قلت: وهذا إسناد حسن لولا أن
إبراهيم هذا ذكره ابن أبي حاتم في " الجرح " (1 / 1 / 89) وقال: " سألت أبي
عنه؟ فقال: لا أعرفه ". وذكر أنه روى عنه النضر بن هشام الأصبهاني وعبد
الرزاق بن بكر الأصبهاني. قلت: فهو على شرط ابن حبان في " الثقات "، لأنه
يورد عادة له فيه من روى عنه ولو واحد، فكيف وقد روى عنه اثنان كما رأيت،
كيف وقد روى عنه ثالث هو: عبد الله بن داود بن الهذيل، كما ذكر الحافظ في "
اللسان "، وإن كنت لم أعرفه الآن، بخلاف الأولين فهما صدوقان، مترجمان في "
الجرح ". ثم هو مترجم في " الطبقات " (1 / 190 - 191) وفي " الأخبار " (1
/ 172 - 173) بما يدل على صلاحه، فذكرا - وتبعهما الحافظ -: " كان صاحب
تهجد وعبادة، لم يعرف له فراش أربعين سنة، كان يخضب رأسه ولحيته ". على
أنه قد توبع، فقال أحمد بن سليمان بن يوسف العقيلي: حدثنا أبي حدثنا النعمان
بن عبد السلام: حدثنا أبو العوام به. أخرجه أبو نعيم أيضا (1 / 113) في
ترجمة أحمد بن سليمان العقيلي، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، لكنه ساق له
ثلاثة أحاديث من رواية ثلاثة شيوخ عنه، وكلهم ثقات: 1 - محمد بن أحمد بن
إبراهيم أبو أحمد القاضي العسال راوي الحديث عنه. 2 - سليمان بن أحمد الطبراني
الحافظ صاحب المعاجم الثلاثة.(6/1127)
3 - عبد الله بن محمد بن جعفر، وهو أبو الشيخ
مؤلف " الطبقات "، وقد ترجم فيه للعسال ترجمة حسنة (2 / 355) . فرواية
هؤلاء الحفاظ عنه يلقي الاطمئنان في النفس أنه صدوق إن شاء الله تعالى. وأما
أبوه سليمان بن يوسف العقيلي، فقد ترجمه أبو نعيم في " الأخبار " (1 / 334)
برواية ابنه عنه عن النعمان بن عبد السلام بسند آخر له عن ابن مسعود مرفوعا: "
خير أمتي قرني.. " الحديث. وقال: " توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين ".
ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. فهو على الستر، فيمكن الاستشهاد به. والله
سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا فالحديث بهذه المتابعة من سليمان بن يوسف
العقيلي لإبراهيم بن أيوب، يرتقي إلى مرتبة الحسن، فإن أبا العوام وهو عمران
بن داود القطان قال الحافظ: " صدوق يهم ". ثم هو بمجموع حديث أبي هريرة،
وحديث حميد الطويل عن أنس، وحديث وائل بن حجر يرتقي إلى مرتبة الصحيح، لأنه
ليس فيها متهم. ثم رأيت الحافظ السخاوي في" القول البديع " قال عقب حديث أنس
من الطريق الأولى (ص 39 - 40) : " وذكر المجد اللغوي أن إسناده صحيح محتج
برجاله في " الصحيحين "، والله أعلم، ورواه أبو نعيم في (الأحمدين) من "
تاريخ أصبهان " (يعني طريق العقيلي) ، وعن قتادة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:(6/1128)
" إذا صليتم على المرسلين فصلوا علي معهم، فإني رسول من
المرسلين ". رواه ابن أبي عاصم، وإسناده حسن جيد، لكنه مرسل ". اهـ. ثم
ذكره من حديث أبي هريرة وأعله بـ (موسى بن عبيدة الربذي) ، لكنه قال: "
وهو وإن كان ضعيفا فحديثه يستأنس به ". قلت: وفيه إشعار إلى أنه يميل إلى
تقوية الحديث. والله أعلم. (تنبيهان) : الأول: علق محققا " طبقات
المحدثين " على ترجمة إبراهيم بن أيوب الفرساني (1 / 190) بقولهما: " ذكره
ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (2 / 50) قال: سألت أبي عنه، فقال:
صالح محله الصدق "! فأقول: لا أدري ما هي الطبعة التي يشير إلى جزئها
وصفحتها بالرقمين المذكورين، فإن الطبعة الأصلية التي أنقل منها ليس المترجم في
المكان المشار إليه بالرقمين المذكورين، وإنما فيه: " الحسين بن حفص
الأصبهاني.. سألت أبي عنه؟ فقال: صالح محله الصدق ". فهذا وهم عجيب لا أذكر
أنه مر علي مثله، فالذي يقع من بعض الكاتبين أو المؤلفين عادة أن ينتقل بصره
من ترجمة إلى أخرى فوقها أو تحتها في نفس الصحيفة أو في التي تقابلها، أما أن
ينتقل من جزء وصفحة إلى جزء آخر وصفحة أخرى فهذا غريب جدا. وقد عرفت مما
نقلته (ص 1127) عن ابن أبي حاتم أنه قال عن أبيه: " لا أعرفه "! والآخر:
أن في " اللسان " قبل ترجمة إبراهيم بن أيوب الفرساني هذا(6/1129)
ترجمة (إبراهيم بن
أيوب الجرجاني..) اختلطت بترجمة الفرساني هذا، جاء في أول هذه وآخر تلك لفظ
: " حدثنا "، فصارت هذه عقب تلك هكذا: " حدثنا إبراهيم بن أيوب الفرساني.. "
إلخ. وإن مما لا شك فيه أن اللفظ المذكور زيادة مقحمة من بعض النساخ لم يتنبه
لها المعلق أو المصحح، فألحق هذه بتلك طباعة، وأعطاهما رقما واحدا هو (70)
، ونتج من وراء ذلك أن التضعيف الوارد في الترجمة الأولى تعدى إلى الأخرى،
فيرجى الانتباه لهذا. ثم رأيت الحديث باللفظ الذي رواه ابن أبي عاصم الذي
نقلته آنفا عن السخاوي - في " مسند الديلمي " (1 / 32 / 1) من طريق ابن أبي
عاصم عن محمد بن أزهر عن سليمان ابن عبد الرحمن عن شعيب بن إسحاق عن سعيد بن
أبي عروبة عن قتادة عن أنس مرفوعا. كذا وقع فيه " عن أنس " مسندا، وفي نقل
السخاوي المشار إليه: " عن قتادة " مرسلا. ولعل هذا هو المحفوظ عن ابن أبي
عاصم، فإن في الطريق إليه عند الديلمي عبد الرحمن بن محمد بن أحمد المعدل وهو
الأصبهاني الذكواني، أورده الذهبي في " الميزان " وقال: " قال يحيى بن منده
: تكلموا في سماعه لأنه ألحق سماعه بسماع جماعة، وعامة سماعه بخط والده ".
وكذا في " سير أعلام النبلاء " (17 / 608 - 609) . وشيخه فيه عبد الله بن
محمد بن فورك الراوي عن ابن أبي عاصم لم أجد له ترجمة، وهو غير محمد بن الحسن
بن فورك الأصبهاني الأشعري المتكلم المترجم في " السير " (17 / 214 - 216) .(6/1130)
فألقي في نفسي أن هذا الإسناد لعله الذي قال فيه المجد اللغوي: " إسناده صحيح
، محتج برجاله في الصحيحين ". لكن شيخ ابن أبي عاصم فيه " محمد بن أزهر " ليس
من رجالهما، وهو الجوزجاني. قال ابن حبان في " الثقات " (9 / 123) : " شيخ
.. روى عنه أحمد بن سيار (وفي " اللسان ": سنان) ، كثير الحديث، يتعاطى
الحفظ، من جلساء أحمد بن حنبل ". ثم رأيت الحديث في " الجامع الكبير " بلفظ
ابن أبي عاصم، وقال: " رواه الديلمي عن أنس، ورواه ابن أبي عاصم عن قتادة
مرسلا، وسنده حسن ". انظر الاستدراك رقم (5) .
2964 - " كم من عذق دواح لأبي الدحداح في الجنة - مرارا ".
أخرجه أحمد (3 / 146) وابن حبان (2271 - موارد) والطبراني في " المعجم
الكبير " (22 / 300 / 763) والحاكم (2 / 20) ومن طريقه البيهقي (3 / 249
/ 3451) والضياء المقدسي في " المختارة " (1 / 515) من طرق عن حماد بن سلمة
: حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك: أن رجلا قال: يا رسول الله! إن
لفلان نخلة، وأنا أقيم نخلي بها، فمره أن يعطيني [إياها] [حتى] أقيم
حائطي بها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أعطها إياه بنخلة في الجنة "
.(6/1131)
فأبى، وأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلك بحائطي. قال: ففعل. قال:
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد ابتعت النخلة
بحائطي، فاجعلها له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره. فأتى امرأته
فقال: يا أم الدحداح! اخرجي من الحائط، فإني بعته بنخلة في الجنة. فقالت:
قد ربحت البيع. أو كلمة نحوها. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ".
ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ولحديث الترجمة شاهد من حديث جابر بن سمرة
مرفوعا نحوه. أخرجه مسلم، وابن حبان (9 / 144 / 7113 و 7114) وغيرهما،
وصححه الترمذي، وهو مخرج في " أحكام الجنائز " (75) . وشاهد آخر من رواية
عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال: " لما نزلت * (من ذا الذي يقرض
الله قرضا حسنا..) * جاء ابن (!) الدحداح.. " الحديث نحوه ليس فيه قصة
الرجل، وشراء أبي الدحداح منه النخلة، وفيه حديث الترجمة. أخرجه ابن جرير
في " التفسير "، وإسناده مرسل صحيح. وقد روي موصولا من طريق عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب. وعبد الرحمن هذا ضعيف جدا متهم.
أخرجه الطبراني في " المعجم الأوسط " (1 / 101 / 1 / 2052 - بترقيمي) . وروي
من حديث عبد الله بن مسعود، وفيه ضعيفان، وهو مخرج في " تخريج مشكلة الفقر
" (76 - 120) ووقع مصدرا فيه بـ " صحيح "، وهو خطأ(6/1132)
مطبعي، أو سبق قلم،
فإنه مناقض لحال إسناده وليس له شاهد معتبر يقويه مطولا، بخلاف حديث الترجمة
فهو صحيح كما تقدم. غريب الحديث: (دواح) : الدواح: العظيم الشديد العلو،
وكل شجرة عظيمة: دوحة. و (العذق) بالفتح: النخلة. نهاية.
(تنبيه) : حديث عبد الرزاق الذي عند ابن جرير، قد أخرجه عبد الرزاق في "
المصنف " (5 / 406 - 407) عن معمر، لكن وقع فيه: أخبرني الزهري قال:
أخبرني كعب بن مالك قال: أول أمر عتب على أبي لبابة أنه كان بينه وبين يتيم
عذق، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم
لأبي لبابة، فبكى اليتيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعه له "، فأبى
، قال: " فأعطه إياه ولك مثله في الجنة "، فأبى فانطلق ابن الدحداحة فقال
لأبي لبابة: بعني العذق بحديقتين. قال: نعم. ثم انطلق إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن أعطيت هذا اليتيم هذا العذق، ألي
مثله في الجنة؟ قال: نعم، فأعطاه إياه، قال: فكان النبي صلى الله عليه
وسلم يقول: فذكر حديث الترجمة نحوه. قلت: كعب بن مالك صحابي معروف ولم
يدركه الزهري، ولذلك قال الشيخ الأعظمي - رحمه الله - في التعليق عليه: "
ولعل الصواب: عبد الرحمن بن كعب بن مالك ". أي فهو مرسل أيضا. والله أعلم.(6/1133)
وحديث الترجمة قال فيه الهيثمي (9 / 324) : " رواه أحمد والطبراني،
ورجالهما رجال الصحيح ". ثم ذكر له شاهدا من حديث عبد الرحمن بن أبزى باختصار
القصة، لكن سقط من الناسخ أو الطابع تخريج الحديث والكلام عليه. والله
سبحانه وتعالى أعلم.
2965 - " خرج صلى الله عليه وسلم [إلى خيبر] حين استخلف سباع بن عرفطة على المدينة،
قال أبو هريرة: قدمت المدينة مهاجرا فصليت الصبح وراء سباع، [فقرأ في الركعة
الأولى * (كهيعص) *] ، وقرأ في الركعة الثانية * (ويل للمطففين) *، قال أبو
هريرة: فأقول في الصلاة: ويل لأبي فلان! له مكيالان، إذا اكتال اكتال
بالوافي، وإذا كال كال بالناقص، فلما فرغنا من صلاتنا أتينا سباعا فزودنا
شيئا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افتتح خيبر، فكلم
المسلمين، فأشركونا في سهمانهم ".
أخرجه البخاري في " التاريخ الصغير " (ص 11 - 12) وابن حبان (467) وابن
سعد (4 / 327 - 328) وأحمد (2 / 345 - 346) والبزار (3 / 79 / 2281)
والفسوي في " المعرفة " (3 / 160) والحاكم (3 / 36) والبيهقي في " دلائل
النبوة " (4 / 198 - 199) ، من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة قال:
فذكره. والسياق للفسوي، وهو للبخاري والبزار والحاكم مختصر، والزيادة
لأحمد وابن سعد والبيهقي، وقال الحاكم:(6/1134)
" صحيح ". ووافقه الذهبي،
وعزاه الحافظ (7 / 489) لابن خزيمة أيضا وأقره.
2966 - " كان يسجد على أليتي الكف ".
أخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " (1 / 323 / 639) ومن طريقه ابن حبان (490 -
موارد) والحاكم (1 / 227) وعنه البيهقي (2 / 107) وأحمد (4 / 295) من
طرق عن الحسين بن واقد: حدثني أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب قال:
فذكره مرفوعا. وقال الحاكم: " صحيح على شرطهما "! ووافقه الذهبي! كذا
قالا، والحسين بن واقد إنما أخرج له البخاري تعليقا، فهو على شرط مسلم وحده
، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، ويخشى جانبه - مع ثقته - من جهة
تدليسه واختلاطه. أما تدليسه، فقد أمناه بتصريحه بالسماع. وأما الاختلاط،
فلا أدري إذا كان الحسين سمع منه قبل الاختلاط أم لا، إلا أن البيهقي قد روى
بسنده عن جمع قالوا: حدثنا شعبة قال: أنبأني أبو إسحاق عن البراء قال: " إذا
سجد أحدكم فليسجد على ألية الكف ". وقال ابن أبي شيبة في " المصنف " (1 /
261) : حدثنا وكيع عن شعبة به. وشعبة سمع من أبي إسحاق قبل الاختلاط، فصح
الإسناد والحمد لله. لا يقال: هذا موقوف، لأننا نقول: هو في حكم المرفوع،
لأن مثله لا يقال بالرأي كسائر هيئات الصلاة، فإنها عبادة محضة، ولاسيما
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بوضع الكفين في السجود والادعام
عليهما، وهو مخرج في " صفة(6/1135)
الصلاة "، وذلك يستلزم السجود على أليتي الكف
كما هو ظاهر. قال ابن الأثير في " النهاية ": " أرد ألية الإبهام وضرة
الخنصر فغلب، كالعمرين والقمرين ".
