..............................................................................
__________
أخرجه البيهقي، وأحمد (4/316) .
والصواب عندي رواية الجماعة عنه؛ لموافقتها لرواية كل من رواه عن عاصم:
ومنهم: بِشْر بن المُفَضَّل: عند أبي داود، والنسائي (1/186) .
ومنهم: ابن إدريس: عند النسائي (1/166) .
وخالد بن عبد الله: عند البيهقي (2/131) .
ومنهم: زهير بن معاوية: عند أحمد (4/318) .
وأما رواية عبد الواحد بن زياد عن عاصم به بلفظ: حذو منكبيه - أخرجها البيهقي
(2/72 و 111) -؛ فهي رواية شاذة؛ كرواية وكيع عن سفيان.
ويؤيد روايةَ الجماعة: روايةُ عبد الجبار بن وائل عن علقمة بن وائل ومولى لهم:
أنهما حدثاه عن أبيه وائل:
أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يديه حين دخل في الصلاة حيال أذنيه ... الحديث. وفي آخره:
فلما سجد؛ سجد بين كفيه.
أخرجه مسلم (2/13) ، وأحمد (4/317 - 318) ، والبيهقي (2/71) .
ويؤيد ذلك أن له شواهد من حديث البراء بن عازب، وأبي مسعود الأنصاري:
أما الأول: فأخرجه الترمذي (2/60) ، والطحاوي عن حفص بن غِيَاث عن
الحجّاج عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء بن عازب:
أين كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع وجهه إذا سجد؟ فقال:
بين كفيه. وقال الترمذي:
" حديث حسن ". وزاد في بعض النسخ:(2/730)
و " كان يمكّن أنفه وجبهته من الأرض " (1) .
__________
" صحيح ".
قال القاضي أحمد محمد شاكر:
" وهي زيادة جيدة؛ لأن الحديث صحيحٌ إسنادُه، ولا أعرف له علة "!
قلت: علته واضحة ظاهرة؛ فإن الحجاج هذا هو: ابن أرطاة، وقد كان مدلساً، وقد
عنعن الحديث، وفي حفظه ضعف، وفي " التقريب ":
" صدوق كثير الخطأ والتدليس ".
وأما حديث أبي مسعود البدري: فقال ابن أبي شيبة في " المصنف " - كما في
" الجوهر النقي " -: ثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن سالم البَرَّاد قال:
أتينا أبا مسعود الأنصاري في بيته فقلنا: عَلِّمْنا صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فصلى، فلما
سجد؛ وضع كفيه قريباً من رأسه.
قلت: وهو في " المسند " (4/274) من طريق أبي عَوَانة عن عطاء به دون قوله:
قريباً من رأسه.
وكذلك أخرجه أبو داود عن جرير عنه. وقد مضى لفظه بتمامه في (الركوع)
[ص 634 - 635] .
(1) هو من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
أخرجه الترمذي (2/59) - وصححه {هو وابن الملقن (27/2) } -، وأبو داود
(1/117) ، والطحاوي (1/151) ، من طريق فُليَح بن سليمان: ثني عباس بن سهل
عن أبي حميد به، وزاد:
ونحّى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه.(2/731)
وقال (للمسيء صلاته) :
" إذا سجدت؛ فَمَكِّن لسجودك " (1) .
__________
وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في " صحيحه " - كما في " التلخيص " (3/473 و 475) -.
ورواه البيهقي (2/102) من طريق الليث بن سعد وابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي
حَبيب عن محمد بن عمرو بن حَلْحَلة عن محمد بن عمرو بن عطاء عنه بلفظ:
فإذا سجد؛ أمكن الأرض بكفَّيه، وركبتيه، وصدور قدميه، ثم اطمأن ساجداً.
وهذا سند صحيح.
{وهو مخرج في " الإرواء " (309) } .
وله شواهد:
منها: عن وائل بن حُجر قال:
رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد على الأرض؛ واضعاً جبهته وأنفه في سجوده.
أخرجه أحمد (4/315 و 317) .
ورجاله ثقات؛ لكنه منقطع.
ومنها: عن أبي جُحَيفة. انظر " المجمع " (1/126) .
(1) هو من حديث ابن عباس، وهو في حديث رفاعة. رواه أبو داود وأحمد بسندٍ
صحيح؛ وقد تقدم في (الركوع) [ص 633] .
وله شاهد من حديث ابن عمر. رواه " ابن حبان من حديث طلحة بن مُصَرِّف عن
مجاهد عنه في حديث طويل. ورواه الطبراني من طريق ابن مجاهد عن أبيه به نحوه ".
كذا في " التلخيص " (3/451) . وقد ذكرناه هناك.
والحديث فيه أنه لا يكفي في وضع الجبهة الإمساس؛ بل يجب أن يتحامل على(2/732)
{وفي رواية:
" إذا أنت سجدت؛ فأمكنت وجهك ويديك؛ حتى يطمئن كل عظم
منك إلى موضعه " (1) } . وكان يقول:
" لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين " (2) .
__________
موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه حتى تستقر جبهته، بحيث إنه لو سجد على قطن أو
حشيش أو شيء محشو بهما؛ وجب أن يتحامل حتى ينكبس ويظهر أثره على يدٍ لو
فُرضت تحت ذلك المحشو. فإن لم يفعل؛ لم يجزئه - على الصحيح عند الشافعية -. وقال
إمام الحرمين:
" عندي أنه يكفي إرخاء رأسه، ولا حاجة إلى التحامل كيفما فُرض محلُّ
السجود ". قال النووي (3/423) :
" والمذهب: الأولُ. وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني، وصاحب " التتمة " و " التهذيب ".
قلت: وهذا هو الحق؛ فإن الذهاب إلى قول الإمام المذكور فيه إلغاء للتمكين
المنصوص عليه في الحديث، وذا لا يجوز - كما هو ظاهر -.
(1) { [أخرجه] ابن خزيمة (1/80/1) = [1/322/638] بسندٍ حسن. [وعنده:
" فأثبتْ ".. بدل: " فأمكنْتَ "] } .
(2) هو من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
أخرجه الدارقطني (133) ، وعنه البيهقي (2/104) ، والحاكم (1/270) من طريق
الجَرّاح بن مَخْلَد: ثنا أبو قُتيبة: ثنا سفيان الثوري: ثنا عاصم الأحول عن عكرمة عنه.
ثم أخرجه الدارقطني من طريق الجراح هذا: ثنا أبو قُتيبة: ثنا شُعبة عن عاصم به.
وأخرجه البيهقي من طريق سُليمان بن عبد الله الغَيْلاني: ثنا أبو قُتيبة مُسِلم بن
قُتيبة: ثنا شعبة والثوري عن عاصم الأحول به. واللفظ له. وقال الحاكم:(2/733)
..............................................................................
__________
" صحيح على شرط البخاري ". وأقره الذهبي.
وهو كما قالا؛ لكن أعله الدارقطني، والبيهقي، والترمذي بأنه مرسل.
كذلك رواه سفيان الثوري قال: ثني عاصم الأحول عن عكرمة مرسلاً به.
إلا أنه قد جاء عن عكرمة من طرق أخرى موصولاً؛ فيتقوى بها:
فأخرجه الطبراني في " الكبير " { (3/140/1) } قال: ثنا الحسن بن علي المَعْمَري:
نا ابن عثمان بن كثير بن دينار الحِمصي - أظنه: يحيى -: نا محمد بن حِمْيَر عن
الضحاك بن حُمْرة عن منصور عن عاصم البَجَلي عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً
بلفظ:
" من لم يُلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد؛ لم تجز صلاته ".
وهذا سند حسن لا بأس به في المتابعات، ورجاله صدوقون؛ غير الضحاك بن
حُمْرة؛ فمختلف فيه، فضعّفه بعضهم، ووثقه آخرون. وفي " التقريب ":
" ضعيف ". وقال شيخه الهيثمي في " المجمع " (2/126) - بعد أن ساق الحديث -:
" رواه الطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، ورجاله موثقون - وإن كان في بعضهم
اختلاف من أجل التشيع - ". اهـ.
ورواه حرب بن ميمون عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" ضع أنفك؛ ليسجد معك ". ذكره البيهقي.
قلت: وهذا سند صحيح؛ إن كان مَن دون حرب بن ميمون ثقاتٍ (*) .
__________
(*) ثم وقف الشيخ رحمه الله على إسناده كاملاً عند أبي نعيم في " أخبار أصبهان " (1/192 -
193) ، فعزا إليه في " الصفة " المطبوع، وخرجه في " الصحيحة " كما سيأتي.(2/734)
و " كان يمكّن أيضاً ركبتيه، وأطراف قدميه، 1 [ويستقبل 2 [بصدور قدميه و]
بأطراف أصابعهما القبلة] " (1) ، و " ينصب رجليه " (2) ،.................
__________
ثم إن للحديث شواهدَ من حديث عائشة: عند الدارقطني، ومن حديث أم
عطية: عند الطبراني؛ فمجموع هذه مما يقوي الحديث، ويوجب العمل به.
وهو نص على بطلان الصلاة بترك وضع الأنف ومسه بالأرض. وقد سبق ذكر من
ذهب إليه من الأئمة.
ثم تبين أن (حرب بن ميمون) هو الأصغر، وهو ضعيف؛ كما بينه الخطيب
البغدادي في " الموضح " (1/98 - 99) ، وروى له هذا الحديث.
وهو مخرج في " الصحيحة " (1644) .
(1) هو من حديث أبي حميد - وقد سبق قريباً -، والزيادة 1 هي في رواية عنه.
أخرجها البخاري (2/245) ، وأبو داود (1/117) ، والبيهقي (2/116) .
وفي الباب عن عائشة. ويأتي حديثها قريباً [ص 736] .
{وروى ابن سعد (4/157) عن ابن عمر:
أنه كان يحب أن يستقبل كل شيء منه القبلة إذا صلى؛ حتى كان يستقبل
بإبهامه القبلة} .
(2) أورد البيهقي (2/116) في هذا الباب حديث أبي حميد الذي قبل هذا،
وليس فيه التصريح بالنصب، ولكنه مفهوم من معنى ثني الأصابع، واستقبال القبلة
بأطرافها؛ فإن هذا لا يمكن في وضع السجود إلا والقدمان منصوبتان، وقد جاء حديث
صحيح صريح في ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
فقدتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من الفراش، فالتمسته؛ فوقعت يدي على بطن قدميه
- وهو في المسجد - وهما منصوبَتان ... الحديث.(2/735)
و " أمر به " (1) ، {وكان يفتخ أصابعهما (2) } ، و " يرص عقبيه " (3) .
__________
أخرجه مسلم وغيره. {والزيادة 2 عند النسائي من طريق ابن راهويه في " مسنده "
(4/129/2) ، وهو مخرج في " صحيح أبي داود " (823) } . وقد ترجم له النسائي
ببابين: الأول: (باب نصب القدمين في السجود) ، والآخر: (باب الدعاء في
السجود) . وسنذكر الحديث وتخريجه هناك [ص 769] .
(1) هو من حديث سعد بن أبي وقاص:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع اليدين، ونصب القدمين.
أخرجه الترمذي (2/67) ، والحاكم (1/271) ، والبيهقي (2/107) من طريق وُهَيب عن
محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه به. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وليس كما قالا، وإنما هو حسن فقط.
وأعله الترمذي بأن يحيى بن سعيد القطان وغير واحد من الثقات رووه عن محمد
ابن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد به. ولم يذكروا فيه: عن أبيه. وقال:
" وهذا أصح من حديث وهيب ".
قلت: وهذه ليست بعلة قادحة؛ لأن وُهَيباً هذا - وهو ابن خالد الباهِلي - ثقة ثبت
- كما قال العجلي -، واحتج به الشيخان، وقد وصل الحديث بذكر سعد فيه، وهي
زيادة من ثقة؛ فيجب قَبولها. كما تقرر. [وأخرجه {السراج} أيضاً] .
(2) { [أخرجه] أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه.
[و (يفتخ) - بالخاء المعجمة -؛ أي: يُليّنها حتى تنثني فيوجهها نحو القبلة. " المعالم "
(1/169) ] } .
(3) هو من حديث عائشة أيضاً قالت:
فقدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان معي على فراشي -؛ فوجدته ساجداً، راصّاً عقبيه،(2/736)
..............................................................................
__________
مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة، فسمعته يقول:
" أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، أثني عليك، لا أبلغ
كل ما فيك ". فلما انصرف؛ قال:
" يا عائشة! أخذك شيطانك؟ ".
فقلت: أما لك شيطان؟ فقال:
" ما من آدمي إلا له شيطان ".
فقلت: وإياك يا رسول الله؟! قال:
" وإياي، لكني أعانني الله عليه؛ فأسلم ".
أخرجه الطحاوي في " المشكل " (1/30) ، {وابن خزيمة (رقم 654) } ، والحاكم (1/228) ،
وعنه البيهقي (2/116) عن سعيد ابن أبي مريم: أنبأ يحيى بن أيوب: ثني عُمارة بن غَزيَّة
قال: سمعت أبا النضر يقول: سمعت عُروة بن الزبير يقول: قالت عائشة: ... . وقال الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. {وانظر " صحيح الموارد " (406) } .
وأقول: إنما هو صحيح على شرط مسلم فقط؛ فإن البخاري لم يحتج بعُمارة هذا،
وإنما استشهد به - كما ذكر ذلك الذهبي نفسه في " الميزان " -.
والحديث رواه أيضاً ابن حبان؛ كما في " التلخيص " (3/475) ، ثم قال الحافظ
- بعد أن عزاه إليه وحده -:
" إنها رواية صحيحة ".
قلت: وأخرجه أحمد (6/115) من طريق أبي قُسَيط (*) عن عروة به - مختصراً -؛
__________
(*) كذا في أصل الشيخ رحمه الله؛ تبعاً لنسخته من " المسند "، والصواب: " ابن قسيط "؛ كما
في " التهذيب " و " التقريب ".(2/737)
وكان يرفع عجيزته (1) . (مُؤخَّره) .
فهذه سبعة أعضاء كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد عليها: الكفان، والركبتان،
والقدمان، والجبهة والأنف.
{وقد جعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضوين الأخيرين كعضو واحد في السجود} ؛
حيث قال:
" أُمرت (2) أن أسجد (وفي رواية: أُمرنا أن نسجد) على سبعةِ أَعْظُمٍ:
على الجبهة - وأشار بيده على أنفه (3) -، واليدين (وفي لفظ: الكفَّين) ،
__________
ليس فيه ذكر الصلاة مطلقاً.
(1) هو من حديث البراء. وقد تقدم قريباً (ص 726) .
في " النهاية ":
" (العجيزة) : العَجُز. وهي للمرأة خاصة فاستعارها للرجل. و (العجز) : مؤخر الشيء ".
(2) قال الحافظ:
" هو بضم الهمزة في جميع الروايات بالبناء لما لم يسمَّ فاعله، والمراد به الله جل جلاله ".
ولما كانت الرواية الأولى تحتمل الخصوصية؛ عقبناها بهذه الرواية - تبعاً للبخاري -؛
فإنها تدل على أن الأمر لعموم الأمة - كما قال الحافظ -، ويشهد لذلك الحديث الذي
بعد هذا؛ فإنه مطلق يشمل كل عبد.
(3) قال الحافظ:
" كأنه ضَمَّنَ (أشارَ) معنى (أَمَرَّ) - بتشديد الراء -؛ فلذلك عداه بـ (على) ؛ دون (إلى) .
وعند النسائي وغيره - كما تقدم -: قال ابن طاوس: ووضع يده على جبهته، وأَمَرَّها على
أنفه. وقال: هذا واحد. فهذه رواية مفسرة. قال ابن دقيق العيد: قيل: معناه أنهما(2/738)
..............................................................................
__________
جُعلا كعضو واحد، وإلا؛ لكانت الأعضاء ثمانية. قال: وفيه نظر؛ لأنه يلزم منه أن
يُكتفى بالسجود على الأنف، كما يكتفى بالسجود على بعض الجبهة.
وقد احتج بهذا لأبي حنيفة في الاكتفاء بالسجود على الأنف قال: والحق أن مثل
هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد؛ فذاك في
التسمية والعبارة، لا في الحكم الذي دل عليه الأمر. وأيضاً فإن الإشارة قد لا تعيق
المشار إليه؛ فإنها إنما تتعلق بالجبهة لأجل العبادة، فإذا تقارب ما في الجبهة؛ أمكن أن
لا يعين المشار إليه يقيناً. وأما العبارة؛ فإنها معينة لما وضعت له؛ فتقديمه أولى. انتهى.
وما ذكره من جواز الاقتصار على بعض الجبهة؛ قال به كثير من الشافعية، وقد ألزمهم
بعض الحنفية بما تقدم.
ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده.
وذهب الجمهور إلى أنه يجزئ على الجبهة وحدها. وعن الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق،
وابن حبيب من المالكية وغيرهم: يجب أن يجمعهما. وهو قول للشافعي أيضاً ".
قلت: وهذا هو الصواب - إن شاء الله تعالى -؛ للأمر بالسجود عليها، ومن ادعى أن الأمر
بخصوص الأنف للاستحباب لا للوجوب؛ فهو مخالف لظاهر الحديث، ومطالب بالدليل،
وأنى له ذلك؟! لكن كون ذلك قولاً للشافعي مما استغربه النووي في " المجموع " (3/424) قال:
" وإن كان قوياً في الدليل. ثم قال ابن دقيق العيد: واحتج بعض الشافعية على أن
الواجب الجبهة دون غيرها بحديث (المسيء صلاته) ؛ حيث قال فيه: ويمكن جبهته. قال:
وهذا غايته أنه مفهوم لَقَب، والمنطوق مقدم عليه، وليس هو من باب تخصيص العموم.
قال: وأضعف من هذا استدلالهم بحديث:
" سجد وجهي ". فإنه (لا) يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه،
وأضعف منه قولهم: إن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة؛ لأن هذا الحديث يدل(2/739)
والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفِت (1) الثياب والشعر " (2) . وكان يقول:
__________
على إثبات زيادة على المسمى، وأضعف منه المعارضة بقياس شبهي؛ كأن يقال: أعضاء
لا يجب كشفها؛ فلا يجب وضعها. قال: وظاهر الحديث أنه لا يجب كشف شيء من
هذه الأعضاء؛ لأن مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها ".
(1) بكسر الفاء من (الكفت) ، وهو الضم (1) ، والمراد أنه لا يجمع ثيابه، ولا شعره.
وظاهره يقتضي أن النهي عنه في حال الصلاة، وإليه جنح الداودي، وترجم له
البخاري (2/238) (باب لا يكف ثوبه في الصلاة) .
{قلت: وليس هذا النهي خاصاً بحال الصلاة؛ بل لو كف شعره وثوبه قبل
الصلاة، ثم دخل فيها كذلك؛ شمله النهي عند جمهور العلماء، ويؤيده نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
يصلي الرجل وهو عاقص شعره - كما يأتي -} .
قال الحافظ:
" وهي تؤيد ذلك، ورده عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور؛ فإنهم كرهوا ذلك
للمصلي، سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخل فيها، واتفقوا على أنه لا يفسد
الصلاة، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة.
قيل: والحكمة في ذلك أنه إذا رفع ثوبه وشعره عن مباشرة الأرض، أشبه المتكبر ".
(2) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
أخرجه البخاري (2/237) ، ومسلم (2/52 - 53) ، {وأبو عوانة [2/183] } ،
والنسائي (1/166) ، والدارمي (1/302) ، والبيهقي (2/103) ، وأحمد (1/292
و305) ، والطبراني في " الكبير " [10920] ؛ كلهم من طريق وُهَيب بن خالد عن عبد الله
ابن طاوس عن أبيه عنه.
__________
(1) {إي: نضمها ونحميها من الانتشار؛ يريد: جمع الثوب والشعر باليدين عند الركوع
والسجود. " نهاية "} .(2/740)
" إذا سجد العبد؛ سجد معه سبعة آراب (1) : وجهه، وكفّاه، وركبتاه،
وقدماه " (2) .
__________
وأخرجه ابن ماجه (1/288) ، وكذا مسلم، والنسائي أيضاً، والبيهقي من طريق
ابن عيينة عن ابن طاوس به نحوه. وزادوا - إلا مسلماً -: قال سفيان: قال لنا ابن طاوس
- ووضع يده على جبهته، وأَمَرّها على أنفه؛ قال -: هذا واحد. لفظ النسائي. وقال
الآخران: قال: وكان أبي يعدّ هذا واحداً.
ورواه ابن جريج عن ابن طاوس به؛ دون قول ابن طاوس هذا بلفظ: الجبهة والأنف.
أخرجه مسلم، و {أبو عوانة [2/73 و 182] } والبيهقي، والنسائي (1/665) . ورواه
عمرو بن دينار عن طاوس.
وأخرجه الطبراني في " الكبير " [10861] من طريق الحمادين عنه.
وأخرجه البخاري (2/235 - 236) ، ومسلم أيضاً، واللفظ الآخر له؛ بدون ذكر الأنف.
ورواه أبو داود (1/142) ، والترمذي (2/62) وصححه، وكذا النسائي (1/167) ،
والدارمي، وابن ما جه، والطحاوي (1/150) ، والطيالسي (340) ، وأحمد (1/221
و270 و 279 و 286 و 324) ، والطبراني [10862] ؛ مختصراً - دون تسمية الأعضاء -.
وهو رواية للبخاري، ومسلم، {وأبي عوانة (2/182) } ، والرواية الأخرى للبخاري وكذا
الطبراني [10857] ، وله عنده [11180] طريق أخرى عن ليث (*) عن أبي الزبير عن
عُبَيد بن عُمَيرعنه.
{وهو مخرج في " الإرواء " (310) } .
(1) أي أعضاء: جمع (إرْب) - بكسر الهمزة، وسكون الراء -.
(2) هو من حديث العباس بن عبد المطلب.
__________
(*) كذا الأصل، والصواب: (حفص بن غياث) . والله أعلم.(2/741)
..............................................................................
__________
أخرجه مسلم (4/207 - بشرح النووي) ، وأبو داود (1/142) ، والنسائي (1/165) ،
والترمذي (2/61) ، {وابن حبان [5/248/1921]- مؤسسة} ، والبيهقي (2/101) ،
وأحمد (1/208) ؛ كلهم عن قتيبة بن سعيد: ثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن محمد
ابن إبراهيم عن عامر بن سعد عنه.
وتابعه الليث بن سعد: عند النسائي (1/166) ، والطحاوي (1/150) ، وعبد العزيز
ابن محمد الدَّرَاورْدي - عنده -، وعبد العزيز بن أبي حازم: عند ابن ماجه (1/288) ،
وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن لهيعة: عند أحمد (1/206) ؛ كلهم عن ابن الهاد به.
وقال الترمذي:
" حديث حسن صحيح ". وقال ابن أبي حاتم في " العلل " (1/75) :
" سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقال: هو صحيح ".
(تنبيه) : إنما عزوت الحديث إلى " صحيح مسلم " بـ " شرح النووي "؛ لأنه ليس في
النسخة التي ننقل منها عادة، والظاهر أنها النسخة التي كان ينقل منها الزيلعي في
" نصب الراية "؛ فإنه لما ذكر الحديث (1/383) ؛ لم يعزه لمسلم، بل قال:
" رواه أصحاب " السنن الأربعة "، وابن حبان في " صحيحه "، والحاكم في
" المستدرك "، والبزار في " مسنده " ".
وقد عزاه غير ما واحد لمسلم؛ منهم: البيهقي في " سننه "، والمَجْد ابن تيمية في
" المنتقى "، والنابلسي في " الذخائر "، وغيرهم.
وأما الحاكم؛ فإنه لم يروه بإسناده - كما هي عادته -؛ بل قال - بعد أن ساق
الحديث المتقدم عن ابن عمر: إن اليدين تسجدان ... الحديث. -:
" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، إنما اتفقا على حديث
محمد بن إبراهيم التيمي عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب:(2/742)
وقال في رجل صلى ورأسه معقوص من ورائه:
" إنما مَثَلُ هذا مَثَلُ الذي يصلي وهو مكتوفٌ (1) " (2) . وقال أيضاً:
" ذلك كِفْلُ الشيطان ". يعني: مقعد الشيطان. يعني: مغرز ضفره.
__________
أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" إذا سجد العبد ... " الحديث ". وقد وهم الحاكم في قوله أنه متفق عليه. وإنما هو
من أفراد مسلم.
(1) {أي: مضفور ومفتول. قال ابن الأثير:
" ومعنى الحديث: أنه إذا كان شعره منشوراً؛ سقط على الأرض عند السجود،
فيُعطى صاحبُه ثوابَ السجود به. وإذا كان معقوصاً؛ صار في معنى ما لم يسجد.
وشبهه بالمكتوف: وهو المشدود باليدين؛ لأنهما لا يقعان على الأرض في السجود ".
قلت: ويبدو أن الحكم خاص بالرجال دون النساء؛ كما نقله الشوكاني عن ابن
العراقي} .
(2) هو من حديث عبد الله بن عباس:
أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه؛ فقام فجعل يَحُلُّه،
فلما انصرف؛ أقبل إلى ابن عباس، فقال: ما لك ورأسي؟! فقال:
إني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... فذكره.
رواه مسلم (2/53) ، {وأبو عوانة [2/74] } ، وأبو داود (1/105) ، والنسائي
(1/167) ، والدارمي (1/320) ، والبيهقي (2/108 - 109) ؛ كلهم عن ابن وهب، إلا
الدارمي؛ فعن بكر بن مضر؛ كلاهما عن عمرو بن الحارث: أن بُكيراً حدثه: أن كُريباً
مولى ابن عباس حدثه عنه.
وتابعهما ليث بن سعد، وزاد في السند: شعبة مولى ابن عباس؛ قرنه مع كُريب(2/743)
..............................................................................
__________
أخرجه أحمد (1/316) ، وتابعه عنه ابن لهيعة عن بكير عن كريب وحده،
مقتصراً على المرفوع منه.
وفي الباب عن أبي رافع مولى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أنه مر بالحسن بن علي، وهو يصلي وقد عقص ضَفْرَته في قفاه؛ فَحَلّها، فالتفت
إليه الحسن مغضباً؛ فقال:
أَقبِلْ على صلاتك، ولا تغضب؛ فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" ذلك كِفْلُ الشيطان ".
أخرجه أبو داود، والترمذي (2/223) ، {وابن خزيمة في " صحيحه " [2/158]- وعنه
ابن حبان في " صحيحه " [رقم 2276 - الحِسَان]-} ، والحاكم (1/262) ، والبيهقي من
طريق ابن جريج: ثني عمران بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عن أبيه عنه.
وقال الترمذي:
" حديث حسن ". وقال المعلق عليه:
" وإسناده صحيح ". كذا قالا، وكذا قال الحاكم. ووافقه الذهبي.
وعمران بن موسى هذا: لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير ابن جريج، لكن
أفاد الحاكم: أن إسماعيل ابن عُلَيّة روى عنه أيضاً. وفي " التقريب ":
" مقبول ". وقال في " الفتح " (2/238) :
" إسناده جيد ". وليس بجيد؛ فإن المقبول عنده - كما قال في مقدمة " التقريب " -:
" من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه
الإشارة بلفظ: مقبول حيث يتابع، وإلا؛ فلين الحديث ". فبما أن عمران هذا قد تفرد
بهذا الحديث بهذا اللفظ؛ فهو لين الحديث، ضعيف.(2/744)
..............................................................................
__________
نعم؛ رواه شعبة: أخبرني مُخَوَّل قال: سمعت أبا سعد - رجلاً من أهل المدينة -
يقول: رأيت أبا رافع ... الحديث نحوه. بلفظ: وقال:
نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره.
أخرجه ابن ماجه (1/323) ، والدارمي (1/320) .
وتابعه سفيان الثوري عن مُخَوَّل؛ لكنه لم يُكْنِ الرجلَ.
أخرجه أحمد (6/8 و 391) .
وسنده ضعيف؛ لجهالة الرجل الذي لم يسمَّ، وفي " الميزان ":
" لا يعرف ".
ثم استدركت؛ فقلت: أبو سعد المدني هو: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، نبه على
ذلك ابن أبي حاتم؛ فقد قال في " العلل " (1/107) :
" سألت أبي عن حديث (1) رواه المؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن مُخَوَّل عن
سعيد المَقْبُري عن أم سلمة قالت: نهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصلي الرجل ورأسه معقوص؟
قال أبي: إنما روي عن مُخَوّل عن أبي سعد (الأصل: أبي سعيد) عن أبي رافع.
وكنية سعيد المقبري: أبو سعد، وأخطأ مؤمل؛ إنما الحديث عن أبي رافع ".
وعليه؛ فعلته الانقطاع بين أبي رافع وأبي سعد - فقد قالوا بأنه لم يسمع من
عائشة، وهي ماتت بعد أبي رافع بِزَمَانٍ -، ولعل بينهما أباه - أبا سعيد -؛ كما في رواية
عمران بن موسى المتقدمة. والله أعلم.
__________
(1) رواه الطبرإني في " الكبير " عن أم سلمة؛ كما في " المجمع " (2/86) وقال:
" ورجاله رجال " الصحيح " ". فهل هو من طريق أخرى؟ لأن المؤمل ليس من رجال " الصحيح ".
[نعم؛ هو كذلك؛ فقد تابع مؤملاً - عنده - أبو حذيفة عن سفيان به. " الطبراني الكبير "
(23/252/ رقم 512) ] .(2/745)
و " كان لا يفترش ذراعيه " (1) ؛ بل كان ينهى عنه (2) ، و " كان يرفعهما
__________
{وانظر " صحيح أبي داود " (653) } .
قال الترمذي:
" والعمل على هذا عند أهل العلم؛ كرهوا أن يصلي الرجل وهو معقوص شعره ".
قال البيهقي:
" وروينا كراهية ذلك عن عمر، وعلي، وحذيفة، وعبد الله بن مسعود رضي الله
عنهم ".
(1) هو من حديث أبي حُمَيْد رضي الله عنه بلفظ:
فإذا سجد؛ وضع يديه، غير مفترش، ولا قابضَهما.
أخرجه البخاري وغيره.
(2) فيه أحاديث:
منها: عن عائشة رضي الله عنها بلفظ:
وكان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع ... الحديث.
وقد تقدم بتمامه في (التكبير) . وقد رواه مسلم وغيره. وهو مع ذلك معلل - كما
سبق بيانه هناك [ص 177]-.
ومنها: عن عبد الرحمن بن شِبْل قال:
نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نقرة الغراب، وافتراش السبُع، وأن يوطّن الرجل المكان في
المسجد، كما يوطّن البعير.
أخرجه أبو داود (1/138) ، والنسائي (1/167) ، والدارمي (1/303) ، وابن ماجه
(1/437) ، والحاكم (1/229) ، والبيهقي (2/118) ، وأحمد (3/428 و 444) ؛ كلهم(2/746)
ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو بياض إبطيه من ورائه (1) "،................
__________
من طريق جعفر بن عبد الله بن الحكم عن تميم بن محمود عنه. وقال الحاكم:
" صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في " صحيحيهما " - كما في " الترغيب " (1/181) -.
وفي صحة هذا الإسناد نظر؛ فإن تميم بن محمود هذا: قال البخاري:
" فيه نظر ". وذكره العقيلي، والدولابي، وابن الجارود في (الضعفاء) . ووثقه ابن
حبان فقط، وهو من تساهله المعروف. وفي " التقريب ":
" فيه لين ".
لكن الحديث له شاهد يقويه؛ وهو ما أخرجه أحمد (5/446 - 447) قال: ثنا
إسماعيل: أنا عثمان البَتِّي عن عبد الحميد بن سَلَمة عن أبيه:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن نقرة الغراب ... الحديث بتمامه.
وهذا مرسل.
وعبد الحميد: مجهول - كما قال الدارقطني، وتبعه الحافظ في " التقريب " -.
(1) هذه الصفة مما تواتر نقلها عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رواها جمع من الصحابة رضي الله عنهم:
1- عبد الله بن مالك ابن بُحَينة:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى؛ فرَّج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه.
أخرجه البخاري (2/234) ، ومسلم (2/53) ، والنسائي (1/166) ، والطحاوي
(1/136) ، والبيهقي (2/114) ، وأحمد (5/345) . وفي رواية له، وكذا مسلم بلفظ:
كان إذا سجد؛ يُجَنِّح في سجوده. ولفظ الطحاوي:
فرج بين ذراعيه وبين جنبيه.(2/747)
..............................................................................
__________
2- ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها قالت:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ خَوَّى بيديه - يعني: جنّح -، حتى يُرى وضحُ إبطيه
مِن ورائه.
أخرجه مسلم (2/54) ، والنسائي (1/172) ، والدارمي (1/306) ، والطحاوي،
والبيهقي، وأحمد (6/332 و 333 و 335) . زادوا - إلا الطحاوي وأحمد -:
وإذا قعد؛ اطمأن على فخذه اليسرى.
ولها حديث آخر؛ وهو الذي بعده [ص 752] .
3- عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال:
أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خلفه؛ فرأيت بياض إبطيه وهو مُجَخٍّ قد فرَّج بين يديه.
أخرجه أبو داود (1/143) ، والحاكم (1/228) ، وعنه البيهقي (2/115) ، وأحمد
(1/292 و 302 و 305 و 316 و317 و 339 و 354 و 362 و 365) ، والطيالسي أيضاً
(ص 358) ؛ كلهم عن أبي إسحاق عن التميمي الذي يحدث بالتفسير عنه.
وهذا إسناد حسن.
والتميمي اسمه: أَرْبِدة؛ بسكون الراء بعدها موحدة مكسورة، وهو صدوق - كما
في " التقريب " -.
وله طريق أخرى أخرجها الطيالسي (356) ، وأحمد (1/320 و333 و 352) عن
ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس قال:
رأى ابن عباس رجلاً ساجداً قد ابتسط ذراعيه؛ فقال ابن عباس:
هكذا يربض الكلب! رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ رأيت بياض إبطيه.
وهذا سند حسن أيضاً بما قبله.(2/748)
..............................................................................
__________
4- البراء بن عازب قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى؛ جخَّ.
أخرجه النسائي، والحاكم (1/228) - وعنه البيهقي - من طريق النَّضْر بن شُمَيل:
ثنا يونُس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عنه. وقال الحاكم:
" صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي.
وصححه أيضاً النووي (3/439) ، وأخرجه ابن خزيمة - كما في " التلخيص "
(3/474) -.
وتابعه أيوب بن جابر: عند الطيالسي (98) .
وشَرِيك: عند الطحاوي (1/136) ، وأحمد. وقد مضى لفظه قريباً [ص 726] .
5- عبد الله بن أقرم قال:
صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكنت أرى عفرة إبطيه إذا سجد.
أخرجه النسائي، والترمذي (2/62 - 63) ، وابن ماجه (1/287) ، والحاكم
(1/227) ، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد (4/35) عن داود بن قيس قال: ثني
عُبيد الله بن عبد الله بن أقرم الخُزاعي قال: ثني أبي به. وقال الحاكم:
" صحيح ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا؛ فإن رجاله كلهم ثقات. وأما الترمذي؛ فقال:
" حديث حسن "! فقصَّر.
6- أبو هريرة رضي الله عنه، وله عنه طرق:
الأول: عن أبي مِجْلَز عن بَشِير بن نُهَيك عن أبي هريرة قال:
لو كنت بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأبصرت إبطيه.
قال أبو مِجْلَز: كأنه قال ذلك لأنه في صلاة.(2/749)
..............................................................................
__________
أخرجه النسائي.
وسنده صحيح على شرط مسلم.
الثاني: عن خالد بن يزيد عن عُبيدالله بن المغيرة عن أبي الهيثم عنه أنه قال:
كأني أنظر إلى بياض كَشْحَي رسول الله وهو ساجد.
أخرجه الطحاوي.
وسنده صحيح أيضاً، وقال الهيثمي (2/125) :
" رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله ثقات ".
الثالث: عن عبد الواحد بن زياد: ثنا عبيد الله بن عبد الله بن الأصمّ عن عمه يزيد
ابن الأصمّ عنه قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ رؤي وضح إبطيه.
أخرجه الحاكم (1/228) ، وقال:
" صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي.
قلت: لكن أخرجه مسلم وغيره من طرق عن عبيد الله بن عبد الله عن عمه عن
ميمونة - كما تقدم -؛ فلعل يزيد بن الأصم رواه عنها وعن أبي هريرة معاً، والا؛ فرواية
الأكثرين أصح.
7- عن جابر بن عبد الله قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ جافى حتى يُرى بياض إبطيه.
أخرجه الطحاوي، والبيهقي، وأحمد (3/294 - 295) ، والطبراني في " الصغير "
(54) وفي " الكبير " و " الأوسط " أيضاً - كما في " المجمع " (2/125) - من طريق مَعْمَر عن(2/750)
..............................................................................
__________
منصورعن سالم بن أبي الجعد عنه.
وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
8- عن أبي سعيد الخُدْري بلفظ حديث أبي هريرة الثاني.
أخرجه الطحاوي، وأحمد (3/15) من طريق ابن لَهيعة عن عبيد الله بن المغيرة عن
أبي الهيثم عنه.
وابن لهيعة: سيِّئ الحفظ، وقد خالفه من هو أوثق منه، وهو خالد بن يزيد؛ فجعله
من (مسند أبي هريرة) - كما مر آنفاً -.
9- عَدي بن عميرة قال:
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ يُرى بياض إبطه.
أخرجه أحمد (4/193) عن معتمر بن سليمان قال: قرأت على الفُضَيل بن ميسرة
قال: ثني أبو حَرِيز: أن قيس بن أبي حازم حدثه عنه.
وهذا إسناد رجاله موثقون؛ لكن قال ابن المديني:
" سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت للفضيل بن ميسرة: أحاديث أبي حَريز؟
قال: سمعتها، فذهب كتابي، فأخذته بعد ذلك من إنسان ". وقال الهيثمي:
" رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله ثقات، وفي " الكبير " ". اهـ. فذهل عن
كونه في " المسند "!
10- أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرجه أصحاب السنن وغيرهم - وقد مضى بتمامه في (الركوع) -، ورواه البخاري بلفظ:
فإذا سجد؛ وضع يديه؛ غير مفترش، ولا قابضهما.
11- إبراهيم النَّخَعي مرسلاً؛ قال:(2/751)
و " حتى لو أن بَهمة (1) أرادت أن تمر تحت يديه؛ مرَّت " (2) .
__________
بلغني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سجد؛ يُرى بياض إبطيه.
أخرجه أحمد (1/364) .
وسنده صحيح. رجاله رجال الستة.
وفي الباب عن أحمر.
[وسيأتي ص 753] .
(فائدة) : ليس فيه - كما قيل - دلالة على أنه لم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابساً قميصاً؛ لأنه وإن
كان لابساً له؛ فإنه قد يبدو منه أطراف إبطيه، لأنها كانت أكمام قمصان ذلك العصر
غير طويلة، فيمكن أن يُرى الإبط من كمها، ولا دلالة فيه على أنه لم يكن على إبطيه
شعر - كما قيل -؛ لأنه يمكن أن المراد: يرى أطراف إبطيه لا باطنهما حيث الشعر؛ فإنه
لا يُرى إلا بتكلف. وإن صح ما قيل أن من خواصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ليس على إبطه شعر؛ فلا
إشكال. كذا في " سبل السلام " (1/257) .
(1) كذا هو عند الجميع بفتح الباء؛ قال أهل اللغة: (البَهْمة) : واحدة البهم، وهي
أولاد الغنم من الذكور والإناث، وجمع البهم: بهام - بكسر الباء -.
وفي رواية الحاكم والبيهقي، وكذا الطبراني في " معجمه " - كما في " نصب الراية "
(1/387) -:
بُهيمة. بالضم - مصغراً -؛ قال الزيلعي:
" وهو الصواب، وفتح الباء فيه خطأ ".
(2) هو من حديث ميمونة بنت الحارث - زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سجد؛ جافى بين يديه حتى ... الحديث.
أخرجه مسلم (2/53 - 54) ، وأبو داود (1/143) ، والنسائي (1/166 - 167) ،(2/752)
وكان يبالغ في ذلك حتى قال بعض أصحابه (1) :
__________
والدارمي (1/306) ، وابن ماجه (1/287) ، والحاكم (1/228) ، والبيهقي (2/114) ،
وأحمد (6/331) ؛ كلهم من طريق سفيان بن عُيينة عن عُبيد الله بن عبد الله عن عمه
يزيد بن الأصم عنها به.
وقد رواه غير سفيان عن عبيد الله بلفظ آخر، وقد ذكر في الحديث الذي قبله.
(1) هو أحمر بن جَزْء - بفتح الجيم، بعدها زاي ساكنة، ثم همز -.
أخرجه أبو داود (1/143) ، وابن ماجه (1/288) ، والطحاوي (1/136) ،
والبيهقي (2/115) ، وأحمد (4/342 و 5/30) ، والطبراني في " الكبير "، والضياء
المقدسي في " المختارة "؛ كلهم عن عَبّاد بن راشد: ثنا الحسن: ثنا أحمر بن جَزْء به.
وهذا إسناد حسن. وقال النووي (3/430) :
" إسناده صحيح ". وكذا قال في " الخلاصة " - كما في " الزيلعي " (1/387) -.
وصححه ابن دقيق العيد على شرط البخاري - كما في " التلخيص " (3/475) -.
كذا قالوا! وعباد بن راشد: مختلف فيه؛ قال أحمد:
" شيخ ثقة صدوق صالح ". وقال أبو حاتم:
" صالح الحديث "، وأنكر على البخاري ذكره في " الضعفاء " وقال:
"يُحَوَّل ". وقال أبو داود:
" ضعيف ". والنسائي وابن البَرْقي:
" ليس بالقوي ". وقال ابن حبان:
" لا يحتج به ". ورد ذلك المقدسي بقوله:
" وقد روى له البخاري في " صحيحه "، وهو أعلم ممن تكلم فيه ".(2/753)
" إن كنا لنأوي (1) لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مما يُجافي بيديه عن جنبيه إذا
سجد ". وكان يأمر بذلك؛ فيقول:
" إذا سجدت؛ فضع كفيك، وارفع مرفقيك " (2) . ويقول:
__________
قلت: وهذا الجواب ليس بشيء؛ لأمرين:
الأول: أن البخاري لم يحتج به؛ بل روى له مقروناً بغيره.
الثاني: أن البخاري نفسه ممن تكلم فيه؛ حتى أنكر ذلك عليه أبو حاتم - كما مر
آنفاً -. وفي " التقريب ":
" صدوق له أوهام ". فغاية حديثه أن يكون حسناً.
نعم؛ تابعه عَبّاد بن ميسرة:
أخرجه الطحاوي.
وابن ميسرة هذا: حاله قريب من حال ابن راشد؛ وقد قال أحمد:
" عباد بن راشد أثبت حديثاً من عباد بن ميسرة ". وقال ابن معين:
" عباد بن ميسرة، وعباد بن راشد، وعباد بن كثير، وعباد بن منصور؛ كلهم
حديثهم ليس بالقوي، ولكنه يكتب ". وفي " التقريب ":
" لين الحديث ". اهـ.
ولعله بهذه المتابعة يصير الحديث صحيحاً. والله أعلم.
(1) {أي: نَرْثي ونرِقّ} .
(2) هو من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
أخرجه مسلم (2/53) ، {وأبو عوانة [2/183] } ، والبيهقي (2/113) ، والطيالسي
(101) ، وأحمد (4/283 و 294) من طريق عُبيد الله بن إياد بن لَقِيط قال: ثني أبي عنه.(2/754)
" اعتدلوا في السجود (1) ، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط (وفي
لفظ: كما يبسط) الكلب " (2) . وفي لفظ آخر وحديث آخر:
__________
(1) قال القاضي أبو بكر بن العربي في " عارضة الأحوذي " (2/75 - 76) :
" أراد به كون السجود عدلاً باستواء الاعتماد على الرجلين، والركبتين، واليدين،
والوجه، ولا يأخذ عضو من الاعتدال أكثر من الآخر. وبهذا يكون ممتثلاً لقوله: " أمرت
بالسجود على سبعة أعظم ". وإذا فرش ذراعيه فَرْشَ الكلب؛ كان الاعتماد عليهما دون
الوجه؛ فيسقط فرض الوجه ". انتهى.
قلت: وهذا المعنى قد جاء منصوصاً عليه في حديث ابن عمر الآتي في الأصل:
" فإنك إذا فعلت ذلك؛ سجد كل عضو منك معك ".
وقد ذكر نحوه ابن دقيق العيد فقال:
" لعل المراد بالاعتدال هنا: وضع هيئة السجود على وفق الأمر؛ لأن الاعتدال
الحسي المطلوب في الركوع لا يتأتى هنا؛ فإنه هناك استواء الظهر، والعنق، والمطلوب هنا
ارتفاع الأسافل على الأعالي. قال: وقد ذكر الحكم هنا مقروناً بعلته؛ فإن التشبه
بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصلاة ". انتهى.
والهيئة المنهي عنها أيضاً مشعرة بالتهاون وقلة الاعتناء بالصلاة. اهـ. من " فتح
الباري " (2/240) . وقد قال الترمذي - بعد أن ساق الحديث -:
" والعمل عليه عند أهل العلم؛ يختارون الاعتدال في السجود، ويكرهون الافتراش
كافتراش السبُع ".
(2) هو من حديث أنس رضي الله عنه.
أخرجه البخاري (2/240) ، ومسلم (2/53) ، وأبو داود (1/143) ، والنسائي
(1/167) ، والدارمي (1/303) ، والطيالسي (266) ، وعنه الترمذي (2/66) وصححه،(2/755)
" ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب ".
__________
وكذا البيهقي (2/113) ، وأحمد (3/115 و 177 و 179 و 202 و 274 و 291) من طرق
عن شعبة قال: سمعت قتادة عنه.
وقد صرح قتادة بسماعه من أنس: عند الدارمي، والترمذي، وأحمد في رواية.
واللفظ الأول هو رواية لأحمد من طريق بهز عن شعبة. واللفظ الآخر هو لأبي داود من
طريق مسلم بن إبراهيم عن شعبة.
وكذلك رواه عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " (3/279) عن شَرِيك عنه،
وأحمد عن يزيد - هو: ابن هارون - عنه.
وقد تابعه عن قتادةَ سعيدُ بنُ أبي عروبة.
أخرجه ابن ماجه (1/289) ، والنسائي أيضاً.
وهَمّام، ويزيد بن إبراهيم، وهشام: عند أحمد (3/191 و 214) .
وحُميد، وأيوب أبو العلاء القَصّاب - ولفظهما نحو لفظ مسلم بن إبراهيم - عن شعبة.
أخرجه أحمد أيضاً (3/109 و 231) ، والنسائي (1/166) عن أيوب.
وله شاهد من حديث جابر مرفوعاً بلفظ:
" إذا سجد أحدكم؛ فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب ".
أخرجه الترمذي وصححه، وابن ماجه، وأحمد (3/305 و 315 و 389) من طريق
الأعمش عن أبي سفيان عنه.
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وله في " المسند " (3/336) طريق آخر من رواية ابن لهيعة: ثنا أبو الزبير قال:
سألت جابراً رضي الله عنه عن السجود؟ قال:(2/756)
..............................................................................
__________
سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر أن يُعتَدل في السجود، ولا يسجد الرجل وهو باسط ذراعيه.
وهذا إسناد حسن في المتابعات والشواهد.
وله شاهد آخر، وفيه زيادة غريبة.
أخرجه أبو داود، والبيهقي (2/115) من طريق الليث عن دراج عن ابن حُجَيرة عن
أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:
" إذا سجد أحدكم؛ فلا يفترش يديه افتراش الكلب، وليضم فخذيه ".
وعزاه الحافظ (2/234) لابن خزيمة، وسكت عليه.
وما أرى إسناده يصح؛ فإن دراجاً هذا - وهو: أبو السمح المصري -: متكلم فيه، وقد
ساق له ابن عدي أحاديث، وقال:
" عامتها لا يتابع عليها ".
وقد أورده الذهبي في " الميزان "، وحكى تضعيفه عن الأكثرين. والحاكم يصحح له
كثيراً في " مستدركه "، والذهبي يوافقه في بعض ذلك، وأحياناً يتعقبه بقوله:
" دراج: كثير المناكير ".
ومن مناكيره عندي هذه الزيادة: " وليضم فخذيه ". فقد ثبت من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خلافه (*) - كما يأتي قريباً -.
هذا، وفي الباب عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً - كما يأتي أيضاً -.
__________
(*) قال العظيم أبادي شارحاً قوله: " وليضم فخذيه ":
" فيه أن المصلي يضم فخذيه في السجود. لكنه معارض بحديث أبي حميد في صفة صلاة
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إذا سجد فرَّج بين فخذيه ... وقوله: " فرَّج بين فخذيه ": فرق بينهما. قال
الشوكاني: ... ولا خلاف في ذلك.
(تنبيه) : حسن الشيخ رحمه الله - أخيراً - حديث (دراج) ؛ إلا ما كان من روايته عن أبي الهيثم.
انظر " الصحيحة " (3350) ، وحسن حديثه هذا في " صحيح أبي داود " (837) .(2/757)
وكان يقول:
" لا تبسط ذراعيك [بسط السبُع] ، وادّعم على راحتيك (1) ، وتجاف (2)
عن ضَبْعيك (3) ؛ فإنك إذا فعلت ذلك؛ سجد كل عضو منك معك " (4) .
__________
(1) أي: استند عليهما.
(2) هو من (الجفاء) : البعد عن الشيء. يقال: جفاه؛ إذا بعد عنه، وأجفاه؛ إذا
أبعده. " نهاية ".
(3) تثنية ضبْع - بسكون الباء - وهو وسط العضُد. وقيل: هو ما تحت الإبط. ويقال
للإبط: الضبع؛ للمجاورة. " نهاية ".
(4) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
أخرجه الحاكم (1/227) ، والضياء المقدسي في " المختارة " من طريق محمد بن
إسحاق قال: ثني مِسْعَر بن كِدَام عن آدم بن علي البكري عنه. وقال:
" صحيح ". ووافقه الذهبي.
ورواه الطبراني في " الكبير " - كما في " المجمع " (2/126) ، وقال: " ورجاله ثقات " -،
ومن طريقه الضياء المقدسي. وقال الحافظ في " الفتح " (2/234) :
" إسناده صحيح ". قال الزيلعي (1/386) :
" هو في " مصنف عبد الرزاق " من كلام ابن عمر. قال: أخبرنا سفيان الثوري عن
آدم بن علي البكري قال:
رآني ابن عمر وأنا أصلي لا أتجافى عن الأرض بذراعي؛ فقال:
أيا ابن أخي! لا تبسط بسط السبُع، وادَّعم ... إلخ.
ورفعه ابن حبان في " صحيحه " في (النوع الثامن والسبعين من القسم الأول) بلفظ:
" وجاف عن ضبعيك ". ".(2/758)
..............................................................................
__________
والزيادة عنده، وكذا الطبراني، ورواه ابن خزيمة في " صحيحه " { [1/80/2) =
[1/325/645) } ، وعنه المقدسي.
وهذا الحديث، وحديث البراء الماضي يدلان على وجوب التفريج المذكور، لكن
حديث أبي هريرة المذكور بعده، يدل على الاستحباب.
كذا أطلق الحافظ في " الفتح " (2/234) ، وأرى أن الصواب أن يقال: يجب التفريج؛ إلا إذا
وجد مشقة منه؛ فيرخص حينئذٍ تركه، ويدل على هذا القيد عبارة ابن عجلان الآتية. فتأمل.
(تنبيه) : كان في المتن بعد قوله: " سجد كل عضو منك معك ":
" ورخص في ترك التفريج: التجافي؛ إذا كان يشق على الساجد، وذلك حينما
شكا أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه مشقة السجود - عليهم - إذا تفرجوا. فقال:
" استعينوا بالركب ". [قال ابن عجلان - أحد رواته -: وذلك أن يضع مرفقيه
على ركبتيه إذا أطال السجود وأعيا] ".
وعلق الشيخ رحمه الله عليه بقوله:
" هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرجه أبو داود (1/143) ، وعنه البيهقي (2/116 - 117) ، والترمذي عن قُتيبة
(2/77) ، والحاكم (1/229) ، وعنه البيهقي أيضاً عن شعيب بن الليث بن سعد، وأحمد
(2/339 - 340) عن يونُس؛ ثلاثتهم عن الليث عن ابن عجلان عن سُمَي عن أبي صالح عنه
به. والزيادة لشعيب ويونس. وقد عزاها الحافظ في " الفتح " لأبي داود، وهو وهم! وقال الحاكم:
" صحيح على شرط مسلم "! ووافقه الذهبي! وهو وهم أيضاً؛ وإنما هو حديث حسن
فقط، ليس صحيحاً، ولا على شرط مسلم - كما بيناه مراراً -.
وأما الترمذي؛ فأعلَّه بأن رواه سفيان بن عيينة وغيرُ واحد عن سُمي عن النعمان
ابن أبي عَيّاش عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو هذا. ثم قال:(2/759)
وجوبُ الطُّمأنينة في السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بإتمام الركوع والسجود، ويضرب لمن لا يفعل ذلك مَثَلَ
الجائع؛ يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئاً. وكان يقول فيه:
" إنه من أسوأ الناس سرقةً ".
وكان يحكم ببطلان صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود - كما
سبق تفصيله في (الركوع) -، {وأمر (المسيء صلاته) بالاطمئنان في
السجود - كما تقدم في أول الباب} -.
__________
" وكأن هؤلاء أصح من رواية الليث ". وعلق عليه القاضي أحمد شاكر بقوله:
" لماذا؟! هؤلاء رَوَوُا الحديث عن سُمي عن النعمان مرسلاً، والليث بن سعد رواه
عن سُمي عن أبي صالح عن أبي هريرة موصولاً؛ فهما طريقان مختلفان يؤيد أحدهما
الآخر ويعضُده. والليث بن سعد: ثقة حافظ حجة، لا نتردد في قبول زيادته وما انفرد
به؛ فالحديث صحيح ". انتهى.
وأقول: هذا كلام صحيح متين؛ لو أن الاختلاف في وصله وإرساله كان بين الليث
وبين سفيان وغيره - كما هو ظاهر كلام الترمذي، وعليه مشى القاضي المذكور -، ولكن
الواقع أن الاختلاف هو بين محمد بن عجلان وبين سفيان؛ فإن الليث إنما رواه عن سُمي
بواسطة ابن عجلان - كما رأيت -، وإذ الأمر كذلك؛ فمحمد بن عجلان ليس بالقوي
إذا خولف؛ فالصواب في الحديث أنه مرسل؛ كما رواه سفيان بن عيينة.
وقد أخرجه البيهقي (2/117) ، ثم قال:
" وكذلك رواه سفيان الثوري عن سُمَي عن النعمان ". ثم قال:
" قال البخاري: وهذا أصح بإرساله ".
فالحديث - إذن - معلول، فيُحذف من الكتاب، ويُذكر في التعليق على سبيل التنبيه ".
قلت: فلذا؛ أثبتناه كما أراد الشيخ رحمه الله.(2/760)
أذكارُ السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارةً هذا،
وتارةً هذا:
1- " سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات) ".
و" كان - أحياناً - يكررها أكثر من ذلك ".
وبالغ في تكرارها مرة في صلاة الليل حتى كان سجوده قريباً من
قيامه، وكان قرأ فيه ثلاث سور من الطوال: {البَقَرَة} و {النِّسَاء} و {آلِ
عِمْرَان} ، يتخللها دعاءٌ واستغفارٌ - كما سبق في (صلاة الليل) -.
2- " سبحان ربي الأعلى وبحمده (ثلاثاً) ".
3- " سُبُّوح، قُدُّوس (1) ، رب الملائكة والروح ".
4- " سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي ".
وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده؛ يتأول القرآن.
5- " اللهم! لك سجدت؛ وبك آمنت، ولك أسلمت، [وأنت ربي] ،
سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، [فأحسن صُوَرَه] ، وشق سمعه وبصره،
__________
1-4- سبق تخريج هذه الأحاديث في (الركوع) :
[1 و 2- (ص 651 - 658) . 3- (ص 659) . 4- (ص 660 - 662) ] .
(1) {تقدم أن (السّبّوح) : الذي ينزه عن كل سوء. و (القدوس) : المبارك} .
5- هو من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد مضى بطوله في
(الاستفتاح) [ص 242] .(2/761)
[فـ] تبارك الله أحسن الخالقين (1) ".
__________
والزيادة الأولى: هي عند الطحاوي (1/137) ، والترمذي عن عبد الرحمن بن أبي
الزِّناد، والدارقطني (30) عن ابن جريج؛ كلاهما عن موسى بن عُقبة بإسناده المتقدم
هناك عن علي.
وهو سند صحيح. وقد جاءت هذه الزيادة: من حديث جابر ومحمد بن مسلمة
بإسنادين صحيحين عند النسائي (1/169) ، ومن حديث أبي هريرة في " مسند
الشافعي " (14) .
والزيادة الثانية: هي عند مسلم في رواية {وأبي عوانة} ، والدارقطني، والبيهقي،
وهي رواية أبي داود، والطيالسي، وأحمد، وابن نصر (76) .
والزيادة الثالثة: عند الترمذي في رواية، والبيهقي (2/109) ، وأحمد.
(تنبيه) : زاد البيهقي في هذه الرواية بعد قوله: " ولك أسلمت ":
" وعليك توكلت ".
وهي زيادة شاذة، لم أجدها في شيء من الأصول.
(1) أي: أتقن الصانعين، يقال لمن صنع شيئاً: خلقه، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ضُ القوم يخلق ثم لا يفري
قال القرطبي في " تفسيره " (12/110) :
" وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، وإنما يضاف الخلق إلى الله
تعالى. وقال ابن جريج: إنما قال: {أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} ؛ لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه
الصلاة والسلام أن يخلق. واضطرب بعضهم في ذلك. ولا تنفى اللفظة عن البشر في
معنى الصنع، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم ".(2/762)
6- " اللهم! اغفر لي ذنبي كله، دِقّه وجِلَّه (1) ، وأوله وآخره، وعلانيته
وسره (2) ".
7- " سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء بنعمتك عليَّ،
هذه يداي وما جَنَيْتُ على نفسي " (*) .
__________
6- هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في سجوده: ... فذكره.
أخرجه مسلم (2/50) ، {وأبو عوانة [2/185 - 186] } ، وأبو داود (1/140) ،
والطحاوي (1/138) ، والحاكم (1/263) .
(1) هو بكسر أولهما. أي: قليله وكثيره. وفيه توكيد الدعاء، وتكثير ألفاظه؛ وإن
أغنى بعضها عن بعض. كذا في " شرح مسلم ".
قلت: ومثله ما سيأتي في (الدعاء قبل السلام) إن شاء الله تعالى.
(2) أي: عند غيره تعالى، وإلا؛ فهما سواء عنده تعالى، يعلم السر وأخفى - كذا
في " المرقاة " -. وهو بمعنى قوله الآتي:
" رب! اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت ".
7- هو من حديث عبد الله بن مسعود قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في سجوده: ... فذكره.
أورده في " المجمع " (2/128) ، وقال:
" رواه البزار، ورجاله ثقات ".
قلت: وقد أخرجه ابن نصر (76) ، والحاكم (1/534 - 535) من طريق حُميد
__________
(*) أشار الشيخ رحمه الله إلى حذفه في نسخته الخاصة من " صفة الصلاة " (ص 146) ؛ معلقاً
عليه بما تراه في نهاية التخريج هنا (ص 765) . فأثبتناه دون تسويد كما ترى.(2/763)
..............................................................................
__________
الأعرج عن عبد الله بن الحارث عنه. وقال الحاكم:
" صحيح الإسناد؛ إلا أن الشيخين لم يخرجا عن حُميد الأعرج الكوفي، إنما اتفقا
على إخراج حديث حُميد بن قيس الأعرج المكي ". وتعقبه الذهبي بقوله:
" قلت: حميد: متروك ". وفي " التقريب ":
" يقال: هو ابن عطاء - أو: ابن علي، أو غير ذلك -: ضعيف ".
قلت: وهو متفق على تضعيفه؛ لم نر أحداً وثقه، فالظاهر أن البزار رواه من غير
طريقه، وإلا؛ فكيف يقول الهيثمي:
" ورجاله ثقات " (*) ؟!
على أنه قد ساق له شاهداً من حديث عائشة قالت:
كانت ليلتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانْسَلَّ، فظننت أنه انْسَلَّ إلى بعض نسائه؛
فخرجت غَيْرَى، فإذا أنا به ساجداً كالثوب الطريح، فسمعته يقول:
" سجد لك سوادي، وخيالي، وآمن بك فؤادي، رب! هذه يدي، وما جنيت
على نفسي يا عظيم! تُرجى لكل عظيم؛ فاغفر الذنب العظيم ". قالت: فرفع رأسه فقال:
" ما أخرجك؟ ".
قالت: ظنّاً ظننته. قال:
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ؛ فاستغفري الله. إن جبريل أتاني، فأمرني أن أقول هذه
الكلمات التي سمعت، فقوليها في سجودك؛ فإنه من قالها؛ لم يرفع رأسه حتى يُغفر
- أظنه قال: - له ".
رواه أبو يعلى.
__________
(*) بل هو بنفس الإسناد! انظر " الضعيفة " (2145) .(2/764)
8- " سبحان ذي الجبروتِ، والملكوتِ، والكبرياءِ، والعظمة ". وهذا
- وما بعده - كان يقوله في صلاة الليل.
9- " سبحانك [اللهم!] وبحمدك، لا إله إلا أنت ".
__________
وفيه عثمان بن عطاء الخراساني، وثقّه دُحيم، وضعفه البخاري، ومسلم، وابن
معين وغيرهم.
قلت: وفي " التقريب ":
" ضعيف ". وأورده في " التلخيص " (3/470 - 471) بنحوه إلى قوله:
كالثوب الساقط على وجه الأرض ساجداً ... الحديث. اهـ. فالظاهر أنه هو هذا. وقال:
" رواه ابن الجوزي من حديث عائشة. وفي إسناده سليمان ابن أبي كَريمة: ضعفه
ابن عدي؛ فقال: عامة أحاديثه مناكير. وأخرجه الطبرانى في كتاب " الدعاء " له في
(باب القول في السجود) ". اهـ.
{ثم تبين أن الشواهد المشار إليها لا تصلح، وذلك بعد الوقوف على أسانيدها
مباشرة، فانظر " الضعيفة " (2145 و 6579) } .
8- هو من حديث عوف بن مالك الأشجعي. وقد مضى بتمامه في (القراءة في
صلاة الليل) ، وذكرت له شاهداً في (الركوع) .
9- هو من حديث عائشة أيضاً قالت:
افتقدت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسّست، ثم
رجعت؛ فإذا هو راكع - أو ساجد - يقول: ... فذكره.
أخرجه مسلم (2/51) ، {وأبو عوا نة [2/169] } ، والنسائي (1/169) ، وأحمد
(6/151) من طريق ابن جُريج عن عطاء قال: أخبرني ابن أبي مُليكة عنها.
وصرح ابن جريج بسماعه من عطاء عند مسلم وأحمد، [وبسماعه من ابن أبي(2/765)
10- " اللهم! اغفر لي ما أسررتُ، وما أعلنتُ ".
__________
مليكة عند أبي عوانة] ، والزيادة للنسائي.
وله طريق آخر: رواه ابن نصر (75) : ثنا إسحاق: أخبرنا المخزومي: ثنا وهيب عن
خالد الحذاء عن محمد بن عباد عنها قالت:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في صلاة الليل في سجوده:
" سبحانك لا إله إلا أنت ".
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. والمخزومي اسمه: المغيرة بن سلمة أبو هاشم البصري.
وهذه الرواية تعين المراد في الرواية الأولى؛ وهو: السجود.
10- هو من حديث عائشة أيضاً قالت:
فقدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مضجعه، فجعلت ألتمسه، وظننت أنه أتى بعض
جواريه، فوقعت يدي عليه وهو ساجد، وهو يقول: ... فذكره.
أخرجه النسائي (1/169) ، وابن نصر (75) عن جَرير عن منصور عن هلال بن
يِسَاف عنها.
ثم أخرجه النسائي - وكذا الحاكم (1/221) - من طريق شعبة عن منصور به؛ إلا
أنه قال:
" رب! ".. بدل: " اللهم! ".
وليست هي في " المستدرك ". ثم قال:
" صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وليس كما قالا، وإنما هو على
شرط مسلم وحده؛ فإن هلال بن يِسَاف لم يرو له البخاري إلا تعليقاً (*) .
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في مطبوع " الصفة " لابن أبي شيبة (12/112/1) ، وهو فيه من
طريق أخرى؛ فقال: حدثنا عُبيدة بن حُميد عن منصور عن إبراهيم عنها.(2/766)
11- " اللهم! اجعل في قلبي نوراً، [وفي لساني نوراً] ، واجعل في
سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من
فوقي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل
خلفي نوراً، [واجعل في نفسي نوراً] ، وأعظم لي نوراً ".
__________
11- هو من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
بِتُّ عند خالتي ميمونة بنت الحارث، وبات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندها، فرأيته قام
لحاجته، فأتى القِربة فحل شِناقَها، ثم توضأ وضوءاً هو الوضوء، ثم قام يصلي، وكان
يقول في سجوده: ... فذكره، ثم نام حتى نفخ، فأتاه بلال فأيقظه للصلاة.
أخرجه النسائي (1/168) عن شيخه هنّاد بن السَّرِيّ، ومسلم (2/181) عنه، وعن
أبي بكر بن أبي شيبة - { [وهذا] في " المصنف " (12/112/1) } - معاً؛ قالا: ثنا أبو
الأحوص عن سعيد بن مسروق عن سلمة بن كُهيل عن أبي رِشْدين - وهو كُريب - عنه به.
وقد تابعه شعبة عن سلمة، لكنه شك؛ فقال:
فجعل يقول في صلاته - أو في سجوده - ...
أخرجه مسلم (2/180 - 181) ، و {أبو عوانة [2/312] } ، والطيالسي (353) ،
وأحمد (1/284) .
وتابعه أيضاً سفيان الثوري بلفظ:
وكان يقول في دعائه. فأطلق ولم يقيد.
أخرجه البخاري في " صحيحه " (11/97 و 99) ، وفي " الأدب المفرد " (100) ،
ومسلم (2/178) ، وأحمد (1/343) (*) وزاد في آخره:
قال كُريب: وسبع في التابوت. قال: فلقيت رجلاً من ولد العباس، فحدثني بهن فذكر:
__________
(*) [و {أبو عوانة} (2/311) من الطريق نفسها؛ وفيه: قال كريب: " ست ".. بدل: " سبع "] .(2/767)
..............................................................................
__________
" عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري ". وذكر خصلتين.
وتابعه عُقيل بن خالد أيضاً بلفظ:
ودعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلتئذٍ تسع عشرة كلمة. قال سلمة: حدثنيها كُريب - فحفظت
منها ثنتي عشرة، ونسيت ما بقي -:
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره، وفيه الزيادتان.
أخرجه مسلم (2/181 - 182) ، و {أبو عوانة [2/314] } .
ثم أخرجه [هو و {أبو عوانة} (2/320) ] من طريق أخرى عن محمد بن علي بن
عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس:
أنه رقد عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستيقظ ... الحديث، وفيه:
فأذن المؤذن، فخرج إلى الصلاة، وهو يقول: ... فذكره نحوه.
وأخرجه أبو داود (1/213) ، وأحمد (1/373) .
وله طريق أخرى عند البخاري في " الأدب " (100 - 101) من طريق يحيى بن عَبَّاد
أبي هُبيرة عن سعيد بن جُبيرعنه بلفظ:
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل، فصلى، فقضى صلاته؛ يُثني على الله بما هو
أهله، ثم يكون في آخر كلامه:
" اللهم! اجعل لي نوراً في قلبي ... " الحديث بنحوه.
وسنده صحيح.
فقد اتفقت هاتان الروايتان على أن موضع هذا الدعاء بعد انقضاء الصلاة، وفي
الرواية الأولى أنه في السجود؛ فالظاهر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل تارة هكذا، وتارة هكذا.
والمراد بـ (النور) : إما الهداية والتوفيق للخير، وهذا يشمل الأعضاء كلها؛ لظهور(2/768)
12- " [اللهم!] [إني] أعوذ برضاك من سخطك، و [أعوذ] بمعافاتك من
عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت
__________
آثاره في الكل، أو المراد: ظاهر النور. والمقصود أن يجعل الله تعالى له في كل عضو من
أعضائه نوراً يوم القيامة، يستضيء به في تلك الظلم ومن تبعه. والله أعلم. سندي.
12- هو من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
فقدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من الفراش، فالتمسته؛ فوقعت يدي على بطن قدميه،
وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: ... فذكره.
أخرجه مسلم (2/51) ، و {أبو عوانة [2/169 - 170 و 188] ، وأبو داود
(1/140) (1) ، {وابن أبي شيبة في " المصنف " (12/106/2) = [6/19/29131] } ،
وابن نصر (75) من طريق عُبَيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حَبَّان عن الأعرج
عن أبي هريرة عنها.
والزيادات لابن نصر، ولمسلم الأولى، وأبي داود {وأبي عوانة (169) } الأخيرة.
وله طريق آخر أخرجه النسائي (1/169) ، والطحاوي (1/138) من طريق يحيى
ابن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أن عائشة قالت:
فقدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة؛ فوجدته وهو ساجد، وصدور قدميه نحو القبلة،
فسمعته يقول: ... فذكره. دون الزيادتين الأُولَيين.
وهذا سند صحيح على شرط الشيخين.
ثم أخرجه الطحاوي من طريق الفَرَج بن فَضَالة عن يحيى بن سعيد عن عَمْرَةَ عن
عائشة به، وفيه الزيادات.
__________
(1) {انظر " صحيح أبي داود " (823) } .(2/769)
على نفسك (1) ".
__________
ثم أخرجه من طريق يحيى بن أيوب قال: ثني عُمارة بن غَزِيَّة قال: سمعت
أبا النضر يقول: سمعت عروة يقول: قالت عائشة: ... فذكر مثله؛ إلا أنه لم يذكر
قوله:
" لا أحصي ثناء عليك "، وزاد:
" أثني عليك، لا أبلغ كما فيك ". وهي رواية لابن نصر.
وهذا إسناد على شرط مسلم؛ لكن يحيى بن أيوب في حفظه شيء. وفي
" التقريب ":
" صدوق ربما أخطأ ". فيخشى أن تكون هذه الزيادة من أوهامه.
(1) فيه الاعتراف بالعجز عن القيام بواجب الشكر، والثناء، وأنه لا يقدر عليه،
وإن بلغ فيه كل مبلغ؛ بل هو سبحانه وتعالى كما أثنى على نفسه، فكأنه قال: هذا أمر
لا تقوم به القوى البشرية، ولكن أنت القادرعلى الثناء على نفسك بما يليق بها، فأنت
كما أثنيت على نفسك. كذا في " تحفة الذاكرين " (106) .(2/770)
النهيُ عن قراءة القرآن في السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، ويأمر بالاجتهاد
والإكثار من الدعاء في هذا الركن - كما مضى في (الركوع) - وكان يقول:
" أقرب (1) ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء [فيه] " (2) .
__________
(1) قال ابن الملك في " المبارق " (2/79) :
" أقرب: مبتدأ خبره محذوف وجوباً؛ لسد الحال مسده، فهو مثل قولهم: أخطب
ما يكون الأمير قائماً؛ إلا أن الحال - ثمة - مفرد، وههنا جملة مقرونة بالواو. وإنما كان
العبد أقرب إلى رحمة الله تعالى حالة السجود؛ لأنها غاية التذلل، والاعتراف
بعبوديته، وكانت مظنة الإجابة؛ ولذا أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:
" فأكثروا الدعاء فيه " ". اهـ.
وقد استدل بالحديث من ذهب إلى أن السجود أفضل من القيام، وقد سبق ذكرهم
هناك، وذكرنا كلام السندي في الجمع بين الأدلة. فراجعه [ص 406 - 407] .
(2) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرجه مسلم (2/49 - 50) ، {وأبو عوانة [2/180] } ، وأبو داود (1/140) ،
والنسائي (1/170 - 171) ، والطحاوي (1/138) ، والبيهقي (2/110) ، وأحمد
(2/421) ؛ كلهم من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن عُمارة بن غَزِيّة عن
سُمَيّ مولى أبي بكر: أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عنه به، والزيادة للبيهقي.
وعزاه الحاكم (1/263) للشيخين معاً؛ فوهم، وإنما هو من أفراد مسلم.
ثم أخرجه الطحاوي من طريق أبي صالح: ثني يحيى بن أيوب به نحوه.
{وهو مخرج في " الإرواء " (456) } .(2/771)
إطالةُ السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل سجوده قريباً من الركوع في الطُّول، وربما بالغ في
الإطالة لأمر عارض؛ كما قال بعض الصحابة (1) :
" خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى صلاتي العشي -[الظهر
والعصر]- وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوضعه [عند
قدمه اليمنى] ، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهرانَيْ (2) صلاته
سجدة أطالها، قال: فرفعت رأسي [من بين الناس] ؛ فإذا الصبي على ظهر
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الصلاة؛ قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهرانَيْ صلاتك [هذه]
سجدة (3) أطلتها؛ حتى ظَنَنّا أنه قد حدث أمر (4) ، أو أنه يوحى إليك! قال:
" كل ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني (5) ، فكرهت أن أعجله حتى
يقضي حاجته " (6) .
__________
(1) هو شَدّاد بن الهَاد رضي الله عنه.
(2) أي: في أثناء صلاته.
(3) ولفظ الحاكم:
سجدة ما كنت تسجدها؛ أشيء أمرت به، أو كان يوحى إليك؟
(4) كناية عن الموت، أو المرض.
(5) أي: اتخذني راحلة بالركوب على ظهري.
" فكرهت أن أعجله ": من التعجيل، أو الإعجال.
(6) أخرجه النسائي (1/171 - 172) ، وأحمد (3/493 و 6/467) ، والحاكم (3/164) ،(2/772)
{وفي حديثٍ آخر:
" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي؛ فإذا سجد؛ وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا
منعوهما؛ أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة؛ وضعهما في حِجْرِه،
وقال:
" من أحبني؛ فَلْيُحِِبَّ هذين " " (1) } .
__________
وعنه البيهقي (2/263) ، {وابن عساكر (4/257/1 - 2) = [14/160] } عن جرير بن
حازم: ثنا محمد بن عبد الله بن [أبي] يعقوب عن عبد الله بن شداد بن الهاد عنه.
وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين - كما قال الحاكم، ووافقه الذهبي -.
والزيادة الأولى عند أحمد والحاكم، والأخريات عند الحاكم والبيهقي {وابن عساكر} .
وله شاهد مختصر من حديث أنس رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد، فيجيء الحسن أو الحسين، فيركب ظهره؛ فيطيل
السجود، فيقال: يا نبي الله! أطلت السجود؟ فيقول:
" ارتحلني ابني؛ فكرهت أن أعجله ". قال الهيثمي (9/181) :
" رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن ذكوان: وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله
رجال " الصحيح " ".
