كتاب الأربعين
المسمى
الأربعون حديثاً فيما ينتهي إليه المتقون ويستعمله الموفقون وينتبه به الغافلون ويلازمه العاقلون
للإمام الحافظ القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي الأصبهاني
(397 - 489 هـ)
تحقيق وتعليق
مشعل بن باني الجبرين المطيري
دار ابن حزم
الطبعة الأولى
1421 هـ - 2000 م
[طبع مع كتاب الأربعين لمحمد بن أسلم الطوسي](/)
كتاب الأربعين حديثاً فيما ينتهي إليه المتقون ويستعمله الموفقون وينتبه به الغافلون ويلازمه العاقلون
مخرجٌ من سماعات الرئيس أبي عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد بن أحمد الثقفي.
رواية الحافظ أبي طاهرٍ أحمد بن محمد ابن أحمد السلفي الأصبهاني عنه.
رواية الشيخين أبي الحسن علي بن هبة الله المعروف بابن الجميزي.
وأبي مدين شعيب بن يحيى بن أحمد ابن الزعفراني عنه.
روايةٌ للشيخ رضي الدين أبي أحمد إبراهيم ابن محمد بن إبراهيم الطبري المكي عنهما.
رواية الشيخ عفيف الدين عبد الله بن محمد بن محمد بن سليمان النشاوري عنه.(1/151)
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرني شيخنا الحافظ الناقد العلامة موفق الدين أبو ذر أحمد بن الحافظ الجهبذ برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل المحدث الحلبي بقراءتي عليه قال: أخبرنا عدةٌ من شيوخنا منهم والدي والشريف عبد اللطيف بن محمد الحسني الحنبلي وغيرهما إجازةً عن عفيف الدين عبد الله بن شمس الدين محمد بن محمد بن سليمان النيسابوري المكي سماعاً لبعضهم وإجازةً إن لم يكن سماعاً للبعض قال: أخبرنا الإمام العلامة رضي الدين أبو أحمد إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر الطبري المكي إمام المقام قال: أخبرنا الشيخان الأجلان الإمام الأوحد بقية السلف فخر الخلف بهاء الدين أبو الحسن علي بن هبة الله الشافعي المعروف بابن الجميزي قراءةً عليه وأنا أسمع في سابع شهر صفر سنة 646 بمكة المشرفة تجاه الكعبة المعظمة بقراءة الإمام الأوحد قطب الدين محمد بن أحمد القسطلاني والشيخ الأجل الصالح المعمر رشيد الدين أبو مدين شعيب بن يحيى بن أحمد ابن الزعفراني قراءةً عليه وأنا أسمع في مجلسين آخرهما يوم الجمعة السادس من ذي القعدة سنة 644 بالمسجد الحرام تجاه الكعبة المعظمة بحق سماعهما على الإمام الأوحد الحافظ أبي(1/153)
طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني قال: أخبرنا الشيخ الإمام الرئيس أبو عبد الله القاسم بن الفضل الثقفي قراءةً عليه وأنا أسمع في جمادى الأولى سنة 488 بانتخاب أبي نعيم عبيد الله بن الحسن بن أحمد الحداد قال:
[بسم الله الرحمن الرحيم]، الحمد لله ولي النعم والإحسان، ومولى الهداية والإيمان، خلق العباد لمنزلتين أهل طاعته للجنان، وأهل معصيته للجحيم والنيران، فأثاب المتقين محل الرضوان، وجعل مصير الجاحدين إلى دار الخزي والهوان، وكلا الحكمين عدلٌ من الملك المنان، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فالطاعة بتوفيقه وامتنانه، والمعصية بحكمه وخذلانه، جعلنا الله تعالى من أهل مغفرته، وجمع بيننا وبين من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار نعمته بفضله ورحمته [آمين].
أما بعد.
فقد سبق جماعةٌ من أصحاب الحديث إلى تخريج أحاديث الأربعين من أصولهم وسماعاتهم رجاء منفعتهم وبركاتهم للحديث الذي حدثناه أبو أحمد عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الكرجي [قال:](1/154)
أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري [قال:] أخبرنا أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار [قال:] حدثنا أبو محمد جعفر بن محمد الخندقي وكان له حفظ قال: حدثنا محمد بن إبراهيم السائح حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله تعالى يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء)).
[و] حدثنا أبو عبد الله سفيان بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن حسنكويه قراءةً عليه سنة خمس وأربعمائة أخبرنا أبو القاسم منصور بن جعفر الصيرفي البغدادي بها قال: حدثنا عبد الله بن سليمان -وهو ابن أبي داود السجستاني- قال: حدثنا عباد بن يعقوب قال: حدثنا حاتم عن شعيب بن سليمان السلمي عن إسماعيل بن أبي زياد عن معاذ ابن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله تعالى(1/155)
يوم القيامة عالماً فقيهاً)).
واختلفت أقوالهم [فيه] فبعضهم ذهب إلى أنها أحاديث في الأحكام لمراتب الحلال والحرام.
وبعضهم ذهب إلى أنها أحاديثٌ صحيحةٌ خارجةٌ عن الطعن والجرح سليمةٌ.
وبعضهم [ذهب] إلى أنها أحاديث على مذاهب المتصوفة، مما يتعلق بآداب النفس والمعاملة.
وكلها عين الصواب، والمرجع فيه إلى حقيقة يقين العبد وما أعد الله -عز وجل- لأهل طاعته من الثواب في دار الحساب، وكل من ذهب إلى واحدٍ من هذه الأقوال فحافظ عليها بجدٍ واجتهادٍ، وقام به بمعرفة ورشاد نال من الله تعالى ما وعده عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم المعاد.
وبعضهم ذهب إلى أنها أحاديث تصلح للمتقين، وتوافق حال المتبصرين من أهل المعرفة واليقين، وصارت هذه الطريقة أحسن الطرق لا سيما في هذا الزمان، إذ صارت بها أليق؛ وبحال أهله(1/156)
أوفق لمعاملاتهم الفاسدة، وأرائهم المختلفة، وخياناتهم الفاشية، وأحكامهم الباطلة، فواحدٌ يستحل مال الغير، وآخر يرغب عن اكتساب الخير، وبعضهم يأكل بالمغيب لحم أخيه، ويتتبع معايب صاحبه وينسى العيب الذي هو فيه، يبصر القذى في عين أخيه ويترك الجذل المعترض في عينه.
وفي الجملة لقد صرنا إلى زمان من نجا [فيه] برأسه فقد ربح فلما كانت هذه من أحوالهم، وصارت من عادات رجالهم، صدقت رغبة جماعةٍ من أهل الورع واليقين في جمع أحاديث الأربعين في المواعظ وغيرها من مكارم الأخلاق على مذاهب المتقين، فأجيبوا إلى ملتمسهم(1/157)
رجاء المنفعة والبركة من الله تعالى والمغفرة، وأن يمن علينا بالهداية والتبصرة، وأخرجنا أربعين باباً عن أربعين شيخاً لقيناهم وسمعنا منهم الحديث بمكة وغيرها حضراً وسفراً في كل باب حديثاً أو حديثين أو ثلاثة مما يتعلق بالمواعظ والنواهي، جعلنا الله ممن يتبع أمره، ويقفو أثره، ولا جعله علينا وعلى من سمعه وبالاً بفضله ورحمته آمين رب العالمين.(1/158)
الباب الأول: في حقيقة أصل الإيمان، وبيان ما أوجب الله تعالى على عباده بأوضح الحجة والبرهان، ثم الكشف عما أعد الله تعالى من الثواب لأهل المعرفة والإيقان.
وهذا الباب يشتمل على أحاديث خرجناها وجعلناها أصلاً في الباب وهو المقصود الأعظم في الكتاب بدأنا أولاً بالشيخ الذي لقيناه بمكة لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة:
((إنك لخير بلاد الله، وإنك لأحب أرض الله إلي ولولا أني خرجت منك كارهاً ما خرجت)).(1/159)
فالأصل الأول ما حدثناه أبو عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف الفراء المصري بمكة -حرسها الله تعالى- قراءةً عليه سنة اثنتي عشرة وأنا أسمع قرأ عليه أبو القاسم القشيري قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمود بن أحمد الشمعي قال: حدثنا خلف بن عمرو أبو محمد العكبري قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك؟.
قال: ((لقد ظننت أن لا يسألني عنها أحدٌ غيرك لما رأيت من حرصك على الحديث، شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله)).
صحيحٌ من حديث عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب انفرد به البخاري فرواه في ((كتاب العلم)) عن عبد العزيز بن عبد الله عن سليمان بن بلال.
وفي ((صفة الجنة)) عن قتيبة بن سعيد عن إسماعيل بن جعفر(1/160)
كلاهما عن عمرو بن أبي عمرو.
فبدأنا بهذا الحديث لأن عليه مدار الإسلام، وعليه تترتب أحكام الحلال والحرام، ولا يوفق للاتعاظ والانزجار إلا من أهل لمعرفة الله تعالى ورزق الإخلاص في العمل والأذكار، هذا والواجب على العبد الموفق إذا أحكم طريقة الإخلاص أن يقبل على ما حدثنا ابن نظيف بمكة قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن أحمد الحداد التنيسي إملاءً بمصر قال: حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن العلاء قال: حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر قال: حدثنا يحيى بن أبي المطاع عن العرباض بن سارية السلمي قال:
وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات غداةٍ موعظةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! إنك وعظتنا موعظة مودعٍ فاعهد إلينا قال:
((عليكم بتقوى الله -عز وجل- والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً وسيرى من بقي من بعدكم اختلافاً شديداً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم والمحدثات فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ)).(1/161)
غريبٌ من هذا الطريق، ومشهورٌ من حديث أبي عاصم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو عن العرباض.
وما أقرب هذا الحديث من أحوال أهل هذا الدهر تعلق به أحكام ومواعظ من النهي والأمر، من السمع والطاعة لكل أمير أو والٍ وإن كانت الإمارة والولاية لعبدٍ حبشيٍ واتباع سنة الخلفاء والصحابة وترك الاختلاف لظهور البدعة والضلالة، ولا يوفق لاستعمال هذا الحديث إلا أهل التبصرة واليقين، [ومن أيد بنور المعرفة والدين، ثم إذا أحكم العبد في دينه وإخلاصه طريقة الاتباع دون الابتداع فليقبل على ما حدثناه ابن نظيف بمكة حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن عطية البغدادي أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة وأبو بكر عبد الرحمن بن القاسم الرواس قالا: حدثنا أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز(1/163)
عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي مسلم الخولاني حدثني الحبيب الأمين أما هو إلي فحبيبٌ وأما هو عندي فأمينٌ عوف ابن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة أو ثمانية -وفي حديث ابن الرواس سبعة أو ثمانية أو تسعة- فقال: ألا تبايعون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرددها ثلاث مراتٍ فقدمنا أيدينا فبايعناه فقلنا: يا رسول الله! قد بايعناك فعلام نبايعك؟ وعلامٌ ذا نتابعك، فقال:
((أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس -وأسر كلمةً خفيةً- لا تسألوا الناس شيئاً)).
قال: ولقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فلا يسأل أحداً يناوله [إياه])).