2967 - " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من
الغافلين ".
أخرجه مسلم (3 / 10) والطحاوي في " مشكل الآثار " (4 / 232) والبيهقي في
" السنن الكبرى " (3 / 171) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " (5 / 229) من
طرق عن أبي توبة: حدثنا معاوية - وهو ابن سلام - عن زيد - يعني أخاه - أنه
سمع أبا سلام قال: حدثني الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمرو وأبا هريرة
أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: فذكره. ومن
هذا الوجه أخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " (3 / 175 / 1855) ومن طريقه ابن
عساكر أيضا، لكن وقع عندهما مخالفتان في السند: إحداهما: حدثنا الربيع بن
نافع عن أبي توبة! والربيع هذا هو نفسه أبو توبة! فالظاهر أن حرف (عن)
مقحم من بعض النساخ، ومن الظاهر أنه قديم حتى وصل إلى ابن عساكر هكذا
بالإقحام! والأخرى: أنهما ذكرا (أبا سعيد) مكان (ابن عمر) ، ولا أدري
ممن الوهم؟ وقد تابعه يحيى بن حسان عند الدارمي (1 / 368) وابن شعيب عند
ابن عساكر كلاهما عن معاوية بن سلام به مثل رواية مسلم والجماعة. وابن حسان
من رجال الشيخين. وابن شعيب اسمه محمد بن شعيب بن شابور، وهو ثقة، فهي
متابعة قوية.(6/1136)
وخالفهم الوليد فقال: أخبرنا معاوية بن سلام عن أبي سلام
الأسود به. فلم يذكر بينهما زيد بن سلام. أخرجه ابن عساكر أيضا. ولا ضير من
هذه المخالفة لأن الوليد - وهو ابن مسلم - معروف بأنه كان يدلس تدليس التسوية
، فمن المحتمل أن يكون إسقاطه إياه من بينهما من تدليسه. ويحتمل أنه لم يحفظه
، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ولاسيما والمخالفون له ثلاثة ثقات. وقد
توبع معاوية بن سلام، فقال الطيالسي في " مسنده " (263 / 1952 و 357 / 2735)
: حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير، أن أبا سلام حدث أن الحكم بن ميناء حدث أن
عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس حدثا أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول على أعواد منبره: فذكره. ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي شيبة في "
المصنف " (2 / 154) وأحمد (1 / 239 و 335 و 2 / 84) وابن عساكر (5 / 230
) وكذا أبو يعلى (10 / 110 - 111) وعنه ابن حبان (4 / 197 - 198) . وهذا
إسناد رجاله ثقات، رجال مسلم، لكن ظاهره الانقطاع بين يحيى بن أبي كثير وأبي
سلام، واسمه ممطور. وقد أدخل بعضهم بينهما زيد بن سلام، فقال أحمد (1 /
254) : حدثنا عفان حدثنا أبان العطار حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي
سلام عن الحكم بن ميناء به. وهذا إسناد ظاهره الاتصال، لكن أخرجه ابن عساكر
من طريق أحمد بإسناده المذكور، لكنه قال: ".. عن زيد بن سلام عن الحكم.. "
، فانقطع بين زيد والحكم!(6/1137)
وكذلك أخرجه ابن عساكر من طريق أبي يعلى بسنده عن
عفان به. وهكذا هو في " مسند أبي يعلى " (10 / 143 - 144) ، لكن وقع فيه:
" زيد أبي سلام "! وهذا خطأ بلا شك، لأن زيدا لا يعرف بهذه الكنية: " أبي
سلام "، وإنما هي كنية جده ممطور كما تقدم، فلا أدري إذا كان الصواب ما في
رواية ابن عساكر عن أبي يعلى: " زيد بن سلام "، أم ما في " مسند أحمد ": "
زيد عن أبي سلام "؟ والكل محتمل. والله أعلم بالصواب، فالإسناد جد مضطرب
من رواية هشام - وهو الدستوائي -، وقد بين ذلك الحافظ ابن عساكر، والمعتمد
رواية معاوية بن سلام كما يأتي. ومن ذلك ما رواه النسائي (1 / 202)
والطحاوي أيضا، والبيهقي (3 / 171 - 172) من طرق أخرى عن أبان العطار عن
يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن الحضرمي بن لاحق عن الحكم بن ميناء به.
وثمة بعض الوجوه الأخرى من الاختلاف على يحيى بن أبي كثير، من الصعب المراجحة
بينها، ومن شاء الوقوف عليها رجع إلى ابن عساكر، و " مصنف عبد الرزاق " (3
/ 166 / 5168) وهي مع ذلك تدل على أن للحديث أصلا أصيلا عن الحكم بن ميناء
تقوي رواية معاوية بن سلام المذكورة في أول التخريج، وعليها اعتمد مسلم،
ورجحها البيهقي، فقال عقب رواية أبان وهشام المتقدمتين: " ورواية معاوية بن
سلام عن أخيه زيد أولى أن تكون محفوظة. والله أعلم ". وقد وجدت لحديث ابن
عمر طريقا أخرى، يرويه فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن نافع عنه قال: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على هذا المنبر وهو يقول: فذكره. أخرجه أبو
نعيم في " أخبار أصبهان " (2 / 213) . وفرج بن فضالة ضعيف.(6/1138)
وشاهدا يرويه
إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عبيد الله عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عبد
الله بن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعا. أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (
19 / 99 / 197) . وعبد العزيز بن عبيد الله، وهو الحمصي، قال الحافظ: "
ضعيف لم يرو عنه غير إسماعيل بن عياش ".
2968 - " كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته وسلم قام [
قائما] [على رجليه] ، فأقبل على الناس [بوجهه] وهم جلوس في مصلاهم، فإن
كان له حاجة ببعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها، وكان
يقول: " تصدقوا تصدقوا تصدقوا ". وكان أكثر من يتصدق النساء، ثم ينصرف ".
أخرجه مسلم (3 / 20) - والسياق له -، والنسائي في " الصغرى " و " الكبرى "
أيضا (1 / 549 / 1785) - والزيادة الثالثة له -، وابن ماجه (1288)
والزيادة الثانية له، وابن خزيمة في " صحيحه " (1449) والزيادة الثالثة له
أيضا، وابن حبان (3311) والبيهقي (3 / 297) ولهما الزيادة الأولى،
وعبد الرزاق في " المصنف " (3 / 280 / 5634) وعنه أحمد (3 / 54) وابن أبي
شيبة في " مصنفه " (2 / 188 و 3 / 110 - 111) وأحمد أيضا (3 / 36 و 42 و 54
) وأبو يعلى في " مسنده " (2 / 498 / 1343) من طرق عن داود بن قيس عن عياض
بن عبد الله بن سعد عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.(6/1139)
وتابعه زيد بن أسلم عن
عياض بن عبد الله به مع بعض الاختصار. أخرجه البخاري (956) والبيهقي (3 /
280) ، وقد سقت لفظه في " الإرواء " (3 / 98 / 630) وللحديث تتمة من
الوجهين تراها هناك. هذا، واعلم أن زيادة " على رجليه " مع صحة سندها عند
ابن ماجه من روايته عن أبي أسامة عن داود بن قيس - واسمه حماد بن أسامة - وهو
ثقة ثبت، وصرح بالتحديث، فإن سياق الحديث يؤكدها ويدل عليها كما هو ظاهر
ظهورا جليا، ومع ذلك فقد توبع أبو أسامة عليها، فقال الإمام أحمد (3 / 31)
: حدثنا وكيع: حدثنا داود بن قيس به مختصر جدا بلفظ: " خطب قائما على رجليه "
. وبهذا الإسناد والاختصار أخرجه ابن أبي شيبة أيضا في " المصنف " (2 / 189
) لكن بلفظ: " خطب يوم عيد على راحلته ". كذا وقع فيه: " راحلته "، وترجم
له بقوله: " الخطبة يوم العيد على البعير "! ولست أدري - والله - كيف وقع له
هذا، ولكني أعلم أن مثل هذا التحريف أو التصحيف وقع فيه كثير من الحفاظ،
وفي ذلك ألف أبو أحمد العسكري كتابه القيم: " تصحيفات المحدثين "، فراجعه
لتتيقن أنه " ما يسلم أحد من زلة ولا خطأ إلا من عصم الله " كما قال العسكري
في خطبة كتابه. ومن الغرائب أن هذا التصحيف تسرب إلى مصادر حديثية أخرى تلي "
المصنف " في الطبقة بدرجة أو أكثر، مثل " مسند أبي يعلى " (2 / 402 /(6/1140)
1182)
و" صحيح ابن خزيمة " (2 / 348 / 1445) و " صحيح ابن حبان - الإحسان " (4 /
210 / 2814) وكذا في " موارد الظمآن " (151 / 575) و " أحكام العيدين "
للفريابي (139 / 101) و " مجمع الزوائد " (2 / 205) برواية أبي يعلى. ولم
يتنبه لهذا المعلقون على بعض هذه المصادر، مثل المعلق على " الإحسان " طبع
المؤسسة (7 / 65) والمعلق على " مسند أبي يعلى " (2 / 402) مع أنهما عزياه
لـ " صحيح ابن خزيمة " بالرقم المذكور، وفيه ما ينبه المتيقظ على أنه خطأ من
الناسخ، وأن اللفظ عنده وقع على الصواب: " رجليه "، لأنه ترجم له بما يدل
عليه بخلاف ما تقدم عن ابن أبي شيبة، فقال ابن خزيمة: " باب الخطبة قائما على
الأرض إذا لم يكن بالمصلى منبر ". ثم قال عقب الحديث: " هذه اللفظة (يعني "
رجليه " ولابد) تحتمل معنيين: أحدهما: أنه خطب قائما لا جالسا. والثاني:
أنه خطب على الأرض ". وأقول: بل هو يحتملهما معا، كما يدل عليه سياق الحديث
. ولذلك قال الحافظ في شرح قول أبي سعيد في سياق البخاري المشار إليه آنفا: "
.. ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس " (2 / 449) : " في رواية ابن حبان من طريق
داود بن قيس عن عياض: " فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه "، ولابن خزيمة في
رواية مختصرة: " خطب يوم عيد على رجليه ". وهذا مشعر بأنه لم يكن بالمصلى في
زمانه صلى الله عليه وسلم منبر ".(6/1141)
تنبيه على أوهام: أولا: ساق ابن القيم
رحمه الله في " هديه صلى الله عليه وسلم في العيدين " من كتابه القيم: " زاد
المعاد " حديث الترجمة بتمامه، لكن بلفظ: " فيقف على راحلته "! ولم يعزه
لأحد، ومع ذلك زعم المعلقان عليه (1 / 445) : " إسناده صحيح، وسيذكر
المصنف رجال السند بعد قليل "! كذا قالا! وليس فيه ذكر للفظ الراحلة كما
يأتي. وأنا أرى - والله أعلم - أن السياق الذي في " الزاد " هو لابن ماجه،
لا يختلف عنه إلا في أحرف يسيرة، لأن لفظه في النسخ المطبوعة هو باللفظ
المذكور إلا " الراحلة "، فهو فيها " رجليه "، فالظاهر أن نسخة ابن ماجه عند
ابن القيم وقع فيها بلفظ " راحلته "! ولذلك عقب عليه ابن القيم رحمه الله
بقوله: " وقد كان يقع لي أن هذا وهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان
يخرج إلى العيد ماشيا والعنزة بين يديه، وإنما خطب عل راحلته يوم النحر بمنى
، إلى أن رأيت بقي ابن مخلد الحافظ قد ذكر هذا الحديث في " مسنده " عن أبي بكر
بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن نمير: حدثنا داود بن قيس.. ". قلت: فساق
الحديث بتمامه، ولقد أبعد النجعة، فالحديث عند ابن أبي شيبة في " المصنف "
كما تقدم في تخريجه، وهو من رواية بقي بن مخلد عنه. ثم ساق من رواية أبي بكر
بن خلاد: حدثنا أبو عامر: حدثنا داود.. وهذا في " مسند أحمد " (3 / 36)
وليس فيه كسابقه ذكر الراحلة، والسياق يباينها كما تقدم مني بيانه، ولذلك
ختم ابن القيم كلامه بقوله:(6/1142)
" ولعله: " يقوم على رجليه " كما قال جابر: "
قام متوكئا على بلال "، فتصحف على الكاتب: " براحلته ". والله أعلم ". فمن
غرائب المعلقين المشار إليهما، أنهما لما خرجا حديث داود هذا عزياه لبعض من
تقدم ذكرهم في التخريج، ومنهم ابن ماجه بالرقم المذكور ثمة دون أن يذكرا أن
الحديث فيه باللفظ المحفوظ: " رجليه "، ولا هما عزياه لأحمد بهذا اللفظ
المؤيد لما دندن حوله ابن القيم استنباطا منه من سياق الروايتين عنده، فكأن
المقصود هو تزيين الكتاب بالتخريج دون التحقيق. والله المستعان. ثانيا: من
التحقيق المتقدم يتبين خطأ الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير " (2 / 86) في
عزوه لرواية ابن حبان المختصرة الشاذة - للنسائي وابن ماجه وأحمد، كما أنه
لم ينبه على شذوذها ومخالفتها لرواية ابن خزيمة التي اعتمدها في " الفتح "،
ولرواية مسلم والجماعة المبينة أنه صلى الله عليه وسلم خطب قائما. وقد قلده
في ذلك كله الشوكاني في " نيل الأوطار " (3 / 260) والصنعاني في " سبل
السلام " (2 / 79) في سكوته عن رواية ابن حبان الشاذة! ثالثا: استدل
الشيرازي في " المهذب بهذا الحديث الشاذ على أنه يجوز أن يخطب من قعود! وإذا
عرفت أن الحديث ضعيف لشذوذه لم يجز الاستدلال به، وبخاصة أن الأحاديث الأخرى
صريحة في خطبته صلى الله عليه وسلم قائما في المصلى. ومن الغريب أن النووي
سكت عن الحديث فلم يخرجه في " المجموع " (5 / 22 - 23) خلافا لعادته! كما
أنه وافقه على القول بالجواز! مع أنه مخالف للدليل الذي استدل به على رد القول
بالاعتداد بالخطبة قبل صلاة العيد، فقال عقبه (5 / 25) : " والصحيح بل
الصواب أنه لا يعتد بها لقوله صلى الله عليه وسلم: وصلوا كما رأيتموني أصلي "
.(6/1143)
فيا سبحان الله! ما الفرق بين الخطبة قبل الصلاة، وبين القعود فيها،
وكلاهما مخالف للسنة؟! رابعا: أورد الشيخ أحمد البنا رحمه الله حديث أحمد
المختصر: " خطب قائما على رجليه " في " أبواب صلاة الجمعة " من كتابه الكبير "
الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني " (6 / 88) لأنه
قال في تخريجه: " لم أقف عليه لغير الإمام أحمد، وسنده جيد ". ولقد كان
حقه أن يورده في " العيدين " لو أنه استحضر بعض الروايات المتقدمة، وبخاصة ما
كان منها في " مسند الإمام أحمد " الذي رتبه على الأبواب الفقهية، فإن من
المفروض أن يكون مستحضرا لها، ولكن صدق الله: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء
الله رب العالمين) *.