(1) { [أخرجه] ابن خزيمة في " صحيحه " (887) بإسناد حسن عن ابن مسعود،
والبيهقي مرسلاً (2/263) ، وترجم له ابن خزيمة بقوله: " باب ذكر الدليل على أن
الإشارة في الصلاة - بما يفهم عن المشير - لا تقطع الصلاة، ولا تفسدها ".
قلت: وهذا من الفقه الذي حُرِمَهُ أهلُ الرأي!
وفي الباب أحاديث أخرى في " الصحيحين " وغيرهما} .(2/773)
فضل السجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة ".
قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله! في كثرة الخلائق؟ قال:
" أرأيت لو دخلت صِيَرة (*) فيها خيل دُهم بُهم (1) ، وفيها فرسٌ أغرُّ
مُحَجَّلٌّ (2) ؛ أما كنت تعرفه منها؟ ". قال: بلى. قال:
__________
(*) في الأصل: (صبرة) - كما كان سابقاً في " صفة الصلاة "، تبعاً لـ " المسند " -،
وقد نقلنا تصحيحها ومعناها من " صفة الصلاة " - المطبوعة - (ص 149) :
{ (الصِّيَرة) : حظيرة تتخذ للدواب من الحجارة، وأغصان الشجر، وجمعها (صِيَر)
- كما في " النهاية " -} . والمعنى: مجتمع فيها خيل.
(1) " دُهم ": جمع أدهم، وهو: الأسود.
" بُهم ": جمع بهيم، وهو في الأصل: الذي لا يخالط لونَه لونٌ سواه. - كما في
" النهاية " -.
وفي " القاموس ":
" والبهيم: الأسود، وما لا شية فيه من الخيل - للذكر والأنثى -، والنعجة السوداء،
والخالص الذي لم يَشُبْهُ غيره ".
(2) " أغرّ " من الغرة، وهو: البياض الذي يكون في وجه الفرس.
" مُحَجّل " وهو: من الخيل الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد، ويجاوز
الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين؛ لأنهما مواضع الأحجال وهي: الخلاخيل والقيود، ولا
يكون التحجيل باليد واليدين، ما لم يكن معها رِجل أو رِجلان. " نهاية ".(2/774)
" فإن أمتي يومئذٍ غُرٌّ (1) من السجود، محجَّلون من الوُضوء (2) " (3) .
__________
(1) بضم المعجمة وشد الراء: جمع أغر؛ أي: ذو غرة.
" من السجود "؛ أي: من أثر السجود في الصلاة. قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} .
(2) أي: من أثر وضوئهم في الدنيا.
والمراد أنهم بِيْضُ مواضعِ السجود من الجبهة والأنف، وبِيْضُ مواضعِ الوضوء من
الأيدي والأقدام.. استعار أثر الوضوء والسجود في الوجه، واليدين، والرجلين للإنسان
من البياض الذي يكون في وجه الفرس، ويديه، ورجليه. اهـ. من " النهاية ". بقليل
من التصرف. قال المناوي:
" ولا تدافع بين هذا الحديث، وبين خبر الشيخين:
" إن أمتي يدعون يوم القيامة غرّاً محجلين من آثار الوضوء ".
وما ذاك إلا لأن المؤمن يُكسى في القيامة نوراً من أثر السجود، ونوراً من أثر الوضوء،
نور على نور، فمن كان أكثر سجوداً أو أكثر وضوءاً في الدنيا؛ كان وجهه أعظم ضياء
وأشد إشراقاً من غيره، فيكونون فيه على مراتب من عِظَمِ النور، والأنوار لا تتزاحم؛ ألا
ترى أنه لو أدخل سراج في بيت؛ ملأه نوراً، فإذا أدخل فيه آخر ثم آخر؛ امتلأ بالنور من
غير أن يزاحم الثاني الأول، ولا الثالثُ الثاني.. وهكذا. والوُضوء هنا بالضم، وجوّز ابن
دقيق العيد الفتح على أنه الماء.
(3) هو من حديث عبد الله بن بسر.
أخرجه بتمامه الإمام أحمد (4/189) قال: ثنا أبو المغيرة قال: ثنا صفوان قال:
ثني يزيد بن خُميرالرَّحْبي عنه.
وهذا سند صحيح. وقد أخرج الترمذي منه الشطر الأخير بلفظ:(2/775)
ويقول:
" إذا أراد الله رحمةَ من أراد من أهل النار؛ أمر الله الملائكة أن يُخْرِجوا
من كان يعبد الله؛ فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحَرّمَ الله على
النار أن تأكل أثر السجود (1) ، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله
__________
" أمتي يوم القيامة ... " والباقي مثله.
أخرجه (2/505 - 506) من طريق الوليد بن مسلم قال: قال صفوان بن
عمرو: ... به. وقال:
" حديث حسن صحيح ".
وهو كما قال. لكن ليس ذلك بالنظر إلى إسناده - فإن الوليد بن مسلم: مدلس،
ولم يصرح بسماعه كما ترى -؛ وإنما هو صحيح بالنظر إلى إسناد أحمد؛ فإنه رواه عن
أبي المغيرة: ثنا صفوان. وأبو المغيرة هذا - اسمه: عبد القُدُّوس بن الحجّاج -: ثقة محتج
به في " الصحيحين ". {وهو مخرج في " الصحيحة " (2836) } .
(1) قال النووي:
" ظاهر هذا أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة التي يسجد الإنسان
عليها. وهكذا قاله بعض العلماء، وأنكره القاضي عياض رحمه الله وقال: والمراد بأثر
السجود: الجبهة خاصة. والمختار: الأول. فإن قيل: قد ذكر مسلم بعد هذا مرفوعاً:
" إن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات الوجوه ".
فالجواب أن هؤلاء القوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار بأنه لا يسلم منهم
من النار إلا دارات الوجوه، وأما غيرهم؛ فيسلم جميع أعضاء السجود منهم؛ عملاً
بعموم هذا الحديث، فهذا الحديث عام، وذلك خاص، فيعمل بالعام إلا ما خص. والله
أعلم ".(2/776)
النار؛ إلا أثر السجود " (1) .
__________
{وفيه: أن عصاة المصلين لا يخلدون في النار، وكذلك لو كان الموحِّد تاركاً للصلاة
كسلاً؛ فإنه لا يخلد؛ صح ذلك، فانظر " الصحيحة " (3054) } .
(1) هو قطعة من حديث طويل في البعث والشفاعة، يرويه أبو هريرة رضي الله
عنه - لا بأس من أن نسوقه بطوله - قال:
إن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال:
" هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ ". قالوا: لا يا رسول الله! قال:
" فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ ". قالوا: لا. قال:
" فإنكم ترونه كذلك؛ يحشر الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً؛
فليَتْبَع، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت،
وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها. فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم. فيقولون: هذا مكاننا
حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا؛ عرفناه، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت
ربنا، فيدعوهم، فيُضرب الصراطُ بين ظهرانَيْ جهنم، فأكون أولَ من يجوز من الرسل
بأمته، ولا يتكلم يومئذٍ أحد إلا الرسل. وكلام الرسل يومئذٍ: اللهم! سلّم سلّم. وفي
جهنم كلاليب؛ مثل شوك السعدان؛ هل رأيتم شوك السعدان؟ ". قالوا: نعم. قال:
" فإنها مثل شوك السعدان؛ غير أنه لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِها إلا الله، تخطف الناس
بأعمالهم؛ فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة
من أراد من أهل النار ... " الحديث، وتمامه:
" فيُخرجون من النار قد امتُحِشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون؛ كما ينبت
الحبة في حَميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل بين الجنة
والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة، مقبل بوجهه قِبَلَ النار، فيقول: يا رب! اصرف(2/777)
..............................................................................
__________
وجهي عن النار، قد قشبني ريحها، وأحَرقني ذكاؤها. فيقول: هل عسيت إن فُعل ذلك
بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزتك! فيعطي الله ما يشاء من عهد وميثاق،
فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة؛ رأى بهجتها، سكت ما شاء أن
يسكت، ثم قال: يا رب! قَدِّمني عند باب الجنة. فيقول الله له: أليس قد أعطيت
العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سَألت؟ فيقول: يا رب! لا أكون أشقى
خلقك. فيقول: فما عسيت إن أعطيت ذلك أن لا تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك! لا
أسأل غير ذلك، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق؛ فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ
بابها، فرأى زهرتها، وما فيها من النضرة والسرور؛ فيسكت ما شاء الله أن يسكت،
فيقول: يا رب! أدخلني الجنة. فيقول الله: ويحك يا ابن آدم! ما أغدرك؟! أليس قد
أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى
خلقك. فيضحك الله عز وجل منه، ثم يأذن له في دخول الجنة، فيقول: تمنّ. فيتمنى
حتى إذا انقطع أمنيته؛ قال الله عز وجل: زد من كذا وكذا. أقبل يذكّره ربه حتى إذا
انتهت به الأماني؛ قال الله تعالى: لك ذلك، ومثله معه ". قال أبو سعيد الخدري
لأبي هريرة رضي الله عنهما: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" قال الله: لك ذلك، وعشرة أمثاله ".
قال أبو هريرة: لم أحفظ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قوله:
" لك ذلك، ومثله معه ".
قال أبو سعيد: إني سمعته يقول:
" ذلك لك، وعشرة أمثاله ".
أخرجه البخاري (2/233 - 234) والسياق له، ومسلم (1/112 - 114) ، وابن(2/778)
..............................................................................
__________
خزيمة في كتاب " التوحيد " (ص 210) من طريق شُعيب عن الزُّهْري قال: أخبرني
سعيد بن المسيّب وعطاء بن يزيد الليثي: أن أبا هريرة أخبرهما: إن الناس ... به.
وأخرجه البخاري أيضاً (11/376 - 390) ، ومسلم، وأحمد (2/275 و 293 و 533
- 534) من طرق عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد وحده بنحوه.
وروى منه النسائي (1/171) ، وابن ماجه (2/588) القدر المذكور في الأصل
- مختصراً -.
* * *(2/779)
السُّجودُ على الأرضِ والحَصِير
وكان يسجد على الأرض كثيراً (1) .
__________
(1) استخرجنا ذلك مما اشتهر واستفاض: أن مسجده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن مفروشاً
بالبسط، أو الحصر؛ كما يدل عليه أحاديث كثيرة جداً:
الأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
كانت الكلاب تبول، وتقبل، وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم
يكونوا يرشون شيئاً من ذلك.
أخرجه البخاري (1/223) ، وأبو داود (1/63) ، والبيهقي (2/429) من طريق
يونس عن ابن شهاب قال: ثني حمزة بن عبد الله عن أبيه.
وخالفه صالح بن أبي الأخضر؛ فقال: عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه.
أخرجه أحمد (2/70 - 71) .
وصالح: ضعيف.
الثاني: عن أبي هريرة:
أن أعرابياً دخل المسجد، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس، فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم!
ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لقد تحجرت واسعاً ".
ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد؛ فأسرع الناس إليه؛ فنهاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وقال:
" إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء - أو قال: ذنوباً
من ماء - ".(2/780)
..............................................................................
__________
أخرجه أبو داود (1/62 - 63) ، والترمذي (1/275 - 276) ، والبيهقي (2/428) ،
وأحمد (2/239) عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عنه. وقال
الترمذي:
" حديث حسن صحيح ".
وله طريق أخرى: أخرجه ابن ماجه (1/189) ، وأحمد (2/503) عن محمد بن
عمرو عن أبي سلمة عنه به نحوه.
وهذا إسناد جيد. وصححه ابن حبان - كما في " الفتح " (10/360) -، وزاد أحمد
قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه:
فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليَّ - بأبي هو وأمي -؛ فلم يسب، ولم يؤنب، ولم يضرب.
وقد روى منه البخاري (10/360) ، وكذا أحمد (2/283) قصة دعاء الأعرابي من
طريق الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن.
ثم أخرج قصة بوله في المسجدِ البخاريُّ (1/258 و 10/432) ، والنسائي (1/20
و63) ، والبيهقي أيضاً، وأحمد (2/282) من طريق الزهري أيضاً: أخبرني عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة.
وقد جاءت هذه القصة من حديث أنس أيضاً، وله عنه ثلاثة طرق:
1- عن حماد بن زيد عن ثابت عنه بلفظ: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" دعوه، ولا تُزرموه ". قال: فلما فرغ؛ دعا بدلو من ماء، فصبه عليه.
أخرجه مسلم (1/163) ، والنسائي (1/20 و 63) ، والبيهقي (2/428) ، وأحمد
(3/226) من طرق عنه.(2/781)
..............................................................................
__________
2- عن يحيى بن سعيد: سمعت أنساً به نحوه.
أخرجه البخاري (1/258 - 259) ، ومسلم، والنسائي (20) ، والترمذي
(2/276) ، والدارمي (2/189) ، والبيهقي، وأحمد (3/110 و 114 و 167) من طرق
عنه.
وإسناده عند أحمد والدارمي ثلاثي.
3- عن إسحاق بن أبي طلحة: ثني أنس بن مالك به نحوه أتم منه.
أخرجه مسلم، وأحمد (3/191) من طريق عكرمة بن عمارعنه.
وأخرجه البخاري (1/257) - مختصراً - من طريق همام عنه.
الحديث الثالث: عن عمر بن سليم قال: قال أبو الوليد:
سألت ابن عمر عما كان بدء هذه الحصباء التي في المسجد؟ قال:
نعم؛ مطرنا من الليل، فخرجنا لصلاة الغداة، فجعل الرجل يمر على البطحاء،
فيجعل في ثوبه من الحصباء، فيصلي عليه. قال:
فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاك؛ قال:
" ما أحسن هذا البساط! ". فكان ذلك أول بدئه.
أخرجه أبو داود (75) عن سهل بن تمَّام بن بَزِيع، والبيهقي (2/440) عن
عبد الوارث، والسياق له؛ كلاهما عن عُمر بن سُلَيم. وقال البيهقي:
" وإسناده لا بأس به ".
وتعقبه ابن التركماني بأن أبا الوليد هذا مجهول - كذا قال ابن القطان والذهبي -.
قلت: وكذا قال الحافظ في " التقريب "؛ لكن أخرجه الضياء المقدسي في " المختارة "(2/782)
{و " كان أصحابه يصلون معه في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدهم أن
يمكن جبهته من الأرض؛ بسط ثوبه، فسجد عليه " (1) } . وكان يقول:
__________
من طريق محمد بن إسحاق بن خُزيمة: ثنا محمد بن بَشّار - بُندار - قال: ثني
عبد الصمد: ثنا عمر بن سُلَيم - كان ينزل في بني قُشَير - قال: ثني ثور قال: قلت لابن
عمر: ... الحديث. ثم قال المقدسي:
" كذا رواه ابن خزيمة في " صحيحه " ".
قلت: وثور هذا لم أعرفه، ولعله: ثور بن عُفَير السَّدُوسي؛ الراوي عن أبي هريرة،
وهو مجهول؛ لم يرو عنه غير ابن شقيق - كما في " الميزان " -.
الحديث الرابع: عن معيقيب قال:
قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المسح في المسجد؟ - يعني: الحصى - فقال:
" إن كنت لا بد فاعلاً؛ فواحدة ".
أخرجه مسلم (2/74 - 75) ، والدارمي (2/322) ، وأحمد (3/426 و 5/425)
وهو في البخاري (3/61) ، وأبي داود (1/150) ، والنسائي (1/177) ، والترمذي
(2/220) وصححه، وابن ماجه (1/320) بنحوه، وكذا البيهقي (2/284 - 285) .
قال الحافظ في " الفتح ":
" (تنبيه) : التقييد بالحصى وبالتراب خرج للغالب؛ لكونه كان الموجود في فرش
المساجد إذ ذاك. فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه على غيره مما يصلى عليه من
الرمل، والقذى، وغير ذلك ".
وفي الباب أحاديث أخرى، وفيما ذكرنا كفاية.
(1) { [أخرجه] مسلم، وأبو عوانة} .(2/783)
" ... وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطَهوراً (1) ، فأينما
أدركَتْ رجلاً من أمتي الصلاةُ؛ فعنده مسجده، وعنده طهوره، [وكان مَنْ
__________
(1) " مسجداً ": أي: موضع سجود؛ لا يختص السجود منها بموضع دون غيره.
" وطَهوراً ": بفتح الطاء، قال الحافظ:
" استدل به على أن الطَّهور هو المطهر لغيره؛ لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر؛ لم
تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها، وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود بإسناد
صحيح عن أنس مرفوعاً:
" جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً ".
ومعنى " طيبة ": طاهرة. فلو كان معنى (طهوراً) : طاهراً؛ للزم تحصيل الحاصل.
واستدل به على أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكد ذلك بقوله: " كلها " ".
وقال السندي:
" والمراد أن الأرض ما دامت على حالها الأصلية؛ فهي كذلك، وإلا؛ فقد تخرج
بالنجاسة عن ذلك. والحديث لا ينفي ذلك.
والحديث يؤيد القول بأن التيمم يجوز على وجه الأرض كلها، ولا يختص بالتراب.
ويؤيد أن هذا العموم غير مخصوص قولُه: " فأينما أدرك الرجلَ " بالنصب " الصلاةُ "
بالرفع، وهذا ظاهر؛ سيما في بلاد الحجاز؛ فإن غالبها الجبال والحجارة، فكيف يصح أو
يناسب هذا العموم إذا قلنا: إن بلاد الحجاز لا يجوز التيمم منها إلا في مواضع
مخصوصة؟! فليتأمل ".
ويؤيد أن الحديث على عمومه تيممُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحائط، وهو في " الصحيحين ".
ولذلك قال ابن دقيق العيد:
" ومن خص التيمم بالتراب؛ يحتاج إلى أن يقيم دليلاً يخص به هذا العموم، أو(2/784)
قبلي يعظمون ذلك؛ إنما كانوا يصلون في كنائسهم وَبِيَعِهم] " (1) .
__________
يقول: دل الحديث على أنه يصلي، وأنا أقول بذلك، فيصلي على الحالة، وَيَرِدُ عليه
حديث الباب، فإنه بلفظ:
" فعنده مسجده، وعنده طهوره ".
وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب: العترةُ، والشافعي، وأحمد، وداود. وذهب
مالك، وأبو حنيفة، وعطاء، والأوزاعي، والثوري إلى أنه يجزئ بالأرض وما عليها ".
قلت: وهو مذهب ابن حزم في " المحلى " (2/158 - 161) .
(1) هو قطعة من حديث أبي أمامة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" فضَّلني ربي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - أو قال: على الأمم - بأربع - قال -:
أرسلت إلى الناس كافة. وجعلت الأرض ... " الحديث، وتتمته:
" ... ونصرت بالرعب مسيرة شهر؛ يقذفه في قلوب أعدائي، وأحل لنا الغنائم ".
أخرجه أحمد (5/248) ، والبيهقي (2/433 - 434) عن سليمان التيمي عن سَيّار
عنه.
وهذا إسناد جيد. رجاله رجال الستة؛ غير سَيَّار هذا - وهو الشامي مولى معاوية -؛
فمن رجال الترمذي وحده، وصحح له، ووثقه ابن حبان، وقال في " التقريب ":
" صدوق ".
ولهم شيخ آخر يقال له: سَيّار؛ ولكنه بصري، من كبارأتباع التابعين. أخرج له
الستة، وإنما ذكرته؛ لأنه روى معنى هذا الحديث عن جابر، ولم يُنسَب في الرواية، كما
لم ينسب سَيّار في هذا الحديث، فربما ظنهما بعضُ من لا تمييز له واحداً؛ فيظن أن في
الإسناد اختلافاً، وليس كذلك. أفاده الحافظ في " الفتح " (1/346) ، ثم ذكر أن إسناد(2/785)
..............................................................................
__________
هذا الحديث حسن.
قلت: وقد رواه الترمذي (1/293 - طبع بولاق) - مختصراً - من هذا الوجه، وقال:
" حسن صحيح ".
قلت: وله شواهد عن جمع من الصحابة:
منهم: جابر بن عبد الله مرفوعاً بلفظ:
" أعطيت خمساً؛ لم يعطهن أحد قبلي ... " الحديث بنحوه. وذكر في الخامسة:
" وأعطيت الشفاعة ".
أخرجه البخاري (1/346 و 423) ، ومسلم (2/63) ، والنسائي (1/73) ، والدارمي
(1/322) ، والبيهقي (2/433) ، وأحمد (3/304) .
ومنها: عن أبي ذر نحو حديث جابر.
أخرجه الدارمي (2/224) ، وأحمد (5/145 و 148) من طريق الأعمش عن
مجاهد عن عُبيد بن عُمير الليثي عنه.
وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الستة.
وروى أبو داود (1/79) منه قوله:
" جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ".
وخالفه واصل الأحدب؛ فقال: سمعت مجاهداً عن أبي ذر به. فأسقط من
الإسناد: (عبيد بن عمير) .
أخرجه الطيالسي (64) ، وأحمد (5/161) . ولأبي ذر حديث آخر، وفيه قوله:
" وأينما أدركتك الصلاة؛ فصل؛ فهو مسجد ".(2/786)
..............................................................................
__________
أخرجه البخاري (6/315 و 359) ، ومسلم (2/63) ، والنسائي (1/112) ، وابن
ماجه (1/254) ، والبيهقي (2/433) ، والطيالسي (62) ، وأحمد (5/150 و 156
و157 و 160 و 166 - 167) .
ومنها: عن ابن عباس نحوه أيضاً.
أخرجه أحمد (1/250 و 301) من طريق يزيد بن أبي زياد عن مِقْسَم عنه.
وله طريق أخرى: أخرجها البيهقي (2/433) عن السُّدِّي عن عكرمة عنه.
وهو بمجموع الطريقين قوي، وقد حسنه الحافظ من الطريق الأولى.
ومنها: عن أبي موسى نحوه.
أخرجه أحمد (4/416) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عنه.
وهذا سند صحيح على شرط الشيخين، وحسنه الحافظ. وقال الشوكاني
(1/227) :
" رواه أحمد، والطبراني بإسناد جيد ".
ومنها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
أخرجه أحمد (2/222) من طريق ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده مرفوعاً؛ وفيه:
" وكان من قبلي يعظمون ذلك: ... ".
وهذا سند حسن - كما ذكر الحافظ أيضاً -.
ويؤيده حديث ابن عباس عند البيهقي بلفظ:
" ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه ".(2/787)
..............................................................................
__________
وعزاه الحافظ (1/347) للبزار. وهذا يَرُدُّ قول من فسر الحديث:
" وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ": وجعلت لغيري مسجداً، ولم تجعل طهوراً.
قال:
" لأن عيسى كان يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة "!
ولذلك قال الحافظ:
" والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله، إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن
مخصوصة؛ كالبيع، والصوامع ". ثم أيد ذلك بهذين الحديثين.
ومنها: عن أبي سعيد نحوه.
أخرجه الطبراني في " الأوسط ". قال الهيثمي (8/269) :
" وإسناده حسن ".
ومنها: عن أنس.
رواه الخطابي في " المعالم " (1/147) قال: حدثونا به عن علي بن عبد العزيز عن
حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن ثابت عنه.
وهذا سند صحيح.
ورواه السراج في " مسنده " - بإسنادٍ؛ قال العراقي: " صحيح " - كما في " النيل " -،
وابن المنذر، وابن الجارود - بإسناد صحيح؛ كما في " الفتح " (1/347) -.
وفي الباب عن أبي هريرة أيضاً بلفظ:
" فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب ... " الحديث
نحوه. وقال في السادسة:(2/788)
وكان ربما سجد في طين وماء، وقد وقع له ذلك في صبح ليلة إحدى
وعشرين من رمضان؛ حين أمطرت السماء، وسال سقف المسجد - وكان من
جريد النخل -، فسجد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الماء والطين. قال أبو سعيد الخدري: " فأبصرت
عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين " (1) .
__________
" وخُتم بي النبيون ".
أخرجه مسلم (2/64) ، والترمذي (1/293) وصححه، والبيهقي (2/433) ،
وأحمد (2/412) .
وله في " المسند " (2/501) طريق أخرى - مختصراً - بسند حسن.
(1) هو من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف العشر الوسط من رمضان، فاعتكف عاماً، حتى إذا
كان ليلة إحدى وعشرين. وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحها من اعتكافه؛ قال:
" من اعتكف معي؛ فليعتكف العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة، ثم أنسيتها،
وقد رأيتُني أسجد من صبحها في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها
في كل وتر ".
قال أبو سعيد: فأمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوَكَف
المسجد. قال أبو سعيد: فابصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف، وعلى جبهته وأنفه أثر
الماء والطين، من صبح ليلة إحدى وعشرين.
أخرجه مالك (1/296 - 298) ، وعنه البخاري (4/219) ، وأبو داود (1/218 -
219) ، والبيهقي (2/103) عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن
الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عنه.(2/789)
و " كان يصلي على الخُمْرة (1) " (2) أحياناً،................................
__________
وقد أخرجه مسلم (2/171 - 172) ، والنسائي (1/198) من طرق عن محمد بن
إبراهيم به نحوه.
ثم أخرجه البخاري (2/237 و 4/207 و 226 و 228) ، ومسلم أيضاً (172) ، وأبو
داود (1/142 - 143) ، والطيالسي (291) ، وأحمد (3/7 و 24 و 60 و 74) من طرق عن
أبي سلمة به أتم منه.
وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن أُنَيس - مختصراً - نحوه.
أخرجه مسلم (3/173) ، وأحمد (3/495) .
(1) بضم الخاء المعجمة، وسكون الميم. قال ابن الأثير في " النهاية ":
" هي مقدارما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده؛ من حصير، أو نسيجة خوص،
ونحوه من النبات، ولا تكون خُمرة إلا في هذا المقدار، وسميت خُمرة؛ لأن خيوطها
مستورة بسعفها ". اهـ. وفي " الفتح " (1/342) :
" وقال الخطابي: هي السجادة يسجد عليها المصلي. ثم ذكر حديث ابن عباس في
الفأرة التي جرت الفتيلة حتى ألقتها على الخُمْرة التي كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعداً عليها. ففي
هذا تصريح باطلاق الخمرة على ما زاد على قدر الوجه ".
قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (ص 178) ، وأبو داود
(2/349) من طريق عمرو بن طلحة قال: ثنا أسباط عن سماك بن حرب عن عكرمة
عن ابن عباس به؛ وله تتمة:
فاحترقت منها مثل موضع درهم؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إذا نمتم؛ فأطفئوا سُرُجَكم؛ فإن الشيطان يدل مثل هذه على مثل هذا،
فتحرقكم ".(2/790)
..............................................................................
__________
وهذا سند جيد.
ثم رأيت الحاكم قد أخرجه في " المستدرك " (4/284 - 285) من هذا الوجه، وقال:
" صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي.
(2) ثبت هذا عن جمع من الصحابة:
1- ميمونة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت:
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على الخمرة.
أخرجه البخاري (1/341 و 390) ، ومسلم (2/128) ، وأبو داود (1/106) ،
والنسائي (1/120) ، والدارمي (1/319) ، وابن ماجه (1/320) ، والطيالسي (226) ،
وأحمد (6/330 و 331 و 335 و 336) من طريق سليمان الشيباني عن عبد الله بن شداد
عنها.
وكذا رواه البيهقي (2/421) . وله في " المسند " (6/331 و 334) طريق أخرى.
ورواه النسائي (1/68) بنحوه.
2- عن ابن عباس.
أخرجه الترمذي (2/151) ، والبيهقي، والطيالسي (348) ، وأحمد (1/269
و309 و 320 و 358) من طرق عن سِمَاك عن عكرمة عنه به. وقال الترمذي:
" حسن صحيح ".
وأخرجه الحاكم (1/259) ، وعنه البيهقي (2/437) ، وأحمد (1/273) من طريق
زَمْعَةَ بن صالح عن سلمة بن وَهْرام عن عكرمة بلفظ: بساط.
وقد رواه زمعة أيضاً عن عمرو بن دينار عن ابن عباس به.(2/791)
..............................................................................
__________
أخرجه ابن ماجه (1/321) ، والبيهقي (2/437) ، وأحمد أيضاً (1/232) .
وزمعة: ضعيف. وقول الحاكم: " احتج به مسلم "؛ وهم؛ وإنما روى له مقروناً - كما
قال الذهبي، والحافظ -.
3- عائشة.
أخرجه الطيالسي (217) ، وأحمد (6/149 و 179 و 209) من طريق حماد بن
سلمة عن الأزرق بن قيس عن ذكوان عنها به.
وهذا سند صحيح. رجاله رجال " الصحيح ".
وله في " المسند " (6/248) طريق أخرى عن عروة عنها.
وهو صحيح أيضاً على شرط الستة.
4- أنس بن مالك.
أخرجه الطبراني في " الصغير " (121) من طريق قتادة عنه به.
وأخرجه البيهقي من طريق أخرى عن أنس بن سيرين عنه.
5- عن أم سليم.
أخرجه أحمد (6/376 - 377) ، والبيهقي عن عَفَّان قال: ثنا وهيب قال: ثنا أيوب
عن أبي قِلابة عن أنس بن مالك عنها.
وهذا سند صحيح على شرط الستة.
6- عن أم سلمة.
عند أحمد (6/302) : ثنا عفان: ثنا وُهَيب قال: ثنا خالد عن أبي قِلابة عن
بعض ولد أم سلمة عنها به.(2/792)
و " على الحصير " (1) أحياناً.
__________
وإسناده كالذي قبله؛ لولا هذا البعض الذي لم يسمَّ، لكن أورده الهيثمي في
" المجمع " (2/57) ، فقال:
" رواه أبو يعلى، والطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، ورجال الأول رجال
" الصحيح " ". فلعله جاء مسمى عنده (*) . والله أعلم.
7- عن ابن عمر.
أخرجه أحمد (2/92 و 98) عن شَرِيك عن أبي إسحاق عن البَهيّ عنه به.
ثم أخرجه (6/111) من طريق أخرى عن شَرِيك به؛ إلا أنه قال: عن عائشة. أو:
عن ابن عمر. شك شريك. اهـ.
وشريك: سيئ الحفظ.
8- أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رواه الطبراني في " الكبير "، وأبو يعلى.
ورجاله رجال " الصحيح ".
9- جابر بن عبد الله.
رواه البزار.
وفيه الحجاج بن أرطاة، وفيه اختلاف - كما في " المجمع " -.
(1) صح فيه أحاديث:
الأول: عن أنس:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على حصير.
__________
(*) نعم؛ وهو في " مسند أبي يعلى " (6884) ، و " المعجم الكبير " للطبراني (23/ رقم 821)
عن خالد عن أبي قلابة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة ...(2/793)
..............................................................................
__________
أخرجه هكذا - مختصراً - الدارمي (1/319) ، وأحمد (3/179) من طريق إسحاق
ابن عبد الله بن أبي طلحة عنه. وهو في " الصحيحين "، وغيرهما - مطولاً. ويأتي فيما
بعد.
الثاني: عنه أيضاً. قال: قال رجل من الأنصار:
إني لا أستطيع الصلاة معك - وكان رجلاً ضخماً -، فصنع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً،
فدعاه إلى منزله، فبسط له حصيراً، ونضح طرف الحصير، فصلى عليه ركعتين، فقال
رجل من آل الجارود لأنس:
أكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الضحى؟ قال:
ما رأيته صلاها إلا يومئذٍ.
أخرجه البخاري (2/125 - 126 و 3/44 - 45) ، وأبو داود (1/106) ، وأحمد
(3/130 - 131 و 184 و 291) عن شعبة عن أنس بن سيرين قال: سمعت أنس بن
مالك به.
ومن هذا الوجه أخرجه الطيالسي (281) - مختصراً - بلفظ:
صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين على حصير.
وله طريق أخرى عند الطبراني في " الصغير " (ص 148) عن ثابت عنه. دون قوله:
ركعتين.
الثالث: عنه أيضاً، ويأتي بعده.
الرابع: عن أبي سعيد الخدري:
أنه دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوجده يصلي على حصير يسجد عليه.(2/794)
..............................................................................
__________
أخرجه مسلم (2/62 و 128) ، {وأبو عوانة [2/72] } ، والترمذي (2/153) ، وابن
ماجه (1/321) ، والبيهقي (2/421) ، وأحمد (3/52 و 59) من طريق الأعمش عن
أبي سفيان عن جابر عنه. وقوله: يسجد عليه. تفرد به مسلم، وأحمد في رواية له.
الخامس: عن المغيرة بن شعبة بلفظ:
" كان يصلي على الحصير ... " الحديث. - ويأتي قريباً -.
وفي هذه الأحاديث دلالة على جواز الصلاة على الحصير، وعليه أكثر أهل العلم
- كما قال الترمذي -.
وأما ما رواه أبو يعلى عن شُريح: أنه سأل عائشة:
أكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على الحصير؛ فإني سمعت في كتاب الله: {وَجَعَلْنَا
جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} ؟ قالت:
لم يكن يصلي عليه.
ففى ثبوته عندي نظر، وإن قال الهيثمي (2/57) :
" رجاله موثقون ". ونحوه قول العراقي:
" رجاله ثقات ". فإن هذا لا يفيد صحة الإسناد - كما لا يخفى على النقاد -.
وقد قال الشوكاني (2/107) :
" وكيفية الجمع بين حديثها هذا، وسائر الأحاديث؛ أنها إنما نفت عِلْمَها، ومن علم
صلاته على الحصير مقدم على النافي.
وأيضاً: فإن حديثها، وإن كان رجاله ثقاتٍ؛ فإن فيه شذوذاً - كما قال العراقي - ".
ويؤكد شذوذه؛ بل ضعفه: أنه صح عن عائشة نفسها خلافه؛ فقد روى عروة عنها:(2/795)
و " صلى عليه - مرةً -، وقد اسود من طول ما لُبِس (1) " (2) .
__________
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي على خمرة، فقال:
" يا عائشة! ارفعي عنا حصيرك هذا؛ فقد خشيت أن يكون يفتن الناس ".
أخرجه أحمد.
وسنده صحيح على شرط الستة - كما سبق قريباً -، وقد ذكر الحافظ في " الفتح "
(1/390) أن البخاري روى من طريق أبي سلمة عن عائشة:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له حصير يبسطه، ويصلي عليه.
قلت: وهو في " البخاري " (2/170) عن المقبري عن أبي سلمة به، لكن ليس فيه
التصريح بأنه كان يصلي عليه، ولفظه:
كان له حصير يبسطه بالنهار، ويحتجره بالليل، فثاب إليه ناس، فصلوا وراءه.
(1) فيه أن الافتراش يسمى لبساً، وقد استدل به على منع افتراش الحرير؛ لعموم
النهي عن لبس الحرير (1) . ولا يرد على ذلك أن من حلف لا يلبس حريراً؛ فإنه لا
يحنث بالافتراش؛ لأن الأيمان مبناها على العرف. كذا في " الفتح ".
(2) هو من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:
أن جدته مُلَيكة دعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام، فأكل منه، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" قوموا؛ فَلأُصلي لكم ".
قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسْوَدَّ من طول ما لُبس، فنضحته بماء، فقام
عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول
__________
(1) {بل ورد فيهما [أي: في " الصحيحين "] النهي الصريح عن الجلوس عليه؛ فلا تغتر بمن
أباحه من الكبار!} .(2/796)
..............................................................................
__________
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، ثم انصرف.
أخرجه مالك (1/ 168 - 169) ، وعنه البخاري (1/389 و 2/275) ، ومسلم
(2/127) ، وأحمد (3/149 و 164) - كلهم عن مالك - عن إسحاق بن عبد الله بن أبي
طلحة عنه. واللفظ من البخاري.
ورواه النسائي (1/120) ، وأحمد أيضاً (3/145 و 226) من طرق أخرى عن
إسحاق به نحوه. وفيه:
فسجد عليه.
* * *(2/797)
الرَّفعُ مِنَ السُّجود
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع رأسه من السجود مكبراً " (1) . وأمر بذلك (المسيء
صلاته) ؛ فقال:
" لا يتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يسجد، حتى تطمئن
مفاصله، ثم يقول: (الله أكبر) . ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً " (2) .
و" كان يرفع يديه مع هذا التكبير " (3) أحياناً.
__________
(1) فيه أحاديث كثيرة، وقد سبقت.
(2) { [أخرجه] أبو داود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي} (*) .
(3) قد جاء في هذا الرفع عدة أحاديث صحيحة:
منها: عن وائل بن حُجْر قال:
صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان إذا كبّر؛ رفع يديه، ثم التحف، ثم أخذ شماله
بيمينه، وأدخل يديه في ثوبه، فإذا أراد أن يركع؛ أخرج يديه، ثم رفعهما، وإذا أراد أن
يرفع رأسه من الركوع؛ رفع يديه، ثم سجد، ووضع وجهه بين كفيه، وإذا رفع رأسه من
السجود أيضاً؛ رفع يديه، حتى فرغ من صلاته.
قال محمد - وهو: ابن جُحادة، كما يأتي -: فذكرت ذلك للحسن بن أبي الحسن،
فقال:
هي صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعله من فعله، وتركه من تركه.
أخرجه أبو داود (1/115) ، وعنه ابن حزم (4/91) من طريق محمد بن جُحادة:
__________
(*) وسبق تخريجه هنا (ص 189 - 190) .(2/798)
..............................................................................
__________
ثني عبد الجبار بن وائل بن حُجْر قال:
كنت غلاماً لا أعقل صلاة؛ قال: فحدثني علقمة بن وائل - كذا في رواية ابن
حزم، وهو الصواب -. وفي " السنن ": وائل بن علقمة، وهو سهو من بعض الرواة - عن
أبي وائل بن حجر.
وهذا سند صحيح على شرط مسلم.
وقد أخرجه أحمد من طريق أشعث بن سَوَّار عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه نحوه
بلفظ:
وكان يرفع يديه؛ كلما كبر، ورفع، ووضع بين السجدتين.
وسنده حسن؛ لولا أنه منقطع - كما سبق في (التكبير عند الهوي إلى السجود)
[ص 708]-. وقد ذكرت له هناك طريقاً آخر، مع بقية الأحاديث الواردة في هذا
الباب.
وفيه: عن ابن عباس.
أخرجه أبو داود (1/118) ، والنسائي (1/172) والسياق له، وعنه الدولابي في
" الكنى " (1/198) ، وابن حزم (4/94) من طريق النَّضْر بن كثير أبي سهل قال:
صلى إِلى جنبي عبد الله بن طاوس بمنى في مسجد الخَيْف، فكان إذا سجد السجدة
الأولى فرفع رأسه منها؛ رفع يديه تلقاء وجهه، فأنكرت أنا ذلك؛ فقلت لِوُهَيب بن
خالد: إن هذا يصنع شيئاً لم أر أحداً يصنعه. فقال له وُهيب: تصنع شيئاً لم نر أحداً
يصنعه؟ فقال عبد الله بن طاوس: رأيت أبي يصنعه، وقال: إني رأيت ابن عباس
يصنعه، وقال عبد الله بن عباس:(2/799)
..............................................................................
__________
رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنعه.
ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير النضر هذا؛ فهو ضعيف - كما في
" التقريب " -.
وقد تابعه عمر بن رِيَاح: عند ابن ماجه (1/284) - مختصراً -.
وهو أضعف منه.
لكن له شواهد تقويه، وقد ذكرتها في " التعليقات الجياد " (*) .
__________
(*) وقد سبق بتوسع بحثُ ما جاء في (رفع اليدين عند كل خفض ورفع) ، ومن قال به من
السلف؛ فا نظره (ص 706 - 713) .(2/800)
الافتراش أو الإقْعَاءُ بن السَّجْدتين
ثم " يفرش رجله اليسرى، فيقعد عليها [مطمئناً (1) ] " (2) ، {وأمر بذلك
(المسيء صلاته) ؛ فقال له:
" إذا سجدت؛ فمكِّن لسجودك، فإذا رفعت؛ فاقعد على فَخِذك
اليسرى " (3) } ، و " كان ينصب رجله اليمنى " (4) ، و " يستقبل بأصابعها القبلة " (5) .
__________
(1) هذه اللفظة جاءت في حديث ميمونة بنت الحارث:
وإذا قعد؛ اطمأن على فخذه اليسرى. وقد مرَّ في (التجافي) [ص 748] .
(2) هو من حديث أبي حُميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرجه البيهقي (2/118) وغيره. وقد مضى تخريجه في (الركوع) [ص 605] .
وفي الباب عن عائشة بلفظ:
وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى.
وقد سبق بتمامه في (التكبير) [ص 176 - 177] ، {وهو مخرج في " الإرواء "
(316) } .
(3) { [رواه] أحمد، وأبو داود. بسندٍ جيد. [وسبق تخريجه (ص 56 - 57) ] } .
(4 و 5) هو من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:
من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى.
أخرجه النسائي (1/173) من طريق عمرو بن الحارث عن يحيى: أن القاسم حدثه
عن عبد الله - وهو: عبد الله بن عبد الله بن عمر - عن أبيه به.
وهذا سند صحيح.
وقد رواه البخاري وغيره؛ دون ذكر الاستقبال - كما سيأتي في (التشهد
الأخير) [ص 984 - 985]-.(2/801)
و " كان أحياناً يُقعي؛ [ينتصب على عقبيه، وصدور قدميه] " (1) .
__________
(1) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
رواه ابن جُريج: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع طاوساً يقول:
قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين؟ فقال:
هي السنة.
ففلنا: إنا لنراه جفاء بالرَّجُل. فقال ابن عباس:
بل هي سنة نبيك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرجه مسلم (2/70) ، {وأبو عوانة [2/189] } ، وأبو داود (1/134) ، والترمذي
(2/73) ، والحاكم (1/272) ، والبيهقي (2/119) من طرق عنه (*) .
وصححه الترمذي، وكذا الحاكم على شرط مسلم. وقد وهم في استدراكه عليه،
{وانظر " الصحيحة " (383) } .
وقد جاء بيان صفة هذا الإقعاء في رواية للبيهقي من طريق ابن إسحاق قال: ثني
- عن انتصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عقبيه، وصدور قدميه بين السجدتين؛ إذا صلى -
عبد الله بن أبي نجيح المكي عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج قال: سمعت عبد الله بن
عباس: ... يذكره. قال: فقلت له: يا أبا العباس! والله! إن كنا لنعد هذا جفاء ممن
صنعه. قال: فقال:
إنها سنة.
وهذا إسناد جيد.
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لأبي الشيخ في " ما رواه أبو الزبير عن غير
جابر " (رقم 104 - 106) .(2/802)
..............................................................................
__________
وله عنده شاهد من حديث ابن عمر.
أخرجه من طريق محمد بن عجلان: أن أبا الزبير أخبره:
أنه رأى عبد الله بن عمر إذا سجد حين يرفع رأسه من السجدة الأولى؛ يقعد على
أطراف أصابعه، ويقول:
إنه من السنة.
وهذا سند حسن، وصححه الحافظ في " التلخيص " (3/482) .
ثم أخرج البيهقي من طريق أبي زهير مُعاوية بن حُدَيج قال:
رأيت طاوساً يُقعي؛ فقلت: رأيتك تقعي. فقال:
ما رأيتني أقعي، ولكنها الصلاة، رأيت العبادلة الثلاثة يفعلون ذلك: عبد الله بن
عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير.
قال أبو زهير: وقد رأيته يقعي.
وإسناده صحيح - كما قال الحافظ -.
ثم روى من طريق خلاد بن يحيى بن صفوان الكوفي: ثنا إبراهيم بن طَهْمان عن
الحسن بن مسلم عن طاوس قال:
رأيت ابن عمر وابن عباس، وهما يُقعيان بين السجدتين على أطراف أصابعهما.
قال إبراهيم: فسألت عطاء عن ذلك؟ فقال:
أَنّى ذلك فعلت؛ أجزأك؛ إن شئت على أطراف أصابعك، وإن شئت على عَجُزك (1) .
__________
(1) {وروى أبو إسحاق الحربي في " غريب الحديث " (ج 5/12/1) عن طاوس أنه رأى ابن عمر
وابن عباس يقعيان. وسنده صحيح. [وهو من طريق أخرى عنه] } .(2/803)
..............................................................................
__________
وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري. وقَدْ سَها ابنُ القيم رحمه الله تعالى في
" الزاد " (1/85) ؛ فقد قال - بعد أن ذكر افتراشه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين السجدتين -:
" لم يُحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الموضع جلسة غير هذه "!
ولعله لم يستحضر حديث ابن عباس هذا حين كتابته ذلك، وإلا؛ فهو حديث
صحيح حجة لا مطعن فيه، وقد عمل به غير ما واحد من السلف الصالح رضي الله
عنهم، وقال الترمذي:
" وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لا يرون
بالإقعاء بأساً، وهو قول بعض أهل مكة من أهل الفقه والعلم ". قال:
" وأكثر أهل العلم يكرهون الإقعاء بين السجدتين ".
قلت: وحجة هؤلاء أحاديث وردت في النهي عن الإقعاء.
أخرج أكثرها البيهقي (2/120) ، - وكلها ضعيفة؛ كما قال النووي في " شرح
مسلم " -، وبين عللها الشوكاني في " نيل الأوطار " (2/232) ؛ حاشا حديثين منها؛ فإنه
لم يتعرض لهما بقدح، بل ذكر عن:
أحدهما: أنه حسن، وهو حديث أبي هريرة قال:
نهاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب،
والتفات كالتفات الثعلب.
والآخر: حديث سَمُرة بن جُنْدُب قال:
نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإقعاء في الصلاة.
فوجب تحقيق القول فيهما.(2/804)
..............................................................................
__________
أما الأول: فقال في " المجمع " (2/79 - 80) :
" رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في " الأوسط " وإسناد أحمد حسن ". كذا قال!
وهو في " المسند " (2/265) من طريق محمد بن فُضَيل: ثنا يزيد بن أبي زياد: ثني
من سمع أبا هريرة يقول: ... به.
ثم أخرجه (2/311) من طريق شَرِيك عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي هريرة.
وهذا سند ضعيف، لا يحسُن تحسينه؛ فإن مداره على يزيد بن أبي زياد، وهو:
مشهور بسوء الحفظ. وفي " التقريب ":
" ضعيف. كبر؛ فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً ".
وقد اختلف عليه محمد بن فُضَيل وشريك؛ فلم يسم الأول شيخه. وسماه الآخر:
مجاهداً.
وشريك: سيئ الحفظ أيضاً.
وقد تابعه عن مجاهد ليث بن أبي سُلَيم.
أخرجه البيهقي، وقال:
" ليث: لا يحتج به ". وفي " التقريب ":
" صدوق، اختلط أخيراً، ولم يتميز حديثه؛ فترك " (*) .
وأما حديث سَمُرة: فأخرجه الحاكم (1/272) ، والبيهقي من طريق سعيد بن أبي
عَرُوبة عن قتادة عن الحسن عنه. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي. كذا قالا!
__________
(*) ثم حسّنَ الشيخ رحمه الله الحديث - لغيره - انظر " صحيح الترغيب " (555) .(2/805)
..............................................................................
__________
والحسن: هو البصري، وكان يدلس كثيراً - كما في " التقريب " -. وإنما روى له
البخاري عن سمرة حديث العقيقة (9/487) ، وفيه التصريح بسماعه من سمرة. فما لم
يصرح بالسماع؛ فليس بحجة كهذا الحديث.
ولذلك ضعفه النووي - كما سبق -. والله أعلم.
(تنبيه) : عزا النووي حديث سَمُرة هذا لـ " مسند أحمد "، ولم أجده فيه، وانقلب
اسم صحابيه على الشوكاني (2/232) ، وتحرف عليه؛ فقال: جابر بن سمرة. فليعلم.
ثم إن هذه الأحاديث لو صحت؛ لا تعارض حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله
عنهما؛ لأنها تنهى عن إقعاء خاص، وهو إقعاء الكلب، وصورته: أن يلصق أليتيه
بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض.
كذلك فسره علماء اللغة؛ ومنهم أبو عبيد فيما رواه البيهقي عنه. فهذا إقعاء غير
الإقعاء الثابت في السنة، وبذلك يُجمع بين الأخبار - كما بينه البيهقي، وتبعه ابن
الصلاح، والنووي، وغيرهم من المحققين -، وحينئذٍ فلا مبرر للقول بالنسخ - كما فعل
الخطابي وغيره -. قال النووي في " المجموع " (3/439) :
" والنسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، وعلمنا التاريخ. ولم يتعذر
هنا الجمع، بل أمكن - كما ذكره البيهقي -، ولم يعلم أيضاً التاريخ ". قال:
" فالصواب الذي لا يجوز غيره: أن الإقعاء نوعان: أحدهما: مكروه، والثاني:
سنة.
وأما الجمع بين حديثي ابن عباس وابن عمر، وأحاديث أبي حميد ووائل وغيرهما
في صفة صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووصفهم الافتراش على قدمه اليسرى؛ فهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كانت له في الصلاة أحوال؛ حال يفعل فيها هذا، وحال يفعل فيها ذاك، كما كانت له(2/806)
..............................................................................
__________
أحوال في تطويل القراءة، وتخفيفها، وغير ذلك من أنواعها، وكما توضأ مرة مرة،
ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وكما طاف راكباً، وطاف ماشياً، وكما أوتر أول الليل وآخره
وأوسطه وانتهى وتره إلى السَّحَر، وغير ذلك - كما هو معلوم من أحواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان
يفعل العبادة على نوعين - أو أنواع -؛ ليبين الرخصة والجواز بمرة أو مرات قليلة، ويواظب
على الأفضل منها على أنه المختار والأولى.
فالحاصل: الإقعاء الذي رواه ابن عباس وابن عمر فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على التفسير
المختار، وفعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رواه أبو حميد وموافقوه من الافتراش، وكلاهما سنة؛ لكن إحدى
السُّنّتين أكثر وأشهر. وهي رواية أبي حميد؛ لأنه رواها وصدقه عشرة من الصحابة - كما
سبق -، ورواها وائل بن حُجر وغيره؛ وهذا يدل على مواظبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها، وشهرتها
عندهم، فهي أفضل وأرجح؛ مع أن الإقعاء سنة أيضاً.
فهذا ما يسر الله الكريم من تحقيق أمر الإقعاء، وهو من المهمات؛ لتكرار الحاجة إليه
في كل يوم، مع تكرره في كتب الحديث، والفقه، واستشكال أكثر الناس له من كل
الطوائف، وقد منَّ الله الكريم بإتقانه، ولله الحمد على جميع نعمه ". انتهى كلامه رحمه
الله.(2/807)
..............................................................................
__________
وجوبُ الاطمئنان بين السجدتين
{و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه " (1) } ، وأمر
بذلك (المسيء صلاته) ، وقال له:
" لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك " (2) .
و" كان يطيلها حتى تكون قريباً من سجدته " (3) ، وأحياناً " يمكث حتى
يقول القائل: قد نسي ".
__________
(1) { [أخرجه] أبو داود، والبيهقي. بسندٍ صحيح} .
(2) تقدم ذلك في حديثه المشهور به من رواية أبي هريرة، وحديث رفاعة بن
رافع. وقوله:
" لا تتم ... " إلى آخره.
هو من حديثه، أخرجه أصحاب السنن، وغيرهم بإسناد صحيح - كما سبق في
(الاستقبال) -.
(3) هو من حديث البراء بن عازب. والذي بعده من حديث أنس بن مالك.
وقد مضيا في (الاعتدال من الركوع) (698 و 699) . قال ابن القيم (1/85) :
" وهذه السنة تركها أكثر الناس من بعد انقراض عصر الصحابة. ولهذا قال
ثابت:
وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه؛ يمكث بين السجدتين حتى نقول: قد
نسي.
وأما من حكَّم السنة، ولم يلتفت إلى ما خالفها؛ فإنه لا يعبأ بما خالف هذا
الهدي ".(3/808)
الأذكار بين السَّجدتين
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذه الجلسة:
1- " اللهم (وفي لفظ: رب!) اغفر لي، وارحمني، [واجبُرني] ،
[وارفعني] ، واهدني، [وعافني] ، وارزقني ". وتارة يقول:
__________
1- هو من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول بين السجدتين: ... فذكره.
أخرجه أبو داود (1/135) ، والترمذي (2/76) ، وابن ماجه (1/290) ، والحاكم
(1/262 و 271) ، والبيهقي (2/122) ، وأحمد (1/315 و 371) ، والضياء المقدسي في
" المختارة "، والطبراني في " الكبير " من طريق كامل بن العلاء عن حَبِيب بن أبي ثابت
عن سعيد بن جبيرعنه.
واللفظ الآخر لابن ماجه، والبيهقي، وأحمد، والضياء، والطبراني.
والزيادتان الأُوليان عند ابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، وأحمد. والأولى عند
الترمذي. والأخيرة عند أبي داود، والحاكم في رواية له، والضياء، والطبراني.
قال النووي في " المجموع " (3/497) :
" فالاحتياط والاختيار أن يجمع بين الروايات، ويأتي بجميع ألفاظها؛ وهي: سبعة "
ثم ذكرها. وزاد ابن ماجه:
في صلاة الليل.
وهي عند البيهقي، وأحمد - مطولاً - بلفظ:
قال: بِتُّ عند خالتي ميمونة - قال: -، فانتبه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الليل: ... فذكر
الحديث. قال: ثم ركع. قال: فرأيته قال في ركوعه:(3/809)
..............................................................................
__________
" سبحان ربي العظيم ". ثم رفع رأسه، فحمد الله ما شاء أن يحمده. قال: ثم
سجد. قال: فكان يقول في سجوده:
" سبحان ربي الأعلى ".
قال: ثم رفع رأسه. قال: فكان يقول فيما بين السجدتين: ... فذكره. والسياق
لأحمد.
والحديث؛ قال الترمذي:
" غريب. وهكذا رُويَ عن علي ". وقال الحاكم:
" صحيح ". ووافقه الذهبي. وقواه الحافظ في " بلوغ المرام " (1/259 بشرح السبل) ،
وأما في " التلخيص " (3/483) ؛ فقال:
" وفيه كامل أبو العلاء، وهو: مختلف فيه ". وفي " التقريب ":
" صدوق يخطئ ". اهـ.
فالحق أن الحديث جيد - كما قال النووي في " المجموع " -.
ويشهد له أثر علي الذي أشار إليه الترمذي.
وقد أخرجه البيهقي بإسناده الصحيح عن سليمان التيمي قال:
بلغني أن علياً كان يقول بين السجدتين:
(رب! اغفر لي، وارحمني، وارفعني، واجبُرني) . ثم قال البيهقي:
" ورواه الحارث الأعور عن علي؛ إلا أنه قال: (واهدني) .. بدل: (وارفعني) ".
قلت: والحارث هذا - هو ابن عبد الله الهَمْداني، بسكون الميم -: في حديثه
ضعف - كما في " التقريب " -.(3/810)
2- " رب! اغفر لي، رب! اغفر لي ".
__________
وقد رواه ابن نصر (76) من طريقه؛ لكن وقع اسمه مقلوباً - ولعله من بعض
النساخ -: عبد الله بن الحارث الهمداني.
ثم قال النووي:
" واعلم أن هذا الدعاء مستحب باتفاق الأصحاب؛ قال الشيخ أبو حامد: لم يذكره
الشافعي في هذا الموضع في شيء من كتبه، ولم ينفه. قال: وهو سنة؛ للحديث المذكور ".
قلت: قد قال به الشافعي - كما ذكره الترمذي -، ومن علم حجة على من لم يعلم؛
قال - بعد أن ساق الحديث -:
" وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ يرون هذا جائزاً في المكتوبة والتطوع ".
2- هو من حديث حذيفة رضي الله عنه:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول بين السجدتين: ... فذكره.
أخرجه ابن ماجه (1/290) قال: ثنا علي بن محمد: ثنا حفص بن غياث: ثنا
العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن طلحة بن يزيد عن حذيفة (ح) : وحدثنا علي
ابن محمد: ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن سعد بن عُبيدة عن المستورد بن
الأحنف عن صِلَةَ بن زُفَرعن حذيفة به.
وهذا الإسناد الثاني صحيح، رجاله كلهم ثقات.
والإسناد الأول: رجاله ثقات أيضاً؛ لكنه منقطع؛ إلا أن شعبة وصله؛ فرواه عن
عمرو عن طلحة عن رجل من عبس - شعبةُ يرى أنه صِلَةُ بن زُفَر - عن حذيفة به أتم
منه.
وقد مضى بتمامه في (الاستفتاح) [ص 268] ، مع ذكر من خرجه سوى ابن ماجه.(3/811)
..............................................................................
__________
وقد روي ذلك عن علي رضي الله عنه، أنه كان يفعل ذلك.
أخرجه الطحاوي في " المشكل " (1/308) من طريق عبد الرحمن بن زياد: ثنا زهير
ابن معاوية عن أبي إسحاق عن علي بذلك. ثم قال الطحاوي:
" ولا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواه، ولا من تابعيهم ومن بعد
تابعيهم إلى يومنا هذا ذهب إلى ذلك؛ غير بعض من ينتحل الحديث؛ فإنه ذهب إلى
ذلك وقال به.
وهذا عندنا من قوله حسن، واستعماله إحياءٌ لسنة من سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإليه
نذهب، وإياه نستعمل، وقد وجدنا القياس يشده؛ وذلك أنا رأينا الصلاة مبنية على
أقسام: منها القيام؛ وفيه ذكر - وهو الاستفتاح، وما يقرأ بعده من القرآن -، ثم الركوع؛
وفيه ذكر - وهو التسبيح -، ثم الرفع من الركوع؛ وفيه ذكر - وهو: سمع الله لمن حمده،
وما سوى ذلك مما يقوله بعض الأئمة من: (ربنا! ولك الحمد) -، ثم السجود؛ وفيه ذكر
- وهو التسبيح -، ثم قعدة بين السجدتين؛ وهي التي فيها الذي رويناه عن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سؤاله ربه عز وجل الغفران مرتين، ثم جلوس فيه ذكر؛ وهو التشهد وما
بعده؛ من الصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدعاء.
فكانت أقسام الصلاة كلها يستعمل فيها ذكر الله غير خالية من ذلك، غير القعدة
بين السجدتين التي ذكرنا؛ فكان القياس على ما وصفنا: أن يكون حكم ذلك القسم
أيضاً من الصلاة كحكم غيره من أقسامها، وأن يكون فيه ذكر لله عز وجل، كما كان من
أقسامها. والله الموفق سبحانه ". اهـ. ببعض تلخيص.
وقوله: " لا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوى علي رضي الله عنه ذهب
إلى ذلك ".(3/812)
..............................................................................
__________
إن كان يعني خصوص هذا الدعاء؛ فلا كلام.
وإن كان يعني مطلق الدعاء بين السجدتين - كما يشير إلى ذلك سياق كلامه -؛
فليس كما قال؛ فقد روى ابن نصر (76) عن أم سلمة رضي الله عنها:
أنها كانت تقول بين الركعتين - يعني: السجدتين -:
رب! اغفر وارحم، واهد السبيل الأقوم.
ولكن مختصِره المقريزي اختصر إسناده؛ فلم يذكره ليُنظر فيه (*) .
وهذا الدعاء ورد مرفوعاً إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن مطلقاً غير مقيد بموضع:
أخرجه أحمد (6/303 و 315 - 316) من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد
عن الحسن عن أم سلمة:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: ... فذكره.
وهذا إسناد ضعيف. وذكره في " المجمع " (10/174) وقال:
" رواه أحمد، وأبو يعلى بإسنادين حسنين "!
كذا قال، وهو غير سديد بالنسبة إلى سند أحمد؛ فإن فيه علي بن زيد - وهو ابن
جُدعان -: فيه ضعف.
والحسن - هو البصري، وهو -: مدلس، وقد عنعن. قال الذهبي:
" كان الحسن كثير التدليس، فإذا قال في حديثه: عن فلان. ضعف الاحتجاج به،
ولا سيما عمَّن قيل: إنه لم يسمع منهم - كأبي هريرة ونحوه -؛ فعدوا ما كان له عن أبي
__________
(*) وفي " مصنف عبد الرزاق " (2892) أنها كانت تقوله في سجودها وفي صلاتها.
وفي " مصنف ابن أبي شيبة " (2/534) ، ورجاله ثقات.(3/813)
وكان يقولهما في صلاة الليل (1) .
__________
هريرة في جملة المنقطع ".
{وقد اختار الدعاء بهذا الإمام أحمد، وقال إسحاق بن راهويه:
" إن شاء قال ذلك ثلاثاً، وإن شاء قال: اللهم! اغفر لي.. لأن كليهما يذكران عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين السجدتين ".
كذا في " مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه " رواية إسحاق المروزي
(ص 19) } .
(1) كذلك جاء النص عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم أجد حديثاً في ذلك مطلقاً أو مقيداً
بالفرائض، لكن النظر يقتضي استحباب ذلك فيها أيضاً؛ لعدم وجود الفارق بين النوافل
والفرائض، ولما ذكرناه عن الطحاوي قريباً، وكذلك ذهب إلى ذلك من سبق ذكرهم من
الأئمة - كما حكاه الترمذي -.
* * *(3/814)
[السجدة الثانية، والرفع منها]
ثم " كان يكبر ويسجد السجدة الثانية " (1) ، {وأمر بذلك (المسيء
صلاته) ؛ فقال له بعد أن أمره بالاطمئنان بين السجدتين - كما سبق -:
" ثم تقول: الله أكبر. ثم تسجد حتى تطمئن مفاصلك، [ثم افعل ذلك
في صلاتك كلها] " (2) } .
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه مع هذا التكبير " أحياناً (3) .
وكان يصنع في هذه السجدة مثل ما صنع في الأولى، ثم " يرفع رأسه
مكبراً " (4) . {وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له بعد أن أمره بالسجدة
الثانية - كما مر -:
" ثم يرفع رأسه، فيكبر " (5) . وقال له:
" [ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة؛] فإذا فعلت ذلك؛ فقد تمت
صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً؛ انتقصت من صلاتك " (6) } .
و" كان يرفع يديه " أحياناً (7) .
__________
(1 و 3 و 4 و 7) فيه عدة أحاديث سبق ذكرها [ (وانظر ص 798 - 800) ] .
(2) { [أخرجه] أبو داود، والحاكم وصححه - ووافقه الذهبي - والزيادة للبخاري
ومسلم، [وانظر تخريجه فيما سبق (ص 55 - 57) ] } .
(5) { [أخرجه] أبو داود، والحاكم وصححه - ووافقه الذهبي -} .
(6) { [أخرجه] أحمد، والترمذي وصححه} .
* * *(3/815)
جَلْسَةُ الاسْتِراحَةِ
ثم " يستوي قاعداً " (1) " على رجله اليسرى معتدلاً؛ حتى يرجع كل
__________
(1) هو من حديث مالك بن الحويرث؛ أنه كان يقول:
ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فيصلي في غير وقت الصلاة، فإذا رفع
رأسه من السجدة الثانية في أول ركعة؛ استوى قاعداً، ثم قام، فاعتمد على الأرض.
أخرجه الإمام الشافعي في " الأم " (1/101) ، والنسائي (1/173) ، والبيهقي
(2/124 و 135) عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثَّقَفي عن خالد الحَذَّاء عن أبي قِلابة
قال: كان مالك بن الحُويرث يأتينا فيقول: ... به.
وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وقد تابعه هُشيم عن خالد - مختصراً - بلفظ:
أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته؛ لم ينهض حتى يستوي
قاعداً.
أخرجه البخاري (2/240) ، وأبو داود (1/134) ، والنسائي أيضاً، والترمذي
(2/79) ، والدارقطني (132) ، وكذا الطحاوي، والبيهقي. وصححه الترمذي،
والدارقطني.
وقد أخرجه البخاري في " صحيحه " (2/241) ، وكذا البيهقي (2/123) من طريق
وهُيب عن أيوب عن أبي قِلابة قال:
جاءنا مالك بن الحويرث، فصلى بنا في مسجدنا هذا، فقال:
إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة؛ ولكن أريد أن أريكم كيف رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يصلي. قال أيوب:(3/816)
..............................................................................
__________
فقلت لأبي قلابة: وكيف كانت صلاته؟ قال:
مثل صلاة شيخنا هذا - يعني: عمرو بن سلمة -. قال أيوب:
وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية؛ جلس، واعتمد
على الأرض، ثم قام.
وقد تابعه حماد بن زيد عن أيوب نحوه بلفظ:
كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى والثالثة التي لا يقعد فيها؛ استوى قاعداً، ثم
قام.
أخرجه الطحاوي (2/405) ، وأحمد (5/53 - 54) .
وهو صحيح أيضاً على شرطهما.
وفي الباب عن عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيهم أبو حُمَيد الساعدي - وهو
الآتي بعد هذا -.
وقد قال الترمذي - بعد أن ساق الحديث -:
" والعمل عليه عند بعض أهل العلم. وبه يقول إسحاق، وبعض أصحابنا ".
قلت: {وهذا الجلوس يعرف عند الفقهاء بـ (جلسة الاستراحة) } ، وقد قال به
الشافعي، وكذا داود، وعن أحمد نحوه؛ {كما في " التحقيق " (1/111) ، وهو الأحرى
به؛ لما عرف عنه من الحرص على اتباع السنة التي لا معارض لها.
وقد قال ابن هانئ في " مسائله عن الإمام أحمد " (1/57) :
" رأيت أبا عبد الله (يعني: الإمام أحمد) ربما يتوكأ على يديه إذا قام في الركعة
الأخيرة، وربما استوى جالساً، ثم ينهض ".(3/817)
عظم الى موضعه " (1) .
__________
وهو اختيار الإمام إسحاق بن راهويه؛ فقد قال في " مسائل المروزي " (1/147/2) :
" مضت السنة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعتمد على يديه ويقوم؛ شيخاً كان أو شاباً ".
وانظر " الإرواء " (2/82 - 83) } .
واستحبه الإمام ابن حزم في " المحلى " (4/124) ، وهو الصواب؛ لعدم ثبوت ما
يعارض هذه السنة، وكل ما جاء مما يخالفها لا يثبت؛ كما سنبين ذلك بحوله تعالى
وقوته.
(1) هو قطعة من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
أخرجه البيهقي (2/123) وغيره. وقد سبق ذكره بطوله في (الركوع) [ص 605] .
ومنه تعلم أن إنكار الطحاوي (2/205) كون جلسة الاستراحة هذه واردة في
حديث أبي حميد خطأٌ واضحٌ؛ فإنها فيه كما ترى، وقد نبه على ذلك الحافظ في
" التلخيص " (3/488) ، واستغرب النووي (3/444) ذلك من الطحاوي؛ وإنما اعتمد في
إنكاره على روايةٍ في حديث أبي حميد.
أخرجها هو، وأبو داود (1/117) من طريق عيسى بن عبد الله بن مالك عن محمد
ابن عمروبن عطاء عن عياش بن سهل:
أنه كان في مجلس فيه أبوه - وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي المجلس أبو هريرة
وأبو أسيد وأبو حُميد الساعدي والأنصار رضي الله عنهم: أنهم تذاكروا الصلاة، فقال
أبو حميد:
أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكر الحديث. وفيه:
أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى؛ قام، ولم يتورك.
قلت: والجواب: أن هذه الزيادة - وهي قوله: ولم يتورك - ضعيفة؛ لأنه تفرد بها(3/818)
..............................................................................
__________
عيسى بن عبد الله بن مالك، وهو مجهول - كما سبق في (الركوع) -.
على أنها لو ثبتت؛ لكان الأخذ بما يخالفها من إثبات هذه الجلسة - كما في
الحديث الصحيح - أولى؛ لأنها مثبِتة، وهذه نافية، والمثبِت مقدم على النافي - كما تقرر
في أصول الفقه -.
على أنه من الممكن الجمع بين الروايتين - على فرض تعادلهما في الصحة - بأن
يقال: هذه الرواية نفت التورك، ولم تنف الافتراش الثابت في الرواية الأولى؛ فلا
تعارض، وإن كان هذا الاحتمال بعيداً. والله أعلم.
هذا، وقد جاء ذكر هذه الجلسة في بعض طرق حديث (المسيء صلاته) : عند
البخاري (11/31) .
لكن قد أشار هو نفسه إلى أن ذكرها فيه وهم من بعض الرواة، وصرح به البيهقي؛
كما في " الفتح " للحافظ، وقال في " التلخيص " (3/488) :
" وهو أشبه ".
واعلم أنه روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يخالف هذه السنة الصحيحة، فوجب التنبيه عليها؛
لئلا يغتر بها مغتر، فيقع في مخالفة هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمنها: حديث وائل بن حجر:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سجد؛ وقعت ركبتاه إلى الأرض قبل أن تقع كفاه، فلما سجد؛
وضع جبهته بين كفيه، وجافى عن إبطيه، وإذا نهض؛ نهض على ركبتيه، واعتمد
على فخذيه.
أخرجه أبو داود وغيره، كما مضى في (السجود) [ص 716] ، وذكرنا هناك أنه
منقطع؛ لأنه من رواية عبد الجبار بن وائل عن أبيه، وقال النووي (3/446) :(3/819)
..............................................................................
__________
" حديث ضعيف؛ لأن عبد الجبار بن وائل اتفق الحفاظ على أنه لم يسمع من أبيه
شيئاً، ولم يدركه ".
ومنها: حديث أبي هريرة؛ قال:
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض في الصلاة على صُدورقدميه.
أخرجه الترمذي (2/80) من طريق خالد بن إلياس عن صالح مولى التوأمة عنه.
وذكره البيهقي (2/124) وقال:
" وخالد بن إِلياس - ويقال: إياس -: ضعيف ". وكذا قال الترمذي، وزاد:
" عند أهل الحديث، وصالح مولى التوأمة: هو صالح بن أبي صالح، وأبو صالح:
اسمه نبهان ".
قلت: وهو ضعيف أيضاً؛ كان قد اختلط.
ومنها: عن معاذ بن جبل؛ في حديث له:
وكان يمكّن جبهته وأنفه من الأرض، ثم يقوم كأنه السهم لا يعتمد على يديه. قال
الهيثمي (2/135) :
" وفيه الخَصِيب بن جَحْدَر، وهو كذاب ".
فقد ظهر لك من هذا البيان أنه لا تصح هذه الهيئة المعارضة للهيئة الثابتة.
ومع ذلك؛ فقد اعتمد عليها ابن القيم في " الزاد " (1/85 - 86) وفي رسالة
" الصلاة " (212) ، ونفى أنه عليه الصلاة والسلام كان يعتمد على يديه إذا نهض!
وأجاب - تبعاً للطحاوي وغيره - عن حديث مالك وأبي حُميد في جلسة
الاستراحة: أنه عليه الصلاة والسلام إِنما كان يفعل ذلك للحاجة حينما أسن وأخذه(3/820)
..............................................................................
__________
اللحم، وأنه لم يفعلها تعبداً وتشريعاً!
وهذا ظن خاطئ، لا يجوز بمثله رد السنة الصحيحة؛ لاسيما إذا كان قد رواها جمع
من الصحابة بلغوا بضعة عشر شخصاً؛ فكيف يجوز أن يخفى على هؤلاء الأجلة
أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما فعل ذلك للحاجة لا للعبادة؛ لا سيما وفيهم مالك بن الحويرث رضي الله
عنه - وهو الذي روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله له: " صلوا كما رأيتموني أصلي " -؛ مع العلم بأن
الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فكيف يخفى ذلك على هؤلاء، ثم يعلمه مَنْ جاء مِنْ
بعدهم بعدة قرون - مثل الطحاوي، وابن القيم -، ولا دليل لهم على ذلك ولا برهان
سوى الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} ؟!
وليس عجبي أن يسلك هذا السبيل مثلُ الطحاوي الذي نصب نفسه لتأييد مذهب
أبي حنيفة - إلا نادراً -؛ ولكن عجبي الذي لا ينتهي سلوك ابن القيم هذا السبيل وهو
ناصر السنة، وحامل لوائها، ورافع رايتها! ولكن لا بد لكل جواد من كبوة؛ بل كبوات!
ورحم الله إلإمام مالكاً حيث قال: ما منا من أحد إلا رادّ ومردود عليه؛ إلا صاحب
هذا القبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نعم؛ لقد احتج ابن القيم رحمه الله على ترك الاعتماد على اليدين بحديث ذكره
في رسالة " الصلاة " عن ابن عمر:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة.
ولكن قوله في هذا الحديث: إذا نهض. زيادة غير صحيحة؛ تفرد بها محمد بن
عبد الملك الغزال، وهو كثير الخطأ.
فلا يجوزأن يعتمد عليها؛ لا سيما إذا خالفت ما ثبت من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما فعلنا
ذلك في " التعليقات الجياد " -.(3/821)
..............................................................................
__________
ولذلك ضعف هذه الزيادة النووي في " المجموع " (*) .
وهناك حجة أخرى ذكرها في " الزاد " عن الخلال، وهي من كلام أحمد رحمه الله،
رواه ابنه عبد الله في " مسائله " فقال: سمعت أبي يقول:
" إن ذهب رجل إلى حديث مالك بن الحويرث؛ فأرجو أن لا يكون به بأس ".
قلت: ثم ذكر جلسة الاستراحة، قال:
" وكان حماد بن زيد يفعله ". قال:
" وأذهب أنا إلى حديث رفاعة بن رافع من طريق ابن عجلان:
" ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى
تطمئن ساجداً، ثم قم " ". اهـ.
ويعني الإمامُ رحمه الله أن جلسة الاستراحة لم تذكر في حديث (المسيء صلاته) .
وهذه أيضاً حجة غريبة؛ فليس هذا الحديث جامعاً لجميع سنن الصلاة وهيئاتها
باتفاق العلماء، فإذا جاءت سنةٌ في حديث غيره؛ وجب الأخذ بها، لا ردها بحديث
(المسيء صلاته) ! وكم من سنن - بل وواجبات - أخذ بها أحمد وغيره لم يرد ذكرها
فيه، أفيجوز ردُّها لذلك؟! وقد قال الإمام النووي رحمه الله (3/443) :
" والجواب عن حديث (المسيء صلاته) : أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما علّمه الواجبات دون
المسنونات. وهذا معلوم سبق ذكره مرات ".
قلت: وكأنه لوضوح ضعف هذه الحجة رجع عنها أحمد إلى حديث مالك بن
الحويرث في جلسة الاستراحة - كما قال الخلال، على ما في " الزاد " (1/85) -. وهذا
__________
(*) انظر ما سيأتي (ص 836) .(3/822)
..............................................................................
__________
من إنصاف الإمام أحمد رحمه الله ورجوعه إلى الحق والصواب. ثم قال الإمام النووي:
" وأما حديث وائل؛ فلو صح؛ وجب حمله على موافقة غيره في إثبات جلسة
الاستراحة؛ لأنه ليس فيه تصريح بتركها، ولو كان صريحاً؛ لكان حديث مالك بن
الحويرث وأبي حميد وأصحابه مقدماً عليه؛ لوجهين:
أحدهما: صحة أسانيدها.
والثاني: كثرة رواتها.
ويحتمل أن يكون وائل رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وقت أو أوقات؛ تبياناً للجواز، وواظب
على ما رواه الأكثرون.
ويؤيد هذا: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمالك بن الحويرث - بعد أن قام يصلي معه، ويتحفظ
العلم منه عشرين يوماً، وأراد الانصراف من عنده إلى أهله -:
" اذهبوا إلى أهليكم، ومروهم، وعلِّموهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي ".