حديثٌ كبيرٌ صحيحٌ من حديث سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد انفرد به مسلمٌ فرواه في ((كتاب الزكاة)) عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وسلمة بن شبيب عن مروان الدمشقي عن سعيد.
واسم أبي إدريس عائذ الله بن عبد الله، واسم أبي مسلم عبد الله بن ثوب.
كرر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته الأصحاب ثلاثاً حرصاً منه على استعمالهم لسنته فدعا إلى أن يعبدوا الله حق عبادته، وإلى المواظبة على الصلوات الخمس، والمحافظة على ذكر الله تعالى وإقامته، ثم أسر كلمةً خفيةً علم أن لا يقوى عليها إلا الخواص من صحابته، فقال: لا تعرضوا لحطام الناس ولا مسئلته، فإذا حقق طريقة الأوامر،(1/164)
والكف عن الزواجر فليستعمل ما حدثناه ابن نظيف بمكة حدثنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن إسحاق الرازي حدثنا هارون بن عيسى بن ملوك حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر عن سالم بن أبي سالم الجيشاني عن أبيه عن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيمٍ)).
حديثٌ كبيرٌ صحيحٌ من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب انفرد به مسلمٌ فرواه في ((المغازي)) عن إسحاق بن إبراهيم وزهير بن حرب عن عبد الله بن يزيد به.
واسم أبي سالم سفيان بن هانئ الجيشاني.
والإمارة والولاية ليستا من أعمال الصديقين ولا من أحوال المتقين، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا ذرٍ عن الإمارة مخافة الندامة، وعن الولاية حذر الخيانة ثم إذا أحرزها بين الدرجتين فليزح أيامه فيما حدثنا ابن نظيف بمكة حدثنا أبو الفضل العباس بن محمد بن نصر الرافقي إملاءً حدثنا حفص بن عمر -يلقب سنجة- أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس أخبرنا زائدة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((ما من رجلٍ يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله تعالى له به طريقاً إلى الجنة، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)).(1/165)
صحيحٌ من حديث أبي محمد سليمان بن مهران الأعمش عن أبي صالح ذكوان الزيات انفرد به مسلمٌ فرواه من حديث أبي معاوية الضرير وعبد الله بن نمير وأبي أسامة حماد بن أسامة كلهم عن الأعمش.
أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن طلب العلم هو السبيل الذي يتوصل به إلى الدرجة العظمى، ومنازل أهل التقى والنهى، وأن من لم يوفق لاستعمال علمه وأدبه لا ينتفع يوم القيامة بكرم حسبه ونسبه، ثم إذا تحققت له هذه الأصول التي أشرنا إليها ليقف العاقل عليها من الإخلاص في النية والأعمال والأذكار، والمحافظة على اتباع السنن والآثار، وإقامة فرائض الله تعالى وطلب العلم ساعات الليل والنهار، فحكمه ما حدثناه ابن نظيف بمكة -حرسها الله تعالى- أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسن] بن إسحاق بن عتبة الرازي إملاءً حدثنا بكر بن سهل بن إسماعيل الدمياطي أخبرنا أبو صالح -واسمه عبد الله بن صالح- حدثني معاوية بن صالح عن صالح بن جبير أنه قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري -رضي الله عنه- صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت المقدس ليصلي فيه ومعنا رجاء بن حيوة يومئذ فلما انصرف خرجنا معه لنشيعه فلما أردنا الانصراف قال: إن لكم علي جائزةً وحقاً أحدثكم بحديثٍ سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فقلنا: هات يرحمك الله فقال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معناه معاذٌ عاشر عشرة، قال: فقلنا: يا رسول الله! هل من قومٍ أعظم(1/166)
منا أجراً آمنا بك واتبعناك، قال:
((ما منعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم الوحي من السماء، بلى قومٌ يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً، أولئك أعظم منكم أجراً)).
أبو جمعة الأنصاري اسمه: حبيب بن سباع.
ويقال: جنيد بن سباع.(1/167)
ووقع لنا عالياً ما كتبناه إلا من حديث صالح بن جبير عنه.
أخبر -عليه السلام- أن من اتبع القرآن ومواعظه حالة الفترة، واقتفى العلم والسنة عند ظهور البدعة لا يقصر حاله عن حال الصديقين، ولا تنزل درجته عن درجات الصحابة والتابعين، وهذا بابٌ كبيرٌ يجمع معظم أحوال المتعظين، وينبئ عن حقائق المتقين، [و] فيه كفايةٌ لمن تبصره واسترشده، وعرف معانيه وحققه، وجميع ما يأتي بعده يتفرع على ما قدمناه، وينبئ عن الأصل الذي بيناه إلا أنا أردنا زيادة بيانٍ، رجاء تبصرةٍ وتبيانٍ، [والله أعلم].(1/168)
الباب الثاني: في بيان صفة الأولياء وحقيقة حالة العلماء.
حدثنا أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر [بن سعدان] الحفار ببغداد مدينة السلام قراءةً عليه وأنا أسمع سنة ثلاث عشرة [قال:] أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن يحيى بن عياش القطان حدثنا أبو حاتم الرازي أخبرنا محمد بن يزيد بن سنان حدثنا عبد الله بن حدير عن أبي واصل عن أبي سهل -قال أبو حاتم: وهو كثير بن زياد- عن الحسن عن عمران بن حصين قال:
جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بني هاشم ذات يومٍ فقال لهم:
(([يا بني هاشم إني لا إغني عنكم من الله شيئاً]، يا بني هاشم إن أوليائي منكم المتقون، يا بني هاشم اتقوا النار ولو بشق تمرةٍ، يا بني هاشم لا ألفينكم تأتون بالدنيا تحملونها على ظهوركم، ويأتي الناس بالآخرة يحملونها)).(1/169)
حديث الحسن هذا عن عمران تفرد به محمد بن يزيد بن سنان عن عبد الله بن حدير، وأبو سهل هذا قيل: هو محمد بن عمرو الأنصاري.
هكذا أخرجه الطبراني في ((المعجم الكبير)) فرواه عن أحمد بن زهير التستري عن أبي حاتم.
وعلم من موجب الخير أن أولياء الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هم المتقون من العلماء الذين استعدوا لقبورهم ونشورهم لا أصحاب الدنيا وحطامها الذين جعلوا الآخرة خلف ظهورهم إذ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر خيار أصحابه ومن هم أقرب الخلق إليه بهذا لا غير [والله أعلم].(1/170)
الباب الثالث: في ذكر ما أوجب الله تعالى على العباد، أن يستعملوه عند ظهور الفتن في البلاد، وهو أن يشتغل العبد بما يعنيه، ويطلب ما فيه سلامة دينه يوم يفر المرء من أخيه.
لما حدثناه أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله ابن بشران ببغداد حدثنا أبو جعفر محمد ابن عمرو بن البختري قال: حدثنا محمد بن عبيد الله حدثنا روح بن عبادة حدثنا عثمان الشحام حدثنا مسلم بن أبي بكرة عن أبي بكرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
((ستكون فتنٌ ثم تكون فتنةٌ الماشي فيها خيرٌ من الساعي إليها، ألا وإن القاعد فيها خيرٌ من القائم فيها ألا وإن المضطجع فيها خيرٌ من القاعد فإذا نزلت فمن كانت له غنمٌ فليلحق بغنمه، ألا ومن كانت له أرضٌ فليلحق بأرضه، ألا ومن كانت له إبلٌ فليلحق بإبله)).
فقال رجلٌ من القوم: يا نبي الله جعلني الله فداك أرأيت من ليس له غنمٌ ولا أرضٌ ولا إبلٌ كيف يصنع؟.
قال:
((فليأخذ سيفه ثم ليعمد به إلى صخرةٍ ثم ليدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة. اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت)).(1/171)
إذ قال رجلٌ: يا نبي الله! جعلني الله فداك أرأيت أن أخذ بيدي حتى يكون ينطلق بي إلى أحد الصفين أو أحد الفريقين -عثمان شك- فيحذفني رجلٌ بسيفه فيقتلني فماذا يكون من شأني؟.
قال: ((يبوء بإثمك وإثمه فيكون من أصحاب النار)).
حديثٌ صحيحٌ من حديث أبي سلمة عثمان الشحام البصري عن مسلم بن أبي بكرة.
واسم أبي بكرة نفيع بن الحارث.
انفرد به مسلمٌ فأخرجه من حديث حماد بن زيد ووكيع وابن عدي عن عثمان الشحام.
وهذه صفة المؤمن الذي لا يتعرض للفتن، ولا يجعل دينه عرضاً للبلايا الحادثة لا سيما في هذا الزمن.
نعم وكيف ينبغي للمؤمن أن يتعاطى هذا أو يغل وهو لا يغفل عنه، أو يعمل ما لا نفع له فيه من قول أو فعل يبدر منه، وقد وكل به من يحصي أنفاسه، ويحفظ كلامه، قال الله تعالى: {ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ}، وقد حدثنا علي بن محمد بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا محمد بن عبيد بن عتبة الكندي أخبرنا عثمان بن سعيد أخبرنا يحيى بن يعلى عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(1/172)
((عجبت لغافل ولا يغفل عنه، وعجبت لمن يؤمل الدنيا والموت يطلبه، وعجبت لضاحكٍ ملء فيه ولا يدري أأرضى الله أم أسخطه)).
قدمنا ما فيه حقيقة أصل الإيمان وما يتعلق به من بيان صفة الأولياء والمتقين، والكشف عن أحوال المتعظين، ومن هنا نتكلم في مكارم أخلاقهم، ومحافظتهم على حقوقهم.(1/173)
الباب الرابع: في المحافظة على الحقوق والحرمات من حفظ حرمة المشايخ والأصحاب، وخفض الصوت عند الأجلة من ذوي الألباب، واحتقار المعاملات وقطع الأمل، والبكاء على ما فرط من سيء القول والعمل، مخافة العقاب في دار المآب.
لما حدثناه أبو الحسين محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل القطان ببغداد [قال:] أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه [قال:] حدثنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة حدثنا عبد الرحمن بن يزيد حدثني عطاء الخراساني قال: حدثتني بنت ثابت بن قيس بن شماس قالت:
لما أنزل الله تعالى {يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية، دخل [أبي] بيته، وأغلق عليه بابه وطفق يبكي ففقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليه فسأله فأخبره وقال: أنا رجلٌ شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملي، فقال: ((لست منهم بل تعيش بخيرٍ وتموت بخيرٍ)).(1/174)
قالت: ثم أنزل الله تعالى: {إن الله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ}، فأغلق عليه بابه، وطفق يبكي ففقده النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليه فأخبره بما أنزل عليه وقال: إني أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي.
فقال: ((لست منهم بل تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة)).
فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد -رضي الله تعالى عنهما- إلى مسيلمة فلما لقوا العدو وانكشفوا فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنهم-: ما هكذا كنا نقاتل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فحفر كل واحدٍ منهما له حفرةً وثبتا فيها حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسةٌ فمر به رجلٌ من المسلمين فأخذه فبينا رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابتٌ -رضي الله عنه- في منامه فقال له: إني موصيك بوصية فإياك أن تقول هذه حلمٌ فتضيعه إني لما قتلت أمس مر بي رجلٌ من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد كفأ الدرع برمة وفوق البرمة رحلٌ فائت خالد بن الوليد فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذه، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق، وفلان.