2969 - " كان قد نهانا عن أن نأكل لحوم نسكنا فوق ثلاث، (قال) : فخرجت في سفر، ثم
قدمت على أهلي، وذلك بعد الأضحى بأيام، (قال) : فأتتني صاحبتي بسلق قد
جعلت فيه قديدا، فقلت لها: أنى لك هذا القديد؟ فقالت: من ضحايانا، (قال:
) فقلت: لها: أو لم ينهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نأكلها فوق
ثلاث، قال: فقالت: إنه قد رخص للناس بعد ذلك، قال: فلم أصدقها حتى بعثت
إلى أخي قتادة بن النعمان - وكان بدريا - أسأله عن ذلك؟ قال: فبعث إلي: أن
كل طعامك فقد صدقت، قد أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في ذلك ".
أخرجه أحمد (4 / 15) عن محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن علي(6/1144)
بن حسين بن (
!) جعفر، وأبي إسحاق بن يسار عن عبد الله بن خباب - مولى بني عدي بن النجار
- عن أبي سعيد الخدري فذكره. قلت: وهذا إسناد جيد صرح فيه ابن إسحاق
بالتحديث، رواه عن شيخيه أحدهما أبوه إسحاق بن يسار، والآخر محمد بن علي بن
حسين، وهو ابن علي بن أبي طالب، وهو ثقة فاضل يكنى بأبي جعفر، فالظاهر أن
أداة الكنية (أبو) تحرفت في السند إلى (ابن) ! (1) . والحديث سكت عنه
الحافظ في " الفتح " (10 / 25) ، ففيه إشارة إلى تقويته إياه. وقال الهيثمي
في " المجمع " (4 / 26) : " رواه أحمد، ورجاله ثقات ". وقد توبع أبو جعفر
وقرينه إسحاق بن يسار، فقال يحيى بن سعيد - وهو الأنصاري القاضي - عن القاسم
بن محمد عن ابن خباب - هو عبد الله بن خباب - أن أبا سعيد بن مالك الخدري رضي
الله عنه قدم من سفر، وفي رواية: عن القاسم أن ابن خباب أخبره أنه سمع أبا
سعيد يحدث أنه كان غائبا فقدم.. الحديث نحوه مختصرا دون قصة المرأة. أخرجه
البخاري (3997 و 5568) والرواية الأخرى له، والنسائي (2 / 208 - 209)
والبيهقي (9 / 292) .
وليحيى بن سعيد (2) فيه إسناد آخر، فقال: حدثنا سعد بن إسحاق قال: حدثتني
زينب بنت كعب عن أبي سعيد:
_________
(1) ثم رأيت البيهقي قد روى الحديث (9 / 292) مثل رواية أحمد لكن قال: " أبو
جعفر ".
(2) لكن يحتمل أنه ليس هو الأنصاري، وإنما القطان التميمي، وبه جزم المزي
في " التحفة " (8 / 278) .(6/1145)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم
الأضاحي فوق ثلاثة أيام، ثم رخص أن نأكل وندخر. قال: فقدم قتادة بن النعمان
- أخو أبي سعيد - فقدموا إليه من قديد الأضاحي. الحديث نحو روايته السابقة
ودون قصة المرأة، لكنه قلب المتن جعل راوي الرخصة أبا سعيد، والممتنع قتادة
بن النعمان! والمحفوظ الأول كما قال المزي.
أخرجه النسائي أيضا، وأحمد (3 / 23) وأبو يعلى (2 / 281 / 997) وعنه
ابن حبان (7 / 567 / 8596) من طرق عن يحيى به. وخالفهم في المتن أنيس بن
عمران عن سعد بن إسحاق.. بسنده المذكور عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه
وسلم.. فذكره مختصرا دون قصة قتادة! أخرجه الطحاوي (2 / 308) . لكن أنيس
هذا ليس بالمشهور، قال ابن أبي حاتم (1 / 1 / 335) : " سألت أبي عنه؟ فقال
: هو شيخ ". وقال: " مصري، روى عنه أبو عبد الرحمن المقرىء ". قلت: وروى
عنه أيضا يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، شيخ الطحاوي في هذا الحديث. وقد
وقع في اسم والد أنيس خطأ مطبعي في كتاب الطحاوي: " عياض " (1) ، فصححته من "
الجرح " و " الثقات " (8 / 134) ، ووقع في هذا أخطاء مطبعية وعلمية أخرى
نبهت عليها في كتابي " تيسير الانتفاع "، كما أن اسمه " أنيس " وقع في ترجمة
يونس المترجم في " تهذيب المزي " (أنس) مكبرا، وهو خطأ لعله مطبعي.
_________
(1) ولم يتنبه لذلك المعلق على " مسند أبي يعلى " فنقله (2 / 282) كما هو!
وكذلك فعل المعلق على " الإحسان " (13 / 249) ، بل زاد - ضغثا على إبالة -
فقال: " وقد تحرف (أنس) إلى (أنيس) " اغترارا منه بخطئه في " تهذيب المزي
"!! . اهـ.(6/1146)
هذا
ولعل القلب الواقع في رواية يحيى القطان إنما هو من زينب بنت كعب، فإنها ليست
بالمشهورة، ولم يوثقها غير ابن حبان، فلا شك أن رواية عبد الله بن خباب هي
التي ينبغي الاعتماد عليها كما أشار إلى ذلك الحافظ المزي فيما تقدم، ونحوه
قول الحافظ في " الفتح " (10 / 25) : " وما في " الصحيحين " أصح ". لكن
قوله: " الصحيحين "، لعله سبق قلم أو خطأ مطبعي، لأن مسلما لم يخرجه إلا من
طريق أخرى ليس فيها قصة قتادة، يرويه الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري
: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا أهل المدينة! لا تأكلوا لحوم
الأضاحي فوق ثلاثة أيام ". قال: فشكوا إليه أن لهم عيالا وخدما، فقال: "
كلوا، وأطعموا، واحبسوا ". أخرجه مسلم (6 / 81) وأحمد (3 / 85) وأبو
يعلى (1196) وعنه ابن حبان (5898) . وتابعه ابن سيرين عن أبي سعيد به
مختصرا. أخرجه النسائي (2 / 209) . وربيعة بن أبي عبد الرحمن عنه مثل رواية
عبد الله بن خباب، إلا أنه لم يسم قتادة بن النعمان. أخرجه مالك (2 / 36 -
37) عنه.(6/1147)
والسند صحيح إن كان ربيعة سمعه من أبي سعيد، فقد صرح ابن عبد البر
في " التمهيد " (3 / 214) أنه لم يسمع منه. وتابعه زبيد أيضا أن أبا سعيد
الخدري أخبره أنه أتى أهله فوجد عندهم قصعة ثريد ولحم من لحم الأضاحي..
الحديث، مثل رواية عبد الله بن خباب.. أخرجه الطحاوي (2 / 307) من طريق
عمرو بن خالد قال: أخبرنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن زبيد.. ورجاله ثقات،
لكن ابن لهيعة سيىء الحفظ، لكنه قد توبع، فقال ابن جريج: قال سليمان بن موسى
: أخبرني زبيد أن أبا سعيد أتى أهله.. الحديث. أخرجه أحمد (4 / 15) . وابن
جريج مدلس، وقد رواه بصيغة التعليق (قال) ! لكنه قال في رواية أخرى عند
أحمد: أخبرني أبو الزبير عن جابر نحو حديث زبيد هذا عن أبي سعيد، لم يبلغ كل
ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. (تنبيه) : هذه الروايات كلها ما صح منها
وما ضعف تدل على أن أبا سعيد رضي الله عنه لم يسمع الرخصة بالادخار من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وإنما تلقاها من أخيه قتادة بن النعمان كما في حديث
الترجمة، فهو من مراسيل الصحابة. فما في " المسند " (3 / 63 و 66) من رواية
فليح عن محمد بن عمرو بن ثابت عن أبيه عن أبي سعيد أنه سمع ذلك من النبي صلى
الله عليه وسلم، فهو منكر، وعلته محمد بن عمرو هذا - وهو العتواري - لا
يعرف إلا بهذه الرواية. وأما ابن حبان فذكره في " الثقات " (7 / 374 و 422)
، فمثله لا يحتج به، وبخاصة عند المخالفة.(6/1148)
2970 - " إن أمة من بني إسرائيل مسخت، وأنا أخشى أن تكون هذه. يعني الضباب ".
أخرجه ابن حبان (1070 - موارد) والطحاوي في " شرح المعاني " (2 / 314) و "
مشكل الآثار " (4 / 278) والبيهقي (9 / 325) وابن أبي شيبة في " المصنف "
(8 / 266) وأحمد (4 / 196) وأبو يعلى (2 / 231 / 931) والبزار (2 /
66 / 1217) من طرق عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن حسنة قال:
كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبنا ضبابا، فكانت القدور
تغلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. قال: " فأكفأناها وإنا
لجياع ". والسياق لابن أبي شيبة. وزاد أحمد في رواية: " فأكفئوها.
فأكفأناها ". ولفظ أبي يعلى، ومن طريقه ابن حبان: " فأمر فكفأناها وإنا
لجياع ". وقال البزار: " لا نعلم روى ابن حسنة إلا هذا وآخر، وقد خالف
حصين الأعمش، فقال: عن زيد ابن وهب عن حذيفة ". وقال في حديث حذيفة: "
هكذا رواه حصين عن زيد، وخالفه الأعمش والحكم بن عتيبة وعدي بن ثابت، خالف
كل واحد منهم صاحبه ".(6/1149)
قلت: وبيان هذا الذي أجمله البزار فيما يلي: أولا:
حديث الأعمش بسنده المذكور عن عبد الرحمن بن حسنة هذا، قد صرح الأعمش بالتحديث
في رواية للطحاوي، فالسند صحيح. وأما حديثه الآخر الذي أشار إليه البزار،
فهو في " سنن أبي داود " وغيره بإسناد الأعمش هذا عنه في الاحتراز من البول،
وقد صححه ابن حبان أيضا، والحاكم والذهبي. وهو مخرج في " صحيح أبي داود "
(16) وغيره. ثانيا: حديث عدي بن ثابت، يرويه شعبة عنه عن زيد بن وهب عن
ثابت بن وداعة عن النبي صلى الله عليه وسلم به مختصرا ليس في الإكفاء. رواه
النسائي (2 / 199) وأحمد (4 / 320) والطبراني في " المعجم الكبير " (2 /
74 / 1365) نحوه. وتابعه حصين - وهو ابن عبد الرحمن السلمي - عن زيد بن وهب
به. أخرجه النسائي (2 / 198 - 199) وكذا أبو داود (3795) والبخاري في "
التاريخ " (1 / 2 / 170 - 171) وابن ماجه (3238) والطحاوي كلاهما من طريق
ابن أبي شيبة، وهذا في " المصنف " (8 / 273 / 4415) وأحمد أيضا،
والطبراني (1366 و 1367) من طرق عنه، وزاد النسائي وغيره: " قلت: يا رسول
الله! إن الناس قد أكلوا منها؟ قال: فما أمر بأكلها، ولا نهى ". وهذا
إسناد صحيح كما قال الحافظ في " الفتح " (9 / 663) بعد أن عزاه لأبي داود
والنسائي. وتابعه أيضا يزيد بن أبي زياد: سمعت زيد بن وهب الجهني به مختصرا.(6/1150)
أخرجه الطيالسي (1222) : حدثنا شعبة قال: أخبرني زياد بن أبي زياد به. قلت
: وزياد هذا هو الهاشمي مولاهم، لا بأس به في المتابعات والشواهد. ثالثا:
وخالفهم الحكم بن عتيبة، فقال: عن زيد بن وهب عن البراء بن عازب عن ثابت بن
وديعة، فزاد في السند البراء بلفظ: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بضب
، فقال: " إن أمة مسخت، والله أعلم ". أخرجه النسائي والبخاري أيضا،
والدارمي (2 / 92) وابن أبي شيبة (8 / 267) والبيهقي والطيالسي (1220)
وأحمد أيضا كلهم من طرق عن شعبة عنه. وخالفهم عبيد الله بن موسى، فقال:
حدثنا شعبة عن حصين عن زيد بن وهب عن حذيفة مرفوعا بلفظ: " إن الضب أمة مسخت
دواب في الأرض ". أخرجه البزار (1215) : حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا عبيد الله
بن موسى. وقد تبين لنا من هذه الروايات أن مدارها على زيد بن وهب رحمه الله،
وأن الرواة اختلفوا عليه في إسناده، وفي بعض ألفاظه. أما الاختلاف في
الإسناد فيتلخص في الوجوه الأربعة التالية: 1 - الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد
الرحمن بن حسنة رضي الله عنه. 2 - عدي بن ثابت عن زيد بن وهب عن ثابت بن وداعة
أو وديعة رضي الله عنه. 3 - الحكم عن زيد بن وهب عن البراء بن عازب عن ثابت.(6/1151)
4 - الحكم عن حصين عن زيد بن وهب عن حذيفة. ويبدو لي - والله أعلم - أن هذا
الاختلاف هو من باب اختلاف التنوع لا التضاد، وأن هذه كلها صحيحة ثابتة عن
زيد بن وهب، وذلك لأن كل رواته من الثقات الحفاظ لا مطعن فيهم ولا مغمز،
ولأن زيدا هذا من كبار التابعين المخضرمين، وقد ذكروا أنه رحل إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، فقبض وهو في الطريق، وهو إلى ذلك ثقة جليل، حتى قال
الأعمش راوي الوجه الأول عنه: " إذا حدثك زيد بن وهب عن أحد فكأنك سمعته من
الذي حدثك عنه ". وقد لقي جماعة من كبار الصحابة وروى عنهم مثل عمر رضي الله
عنه، فلا يستبعد عن مثله أن يكون سمع الحديث من الصحابة الثلاثة المذكورين في
تلك الوجوه: عبد الرحمن بن حسنة. ثابت بن وداعة. تارة عنه مباشرة، وتارة
بواسطة البراء. حذيفة بن اليمان. وكثيرا ما يحدث الراوي الحافظ بالواسطة عن
شيخ له، ثم يتيسر له الاتصال بشيخه، والسماع منه مباشرة لما كان سمعه من قبل
بالواسطة عنه. وهذا أمر معروف عند المشتغلين بهذا العلم الشريف. والقول
بصحة هذه الوجوه أولى عندي من ترجيح وجه منها على وجه، لعدم وجود المرجح على
افتراض التعارض، مثل قول البخاري رحمه الله عقب الحديث: " وحديث ثابت أصح،
وفي نفس الحديث نظر، قال ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا آكله ولا
أحرمه ". وأقول: حديث ابن عمر هذا صحيح متفق عليه بين الشيخين، ورواه مسلم(6/1152)
من حديث أبي سعيد كما يأتي، ولكنه يتعارض مع حديث الترجمة، وبخاصة مع الوجه
المذكور عن ثابت بن وداعة الذي رجحه البخاري رحمه الله، فإن فيه قوله عن النبي
صلى الله عليه وسلم: " فما أمرنا بأكلها، ولا نهى "، بل مطابق لحديث ابن
عمر تمام المطابقة. نعم، هو يتعارض - فيما يبدو - مع الأمر بإكفاء القدور،
المروي في بعض الطرق عن الأعمش كما تقدم، فإنه يستلزم النهي عن أكله،
ولاسيما وفيه أنهم كانوا جياعا. وقد أجاب عنه ابن حبان بقوله عقب الحديث (7
/ 340 - الإحسان) : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد به الزجر عن أكل الضباب
، والعلة المضمرة هي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعافها، لا أن أكلها
محرم ". هذا تفصيل الإجمال المتعلق بالإسناد. وأما الاختلاف في الألفاظ،
فهو ظاهر مما سبق ذكره من بعض الروايات طولا وقصرا، والخطب في مثل هذا سهل
ومغتفر، لقاعدة زيادة الثقة مقبولة. لكن المهم من ذلك ما سبق الإشارة إليه
آنفا من الأمر بإكفاء القدور، فإنه يبدو أنه لا مجال لإدخالها في القاعدة
المذكورة للأسباب الآتية: الأول: عدم اتفاق الرواة لحديث الأعمش عليه.