وهذا كله ثابت في " صحيح البخاري " من طرق، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا وقد رآه
يجلس للاستراحة، فلو لم يكن هذا هو المسنون لكل أحد؛ لما أطلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله:
" صلوا كما رأيتموني أصلي ".
وبهذا يحصل الجواب عن فرق أبي إسحاق المروزي بين القوي والضعيف، ويجاب به أيضاً
عن قول من لا معرفة له: ليس تأويل حديث وائل وغيره بأولى من عكسه ". ثم قال النووي:
" واعلم أنه ينبغي لكل أحد أن يواظب على هذه الجلسة؛ لصحة الأحاديث فيها،
وعدم المعارض الصحيح لها. ولا تغتر بكثرة المتساهلين بتركها؛ فقد قال تعالى: {قُلْ
إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} .
* * *(3/823)
[القيام إلى الركعة الثانية]
الاعتماد على اليدين في النُّهوض إلى الركعة
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض - معتمداً على الأرض - إلى الركعة الثانية " (*) .
{و " كان يعجن في الصلاة: يعتمد على يديه إذا قام " (1) } .
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نهض في الركعة الثانية؛ استفتح القراءة بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ العَالَمِينَ} ، ولم يسكت " (2) .
__________
(*) سبق تخريجه من حديث مالك بن الحويرث (ص 816 - 817) .
(1) { [رواه] أبو إسحاق الحربي بسندٍ صالح. ومعناه عند البيهقي بسند صحيح.
وأما حديث:
" كان يقوم كأنه السهم لا يعتمد على يديه ".
فموضوع. وكل ما في معناه ضعيف لا يصح، وقد بينت ذلك في " الضعيفة "
(562 و 929 و 968) .
وقد أشكل على أحد الفضلاء تقويتي لإسناد الحربي؛ فأوضحت ذلك في كتابي
" تمام المنة في التعليق على فقه السنة "؛ فراجعه؛ فإنّه مهم} .
(2) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرجه مسلم (2/99) ، وأبو عوانة (2/99) ، والحاكم (1/215 - 216) ، والبيهقي
(2/196) من طريق عبد الواحد بن زياد: ثنا عُمارة بن القعقاع: ثنا أبو زرعة بن عمرو
ابن جرير: ثنا أبو هريرة به. واللفظ لمسلم وأبي عوانة. وقال الآخران:
استفتح بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} .
وصححه الحاكم والذهبي، وكذا البيهقي وقال:
" وفيه دلالة على أنه لا سكتة في الركعة الثانية قبل القراءة، وهو حديث صحيح.(3/824)
..............................................................................
__________
ويحتمل أنه أراد به أنه لا يسكت في الثانية، كسكوته في الأولى للاستفتاح ".
قلت: وهذا الاحتمال هو الظاهر من الحديث عندنا إذا قابلناه بحديث أبي هريرة
الآخر بلفظ:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كبر في الصلاة؛ سكت هنية ... الحديث؛ وفيه: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كان يقرأ في هذه السكتة:
اللهم! باعد بيني وبين خطاياي ... الحديث. وقد مضى [ص 238] .
فهذه السكتة - والله أعلم - هي المنفية في هذا الحديث.
وقد أشار إلى هذا الإمام مسلم في " صحيحه "؛ حيث ساق أولاً الحديث المشار
إليه، ثم ساق بعده هذا الحديث.
وإسناد الحديثين واحد، فكأن أحدهما متمم للآخر؛ فالحديث نص في نفي
مشروعية دعاء الاستفتاح، ولكنه لا ينفي مشروعية الاستعاذة.
وقد اختلف الفقهاء: هل هذا موضع استعاذة أم لا - بعد اتفاقهم على أنه ليس
موضع استفتاح -؟
وفي ذلك قولان، هما روايتان عن أحمد، وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة
الصلاة: هل هي قراءة واحدة؛ فيكفي فيها استعاذة واحدة، أو قراءة كل ركعة مستقلة
برأسها؟ قال ابن القيم في " الزاد " (1/86) :
" والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر؛ للحديث الصحيح عن أبي هريرة:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا نهض من الركعة الثانية؛ استفتح القراءة ولم يسكت.
وإنما يكفي استفتاح واحد؛ لأنه لم يتخلل القراءتين سكوت، بل تخللهما ذكر،
فهي كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمدُ اللهِ، أو تسبيح، أو تهليل، أو صلاة على(3/825)
..............................................................................
__________
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحو ذلك ".
كذا قال! والظاهر خلاف ما استظهر، وأنه لا يكفي استعاذة واحدة؛ بل لابد من
الاستعاذة في كل ركعة؛ قال الشيخ العلامة محمد حامد الفقي السلفي رئيس (جماعة
أنصار السنة) في تعليقه على " المنتقى من أخبار المصطفى " (1/434) :
" والظاهر أنهما قراءتان؛ لطول الفصل بالركوع والسجود، وهي حركات كثيرة؛ فلكل
ركعة تعوذ. وحديث أبي هريرة لا ينفي هذا؛ لأنه إنما نفى السكتة المعهودة عنده، وهي
التي فيها الاستفتاح.
أما سكتة التعوذ والبسملة؛ فلطيفة جداً لا يحس بها المأموم؛ لاشتغاله بحركة
النهوض للركعة.
وأيضاً: فإن كل ركعة معتبرة صلاة؛ ولذلك أوجبوا قراءة {الفَاتِحَة} لكل ركعة،
فأولى أن تعتبر كذلك للتعوذ، وهذا الذي رجحه ابن حزم في " المحلى "، وهو الصواب ".
قلت: واحتج ابن حزم (3/247) بعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، وهو احتجاج صحيح لا شائبة فيه؛ قال الحافظ في
" التلخيص " (3/306) :
" وعموم هذه الآية يقتضي الاستعاذة في أول كل ركعة. وهو الذي استظهره الرافعي
في " الشرح الكبير "؛ قال: وبه قال القاضي أبو الطيب الطبري، وإمام الحرمين، والرُّوياني
وغيرهم ". قال النووي في " المجموع " (3/324) :
" وهو المذهب ". وقال في موضع آخر (3/326) :
" وهو الأصح في مذهبنا ".
قلت: وهو قول في مذهب علمائنا الحنفية تخريجاً؛ فقد قال أبو الحسنات اللكنوي(3/826)
وكان يصنع في هذه الركعة مثل ما يصنع في الأولى (1) ؛ إلا أنه كان
يجعلها أقصر من الأولى - كما سبق (*) -.
__________
في حاشيته على " شرح الوقاية " (1/138) :
" وفي " حَلْبة المجلّي " لابن أمير حاج: ينبغي على قول أبي يوسف ومحمد أن يتعوذ
في الثانية أيضاً؛ فإنه إنما شرع للقراءة، والقراءة تتجدد في كل ركعة ". انتهى.
(1) فيه حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومضى
في (الركوع) [ص 605] .
وحديث أبي هريرة. ومر في (الرفع من الركوع) [ص 674] .
وحديث أبي مسعود البدري. وسبق في (الركوع) [ص 634] .
(*) في (القراءة في صلاة الظهر) (ص 457) .
* * *(3/827)
وجوبُ قراءة {الفَاتِحَة} في كُلِّ ركعةٍ (*)
وقد أمر (المسيء صلاته) بقراءة {الفَاتِحَة} في كل ركعة؛ حيث قال
له بعد أن أمره بقراءتها في الركعة الأولى (1) :
" ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " (2) (وفي رواية: " في كل ركعة ") (3) .
وقال:
" في كل ركعة قراءة " (4) .
__________
(*) هذا المبحث - بحواشيه - أضفناه من " صفة الصلاة " المطبوع، وقد سبق تخريج
الشيخ رحمه الله لأحاديثه - مفصلاً - (ص 56 - 57) .
(1) [رواه] أبو داود، وأحمد بسندٍ قوي.
(2) [رواه] البخاري، ومسلم.
(3) [رواه] أحمد بسند جيد.
(4) [رواه] ابن ماجه، وابن حبان في " صحيحه "، وأحمد في " مسائل ابن هانئ "
(1/52) .
وقال جابر:
" من صلى ركعة لم يقرأ فيها بـ: {أم القرآن} ؛ فلم يُصَلِّ؛ إلا وراء إمام ".
رواه مالك في " الموطأ ".
* * *(3/828)
التشهد الأول
جلسة التشهد
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس للتشهد بعد الفراغ من الركعة الثانية، فإذا كانت
الصلاة ركعتين كالصبح؛ " جلس مفترشاً " (1) ، كما كان يجلس بين
__________
(1) رواه وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال:
أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة حتى يحاذي منكبيه، وإذا
أراد أن يركع. وإذا جلس في الركعتين؛ أضجع اليسرى ونصب اليمنى، ووضع يده
اليمنى على فخذه اليمنى، ونصب أصبعه للدعاء، ووضع يده اليسرى على فخذه
اليسرى. قال:
ثم أتيتهم من قابل، فرأيتهم يرفعون أيديهم في البرانس.
أخرجه النسائي (1/173) : أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري قال: ثنا
سفيان قال: ثنا عاصم بن كُلَيب عن أبيه عنه.
وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال مسلم، إلا محمد بن عبد الله هذا، وهو ثقة - كما
في " التقريب " -.
والحديث نصٌّ ظاهر في الافتراش في الصلاة الثنائية كصلاة الصبح، وأحظى
الناس بهذا الحديث الإمام أحمد، ثم أبو حنيفة والثوري؛ خلافاً لمالك والشافعي؛
فإنهما يقولان بأن السنة التورك فيها - على تفصيل في ذلك يأتي ذكره في (التشهد
الأخير) . والحديث يرد عليهما!(3/829)
السجدتين، وكذلك " يجلس في التشهد الأول " (1) من الثلاثية أو
الرباعية.
وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال له:
__________
(1) هو من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. رواه عنه محمد بن عمرو
ابن عطاء:
أنه كان جالساً مع نفر من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرنا صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو
حميد الساعدي:
أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله؛ رأيته إذا كبَّر؛ جعل يديه حذاء منكبيه،
وإذا ركع؛ أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه؛ استوى حتى يعود
كل فَقَارٍ مكانه، فإذا سجد؛ وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف
أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين؛ جلس على رجله اليسرى ونصب
اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة؛ قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على
مقعدته.
أخرجه البخاري (2/245 - 246) ، وأبو داود (1/117 و 152) ، والبيهقي (2/127
- 128) من طريق محمد بن عمرو بن حَلْحَلَة عنه.
وقد تابعه عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء، لكن ليس في
حديثه ذكر الجلوس في التشهد الأول. وقد مضى لفظه في (الركوع) [ص 605] .
والحديث دليل على أن السنة في جلوس التشهد الأوسط إنما هو الافتراش، وبه قال
أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ خلافاً لمالك؛ فإنه يقول بالتورك في كل جلوس - كما
سيأتي -. وهذا الحديث يرد عليه، وكذا الذي بعده.(3/830)
" فإذا جلست في وسَط (1) الصلاة؛ فاطمئن (2) ، وافترش (3) فخذك
__________
(1) بفتح السين؛ قال في " النهاية ":
" يقال فيما كان متفرق الأجزاء غير متصل - كالناس والدواب - بسكون السين، وما
كان متصل الأجزاء - كالدار والرأس -؛ فهو بالفتح. والمراد هنا القعود للتشهد الأول في
الرباعية، ويلحق به الأول في الثلاثية ".
(2) يؤخذ منه أن المصلي لا يَشْرَعُ في التشهد حتى يطمئن. يعني: يستقر كل
مَفصل في مكانه، ويسكن من الحركة.
(3) أي: ألقها على الأرض، وابسطها كالفِرَاش؛ للجلوس عليها. قال الشوكاني
(2/229) :
" وفيه دليل لمن قال: إن السنة الافتراش في الجلوس للتشهد الأوسط. وهم
الجمهور ". قال ابن القيم (1/86) :
" ولم يُروَ عنه في هذه الجلسة غير هذه القصة (يعني: الفرش والنصب) . وقال
مالك: يتورك فيه؛ لحديث ابن مسعود:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجلس في وسط الصلاة وفي آخرها متوركاً ". قال ابن القيم
(1/87) :
" لم يذكرعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التورك الا في التشهد الأخير ". اهـ. ملخصاً.
وأقول: سكت الشوكاني على قول ابن القيم الأخير هذا؛ مع أنه ذكر قبله حديث
ابن مسعود الذي ينفي قول ابن القيم! ثم سكت أيضاً على الحديث، ولم يبين حاله ولا
من رواه؛ وهو من الأحاديث الغريبة التي تفرد بروايتها الإمام أحمد فيما علمت!
فقد أخرجه في " مسنده " (1/459) قال: ثنا يعقوب: ثني أبي عن ابن إسحاق
قال: ثني - عن تشهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وسط الصلاة وفي آخرها - عبد الرحمن بن(3/831)
اليسرى، ثم تشهد " (1) .
__________
الأسود بن يزيد النخعي عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال:
علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها - فكنا نحفظ عن
عبد الله حين أخبرنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه إياه؛ قال -:
فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى:
التحيات لله ... إلخ. ثم قال:
ثم إن كان في وسط الصلاة؛ نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها؛
دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم.
لكن في ثبوت الحديث بهذه الألفاظ نظر؛ فإنه قد تفرد به ابن إسحاق مخالفاً لغيره
ممن هو أوثق منه وأحفظ. وقد قال الذهبي - بعد أن ساق أقوال الأئمة فيه -:
" فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق. وما انفرد
به؛ ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئاً ".
قلت: وذِكْرُ التورك والتشهد الأوسط منكرٌ في حديث ابن مسعود هذا؛ فقد أخرجه
الشيخان والأربعة وغيرهم من طرق كثيرة، وليس فيه هذا الذي ذكره ابن إسحاق. والله أعلم.
(1) هو من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه.
رواه محمد بن إسحاق: ثني علي بن يحيى بن خلاد بن رافع عن أبيه عن عمه
رفاعة. وزاد في آخره:
" ثم تشهد، ثم إذا قمت؛ فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك ".
أخرجه أبو داود وغيره - كما سبق في (الاستقبال) -.
وسنده حسن.(3/832)
{وقال أبو هريرة رضي الله عنه:
" ونهاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اقعاء كإقعاء الكلب " (1) ، وفي حديث آخر:
" كان ينهى عن عُقْبَةِ الشيطان " (2) .
و" كان إذا قعد في التشهد؛ وضع كفه اليمنى على فخذه (وفي رواية:
ركبته) اليمنى، ووضع كفه اليسرى على فخذه (وفي رواية: ركبته)
اليسرى؛ [باسطها عليها] " (3) } .
__________
وقد تابعه في متنه محمد بن عمرو، لكن بلفظ:
" إذا سجدت؛ فمكن لسجودك، فإذا رفعت؛ فاقعد على فخذك اليسرى ".
أخرجه أبو داود أيضاً.
إلا أن هذا يحتمل أن يكون أراد به القعود بين السجدتين، ويحتمل أنه القعود
للتشهد. والله أعلم.
(1) { [رواه] الطيالسي، وأحمد، وابن أبي شيبة. انظر التعليق (1) (ص 644) .
و (الإقعاء) - قال أبو عبيد وغيره -:
" هو أن يلزق الرجل أليتيه بالأرض وينصب ساقيه، ويضع يديه بالأرض، كما
يقعي الكلب ".
قلت: وهذا غير الإقعاء المشروع بين السجدتين - كما تقدم هناك -} .
(2) {رواه مسلم، وأبو عوانة، وغيرهما. وهو مخرج في " إرواء الغليل " (316) ،
[وسبق تخريجه (ص 177 -178) ] } .
(3) { [رواه] مسلم، وأبو عوانة، [وسيأتي تخريجه مفصلاً من حديث ابن عمر
(ص 838) } .(3/833)
و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع حَدَّ (1) مَرْفقِهِ الأيمن على فخذه اليمنى " (2) .
__________
(1) في " النهاية ":
" لكل حرف حدّ. أي: نهاية. ومنتهى كل شيء حدُّه ".
قلت: وكأن المراد أنه كان لا يُجافي مَرْفِقَهَ عن جنبه في هذا الجلوس؛ لأنه لو
جافى؛ لم يكن نهاية مَرْفِقِهِ على فخذه؛ بل يكون خارجاً عنه.
ثم رأيت ابن القيم رحمه الله قد صرح بذلك في " الزاد " (1/92) ، ونص كلامه:
" وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبسط ذراعه على فخذه، ولا يجافيها، فيكون حد مرفقه عند آخر
فخذه، وأما اليسرى؛ فممدودة الأصابع على الفخذ اليسرى ".
(2) هو من حديث وائل بن حجر قال:
قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يصلي.
فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستقبل القبلة، فرفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم أخذ
شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع؛ رفعهما مثل ذلك، ووضع يديه على ركبتيه، فلما رفع
رأسه من الركوع؛ رفعهما مثل ذلك، فلما سجد؛ وضع رأسه بذلك المنزل من يديه، ثم
جلس، فافترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، وحدَّ مرفقه
الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين وحلق، ورأيته يقول هكذا - وأشار بشر بالسبابة
من اليمنى، وحلق الإبهام والوسطى -.
أخرجه أبو داود (1/115) ، والنسائي (1/186) من طريق بِشْر بن المُفَضَّل قال: ثنا
عاصم بن كُلَيب عن أبيه عنه.
وقد تابعه زهير بن معاوية، وعبد الواحد بن زياد - عند أحمد (2/316 و 318) -،
وزائدة - عند النسائي -، وغيرهم -؛ ثلاثتهم عن عاصم به.(3/834)
و " نهى رجلاً وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة؛ فقال:
" إنها صلاةُ اليهود " ". وفي لفظ:
" لا تجلسْ هكذا؛ إنما هذه جِلْسَة الذين يعذَّبون " (1) ..........................
__________
وإسناده صحيح. وقد تقدم من طريق زائدة في (وضع اليمنى على اليسرى)
[ص 209] . ويأتي الإشارة إليه قريباً.
(1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
أخرجه الحاكم (1/272) ، ومن طريقه البيهقي (2/136) عن إبراهيم بن موسى:
ثنا هشام بن يوسف عن مَعْمَر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عنه. وقال:
" صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. {وهو مخرج مع ما
بعده في " الإرواء " (380) } .
وقد تابعه عبد الرزاق عن معمر:
أخرجه أبو داود (1/157) ، والحاكم أيضاً (1/230) ، وعنه البيهقي (2/135) ،
وأحمد (2/147) ، والطبراني، وعنه الضياء المقدسي في " المختارة "، وابن حزم في
" المحلى " (4/19) ؛ كلهم عن عبد الرزاق به - مختصراً - بلفظ:
نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده - زاد الحاكم
في رواية: - اليسرى. وقال:
" صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا أيضاً. ولفظ أحمد
والمقدسي:
" يديه " بالتثنية.(3/835)
..............................................................................
__________
ولعلها محرفة؛ فإن وصفها باليسرى عند الحاكم يدل على أنها واحدة. وقد رواه
أبو داود بلفظ:
نهى أن يعتمد الرجل على يده إذا نهض في الصلاة.
فقوله: إذا نهض. زيادة ضعيفة؛ لأنها من طريق محمد بن عبد الملك الغزال، وهو
- وإن كان ثقة؛ فإنه - كثير الخطأ - كما قال مسلمة -، وقد خالف الثقات في هذه
الزيادة؛ فهي مردودة.
وأما قول النووي في " المجموع " (3/445) :
" مجهول ". فليس بصواب - كما بيناه في " التعليقات الجياد " -.
هذا، وقد تابع معمراً عبدُ الوارث؛ لكنه أوقفه، وخالفه في متنه. فقال: عن
إسماعيل بن أمية:
سألت نافعاً عن الرجل يصلي وهو مشبك يديه؟ قال: قال ابن عمر:
تلك صلاة المغضوب عليهم.
رواه أبو داود.
وعبد الوارث: هو ابن سعيد بن ذكوان، وهو ثقة ثبت - كما في " التقريب " -، فلعل
ما رواه قضية أخرى. والله أعلم.
وأما اللفظ الآخر؛ فأخرجه الإمام أحمد (2/116) من طريق آخر؛ فقال: ثنا
محمد بن عبد الله بن الزبير: ثنا هشام - يعني: ابن سعد - عن نافع عن ابن عمر:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلاً ساقطاً يده في الصلاة، فقال: ... فذكره.
وهذا إسناد جيد. وهو على شرط مسلم.(3/836)
وفي حديث آخر: " هي قِعْدَة المغضوب عليهم " (1) .
__________
وقد أخرجه أبو داود (1/157) ، والبيهقي (2/136) من طرق أخرى عن هشام به
موقوفاً بنحوه.
وله شاهد؛ وهو الآتي:
(1) هو من حديث عَمْرو بن الشَّرِيد عن أبيه:
فقال عبد الرزاق: عن ابن جريج قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة: أنه سمع عمرو
ابن الشَّريد [عن أبيه] (*) عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أنه كان يقول في وضع الرجل شماله إذا جلس في الصلاة: ... فذكره.
ذكره عبد الحق في " أحكامه " (رقم 1284 - بتحقيقي) ، وسكت عليه مشيراً بذلك
إلى صحته.
وهو على شرط الشيخين.
وقد أخرجه أبو داود (4848) ، وأحمد (4/388) من طريق عيسى بن يونس: أنا
ابن جريج به؛ دون ذكر الصلاة.
__________
(*) وفي " المصنف " بدونها؛ كما في نقل عبد الحق.(3/837)
تحريكُ الإصْبَعِ في التشهد
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس [يتشهد] ؛ وضع كفَّه اليسرى على ركبته اليسرى
[باسطَها عليها] ، ويقبضُ أصابعَ كفِّه اليمنى كلها، ويشير بإصبعه التي تلي
الإبهام [في القبلة، ويرمي ببصره إليها - أو نحوها -] " (1) .
__________
(1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أخرجه مالك (1/111 - 112) عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبد الرحمن
المُعاوِي أنه قال:
رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة، فلما انصرفت؛ نهاني، وقال:
اصنع كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع.
فقلت: كيف كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع؟ قال:
كان إذا جلس في الصلاة؛ وضع ... الحديث.
وقد أخرجه مسلم (2/90 - 91) ، {وأبو عوانة [2/223] } ، وأبو داود (1/156) ،
والنسائي (1/186) ، ومحمد في " الموطأ " (106) ، وأحمد (2/65) ؛ كلهم عن مالك
به. وكذا البيهقي (2/130) (1) .
__________
(1) {وزاد فيه الحميدي في " مسنده " (131/1) ، وكذا أبو يعلى (275/2) بسندٍ صحيح عن
ابن عمر:
" وهي مذبّة الشيطان، لا يسهو أحد وهو يقول هكذا - ونصب الحميدي إصبعه - ".
قال الحميدي: قال مسلم بن أبي مريم:
" وحدثني رجل أنه رأى الأنبياء ممثلين في كنيسة في الشام في صلاتهم قائلين هكذا - ونصب
الحميدي إصبعه - ".
قلت: وهذه فائدة نادرة غريبة، وسندها إلى الرجل صحيح} .(3/838)
..............................................................................
__________
ثم أخرجه مسلم، والنسائي من طريق سفيان عن مسلم بن أبي مريم به نحوه. قال
سفيان: فكان يحيى بن سعيد يحدثنا به عن مسلم، ثم حدثنيه مسلم.
ورواه إسماعيل بن جعفر عن مسلم بن أبي مريم به. وفيه الزيادة الثالثة.
أخرجه {أبو عوانة [2/226] } ، والنسائي (173) ، والبيهقي (2/132) .
وهي صحيحة ثابتة.
ولها طريق أخرى:
أخرجها أحمد (2/119) قال: ثنا محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري: ثنا كثير
ابن زيد عن نافع قال:
كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة؛ وضع يديه على ركبتيه، وأشار بأصبعه
وأتبعها بصره، ثم قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لهي أشد على الشيطان من الحديد ". يعني: السبابة.
وهذا سند حسن أو قريب من الحسن؛ فإن رجاله كلهم ثقات رجال الستة؛ غير
كثير بن زيد، وهو صدوق يخطئ - كما في " التقريب " -.
ومن طريقه أخرجه {الطبراني في " الدعاء " (ق 73/1) = [ص 205/642 و 643] } ،
والبزار أيضاً؛ كما في " المجمع " (2/140) ، وقال عنه:
" وثقه ابن حبان، وضعفه غيره " (*) .
قلت: وأخرج المرفوعَ منه {الروياني في " مسنده " (249/2) = [290/1439] } ، والبيهقي
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لأبي جعفر البختري في " الأمالي " (60/1) ،
وعبد الغني المقدسي في " السنن " (12/2) بسند حسن.(3/839)
..............................................................................
__________
(2/132) من طريق الواقدي: ثنا كثير بن زيد به بلفظ:
" تحريك الإصبع في الصلاة مُذْعِرَةٌ للشيطان " (*) . وقال:
" تفرد به الواقدي. وليس بالقوي ".
كذا قال! ولم يتفرد به - كما رأيت -.
ولهذه الزيادة شاهد من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس في التشهد؛ وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى،
ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة، ولم يجاوز بصره إشارته.
وسنده حسن.
أخرجه أبو داود (1/156) ، والنسائي (1/187) ، {وابن خزيمة [1/355/718] } ،
والبيهقي (1/132) ، وأحمد (4/3) من طريق ابن عجلان: ثني عامر بن عبد الله بن الزبير
عن أبيه.
وعزاه الحافظ في " التلخيص " (3/500) لابن حبان أيضاً في " صحيحه ". وأصله
في " صحيح مسلم " - كما سيأتي -.
هذا، وأما الزيادة الأولى؛ فهي من طريق أخرى عن حماد بن سلمة عن أيوب عن
نافع عن ابن عمر بلفظ:
كان إذا قعد في التشهد؛ وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى
على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبابة.
أخرجه مسلم أيضاً، و {أبو عوانة [2/225] } ، والبيهقي، وأحمد (2/131) وقالا:
__________
(*) قال الشيخ رحمه الله في " ضعيف الجامع " (2401) : " ضعيفٌ جداً ".(3/840)
..............................................................................
__________
ودعا.. بدل: وأشار بالسبابة.
ورواه الدارمي (308) .
وأما الزيادة الثانية؛ فهي من طريق عبيد الله عن نافع نحو حديث مالك.
أخرجه مسلم أيضاً، و {أبو عوانة [2/225] } والنسائي (1/187) ، والترمذي (2/88) ،
وابن ماجه (1/295) ؛ كلهم عن عبد الرزاق عن معمر عنه. واقتصر الترمذي على قوله:
" حديث حسن ". وهو قصور! فالحديث صحيح لا شائبة فيه. ثم قال:
" والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين؛ يختارون
الإشارة في التشهد. وهو قول أصحابنا ". يعني: أهل الحديث.
وهو قول أثمتنا الثلاثة؛ فقد قال الإمام محمد - بعد أن ساق الحديث -:
" وبصنيع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نأخذ، وهو قول أبي حنيفة ". وقد ذكر أبو يوسف في
" الأمالي " كما ذكر محمد - على ما في " فتح القدير " وغيره -.
فالعجب من كثير من علمائنا الحنفية كيف أنهم اختاروا ترك الإشارة في التشهد مع
ثبوت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أئمتهم أيضاً! وقد ألف في ذلك الشيخ المحقق ملا علي القاري رسالة
نفيسة أثبت فيها هذه السنة، ورد على من خالفها، وأسماها " تزيين العبارة لتحسين الإشارة ".
ومن المهم بالنسبة للمقلدين أن نلخص أهم ما جاء فيها؛ فقد ساق الأحاديث
الصريحة في الإشارة:
منها: حديث ابن عمر وابن الزبير المتقدمين.
ومنها: حديث وائل بن حُجر - الآتي قريباً [ص 850]-.
ومنها: حديث أبي هريرة، وأبي حميد الساعدي، ونُمير الخُزاعي، وخُفَاف
الغفاري، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك، وعقبة بن عامر، وعبد الرحمن بن أبزى.(3/841)
..............................................................................
__________
وقد خرجها كلها وساق ألفاظها، وقد أضربنا صفحاً عن ذكر أكثرها؛ لأنها ليست
على شرطنا. ثم قال الشيخ عليٌّ بعد ذلك (ص 10) :
" فهذه أحاديث كثيرة بطرق متعددة شهيرة، ولا شك في صحة أصل الإشارة؛ لأن
بعض أسانيدها موجود في " صحيح مسلم ".
وبالجملة؛ فهو مذكور في " الصحاح الستّة " وغيرها؛ مما كاد أن يصير متواتراً؛ بل
يصح أن يقال: إنه متواتر معنىً؛ فكيف يجوز لمؤمن بالله ورسوله أن يعدل عن العمل به،
ويأتي بالتعليل في معرض النص الجليل؛ مع أن ذلك التعليل مدخول، صَدَرَ من
العليل، وهو ما قيل - نقلاً عن بعض المانعين للإشارة - بأن فيها زيادة رفع لا يحتاج
إليها، فيكون الترك أولى؛ لأن مبنى الصلاة على الوقار والسكينة!
وهو مردود بأنه لو كان الترك أولى؛ لما فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو على صفة الوقار والسكينة في
المقام الأعلى!
ثم لا شك أن الإشارة الى التفريد مع العبادة بالتوحيد نور على نور، وزيادة سرور
على سرور؛ فهو محتاج إليه؛ بل مدار الصلاة والعبادة والطاعة عليه.
وعلل بعضهم بأن فيه موافقة فرقة الرافضة، فكان تركه أولى؛ تحقيقاً للمخالفة أيضاً!
[وهذا] ظاهر البطلان من وجوه:
اما أولاً: فلأن عامتهم - على ما نشاهدهم في زماننا - لا يشيرون أصلاً، وإنما
يشيرون بأيديهم عند السلام، ويضربون على أفخاذهم؛ تأسفاً على فوت الإسلام.
فينقلب التعليل عليهم حجة لنا.
وأما ثانياً: فلأنه على تقدير صحة النسبة اليهم؛ فليس كل ما يفعلونه نحن
مأمورون بمخالفتهم به حتى يشمل أفعالهم الموافقة للسنة - كالأكل باليمين ونحو ذلك -؛(3/842)
..............................................................................
__________
بل يستحب ترك موافقتهم فيما ابتدعوه وصار شعاراً لهم - كما هو مقرر في المذهب -،
كوضع الحجر فوق السجادة؛ فإنه وإن كانت السجدة على جنس الأرض أفضل باتفاق
الأئمة مع جوازها على البساط والفَرْوِ ونحوهما عند أهل السنة؛ لكن وضع نحو الحجر
والمدر فوق السجادة بدعة ابتدعوها، وصار علامة لمعشرهم، فينبغي الاجتناب عن
فعلهم؛ لسببين:
أحدهما: نفس موافقتهم في البدعة؛ كما ورد في الحديث:
" خالفوا اليهود والنصارى ".
وثانيهما: رفع التهمة. وقد ورد: " اتقوا مواضع التهم " (*) .
ونظيره: الوقوف للدعاء في المستجار؛ فإنه صار من ذلك الشعار، وكذا: الخروج من
مكة إلى يلملم للإحرام خارج الحرم مع الاتفاق على جواز ما ذكر عند أرباب العلم
وأصحاب الحكم؛ بخلاف ما إذا شاركونا في سنة مستمرة؛ كالخروج لإحرام العمرة إلى
التنعيم والجِعِرَّانة.
فالحاصل: أن مخالفة المبتدعة في الأمر المباح يستحسن؛ زجراً لهم، ورجوعاً إلى
الصلاح.
وأما الإشارة المذكورة الثابتة على نهج الصواب؛ فليست من هذا الباب.
ثم من أدلتها الإجماع؛ إذ لم يعلم من الصحابة ولا من علماء السلف خلاف في
هذه المسألة، ولا في جواز هذه الإشارة، ولا في تصحيح هذه العبارة؛ بل قال به إمامنا
الأعظم وصاحباه، وكذا الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وسائر علماء الأمصار
والأعصار؛ على ما ورد به صحاح الأخبار والآثار، وقد نص عليها مشايخنا المتقدمون
__________
(*) ولا أصل له مرفوعاً - كما في " الضعيفة " (113) -.(3/843)
..............................................................................
__________
والمتأخرون، فلا اعتداد لما عليه المخالفون، ولا عبرة لما ترك هذه السنة الأكثرون من سكان
ما وراء النهر وأهل خراسان، والعراق والروم وبلاد الهند؛ ممن غلب عليهم التقليد،
وفاتهم التحقيق والتأييد من التعلق بالقول السديد ". ثم ساق أقوال المشايخ في إثبات
الإشارة، وفي صفتها، ثم قال (18) :
" وقد أغرب الكَيْداني حيث قال:
والعاشر من المحرمات: الإشارة بالسبابة كأهل الحديث. أي: مثل إشارة جماعةٍ
يجمعهم العلم بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام! وهذا منه خطأ عظيم، وجرم
جسيم، منشؤه الجهل عن عقائد الأصول، ومراتب الفروع من النقول، ولولا حسن الظن
به وتأويل كلامه بسببه؛ لكان كفراً صريحاً، وارتداداً صحيحاً! فهل يجهل المؤمن أن
يُحَرِّمَ ما ثبت فِعله منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كاد نقله أن يكون متواتراً، ويمنعَ جواز ما عليه عامة
العلماء كابراً عن كابر مكابراً؟!
والحال: أن الإمام الأعظم، والهمام الأقدم قال: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم
يعرف مأخذه من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، والقياس الجلي في المسألة. وقال
الشافعي: إذا صح الحديث على خلاف فعلي؛ فاضربوا قولي على الحائط، واعملوا
بالحديث الضابط.
فإذا عرفت هذا؛ فاعلم أنه لو لم يكن نص الإمام على المرام؛ لكان على المقتفين
من أتباعه من العلماء الكرام - فضلاً عن العوام - أن يعملوا بما صح عنه عليه الصلاة
والسلام.
وكذا لو صح عن الإمام - فرضاً - نفيُ الإشارة، وصح إثباتها عن صاحب البشارة؛
فلا شك في ترجيح المثبت المسند إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كيف وقد طابق نقله الصريح ما ثبت عنه
عليه الصلاة والسلام بالإسناد الصحيح؟!(3/844)
..............................................................................
__________
فمن أنصف ولم يتعسف؛ عرف أن هذا سبيل أهل التَّدَيُّن من السلف والخلف،
ومن عدل عن ذلك؛ فهو هالك بوصف الجاهل المعاند المكابر؛ ولو كان عند الناس من
الأكابر.
وغاية ما يعتذر به عن بعض المشايخ حيث منعوا الإشارة وذهبوا إلى الكراهة: عدم
وصول الأحاديث إليهم، وقد ورد اختلاف فعلها وتركها عليهم، فظنوا أن تركها أولى ".
قال:
" فالجاهل بالأخبار النبوية والآثار المصطفوية لما رأى أن بعض الناس يشيرون عملاً
بالسنة، وبعضهم يتركون الإشارة، إما للجهل، أو للكسل، أو للغفلة؛ فقال: تركها
أولى؛ لأنها زيادة في المبنى على أصل المعنى. فجاء بعده غيره وقال: هي مكروهة.
وأراد أنها كراهة تنزيه؛ لكن لم يجعل عليه من تنبيه! فتوهم مَنْ بعدهم أنه حرام،
وحسب أنه في الدين لعظيم؛ بناءً على أن الكراهة إذا أطلقت؛ فهي كراهة تحريم! ثم
قال مَنْ بعده: ما كره؛ فهو حرام عند محمد؛ لا سيما وهو متعلق بعبادة الأحد!!
فانظر كيف تدرج الجهلُ، وتركب في نظر العقل العاري عن النقل إلى أن جعل
السنة المشهورة من الأمور المنهية المحرمة المهجورة! فاعلم أن تعريف الحرام: ما ثبت نهيه
بالدليل القطعي من الكتاب والحديث.
ومن القواعد المقررة أن تحريمَ المباحِ حرامٌ؛ فكيف السنة الثابتة عنه عليه الصلاة
والسلام؟! مع أنه يكفي في موجب تكفير الكيداني إهانةُ المحدِّثين الذين هم عمدة أئمة
الدين المفهوم من قوله: كأهل الحديث. المفضية إلى قلة الأدب المقتضي لسوء الخاتمة؛ إذ
من المعلوم أن أهل القرآن أهل الله، وأهل الحديث أهل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وأُنشد في هذا
المعنى:
أهل الحديث هُمُ أهل النبي وإن لم ... يصحبوا نَفْسَهُ أنفاسَه صحبوا(3/845)
..............................................................................
__________
أماتنا الله على محبة المحدثين وأتباعهم من الأئمة المجتهدين، وحشرنا مع العلماء
العاملين تحت لواء سيد المرسلين. والحمد لله رب العالمين ". اهـ كلامه رحمه الله.
هذا؛ وفي " التعليق الممجد على موطأ محمد " لعبد الحي اللكنوي (106) :
" وقد ذكر ابن الهُمَام في " فتح القدير "، والشُّمُنِّي في " شرح النقاية " وغيرهما أنه
ذكر أبو يوسف في " الأمالي " مثل ما ذكر محمد.
فظهر أن أصحابنا الثلاثة اتفقوا على تجويز الإشارة؛ لثبوتها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه
بروايات متعددة وطرق متكثرة، لا سبيل إلى إنكارها، ولا إلى ردها. وقد قال به غير
واحد من العلماء؛ حتى قال ابن عبد البر:
" إنه لا خلاف في ذلك ".
وإلى الله المشتكى من صنيع كثير من أصحابنا من أصحاب الفتاوى - كصاحب
" الخلاصة "، و " البزّازية الكبرى "، و " العَتّابية "، و " الغِياثية "، و " الولوالجية "، و " عمدة
المُفْتِي "، و " الظهيرية "، وغيرها -؛ حيث ذكروا أن المختار هو عدم الإشارة! بل ذكر بعضهم
أنها مكروهة!
والذي حملهم على ذلك سكوتُ أئمتنا عن هذه المسألة في ظاهر الرواية، ولم
يعلموا أنه قد ثبت عنهم بروايات متعددة، ولا أنه ورد في أحاديث متكثرة.
فالحذر الحذر من الاعتماد على قولهم في هذه المسألة مع كونه مخالفاً لما ثبت عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ بل وعن أئمتنا أيضاً!
بل لو ثبت عن أئمتنا التصريح بالنفي، وثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه
الإثبات؛ لكان فِعل الرسول وأصحابه أحق وألزم بالقبول؛ فكيف وقد قال به أئمتنا
أيضاً؟! ".(3/846)
..............................................................................
__________
وقد ذكر نحو هذا في كتابه " عمدة الرعاية " (1/38) ، وتعجب كل العجب من
المشايخ المذكورين الذين اختاروا ترك الإشارة وكراهتها، ثم قال:
" وزاد عليهم الكَيْداني في "خُلاصته " نغمةً في الطنبور؛ فعدها من المحرمات "!
وقال في حاشية " غيث الغمام على إمام الكلام " (ص 41) :
" هذا القول من الأقوال الخبيثة المردودة؛ لمخالفته لما ثبت عن أئمتنا الثلاثة من سنية
الإشارة - كما صرح به محمد في " موطئه "، وأبو يوسف في " الأمالي " -. والعجب مِنْ
جَمْعٍ مِنَ الحنفية كيف أفتوا بكراهة الإشارة مع ثبوتها عن صاحب الشرع وإمام
المذهب؟! ".
قلت: وأعجب من ذلك أن هؤلاء المفتين يقولون بأن باب الاجتهاد مغلق من بعد
القرون الأربعة، ثم هم يجتهدون في هذه المسألة، فيخالفون فيها نصوص أئمتهم
المقلَّدين، والآثارَ المرويةَ عن الصحابة والتابعين، والأحاديثَ الصحيحةَ عن سيد
المرسلين؛ مع أنه (لا اجتهاد في معرض النص) باتفاقهم، فليتهم لم يقولوا قولهم هذا!
وليتهم وقفوا عنده! والله المستعان.
وقد كان جرى بحث بيني وبين بعض مشايخي حول هذه المسألة؛ فإنه من القائلين
بالمنع رغم كونه قد اطلع على الأحاديث المشار إليها، وعلى أقوال الأئمة الواردة في
ذلك.
فقلت له: لم لا ترفع أصبعك في الصلاة؟!
فاحتج بحجتين: الأولى قديمة معروفة، وقد سبقت في كلام القاري - وهي كون
الصلاة مبنية على السكون والهدوء، وأجاب عنها بما تقدم.
أما أنا؛ فقلت له: (إذا جاء الأثر؛ بطل النظر، ولا رأي مع النص) ! وهل مثلك إلا(3/847)
..............................................................................
__________
مثل من يقول: أنا لا أركع في الصلاة، ولا أسجد؛ لأن في ذلك من الحركات
والانتقالات ما لا يتفق مع الصلاة أو السكون فيها!
وهل لك ما تجيبه على ذلك إلا أن تقول: إن الذي أمرنا بالسكون في الصلاة هو
الذي أمرنا بهذه الحركات والانتقالات، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا} ، فهذا الجواب هو جوابنا لك وكفى. فسكت!
وأما حجته الأخرى؛ فهي قوله: لما كان العلماء قد اختلفوا في صفة الرفع؛
فبعضهم يقول: يرفع المسبحة مع قبض الأصابع الأخرى. وبعضهم يقول: يبسط هذه
الأخرى ويرفع المسبحة. وبعضهم يقول: يرفعها عند النفي ويضعها عند الإثبات.
وبعض يعكس ذلك. وبعضهم يقول: يقبض الأصابع عند وضع اليدين في أول
التشهد. وبعضهم إنما يفعل ذلك عند التهليل. وبعضهم يحرك المسبِّحة. وبعضهم لا
يحركها. فلما رأيناهم اختلفوا في ذلك؛ تركنا هذه السنة؛ لأننا لم نعرف صفتها!
فقلت له: لا يلزم من الاختلاف في صفة شيء ما تركُهُ مطلقاً أو إنكاره! وإلا؛
لزمك أن تترك أشياء كثيرة اختلف فيها العلماء حتى علماء مذهبك! فخذ مثالاً على
ذلك: سنية وضع اليمنى على اليسرى في القيام في الصلاة؛ فبعضهم يقول بأن السنة
القبض. وبعضهم: الوضع. وبعضهم: الجمع بينهما. هذا في مذهبك. وأما في
المذاهب الأخرى؛ فالخلاف أشد؛ فبعضها تقول بأن الوضع يكون تحت السرة. وبعضها:
فوقها. وبعضها: على الصدر. بل إن الإمام مالكاً لا يرى مشروعية الوضع مطلقاً - في
رواية عنه -؛ فهل تترك أنت هذه السنة لهذه الاختلافات في كيفيتها؛ بل وفي أصلها
أيضاً؟! فبهت.
ثم قلت: لا ينجيك من هذه الاختلافات إلا الرجوع إلى ما أمرنا الله تعالى به في
قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ(3/848)
..............................................................................
__________
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
هذا ما قلته وقتئذٍ، والأمر يحتاج إلى شيء من التفصيل:
أما وضع اليدين في القيام؛ فقد سبق بيان ما يثبت في السنة من ذلك في محله.
وأما المسألة التي نحن فيها؛ فاعلم أن تلك الاختلافات لا أصل لها في السنة؛ بل
بعضها مداره على روايات مجملة، وبعضها مجرد رأي واجتهاد!
أما القبض والبسط؛ فالأول هو الثابت صراحة في حديث ابن عمر، وعبد الله
ابن الزبير، ووائل بن حجر.
وأما البسط؛ فلم يصرح به في حديث ما، وحجة من ذهب إليه: أنه لم يذكر
القبض بعض الصحابة في أحاديثهم! وهذا ليس بشيء؛ فإن أحاديث هؤلاء في هذه
المسألة مجملة، وأحاديث أولئك مفصلة، والمفصل يقضي على المجمل - كما في الأصول
تقرر -.
وأما وقت الرفع؛ فلم نجد في ذلك حديثاً يعينه ويحدده، فهو اجتهاد محض ليس
عليه دليل.
وهذا بناء على أن السنة أن لا تحرك المُسَبِّحة من أول التشهد إلى آخره إلا عند
التهليل. وليس كذلك - كما سيأتي -.
وأما وقت قبض الأصابع الأخرى؛ فالظاهر من الأحاديث المتقدمة أنه من أول
التشهد؛ لأنها تقول:
كان إذا جلس؛ وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها.
وليس لهذا الظاهر معارض؛ فوجب الأخذ به.(3/849)
و " كان إذا أشار بإصبعه؛ وضع إبهامه على إصبعه الوسطى " (1) . وتارة
" كان يحلِّق بهما حلقة " (2) .
__________
وأما اختلافهم في استمرار التحريك؛ فالصواب الذي لا شك فيه مع من أثبته؛
لأنه ثابت في حديث وائل بن حجر.
لكنهم اختلفوا أيضاً في صفته - كما سيأتي بيانه قريباً -.
(1) هو من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قعد يدعو؛ وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده
اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بأصبعه السبابة، ووضع إبهامه على أصبعه
الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته.
أخرجه مسلم (2/90) ، والبيهقي (2/131) ؛ كلاهما من طريق أبي بكر بن أبي
شيبة: ثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه.
وابن عجلان: إنما أخرج له مسلم مقروناً بغيره. لكن يشهد لموضع الشاهد من
حديثه هذا حديثُ ابن عمر المتقدم [ص 840] :
وعقد ثلاثة وخمسين.
فقد فسروا هذا العقد بأن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويرسل الإبهام إلى أصل
المسبِّحة - كما في " التلخيص " (3/499) ، و " تزيين العبارة " (2) -. وقد اختار هذه
الصفة الشافعية، مع تجويزهم الصفة الأخرى الآتية.
(2) هو قطعة من حديث وائل بن حُجْر في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام
بلفظ:
ثم قبض اثنين من أصابعه، وحلق حلقة ... الحديث.(3/850)
..............................................................................
__________
وقد مضى في (قبض اليدين) في (القيام) [ص 209] .
وقد رواه البيهقي (2/131) من طريق خالد بن عبد الله: ثنا عاصم بن كُلَيب عن
أبيه عنه بلفظ:
ثم عقد الخنصر والبنصر، ثم حلق الوسطى بالإبهام، وأشار بالسبابة.
وفي لفظ:
وعقد أصابعه، وجعل حلقة بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى.
رواه سعيد بن منصور في " سننه "، وكذا أبو يعلى - كما في رسالة القاري (7 و 10) -.
ورواه عبد الرزاق بلفظ:
ووضع الإبهام على الوسطى، وحلق بها.
وقد اختار هذه الصفة علماؤنا الحنفية، مع تجويزهم الصفة الأولى؛ عكس الشافعية
- كما سبق -، وقد قال البيهقي - بعد أن ساق الحديث -:
" ونحن نجيزه، ونختار ما رويناه في حديث ابن عمر، ثم ما روينا في حديث ابن
الزبير؛ لثبوت خبرهما، وقوة إسناده، ومزية رجاله، ورجاحتهم في الفضل على عاصم
ابن كُلَيب ".
والحق: أنه لا تفضيل بين الصفتين؛ بل كل منهما سنة ينبغي العمل بكل منهما
أحياناً.
وقد أشار إلى ذلك شارح " منية المصلي "؛ حيث ذكر الصفتين بدون أن يرجح
إحداهما على الأخرى؛ ولذلك قال الشيخ علي القاري (18) :
" وهو يفيد التخيير بين نوعي الإشارة الثابتين عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قول حسن،(3/851)
و " كان إذا رفع أصبعه السبابة؛ يحركها يدعو بها " (1) ، ويقول:
" لهي أشد على الشيطان من الحديد ". يعني: السبابة (*) .
__________
وجمع مستحسن؛ فينبغي للسالك أن يأتي بأحدهما مرة وبالآخر أخرى؛ فإنه بالتحري
أحرى ".
وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى.
وذهب ابن القيم في " زاد المعاد " (1/92) إلى أن حديث ابن عمر ووائل بن حُجْر
مؤداهما إلى صفة واحدة، محاولاً في ذلك الجمع بين الروايات!
وفيه بُعد؛ لتصريح وائل دون ابن عمر بالتحليق. والله أعلم.
(1) هو قطعة من حديث وائل المشار إليه آنفاً.
وهو حديث صحيح - كما تقدم، ويأتي قريباً (*) -.
وقد عارضه حديث عبد الله بن الزبير:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشير بأصبعه إذا دعا، ولا يحركها.
أخرجه أبو داود (1/156) ، والنسائي (1/187) ، والبيهقي (2/131) من طريق
زياد بن سعد عن محمد بن عجلان عن عامر بن عبد الله عنه. وقال النووي (3/454) :
" إسناده صحيح "!
وليس بصحيح؛ فإن ابن عجلان متكلَّم فيه. وهو حسن الحديث، إذا سلم من =
(*) سبق تخريجه والكلام عليه (ص 839 - 840) .
__________
(*) وانظر تصحيح الشيخ رحمه الله له في " الإرواء " (2/68 - 69) ، و " صحيح أبي داود "
(717) ، و " تمام المنة " (ص 218 - 222) ، و " السلسلة الصحيحة " (7/551 - 554) .(3/852)
..............................................................................
__________
= علته. والواقع أنه معلول من وجوه:
أولاً: أنه قد اختلف عليه في قوله: (ولا يحركها) :
فرواه عنه زياد بن سعد هذا بهذه الزيادة.
وخالفه الليث بن سعد وأبو خالد الأحمر- عند مسلم، والبيهقي -، وابن عيينة - عند
الدارمي (1/308) ، وأحمد (4/3) -، ويحيى بن سعيد - عنده، وكذا أبي داود،
والنسائي -؛ فرواه أربعتهم عن ابن عجلان بدون هذه الزيادة.
ثانياً: أن عثمان بن حكيم رواه عن عامر كذلك بدونها.
وتابعه مَخْرَمة بن بُكَير: عند النسائي (1/173) ، والبيهقي (2/132) .
فقد اتفق كل من روى الحديث عن عامر على ترك هذه الزيادة؛ إلا رواية عن ابن
عجلان، وهي شاذة؛ لما سبق. ولذلك قال ابن القيم (1/85) :
" فهذه الزيادة في صحتها نظر، وقد ذكر مسلم الحديث بطوله في " صحيحه " عنه،
ولم يذكر هذه الزيادة. وأيضاً: فليس فيه أن هذا كان في الصلاة. وأيضاً: لو كان في
الصلاة؛ لكان نافياً، وحديث وائل مثبتاً - وهو مقدم -، وهو حديث صحيح، ذكره أبو
حاتم في " صحيحه ".
{ولحديث التحريك شاهد في " ابن عدي " (1/287) ، وقال في راويه عثمان بن مِقْسَم:
" ضعيف، يُكتب حديثه "} .
وقوله: " يدعو بها "؛ قال الإمام الطحاوي في " شرح المعاني " (1/153) :
" فيه دليل على أنه كان في آخر الصلاة ".
قلت: وذلك لأن الدعاء إنما يشرع عند الجمهور - خلافاً لابن حزم كما سيأتي - في
التشهد الذي يليه السلام؛ كما هو ثابت في السنة، ففي ذلك دليل أيضاً على أن السنة(3/853)
..............................................................................
__________
أن يستمر في الإشارة، وفي تحريكها إلى السلام؛ {لأن الدعاء قبله، وهو مذهب مالك
وغيره، وسئل الإمام أحمد: هل يشير الرجل بإصبعه في الصلاة؟ قال:
" نعم؛ شديداً ". ذكره ابن هاني في " مسائله عن الإمام أحمد " (ص 80) .
قلت: ومنه يتبين أن تحريك الإصبع في التشهد سنة ثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عمل
بها أحمد وغيره من أئمة السنة؛ فليتق الله رجال يزعمون أن ذلك عبث لا يليق
بالصلاة؛ فهم من أجل ذلك لا يحركونها مع علمهم بثبوتها، ويتكلفون في تأويلها بما لا
يدل عليه الأسلوب العربي، ويخالف فهم الأئمة له!
ومن الغرائب: أن بعضهم يدافع عن الإمام في غير هذه المسألة - ولو كان رأيه فيها
مخالفاً للسنة -؛ بحجة أن تخطئة الإمام يلزم منها الطعن فيه وعدم احترامه! ثم ينسى
هذا؛ فيرد هذه السنة الثابتة، ويتهكم بالعاملين بها، وهو يدري - أو لا يدري - أن تهكمه
يصيب أيضاً هؤلاء الأئمة الذين من عادته فيهم أن يدافع عنهم بالباطل، وهم هنا أصابوا
السنة! بل إن تهكمه به يصيب ذات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه هو الذي جاءنا بها، فالتهكم بها
تهكم به، {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا ... } ؟!} .
وأمأ قول الشيخ علي القاري في " تزيين العبارة " (17) :
" إن الصحيح المختار عند جمهور أصحابنا أنه يشير بالمسبّحة؛ رافعاً لها عند النفي
واضعاً لها عند الإثبات، ثم يستمر على ذلك؛ لأنه ثبت العقد عند الإشارة بلا
خلاف، ولم يوجد أمر يُغَيِّرُهُ؛ فالأصل إبقاء الشيء على ما هو عليه، واستصحابه إلى
آخر أمره ومآله إليه ".
فكلام غير صحيح من حيث الدليل؛ لأنه مبني على أن الوضع ثابت في السنة
بعد الرفع، وليس كذلك - كما سبق -.(3/854)
..............................................................................
__________
وعليه يعود الأصل الذي ذكره عليه؛ فإنا نقول: إذا كان قد ثبت في السنة الرفع،
ثم لم يرد الوضع بعد ذلك؛ فالأصل إبقاء الشيء على ما هو عليه، واستصحابه إلى آخر
أمره ومآله إليه. فهذا الأصل يقتضي إبقاء الأصبع مرفوعة إلى آخر التشهد كما لا
يخفى. هذا يقال لو لم يأت الحديث مبيناً لذلك؛ فكيف وقد اتفق الأصل والفرع؟!
وقد وجدت في ذلك حديثاً آخر - وإن كان في صحته نظر؛ فإنه في الشواهد
معتبر -، وهو:
ما أخرجه الترمذي (2/278 - طبع بولاق) من طريق عبد الله بن مَعْدَان: أخبرني
عاصم بن كُليب الجَرْمي عن أبيه عن جده قال:
دخلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي، وقد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى،
ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه، وبسط السبابة؛ وهو يقول:
" يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك ".
وكذلك رواه أبو يعلى، والبغوي، ومُطَيِّن، والباوَرْدي، والطبري عن ابن معدان به
- كما في " الإصابة " (2/159) -، وقال الترمذي، ثم البغوي:
" غريب ". ثم قال الحافظ:
" رجاله موثقون؛ إلا أن أبا داود قال: عاصم بن كُلَيب عن أبيه عن جده: ليس
بشيء ".
فهذا الحديث مثل حديث وائل في إثبات استمرار الرفع حتى الدعاء؛ لكنه أخص
من حديث وائل؛ فإن هذا يفيد استمرار التحريك أيضاً - كما هو مذهب مالك وغيره -،
وهو حجة على الشافعية.
وقول البيهقي (2/132) :(3/855)
..............................................................................
__________
" يحتمل أن يكون المراد بالتحريك الإشارة بها، لا تكرير تحريكها؛ فيكون موافقاً
لرواية ابن الزبير. والله أعلم ".
ليس بقوي؛ لأن هذا الاحتمال إنما يصح أن يقال لو كان حديث ابن الزبير النافي
للتحريك صحيحاً ثابتاً، وقد بينا فيما سبق أنه ليس كذلك؛ بل هو معلول، فيبقى حديث
وائل بدون معارض، وقد علم أن الفعل المضارع يفيد الاستمرار إلا لقرينة، وإذ ليس؛ فليس.
على أنه لو ثبت حديث ابن الزبير؛ لكان الأولى أن يقال: السنة تحريكها أحياناً،
وترك ذلك أحياناً؛ عملاً بالحديثين - كما قلنا ذلك في مواضع أخرى -. وهذا أولى من
قول ابن القيم المتقدم:
" إن حديث ابن الزبير نافٍ، وحديث وائل مثبت؛ وهو مقدم "!
فإن هذا يلزم منه رد الحديث الآخر - لو صح -، وليس بجيد!
ثم اعلم أنه لم يرد أي حديث - فيما علمنا - يبين كيفية التحريك، فالمصلي بالخيار
أن يحرك كيف يشاء؛ لكننا نرى - والعلم عند الله تعالى - أن يكون تحريكه لأصبعه
تحريكاً أقرب ما يكون إلى هيئة الصلاة والخشوع فيها.
(فائدة) : روى البيهقي (2/133) بإسنادين عن ابن عباس في الرجل يشير
بأصبعه؛ قال:
هو الإخلاص. قال:
" وعن أَبَان بن أبي عَيَّاش عن أنس بن مالك قال:
ذلك التضرع. وعن عثمان عن مجاهد قال:
مِقْمَعَةُ الشيطان ".
وفي معنى قول مجاهد هذا حديث مرفوع سبق ذكره غيرَ بعيد [ص 839 - 840] .(3/856)
{و " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ بعضهم على بعض. يعني: الإشارة
بالإصبع في الدعاء " (1) } .
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك في التشهدين جميعاً " (2) .
و" رأى رجلاً يدعو بأصبعيه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أحِّدْ (3) [أحِّدْ] "، [وأشار بالسبابة] " (4) .
__________
(1) { [رواه] ابن أبي شيبة (2/123/1) = [2/231/8429] و [6/88/29679]
بسندٍ حسن} .
(2) هو من حديث عبد الله بن الزبير. قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس في الثنتين أو في الأربع؛ يضع يديه على ركبتيه، ثم
أشار بأصبعه.
أخرجه النسائي (1/173) ، والبيهقي (2/132) من طريق ابن المبارك قال: أنبأنا
مَخْرَمة بن بُكَير قال: أنبأنا عامر بن عبد الله بن الزبير عنه.
وهذا إسناد صحيح.
(3) بكسر الحاء المشددة. وكرر للتأكيد بالوحدة، من التوحيد؛ أي: أَشِرْ بأصبع
واحدة؛ لأن الذي يدعوه واحد. وأصله: وحد. قلبت الواو همزة.
قلت: فما يفعله العامة عقب الوضوء من الإشارة بالسبابتين عند الشهادة؛ خلاف
أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
نسأله تعالى أن يجعلنا من المقتدين بسنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمهتدين بهديه.
(4) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
أن رجلاً كان يدعو ... إلخ.(3/857)
..............................................................................
__________
أخرجه النسائي (1/187) ، والترمذي (2/373 - طبع بولاق) ، والحاكم (1/536) (*)
من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عنه. وقال الترمذي:
" حديث حسن صحيح غريب "! وكذا صححه الحاكم - كما يأتي -! وإنما هو حسن
فقط؛ للخلاف في ابن عجلان.
نعم لم يتفرد به:
فقد أخرجه النسائي، والحاكم من طريق أبي معاوية، {وابن أبي شيبة
(2/123/2) = [ (2/232/8440) من طريق وكيع؛ كلاهما] } عن الأعمش عن أبي
صالح عن سعد قال:
مر علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أدعو بأصبعيّ، فقال:
" أَحَّدْ أَحَّدْ ". وأشار بالسبابة. وقال الحاكم:
" صحيح الإسنادين جميعاً؛ فأما حديث أبي معاوية؛ فهو صحيح على شرطهما؛
إن كان أبو صالح السمان سمع من سعد ". وقال الذهبي:
" صحيح بالإسنادين جميعاً ".
وهذا جزمٌ منه بصحة حديث أبي معاوية، وهو صواب؛ فقد ذكروا لأبي صالح
رواية عن سعد.
والحديث رواه أبو يعلى، {وابن أبي شيبة [ (2/231/8426) - وفيه التصريح بأن
الرجل هو سعد -] ) عن أبي هريرة:
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لابن أبي شيبة (12/40/1) ، وهو فيه
(6/88/29673) ؛ قال: " ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي صالح عنه؛ دون الزيادة الثانية،
وفيه التصريح بأن الرجل هو سعد رضي الله عنه.(3/858)
..............................................................................
__________
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبصر رجلاً يدعو بأصبعيه جميعاً، فنهاه، وقال:
" بإحداهما: باليمين ". قال في " المجمع " (10/168) :
" ورجاله رجال " الصحيح ". ورواه الطبراني في " الأوسط "؛ ولفظه:
نظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجل يشير بأصبعيه، فقال:
" أَوْحِدْ أوحد ".
ورجاله ثقات ".
وله شاهد من حديث أنس قال:
مر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسعد يدعو بأصبعين، فقال:
" أَحَّدْ يا سعد! ".
أخرجه أحمد. ولم يسم تابعيّه، وبقية رجاله رجال " الصحيح ".
وعن ابن عمر:
انه رأى رجلاً يشير بأصبعيه، فقبض إحدى إصبعيه، وقال:
إنما الله إله واحد.
رواه الطبراني موقوفاً. ورجاله رجال " الصحيح " ".
{وله شاهد عند ابن أبي شيبة} (*) .
__________
(*) انظر " المصنف " (2/231/8435 و 6/89/29684 و 29685) .(3/859)
وجوبُ التشهد الأول، ومشروعيةُ الدعاءِ فيه
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في كل ركعتين (التحية) " (1) .
{و " كان أول ما يتكلم به عند القعدة: (التحيات لله) " (2) } .
و" كان إذا نسيها في الركعتين الأوليين؛ يسجد للسهو (3) " (4)
. وكان
يأمر بها فيقول:
__________
(1) هوقطعة من حديث عائشة بلفظ:
وكان يقول في كل ركعتين التحية.
وقد مضى [ص 177] .
وهو وإن كان معلولاً - كما سبق بيانه -؛ فالمعنى صحيح؛ يشهد له ما بعده.
(2) {رواه البيهقي من رواية عائشة بإسناد جيد - كما قال ابن الملقن (28/2) -} .
(3) فيه إشارة إلى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يواظب على التشهد دائماً، ولعل هذا هو مستند
قول ابن القيم في " الهدي النبوي " (1/87) :
" ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتشهد دائماً ".
وإلا؛ فإني لم أقف على نص صريح في ذلك. والله أعلم.
وقد استدل بعض العلماء بالأحاديث المتقدمة - في عدم رجوعه إلى التشهد حينما
ذُكِّر - على أن التشهد الأول غير واجب. قال الحافظ (2/247) :
" ووجهه؛ أنه لو كان واجباً؛ لرجع إليه لمَّا سبحوا به بعد أن قام. وممن قال بوجوبه
الليث وإسحاق وأحمد في المشهور، وهو قول للشافعي، وفي رواية للحنفية ".
قلت: وفي هذا التوجيه نظر؛ فإن لقائل أن يقول: عدم رجوعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو لوجود
مانع شرعي؛ وهو الاستتمام قائماً - كما سبق في حديث المغيرة -، ولو أنه لم يستتم(3/860)
..............................................................................
__________
قائماً؛ لرجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولذلك أمر بالرجوع في هذه الحالة، فهو وحده دليل مستقل على
وجوب التشهد هذا. وهو الحق. وقد ثبت الأمر به في غير ما حديث - كما يأتي -. وقال
الشوكاني (2/228) :
" وتجبيره بالسجود دائماً يكون دليلاً على عدم الوجوب؛ إذا سلمنا أن سجود السهو
إنما يُجبر به المسنون دون الواجب؛ وهو غير مسلّم ".
(4) فيه أحاديث:
الأول: عن عبد الله ابن بُحَيْنَة أنه قال:
صلى لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى
صلاته ونظرنا تسليمه؛ كبر، ثم سجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، ثم سلم.
أخرجه مالك (1/118) ، وعنه الإمام محمد (104) ، والبخاري (3/171) ،
ومسلم (2/83) ، وأبو داود (1/162) ، والنسائي (1/181) ، والطحاوي (1/254) ،
والبيهقي (2/333 و 343 و 352) ، وأحمد (5/345) - كلهم عن مالك - عن ابن شهاب
عن الأعرج عنه.
وأخرجه الترمذي (2/235) ، وابن ماجه (1/364) ، وكذا البخاري (2/246) ،
ومسلم، والنسائي (1/186) ، والطحاوي، والبيهقي (2/134 و 352) ، وأحمد
(5/346) ؛ كلهم من طرق أخرى عن ابن شهاب به. وصححه الترمذي.
ثم أخرجه مالك، وعنه البخاري (3/72) ، ومسلم، والنسائي (1/175 و 276) ،
والدارمي (1/353) ، والدارقطني (144) ، والبيهقي (340 و 344) ، وأحمد (5/345) ؛
كلهم عن يحيى بن سعيد عن الأعرج به.
ثم أخرجه البخاري (2/247) عن جعفر بن ربيعة، والطحاوي عن يحيى بن أبي كثير؛(3/861)
..............................................................................
__________
كلاهما عن الأعرج به.
{وهو مخرج في " إرواء الغليل " (338) } .
الحديث الثاني: عن المغيرة بن شعبة. وقد روي عنه من طرق:
1- عن زياد بن عِلاقة قال:
صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين؛ قام ولم يجلس، فسبح به مَنْ
خلفه، فأشار إليهم: أن قوموا. فلما فرغ من صلاته؛ سلم، وسجد سجدتي السهو،
وسلم، وقال:
هكذا صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرجه أبو داود (1/163) ، والدارمي (1/353) ، وعنه الترمذي (2/201) ،
والطحاوي (1/255) ، والبيهقي (2/338) ، وأحمد (4/247) ؛ كلهم عن يزيد بن
هارون عن المسعودي عن زياد به. وقال الترمذي:
" حديث حسن صحيح ". وهو كما قال، لكن من غير هذا الوجه؛ فإن المسعودي
كان قد اختلط، ويزيد بن هارون سمع منه في الاختلاط - كما قال ابن نمير -.
لكن تابعه عنه أبو داود الطيالسي؛ فأخرجه في " المسند " (95) : ثنا المسعودي به.
وقد قال الإمام أحمد:
" وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومَنْ سمع منه بالكوفة والبصرة؛ فسماعه جيد ".
قلت: والطيالسي بصري؛ فلعله سمعه منه فيها.
2- عن عامر الشعبي قال:
صلى بنا المغيرة بن شعبة، فنهض في الركعتين؛ فسبح به القوم وسبح بهم، فلما
صلى بقية صلاته؛ سلم، ثم سجد سجدتي السهو وهو جالس، ثم حدثهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(3/862)
..............................................................................
__________
فعل بهم مثل الذي فعل.
أخرجه الترمذي (2/198 - 199) ، والبيهقي (2/344) ، وأحمد (4/248) من
طريق ابن أبي ليلى عنه. قال الترمذي:
" وقد تكلم بعض أهل العلم في ابن أبي ليلى من قبل حفظه ".
قلت: لكنه لم ينفرد بهذا الطريق؛ بل توبع عليه:
فأخرجه الطحاوي (1/255) عن بكر بن بكار قال: ثنا علي بن مالك الرُّوَّاسي
- من أنفسهم - قال: سمعت عامراً يحدث به.
وعلي بن مالك هذا لم أعرفه، إلا أن يكون هو البصري، وهو ضعيف.
3- عن قيس بن أبي حازم عن المغيرة مثله.
أخرجه الطحاوي من طريق جابر عنه.
وجابر - هو الجعفي -: ضعيف، لكن توبع عليه:
فقد ساقه بعده من طريق قيس بن الربيع وإبراهيم بن طَهْمان؛ كلاهما عن المغيرة
ابن شُبَيْل عن قيس بن أبي حازم به. وزاد: ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إذا صلى أحدكم، فقام من الجلوس؛ فإن لم يستتم قائماً؛ فليجلس، وليس عليه
سجدتان، فإن استوى قائماً؛ فَلْيَمْضِ في صلاته، ولْيَسجد سجدتين وهو جالس ".
وهذا إسناد صحيح.
وقد روى المرفوعَ منه - من قوله عليه الصلاة والسلام - أبو داود (1/163) ، وابن
ماجه (1/365) ، والبيهقي (2/343) ، وأحمد (4/253) من طريق جابر الجُعْفي عن
المغيرة بن شبيل.(3/863)
..............................................................................
__________
ولذلك ضعفه النووي في " المجموع " (4/122) ، والحافظ في " التلخيص "
(4/156) ، وذهلا عن رواية الطحاوي هذه الصحيحة المروية من طريق إبراهيم بن طهمان
- وهو ثقة من رجال " الصحيحين " -، مع متابعة قيس بن الربيع له - وهو صدوق حسن
الحديث -. وهذه فائدة قلما تجدها في كتاب (*) . والله الموفق.
الحديث الثالث: عن سعد بن أبي وقاص:
أنه نهض في الركعتين، فسبحوا به؛ فاستتم، ثم سجد سجدتي السهو حين
انصرف، وقال:
أكنتم تروني كنت أجلس؟! إنما صنعت كما رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع.
أخرجه الحاكم (1/322 - 323) ، والبيهقي (2/344) ، وابن حزم (4/174) من
طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا.
ورواه الطحاوي (1/256) من طريق بيانٍ أبي بِشْر الأحْمَسي قال: سمعت قيس
ابن أبي حازم به. دون قوله: إنما صنعت ... إلخ.
الحديث الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم صلاة العصر أو الظهر فقام في ركعتين؛ فسبحوا له،
فمضى في صلاته، فلما قضى الصلاة؛ سجد سجدتين، ثم سلم. قال الهيثمي
(2/151) :
" رواه البزار، ورجاله ثقات ".
__________
(*) انظر الكلام على فقه الحديث - بتوسّع - في " الصحيحة " (1/638 - 639) .(3/864)
" إذا قعدتم في كل ركعتين؛ فقولوا: (التحيات ... إلخ) ، وليتخير
أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فَلْيَدْعُ الله عز وجل [به] " (1) .
__________
(1) هو من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين غير أن نسبح، ونكبر، ونحمد ربنا، وإن
محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُلّمَ فواتحَ الخيرِ وخواتمَه؛ فقال:
" إذا قعدتم ... " الحديث.
أخرجه النسائي (1/174) ، والطحاوي (1/155) ، والبيهقي (2/148) ،
والطيالسي (39) ، وأحمد (1/437) ، والطبراني في " الكبير " { (3/251/1) } وفي
" الصغير " أيضاً (ص 146) من طرق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه.
وهذا سند صحيح على شرط مسلم.
ثم أخرجه أحمد (1/423) من طريق سفيان عن الأعمش ومنصوروحُصَين بن
عبد الرحمن بن أبي هاشم وحماد عن أبي وائل، وعن أبي إسحاق عن أبي الأحوص
والأسود عن عبد الله به.
وحديث الأعمش عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة؛ أخرجه الشيخان، وأصحاب
" السنن "، وغيرهم بلفظ:
" فإذا جلس أحدكم في الصلاة؛ فليقل: التحيات ... " إلخ.
وسيأتي لفظه بتمامه إن شاء الله تعالى [893] . وهو بإطلاقه يؤيده رواية أبي
إسحاق المفصلة؛ كما هو ظاهر.
{قلت: وظاهر الحديث يدل على مشروعية الدعاء في كل تشهد، ولو كان لا
يليه السلام. وهو قول ابن حزم رحمه الله تعالى} .(3/865)
وفي لفظ: " قولوا في كل جلسة: التحيات ... " (1) . وأمر به (المسيء
صلاته) أيضاً - كما تقدم آنفاً -.
__________
(1) أخرجه النسائي (1/174) من طريق زيد ابن أبي أُنيسة الجَزَري: أن أبا
إسحاق حدثه عن الأسود وعلقمة عن عبد الله بن مسعود قال:
كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نعلم شيئاً، فقال لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره.
وسنده صحيح أيضاً على شرط مسلم.
وقد استدل بالحديث من ذهب إلى وجوب التشهد الأول - وقد سبق ذكرهم قريباً -.
وممن ذهب إلى ذلك ابن حزم في " المحلى " (3/270) . ورواه النووي في " شرح
مسلم " عن فقهاء أصحاب الحديث؛ وذلك لأن الأصل في الأمر الوجوب، ولم يأتِ ما
يصلح أن يكون صارفاً له عن الوجوب. وقول النووي:
" إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلِّمه الأعرابيَّ حين علمه فروض الصلاة ".
ذهول منه؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّمه ذلك - كما في بعض الروايات في " سنن أبي داود " -.
وقد سبق بلفظ:
" فإذا جلست في وسط الصلاة؛ فاطمئن، وافترش فخذك اليسرى، ثم تشهد ".
والعجب من النووي كيف يجعل عدم ذكر هذا التشهد في حديث (المسيء) - بزعمه
- صارفاً للأمر به عن الوجوب، ثم لا يجعل عدم ذكر التشهد الأخير فيه صارفاً عن
الوجوب! بل يصرح في " المجموع " (3/462) بأن هذا فرض لا تصح الصلاة إلا به،
ويجيب عن حديث (المسيء) بقوله:
" قال أصحابنا: إنما لم يذكره له؛ لأنه كان معلوماً عنده ".
وهذه الحجة يستطيع كل أحد أن يقولها في كل ما هو واجب لم يأت ذكره في
حديث (المسيء) . قال الشوكاني (2/228) :(3/866)
و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن " (1) .
__________
" والحاصل أن حكمه حكم التشهد الأخير - وسيأتي -، والتفرقة بينهما ليس عليها
دليل يرتفع به النزاع، على أنه يدل على مزيد خصوصية للتشهد الأوسط ذكره في
حديث (المسيء) - كما تقدم - ".
(1) هو من حديث جمع من الصحابة رضي الله عنهم:
منهم: عبد الله بن مسعود قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن.
أخرجه أحمد (1/394) من طريق شَرِيك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عنه.
وهذا سند حسن. وذكره في " المجمع " (2/140) بزيادة:
ويقول: " تعلموا؛ فإنه لا صلاة إلا بتشهد ". وقال:
" رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه سعد بن سِنَان: ضعفه ابن معين. ورواه البزار
برجال موثقين، وفي بعضهم خلاف لا يضر إن شاء الله ".
وهو في " الصحيحين " من طريق أخرى بنحوه. وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
ومنهم: عبد الله بن عباس بلفظ ابن مسعود.
أخرجه مسلم (2/14) ، والنسائي (1/188) ، وأحمد (1/315) من طريق
عبد الرحمن بن حُمَيد: ثنا أبو الزبير عن طاوس عنه.
ورواه الليث عن أبي الزبير عن سعيد بن جُبير وعن طاوس عنه به.
رواه مسلم وغيره - كما يأتي [ص 895]-.
ومنهم: جابر بن عبد الله.
أخرج حديثه النسائي (1/175) ، وابن ماجه (1/292) ، والطحاوي (1/156) ،(3/867)
و " السنة إخفاؤه " (1) .
__________
والحاكم (1/266) ، وعنه البيهقي (2/142) من طرق عن أيمن بن نابل عن أبي الزبير
عنه به بزيادة:
" باسم الله، وبالله، التحيات ... " إلخ.
ورواه أحمد (5/363) من هذا الوجه، إلا أنه لم يسم الصحابي، ولم يذكر الزيادة.
وقال الحاكم - ووافقه الذهبي -:
" صحيح على شرط البخاري ".
وليس كما قال؛ فإن أيمن بن نابل حديثه في البخاري متابعة - كما في " التهذيب " -.
ثم إن الأئمة قد حكموا بخطئه في هذا الحديث؛ لقوله: عن أبي الزبير عن جابر.