فأتى الرجل خالداً -رضي الله عنه- فأخبره فبعث إلى الدرع فأتي به، وحدث أبا بكرٍ -رضي الله تعالى عنه- برؤياه فأجاز وصيته(1/175)
فلا نعلم أحداً أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت -رضي الله عنه- واستشهد باليمامة رضي الله عنه [وعن جميع الصحابة].
حديث ثابت بن قيس بن شماس تفرد به عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عطاء بن [أبي] مسلم الخراساني.
ورواه الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد مثله [والله أعلم].(1/176)
الباب الخامس: في الاستعداد لسؤال منكر ونكير، ومحاسبة النفس قبل أن تسأل عن النقير والقطمير إذ لم ينج منه أفضل الناس في عدله، ومن فر الشطيان من ظله.
حدثناه أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الله بن محمد الحرفي قراءة عليه في جامع الحربية ببغداد [قال:] حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي [قال:] حدثنا محمد بن غالب بن حرب حدثني غسان بن مالك حدثنا سلام بن سليمان أخبرنا إسماعيل المكي حدثني أبو الزبير وعمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب:
((كيف أنت ومنكرٌ ونكيرٌ؟)).
قال: يا رسول الله! وما منكرٌ ونكيرٌ؟.
قال: ((ملكا القبر فتانان أسودان أزرقان، أعينهما كالنحاس، وأبصارهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف يطآن في(1/177)
أشعارهما، ويحفران بأنيابهما، معهما مرزبةٌ لو اجتمع عليها أهل منى أقلوها)).
قال عمر: يا رسول الله! على أية حالٍ أنا يومئذ؟.
قال: ((على حالك اليوم)).
قال: إذاً أكفيكهما.
الحديث مشهورٌ ما كتبناه عالياً إلا بهذا الإسناد.(1/178)
الباب السادس: في اجتهاد العبد وجده في الدعاء والعبادة، من خوف ما قدر عليه في العاقبة من الشقاء أو السعادة.
وهو ما حدثنا القاضي أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي قراءةً عليه ببغداد بباب البصرة. [قال:] أخبرنا محمد بن عمرو ابن البختري الرزاز أخبرنا محمد بن عبد الملك الدقيقي أخبرنا الخليل بن عمر بن إبراهيم حدثني أبي عمر بن إبراهيم العبدي أخبرنا قتادة بن دعامة السدوسي عن أبي حسان الأعرج [عن ناجية بن كعب] عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((إن العبد يولد مؤمناً، ويعيش مؤمناً، ويموت مؤمناً، وإن العبد يولد كافراً، ويعيش كافراً، [وإن العبد يعمل برهةً من دهره بالسعادة ثم يدركه ما كتب له فيموت شقياً]، وإن العبد ليعمل برهةً من دهره(1/179)
بالشقاء ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيداً)).
تفرد به عمر بن إبراهيم العبدي عن قتادة.
وأبو حسان الأعرج وقيل: الأجرد، مسلم بن عبد الله، ما كتبناه عالياً إلا بهذا الإسناد.(1/180)
الباب السابع: في حفظ الأخ المسلم ومعونته، والعطف عليه بتنفيس كربته وستر عورته، رجاء ثواب الله تعالى ومغفرته.
وهو ما حدثناه أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن يعقوب الإيادي ببغداد في دار أبي القاسم الطبري الحافظ اللالكائي [قال:] أخبرنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل الهاشمي إملاءً [قال:] حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي [قال:] أخبرنا أبو بكر ابن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((من فرج عن مؤمن كربةً فرج الله عنه كربته، ومن ستر على مؤمنٍ ستر الله عورته، ولا يزال الله تعالى في عونه ما دام في عون أخيه)).
صحيحٌ من حديث أبي محمد سليمان بن مهران الأعمش عن أبي صالح ذكوان، انفرد به مسلمٌ ووقع لنا عالياً من حديث أبي بكر ابن عياش عنه.(1/181)
الباب الثامن: في الاستسلام لأمر الله والرضا بقضاء الله، والصبر عند نزول المصائب وحدوث النوائب. لما حدثناه أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد الغضائري قراءةً عليه ببغداد أخبرنا أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير الخلدي إملاءً [قال:] حدثنا أبو بكر عمر بن حفص السدوسي أخبرنا عاصم بن علي أخبرنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((ولد لي الليلة غلامٌ فسميته باسم أبي إبراهيم)) قال: فدفعته إلى أم سيفٍ امرأة قينٍ يقال له: أبو سيف، فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتيه فسبقته فأسرعت المشي بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانتهيت إلى أبي سيف وهو ينفخ كيره، والبيت قد امتلأ دخاناً فقلت: يا أبا سيف أمسك أمسك جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمسك، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصبي وضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول.
قال أنسٌ: قد رأيته بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يكيد(1/182)
بنفسه فدمعت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون)).
صحيحٌ ثابتٌ عالٍ متفق عليه من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني.
أخرجه البخاري في ((الجنائز)) فرواه عن موسى بن إسماعيل، وأخرجه مسلمٌ عن هدبة بن خالد وشيبان بن فروخ كلهم عن سليمان بن المغيرة.(1/183)
الباب التاسع: في الرغبة إلى الله تعالى في الثبات على صراطه المستقيم، والتوفيق لحفظ أبوابه وحدوده واجتناب محارمه خوفاً من العذاب المقيم.
فقد حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن عمر الفقيه يعرف بـ((الفامي)) ببغداد [قال:] حدثنا أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن النجاد أخبرنا إسحاق بن الحسن [حدثنا الحسن] بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال:
((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتحةٌ، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتعرضوا، وداعٍ(1/184)
يدعو فوق الصراط فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحته تلجه فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله وذلك على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلمٍ)).
حديثٌ غريبٌ من حديث الليث بن سعد عن معاوية بن صالح ما كتبناه إلا من حديث الحسن بن سوار عنه.(1/185)
الباب العاشر: في الاستعاذة بالله من الخذلان، والرغبة إليه في العصمة عن الارتداد بعد الإيمان، وبيان ما يستحقه الخارج عن ولاية الله، الجاحد لآية الله، التارك لراية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخالع ربقة الإسلام من عنقه بعد هداية الله عز وجل.
[لما] حدثناه أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى السلمي إملاءً بنيسابور أخبرنا الأصم محمد بن يعقوب أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي أخبرنا أبي حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة حدثني عبيد الله بن عمر عن حميد عن أنس: إن ناساً من عرينة قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاجتووا المدينة، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو خرجتم إلى أذوادنا فشربتم من ألبانها وأبوالها)) ففعلوا فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجعوا كفاراً واستاقوا الذود فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل في طلبهم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم)).(1/186)
غريبٌ من حديث عبيد الله بن عمر عن حميد ما كتبناه عالياً إلا بهذا الإسناد، وهو من غير هذا الطريق أشهر.
هذا الجزاء في الأولى لمن جحد آيات الله، ولم تتحقق له حقيقة ولاية الله في اتباع أمره ونهيه، والإيمان بما أنزل الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- من تنزيله ووحيه، وأما حاله في القيامة ما أخبر الله -عز وجل- عنه في كتابه العزيز، قال الله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً}.
وما حدثناه ابن بشران ببغداد أخبرنا محمد بن عمرو ابن البختري حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي أخبرنا يونس بن محمد أخبرنا شيبان عن قتادة عن أنس أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- سئل كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟
قال: ((الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرٌ على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة)).(1/187)
صحيحٌ من حديث يونس، رواه البخاري عن عبد الله بن محمد، ومسلم عن زهير بن حرب وعبد بن حميد جميعاً عن يونس بن محمد.(1/188)
الباب الحادي عشر: في صون الدين عن الشبهات، وطلب الحلال وترك ما فيه شيء من التبعات. لما حدثناه أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي بنيسابور أخبرنا أبو بكر بن أبي دارم بالكوفة أخبرنا أحمد بن موسى بن إسحاق أخبرنا أبو نعيم عن زكريا عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((الحلال بينٌ والحرام بينٌ وبين ذلك مشتبهاتٌ لا يعلمها كثيرٌ من الناس من ترك المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كالراتع إلى جنب الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملكٍ حمى [ألا] وإن حمى الله في الأرض محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح [سائر] الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد إلا وهي القلب)).(1/189)
صحيحٌ ثابتٌ عالٍ متفق عليه من حديث زكريا بن أبي زائدة بن ميمون بن فيروز الهمداني الكوفي الأعمى واسم أبي زائدة خالد وكنيته أبو يحيى.
أخرجه البخاري عن أبي نعيم [هذا] وهو الفضل بن دكين.
وأخرجه مسلمٌ في ((البيوع)) عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه كلاهما عن زكريا.
وهذا الحديث أحد أرباع الدين يدور عليه أكثر أحكام المسلمين مما يجب عليهم من صون الدين والعرض وطلب الحلال المحض، واتقاء ما فيه أدنى الشبهة والريبة، وإصلاح القلب والبدن من شبهات الكذب والغيبة.(1/190)
الباب الثاني عشر: في الكشف عن ثواب النادمين وعقاب المعجبين، وبيان أن كل عاملٍ لخير أو شرٍ مرتهنٌ يوم القيامة بعمله، غير منتفعٍ بتسويفه بالتوبة وأمله.
حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري قراءةً عليه بنيسابور سنة تسع حدثنا أبو أحمد عبد الله ابن عدي الحافظ أخبرنا زكريا بن جعفر بن حماد اللؤلؤي أخبرنا هاشم بن محمد بن يعلى أخبرنا عمرو بن بكر عن ميسرة بن عبد ربه عن سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
((النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، وكل عاملٍ سيقدم على ما أسلف عند موته فإن ملاك الأعمال بخواتيمها، والليل والنهار مطيتان فاركبوهما بلاغاً إلى الآخرة وإياكم والتسويف بالتوبة والغرة بحلم الله، واعلموا أن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره)).(1/191)
حديثٌ غريبٌ فردٌ عن سفيان عن أبيه ما كتبناه إلا من هذا الوجه.(1/192)
الباب الثالث عشر: في بيان المثل لمن احتقر الذنوب، والوعيد لمن سوف ولم يقدم على أن يراجع ويتوب.
حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد ابن محمش الزيادي إملاء بنيسابور أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن حماد الأبيوردي حدثنا أنس بن عياض الليثي عن أبي حازم ولا أعلمه إلا عن سهل بن سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ حتى جمعوا ما أنضجوا خبزهم، فإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).(1/193)
الباب الرابع عشر: في حفظ اللسان وذمه عن الكذب والبهتان، واكتساب الصمت لسلامة الإيمان، وبيان ما يبدأ به المرء عند ضرورة النطق من الدعاء، احترازاً من أن يقع في الفحشاء.
حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن حبيب النيسابوري بها إملاءً سنة تسع وأربعمائة أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي أخبرنا عون بن سلام أخبرنا أبو بكر النهشلي عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال لنا عبد الله على الصفا فقال: يا لسان قل خيراً تغنم واصمت تسلم قبل أن تندم فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! هذا شيء تقوله؟.
قال: بل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
((إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه)).(1/194)
معروفٌ مشهورٌ من حديث عون بن سلام عن أبي بكر النهشلي واسمه عبد الله بن قطاف، واسم أبي وائل شقيق بن سلمة.