الثاني: أنه لم يذكر مطلقا في الطرق الأخرى عن زيد بن وهب، بل في بعضها ما هو
معارض له، أعني طريق حصين بن عبد الرحمن السلمي التي رجحها البخاري، وصرح
الحافظ بصحتها ففيها: " فما أمر بأكلها، ولا نهى ".(6/1153)
الثالث: الأحاديث
الأخرى التي ساقها الهيثمي في " المجمع " (4 / 36 - 37) مثل حديث الترجمة،
ليس فيها الأمر المذكور، وهي وإن كانت لا تخلو من ضعف، فبعضها يقوي بعضا،
فيستشهد بها. ويزيدها قوة حديث أبي سعيد الخدري: أن أعرابيا أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: إني في غائط مضبة، وإنه عامة طعام أهلي؟ قال:
فلم يجبه. فقلنا: عاوده، فعاوده، فلم يجبه (ثلاثا) . ثم ناداه رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الثالثة فقال: " يا أعرابي! إن الله لعن أو غضب على
سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض، فلا أدري لعل هذا منها، فلست
آكلها، ولا أنهى عنها ". أخرجه مسلم (6 / 70) والطحاوي (4 / 279) من
طريق أبي عقيل بشير بن عقبة: حدثنا أبو نضرة عنه. وتابعه داود بن أبي هند عن
أبي نضرة به نحوه، وقال: " فلم يأمر، ولم ينه، قال أبو سعيد: فلما كان
بعد ذلك قال عمر: إن الله عز وجل لينفع به غير واحد، وإنه لطعام عامة هذه
الرعاء، ولو كان عندي لطعمته! إنما عافه رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
أخرجه مسلم أيضا، واللفظ له، وابن ماجه (3240) وأحمد (3 / 5 و 19 و 66
) . وتابعه بشر بن حرب عن أبي سعيد مختصرا. أخرجه أحمد (3 / 41 و 42) .(6/1154)
2971 - " نهى عن ثمن الكلب والسنور ".
هو من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، وله عنه ثلاث طرق: الأولى: أبو
الزبير، ورواه عنه أربعة من الثقات على ضعف في حفظهم: الأول: معقل بن
عبيد الله الجزري عنه قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور؟ قال: " زجر
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ". أخرجه مسلم (5 / 35) والبيهقي (6 / 10
) .
الثاني: ابن لهيعة: حدثنا أبو الزبير قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور
.. الحديث مثله. أخرجه أحمد (3 / 386) وهذا لفظه، وابن ماجه (2161)
مختصرا، ولم يذكر الكلب. لكن ذكره أحمد في رواية أخرى (3 / 339) وكذا
الطحاوي في " شرحه " (2 / 226) . الثالث: حماد بن سلمة عنه بلفظ: " نهى عن
ثمن السنور والكلب، إلا كلب الصيد ". أخرجه النسائي (2 / 196) وقال عقبه
: " ليس هو بصحيح ". قلت: كأن النسائي يعني زيادة " كلب الصيد "، لتفرد حماد
بن سلمة، ومخالفته للطرق المتقدمة ولغيرها مما يأتي، وللأحاديث الأخرى
المحرمة لثمن الكلب تحريما مطلقا، مثل حديث أبي مسعود البدري، وهو مخرج في "
الإرواء "(6/1155)
(1291) . لكن معنى الاستثناء صحيح دراية، للأحاديث الصحيحة التي
تبيح اقتناء كلب الصيد، وما كان كذلك حل بيعه، وحل ثمنه كسائر الأشياء
المباحة كما حققه الإمام أبو جعفر الطحاوي في " شرح المعاني " (2 / 225 - 229
) ، فراجعه فإنه مهم، ولعله من أجل ذلك سكت - أعني الطحاوي - عن حديث حماد
هذا، وقد رواه بإسناده عنه، ولا أراه جيدا، لأنه لا تلازم بين ثبوت الحديث
دراية وثبوته رواية، فقد ينفك أحدهما عن الآخر، كمثل هذا، فإنه لم يثبت
مبناه، ولكنه ثبت معناه بدليل خارج عنه، وعلى العكس من ذلك، فقد يكون
الحديث صحيحا إسناده لا شك في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يكون
منسوخا كحديث: " إنما الماء من الماء ". وما في معناه. فتنبه لهذا فإنه هام
جدا. وإن مما يؤيد قول النسائي في زيادة حماد هذه، أن حمادا مع جلالة قدره
وإمامته في السنة، فقد تكلم بعضهم فيما يرويه عن غير ثابت، هذا مع أن أبا
الزبير مدلس، وقد عنعن الحديث في رواية حماد عنه كما رأيت، والله أعلم.
على أنه قد تابعه على هذه الزيادة الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير به. أخرجه
أحمد (3 / 317) وأبو يعلى (3 / 427) والدارقطني (3 / 73) لكن الحسن هذا
ضعيف (1) . الرابع: عمر بن زيد الصنعاني أنه سمع أبا الزبير المكي عن جابر أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الهر. وفي رواية: أكل الهر وثمنه.
هكذا مختصرا رواه عبد الرزاق: حدثنا عمر.. به. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه
أحمد، وابنه عبد الله في " زوائد المسند " (3 / 297) وأبو داود
_________
(1) ثم وجدت له بعض الشواهد الأخرى فخرجته فيما يأتي برقم (2990) ، فثبت
الاستثناء رواية أيضا. والحمد لله.(6/1156)
(3480)
والترمذي (1280) والحاكم (2 / 34) والبيهقي أيضا، وقال الترمذي: " حديث
غريب، وعمر بن زيد، لا نعرف كبير أحد روى عنه غير عبد الرزاق ". وأما
الحاكم فسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله: " عمر واه ". وقال ابن حبان في "
الضعفاء " (2 / 82) : " ينفرد بالمناكير عن المشاهير على قلة روايته، حتى
خرج بها عن حد الاحتجاج به فيما لم يوافق الثقات ". ثم ساق له حديثين منكرين
هذا أحدهما، والآخر مخرج في " الضعيفة " (4379) ، و " الإرواء " (1257) .
وبكلام الترمذي وابن حبان أعله ابن الجوزي في " العلل " (2 / 106) ولم يزد
. الطريق الثانية: يرويه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: " نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور ". أخرجه أبو داود (3479) وابن
الجارود في " المنتقى " (201 / 580) والطحاوي أيضا في " الشرح "، و " مشكل
الآثار " (3 / 273) والحاكم أيضا، والبيهقي، وقال الحاكم: " صحيح على
شرط مسلم ". ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. ولا يلتفت إلى قول ابن عبد
البر في " التمهيد " (8 / 403) :(6/1157)
" وحديث أبي سفيان عن جابر لا يصح لأنها
صحيفة، ورواية الأعمش في ذلك عندهم ضعيفة ". ولذلك قال البيهقي عقب الحديث
: " وهذا حديث صحيح على شرط مسلم دون البخاري، فإن البخاري لا يحتج برواية
أبي الزبير (يعني من رواية معقل المتقدمة) ، ولا برواية أبي سفيان [هذه] ،
ولعل مسلما إنما لم يخرجه في " الصحيح " لأن وكيع بن الجراح رواه عن الأعمش
قال: قال جابر بن عبد الله، فذكره. ثم قال: قال الأعمش: أرى أبا سفيان
ذكره (1) . فالأعمش كان يشك في وصل الحديث، فصارت بذلك رواية أبي سفيان ضعيفة
. وقد حمله بعض أهل العلم على الهر إذا توحش فلم يقدر على تسليمه، ومنهم من
زعم أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكوما بنجاسته، ثم حين صار محكوما
بطهارة سؤره حل ثمنه، وليس على هذين القولين دلالة بينة. والله أعلم ".
الطريق الثالثة: يرويه ابن لهيعة أيضا عن خير بن نعيم عن عطاء عن جابر: أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ونهى عن ثمن السنور. أخرجه أحمد
(3 / 339) : حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا ابن لهيعة. قلت: ورجاله ثقات رجال
مسلم غير ابن لهيعة، وهو سيىء الحفظ، يستشهد به. لكن ذكر عبد الله بن أحمد
عن أبيه في " العلل " (1 / 237 / 1490) أن إسحاق بن عيسى لقي ابن لهيعة قبل
احتراق كتبه. وعليه فالسند جيد. وقد تابعه حيوة بن شريح: أخبرنا خير بن
نعيم الحضرمي.
_________
(1) كذا في " مصنف ابن أبي شيبة " (6 / 414 / 1550) . اهـ.(6/1158)
أخرجه الدارقطني (3 / 72 / 272) . وحيوة ثقة، لكن الراوي
عنه وهب الله أبو زرعة الحجري متكلم فيه. وعطاء هو ابن أبي رباح، وقد رواه
عنه قيس بن سعد عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: " إن مهر البغي، وثمن الكلب
والسنور، وكسب الحجام من السحت ". أخرجه ابن حبان (1118) من طريق حماد بن
سلمة عن قيس بن سلمة به. وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات كلهم رجال مسلم غير شيخ
ابن حبان طبعا. فهو شاهد قوي لحديث ابن لهيعة أنه قد حفظه. ثم وجدت له طريقا
رابعا، يرويه أبو أويس: حدثني شرحبيل عن جابر مرفوعا بلفظ: " نهى عن ثمن
الكلب، وقال: طعمة جاهلية ". أخرجه أحمد. وقال الهيثمي (4 / 91) : "
ورجاله ثقات ". قلت: وشرحبيل - وهو ابن سعد - كان اختلط. وله شاهدان من
حديث ميمونة بنت سعد، وعبادة بن الصامت. أما حديث ميمونة، فترويه آمنة بنت
عمر بن عبد العزيز عنها أنها قالت: يا رسول الله! أفتنا عن الكلب؟ فقال: "
طعمة جاهلية، وقد أغنى الله عنها ". أخرجه الطبراني في " الكبير " (25 / 36
/ 63) من طريق إسحاق بن زريق(6/1159)
الرسعني (الأصل: الراسبي) : حدثنا عثمان بن
عبد الرحمن عن عبد الحميد بن يزيد عنها. قال الهيثمي: " وإسناده ضعيف،
وفيه من لا يعرف ". قلت: كلهم معرفون عندي غير آمنة بنت عمر بن عبد العزيز،
فإني لم أجد لها ترجمة، وما أظن أن لها رواية أو لقاء مع أحد الأصحاب، فإن
أباها عمر رضي الله عنه لم يذكروا له رواية عنهم إلا عن أنس لتأخر وفاته رضي
الله عنه وعن سائر الصحابة، ففي السند انقطاع أيضا. وأما عبد الحميد بن
يزيد، فهو مجهول، وهو عبد الحميد بن سلمة بن يزيد الأنصاري كما في " التقريب
". وعثمان بن عبد الرحمن الراوي عنه، فهو الطرائفي. قال الحافظ: " صدوق،
أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل فضعف بسبب ذلك، حتى نسبه ابن نمير إلى
الكذب، وقد وثقه ابن معين ". وأما إسحاق بن زريق الرسعني، فذكره ابن حبان
في " الثقات " (8 / 121) وقال: " يروي عن أبي نعيم، وكان راويا لإبراهيم
بن خالد، حدثنا عنه أبو عروبة. مات سنة (259) ". وأما حديث عبادة فهو نحو
حديث ميمونة. قال الهيثمي: " رواه الطبراني في " الكبير " من رواية إسحاق بن
يحيى عن عبادة، وإسحاق لم يدركه ".(6/1160)
2972 - " إن الرقى والتمائم والتولة شرك ".