وإنما هو عن أبي الزبير عن طاوس وسعيد بن جبير عن ابن عباس - كما سبق -. وخطَّؤوه
أيضاً في ذكره التسمية في التشهد.
وقد قال النووي في " المجموع " (3/457) :
هو حديث " ضعيف عند أهل الحديث؛ كما نقله المصنف عنهم، وكذا نقله
البغوي، وممن ضعفه: البخاري، والنسائي ". قال:
" وذكر الحاكم أنه حديث صحيح. ولا يقبل ذلك منه؛ فإن الذين ضعفوه أَحْمَلُ
من الحاكم وأتقن ".
وقد بسط الكلام على الحديث الحافظ في " التلخيص " (3/512 - 513) . فليراجعه
من شاء.
(1) هو من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال:
من السنة أن يُخفى التشهد.(3/868)
..............................................................................
__________
أخرجه أبو داود (1/156) ، والترمذي (2/84 - 85) ، والحاكم (1/267) ، وعنه
البيهقي (2/146) من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه
عنه. وقال الترمذي:
" حسن غريب ". والحاكم:
" صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. كذا قالا!
لكن أخرجه الحاكم (1/230) ، وعنه البيهقي من طريق أخرى عن العلاء بن
عبد الجبار العطار: ثنا عبد الواحد بن زياد: ثنا الحسن بن عُبيد الله عن عبد الرحمن بن
الأسود به. وقال:
" صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وليس كما قالا؛ فإن الحسن بن عُبيد الله
- وهو: النَّخَعي - ليس من رجال البخاري، والعلاء بن عبد الجبار العَطَّار ليس من رجال
مسلم.
فالحديث صحيح فقط. وإنما رجاله رجال الصحيح. ثم قال الترمذي:
" والعمل عليه عند أهل العلم ". وقال النووي (3/463) :
" أجمع العلماء على الإسرار بالتشهدين، وكراهة الجهر بهما، واحتجوا له بحديث
ابن مسعود هذا ".(3/869)
صِيَغُ التشهد
وعلمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنواعاً من صيغ التشهد:
1- تشهد ابن مسعود: قال:
__________
1- وهو أصح التشهدات الواردة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتفاق المحدثين؛ قال الترمذي - بعد أن
ساقه -:
" حديث ابن مسعود قد رُوي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث روي عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَن
بعدهم من التابعين، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق ". قال
الحافظ في " الفتح " (2/251) :
" وقال البزار - لما سئل عن أصح حديث في التشهد؟ قال -: هو عندي حديث ابن
مسعود، وروي من نيف وعشرين طريقاً. ثم سرد أكثرها، وقال: لا أعلم في التشهد
أثبت منه ولا أصح أسانيدَ ولا أشهر رجالاً. اهـ.
ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في " شرح السنة ".
ومن رجحانه أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في
ألفاظه؛ بخلاف غيره، وأنه تلقاه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلقيناً ".
والحديث أخرجه الإمام أحمد (1/414) قال: ثنا أبو نُعيم: ثنا سَيف قال:
سمعت مجاهداً يقول: ثني عبد الله بن سَخْبَرة أبو مَعْمَر قال: سمعت ابن مسعود
يقول: ... فذكره.
وهذا إسناد صحيح جداً؛ مسلسل بالتحديث والسماع، وهو على شرط الشيخين.
وهكذا، وبهذا الإسناد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في " مسنده " وفي " مصنفه "(3/870)
..............................................................................
__________
{ (1/90/2) } ، وعنه أخرجه الإسماعيلي، وأبو نعيم - كما في " الفتح " (11/47) -،
ومن طريقه أيضاً رواه مسلم (2/14) ؛ إلا أنه لم يسق لفظه، {وأبو يعلى في " مسنده "
(258/2) = [4/464/5326] . وهو مخرج في " الإرواء " (321) } .
ورواه البخاري (11/47) بسند أحمد، لكنه قال:
قلنا: السلام - يعني: - على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فزاد لفظة: (يعني) . وقائلها هو البخاري؛
كما جزم به الحافظ؛ لرواية أحمد وابن أبي شيبة بدون هذه الزيادة، وطريقهما واحد.
وكذلك أخرجه البيهقي (2/138) ، وكذا أبو عوانة في " صحيحه "، والسراج،
والجَوْزَقي، وأبو نعيم الأصبهاني من طرق متعددة إلى أبي نُعيم شيخ البخاري فيه بلفظ:
فلما قُبِضَ؛ قلنا: السلام على النبي. بحذف لفظة: (يعني) . كما في " الفتح "
أيضاً (2/250) .
وأخرجه النسائي (1/174 - 175) من طريق إسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه -
قال: أنبأنا الفَضْل بن دُكَين - وهو أبو نُعيم - به نحوه دون هذه الزيادة. والزيادة الأولى
عنده، وكذا البخاري.
وللحديث طرق أخرى، جاء في بعضها مسلسلاً بالأخذ باليد:
، فقال الإمام أحمد (1/450) : ثنا حسين بن علي عن الحسن بن الحُرّ عن القاسم
ابن مُخَيْمِرة قال: أخذ علقمةُ بيدي قال: أخذ عبد الله بيدي قال:
أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي؛ فعلمني التشهد في الصلاة: " التحيات ... " إلخ.
وهذا سند صحيح.
وهكذا أخرجه الدارقطني (134) من طرق عن الحسين بن علي.(3/871)
..............................................................................
__________
وقد تابعه زهير بن معاوية عن الحسن بن الحُرّ به. وزاد في آخره:
إذا قلتَ هذا - أو قضيتَ هذا -؛ فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم؛ فقم، وإن
شئت أن تقعد؛ فاقعد.
أخرجه أبو داود (1/153) ، والدارمي (1/309) ، والطحاوي (1/162) ، والدارقطني
(135) ، والطيالسي (36) ، وأحمد (1/422) من طرق عنه به.
لكن هذه الزيادة رفعها ضعيف، والصواب - كما بينه الدارقطني وغيره - أنها
مدرجة، وأنها من قول ابن مسعود نفسه؛ فقد رواه شبابة بن سوّار: ثنا زهير بن معاوية
به بلفظ: قال عبد الله: فإذا قلت هذا ... إلخ.
أخرجه الدارقطني (135) ، والبيهقي (2/174) عنه. ثم قال الدارقطني:
" شبابة: ثقة، وقد فصل آخر الحديث؛ جَعَلَه من قول ابن مسعود، وهو أصح من
رواية من أدرج آخره في كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد تابعه غسان بن الربيع وغيره؛ فرووه عن ابن ثوبان عن الحسن بن الحُرّ كذلك،
وجعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود، ولم يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
ثم ساق حديث غسان في ذلك. وقد ذكر النووي (3/481) اتفاق الحفاظ على أن
هذه الزيادة مدرجة؛ ليست من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتبعه على ذلك الحافظ في " الدراية "
(88) ، ونص كلامه:
" واتفق الحفاظ على أن هذه الزيادة مدرجة من كلام ابن مسعود؛ منهم: ابن
حبان، والدارقطني، والبيهقي، والخطيب، وأوضحوا الحجة في ذلك ".
وقد ذكر كلماتهم الإمامُ الزيلعي في " نصب الراية " (1/424 - 425) . فليراجعها
من شاء.(3/872)
..............................................................................
__________
وقد أخرج الحديث النسائي (1/174) ، والطحاوي (1/162) من طرق عن إبراهيم
عن علقمة به بلفظ:
كنا لا ندري ما نقول إذا صلينا، فعلمنا نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوامع الكلم؛ فقال لنا:
" قولوا: التحيات ... ". الحديث. واللفظ للنسائي وزاد:
قال علقمة: لقد رأيت ابن مسعود يعلمنا هؤلاء الكلمات؛ كما يعلمنا القرآن.
وسنده جيد. وزاد الطحاوي: وقال:
" لا صلاة إلا بتشهد ". وروى هذه الزيادة الطبراني - كما مضى قريباً -.
رواها الطحاوي من طريق أبي معشر البَراء عن أبي جمرة - بالجيم والراء، وفي
نسخة: حمزة؛ بالحاء المهملة والزاي - عن إبراهيم. ويراجع " تهذيب التهذيب " لمعرفة
الصواب من النسختين (*) .
وتابعه أبو إسحاق عن علقمة - وقد سبق لفظه -.
ومن طرق الحديث ما في " المسند " (1/376) عن خُصَيف الجَزَري قال: ثني أبو
عُبيدة بن عبد الله عن عبد الله قال:
علمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد، وأمره أن يعلمه الناس: " التحيات ... " إلخ.
وهذا إسناد فيه ضعف وانقطاع. وسكت عليه الحافظ في " الفتح " (2/252) ،
وليس بجيد.
وبقية طرق الحديث تراجع فيه (1/393 و 408 و 413 و 440) ، والنسائي، وابن
ماجه، والطحاوي، و " المعجم الكبير " للطبراني. و " الأدب المفرد " (144) [للبخاري] .
__________
(*) هو أبو حمزة كما في " تراجم الأحبار من رجال شرح معاني الآثار " (4/377) .(3/873)
علَّمني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد -، [و] كَفِّي بين كَفَّيْه (1) -؛ كما يعلمني
السورة من القرآن (2) :
__________
(1) ترجم له البخاري بقوله: (باب الأخذ باليدين. وصافح حمادُ بن زيد ابنَ
المبارك بيديه) . قال ابن بطال:
" الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة، وذلك مستحب عند العلماء ".
قلت: والحديث ليس نصاً في ذلك؛ لأنه لم يرد في المصافحة عند اللقاء؛
فالدعوى أعم من الدليل، والظاهر عندي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أخذ بكفيه كفَّ ابن مسعود زيادة
اعتناء بتعليمه، ولَفْتَ اهتمامه إلى ذلك. فيستحب ذلك في مثل هذا الموضع.
وأما المصافحة المسنونة عند اللقاء؛ فإنما هي باليد الواحدة - كما تقتضيه اللغة -؛
ففي " النهاية ":
" المصافحة هي: مفاعلة؛ من إلصاق صفح الكف بالكف، وإقبال الوجه على الوجه ".
ويشهد لذلك الأحاديث الواردة في فضل المصافحة؛ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إن المسلم إذا لقي أخاه، فأخذ بيده؛ تَحَاتَّتْ عنهما ذنوبهما؛ كما يَتَحَاتُّ الورق
عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا؛ غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحر ".
رواه الطبراني بإسناد حسن (*) عن سلمان الفارسي. ورواه أحمد وغيره عن أنس بلفظ:
" ما من مسلمين التقيا، فأخذ أحدهما بيد صاحبه ... ". الحديث نحوه.
وفي الباب عن البراء.
رواه أحمد (4/289) وغيره.
وانظر " الترغيب "؛ فقد ذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأخذ باليد الواحدة؛ فينبغي الوقوف عنده، وعدم
الزيادة عليه إلا بنص من عنده.
(2) قال في " المرقاة " (1/557) :
__________
(*) وهو في " ضعيف الترغيب والترهيب " (1628) ، ويغني عنه أحاديث أخرى في " صحيح
الترغيب " (3/32 - 33) .(3/874)
" التحيات (1) لله، والصلوات (2) ، والطيبات (3) ، السلام عليك (4) أيها النبي!
__________
" فيه دلالة على اهتمامه، وإشارة إلى وجوبه ".
(1) هي: جمع (تحية) . قيل: أراد بها السلام؛ يقال: حَيَّاك الله؛ أي: سلَّم
عليك. وقيل: (التحية) : الملك. وقيل: البقاء.
وإنما جمع التحية؛ لأن ملوك الأرض يُحَيَّوْن بتحيات مختلفة، فيقال لبعضهم:
أبيت اللعن. ولبعضهم: أنعم صباحاً. ولبعضهم: اسلم كثيراً. ولبعضهم: عش ألف
سنة. فقيل للمسلمين: قولوا: " التحيات لله ... "؛ أي: الألفاظ التي تدل على
السلام، والملك، والبقاء هي لله تعالى. والتحية: تَفْعِلة من (الحياة) ، وإنما أدغمت؛
لاجتماع الأمثال، والهاء لازمة، والتاء زائدة. كذا في " النهاية ".
(2) أي: الأدعية التي يراد بها تعظيم الله تعالى، هو مستحقها، لا تليق بأحد
سواه. اهـ. منه.
وقد قيل في تفسيرها غيرُ ذلك، فإن شئت؛ فراجعها في المطولات؛ كـ " فتح
الباري "، و " مرقاة المفاتيح " وغيرها.
(3) أي: ما طاب من الكلام، وحسن أن يُثنى به على الله، دون ما لا يليق
بصفاته؛ مما كان الملوك يُحَيَّوْن به. وقيل: الطيبات: ذكر الله. وقيل: الأقوال الصالحة؛
كالدعاء والثناء. وقيل: الأعمال الصالحة. وهو أعم. قال ابن دقيق العيد: ولعل
تفسيرها بما هو أعم أولى. ذكره في " الفتح " (2/249) .
(4) قيل: معناه: التعويذ بالله، والتحصين به؛ فإن السلام اسم له سبحانه، تقديره:
الله عليك حفيظ وكفيل. كما يقال: " الله معك "؛ أي: بالحفظ والمعونة واللطف (*) .
__________
(*) رجح هذا المعنى الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع.(3/875)
ورحمة الله وبركاته (1) ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (2) -[فإنه إذا
__________
وقيل: معناه السلام والنجاة لكم. ويكون مصدراً؛ كاللذاذة واللذاذ؛ كما قال الله
تعالى: {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ} . كذا في " شرح مسلم " للنووي، ثم قال:
" واعلم أنه يجوز فيه حذف الألف واللام؛ فيقال: سلامٌ عليك أيها النبي!
و: سلام علينا. ولا خلاف في جواز الأمرين هنا، ولكن الألف واللام أفضل، وهو
الموجود في روايات " الصحيحين " ". قال الحافظ (2/249) :
" لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف ذلك في
حديث ابن عباس، وهو من أفراد مسلم ".
(1) هو اسم لكل خير فائض منه تعالى على الدوام. وقيل: (البركات) : الزيادة
في الخير. " مرقاة ".
(2) الأشهر في تفسير (الصالح) : أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله، وحقوق
عباده، وتتفاوت درجاته. قال الترمذي الحكيم:
" من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلِّمُه الخلقُ في الصلاة؛ فليكن عبداً
صالحاً، وإلا؛ حُرم هذا الفضل العظيم ".
قال القفال في " فتاويه ":
" ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين؛ لأن المصلي يقول: اللهم! اغفر لي وللمؤمنين
والمؤمنات، ولا بد أن يقول في التشهد: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ".
فيكون مقصراً بخدمة الله، وفي حق رسوله، وفي حق نفسه، وفي حق كافة المسلمين؛
ولذلك عظمت المعصية بتركها ". كذا في " الفتح ".
(فائدة) : اشتهر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عُرج به؛ أثنى على الله تعالى بهذه الكلمات؛ فقال الله
تعالى:(3/876)
قال ذلك؛ أصاب كُلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض] (*) -، أشهد أن لا اله
إلا الله (1) ،.................................................................
__________
" السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته ". فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين ".
فقال جبريل: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".
ولكني لم أقف على هذه الرواية في شيء من كتب السنة المعتبرة، وقد أوردها
الشيخ علي القاري في " المرقاة " (1/556) نقلاً عن ابن الملك، مشيراً إلى ضعفها بقوله:
" رُوي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ".
(*) زيادة من " صفة الصلاة "، وهي في سياق الحديث الآتي (ص 894) .
(1) أي: لا معبود بحق في الوجود إلا الله الواجب الوجود لذاته تعالى. ذكره
القاري وغيره.
هذا هو معنى هذه الشهادة التي تحقن دم قائلها، وتنجيه يوم لقائه الله تعالى؛ إذا
عمل بمقتضاها، ولم يقتصرعلى التلفظ بها.
ولقد ضل كثير من المسلمين حين فهموا منها: أنه لا رب ولا خالق إلا الله تعالى.
وبنوا على ذلك: أن من عَبَدَ غيره تعالى بنوع من أنواع العبادات؛ كالاستغاثة بغيره
سبحانه، والذبح لغيره، وما شابه ذلك أنه صحيح الاعتقاد، سليم الإيمان! مع أن
حقيقة هذه الشهادة: توحيد الإله في هذه العبادات، وغيرها؛ فإنه هو الفارق بين المؤمن
الموحد، وبين الكافر المشرك؛ ذلك لأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا
يعتقدون هذا المعنى الخاطئ لهذه الشهادة، ولكنهم كانوا يقتصرون على ذلك؛ فلا
يؤمنون بأن لا معبود بحق في الوجود إلا الله تعالى. فهم موحدون من ناحية، مشركون
من ناحية أخرى؛ موحدون في توحيد الربوبية، كافرون بتوحيد الألوهية. هذا هو الذي(3/877)
..............................................................................
__________
دل عليه القرآن الكريم بنصوصه الصريحة.
أما إيمانهم بتوحيد الربوبية وأنه: المتفرد بالخلق والرزق؛ فقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم
مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} . وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ.
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ
الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} .
وأما كفرهم بتوحيد الألوهية - الذي هو المراد من هذه الشهادة -؛ فاقرأ قوله تعالى:
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} . وكانوا إذا دعاهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإيمان
بهذه الشهادة؛ يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة {ص} ] .
وكذلك كان كفر من قبلهم من المشركين؛ كانوا يكفرون بتوحيد الألوهية، وإلى هذا
التوحيد كان يدعوهم أنبياؤهم صلى الله عليهم وسلم؛ كما قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [7: 65] . {قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [7: 70] . وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الآية [11: 61] . {قَالُوا يَا
صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [11: 62] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ} أي قائلين لأممهم: أنِ اعبدوا الله وحده. فأفاد بقوله: في كل أمة: أن جميع
الأمم لم تُرسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأنه هو الخالق للعالَم،(3/878)
..............................................................................
__________
وأنه رب السماوات والأرض؛ فإنهم كانوا مُقِرّين بهذا بباعث الفطرة - كما سبق عن
الجاهليين -؛ ولهذا لم ترد الآيات في ذلك في الغالب؛ إلا بصيغة استفهام التقرير؛
نحو: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} .
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} .
ومما سبق تعلم أن المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان شركاء لله تعالى في
الربوبية؛ أي: أنهم [ما] اعتقدوا فيهم أنهم شركاء لله في الخلق، والرزق، والإحياء،
والإماتة، كلا؛ فإنهم نفوا ذلك بأنفسهم، وإنما اتخذوهم شركاء لله سبحانه في العبودية
والألوهية؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى} [38: 3] . فهم مقِرّون بأن المقصود بالذات هو الله تعالى، وأنهم إنما عبدوا
أوثانهم؛ وسيلة توصلهم إلى الله.
وفي " صحيح مسلم " (4/8) ، و " المختارة " للضياء المقدسي عن ابن عباس:
كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. قال. فيقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" ويلكم قَدْ قَدْ ". فيقولون: إلا شريكاً هو لك، تملِكه، وما ملك. يقولون هذا، وهم
يطوفون بالبيت!
ومعنى عبادة المشركين لأوليائهم وأصنامهم هو: أنهم خَصُّوهم بنوع من العبادات:
كالاستغاثة بهم، والنذر، والنحر لهم، وغيرها؛ مما يدل على منتهى الخشوع والخضوع،
وهم لم يفعلوا ذلك إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم لديه. فأرسل
الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه. وأن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد
باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده، وهو توحيد العبادة.
وقد كان المشركون، منهم: من يعبد الملائكة، وينادونهم عند الشدائد، ومنهم: من
يعبد تماثيل لبعض الصالحين، ويهتف بها عند الشدائد، فبعث الله إليهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛(3/879)
..............................................................................
__________
يدعوهم إلى الله وحده بأن يفردوه بالعبادة - كما أفردوه بالربوبية -، وأن لا يدعوا مع الله
أحداً؛ قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} .
وأمر عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد
العبادة لله تعالى؛ وإلا كان كاذباً، منهياً عن أن يقول هذه الكلمة؛ إذ معناها: نخصك
بالعبادة ونفردك بها، وهو معنى قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} . كما
عرف من علم البيان: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ أي: اعبدوا الله، ولا تعبدوا
غيره. واتقوه ولا تتقوا غيره.
فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له، والنداء في
الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده، واللجوء إلى الله، والنذر
والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع، والقيام لله تعالى، والركوع،
والسجود، والطواف، والتجرد عن الثياب، والحلق، والقصر كله لا يكون إلا لله عز
وجل، ومن فعل ذلك لمخلوق حي، أو ميت، أو جماد، أو غيره؛ فهذا شرك في العبادة
والألوهية، وفي النهي عن ذلك نزل قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
أَحَدًا} . وصار من يُفعل له هذه الأمور إلهاً لعابده سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو
قبراً، أو غير ذلك، وصار بهذه العبادة، أو بأي نوع منها عابداً لذلك المخلوق، وإن أقر بالله
وحده وعبده؛ فإن إقرار المشركين بالله، وتقربهم إليه؛ لم يخرجهم عن الشرك؛ قال الله
عز وجل في الحديث القدسي:
" أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً، وأشرك فيه معي غيري؛ تركته
وشركه ".
أخرجه مسلم وغيره.(3/880)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " (1) ..........................................
__________
فمن علم ما ذكر من الفرق بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وجمع بينهما في
اعتقاده وعمله؛ فهو الذي تحقق بمعنى لا إله إلا الله، وهو الذي يستحق أجر قائلها،
وتنفعه من دهره يوماً ما - كما جاء في الأحاديث النبوية -.
وهذا بحث عظيم قد أُلِّفَتْ فيه كتب، ورسائل شتى؛ لأهميته، وخطورة شأنه،
فمن شاء التوسع في ذلك؛ فليراجع " تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد " للإمام الصنعاني
- وغالب ما كتبناه مأخوذ عنه -، و " تجريد التوحيد " للمقريزي، و " حجة الله البالغة "،
وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
(1) اعلم أن هذه الشهادة قد جمعت له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفتين لا يتم إيمان المرء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا إذا
تحقق بمعناهما.
الأولى: كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً لله تعالى، كغيره من عباده تعالى، فهو مثلهم من هذه
الناحية، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إنما أنا بشر مثلكم؛ أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني " (1) . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لا تُطْروني، كما أَطْرَتِ النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد. فقولوا: عبد الله
ورسوله " (2) .
ولذلك فلا يجوز لمسلم يشهد هذه الشهادة أن ينزله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلة فوق التي أنزله الله
تعالى فيها؛ فإن ذلك مما لا يرضاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال في الحديث:
" أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي
التي أنزلني الله عز وجل " (3) . ولا أن يمدحه إلا بما مدحه الله به، أو بما صحت به
__________
(1 و 2) متفق عليهما.
(3) رواه أحمد في " المسند " (3/153 و 241 و 249) بسند صحيح على شرط مسلم.(3/881)
..............................................................................
__________
الأحاديث والأخبار، فمدحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل قول بعضهم:
فإن من جودك الدنيا وضَرّتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فهذا القول مما يتنافى مع الشهادة بالعبودية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو القائل - كما حكاه الله
تعالى في القرآن الكريم -: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ} . وهو القائل للجارية التي كانت تندب من قتل يوم [بدر] ، ثم قالت: وفينا نبي
يعلم ما في غد. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لا تقولي هكذا، وقولي كما كنت تقولين " (1) .
ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث لها في " الصحيحين ":
" ومن حدثكم أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعلم ما في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية ".
فإذا كان هذا شأن من قال عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه يعلم ما في غد؛ فما بال من يقول: إن من
بعض علومه علمَ اللوح والقلم؟! فلا جَرَم أن حَذَّرَنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغلو في مدحه وتعظيمه؛
فإنه سبب هلاك الأمم قبلنا كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم غلوهم في دينهم " (2) .
وأما الصفة الأخرى: فهي كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً اصطفاه الله تعالى، وخصه بالوحي
وأطلعه على بعض المغيبات، وذلك يستلزم الإيمان بكل ما قاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصح عنه من
التشريعات والإخبار بالمغيبات، سواء كان ذلك موافقاً لعقلك، أو بعيداً عن فهمك
وعقلك، يجب الإيمان بذلك كله، فمن لم يكن هذا موقفه معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو لم يؤمن حق
الإيمان بأن محمداً رسول الله، فما تنفعه هذه الشهادة، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم،
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.(3/882)
[وهو بين ظهرانَيْنَا (1) ، فلما قُبِضَ؛ قلنا: السلام على النبي] (2) .
__________
وذلك ما يفيده قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . ولا شك أن إيمانك
وتصديقك بما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمور التشريعية والغيبية - ولو كانت بعيدة عن
متناول عقلك -؛ إنما هو من الإيمان بالغيب الذي هو من صفات المتقين في القرآن:
{الم. ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ} . فقف أيها
المؤمن! عند نص الشارع الحكيم، ولا تُغالِ فيه، ولا تفرط؛ بل وسطاً بين ذلك؛ لتكون
من الناجين عند رب العالمين.
(فائدة) : قال الشيخ علي القاري في " المرقاة " (1/557) :
" والمنقول أن تَشَهُّدَه عليه الصلاة والسلام، كتَشَهُّدِنا. وأما قول الرافعي: المنقول
أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في تشهده: وأشهد أني رسول الله. فمردود؛ بأنه لا أصل له ".
(1) بفتح النون، وسكون التحتانية، ثم نون. أصله: (ظهرنا) . والتثنية باعتبار
المتقدم عنه والمتأخر؛ أي: كائن بيننا. والألف والنون زيادة للتأكيد، ولا يجوز كسر النون
الأولى. قاله الجوهري وغيره. كذا في " الفتح ".
(2) قال الحافظ رحمه الله تعالى (11/47) :
" هذه الزيادة، ظاهرها أنهم كانوا يقولون: السلام عليك أيها النبي! - بكاف الخطاب -
في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما مات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ تركوا الخطاب، وذكروه بلفظ الغَيْبة؛ فصاروا
يقولون: السلام على النبي ". وقال في موضع آخر (2/250) :
" قال السبكي في " شرح المنهاج " - بعد أن ذكر هذه الرواية من عند أبي عوانة
وحده -: " إن صح هذا عن الصحابة؛ دلَّ على أن الخطاب في السلام بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(3/883)
..............................................................................
__________
غير واجب، فيقال: السلام على النبي ".
قلت: قد صح بلا ريب، وقد وجدت له متابعاً قوياً؛ قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن
جريج: أخبرني عطاء:
أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي: (السلام عليك أيها النبي!) ، فلما
مات؛ قالوا: (السلام على النبي) .
وهذا إسناد صحيح.
وأما ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علّمهم التشهد ... فذكره. قال: فقال ابن عباس:
إنما كنا نقول: السلام عليك أيها النبي! إذ كان حياً. فقال ابن مسعود:
هكذا عُلِّمْنا، وهكذا نُعَلِّم.
فظاهرٌ أن ابن عباس قاله بحثاً، وأن ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر
أصح { (يعني: رواية البخاري) } ؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، والأسناد إليه - مع
ذلك - ضعيف ".
وقد نقل كلامَ الحافظ هذا جماعةٌ من العلماء المحققين؛ أمثال: القسطلاني في
شرحه على البخاري، والزرقاني في " المواهب اللَّدُنِّية " وفي شرحه على " الموطأ "،
وعبد الحي اللكنوي في " التعليق الممجد "، وارتضوه؛ حيث إنهم أقروه {ولم يتعقّبوه
بشيء} .
هذا؛ والظاهر أن الصحابة رضي الله عنهم لم يصيروا إلى القول: (السلام على
النبي) - بلفظ الغَيْبَةِ - إلا بتوقيف من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذ لا مجال للاجتهاد أو القياس في
مثل هذا المقام؛ بل هو عين الابتداع في الدين، وحاشا الصحابة من ذلك، لا سيما ابن(3/884)
..............................................................................
__________
مسعود رضي الله عنه، الذي اشتهر من بينهم بشدة محاربته للبدع - مهما كان نوعها -،
وقصته في إنكاره على الذين كانوا يذكرون الله مجتمعين، ويعدون التسبيح والتحميد
بالحصى أشهر من أن تذكر، وهو القائل رضي الله عنه:
اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيْتُم، عليكم بالأمر العتيق.
ولذا كان يأخذ على أصحابه الواو في التشهد. كما رواه الطحاوي (1/157) ،
والبزار في " مسنده " بإسناد صحيح.
فمن كان هذا شأنه من التحري في الاتباع؛ كيف يعقل أن يتصرف فيما عَلَّمه
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه من التشهد بدون إذن منه؟! هذا غير معقول.
أضف إلى ذلك أنه ليس منفرداً بذلك عن الصحابة؛ بل قد نقل هو نفسه - وهو
الثقة العدل - ذلك عن الصحابة بدون خلاف بينهم، فمن تبعهم على ذلك؛ فـ {أُوْلَئِكَ
عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} .
{ويؤيده: أن عائشة رضي الله عنها كذلك كانت تعلمهم التشهد في الصلاة:
" السلام على النبي ".
رواه السراج في " مسنده " (ج 9/1/2) ، والمخلص في " الفوائد " (ج 11/54/1)
بسندين صحيحين عنها} (*) .
__________
(*) قال الشيخ رحمه الله في مقدمة " صفة الصلاة " المطبوع (ص 17 - 25/ ط المعارف) :
" وقد كنت وقفت على رسالة صغيرة للشيخ عبد الله الغماري، أسماها: " القول المقنع في الرد
على الألباني المبتدع "! لا تتجاوز صفحاتها أربعاً وعشرين صفحة من الحجم الصغير! تعرض فيها للرد
عليَّ في بعض ما كنت رددت عليه بالحق، وبالتي هي أحسن؛ ما وقع له من أخطاء حديثية في =(3/885)
..............................................................................
__________
...........................................
__________
= تعليقاته على رسالة الشيخ العلامة العز بن عبد السلام: " بداية السول في تفضيل الرسول "؛ التي
حققتها من بعده، وعلقت عليها تعليقات مفيدة، بينت في بعضها جهل الشيخ الغماري بهذا العلم،
وتقصيره في تخريج الأحاديث، وبيان مراتبها صحةً أو ضعفاً، وتقليده للترمذي في التحسين؛ لعجزه
عن التحقيق، وتجويده لبعض الأحاديث الضعيفة، فألف هو رسالته المذكورة تشفياً وانتقاماً بالباطل،
والتي يليق بها أن تسمى بـ: (القول المقذع) ؛ لكثرة ما فيها من السباب والشتائم والنبز بالألقاب مع
البهت والافتراء؛ مما كنت بينت بعض ذلك في مقدمة المجلد الثالث من " الأحاديث الضعيفة " (ص 8
- 44) ...
وكان مما تعرض لإنكاره علي - في ذلك (القول المقذع) ! - وشغب به علي ونسبني بسببه إلى
قلة الفهم، والضعف في الاستنباط؛ ما سيأتي في الكتاب (ص 161) [هو هنا (ص 884 - 885) ]
من حمل قول ابن مسعود في التشهد:
فلما قُبض (يعني: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ؛ قلنا: السلام على النبي؛ أن هذا كان بتوقيف منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فسود الغماري خمس صفحات (ص 13 - 18) ؛ ليثبت - بزعمه - من وجوه كثيرة أن ذلك كان
اجتهاداً من ابن مسعود ومن وافقه!!
ولما كانت هذه المقدمة لا تتسع لمناقشتها واحدة واحدة؛ فلا بد من إيجاز الكلام عليها ببيان
يجتثها من أصولها كلها، ويجعلها هباءً منثوراً بإذنه تعالى، وفي الوقت نفسه فيه فائدة هادية - إن شاء
الله تعالى - لكل حريص على اتباع الحق، وإيثاره على ما وجد عليه الآباء، أو الجمهور من الناس،
فأقول:
من الواضح جداً أنه لا يعقل أن يتوجه من كان دون الصحابة علماً وتُقىً وخوفاً من الله تعالى،
وإيماناً بقوله تعالى في حق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ؛ لا يعقل أبداً
أن يتوجه إلى تعليم من تعاليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كقوله: " السلام عليك أيها النبي! ". فيغيره؛ فيجعله: "السلام على النبي "!
أو إلى تعليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام على أهل القبور: " السلام عليكم أهل الديار ... ". فيجعله: " السلام
على أهل القبور ... "!
فكيف يعقل أن يرتكب مثل هذا التغييرأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبخاصة منهم عبد الله بن مسعود
الذي اشتهر من بينهم بشدة محاربته للبدع - مهما كان نوعها -؛ وقصة إنكاره على الذين كانوا
يجتمعون في المسجد حلقات، وفي وسط كل حلقة رجل يقول لمن حوله: سبحوا كذا، كبروا =(3/886)
..............................................................................
__________
...........................................
__________
= كذا ... إلخ، وأمام كل واحد منهم حصى يعد به التسبيح والتكبير ... إلخ؛ أشهر من أن تذكر.
(انظر " ردي على الشيخ الحبشي ") .
وقوله رضي الله عنه:
اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق.
ونحو ذلك مما هو مأثور عنه، ومذكور في محله، وبخاصة أنه ثبت عنه رضي الله عنه أنه:
كان يأخذ على أصحابه الألف والواو في التشهد إذا علمهم.
كما رواه ابن أبي شيبة (1/294) ، والطحاوي (1/157) ؛ بسند صحيح عنه.
ثم إن الصحابة الذين هم على علم بتعليم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صيغة السلام عليه في التشهد؛ قد قالوا
بعد أن مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" السلام على النبي ".
كما رواه عبد الرزاق بسنده الصحيح عن عطاء بن أبي رباح - كما قال الحافظ ابن حجر على ما
سيأتي في الكتاب (ص 162) [وقد تقدّم هنا (ص 884) ]-.
ولما كان مثل هذا النص قاصمة ظهر الغماري ومن كان على شاكلته من أهل الأهواء؛ فقد كابر
على عادته وأعله بقوله (ص 14) :
" عنعنه ابن جريج كما في " مصنف عبد الرزاق " (ج 2 ص 204) ، وابن جريج مدلس؛ فلا يقبل
ما عنعنه ".
والجواب من وجهين:
الأول: نعم؛ ابن جريج مدلس، ولكن قد صح عنه أنه قال:
" إذا قلتُ: قال عطاء؛ فأنا سمعتهُ منه، وإن لم أقل: (سمعتُ) ".
فإذا قيل: في قوله: " عن عطاء " أنه كقوله: " قال عطاء؛ فلا يضر عدم تصريحه بالسماع
- كما هو الظاهر -، ولعل هذا من الأعذار في إخراج الشيخين لحديثه المعنعن عن عطاء.
والآخر: أن الغماري تجاهل - كما هي عادته في طمس الحقائق - أن ابن جريج قال في رواية
الحافظ عن عبد الرزاق: " أخبرني عطاء ". فزالت شبهة تدليسه؛ ولذلك صححه الحافظ.
فكان على الغماري: إما أن يسلم بهذا كله، وإمأ أن يجيب عن ذلك بما يدفع التصحيح، ولكنه
لم يصنع شيئاً من ذلك؛ بل لجأ إلى المثل العامي (الهرب نصف الشجاعة) ! =(3/887)
..............................................................................
__________
...........................................
__________
= والظاهر أن العنعنة في " المصنف " هي من الأخطاء الكثيرة التي وقعت في أصله؛ كما يبدو لمن
يدقق في تعليقات محققه الشيخ الأعظمي عليه. ومن الغرائب أن محققه علق عليه بقوله:
" كنز العمال 4/4668 ". كذا قال، ولم يزد. وذلك هو التحقيق!
وبالرجوع إلى هذا الرقم وجدت الأثر فيه كما في " الفتح ": عن ابن جريج: أخبرني عطاء ...
من رواية عبد الرزاق؛ فكان على الأعظمي أن ينبه على هذه الفائدة؛ ليسد الطريق على من قد يستغل
هذه العنعنة، كما فعل الغماري! ولكن ما يدريني.. لعل الأعظمي تعمد ذلك؛ لأنه خلاف مذهبه!
ويشترك مع الغماري في اتباع الهوى والإعراض عن الحجة والدليل عند مخالفة المذهب!
ثم رجعت إلى " الجامع الكبير " للسيوطي الذي هو أصل " الكنز "؛ فوجدته مطابقاً له. وبذلك
ثبت هذا الأثر، وقامت الحجة على الغماري المغمور بالهوى، والعياذ بالله تعالى.
ومن كبره وبطره للحق - وحكمه معروف عند أهل الحديث! - أنني لما أيدت قول ابن مسعود وأنه
بتوقيف منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأثر عائشة أنها كانت تعلمهم التشهد في الصلاة:
السلام على النبي. كما يأتي معزواً لمصدرين مخطوطين ما رآهما الغماري ولا في المنام! لم يزد
على قوله (ص 15) :
" وهذا الكلام يدل على جهل عريض (!) وقد أغرب بعزو أثر عائشة إلى (السراج) و (المخلص)
خلص الله الألباني من جهله، مع أنه في (مصنف ابن أبي شيبة) و (مصنف عبد الرزاق) ".
قلت: فليتأمل القارئ المنصف وقاحة هذا المغمور؛ كيف يرميني بالجهل لمجرد أَنْ جئته من
مصدرين لا يعرفهما، ثم يخرس عن الجواب عن التأييد الذي كان الواجب عليه أن يقبله، ويخضع
للحق الذي معي، أو يجيب عنه بجواب علمي ان كان عنده؟! وهيهات هيهات؛ إذ لو كان؛ لما وقع
في مثل هذه الجهالة التي يترفع عنها حتى السُّوقة! فالله المستعان.
ومن خباثته وتدليساته على قرائه قوله (ص 15) :
" روى الطبراني بإسناد صحيح عن الشعبي قال: كان ابن مسعود يقول بعد " السلام عليك أيها
النبي! ورحمة الله وبركاته ": " السلام علينا من ربنا ". [قال:]
" فهذه الجملة زادها ابن مسعود اجتهاداً منه، فكلذلك تغيير صيغة السلام من الخطاب إلى الغيبة
اجتهاداً (!) منه ".
قلت: والجواب من ستة وجوه: =(3/888)
..............................................................................
__________
...........................................
__________
الأول: أن يقال لك: أثبت العرش ثم انقش؛ فإن هذا الأثر لا يصح عن ابن مسعود رضي الله
عنه! بل هو محكي عنه - كما يأتي -.
وقولك: " بإسناد صحيح عن الشعبي ".
فيه تدليس خبيث على عامة القراء الذين لا ينتبهون لما في قولك هذا من التدليس؛ فهلا قلت:
إسناده صحيح عن ابن مسعود؟! لم تقل ذلك؛ لأنك تعلم - إن شاء الله - أن الشعبي - واسمه: عامر
ابن شراحيل - لم يسمع من ابن مسعود - كما قال ابن أبي حاتم، والدارقطني، والحاكم، والمزي
والعلائي، وابن حجر، وغيرهم - وهذا هو السر في اقتصار الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2/143) -
بعد أن عزاه للطبراني (وهو فيه 9/276/9184) [على قوله]-:
" ورجاله رجال " الصحيح " ".
فلم يصححه؛ لأن هذا القول منه ومن غيره لا يعني أنه صحيح - كما نبهت عليه في غير ما
موضع من كتبي -؛ لهذا لجأتَ إلى التدليس على القراء، ولم تقل: إسناده صحيح عن ابن مسعود.
ولو فعلتَ؛ لافْتَضَحْتَ!
الثاني: هب - جدلاً - أنه صح عن ابن مسعود؛ فهذا قد يفيدك - لو كان وحده - في سلام
الغيبة؛ فيكون اجتهاداً منه، فأين أنت من سائر الصحابة الذين وافقوه وفيهم السيدة عائشة؟! أفكلهم
اجتهدوا وتجرأوا على تغيير النص؟! وأنت وحدك عرفت النص ولزمته؟! مع أنك خالفت نصوصاً
كثيرة، منها زيادتك (السيادة) في الصلاة الإبرإهيمية!
لا شك أن الذي يحملك على مثل هذا التناقض إنما هو الهوى! والله المستعان.
الثالث: هب أنهم كلهم اجتهدوا؛ أفكلهم أخطأوا، وأنت ومن على شاكلتك أصابوا؟!
الرابع: قولك: " فهذه الجملة زادها ... ".
خطأ محض؛ لأن الجملة - عند البلاغيين والنحويين - كل كلام اشتمل على مُسْنَدٍ ومُسْنَد إليه،
وهنا لا شيء من ذلك سوى:
" من ربنا ".
فهل هذه جملة عند (العلامة الغماري) الذي رشح نفسه - بل فرض نفسه - مجدد هذا القرن
في بعض رسائله الأخيرة؟! أم هو من باب التدليس أيضاً على القراء، وإيهامهم أن ابن مسعود زاد في
التشهد جملة تامة! وحاشاه من أن يزيد في تعليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو حرفاً واحداً -، كيف وهو ينكره على
أصحابه - كما سبق -؟! =(3/889)
..............................................................................
__________
...........................................
__________
= الخامس: لا شك أن هذه الزيادة منكرة لا يجوز نسبتها إلى ابن مسعود رضي الله عنه؛ لما تقدم
بيانه من انقطاع إسنادها، ولمنافاتها لما عرف عنه من الحرص على الاتباع، ونهيه الشديد عن
الابتداع، ومن ذلك إنكاره على من زاد في التشهد:
" وحده لا شريك له " - كما سيأتي [هنا (ص 903) ]-. وقوله رضي الله عنه:
اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة.
السادس: ذكر الغماري أن البيهقي روى في " سننه " عن عائشة قالت:
هذا تشهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التحيات لله ... إلى آخره. ونقل عن النووي أنه قال:
" إسناده جيد، وهو يفيد أن تشهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل تشهدنا، وهي فائدة حسنة ".
وأقول: أما أن إسناده جيد؛ فليس بجيد؛ لأن فيه صالح بن محمد بن صالح التمَّار، وهو غير
معروف العدالة، أورده البخاري في " التاريخ " (2/2/291) ، وساق له إسناداً من روايته عن أبيه عن
سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه: قال النبي في سعد بن معاذ: ... قال البخاري:
" وخالفه شعبة عن سعد عن أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... وهذا
أصح ".
ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، على أن المخالفة المرجوحة تتردد بينه وبين أبيه محمد بن صالح،
وهو ثقة، في حفظه كلام؛ فيمكن أن تكون المخالفة منه، ويمكن أن تكون من ابنه صالح.
وعلى كل حال فهو مجهول، لا ينبغي تجويد إسناد مثله، وبخاصة أن الحافظ ابن حجر قد أعلَّ
حديث عائشة هذا بالوقف؛ تبعاً للدارقطني. فانظر " التلخيص " (3/514) .
وقول النووي:
" ... مثل تشهدنا ". يعني: تشهد الشافعية الذي اختاروه من رواية ابن عباس، وليس كما قال؟ لأن تشهدهم فيه:
" المباركات ".
وهذا غير موجود في حديث عائشة هذا؛ بل هو كحديث ابن مسعود بالحرف الواحد.
نعم؛ قبل هذه الرواية عند البيهقي رواية أخرى عن عائشة موقوفة فيها:
" الزاكيات ".. مكان: " المباركات ". وفيها أيضاً:
" السلام على النبي "؛ بصيغة الغَيْبة! =(3/890)
..............................................................................
__________
...........................................
__________
= ففيها ردٌّ لشغب الغماري ومرواغته - لو كان فيه بقية من إنصاف واعتراف بالحق -.
ومما ذكرنا يتبين للقراء تدليس آخر للشيخ الغماري؛ إذ لا علاقة لكلام النووي بما نحن فيه؛ لأن
النووي رحمه الله - على ما في كلامه من الخطأ - لم يكن في صدد ترجيح لفظ: " السلام عليك " في
(التشهد) على لفظ: " السلام على النبي "، كما يلبّس الغماري على قرائه؛ وإنما هو في صدد ترجيح
تشهد ابن عباس على تشهد ابن مسعود.
والأمر عندي في هذا واسع، فبأي صيغة من الصيغ الثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشهد المصلي؛ فقد
أصاب السنة، وإن كان تشهدُ ابن مسعود أصحَّ روايةً باتفاق العلماء؛ لاتفاق الرواة له على روايته بلفظ
واحد دون زيادة حرف أو نقص، ومن ذلك تفصيله رضي الله عنه بين ما كان الصحابة يقولونه في
حال حياته في السلام عليه بلفظ الخطاب، وما كانها يقولونه بعد وفاته بلفظ الغيبة؛ بتوقيف
منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولذلك كانت السيدة عائشة تعلمهم التشهد بلفظ الغيبة - كما تقدم -.
وهذه المسألة ونحوها مما لا يمكن معرفة الصواب فيها إلا بالرجوع إلى ما كان عليه السلف
الصالح، وبخاصة أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم؛ نُلِحُّ دائماً في دروسنا ومحاضراتنا أنه لا يكفي إذا دعَونا
الناس إلى العمل بالكتاب والسنة أن نقتصر على هذا فقط في الدعوة؛ بل لا بد من أن نضم إلى ذلك
جملة: (على منهج السلف الصالح) أو نحوها؛ لقيام الأدلة الشرعية على ذلك، وهي مذكورة في غير
هذا الموضع.
لا بد من ذلك، وخصوصاً في هذا العصر، حيث صارت الدعوة إلى الكتاب والسنة (موضة)
العصر الحاضر، ودعوة كل الجماعات الإسلامية، والدعاة الإسلاميين - على ما بينهم من اختلافات
أساسية أو فرعية -، وقد يكون فيهم من هو من أعداء السنة عملياً، ومن يزعم أن الدعوة إليها يفرق
الصف! عياذاً بالله منهم.
أسأل الله تعالى أن يحيينا على السنة، وأن يميتنا عليها؛ متبعين لمن أثنى الله تبارك وتعالى عليهم
بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} .
وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} .(3/891)
وكانوا قبل ذلك 1 [قبل أن يفرض التشهد (1) ] يقولون:
__________
(1) قال في " التلخيص " (3/503) :
" واستدل به على فرضية التشهد الأخير، ولقوله: " قولوا ". وبوب عليه النسائي
(إيجاب التشهد) ، وساقه من طريق سفيان عن الأعمش ومنصور عن شَقِيق عن ابن
مسعود. قال ابن عبد البر في " الاستذكار ":
تفرد ابن عيينة بقوله: قبل أن يفرض ".
قلت: ابن عيينة: ثقة حافظ؛ فلا يضر تفرده. ولذلك صححه الحافظ، وكذا
الدارقطني - كما يأتي -.
ويشهد لها ماتقدم مرفوعاً:
" لا صلاة إلا بتشهد ".
ورواه الطبراني في " الأوسط " من حديث علي بنحوه بلفظ:
" لا صلاة لمن لا تشهد له ". قال الهيثمي (2/140) :
" وفيه الحارث، وهو ضعيف ".
ورواه البيهقي (2/139) موقوفاً على عمر.
وسنده صحيح.
ثم إن الحديث لم يقيد التشهدَ بالأخير؛ فحصرُ دلالته على فرضية الأخير - كما
فعل الحافظ -؛ ليس كما ينبغي.(3/892)
السلام على الله قَبْلَ (1) عباده، 2 [السلام علينا من ربنا] ، السلام على
جبريل، السلام على ميكائيل (2) ، السلام على فلان 3 [فلان]- 4 [يعنون (3)
الملائكة]-، فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 5 [ذات يوم] ؛ أقبل علينا بوجهه، فقال:
" 6 [لا تقولوا: السلام على الله. فـ] إن الله هو السلام (4) ، فإذا جلس
أحدكم في الصلاة؛ فليقل:
" التحيات ... " فذكره إلى آخره (5) .
وقال بعد قوله: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ":
__________
(1) في " صحيح البخاري ": بفتح القاف، وسكون الموحدة. ووقع في بعض النسخ
منه: بكسر القاف، وفتح الموحدة. ويؤيده - كما قال الشيخ علي القاري - ما وقع في
رواية للبخاري بلفظ: السلام على الله من عباده.
(2) زاد الدارمي: السلام على إسرافيل. ولكني في شك من ثبوت هذه الزيادة،
وأخشى أن تكون غير محفوظة.
(3) وللإسماعيلي من رواية علي بن مسهر: فَنَعدُّ الملائكة. ومثله للسراج من رواية
محمد بن فضيل عن الأعمش بلفظ: فنعدُّ من الملائكة ما شاء الله. كذا في " الفتح ".
(4) قال الشيخ علي القاري: " لأن معنى السلام عليك هو: الدعاء بالسلامة من
الآفات؛ أي: سلمت من المكاره أو من العذاب، وهذا لا يجوز لله تعالى؛ فإن الله هو
السلام؛ أي: هو الذي يعطي السلامة لعباده، فَأَنَّى يدعى له، وهو المدعو على الحالات؟! ".
(5) هو من حديث ابن مسعود أيضاً، ولفظه:
كنا إذا صلينا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قلنا: ... فذكره بزيادة:
" ثم يتخير من الكلام ما شاء ". وسيأتي الكلام على هذه الزيادة في آخر الصلاة
إن شاء الله تعالى [ص 998 - 1000، 1002 - 1003] .(3/893)
" فإنه إذا قال ذلك؛ أصابَ كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض " (1) .
__________
أخرجه البخاري (2/248 و 255 و 11/11) والسياق له في رواية، ومسلم (2/14) ،
وأبو داود (1/152) ، والنسائي (1/187) ، والدارمي (1/308) ، وابن ماجه (1/290 -
291) ، والطحاوي (1/154 - 155) ، والبيهقي (2/138) ، وأحمد (1/382 و 413
و427 و 431) من طرق عن الأعمش: ثني شقيق عنه.
والزيادة الثانية: تفرد بها أحمد في رواية.
وإسنادها صحيح على شرط البخاري.
والزيادة الثالثة: عند البخاري، والدارمي، وأبي داود، وغيرهم.
والرابعة: عند ابن ماجه.
وإسنادها صحيح على شرطهما.
والزيادة السادسة: هي عند البخاري في رواية، وكذا أبو داود، وابن ماجه، وأحمد.
وأما الزيادة الخامسة: فهي من رواية منصور عن شقيق.
أخرجها مسلم، وأحمد (1/413) .
وأما الزيادة الأولى: فهي من رواية سفيان بن عيينة عن منصور.
أخرجها النسائي (1/187) ، والدارقطني (133) ، وعنه البيهقي (2/138) . وقال
الد ارقطني:
" هذا إسناد صحيح ". وكذا قال الحافظ في " الفتح " (2/249) . وهو على شرط الشيخين.
ثم الحديث له طرق أخرى عن أبي وائل: عند النسائي، وأحمد، وله عنده
(1/413) طريق آخر عن ابن مسعود نحوه.
(1) استدل به على أن الجمع المضاف، والجمع المحلى بالألف واللام يعم؛ لقوله
أولاً:(3/894)
2- تشهد ابن عباس قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا التشهد، كما يعلمنا [السورة من] القرآن؛
فكان يقول:
__________
" عباد الله الصالحين ". ثم قال:
" أصاب كل عبد صالح ". واستدل به على أن للعموم صيغة، قال ابن دقيق العيد:
وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب، وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة. قال:
والاستدلال بهذا فرد من أفراد لا تحصى، لا للاقتصار عليه. كذا في " الفتح ".
2- وبه أخذ الشافعي وأتباعه. وفي " الفتح " (2/252) :
" وقال الشافعي - بعد أن أخرج الحديث -: رويت أحاديث في التشهد مختلفة،
وكان هذا أحب إليَّ؛ لأنه أكملها. وقال في موضع آخر - وقد سئل عن اختياره تشهد
ابن عباس؟ -: لما رأيته واسعاً، وسمعته عن ابن عباس صحيحاً؛ كان عندي أجمع،
وأكثر لفظاً من غيره، وأخذت به غير معنّفٍ لمن يأخذ بغيره مما صح ".
والحديث أخرجه مسلم (2/14) ، {وأبو عوانة [2/227 و 228] } ، وأبو داود
(1/154) ، والنسائي (1/175) ، والترمذي (2/83) ، وابن ماجه (1/291 - 292) ،
والطحاوي (1/155) ، والدارقطني (133) ، والبيهقي (2/140) ، وأحمد (1/292) من
طرق عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير وطاوس عنه.
والزيادة الأولى: هي عند مسلم، وابن ماجه. وهي عند مسلم، {وأبي عوانة
[2/228] } وغيرهما من طريق آخر عن أبي الزبير - وقد مضى [ص 867]-.
والزيادة الأخرى: هي عند الجميع؛ حاشا أحمد، وكذا الطحاوي.
وأما الرواية الأولى: في تنكير " السلام " في الموضعين؛ فهي عند الشافعي في(3/895)
" التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله (1) ، السلام (وفي
رواية: سلام) (2) عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام (وفي
رواية: سلام) علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله،
و [أشهد] أن محمداً رسول الله (وفي رواية: عبده ورسوله) ".
__________
" الأم " (1/101) ، والنسائي، والترمذي، والدارقطني، والبيهقي، وهي رواية
لأحمد.
وأما الرواية الأخيرة: فهي رواية النسائي، وابن ماجه.
وإسنادهما صحيح؛ إسناد مسلم.
والحديث صححه الترمذي، والدارقطني.
(1) قال النووي في " شرح مسلم ":
" تقديره: والمباركات، والصلوات، والطيبات - كما في حديث ابن مسعود وغيره -،
ولكن حذفت الواو اختصاراً، وهو جائز معروف في اللغة.
ومعنى الحديث: إن التحيات وما بعدها مستحقة لله تعالى، ولا تصلح حقيقتها
لغيره ".
(2) قال في " المجموع " - بعد أن ذكر الروايتين (3/460) -:
" واتفق أصحابنا على أن جميع هذا جائز، لكن الألف واللام أفضل؛ لكثرته في
الأحاديث، وكلام الشافعي، ولزيادته؛ فيكون أحوط، ولموافقته سلام التحلل من
الصلاة ".(3/896)
3- تشهد ابن عمر:
عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في التشهد:
" التحيات لله، [و] الصلوات، [و] الطيبات، السلام عليك أيها النبي
__________
3- أخرجه أبو داود (1/153) ، والطحاوي (1/154) ، والدارقطني (134) ،
والبيهقي (2/139) ، والضياء المقدسي في " المختارة "؛ كلهم من طريق نصر بن
علي: ثني شعبة عن أبي بشر سمعت مجاهداً يحدث عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به.
وهذا إسناد صحيح - كما قال الدارقطني، وكذا الحافظ في " الفتح " (2/251) -،
وهو على شرط مسلم. والزيادتان عند الدارقطني، والمقدسي، وكذا البيهقي في نسخة.
ثم قال الدارقطني:
" وقد تابعه على رفعه ابن أبي عدي عن شعبة، ووقفه غيرهما ". كذا قال. وخالفه
البيهقي؛ حيث يقول:
" ورواه ابن أبي عدي عن شعبة؛ فوقفه، إلا أنه رده إلى حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال:
كنا نقولها في حياته، فلما مات؛ قلنا: السلام على النبي ورحمة الله. وكان محمد بن
إسماعيل البخاري يرى رواية سيف عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود هي
المحفوظة؛ دون رواية أبي بشر. والله تعالى أعلم ".
قلت: يحتمل أن يكون لمجاهد روايتان:
إحداهما: عن أبي معمر عن ابن مسعود. وقد مضت.
والأخرى: عن عبد الله بن عمر.
أقول هذا؛ لأن أبا بشر هذا: ثقة، قد أخرجا له في " الصحيحين " عن مجاهد،
واسمه: جعفر بن إياس؛ فتوهيمه ليس بالهين، لا سيما وقد ثبت في " الموطأ "(3/897)
ورحمة الله - قال ابن عمر: زدت فيها (1) : وبركاته -، السلام علينا، وعلى
عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله - قال ابن عمر: وزدت فيها (1) :
وحده لا شريك له -، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".
__________
(1/113) أن تشهد ابن عمر كان بلفظ:
" السلام على النبي ".
وإسناده صحيح غاية. فهو شاهد آخر لحديث ابن مسعود المتقدم.
هذا، ويؤيد قول البيهقي - أن ابن أبي عدي رواه عن شعبة موقوفاً - ما في
" التلخيص " (3/514) :
" ورواه البزار عن نصر بن علي أيضاً، وقال: رواه غير واحد عن ابن عمر، ولا
أعلم أحداً رفعه عن شعبة إلا علي بن نصر. كذا قال! وقول الدارقطني السابق يرد
عليه ".
قلت: قد علمت أن البيهقي موافق للبزار في هذا القول، وهو - أعني: البيهقي -
متأخر عن الدارقطني، ولا بد أنه قد اطلع على كلامه، فمخالفته له يدل على أن فيه
شيئاً، فلعل الدارقطني وهم في ذلك، أو أنه قد اختلفت الرواية في ذلك على ابن أبي
عدي؛ رفعاً ووقفاً؛ فوقف الدارقطني على الرواية المرفوعة من حيث فاتت البزار
والبيهقي، وفيه بعد. والله أعلم.
(1) الظاهر أن هذه الزيادة لم يكن تلقاها ابن عمر منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مباشرة؛ فزادها، ليس
اختراعاً وابتداعاً لها من عند نفسه، بل نقلاً عن غيره من الصحابة، الذين رووا التشهد
عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الزيادة الأولى.
وأما الأخرى: فهي ثابتة في تشهد أبي موسى الآتي بعده، ويشهد لهذا الاحتمال(3/898)
..............................................................................
__________
ما رواه الإمام أحمد (2/68) قال: ثنا عَفان: ثنا أَبَان بن يزيد: ثنا قتادة: ثني عبد الله
ابن بابي المكي قال:
صليت إلى جنب عبد الله بن عمر، فلما قضى الصلاة؛ ضرب بيده على فخذه،
فقال:
ألا أعلمك تحية الصلاة كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا؛ فتلا عليَّ هؤلاء الكلمات.
يعني: قول أبي موسى الأشعري في التشهد.
هكذا أخرجه أحمد.
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد رواه الطحاوي (1/155) عن ابن مرزوق قال: ثنا عفان بن مسلم به. إلا أنه
قال: فتلا هؤلاء الكلمات. مثل ما في حديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ورواية أحمد أصح عندي من رواية ابن مرزوق. فقد رجع أمر هاتين الزيادتين إلى
كونهما مرفوعتين إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن عمر، لكنه لم يسمعهما منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مباشرة؛ بل بواسطة أبي موسى. هذا ما يقتضيه الجمع بين روايتي حديث ابن عمر.
والله أعلم.(3/899)
4- تشهد أبي موسى الأشعري قال:
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" ... وإذا كان عند القعدة؛ فليكن من أول قول أحدكم: التحيات،
الطيبات، الصلوات (1) لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته،
السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا
شريك له] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، [سبع كلمات هن تحية
الصلاة] ".
__________
4- أخرجه مسلم، {وأبو عوانة [2/227] } ، وأبو داود، والنسائي، والدارمي،
والطحاوي، والدارقطني، والبيهقي، وأحمد من طرق عن قتادة عن يونُس بن جُبَير عن
حِطّان بن عبد الله الرَّقَاشي عنه. وهو قطعة من حديث سبق ذكره بطوله في (التأمين) .
والزيادة الأولى: هي عند أبي داود، والنسائي في رواية لهما، من طريق المعتمر بن
سليمان التيمي قال: سمعت أبي يحدث عن قتادة به.
وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وكذلك أخرجها الدارقطني، وقال:
" إسناد متصل حسن ". وقول الحافظ في " الفتح " (2/251) :
" ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم ". وَهَمٌ.
وأما الزيادة الأخرى: فهي عند ابن ماجه (1/292) من طريق ابن أبي عدي: ثنا
سعيد بن أبي عَرُوبة وهشام بن عبد الله عن قتادة به.
وهي عند النسائي أيضاً من طريق خالد قال: ثنا سعيد عن قتادة به.
وهذا سند صحيح أيضاً على شرط مسلم.
(1) وفي لفظ: " الزاكيات ".. بدل: " الصلوات ".(3/900)
5- تشهد عمر بن الخطاب:
كان رضي الله عنه يعلِّم الناس التشهد وهو على المنبر؛ يقول:
" قولوا:
التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات [لله] ، السلام عليك ... (والباقي
مثل تشهد ابن مسعود) ".
__________
أخرجه البيهقي (2/140 - 141 و 377) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة.
وقد رواه مسلم بهذا السند، لكنه لم يسق لفظه.
وأخشى أن تكون هذه الرواية وهماً؛ لأنه تفرد بها معمر دون أصحاب قتادة. ومعمر
وإن كان أحد الثقات الأعلام؛ فإن له أوهاماً معروفة - كما قال الذهبي -؛ احتملت له
في سعة ما أتقن.
5- أخرجه الإمام مالك (1/113) ، وعنه الإمام محمد (107) .
والطحاوي (1/154) ، والبيهقي (2/144) عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن
الزبير عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري:
أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر، يعلم الناس ... إلخ.
وهذا سند صحيح - كما قال الزيلعي (1/422) -، ورجاله رجال الستة. والزيادة
للبيهقي.
ثم أخرجه من طريق معمر عن الزهري به دونها. قال معمر:
كأن الزهري يأخذ به، ويقول: علَّمه الناسَ على المنبر، وأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
متوافرون لا ينكرونه. قال معمر: وأنا آخذ به.
ثم رواه مالك وغيره عن عائشة بنحوه؛ موقوفاً بتقديم وتأخير.(3/901)
6- {تشهد عائشة:
قال القاسم بن محمد: كانت عائشة تعلِّمنا التشهد، وتشيرُ بيدها
تقول:
" التحيات، الطيبات، الصلوات، الزاكيات لله، السلام على
النبي ... " إلى آخر تشهد ابن مسعود} .
__________
فإن قيل: هذا موقوف. فكيف أخرجته في كتابك، وقد اشترطت فيه ألا تذكر فيه
إلا المرفوع؟! فالجواب أني إنما أوردته لأمرين:
الأول - وهو الأقوى -: أن حكمه الرفع؛ كما قال ابن عبد البر؛ قال:
" لأنه من المعلوم أنه لا يقال بالرأي، ولو كان رأياً؛ لم يكن هذا القول من الذكر
أولى من غيره من سائر الذكر ".
والآخر: هو أنه قد أخذ به أحد الأئمة الأربعة واختاره؛ وهو الإمام مالك رحمه
الله، فكان من اللائق إيراده.
6- {أخرجه ابن أبي شيبة (1/293) ، والسَّراج، والمخلِّص - كما تقدم
[ص 885]-، والبيهقي (2/144) والسياق له} .
واعلم أن للمصلي أن يختار من هذه التشهدات ما شاء منها، فكلها صحيحة
ثابتة وإن كان العلماء قد اختلفوا في أفضلها - كما سبق -؛ فقد اتفقوا - أو كادوا - على
أنه بأيها تشهد أجزأه؛ قال في " المجموع " (3/457) - بعد أن ساق التشهدات المذكورة؛
حاشا تشهد ابن عمر -:
" فهذه الأحاديث الواردة في التشهد كلها صحيحة، وأشدها صحة باتفاق المحدثين:
حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس. قال الشافعي والأصحاب: وبأيها تشهد؛(3/902)
..............................................................................
__________
أجزأه؛ لكن تشهد ابن عباس أفضل ". قال:
" وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها، وممن نقل الإجماع القاضي أبو
الطيب ". قال أبو الحسنات اللكنوي في " التعليق الممجد على موطأ محمد " (109) :
" ولكلٍّ وجوهٌ توجب ترجيح ما ذهب إليه، والخلاف إنما هو في الأفضلية، كما صرح
به جماعة من أصحابنا، ويشير إليه كلام محمد هاهنا (وهو قوله: التشهد الذي ذكر كله
حسن، وليس يشبه تشهد ابن مسعود) ، فما اختاره صاحب " البحر " من تعيين
تشهد ابن مسعود وجوباً، وكون غيره مكروهاً تحريماً؛ مخالف للدراية والرواية؛ فلا يعول
عليه ".
{ [تنبيه] : ليس في كل الصيغ المتقدمة زيادة: " ومغفرته ". فلا يعتد بها، ولذلك
أنكرها بعض السلف:
فروى الطبراني (3/56/1) بسند صحيح عن طلحة بن مصَرِّف قال: زاد ربيع بن
خُثَيْم في التشهد [بعد] وبركاته: " ومغفرته "! فقال علقمة:
نقف حيث عُلِّمنا: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته.
وعلقمة تلقى هذا الاتباع من أستاذه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ فقد روي
عنه.
أنه كان يعلم رجلاً التشهد، فلما وصل إلى قوله: " أشهد أن لا إله إلا الله "؛ قال
الرجل: وحده لا شريك له. فقال عبد الله: هو كذلك، ولكن ننتهي إلى ما عُلِّمنا.
أخرجه الطبراني في " الأوسط " (رقم 2848 - مصورتي) بسند صحيح؛ إن كان
المُسَيَّب الكاهلي سمع من ابن مسعود} .(3/903)
الصلاةُ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَوْضِعُها، وصِيَغُها
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على نفسه في التشهد الأول وغيره (1) .
وسَنَّ ذلك لأمته؛ حيث أمرهم بالصلاة عليه بعد السلام عليه (2) .
__________
(1) [رواه] أبو عوانة في " صحيحه " (2/324) ، {والنسائي} .
(2) قلت: فكما أن السلام عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرع في كل تشهد، فكذلك تشرع الصلاة
عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد كل تشهد، سواء في الجلوس الأول أو الآخر؛ لعموم الأدلة، وإطلاقها:
فمنها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . قال ابن القيم في كتابه القيم " جلاء الأفهام " (249) :
" فدل على أنه حيث شرع التسليم عليه شرعت الصلاة عليه؛ ولهذا سأله أصحابه
عن كيفية الصلاة عليه وقالوا: قد علمنا كيف نسلم عليك؛ فكيف نصلي عليك؟ فدل
على أن الصلاة عليه مقرونة بالسلام عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعلوم أن المصلي يسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يعني: في التشهد الأول -؛ فيشرع له أن يصلي عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
ومنها: الأحاديث الكثيرة الواردة في الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي على نوعين:
مقيدة بالصلاة، ومطلقة.
والأولى على قسمين: منها ما هو مقيد بالتشهد، ومنها ما هو مطلق.
أما القسم الأول: ففيه أربعة أحاديث:
الأول: عن ابن مسعود مرفوعاً:
" إذا تشهد أحدكم في الصلاة؛ فليقل: اللهم! صلِّ على محمد ... " إلى
آخرها.
أخرجه الحاكم (1/269) ، وعنه البيهقي (2/379) عن يحيى بن السَّبَّاق عن رجل(3/904)
..............................................................................
__________
من بني الحارث عنه. وقال الحاكم:
" صحيح ". ووافقه الذهبي! وهو عَجَب؛ فإن الحارثي لم يسمَّ؛ ولذلك قال الحافظ
في " التلخيص " (3/504) :
" رجاله ثقات، إلا هذا الرجل الحارثي؛ فينظر فيه ".
الثاني: عنه أيضاً قال:
علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ... فذكره، وفيه:
" اللهم! صل على محمد ... " إلخ.
أخرجه الطبراني في " الكبير "، والدارقطني (135) من طريق محمد بن بكر
البُرْساني: نا عبد الوهاب بن مجاهد: ثني مجاهد قال: ثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أو
أبو معمر عنه.
وضعفه الدارقطني - وتبعه الهيثمي (2/145) - بابن مجاهد هذا؛ فقالا:
" ضعيف ".
الثالث: عن ابن عمر مثله.
أخرجه الدارقطني (134) من طريق خارجة بن مصعب عن موسى بن عُبيدة عن
عبد الله بن دينار عنه. وقال:
" موسى بن عبيدة وخارجة: ضعيفان ".
الرابع: عن بريدة مرفوعاً:
" يا بريدة! إذا جلست في صلاتك؛ فلا تترك التشهد والصلاة عليَّ؛ فإنها زكاةُ
الصلاة ".(3/905)
..............................................................................
__________
رواه الدارقطني أيضاً (136) عن عمرو بن شِمْر عن جابر عن عبد الله بن بريدة
عنه. وقال:
" عمرو بن شِمْر وجابر: ضعيفان ".
وهذه الأحاديث وإن كانت أسانيدها ضعيفة؛ فمجموعها صالح للاحتجاج بها إن
شاء الله تعالى؛ لا سيما وأنها مؤيدة بالقسم الثاني، وفيه ثلاثة أحاديث:
الأول: عن كعب بن عجرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أنه كان يقول في الصلاة:
" اللهم! صل على محمد ... " إلخ.
أخرجه الإمام الشافعي في " الأم " (1/102) : أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: ثني
سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه.
وإبراهيم بن محمد هذا: ضعيف. وقال ابن القيم (15) :
" كان الشافعي يرى الاحتجاج به على عُجَرِهِ وبُجَرِهِ، وقد تكلم فيه مالك والناس ".
الثاني: عن أبي هريرة أنه قال:
يا رسول الله! كيف نصلي عليك - يعني: في الصلاة -؟ قال:
" قولوا: اللهم! صلِّ على محمد ... " إلخ.
أخرجه الشافعي أيضاً عن شيخه هذا بإسناده عنه. لكن يشهد له:
الحديث الثالث: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال:
أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن عنده؛ فقال: يا رسول الله!
أما السلام عليك؛ فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا - صلى
الله عليك -؟ قال: فَصَمَت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حى أحببنا أن الرجل لم يسأله. فقال:(3/906)
..............................................................................
__________
" إذا أنتم صليتم علي؛ فقولوا: اللهم! صل على محمد ... " إلخ.
أخرجه أبو داود (1/155) ، والدارقطني (135) ، والبيهقي (2/146 و 378) ،
وأحمد (4/119) عن محمد بن إسحاق قال: وثني - في الصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذا المرء المسلم صلى عليه في صلاته - محمدُ بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد
ابن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري عنه.
وهذا إسناد حسن متصل - كما قال الدارقطني -.
وأما قول الحاكم (1/268) - بعد أن ساقه من هذا الوجه -:
" صحيح على شرط مسلم ".
فليس بصواب؛ وإن وافقه الذهبي؛ لأن ابن إسحاق إنما خرَّج له مسلم في المتابعات
- كما سبق التنبيه عليه مراراً -.
على أنه قد تكلم بعضهم في حديثه هذا؛ لأنه تفرد بقوله: إذا نحن صلينا في
صلاتنا. مع أن بعض الرواة عن ابن إسحاق لم يذكرها - كما ذكر ذلك ابن القيم بما هو
مبين في كتابه " الجلاء ". فراجعه (4 - 6) -.
وقد روى الحديث مسلم وغيره، وليس فيه هذه الزيادة، وسيأتي ذكره قريباً إن شاء
الله تعالى (*) .
أما قوله: أما السلام عليك؛ فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟
فهو ثابت في غير ما حديث - كما سنذكره -.
وأما النوع الآخر من الأحاديث؛ فسيأتي ذكر كل منها في موضعه إن شاء الله
تعالى.
__________
(*) انظر - لزاماً - (ص 922) .(3/907)
..............................................................................
__________
وقد قال العلماء - كالبيهقي، وابن كثير، والعسقلاني -:
ومعنى قولهم: (هذا السلام عليك قد عَلِمْناه) : هو ما علّمهم إياه في التشهد من
قولهم: (السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته) .
فهو دليل واضح على مشروعية الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول أيضاً؛ لوجود
السلام عليه فيه. ويؤيد ذلك الأحاديثُ التي قبله.
وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله - كما نص عليه في " الأم " (1/102 و 105) -،
وهو الصحيح عند أصحابه؛ كما صرح به النووي في " المجموع " (3/460) ، ثم قال:
" والصحيح أنها تُسَنُّ، وهو نص الشافعي في " الأم " و " الإملاء ".
{واستظهره في " الروضة " (1/263 - طبع المكتب الإسلامي) .
وهو اختيار الوزير ابن هبيرة الحنبلي في " الإفصاح "؛ كما نقله ابن رجب في " ذيل
الطبقات " (1/280) وأ قره} .
وقد عقد ابن القيم فصلاً خاصاً للصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول، وذكر
اختلاف العلماء في ذلك، وساق أدلة المجيزين والمستحِبين، وهي بعض الأحاديث التي
أوردناها في النوع الأول؛ كحديث ابن عمر، وبريدة؛ وقال:
" وهذا يعم الجلوس الأول والآخر ".
ثم ذكر لهم حجة أخرى؛ وهي الآية التي مر ذكرها مع كلام ابن القيم عليها، ثم قال:
" ولأنه - يعني: التشهد الأول - مكانٌ شرع فيه التشهد، والتسليم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
فشرع فيه الصلاة عليه كالتشهد الأخير، ولأن التشهد الأول محل يستحب فيه ذكر
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فاستحب فيه الصلاة عليه؛ لأنه أكمل لذكره ".(3/908)
..............................................................................
__________
ثم ساق أدلة المانعين المخالفين، وليس فيها ما ينبغي الاشتغال بالإجابة عنه، إلا
قولهم:
إن التشهدَ الأولَ تخفيفُه مشروعٌ، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس فيه؛ كأنه على
الرَّضْفِ. وقولهم:
إنه لم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يفعل ذلك فيه.
والجواب عن الأول:
إن الحديث المذكور ضعيف لا يصح الاحتجاج به؛ لأنه من رواية أبي عبيدة بن
عبد الله بن مسعود عن أبيه، ولم يسمع منه - كما تقدم ذلك مراراً -.
أخرجه أصحاب " السنن " - إلا ابن ماجه -، والحاكم (1/269) ، والبيهقي
(2/134) ، والطيالسي (ص 44) ، وأحمد (1/386 و 410 و 428 و 436 و 460) من طرق
عن سعد بن إبراهيم عنه. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين ". وتعقبه الذهبي بقوله:
" ينظر؛ هل سمع سعد من أبي عبيدة؟ ".
وهذا ليس بشيء؛ فقد صرح سعد بسماعه من أبي عبيدة في رواية الطيالسي،
والترمذي، وهو يرويه عنه، وكذا صرح به في رواية لأحمد. وإنما علته الحقيقية ما أشرنا
إليه آنفاً، وقد ذكرها الترمذي أيضاً حيث قال:
" هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ".
ويتعجب منه كيف جمع بين تحسين الحديث وذكرِ علته التي تمنع الحكم عليه
بالحسن، مع العلم بأنه ليس له طريق إلا هذه!(3/909)
..............................................................................
__________
وقد نقل النووي في " المجموع " (3/460) كلامه مختصراً، وتعقبه حيث قال:
" قال الترمذي: هو حديث حسن. وليس كما قال؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع أباه،
ولم يدركه باتفاقهم. وهو حديث منقطع ".
وكذلك أعله الحافظ في " التلخيص " (3/506) ؛ قال:
" وهو منقطع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، قال شعبة عن عمرو بن مُرَّة: سألت
أبا عبيدة: هل تذكر من عبد الله شيئاً؟ قال: لا. رواه مسلم وغيره ".
