.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الشيرازي، الإسناد إلى محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: [أتت] النبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فكلمته في شيء، فأمرها أن ترجع إليه. قالت: يا رسول الله! أرأيت إن رجعت فلم أجدك؟ -كأنها تعني الموت-، قال: ((إن لم تجديني فأتي أبا بكر)).
أخرجاه في الصحيحين.
أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة، الإسناد إلى ربعي بن حراش، عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)).(2/681)
#686#
فعلى الآيات والأخبار الصحيحة من النص والإجماع اعتمد أهل السنة في خلافة أبي بكر، فلما صحت عندهم من هذين الوجهين صح عندهم خلافة عمر بالنص عليه من الخليفة المجمع عليه.
أخبرنا القاضي أبو منصور الأصفهاني، الإسناد إلى أبي وائل، عن مسروق قال: ((لما حضرت أبا بكر الوفاة أرسل إلى عائشة فدعاها، فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الأول:
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
#687#
فقال أبو بكر: ألا تقولين كما قال الله عز وجل: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}؟ ثم قال: إني إن كنت عليك كلاً فإن شئت فخذي منه قطاعاً أو قطاعين ثم أجعله في الميراث، فإنما يرثني أنت وأخوك. قال: ففعلت. قالت: ثم دعا بصحيفة فكتب، فلما فرغ قال: اللهم إنك تعلم أني لو آلو ولم آل. قالت: فأيست عند ذلك من طلحة، وكنت أحدث نفسي لعله يستخلفه. قالت: فأرسل بالصحيفة إلى عمر، ثم قال: يا بنية! إذا أنا مت فانظري ما زاد في مالي منذ دخلنا في هذه الإمارة فرديه إلى الخليفة بعدي، فإني كنت أتحاشاها بجهدي، إلا ما كان يصيبني وركها ولحمها. فلما توفي نظرنا في ماله فوجدناه زاد ناضحاً وجاريةً كانت تحمل بنتاً له، فأرسل بهما إلى عمر.
فأخبرني جرير أنهما لما أتى بهما عمر أرسل عينيه، ثم قال: يرحم الله أبا بكر! لقد أتعب من بعده إتعاباً شديداً.
#688#
أخبرنا أبو عيسى عبد الرحمن الكاتب، الإسناد إلى قيس بن أبي حازم قال: ((خرج علينا عمر ومعه شديد مولى أبي بكر، فقال: أيها الناس! اسمعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رضيت لكم عمر فبايعوه)).
أخبرنا أبو بكر الخطيب، الإسناد إلى عطاء بن مسلم، عن الأعمش قال: ((قيل لابن أبزى: أتجيز شهادة من يشتم أبا بكر #689# وعمر؟ فقال: لا، ولكني ضارب عنقه)).(2/686)
#690#
81 - وعثمان ذو النورين تالٍ وبعده ... عليٍ أبو السبطين أفضل من غبر
ثم جعلها عمر رضي الله عنه بعد موته شورى إلى ستة نفر.
كما أخبرناه أبو محمد أحمد بن علي العدل، الإسناد إلى عمرو بن ميمون، عن عمر أنه قال: ((ما أحد أحق بهذا الأمر من هؤلاء الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ)). ثم سمى #691# عثمان، وعلياً، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
فأجمع أهل الشورى على عثمان فبايعوا له، وبايع له المسلمون، فولي الخلافة بإجماع المسلمين عليه، ثم أجمع المسلمون بعد قتل عثمان -رضوان الله عليه- على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذه مسألة اتفاق لم يخالف فيها فنستدل على صحتها.
#692#
فلما قتل رضوان الله عليه جعلها شورى بين المسلمين، ولم ينص على أحد.(2/690)
82 - فهم خلفاء الله بعد نبيه ... سفينة يرويه من الصادق الخبر
أخبرنا أبو محمد الخطيب، الإسناد إلى سعيد بن جمهان، عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الخلافة #693# ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً. ثم قال: أمسك؛ خلافة أبي بكر سنتين، وعمر عشراً، وعثمان ثلاثة عشر، وعلي ستاً)).
هذا حديث رواه العوام بن حوشب، وحشرج بن نباتة، ويحيى بن طلحة، وعبد الوارث بن سعيد؛ كل منهم رواه بإسناده كذلك.(2/692)
83 - وأثبت أن الفضل بعد الذي مضت ... رواياتنا فيهم لفي ستةٍ أخر
#694#
84 - سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحةٌ ... وعامر فهرٍ والزبير الذي نصر
أخبرنا أبو الحسين أحمد البزاز، الإسناد إلى عكرمة، عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء فتزلزل الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (([ .. .. ] فما عليك إلا نبي وصديق أو شهيد)). وعليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [ .. .. ]،
#695#
وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل)).(2/693)
85 - وأثبت من بعد الخلافة بيعةً ... لخال جميع المؤمنين الذي خبر
86 - معاوية المنعوت بالحلم والسخا ... أمين رسول الله للوحي والزبر
87 - بإجماع أهل الحل والعقد منهم ... فلست بقوالٍ بقول الذي نفر
اعلم أن معاوية خال المؤمنين، #696##697# وكاتب الوحي المبين، المنزل من عند رب العالمين، على رسوله محمد الأمين، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
روى عنه جماعة من الصحابة، توفي سنة ستين من الهجرة في رجب.