أخرجه الحاكم (4 / 217) قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد
الأصبهاني حدثنا أحمد بن مهران حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن ميسرة
بن حبيب عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن الأسدي قال: دخل عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه على امرأته فرأى عليها حرزا من الحمرة، فقطعه قطعا عنيفا
، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء. وقال: كان مما حفظنا عن النبي
صلى الله عليه وسلم: فذكر الحديث. وقال: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي
. قلت: وهو كما قالا إن شاء الله تعالى، فإن رجاله إلى عبيد الله بن موسى
رجال الصحيح غير ميسرة بن حبيب، وهو ثقة. وقد خولف في إسناده ومتنه ممن لا
تضر مخالفته كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما أحمد بن مهران، فهو أبو
جعفر اليزدي، وثقه ابن حبان (8 / 48 و 52) وروى عنه جمع، غير أبي عبد الله
الزاهد هذا، وله ترجمة في " أنساب السمعاني " (3 / 599) و " اللسان " (1 /
316) . وأما أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد، فله ترجمة جيدة في " سير
أعلام النبلاء " (17 / 437 - 438) ووصفه بـ " الشيخ الإمام المحدث القدوة..
"، وذكر عن الحاكم أنه قال فيه: " هو محدث عصره، كان مجاب الدعوة ".(6/1161)
وقد
ذكرت آنفا أن ميسرة قد خولف، فأقول: خالفه المسعودي برواية عاصم بن علي:
حدثنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله: أنه رأى في عنق
امرأة من أهله سيرا فيه تمائم.. الحديث نحوه أتم منه موقوفا كله، وزاد: "
إن الشيطان يأتي إحداكن (1) فيخش في رأسها، فإذا استرقت خنس، وإذا لم تسترق
نخس! فلو أن إحداكن تدعو بماء فتنضحه في رأسها ووجهها ثم تقول: بسم الله
الرحمن الرحيم. ثم تقرأ * (قل هو الله أحد) *، و * (قل أعوذ برب الفلق) *
و* (قل أعوذ برب الناس) * نفعها ذلك إن شاء الله ". أخرجه الطبراني في " المعجم
الكبير " (9 / 193 - 194) . والمسعودي كان اختلط، فلا قيمة لمخالفته لميسرة
الثقة في إسناده ومتنه. على أن أحد الضعفاء قد رواه عن ميسرة عن المنهال بن
عمرو عن أبي عبيدة به مختصرا مثل حديث الترجمة، لكنه أوقفه. أخرجه الطبراني (
8862) من طريق أبي إسرائيل الملائي عن ميسرة به. قلت: واسم أبي إسرائيل
إسماعيل بن خليفة العبسي، وهو سيىء الحفظ، فلا يعارض بمثله رواية إسرائيل
بإسناده المتقدم عن ابن مسعود مرفوعا. وهو إسرائيل ابن يونس بن أبي إسحاق
السبيعي، وهو ثقة كما تقدم. على أنه من المحتمل أن يكون أبو عبيدة قد روى
أيضا الحديث أو شيئا من قصة أبيه ابن مسعود، ففي رواية للطبراني (8861) من
طريق معمر عن عبد الكريم الجزري عن زياد بن أبي مريم أو عن أبي عبيدة - شك معمر
- قال:
_________
(1) الأصل: " أحدكم ". اهـ.(6/1162)
رأى ابن مسعود في عنق امرأته خرزا - كذا، ولعل الصواب: حرزا - قد
تعلقته من الحمرة فقطعه، وقال: " إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ". هكذا
رواه مختصرا. وللحديث طريقان آخران عن ابن مسعود، أحدهما أوهى من الآخر:
الأول: يرويه السري بن إسماعيل عن أبي الضحى عن أم ناجية قالت: دخلت على زينب
امرأة عبد الله أعودها من حمرة ظهرت في وجهها وهي معلقة بحرز، فإني لجالسة
دخل عبد الله.. الحديث نحوه، وفيه المرفوع، وزاد: " فقالت أم ناجية: يا
أبا عبد الرحمن! أما الرقى والتمائم فقد عرفنا، فما (التولة) ؟ قال:
التولة ما يهيج النساء ". أخرجه الحاكم (4 / 216 - 217) ساكتا عنه هو
والذهبي! ولعل ذلك لظهور ضعفه، فإن السري بن إسماعيل قال الذهبي نفسه في "
الكاشف ": " تركوه ". وفصل أقوال الأئمة حوله في " المغني ". والطريق
الآخر، كنت قد خرجته في " الصحيحة " (331) مع طريق قيس بن السكن المتقدمة،
برواية أبي داود وابن ماجه وابن حبان وأحمد بلفظ حديث الترجمة دون القصة
والروايات الأخرى، والآن حدث ما يقتضي تفصيل القول فيه هنا، فأقول: مدار هذا
الطريق على يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن زينب امرأة عبد
الله عن عبد الله.. وقد اختلفوا عليه في إسناده ومتنه.(6/1163)
أما الإسناد، فقال
أبو معاوية: حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار به. هكذا أخرجه
أحمد، وأبو داود، ومن طريقه البيهقي (9 / 350) وكذا البغوي في " شرح
السنة " (12 / 156 - 157) من طريق أخرى عن أبي معاوية به. وخالفه عبد الله
بن بشر، فقال في إسناده: عن ابن أخت زينب. مكان " ابن أخي زينب "! وهي
رواية ابن ماجه. وخالفهما محمد بن مسلمة الكوفي، فجعل عبد الله بن عتبة بن
مسعود، مكان ابن أخي أو أخت زينب. أخرجه الحاكم (4 / 417 - 418) وقال: "
صحيح الإسناد على شرط الشيخين "! ووافقه الذهبي! وهذا من أوهامهما، فإن
يحيى بن الجزار ليس من رجال البخاري مطلقا، ومحمد بن مسلمة الكوفي لم نجد له
ذكرا في كتب الرجال، بل ولم يذكره المزي في الرواة عن الأعمش، ولا في شيوخ
الراوي عنه: موسى بن أعين، فكيف يكون إسناده على شرط الشيخين، بل كيف يكون
صحيحا؟! بل إن إسناده منكر لمخالفته لأبي معاوية وعبد الله بن بشر، وهما
ثقتان على خلاف في ابن بشر يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وثمة اختلاف آخر في
الإسناد، فضيل بن عمرو عن يحيى بن الجزار قال: دخل عبد الله على امرأة وفي
عنقها شيء معقود، فجذبه فقطعه ثم قال.. فذكر القصة مختصرة وحديث الترجمة.(6/1164)
وهو رواية ابن حبان من طريق ابن فضيل عن العلاء بن المسيب عنه. وهذا مرسل كما
ترى، فإن ابن الجزار تابعي أسقط الراوي الواسطة بينه وبين ابن مسعود التي
اتفقت الروايات السابقة على إثباتها على ما بينها من الاختلاف. وكنت خشيت في
" الصحيحة " أن تكون الواسطة سقطت من الناسخ، فتساءلت هناك قائلا: " قلت:
وسقط ذكره من كتاب ابن حبان، فلا أدري أكذلك الرواية عنده أم سقط من الناسخ؟ "
. والآن تبين لي أن لا سقط من الناسخ، وأن الرواية هكذا وقعت لابن حبان،
فإنها كذلك هي في " الإحسان "، وبخاصة أن ابن فضيل قد تابعه النضر بن محمد عن
العلاء بن المسيب به. أخرجه الطبراني (10 / 262 / 10503) . والخلاصة: أن
الرواة قد اختلفوا على يحيى بن الجزار على ثلاثة وجوه: الأول: عنه عن ابن أخي
زينب. الثاني: عنه عن ابن أخت زينب. الثالث: عنه مرسلا دون ذكر الابن.
والأكثر على إثباته كما رأيت، فهو علة الإسناد، لأنه مجهول كما قال المنذري في
" الترغيب " (4 / 158) و " مختصر السنن " (5 / 363) . فمن الغرائب قول
الحافظ في " التقريب ": " كأنه صحابي، ولم أره مسمى "! كذا قال، وكنت
نقلته عنه قديما في " الصحيحة "، دون أن يفتح لي بشيء عليه، والآن أقول:(6/1165)
إنه مجرد ظن منه لا دليل عليه، فإني أقول: ألا يحتمل أن يكون ابن صحابي؟ بل
لعل هذا أولى. ذاك هو وجه الاختلاف في الإسناد على يحيى بن الجزار. وأما
الاختلاف عليه في متنه فهو واسع، ولكني اقتصر الآن على ما لابد لي من بيانه،
فأقول: هي في الجملة تختلف طولا وقصرا، فأطولها رواية أبي معاوية عند أحمد
والبغوي، واختصر بعضها أبو داود، ونحوها في الطول رواية عبد الله بن بشر عند
ابن ماجه. وفي الروايتين أن زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما كانت تختلف
إلى رجل يهودي فيرقيها! وهذا مستنكر جدا عندي أن تذهب صحابية جليلة كزينب هذه
إلى يهودي تطلب منه أن يرقيها!! إنها والله لإحدى الكبر. فالحمد لله الذي لم
يصح السند بذلك إليها. ونحوها في النكارة: ما جاء في آخر رواية ابن بشر أن
ابن مسعود رضي الله عنه قال لزينب: " لو فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان خيرا لك وأجدر أن تشفين: تنضحين في عينيك الماء، وتقولين: أذهب
البأس رب الناس.. " إلخ الدعاء المعروف. فذكر النضح، إنما تفرد به عبد الله
بن بشر دون أبي معاوية، وهذا أوثق منه وأحفظ، ولاسيما وهو مختلف فيه،
فقال الحافظ في " التقريب ": " اختلف فيه قول ابن معين وابن حبان، وقال أبو
زرعة: لا بأس به.. وحكى البزار أنه ضعيف في الزهري خاصة ". قلت: فمثله
إنما يكون حديثه حسنا فقط إذا لم يخالف، أما مع المخالفة فلا،(6/1166)
فكيف وفوقه
ذاك المجهول الذي لم يعرف حتى في اسمه، وعليه دارت أكثر طرق الحديث، وبعضهم
أسقطه سهوا أو عمدا لجهالته. وأخيرا أقول: العمدة في تصحيح حديث الترجمة
إنما هو طريق قيس بن السكن الأسدي الذي صدرنا به هذا التخريج. والله الموفق.
(تنبيه) : على ضوء هذا البيان والتحقيق والتفصيل أرجو من إخواني الكرام
الذين قد يجدون في بعض مؤلفاتي القديمة ما قد يخالف ما هنا أن يعدلوه ويصوبوه
على وفق ما هنا كمثل ما في " غاية المرام " من تصحيح حديث ابن ماجه الذي فيه ما
سبق بيانه من تلكم الزيادتين المنكرتين. وشكرا. ثم وقفت على ما هو أنكر عندي
من استرقاء امرأة ابن مسعود باليهودي، وهو ما روى يحيى بن سعيد عن عمرة بنت
عبد الرحمن أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي، ويهودية ترقيها،
فقال أبو بكر: " ارقيها بكتاب الله ". أخرجه مالك في " الموطأ " (3 / 121)
وابن أبي شيبة (8 / 50 / 3663) والخرائطي في " مكارم الأخلاق " (2 / 977 /
1105) والبيهقي (9 / 349) من طرق عنه. قلت: وهذا إسناد رواته ثقات لكنه
منقطع، فإن عمرة هذه لم تدرك أبا بكر رضي الله عنه، فإنها ولدت بعد وفاته
بثلاث عشرة سنة. نعم في رواية للبيهقي من طريق محمد بن يوسف قال: ذكر سفيان
عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندها
يهودية.. إلخ.(6/1167)
كذا قال: " عن عائشة "، فوصله عنها، وأظن أنه من محمد بن
يوسف، وهو الفريابي. وهو ثقة فاضل ملازم لسفيان، وهو الثوري، ومع ذلك
فقد تكلم ابن عدي وغيره في بعض حديثه عنه، فأخشى أن يكون وصله لهذا الإسناد
مما تكلموا فيه، فيكون شاذا لمخالفته لتلك الطرق التي أرسلته، أو يكون الخطأ
ممن دونه، فإنهم دونه في الرواية. بعد هذا البيان والتحقيق لا أرى من الصواب
قول ابن عبد البر في " التمهيد " (5 / 278) جازما بنسبته إلى الصديق: " وقد
جاء عن أبي بكر الصديق كراهية الرقية بغير كتاب الله، وعلى ذلك العلماء،
وأباح لليهودية أن ترقي عائشة بكتاب الله "! ثم إنه من غير المعقول أن يطلب
الصديق من يهودية أن ترقي عائشة، كما لا يعقل أن يطلب منها الدعاء لها،
والرقية من الدعاء بلا شك، فإن الله عز وجل يقول: * (وما دعاء الكافرين إلا
في ضلال) *. ويزداد الأمر نكارة إذا لوحظ أن المقصود بـ " كتاب الله " القرآن
الكريم، فإنها لا تؤمن به ولا بأدعيته. وإن كان المقصود التوراة، فذلك مما
لا يصدر من الصديق، لأنه يعلم يقينا أن اليهود قد حرفوا فيه، وغيروا وبدلوا.
2973 - " كان إذا أراد أن يزوج بنتا من بناته جلس إلى خدرها، فقال: إن فلانا يذكر
فلانة - يسميها، ويسمي الرجل الذي يذكرها - فإن هي سكتت، زوجها، أو كرهت
نقرت الستر، فإذا نقرته لم يزوجها ".