على أن الحديث لو صح؛ لم يكن فيه دليل على ما ذكروا؛ فقد قال الشوكاني
(2/242) - بعد أن ذكر الخلاف في وجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وساق أدلة
الفريقين -:
" ولكن تخصيص التشهد الأخير بها مما لم يدل عليه دليل صحيح ولا ضعيف،
وجميع هذه الأدلة التي استدل بها القائلون بالوجوب لا تختص بالأخير، وغاية ما
استدلوا به على تخصيص الأخير بها حديث ابن مسعود هذا، وليس فيه إلا مشروعية
التخفيف، وهو يحصل بجعله أخف من مقابله - أعني: التشهد الأخير -، وأما أنه
يستلزم ترك ما دل الدليل على مشروعيته فيه؛ فلا، ولا شك أن المصلي - على أحد
التشهدات، وعلى أخصر ألفاظ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قلت: كالنوعين الأخيرين) - كان
مسارعاً غاية المسارعة باعتبار ما يقع من تطويل الأخير؛ بالتعوذ من الأربع، والأدعية
المأمور بمطلقها ومقيدها فيه ".
وأما الجواب عن قولهم: إنه لم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يفعل ذلك فيه؛ فهو
المعارَضَةُ بأن يقال: كذلك لم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يفعل ذلك في التشهد الأخير؛
أفيدل ذلك على عدم المشروعية؟ كلا.(3/910)
..............................................................................
__________
وتوضيح ذلك: أن الأمور الشرعية تثبت إما بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بفعله، أو بتقريره، وليس
من الضروري أن تجتمع هذه الأمور الثلاثة في إثبات أمر واحد اتفاقاً.
وعليه؛ فهذه الأدلة التي سقناها، والتي سيأتي ذكرها - كما أنها تدل على
مشروعية الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأخير؛ فكذلك - تدل على مشروعيتها في
الجلوس الأول بعمومها وإطلاقها - كما تقدم -.
نعم؛ لو صح ما يقيد ذلك من الأدلة؛ لأخذنا بها؛ حملاً للمطلق على المقيد،
ولكنه لم يصح - كما علمت -.
على أنه قد بقي علينا أن ننبه على بعض الروايات التي تصلح دليلاً على ذلك من
حيث ظاهر معناها، وإن كانت لا تصلح لذلك من حيث ضعف سندها؛ وهي روايتان:
الأولى: عن ابن مسعود قال:
علَّمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها ... الحديث وفيه: قال:
ثم إن كان في وسط الصلاة؛ نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها؛
دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم.
أخرجه أحمد، وكذا ابن خزيمة - كما في " التلخيص " (3/507) -.
وهو حديث ضعيف - كما سبق بيانه في (جلسة التشهد) -.
والأخرى: عن عائشة:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يزيد في الركعتين على التشهد.
أخرجه أبو يعلى من طريق أبي الحويرث عنها. قال الهيثمي (2/142) :
" والظاهر أن أبا الحويرث هذا هو خالد بن الحويرث، وهو ثقة ".(3/911)
..............................................................................
__________
وأقول: خالد هذا لم أر أحداً كنّاه بهذه الكنية ولا بغيرها (*) . ثم إن كان هو هذا؛
فهو مجهول، قال ابن معين:
" لا أعرفه ". وقال ابن عدي:
" إذا كان يحيى لا يعرفه؛ فلا يكون له شهرة، ولا يعرف ".
والهيثمي إنما اعتمد في توثيقه على توثيق ابن حبان، وقد اشتهر ابن حبان بتساهله
في ذلك؛ فلا يعتمد عليه، ولذلك قال الحافظ في " التقريب ":
" مقبول ". أي: مجهول - كما بين ذلك في المقدمة -.
والحافظ أقعد في الحديث، وأعرف بعلومه من شيخه الهيثمي.
هذا؛ وأما بقية أدلة المانعين التي ذكرها ابن القيم؛ فهي إنما ترِد على الشافعية
خاصة، حيث إنهم يفرقون بين التشهد الأول والتشهد الأخير في الصلاة على
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكماً وكمية؛ فيقولون بوجوبها في الأخير دون الأول، ويقولون بأنه لا يشرع
إتمامها إلى آخرها في الأول، بل يكرهون الزيادة على: " اللهم! صل على محمد ... "،
بخلاف التشهد الأخير؛ فلا تكره الزيادة على ذلك، بل تستحب.
فلذلك ألزمهم مخالفوهم بالتسوية بين الصلاتين في الحكم، والكمية، والكيفية؛
وهو إلزام قوي لا مفر لهم منه؛ لأن الدليل واحد في كل من الصلاتين، فكيف يسوغ
التفريق بينهما؟! ولذلك نرى أنه لا بد من الإتيان بالصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاملة في
كل تشهد؛ ليكون عاملاً بالأمر على تمامه. والله تعالى هو الموفق.
ثم وجدت حديثاً فيه التصريح بصلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهدين - عند أبي عوانة
__________
(*) بل هو أبو الجوزاء - كما في " مسند أبي يعلى " (4373) -، ولعله تصحّف على الهيثمي!
وانظر (ص 177 - 178) .(3/912)
وعلمهم أنواعاً من صيغ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) :
1- " اللهم! صلِّ على........................................................
__________
(2/324) ، [وهو الحديث السابق (ص 904) . وانظر " تمام المنة " (ص 224 - 225) ] .
(1) اعلم أنه قد جاءت صيغ كثيرة في الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى جمعها بعض
المتقدمين فبلغت ثمانياً وأربعين كيفية؛ منها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ست وثلاثون، والباقي عن
الصحابة والتابعين. وقد أورد منها صديق حسن خان في " نزل الأبرار" (167 - 171)
نحو ثلاثين كيفية، كلها مرفوعة إلا واحدة، ولكني أرى أنهم قد توسعوا في ذلك بما
كانوا في غنى عنه؛ فقد ذكروا في أثناء ذلك روايات ضعيفة لا تصح - كما سيأتي
التنبيه على بعضها إن شاء الله تعالى-، وفي الصحيح ما يغني عنها، بل استخرجوا من
الرواية الواحدة عن صحابي واحد عدة صيغ وكيفيات، وليس هذا بجيد؛ فإنما نشأ ذلك
من اختلاف الرواة، فكان ينبغي الأخذ بالزائد، وضمه إلى الأصل - كما هو صنيعنا في
هذا الكتاب -. وسيأتي التنبيه على بعض الأمثلة في ذلك إن شاء الله تعالى.
1- هو من حديث رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أنه كان يقول: ... فذكره.
أخرجه الإمام أحمد (5/374) : ثنا عبد الرزاق: ثنا معمر عن ابن طاوس عن أبي
بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عنه.
وهذا إسناد صحيح. رجاله كلهم ثقات رجال الستة.
وقد أخرجه الطحاوي في " المشكل " (3/74) من طريق أحمد بن صالح قال: ثنا
عبد الرزاق به.
لكنه اختصره؛ فلم يقل: " كما صليت على آل إبراهيم ... ". كما أنه لم يذكر:
" وبارك على محمد ... " إلخ.
واتفقا على زيادة:(3/913)
محمدٍ (1) ، وعلى أهلِ بيتِهِ (2) ،............................................
__________
قال ابن طاوس: وكان أبي يقول مثل ذلك.
{وأخرجه الشيخان دون: " أهل بيته "} .
(1) قال العلماء: معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه عند ملائكته. ومعنى
صلاة الملائكة عليه: الدعاء له والاستغفار. ومعنى صلاة الآدميين: الدعاء والتعظيم
لأمره. وقيل: صلاة الرب: الرحمة. وقد رد هذا القول المحققون من العلماء؛ كالحافظ
ابن حجر العسقلاني، وقبله ابن القيم في كتابه " الجلاء ".
وقد ساق في بيان ضَعْفِ ذلك خمسة عشر وجهاً؛ أولها: أن الله سبحانه فرق بين
صلاته على عباده ورحمته؛ فقال {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} . فعطف
الرحمة على الصلاة؛ فاقتضى ذلك تغايُرَهما، هذا أصل العطف. وأما قولهم: و (ألفى قولها
كذباً وَمَيْناً) : فهو شاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام، مع أن المين أخص من الكذب. قال:
" فمعنى الصلاة: هو الثناء على الرسول، والعناية به، وإظهار شرفه وفضله
وحرمته؛ كما هو المعروف عند العرب ". قال:
" وإن ذُكِرت صلّى عليها وزمزما. أي: برَّك عليها ومدحها. ولا تعرف العرب قط
(صلى عليه) بمعنى (رحمه) ". وقال الحافظ في " الفتح " (11/130) :
" وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية: أن معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه
وتعظيمه. وصلاة الملائكة وغيره عليه: طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد: طلب
الزيادة؛ لا طلب أصل الصلاة ".
(2) في " القاموس ":
" أهل الرجل: هم عشيرته، وذوو قرباه ".(3/914)
وعلى أزواجِه (1) ،..........................................................
__________
قلت: وفي الصيغ الأخرى ذكر الآل. والمعنى واحد؛ فإن أصل الآل: أهل. أُبدلت
الهاء همزة؛ فصارت: (أَأْل) . ثم سهلت على قياس أمثالها؛ فقيل: (آل) . ولا يستعمل
إلا فيما فيه شرف غالباً؛ فلا يقال: آل الإسكاف، كما يقال: أهله. كما في " القاموس "
أيضاً.
وقد ذكر ابن القيم في " الجلاء " (ص 133 - 135) قولين في أصل الآل؛ هذا
أحدهما، وضعفه من وجوه ذكرها. والقول الثاني: أن أصله: أول. وذكره صاحب
" الصحاح " في باب الهمزة والواو واللام. قال:
" وآل الرجل: أهله وعياله. وآله أيضاً: أتباعه. وهو عند هؤلاء مشتق من آل يؤول؛
إذا رجع. فآلُ الرجل: هم الذين يرجعون إليه، ويضافون إليه، ويؤولهم: أي: يسوسهم؛
فيكون مآلهم إليه. ومنه: الإيالة؛ وهي السياسة. فآل الرجل: هم الذين يسوسهم
ويؤولهم، ونفسه أحق بذلك من غيره؛ فهو أحق بالدخول في آلهِ، ولكن لا يقال: إنه
مختص بآله؛ بل هو داخل فيهم ". ونحوه في " الفتاوى " لابن تيمية (1/163) .
وقد اختلفوا في المراد بآل محمد على أربعة أقوال؛ أصحها: أنهم الذين تحرم عليهم
الصدقة. على اختلاف بين العلماء في تعيينهم. وقد بسط الكلام على ذلك في
" الجلاء " (138 - 150) .
(1) جمع (زوج) . وقد يقال: جمع (زوجة) . والأول أفصح، وبها جاء القرآن؛ قال
تعالى لآدم: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} . وأزواجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللاتي دخل بهن إحدى
عشرة:
1- خديجة بنت خويلد. ماتت سنة ثلاث قبل الهجرة.
2- زينب بنت خزيمة الهلالية. ماتت سنة أربع بعد الهجرة.(3/915)
وذُرِّيَّتِه (1) ؛.....................................................................
__________
3- زينب بنت جحش (سنة 20) .
4- حفصة بنت عمر بن الخطاب (سنة 27) .
5- رملة: أم حبيبة بنت أبي سفيان (سنة 44) .
6- جويرية بنت الحارث المُصْطَلِقِيّة (سنة 50) .
7- ميمونة بنت الحارث الهلالية (سنة 51) .
8- صفية بنت حُيَي (سنة 52) .
9- سودة بنت زَمْعَة (سنة 54) .
10- عائشة بنت أبي بكر (سنة 58) .
11- هند: أم سلمة بنت أبي أمية القرشية المخزومية (سنة 62) . فهي آخر نسائه موتاً.
وقد توفي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تسع منهن اتفاقاً، وهن مَن ذُكرن؛ غير خديجة وزينب بنت
خزيمة. ومن شاء الاطلاع على تراجمهن وشيء من خصوصياتهن؛ فليراجع " الجلاء "
(154 - 172) .
(1) بضم المعجمة؛ من (ذرأ الله الخلق) . أي: نشرهم وأظهرهم. إلا أن الهمزة
سُهِّلَت لكثرة الاستعمال. هذا هو الأصح في اشتقاقها - كما في " الجلاء " (172 -
173) - وهي الأولاد وأولادهم.
وهل يدخل فيها أولاد البنات؟ فيه خلاف بين الشافعي وأبي حنيفة؛ فأثبت ذلك
الأول، ونفاه الآخر، وتوسط أحمد في رواية؛ فقال:
" كل من انقطع نسبه من جهة الأب إما بلِعانٍ أو غيره؛ قامت أمه في النسب مقام
أبيه وأمه ". قال ابن القيم (177) :(3/916)
كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ (1) مجيدٌ.
وبارِكْ (2) على محمدٍ، وعلى أهلِ بيتِه، وعلى أزواجِه، وذريّتِه؛ كما
باركتَ على آل إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ ".
{وهذا كان يدعو به هو نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} .
__________
" وهو مقتضى النصوص وقولِ ابن مسعود وغيره. والقياس يشهد له بالصحة ". ثم
بين وجه ذلك. فراجعه.
هذا، والمراد بالذرية هنا أولاد فاطمة ونسلها اتفاقاً؛ فلا يَرِدُ الخلاف المذكور فيه.
(1) هو فعيل، من (الحمد) بمعنى: محمود، وأبلغ منه. وهو من حصلت له من
صفات الحمد أكملها.
وأما (المجيد) : فهو من (المجد) ، وهو صفةُ مَن كَمُلَ في الشرف. وهو مستلزم
للعظمة والجلال، كما إن الحمد يدل على صفة الإكرام.
ومناسبة ختم هذا الدعاء بهذين الاسمين العظيمين: أن المطلوبَ تكريمُ الله لنبيه،
وثناؤه عليه، وزيادة تقريبه، وذلك مما يلزم طلب الحمد والمجد؛ ففي ذلك إشارة إلى أنهما
كالتعليل للمطلوب، أو هو كالتذييل له.
والمعنى: أنك فاعل ما تستوجب به الحمد والمجد من النعم المترادفة، كريم بكثرة
الإحسان إلى جميع عبادك. كذا في " الفتح " (11/136) .
(2) من (البركة) ؛ وهي: النماء والزيادة. والتبريك: الدعاء بذلك، ويقال: باركه
الله، وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له.
فهذا الدعاء يتضمن إعطاءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته، وثبوته
له، ومضاعفته له، وزيادته. هذا حقيقة البركة. وقد فَصَّلَ ذلك ابن القيم في " الجلاء "
(205 - 215) . فليراجعه من شاء.(3/917)
2- " اللهم! صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ؛ كما صليتَ على
[إبراهيمَ، وعلى] آلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ.
اللهم! بارك على محمدٍ، وعلى آلِ محمدٍ؛ كما باركتَ على
[إبراهيمَ، وعلى] آلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ ".
__________
2- هو من حديث كعب بن عُجْرة. يرويه عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:
لقيني كعب بن عُجْرة، فقال: ألا أهدي لك هدية؟
إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج علينا؛ فقلنا: يارسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك؛
فكيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: ... " فذكره.
أخرجه البخاري (8/432 و 11/127) ، ومسلم (2/16) ، وأبو داود (1/154 -
155) ، والنسائي (1/190) {وفي " عمل اليوم والليلة " (162/54) } ، والترمذي
(2/352 - 353) ، والدارمي (1/309) ، وابن ماجه (1/293) ، والطحاوي في
" المشكل " (3/72) ، والبيهقي (2/147) ، والطيالسي (142) ، و {ابن منده في
" التوحيد " (68/2) -[140/323] } ، وأحمد (2/241 و 243) ، والطبراني في
" الصغير " (193) ؛ كلهم من طرق عن الحكم بن عُتَيبة عنه.
وقد تابعه عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وفيه
الزيادتان.
أخرجه البخاري (6/317) ، والطحاوي (3/73) ، والبيهقي (2/148) .
وتابعه أيضاً يزيد بن أبي زياد (*) .
أخرجه أحمد (4/244) ، ولفظه:
__________
(*) [والزبير بن عدي: عند {ابن منده وقال:
" هذا حديث مجمع على صحته "} ] .(3/918)
..............................................................................
__________
لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ؛ قالوا: كيف نصلي عليك يا
نبي الله؟! قال: " قولوا: ... " فذكره بتمامه بالزيادتين.
وهذا إسناد جيد (1) .
وقد ثبتتا عند النسائي في رواية عن الحكم أيضاً.
وأخرجه الطحاوي من طريق سفيان عن إلأعمش عن الحكم به. مثل رواية يزيد بن
أبي زياد في النزول، ولكن ليس فيه:
" وعلى آل إبراهيم ". وهي رواية لأبي داود وغيره.
ورواه سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن عبد الرحمن به نحواً من
هذا.
كذا أخرجه الطحاوي.
فقد تبين أن هاتين الزيادتين ثابتتان صحيحتان. فقول ابن القيم في " الجلاء "
(198) - تبعاً لشيخه ابن تيمية في " الفتاوى " (1/160) -:
" ولم يجئ حديث صحيح فيه لفظ: (إبراهيم وآل إبراهيم) معاً ".
غير صحيح، وهو ذهول عجيب - لا سيما من مثل ابن تيمية الحافظ - عن كون
ذلك ثابتاً في البخاري؛ فضلاً عن " المسند " (2) .
__________
(1) وكذا رواه {الحميدي (138/1) = [2/310] } ، وابن السني في " اليوم والليلة " (33) ، لكن
ليس فيه ذكر نزول الآية.
(2) {فها قد جئناك به صحيحاً، وهذا في الحقيقة من فوائد هذا الكتاب، ودقة تتبعه للروايات
والألفاظ والجمع بينها، وهو - أعني: التتبع المذكور - شيء لم نُسْبق إليه. والفضل لله تعالى، وله
الشكر والمنة} .(3/919)
3- " اللهم! صلِّ على محمدٍ، وعلى آلِ محمدٍ؛ كما صليتَ على
إبراهيمَ، [وآلِ إبراهيمَ] ، إنك حميدٌ مجيد.
وبارك على محمدٍ، وعلى آلِ محمدٍ؛ كما باركتَ على [إبراهيمَ، و]
آلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيد ".
__________
وقد جاءت هذه الزيادة أيضاً من حديث طلحة بن عبيد الله - وهو الآتي بعده -،
ومن حديث أبي هريرة - وهو النوع السابع -.
ومن الغريب أن ابن القيم قد أورده في كتابه (14 - 15) بهذه الزيادة، وقال:
" صحيح على شرط الشيخين ".
فلا أدري كيف جاز له أن يقول بعد ذلك:
" ولم يجئ حديث صحيح فيه اللفظان "! فلعله نسي ما قدم بين يديه. وجاءت
الزيادة أيضاً في رواية للبخاري من حديث أبي سعيد الخدري - وهو النوع الخامس -.
3- هو من حديث طلحة بن عبيد الله قال:
قلت: يا رسول الله! كيفَ الصلاةُ عليك؟ . قال: " قل: ... " فذكره.
أخرجه أحمد (1/162) : ثنا محمد بن بشر: ثنا مُجَمِّع بن يحيى الأنصاري: ثنا
عثمان بن مَوْهَب عن موسى بن طلحة عن أبيه.
وكذلك أخرجه النسائي (1/190) قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، {وأبو يعلى
في " مسنده " (ق 44/2 = [1/282/648) عن أبي بكر بن أبي شيبة؛ كلاهما قالا] } :
أنبأنا محمد بن بِشْر به. وفيه الزيادتان.
وأخرجه الطحاوي (3/71) قال: ثنا فهد بن سليمان العبدي عن مُجَمِّع بن يحيى
به، دون قوله:(3/920)
..............................................................................
__________
" وبارك على محمد ... " إلخ.
والحديث صحيح على شرط مسلم.
ثم أخرجه النسائي من طريق شريك عن عثمان بن مَوْهَب به دون قوله:
" وآل إبراهيم ". في الموضعين.
وشريك: في حفظه ضعف.
ومجمع بن يحيى: أوثق منه وأحفظ؛ فروايته أصح.
وقد وجدت للحديث شاهداً من حديث زيد بن خارجة أخي بني الحارث بن
الخزرج قال: قلنا: ... الحديث.
أخرجه الطحاوي [في " مشكل الآثار "] (3/73) عن يحيى بن المغيرة قال: ثنا
يحيى بن مروان بن معاوية (*) عن خالد بن سلمة عن موسى بن طلحة عنه.
ورجاله كلهم ثقات؛ غير يحيى بن مروان هذا؛ فلم أعرفه.
وروى منه النسائي (1/190) لفظَ:
" صلوا عليَّ، واجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللهم! صل على محمد وعلى آل
محمد ".
ورواه أحمد (1/199) ، إلا أنه قال.
" ثم قولوا: اللهم! بارك ... " إلخ دون قول: " وآل إبراهيم ". روياه من طريق أخرى
عن خالد بإسناد صحيح على شرط مسلم. وهي رواية للطحاوي (3/71) .
__________
(*) هذا إسناد محرّف، وهو على الصواب في " مشكل الآثار " (2237 - الطبعة المحققة) ؛ فلينظر
هناك.(3/921)
4- (اللهم! صلِّ على محمدٍ 1 [النبيِّ الأميِّ] (*) ، وعلى آل محمدٍ؛
كما صليتَ على 2 [آلِ] إبراهيمَ.
وباركْ على محمدٍ 3 [النبي الأميّ] (*) ، وعلى آل محمدٍ؛ كما باركتَ
على 4 [آلِ] إبراهيمَ، في العالمين إنك حميدٌ مجيد ".
__________
(*) الزيادتان من " صفة الصلاة " المطبوع، وانظر التعليق في الصفحة التالية.
4- هو من حديث أبي مسعود الأنصاري عقبة بن عمرو قال:
أتانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن
سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله! فكيف نصلي عليك؟ قال:
فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تمنينا أنه لم يسأله. ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قولوا: ... "
فذكره.
أخرجه مالك (1/179) ، وعنه مسلم (2/16) ، وأبو داود (1/155) ، والنسائي
(1/189) ، والترمذي (2/212 - طبع بولاق) وصححه، والدارمي (1/310) ،
والطحاوي (3/71) ، والبيهقي (2/146) ، وأحمد (4/118) ، {وأبو عوانة [2/211] }
- كلهم من طريق مالك - عن نُعيم بن عبد الله المُجْمِر أن محمد بن عبد الله بن زيد أخبره عنه.
والزيادتان 2 و 4 عند مسلم، والنسائي. والأخرى منهما عند مالك، والترمذي،
والدارمي.
وللحديث طريق أخرى مختصراً، وفيها الزيادتان.
أخرجه النسائي (1/190) عن عبد الرحمن بن بشر عن أبي مسعود الأنصاري قال:
قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمرنا أن نصلي عليك ونسلم، فأما السلام؛ فقد عرفناه؛ فكيف
نصلي عليك؟ قال:(3/922)
..............................................................................
__________
" قولوا: اللهم! صل على محمد؛ كما صليت على آل إبراهيم. اللهم! بارك على
محمد؛ كما باركت على آل إبراهيم ".
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
والحديث رواه محمد بن إسحاق قال: وثني - في الصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا
المرء المسلم صلى عليه في صلاته - محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن
عبد الله بن زيد به نحوه بلفظ: فقال:
" إذا أنتم صليتم عليَّ؛ فقولوا: اللهم! صل على محمد النبي الأمي (*) ، وعلى آل
محمد؛ كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم. وبارك على محمد النبي
الأمي (*) ؛ كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ".
أخرجه أبو داود، والدارقطني (135) ، والحاكم (1/268) ، والبيهقي (2/146
و378) ، وأحمد (4/119) ، {وابن أبي شيبة في " المصنف " (2/132/1) =
[2/248/8635] } . وقال الدارقطني:
" إسناد حسن متصل ". وأما قول الحاكم والذهبي:
" صحيح على شرط مسلم ".
فغير صحيح - كما سبق بيانه مراراً -.
وفي هذا الحديث زيادات لا توجد في الروايات المتقدمة، ولولا تفرد ابن إسحاق
بها؛ لأدرجناها في متن الحديث في الأصل (*) . والله أعلم.
__________
(*) ثم وجدنا الشيخ رحمه الله أدرج الزيادة المذكورة في المتن - كما وجدناه فعل في " الصفة "
المطبوع -، وحسَّن حديث ابن إسحاق هذا في " صحيح أبي داود " (4/137/902) ، ولعله وجد أن
تفرد ابن إسحاق بالزيادة لا يضر؛ لأنها ليس فيها مخالفة للثقات. والله أعلم.(3/923)
5- " اللهم! صلِّ على محمدٍ عبدِك ورسولِك؛ كما صليت على 1 [آل]
إبراهيمَ.
وباركْ على محمدٍ 2 [عبدِك ورسولِك] ، 3 [وعلى آلِ محمدٍ] ؛ كما
باركتَ على إبراهيمَ، 4 [وعلى آلِ إبراهيمَ] ".
__________
5- هو من حديث أبي سعيد الخدري قال:
قلنا: يا رسول الله! هذا السلام عليك قد علمناه؛ فكيف الصلاة عليك؟ قال:
" قولوا: ... " فذكره.
أخرجه البخاري (8/432 - 433 و 11/138) ، والنسائي (1/190 - 191) ، وعنه
ابن السني (124) ، وابن ماجه (1/292 - 293) ، والطحاوي (3/73) ، والبيهقي
(2/147) ، وأحمد (3/47) ، {وإسماعيل القاضي في " فضل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
(ص 28 - الطبعة الأولى وص 62 الطبعة الثانية / طبع المكتب الإسلامي - بتحقيقي) }
من طرق عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن عبد الله بن خباب عنه.
والزيادة الأولى: للبخاري في رواية.
والثانية: عند الطحاوي، وكذا البيهقي في نسخة. وذكر الباقون بدلاً عنها الزيادة
الثالثة.
والزيادة الرابعة: تفرد بها البخاري، وأحمد، {وإسماعيل القاضي} دونهم.(3/924)
6- " اللهمَّ! صلِّ على محمدٍ، و 1 [على] (*) أزواجِهِ، وذرّيّتِه؛ كما
صليتَ على 2 [آلِ] إبراهيمَ.
وباركْ على محمدٍ، و 3 [على] (*) أزواجِهِ، وذرّيّتِه؛ كما باركتَ على
4 [آلِ] إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيد " (1) .
__________
(*) الزيادتان من " صفة الصلاة " المطبوع.
6- هو من حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا:
يا رسول الله! كيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: ... " فذكره.
أخرجه مالك (1/179) ، وعنه البخاري (6/317 و 11/143) ، ومسلم (2/16 -
17) ، وأبو داود (1/155) ، والنسائي (1/191) {وفي " عمل اليوم والليلة " (164/59) } ،
وابن ماجه (1/293) ، والطحاوي (3/74) ، وابن السني (124) ، والبيهقي (2/150) ،
وأحمد (5/424) - كلهم عن مالك - عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه عن
عمرو بن سُليم الزُّرَقي؛ أنه قال: أخبرني أبو حميد الساعدي به.
وليس عند ابن ماجه، والطحاوي، وابن السني الزيادتان 2 و 4، كما أن هذا الأخير
ليس عنده إلا التبريك عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون الصلاة؛ فلا أدري أهكذا الرواية عنده، أم سقط
ذلك من نسختنا من كتابه!
(1) قال الحافظ:
" واستدل بهذا الحديث (*) على أن الصلاة على الآل لا تجب؛ لسقوطها في هذا
الحديث. وهو ضعيف؛ لأنه لا يخلو أن يكون المراد بالآل غير أزواجه وذريته، أو أزواجه
وذريته. وعلى تقدير كل منهما لا ينهض الاستدلال على عدم الوجوب:
__________
(*) برواية ابن ماجه، والطحاوي؛ أي: بدون لفظة " آل ".(3/925)
7- " اللهمَّ! صلِّ على محمدٍ، وعلى آلِ محمدٍ، وباركْ على محمدٍ،
وعلى آلِ محمدٍ؛ كما صليتَ وباركتَ على إبراهيمَ، وآلِ إبراهيمَ، إنك
حميدٌ مجيد ".
__________
أما على الأول؛ فلثبوت الأمر بذلك في غير هذا الحديث، وليس في هذا الحديث
المنع منه؛ بل أخرج عبد الرزاق من طريق ابن طاوس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم عن رجل من الصحابة الحديث المذكور بلفظ:
" صل على محمد، وأهل بيته، وأزواجه، وذريته ".
وأما على الثاني؛ فواضح. واستدل به البيهقي على أن الأزواج من أهل البيت،
وأيده بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} ".
قلت: استدلال البيهقي صحيح - كما بين ذلك ابن القيم في " الجلاء " (144) -.
وأما قول الحافظ: إن الحديث لا يدل على المنع من ذكر الآل. فصواب أيضاً، لكن ليس
هذا هو موضع النزاع؛ بل هو: هل يجب ذكره أم لا؟ فعلى أساس أن الآل هم غير أزواجه
وذريته؛ فالحديث صالح للاحتجاج على عدم وجوب ذكر الآل، ووروده في أكثر الأحاديث
يدل على الاستحباب، ويدل على أن ذلك ليس بواجب النوعُ الخامسُ (*) ؛ فإنه لم يذكر
فيه الآل ولا الأزواج والذرية؛ فلعل ذلك مِسَاك من ذهب إلى جواز الاقتصار على
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون آله - كالشافعية -، لكن دعواهم أعم مما يفيده الحديث؛ فإنهم يقولون: " لو
قال: اللهم! صل على محمد؛ أجزأه "! وهذا القدر لم يرد مطلقاً في صفة من صفات
الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي علمها إيانا؛ فدعواهم على هذا الوجه لا دليل عليها. فاعلم ذلك.
7- هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قلنا: يا رسول الله! كيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: ... " فذكره. وفي آخره:
__________
(*) يعني: رواية الطحاوي، والبيهقي - في نسخة -.(3/926)
..............................................................................
__________
" والسلام كما علمتم ".
أخرجه الطحاوي (3/75) : ثنا صالح بن عبد الرحمن وفهد قالا: ثنا القعنبي قال:
ثنا داود بن قيس عن نُعيم بن عبد الله المُجْمِر عنه، وثنا أحمد بن شعيب {النسائي
-[وهو عنده في " العمل "] (159/47) -} قال: ثنا حاجِب بن سليمان قال: ثنا ابن
أبي فُدَيك قال: ثنا داود بن قيس به.
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وقد رواه محمد بن إسحاق السراج عن القعنبي - واسمه: عبد الله بن مسلمة بن
قعنب -؛ فقال: أخبرني أبو يحيى وأحمد بن محمد البِرْتي قالا: أنبأنا عبد الله بن
مسلمة بن قعنب به.
رواه عبد الوهاب بن منده عن الخفاف عنه.
ونقلت هذا عن " الجلاء " (14 - 15) . ثم قال:
" وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين ".
قلت: والصواب ما سبق؛ فإن داود بن قيس إنما أخرج له البخاري تعليقاً، وهو ثقة
اتفاقاً.
والحديث حجة على ابن القيم؛ فإن فيه الجمعَ بين إبراهيم وآل إبراهيم، وهو ما
أنكر ثبوته ابن القيم تبعاً لشيخه، وقد رددنا عليه موسعاً فيما سلف، وإنما أحببنا الإشارة
إلى ذلك هنا.
هذا، وقد روي الحديث من طريق أخرى عن المُجْمِر.
أخرجه أبو داود (1/155) ، ومن طريقه البيهقي (2/151) عن حِبّان بن يَسَار
الكِلابي: ثني أبو مُطَرِّف عبيد الله بن طلحة بن عبيد الله بن كُرَيز: ثني محمد بن علي(3/927)
..............................................................................
__________
الهاشمي عنه مرفوعاً بلفظ:
" من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت؛ فليقل: اللهم! صل
على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته؛ كما صليت على آل
إبراهيم، إنك حميد مجيد ".
فهذا إسناد ضعيف؛ فإن حِبّان بن يَسَار هذا: صدوق اختلط.
وشيخه عبيد الله بن طلحة: مقبول. يعني: مجهول.
ومحمد بن علي الهاشمي: كأنه أبو جعفر الباقر، أو آخر مجهول. كذا في " التقريب ".
وله علة أخرى؛ وهي الاضطراب في سنده.
فقد أخرجه أبو داود هكذا. وأخرجه النسائي من طريق عمر بن عاصم: ثنا حبان
ابن يسار الكلابي عن عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي عن محمد بن علي عن محمد بن الحنفية
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره. قال ابن القيم (14) :
" وعبد الرحمن هذا: مجهول، لا يعرف في غير هذا الحديث ". وقال السخاوي في
" القول البديع " - كما في " الحرز المنيع " (ص 19) -:
" رواه ابن عدي في " الكامل "، وابن عبد البر، والنسائي في " مسند علي "، وفي
سنده راوٍ مجهول، وآخر اختلط في آخر عمره ".
وسواء كان الحديث من رواية أبي هريرة - كما جنح إليه ابن القيم، وكذا الحافظ في
" الفتح " (11/131) -، أو من حديث علي رضي الله عنه؛ فهو ضعيف لا يصح؛
لضعف بعض رواته، وجهالة آخر. فسكوت الحافظ عليه، وكذا ابن تيمية في " الفتاوى "
(1/163) ليس مما ينبغي السكوت عليه.
وأغرب من ذلك أن صديق حسن خان عزا الحديث في " النزل " (167) إلى(3/928)
..............................................................................
__________
" مسلم "! وهو وهم واضح (*) .
ولأبي هريرة حديث آخر لا يصح أيضاً، نورده لأجل التنبيه عليه؛ وهو:
ما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (93) عن إسحاق بن سليمان عن سعيد بن
عبد الرحمن مولى سعيد بن العاص قال: ثنا حنظلة بن علي عن أبي هريرة عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" من قال: اللهم! صل على محمد ... " الحديث مثل حديث كعب بن عُجْرة رقم
(2) ؛ دون قوله:
" إنك حميد مجيد " في الموضعين، وزاد:
" وترحم على محمد، وعلى آل محمد؛ كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم؛ شهدت له يوم القيامة بالشهادة، وشفعت له ".
ورجاله رجال مسلم؛ غير سعيد بن عبد الرحمن هذا؛ فلم يوثقه غير ابن حبان، ولم
يرو عنه سوى شيخه إسحاق هذا؛ فهو في عداد المجهولين؛ كما يفيده قول الحافظ في
" التقريب ":
" مقبول ".
بل قد صرح بما قلنا في " الفتح " (11/133) ؛ فقال - بعد أن عزاه للطبري في
" تهذيبه " -:
" ورجال سنده رجال " الصحيح "، إلا سعيد بن سليمان - مولى سعيد بن العاص
الراوي له عن حنظلة بن علي -؛ فإنه مجهول ".
__________
(*) وعزا الحديثَ الشيخُ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لأبي سعيد بن الأعرابي في " المعجم "
(79/2) .(3/929)
..............................................................................
__________
قلت: كذا في نسختنا من " الفتح ": (سعيد بن سليمان) ، ولعله تحريف من الناسخ
أو الطابع. ومما ذكرناه تعلم أن قول السخاوي في " الحرز المنيع " (17) :
" حديث حسن، ورجاله رجال " الصحيح " ".
ليس بحسن، ولا كل رجاله رجال " الصحيح "؛ فتنبه، ولا تغتر به. ولهذا قال أبو
بكر بن العربي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " (2/271) :
" حذارِ حذارِ من أن يلتفت أحد إلى ما ذكره ابن أبي زيد؛ فيزيد في الصلاة على
النبي عليه الصلاة والسلام: وارحم محمداً. فإنها قريب من بدعة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم
الصلاة بالوحي؛ فالزيادة فيها استقصار له، واستدراك عليه، ولا يجوز أن يزاد على
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرف، بل إنه يجوز أن يترحم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل وقت ".
وتعقبه بعضهم بحديث أبي هريرة هذا، وقد علمت أنه ضعيف؛ فلا يجوز
الاحتجاج به، لا سيما في مخالفة أصل متفق عليه، وهو ما أفاده قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد ". متفق عليه.
ومنه تعلم حكم زيادة لفظة: (سيدنا) في هذه الصلوات - كما عليه كثير من الناس
من الشافعية وغيرهم -. وقد اختلف العلماء في ذلك - كما سيأتي بيانه في الفوائد
الآتية.(3/930)
..............................................................................
__________
فَوائدُ مهمَّة في الصَّلاةِ على نبيِّ الأُمَّة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وهذه فوائد تتعلق بالصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعمدت ذكرها؛ لغفلة أكثر الناس عنها:
الفائدة الأولى: اشتهر السؤال بين العلماء عن وجه التشبيه في قوله: " كما
صليت ... " إلخ، مع أن المقرر أن المشبَّه دون المشبه به. والواقع هنا عكسه؛ إذ إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وحده أفضل من آل إبراهيم بما فيهم إبراهيم نفسه، ولا سيما وقد أضيف إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آل
محمد، وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة كثيرة أوردها ابن القيم في " الجلاء " (186 -
198) ، ثم الحافظ في " الفتح " (11/134 - 136) . وقد بلغت نحو عشرة أقوال، بعضها
أشد ضعفاً من بعض، إلا قولاً واحداً؛ فإنه أقواها وأصحها، وقد استحسنه ابن القيم؛
تبعاً لشيخه في " الفتاوى " (1/165) ، وهو قول من قال:
إن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طُلب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولآله من الصلاة عليه مثل ما لإبراهيم وآله، وفيهم الأنبياء؛ حصل لآل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من
ذلك ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم
إبراهيم لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيحصل له من المزية ما لا يحصل لغيره. قال ابن القيم (197) :
" وهذا أحسن من كل ما تقدم، وأحسن منه أن يقال: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من آل
إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم؛ كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله
عنه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ}
[3: 33] . قال ابن عباس رضي الله عنه: محمد من آل إبراهيم.
وهذا نص؛ إذ أدخل غيره من الأنبياء - الذين هم من ذرية إبراهيم - في آله؛
فدخول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى. فيكون قولنا: " كما صليت على آل إبراهيم ". متناولاً
للصلاة عليه، وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا الله أن نصلي عليه وعلى
آله خصوصاً بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموماً، وهو فيهم، ويحصل لآله(3/931)
..............................................................................
__________
من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". قال:
" ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم أكمل من الصلاة
الحاصلة له دونهم؛ فيُطلب له من الصلاة هذا الأمرُ العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعاً.
ويظهر حينئذٍ فائدة التشبيه، وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة بهذا
اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره؛ فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبَّه به
- وله أوفر نصيب منه -؛ صار له من المشبَّه المطلوبِ أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى
ذلك مما له من المشبَّه به من الحصة التي لم تحصل لغيره. فظهر بهذا من فضله وشرفه
على إبراهيم وعلى كلٍّ مِنْ آله - وفيهم النبيون - ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة
دالةً على هذا التفضيل، وتابعةً له، وهي من موجباته ومقتضياته.
فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم! صلِّ على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد
مجيد. وبارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ".
واعلم أنه لم يرد في أكثر هذه الأنواع من صيغ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرُ إبراهيم نفسه
مستقلاً عن آله؛ بل قال:
" كما صليت على آل إبراهيم ".
والسبب في ذلك ما تقدم بيانه؛ أن آل الرجل يتناوله كما يتناول غيره ممن يؤوله.
قال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (1/163) :
" إذا أطلق لفظ: (آل فلان) في الكتاب والسنة؛ دخل فيه فلان، كما في قوله
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} ، وقوله
تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} ، وقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} ،(3/932)
..............................................................................
__________
وقوله: {سَلَامٌ عَلَى آل يَاسِينَ} (*) . ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اللهم! صل على آل أبي أوفى ".
وكذلك لفظ: (أهل البيت) ؛ كقوله: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} .
فإن إبراهيم داخل فيهم ". ثم قال:
" ولهذا جاء في أكثر الألفاظ: " كما صليت على آل إبراهيم "، و: " كما باركت على
آل إبراهيم ".
وجاء في بعضها إبراهيم نفسه؛ لأنه هو الأصل في الصلاة والزكاة، وسائر أهل بيته
إنما يحصل لهم ذلك تبعاً.
وجاء في بعضها ذكر هذا وهذا؛ تنبيهاً على هذين ".
الفائدة الثانيه: قد علمت مما سبق أن صيغ الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها كلها
الصلاة على أهل بيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله؛ ولذلك فلا ينبغي الاكتفاء بالصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده،
بل لا بد من إضافة الآل إليه، بل لا بد من إتمام الصيغة من أولها إلى آخرها؛ كما
وردت؛ تقيُّداً بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" قولوا: اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد ... " إلخ، حين سألوه عن كيفية
الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{لا فرق في ذلك بين التشهد الأول والآخر، وهو نص الإمام الشافعي في " الأم "
(1/102) فقال:
" والتشهد في الأولى والثانية لفظ واحد لا يختلف، ومعنى قولي: " التشهد ":
التشهد والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يجزيه أحدهما عن الآخر ".
__________
(*) هي قراءة نافع، وابن عامر، ويعقوب؛ كما في " التذكرة في القراءات " لابن غلبون.(3/933)
..............................................................................
__________
وأما حديث:
" كان لا يزيد في الركعتين على التشهد ".
فهو حديث منكر، كما حققته في " الضعيفة " (5816) ، [وانظر (ص 911) ] } .
وإن من غرائب هذا العصر أن يتجرأ بعض الناس على إنكار ما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من
طرق مستفيضة صحيحة؛ ألا وهو الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله معاً، مع اطلاعه
ووقوفه عليها في كتب السنة {عن جمع من الصحابة؛ منهم كعب بن عجرة، وأبو
حميد الساعدي، وأبو سعيد الخدري، وأبو مسعود الأنصاري، وأبو هريرة، وطلحة
ابن عبيد الله، وفي أحاديثهم أنهم سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" كيف نصلي عليك؟ "، فعلمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الصيغ} ، ألا وهو: الأستاذ محمد
إسعاف النشاشيبي في كتابه " الإسلام الصحيح " (ص 177 - 189) ، وحجته في ذلك
أن الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ؛ لم يُذكر فيها غيرَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أحدٌ. وبناء على ذلك رد الأحاديث الصحيحة كلها المخالفة لزعمه؛ فقال (ص 178 - 179) :
" إن هناك من أشرك في الصلاة بالنبي غيرَه، وهناك من أوجب هذه الصلاة في كل
صلاة، والحق غير شركهم، ولم يجب ما أوجبوا، وهؤلاء أئمة في الدين يقولون؛
فاستمع لما يقولون ... ".
ثم ساق أقوالاً كثيرة في نفي الوجوب المشار إليه، ولكنه لم يسق ولا قولاً واحداً في
تأييد ما سماه شركاً! وأنه لا يجوز ضم الآل إليه في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وإنما ساق بعض الأقوال الموهمة لذلك، وهي عند التحقيق حجة عليه؛ كقوله (ص 179) :
" قال ابن تيمية في " منهاج السنة ": لم يأمر الله بالصلاة على معين غير النبي ".
فإن هذا القول إنما ينفي أمر الله؛ أي: في كتابه، فليس ينفي أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك
- وأمره من أمر الله - في سنته - كما سبق بيانه مفصلاً -.(3/934)
..............................................................................
__________
وبالتالي؛ فإن هذا القول لا ينفي مشروعية الصلاة على الآل استحباباً في الصلاة
عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ألا ترى أن هذا القائل - أعني: ابن تيمية - قد ذهب كغيره من العلماء قبله
وبعده إلى مشروعية ذكر الآل في الصلوات الإبراهيمية - كما تراه في بعض ما نقلناه من
كتابه " الفتاوى " فيما تقدم -، ولو كان عندي الآن كتابه " منهاج السنة "؛ لراجعت
عبارته (*) ، ولتبين لنا غير ما ذكرنا. وكون الصلاة على الآل لم تذكر في الآية لا يلزم
منه عدم مشروعيتها؛ لثبوتها في السنة؛ {وذلك لأنه من المعلوم عند المسلمين أن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المبين لكلام رب العالمين؛ كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
فقد بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيفية الصلاة عليه وفيها ذكر الآل، فوجب قبول ذلك منه؛ لقوله
تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
" ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ". وهو مخرج في " تخريج المشكاة " (163 و4247) .
وقد جاء في كلامه شبهة له أخرى لا بد لنا من إزاحة الستار عنها؛ وهو قوله - بعد
أن ساق الآية السابقة -:
" فأي عربي فطن أو غبي لا يلقف ذهنه هذا الكلام سريعاً، وأن الصلاة كالسلام
الذي قالوا: إنهم علموه. فكيف يسألون عن مثل ما لم يجهلوه، وهل يأمر رسول الله بغير
ما أمر الله؟! ".
فهو يشير بهذا الكلام إلى رد أحاديث الصلاة على الآل؛ لأن منها - كما تقدم -:
(هذا السلام قد عرفناه؛ فكيف الصلاة عليك؟) . فهو يحيل الصحابة عن مثل هذا
السؤال؛ لأن:
__________
(*) انظرها فيه (4/594 و 606) .(3/935)
..............................................................................
__________
" الصلاة في كلام العرب من غير الله إنما هو دعاء ". كما نقله هو في التعليق
(ص 177) . فإذ الأمر كذلك؛ فهذه الأحاديث غير صحيحة!
وهذه مغالطة مكشوفة، وكلام خِطَابي لا حجة فيه، وإنما {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً} ؛ وذلك لأن الصلاة في اللغة، وإن كان معناها ما ذكر؛ فذلك لا ينفي أن
يكون لها معنى شرعي هو غير معناها اللغوي، أو يزيد عليه، ألا ترى أن قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لا يمكن لمسلم أن يفهم معناه اللغوي؛ أي: الدعاء. فالصحابة رضي
الله عنهم حين سألوا بقولهم: كيف الصلاة عليك؟ لم يقصدوا المعنى اللغوي المعروف
عندهم الذي يلقفه ذهنهم، وإنما سألوا عن الصلاة الشرعية التي لا يمكنهم معرفتها من
لغتهم، بل من طريق نبيهم؛ فأجابهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما سألوا، وأمرهم بقوله:
" قولوا: اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد ... " إلخ.
وكل عالم باللغة العربية - مهما كان ضليعاً فيها كهذا الذي نحن في صدد الرد
عليه - لا يمكنه أن يستغني ألبتة عن بيان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للكتاب؛ فإن اللغة وحدها لا تكفي
في فهمه على الجادة والصواب؛ ألم تر أن الصحابة - وهم من هم في العربية - قد
احتاجوا إلى السؤال عن كيفية الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما سألوه غير ذلك؟
فقد أخرج الشيخان في " صحيحيهما "، والترمذي (2/179 - طبع بولاق)
وصححه، وأحمد (1/444) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} ؛ شَقَّ ذلك على المسلمين،
فقالوا: يا رسول الله! وأينا لا يظلم نفسه؟ قال:
" ليس ذلك؛ إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ
بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ؟ ".(3/936)
..............................................................................
__________
فهذه القصة وغيرها دليل واضح على أنه قد يخفى على الصحابة أو بعضهم معنى
بعض الآيات؛ فيسألون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيبينها لهم؛ فلا يجوز - إذن - استغراب صدور مثل
هذا السؤال عنهم، وإنكار الأحاديث الصحيحة لمثل هذا الاستغراب - كما صنع
النشاشيبي فيما سلف -.
وكتابه هذا الذي أسماه " الإسلام الصحيح "، كل الأبحاث التي فيه توحي بأن
المؤلف لا يعتد بالسنة كثيراً، وإنما العمدة عنده القرآن، والقرآن فقط؛ ولذلك تراه يقول
عن نفسه فيه (ص 67) :
" نحن مسلمون قرآنيون "!
وقد علمنا أن من مشرب هؤلاء (القرآنيين) ردَّ الأحاديث الصحيحة لأدنى شبهة،
لا في صحتها من جهة إسنادها، ولكن لمخالفتها لأهوائهم وميولهم، وقد [سار] على
نسقهم في هذا الكتاب؛ فرد أحاديث كثيرة صحيحة، قسم كبير منها في " الصحيحين "،
نكتفي الآن بالإشارة إلى أماكنها من الكتاب؛ فانظر: (ص 35 - 36 و 85 - 86 و 116 -
117 و 142 و 149 و 150 و 154 و 212 و 240 - 241 و 276 - 277 و 278) .
{وليت شعري! ماذا يقول النشاشيبي - ومن قد يغتر ببهرج كلامه - فيمن عسى
أن ينكر التشهد في الصلاة، أو أنكر على الحائض ترك الصلاة والصوم في حيضها؟!
بدعوى أن الله تعالى لم يذكر التشهد في القرآن، وإنما ذكر القيام والركوع والسجود فقط!
وأنه تعالى لم يسقط في القرآن الصلاة والصوم عن الحائض، فالواجب عليها القيام بذلك!
فهل يوافقون هذا المُنْكِر في إنكاره؛ أم ينكرون عليه ذلك؟
فإن كان الأول - وذلك مما لا نرجوه -؛ فقد ضلوا ضلالاً بعيداً، وخرجوا عن جماعة
المسلمين!
وإن كان الآخر؛ فقد وُفِّقوا وأصابوا، فما ردوا به على المنكِر؛ فهو ردنا على(3/937)
..............................................................................
__________
النشاشيبي، وقد بيَّنا لك وجه ذلك.
فحذار أيها المسلم! أن تحاول فهم القرآن مستقلاً عن السنة؛ فإنك لن تستطيع ذلك
ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك، وهاك المثال أمامك؛ فإن النشاشيبي هذا كان من كبار
علماء اللغة في القرن الحاضر، فأنت تراه قد ضلَّ حين اغترَّ بعلمه في اللغة، ولم يستعن
على فهم القرآن بالسنة؛ بل إنه أنكرها كما عرفت، والأمثلة على ما نقول كثيرة جداً لا
يتسع المقام لذكرها، وفيما سبق كفاية، والله الموفق} .
الفائدة الثالثة: في حكم زيادة لفظة: (سيدنا) في الصلوات الإبراهيمية، أو في
التشهد.
{يرى القارئ أنه ليس في شيء منها لفظ: (السيادة) ، ولذلك اختلف المتأخرون
في مشروعية زيادتها في الصلوات الإبراهيمية ... وأريد أن أنقل إلى القراء الكرام هنا
رأي الحافظ ابن حجر العسقلاني في ذلك؛ باعتباره أحد كبار علماء الشافعية الجامعين
بين الحديث والفقه؛ فقد شاع لدى متأخري الشافعية خلافُ هذا التعليم النبوي الكريم!
فقال الحافظ محمد بن محمد بن محمد الغرابيلي (796 - 835) - وكان ملازماً
لابن حجر، ومن خطه نقلت (1) -:
وسئل (أي: الحافظ ابن حجر) أمتع الله بحياته عن صفة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في الصلاة أو خارج الصلاة، سواء قيل بوجوبها أو بندبيتها؛ هل يشترط فيها أن
يصفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيادة؛ كأن يقول مثلاً: اللهم! صل على سيدنا محمد، أو على سيد
الخلق، أو على سيد ولد آدم. أو يقتصر على قوله: اللهم! صل على محمد؟ وأيهما
أفضل: الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عدم الإتيان به لعدم ورود
ذلك في الآثار؟
__________
(1) وهو من محفوظات المكتبة الظاهرية.(3/938)
..............................................................................
__________
فأجاب رضي الله عنه:
نعم؛ اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما لم
يكن يقول عند ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلى الله عليه وسلم "، وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك
كلما ذكر!
لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً؛ لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في
شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال ذلك؛ مع كثرة ما ورد عنهم
من ذلك.
وهذا الإمام الشافعي - أعلى الله درجته، وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه:
" اللهم! صلِّ على محمد ... " إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده، وهو قوله:
" كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون ".
وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه: " سبحان الله عدد خلقه "؛ فقد
ثبت أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأم المؤمنين - ورآها قد أكثرت التسبيح وأطالته -:
" لقد قلتُ بعدكِ كلماتٍ؛ لو وُزِنَتْ بما قُلْتِ لوَزَنَتْهُن "، فذكر ذلك. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يعجبه الجوامع من الدعاء.
وقد عقد القاضي عياض باباً في صفة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتاب " الشفا "،
ونقل فيه آثاراً مرفوعة عن جماعة من الصحابة والتابعين؛ ليس في شيء منها عن أحد
من الصحابة وغيرهم لفظ: (سيدنا) .
منها: حديث علي: أنه كان يعلمهم كيفية الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول:
اللهم! داحي المَدْحُوَّات! وباري المسموكات! اجعل سوابق صلواتك، ونوامي(3/939)
..............................................................................
__________
بركاتك، وزائد تحيتك على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أُغْلِق.
وعن علي أنه كان يقول:
صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين، والنبيين والصدِّيقين والشهداء الصالحين،
وما سبح لك من شاء يا رب العالمين! على محمد بن عبد الله خاتم النبيين وإمام
المتقين ... الحديث (*) .
وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول:
اللهم! اجعل صلواتك، وبركاتك، ورحمتك على محمد عبدك ورسولك، إمام
الخير، ورسول الرحمة ... الحديث (**) .
وعن الحسن البصري أنه كان يقول:
من أراد أن يشرب بالكأس الأروى من حوض المصطفى؛ فليقل: اللهم! صل على محمد
وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده وذريته وأهل بيته وأصهاره وأنصاره وأشياعه ومحبيه.
فهذا ما أوثره من " الشفا "؛ مما يتعلق بهيئة الصلاة عليه عن الصحابة ومن بعدهم،
وذُكِرَ فيه غيرُ ذلك.
نعم؛ ورد في حديث ابن مسعود أنه كان يقول في صلاته على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اللهم! اجعل فضائل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين ... الحديث.
أخرجه ابن ماجه.
ولكن إسناده ضعيف (**) .
__________
(*) قال السخاوي في " القول البديع " (ص 70) : " لم أقف على أصله "، وذكر (ص 71) أثر
الحسن البصري الآتي؛ مكتفياً بعزوه للقاضي عياض؛ فكأنه لا أصل له!
(**) وكذا ضعفه الشيخ رحمه الله في " ضعيف الترغيب " (1/515) ، ورد تحسين المنذري له بقوله:
" كلا؛ فإن فيه المسعودي المختلط ".(3/940)
..............................................................................
__________
وحديث علي المشار إليه أولاً: أخرجه الطبراني بإسناد ليس به بأس (*) ، وفيه ألفاظ
غريبة رُوِّيتُها مشروحة في كتاب " فضل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لأبي الحسن بن فارس.
وقد ذكر الشافعية أن رجلاً لو حلف لَيُصَلِّيَنَّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الصلاة؛ فطريق
البر أن يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم! صلِّ على محمد كلما ذكره الذاكرون، وسها عن
ذكره الغافلون. وقال النووي:
والصواب الذي ينبغي الجزم به أن يقال: " اللهم! صلِّ على محمد وعلى آل
محمد؛ كما صليت على إبراهيم ... " الحديث.
وقد تعقبه جماعة من المتأخرين؛ بأنه ليس في الكيفيتين المذكورتين ما يدل على
ثبوت الأفضلية فيهما من حيث النقل، وأما من حيث المعنى؛ فالأفضلية ظاهرة في الأول.
والمسألة مشهورة في كتب الفقه، والغرض منها أن كل من ذكر هذه المسألة من
الفقهاء قاطبة؛ لم يقع في كلام أحد منهم: (سيدنا) ، ولو كانت هذه الزيادة مندوبة؛ ما
خفيت عليهم كلهم حتى أغفلوها، والخير كله في الاتباع، والله أعلم ".
قلت: وما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله من عدم مشروعية تسويده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
في الصلاة عليه اتباعاً للأمر الكريم، وهو الذي عليه الحنفية؛ - هو الذي ينبغي التمسك
به؛ لأنه الدليل الصادق على حبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ} (آل عمران: 31) .
ولذلك قال الإمام النووي في " الروضة " (1/265) :
" وأكمل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم! صلِّ على محمد ... " إلى آخر وفق
النوع الثالث المتقدم، فلم يذكر فيه (السيادة) !}
وقد أشار إلى المنع من ذلك أبو بكر بن العربي - كما سبق -. وصرح بذلك جمع،
وأباحه آخرون.
__________
(*) بل هو ضعيف؛ فيه جهالة وانقطاع؛ كما في " القول البديع " (ص 69 - 70) .(3/941)
..............................................................................
__________
والذي نعتقده ونَدين الله تعالى به أن نبينا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيدنا؛ بل هو سيد كل
آدمي شاء أم أبى؛ كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع ".
رواه مسلم (7/59) ، وأبو داود (2/268) ، وأحمد (2/540) من حديث أبي هريرة.
وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وغيره.
والذي ينبغي البحث فيه هو النظر في جواز زيادة هذه اللفظة فيما شرعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته
من صيغ التشهد، والصلوات الإبراهيمية؛ التي أمر بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كيفيات
مختلفة، وليس في شيء منها هذه اللفظة - كما رأيت -؛ ولذلك فإنا نقطع بأن الحق مع
المانعين من ذلك؛ لأننا نعتقد أن زيادة هذه اللفظة لو كانت مما يقربنا إلى الله زلفى؛
لأمرنا بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما أغفل أمرها؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله تعالى إلا وأمرتكم به ... " الحديث.
رواه الطبراني بإسناد صحيح - كما في " الإبداع " -. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمُه لهم،
وينذرهم شر ما يعلمه لهم ... " الحديث.
رواه مسلم (6/18) ، وأحمد (2/191) من حديث ابن عمرو.
وقد أورده ابن حزم في " الإحكام في أصول الأحكام " (1/90) جازماً به بلفظ:
" إن حقاً على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم ".
فإذا كان الأمر كذلك؛ فعدم أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا بتسويده في الصلاة يدل على أنه لا يجوز
التقرب إلى الله تعالى بذلك، ومن فعل ذلك؛ فقد استدرك عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونسبه إلى
القصور - كما قال ابن العربي فيما سبق -، ولا يخفى ما في ذلك من الكفر والضلال.(3/942)
..............................................................................
__________
وأيضا فإن الأذكار والأوراد توقيفية؛ لا يجوز الزيادة عليها، كما لا يجوز النقص
منها، أو تغيير شيء من ألفاظها، وقد دلَّ على ذلك السنة؛ كما في " الصحيحين " من
حديث البراء بن عازب قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إذا أتيت مضجعك؛ فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن،
وقل: اللهم! أسلمت وجهي إليك ... " الحديث، وفيه:
" آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت ".
قال البراء: فقلت أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت. قال:
" لا، - وفي رواية الترمذي، وصححه (2/240 - طبع بولاق) ، والطحاوي في
" المشكل " (2/45) قال: فطعن بيده في صدري، ثم قال: - وبنبيك الذي أرسلت ".
قال الحافظ في " الفتح " (11/94) :
" وأولى ما قيل في الحكمة في رده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على البراء: أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها
خصائص وأسرار لا يدخلها القياس؛ فيجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا
اختيار المازري؛ قال: فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك
الحروف، ولعله أوحي إليه بهذه الكلمات؛ فيتعين أداؤها بحرفها ".
وهذه قاعدة عظيمة يجب مراعاتها في جميع الأذكار والأوراد المروية عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أن
لا يزاد فيها ولا ينقص، ولا يتصرف فيها بتغييرأي لفظ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أنكر على من
غير لفظ: (النبي) بلفظ: (الرسول) ، مع أنه لم يغير شيئاً من المعنى؛ لما تقرر أن الرسول
أعم من النبي، فالرسول نبيٌّ وزيادة، فإذا كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أنكر ذلك - وليس فيه إلا
استبدال لفظ بلفظ -؛ فلأن ينكر على من زاد زيادة باللفظ والمعنى من باب أولى، وعليه
يدل أيضاً عمل الصحابة:(3/943)
..............................................................................
__________
فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنه على رجل قال بعد أن عطس: الحمد لله، والصلاة
على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال له: وأنا أقول: الحمد لله، والصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ولكن ما هكذا علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرجه الترمذي.
هذا، ونحن نعلم أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتعبدون
الله تعالى بتسويده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة، وهم قطعاً أشد تعظيماً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منا، وأكثر له
حباً، ولكن الفرق بينهم وبيننا أن حبهم وتعظيمهم عملي باتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما هو نص
قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . وأما حبنا؛ فلفظي
شكلي.
فإذا كان السلف لم يتعبدوا بذلك؛ فليس لنا أن نفعل. وقد قال حذيفة بن اليمان
رضي الله عنه:
كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا تَعبدوها.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
اتبعوا، ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيْتُم، عليكم بالأمر العتيق.
والأمر العتيق: هو الاقتصار على ما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأوراد والأذكار؛ بدون أدنى
زيادة، مهما كان نوعها؛ ولذلك قال الحافظ:
" اتباع الآثار الواردة أرجح، ولم تنقل - يعني: لفظة السيادة - عن الصحابة
والتابعين، ولم تُرو إلا في حديث ضعيف عن ابن مسعود، ولو كان مندوباً؛ لما خفي
عليهم ". قال:(3/944)
..............................................................................
__________
" وهذا يقرب من مسألة أصولية؛ وهي: أن الأدب أحسن، أم الاتباع والامتثال؟
ورجح الثاني؛ بل قيل: إنه الأدب ".
قلت: وهذا القيلُ نقله الشيخ الطحطاوي في " مراقي الفلاح " (158) عن
" شرح الشفا " للشهاب. وقد ذكر السيوطي نحوه في " الحرز المنيع " (66) عن المجد
اللغوي.
وأنا أستغرب وقوع مثل هذا الاختلاف بين العلماء؛ فإني لا أعقل أن يكون الأدب
خيراً من الامتثال؛ لأن معنى ذلك أن الامتثال ليس فيه من الأدب ما يليق به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
ولا يخفى ما فيه، ولأن في هذا القول محاذيرَ كثيرة تؤدي إلى تغير الشريعة!
فخذ مثلاً: الشهادة في الأذان، والإقامة، وفي التشهد في الصلاة.
فإن الأفضل - على هذا القول - أن يقول المتشهد: (وأشهد أن سيدنا محمداً رسولُ
الله) .
وإذا كان الأدب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى من امتثال أمره؛ فكذلك يقال أيضاً: إن
الأدب مع الله تعالى أولى من امتثال أمره من باب أولى! فينبغي أن يقال مثلاً: (أشهد
أن لا إله إلا الله سبحانه وتعالى) ؛ وغيرها من العبارات التي تدل على تعظيم الله تعالى
وتنزيهه!
وما أعتقد أن عاقلاً من علماء المسلمين يستجيز هذا التصرف، والتغيير في دين الله
تعالى، وسَدُّ ذلك إنما يكون برد ذلك القول، والأخذ بمعارضه: الامتثال خير من الأدب؛
بل هو الأدب. ورحم الله ابن مسعود حيث قال:
اقتصادٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من اجتهاد في بدعة.
وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف(3/945)
..............................................................................
__________
الفائدة الرابعة: قال الحافظ في " الفتح " (11/139) :
" واستُدل بتعليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه الكيفية - بعد سؤالهم عنها - بأنها أفضل كيفيات
الصلاة عليه؛ لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل، ويترتب على ذلك: لو حلف
أن يصلي عليه أفضل الصلاة؛ فطريق البرِّ أن يأتي بذلك. هكذا صوبه النووي في
" الروضة " ". ثم قال الحافظ:
" والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا؛ فليقل: اللهم! صل على
محمد النبي ... " إلخ ".
قلت: لكن هذا الحديث ضعيف؛ لا يجوز أن يحتج به - كما بينا فيما سبق
[ص 928]-؛ فالحق ما استصوبه النووي إن شاء الله تعالى؛ ولذلك قال تاج الدين
عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي في " طبقات الشافعية " (1/96) :
" سمعت أبي رحمه الله يقول: أحسن ما صُلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الكيفية، ومن
أتى بها؛ فقد صلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيقين، وكان له الجزاء الوارد في حديث الصلاة بيقين،
وكل من جاء بلفظ غيرها؛ فهو من إتيانه بالصلاة المطلوبة في شك؛ لأنهم قالوا: كيف
نصلي عليك؟ قال: " قولوا: ... " كذا. فجعل الصلاةَ عليه منهم هي قولَ كذا.
قال: وإذا قالها العبد؛ فقد سأل الله تعالى أن يصلي على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما صلى
على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله، ثم إذا قالها عبد آخر؛ فقد طلب صلاة أخرى
غير التي طلبها الداعي الأول ضرورةَ أن المطلوبَيْنِ - وإن تشابها -؛ مفترقان بافتراق
الطالب، وأن الدعوتين مستجابتان؛ إذ الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة مستجابة، فلا بد
أن يكون ما طلبه هذا غير ما طلبه ذاك؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل.(3/946)
..............................................................................
__________
فالحاصل أن الله تعالى يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة مماثلة لصلاته على إبراهيم عليه
الصلاة والسلام وآله، وكلما دعا عبد؛ فلا تنحصر الصلوات عليه من ربه التي كل منها
بقدر ما حصل لإبراهيم وآله؛ إذ لا ينحصر عدد من صلى عليه بهذه الصلاة.
وكان رحمه الله لا يفتر لسانه عن الإتيان بهذه الصلاة " (1) .
قلت: فَلْيَعْتبِر بكلام السبكي هذا أولئك الذين يضيعون على أنفسهم هذه الأجور
والفضائل بإعراضهم عن الصلوات الإبراهيمية - إلا في الصلاة -، ويتمسكون بصلوات
بدعية ما أنزل الله بها من سلطان؛ كصلاة الفاتح لِمَا أُغلق، والصلاة النارية، والصلاة
الطِّلَّسْمِيَّة المتضمنّة لفكرة وحدة الوجود، وصلاة ابن مشيش، وغيرها كثير. ولا يخلو
أكثرها من شرك وإضلال، وقد تولى بيان ذلك الأستاذ الفاضل عبد الرحمن الوكيل في
مجلة " الهدي النبوي " في أجزاء هذه السنة (67 هـ) ، تحت عنوان (طواغيت) ؛ فليراجعها
من شاء التمسك بهديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن مثل هذه الأبحاث قلما كُتب مثلها. فجزى الله
جامعها خير الجزاء.
الفائدة الخامسة: السنة في هذه الصلوات أن يؤتى بهذه مرة، وبهذه أخرى؛
كأدعيهَ الاستفتاح، والتشهدات وغيرها، لا أن يجمع بينها في صلاة واحدة - كما ذهب
إليه بعض المتأخرين -؛ فإن ذلك يستلزم الإتيان بصفة لم ترد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وذلك بدعة
في الدين} . قال الأذرعي:
" الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات، ويقول كل ما ثبت؛ هذا مرة، وهذا
مرة. وأما التلفيق؛ فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة في حديث
__________
(1) {ذكره الهيتمي في " الدر المنضود " (ق 25/2) ، ثم ذكر (ق 27/1) أن المقصود يحصل بكلِّ
من هذه الكيفيات التي جاءت في الأحاديث الصحيحة} .(3/947)
..............................................................................
__________
واحد ". قال الحافظ (11/132) :
" وكأنه أخذه من كلام ابن القيم؛ فإنه قال:
إن هذه الكيفية لم ترد مجموعة في طريق من الطرق، والأولى أن يستعمل كل لفظ
ثبت على حدة؛ فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد، بخلاف ما إذا قال الجميعَ دفعة
واحدة؛ فإن الغالب على الظن أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعل ذلك ".
قلت: وقد فصل القول في هذا في كتابه " الجلاء " (219 - 222) ، فراجعه؛ فإنه
نفيس، لا تكاد تجده في كتاب. {وبيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث له في
التكبير في العيدين " مجموع " (69/253/1) } .
الفائدة السادسة: قال العلامة صديق حسن خان في كتابه " نزل الأبرار بالعلم
المأثور من الأدعية والأذكار " - بعد أن ساق أحاديث كثيرة في فضل الصلاة على
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإكثار منها؛ قال - (ص 161) :
" لا شك في أن أكثر المسلمين صلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أهل الحديث ورواة السنة
المطهرة؛ فإن من وظائفهم في هذا العلم الشريف التصلية عليه أمام كل حديث، ولا يزال
لسانهم رطباً بذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس كتاب من كتب السنة، ولا ديوان من دواوين الحديث
- على اختلاف أنواعها؛ من الجوامع والمسانيد والمعاجم والأجزاء وغيرها - إلا وقد اشتمل
على آلاف الأحاديث، حتى إن أخصرها حجماً كتاب " الجامع الصغير " للسيوطي، فيه
عشرة آلاف حديث، وقس على ذلك سائر الصحف النبوية، فهذه العصابة الناجية
والجماعة الحديثية أولى الناس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة، وأسعدهم بشفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بأبي هو وأمي -، ولا يساويهم في هذه الفضيلة أحد من الناس إلا من جاء بأفضل مما
جاؤوا به، ودونه خرط القتاد، فعليك يا باغي الخير! وطالب النجاة بلا ضير! أن تكون
مُحَدِّثاً، أو متطفلاً على المحدِّثين، وإلا؛ فلا تكن ... ! فليس فيما سوى ذلك من عائدة(3/948)
{وكذلك سنَّ لهم الدعاء في هذا التشهد وغيره، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إذا قعدتم في كل ركعتين؛ فقولوا: التحيات لله ... ". فذكرها إلى
آخرها، ثم قال: " ثم ليتخيَّر من الدعاء أعجبه إليه " (1) } .
__________
تعود إليك ".
قلت: وأنا أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني من هؤلاء المحدِّثين الذين هم أولى
الناس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعل هذا الكتاب من الأدلة على ذلك، ورحم الله الإمام
أحمد؛ إمام السنة الذي أنشد:
دين النبيِّ محمد أخبار ... نعم المطيَّة للفتى آثار
لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى أثر الهدى ... والشمس بازغة لها أنوار
(1) {أخرجه النسائي، وأحمد، والطبراني من طرق عن ابن مسعود (*) ، وهو
مخرج في " الصحيحة " (878) مع الكلام في فقهه.
وله شاهد في " مجمع الزوائد " (2/142) من حديث ابن الزبير} .
* * *
__________
(*) [وانظر تخريجه مفصلاً فيما سبق ص (865) ، وسيأتي الكلام على شطره الأخير
(ص 998 - 1000، 1002 - 1003) ] .(3/949)
القيام إلى الركعة الثالثة ثم الرابعة
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض إلى الركعة الثالثة مكبراً (1) ،...........................
__________
(1) { [رواه] البخاري، ومسلم. [وسبق تخريجه من حديث أبي هريرة (ص 674) ] } .
وأما كيف نهوضه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أهو معتمداً على يديه، أم على صدور قدميه؟ فذلك مما لم
يرد فيه حديث فيما علمنا، حاشا حديث أبي هريرة:
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض في الصلاة على صدور قدميه.
فإنه بعمومه يشمل هذا المحل، لكنه حديث ضعيف؛ لا يصح إسناده - وقد تقدم -.
ثُمَّ هو معارض في بعض أجزائه لحديث مالك بن الحويرث:
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسه من السجدة الأولى والثالثة التي لا يقعد فيها؛ استوى
قاعداً، ثم قام.
وهو حديث صحيح - كما سبق -[ص 817] .
نعم؛ صح ذلك عن ابن مسعود موقوفاً عليه؛ كما قال عبد الرحمن بن يزيد:
رمقت عبد الله بن مسعود في الصلاة؛ فرأيته ينهض، ولا يجلس. قال:
ينهض على صدور قدميه في الركعة الأولى والثالثة.
أخرجه الطبراني في " الكبير "، والبيهقي (2/125 - 126) من طريق سفيان بن
عيينة عن عبدة ابن أبي لبابة عنه.
وهذا إسناد صحيح. وقد صححه البيهقي، وقد رواه من طرق أخرى عن ابن يزيد،
ورواه أيضاً عن ابن عمر:
أنه كان يقوم على صدور قدميه.
وسنده صحيح أيضاً.(3/950)
..............................................................................
__________
ولكن جاء عنه خلافه بإسناد آخر؛ فقال معاذ بن نجدة: ثنا كامل بن طلحة: ثنا
حماد - هو ابن سلمة - عن الأزرق بن قيس قال:
رأيت ابن عمر إذا قام من الركعتين؛ اعتمد على الأرض بيده. فقلت لولده
ولجلسائه: لعله يفعل هذا من الكِبَر؟ قالوا: لا، ولكن هذا (1) يكون.
أخرجه البيهقي (2/135) .
وهذا سند جيد. رجاله كلهم ثقات؛ غير معاذ بن نجدة؛ فقال الحافظ في " اللسان "
- تبعاً لأصله " الميزان " -:
" صالح الحديث، وقد تُكُلِّم فيه ". ثم قال البيهقي:
" وروينا عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يعتمد على يديه إذا نهض. وكذلك كان
يفعل الحسن، وغير واحد من التابعين ". قال النووي في " المجموع " (3/444) :
" وهو مذهبنا. حكاه ابن المنذر عن ابن عمر، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز،
والقاسم بن عبد الرحمن، ومالك، وأحمد ".
قلت: وهو نص الإمام الشافعي في " الأم " (1/101) ؛ قال - بعد أن ساق حديث
ابن الحويرث -:
" وبهذا نأخذ؛ فنأمر من قام من سجود، أو جلوس في الصلاة أن يعتمد على
الأرض بيديه معاً، اتباعاً للسنة؛ فإن ذلك أشبه للتواضع، وأعون للمصلي على الصلاة،
وأحرى أن لا ينقلب، وأي قيام قامه سوى هذا كرهته ".
قلت: ولا يخفى أن حديث ابن الحويرث أخص مما قاله الشافعي من العموم،
فالظاهر أنه قال ذلك قياساً على ما ذكر فيه من القيام، وهو ما يفيده صنيع البيهقي؛
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: هكذا. أو نحو ذلك.(3/951)
{وأمر به (المسيء صلاته) في قوله:
" ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة " - كما تقدم (*) -} .
{و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من القعدة؛ كبَّر، ثم قام " (1) } .
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه " (2) مع هذا التكبير أحياناً.
و" كان إذا أراد القيام إلى الركعة الرابعة؛ قال: (الله أكبر) " (3) . {وأمر
به (المسيء صلاته) - كما تقدم آنفاً -.
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه " (4) مع هذا التكبير أحياناً} .
ثم " كان يستوي قاعداً " (5) " على رجله اليسرى معتدلاً حتى يرجع كل
عظم إلى موضعه " (6) ، {" ثم يقوم معتمداً على الأرض " (7) .
__________
حيث قال في " سننه ":
" (باب الاعتماد بيده على الأرض إذا نهض؛ قياساً على ما روينا في النهوض في
الركعة الأولى) ". ثم ساق حديث ابن الحويرث، وعقبه بأثر ابن عمر المذكور آنفاً.
(*) (ص 56 - 57) .
(1) {رواه أبو يعلى في " مسنده " (284/2) بسند جيد، وهو مخرج في
" الصحيحة " (604) } .
(2 و 3) { [رواه] البخاري، وأبو داود} .
(4) { [رواه] أبو عوانة، والنسائي بسند صحيح} .
(5 و 7) هو من حديث ابن الحويرث - وقد مضى تخريجه -[816 - 817] .
(6) هو من حديث أبي حميد والعشرة من أصحابه، وقد مضى أيضاً [605] .(3/952)
و " كان يعجن: يعتمد على يديه إذا قام " (1) } .
و" كان يقرأ في كل من الركعتين: {الفَاتِحَة} ، وأمر بذلك (المسيء
صلاته) ، وكان ربما أضاف إليهما في صلاة الظهر بضع آيات - كما سبق
بيانه في (القراءة في صلاة الظهر) -.
__________
(1) { [رواه] الحربي في " غريب الحديث ". ومعناه عند البخاري وأبي داود،
وأما حديث:
" نهى أن يعتمد الرجل على يده إذا نهض في الصلاة ".