وحدثنا أبو زيد [قال:] حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني الحافظ حدثنا إبراهيم بن إسحاق حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن ميسرة عن أبي حازم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمراً فليتكلم بخير أو ليسكت، استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلعٍ، وإن أعوج شيءٍ في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج)).
غريبٌ من حديث زائدة بن قدامة عن ميسرة الأشجعي تفرد به(1/195)
عنه حسين بن علي الجعفي، وأبو حازم هو الأشجعي [و] اسمه سلمان.
وإنما لم يسع المرء إلا سكوته لأنه مسجونٌ في دار ابتلاء مبتلىً بمن يتبع آثاره، ويفشى [عليه] أسراره لما حدثناه أبو زيد حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي أخبرنا مطين حدثنا جعدية بن يحيى حدثنا موسى بن سهل حدثنا داود الجعفري عن إبراهيم بن محمد عن صالح بن قيس عن عامر بن عبد الله عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((إن الدنيا لا تصفو للمؤمن هي سجنه وبلاؤه)).
فأما إذا لم يجد بداً من النطق فمن حقه أن يتعوذ مما كان [منه] رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ أمام كلماته وهو ما حدثناه أبو زيد حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر السبتي حدثنا جعفر بن محمد بن سوار حدثنا إسماعيل بن عبد الله الرقي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن يونس بن خباب قال: سمعت طاوساً يقول: سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:(1/196)
((اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ودعاءٍ لا يسمع، [وقلبٍ لا يخشع]، ونفسٍ لا تشبع، اللهم إني أعوذ بك من شر هؤلاء الأربع)).
حديث زيد بن أبي أنيسة هذا [عن يونس بن خباب] ما كتبناه عالياً إلا من حديث عبيد الله بن عمرو به.
وحقيقٌ لمن استعاذ بالله أن يعيذه، أو استجار به أن يجيره فإن أبا حازم العبدوي الحافظ حدثنا قال: حدثنا إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف السلمي حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد بن موسى البوشنجي أخبرنا أبو بكر أمية بن بسطام أخبرنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
((إن لله ملائكةً فضلاً يبتغون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر جلسوا معهم حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا(1/197)
فلا يزالون جلوساً معهم حتى يتفرقوا فإذا تفرقوا صعدوا وعرجوا إلى السماء فيسألهم الله -عز وجل- وهو أعلم فيقول: من أين جئتم؟ فيقولون: أتيناك من عبادٍ لك في الأرض يحمدونك ويهللونك ويكبرونك ويسبحونك ويسألونك، قال: وما يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك فيقول: وهل رأوا جنتي؟ فيقولون: لا أي رب، فيقول: كيف لو رأوا جنتي.
قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قال: فيقولون: من نارك، قال: وهل رأوا ناري؟ قال: فيقولون: لا أي رب، فيقول: فكيف لو رأوا ناري.
قالوا: ويستغفرونك، فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا.
فيقولون: فيهم فلان عبدك الخطاء إنما مر فقعد.
فيقولون: وله قد غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)).
حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه هذا قال محمد بن إسماعيل في عقيب حديث جرير عن الأعمش عن أبي صالح: ورفعه سهيلٌ عن أبيه.(1/198)
وأخرجه مسلمٌ من حديث وهيب عن سهيل، وروح بن القاسم يجمع حديثه.
وهو حديثٌ كبيرٌ في مديحة أصحاب الحديث إذا استعملوا ما هم بصدده من أمر أو نهي أو طلب جنة أو جوارٍ من نار، أو صلاةٍ على النبي -صلى الله عليه وسلم- أو اقتباس علم ومعرفة، أو تحصيل سنة وفائدة خالصاً لوجه الله تعالى لا رياءً للناس ومباهاةً للأقران والأشكال نفعنا الله تعالى به ووفقنا للاستعمال بمنه وكرمه.(1/199)
الباب الخامس عشر: في حسن الظن بالله تعالى في الأمور وقضاء الحاجات، وأنه لا يغلق على عبده باباً من جانب حتى يفتح عليه من حيث لا يحتسب باباً هو له أوسع وخير منه وأنفع. لما حدثناه أبو حازم عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس العبدوي الحافظ إملاءً أخبرنا أحمد بن إسحاق بن محمد بن الحسين الشيباني [قال:] أخبرنا علي بن محمد [بن علي] بن عيسى الخزاعي أخبرنا أبو اليمان أخبرني شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر يحدث أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد شهد بدراً فتوفي بالمدينة، قال عمر: فلقيت عثمان فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر فقال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر [الصديق] فقلت له: إن شئت أنكحتك حفصة فصمت أبو بكرٍ ولم يرجع إلي(1/200)
شيئاً فكنت عليه أوجد مني على عثمان فلبثنا ليالي ثم خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنكحتها إياه)) وذكر الحديث.
صحيحٌ رواه البخاري عن أبي اليمان واسمه الحكم بن نافع.(1/201)
الباب السادس عشر: في ترك الدنيا وحطامها، والاكتفاء بما حل منها وإن قل دون الكثير من حرامها، وطلب ما خلق من اللباس وبذاذته دون طيب العيش ولذاذته اقتداء بما حدثناه أبو بكر أحمد بن محمد [بن أحمد] بن الحارث الأصبهاني نزيل نيسابور بها سنة تسع وأربعمائة أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان أخبرنا عبد الله بن قحطبة أخبرنا عبد الله بن معاوية أخبرنا ثابت بن يزيد عن هلال عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو على حصيرٍ قد أثر في جنبه فقال: لو اتخذت يا رسول الله فراشاً أوثر من هذا.
فقال:
((يا عمر ما لي وللدنيا -أو ما للدنيا ولي- إنما مثلي ومثل الدنيا كراكبٍ سار في يومٍ صائفٍ فاستظل تحت شجرةٍ ثم راح وتركها)).(1/202)
وبما حدثناه أيضاً أبو بكر ابن الحارث أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر أخبرنا أبو القاسم ابن عبد العزيز البغوي أخبرنا عبيد الله بن محمد بن العيشي أخبرنا أبو المقدام هشام بن زياد حدثنا محمد بن كعب القرظي قال: عهدت عمر بن عبد العزيز وهو أميرٌ علينا بالمدينة للوليد بن عبد الملك وهو شابٌ غليظٌ ممتلئ الجسم فلما استخلف أتيته بخناصرة فدخلت عليه وقد قاسى ما قاسى فإذا هو قد تغيرت حاله عن ما كان [عليه] فجعلت أنظر إليه نظراً لا أكاد أصرف بصري عنه فقال: إنك لتنظر إلي نظراً ما كنت تنظره إلي يا ابن كعب فقلت: نعم تعجبني فقال: وما يعجبك؟ قلت: ما حال من لونك، ونقي من شعرك، ونحل من جسمك.
فقال: كيف لو رأيتني يا ابن كعب في قبري بعد ثالثة حين تقع حدقاتي على وجهي وتسيل منخراي وفمي صديداً ودوداً أكنت لي أشد نكرة، ثم قال: أعد علي حديثاً حدثتنيه عن ابن عباس، فقلت: حدثنا ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:(1/203)
((إن لكل شيء شرفاً، وإن شرف المجالس ما استقبل به القبلة، وإنما تجالسون بالأمانة، ولا تصلوا خلف النائم ولا المحدث، واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم، ولا تستروا الجدر بالثياب، ومن نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق [منه] بما في يد الناس، ألا أنبئكم بشراركم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده، وأنبئكم بشر من هذا)) قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((من يبغض الناس ويبغضونه أفأنبئئكم بشر من هذا؟)) قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((من لا يقيل عثرةً، ولا يقبل معذرةً، ولا يغفر ذنباً، وأنبئكم بشر من هذا؟))) قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره إن عيسى بن مريم -عليه السلام- قام في بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل لا تكلموا بالحكمة [عند] الجهال فتظلموها ولا تضعوها عند غير أهلها فتظلموها)) –وقال مرة: ((فتظلموهم))- ولا تظلموا ولا تكافئوا ظالماً فيبطل فضلكم عند ربكم، يا بني إسرائيل الأمر ثلاث: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين عيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردوه إلى الله عز وجل)).(1/204)
حديث محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس تفرد به أبو المقدام هذا هشام بن زياد ما كتبناه إلا من حديث عبيد الله بن محمد العيشي.
وهو حديثٌ كبيرٌ يشتمل على آداب ومواعظ تنبئ عن بعض ما أوجب الله عز وجل على العبد من حقوقه من أمره ونهيه وفقنا الله لاستعماله بفضله ورحمته.(1/205)
الباب السابع عشر: في الصبر على الأمراض والبلايا لأنها كفارةٌ للذنوب والخطايا.
وهو ما حدثناه أبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل ابن شاذان الصيرفي بنيسابور أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله قال:
دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يوعك فمسسته فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: ((أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)).
قال: فقلت: إن لك لأجرين، قال:
((نعم والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلمٌ يصيبه أذىً من مرضٍ فما سواه إلا حط [الله] عنه خطاياه كما تحط الشجرة(1/206)
ورقها)).
متفقٌ عليه من حديث الأعمش وحديث أبي معاوية انفرد مسلمٌ بإخراجه فرواه عن زهير بن حرب عنه.
هذا ثواب المريض فأما الثواب لمن عاد المريض فما حدثناه أبو سعيد حدثنا الأصم حدثنا أحمد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي -رضي الله عنه- قال: جاء أبو موسى يعود الحسن بن علي -رضي الله عنهم- فقال له عليٌ: أعائداً جئت أم شامتاً قال: فقال: بل عائداً قال: فإن كنت جئت عائداً فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
((إذا أتى الرجل أخاه يعوده مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوةً صلى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يصبح)).(1/207)
عالٍ من حديث أبي معاوية حدث به أحمد بن حنبل والكبار من المتقدمين عن أبي معاوية ورواه أبو بكر بن عياش عن الأعمش.(1/208)
الباب الثامن عشر: في فضل الصدقات، وأن الله تعالى يقبل ما طاب منها فيثيب عليه غداً أحسن المثوبات.
وهو ما حدثناه أبو محمد عبد الرحمن [بن محمد بن أحمد] بن بالويه المزكي النيسابوري أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل القطان أخبرنا قطن يعني ابن إبراهيم القشيري حدثنا حفص يعني ابن عبد الله حدثنا إبراهيم -وهو ابن طهمان- عن الحجاج عن عباد بن منصور الناجي عن القاسم بن محمد قال: سمعته يحدث عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب، ويقبلها [بيمينه]، ثم يربيها لصاحبها كما يربي الرجل منكم مهره وفصيله حتى [إن] اللقمة لتصير مثل أحدٍ)).(1/209)
غريبٌ من حديث إبراهيم بن طهمان عن الحجاج بن الحجاج تفرد به حفص بن عبد الله.(1/210)
الباب التاسع عشر: في فضل من ترشح لقضاء الحاجات، وإنه من موجبات المغفرة والدرجات.