روي من حديث عائشة وأبي هريرة وأنس بن مالك.(6/1168)
1 - أما حديث عائشة، فله
عنها طريقان: الأول: عن أيوب بن عتبة عن يحيى عن أبي سلمة عنها قالت: فذكره
. أخرجه أحمد (6 / 78) . قلت: ورجاله ثقات رجال الشيخين غير أيوب بن عتبة،
فإنه ضعيف كما في " التقريب ". والآخر: يرويه فضيل أبو معاذ عن أبي حريز عن
الشعبي عن عائشة به مختصرا دون قوله: " فإن هي سكتت.. " إلخ. أخرجه ابن عدي
في " الكامل " (4 / 160) وأبي يعلى (8 / 4883) وعلقه البيهقي (7 / 123)
. قلت: وإسناده حسن ولاسيما في المتابعات، رجاله كلهم ثقات غير أن أبا حريز
، واسمه عبد الله بن حسين البصري كان يخطىء كما في " التقريب ". 2 - وأما
حديث أبي هريرة، فله طريقان أيضا: الأولى: عن أبي الأسباط عن يحيى بن أبي
كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله
عنه قالا: فذكره نحو حديث الترجمة أخرجه البيهقي في " السنن " (7 / 123)
وقال: " كذا رواه أبو الأسباط الحارثي، وليس بمحفوظ، والمحفوظ من حديث يحيى
مرسل ". ثم ساقه هو وعبد الرزاق في " المصنف " (6 / 141 - 142) من طريقين
عن يحيى بن أبي كثير عن المهاجر بن عكرمة المخزومي قال: فذكره.(6/1169)
وهذا بلا شك
أصح مرسلا، والمهاجر مجهول الحال. لكن قد جاء مسندا عن أبي هريرة بطريق أخرى
خير من هذه، فإن أبا الأسباط الحارثي - واسمه بشر بن رافع - ضعيف. ومن
طريقه أخرجه الطبراني أيضا كما سيأتي قريبا بإذن الله تعالى. والأخرى: قال
البزار في " مسنده " (2 / 160 / 1421 - كشف الأستار) : حدثنا زكريا بن يحيى
حدثنا شبابة حدثنا المغيرة بن مسلم عن هشام عن محمد بن سيرين عنه به مثل حديث
الترجمة دون جملة النقر. وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات من رجال " التهذيب "
غير زكريا بن يحيى، وهو ابن أيوب، أبو علي الضرير، له ترجمة في " تاريخ
بغداد " (8 / 457) برواية جمع من الثقات الحفاظ غير البزار، فمثله يمشي
الحفاظ النقاد حديثه، وبخاصة في الشواهد والمتابعات، ولعله لذلك قال
الهيثمي في " المجمع " (4 / 278) : " رواه البزار، ورجاله ثقات ". وأقره
الحافظ في " مختصر زوائد مسند البزار " (1 / 575 / 1019) . 3 - وأما حديث
ابن عباس، فله أيضا طريقان: أما الأول، فيرويه أبو الأسباط عن يحيى بن أبي
كثير عن عكرمة عنه. أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (11 / 355 / 11999)
من طريق يحيى الحماني: حدثنا حاتم بن إسماعيل عنه. وقال الهيثمي (4 / 278)
: " رواه الطبراني، وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وقد وثق، وفيه ضعف
". قلت: قد تابعه هشام بن بهرام، وهو ثقة عند البيهقي في حديث أبي هريرة
المتقدم / الطريق الأول، وإنما علة هذا الإسناد ضعف أبي الأسباط هذا كما تقدم
هناك.(6/1170)
والطريق الآخر، يرويه بقية بن الوليد: أخبرنا إبراهيم بن أدهم حدثني
أبي أدهم ابن منصور عن سعيد بن جبير عنه به مختصرا نحوه دون قوله: " يسميها..
" إلخ. أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (4 / 574) . وأدهم بن منصور لم
أجد من ترجمه، وسائر رواته موثقون. 4 - وأما حديث أنس، فيرويه عثمان بن
عبد الرحمن الطرائفي عن عبد العزيز بن الحصين عن ثابت البناني عنه نحوه. أخرجه
الطبراني في " المعجم الأوسط " (2 / 146 / 1 / 7255) وقال: " لم يروه عن
ثابت إلا عبد العزيز بن الحصين، تفرد به عثمان بن عبد الرحمن ". قلت: قال
الحافظ: " صدوق، أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل فضعف بسبب ذلك، حتى
نسبه ابن نمير إلى الكذب، وقد وثقه ابن معين ". وعبد العزيز بن الحصين من
أولئك الضعفاء المشار إليهم، وقد أجمعوا على تضعيفه. وخالف الحاكم فأخرج له
في " المستدرك "، وقال: " إنه ثقة "، وكذلك تعجب منه الحافظ في " اللسان "
. وقال الهيثمي: " رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه عبد العزيز بن الحصين
، وهو ضعيف ". والخلاصة: إن الحديث صحيح بمجموع طرقه، وبخاصة أن الطريق
الثاني لحديث أبي هريرة حسن لذاته كما تقدم فهو بها صحيح. والله أعلم.(6/1171)
وفي
الباب عن عمر، لكن في متنه نكارة، فإن فيه: " يا بنية إن فلانا قد خطبك،
فإن كرهته فقولي: " لا "، فإنه لا يستحي أحد أن يقول: " لا "، وإن أحببت
فإن سكوتك، إقرار ". ولذلك خرجته في الكتاب الآخر " الضعيفة " (4166) .
2974 - " أمرنا بأربع، ونهانا عن خمس: 1 - إذا رقدت فأغلق بابك، 2 - وأوك سقاءك،
3 - وخمر إناءك، 4 - وأطف مصباحك، فإن الشيطان لا يفتح بابا، ولا يحل
وكاء، ولا يكشف غطاء، وإن الفأرة الفويسقة تحرق على أهل البيت بيتهم. 1 -
ولا تأكل بشمالك، 2 - ولا تشرب بشمالك، 3 - ولا تمش في نعل واحدة، 4 -
ولا تشتمل الصماء، 5 - ولا تحتب في الإزار مفضيا ".
أخرجه بهذا التمام ابن حبان (1342 - موارد) : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن
موسى - عبدان -: حدثنا محمد بن معمر حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير
عن جابر قال: فذكره مرفوعا.(6/1172)
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات
على شرط مسلم، وقد صرح ابن جريج وأبو الزبير بالتحديث كما يأتي، غير شيخ
ابن حبان: عبدان، وهو الأهوازي، وهو حافظ حجة، له ترجمة جيدة في " تذكرة
الحفاظ " و " السير " (14 / 168 - 172) . وأخرجه أبو عوانة في " صحيحه " (5
/ 508) وأحمد (3 / 297 - 298 و 322) وكذا مسلم (6 / 154) من طرق عن ابن
جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله.. فذكر المناهي الخمس دون
النهي عن الشرب، وذكر مكانها: " ولا تضع إحدى رجليك على الأخرى إذا استلقيت
". وزاد أحمد: " قلت لأبي الزبير: أوضعه رجله على الركبة مستلقيا؟ قال:
نعم. قال: أما (الصماء) - فهي إحدى اللبستين -: تجعل داخلة إزارك وخارجته
على إحدى عاتقيك. قلت لأبي الزبير: فإنهم يقولون " لا يحتبي في إزار واحد
مفضيا؟ قال: كذلك سمعت جابرا يقول: لا يحتبي في إزار واحد. قال حجاج عن ابن
جريج: قال: عمر ولى (1) مفضيا ". ثم روى مسلم وأبو عوانة وغيرهما من طرق
أخرى عن أبي الزبير النواهي الأربع، وفي رواية لهما: " وأن يحتبي في ثوب
واحد كاشفا عن فرجه ". زاد أبو عوانة في رواية له:
_________
(1) كذا الأصل ولم أفهمه. ولعل الصواب " قال (عمرو) لي: "، وعمرو هو
ابن دينار. اهـ.(6/1173)
" مفضيا إلى السماء ".
وأخرجه أحمد (3 / 362) من طريق حماد: أنبأنا أبو الزبير به، فذكر الحديث
بتمامه بأوامره ونواهيه، مع اختصار بعض الخصال، وزاد: " وأن نكف فواشينا
حتى تذهب فحمة العشاء ". وتابعه الليث بن سعد عن أبي الزبير بالشطر الأول من
الحديث دون النواهي ودون الكف. أخرجه مسلم (6 / 105) وغيره. وهو مخرج في
" الإرواء " (39) ورواه عطاء بن أبي رباح عن جابر عند الشيخين، وقد سقت
لفظه وخرجته هناك. بقي شيء واحد، وهو أنني في كل الطرق المتقدمة ومن
المصادر المختلفة، لم أجد الخصلة الثانية من النواهي الخمس: " ولا تشرب
بشمالك "، فأخشى أن تكون وهما من بعض الرواة، دخل عليه حديث في حديث كما يقع
ذلك من بعضهم أحيانا، فإن هذه الخصلة ثابتة في أحاديث أخرى منها حديث ابن عمر
بلفظ: " لا يأكلن أحد منكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله
، ويشرب بها ". وهو مخرج فيما تقدم مع غيره مما هو بمعناه (1236) . (
تنبيه على أمور) : الأول: وقعت الجملة الأخيرة من النواهي في " الموارد "
هكذا: " ولا تحتب والإزار مفضي ". وفي " الإحسان " (4 / 89 / 1273 /
المؤسسة) :(6/1174)
" ولا تحتب في الدار مفضيا ". وزاد تحريفا في الطبعة الأخرى (
رقم 1270) : " ولا تخبب في الدار مفضيا "!! وشرحه الجاهل في التعليق عليه
بقوله: " الخبب ضرب من العدو. النهاية 2 / 3 "! فأقول: نعم هذا هو معنى "
الخبب "، ولكن ما علاقته بهذه الفقرة هنا، وما معناها؟! أهكذا يكون ضبط
النص من القائم على " مركز الخدمات والأبحاث العامة "؟! أم الأمر كما قال صلى
الله عليه وسلم: " من تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور "؟! الثاني: لقد
أطال المعلق على طبعة المؤسسة من " الإحسان " في تخريج الحديث، وعزاه لجمع من
المؤلفين منهم مسلم دون أن ينبه على الفرق بين رواية ابن حبان، ورواية مسلم
وغيره التي ليس فيها جملة: " ولا تشرب بشمالك "، ولا لفظة " الإفضاء "،
فضلا عن قوله في أول الحديث: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع،
ونهانا عن خمس "، فأوهم القراء أن الحديث عند مسلم والآخرين بهذا التمام،
أفهكذا يكون التحقيق؟! الثالث: تفسير أبي الزبير للفظ " الصماء " بأن يجعل
داخلة إزاره وخارجته على عاتقه. أقول: لعل هذا يرجح تفسير الفقهاء لـ "
الصماء "، وهو قولهم: أن يتغطى بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد
جانبيه فيضعه على منكبه فتنكشف عورته، وذلك لأن راوي الحديث أدرى بمرويه من
غيره، ولاسيما إذا كان تابعيا كأبي الزبير، لأنه في هذه الحالة يغلب على
الظن أنه تلقاه من صحابي الحديث، وهو جابر رضي الله عنه. والله سبحانه
وتعالى أعلم.(6/1175)
2975 - " لا ألبسه أبدا. يعني خاتم الذهب ".
أخرجه ابن حبان في " صحيحه " (7 / 412 / 5468 - الإحسان) : أخبرنا عبد الله
بن محمد الأزدي قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن الحارث
المخزومي قال: حدثنا ابن جريج قال: حدثني زياد بن سعد، أن ابن شهاب أخبره أن
أنس بن مالك أخبره: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يوما
خاتما من ذهب، فاضطرب الناس الخواتيم (1) ، فرمى به وقال: فذكره. قلت:
وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير المخزومي فهو من رجال مسلم،
وغير الأزدي شيخ ابن حبان، وهو حافظ ثقة مترجم في " السير " (14 / 166)
و" الشذرات " (2 / 246) وغيرهما. ولهذا الإسناد علتان غريبتان، إحداهما
الاختلاف على عبد الله بن الحارث المخزومي. والأخرى شذوذ ابن شهاب الزهري عن
الأحاديث الأخرى. أما العلة الأولى، فقال أحمد (3 / 206) : حدثنا روح حدثنا
ابن جريج، وعبد الله بن الحارث عن ابن جريج قال: أخبرني زياد بن سعد به إلى
قوله: " فطرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتيمهم ". لم يذكر
حديث الترجمة: " لا ألبسه أبدا "، وقال: " من ورق ". فهذا اختلاف ظاهر بين
إسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه -، وبين أحمد بن حنبل، على المخزومي
شيخهما، فالأول ذكر حديث الترجمة بخلاف الآخر، وكلاهما إمام ثقة حافظ حجة.
_________
(1) أي: اصطنعوها، في " النهاية ": اضطرب خاتما من ذهب "، أي أمر أن يضرب
أو يصاغ، وهو افتعل من (الضرب) : الصياغة، والطاء بدل التاء ". اهـ.(6/1176)
والعلة الأخرى - وهي أهم من الأولى - أن في حديث ابن راهويه: " خاتما من ذهب
"، وفي حديث أحمد: " خاتما من ورق "، أي فضة، ويبدو جليا لكل باحث أن هذا
هو الأرجح المحفوظ عن ابن جريج لمتابعة روح - وهو ابن عبادة، شيخ أحمد أيضا -
للمخزومي عنده. وقد أخرج هذه الرواية مسلم أيضا (6 / 152) من طريق ابن نمير
: حدثنا روح به. وتابعه عنده أبو عاصم عن ابن جريج به. وهشام بن سليمان عند
أبي الشيخ في " أخلاقه " (114) . وتابع ابن جريج إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب
به. أخرجه مسلم، وأبو داود (4221) وأحمد (3 / 160 و 223) وعلقه
البخاري - كما يأتي -، وابن حبان (5466) وأبو يعلى (3538) . ويونس بن
يزيد الأيلي عن ابن شهاب به. أخرجه البخاري (5868) وقال: " تابعه إبراهيم
بن سعد وزياد وشعيب، عن الزهري، وقال ابن مسافر: عن الزهري: أرى خاتما
من ورق ". ورواية شعيب وصلها الإسماعيلي كما قال الحافظ في " الفتح " (10 /
321) وفاته أنه وصلها أحمد أيضا (3 / 225) . ورواية ابن مسافر - وهو عبد
الرحمن بن خالد بن مسافر، وهو ثقة من رجال الشيخين - وصلها الإسماعيلي أيضا
من طريق سعيد بن عفير عن الليث عنه، قال الحافظ: " وليس فيه لفظ: " أرى "،
فكأنها من البخاري ". قلت: أستبعد جدا أن تكون زيادة منه، بل هي الرواية
وقعت هكذا لابن(6/1177)
مسافر أو من دونه، لأنه لا يجوز الزيادة في الرواية بالرأي دون
بيانها، وإلا كان ذلك سببا لإسقاط الثقة بأحاديث الثقات كما لا يخفى. وهناك
متابعات أخرى نكتفي منها بما قدمنا، وكلها متفقة على أن المحفوظ عن الزهري في
حديثه عن أنس إنما هو بلفظ: " خاتم من ورق "، وهذا مشكل، لأن المحفوظ في
هذه القصة من حديث ابن عمر، من رواية نافع وعبد الله بن دينار عنه أن الخاتم
المطروح من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الناس إنما هو خاتم الذهب، وهو
الذي قال فيه: " لا ألبسه أبدا ". رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في "
مختصر الشمائل " (63 / 84) . ولذلك قال ابن عبد البر في " التمهيد " (17 /
100) عقب حديث الزهري هذا: " وهذا غلط عند أهل العلم، والمعروف أنه إنما
نبذ خاتما من ذهب لا من ورق "، ثم قال: " المحفوظ في هذا الباب عن أنس غير ما
قال ابن شهاب من رواية جماعة من أصحابه عنه، قد ذكرنا بعضهم ". وذكر الحافظ
نحوه في " الفتح " (10 / 320) وقال: " قال النووي تبعا لعياض: قال جميع
أهل الحديث: هذا وهم من ابن شهاب، لأن المطروح ما كان إلا خاتم الذهب،
ومنهم من تأوله كما سيأتي ". ثم ذكر بعض التأويلات التكلف فيها ظاهر، ولا
عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دام أن أهل الحديث حكموا
بوهم ابن شهاب، فلا مسوغ للتأويل.(6/1178)
والخلاصة: أن حديث الترجمة شاذ عن الزهري
عن أنس، والمحفوظ عنه حديث آخر، وفيه أن الخاتم " من ورق "، ولذلك لم
يخرجه مسلم، وإنما أخرجه هو والبخاري من حديث ابن عمر. ولهذا فقد أخطأ
المعلق على " الإحسان " (12 / 305) بعزوه إياه لمسلم.