فهو منكر لا يصح؛ كما بينته في " الضعيفة " (967) . [وانظر (ص 821
و824) ] } .
* * *(3/953)
القنوت (1)
في الصلوات الخمس للنازلة
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد؛ قنت في
الركعة الأخيرة بعد الركوع (2) إذا قال: " سمع الله لمن حمده. اللهم! ربنا
لك الحمد " " (3) .
و" كان يجهر بدعائه " (4) .
__________
(1) (القنوت) يطلق على معانٍ، والمراد به هنا: الدعاء في الصلاة في محل
مخصوص من القيام.
(2) فيه أن السنة في القنوت للنازلة في الصلوات أنه بعد الركوع، وعليه
الخلفاء الراشدون، وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق - كما في " المجموع " (3/506) -،
وهو اختيار محمد بن نصر المروزي - كما صرح به في كتابه (133) -.
وهو الحق؛ فإنه لم يرد مطلقاً عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قنت في النوازل قبل الركوع، ومن أراد
التفصيل في ذلك؛ فليراجع " زاد المعاد " (1/102 - 104) ، و " فتح الباري " (2/392 -
393) .
(3 و 4) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد؛ قنت بعد
الركوع، فربما قال إذا قال: " سمع الله لمن حمده ":
" اللهم! ربنا لك الحمد. اللهم! أنْجِ الوليد بن الوليد، وسَلَمة بن هشام، وعياش بن
أبي ربيعة، اللهم! اشدد وطأتك على مُضَرَ، واجعلها سنين كَسِني يوسف ".
يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر:(3/954)
..............................................................................
__________
" اللهم! العن فلاناً وفلاناً " - لأحياء من العرب -، حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأَمْرِ شَيْءٌ} .
أخرجه البخاري (8/182) ، والدارمي (1/374) ، {وابن خزيمة (1/78/2) =
[1/313/619] } ، والطحاوي (1/142) ، والبيهقي (2/197) ، وأحمد (2/255) من
طريق إبراهيم بن سعد: ثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن
عبد الرحمن عنه.
ورواه ابن نصر (133) دون قوله: فربما قال: ... إلخ.
وأخرجه النسائي (1/163 - 164) من طريق بقية عن ابن أبي حمزة قال: ثني
محمد قال: ثني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن به نحوه إلى قوله:
" كَسِنِي يوسف ". وزاد:
ثم يقول:
" الله أكبر ". فيسجد. وضاحية مُضَرَ يومئذٍ مخالفون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهو في " المسند " (2/502) من طريق يزيد عن محمد عن أبي سلمة وحده؛ دون
قوله: وضاحية مضر ... إلخ.
وهذا سند جيد. فيه إثبات التكبير بعد القنوت وهو عزيز.
واعلم أن قوله في هذا الحديث: حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ،
وتمام الآية: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . لا يصح في هذا الحديث؛ لأنه
منقطع؛ كما بَيَّنَتْهُ رواية مسلم (2/134) من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال:
أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة به نحوه وقال بعد قوله: " كسني يوسف ":(3/955)
..............................................................................
__________
" اللهم! العن لِحْيان ورِعْلاً وذكوان، وعُصية عصت الله ورسوله ".
ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ... } الآية. قال الحافظ:
" وهذا البلاغ لا يصح؛ لانقطاعه عن الزهري عمن بلغه.
ثم إن قصة رِعْل وذكوان كانت بعد أحد، ونزول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}
كان في قصة أحد - كما سيأتي [ص 960 - 962]-؛ فكيف يتأخر السبب عن النزول؟! ".
والحديث فيه استحباب الجهر بدعاء القنوت، وعليه الشافعية في أصح الوجهين
عندهم، وقال النووي (3/502) :
" والصحيح أو الصواب استحباب الجهر؛ ففي " البخاري " عن أبي هريرة:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهر في قنوت النازلة
وفي الجهر بالقنوت أحاديث كثيرة صحيحة ".
وهو اختيار الإمام أحمد؛ فقد قال أبو داود في " مسائله " (67) :
" سمعت أحمد سئل عن القنوت؟ فقال:
الذي يعجبنا أن يقنت الإمام، ويؤمِّنَ من خلفه ".
قلت: وذلك هو المنقول عن الصحابة؛ ففي " قيام الليل " لابن نصر (137) : عن
أبي عثمان النَّهْدي:
كان عمر يقنت بنا في صلاة الغداة؛ حتى يسمع صوته من وراء المسجد.
وعن الحسن:
أن أُبي بن كعب أَمَّ الناس في رمضان؛ فكان يقنت في النصف الآخر حتى
يسمعهم الدعاء.(3/956)
و " يرفع يديه " (1) .
__________
(1) رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، وعنه ثابت قال:
كنا عند أنس بن مالك فكتب كتاباً بين أهله؛ فقال:
اشهدوا يا معشر القراء!
قال ثابت: فكأني كرهت ذلك؛ فقلت: يا أبا حمزة! لو سميتهم بأسمائهم؟ قال:
وما بأس ذلك؛ أن أقول لكم: قراء؟ أفلا أحدثكم عن إخوانكم الذين كنا نسميهم
على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القراء؟ فذكر أنهم كانوا سبعين، فكانوا إذا جَنَّهُم الليل؛
انطلقوا إلى معلم لهم بالمدينة، فيدرسون الليل حتى يصبحوا، فإذا أصبحوا، فمن كانت
له قوة؛ استعذب من الماء، وأصاب من الحطب، ومن كانت عنده سعة؛ اجتمعوا
فاشتروا الشاة وأصلحوها، فيصبح ذلك معلقاً بحُجَرِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما أُصيب خُبَيب؛ بعثهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتوا على حي من بني سُلَيم، وفيهم
خالي حرامٌ؛ فقال حَرَامٌ لأميرهم: دعني فلأخبر هؤلاء أنا لسنا إياهم نريد؛ حتى يُخَلُّوا
وجهنا. فقال لهم حرام: إنا لسنا إياكم نريد؛ فخلوا وجهنا.
فاستقبله رجل بالرمح؛ فأنفذه منه، فلما وجد الرمح في جوفه؛ قال: الله أكبر،
فزت ورب الكعبة! قال: فانطووا عليهم، فما بقي أحد منهم.
فقال أنس: فما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ على شيء قط وَجْدَه عليهم؛ فلقد رأيت
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الغداة رفع يديه؛ فدعا عليهم. وفي رواية: يدعو عليهم.
أخرجه أحمد قال (3/137) : ثنا هاشم وعفان - المعنى - قالا: ثنا سليمان عن
ثابت به.
وهذا إسناد صحيح. رجاله كلهم ثقات؛ رجال الشيخين والأربعة.(3/957)
..............................................................................
__________
وقد أخرجه الطبراني في " الصغير " (ص) (*) من طريق علي بن صَقْر السُّكَّري
البغدادي: ثنا عَفّان بن مسلم: نا سليمان بن المغيرة عن ثابت به نحوه بلفظ:
فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما صلى الغداة؛ رفع يديه يدعو عليهم.
وروى منه هذا القدر البيهقي (2/211) ، وقال النووي (3/500) :
" إسناده صحيح أو حسن ". وقال العراقي في " تخريج الإحياء " (1/159) :
" إسناده جيد ".
وفي الحديث استحباب رفع اليدين في دعاء القنوت. قال النووي في " المجموع ":
" وهذا هو الصحيح عند الأصحاب ".
قلت: وعليه الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة - كما حكاه علماؤنا -. وجاء في
ترجمة أبي يوسف:
" قال أحمد بن أبي عمران الفقيه: ثني فرج مولى أبي يوسف قال: رأيت مولاي أبا
يوسف إذا دخل في القنوت للوتر؛ رفع يديه في الدعاء. قال ابن أبي عمران: كان فرج
ثقة ". اهـ من " شرح الهداية " (1/306) .
وبه قال أحمد أيضاً {وإسحاق} - كما في " مسائله " {للمروزي (ص 23) } -.
وقد ثبت ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ كما أخرجه
البخاري في " رفع اليدين " (23) ، وابن نصر (134) ، والبيهقي (2/212) عن أبي
عثمان النهدي:
كان عمر يقنت بنا في صلاة الغداة، ويرفع يديه؛ حتى يُخرج ضَبْعَيْهِ.
__________
(*) كذا الأصل. وهو في مطبوعه (1/324 - ط: المكتب الإسلامي) .(3/958)
و " يؤمن من خلفه (1) " (2) .
__________
ثم رواه البيهقي عنه من طرق، ثم قال:
" وهو صحيح عن عمر. وكذا صححه عنه البخاري ". ثم قال البيهقي:
" وروي عن علي رضي الله عنه بإسناد فيه ضعف، وروي عن عبد الله بن مسعود،
وأبي هريرة رضي الله عنهما في قنوت الوتر.
فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء في الصلاة؛ فدم يثبت بخبر
صحيح، ولا أثر ثابت، ولا قياس (1) .
فالأولى أن لا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم؛ من رفع اليدين
دون مسحهما بالوجه في الصلاة. وبالله التوفيق " [اهـ. مختصراً] .
(1) أخذ به الإمام أحمد - كما سبق [ص 956]-، وهو أصح الوجهين عند
الشافعية: أنه يؤمّن على دعاء الإمام، ولا يقنت.
(2) هو من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال:
قنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة
الصبح؛ في دبر كل صلاة، إذا قال: " سمع الله لمن حمده " من الركعة الآخرة؛ يدعو
على أحياء من بني سُلَيم: على رِعْل وذكوان وعُصَيَّة، ويؤمِّن مَنْ خلفه.
أخرجه أبو داود (1/228) ، وابن نصر (137) ، والحاكم (1/225) ، وعنه البيهقي
__________
(1) {فهو بدعة.
وأما خارج الصلاة؛ فلم يصح، وكل ما روي في ذلك ضعيف، وبعضه أشد ضعفاً من بعض؛
كما حققته في " ضعيف أبي داود " (262) ، و " الأحاديث الصحيحة " (597) ، ولذلك قال العز بن
عبد السلام في بعض فتاويه:
" لا يفعله إلا الجهال "} .(3/959)
..............................................................................
__________
(2/200) ، وأحمد (1/301) ، والحازمي في " الاعتبار " (62 و 64) ، والضياء المقدسي
في " المختارة " (*) من طريق ثابت بن يزيد عن هلال بن خَبَّاب عن عكرمة عنه به. زاد
أحمد والحاكم:
وكان أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فقتلوهم. قال عكرمة:
هذا مفتاح القنوت. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي! وفيه نظر بَيِّن؛ فإن هلالاً هذا
ليس من رجال البخاري، ثم إن فيه مقالاً. وقال النووي (3/502) :
" إسناده حسن أو صحيح ". وقال ابن القيم (1/101) :
" حديث صحيح ". وقال الشوكاني في " النيل " (2/495) :
" وليس في إسناده مطعن، إلا هلال بن خباب؛ فإن فيه مقالاً، وقد وثقه أحمد،
وابن معين وغيرهما ".
وسكت عليه الحافظ في " التلخيص " (3/420) .
والصواب أن الحديث حسن - كما جزم به الحازمي -.
(تنبيه) : قد جاءت قصة دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رعل وذكوان في " الصحيحين " من
حديث أبي هريرة - كما سبق -، ومن حديث أنس؛ وفيه أنه قال:
فذلك بدء القنوت.
وهذا مثل قول عكرمة:
هذا مفتاح القنوت.
وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة؛ بعد ثلاثة أشهر من غزوة أحد - كما قال
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للسراج أيضاً.(3/960)
..............................................................................
__________
ابن إسحاق؛ على ما في " البداية " (4/72) -.
وذلك يفيد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقنت قبل هذه الواقعة، وليس كذلك؛ فقد ورد أنه قنت
أيضاً في غزوة أحد؛ كما روى البيهقي في " المعرفة " - على ما في " نصب الراية "
(2/129) - عن عمر بن حمزة عن سالم عن ابن عمر قال:
صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح يوم أحد، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية؛ قال:
" سمع الله لمن حمده. اللهم! العن أبا سفيان، وصفوان بن أمية، والحارث بن
هشام ". فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} .
قلت: ومن هذا الوجه أخرجه الترمذي (2/166 - طبع بولاق) ، لكن ليس فيه ذكر
الصلاة، وزاد في آخره:
فتاب الله عليهم؛ فأسلموا، فحَسُنَ إسلامهم. وقال:
" حديث حسن ".
ثم رواه هو، والطحاوي في " المشكل " (1/236) من طريق ابن عجلان عن نافع
عن ابن عمر بنحوه. وقال:
" حسن صحيح ".
وقد أخرجه البخاري في (غزوة أحد) من " صحيحه " (7/293) ، والطحاوي أيضاً،
وأحمد (2/147) عن الزهري عن سالم عن أبيه:
أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر؛ يقول:
" اللهم! العن فلاناً وفلاناً "، بعدما يقول: " سمع الله لمن حمده، ربنا! ولك
الحمد ". فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ} .(3/961)
و " كان يقنت في الصلوات الخمس كلها (1) " (2) .
__________
فليس فيه التصريح أن ذلك كان في أُحُد، وكأن البخاري - بإيراده الحديث في
قصة أحد - أشار إِلى رواية البيهقي المصرحة بذلك. قال الحافظ في " الدراية "
(ص 117) :
" ويؤيد ذلك حديث أنس: أن الآية نزلت يوم أحد؛ بعد أن شُجَّ وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
قلت: هذا أخرجه البخاري (7/292) تعليقاً، ووصله مسلم (5/179) ، والترمذي
(2/166) ، والطحاوي (1/289) وفي " المشكل " أيضاً (1/236 - 237) . قال في
" الفتح " (8/183) :
" وطريق الجمع بينه وبين حديث ابن عمر: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا على المذكورين بعد ذلك
في صلاته، فنزلت الآية في الأمرين معاً؛ فيما وقع له من الأمر المذكور، وفيما نشأ عنه
من الدعاء عليهم، وذلك كله في أُحُد ".
(1) فيه أن السنةَ في قنوت النازلة الدعاءُ في الفرائض الخمس، وهو الصحيح
من مذهب الشافعية - كما في " المجموع " (3/494 و 505) -، وهو ثابت عند علمائنا
الحنفية - كما نقل ذلك الشيخ أنور الكشميري في " فيض الباري " (2/302) -. قال
النووي:
" وأما غير المكتوبات؛ فلا يقنت في شيء منهن ".
(2) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه بمعناه. وقد سبق لفظه قريباً
[ص 959] .
وله شاهد من حديث البراء بن عازب:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها.(3/962)
..............................................................................
__________
أخرجه الدارقطني (177) ، والبيهقي (2/198) ، والطبراني، والحازمي (63) (*)
من طريق محمد بن أنس عن مُطَرِّف بن طَريف عن أبي الجهم عنه.
وهذا إسناد حسن، ورجاله - كما قال الهيثمي (2/138) : - " موثقون ". وأما قول
ابن القيم (1/102) :
" لا تقوم به حجة ". فمردود؛ لأنه ليس عليه حجة.
وهو عند مسلم (2/137) ، وأبي داود (1/227) ، والنسائي (1/164) ، والترمذي
(2/251) وصححه، والدارمي (1/375) ، والطحاوي (1/142) ، والبيهقي (2/198) ،
والطيالسي (100) ، وأحمد (4/280 و 285) من طريق أخرى عن البراء بلفظ:
كان يقنت في الصبح والمغرب. وقال أحمد:
" ليس يُروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قنت في المغرب إلا في هذا الحديث، وعن علي
قوله ".
كذا قال. وهو ذهول عن حديث ابن عباس - وقد أخرجه هو نفسه في " المسند "،
كما سبق -. وعن حديث أنس قال:
كان القنوت في المغرب والفجر.
أخرجه البخاري (2/227 و 394) ، والطحاوي (1/143) ، والبيهقي (2/199) .
وقد وهم الحافظ؛ حيث عزاه لمسلم.
وفي الباب عن أبي هريرة قال:
والله! لأُقَرِّبَنّ بكم صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للسراج.(3/963)
لكنه " كان لا يقنت فيها إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم " (1) ، فربما قال:
__________
من صلاة الظهر، وصلاة العشاء الآخرة، وصلاة الصبح؛ فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكافرين.
أخرجه البخاري (2/226) ، ومسلم (2/135) ، وأبو داود (1/227) ، والنسائي
(1/164) ، والدارقطني (178) ، والبيهقي (2/198) ، وكذا الطحاوي (1/142) ،
وأحمد (2/255 و 337 و 470) من طريق أبي سلمة عنه. قال الحافظ:
" وظاهر الحديث أن جميعه مرفوع ".
قلت: ويشهد له الأحاديث التي قبله.
(1) هو من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
أخرجه الخطيب البغدادي في كتاب " القنوت " من حديث محمد بن عبد الله
الأنصاري: ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه.
وهذا سند صحيح؛ كما قال الحافظ في " الدراية " (117) وفي " الفتح " (8/182) ،
وعزاه فيه (2/393) وفي " التلخيص " (3/418 و 438) لابن خزيمة في " صحيحه "
{ [وهو فيه] (1/78/2) = [1/314/620] } .
وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقنت في صلاة الصبح، إلا أن يدعو لقوم أو على قوم.
أخرجه ابن حبان عن إبراهيم بن سعد عن الزُّهري عن سعيد وأبي سلمة عنه. قال
الحافظ:
" إسناده صحيح ".
قلت: وهو في " صحيح البخاري " بهذا الإسناد بنحوه - وقد سبق في أول الفصل
[ص 954]-.(3/964)
..............................................................................
__________
وذَكَر الحديثين في " نصب الراية " (2/130) ، ثم قال:
" قال صاحب " التنقيح ": وسند هذين الحديثين صحيح. وهما نص في أن القنوت
مختص بالنازلة ".
قلت: ولذلك أنصف الحافظ ابن حجر؛ حيث قال:
" ويؤخذ من جميع الأخبار أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يقنت إلا في النوازل. وقد جاء ذلك
صريحاً ". ثم ساق الحديثين. قال ابن القيم (1/97) :
" ولم يكن من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القنوت فيها - يعني: صلاة الصبح - دائماً، ومن المحال أن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول: " اللهم! اهدني فيمن
هديت ... " إلخ، ويرفع بذلك صوته، ويُؤَمِّن عليه أصحابه دائماً إلى أن فارق الدنيا، ثم
لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة، بل يضيعه أكثر أمته، وجمهور أصحابه، بل كلهم
حتى يقول من يقول منهم: إنه مُحْدَثٌ ". قال:
" ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان يقنت كل غداة، ويدعو بهذا
الدعاء، ويؤمِّن الصحابة؛ لكان نَقْلُ الأمة لذلك كله كنقلهم لجهره بالقراءة فيها،
وعددها، ووقتها، وإن جاز عليهم تضييع أمر القنوت؛ جاز عليهم تضييع ذلك، ولا فرق!
وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديه الجهر بالبسملة كل يوم وليلة خمس مرات
دائماً مستمراً؛ ثم يُضَيِّع أكثر الأمة ذلك، ويخفى عليها! وهذا من أمحل المحال، بل لو
كان ذلك واقعاً؛ لكان نقله كنقل عدد الصلوات، وعدد الركعات، والجهر والإخفات،
وعدد السجدات، ومواضع الأركان، وترتيبها. والله الموفق.
والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف: أنه جهر وأسر، وقنت وترك، وكان إسراره
أكثر من جهره، وتركه القنوت أكثر من فعله، وإنما قنت عند النوازل؛ للدعاء لقوم،(3/965)
..............................................................................
__________
وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدِمَ من دعا لهم وتخلَّصوا من الأسر، وأسلم من دعا
عليهم وجاؤوا تائبين؛ فكان قنوته لعارض، فلما زال؛ ترك القنوت ". قال:
" ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها؛ لأجل ما شرع فيها من الطول،
ولاتصالها بصلاة الليل، وقربها من السَّحَر، وساعة الإجابة، وللتنزُّل الإلهي، ولأنها
الصلاة المشهودة؛ التي يشهدها الله وملائكته، أو ملائكة الليل والنهار - كما روي هذا
وهذا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} - ".
(تنبيه) : وأما حديث أنس:
ما زال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.
فحديث ضعيف، لا يصح. وإن صححه الحاكم والنووي!
فهو ضعيف من قبل أبي جعفر الرازي - راويه - عن الربيع عن أنس. وقد بسط
الكلام عليه ابن القيم في " الزاد " (1/99 - 100) ، والحافظ في " التلخيص " (3/417 -
418) وغيرهما.
(فائدة) : قال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على " الترمذي "
(2/252) :
" وقد ترك الناس القنوت في النوازل التي تنزل بالمسلمين، وما أكثرها في هذه
العصور في شؤون دينهم ودنياهم! حتى صاروا - من تفرقهم وإعراضهم عن التعاون حتى
بالدعاء في الصلوات؛ صاروا - كالغرباء في بلادهم، وصارت الكلمة فيها لغيرهم!
والقنوت في النوازل بالدعاء للمسلمين، والدعاء على أعدائهم ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في الصلوات كلها بعد قوله: " سمع الله لمن حمده " في الركعة الآخرة ".(3/966)
" اللهم! أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي
ربيعة، اللهم! اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف،
[اللهم! العن لِحْيَانَ ورِعْلاً وذكوانَ، وعُصَيَّة عصت الله ورسوله] " (*)
ثم " كان يقول - إذا فرغ من القنوت -:
" الله أكبر ". فيسجد " (1)
__________
(*) انظر تخريجه مفصلاً فيما سبق (ص 954 - 956) .
(1) هو من حديث أبي هريرة.
أخرجه النسائي، وأحمد - كما سبق [ص 955]-، {والسراج (109/1) ، وأبو
يعلى في " مسنده " بسند جيد} .
* * *(3/967)
القنوت في الوتر
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في ركعة الوتر أحياناً، ويجعله قبل الركوع " (1) .
__________
(1) هو من حديث أُبَيّ بن كعب:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يوتر؛ فيقنت قبل الركوع.
أخرجه النسائي (1/248) {وفي " السنن الكبرى " (ق 218/1 - 2) = [1/448/
1432 و 6/184/10570] } ، وابن ماجه (1/359) ، والضياء المقدسي في " المختارة " من
طريق علي بن ميمون قال: ثنا مَخْلَد بن يزيد عن سفيان عن زُبَيد عن سعيد بن
عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عنه.
وهذا إسناد جيد. رجاله رجال الشيخين؛ غير علي بن ميمون، وهو ثقة - كما في
" التقريب " -.
وقد تابعه فِطْرُ بن خليفة، ومِسْعَرُ بن كِدَام عن زبيد.
أخرجه عن الأولِ الدارقطنيُّ (175) ، و {البيهقي [3/40] } .
وعن الآخرِ البيهقيُّ (3/40) ، وذكرهما أبو داود تعليقاً.
وبذلك يصير الإسناد صحيحاً.
وله إسناد آخر عن سعيد بن عبد الرحمن: عند الدارقطني -[ومن طريقه البيهقي
(3/39) } - قال: ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث: ثنا المُسَيِّب بن واضح: ثنا
عيسى بن يونُس عن سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة - قال أبو بكر بن سليمان: ربما قال
المسيب: عن عَزْرَة (في الأصل [عند الدارقطني] : عروة. وهو تصحيف) ، وربما لم يقل -
عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى به.
وهذا سند صحيح أيضاً.
وقد أخرجه ابن نصر (131) : ثنا إسحاق: أخبرنا عيسى بن يونس به؛ دون قوله:(3/968)
ولا يخصه بنازلة (1) .
__________
(عن عزرة) .
وكذلك علقه أبو داود. ثم أعله بأن جماعة رووه عن سعيد بن أبي عروبة، وآخرين
عن زبيد، لم يذكروا القنوت.
وهذه علة غير قادحة؛ لأن الذين زادوا القنوت جماعة أيضاً ثقات؛ فيجب قبول
زيادتهم - كما تقرر في المصطلح -؛ ولذلك قد صحح الحديث جمع. قال الحافظ في
" التلخيص " (4/249) :
" حديث أبي بن كعب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقنت قبل الركوع. رواه أبو داود،
والنسائي، وابن ماجه، وأبو علي بن السَّكَن في " صحيحه ". ورواه البيهقي من حديث
أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وضعفها كلها، وسبق إلى ذلك أحمدُ بن
حنبل، وابنُ خزيمة، وابنُ المنذر؛ قال الخلال عن أحمد: لا يصح فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شيء، ولكن عمر كان يقنت ".
وقد ضعف الحديث أيضاً أبو بكر بن العربي؛ فقال:
" لم يصح ". فتعقبه الحافظ العراقي بقوله:
" بل هو صحيح أو حسن " - كما في " النيل " (3/38) -.
ويقويه تلك الشواهد التي أشار إليها الحافظ، وهي وإن كانت ضعيفة الأسانيد؛
فبعضها يقوي بعضاً {وهو مخرج في " الإرواء " (426) } (*) .
(1) وكذلك كان لا يخصه بالنصف الأخير من رمضان. والحجة في ذلك: أن
الأحاديث الواردة فيه مطلقة غير مقيدة - كما رأيت -، ومثلها حديث الحسن بن علي
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لابن أبي شيبة (12/41/1) ، وأحمد،
والطبراني، وابن عساكر (4/244/2) ؛ قال: " بسند صحيح ".(3/969)
..............................................................................
__________
رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في قنوت الوتر:
" اللهم! اهدني فيمن هديت ... " الحديث.
وهو صحيح الإسناد - كما يأتي -، وهو مطلق أيضاً؛ ليس فيه شيء من القيود.
وقد اعتضدت هذه المُطْلَقات بأعمال الصحابة؛ فقد روى ابن نصر (131) عن
عمر، وعلي، وابن مسعود القنوتَ في الوتر في السَّنَةِ كلها. قال الترمذي:
" وهو قول أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وأهل
الكوفة ".
واعلم أنه إنما قلنا: كان يقنت أحياناً؛ لأننا تتبعنا الأحاديث الواردة في إيتاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وهي كثيرة -؛ فوجدنا أكثرها لا تتعرض لذكر القنوت مطلقاً - كأحاديث عائشة، وابن
عباس وغيرهما -، ومقتضى الجمع بينها وبين حديث أُبَيّ وما في معناه أن يقال: إنه
كان يقنت أحياناً، ويدع أحياناً، إذ لو كان يقنت دائماً؛ لما خفي ذلك على أكثر
الصحابة الذين رووا إيتاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك يدل على أن القنوت ليس بالأمر الحتم؛ بل هو
سنة، وعليه جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب أبي
يوسف، ومحمد؛ خلافاً لأستاذهما أبي حنيفة؛ فإنه قال بوجوبه.
وقد اعترف المحقق ابن الهمام في " فتح القدير " (1/306 و 359 و 360) بأن القول
بوجوبه ضعيف لا ينهض عليه دليل، {وهذا من إنصافه وعدم تعصبه} . فراجع كلامه
في ذلك؛ فإنه نفيس. ومثل هذا التصريح لا تكاد تجده في كتب علمائنا.
هذا، وكون قنوت الوتر قبل الركوع هو مذهب الحنفية، وهو الحق الذي لا ريب
فيه؛ إذ لم يصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافه، وهو المروي عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود في
" قيام الليل " (133) .(3/970)
..............................................................................
__________
ورواه الطبراني عن ابن مسعود بسند حسن - كما في " المجمع " (2/137) -، وهو في
" مصنف ابن أبي شيبة " [2/97/6910] بلفظ: عن علقمة:
أن ابن مسعود وأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع.
وسنده حسن أيضاً - كما قال الحافظ في " الدراية " (115) -.
وأما الحديث الذي رواه الحاكم (3/172) ، وعنه البيهقي (3/38 - 39) عن الفضل
ابن محمد الشَّعْراني: ثنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الملك بن شَيْبة الحِزَامي: ثنا ابن
أبي فُدَيك عن إسماعيل بن إبراهيم بن عُقبة عن عمه موسى بن عُقبة عن هشام بن
عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي قال:
علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وتري إذا رفعت رأسي، ولم يبق إلا السجود:
" اللهم! اهدني فيمن هديت ... ".
وكذلك أخرجه الطبراني في " الكبير ".
فهذا إسناد ضعيف. وقول الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين ": وَهْمٌ - وإن وافقه عليه الأستاذ أحمد محمد شاكر
في تعليقه على " المحلى " (4/148) ، ولا أدري كيف خفي ذلك عليه -، وبيانه من
وجوه:
أولاً: إن أبا بكر عبد الرحمن بن شيبة لم يخرج له مسلم شيئاً، والبخاري إنما روى
له حديثين متابعة. ثم هو متكلم فيه؛ قال أبوأحمد الحاكم:
" ليس بالمتين عندهم ". وقال أبو بكر بن أبي داود:
" ضعيف ". وقال ابن حبان في " الثقات ":(3/971)
..............................................................................
__________
" ربما خالف ". وفي " التقريب ":
" صدوق يخطئ ". فمن كان هذا حاله؛ لا يقبل منه ما تفرد به دون الثقات.
ثانياً: إن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة هو من أفراد البخاري دون مسلم.
ثالثاً: إن محمد بن جعفر بن أبي كثير قد خالفه في إسناده ومتنه؛ فقال: ثني
موسى بن عُقبة: ثنا أبو إسحاق عن بُرَيد ابن أبي مريم عن أبي الحَوْرَاء عن الحسن بن
علي قال:
علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هؤلاء الكلمات في الوتر ... فذكرها؛ دون قوله:
إذا رفعت رأسي، ولم يبق إلا السجود.
أخرجه الحاكم، والطبراني أيضاً في " الكبير ". وكذلك رواه غير ما واحد عن بُرَيد
- كما يأتي -. قال الحافظ في " الدراية ":
" وهو الصواب ". وقال في " التلخيص " (3/431) :
" (تنبيه) : ينبغي أن يُتأمل في هذه الزيادة؛ فقد رأيت في الجزء الثاني من " فوائد
أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني " في تخريج الحاكم له قال: ثنا محمد
ابن يونس المُقري: ثنا الفضل بن محمد البيهقي: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة المدني
الحِزامي ... بسنده المتقدم، ولفظه:
علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقول في الوتر قبل الركوع ... فذكره. وزاد في آخره:
" ولا منجا منك إلا إليك ".
قلت: وبالجملة؛ فهذه الزيادة لا تصح (*) ، سواء كان أصلها قبل الركوع، أو بعده.
__________
(*) ثم مال الشيخ رحمه الله إلى تحسينه. انظر " الإرواء " (2/168 - 169) .(3/972)
وعَلَّم الحسَنَ بن علي رضي الله عنه أن يقول [إذا فرغ من قراءته في
الوتر] (*) :
" اللهم! اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن
توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وَقِني شر ما قضيت، [فـ] (1) إنك تقضي
ولا يُقضى عليك. [و] (1) إنه لا يذل من واليت، [ولا يَعِزُّ من عاديت] (2) ،
__________
(*) الزيادة من " صفة الصلاة " المطبوع؛ أخرجها ابن منده في " التوحيد " بسند
حسن - كما يأتي قريباً -.
(1) قال الحافظ في " التلخيص " (3/426) :
" وأسقط بعضهم الواو من قوله: " وإنه لا يذل ... ". وأثبت بعضهم الفاء في قوله:
" فإنك تقضي " ".
قلت: وأكثر الرواة على إثبات الواو والفاء، وهي رواية {ابن أبي شيبة [1/6888
و29696] } ، وابن خزيمة (1095 و 1096) ، والنسائي، والترمذي، والدارمي، والحاكم،
وأحمد. وصحح ذلك النووي في " المجموع " (3/495) ؛ فقال:
" الحديث الصحيح باثبات الفاء والواو؛ هذا لفظه في رواية الترمذي وجمهور
المحدِّثين ". قال:
" وتقع هذه الألفاظ في كتب الفقه مغيرة؛ فاعتَمِدْ ما حققتُه؛ فإن ألفاظ الأذكار
يُحافظ فيها على الثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
(2) قال الحافظ (3/432) :
" هذه الزيادة ثابتة في الحديث؛ إلا أن النووي قال في " الخلاصة ":
إن البيهقي رواها بسند ضعيف. وتبعه ابن الرِّفْعَة في " المطلب "؛ فقال:
لم تثبت هذه الرواية.(3/973)
..............................................................................
__________
وهو معترض؛ فإن البيهقي رواها من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن
بُريد ابن أبي مريم عن الحسن - أو الحسين - بن علي؛ فساقه بلفظ الترمذي، وزاد:
" ولا يعز من عاديت ".
وهذا التردد من إسرائيل إنما هو في الحسن أو في الحسين. وقال البيهقي:
كأن الشك إنما وقع في الإطلاق، أو في النسبة.
قلت: يؤيد رواية الشك: أن أحمد بن حنبل أخرجه في (مسند الحسين بن علي) من
" مسنده " [1/201] من غير تردد؛ فأخرجه من حديث شريك عن أبي إسحاق ... بسنده.
وهذا - وإن كان الصواب خلافه، والحديث من حديث الحسن، لا من حديث أخيه
الحسين؛ فإنه - يدل على أن الوهم فيه من أبي إسحاق؛ فلعله ساء فيه حفظه، فنسي
هل هو الحسن أو الحسين؟!
والعمدة في كونه الحسن على رواية يونس بن أبي إسحاق عن بريد ابن أبي مريم،
وعلى رواية شعبة عنه - كما تقدم -.
ثم إن هذه الزيادة رواها الطبراني أيضاً من حديث شريك وزهير بن معاوية عن أبي
إسحاق، ومن حديث أبي الأحوص عن أبي إسحاق ".
قلت: ورواية يونس هي رواية أحمد في " المسند "، ورواها عنه أبو داود في " مسائله " (68) .
وقد أخرجها الطبراني في " الكبير " عنه أيضاً، وعن شعبة؛ كلاهما عن بريد ابن
أبي مريم بهذه الزيادة.
وبالجملة؛ فهي زيادة صحيحة ثابتة لا شك فيها، {وفات ذلك النووي؛ فصرح
رحمه الله في " روضة الطالبين " (1/253 - طبع المكتب الإسلامي) أنها زيادة من العلماء!
مثل زيادتهم: " فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك "!(3/974)
تباركت ربنا وتعاليت، [لا منجا منك إلا إليك] (*) " (1)
__________
ومن الغريب أنه قال بعد ذلك بسطور:
" واتفقوا على تغليط القاضي أبي الطيب في إنكاره: " لا يعز من عاديت "، وقد
جاءت في رواية البيهقي. والله أعلم "} .
(*) الزيادة من " صفة الصلاة " المطبوعة، وهي عند ابن منده في " التوحيد "، وأبي
بكر الأصبهاني في " فوائده " - كما يأتي -.
(1) هو من حديث الحسن بن علي نَفْسِه قال:
علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في قنوت الوتر: ... فذكرها.
أخرجه أبو داود (1/225) ، والنسائي (1/252) ، والترمذي (2/328) ، والدارمي
(1/373 - 374) ، وابن ماجه (1/358) ، وابن نصر (134) ، والحاكم (3/172) ،
والبيهقي (2/209 و 497) ، وأحمد (1/199) ، والطبراني في " الكبير "، {وكذا ابن
أبي شيبة [2/95/6888] } من طرق عن بريد ابن أبي مريم عن أبي الحوراء عنه.
ورواه ابن خزيمة { (1/119/2) = [2/151 و 152/1095 و 1096] } ، وابن حبان
في " صحيحيهما " (*) - كما في " نصب الراية " (2/125) ، و " التلخيص " (4/425) -.
والزيادة عند البيهقي، والطبراني.
والحديث صحيح - كما قال النووي (3/496) -، ورجاله كلهم ثقات. وسكت عليه
الحاكم. واقتصر الترمذي على قوله:
" حديث حسن ". وهو قصور.
وأما تضعيف ابن حزم له في " المحلى " (4/147 - 148) ؛ فمما لا يلتفت إليه؛ لأنه
لا سلف له في ذلك ولا حجة.
__________
(*) {وابن منده في " التوحيد " (70/2) بسند آخر حسن} .(3/975)
..............................................................................
__________
وهناك زيادات في بعض الروايات لا تصح؛ أحببت التنبيه عليها: فمنها ما عند
ابن ماجه من طريق شريك عن أبي إسحاق عن بريد:
" ... سبحانك تباركت ... ".
وشريك: سيئ الحفظ.
وعزا هذه الزيادة الحافظ في " التلخيص " للترمذي. وهو وهم، تبعه عليه الشوكاني
(3/37) ! وزاد أبو بكر بن مِهْران الأصبهاني (*) في آخره:
" لا منجا منك إلا إليك ". وهي ضعيفة لا تصح (**) - كما سبق قريباً -.
(تنبيه) : زاد النسائي من طريق أخرى عن ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم
عن موسى بن عُقبة عن عبد الله بن علي عن الحسن بن علي به، قال في آخره:
" وصلّى الله على النبي الأمي ".
وهذا إسناد ضعيف. وإن قال النووي في " المجموع " (3/499) :
" صحيح أو حسن ".
فقد تعقبه العلماء، وبيَّنوا وهمه في ذلك؛ قال الحافظ في " التلخيص " (3/430)
- بعد أن نقل كلامه هذا -:
" قلت: وليس كذلك؛ فإنه منقطع؛ فإن عبد الله بن علي - وهو: ابن الحسين بن
علي - لم يلحق الحسن بن علي.
وقد اختُلف على موسى بن عقبة في إسناده ". ثم بين هذا الاختلاف.
__________
(*) {وابن منده في " التوحيد " (ق 70/2) } .
(**) انظر التعليق (ص 972) .(3/976)
..............................................................................
__________
ثم ذكر أن يحيى بن عبد الله تفرَّدَ عن موسى بقوله: (عن عبد الله بن علي) ، وبزيادة
الصلاة فيه.
قلت: ويحتمل أن يكون عبد الله هذا هو غير عبد الله بن علي بن الحسين بن علي.
وقد أشار إلى هذا الحافظ في " التهذيب " (5/325) بقوله في ترجمة عبد الله هذا:
" وأما روايته عن الحسن بن علي؛ فلم تثبُت، وهي عند النسائي، فإن كان هو
صاحب الترجمة؛ فلم يدرك جده الحسن بن علي؛ لأن والده علي بن الحسين لما مات
عمه الحسن رضي الله عنه؛ كان دون البلوغ ".
وقال القسطلاني في " المواهب "، وشارحه الزُّرْقاني (7/347) ؛ تعقباً على النووي:
" وهي زيادة غير ثابتة؛ لأجل عبد الله بن علي؛ لأنه غير معروف. وعلى تقدير أن
يكون هو عبد الله بن علي بن الحسين بن علي - وهو مقبول الرواية -؛ فهو منقطع؛ لأنه لم
يسمع من جده الحسن بن علي. فقد تبين أنه ليس من شرط الحَسَنِ؛ لانقطاعه أو
جهالة راويه، ولم تنجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذٍ فقد تبين شذوذها - على
ما لا يخفى -، بل ضعفها ".
{ولذلك لم نوردها على طريقتنا في الجمع بين الزيادات؛ وقوفاً منا عند شرطنا
المذكور في مقدمة الكتاب، وقال العز بن عبد السلام في " الفتاوى " (66/1 - عام 1962) :
" ولم تصح الصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت، ولا ينبغي أن يُزاد على صلاة
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء ".
وفي هذا القول منه إشارة إلى أنه لا يتوسع في القول بالبدعة الحسنة؛ كما يفعل
بعض المتأخرين القائلين بها} .
نعم؛ كان أبو حليمة معاذ القاري يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت في رمضان؛
كما رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق - على ما في " الجلاء " (251) -.(3/977)
..............................................................................
__________
وإسناده صحيح. ورواه ابن نصر أيضاً (136) .
ومعاذ هذا: صحابي صغير - كما في " التقريب " -، وهو: ابن الحارث الأنصاري
النَّجَّاري، أحد من أقامه عمر رضي الله عنه بمصلى التراويح.
{وقد ثبت في حديث إمامةِ أُبَيّ بن كعب الناسَ في قيام رمضان أنه كان يصلي
على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخرالقنوت، وذلك في عهد عمر رضي الله عنه.
رواه ابن خزيمة في " صحيحه " (1097) .
فهي زيادة مشروعة؛ لعمل السلف بها، فلا ينبغي إطلاق القول بأن هذه الزيادة
بدعة. والله أعلم} .
وأما الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنوت الفجر؛ فلم يرد مطلقاً، بل قال ابن القيم:
إنه " نقل من قنوت الوتر إلى قنوت الفجر قياساً؛ كما نقل أصل هذا الدعاء إلى
قنوت الفجر ".
قلت: لكن روي حديث بإسناد ضعيف:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رفع رأسه من الركوع في صلاة الفجر في الركعة الثانية؛
رفع يديه، فيدعو بهذا الدعاء:
" اللهم! اهدني فيمن هديت ... " إلخ.
أخرجه الحاكم في " القنوت " - خارج " المستدرك " - من طريق عبد الله بن سعيد
المقبري عن أبيه عن أبي هريرة.
وهذا إسناد ضعيف. وعزاه الحافظ (3/432) لـ " المستدرك "؛ وهو وَهْمٌ. قال في
" الزاد " (1/98) :(3/978)
..............................................................................
__________
" فما أَبْيَنَ الاحتجاجَ به لو كان صحيحاً أو حسناً، لكن لا يحتج بعبد الله هذا، وإن
كان الحاكم صحَّح حديثه في " القنوت " ". وقال الحافظ:
" قال الحاكم: صحيح. وليس كما قال؛ فهو ضعيف؛ لأجل عبد الله، فلو كان ثقة؛
لكان الحديث صحيحاً، وكان الاستدلال به أولى من الاستدلال بحديث الحسن بن
علي الوارد في قنوت الوتر ".
وهناك حديث آخر:
رواه البيهقي (3/210) من طريق عبد الرحمن بن هُرْمُز عن بُريد ابن أبي مريم عن
ابن عباس نحوه.
وهو معلول أيضاً؛ وعلته عبد الرحمن هذا؛ قال الحافظ (3/429) :
" يحتاج إلى الكشف عن حاله ". وقال ابن حبان:
" إن ذكر صلاة الصبح ليس بمحفوظ " - كما في " النيل " (3/37) -.
إذا علمت أنه لم يصح حديث في القنوت بهذا الدعاء في الفجر؛ فالصواب الذي
يقتضيه النظر أن لا يكون لقنوت الفجر وِرْدٌ خاص راتب يواظب عليه؛ بل يدعو بما
يناسب الحال والنازلة. وكذلك الشأن في بقية الصلوات الخمس.
ومن غرائب الفقه المتعارض أن ينقل هذا الدعاء من قنوت الوتر إلى قنوت الفجر
أيضاً - كما هو مذهب الشافعية -، وأن تترك الحنفية الدعاء به في الوتر، ويأخذوا بالدعاء
الذي كان يقنت به عمر رضي الله عنه في قنوت الفجر، وهو قوله:
اللهم! إنا نستعينك، ونستغفرك ... إلخ.
فنقلوه هم إلى الوتر! فهؤلاء في طرف، وأولئك في طرف آخر!
فإن قيل: فما حجتك في أن عمر رضي الله عنه كان يقنت به في الفجر؟(3/979)
..............................................................................
__________
قلت: هي ما أخرجه الطحاوي (1/145) ، وكذا أبو داود في " مسائله " (64 -
65) ، وابن نصر (134 - 136) ، والبيهقي (2/210 - 211) من طرق متعددة:
أن عمر رضي الله عنه قنت في صلاة الغداة قبل الركوع - وفي رواية: بعد الركوع -
بذلك.
وصحح البيهقي بعض أسانيده.
وقد كان قنوت عمر رضي الله عنه بذلك للنوازل؛ بدليل أنه كان يقول قبل هذا
الدعاء:
اللهم! العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك،
ويقاتلون أولياءك. اللهم! خالف بين كلماتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي
لا ترده عن القوم المجرمين. بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم! إنا نستعينك، ... إلخ.
أخرجه البيهقي وغيره.
وبدليل قوله في آخر الدعاء:
إن عذابك بالكفار ملحق.
* * *(3/980)
التشهد الأخير
وجوب التشهد
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أنْ يتم الركعة الرابعة يجلس للتشهد الأخير.
وكان يأمر فيه بما أمر به في الأول، ويصنع فيه ما كان يصنع في الأول؛
إلا أنه " كان يقعد فيه متوركاً " (1) ؛ يفضي بِوَرِكِه (2) اليُسرى إلى الأرض،
وُيخْرِجُ قدميه من ناحية واحدة (3) . و " يجعل اليسرى تحت فخذه وساقه " (4) .
__________
(1) هو من حديث أبي حُمَيد الساعدي ورفقائه بلفظ:
حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم؛ أَخَّر رجله اليسرى، وقعد متوركاً على
شقه الأيسر.
وقد تقدم في (الركوع) [ص 605] .
وسنده صحيح.
(2) {هي ما فوق الفخذ} .
(3) هو من حديث أبي حميد أيضاً.
أخرجه أبو داود (1/152) ، والبيهقي (2/128) من طريق ابن لَهِيعة عن يزيد بن
أبي حَبِيب عن محمد بن عمرو بن حَلْحَلة عن محمد بن عمرو العامري عنه.
وابن لهيعة: سيئ الحفظ.
لكن قد تابعه الليث بن سعد: عند البيهقي (2/102) .
فالإسناد صحيح.
(4) هو من حديث عبد الله بن الزبير قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قعد في الصلاة؛ جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه،(3/981)
..............................................................................
__________
وفرش قدمه اليمنى، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على
فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه.
أخرجه مسلم (2/90) [واللفظ له] ، وأبو عوانة (2/221) ، وأبو داود (1/156) ،
والبيهقي (2/130) ، والطبراني في " الكبير " من طريق عبد الواحد بن زياد: ثنا عثمان
ابن حَكِيم: ثني عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه به.
وقال أبو داود [وأبو عوانة] : (تحت) .. بدل: (بين) .
ولعله أوضح في المعنى، والمراد أنه كان يجعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه
اليمنى.
واعلم أن العلماء اختلفوا في صفة الجلوس في التشهدين:
فمنهم من قال: يفترش فيهما. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
ومنهم من قال: يتورك فيهما. وهو قول مالك وأتباعه.
ومنهم من قال: يتورك في كل تشهد يليه السلام، ويفترش في غيره. وهو مذهب
الشافعي وأصحابه.
ومنهم من قال: يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ فرقاً بين
الجلوسين. وهو مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وهو أسعد الأئمة في هذا المكان
بالسنة؛ فإن معه حديثِ أبي حميد هذا ومن معه من الصحابة، وهو نصٌّ في ذلك؛
قال في " زاد المعاد " (1/91) :
" قال الإمام أحمد ومن وافقه: هذا مخصوص بالصلاة التي فيها تشهدان، وهذا
التورك فيها جُعل فرقاً بين الجلوس في التشهد الأول - الذي يسن تخفيفه؛ فيكون
الجالس فيه متهيئاً للقيام -، وبين الجلوس في التشهد الثاني - الذي يكون الجالس فيه(3/982)
..............................................................................
__________
مطمئناً -. وأيضاً فتكون هيئة الجلوس فارقة بين التشهدين، مذكرةً للمصلي حاله فيهما.
وأيضاً فإن أبا حميد إنما ذكر هذه الصفة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجلسة التي في التشهد الثاني؛
فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول، وأنه كان يجلس مفترشاً، ثم قال:
وإذا جلس في الركعة الآخرة. وفي لفظ:
فإذا جلس في الركعة الرابعة ".
وينبغي أن نسوق أدلة كل مذهب من المذاهب المذكورة؛ ليظهر الحق منها:
أما المدهب الأول: فاحتج أصحابه بثلاثة أحاديث:
الأول: عن عائشة قالت:
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله
اليمنى ... الحديث.
وقد سبق في (افتتاح الصلاة) . وهو بعمومه حجة ظاهرة؛ لأنها ذكرت ذلك بعد
قولها: في كل ركعتين التحية. فقولها: وكان يفرش ... إلخ؛ كأنه نص أنه في كل
ركعتين أيضاً؛ لكن الحديث - وإن كان في " صحيح مسلم "؛ فهو - معلّ بالانقطاع كما
بَيَّنَّاه هناك. ولو صح؛ لقلنا بجواز الافتراش في التشهد الأخير، وأنه سنة أحياناً، لكنه
لم يصح.
الثاني: عن وائل بن حُجْر قال:
فلما قعد للتشهد؛ فرش رجله اليسرى، ثم قعد عليها، ووضع كفه اليسرى على
فخذه اليسرى، ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه، وجعل حلقة
بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى.
أخرجه النسائي (1/141) ، والدارمي (1/314) ، وأحمد (4/318) ، والطحاوي(3/983)
..............................................................................
__________
(1/152 - 153) ، والبيهقي (2/132) .
وسنده صحيح. وأظن أنه تقدم (*) .
قال الطحاوي:
" قوله: (يدعو) : دليل على أنه كان في آخر الصلاة ".
وهو كما قال، لكن ينبغي أن ينظر: هل كانت هذه الصلاة ثنائية أم رباعية؟ وقد
وجدت في " سنن النسائي " (1/173) رواية أخرى تُعيِّن ذلك بلفظ:
وإذا جلس في الركعتين؛ أضجع اليسرى، ونصب اليمنى، ووضع يده اليمنى على
فخذه اليمنى، ونصب أصبعه للدعاء.
وإسنادها صحيح أيضاً.
فهذا نص في أن الافتراش إنما كان في الركعتين، والظاهر أن الصلاة كانت ثنائية،
ولعلها صلاة الصبح.
وعليه؛ فالحديث لا حجة فيه لهذا المذهب، بل هو حجة للمذهب الرابع - مذهب
أحمد -؛ الذي يقول بالافتراش في التشهد الأول في الرباعية، وكذا في الثنائية، وهو
حجة على المذهب الثاني والثالث.
الحديث الثالث:
إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتَثْني رجلك اليسرى.
أخرجه مالك (1/112 - 113) ، وعنه البخاري (2/242 - 243) عن عبد الرحمن
ابن القاسم عن عبد الله بن عبد الله بن عمر أنه أخبره:
__________
(*) في عدة مواضع منها بحث (وضع اليمنى على اليسرى على الصدر) (ص 209) .(3/984)
..............................................................................
__________
أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس، ففعلته - وأنا يومئذٍ
حديث السن -، فنهاني عبد الله، وقال: ... فذكره. فقلت له: فإنك تفعل ذلك؟
فقال:
إن رِجْلَيّ لا تحملاني.
وكذلك أخرجه الطحاوي (1/151) ، والبيهقي (2/129) .
وأخرجه النسائي (1/173) ، والدارقطني (133) ، والبيهقي أيضاً من طريق يحيى
ابن سعيد عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عبد الله به نحوه. وقد سبق لفظ النسائي
في (الجلوس بين السجدتين) ، وله عنده - وكذا الدارقطني - ألفاظ أخرى، ثم قال الدارقطني:
" كلها صحاح ".
قلت: وهو حجة بإطلاقه، إلا أنه قد جاء عن ابن عمر أيضاً ما يقتضي تقييده
بالتشهد الأول في الرباعية أو بالتشهد؛ في الثنائية. وهو:
ما أخرجه مالك أيضاً، وعنه الطحاوي، والبيهقي عن يحيى بن سعيد أيضاً:
أن القاسم بن محمد أراهم الجلوسَ في التشهد؛ فنصب رجله اليمنى، وثنى رجله
اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه، ثم قال:
أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وثني: أن أباه كان يفعل ذلك.
فهذا خلاف ما أفادته رواية القاسم بن محمد التي قبل هذه، ومثلها رواية ابنه
عبد الرحمن، فإن لم تُحمل إحدى الروايتين على تشهدٍ والأخرى على تشهد آخر؛
تعارضتا. قال الحافظ (2/243) :
" فإذا حُملت رواية القاسم وابنه على التشهد الأول، وروايته الأخيرة على التشهد(3/985)
..............................................................................
__________
الأخير؛ انتفى عنهما التعارض، ووافق ذلك التفصيلَ المذكورَ في حديث أبي حميد.
والله أعلم ".
هذا كل ما وجدنا لأرباب هذا المذهب من دليل وحجة. وقد ظهر لك بهذا البيان
أنه لا يَسلَمُ لهم ولا حجة واحدة.
وأما المذهب الثاني: فقد احتجوا بحديث ابن عمر المذكور قريباً:
أنه كان يجلس على وركه الأيسر.
والجواب عنه يتضح مما سبق؛ وهو أن هذه الرواية محمولة على التشهد
الأخير؛ جمعاً بينها وبين الرواية المعارضة له، فالروايتان بمجموعهما حجة لأحمد على
مالك.
وقد وجدت له حجة أخرى؛ وهو حديث ابن مسعود:
أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى:
" التحيات ... " الحديث.
وهذا نص واضح في التورك في التشهدين، ولكنه لا يصح إسناده - كما سبق بيانه
في (الافتراش في التشهد) . فراجعه إن شئت -.
ولهم حجة ثالثة، وهو حديث عبد الله بن الزبير هذا.
وأجيب عنه بأنه مجمل، وأنه محمول على التشهد الأخير؛ كما دل عليه حديث
أبي حميد قبله. ذكره في " الزاد " (1/86) .
وأما المذهب الثالث: فليس لهم حجة سوى ما في روايةٍ من حديث أبي حميد
بلفظ:(3/986)
..............................................................................
__________
حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم؛ أخر رجله اليسرى، فقعد متوركاً على
شقه الأيسر.
وقد تقدمت في (الركوع) [ص 605] .
وهذا لا حجة فيه؛ لأن سياق الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد الذي
يليه السلام من الرباعية أو الثلاثية؛ فإنه ذكر قيامه من الركعتين، ثم قال:
حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم؛ قعد متوركاً.
قال ابن القيم (1/92) :
" فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني ".
قلت: وأصرح منه رواية البخاري المتقدمة آنفاً بلفظ:
فإذا جلس في الركعتين؛ جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى. وإذا جلس
في الركعة الآخرة؛ قدم رجله اليسرى. ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته.
وهذه نص فيما قاله ابن القيم، وهي تبين أن بعض الرواة أجملوا رواية حديث أبي
حميد هذا؛ فلم يذكر صفة جلوسه في التشهد الأول؛ فاغتر به من احتج به لهذا
المذهب! وإنما يجب الأخذ بالزائد فالزائد - كما هو معلوم -.
وأما المذهب الرابع: فقد علمت أن حجته هي حديث أبي حميد هذا، وهو نص
صريح قاطع في ذلك؛ فهو أقوى المذاهب وأصحها، وهو الذي يجمع بين مختلف
الأحاديث المتقدمة الثابتة، ولا يرد شيئاً منها، بخلاف غيره من المذاهب؛ فإنه يلزم أن
يَرُد كثيراً من تلك الأحاديث أو بعضها - كما لا يخفى -.(3/987)
و " ينصب اليمنى " (1)
، وربما " فرشها " (2) أحياناً.
__________
(1) هو من حديث أبي حميد: عند البخاري بلفظ:
وإذا جلس في الركعة الآخرة؛ قدم رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته.
{أما الثنائية كالصبح؛ فالسنة الافتراش - كما تقدم (ص 829) -. وبهذا التفصيل
قال الإمام أحمد كما في " مسائل ابن هاني عنه " (ص 79) } .
(2) هو من حديث عبد الله بن الزبير. وقد سبق لفظه قريباً [ص 981 - 982] .
وقد اختلف العلماء في الجمع بين حديثه هذا وبين ما سبق قبله من حديث أبي
حميد؛ فقال البيهقي (2/305) - بعد أن ساق حديث ابن الزبير -:
" ولعل ذلك كان من شكوى ". وقال ابن القيم (1/87) :
" ومعنى فرش قدمه اليمنى: أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته؛ فيكون
قدم اليمنى مفروشة، وقدم اليسرى بين فخذه وساقه ومقعدته على الأرض، فوقع
الاختلاف في قدمه اليمنى في هذا الجلوس: هل كانت مفروشة أو منصوبة؟
وهذا - والله أعلم - ليس اختلافاً في الحقيقة؛ فإنه كان لا يجلس على قدمه، بل
يخرجها عن يمينه؛ فتكون بين المنصوبة والمفروشة، فإنها تكون على باطنها الأيمن، فهي
مفروشة بمعنى أنه ليس ناصباً لها جالساً على عقبه، ومنصوبة بمعنى أنه ليس جالساً
على باطنها وظَهْرُها إلى الأرض.
فصح قول أبي حميد ومن معه، وعبد الله بن الزبير. أو يقال:
إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل هذا وهذا؛ فكان ينصب قدمه، وربما فرشها أحياناً، وهذا أروح
لها. والله أعلم ".(3/988)
و " كان يُلْقِمُ كَفه اليسرى ركبتَه؛ يتحامل عليها " (1) .
__________
وهذا التأويل الأخير الذي ذكره هو المختار عندنا؛ تبعاً للنووي في " شرح مسلم "،
ويكون فَعَل هذا لبيان الجواز، وأن وضع أطراف الأصابع على الأرض - وإن كان مستحباً
باتفاق العلماء - يجوز تركه أحياناً.
وهذا التأويل له نظائر كثيرة؛ لا سيما في باب الصلاة - كما مر ذلك في كتابنا
هذا -.
(1) هو من حديث عبد الله بن الزبير.
أخرجه مسلم (1/90) من طريق أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان عن عامر بن
عبد الله بن الزبير عن أبيه قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قعد يدعو؛ وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده
اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه
الوسطى، ويُلقم كفه اليسرى ركبته.
وقد تابعه عثمان بن حَكِيم عن عامر؛ لكن ليس عنده:
ويلقم كفه اليسرى. وقد سبق لفظه قريباً [981 - 982] .
وتابعه عمرو بن دينار بلفظ:
إنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو كذلك، ويتحامل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده اليسرى على رجله اليسرى.
أخرجه أبو داود (1/156) ، والنسائي (1/187) ، والبيهقي (2/131 - 132) .
واسناده صحيح.
وأخرجه الطبراني في " الكبير "، {وأبو عوانة [2/225 - 226] } .(3/989)
وجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وسنَّ فيه الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما سَنَّ ذلك في التشهد الأول. {وقد
مضى هناك ذكر الصيغ الواردة في صفة الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} .
وقد " سمع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يدعو في صلاته؛ لم يُمَجِّدِ الله تعالى، ولم
يُصَلِّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال:
" عَجِلَ هذا ". ثم دعاه، فقال له أو لغيره:
" إذا صلى أحدكم؛ فَلْيَبْدَأْ بتحميد ربه جل وعز، والثناء عليه، ثم
يصلي (وفي رواية: ليصل) على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يدعو بعد بما شاء ".
[وسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يصلي، فَمَجَّدَ الله، وحمده، وصلى على
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" ادعُ؛ تُجَبْ، وسَلْ؛ تُعْطَ "] " (1) .
__________
(1) هو من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه.
أخرجه الإمام أحمد (6/18) ، وعنه أبو داود (1/233) ، والترمذي (2/260 - طبع
بولاق) ، والحاكم (1/230 و 268) ، وعنه البيهقي (2/147 - 148) ، والطحاوي في
" المشكل " (3/76 - 77) عن عبد الله بن يزيد المقرئ: ثنا حيوة قال: أخبرني أبو هانئ
حميد بن هانئ عن عَمْرو بن مالك الجَنْبي: ثني أنه سمع فَضالة بن عُبيد صاحب
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... فذكره.
وهذا سند صحيح متصل. وقال الترمذي:
" حديث حسن صحيح ". وقال الحاكم:
" صحيح على شرط مسلم ". وفي الموضع الآخر:
" صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي فيهما! وقد وَهِمَا؛ فإن عمرو بن(3/990)
..............................................................................
__________
مالك هذا لم يخرجا له في " الصحيحين ".
والحديث صححه أيضاً ابن خزيمة { (1/83/2) = [1/351/710] } ، وابن حبان
- كما في " الجلاء " (243) -.
وأخرجه النسائي (1/189) من طريق ابن وهب عن أبي هانئ به بلفظ:
" عَجِلْتَ أيها المصلي! ". ثم علمهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
وفيه الزيادة.
وإسنادها صحيح أيضاً.
ورواه ابن لهيعة عن أبي هانئ مقتصراً على المرفوع منه فقط بلفظ:
" إذا دعا أحدكم ... " الحديث.
أخرجه ابن السني (39) .
وابن لهيعة: ضعيف؛ لسوء حفظه.
ولهذه الزيادة متابع: أخرجه الترمذي، وكذا الطبراني - كما في " المجمع " (10/155
- 156) - من طريق رِشْدين بن سعد عن أبي هانئ بلفظ:
بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد؛ إذ دخل رجل، فصلى، فقال: اللهم! اغفر لي
وارحمني. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" عَجِلْتَ أيها المصلي! إذا صليت فقعدت؛ فاحمد الله بما هو أهله، وصلِّ عليَّ، ثم ادعه ".
قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أيها المصلي! ادعُ؛ تُجَبْ ". وقال الترمذي:(3/991)
..............................................................................
__________
" حديث حسن ".
وقد وجدت لها شاهداً من حديث ابن مسعود قال:
كنت أصلي والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست؛ بدأت بالثناء على الله،
ثم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" سَلْ؛ تعطه، سل؛ تعطه ".
أخرجه الترمذي أيضاً (2/488 - طبع الحلبي) من طريق أبي بكر بن عياش عن
عاصم عن زِرّ عنه.
وهذا سند حسن. وقال الترمذي:
" حديث حسن صحيح ". قال المعلق عليه القاضي أحمد محمد شاكر:
" رواه ابن ماجه ".
قلت: وقد فتشت عنه فيه؛ فلم أجده. وقد عزاه النابلسي في " الذخائر " (2/193)
إلى (كتاب السنة) من ابن ماجه، وقد راجعته؛ فلم أره فيه! وإنما روى (1/63) بهذا
الإسناد عن ابن مسعود:
أن أبا بكر وعمر بشّراه؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أُنزل؛ فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ".
ثم رأيت الحديث في " البيهقي " (2/153) من طريق أخرى عن ابن مسعود أتم
منه؛ وفيه:
" من أحب ... " إلخ.
قوله: " له أو لغيره "؛ كذا في رواية أبي داود، والطحاوي: (أو) . ورواية الآخرين:(3/992)
..............................................................................
__________
(له ولغيره) ؛ بالواو. قال ابن القيم (246) :
" وهي الرواية الصحيحة التي رواها ابن خزيمة، وابن حبان، وأحمد، والدارقطني،
والبيهقي وغيرهم ". قال:
" و (أو) هنا ليست للتخيير؛ بل للتقسيم. والمعنى: أن أيَّ مصلٍّ صلى؛ فليقل
ذلك، هذا أو غيره؛ كما قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} . ليس المراد
التخيير؛ بل المعنى: أن أيهما كان؛ فلا تطعه، إما هذا، وإما هذا ".
قوله: " والثناء عليه "؛ أراد بذلك التشهدَ؛ بدليل: أنه ليس في الصلاة موضع
يشرع فيه الثناء على الله تعالى، ثم الصلاة على رسوله، ثم الدعاء إلا في التشهد آخر
الصلاة؛ فإن ذلك لا يشرع في القيام، ولا في الركوع، ولا في السجود اتفاقاً؛ فعلم أنه
إنما أراد به آخر الصلاة حال جلوسه في التشهد. كذا في " الجلاء " (242) .
ويؤيد ذلك:
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث رِشْدين:
" إذا صليتَ، فقعدتَ؛ فاحمدِ الله ... " الحديث.
وقول ابن مسعود:
فلما جلستُ؛ بدأتُ بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دعوت لنفسي.
قوله: " يصلي " كذا رواه أبو داود، والطحاوي. وقال الآخرون:
" ليصلِّ ". بزيادة لام الأمر.
وقد استدل به على وجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأخير؛ لأن
أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للوجوب.(3/993)
..............................................................................
__________
وقد ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، وكذا أحمد {في آخر الروايتين عنه} ،
وإسحاق في رواية عنهما. وقد نقل القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة والتابعين
ومن بعدهم؛ {بل قال الآجري في " الشريعة " (ص 415) :
" من لم يصل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تشهده الأخير؛ وجب عليه إعادة الصلاة "} .
وذلك يرد قول من نسب الإمام الشافعي إلى الشذوذ (1) لقوله بوجوبها - كالطحاوي
وغيره -. قال الحافظ (11/137) :
" وأصح ما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين: ما أخرجه الحاكم بسند قوي عن
ابن مسعود قال:
يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يدعو لنفسه.
وهذا أقوى شيء يُحتج به للشافعي؛ فإن ابن مسعود ذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمهم
التشهد في الصلاة، وأنه قال:
" ثم ليتخير من الدعاء ما شاء ".
فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء؛ دل على أنه اطلع على
زيادة بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود في دفع ما
ذهب إليه الشافعي؛ مثل ما ذكر عياض؛ قال:
وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ليس فيه ذكر الصلاة عليه.
وكذا قول الخطابي: إن في آخر حديث ابن مسعود:
إذا قلت هذا؛ فقد قضيت صلاتك.
__________
(1) {كما بينه الفقيه الهيتمي في " الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود "
(ق 13 - 16) } .(3/994)
..............................................................................
__________
لكن رُد عليه بأن هذه الزيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها؛ فتحمل على أن
مشروعية الصلاة عليه وردت بعد تعليم التشهد.
ويتقوى ذلك بما أخرجه الترمذي عن عمر موقوفاً:
الدعاء موقوف بين السماء والأرض؛ لا يَصِلُ منه شيء حتى يُصلى على
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن العربي:
ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي؛ فيكون له حكم الرفع. انتهى.
وورد له شاهد مرفوع في " جزء الحسن بن عرفة ".
وأخرج المَعْمَريّ في " عمل يوم وليلة " عن ابن عمر بسند جيد قال:
لا تكون صلاة إلا بقراءة، وتشهد، وصلاةٍ عليَّ ".
وأخرج البيهقي في " الخلافيات " بسند قوي عن الشعبي - وهو من كبار التابعين - قال:
من لم يصل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد؛ فليُعِدْ صلاته ". ثم قال الحافظ:
" واستَدل له - يعني: الشافعيَّ - ابنُ خزيمة ومن تبعه بحديث فَضَالة بن عُبيد
هذا ". قال:
" وهذا مما يدل على أن قول ابن مسعود المذكور قريباً مرفوع؛ فإنه بلفظه.
وقد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب؛ فقال: لو كان
كذلك؛ لأُمر المصلي بالإعادة كما أمر (المسيء صلاته) . وكذا أشار إليه ابن حزم.
وأُجيب باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه، ويكفي التمسك بالأمر في
دعوى الوجوب ".(3/995)
..............................................................................
__________
وخير من هذا الجواب وأقوى قولُ ابن القيم في " الجلاء " (237) :
" إنَّ هذا كان غير عالم بوجوبها، معتقداً أنها غير واجبة؛ فلم يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالإعادة، وأَمَرَه في المستقبل أن يقولها. فأَمْرُه بقولها في المستقبل دليل على وجوبها.
وتَرْكُ أمرِه بالإعادةِ دليلٌ على أنه يعذر الجاهل بعدم الوجوب، وهذا كما لم يأمر
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (المسيء) في الصلاة بإعادة ما مضى من الصلوات - وقد أخبر أنه لا يحسن
غير تلك الصلاة - عذراً له بالجهل.
فإن قيل: فلِمَ أمره أن يعيد تلك الصلاة، ولم يعذره بالجهل؟
قلنا: لأن الوقت باق، وقد علم أركان الصلاة؛ فوجب عليه أن يأتي بها.
فإن قيل: فهلا أمر تارك الصلاة عليه بإعادة تلك الصلاة، كما أمر (المسيء) ؟
قلنا: أمرُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة عليه فيها مُحْكَمٌ ظاهر في الوجوب.
ويحتمل أن الرجل لما سمع ذلك الأمر من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بادر إلى الإعادة من غير أن
يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويحتمل أن تكون الصلاة نفلاً؛ لا تجب عليه إعادتها.
ويحتمل غير ذلك؛ فلا يترك الظاهر من الأمر - وهو دليل محكم - لهذا المشتبه
المحتمل. والله سبحانه وتعالى أعلم ".
ومما يدلك على قوة هذا الجواب أنه ثبت في " صحيح مسلم " (2/70) وغيره عن
معاوية بن الحكم السلمي:
أنه تكلم في الصلاة فقال:
وا ثُكل أمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ ... الحديث.(3/996)
..............................................................................
__________
فلم يأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعادة، ولكن علمه تحريم الكلام فيما يستقبل بقوله:
" إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح، والتكبير،
وقراءة القرآن ".
أفيدل عدم أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالإعادة على أن الكلام في الصلاة جائز؟!
كلا، ثم كلا!
فما يكون جواب ابن عبد البر وأمثاله ممن نحا نحو قوله عن هذا الحديث؛ فهو جوابنا
عن حديث فضالة.
نعم؛ إن الحديث لا يدل على ركنية الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة؛ بحيث إنه
يلزم من تركها بطلانُها، وإنما يدل على الوجوب فقط الذي يأثم تاركه. فتنبه لهذا. والله
أعلم.
ومن أراد التوسع في هذا البحث؛ فليراجع كتاب " الجلاء " لابن القيم (222 -
248) ؛ فإنه بحث طويل، فيه فوائد نفيسة، لا تجدها في كتاب.
وفي الحديث أن الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الدعاء؛ سبب لاستجابة الدعاء. وقد
قال علي رضي الله عنه:
كل دعاء محجوب؛ حتى يُصَلَّى على محمد وآل محمد.
رواه الطبراني في " الأوسط ".
ورجاله ثقات - كما في " المجمع " (10/160) -.
وفي الباب آثار أوردها ابن القيم في فصل خاص من " الجلاء " (260 - 261) ، وقد
تقدم منها أثر ابن مسعود قريباً.(3/997)
وجوب الاستعاذةِ من أربع قبل الدُّعاء
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" إذا فرغ أحدكم من التشهد [الآخِر] (1) ؛ " فلْيستعذ (2) بالله من أربع؛
__________
(1) هذه الزيادة تفيد مشروعية هذه الاستعاذة بالتشهد الأخير دون الأول؛ خلافاً
لابن حزم في " المحلى " (3/271) ، وتبعه ابن دقيق العيد؛ حيث قال:
" المختار أن يدعو في التشهد الأول، كما يدعو في التشهد الأخير؛ لعموم الحديث
الصحيح:
" إذا تشهد أحدكم؛ فليتعوذ بالله من أربع ... ". قال الحافظ في " التلخيص " (3/507) :
" وتعقب بأنه في " الصحيح " عن أبي هريرة بلفظ:
" إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليتعوذ ". وقال ابن القيم في " الزاد ":
" ولا كان أيضاً يستعيذ فيه - يعني: التشهد الأول - من عذاب القبر وعذاب
النار ... إلخ. ومن استحب ذلك؛ فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات قد صح تبيين
موضعها، وتقييدها بالتشهد الأخير ". ثم قال الحافظ في " الفتح " (2/253) - بعد أن
ساق الحديث -:
" فهذا فيه تعيين هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد؛ فيكون سابقاً على غيره من
الأدعية، وما ورد الإذن فيه أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة
وقبل السلام ".
قلت: وهذه الزيادة في آخر الحديث - " ثم يدعو لنفسه بما بدا له " - نص في ذلك.
(2) ظاهره يفيد الوجوب، وقد قال به بعض أهل الظاهر - ومنهم ابن حزم
(3/271) -؛ قال الحافظ (2/256) :(3/998)
[يقول: (اللهم! إِني أعوذ بك] من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن
فتنة المحيا والممات، ومن شر [فتنة] المسيح الدجال) . [ثم يدعو لنفسه بما
بدا له] " (1) .
__________
" وادعى بعضهم الإجماع على عدم الوجوب. وفيه نظر؛ فقد أخرج عبد الرزاق
بإسناد صحيح عن طاوس ما يدل على أنه يرى وجوب هذه الاستعاذة، وذلك أنه سأل
ابنه: هل قالها بعد التشهد؟ فقال: لا. فأمره أن يعيد الصلاة ".
قلت: وقد روى هذا مسلم في " صحيحه " (2/94) بلاغاً عن طاوس. ثم قال
الحافظ:
" وأفرط ابن حزم؛ فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضاً. وقال ابن المنذر:
لولا حديث ابن مسعود: " ثم ليتخير من الدعاء "؛ لقلت بوجوبها ".
أقول: هذا التخيير لا يشمل الاستعاذة من هذه الأربع؛ بدليل أن التخيير جاء
مقيداً بما بعد الفراغ من هذه الأربع - كما سبق -؛ فالحق وجوبها. والله أعلم.
(1) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرجه مسلم (2/93) ، {وأبو عوانة [2/235] } ، وابن ماجه (1/294) ، وأحمد
(2/237) ، وعنه أبو داود (1/155) من طريق الوليد بن مسلم: ثني الأوزاعي: ثنا
حسان بن عطية: ثني محمد ابن أبي عائشة: أنه سمع أبا هريرة يقول: ... فذكره.
وأخرجه الدارمي (1/310) ، وكذا مسلم من طرق عن الأوزاعي؛ بدون الزيادة الأولى.
ثم أخرجه مسلم، والبيهقي (2/154) ، وأحمد (2/477) عن وكيع عنه بالزيادة
الثانية والثالثة.
وأخرجه النسائي (1/193) ، {وابن الجارود في " المنتقى " (207) } عن عيسى بن
يونس عن الأوزاعي به. وفيه الزيادة الأخيرة. وهو في " مسلم " من هذا الوجه، لكنه لم(3/999)
و " كان يدعو به في تشهده " (1) .
__________
يسق لفظه بتمامه.
وقد أخرجه البيهقي من طريق أبي المغيرة ومحمد بن كثير - جميعاً - عن الأوزاعي
بلفظ:
" إذا فرغ أحدكم من صلاته؛ فلْيَدْعُ بأربع، ثم ليدع بما شاء ... " الحديث.
وأخرجه الدارمي عن شيخه محمد بن كثير هذا، ولم يسق لفظه أيضاً، وإنما أحال
على الرواية التي سبق عزوها إليه، وقال: " بنحوه ".
ثم إن الظاهر أن هذا اللفظ هو لمحمد بن كثير؛ فإن الدارمي روى اللفظ الذي قبله من
طريق أبي المغيرة بنحوه؛ وليس فيه هذه الزيادة: " ثم ليدع بما شاء ". وقد قال الحافظ في
" الفتح " (2/256) :
" وهذه الزيادة صحيحة؛ لأنها من الطريق التي أخرجها مسلم ".
وكذلك صححها في " التلخيص " (3/516) بعد أن نسبها للنسائي. وهي في
" الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن مسعود. وقد تقدم ذكرها في (التشهد الأول)
[ص 865] .
(1) هو من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
أخرجه أبو داود (1/155 - 156) من طريق محمد بن عبد الله بن طاوس عن أبيه
عن طاوس عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أنه كان يقول بعد التشهد: ... فذكره بلفظ حديث مالك الآتي بعده.
وهذا سند حسن. رجاله كلهم رجال مسلم؛ غير محمد بن عبد الله هذا؛ وثقه ابن
حبان، وروى عنه جمع.(3/1000)
و " كان يعلّمه الصحابة رضي الله عنهم كما يعلّمهم السورة من
القرآن " (1) .