وهو ما حدثناه أبو الحسن علي بن أحمد ابن عبدان الشيرازي بنيسابور أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبيد بن إسماعيل الصفار البصري بالأهواز في رجب سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة أخبرنا عبيد بن شريك أخبرنا يحيى -وهو ابن بكير- حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره أن عبد الله بن عمر أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً من كرب الدنيا فرج الله عنه بها كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلم ستره الله تعالى يوم القيامة)).
صحيحٌ أخرجه البخاري عن ابن بكير، ومسلم عن قتيبة عن الليث.(1/211)
وحدثنا ابن عبدان حدثنا أبو القاسم الطبراني أخبرنا أحمد بن حميد المقري أخبرنا يحيى بن هاشم السمسار حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
((إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم إشباع جوعته وتنفيس كربته)).
غريبٌ من حديث الثوري عن محمد تفرد به [يحيى].(1/212)
الباب العشرون: في محاسبة العبد لعرضه، والاقتصاص من نفسه، قبل أن يقبض منه في معاده وعرضه والاستعداد للجواب يوم حشر الخلائق للحساب [ووصيته للأقارب من بعده، أن يلقنوه شهادة الإخلاص في لحده].
لما حدثناه أبو علي الحسين بن عبد الرحمن بن محمد ابن عبدان التاجر بنيسابور أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا بحر بن نصر بن سابق أخبرنا ابن وهب حدثني عبد الله بن عمر عن أبي النصر أن رجلاً قام إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين ظلمني عاملك [وضربني]، فقال عمر -رضي الله عنه-: والله لأقيدنك منه إذاً. فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين وتقيد من عاملك؟ قال: نعم والله لأقيدن منه أقاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نفسه وأقاد أبو بكر -رضي الله عنه- من نفسه أفلا أقيد؟ فقال عمرو بن العاص: أو غير ذلك يا أمير المؤمنين، قال: وما هو؟ قال: أو يرضيه؟ قال: أو ذلك.(1/213)
ولما حدثناه ابن عبدان حدثنا الأصم أخبرنا أبو الدرداء هاشم بن يعلى الأنصاري أخبرنا عتبة بن السكن الفزاري -حمصي- عن أبي زكريا عن حماد بن زيد عن سعيد الأودي قال: دخلت على أبي أمامة الباهلي وهو في النزع فقال لي: يا سعيد! إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نصنع بموتانا فقال:
((إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل: يا فلان بن فلان فإنه سيستمع، فليقل: يا فلان [بن فلانة] فإنه يستوي قاعداً، فليقل: فلان بن فلانة فإنه سيقول: أرشدني رحمك الله، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها،(1/214)
وأن الله باعث من في القبور فإن منكراً ونكيراً عند ذلك يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: قم ما نصنع عند رجلٍ لقن حجته، فيكون الله تعالى حجتهما دونه)).(1/215)
حديث أبي أمامة في النزع غريبٌ من حديث حماد بن زيد ما كتبناه إلا من حديث سعيد الأودي.(1/216)
الباب الحادي والعشرون: في صلة الرحم وأن من وصل رحمه نال من الله تعالى الوصلة بالكرامة، ومن قطعها نال القطيعة والمهانة لما حدثناه أبو عمرو محمد بن محمد ابن بالويه الصائغ بنيسابور قراءةً عليه حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا أحمد بن عصام أخبرنا إسماعيل بن عبد الملك بن أبي شبيب حدثني فائد أبو الورقاء عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((الرحم معلقةٌ بالعرش لها لسانٌ ذلقٌ تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني)).
غريبٌ من حديث فائد أبي الورقاء تفرد به إسماعيل بن عبد الملك.(1/217)
الباب الثاني والعشرون: في الأخذ على يد الظالم في تمرده وطغيانه، قبل أن تصيبه العقوبة من الله تعالى بما لم ينهه عن عصيانه قال الله تعالى:
{واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصةً}.
وحدثنا أبو صادق محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن شاذان الصيدلاني بنيسابور [قال:] حدثنا محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا عبد الله بن أسامة أخبرنا أسيد بن زيد الجمال حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن الشعبي عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((مثل الفاسق في القوم كمثل قومٍ ركبوا سفينةً فاقتسموها فصار لكل إنسانٍ منها نصيبٌ فأخذ رجلٌ منهم فأساً -قال:- فجعل ينقر موضعه فقال له أصحابه: أي شيء تصنع؟ تريد أن [تغرق و] وتغرقنا، قال: هو مكاني، [فإن] أخذوا على يديه نجوا ونجا، وإن(1/218)
تركوه غرق وغرقوا)).
غريبٌ من حديث يحيى بن سلمة تفرد به عنه أسيد بن زيد.
ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً لأمته نبههم به على أن من أخذ على يدي الفاسق في فسقه كان سبب نجاته ومغفرته ومن لم يفعل فرضي به كان فيه هلاكه يوم يلقى الظالم جزاء معصيته.(1/219)
الباب الثالث والعشرون: في استعمال الحياء، واحترام المشايخ من الأجلة والعلماء لما حدثناه أبو الحسن علي بن محمد بن خلف بن موسى البغدادي قراءةً عليه بنيسابور أخبرنا الشافعي محمد بن عبد الله أخبرنا موسى بن سهل الوشاء أخبرنا روح بن عبادة أخبرنا شعبة والثوري قالا: حدثنا منصور عن ربعي بن حراش قال: سمعت أبا مسعود عقبة بن عمرو يقول: قال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-:
((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاعمل ما شئت)).
صحيحٌ من حديث أبي عتاب منصور بن المعتمر انفرد به البخاري فرواه في ((ذكر بني إسرائيل)) عن آدم عن شعبة، وفي ((الأدب)) عن أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية كلاهما عن منصور.
وحدثنا ابن خلف أخبرنا الشافعي أخبرنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي أخبرنا يزيد بن بيان المعلم حدثنا أبو الرحال عن أنس(1/220)
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((ما أكرم شابٌ شيخاً لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه)).
تفرد به يزيد بن بيان عن أبي الرحال.(1/221)
الباب الرابع والعشرون: في بيان أن الدنيا مضمارٌ، [وأن] الآخرة دار سباق إما إلى جنة أو نار، وأن نجاة المرء بذكر كلمة الإخلاص دون سائر الأذكار وهو ما حدثناه أبو عمرو محمد بن عبد الله بن أحمد الرزجاهي بنيسابور سنة تسع وأربعمائة أخبرنا أبو أحمد عبد الله ابن عدي الحافظ أخبرنا القاسم -هو ابن زكريا المطرز- أخبرنا أبو مصعب حدثني علي [بن أبي علي] اللهبي عن محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((أنتم اليوم في المضمار وغداً [في] السباق، فالسبق الجنة، والغاية النار، بالعفو تنجون، وبالرحمة تدخلون، وبأعمالكم تقتسمون)).(1/223)
غريبٌ من حديث أبي معصب تفرد به علي بن أبي علي اللهبي هذا عن محمد بن المنكدر.
وحدثنا أبو عمرو حدثنا أبو أحمد محمد بن محمد الكرابيسي الحافظ بنيسابور سنة ست وستين أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبيد الطوابيقي أخبرنا الحسن بن عرفة العبدي أخبرنا ابن عياش -يعني إسماعيل بن عياش- عن عبد الرحمن بن زياد الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((يؤتى برجلٍ يوم القيامة إلى الميزان، ويؤتى له بتسعةٍ وتسعين سجلاً كل سجلٍ منها مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفةٍ ويخرج له قرطاسٌ مثل هذا -وقال بيده فوق الأنملة- فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فتوضع في الكفة الأخرى فترجح بخطاياه وذنوبه)).
تفرد به عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو [و] ما كتبناه إلا من حديث عبد الرحمن بن زياد عنه.(1/224)
الباب الخامس والعشرون: في بيان أن الدنيا سجن الأولياء وجنة الأعداء وهو ما حدثناه أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الله ابن المرزبان الفارسي بنيسابور سنة تسع وأربعمائة أخبرنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني حدثنا الوليد بن حماد الرملي حدثنا عبد الله بن الفضل بن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان بن زيد الأنصاري حدثني أبي الفضل عن أبيه عاصم عن أبيه عمر عن أبيه قتادة بن النعمان بن زيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((أنزل الله تبارك وتعالى إلي جبريل بأحسن ما كان يأتيني صورةً فقال: إن السلام يقرئك السلام يا محمد ويقول:
إني أوحيت إلى الدنيا أن تمردي وتنكري وتضيفي وتشددي على أوليائي حتى يحبوا لقائي، وتسهلي وتوسعي وتطيبي لأعدائي حتى يكرهوا لقائي، فإني جعلتها سجناً لأوليائي وجنةً لأعدائي)).(1/225)
حديث قتادة بن النعمان هذا تفرد به عنه أولاده ما كتبناه إلا بهذا الإسناد.(1/226)
الباب السادس والعشرون: في ترك النياحة عند نزول المصيبة والبلاء، والصبر على كلب الجوع عند ظهور الغلاء، ثم الشكر على ما يأتي الله تعالى في ثاني الحال من طيب الطعام وعذب الماء لما حدثناه أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جولة الأبهري الأديب فيما قرئ عليه وأنا أسمع سنة ثلاث وأربعمائة أخبرنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن حكيم المديني أخبرنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي حدثنا سعيد بن سليمان [حدثنا سليمان] بن داود اليمامي أخبرنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((إن هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين في جهنم صفاً عن يمينهن وصفاً عن شمالهن ينبحن على أهل جهنم كما تنبح الكلاب)).(1/227)
غريبٌ من حديث أبي نصر يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة تفرد به عنه سليمان بن داود.
وحدثنا أبو طاهر الزيادي بنيسابور أخبرنا أبو بكر القطان أخبرنا إبراهيم بن الحارث البغدادي أخبرنا [يحيى بن أبي بكير حديثنا شيبان بن عبد الرحمن (ح) وحدثنا أبو محمد ابن جولة بأصبهان -واللفظ له- أخبرنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم المديني أخبرنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي حدثنا شيبان عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ساعةٍ لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحدٌ فأتاه أبو بكر فقال: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: خرجت للقاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والنظر في وجهه والتسليم عليه فلم يلبث أن جاء عمر فقال: ما أخرجك يا عمر؟ قال: الجوع. قال: وأنا وجدت بعض الذي تجد انطلق إلى بيت أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري وقد كان رجلاً كثير النخل والشاء ولم يكن له خادمٌ فأتوه فلم يجدوه ووجدوا امرأته فقالوا: أين صاحبك؟ قالت: انطلق غدوةً يستعذب لنا الماء من قناة بني فلان، فلم يلبث أن جاء بقربةٍ(1/228)
يزعبها فوضعها ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل يلزمه ويفديه بأبيه وأمه فانطلق بهم إلى نخيل حديقةٍ فبسط لهم بساطاً ثم انطلق إلى نخله فجاء بقنوٍ فوضعه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أفهلا [تنقيت] لنا من رطبه)) قال: أردت أن تخيروا من رطبه وبسره فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هذا والذي نفسي بيده هذا النعيم الذي أنتم مسؤولون عنه يوم القيامة هذا الظل البارد والرطب البارد عليه الماء البارد)) ثم انطلق ليصنع لهم طعاماً فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تذبح لنا ذات درٍ)) فذبح لهم عناقاً ثم أتاهم بها فأكلوا فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هل لك خادمٌ؟)) فقال: لا، قال: ((فإذا أتانا شيءٌ فأتنا)) فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسان ليس لهما ثالثٌ فأتاه فقال: ((اختر [منهما])) فقال: يا رسول الله خر لي، فقال: ((أما إن المستشار مؤتمنٌ خذ هذا فإني قد رأيته يصلي واستوص به معروفاً)) وأتى به امرأته فحدثها] حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ما أنت ببالغٍ ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه حتى تعتقه، قال: ((فهو عتيقٌ)) ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
إن الله تعالى لم يبعث نبياً ولا خليلاً إلا وله بطانتان(1/229)
بطانةٌ تأمر بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانةٌ لا تألوه خبالاً فمن وقي بطانة السوء فقد وقي.