اعلم -أحسن الله لنا ولك- أن الاعتماد في خلافته رضي الله عنه على ما فعله الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه كان أكبر #698# أولاد علي، وأجمع أصحاب أبيه عليه بعده، فسار إلى معاوية بالجيوش، فلما نظر في عاقبة الأمر وما يؤول إليه خلع نفسه وسلم الأمر إلى معاوية وبايع له، فصار ذلك إجماعاً صحيحاً من غير تأويل ولا قتال، وكان هذا الفعل من الحسن رضي الله عنه أحد ما استدل به المسلمون على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عما يكون فكان كما قال، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن ابني هذا سيد، وعسى الله تعالى أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)).
ثم إن فضائل معاوية ومناقبه مجموعة عند أهل العلم في أجزاء، إلا أنا أوردنا هاهنا ما تقوم به الحجة على المخالف، ولما ظهر اليوم من الخلاف بين العوام في ذلك، والله يعصمنا من الخطأ والزلل بمنه ورأفته.(2/695)
#699#
فصل
وأما يزيد بن معاوية فإن الناس اختلفوا في أمره على أربعة أوجه:
#700#
أولها: المدح والثناء والترحم؛ لأنه ولي الخلافة مدة سنتين ونصف، وأقام للمسلمين في تلك المدة الأحكام والحج والجهاد، وغير ذلك مما يفعله الأئمة.
والثاني: السكوت عنه؛ لما جرى في أيامه، وإنزاله منزلة عصاة #701# الموحدين، ولم يطلقوا القول فيه بمدح ولا ذم.
والثالث: تناوله بالسب والذم.
والرابع: إخراجه عن الملة.
فمن سلك الوجه الأول فإنه اعتبر ظاهر الأمر في أنه أمير المؤمنين الذي ألزمه الله طاعته، والذي سكت احترز عن الحالين من المدح والذم، والذي سب وكفر فإنما سلك طريق التعصب والحمية لا غير.(2/699)
88 - وقولي في صحب الرسول بأسرهم ... جميلٌ خلاف المارقين ذوي الأشر
قال الله تعالى: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس}.
وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}.
#702#
وهذا وإن كان عاماً فقد قيل: إنه ورد في الصحابة دون غيرهم.
قال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}.
وقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه}.
وقوله: {والسابقون السابقون. أولئك المقربون. في جنات النعيم}.
ولم ينزل الله آيةً تدل على سخطه عليهم بعد رضاه عنهم.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، الإسناد إلى حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني قال: (من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علياً فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق)).(2/701)
#703##704#
89 - روافض أعداء الشريعة وصفهم ... عن الصادق المبعوث في الناس من مضر
90 - [ .. .. ] في كتب الشريعة نالهم ... من الله خزيٌ بالأصايل والسحر
91 - لهم نبزٌ لا در يا صاح درهم ... ولا نالهم خيرٌ ولا فاتهم خطر
أخبرنا أحمد بن محمد، الإسناد إلى زينب بنت علي، عن #705# فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وعليها قالت: ((نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه فقال: ((هذا في الجنة، وإن من شيعته قوماً يلفظون الإسلام لهم نبز #706# يسمون الرافضة، من لقيهم فليقتلهم فإنهم مشركون)).
#707#
قلت: هذه الأحاديث الواردة في هذا المعنى مع ما لم نذكره منه، وإن كان في أسانيدها بعض المقال فإن نص القرآن يدل على #708# صحة معناها بذلك.
قال الله تعالى: {محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} إلى قوله: {ليغيظ بهم الكفار}، فمن أغاظه أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر.(2/704)
#709#
قال الإمام المقدسي الحافظ رضي الله عنه: ثم نتبع ما أوردناه بفصل من المنقول من الأئمة في معنى ما ذكرنا في هذا الاعتقاد:
أخبرنا أبو عمر عبد الوهاب، الإسناد إلى أبي حاتم سهل بن البشري قال: قال محمد بن إسماعيل البخاري: ((لقيت أكثر #710# من ألف رجل من أهل العلم، من أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتهم قرناً بعد قرن، وما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء: أن الدين قول وعمل، وذلك لقول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}.
وأن القرآن كلام الله غير مخلوق. قال ابن عيينة: قد بين الله عز وجل الخلق والأمر؛ لقوله: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
وأن الخير والشر بقدر؛ لقوله عز وجل: {قل أعوذ برب الفلق. من شر ما خلق}، وقوله: {والله خلقكم وما تعملون}، وقوله: {إنا كل شيءٍ خلقناه بقدرٍ}.
ولم يكونوا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.(2/709)
#711#
وما رأيت أحداً منهم تناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: [أمرتم] أن تستغفروا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم [فاستغفروا]. وذلك قوله عز وجل: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان .. .. } الآية.
وكانوا ينهون عن البدع مما لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً}، وقوله تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا}.
ويحثون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه؛ لقوله عز وجل: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه .. .. } الآية.
وأن لا ينازع الأمر أهله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم)).
#712#
قال: وقال الفضيل بن عياض: ((لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام عادل؛ لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد)).
#713#
وقال أبو حاتم: ((علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر.
وعلامة الجهمية أن يسموا أهل السنة مشبهة ونابتة.
#714#
وعلامة القدرية أن يسموا أهل السنة مجبرة.
وعلامة الزنادقة أن يسموا أهل السنة حشوية.
#715##717#
يريدون بذلك إبطال الآثار)).(2/711)
#718#
92 - فهذا اعتقاد المقدسي محمدٍ ... رواه عن الأثبات من ناقلي السير
والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً، وعلى كل حال. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(2/718)