__________
وقد تابعه ابن جريج، لكنه قد خالفه في اسم الصحابي؛ فجعله من (مسند عائشة) .
أخرجه الإمام أحمد (6/200) قال: ثنا عبد الرزاق قال: أنا ابن جُريج عن ابن
طاوس عن أبيه:
أنه كان يقول بعد التشهد في العشاء الآخرة كلمات كان يعظّمهن جداً ...
فذكرهن بتقديم وتأخير، وفيه قال:
كان يعظّمهن ويذكرهن عن عائشة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا سند صحيح على شرط الستة.
وعزاه الحافظ (2/253) لابن خزيمة من هذا الوجه.
(1) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه أيضاً.
أخرجه مالك (1/216 - 217) ، وعنه مسلم (2/94) ، وأبو داود (1/241) ،
والنسائي (2/320) ، والترمذي (2/263) ، وأحمد (1/242) - كلهم عن مالك - عن
أبي الزبير عن طاوس عنه به، وفيه:
يقول: " قولوا: اللهم! إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر،
وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ". وقال الترمذي:
" حديث حسن صحيح ". وله طريق أخرى:
أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (100) ، وابن ماجه (2/432) عن كُرَيب عن
ابن عباس.
وفيه بكر بن سُليم الصوّاف، وهو مقبول - كما في " التقريب " -.(3/1001)
الدعاء قبل السلام، وأنواعه
......................................... (*)
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في صلاته (1) بأدعية متنوعة؛ تارة بهذا، وتارة بهذا،
وأقرَّ أدعية أخرى، {و " أمر المصلي أن يتخير منها ما شاء " (2) } ، وهاك هي:
__________
(*) هنا في الأصل - موضع الحذف - قوله:
وكان أحياناً يقول:
" أحسنُ الكلامِ كلامُ الله، وأحسنُ الهدي هديُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وخرجه الشيخ رحمه الله بقوله: " هو من حديث جابر رضي الله عنه:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في صلاته بعد التشهد: ... فذكره.
أخرجه النسائي (1/193) من طريق، جعفر بن محمد عن أبيه عنه.
وهذا سند صحيح على شرط مسلم ".
وقد وجدنا الشيخ رحمه الله لم يذكره في " صفة الصلاة " المطبوع؛ وذلك - لعلّه - لما
تبين له أنَّ النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان يقوله في خطبة الجمعة. والله أعلم.
انظر تعليقه على الحديث (رقم 956) في " المشكاة " (1/301) ، وللتنبيه والفائدة
رأينا جعله في الحاشية.
(1) لم يأت تعيين محل هذه الأدعية من الصلاة، وهي تشمل كل موضع صالح للدعاء؛
كالسجود، والتشهد، وقد ورد الأمر بالدعاء فيهما - كما سبق -. وانظر " فتح الباري " (2/253) .
(2) { [رواه] البخاري ومسلم (*) . قال الأثرم:
" قلت لأحمد: بماذا أدعو بعد التشهد؟
قال: كما جاء في الخبر.
__________
(*) سبق تخريجه مفصلاً (ص 893 - 894) .(3/1002)
1- " اللهم! إني أعوذ بك (1) من عذاب القبر (2) ، وأعوذ بك من
__________
قلت له: أوليس قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثم ليتخير من الدعاء ما شاء "؟
قال: يتخير مما جاء في الخبر.
فعاودته، فقال: ما في الخبر ".
نقله ابن تيمية - ومن خطه نقلت - " مجموع " (69/218/1) ، واستحسنه؛ قال:
" فإن اللام في " الدعاء " للدعاء الذي يحبه الله ليس لجنس الدعاء ". إلى آخر
كلامه. ثم قال:
" فالأجود أن يقال: إلا بالدعاء المشروع المسنون، وهو ما وردت به الأخبار، وما كان نافعاً ".
قلت: وهو كما قال؛ لكن معرفة ما كان نافعاً من الدعاء يتوقف على العلم
الصحيح، وهذا قلَّ من يقوم به؛ فالأولى الوقوف عند الدعاء الوارد؛ لا سيما إذا كان فيه
ما يريده الداعي من المطالب. والله أعلم} .
1- هو من حديث عائشة رضي الله عنها:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو في الصلاة: ... فذكرته.
أخرجه البخاري (2/253) ، ومسلم (2/93) ، {وأبو عوانة [2/236 - 237] } ،
وأبو داود (1/141) ، والنسائي (1/193) ، والبيهقي (2/154) ، وأحمد (6/88 - 89)
من طريق الزهري عن عروة عنها.
(1) قال القاضي عياض رحمه الله:
" دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستعاذته من هذه الأمور التي قد عُوْفِيَ منها وعُصِمَ؛ إنما فعله
ليلتزم خوف الله تعالى، وإعظامه، والافتقار إليه، ولتقتدي به أمته، وليبين لهم صفة
الدعاء، والمهم منه. والله أعلم ". كذا في " شرح مسلم ".
(2) فيه إثبات عذاب القبر وفتنته. وهو مذهب أهل السنة، وأكثر المعتزلة؛ خلافاً
لمن نفاه؛ كالخوارج، وبعض المعتزلة.(3/1003)
فتنة (1) المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات. اللهم! إني
__________
وهذا الحديث وأمثاله كثير تَرُدّ عليهم؛ بل ثبت ذلك في القرآن الكريم:
قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلآئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ
آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (6: 93) .
وقال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (40: 46) .
وقد تكلم على الآيتين الحافظ في " الفتح " (3/180 - 186) ، وفسرهما، وشرح
الأحاديث التي ذكرها البخاري في هذا الباب، وأطال في استقصائها الحافظ ابن كثير؛
فراجعها في " تفسيره " (2/531 - 538) .
(1) قال أهل اللغة: (الفتنة) : الامتحان والاختبار. قال عياض: واستعمالها في
العرف لكشف ما يكره. كذا في " الفتح ".
واعلم أن الأحاديث في خروج الدجال في آخر الزمان كثيرة جداً؛ بل هي متواترة،
لا يمكن لمطلع عاقل إنكارها، كلا، ولا تأويل معانيها؛ بل تعطيلها؛ لأن مجموع هذه
الأحاديث تقطع بمجيئه.
وإنه رجل شاب قَطَطٌ، شَبَّهَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعبد العُزّى بن قَطَن، وإنه أعور العين مكتوب
بين عينيه: (كافر) يقرؤه كل مؤمن؛ كاتب وغير كاتب، وهو يخرج بين الشام والعراق،
تَبَعُهُ من يهود أصفهان سبعون ألفاً، عليهم الطيالسة، لَبْثُه في الأرض أربعون يوماً؛ يوم
كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، سرعته في الأرض كالغيث
استدبرته الريح، وليس من بلد إلا سيطؤه، إلا مكة والمدينة، يأمر السماء فتمطر،
والأرض فتنبت، يجيء ومعه مثل الجنة والنار، وذلك في رَأْيِ العين، ويأخذ رجلاً(3/1004)
..............................................................................
__________
فينشره بالمنشار، ثم يحييه، ثم يأخذه ليذبحه، فلا يستطيع إليه سبيلاً؛ فيأخذ بيديه
ورجليه فيقذف به؛ فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة.
ثم يبعث الله تعالى المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق؛
فيطلب الدجال حتى يدركه بـ (باب لُدٍّ) ؛ فيقتله.
كل هذه الأخبار صحيحة ثابتة في " صحيح البخاري " و " مسلم " (*) ، وهي من
الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها؛ كما قال تعالى: {الم. ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ} .
وأما تأويلها، بل تعطيلها - كما فعل غلام أحمد القادياني الذي كان ادعى النبوة
- بأن المراد بالدجال: الديانة المسيحية الباطلة، أو المبشِّرون بها - كما في كثير من
كتبه، ومنها: " إعجاز المسيح " (ص 27 - 30) -؛ فذلك واضح البطلان، لا يحتاج إلى
بيان.
ومن إعجاز هذا القادياني المخبول: زعمه أن المراد بالشيطان الرجيم في الاستعاذة هو
هذا الدجال - يعني: الديانة المذكورة -؛ قال (29) :
" ولا يفهم هذا الرمزَ إلا ذو القريحة الوقادة "!
فأكْبِرْ به من إعجاز!
ومن وقف على كتبه؛ يعلم أن تفسيره كله أو جله على هذه الطريقة الرمزية الصوفية
الغالية، التي لا تستند إلى قاعدة لغوية أو شرعية، وإنما هي الهوى أو الوحي الشيطاني!
__________
(*) انظر كتاب " قصة المسيح الدَّجّال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله إياه ". بقلم
الشيخ رحمه الله، طبع المكتبة الإسلامية، عَمَّان / الأردن.(3/1005)
أعوذ بك من المأثم (1) والمغرم ".
__________
وهو في أثناء تفسيره للاستعاذة يشير إلى إنكار وجود الجن وشياطينهم، وإنما الجن عنده
وعند أتباعه الضالين هم زعماء الناس؛ كما صرح لي بذلك بعض أتباعه، وكان قد
جرى بيني وبينه مناظرة شفهية في هذا الموضع في جلسات تبلغ العشر، كان نتيجتها أن
انسحب منها مذموماً مدحوراً.
ونحن الآن (شعبان سنة 66) في صدد عقد اجتماعات كل يوم جمعة لهم،
وبحضور مبشرهم الهندي نور أحمد منير؛ وذلك لوضع شروط المناظرة الكتابية بيننا
وبينهم، بعد أن امتنعوا امتناعاً باتاً من المناظرة الشفهية، وها قد مضى أكثر من أربع
جلسات، وهم يراوغون في الجواب عن السؤال الأول الذي كتبناه لهم في دَفْتَرَيِ
الفريقين، ووقّعوه - كما وقّعناه - بإمضاءاتهم؛ وخلاصته:
هل أنتم مستعدون للبحث معنا في اعتقادكم جواز مجيء أنبياء كثيرين غير
مشرعين بعد نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
وظاهر أجوبتهم الامتناع عن البحث في هذه العقيدة، ونحن بانتظار الجواب القاطع
منهم، وما أُراني أحصل عليه! والله المستعان.
(1) {هو الأمر الذي يأثم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه؛ وضعاً للمصدر موضع
الاسم، وكذلك (المغرم) : ويريد به الدَّين؛ بدليل تمام الحديث:
قالت عائشة: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله! فقال:
" إن الرجل إذا غرم؛ حدَّث فكذب، ووعد فأخلف "} .(3/1006)
2- " اللهم! إني أعوذ بك من شر ما عملت (1) ، ومن شر ما لم أعمل
[بعد] ".
3- " اللهم! حاسبني حساباً يسيراً ".
__________
2- هو من حديث عائشة رضي الله عنها: يرويه فَرْوَة بن نَوْفَل قال:
قلت لعائشة: حدثيني بشيء كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به في صلاته ". فقالت:
نعم؛ كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... فذكره.
أخرجه النسائي (1/192) من طريق جريرعن منصورعن هلال بن يِسَاف عنه.
وهذا سند صحيح على شرط مسلم.
وقد أخرجه هو في " صحيحه " (8/80) ، وكذا أبو داود (1/242) ، وابن ماجه
(2/432) ، وأحمد (6/31 و 100 و 213 و 278) من طرق عن منصور به، دون قوله:
في صلاته. وهو رواية للنسائي (2/321) .
{و [أخرجه] ابن أبي عاصم في كتاب " السنة " (370 - بتحقيقي، وطبع المكتب
الإسلامي) [من طريق أخرى عن هلال به] (*) . والزيادة له} .
(1) أي: من شر ما فعلت من السيئات، وما تركت من الحسنات، أو من شر كل
ما يتعلق به كسبي أولاً. سندي.
3- هو من حديث عائشة أيضاً قالت:
سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في بعض صلاته:
" اللهم! حاسبني حساباً يسيراً ".
فلما انصرف؛ قلت: يا نبي الله! ما الحساب اليسير؟ قال:
__________
(*) ما بين المعقوفات زيادة يتطلبها السياق.(3/1007)
4- " اللهم! بِعلمكَ الغيبَ، وقدرتكَ على الخَلْق؛ أَحْيني ما عَلمْتَ
الحياةَ خيراً لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي. اللهم! وأسَألك
خشيتَكَ في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق (وفي رواية: الحكم)
و [العدل] في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى،
__________
" أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه؛ إنه من نوقش الحساب يومئذٍ - يا عائشة! -؛
هلك، وكل ما يصيب المؤمن يكفِّر الله عز وجل به عنه، حتى الشوكة تشوكه ".
أخرجه أحمد (6/48) ، والحاكم (1/255 و 4/249 - 250) من طريق محمد بن
إسحاق قال: ثني عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير عن عباد بن عبد الله بن
الزبير عنها.
وهذا إسناد جيد. وقول الحاكم:
" صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. ليس بصحيح - كما سبق بيانه مراراً -.
4- هو من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه.
أخرجه النسائي (1/192) ، وابن نصر في " قيام الليل " (143) ، وابن خزيمة في
" التوحيد " (ص 9) ، والحاكم (1/524) ؛ كلهم عن حماد بن زيد عن عطاء بن السائب
عن أبيه عنه:
أنه صلى يوماً صلاة، فأوجز فيها، فقال بعض القوم: لقد خففت؟ فقال: لقد
دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكرها. قال الحاكم:
" صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا؛ فإن عطاء بن السائب - وإن كان
قد اختلط؛ فقد - روى عنه حماد بن زيد قبل الاختلاط؛ ولذلك قال الحافظ العراقي في
" تخريج الإحياء " (1/288) :
" إسناده جيد ".(3/1008)
وأسألك نعيماً لا يَبِيد (1) ، وأسألك قرّة عين [لا تنفد و] لا تنقطع، وأسألك
الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر
إلى وجهك، و [أسألك] الشوق إلى لقائك؛ في غير ضَرَّاء مُضِرَّة، ولا فتنة
مُضلة. اللهم! زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ".
__________
ثم قد أخرجه النسائي، وأحمد (4/264) من طريق أخرى عن شَرِيك عن أبي
هاشم الواسطي عن أبي مِجْلَز - زاد النسائي: عن قيس بن عُبَاد - قال: صلى عمار بن
ياسر ... فذكره بنحوه.
وهذا سند حسن.
والرواية الأخرى لابن نصر، والحاكم. والزيادتان الأولى والأخيرة لابن خزيمة،
والوسطى والأخيرة للحاكم.
(1) وقال النسائي: " ينفد ".
والصواب رواية الجمهور، ويشهد لها ما في " المسند " (1/437) من طريق شعبة عن
أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال:
مر بي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أصلي، فقال:
" سل؛ تعطه يا ابن أم عبد! ". فقال عمر: فابتدرت أنا وأبو بكر، فسبقني إليه أبو
بكر - وما استبقنا إلى خير إلا سبقني إليه أبو بكر -، فقال: إن من دعائي الذي لا أكاد
أن أدع:
اللهم! إني أسألك نعيماً لا يبيد، وقرة عين لا تنفد، ومرافقة النبي محمد، في
أعلى الجنة؛ جنة الخلد.
ورجاله رجال الستة.(3/1009)
5- وعَلّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول:
__________
وقد أخرجه الحاكم (1/523 - 524 و 526) عن شعبة وعن الأعمش عن أبي
إسحاق به. وقال:
" صحيح؛ إذا سلم من الإرسال ". وكذا قال الذهبي. وليس بسالم من الإرسال؛
لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه - كما مضى مراراً -.
والحديث أخرجه أيضاً النسائي في " اليوم والليلة " - كما في " تخريج الإحياء "
(1/288) -.
5- هو من (مسند أبي بكر) نفسه. يرويه عبد الله بن عمرو عنه:
أنه قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي. قال: " قل: ... " فذكره.
أخرجه البخاري (2/254) ، ومسلم (8/74) ، والنسائي (1/192) ، والترمذي
(2/268 - طبع بولاق) ، والبيهقي (2/154) ؛ كلهم من طريق قُتيبة بن سعيد قال: ثنا
الليث عن يزيدَ بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو به. وقال الترمذي:
" حسن صحيح ".
ثم أخرجه البخاري (11/110) عن عبد الله بن يوسف، وابن ماجه (2/431) عن
محمد بن رُمْحٍ، والبيهقي عن يحيى بن بُكَير، وأحمد (1/3 و 7) عن هاشم بن القاسم
وحجاج؛ خمستهم عن الليث به.
وقد أخرجه مسلم عن محمد بن رُمْح، لكنه قال:
" كبيراً ".. بدل: " كثيراً ".
وهي عندي رواية شاذة؛ لمخالفتها لرواية الجماعة، حتى رواية محمد بن رُمْح نفسه
عند ابن ماجه! ويرجحها أيضاً أن البخاري أخرج الحديث (13/320) وفي " الأدب
المفرد " (103) ، وكذا مسلم من طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب: أنه(3/1010)
" اللهم! إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً (1) ، ولا يغفر الذنوب إلا
أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفور
الرحيم ".
__________
سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن أبا بكر الصديق قال: ... فذكره بلفظ
الجماعة.
وخالفه ابن لهيعة عن يزيد؛ فقال:
" كبيراً ".
أخرجه أحمد (1/4) .
وابن لهيعة: ضعيف.
وظاهر هذه الرواية أن الحديث من (مسند ابن عمرو) ؛ بخلاف الأولى؛ فإن ظاهرها
أنه من (مسند أبي بكر) ، وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسي عن الليث؛ فإن
لفظه عن أبي بكر: قال: قلت: يا رسول الله! ...
أخرجه البزار من طريقه - كما في " الفتح " (2/255) -، ثم قال:
" ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة الحديث ".
(1) وفي رواية:
" كبيراً ".
وقد بينا قريباً أنها شاذة. وعلى فرض ثبوتها؛ فينبغي أن يقول هذه تارة، وهذه تارة.
وأما الجمع بينهما فيقال: " كثيراً كبيراً " - كما في " الأذكار " للنووي -؛ فمعترَضٌ
عليه - كما بين ذلك ابن القيم في " الجلاء " (219 - 222) ، والشيخ علي القاري في
" المرقاة " (2/13) -.(3/1011)
6- وأمر عائشة رضي الله عنها أن تقول:
" اللهم! إني أسألُك من الخير كله؛ 1 [عاجلهِ وآجلهِ] ؛ ما علمتُ منه
وما لم أعلم. وأعوذُ بك من الشرِّ كله؛ 2 [عاجله وآجلهِ] ؛ ما علمتُ منه وما
لم أعلم. وأسألك (وفي رواية: اللهم! إني أسأَلك) الجنةَ، وما قرَّب إليها
من قولٍ أو عملٍ، وأعوذ بك من النار، وما قرَّب إليها من قول أو عمل.
وأسألك (وفي رواية: اللهم! إني أسألك) من 3 [الـ] خير ما سألك عبدك
ورسولك 4 [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك
ورسولك 5 [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] . 6 [وأسألك] ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته
7 [لي] رشداً ".
__________
6- هو من حديث عائشة نفسها:
أن أبا بكر دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأراد أن يكلمه، وعائشة تصلي؛ فقال لها
ر سول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" عليك بالكوامل - أو كلمة أخرى - ". وفي رواية:
" عليك من الدعاء بالكوامل الجوامع ".
فلما انصرفت عائشة؛ سأَلَتْه عن ذلك؟ فقال لها: " قولي: ... " فذكره.
أخرجه الحاكم (1/521 - 522) ، وأحمد (6/146 - 147) ، والطيالسي (219)
- والرواية الأخرى له -؛ ثلاثتهم عن شعبة عن جَبْر بن حبيب عن أم كلثوم بنت أبي
بكر عنها. وقال الحاكم:
" صحيح ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا.
وقد تابعه الجُرَيري عن جبر بلفظ: عن عائشة قالت:(3/1012)
..............................................................................
__________
دخل علي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أصلي، وله حاجة، فابطأت عليه. قال:
" يا عائشة! عليك بجُمَلِ الدعاءِ وجوامِعِهِ ".
فلما انصرفت؛ قلت: يا رسول الله! وما جُمَلُ الدعاءِ وجوامِعُهُ؟ قال:
" قولي: ... " فذكره.
أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (92 - 93) .
وتابعه أيضاً حماد بن سلمة. لكنه لم يذكر الصلاة.
أخرجه ابن ماجه (2/433 - 434) ، وأحمد (6/134) من طريق عفان عنه. وفي
" الزوائد ":
" في إسناده مقال، وأم كلثوم هذه لم أر من تكلم فيها، وعدَّها جماعة في
الصحابة. وفيه نظر؛ لأنها ولدت بعيد موت أبي بكر. وباقي رجال الإسناد ثقات ".
قلت: أم كلثوم هذه قد روى عنها جمع من الثقات؛ ومنهم: جابر بن عبد الله
الأنصاري رضي الله عنه، ويكفي في توثيقها رواية مسلم لها في " صحيحه "؛ وكأنه
لذلك قال الحافظ في " التقريب ":
" ثقة ".
فالحق أن الحديث صحيح - كما قال الحاكم، والذهبي -. {وقد خرجته في
" الصحيحة " (1542) } .
وروى أبو داود (1/233) ، وأحمد (6/189) عن أبي نوفل عن عائشة قالت:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك.
وسنده صحيح على شرط مسلم.(3/1013)
7- و " قال لرجل:
" ما تقول في الصلاة؟ ".
قال: أتشهد، ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، أما والله! ما
أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ (1) ، ولا دَنْدَنَةَ معاذ. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" حولها نُدَنْدِنُ " ".
__________
هذا، والزيادتان الأوليان ثابتتان عند الجميع، حاشا الطيالسي.
والزيادة الثالثة هي عنده، وكذا أحمد.
والرابعة والخامسة عند الجميع، حاشا ابن ماجه.
والسادسة عندهم، إلا البخاري.
والأخيرة تفرد بها الطيالسي.
والروايتان الأخريان لابن ماجه وأحمد.
7- هو من حديث بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرجه أبو داود (1/127) ، وأحمد (3/474) عن زائدة عن سليمان عن أبي صالح
عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل: ... الحديث.
وأخرجه ابن ماجه (1/294 و 2/434) ، {وابن خزيمة (1/87/1) = [1/358/725] }
من طريق جرير عن الأعمش - هو سليمان - عن أبي صالح عن أبي هريرة به.
وهذا سند صحيح. ورجاله ثقات - كما قال في " الزوائد " -، وكذلك صححه
النووي في " المجموع " (3/471) ، وهو على شرط الشيخين.
(1) بفتحات، ما سوى النون الأولى؛ فبسكونها. أي: مسألتك الخفية، أو:
كلامك الخفي.(3/1014)
8- وسمع رجلاً يقول في تشهده:
(اللهم! إني أسألك يا الله (1) (وفي رواية: بالله) [الواحد] الأحد
الصمد؛ الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُواً أحد أن تغفر لي
ذنوبي؛ إنك أنت الغفور الرحيم) . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" قد غفر له، قد غفر له، قد غفر له ".
__________
و (الدندنة) : أن يتكلم الرجل بكلام تسمع نغمته ولا يفهم. وضمير (حولها) .
للمقالة؛ أي: كلامنا قريب من كلامك.
8- هو من حديث مِحْجَن بن الأدرع:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل المسجد، فإذا هو برجل قد قضى صلاته، وهو يتشهد؛
ويقول: ... فذكره.
أخرجه أبو داود (1/156) ، والنسائي (1/191) ، والحاكم (1/267) ، وأحمد
(4/338) ، {وابن خزيمة [1/358/724] } من طريق عبد الوارث بن سعيد: ثنا حسين
المُعَلِّم عن عبد الله بن بُريدة: ثني حنظلة بن علي عنه. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي.
قلت: حنظلة بن علي لم يخرج له البخاري في " صحيحه "؛ بل في " الأدب
المفرد "؛ فهو على شرط مسلم فقط.
والزيادة للنسائي وأحمد [وابن خزيمة] .
وأخرج أبو داود (1/234) ، والترمذي (2/260 - طبع بولاق) ، وابن ماجه (2/436) ، =
(1) هذه رواية أبي داود، وأحمد؛ بياء النداء. ورواية الآخرين:
(بالله) .. بحرف الجر.(3/1015)
..............................................................................
__________
= والحاكم (1/504) ، وأحمد (5/349 - 350 و 360) عن مالك بن مِغْوَل: ثنا عبد الله
ابن بريدة عن أبيه:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: (اللهم! إني أسألك بأني أشهد أنك أنت
الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) .
فقال:
" لقد سأل الله باسمه الأعظم؛ الذي إذا سئل به؛ أعطى، وإذا دعي به؛
استجاب ". وقال الحاكم:
" صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا.
واقتصر الترمذي على تحسينه. وهو قصور. ولعل ذلك بالنسبة إلى بعض رجاله.
وأخرجه أيضاً ابن حبان في " صحيحه ". وقال المنذري (2/274) :
" قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وإسناده لا مطعن فيه، ولم يرد في هذا
الباب حديث أجود إسناداً منه ".
ثم أخرجه الحاكم من طريق شريك عن أبي إسحاق عن ابن بُريدة به نحوه،
وقال:
" صحيح على شرط مسلم ". كذا قال!
وأخرجه الطحاوي في " المشكل " (1/61) عنه عن أبي إسحاق ومالك بن مِغْوَل معاً
به.(3/1016)
9- وسمع آخر يقول في تشهده:
(اللهم! إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت؛ 1 [وحدك لا
شريك لك] ، 2 [المنان] ، 3 [يا] بديعَ السماوات والأرض! يا ذا الجلال
والإكرام! يا حي! يا قيوم! 4 [إني أسألك] 5 [الجنة، وأعوذ بك من النار] ) .
6 [فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه:
__________
9- الحديث من رواية أنس رضي الله عنه.
أخرجه أبو داود (1/234) ، والنسائي (1/191) ، والحاكم (1/503) ، والطحاوي
في " المشكل " (1/62) ، و {ابن منده في " التوحيد " (44/2 و 70/1 - 2) = [ص 109/233
و145/341] ، والضياء المقدسي في " المختارة "، وأحمد (3/158 و 245) عن خلف بن
خليفة: ثنا حفص ابن أخي أنس بن مالك عنه قال:
كنت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد؛
دعا، فقال في دعائه: ... فذكره. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا.
ورواه ابن حبان أيضاً في " صحيحه " - كما في " الترغيب " (2/274) -.
وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (103) مختصراً.
والزيادة الثانية: عند أبي داود، والنسائي، {وابن منده} ، وأحمد. وفي لفظ له:
(الحنَّان) .
والزيادة الثالثة: عنده في رواية، وكذا عند البخاري.
والرابعة: عندهما، وكذا النسائي {وابن منده في الرواية الثانية} .
والخامسة: عنده، وكذا أحمد، وبعضها عند البخاري.
وللحديث ثلاثة طرق: هذا أحدها.(3/1017)
..............................................................................
__________
والثاني: أخرجه ابن ماجه (2/436) ، وأحمد (3/120) ، والضياء المقدسي عن
وكيع: ثني أبو خزيمة عن أنس بن سيرين عنه بنحوه.
وهذا سند جيد. رجاله رجال الشيخين، حاشا أبا خزيمة، وهو صدوق - كما في
" التقريب " -. وفيه الزيادة الأولى والثانية.
ثم أخرجه الضياء المقدسي من طريق عيسى بن يونس الرملي: ثنا وكيع بن الجراح
- بالرملة - ثنا سفيان: ثني حميد الطويل عن أنس به.
وهذا سند جيد، وطريق آخر إن كان محفوظاً؛ فإن عيسى بن يونس هذا: قال في
" التقريب ":
" صدوق ربما أخطأ ".
والثالث: أخرجه الحاكم (1/504) ، وأحمد (3/265) ، والطحاوي (1/62) ،
{وابن منده في " التوحيد " (67/1) = [ص 136/213] } ، والطبراني في " الصغير "
(ص 215) ، ومن طريقه الضياء المقدسي من وجهين عن إبراهيم بن عُبيد بن رِفاعة
عنه. وفيه الزيادة الثانية والثالثة.
وعند الطبراني وحده {وابن منده [من الطريق الأول؛ الرواية الثانية] } الزيادة الأخيرة
دون قوله:
" والذي نفسي بيده! ".
وعند الحاكم {وابن منده [من الطريق الثالث] } الزيادة التي قبل هذه.
وسكت عليه الحاكم. وكذا الذهبي!
وإسناده صحيح. وفيه عند أحمد والطبراني تسمية الرجل الداعي، وهو أبو عياش
زيد بن صامت الزُّرَقي.(3/1018)
" تدرون بما دعا؟ ".
قالوا: الله ورسوله أعلم (1) . قال:
" والذي نفسي بيده!] لقد دعا الله باسمه العظيم (2) (وفي رواية:
الأعظم) ، الذي إذا دعي به؛ أجاب، وإذا سئل به؛ أعطى ".
__________
(1) (تنبيه) : جرت عادة كثير من الناس أنهم إذا سئل أحدهم عما لا علم له به،
سواء كان باستطاعة البشر عادة معرفته أم لا؛ أجاب بقوله: الله ورسوله أعلم.
وهذا جهل بالشرع؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان يعلم الغيب وهو في قيد الحياة - كما حكى
الله تعالى ذلك عنه في القرآن: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ} -؛ فكيف يعلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى؟! فالصواب اليوم أن
يقتصر في الجواب على قوله: الله أعلم.
وإنما كان الصحابة رضي الله عنهم يجيبونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم: الله ورسوله أعلم. لعلمهم
بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سألهم إلا وعنده علم ذلك، وإلا؛ ليُنَبَّئَهُم به.
فتنبه لهذا، ولا تكن من الغافلين!
(2) فيه مشروعية التوسل إلى الله تعالى بأسماء الله تعالى {الحسنى وصفاته، وهو
ما أمر الله تعالى به في قوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 18] } ؛
ولا سيما الاسم الأعظم. وقد اتفق العلماء على ذلك؛ لهذا الحديث وما في معناه.
وإن مما يؤسف له أن ترى الناس اليوم - وفيهم كثير من الخاصة - لا تكاد تسمع أحداً
منهم يتوسل بأسماء الله تعالى؛ بل إنهم على العكس من ذلك يتوسلون بما لم يأت به
كتاب ولا سنة، ولم يعرف عن السالفين من الأئمة؛ كقولهم: أسألك بحق فلان، أو
جاه فلان، أو حرمة فلان!
وقد يحتج أولئك على عملهم هذا بأحاديث بعضها صحيح - كحديث الأعمى،(3/1019)
..............................................................................
__________
وإن تكلم فيه بعض المتأخرين، فالصواب ما قلناه -، ولكنه لا يدل على ما زعموه - كما بين ذلك العلماء المحققون -، والبعض الآخر ضعيف لا يصح، وفيها كثير من
الموضوعات؛ كحديث:
" لما أذنب آدم عليه الصلاة والسلام ... "، وفيه قال:
" أسألك بحق محمد إلا غفرت لي ". كما بينت ذلك في تعليقي على " المعجم
الصغير " (2/148) ، [و " السلسلة الضعيفة " (رقم 25) ] .
ولا أريد التوسع في ذلك الآن، وإنما أردت أن ألفت نظر المسلم البصير في دينه إلى
ما يفعله الإحداث في الدين من صرف الناس عن الصحيح الثابت عن سيد المرسلين،
وذلك مصداق قول بعض الصحابة رضي الله عنهم:
ما أُحدثت بدعة إلا وأُميتت سنة (*) .
وإن مما يتعجب منه أن أكثر علمائنا المتأخرين لا يجيزون لأحدهم مخالفة المذهب،
ولو كان معه دليل صريح من الكتاب والسنة! ثم هم يخالفون المذهب بتجويزهم لذلك
التوسل المبتدع بدون أي دليل صريح من الكتاب والسنة الصحيحة!
أقول: إنهم يخالفون المذهب؛ لأنه قد جاءت نصوص صريحة عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وأصحابه في المنع مما أجازوا؛ فقال أبو حنيفة رضي الله عنه:
" أكره أن يسأل الله تعالى إلا به ". وكذا قال أبو يوسف، وزاد:
" وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك ". وكتب المتون مليئة بهذا المعنى.
والكراهة إذا أطلقت؛ فهي للتحريم - كما هو معروف عند علمائنا -. وقال القُدُوري:
" المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق؛ فلا تجوز وفاقاً ".
__________
(*) وفي معناه قول حسان بن عطية - وهو تابعي -. انظر " المشكاة " (188) .(3/1020)
وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم:
10- (اللهم! اغفر لي ما قَدّمْتُ، وما أَخّرْتُ، وما أَسْرَرْتُ، وما
أَعْلَنْتُ، وما أَسْرَفْتُ، وما أنتَ أعلمُ به مني، أنت المقدِّمُ، وأنت المؤخِّرُ، لا
إله إلا أنت ".
__________
فإذن المسالة متفق عليها بين علمائنا، فما بال المنتسبين إلى الحنفية اليوم ينبزون
بشتى الألقاب مَن ذهب هذا المذهب الصحيح؛ الموافق للكتاب والسنة، وعمل السلف
الصالح رضي الله عنهم؟! وصدق الله العظيم: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن
نُّورٍ} (1) .
10- هو من حديث علي رضي الله عنه. وقد مضى بطوله في (الاستفتاح)
[الدعاء رقم 2] .
أخرجه بهذا اللفظ مسلم (2/185) ، {وأبو عوانة [2/101 و 168 و 235] } ،
والترمذي (2/250 - 251 - طبع بولاق) وصححه، والبيهقي (2/32) بلفظ:
ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: ... فذكره. وفي رواية لهم
ولغيرهم:
وإذا سلم؛ قال: ... فذكره. وبهذا اللفظ تقدم هناك، وهذا بظاهره مخالف للرواية
الأولى؟ قال الحافظ:
" ويجمع بينهما بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام؛ لأن مخرج الطريقين واحد.
__________
(1) {ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة جيدة في هذا الموضوع اسمها " التوسل والوسيلة "،
فلتطالع؛ فإنها هامة جدّاً لا مثيل لها في موضوعها.
ثم رسالتي " التوسل، أنواعه وأحكامه "..، وهي هامة أيضاً في موضوعها وأسلوبها؛ مع الردّ
على بعض شبهات جديدة من بعض الدكاترة المعاصرين. هدانا الله وإياهم أجمعين} .(3/1021)
..............................................................................
__________
وأورده ابن حبان في " صحيحه " بلفظ:
كان إذا فرغ من الصلاة وسلم ...
وهذا ظاهر في أنه بعد السلام. ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده ".
قلت: وهذا الاحتمال لا بد من المصير اليه، وإلا؛ فاحدى الروايتين خطأ من بعض
الرواة، أو رواية بالمعنى.
والرواية التي عند ابن حبان قد أخرجها قبله أحمد في " المسند " (1/102) بإسناد
صحيح. والله أعلم.
* * *(3/1022)
التسليم
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "، [حتى يُرى
بياض خده الأيمن] ، وعن يساره: " السلام عليكم ورحمة الله "، [حتى يُرى
بياض خده الأيسر] " (1) .
__________
(1) هو من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
أخرجه أبو داود (1/157) ، والنسائي (1/194 - 195) ، والترمذي (2/89) ، وابن
ماجه (1/295) ، والدارقطني (136) ، والطحاوي (1/158) ، والطبراني في " الكبير "
{ (3/67/2) } والبيهقي (2/177) ، وأحمد (1/390 و 406 و 408 و 409 و 444
و448) ، {وعبد الرزاق في " مصنفه " (2/219) ، وأبو يعلى في " مسنده " (3/1252) =
[9/40/5102] } من طرق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص - زاد بعضهم: - والأسود
ابن يزيد وعلقمة؛ ثلاثتهم عن عبد الله بن مسعود. وقال الترمذي - وليس عنده الزيادة -:
" حديث حسن صحيح " (*) .
ثم أخرجه النسائي، والدارقطني، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد (1/394 و 418)
عن إسرائيل وزهير؛ كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه - زاد
بعضهم أيضاً: - وعلقمة عن ابن مسعود به بزيادة:
ورأيت أبا بكر وعمر يفعلان ذلك. وقال الدارقطني:
" إنه أحسن إسناداً من الأول ".
ثم أخرجه هو، والبيهقي، وأحمد (1/409 و 414 و 438) من طرق أخرى. وأصله
في " صحيح مسلم " (2/91) ، والنسائي، والدارمي (1/310 - 311) ، والبيهقي،
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للطبراني في " الأوسط " (1/2600/2) .(3/1023)
وكان أحياناً يزيد في التسليمة الأولى: " وبركاته " (1) .
__________
وأحمد أيضاً (1/444) مختصراً عن أبي معمر:
أن أميراً كان بمكة يسلم تسليمتين، فقال عبد الله: أنَّى عَلِقَها (*) ؟ إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كان يفعله.
والأحاديث في التسليمتين كثيرة متواترة، وقد ساقها الطحاوي بأسانيدها،
وخرجها الزيلعي في " نصب الراية " (1/432 - 434) ، والعسقلاني في " التلخيص "
(3/522 - 523) . فليراجعها من شاء.
(1) قال الحافظ (3/523) :
" وقعت هذه الزيادة في " صحيح ابن حبان " من حديث ابن مسعود، وهي عند ابن
ماجه أيضاً، وهي عند أبي داود أيضاً في حديث وائل بن حجر، فيتعجب من ابن
الصلاح حيث يقول: إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث! ".
قلت: وحديث ابن مسعود: أخرجه الطيالسي أيضاً؛ فقال في " مسنده "
(ص 37) : ثنا همام عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن
عبد الله:
أنه كان يسلم عن يمينه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وعن يساره:
السلام عليكم ورحمة الله.
وهذا موقوف. وهو صحيح إن كان همام سمعه من عطاء قبل أن يختلط.
__________
(*) أي: مِن أين تعلّمها؟ ومِن أين جاءَ بها؟ " نهاية ".(3/1024)
..............................................................................
__________
وقد أخرجه الدارقطني (135) مرفوعاً من طريق أخرى، وضعفه بعبد الوهاب بن مجاهد.
وأما ابن ماجه؛ فنسختنا من " سننه " المطبوعة في مصر عارية من هذه الزيادة، وقد
قال ابن رسلان في " شرح السُّنَن ":
" لم نجدها في ابن ماجه ". فالظاهر أن ذلك من اختلاف النسخ، ويؤيد ذلك أن
الصنعاني يقول (1/275) إنه قرأها في نسخة صحيحة مقروءة من ابن ماجه بلفظ:
إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسلم عن يمينه، وعن شماله؛ حتى يُرى بياض خده:
" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
قلت: وهو في ابن ماجه (1/295) من طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن
ابن مسعود به دون الزيادة - كما ذكرنا (*) -، وقد سبق الحديث برواية أصحاب " السنن "
وغيرهم بدونها؛ ففي ثبوتها في ابن ماجه - مع ذاك الاختلاف - نظر عندي. والله
أعلم.
وأما حديث وائل: فأخرجه أبو داود (1/157 - 158) عن موسى بن قيس
الحضرمي عن سلمة بن كهيل عن علقمة بن وائل عن أبيه قال:
صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان يسلم عن يمينه:
" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ". وعن شماله:
" السلام عليكم ورحمة الله ".
وهذا سند صحيح. رجاله كلهم ثقات رجال " الصحيح ".
__________
(*) وقد عزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لابن خزيمة (1/87/2) = [1/359/728] .
وهو فيه من الطريق نفسها، وفيه الزيادة في التسليمتين.(3/1025)
..............................................................................
__________
وقد صححه {عبد الحق في " أحكامه " (56/2) ، و} النووي في " المجموع "
(3/479) ، والحافظ في " بلوغ المرام "، ولكنهما أورداه بذكر الزيادة في التسليمتين.
وهي في نسختنا من " السنن " في التسليمة الأولى فقط - كما رأيت -؛ فلا أدري:
أذلك من اختلاف نسخ " سنن أبي داود " أيضاً، أم وهما في نقلهما عنه (*) ! والله أعلم.
وإنما قيدت هذه الزيادة بالتسليمة الأولى بناء على ما وقع في نسختنا من " السنن "،
وتقوَّى ذلك عندي برواية الطيالسي عن ابن مسعود المتقدمة؛ فإنها لم تذكر في
التسليمة الثانية، فإن ثبتت فيها؛ قلنا بها، وذكرناها في الكتاب، وإلا؛ فنحن واقفون
عند الوارد الثابت (**) .
ويتأيد هذا بأن المعروف عند من يُعنى بدراسة هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شؤونه كلها أنه كان
يخص اليد اليمنى والجهة اليمنى بمزيد من التشريف والعناية، وأقرب مثال على ذلك
تخصيصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليمين بقوله:
" السلام عليكم ورحمة الله ". واقتصاره في الجهة اليسرى على:
" السلام عليكم ". كما هو مذكور بعد في الأصل. وقد قال السندي رحمه الله:
" مقتضاه أنه يزيد في اليمين: " ورحمة الله "؛ تشريفاً لأهل اليمين بمزيد البر،
ويقتصر على اليسار على قوله: " السلام عليكم ". وقد جاء زيادة: " ورحمة الله " في
اليسار أيضاً. وعليه العمل؛ فلعله كان يترك أحياناً ".
__________
(*) بل هي من اختلاف النسخ؛ كما ذكر الشيخ رحمه الله في " صحيح سنن أبي داود "
(4/155) ، ثم قال: " ونسختنا وغيرها على وفق " مختصر السنن " للمنذري ... ، ولعلها أرجح ".
(**) ثم مال الشيخ رحمه الله في " صحيح سنن أبي داود " (4/152) إلى شذوذها فانظر
كلامه هناك.(3/1026)
و " كان إذا قال عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "؛ اقتصر أحياناً
على قوله عن يساره: " السلام عليكم " (1) .
__________
فاعتبار ما ذكرنا من المعنى يقتضي تخصيص الجهة اليمنى بزيادة:
" وبركاته ". إلا أن يصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يخالفه - كما أشرنا -؛ فإنه يقال حينئذٍ: (إذا
جاء الأثر؛ بطل النظر) . أو: (إذا جاء نهر الله؛ بطل نهر معقل) . والله سبحانه
وتعالى أعلم.
(1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه. يرويه عنه واسع بن حَبَّان قال:
قلت لابن عمر: أخبرني عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف كانت؟ قال:
فذكر التكبير كلما وضع رأسه، وكلما رفعه، وذكر السلام:
" السلام عليكم ورحمة الله " عن يمينه، " السلام عليكم " عن يساره.
وقد مضى الحديث بتمامه في (التكبير) .
أخرجه النسائي (1/195) ، وأحمد (2/72) عن عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي
عن عمرو بن يحيى بن عُمَارة عن محمد بن يحيى بن حَبّان عن عمه واسع به.
ثم أخرجه أحمد (2/152) : ثنا روح: ثنا ابن جريج: أخبرني عمرو بن يحيى
به.
وهذا سند صحيح على شرط الشيخين.
وقد أخرجه الطحاوي (1/198) : ثنا علي بن شيبة قال: ثنا روح بن عُبادة به،
لكنه زاد في التسليمة الثانية:
" ورحمة الله ".(3/1027)
..............................................................................
__________
وكذلك أخرجه النسائي (1/194) ، والبيهقي (2/178) (*) من طريق حجاج قال:
قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن يحيى به.
فقد اختلف فيه على ابن جريج، والرواية الأولى عنه أصح؛ لأن روح بن عبادة
أحفظ من الحجاج - وهو: ابن محمد -؛ قال في " التقريب " عن الأول:
" ثقة فاضل، له تصانيف ". وقال عن الآخر:
" ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره؛ لما قدم بغداد قبل موته ".
فيحتمل أن روايته هذه مما حدث بها في اختلاطه.
ولا يقال: قد وافقه عليها روح بن عبادة في رواية علي بن شيبة.
لأنا نقول: قد خالفه الإمام أحمد عنه، وأين هو من الإمام في الثقة والحفظ
والعدالة؟! بل إنه غير مشهور بالعدالة، وقد ترجمه الخطيب في " تاريخه " (11/436) ؛
فكان غاية ما قاله في توثيقه:
" روى عنه عبد العزيز بن أحمد الغافقي وغيره من المصريين أحاديث مستقيمة ".
ثم إنه يرجح رواية أحمد عن ابن جريج متابعة الدراوردي له، وهو ثقة، احتج به
مسلم، وما اتفق عليه الثقتان؛ أولى بالقبول مما تفرد به ثقة واحد.
فثبت - بما ذكرنا - أن أصل حديث ابن عمر الاقتصار على قوله: " السلام عليكم "
عن يساره.
ففيه أن السنة الإتيان بذلك أحياناً.
وهذا لا ينافي مشروعية زيادة: " ورحمة الله " فيها كالأولى. وعليه أكثر الأحاديث،
بل ذلك غالب أحواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للسراج أيضاً.(3/1028)
وأحياناً " كان يسلم تسليمة واحدة " (1) :......................................
__________
(1) هو من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ... الحديث.
أخرجه البيهقي في " سننه " (2/179) وفي " المعرفة " أيضاً عن أبي بكر بن
إسحاق، والضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة "، عن محمد بن عبد الله الشافعي
وسليمان بن أحمد الطبراني - { [وهو عنده] في " الأوسط " (32/2) من " زوائد
المعجمين "} -؛ ثلاثتهم عن أبي المثنى معاذ بن المثنى: ثنا عبد الله بن عبد الوهاب
الحجبي: ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن حميد عن أنس به (*) .
وهذا إسناد سكت عليه الحافظ الزيلعي (1/433 - 434) ، وقال الحافظ العسقلاني
في " الدراية " (90) :
" ورجاله ثقات ".
قلت: وهم من رجال البخاري؛ غير أبي المثنى هذا - وهو معاذ بن المثنى بن معاذ
العَنْبَري -؛ ترجمه الخطيب في " تاريخه " (13/136) وقال:
" سكن بغداد، وحدث بها، وكان ثقة، مات سنة ثمان وثمانين ومئتين ". وقد ذكر
من شيوخه عبد الله بن عبد الوهاب هذا.
فالحديث عندي صحيح. وقد أورده الهيثمي في " المجمع " (2/145 - 146) بلفظ:
"وعن أنس بن مالك قال:
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفتتحون القراءة بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ} ، ويسلمون تسليمة.
__________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لعبد الغني المقدسي في " السنن " (243/1) ؛
قال: " بسند صحيح ".(3/1029)
" السلام عليكم " (1) ، " تلقاء وجهه؛ يميل إلى الشق الأيمن شيئاً، [أو:
__________
رواه البزار، والطبراني في " الكبير " و " الأوسط " بالتسليمة الواحدة فقط. ورجاله
رجال " الصحيح ". قال المقدسي:
" قال الطبراني: لم يروه عن حميد إلا عبد الوهاب، تفرد به الحَجَبي.
قلت: رواه أبو خالد الأحمر عن حميد عن أنس:
أنه كان يسلم تسليمة واحدة ".
وأقول: ويتقوى المرفوع بأن له طريقاً أخرى ذكرها ابن عبد البر؛ كما في " الزاد "
(1/94) ، ونص كلامه:
" وأما حديث أنس؛ فلم يأت إلا من طريق أيوب السَّخْتِياني عن أنس، ولم يسمع
أيوب من أنس عندهم شيئاً ". وكأنه لم يقف على رواية حميد هذه عن أنس.
وفي الباب عن سَمُرة بن جُنْدب: عند البيهقي.
وعن سلمة بن الأكوع: عنده، وكذا ابن ماجه (1/296) .
وعن سهل بن سعد الساعدي: عنده أيضاً.
وأسانيدها ضعيفة، ولعل بعضها يقوي بعضاً.
وفي الباب أيضاً عن عائشة؛ وهو الآتي:
(1) هو من حديث عائشة رضي الله عنها. يرويه زرارة بن أوفى قال:
سألت عائشة عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل؟ فقالت:
كان يصلي العشاء، ثم يصلي بعدها ركعتين، ثم ينام، فإذا استيقظ وعنده وضوؤه
مُغَطَّى وسواكه؛ استاك، ثم توضأ، فقام؛ فصلى ثمان ركعات، يقرأ فيهن بـ: {فاتحة
الكتاب} وما شاء من القرآن. - وقال مرة: ما شاء الله من القرآن -. فلا يقعد في شيء(3/1030)
..............................................................................
__________
منهن، إلا في الثامنة؛ فإنه يقعد فيها فيتشهد، ثم يقوم ولا يسلم؛ فيصلي ركعة
واحدة، ثم يجلس فيتشهد، ويدعو، ثم يسلم تسليمة واحدة:
" السلام عليكم ". يرفع بها صوته حتى يوقظنا ... الحديث.
أخرجه الإمام أحمد (6/236) : ثنا يزيدُ قال: ثنا بَهْزُ بن حَكِيم - وقال مَرّةَ: أنا -
قال: سمعت زُرارة بن أوفى يقول: ... فذكره.
وهذا سند صحيح.
وقد أخرجه من هذا الوجه أبو داود (1/212) بدون قوله:
واحدة: " السلام عليكم ".
وهو رواية لأحمد من طريق أخرى عن بهز.
وقد رواه قتادة عن زرارة بلفظ:
تسليمة يسمعنا.
أخرجه النسائي (1/250) ، وعنه ابن حزم (3/49) من طريق معاذ بن هشام قال:
ثني أبي عنه.
وهو في " مسلم " (2/170) من هذا الوجه، لكنه لم يسق لفظه.
ورواه ابن حبان في " صحيحه " (رقم 669 - موارد) ، وأبو العباس السراج في
" مسنده "؛ كما في " التلخيص " (3/522) ، قال:
" وإسناده على شرط مسلم، ولم يستدركه الحاكم، مع أنه أخرج حديث زهير بن
محمد عن هشام - كما يأتي - ".
فالحديث نص صريح في جواز الاقتصار على التسليمة الواحدة، وقد نازع ابن القيم
في ذلك؛ حيث قال (1/93 - 94) :(3/1031)
قليلاً] " (1) .
__________
" إن عائشة أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها، ولم تنف الأخرى ".
كذا قال. وتعقّبه الزُّرقاني في " شرح المواهب " (7/336) بقوله:
" هذا إنما يصح لو جعلت عائشة الإيقاظ غاية للوَحْدَة، وهي إنما جعلته غاية لرفع
الصوت؛ فهو صريح في الاقتصار على واحدة؛ لأنها جعلتها صفة لتسليمه، فرفعت
احتمال المجاز؛ فهو نص في الوَحدة ".
وللحديث طريق أخرى عن عائشة؛ وهو الآتي بعده:
(1) هو من حديث عائشة أيضاً:
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه ... إلخ.
أخرجه الترمذى (2/90 - 91) ، {وابن خزيمة [1/360/729] } ، والدارقطني
(137) ، والحاكم (1/230 - 231) ، وعنه البيهقي (2/179) ؛ كلهم من طريق عمرو بن
أبي سَلَمة التّنِّيسي عن زهير بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عنها.
والزيادة للبيهقي. وقال الدارقطني:
(قليلاً) .. بدل: (شيئاً) . وجمع بينهما الحاكم. والله أعلم.
ورواه الطحاوي (1/159) من هذا الوجه، دون قوله:
تلقاء وجهه ... إلخ.
ورواه ابن ماجه (1/291) من طريق عبد الملك بن محمد الصَّنْعاني: ثنا زهير بن
محمد به إلى قوله: تلقاء وجهه. ثم قال الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي، {وابن الملقن (29/1) } .
لكن أعله بعضهم بزهير بن محمد هذا؛ فقال:
" وهو - وإن كان من رجال " الصحيحين "؛ لكن - له مناكير، وهذا الحديث منها ".(3/1032)
و " كانوا يشيرون بأيديهم إذا سلموا عن اليمين وعن الشمال، فرآهم
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال:
" ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس (1) ؟! إذا سلم
__________
قلت: لكنه لم يتفرد به؛ فقد رواه بقي بن مخلد في " مسنده " من رواية عاصم عن
هشام بن عروة به مرفوعاً. قال الحافظ (3/522) :
" وعاصم عندي هو: ابن عمر، وهو ضعيف. ووهم من زعم أنه ابن سليمان
الأحول. والله أعلم ".
وذكر آخر أن الصواب في الحديث أنه موقوف؛ كما أخرجه الحاكم، والبيهقي من
طرق عن عبيد الله عن القاسم عنها:
أنها كانت تسلم في الصلاة تسليمة واحدة قِبَلِ وجهها: السلام عليكم.
قلت: هذه طريق أخرى، ولا مخالفة بينهما؛ فعائشة روت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما رواه
غيره، وكانت تعمل بما روت - كما سبق مثله عن أنس -. قال البيهقي:
" وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم سلموا تسليمة واحدة. وهو
من الاختلاف المباح والاقتصار على الجائز. وبالله التوفيق ".
وللحديث شواهد:
منها: حديث أنس بسند صحيح (*) ، وقد خرجته في " الأحاديث الصحيحة "
(316) ، {و " الإرواء " تحت الحديث (327) } .
(1) هو بإسكان الميم وضمها. وهي التي لا تستقر؛ بل تضطرب، وتتحرك بأذنابها
وأرجلها. والمراد بالرفع المنهي عنه: رفعُهم أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من
الجانبين. كذا في " شرح مسلم ".
وقد حمله بعض الحنفية على كل رفع، بما فيه الرفع في الانتقالات. وقد مضى
__________
(*) وقد سبق تخريجه (ص 1029) .(3/1033)
أحدكم؛ فليتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده ". [فلما صلوا معه أيضاً؛
لم يفعلوا ذلك] . (وفي رواية:
" إنما يكفي أحدَكم أن يضعَ يدَه على فَخِذِه، ثم يسلم على أخيه؛ من
على يمينه وشماله ") " (1) .
__________
الرد عليهم [ص 613 - 615] .
(1) هو من حديث جابر بن سَمُرة قال:
صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكنا إذا سلمنا؛ قلنا بأيدينا: السلام عليكم. فنظر إلينا
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: ... فذكره.
أخرجه مسلم (2/30) ، والنسائي (1/195) ، والطبراني في " الكبير "، والبيهقي
(2/181) عن عبيد الله بن موسى: ثنا إسرائيل عن فُرات القَزّاز عن عبيد الله - وهو: ابن
القطيفية (*) - عنه. والزيادة للطبراني (**) .
والرواية الأخرى هي عند مسلم أيضاً {وأبي عوانة [2/238 - 239] } ، وكذا
البخاري في " رفع اليدين " (13) ، والنسائي (194) ، وأبي داود (1/158) ، والطحاوي
(1/158) ، {وابن خزيمة [1/361/733] } ، والبيهقي (2/178 و 180) ، وأحمد
(5/86 و 88) ، والطبراني في " الكبير "؛ كلهم عن مسعر: ثني عبيد الله ابن القطيفية (*)
به.
__________
(*) كذا في أصل الشيخ رحمه الله تعالى في الموضعين. والصواب: القبطية. كما في
" التهذيب "، و " التقريب "، وكذا في " مسلم " و " صحيح سنن أبي داود " (916) ، و " المسند "، و " أبي
عوانة " وغيرهم.
(**) وعزاه الشيخ رحمه الله تعالى في " الصفة " المطبوع للسراج، وأبي عوانة، وهو في
" مسنده " (2/239 و 240) من طرق عن الفُرات القَزاز به. وعنده الزيادة في الرواية الثانية.(3/1034)
..............................................................................
__________
وله طريق أخرى بلفظ:
" ما لي أراكم رافعي أيديكم؛ كأنها أذناب خيل شُمْس! اسكنوا في الصلاة ".
أخرجه مسلم، وأبو داود، والطحاوي (1/265) ، والطيالسي (106) ، وأحمد
(5/93) ، والطبراني في " الكبير " عن تميم بن طَرَفَةَ عن جابر به.
وقوله: " ثم يسلم على أخيه "؛ قال النووي:
" المراد بالأخ: الجنس؛ أي: إخوانه الحاضرين عن اليمين والشمال ".
وفي الحديث إشارة إلى أنه ينبغي على المصلي أن ينوي بسلامه إخوانه الحاضرين
معه في الصلاة.
وقد جاء الأمر بذلك نصاً في حديث مختلف فى ثبوته؛ رواه قتادة عن الحسن عن
سَمُرَة بن جُنْدُب قال:
أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض. (زاد في
رواية: في الصلاة) .
أخرجه أبو داود (1/158) ، وابن ماجه (1/296) ، والدارقطني (138) ، والحاكم
(1/270) ، والبيهقي (2/181) من طريق سعيد بن بَشِير وهَمّام؛ كلاهما عن قتادة به.
وقال الحاكم:
" صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. وقال النووي في " المجموع " (3/480) :
" وإسناد روايتي الدارقطني والبيهقي حسن. واعتضدت طرق هذا الحديث؛ فصار
حسناً أو صحيحاً ". وقال الحافظ (3/523) :
" ورواه البزار. وزاد: في الصلاة.
وإسناده حسن ".(3/1035)
..............................................................................
__________
قلت: ورجاله عند ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي في رواية رجال الشيخين.
لكن الحديث فيه علة؛ وهي أنه من رواية الحسن - وهو: البصري - عن سَمُرَة. قال
الشوكاني (2/253) :
" وقد اختلف في سماعه منه على أربعة مذاهب: سمع منه مطلقاً. لم يسمع منه
مطلقاً. سمع منه حديث العقيقة. سمع منه ثلاثة أحاديث. وقد قدمنا بسط ذلك ".
والمتحقق من هذه الأقوال أنه سمع من سمرة في الجملة - كما ذهب إليه الحافظ في
" التهذيب " (2/270) -؛ ولكن لما كان الحسن - على جلالة قدره - مشهوراً بالتدليس،
وكثرة الإرسال - كما قال الحافظ في " التقريب " -؛ فلا يحتج بحديثه هذا؛ لأنه قد
عنعنه، ولم يصرح بسماعه من سَمُرة.
نعم؛ له طريق أخرى عند أبي داود (1/154) ، وعنه البيهقي بلفظ:
" ثم سلِّموا عن اليمين، ثم سلموا على قارئكم، وعلى أنفسكم ".
لكنه ضعيف؛ لما فيه من المجاهيل - كما قال في " التلخيص " -. ولعل هذا الطريق
هو من الطرق التي عناها النووي بقوله السابق:
" واعتضدت طرق الحديث؛ فصار حسناً أو صحيحاً ". فالله أعلم؛ فإني لم أجد له
طريقاً آخر غير هذا.
{ (تنبيه) : لقد حرَّف الإباضية هذا الحديث، فرواه ربيعهم في " مسنده " المجهول
بلفظ آخر، ليحتجوا به على بطلان الصلاة عندهم برفع الأيدي مع التكبير، ومنهم
السيابي المردود عليه في المقدمة (*) ، ولفظهم باطل، وبيانه في " الضعيفة " (6044) } .
__________
(*) مقدمة الطبعة الجديدة لِ " صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (ص 26 - المعارف) .(3/1036)
وجوب التسليم
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" ... وتحليلها (يعني: الصلاة) التسليم " (1) .
__________
(1) مضى بتمامه (ص 182) .
وقوله: " تحليلها "؛ أي: تحليل ما حل خارجها من الأفعال.
والحديث يدل على وجوب التسليم. وهو مذهب الشافعية. وبه قال جمهور العلماء من
الصحابة والتابعين فمن بعدهم. كما في " المجموع " (1/481) و " شرح مسلم " للنووي، قال:
" وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: هو سنة، ويحصل التحلل من الصلاة بكل شيء
ينافيها؛ من سلام، أو كلام، أو حدث، أو قيام، أو غير ذلك. واحتج الجمهور بأن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسلم، وثبت في " البخاري " أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" صلوا كما رأيتموني أصلي ". وبالحديث الآخر:
" ... تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم " ".
واحتُجَّ لأبي حنيفة بثلاثة أحاديث:
الأول: حديث (المسيء صلاته) .
وأجيب: بأنه لا ينافي الوجوب؛ فإن هذه زيادة، وهي مقبولة.
الثاني: حديث ابن مسعود في التشهد:
" إذا قلت هذا؛ فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم؛ فقم، وإن شئت أن تقعد؛
فاقعد ".
وأُجيب عنه: بأنه حديث لا يثبت - كما سبق في (التشهد) [ص 872]-. وقال
الحافظ (2/257) :(3/1037)
..............................................................................
__________
" ضعفه الحفاظ ".
الثالث: حديث ابن عمرو:
" إذا أحدث - يعني: الرجل -، وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم؛ فقد
جازت صلاته ".
أخرجه أبو داود (1/101) ، وعنه البيهقي (2/176) ، والترمذي (2/261) واللفظ
له من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم: أن عبد الرحمن بن رافع وبكرة بن سَوَادَةَ
أخبراه عنه.
وهذا سند ضعيف. قال الترمذي:
" هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي. وعبد الرحمن بن زياد - هو: الإفريقي، وقد -:
ضعفه بعض أهل الحديث ". وقال البيهقي:
" لا يصح ".
وقد أخرجه أيضاً الطحاوي (1/161 - 162) ، والطيالسي (298) ، والدارقطني
(145 - 146) وقال:
" عبد الرحمن بن زياد: ضعيف، لا يحتج به ". وقال الخطابي في " المعالم "
(1/175) :
" هذا الحديث ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نَقَلَتِه، وقد عارضته الأحاديث
التي فيها إيجاب التشهد والتسليم.
ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهره؛ لأن أصحاب الرأي لا يرون أن صلاته قد
تمت بنفس القعود حتى يكون ذلك بقدر التشهد - على ما رووا عن ابن مسعود -.
ثم لم يقودوا قولهم في ذلك؛ لأنهم قالوا: إذا طلعت عليه الشمس، أو كان متيمماً(3/1038)
..............................................................................
__________
فرأى الماء، وقد قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم؛ فقد فسدت صلاته. وقالوا فيمن قهقه
بعد الجلوس قدر التشهد: إن ذلك لا يفسد صلاته، ويتوضأ، ومن مذهبهم: أن القهقهة
لا تنقض الوضوء إلا أن تكون في صلاة، والأمر في اختلاف هذه الأقاويل ومخالفتها
الحديث بيّن ".
فتبين بما تقدم أن كل ما احتجوا به على السُّنِّيَّة لا ينهض.
فالحق: القول بالوجوب؛ كالجمهور. وقد قال به المتأخرون من الحنفية، ولكن
بالوجوب الاصطلاحي عندهم؛ الذي هو دون الفرض.
* * *(3/1039)
الخاتمة (*)
كل ما تقدم من صفة صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستوي فيه الرجال والنساء، ولم يرد في
السنة ما يقتضي استثناء النساء من بعض ذلك؛ بل إن عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" صلوا كما رأيتموني أصلي ".
يشملهن، وهو قول إبراهيم النَّخَعي؛ قال:
" تفعل المرأة في الصلاة كما يفعل الرجل ".
أخرجه ابن أبي شيبة (1/75/2) بسند صحيح عنه.
وحديث انضمام المرأة في السجود، وأنها ليست في ذلك كالرجل؛ مرسل
لاحجة فيه.
رواه أبو داود في " المراسيل " (117/87) عن يزيد بن أبي حبيب. وهو
مخرج في " الضعيفة " (2652) [وانظر (ص 637) ] .
وأما ما رواه الإمام أحمد في " مسائل ابنه عبد الله عنه " (ص 71) عن ابن عمر:
أنه كان يأمر نساءه يتربعن في الصلاة.
فلا يصح إسناده؛ لأن فيه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف.
وروى البخاري (**) في " التاريخ الصغير " (ص 95) بسند صحيح عن أم
الدرداء:
أنها كانت تجلس في صلاتها جِلْسَةَ الرجل. وكانت فقيهة.
* * *
__________
(*) هي من مطبوع " الصفة ".
(**) وأورده معلقاً في " صحيحه ".(3/1040)
إلى هنا ينتهي كتاب
" صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التكبير إلى التسليم "
مع تخريجه، والتعليق عليه
وكان الفراغ منه أصيل يوم الاثنين الواقع (19 شعبان سنة 1366) من هجرة سيد المرسلين.
وإني أرجو الله تعالى أن يبارك لي في عمري، ووقتي،
ويوفقني أن أجمع كل ما يتعلق بالصلاة، وكذا الطهارة؛
مما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في أجزاء خاصة، سهلة التناول والترتيب، بعيدة عن الحشو والتعقيد،
إنه تعالى سميع مجيب.
وأختم كتابي هذا بكفارة المجلس:
" سبحانك اللهم! وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ".
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا:
{أن الحمدُ لله رب العالمين}
* * *(3/1041)
تيسيراً على القراء الكرام
رأينا تجميعَ
متن
" صفة صلاة النبي من التكبير إلى التسليم "
ووضعه في نهاية الكتاب؛ ليكون عوناً لهم على تصور
صفة الصلاة
من بدايتها إلى نهايتها.(3/1043)
استقبال الكعبة
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ استقبل الكعبة في الفرض والنفل،
وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ فقال لـ (المسيء صلاته) : " إذا قمتَ إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثم
استقبل القبلة، فكبر ".
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر يصلي النوافل على راحلته، ويوتر عليها حيث توجهت به
[شرقاً وغرباً] ". وفي ذلك نزل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) .
و" كان يركع ويسجد على راحلته إيماءً برأسه، ويجعل السجود أخفض من الركوع ".
و" كان - أحياناً - إذا أراد أن يتطوع على ناقته؛ استقبل بها القبلة، فكبر، ثم صلى حيث
وجَّهَهُ ركابُه ". و " كان إذا أراد أن يصلي الفريضة؛ نزل، فاستقبل القبلة ".
وأما في صلاة الخوف الشديد؛ فقد سنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته أن يصلوا " رجالاً؛ قياماً على
أقدامهم، أو ركباناً؛ مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها ". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا اختلطوا؛ فإنما
هو التكبير والإشارة بالرأس ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما بين المشرق والمغرب قبلة ".
وقال جابر رضي الله عنه: " كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسيرةٍ أو سريَّة، فأصابنا غيم،
فتحرَّينا واختلفنا في القبلة؛ فصلى كلُّ رجل منا على حدة، فجعل أحدنا يخطُّ بين
يديه؛ لنعلم أمكنتنا، فلما أصبحنا؛ نظرناه، فإذا نحن صلينا على غير القبلة، فذكرنا
ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فلم يأمرنا بالإعادة] ، وقال: " قد أجزأت صلاتكم " ".
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي نحو بيت المقدس -[والكعبة بين يديه]- قبل أن تنزل هذه الآية:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ
الحَرَامِ} (البقرة: 144) . فلما نزلت؛ استقبل الكعبة. فبينما الناس بقُباء في صلاة الصبح؛
إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِرَ أن يستقبل
الكعبة؛ [ألا] فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا، [واستدار إمامهم
حتى استقبل بهم القبلة] ". (ص 55 - 78) .
القيام
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف فيها قائماً، في الفرض والتطوع؛ ائتماراً بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} (البقرة: 238) .(3/1045)
وأما في السفر؛ فكان يصلي على راحلته النافلة.
وسَنَّ لأمته أن يصلوا في الخوف الشديد على أقدامهم، أو ركباناً - كما تقدم -،
وذلك قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ. فَإِنْ
خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة:
238) .
و" صلّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضِ موته جالساً ". وصلاها كذلكَ مرةً أخرى قبل هذه؛ حين
" اشتكى، وصلّى الناسُ وراءَه قياماً؛ فأشارَ إليهم أنِ اجْلِسُوا؛ فجلسوا، فلما انصرفَ؛
قال: " إنْ كِدْتُمْ آنفاً لتفعلون فِعْلَ فارسَ والروم: يقومون على مُلوكهم وهم قُعود، فلا
تفعلوا؛ إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتَمَّ به؛ فإذا ركع؛ فاركعوا، وإذا رفع؛ فارفعوا، وإذا صلى
جالساً؛ فصلُّوا جلوساً [أجمعون] " ". (ص 79 - 90) .
صلاة المريض جالساً
وقال عمرانُ بن حصين رضي الله عنه: " كانتْ بي بَوَاسير، فسألت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فقال: " صلِّ قائماً، فإن لم تستطعْ؛ فقاعداً، فإن لم تستطعْ؛ فعلى جنبٍ " "، وقال أيضاً:
"سألتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاةِ الرجل وهو قاعد؟ فقال: " مَنْ صلّى قائماً؛ فهو أفضلُ، ومن
صلى قاعداً؛ فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً (وفي رواية: مضطجعاً) ؛ فله نصف
أجر القاعد " ". والمراد به المريض؛ فقد قال أنس رضي الله عنه. " خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
على ناس وهم يصلون قعوداً من مرض، فقال: " إن صلاة القاعد على النصف من صلاة
القائم " ". و " عاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مريضاً، فرآه يصلي على وسادة؛ فأخذها، فرمى بها، فأخذ عوداً؛
ليصلي عليه، فأخذه، فرمى به، وقال: " صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا؛ فَأَوْمِ إيماءً،
واجعل سجودك أخفض من ركوعك " ". (ص 91 - 100) .
الصلاةُ في السَّفينة
وسُئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة في السفينة؟ فقالَ: " صَلِّ فيها قائماً؛ إلا أن تخاف
الغرق ". (101) .
الاعتماد على عمود ونحوه في الصلاة
ولمَّا أسنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبر؛ اتخد عموداً في مصلاه يعتمد عليه. (ص 102 - 103) .(3/1046)
القيام والقُعود في صلاة الليل
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ قائماً؛ ركع
قائماً، وإذا قرأ قاعداً؛ ركع قاعداً ". و " كان أحياناً يصلي جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا
بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية؛ قام فقرأها وهو قائم، ثم ركع وسجد،
ثم يصنع في الركعة الثانية مثل ذلك ". وإنما " صلى السُّبحَة قاعداً في آخر حياته لما
أسَنَّ؛ وذلك قبل وفاته بعام ". و " كان يجلس متربعاً ". (ص 104 - 107) .
الصلاةُ في النِّعال، والأمْرُ بها
و" كان يقف حافياً أحياناً، ومنتعلاً أحياناً ". وأباح ذلك لأمته؛ فقال: " إذا صلى
أحدكم؛ فليلبس نعليه، أو ليخلعهما بين رجليه، ولا يُؤْذِي بهما غيره ". وأكد عليهم
الصلاة فيهما أحياناً؛ فقال: " خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم ".
وكان ربما نزعهما من قدميه وهو في الصلاة، ثم استمر في صلاته؛ كما قال أبو سعيد
الخدري: " صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، فلما كان في بعض صلاته؛ خلع نعليه،
فوضعهما عن يساره، فلما رأى الناس ذلك؛ خلعوا نعالهم، فلما قضى صلاته؛ قال:
" ما بالكم ألقيتم نعالكم؟ ". قالوا: رأيناك ألقيت نعليك؛ فألقينا نعالنا. فقال: " إن جبريل
أتاني، فأخبرني أن فيها قذراً - أو قال: أذى - (وفي رواية: خبثاً) ؛ فألقيتهما، فإذا جاء
أحدكم إلى المسجد؛ فلينظر في نعليه: فإن رأى فيهما قذراً - أو قال: أذى - (وفي
الرواية الأخرى: خبثاً) ؛ فليمسحهما، ولْيصلِّ فيهما ". و " كان إذا نزعهما؛ وضعهما عن
يساره ". وكان يقول: " إذا صلى أحدكم؛ فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره؛ فتكونَ
عن يمين غيره؛ إلا أن لا يكون عن يساره أحد، ولْيضعْهُما بين رجليه ". (ص 108 - 112) .
الصلاةُ على المنبر
و" صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرةً - على المنبر (وفي رواية: أنه ذو ثلاث درجات) ، فـ[قام عليه،
فكبر، وكبر الناس وراءه وهو على المنبر] ، [ثم ركع وهو عليه] ، ثم رفع، فنزل القهقرى
حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد، [فصنع فيها كما صنع في الركعة الأولى] ، حتى
فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس، فقال: " يا أيها الناس! اني صنعت هذا؛
لتأتموا بي، ولِتَعلَّموا صلاتي ". (ص 113) .(3/1047)
السُّتْرَةُ ووجُوبها
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف قريباً من السترة؛ فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، وبين موضع
سجوده والجدار ممر شاة ". وكان يقول: " لا تُصلِّ إلا إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين
يديك، فإن أبى؛ فلتقاتله؛ فإن معه القرين ". ويقول: " إذا صلى أحدكم إلى سترة؛
فَلْيَدْنُ منها؛ لا يقطع الشيطان عليه صلاته ". و " كان أحياناً يتحرى الصلاة عند
الأُسْطُوَانَةِ التي في مسجده ". و " كان إذا صلى [في فضاء ليس فيه شيء يستتر به] ؛
غرز بين يديه حَرْبَةً، فصلى إليها والناس وراءه ". وأحياناً " كان يَعْرِضُ راحلته، فيصلي
إليها ". وهذا خلاف الصلاة في أعطان الإبل؛ فإنه " نهى عنها ". وأحياناً " كان يأخذ
الرحل، فَيَعْدِلُه، فيصلي إلى آخرته "، وكان يقول: " إذا وضع أحدكم بين يديه مثل
مُؤْخِرَة الرحل؛ فليصلِّ، ولا يبالي من مَرَّ وراء ذلك ". و " صلى - مرة - إلى شجرة ".
و" كَان أحياناً يصلي إلى السرير، وعائشة رضي الله عنها. مضطجعة عليه [تحت
قطيفتها] ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدع شيئاً يمر بينه وبين السترة؛ فقد " كان - مرة - يصلي؛ إذ
جاءت شاة تسعى بين يديه، فَسَاعَاهَا حتى ألزق بطنه بالحائط، [ومرت من ورائه] ".
و" صلى صلاة مكتوبة، فضم يده، فلما صلى؛ قالوا: يا رسول الله! أحدث في الصلاة
شيء؟ قال: " لا؛ إلا أن الشيطان أراد أن يمر بين يدي، فَخَنَقْتُه، حتى وجدت بَرْدَ لسانه
على يدي. وايم الله! لولا ما سبقني إليه أخي سليمان؛ لارْتُبِطَ إلى سارية من سواري
المسجد، حتى يَطِيْفَ به وِلْدَانُ أهل المدينة، [فمن استطاع أن لا يحول بينه وبين القبلة
أحد؛ فليفعل] ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس،
فأراد أحد أن يجتاز بين يديه؛ فليدفع في نحره، [وليدرأ ما استطاع] (وفي رواية:
فليمنعه، مرتين) ، فإن أبى؛ فليقاتله؛ فإنما هو شيطان ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لو يعلم المارُّ بين
يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه ". (ص 114 - 129) .
ما يَقْطَعُ الصَّلاةَ
وكان يقول: " يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل: المرأة
[الحائض] ، والحمار، والكلب الأسود ". قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله! ما بالُ الأسود
من الأحمر؟ فقال: " الكلب الأسود شيطان ". (ص 130 - 139) .(3/1048)
الصلاةُ تجاه القبر
وكان ينهى عن الصلاة تجاه القبر؛ فيقول: " لا تجلسوا على القبور، ولا تُصَلُّوا
إليها ". (ص 140 - 144) .