غريبٌ عزيزٌ من حديث عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة تفرد به عنه شيبان النحوي، أخرج مسلمٌ في كتابه بعض هذا المتن من طريق آخر.(1/230)
الباب السابع والعشرون: في الاستبشار بالبلاء، دون إظهار الجزع على الشدة والبأساء، توقعاً لما أعد الله تعالى من عظيم الجزاء، واقتداءً بالسلف الصالح حيث قالوا: إن أحدنا بالبلاء أفرح من أحدكم بالعطاء. وهو ما حدثناه أبو الفرج عثمان بن أحمد بن إسحاق البرجي أخبرنا محمد بن عمر بن حفص أخبرنا أحمد بن الخليل القومسي أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا عبثر عن أبي قيس الجرمي عن محمد بن سيرين قال: قال أبو الدرداء ليلةٌ أمرضها إلى الصباح أحب إلي من حمر النعم قال أبو الدرداء: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
((ما من مسلمٍ يمرض مرضاً قليلاً ولا كثيراً فيقوم من ذلك المرض إلا قام عطلاً من الذنوب)).(1/231)
حديث ابن سيرين عن أبي الدرداء غريبٌ من حديث عبثر بن القاسم عن أبي قيس الجرمي واسمه بكر بن قيس.
وحدثنا البرجي أخبرنا محمد بن عمر أخبرنا أحمد بن الخليل أخبرنا هارون بن معروف أبو علي قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة عن بشير بن طلحة عن خالد بن دريك قال:
((لما ابتلي أيوب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لنفسه: قد نعمت سبعين سنة فاصبري على البلاء سبعين سنة)).
وفي خبر حدثناه معمر بن أحمد أخبرنا الطبراني حدثنا أبو يزيد القراطيسي حدثنا أسد بن موسى أخبرنا بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
((تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة وأهل الصيام وأهل الصدقة وأهل الحج فيؤتون بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزانٌ ولا ينشر لهم ديوانٌ، ويصب الأجر عليهم صباً بغير حسابٍ)).
حديث يزيد هذا عن أنس تفرد به بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو ما كتبناه إلا من حديث أسد بن موسى.(1/232)
هذه حالة العبد الموفق من الزهادة، والورع من العبادة، الذي مقت نفسه فاستوى عنده النعمة والبلاء والشدة والرخاء، فأما من طلب النعمة وأحب لذيذ العيش والدعة فليس من رجال الصبر على ما ينوبه من مكروه الأمر.
هذا وثواب الماقت لنفسه، الذي فاق بورعه أبناء جنسه ما حدثناه البرجي أبو الفرج أخبرنا محمد بن عمر أخبرنا أحمد بن الخليل حدثنا إبراهيم بن إسحاق الزراد حدثنا إبراهيم بن العباس -وكان فاضلاً- حدثني الصباح بن أيوب الهجري أخبرني أبو صالح الهجري قال: تفكرت ذات ليلةٍ في أشياء من أمر ربي -عز وجل- مقت نفسي فدمعت عيناي وسهرت ساعةً من الليل فتوضأت وصليت ثم أغفيت موضعي فإذا أنا بجاريةٍ حسناء عليها ثيابٌ خضرٌ ومعها شيءٌ يشبه الفرض أبيض فقالت: ذق هذا فذقته فإذا هو شهدٌ فجعلت تلقمني فقلت: ما ذقت مثل هذا، فقالت: هذا لمقتك نفسك فإذا زدت زادوك فقلت لها: فسري ما قلت، قالت: مقتك لنفسك عبادةٌ، وفكرتك حسنةٌ، ودمعتك ثمرةٌ، وصلاتك جنةٌ، ثم قالت: اعمل لكريمٍ لا يضيق بالكثير وقل يا متسع اتسع علينا بفضلك وأهلنا لأمر لسنا أهله فإن لم نستحق المغفرة فأنت أهل التقوى و[أهل] المغفرة وجد علينا بفضلك فإن ما عندنا ينفد وما عندك يبقى ونحن إلى فناء وأنت الحي القيوم، ثم قالت: اضطجع فاضطجعت فنمت فانتهيت فإذا في يدي خرقة حريرٍ لا زورد فيها مكتوبٌ:
تيقظ من منامك يا غبي ... فخير رجال دنياك التقي(1/233)
الباب الثامن والعشرون: في القناعة بما رزقه الله وأعطاه، والإغضاء عن جرم صاحبه وإن سبه وآذاه.
حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر الجرجاني بأصبهان أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري بها حدثنا أنس بن عياض الليثي عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطبٍ على ظهره فيكف بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه)).
وحدثنا الجرجاني قال: أخبرنا الأصم حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طب حتى إنه ليخيل إليه أنه قد صنع الشيء وما صنعه وإنه دعا ربه ثم قال: ((أشعرت أن الله تعالى قد أفتاني فيما(1/234)
استفتيته فيه))، فقالت عائشة: وما ذلك يا رسول الله؟.
قال: ((جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال الآخر: مطبوبٌ، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيما ذا؟ قال: في مشطٍ ومشاطةٍ وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في ذي أروان بئر في بني زريقٍ)).
قالت عائشة: فأتاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم رجع إلى عائشة فقال:
((والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين)).
قالت: فقلت له: يا رسول الله! هلا أخرجته؟.
قال: ((أما أنا فقد شفاني الله -عز وجل- وكرهت أن أثير على الناس منه شراً)).
صحيحٌ متفقٌ عليه من حديث هشام.
وحديث أبي ضمرة عنه انفرد به البخاري فرواه عن إبراهيم بن المنذر عنه.(1/235)
الباب التاسع والعشرون: في ذم الفخر والخيلاء، وذم الاستسقاء بالنجوم والأنواء، لأنها من عمل الجاهلية الجهلاء. وهو ما حدثناه أبو بكر أحمد بن موسى ابن مردويه الحافظ إملاءً حدثنا أحمد بن سليمان بن الحسن النجاد أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أخبرنا خلف بن موسى العمي أخبرنا أبي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((أربعٌ بقين في أمتي من أمر الجاهلية ليسوا بتاركيهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت، وإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت تقوم يوم القيامة عليها سربالٌ من قطران، ودرعٌ من لهيب النار)).(1/237)
قال: وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
((تركنا النياحة حين تركنا اللات والعزى)).
غريبٌ حسنٌ من حديث [موسى بن خلف] عن يحيى لم أكتبه عالياً من حديث خلف بن موسى عن أبيه إلا عن شيخنا هذا.
وحدثنا بهذا الحديث أيضاً الفضل بن عبيد الله أخبرنا عبد الله بن جعفر أخبرنا هارون بن سليمان أخبرنا عبد الملك بن عمرو أبو عامر حدثنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي سلام قال: قال أبو مالكٍ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((إن في أمتي أربعاً من أمر الجاهلية ليسوا بتاركيهن الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت، وإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تقوم يوم القيامة وعليها سربالٌ من قطرانٍ ثم يغل عليها درعٌ من لهب نارٍ)).
وحدثنا الفضل حدثنا عبد الله حدثنا هارون أخبرنا عبد الملك بن عمرو أبو عامر أخبرنا هشام بن سعد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
((ليدعن رجالٌ فخرهم بأقوامٍ إنما هم فحمٌ من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان اللاتي يدفعن بأنفهن النتن)).
وقال: ((إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء(1/238)
مؤمنٌ تقيٌ وفاجرٌ شقيٌ، الناس بنو آدم، وآدم من ترابٍ)).
غريبٌ من حديث هشام بن سعد عن المقبري، تفرد به أبو عامر العقدي عنه.(1/239)
الباب الثلاثون: في ندم العبد على ما فرط منه وبكائه، والتفكر في آيات الله تعالى [وآلائه لما حدثناه أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد ابن ميلة الفقيه إملاءً حدثنا عبد الله بن يحيى الزاهد أخبرنا أبو عيسى موسى بن علي بن موسى الختلي أخبرنا داود بن رشيد أخبرنا حكام بن سلم عن أبي جناب الكلبي عن عطاء قال: دخلت أنا وابن عمر وابن عمير على عائشة رضي الله عنها فقالت: يا عبيد بن عمير ما لك لا ترى، قال: يا أم المؤمنين ما سمعت ما قال الأول: زر غباً تزدد حباً، فقال ابن عمر: دعانا من باطلكما هذا حديثنا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: فبكت ثم بكت ثم بكت، قالت: أتاني في ليلتي التي هي ليلتي فألزق جلده بجلدي ثم قال: يا هذه ائذني لي أن أتعبد لربي عز وجل، فقلت: إني أحب هواك وأهوى قربك، فقام إلى قربةٍ في البيت فتوضأ وما أكثر صب الماء، ثم قام بفتح القراءة فبكى حتى جرت دموعه على خده ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه فبكى حتى بلغت دموعه الأرض -أو: أصابت الأرض-، فجاء بلالٌ وهو يبكي فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً وما يمنعني وقد أنزل علي البارحة {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل(1/241)
والنهار} حتى انتهى إلى قوله سبحانه: {سبحانك فقنا عذاب النار}، فويلٌ لمن قرأها ثم لم يتفكر بها)).
تفرد به حكام بن سلم عن أبي جناب الكلبي واسمه يحيى بن أبي حية.(1/242)
الباب الحادي والثلاثون: في فضل الصلاة والدعاء والاستغفار، والصيام الذي هو جنةٌ للعبد من النار، وبيان أن من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له منزلاً في دار الأبرار، وأن من طلب الدنيا فتيسرت، وطلب الآخرة فتعسرت فذلك من علامة هذا الخسار والإدبار لما حدثناه أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق إملاءً قال: حدثنا أحمد بن عبيد الله بن محمود أخبرنا عبد الله بن محمد بن محمد بن وهب أخبرنا محمد بن الحسن التميمي حدثنا محمد بن بكر البرساني] أخبرنا إبراهيم بن يزيد المكي قال: سمعت نافعاً يحدث عن ابن عمر قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أفضل عند الله؟.
قال: ((قراءة القرآن في الصلاة، ثم قراءة القرآن في غير الصلاة فإن الصلاة أفضل الأعمال عند الله وأحبها إليه، ثم الدعاء والاستغفار فإن الدعاء هو العبادة، وإن الله يحب الملح في الدعاء، ثم الصدقة فإنها تطفئ غضب الرب، ثم الصيام فإن الله يقول: الصوم لي وأنا أجزي به، والصيام جنةٌ للعبد من النار)).(1/243)
وحدثنا أبو نعيم أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن يعقوب المفيد أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن السقطي أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح)).