اللباسُ في الصلاة
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل في الصلاة بما تيسر عليه من الثياب، فلم يكن يتخذ لها ثوباً
خاصاً؛ إلا صلاة الجمعة - كما سيأتي -؛ فكان تارة " يصلي في حلة حمراء " (وهي
ثوبان: إزار، ورداء) ، وكان يأمر بهما؛ فيقول: " إذا صلى أحدكم؛ فليأتزر، وليرتد ".
حتى " نهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء ". وإنما أراد به القادر على
الرداء؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: " إذا صلى أحدكم؛ فليلبس ثوبيه؛ فإن الله أحق
من يُزَّيَّنُ له، فإن لم يكن له ثوبان؛ فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته
اشتمال اليهود ".
وتارة " في جُبَّةٍ شامية ضيقةِ الكُمَّين "، حتى إنه " لما أراد الوضوء؛ ذهب يخرج يده
من كُمِّها ليتوضأ؛ فضاقتْ عليه، فأخرج يده من أسفلها ". وكان تحت الجبة قميص أو
إزار.
وكان أحياناً " يصلي في بُرْدٍ له حضرميٍّ مًتَوَشِّحَه، ليس عليه غيره ".
و" في ثوب واحد؛ مخالفاً بين طرفيه، يجعلهما على منكبيه. و " آخر صلاة صلاها
في ثوب قِطْرِيٍّ متوشحاً به "، وقال: " إذا صلَّى أحدُكم في ثوبٍ واحدٍ؛ فَلْيُخَالِفْ بين
طَرفيه [على عاتِقَيْهِ] . وفي لفظ: " لا يصلِّي أحدُكم في الثوبِ الواحد ليس على
عاتِقَيْه منه شيءٌ ". وقيد ذلك بالثوب الواسع؛ فقال: " إذا صلَّيتَ وعليك ثوبٌ واحد،
فإن كان واسعاً؛ فالتحف به، وإن كان ضيقاً؛ فاتزر به "، و " قال له رجل: أيصلي أحدنا
في ثوب واحد؟ فقال: " أَوَ كلكم يجد ثوبين؟! " ". وقال له آخر: إني أصيد؛ أفأصلي
في القميص الواحد؟ قال: " نعم؛ وزُرَّهُ ولو بشوكة " ".
و" كان يصلي في مِرْطٍ بعضُه على زوجه وهي حائض ". و " كان يصلي في الثوب
الذي يصيب فيه أهله إذا لم يَرَ فيه أذى ".
و" كان يصلي المغرب في فَرُّوج من حرير - وهو القَباء -، فلما قضى صلاته؛ نزعه(3/1049)
نزعاً شديداً كالكاره له، ثم ألقاه، ثم قال: " لا ينبغي هذا للمتقين " ".
وقد " صلى في خَمِيْصَةٍ لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف؛ قال:
" اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جَهْمٍ، وائتوني بأنْبِجَانِيَّة أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن
صلاتي (وفي رواية: فإني نظرتُ إلى عَلَمِها في الصلاة، فكاد يفتنني) ". (ص 145 - 170) .
المرأة تصلي بخمار
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". (ص 171 - 173) .
النِّيَّةُ
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ". (ص 174) .
التكبير
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح الصلاة بقوله: " الله أكبر "، وأمر بذلك (المسيء صلاته) - كما
تقدم -، وقال له: " إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء
مواضعه، ثم يقول: الله أكبر ". وكان يقول: " مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير،
وتحليلها التسليم ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صوته بالتكبير حتى يُسْمع مَنْ خلْفَه ". و " كان إذا
مرض؛ رفع أبو بكر رضي الله عنه صوته؛ يُبَلِّغ الناس تكبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وكان يقول: " إذا
قال الإمام: الله أكبر؛ فقولوا: الله أكبر ". (ص 175 - 192) .
رَفْعُ اليدَيْنِ
و" كان يرفع يديه تارةً مع التكبير، وتارةً قبله، وتارةً بعده ". و " كان يرفعهما ممدودة
الأصابع، [لا يفرج بينها، ولا يضمها] ". و " كان يجعلهما حذو منكبيه، وربما رفعهما
حتى يحاذي بهما [فروع] أذنيه ". (ص 193 - 204) .
وَضْعُ اليمنى على اليُسرى، والأمرُ به
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده اليمنى على اليسرى ". وكان يقول: " إنَّا - معشرَ الأنبياء -
أُمِرْنا بتعجيل فطرنا، وتأخير سحورنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة ". و " مر
برجل وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على اليمنى؛ فانتزعها، ووضع اليمنى على
اليسرى ". (ص 205 - 208) .(3/1050)
وضعُهُمَا على الصَّدْرِ، والنهي عن الاختصار
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد ". و " أمر بذلك أصحابه ".
و" كان - أحياناً - يقبض باليمنى على اليسرى ". و " كان يضعهما على الصدر ".
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن الاختصار في الصلاة "، وهو الصَّلْبُ الذي كان ينهى عنه.
(ص 209 - 229) .
النَّظَرُ إلى مَوْضع السُّجُودِ، والخُشُوعُ
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى؛ طأطأ رأسه، ورمى ببصره نحو الأرض ". و " لما دخل الكعبة
ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها ". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ينبغي أن يكون في
البيت شيء يشغل المصلي ".
و" كان ينهى عن رفع البصر الى السماء "، ويؤكد في النهي حتى قال: " لينتهِيَنَّ
أقوام يرفعون أبصارهم الى السماء في الصلاة؛ أو لا ترجع اليهم (وفي رواية: أو
لتخطفن أبصارهم) ".
وفي حديث آخر: " فإذا صليتم؛ فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في
صلاته؛ ما لم يلتفت ". وقال أيضاً عن التلفت: " اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة
العبد ". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته؛ ما لم يلتفت، فإذا صرف
وجهه؛ انصرف عنه ". و " نهى عن ثلاث: عن نُقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء
الكلب، والتفات كالتفات الثعلب ".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " صل صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه؛ فإنه يراك ".
ويقول: " ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها،
وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب؛ ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله ".
وقد " صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خميصة لها أعلام، فنظر الى أعلامها نظرة، فلما انصرف؛
قال: " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني
آنفاً عن صلاتي (وفي رواية: " فإني نظرت الى عَلَمِها في الصلاة، فكاد يفتنني) ".
وكان لعائشة ثوب فيه تصاوير ممدود الى سهوة، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إليه، فقال:(3/1051)
" أخِّريه عني؛ [فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي] ".
وكان يقول: " لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان ". (ص 230 - 237) .
أدعية الاستفتاح
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح القراءة بأدعية كثيرة متنوعة، يحمد الله تعالى فيها، ويمجده
ويثني عليه، وقد أمر بذلك (المسيء صلاته) ، فقال له: " لا تتم صلاة لأحد من الناس
حتى يكبر، ويحمد الله جل وعزّ، ويثني عليه، ويقرأ بما تيسر من القرآن ... "، وكان
يقرأ تارة بهذا، وتارة بهذا؛ فكان يقول:
1- " اللهم! باعد بيني وبين خطاياي؛ كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم!
نَقَّنِي من خطاياي؛ كما ينقى الثوب الأبيض من الدنَسِ. اللهم! اغسلني من خطاياي
بالماء والثَّلْج والبَرَدِ ". وكان يقوله في الفرض. وهو أصح أدعية إلاستفتاح سنداً.
2- " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً [مسلماً] ، وما أنا من
المشركين. إن صلاتي، ونُسُكي، ومحيايَ، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له؛
وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين. اللهم! أنت الملك لا إله إلا أنت [سبحانك
وبحمدك] ، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذ نبي؛ فاغفر لي ذنبي
جميعاً؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا
أنت. واصرف عني سيئها؛ لا يصرف عني سيئها إلا أنت. لبيك وسعديك، والخير كله
في يديك، والشر ليس إليك، [والمهدي من هديت] ، أنا بك وإليك، [لا منجا ولا ملجأ
منك إلا إليك] ، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك ". وكان يقول ذلك في
الفرض والنفل.
3- مثله دون قوله: " أنت ربي، وأنا عبدك ... " إلخ، ويزيد: " اللهم! أنت الملك، لا
إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك ".
4- مثله - أيضاً - إلى قوله: " وأنا أول المسلمين "، ويزيد: " اللهم! اهدني لأحسن
الأخلاق وأحسن الأعمال؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأخلاق
والأعمال؛ لا يقي سيئها إلا أنت ".
5- " سبحانك اللهم! وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك ".(3/1052)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد: سبحانك اللهم! ... ".
6- مثله، ويزيد في صلاة الليل: " لا إله إلا الله (ثلاثاً) ، الله أكبر كبيراً (ثلاثاً) ".
7- " الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً "؛ استفتح به رجل
من الصحابة، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عجبت لها! فتحت لها أبواب السماء ".
8- " الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه "؛ استفتح به رجل آخر، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها؛ أيهم يرفعها ".
9- " اللهم! لك الحمد؛ أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد؛ أنت
قَيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن. [ولك الحمد؛ أنت ملِك السماوات والأرض ومن
فيهن] . ولك الحمد؛ أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق،
والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق. اللهم! لك أسلمت، وعليك
توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت؛ [أنت ربنا،
وإليك المصير؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت] ، [وما أنت أعلم
به مني] ؛ أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، [أنت إلهي] ، لا إله إلا أنت، [ولا حول ولا قوة إلا
بك] ". وكان يقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الليل؛ كالأنواع الآتية:
10- " اللهم! رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السماوات والأرض! عالم
الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختُلِفَ فيه
من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
11- " كان يكَبِّرُ (عَشْراً) ، ويَحْمَدُ (عَشْراً) ، ويُسَبِّحُ (عَشْراً) ، ويُهَلِّل (عَشْراً) ،
ويستغفر (عَشْراً) ، ويقول: " اللهم! اغفر لي، واهدني، وارزقني، [وعافني] " (عَشْراً) .
ويقول: " اللهم! إني أعوذ بك من الضيق يوم الحساب " (عَشْراً) ".
12- " الله أكبر [ثلاثاً] ، ذو الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة ". (ص 238 - 269) .
القراءة
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعيذ بالله تعالى؛ فيقول: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ من
هَمْزِه، ونَفْخِه، ونَفْثِه ". وكان - أحياناً - يزيد فيه فيقول: " أعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان ... ". ثم يقرأ: {بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولا يجهر بها. (ص 270 - 292) .(3/1053)
القراءةُ آيةً آيةً
ثم يقرأ {الفَاتِحَة} ، ويُقطعها آية آية: {بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، [ثم يقف، ثم
يقول:] {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، [ثم يقف، ثم يقول:] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، [ثم يقف،
ثم يقول:] {مَالِكِ يَوْمِ الدَّينِ} ، وهكذا إلى آخر السورة. وكذلك كانت قراءته كلها؛
يقف على رؤوس الآي، ولا يصلها بما بعدها. وكان تارة يقرؤها: {مَلِكِ يَوْمِ الدَّينِ} .
وتارة: {مَالِكِ يَوْمِ الدَّينِ} . (ص 293 - 299) .
رُكنيةُ {الفَاتِحَة} وفضائلُها
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعظم من شأن هذه السورة؛ فكان يقول: " لا صلاة لمن لم يقرأ [فيها] بـ:
{فاتحة الكتاب} [فصاعداً] ". وفي لفظ: " لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بـ: {فاتحة
الكتاب} ". وتارة يقول: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} ؛ فهي
خداج، هي خداج، هي خداج؛ غير تمام ".
ويقول: " قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها
لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل ". وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرؤوا: يقول العبد:
{الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ؛ يقول الله تعالى: حمدني عبدي. ويقول العبد: {الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} ؛ يقول الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي. ويقول العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدَّينِ} ؛ يقول
الله تعالى: مَجَّدَني عبدي. يقول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؛ [قال:] فهذه
بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. يقول العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلْيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ [قال:] فهؤلاء لعبدي،
ولعبدي ما سأل ".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما أنزل الله عز وجل في التوراة، ولا في الإنجيل مثل {أم
القرآن} ؛ وهي السبع المثاني [والقرآن العظيم الذي أوتيته] ".
وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (المسيء صلاته) أن يقرأ بها في صلاته، وقال لمن لم يستطع حفظها: " قل:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله ". وقال لـ
(المسيء صلاته) : " فإن كان معك قرآن؛ فاقرأ به، وإلا؛ فاحمد الله، وكبِّره، وهلله ".
(ص 300 - 326) .(3/1054)
نَسْخُ القراءةِ وراءَ الإمام في الجهرية
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجاز للمؤتمين أن يَقرؤوا بها وراء الإمام في الصلاة الجهرية؛ حيث
كان في صلاة الفجر، فقرأ، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ؛ قال: " لعلكم تقرؤون خلف
إمامكم؟ ". قلنا: نعم؛ هذّاً يا رسول الله! قال: " لا تفعلوا؛ إلا [أن يقرأ أحدكم] بـ:
{فاتحة الكتاب} ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ".
ثم نهاهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن القراءة كلها في الجهرية، وذلك حينما " انصرف من صلاة جهر
فيها بالقراءة (وفي رواية: أنها صلاة الصبح) ، فقال: " هل قرأ معي منكم أحد آنفاً؟! ".
فقال رجل: نعم؛ أنا يا رسول الله! فقال: " إني أقول: ما لي أنازع؟! ". [قال أبو هريرة:]
فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جهر فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقراءة حين
سمعوا ذلك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [وقرؤوا في أنفسهم سرّاً فيما لا يجهر فيه الإمام] ".
وجعل الإنصات لقراءة الإمام من تمام الائتمام به؛ فقال: " إنما جعل الإمام ليؤتم به،
فإذا كبر؛ فكبروا، وإذا قرأ؛ فأنصتوا ". كما جعل الاستماع له مغنياً عن القراءة وراءه؛
فقال: " من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة ". هذا في الجهرية. (ص 327 - 364) .
وُجُوبُ القراءة في السِّرِّيَّةِ
وأما في السرية؛ فقد أقرهم على القراءة فيها، فقال جابر: " كنا نقرأ في الظهر
والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بـ: {فاتحة الكتاب} وسورة، وفي الأخريين
بـ: {بفاتحة الكتاب} ". وإنما أنكر التشويش عليه بها، وذلك حين " صلى الظهر
بأصحابه؛ فقال: " أيُّكم قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
؟ ". فقال رجل: أنا، [ولم أرد
بها إلا الخير] . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد عرفت أن رجلاً خَالَجَنِيْها ". وفي حديث آخر: " كانوا
يقرؤون خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فيجهرون به] ، فقال: " خلطتم عليَّ القرآن ". وقال: " إن
المصلِّي يناجي ربه؛ فلينظر بما يناجيه به. ولا يجهرْ بعضكم على بعض بالقرآن ". وكان
يقول: " من قرأ حرفاً من كتاب الله؛ فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول:
{الم} حرف؛ ولكن (أَلِف) حرف، و (لام) حرف، و (ميم) حرف ". (ص 365 - 372) .
التَّأمِينُ، وجَهْرُ الإمامِ به
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انتهى من قراءة {فاتحة الكتاب} ؛ قال: " آمين ". يجهر، ويمد بها(3/1055)
صوته. وكان يأمر المقتدين بالتأمين بُعَيْدَ تأمين الإمام؛ فيقول: " إذا قال الإمام: {غَيْرِ
المَغْضُوبِ عَلْيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ فقولوا: آمين؛ [فإن الملائكة تقول: آمين. وإن الإمام
يقول: آمين] ، (وفي لفظ: إذا أمَّن الإمام؛ فأمِّنوا) ؛ فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة،
(وفي لفظ آخر: إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين. والملائكةُ في السماء: آمين. فوافق
أحدهما الآخر) ؛ غفر له ما تقدم من ذنبه ". وفي حديث آخر: " فقولوا: آمين؛ يُجِبْكُم
الله ". وكان يقول: " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين
[خلف الإمام] ". (ص 373 - 390) .
قراءتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ {الفَاتِحَة}
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بعد {الفاتحه} سورة غيرها. وكان يطيلها أحياناً، ويقصرها أحياناً
لعارض سفر، أو سعال، أو مرض، أو بكاء صبي تصلي أمُّه معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما قال أنس بن
مالك رضي الله عنه: " جوَّز صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم في الفجر (وفي حديث آخر: صلى الصبح،
فقرأ بأقصر سورتين في القرآن) ، فقيل: يا رسول الله! لم جوَّزت؟ قال: " سمعت بكاء
صبي، فظننت أن أمه معنا تصلي؛ فأردت أن أفرغ له أمه " ". وكان يقول: " إني لأدخل
في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة
وَجْدِ أمه من بكائه ".
وكان يبتدئ من أول السورة، ويكملها في أغلب أحواله. ويقول: " أعطوا كل سورة
حَظَّها من الركوع والسجود (وفي لفظ: " لكل سورة ركعة ") ".
وكان تارة يقسمها في ركعتين. وتارة يعيدها كلها في الركعة الثانية.
وكان أحياناً يجمع في الركعة الواحدة بين السورتين أو أكثر. وقد " كان رجل من
الأنصار يؤمهم في مسجد قُباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ
به؛ افتتح بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها؛ وكان
يصنع ذلك في كل ركعة. فكلمه أصحابه؛ فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى
أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى؛ فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها، وتقرأ بأخرى. فقال: ما
أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك؛ فعلت، وإن كرهتم؛ تركتكم. وكانوا يرون أنه
من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره. فلما أتاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أخبروه الخبر؛ فقال: " يا(3/1056)
فلان! ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في
كل ركعة؟ ". فقال: إني أحبها. فقال: " حُبَّكَ إيَّاها أدخلك الجنة " ". (ص 391 -
401) .
جَمْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النظائر وغيرها في الركعة
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرُن بين النَّظَائر من المُفَصَّلِ؛ فكان يقرأ سورة: {الرَّحْمَن} (55: 78)
و {النَّجْم} (53: 62) في ركعة. و {اقْتَرَبَتِ} (54: 55) و {الحَاقَّة} (69: 52) في ركعة.
و {الطُّوْر} (52: 49) و {الذَّارِيَات} (51: 60) في ركعة. و {إِذَا وَقَعَتِ} (56: 96) و {ن}
(68: 52) في ركعة. و {سَأَلَ سَائِلٌ} (70: 44) و {النَّازِعَات} (79: 46) في ركعة.
و {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} (83: 36) و {عَبَسَ} (80: 42) في ركعة. و {المُدَّثِّر} (74: 56)
و {المُزَّمِّل} (73: 20) في ركعة. و {هَلْ أَتَى} (76: 31) و {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ}
(75: 40) في ركعة. و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (78: 40) و {المُرْسَلات} (77: 50) في ركعة.
و {الدُّخَان} (44: 59) و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (81: 29) في ركعة.
وكان أحياناً يجمع بين السور من السبع الطوال؛ كـ {البَقَرَة} و {النِّسَاء} و {آلِ
عِمْرَان} في ركعة واحدة من صلاة الليل - كما سيأتي -. وكان يقول: " أفضل الصلاة
طول القيام ".
و" كان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى} ؛ قال: " سبحانك! فَبَلى ".
وإذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ؛ قال: " سبحان ربي الأعلى " ". (ص 402 - 410) .
جَوَازُ الاقتصَارِ على {الفَاتِحَة}
و" كان معاذ يصلي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء [الآخرة] ، ثم يرجع فيصلي بأصحابه،
فرجع ذات ليلة فصلى بهم، وصلى فتى من قومه [من بني سلمة يقال له: سليم] ، فلما
طال على الفتى؛ [انصرف فـ] صلى [في ناحية المسجد] ، وخرج، وأخذ بخطام بعيره،
وانطلق، فلما صلى معاذ؛ ذكر ذلك له، فقال: إن هذا به لنفاق! لأخبرن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي صنع، وقال الفتى: وأنا لأخبرن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي صنع. فغدوا على
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى، فقال الفتى: يا رسول الله! يطيل
المكث عندك، ثم يرجع فيطيل علينا! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أفتان أنت يا معاذ؟! ".(3/1057)
وقال للفتى: كيف تصنع أنت يا ابن أخي إذا صليت؟ ". قال: أقرأ بـ: {فاتحة
الكتاب} ، وأسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، وإني لا أدري ما دندنتك ودندنة معاذ!
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني ومعاذ حول هاتين، أو نحو ذا ". قال: فقال الفتى: ولكن
سيعلم معاذ إذا قَدِم القوم وقد خُبِّروا أن العدو قد أتوا. قال: فقدموا، فاستشهد الفتى،
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك لمعاذ: " ما فعل خَصْمِي وخَصْمُك؟ ". قال: يا رسول الله!
صدق الله وكذبتُ؛ استُشهد ". (ص 411 - 412) .
الجهرُ والإسرارُ في الصَّلوَاتِ الخَمْسِ وغَيْرِها
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وفي الركعتين الأوليَين من المغرب
والعشاء، ويسر بها في الظهر والعصر، والثالثة من المغرب، والأخريين من العشاء.
وكانوا يعرفون قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يُسِرُّ به باضطراب لحيته، وبإسماعه إياهم الآية أحياناً
وكان يجهر بها أيضاً في صلاة الجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والكسوف.
(ص 413 - 418) .
الجَهْرُ والإسْرارُ في القراءة في صلاةِ الليل
وأما في صلاة الليل؛ فكان تارة يُسِرُّ، وتارة يَجْهَر. و " كان إذا قرأ وهو في البيت؛
يسمع قراءته مَنْ في الحجرة. وهذا كناية عن التوسط بين الجهر والإسرار. " وكان ربما
رفع صوته أكثر من ذلك حتى يسمعه من كان على عريشه ". (أي: خارج الحجرة) .
وبذلك أمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ وذلك حينما " خرج ليلة فإذا هو بأبي
بكر رضي الله عنه يصلي يخفض من صوته، ومَرَّ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو
يصلي رافعاً صوته، فلما اجتمعا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: " يا أبا بكر! مررت بك وأنت
تصلي تخفض من صوتك؟ ". قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله! وقال لعمر:
" مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك؟ ". فقال: يا رسول الله! أُوْقِظُ الوَسْنَانَ، وأَطْرُدُ
الشيطان. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئاً ". وقال لعمر: " اخفض
من صوتك شيئاً ".
وكان يقول: " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِر بالقرآن كالمُسِرِّ بالصدقة ".
(ص 419 - 428) .(3/1058)
ما كانَ يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات
وأما ما كان يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات من السور والآيات؛ فإن ذلك يختلف باختلاف
الصلوات الخمس وغيرها، وهاك تفصيل ذلك مبتدئين بالصلاة الأولى من الخمس:
1- صلاةُ الفجر
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها بطوال المفصل؛ فـ " كان - أحياناً - يقرأ: {الوَاقِعَة} (56: 96) ،
ونحوها من السور في الركعتين ". وقرأ من سورة {الطُّوْر} (52: 49) ؛ وذلك في حجة
الوداع. و " كان - أحياناً - يقرأ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} (50: 45) ونحوها في [الركعة
الأولى] ".
و" كان - أحياناً - يقرأ بقصار المفصل كـ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (81: 29) ". و " قرأ
مرةً: {إِذَا زُلْزِلَتِ} (99: 8) في الركعتين كلتيهما؛ حتى قال الراوي: فلا أدري؛ أنَسِيَ
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم قرأ ذلك عمداً؟ ". و " قرأ مرة في السفر المعوذتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الفَلَقِ} (113: 5) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (114: 6) ". وقال لعقبة بن عامر رضي الله
عنه: " اقرأ في صلاتك المعوذتين؛ [فما تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بمثلهما] ".
وكان أحياناً يقرأ بأكثر من ذلك، فـ " كان يقرأ ستين آية فأكثر "؛ قال بعض رواته:
" لا أدري في إحدى الركعتين أو في كلتيهما؟ ". و " كان يقرأ بسورة {الرُّوم} (30:
60) ". و " أحياناً بسورة {يس} (36: 83) ". ومرة " صلى الصبح بمكة؛ فاستفتح سورة
{المُؤْمِنِين} (23: 118) ، حتى جاء ذكر موسى وهارون - أو: ذكر عيسى. شك بعض
الرواة -؛ أخذته سَعْلَة؛ فركع ". و " كان أحياناً يؤمهم فيها بـ: {الصَّافَّات} (37: 182) ".
و" كان يصليها يوم الجمعة بـ: {الم. تَنْزِيلُ} {السَّجْدَة} (32: 30) [في الركعة
الأولى، وفي الثانية] بـ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} (76: 31) ".
و" كان يطول في الركعة الأولى، ويقصر في الثانية ". (ص 429 - 447) .
القراءةُ في سُنَّةِ الفَجْرِ
وأما قراءته في ركعتي سنة الفجر؛ فكانت خفيفة جدّاً؛ حتى إن عائشة رضي الله
عنها كانت تقول: " هل قرأ فيها بـ: {أم الكتاب} ؟! ". وكان - أحياناً - يقرأ بعد
{الفَاتِحَة} في الأولى منهما آية: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ(3/1059)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن
رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . (2: 136) . وفي الأخرى منهما: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (3: 64) .
وربما قرأ بدلها: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ
نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (3: 52) .
وأحياناً يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) في الأولى، و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(112: 4) في الأخرى. وكان يقول: " نِعْمَ السُّورتانِ هما ". و " سمع رجلاً يقرأ السورة
الأولى في الركعة الأولى؛ فقال: " هذا عبد آمن بربه "، ثم قرأ السورة الثانية في الركعة
الأخرى؛ فقال: " هذا عبد عرف ربه " " (ص 448 - 456) .
2- صلاة الظهر
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين بـ: {فاتحة الكتاب} وسورتين، ويُطَوِّلُ في
الأولى ما لا يُطَوِّل في الثانية ". وكان - أحياناً - يطيلها، حتى إنه " كانت صلاة الظهر
تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، [ثم يأتي منزله] ، ثم يتوضأ، ثم
يأتي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعة الأولى؛ مما يُطَوِّلُها ". و " كانوا يظنون أنه يريد بذلك أن
يدرك الناس الركعة الأولى ".
و" كان يقرأ في كل من الركعتين قدر ثلاثين آية؛ قدر قراءة {الم. تَنْزِيلُ}
{السَّجْدَة} (22: 30) وفيها {الفَاتِحَة} .
و" كانوا يسمعون منه النَّغْمَةَ بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، و: {هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} (88: 26) ".
و" كان - أحياناً - يقرأ بـ: {السَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} (85: 22) ، وبـ: {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}
(86: 17) ونحوهما من السور ". وأحياناً " يقرأ بـ: {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (92: 21) ونحوها ".
وربما " قرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} ، ونحوها ".
و" كانوا يعرفون قراءته في الظهر والعصر باضطراب لحيته ". و " كان يسمعهم الآية
أحياناً ". (ص 457 - 466) .(3/1060)
قراءتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آياتٍ بعدَ {الفَاتِحَة} في الأخِيرَتَيْنِ
و" كان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين قدر النصف؛ قدر خمس عشرة
آية ". و " ربما اقتصر فيهما على {الفَاتِحَة} ".
وقد أمر (المسيء صلاته) بقراءة {الفَاتِحَة} في كل ركعة، حيث قال له بعد أن أمره
بقراءتها في الركعة الأولى: " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (وفي رواية: كل ركعة) ".
(467 - 470) .
3- صلاة العصر
و" كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الأوليين بـ: {فاتحة الكتاب} ، وسورتين؛ ويُطَوِّلُ في
الأولى ما لا يُطَوِّلُ في الثانية "، و " كانوا يظنون أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة ".
و" كان يقرأ في كل منهما قدر خمس عشرة آية؛ قدر نصف ما يقرأ في كل ركعة من
الركعتين الأوليين في الظهر ".
و" كان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين؛ قدر نصفهما ". و " كان يقرأ
فيهما بـ: {فاتحة الكتاب} ". و " كان يسمعهم الآية أحياناً ". ويقرأ بالسور التي ذكرنا في
(صلاة الظهر) . (ص 471) .
4- صلاة المغرب
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها أحياناً بقصارِ المفصل ". حتى إنهم " كانوا إذا صلوا معه،
وسلم بهم؛ انصرف أحدهم وإنه ليُبْصِرُ مَواقعَ نَبْلِه ". و " قرأ في سفر بـ: {التِّينِ
وَالزَّيْتُونِ} (95: 8) في الركعة الثانية ". وكان أحياناً يقرأ بطوال المفصل وأوساطه؛ فـ
" كان تارة يقرأ بـ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (47: 38) ". وتارة بـ: {الطُّوْر}
(52: 49) . وتارة بـ: {المُرْسَلات} (77: 50) ؛ قرأ بها في آخر صلاة صلاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
و" كان أحياناً يقرأ بطُولَى الطولَيَيْن: [ {الأَعْرَاف} (7: 206) ] [في الركعتين] ".
وتارة: بـ: [الأَنْفَال} (8: 75) في الركعتين. (ص 472 - 487) .
القراءة في سُنَّة المغرب
وأما سُنَّةُ المغرب البَعْدِيَّة؛ فـ " كان يقرأ فيها: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) و:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) . (ص 488 - 489) .(3/1061)
5- صلاة العشاء
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين من وسط المفصل؛ فـ " كان تارةً يقرأ بـ:
{الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (91: 15) ، وأشباهها من السور ". و " تارة بـ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}
(84: 25) ، وكان يسجد بها ". و " قرأ مرة في سفر بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (95: 8) [في
الركعة الأولى] ".
ونهى عن إطالة القراءة فيها، وذلك حين " صلى معاذ بن جبل لأصحابه العشاء
فطوَّل عليهم؛ فانصرف رجل من الأنصار فصلى، فأُخبر معاذ عنه، فقال: إنه منافق. ولما
بلغ ذلك الرجل؛ دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره ما قال معاذ؛ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أتريد أن تكون فتاناً يا معاذ؟! إذا أممتَ الناس؛ فاقرأ بـ: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (91:
15) ، و: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (77: 19) ، و: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (96: 19) ، و:
{اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (92: 21) ؛ [فإنه يصلي وراءك الكبير، والضعيف، وذو الحاجة] ".
(ص 490 - 498) .
6- صلاة الليل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جهر بالقراءة فيها، وربما أسر؛ يقصر القراءة فيها تارة، ويطيلها أحياناً،
ويبالغ في إطالتها أحياناً أخرى، حتى قال ابن مسعود: " صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة، فلم
يزل قائماً حتى هَمَمْتُ بأمر سوء. قيل: وما هَمَمْتَ؟ قال: هَمَمْتُ أن أقعد وأَذَرَ
النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وقال حذيفة بن اليمان: " صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فافتتح
{البَقَرَة} . فقلت: يركع عند المئة. ثم مضى. فقلت: يصلي بها في ركعة. فمضى.
فقلت: يركع بها. ثم افتتح {النِّسَاء} ، فقرأها، ثم افتتح {آلِ عِمْرَان} ، فقرأها. يقرأ
مترسلاً: إذا مَرَّ بآية فيها تسبيح؛ سبح، وإذا مَرَّ بسؤال؛ سأل، وإذا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ؛ تَعَوَّذَ، ثم
ركع ... " الحديث. و " قرأ ليلة - وهو وَجِعٌ - السبع الطوال ". و " كان أحياناً يقرأ في كل
ركعة بسورة منها ".
و" ما عُلِمَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ القرآن كله في ليلة [قط] "؛ بل إنه لم يَرْضَ ذلك لعبد الله بن
عمرو رضي الله عنهما حين قال له: " اقرأ القرآن في كل شهر ". قال: قلت: إني أجد
قوة. قال: " فاقرأه في عشرين ليلة ". قال: قلت: إني أجد قوة. قال: " فاقرأه في سَبْعٍ،(3/1062)
ولا تزد على ذلك ". ثم " رَخَّصَ له أن يقرأه في خمس ". ثم " رَخَّصَ له أن يقرأه في
ثلاث ". ونهاه أن يقرأه في أقل من ذلك. وعَلَّلَ ذلك في قوله له: " من قرأ القرآن في
أقل من ثلاث؛ لم يفقَهْهُ ". وفي لفظ: " لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ". ثم
في قوله له: " فإن لكل عابد شِرَّةً، ولكل شِرَّةٍ فترة؛ فإما إلى سنة، وإما إلى بدعة. فمن
كانت فترته إلى سنة؛ فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك؛ فقد هلك ".
وكان يقول: " من صلى في ليلة بمئتي آية؛ فإنه يكتب من القانتين المخلصين ". و " كان
يقرأ [في] كل ليلة بـ: {بني إسرائيل} (17: 111) ، و {الزُّمَر} (39: 75) ". وكان يقول:
" من صلى في ليلة بمئة آية؛ لم يكتب من الغافلين ". و " كان أحياناً يقرأ في كل ركعة
قدر خمسين آية أو أكثر ". وتارة " يقرأ قَدْرَ {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ} (73: 20) ". و " ما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يصلي الليل كلَّه " إلا نادراً؛ فقد " راقب عبدُ الله بنُ خبّاب بن الأرَتِّ - وكان قد شهد
بدراً مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الليلة كلها (وفي لفظ: في ليلة صلاها كلها)
حتى كان مع الفجر، فلما سلم من صلاته؛ قال له خباب بن الأَرَتِّ: يا رسول الله!
بأبي أنت وأمي؛ لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها؟ فقال: " أجل؛ إنها
صلاةُ رَغَبٍ ورَهَبٍ، [وإني] سألت ربي عز وجل ثلاث خصال؛ فأعطاني اثنتين،
ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا (وفي لفظ: أن لا يهلك
أمتي بسَنَةٍ) ؛ فأعطانيها. وسألت ربي عز وجل أن لا يُظْهِرَ علينا عدواً من غيرنا؛
فأعطانيها. وسألت ربي أن لا يُلْبِسَنا شيَعاً؛ فَمَنَعَنِيْهَا " ". و " قام ليلة بآية يرددها حتى
أصبح وهي: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (5:
118) ؛ [بها يركع، وبها يسجد، وبها يدعو] ، [فلما أصبح؛ قال له أبو ذر رضي الله عنه:
يا رسول الله! ما زلْتَ تقرأ هذه الآية حتى أصبحت؛ تركع بها، وتسجد بها] ، [وتدعو
بها] ، [وقد عَلَّمَك الله القرآن كله] ، [لو فعل هذا بعضُنا؛ لَوَجَدْنَا عليه؟] . [قال: " إني
سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي؛ فأعطانيها، وهي نَائِلَةٌ إن شاء الله لمن لا يشرك بالله
شيئاً "] . و " قال له رجل: يا رسول الله! إن لي جاراً يقوم الليل، ولا يقرأ إلا {قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ} (112: 4) ؛ [يرددها] [لا يزيد عليها]- كأنه يُقَلِّلُها -؟! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي
نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن ". (ص 490 - 538) .(3/1063)
7- صلاةُ الوَِتْر
" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعة الأولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، وفي الثانية
بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) ".
وكان يضيف إليها أحياناً: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} (113: 5) ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}
(114: 6) . ومرة: " قرأ في ركعة الوتر بمئة آية من {النِّسَاء} (4: 167) ". (ص 539 -543) .
القراءة في الركعتين بعد الوتر
وأما الركعتان بعد الوتر؛ فكان يقرأ فيهما: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} (99: 8) ، و {قُلْ
يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} . (109: 6) . (ص 544) .
8- صلاة الجمعة
" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ أحياناً في الركعة الأولى بسورة {الجُمُعَة} (62: 11) ، وفي
الأخرى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} (63: 11) "، و " تارة يقرأ - بدلها -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الغَاشِيَةِ} (88: 26) ". وأحياناً " يقرأ في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ،
وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ} (88: 26) ". (ص 545 - 549) .
9- صلاة العيدين
" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ أحياناً في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، وفي
الأخرى: {هَلْ أَتَاكَ} (88: 26) ". وأحياناً " يقرأ فيهما بـ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} (50:
45) ، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (54: 55) ". (ص 550 - 552) .
10- صلاة الجنازة
" السنة أن يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} [وسورة] "، و " يخافت فيها مُخَافَتَةً بعد
التكبيرة الأولى ". (ص 553 - 561) .
تَرْتيلُ القراءةِ وتحسينُ الصوت بها
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما أمره الله تعالى - يرتل القرآن ترتيلاً؛ لا هَذّاً، ولا عَجَلَةً؛ بل قراءة
" مفسرة؛ حرفاً حرفاً "، حتى " كان يرتل السورة؛ حتى تكون أطول من أطولَ منها ".
وكان يقول: " يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن(3/1064)
منزلك عند آخر آية تقرؤها ". و " كان يمد قراءته (عند حروف المد) ؛ فيمد {بِسْمِ اللَّهِ} ،
ويمد {الرَّحْمَنِ} ، ويمد {الرَّحِيمِ} ، و {نَضِيدٌ} (50: 45) وأمثالها. وكان يقف على
رؤوس الآي - كما سبق بيانه -. و " كان أحياناً يُرَجِّعُ صوته؛ كما فعل يوم الفتح وهو على
ناقته، يقرأ سورة {الفَتْح} (48: 49) [قراءة لينة] ". وقد حكى عبد الله بن مغفل ترجيعه
هكذا: (آآ آ) . وكان يأمر بتحسين الصوت بالقرآن؛ فيقول: " زينوا القرآن بأصواتكم؛
[فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً] ". ويقول: " إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن
الذي إذا سمعتموه يقرأ؛ حسبتموه يخشى الله ". وكان يأمر بالتغني بالقرآن؛ فيقول:
" تعلَّموا كتاب الله، وتعاهدوه، واقتنوه، وتغنَّوا به؛ فوالذي نفسي بيده! لهو أشد تفلتاً
من المخاض في العقل ". ويقول: " ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن ". ويقول: " مأ أذن الله
لشيء ما أَذِنَ (وفي لفظ: كأَذَنِه) لنبي [حسن الصوت] يتغنى بالقرآن؛ [يجهر به] ".
و" قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة!
لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ". [فقال أبو موسى: لو علمت مكانك؛ لحبرت لك
تحبيراً] " (ص 562 - 595) .
الفَتْحُ على الإمام
وسَنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفتح على الإمام إذا لُبست عليه القراءة؛ فقد " صلى صلاة، فقرأ فيها،
فلُبس عليه، فلما انصرف؛ قال لأُبَيٍّ: " أصليتَ معنا؟ ". قال: نعم. قال: " فما منعك
[أن تفتح علي] ؟! ". (ص 596 - 599) .
الاستعاذةُ والتَّفْلُ في الصلاة لِدفع الوسوسة
وقال له عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال
بيني وبين صلاتي وقراءتي؛ يَلبسها عليَّ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذاك شيطان يقال له:
خِنْزِبٌ، فإذا أحسسته؛ فتعوذ بالله منه، واتفُل على يسارك ثلاثاً ". قال: ففعلت ذلك؛
فأذهبه الله عني. (ص 600) .
الركوع
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من القراءة؛ سكت سكتةً، ثم رفع يديه؛ على الوجوه المتقدمة
في (تكبيرة الافتتاح) ، وكَبَّر، وركع، وأمر بهما (المسيء صلاته) ؛ فقال له: " إنها لا تتم(3/1065)
صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ... ثم يكبر الله، ويحمده، ويمجده،
ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله وأذن له فيه، ثم يكبر، ويركع، [ويضع يديه على
ركبتيه] حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ... "، الحديث. (ص 601 - 625) .
صفة الركوع
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الأمر يُطَبِّقُ بين كفيه، ثم يجعلهما بين ركبتيه، [ويخالف بين
أصابعه] . ثم ترك ذلك، ونهى عنه. و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع كفيه على ركبتيه ". و " كان يأمرهم
بذلك ". وأمر به أيضاً (المسيء صلاته) - كما مر آنفاً -. و " كان يمكّن يديه من ركبتيه
[كأنه قابض عليهما] ". و " كان يُفرِّج بين أصابعه ". وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال:
" إذا ركعت؛ فضع راحتيك على ركبتيك، ثم فرِّج بين أصابعك، ثم امكث حتى يأخذ
كل عضو مأخذه ". وكان يجعل أصابعه أسفل من ذلك؛ [على ساقيه] . و " كان
يجافي، ويُنَحِّي مرفقيه عن جنبيه ".
و" كان إذا ركع؛ بسَط ظهرَهُ وسوَّاه "؛ " حتى لو صُبَّ عليه الماء؛ لاستقر ". وقال لـ
(المسيء صلاته) : " فإذا ركعتَ؛ فاجعلْ راحتَيْكَ على رُكْبتيك، وامْدُدْ ظهرك،
ومكن لركوعك ". و " كان لا يَصُبُّ رأسَه، ولا يُقْنعُ؛ ولكن بين ذلك ". (ص 626 -
639) .
وجوبُ الطُّمأنينة في الركوع
و" كان يطمئن في ركوعه ". وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال: " إنه لا تتم صلاة
لأحد من الناس حتى يتوضأ ... " الحديث. وفيه: " ثم يكبر ... ثم يقول: الله أكبر. ثم
يركع حتى تطمئن مفاصله ". وكان يقول: " أتموا الركوع والسجود؛ فوالذي نفسي بيده!
إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم، وإذا ما سجدتم ". و " رأى رجلاً لا يُتِمُّ ركوعه،
وينقر في سجوده وهو يصلي؛ فقال: " لو مات هذا على حاله هذه؛ مات على غير ملة
محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ [ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم] ، مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في
سجوده؛ مثل الجائع الذي يأكل التمرة والتمرتين، لا يغنيان عنه شيئاً " ". وقال أبو هريرة
رضي الله عنه: " نهاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنقر في صلاتي نقر الدّيك، وأن ألتفت التفات
الثعلب، وأن أقعي كإقعاء القرد ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من(3/1066)
صلاته ". قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: " لا يتم ركوعها
وسجودها ". و " كان يصلي، فلمح بمؤخر عينه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع
والسجود، فلما انصرف؛ قال: " يا معشر المسلمين! إنه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في
الركوع والسجود " ". وقال في حديث آخر: " لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في
الركوع والسجود ". (ص 640 - 648) .
أذكار الركوع
وكان يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارةً بهذا، وتارةً بهذا:
1- " سبحان ربي العظيم (ثلاث مرات) ". وكان أحياناً يكررها أكثر من ذلك. وبالغ
مرةً في تكرارها في صلاة الليل؛ حتى كان ركوعه قريباً من قيامه، وكان يقرأ فيه ثلاث
سور من الطوال: {البَقَرَة} ، و {النِّسَاء} ، و {آلِ عِمْرَان} ، يتخللها دعاء واستغفار - كما
سبق في (صلاة الليل) -.
2- " سبحان ربي العظيم وبحمده (ثلاثاً) ".
3- " سبّوح، قدوس، رب الملائكة والروح ".
4- " سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي ". وكان يكثر منه في ركوعه
وسجوده؛ يتأول القرآن.
5- " اللهم! لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، [أنت ربي] ، خشع لك سمعي
وبصري، ومخي وعظمي (وفي رواية: وعظامي) ، وعصبي، [وما استقلت به قدمي؛ لله
رب العالمين] ".
6- " اللهم! لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي،
خشع سمعي وبصري، ودمي ولحمي، وعظمي وعصبي؛ لله ربِّ العالمين ".
7- " سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة ". وهذا قاله في صلاة
الليل. (ص 649 - 666) .
إطالة الركوع
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل ركوعه، وقيامه بعد الركوع، وسجوده، وجلسته بين السجدتين
قريباً من السواء ". (ص 667 - 668) .(3/1067)
النهي عن قراءةِ القرآنِ في الركوع
و" كان ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود ". وكان يقول: " ألا وإني نُهِيْتُ
أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع؛ فعظِّموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود؛
فاجتهدوا في الدعاء؛ فقَمِن أن يستجاب لكم ". (ص 669 -673) .
الاعتدال من الركوع، وما يقولُ فيه
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صُلبه من الركوع قائلاً: " سمع الله لمن حمده " ". وأمر بذلك
(المسيء صلاته) ؛ فقال: " لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يكبر ... ثم
يركع ... ثم يقول: سمع الله لمن حمده. حتى يستوي قائماً ". وكان إذا رفع رأسه
استوى؛ حتى يعود كل فَقارٍ مكانه.
ثم " كان يقول وهو قائم: " ربنا! [و] لك الحمد " ". وأمر بذلك كلَّ مُصَلٍّ؛ مُؤتماً أو
غيره؛ فقال: " صلوا كما رأيتموني أُصلي ". وكان يقول: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ...
وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: [اللهم] ربنا! ولك الحمد " - زاد في حديث
آخر: - " يسمع الله لكم؛ فإن الله تبارك وتعالى قال على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمع الله لمن
حمده ". وعَلَّلَ الأمرَ بذلك في حديث آخر بقوله: " فإنه من وافق قوله قول الملائكة؛
غفِرَ له ما تقدم من ذنبه ".
وكان يرفع يديه عند هذا الاعتدال على الوجوه المتقدمة في تكبيرة الإحرام، ويقول
وهو قائم - كما مر آنفاً -:
1- " ربنا! ولك الحمد ". وتارةً يقول:
2- " ربنا! لك الحمد ". بدون الواو. وأحياناً يقول:
3- " اللهم ربنا! ولك الحمد ". تارة بالواو. وتارة بدونها:
4- " اللهم ربنا! لك الحمد ". وكان يأمر بذلك، فيقول: " إذا قال الإمام: سمع الله
لمن حمده. فقولوا: اللهم رَبَّنا! لك الحمد؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غُفر له
ما تقدم من ذنبه ". وكان تارةً يزيد على ذلك إما:
5- " ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد ". وإما:
6- " مِلْءَ السماوات، و [مِلْءَ] الأرض، و [مِلْءَ] ما بينهما، ومِلْءَ ما شئت من شيء(3/1068)
بعد ". وتارة يضيف إلى ذلك قوله:
7- " أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ
منك الجَدُّ ". وتارة تكون بإضافة:
8- " ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء
والمجد، أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد -[اللهم!] لا مانع لما أعطيت، [ولا معطي لما
منعت] ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ". وتارة يقول في صلاة الليل:
9- " لربي الحمد، لربي الحمد ". يكررذلك؛ حتى كان قيامه نحواً من ركوعه
الذي كان قريباً من قيامه الأول، وكان قرأ فيه سورة {البَقَرَة} .
10- " ربنا! ولك الحمد؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه [مباركاً عليه؛ كما يحب ربنا
ويرضى] ". قاله رجل كان يصلي وراءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما رفع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من الركعة وقال:
" سمع الله لمن حمده "، فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: " من المتكلم آنفاً؟ ". فقال
الرجل: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً
يَبْتَدِرُوْنَها؛ أيهم يكتبها أولاً ". (ص 674 - 697) .
إطالة هذا القيام، ووجوبُ الاطمئنان فيه
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل قيامه هذا قريباً من ركوعه - كما تقدم -؛ بل " كان يقوم أحياناً
حتى يقول القائل: قد نسي؛ [من طول ما يقوم] ". وكان يأمر بالاطمئنان فيه؛ فقال
لـ (المسيء صلاته) : " ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً؛ [فيأخذ كل عظم مَأْخَذَه] "
(وفي رواية: " وإذا رفعت؛ فأقم صلبك، وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها ")
وذكر له: " أنه لا تتم صلاة لأحد من الناس إذا لم يفعل ذلك ". وكان يقول: " لا ينظر
الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعها وسجودها ". (ص 698 - 705) .
السجود
التكبير ورفع اليدين عند الهوي إلى السجود
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر، ويهوي ساجداً ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له: " لا
تتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يقول: سمع الله لمن حمده. حتى يستوي قائماً، ثم
يقول: الله أكبر. ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ". و " كان إذا أراد أن يسجد؛ كبَّر،(3/1069)
[ويجافي يديه عن جنبيه] ، ثم يسجد ". و " كان أحياناً يرفع يديه إذا سجد ". (ص 706 - 713) .
الخرور إلى السجود على اليدين
و" كان يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه ". وكان يأمر بذلك؛ فيقول: " إذا سجد
أحدكم؛ فلا يَبْرُكْ كما يَبْرُكُ البعيرُ، ولْيَضَعْ يديه قبل ركبتيه ". (ص 714 - 724) .
صفة السجود
وكان يقول: " إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع احدكم وجهه؛
فليضع يديه، وإذا رفع؛ فليرفعهما ". و " كان يعتمد على كفيه [ويبسطهما] ". ويضم
أصابعهما، ويوجهها قِبَل القبلة. و " كان يجعلهما حذو منكبيه ". وأحياناً " حذو أذنيه ".
و" كان يمكن أنفه وجبهته من الأرض ". وقال لـ (المسيء صلاته) : " إذا سجدت؛ فَمَكِّن
لسجودك ". (وفي رواية: " إذا أنت سجدت؛ فأمكنت وجهك ويديك؛ حتى يطمئن
كل عظم منك إلى موضعه ") . وكان يقول: " لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما
يصيب الجبين ". و " كان يمكّن أيضاً ركبتيه، وأطراف قدميه، ويستقبل [بصدور قدميه و]
بأطراف أصابعهما القبلة ". و " ينصب رجليه ". و " أمر به ". و " كان يفتخ أصابعهما "
و" يرص عقبيه ". وكان يرفع عجيزته. (مؤخره) . فهذه سبعة أعضاء كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد
عليها: الكفان، والركبتان، والقدمان، والجبهة والأنف. وقد جعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضوين
الأخيرين كعضو واحد في السجود؛ حيث قال: " أُمرت أن أسجد (وفي رواية: أُمرنا أن
نسجد) على سبعةِ أَعْظُمٍ: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه -، واليدين (وفي لفظ:
الكفَّين) ، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفِت الثياب والشعر ". وكان يقول: " إذا
سجد العبد؛ سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه ". وقال في رجل
صلى ورأسه معقوص من ورائه: " إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف ". وقال
أيضاً: " ذلك كِفْلُ الشيطان ". يعني: مقعد الشيطان. يعني: مغرز ضفره. و " كان لا
يفترش ذراعيه "؛ بل كان ينهى عنه. و " كان يرفعهما ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو
بياض إبطيه من ورائه ". و " حتى لو أن بَهمة أرادت أن تمر تحت يديه؛ مرَّت ". وكان يبالغ
في ذلك حتى قال بعض أصحابه: " إن كنا لنأوي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مما يجافي بيديه عن
جنبيه إذا سجد ". وكان يأمر بذلك؛ فيقول: " إذا سجدت؛ فضع كفيك، وارفع(3/1070)
مرفقيك ". ويقول: " اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط (وفي لفظ:
كما يبسط) الكلب ". وفي لفظ آخر وحديث آخر: " ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش
الكلب ". وكان يقول: " لا تبسط ذراعيك [بسط السبع] ، وادّعم على راحتيك، وتجاف
عن ضبعيك؛ فإنك إذا فعلت ذلك؛ سجد كل عضو منك معك ". (ص 725 - 759) .
وجوبُ الطُّمأنينة في السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بإتمام الركوع والسجود، ويضرب لمن لا يفعل ذلك مَثَلَ الجائع؛ يأكل
التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئاً. وكان يقول فيه: " إنه من أسوأ الناس سرقةً ".
وكان يحكم ببطلان صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود - كما سبق في
(الركوع) -، وأمر (المسيء صلاته) بالاطمئنان في السجود - كما تقدم في أول الباب -.
(ص 760) .
أذكار السجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارةً هذا، وتارةً هذا:
1- " سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات) ". و " كان أحياناً يكررها أكثر من ذلك ".
وبالغ في تكرارها مرة في صلاة الليل حتى كان سجوده قريباً من قيامه، وكان قرأ فيه
ثلاث سور من الطوال: {البَقَرَة} و {النِّسَاء} و {آلِ عِمْرَان} ، يتخللها دعاءٌ واستغفارٌ -
كما سبق في (صلاة الليل) -.
2- " سبحان ربي الأعلى وبحمده (ثلاثاً) ".
3- " سُبوح، قُدوس، رب الملائكة والروح ".
4- " سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي ". وكان يكثر منه في
ركوعه وسجوده؛ يتاول القرآن.
5- " اللهم! لك سجدت؛ وبك آمنت، ولك أسلمت، [وأنت ربي] ، سجد وجهي
للذي خلقه وصوَّره، [فأحسن صُوَرَه] ، وشق سمعه وبصره، [فـ] تبارك الله أحسن
الخالقين ".
6- " اللهم! اغفر لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره ".
8- " سبحان ذي الجبروتِ، والملكوتِ، والكبرياءِ، والعظمة ". وهذا - وما بعده -(3/1071)
كان يقوله في صلاة الليل.
9- " سبحانك [اللهم!] وبحمدك، لا إله إلا أنت ".
10- " اللهم! اغفر لي ما أسررتُ، وما أعلنتُ ".
11- " اللهم! اجعل في قلبي نوراً، [وفي لساني نوراً] ، واجعل في سمعي نوراً،
واجعل في بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، وعن يميني نوراً،
وعن يساري نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، [واجعل في نفسي نوراً] ،
وأعظم لي نوراً ".
12- " [اللهم!] [إني] أعوذ برضاك من سخطك، و [أعوذ] بمعافاتك من عقوبتك،
وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ". (ص 761 - 770) .
النهيُ عن قراءة القرآن في السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، ويأمر بالاجتهاد والإكثار من
الدعاء في هذا الركن - كما مضى في (الركوع) - وكان يقول: " أقرب ما يكون العبد
من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء [فيه] ". (ص 771) .
إطالةُ السُّجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل سجوده قريباً من الركوع في الطُّول، وربما بالغ في الإطالة لأمر
عارض؛ كما قال بعض الصحابة: " خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى صلاتي
العشي -[الظهر والعصر] وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوضعه [عند
قدمه اليمنى] ، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها،
قال: فرفعت رأسي [من بين الناس] ؛ فإذا الصبي على ظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ساجد،
فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة؛ قال الناس: يا رسول الله!
إنك سجدت بين ظهراني صلاتك [هذه] سجدة أطلتها؛ حتى ظننا أنه قد حدث أمر،
أو أنه يوحى إليك! قال: " كل ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله
حتى يقضي حاجته ". وفي حديثٍ آخر: " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي؛ فإذا سجد؛ وثب الحسن
والحسين على ظهره، فإذا منعوهما؛ أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة؛
وضعهما في حجره، وقال: " من أحبني؛ فليحب هذين " ". (ص 772 - 773) .(3/1072)
فضل السجود
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة ". قالوا: وكيف
تعرفهم يا رسول الله! في كثرة الخلائق؟ قال: " أرأيت لو دخلت صِيرة فيها خيل دُهم
بُهم، وفيها فرسٌ أغرُّ مُحَجَّلٌّ؛ أما كنت تعرفه منها؟ ". قال: بلى. قال: " فإن أمتي يومئذٍ
غُرٌّ من السجود، محجَّلون من الوُضوء ". ويقول: " إذا أراد الله رحمةَ من أراد من أهل
النار؛ أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله؛ فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار
السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم
تأكله النار؛ إلا أثر السجود ". (ص 774 - 779) .
السُّجودُ على الأرضِ والحَصِير
وكان يسجد على الأرض كثيراً. و " كان أصحابه يصلون معه في شدة الحر، فإذا لم
يستطع أحدهم أن يمكن جبهته من الأرض؛ بسط ثوبه، فسجد عليه ". وكان يقول: " ...
وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطَهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاةُ؛
فعنده مسجده، وعنده طهوره، [وكان مَنْ قبلي يعظمون ذلك؛ إنما كانوا يصلون في كنائسهم
وبيعهم] ". وكان ربما سجد في طين وماء، وقد وقع له ذلك في صبح ليلة إحدى
وعشربن من رمضان؛ حين أمطرت السماء، وسال سقف المسجد، وكان من جريد النخل،
فسجد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الماء والطين، قال أبو سعيد الخدري: " فأبصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين ".
و" كان يصلي على الخُمرة " أحياناً. و " على الحصير " أحياناً. و " صلى عليه - مرةً -،
وقد اسود من طول ما لُبِس ". (ص 780 - 797) .
الرَّفعُ مِنَ السُّجود
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع رأسه من السجود مكبراً ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال:
" لا يتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يسجد، حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله
أكبر. ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً ". و " كان يرفع يديه مع هذا التكبير " أحياناً.
(ص 798 - 800) .(3/1073)
الافتراش والإقْعَاءُ بين السَّجْدَتَيْنِ
ثم " يفرش رجله اليسرى، فيقعد عليها [مطمئناً] "، وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛
فقال له: " إذا سجدت؛ فمكن لسجودك، فإذا رفعت؛ فاقعد على فخذك اليسرى ".
و" كان ينصب رجله اليمنى ". و " يستقبل بأصابعها القبلة ".
و" كان أحياناً يقعي؛ [ينتصب على عقبيه، وصدور قدميه] ". (ص 801 - 807) .
وجوبُ الاطمئنان بين السجدتين
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ". وأمر بذلك (المسيء
صلاته) ، وقال له: " لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك ". و " كان يطيلها حتى تكون
قريباً من سجدته ". وأحياناً " يمكث حتى يقول القائل: قد نسي ". (ص 808) .
الأذكار بين السَّجدتين
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذه الجلسة:
1- " اللهم (وفي لفظ: رب!) اغفر لي، وارحمني، [واجبرني] ، [وارفعني] ،
واهدني، [وعافني] ، وارزقني ". وتارة يقول:
2- " رب! اغفر لي، رب! اغفر لي ". وكان يقولهما في صلاة الليل. (ص 809 - 814) .
السجدة الثانية، والرفع منها
ثم " كان يكبر ويسجد السجدة الثانية ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له بعد
أن أمره بالاطمئنان بين السجدتين - كما سبق -: " ثم تقول: الله أكبر. ثم تسجد حتى
تطمئن مفاصلك، [ثم افعل ذلك في صلاتك كلها] ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه مع هذا
التكبير " أحياناً. وكان يصنع في هذه السجدة مثل ما صنع في الأولى. ثم " يرفع رأسه
مكبراً ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له بعد أن أمره بالسجدة الثانية - كما مر -:
" ثم يرفع رأسه، فيكبر ". وقال له: " [ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة] ؛ فإذا فعلت
ذلك؛ فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً؛ انتقصت من صلاتك ". و " كان يرفع
يديه " أحياناً. (ص 815) .
جَلْسَةُ الاسْتِراحَةِ
ثم " يستوي قاعداً " " على رجله اليسرى معتدلاً؛ حتى يرجع كل عظم إلى
موضعه ". (ص 816 - 823) .(3/1074)
القيام إلى الركعة الثانية
الاعتماد على اليدين في النُّهوض إلى الركعة
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض معتمداً على الأرض إلى الركعة الثانية ". و " كان يعجن في
الصلاة: يعتمد على يديه إذا قام ".
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نهض في الركعة الثانية؛ استفتح القراءة بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ} ، ولم يسكت ". وكان يصنع في هذه الركعة مثل ما يصنع في الأولى؛ إلا أنه
كان يجعلها أقصر من الأولى - كما سبق -. (ص 824 - 827) .
وجوبُ قراءة {الفَاتِحَة} في كُلِّ ركعةٍ
وقد أمر (المسيء صلاته) بقراءة {الفَاتِحَة} في كل ركعة؛ حيث قال له بعد أن أمره
بقراءتها في الركعة الأولى: " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " (وفي رواية: " في كل
ركعة ") . وقال: " في كل ركعة قراءة ". (ص 828) .
التشهد الأول / جلسة التشهد
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس للتشهد بعد الفراغ من الركعة الثانية، فإذا كانت الصلاة
ركعتين كالصبح؛ " جلس مفترشاً "؛ كما كان يجلس بين السجدتين، وكذلك " يجلس
في التشهد الأول " من الثلاثية أو الرباعية. وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال له: " فإذا
جلست في وسَط الصلاة؛ فاطمئن، وافترش فخدك اليسرى، ثم تشهد ". وقال أبو
هريرة رضي الله عنه: " ونهاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إقعاء كإقعاء الكلب ". وفي حديث آخر:
" كان ينهى عن عقبة الشيطان ". و " كان إذا قعد في التشهد؛ وضع كفه اليمنى على
فخذه (وفي رواية: ركبته) اليمنى، ووضع كفه اليسرى على فخذه (وفي رواية: ركبته)
اليسرى؛ [باسطها عليها] ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع حَدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ".
و" نهى رجلاً وهو جالس معتمد. على يده اليسرى في الصلاة؛ فقال: " إنها صلاةُ
اليهود " ". وفي لفظ: " لا تجلسْ هكذا؛ إنما هذه جِلْسَة الذين يعذَّبون ". وفي حديث
آخر: " هي قِعْدَة المغضوب عليهم ". (ص 829 - 837) .
تحريكُ الإصْبَع في التشهد
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس [يتشهد] ؛ وضع كَفَّه اليسرى على ركبته اليسرى [باسطها
عليها] ، ويقبضُ أصابعَ كفِّه اليمنى كلها، ويشير بإصبعه التي تلي الإبهام [في القبلة،(3/1075)
ويرمي ببصره إليها - أو نحوها] ". و " كان إذا أشار بإصبعه؛ وضع إبهامه على إصبعه
الوسطى ". وتارة " كان يحلِّق بهما حلقة ".
و" كان إذا رفع أصبعه السبابة؛ يحركها يدعو بها ". ويقول: " لهي أشد على
الشيطان من الحديد ". يعني: السبابة. و " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ بعضهم على
بعض. يعني: الإشارة بالإصبع في الدعاء ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك في التشهدين
جميعاً ". و " رأى رجلاً يدعو بأصبعيه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحِّدْ [أحِّدْ] "، [وأشار
بالسبابة] ". (ص 838 - 859) .
وجوبُ التشهد الأول، ومشروعيةُ الدعاءِ فيه
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في كل ركعتين (التحية) ". و " كان أول ما يتكلم به عند القعدة:
(التحيات لله) ". و " كان إذا نسيها في الركعتين الأوليين؛ يسجد للسهو ". وكان يأمر بها
فيقول: " إذا قعدتم في كل ركعتين؛ فقولوا: التحيات ... (إلخ) ، وليتخير أحدكم من
الدعاء أعجبه إليه، فَلْيَدعُ الله عز وجل [به] "، وفي لفظ: " قولوا في كل جلسة:
التحيات ... ". وأمر به (المسيء صلاته) أيضاً - كما تقدم آنفاً -. و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمهم
التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن ". و " السنة إخفاؤه ". (ص 860 - 869) .
صِيَغُ التشهد
وعلمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنواعاً من صيغ التشهد:
1- تشهد ابن مسعود: قال: علَّمني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد -، [و] كَفِّي بين كَفَّيْه -؛
كما يعلمني السورة من القرآن: " التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك
أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين -[فإنه إذا قال
ذلك؛ أصاب كُلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض]-، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله "، [وهو بين ظهرانينا، فلما قبض؛ قلنا: السلام على النبي] .
وكانوا قبل ذلك [قبل أن يفرض التشهد] يقولون: السلام على الله قبْلَ عباده،
[السلام علينا من ربنا] ، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان
[وفلان]-[يعنون الملائكة]-، فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ذات يوم] ؛ أقبل علينا بوجهه،
فقال: " [لا تقولوا: السلام على الله. فـ] إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في(3/1076)
الصلاة؛ فليقل: " التحيات ... " فذكره إلى آخره. وقال بعد قوله: " السلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين ": " فإنه إذا قال ذلك؛ أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض ".
2- تشهد ابن عباس: قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا التشهد، كما يعلمنا [السورة
من] القرآن؛ فكان يقول: " التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله، السلام (وفي
رواية: سلام) عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام (وفي رواية: سلام) علينا،
وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، و [أشهد] أن محمداً رسول الله (وفي
رواية: عبده ورسوله) ".
3- تشهد ابن عمر: عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في التشهد: " التحيات لله، [و]
الصلوات، [و] الطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله - قال ابن عمر: زدت
فيها: وبركاته -، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله - قال
ابن عمر: وزدت فيها: وحده لا شريك له -، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".
4- تشهد أبي موسى الأشعري: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ... وإذا كان عند
القعدة؛ فليكن من أول قول أحدكم: التحيات، الطيبات، الصلوات لله، السلام عليك
أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا
إله إلا الله [وحده لا شريك له] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، [سبع كلمات هن
تحية الصلاة] ".
5- تشهد عمر بن الخطاب: كان رضي الله عنه يعلم الناس التشهد وهو على المنبر؛
يقول: " قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات [لله] ، السلام عليك ... (والباقي
مثل تشهد ابن مسعود) ".
6- تشهد عائشة: قال القاسم بن محمد: كانت عائشة تعلمنا التشهد، وتشير
بيدها تقول: " التحيات، الطيبات، الصلوات، الزاكيات لله، السلام على النبي ... "
إلى آخر تشهد ابن مسعود. (ص 870 - 903) .
الصلاةُ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَوْضِعُها، وصِيَغُها
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على نفسه في التشهد الأول وغيره. وسَنَّ ذلك لأمته؛ حيث
أمرهم بالصلاة عليه بعد السلام عليه. وعلمهم أنواعاً من صيغ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(3/1077)
1- " اللهم! صل على محمد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه، وذريته؛ كما
صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد، وعلى أهل بيته، وعلى
أزواجه، وذريته؛ كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". وهذا كان يدعو به
هو نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- " اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على [إبراهيم،
وعلى] آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم! بارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما
باركت على [إبراهيم، وعلى] آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ".
3- " اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم، [وآل
إبراهيم] ، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما باركت على
[إبراهيم، و] آل إبرإهيم، إنك حميد مجيد ".
4- " اللهم! صل على محمد [النبي الأمي] ، وعلى آل محمد؛ كما صليت على
[آل] إبراهيم. وبارك على محمد [النبي الأمي] ، وعلى آل محمد؛ كما باركت على
[آل] إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد ".
5- " اللهم! صل على محمد عبدك ورسولك؛ كما صليت على [آل] إبراهيم،
وبارك على محمد [عبدك ورسولك] ، [وعلى آل محمد] ؛ كما باركت على إبراهيم،
[وعلى آل إبراهيم] ".
6- " اللهم! صل على محمد، و [على] أزواجه، وذريته؛ كما صليت على [آل]
إبراهيم. وبارك على محمد، و [على] أزواجه، وذريته؛ كما باركت على [آل] إبراهيم،
إنك حميد مجيد ".
7- " اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد؛
كما صليت وباركت على إبراهيم، وآل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد ".
وكذلك سَنَّ لهم الدعاء في هذا التشهد وغيره، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا قعدتم في كل
ركعتين؛ قولوا: التحيات لله ... ". فذكرها إلى آخرها، ثم قال: " ثم ليتخير من الدعاء
أعجبه إليه ". (ص 904 - 949) .(3/1078)
القيام إلى الركعة الثالثة ثم الرابعة
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض إلى الركعة الثالثة مكبراً، وأمر به (المسيء صلاته) في قوله:
" ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة " - كما تقدم -. و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من القعدة؛
كبَّر، ثم قام ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه " مع هذا التكبير أحياناً.
و" كان إذا أراد القيام إلى الركعة الرابعة؛ قال: (الله أكبر) ". وأمر به (المسيء
صلاته) - كما تقدم آنفاً -. و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يرفع يديه " مع هذا التكبير أحياناً.
ثم " كان يستوي قاعداً على رجله اليسرى معتدلاً حتى يرجع كل عظم إلى
موضعه، ثم يقوم معتمداً على الأرض ". و " كان يعجن: يعتمد على يديه إذا قام ".
و" كان يقرأ في كل من الركعتين: {الفَاتِحَة} "، وأمر بذلك (المسيء صلاته) ، وكان
ربما أضاف إليهما في صلاة الظهر بضع آيات - كما سبق بيانه في (القراءة في صلاة
الظهر) -. (ص 950 - 953) .
القنوت في الصلوات الخمس للنازلة
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يدعو على لأحد أو يدعو لأحد؛ قنت في الركعة الأخيرة
بعد الركوع إذا قال: " سمع الله لمن حمده. اللهم! ربنا لك الحمد ". و " كان يجهر
بدعائه ". و " يرفع يديه ". و " يُؤَمِّنُ مَنْ خلفه ". و " كان يقنت في الصلوات الخمس كلها ".
لكنه " كان لا يقنت فيها إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم "، فربما قال: " اللهم! أنج
الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم! اشدد وطأتك على
مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، [اللهم! العن لحيان ورعلاً وذكوان، وعصية عصت
الله ورسوله] ". ثم " كان يقول - إذا فرغ من القنوت -: " الله أكبر ". فيسجد ". (ص 954 - 967) .
القنوت في الوتر
و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في ركعة الوتر أحياناً، ويجعله قبل الركوع ". ولا يخصه بنازلة.
وعَلَّم الحسَنَ بن علي رضي الله عنه أن يقول [إذا فرغ من قراءته في الوتر] : " اللهم!
اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت،
وقني شر ما قضيت؛ [فـ] إنك تقضي ولا يُقضى عليك، [و] إنه لا يذل من واليت، [ولا
يَعِزُّ من عاديت] ، تباركت ربنا وتعاليت، [لا منجا منك إلا إليك] ". (ص 968 - 980) .(3/1079)
التشهد الأخير / وجوب التشهد
ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أنْ يتم الركعة الرابعة يجلس للتشهد الأخير. وكان يأمر فيه بما أمر
به في الأول، ويصنع فيه ما كان يصنع في الأول؛ إلا أنه " كان يقعد فيه متوركاً "؛
يفضي بِوَرِكِه اليُسرى إلى الأرض، ويُخْرِجُ قدميه من ناحية واحدة. و " يجعل اليسرى
تحت فخذه وساقه ". و " ينصب اليمنى "، وربما " فرشها " أحياناً.
و" كان يُلْقِمُ كَفَّه اليسرى ركبتَه؛ يتحامل عليها ". (ص 981 - 989) .
وجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وسنَّ فيه الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما سَنَّ ذلك في التشهد الأول. وقد مضى هناك ذكر
الصيغ الواردة في صفة الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد " سمع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يدعو في صلاته، لم يُمَجِّدِ الله تعالى، ولم يصَلِّ على
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: " عَجِلَ هذا ". ثم دعاه، فقال له أو لغيره: " إذا صلى أحدكم؛ فَلْيَبْدَأْ
بتحميد ربه جل وعز، والثناء عليه، ثم يصلي (وفي رواية: ليصل) على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم
يدعو بعد بما شاء " ". [و " سمع رجلاً يصلي، فَمَجَّدَ الله، وحمده، وصلى على
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادعُ؛ تُجَبْ، وسَلْ؛ تُعْطَ "] ". (ص 990 - 997) .
وجوب الاستعاذةِ من أربع قبل الدُّعاء
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا فرغ أحدكم منَ التشهد [الآخر] ؛ فليستعذ بالله من أربع؛
[يقول: اللهم! إني أعوذ بك] من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا
والممات، ومن شر [فتنة] المسيح الدجال. [ثم يدعو لنفسه بما بدا له] ". و " كان يدعو به في
تشهده ". و " كان يعلمه الصحابة رضي الله عنهم كما يعلمهم السورة من القرآن ". (ص 998
- 1001) .
الدعاء قبل السلام، وأنواعه
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في صلاته بأدعية متنوعة؛ تارة بهذا، وتارة بهذا، وأقرَّ أدعية
أخرى، و " أمر المصلي أن يتخير منها ما شاء "، وهاك هي:
1- " اللهم! إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال،
وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات. اللهم! إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ".(3/1080)
2- " اللهم! إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل [بعد] ".
3- " اللهم! حاسبني حساباً يسيراً ".
4- " اللهم! بِعلمكَ الغيبَ، وقدرتكَ على الخَلْق؛ أَحْيني ما عَلِمْتَ الحياةَ خيراً
لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي. اللهم! وأسألك خشيتَكَ في الغيب والشهادة،
وأسألك كلمة الحق (وفي رواية: الحكم) و [العدل] في الغضب والرضى، وأسألك
القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا يَبِيد، وأسألك قرّة عين [لا تنفد و] لا
تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة
النظر إلى وجهك، و [أسألك] الشوق إلى لقائك؛ في غير ضَراء مُضِرَّة، ولا فتنة مُضلة.
اللهم! زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ".
5- وعَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول: " اللهم! إني ظلمت نفسي
ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني؛ إنك
أنت الغفور الرحيم ".
6- وأمر عائشة رضي الله عنها أن تقول: " اللهم! إني أسألك من الخير كله؛
[عاجله وآجله] ؛ ما علمتُ منه وما لم أعلم. وأعوذ بك من الشر كله؛ [عاجله وآجله] ؛
ما علمتُ منه وما لم أعلم. وأسألك (وفي رواية: اللهم! إني أسألك) الجنة، وما قرّب
إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار، وما قرَّب إليها من قول أو عمل. وأسألك
(وفي رواية: اللهم! إني أسألك) من [الـ] خير ما سألك عبدك ورسولك [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ،
وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] . [وأسألك] ما قضيت
لي من أمر أن تجعل عاقبته [لي] رشداً ".
7- و " قال لرجل: " ما تقول في الصلاة؟ ". قال: أتشهد، ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ
به من النار، أما والله! ما أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، وَلا دَنْدَنَةَ معاذ. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حولها نُدَنْدِن " ".
8- وسمع رجلاً يقول في تشهده: (اللهم! إني أسألك يا الله (وفي رواية: بالله)
[الواحد] الأحد الصمد؛ الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُواً أحد أن تغفر لي
ذنوبي؛ إنك أنت الغفور الرحيم) . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد غفر له، قد غفر له، قد غفر له ".
9- وسمع آخر يقول في تشهده: (اللهم! إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا(3/1081)
أنت؛ [وحدك لا شريك لك] ، [المنان] ، [يا] بديعَ السماوات والأرض! يا ذا الجلال
والإكرام! يا حي يا قيوم! [إني أسألك] [الجنة، وأعوذ بك من النار] ) . [فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لأصحابه: " تدرون بما دعا؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " والذي نفسي بيده!] لقد
دعا الله باسمه العظيم (وفي رواية: الأعظم) ، الذي إذا دعي به؛ أجاب، وإذا سئل به؛
أعطى ". وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم:
10- " اللهم! اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت،
وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت ". (ص 1002 - 1022) .
التسليم
ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "، [حتى يُرى بياض خده
الأيمن] ، وعن يساره: " السلام عليكم ورحمة الله "، [حتى يُرى بياض خده الأيسر] ".
وكان أحياناً يزيد في التسليمة الأولى: " وبركاته ".
و" كان إذا قال عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "؛ اقتصر أحياناً على قوله عن
يساره: " السلام عليكم ".
وأحياناً " كان يسلم تسليمة واحدة: " السلام عليكم "، " تلقاء وجهه؛ يميل إلى الشق
الأيمن شيئاً "، [أو: قليلاً] ".
و" كانوا يشيرون بأيديهم إذا سلموا عن اليمين وعن الشمال، فرآهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
فقال: " ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس؟! إذا سلم أحدكم؛
فليلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده ". [فلما صلوا معه أيضاً؛ لم يفعلوا ذلك] . (وفي
رواية: " إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه؛ من على يمينه
وشماله ") ". (ص 1023 - 1036) .
وجوب التسليم
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ... وتحليلها (يعني: الصلاة) التسليم ". (ص 1037 - 1039) .
* * *(3/1082)