صحيحٌ متفق عليه حدث به عن يزيد الأئمة أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو خيثمة.
وأخرجه البخاري عن علي بن المديني عن يزيد.
وحدثنا أبو نعيم إملاءً أخبرنا أبي أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب أخبرنا عبدان بن عثمان أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا ابن لهيعة أخبرنا سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله! كيف لي أن أعلم كيف أنا؟
[قال:] فقال: ((إذا رأيت كلما طلبت شيئاً من أمر الآخرة وابتغيته تيسر لك، وإذا أردت شيئاً من أمر الدنيا وابتغيته عسر عليك فاعلم أنك على حالٍ حسنةٍ، وإذا رأيت كلما طلبت شيئاً من أمر(1/244)
الآخرة وابتغيته عسر عليك، وإذا أردت شيئاً من أمر الدنيا تيسير لك فاعلم أنك عند الله تعالى على حالٍ قبيحةٍ)).
قال أبو نعيم: ((غريبٌ من حديث ابن لهيعة لم نكتبه إلا من حديث عبد الله بن المبارك)).(1/245)
الباب الثاني والثلاثون: في أداء الأمانة، وترك المكر والخيانة لما حدثناه أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن [بن أحمد] بن جعفر المعدل القاضي إملاءً حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد بن بن محمد بن أبي غسان أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب [الجمحي] حدثنا عثمان بن الهيثم حدثني أبي عن عاصم عن زر عن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار)).
تفرد به عثمان بن الهيثم عن أبيه عن عاصم عن زرٍ ما كتبناه إلا بهذا الإسناد.(1/246)
الباب الثالث والثلاثون: في التنبيه على أخلاق سوء تظهر في آخر الزمان ليحذرها العاقل الفطن من الفتيان، وبيان ما أعد الله لمن باشرها من المهانة والخذلان.
حدثنا أبو منصور معمر بن أحمد بن محمد بن زياد الصوفي أخبرنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني أخبرنا محمد بن علي الصائغ المكي [قال:] حدثنا محمد بن معاوية النيسابوري أخبرنا محمد بن سلمة الحراني عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
سيجيء في آخر الزمان أقوامٌ تكون وجوههم وجوه الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين أمثال الذئاب الضواري، ليس في قلوبهم شيءٌ من الرحمة، سفاكون للدماء، لا يرعون عن قبيحٍ، إن تابعتهم واربوك، وإن تواريت عنهم اغتابوك، وإن حدثوك كذبوك، وإن ائتمنتهم خانوك، صبيهم عارمٌ، وشابهم شاطرٌ، [وشيخهم] لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، الاعتزاز بهم ذلٌ، وطلب ما في(1/247)
أيديهم فقرٌ، [و] الحليم فيهم غاوٍ، والآمر بالمعروف فيهم متهمٌ، والمؤمن فيهم مستضعفٌ، والفاسق فيهم مشرفٌ، والسنة فيهم بدعةٌ، والبدعة فيهم سنةٌ، فعند ذلك يسلط الله عليهم شرارهم فيدعوا خيارهم فلا يستجاب لهم)).
غريبٌ من حديث محمد بن معاوية عن محمد بن سلمة ما كتبناه إلا من هذا الوجه.
فطوبى لمن تمسك بالكتاب والسنة، واتبع آثار الصحابة ولم يعدها إلى البدعة عند ظهور الفتنة كما حدثناه معمر بن أحمد أخبرنا الطبراني أخبرنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكشي أخبرنا محمد بن عرعرة بن البرند السامي حدثنا فضال بن الزبير أبو مهند الغداني قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر على ناقته الجدعاء فقال:
((أيها الناس كأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الذين نشيع من الأموات سفرٌ عما قليل إلينا راجعون نبؤتهم أجداثهم، ونأكل تراثهم، كأنا مخلدون بعدهم، قد(1/248)
نسينا كل واعظةٍ، وأمنا كل جائحةٍ فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وطوبى لمن أنفق الفضل من مالٍ اكتسبه من غير معصية، وطوبى لمن خالط أهل الفقه والحكمة، وطوبى لمن جانب أهل الذل والمعصية، وطوبى لمن وسعته السنة ولم يعدها إلى البدعة)).
تفرد به فضال بن جبير عن أبي أمامة الباهلي إلا أن ابن عرعرة قال في اسم أبيه الزبير لا غير وتفرد هو به.(1/249)
الباب الرابع والثلاثون: في الحث على اكتساب مكارم الأخلاق والعادات الحسان من اجتناب المنكر، واصطناع العرف والإحسان، لأنها مدفعةٌ لما ينوب من طوارق الحدثان، وسببٌ يتوصل به إلى النجاة والرضوان. [لما] حدثناه أبو أحمد عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الكرجي سنة ست وأربعمائة أخبرنا أبو سعيد الحسين بن محمد بن الحسين الزعفراني أخبرنا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري أخبرنا زكريا حدثنا الأصمعي حدثنا عبد الله بن حسان أبو الجنيد العنبري أخبرنا حبان بن عاصم -وقد كان حرملة جده أبا أمه- وحدثته صفية ودحيبة ابنتا عليبة أن حرملة بن عبد الله أخبرهم أنه خرج حتى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان عنده حتى عرفه فقال حرملة: ارتحلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأزداد من العلم فجئت حتى قمت بين يديه، ثم قلت: يا رسول الله! ما تأمرني أن أعمل به؟
فقال: ((يا حرملة ائت المعروف، واجتنب المنكر)).
فذهبت حتى أتيت راحلتي ثم رجعت فقمت بين يديه في مقامي أو قريباً منه فقلت: يا رسول الله! ما تأمرني؟(1/250)
قال لي: ((يا حرملة ائت المعروف واجتنب المنكر وانظر الذي [تحب] أن تسمعه أذنك يقوله القوم من الخير إذا قمت من عندهم فأته، وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فاجتنبه)).
قال حرملة: فلما قمت من عنده نظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئاً إتيان المعروف واجتناب المنكر.
تفرد به الأصمعي عن عبد الله بن حسان وهو ممن يجمع حديثه ورواياته عزيزةٌ مستحسنةٌ.
وحدثنا أبو أحمد أخبرنا عبد الله بن الحسن بن بندار المديني حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ أبو جعفر أخبرنا داود بن مهران الدباغ حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار عن موسى بن عقبة أخبرنا نافع عن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((بينا ثلاثة نفرٍ يمشون فأخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت عليهم من غارٍ صخرةٌ من الجبل فأطبقت عليهم فقال بعضهم: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحةً فادعوا الله تعالى بها فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وامرأتي وصبيةٌ صغارٌ فكنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني وإنه نأى بي حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت(1/251)
أحلب فجئت حتى قمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما وهم يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج لنا منها نرى منها السماء ففرج لهم منها فرجةً فرأوا منها السماء.
وقال الآخر: [اللهم] إنه كانت لي بنت عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء فطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فسعيت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله! اتق الله تعالى ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجةً ففرج الله تعالى لهم فرجةً.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيراً فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فأعرضت عنه فتركه ورغب عنه حتى اشتريت به بقراً وراعيها فرعيتها له فجاءني يجني فقلت: خذها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: إني لا أهزأ بك خذ تلك البقر وراعيها، فأخذها وذهب فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما بقي ففرج الله عنهم فخرجوا)).
صحيحٌ متفقٌ عليه من حديث موسى بن عقبة عن نافع أخرجه البخاري ومسلمٌ [في] كتابيهما.
فطوبى لعبدٍ أنعم [الله] عليه فوفقه، وويلٌ لعبد خذله فأوبقه(1/252)
كما حدثناه أبو أحمد الكرجي أخبرنا عبد الله بن جعفر أخبرنا هارون أخبرنا أبو عامر العقدي أخبرنا محمد بن أبي حميد الأنصاري [قال:] أخبرنا موسى بن وردان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
((إن من الناس ناساً مفاتيح للخير ومغاليق للشر، ومن الناس ناساً مفاتيح للشر [و] مغاليق للخير، فطوبى لعبد جعل الله مفاتيح الخير على يده، وويلٌ لعبدٍ جعل الله مفاتيح الشر على يده)).(1/253)
حسنٌ غريبٌ من حديث محمد بن أبي حميد عن موسى بن وردان.
ورواه أبو داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس -رضي الله عنه-.(1/254)
الباب الخامس والثلاثون: في ذكر حق الرجال على النساء من الأمانة والوفاء، وحقهن من الشفقة والعطاء، وذلك ما حدثناه أبو القاسم الفضل بن عبيد الله بن أحمد بن الفضل بن شهريار أخبرنا عبد الله بن جعفر أخبرنا هارون بن سليمان أخبرنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى عن عمارة عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان جالساً في المسجد فسمع صوتاً عالياً فقال: ((اذهب يا بلال فانظر ما هذا الصوت)) فرجع بلالٌ فقال: يا رسول الله! النساء يتصدقن بحليهن.
قال: ((مرهن أن يقرن في بيوتهم فإن أكثرهن ساكنٌ النار)).
فقال بلالٌ: يا رسول الله! ولم؟.
قال: ((إنهن يدعون بالويل ويكفرون العشير، إياي وكفران المنعمين، لا تسأل امرأةٌ زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين خريفاً)).(1/255)
[و] حدثنا الفضل أخبرنا عبد الله حدثنا هارون أخبرنا أبو عاصم عن ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي النساء خيرٌ؟
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
((التي تسره إذا نظر، ولا تعصيه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها ولا ماله)).(1/256)
[و] حدثنا الفضل أخبرنا عبد الله حدثنا هارون حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجالاً استأذنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في ضرب النساء فأذن لهم فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صوتاً فقال: ((ما هذا الصوت؟)) فقيل: الرجال أذنت لهم في ضرب النساء.
فقال: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)).(1/258)
الباب السادس والثلاثون: في التحذير عن المداهنة والنفاق، والزجر عن المداراة والشقاق، وأن من كان في الدنيا ذا وجهين كان في النار ذا لسانين.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الجمال أخبرنا عبد الله بن جعفر أخبرنا أحمد بن الفرات أخبرنا أبو داود الحفري وأبو نعيم قالا: أخبرنا شريك عن الركين بن الربيع عن نعيم بن حنظلة عن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((ذو الوجهين في الدنيا ذو اللسانين في النار)).(1/259)
ما كتبناه إلا بهذا الإسناد، وأبو داود اسمه عمر بن سعد.(1/260)
الباب السابع والثلاثون: في الوعيد لمن أصبح حزيناً على ما فاته من دنياه، أو أظهر عند المصيبة جزعه وشكواه، وثواب من صبر على مصيبته وبلواه وهو ما حدثناه أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن جعفر الخلقاني -يعرف بالمصري المقرئ- أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر أخبرنا إسحاق الفارسي أخبرنا حفص بن عمر أخبرنا عثمان بن سماك الحمصي أخبرنا وهب بن راشد عن مالك بن دينار عن خلاس عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((من أصبح حزيناً على الدنيا كان ساخطاً على الله عز وجل، ومن أصبح يشكو مصيبةً نزلت به فإنما يشكو ربه عز وجل، ومن قعد أو جلس إلى غنيً فتضعضع له لدنيا يصيبها ذهب ثلثا دينه ودخل النار، ومن قرأ القرآن واتخذ آيات الله هزواً)).(1/261)
تفرد به وهب بن راشد عن مالك بن دينار عن خلاس بن عمرو عن أبي الدرداء واسمه عويمر بن عامر.
وحدثنا محمد هذا أخبرنا علي بن إبراهيم بن حماد أخبرنا إسماعيل بن محمد المزني أخبرنا حسن بن حسين أخبرنا صالح بن أبي الأسود عن فضيل عن أبي داود الهمداني عن أبي عبد الله الجدلي عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((يا علي! كيف أنت إذا زهد الناس في الآخرة ورغبوا في الدنيا، وأكلوا التراث أكلاً لما، وأحبوا المال حباً جماً، واتخذوا دين الله دغلاً، ومال الله دولاً)).
قال: قلت: اتركهم وما اختاروا، واختار الله ورسوله والدار الآخرة، واصبر على مصيبات الدنيا وبلواها حتى ألحق بك إن شاء الله تعالى.
قال: ((صدقت اللهم افعل ذلك به)).(1/262)
الباب الثامن والثلاثون: في ترك الحسد لأنه آكل الحسنات، والاعتبار بمن يتقدمه من الأموات.
حدثناه أبو بكر محمد بن أحمد ابن عبدويه المؤدب قراءةً عليه وأنا أسمع أخبرنا أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن يوسف الضرير يعرف بـ ((ابن أفرجه)) أخبرنا عبد الله بن محمد بن النعمان أخبرنا القعنبي أخبرنا سليمان بن بلال عن إبراهيم بن [أبي] أسيد عن جده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)).(1/263)
حسنٌ من حديث القعنبي عن سليمان بن بلال عن إبراهيم، وإبراهيم بن أبي أسيد، ويقال: ابن أسيد عن جده يروي عنه سليمان بن بلال وأنس بن عياض -رحمهم الله تعالى-.
حدثنا ابن عبدويه [قال:] أخبرنا الطبراني أخبرنا الدبري أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي عن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- قال: مر على النبي -صلى الله عليه وسلم- بجنازةٍ فقال: ((مستريحٌ ومستراحٌ منه)).
فقالوا: يا رسول الله! ما مستريحٌ ومستراحٌ منه؟(1/265)
فقال: ((المؤمن يستريح من الدنيا ومن وصبها ونصبها، والفاجر يستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب)).
صحيحٌ متفقٌ عليه من حديث أبي قتادة واسمه: الحارث بن ربعي.
أخرجه البخاري من حديث محمد بن عمرو بن حلحلة عن معبد بن كعب بن مالك.
وأخرجه مسلمٌ من حديث عبد الرزاق عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن ابن حلحلة عن معبد عن أبي قتادة.
وحدثنا ابن عبدويه أخبرنا أبو عمر أحمد بن إبراهيم بن عبد الله الراشدي المديني أخبرنا أبو الحسن علي بن سعيد العسكري أخبرنا بنان بن يحيى الصوفي المعدل حدثنا عبيد الله بن عمر الجشمي أخبرنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن [أبي] كثير قال: خطب أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فقال:
((أين الوضاءة الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ أين الذين بنوا المدائن وحصونها بالحيطان؟ أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب تضعضع لهم الدهر فأصبحوا في ظلمات القبور فالوحا(1/266)
الوحا، ثم النجاء ثم النجاء)).(1/267)
الباب التاسع والثلاثون: في فضل التوبة والإنابة، وذم الأعراض والاستغناء عن العبادة.
وهو ما حدثناه أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسين بن زنجويه أخبرنا أبو الحسن محمد بن سهل بن سعيد بن أبي الصلت بالبصرة حدثنا عبد الكريم بن أحمد التمار حدثنا العباس بن محمد الدوري أخبرنا خلف بن موسى بن خلف حدثني أبي عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعظ أصحابه إذا ثلاثة نفرٍ يمرون فجاء أحدهم فجلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومضى الآخر قليلاً ثم جلس، وأما الثالث فمضى على وجهه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
((ألا أنبئكم عن هؤلاء الثلاثة أما هذا الذي جاء فجلس إلينا فإنه تاب فتاب الله عليه، وأما الذي مضى قليلاً ثم جلس فإنه استحيا فاستحيا الله عز وجل منه، وأما الذي مضى على وجهه فإنه استغنى(1/268)
فاستغنى الله عز وجل عنه)).
غريبٌ من حديث قتادة تفرد به خلف بن موسى بن خلف.(1/269)
الباب الأربعون: في الاستكثار من الدعاء والابتهال رجاء الإجابة، والرغبة والسؤال توقعاً للكرامة، فإن أبا بكر أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن محمود قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد العدل إملاءً حدثنا أبو العباس السراج أخبرنا قتيبة بن سعيد أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلةٍ حتى يمضي ثلث الليل فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له)).
الحديث صحيحٌ من حديث يعقوب بن عبد الرحمن انفرد به مسلمٌ فرواه عن قتيبة بن سعيد عنه.
فهذه أربعون باباً عن أربعين شيخاً في المواعظ وما يحتاج العبد(1/270)
إليه من مكارم الأخلاق والترغيب في اكتساب الخير في العاجلة، رجاء الثواب الجزيل في الآجلة، جعلنا الله تعالى من رجالها، ووفقنا لاستعمالها.
وليعلم العاقل الدين واللبيب الفطن أن ابن آدم يطلب الدنيا قدماً قدماً، ويزداد الحرص يوماً فيوماً، لا يكتفي بالقليل الذي يكفيه وإن اتسعت حاله، ولا بالكثير الذي يطغيه وإن كثر ماله، فمهما كانت الدنيا لديه أكثر، كان حرصه أكبر، وشرهه المركب فيه أوفر لما حدثناه علي بن إبراهيم بن عيسى ابن بكرويه الكرجي الحبال المقرئ سنة ست وأربعمائة أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن الفضل الجوهري أخبرنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الغزال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عيسى المقرئ حدثنا عمرو بن مرزوق البصري أخبرنا شعبة عن عاصم عن زرٍ عن أبيٍ بن كعب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أقرأه:
((لو أن لابن آدم وادياً لسأل ثانياً، ولو أعطي ثانياً لسأل ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)).(1/271)
حديث أبيٍ صحيحٌ من غير هذا الطريق غريبٌ من حديث شعبة عن عاصم عن زرٍ عنه.
وحدثنا علي بن إبراهيم الحبال أخبرنا أبو بكر الجوهري أخبرنا يعقوب بن إبراهيم أخبرنا محمد بن عيسى المقرئ أخبرنا أبو همام البصري أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقدٍ الليثي قال: كنا نأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا نزل عليه شيءٌ من الوحي حدثنا فقال لنا يوماً:
((قال الله تعالى: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو أن لابن آدم وادياً من مالٍ لابتغى إليه ثانياً ولو أن له ثانياً لابتغى إليه ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)).
غريبٌ من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي(1/272)
واقد، واختلف في اسمه فقيل: الحارث بن عوف، وقيل: عوف بن الحارث.
فالشهوة معجونةٌ بطينته، والجفاء ممزوجٌ بجبلته، فطوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من مقاله فاستعان به على ذكر الله تعالى من القيام والصيام، وأخرج منه حق الله من الصدقة وصلة الأرحام قبل أن يشقى هو بجمعه، ويسعد به غيره من حله فيرى حظه في ميزان غيره، وويلٌ لمن كانت حاله بضده ولم يأخذ من زاده ولم يتأهب أهبةً لمعاده، وقطع الأرحام، وأطلق اللسان بفضول الكلام وقد حدثنا علي بن إبراهيم الحبال أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر ابن حيان إملاءً أخبرنا الهيثم بن خلف الدوري: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: حدثنا عيسى بن يونس عن ابن علاثة حدثنا حجاج بن فرافصة عن أبي عثمان عن سلمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((إذا اختلف القول، وخزن العمل، وائتلفت الألسن، وتباغضت القلوب، وقطع كل ذي رحمٍ رحمه فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)).
حديث حجاج بن فرافصة غريبٌ بهذا الإسناد تفرد به محمد بن(1/273)
عبد الله بن عمار الموصلي أخرجه أبو نعيم الحافظ في جمعه لحديث حجاج فقال: ((عن أبي عمر البصري عن سلمان)) ولم يذكر أبا عثمان.
وحدثنا أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم [بن محمد بن إبراهيم] بن نصر القرشي المعروف بأبي عبد الله الجمال قراءةً عليه حدثنا عبد الله بن جعفر أخبرنا أحمد بن الفرات بن خالد أخبرنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تجد من شرار الناس ذا الوجهين)) قال الأعمش: الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
وحدثنا أبو عبد الله الجمال أخبرنا عبد الله بن جعفر أخبرنا أحمد بن الفرات حدثنا أبو داود الحفري وأبو نعيم قالا: حدثنا شريك عن الركين بن الربيع عن نعيم بن حنظلة عن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((ذو الوجهين في الدنيا ذو اللسانين في النار)).
أما حديث أبي صالح عن أبي هريرة فصحيحٌ من حديث الأعمش انفرد به البخاري فرواه في ((الأدب)) عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه عن الأعمش.
وحديث عمار بن ياسر ما كتبناه إلا بهذا الإسناد واسم أبي داود الحفري: عمر بن سعد.
هذا وفي الجملة لا يسع العبد إلا أن يرغب إلى الله تعالى في(1/274)
أن يتغمده بفضله وإحسانه، وبرحمته وبمغفرته ورضوانه لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
((لن ينجي أحداً منكم عمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته وفضله)).
وأن يقر على نفسه بالعجز والتقصير ولا يرى له استحقاقاً لا لقليل ولا لكثير بل يجأر إلى ربه عز وجل فيما اقترف على نفسه من ذنبه، ويعتمد عليه في الأحوال سراً وجهراً ويفوض الأمور إليه غنىً وفقراً، ويؤمن بالقدر كله من الله تعالى خيراً أو شراً كما حدثناه أبو بكر عبد الواحد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن العباس الباطرقاني قراءةً عليه وأنا أسمع-فيما أرى- أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسين الجرجاني حدثني أبو أحمد القاسم بن أبي صالح الهمداني بها حدثنا إبراهيم بن الحسين الكسائي حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق البصري حدثنا السري بن يحيى عن أبي شجاع عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله بن مسعود فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطيبٍ. قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء، قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك، قال: أتخشى على بناتي الفقر إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلةٍ سورة(1/275)
الواقعة فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
((من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقةٌ أبداً)).
أبو شجاع هو الجرجاني، وأبو ظبية هو الكلاعي حمصيٌ(1/276)
يروي عن المقداد بن الأسود وعمرو بن عبسة تغمدنا الله تعالى بفضله ومغفرته، ونفعنا بما أولانا من حكمته، ووفقنا لاستعمال الواجبات، والانتهاء عن المنكرات، ونفع بهذا من سمعه وأسمعه بجوده ورحمته، ولا جعلنا ممن لا ينتفع بعلمه وموعظته، وجمع بيننا في دار السلام والسلامة، ومحل الرضوان والكرامة مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [آمين إنه قريبٌ مجيبٌ وهو على كل شيءٍ قديرٌ].
تمت ولله الحمد والمنة(1/277)