2976 - " إذا صلى أحدكم فأحدث، فليمسك على أنفه، ثم لينصرف ".
أخرجه ابن ماجه (1222) عن عمر بن علي المقدمي عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. ومن طريق عمر بن قيس عن
هشام بن عروة به. قلت: وهذا إسناد ضعيف من الوجهين، ورجال الأول ثقات كلهم
، إلا أن المقدمي يدلس تدليسا سيئا، قال الذهبي: " ثقة شهير، لكنه رجل مدلس
، قال ابن سعد: ثقة يدلس تدليسا شديدا، يقول: " سمعت " و " حدثنا " ثم يسكت
، ثم يقول: " هشام بن عروة "، و " الأعمش "، وقال ابن معين: ما به بأس،
وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال: لولا تدليسه لحكمنا له إذا جاء بزيادة،
غير أنا نخاف أن يكون أخذها عن غير ثقة ". ورجال الوجه الآخر ثقات أيضا غير
عمر بن قيس، وهو المكي المعروف بـ (سندل) ، وهو متروك كما في " التقريب "
، فأخشى أن يكون مدار الحديث عليه، وأن يكون المقدمي تلقاه عنه، ثم دلسه.
والله أعلم. ثم وقفت على متابعين له ثقات، فصح الحديث بذلك والحمد لله،
وخرجتهم في " صحيح أبي داود " (1020) .(6/1179)
2977 - " ألق عنك شعر الكفر، واختتن. قاله لرجل أسلم ".
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (6 / 10 / 9835) ومن طريقه أحمد (3 / 415)
وأبو داود (356) ومن طريقه البيهقي (1 / 172) والطبراني في " المعجم
الكبير " (22 / 395 - 396) كلهم من طريق عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج قال:
أخبرت عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده: أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال
: " قد أسلمت "، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ألق عنك شعر الكفر،
يقول: احلق ". قال: وأخبرني آخر عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لآخر
: فذكره. قلت: وهذا إسناد مجهول، لجهالة شيخ ابن جريج الذي لم يسم، وكذا
عثيم ومن فوقه، وفي إسناده خلاف ذكرته في " صحيح أبي داود " (382) .
وأريد أن أنبه هنا أن ابن حبان أورد عثيما هذا في " ثقاته " (7 / 303) ، مع
أنه ذكر أنه روى عنه ابن جريج عن رجل عنه يشير إلى هذه الرواية، فهذا ينافي
بعض الشروط التي وضعها لرواة كتابه هذا في مقدمته (1 / 11 - 13) وشروط رواة
أحاديث كتابه " الصحيح " التي ذكرها في مقدمته أيضا (1 / 83 - 84) . فراجع إن
شئت. لكن هذا الحديث حسن المتن عندي تبعا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
كما كنت ذكرت في " صحيح أبي داود "، لحديث قتادة أبي هشام قال: " أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " يا قتادة اغتسل بماء وسدر، واحلق عنك
شعر الكفر ". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر من أسلم أن يختتن،
وإن كان ابن ثمانين ". وقلت هناك:(6/1180)
" قال الهيثمي (1 / 283) : " رواه
الطبراني في " الكبير "، ورجاله ثقات " كذا قال، وأما الحافظ فقال في "
التلخيص " (4 / 618) : " وإسناده ضعيف ". قلت: وعلى كل حال يعطي الحديث
قوة، ولعله من أجل ذلك جزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله في " الفتاوى " (1 / 44) .. ". ثم طبع المعجم الذي فيه
هذا الحديث، فرأيته فيه (19 / 14 / 20) من طريق قتادة بن الفضل بن قتادة
الرهاوي عن أبيه: حدثني عم أبي هاشم بن قتادة الرهاوي عن أبيه. فتبين لي صواب
تضعيف الحافظ لإسناده، وخطأ توثيق شيخه الهيثمي لرجاله، لأن عمدته في ذلك
على ابن حبان، فقد أورد كلا من (هاشم بن قتادة الرهاوي) و (الفضل بن قتادة
الرهاوي) في " ثقاته " (5 / 503) و (7 / 317) ، من المعروف تساهل ابن حبان
في التوثيق، ولاسيما والرجلان لا يعرفان إلا بهذا الإسناد، وله حديث آخر
كنت خرجته في " الضعيفة " (5941) لتجرده عن شاهد، بخلاف هذا، فشاهده حديث
الترجمة. وله شاهد مختصر جدا في الختان من رواية الزهري قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " من أسلم فليختتن ولو كان كبيرا ". رواه حرب بن
إسماعيل كما قال الحافظ في " التلخيص " (4 / 82 / 1806 - تعليق اليماني المدني
) وعزاه السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 114) للبيهقي، أطلقه، وذلك
يعني " السنن الكبرى " له، ولم أره فيه، وقد أبعد النجعة، فقد أخرجه
الإمام البخاري في " الأدب المفرد " (322 / 1252) : حدثنا عبد العزيز بن عبد
الله الأويسي قال: حدثني سليمان بن بلال عن يونس عن ابن شهاب قال:(6/1181)
" كان
الرجل إذا أسلم أمر بالاختتان وإن كان كبيرا ". وهذا إسناد صحيح مقطوع أو
موقوف، فإن الظاهر أن الإمام الزهري لا يعني أن ذلك كان في عهد النبي صلى الله
عليه وسلم، ولصحة إسناده عنه أوردته في كتابي الجديد " صحيح الأدب المفرد " (
484 / 948 / 1252) . والله سبحانه وتعالى أعلم. وترجم له البخاري فيه بـ "
باب اختتان الكبير "، وساق تحته حديث أبي هريرة: " اختتن إبراهيم صلى الله
عليه وسلم، وهو ابن عشرين ومئة "، وهو موقوف، والصحيح مرفوع بلفظ: "..
بعد ثمانين سنة "، وقد رواه فيه قبل أبواب برقم (1244) وهو مخرج في "
الإرواء " (78) وقد احتج به أحمد لختان الكبير، فروى الخلال في " الوقوف
والترجل " (146 / 183) عن حنبل أنه سأل أبا عبد الله عن الذمي إذا أسلم؟ قلت
له: ترى أن يطهر بالختانة؟ قال: " لابد له من ذلك ". قلت: فإن كان كبيرا
أو كبيرة؟ قال: أحب إلي أن يتطهر، لأن الحديث: " اختتن إبراهيم وهو ابن
ثمانين سنة "، قال الله: * (ملة أبيكم إبراهيم) *. قيل له: فإن كان يخاف
عليه؟ قال: وإن كان يخاف عليه، كذلك يرجى له السلامة. وفي رواية: لابد
له من الطهارة، هذه نجاسة يعني: الأقلف. ثم روى الخلال عن الإمام أحمد أنه
سئل عن حج الأقلف؟ فقال: ابن عباس كان يشدد في أمره، روي عنه أنه لا حج ولا
صلاة له. قيل له: فما تقول؟ قال:(6/1182)
يختتن ثم يحج. ثم ذكر عنه رواية أخرى
فيها التسهيل في أمر الأقلف. والظاهر أن ذلك إذا خاف على نفسه. والله أعلم
. (تنبيه) : انقلب على الشوكاني حديث الزهري المتقدم (ص 1181) ، فجعله في
كتابه " نيل الأوطار " (1 / 98) من حديث أبي هريرة، وقال عقبه: " وقد
ذكره الحافظ في " التلخيص " ولم يضعفه "! وقلده على هذا الوهم المعلق على "
كتاب الوقوف والترجل " (ص 148) والحافظ إنما ذكره من حديث الزهري كما سبق.
وتنبيه آخر: وهو أن أخانا الفاضل حمدي السلفي قال بعد أن بين ضعف إسناد حديث
الترجمة: " لكن للحديث شاهدان من حديث واثلة بن الأسقع، وقتادة أبي هشام ".
فأقول: حديث قتادة هذا تقدم. وأما حديث واثلة، فهو شاهد قاصر لأنه ليس فيه
: " واختتن "، وهو مخرج عندي في " صحيح أبي داود " تحت حديث الترجمة، وفي
" الروض النضير " برقم (893) .
2978 - " يا فاطمة! (هي بنت قيس) إن الحق [عز وجل] لم يبق لك شيئا. قاله صلى
الله عليه وسلم لها حين قالت: خذ من طوقي الذهبي ما فرض الله ".
أخرجه أبو الشيخ في جزئه " انتقاء ابن مردويه " (83 / 30 - طبع الرشد) ،(6/1183)
قال
: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث حدثنا محمد بن المغيرة حدثنا النعمان حدثنا
أبو بكر: أخبرني شعيب بن الحباب عن الشعبي قال: سمعت فاطمة بنت قيس رضي
الله عنها تقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب
، فقلت: يا رسول الله! خذ منه الفريضة التي جعل الله فيه. قالت: فأخذ رسول
الله صلى الله عليه وسلم مثقالا وثلاثة أرباع مثقال، فوجهه. قالت: فقلت:
يا رسول الله! خذ منه الذي جعل الله فيه. قالت: فقسم رسول الله على هذه
الأصناف الستة، وعلى غيرهم، فقال: فذكره. [قالت:] قلت: يا رسول الله!
رضيت لنفسي ما رضي الله عز وجل به ورسوله. قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله
كلهم ثقات من رجال " التهذيب " إلى (النعمان) وهو ابن عبد السلام الأصبهاني
. وأما الراوي عنه محمد بن المغيرة فهو الأصبهاني صاحب النعمان، ترجمه أبو
الشيخ في " طبقات الأصبهانيين " (1 / 243 - 244) وأبو نعيم في " أخبار
أصبهان " (2 / 185 - 186) برواية جمع من الثقات عنه، وذكرا أنه كان صاحب
عبادة وتهجد، صحب النعمان، وسمع عامة أصوله، توفي سنة (231) ، وذكره
ابن حبان في " الثقات " (6 / 105) . وأما شيخ أبي الشيخ (إبراهيم بن محمد
بن الحارث) ، فقد ترجمه أبو الشيخ في " الطبقات " أيضا (2 / 136) وكذا أبو
نعيم (1 / 188 - 189) ، حدث عنه أبو بكر البرذعي ومحمد بن يحيى بن منده،
سمع من سعيد بن منصور وذهب سماعه، وكان عنده كتب النعمان عن محمد بن المغيرة
. قال أبو الشيخ: " وحضرت مجلسه فجاء أبو بكر البزار، فأخرج إليه كتب
النعمان، فانتخب(6/1184)
عليه، وكتب عنه عن أبيه ". قال: " وكتبنا عنه من الغرائب
ما لم نكتب إلا عنه ". ثم ساق له حديثا واحدا، وهو أبو إسحاق، يعرف بـ (
ابن نائلة) ، من أهل المدينة، و (نائلة) أمه، وساق له أبو نعيم أحاديث
أخرى، عن شيوخ سبعة له عنه، منهم الطبراني، وله في " المعجم الأوسط " أربعة
أحاديث (3081 - 3084 - بترقيمي) وآخر في " المعجم الصغير " رقم (275 -
الروض النضير) . توفي سنة (291) . قلت: وفي الحديث دلالة صريحة على أنه
كان معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الزكاة على حلي النساء،
وذلك بعد أن أمر صلى الله عليه وسلم بها في غير ما حديث صحيح كنت ذكرت بعضها في
" آداب الزفاف "، ولذلك جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها بطوقها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ليأخذ زكاتها منه، فليضم هذا الحديث إلى تلك، لعل في ذلك
ما يقنع الذين لا يزالون يفتون بعدم وجوب الزكاة على الحلي، فيحرمون بذلك
الفقراء من بعض حقهم في أموال زكاة الأغنياء! وقد يحتج به بعضهم على جواز
الذهب المحلق للنساء، والجواب هو الجواب المذكور في الأحاديث المشار إليها
آنفا، فراجعه إن شئت في " الآداب ". على أن هذا ليس فيه أنها تطوق به، بخلاف
بعض تلك الأحاديث، فيحتمل أن فاطمة رضي الله عنها كان قد بلغها الحكمان:
النهي عن طوق الذهب، فانتهت منه، ووجوب الزكاة، فبادرت إلى النبي صلى الله
عليه وسلم ليأخذ منه الزكاة، وهذا هو اللائق بها وبدينها رضي الله عنها.(6/1185)
2979 - " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر
دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال
: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول؟! فعصاه
فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل
فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟! فعصاه فجاهد. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة. ومن قتل
كان حقا على الله أن يدخله الجنة. وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة،
أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة ".
أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " (2 / 2 / 187 - 188) والنسائي (2 / 58
) وابن حبان (385 / 1601 - الموارد) والبيهقي في " شعب الإيمان " (4 / 21
/ 4246) وابن أبي شيبة في " المصنف " (5 / 293) ومن طريقه الطبراني في "
المعجم الكبير " (7 / 138) وأحمد (3 / 483) من طريق أبي عقيل عبد الله بن
عقيل قال: حدثنا موسى بن المسيب عن سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي فاكه
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره. قلت: وهذا إسناد جيد
رجاله كلهم ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر، ولذلك قال الحافظ العراقي في "
تخريج الإحياء " (3 / 29) : " أخرجه النسائي من حديث سبرة بن أبي فاكه بإسناد
صحيح ".(6/1186)
وأقره الزبيدي في شرحه على " الإحياء " (7 / 270) كما أقر المنذري
في " الترغيب " (2 / 173) ابن حبان على تصحيحه، وكذلك قواه الحافظ، ولكنه
أشار إلى أن فيه علة، ولكنها غير قادحة، فقال في ترجمة (سبرة) من "
الإصابة ": " له حديث عند النسائي بإسناد حسن، إلا أن في إسناده اختلافا ".
قلت: هو اختلاف مرجوح لا يؤثر، وقد أشار إليه الحافظ المزي في ترجمة (سبرة
) من " التهذيب "، فإنه ساقه من طريق أحمد، وقال عقبه: " تابعه محمد بن
فضيل عن موسى بن المسيب. ورواه طارق بن عبد العزيز عن محمد ابن عجلان عن موسى
بن المسيب عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن أبي سبرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم ". وذكر مثله في " تحفة الأشراف " (3 / 264) . قلت آنفا: إن هذا
الخلاف لا يؤثر، وذلك لأن محمد بن عجلان لا يعارض به الثقتان عبد الله بن
عقيل ومتابعة محمد بن فضيل، لاسيما وابن عجلان فيه كلام معروف، وهذا يقال
لو صحت المخالفة عنه، فإن الراوي عنه طارق بن عبد العزيز فيه كلام أيضا، وهو
طارق بن عبد العزيز بن طارق الربعي، هكذا نسبه في " الجرح "، وقال عن أبيه:
" ما رأيت بحديثه بأسا في مقدار ما رأيت من حديثه ". ونسبه في " الثقات " (8 / 327) إلى جده، فقال: " طارق بن طارق المكي "، وقال: " ربما خالف
الأثبات في الروايات ". وكذا في " ترتيب الثقات " لابن قطلوبغا (1 / 303 / 2
) وفي " لسان(6/1187)
الميزان " أيضا، لكن تحرف فيه اسم الأب إلى (بارق) وهو من
الطابع فيما أظن. والله أعلم. وقد وصله عنه البيهقي في " الشعب " (رقم
4247) من طريق أبي عبد الله، وهو الحاكم، وليس هو في " المستدرك "،
فالظاهر أنه في كتابه: " التاريخ "، وقال البيهقي عقبه: " هكذا في كتابي (
جابر بن [أبي] سبرة) ، وكذلك رواه أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري عن أبيه
عن ابن عجلان ... وهو في الثاني والسبعين من (التاريخ) ". وكأنه يعني
تاريخ شيخه الحاكم. ووالد أحمد بن أبي بكر اسمه (القاسم بن الحارث بن زرارة
..) كما في ترجمة (أحمد) ، ولم أجد له ترجمة، ولا ذكروه في ترجمة ابنه.
والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم رأيت أبا نعيم قد وصله أيضا في " معرفة
الصحابة " (1 / 125 / 1) من طرق عن طارق بن عبد العزيز بن طارق به. وقال:
" وهذا مما وهم فيه طارق، تفرد بذكر جابر. ورواه ابن فضيل عن موسى أبي جعفر
عن سالم عن سبرة بن أبي فاكه، و [هو] المشهور ". ورواية ابن فضيل هذه
وصلها أبو نعيم في ترجمة (سبرة بن الفاكه) من طرق عنه. وذكر الحافظ في
ترجمة (جابر) حديثه هذا، وقال: " قال ابن منده: غريب تفرد به (طارق) ،
والمحفوظ في هذا عن سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي فاكه ".(6/1188)
وجملة القول
أن الحديث صحيح من رواية سالم عن سبرة رضي الله عنه، وقد صححه من تقدم ذكرهم
، واحتج به ابن كثير في " التفسير " (2 / 204) وساقه ابن القيم في " إغاثة
اللهفان " مساق المسلمات. وأما المعلق عليه (ابن عبد المنان) ، المتخصص في
تضعيف الأحاديث الصحيحة، فقد جزم في تعليقه عليه (1 / 134) بأن إسناده ضعيف
مخالفا في ذلك كل من ذكرنا من المصححين له والمحتجين به، معللا إياه بأن سالم
بن أبي الجعد لم يصرح بالسماع من سبرة. متشبثا في ذلك بما ذهب إليه البخاري
وغيره أنه لا يكفي في الحديث أو الإسناد المعنعن لإثبات اتصاله المعاصرة، بل
لابد من ثبوت اللقاء ولو مرة، خلافا لمسلم وغيره ممن يكتفي بالمعاصرة.
والحقيقة أن هذه المسألة من المعضلات، ولذلك تضاربت فيها أقوال العلماء، بل
العالم الواحد، فبعضهم مع البخاري، وبعضهم مع مسلم. وقد أبان هذا عن وجهة
نظره، وبسط الكلام بسطا وافيا مع الرد على مخالفه، بحيث لا يدع مجالا للشك
في صحة مذهبه، وذلك في مقدمة كتابه " الصحيح "، وكما اختلف هو مع شيخه في
المسألة، اختلف العلماء فيها من بعدهما، فمن مؤيد ومعارض، كما تراه مشروحا
في كتب علم المصطلح، في بحث (الإسناد المعنعن) . ولدقة المسألة رأيت الإمام
النووي الذي انتصر في مقدمة شرحه على " مسلم " لرأي الإمام البخاري، قد تبنى
مذهب الإمام مسلم في بعض كتبه في " المصطلح "، فقال في بيان الإسناد المعنعن
في كتابه " التقريب ": ".. وهو فلان عن فلان، قيل: إنه مرسل. والصحيح
الذي عليه العمل، وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول أنه متصل
بشرط أن لا يكون المعنعن مدلسا، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضا، وفي اشتراط
ثبوت اللقاء، وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه خلاف.. ".(6/1189)
ونحوه في كتابه
" إرشاد طلاب الحقائق " (1 / 185 - 189) . 1 - وهذا الذي صححه النووي في
كتابيه المذكورين، هو الذي تبناه جمع من الحفاظ والمؤلفين في الأصول
والمصطلح، فمنهم: الطيبي في كتابه " الخلاصة في أصول الحديث " (ص 47) ،
والعلائي في " التحصيل " (ص 210) . 2 - والذهبي في رسالته اللطيفة المفيدة:
" الموقظة "، فإنه وإن كان ذكر فيها القولين: اللقاء والمعاصرة، فإنه أقر
مسلما على رده على مخالفه، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فقد أشار في ترجمته في
" سير النبلاء " (12 / 573) إلى صواب مذهبه وقوته، في الوقت الذي صرح بأن
مذهب البخاري أقوى، فهذا شيء، وكونه شرط صحة شيء آخر كما هو ظاهر بأدنى نظر
. 3 - والحافظ ابن كثير في " اختصار علوم الحديث ". 4 - وابن الملقن في "
المقنع في علم الحديث " (1 / 148) وفي رسالته اللطيفة " التذكرة " (16 / 11
) . 5 - والحافظ ابن حجر، فإنه رجح شرط البخاري على نحو ما تقدم عن الذهبي،
فإنه سلم بصحة مذهب مسلم، فقال في " النكت على ابن الصلاح " (1 / 289) مدللا
على الترجيح: " لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال، فلا يخفى أن
شرط البخاري أوضح في الاتصال ". وكذا قال في " مقدمة فتح الباري " (ص 12)
ونحوه في رسالته " نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر " (ص 171 / 61 - بنكت الأخ
الحلبي عليه) . قلت: وكونه أوضح مما لا شك فيه، وكذلك كونه أقوى، كما نص
على ذلك(6/1190)
الإمام الذهبي كما تقدم، فهو كسائر الصفات التي تميز بها " صحيح
البخاري " على " صحيح مسلم " كما هو مسلم به عند جمهور العلماء، فهو شرط كمال
وليس شرط صحة عندهم. 6 - الإمام الصنعاني، فإنه ناقش الحافظ ابن حجر فيما
استدل به لشرط البخاري في بحوث ثلاثة ذكرها في كتابه " توضيح الأفكار "،
وألزمه القول بصحة مذهب مسلم، وإن كان شرط البخاري أقوى. وقد كنت ألزمته
بذلك في تعليق لي موجز، كنت علقته على " نزهته "، نقله عني الأخ الحلبي في "
النكت عليه " (ص 88) ، فليراجعه من شاء. ولقوة الإلزام المذكور، فقد
التزمه الحافظ رحمه الله كما تقدم نقله عنه آنفا، والحمد لله. ثم قال
الصنعاني رحمه الله تعالى (1 / 234) : " وإذا عرفت هذا فمذهب مسلم لا يخلو
عن القوة لمن أنصف، وقد قال أبو محمد بن حزم في " كتاب " الإحكام ": (1)
7 - اعلم أن العدل إذا روى عمن أدركه من العدول فهو على اللقاء والسماع سواء
قال: " أخبرنا " أو " حدثنا "، أو " عن فلان " أو " قال فلان "، فكل ذلك
محمول على السماع منه. انتهى. قلت: ولا يخفى أنا قد قدمنا عنه خلاف هذا في
حديث (المعازف) فتذكره ".
_________
(1) قلت: ذكر ذلك في بحث له في المدلس (1 / 141 - 142) وهو من حجتنا على
ابن حزم ومن قلده من الغابرين والمعاصرين في إعلال حديث (المعازف) الذي
رواه البخاري معلقا على هشام بن عمار بالانقطاع بينهما. وقد فصلت القول في
الرد عليه تفصيلا في كتاب خاص سيصدر قريبا إن شاء الله تعالى.(6/1191)
هذا وإن مما يسترعي الانتباه ويلفت النظر - أن
المذكورين من الحفاظ والعلماء جروا فيما كتبوا في " علم المصطلح " على نحو مما
جرى عليه سلفهم في التأليف، أعني به ابن الصلاح في " مقدمته "، وقلما
يخالفونه، وإنما هم ما بين مختصر وملخص ومقيد وشارح، كما يعلم ذلك الدارس
لمؤلفاتهم فيه، وهذه المسألة مما خالفوه فيها، فإن عبارة النووي المتقدمة في
الاكتفاء بالمعاصرة وإمكانية اللقاء هي منه تعديل لعبارة ابن الصلاح المصرحة
بشرطية ثبوت اللقاء، وعلى هذا التعديل جرى المذكورون آنفا، وأكدوا ذلك
علميا في تصحيحهم للأحاديث المروية بأسانيد لا يمكن التحقق من ثبوت التلاقي بين
الرواة في كل الطبقات، هذا يكاد يكون مستحيلا، يعرف ذلك من مارس فن التخريج،
ولم يكن من أهل الأهواء، وها هو المثال بين يديك، فهذا الحديث من رواية
سالم بن أبي الجعد عن سبرة رضي الله عنه، فقد صححه من تقدم ذكرهم، ومنهم
الحافظ العراقي الذي أقر في شرحه على " المقدمة " ابن الصلاح على شرطية اللقاء
، ولم أجد له قولا يوافق الذين اكتفوا بالمعاصرة، ومع ذلك فقد وافقهم عمليا
حين صحح إسناد هذا الحديث، فإن سالما هذا لم نر من صرح بلقائه لسبرة، ولكنه
مقطوع بتابعيته ومعاصرته للصحابة، بل وروايته عن جمع منهم، ونصوا أنه لم
سمع من بعضهم، وليس منهم (سبرة) ، هذا، ومع ذلك فقد تشبث مضعف الأحاديث
الصحيحة، ومخرب كتب الأئمة بالتعليق عليها - بشرطية اللقاء، فقال في تعليقه
على كتاب ابن القيم " إغاثة اللهفان " (1 / 134) : " إسناده ضعيف، فإن سالما
لم يرو عن سبرة غير هذا الحديث، ولم يصرح بالسماع منه، وهو معروف بالإرسال
عن جمع من الصحابة، فلا يثبت له الحديث إلا إذا صرح بالسماع منه.. "! فيقال
له: أثبت العرش ثم انقش! فإن الشرط المذكور ليس لك عليه دليل إلا(6/1192)
التقليد،
وأنت تتظاهر بأنك لا تقلد، وهذا أمر واجب لو كنت من أهل العلم بالكتاب والسنة
، وأصول الحديث والفقه، ولا نرى أثرا لذلك في كل ما تكتب، إلا التحويش دون
أي تحقيق أو تفتيش، ولذلك فالواجب عليك إنما هو الاتباع، فهو خير لك بلا شك
من التخريب والتضعيف لمئات الأحاديث الصحيحة عند العلماء، وقد تبلغ الألوف
إذا مضيت في مخالفتك لـ * (سبيل المؤمنين) *. وأنا على مثل اليقين أن الرجل
صاحب هوى وغرض - الله أعلم به - دلنا على ذلك أسلوبه في تخريج الأحاديث، فإنه
ينشط جدا، ويتوسع ما وسعه التوسع في التضعيف المذكور، ويتتبع الأقوال
المرجوحة التي تساعده على ذلك، مع التمويه على القراء بإعراضه عن ذكر الأقوال
المعارضة له، وبالإحالة إلى بعض البحوث التي تخالف قوله!! وأما إذا كان
الحديث قويا، ولا يجد سبيلا إلى تضعيفه ونسفه، انقلب ذلك النشاط إلى فتور
وخمول، واختصر الكلام عليه في بيان مرتبته اختصارا مخلا دون بيان السبب،
كقوله مثلا (1 / 130) : " حديث حسن إن شاء الله "! ثم يسود خمسة أسطر في
تخريجه دون فائدة تذكر، موهما قراءه بأنه بحاثة محقق! مع أنهم لا يدرون ما
مقصوده من تعليق التحسين بالمشيئة الإلهية، أهو للتشكيك أم التحقيق؟! والأول
هو اللائق بالمضعف للصحيحة! وله أحاديث أخرى من هذا النوع (ص 220 و 292
و294) وانظر (ص 183 و 212 و 224 و 272 و 277 و 297) ثم إن قوله عن سالم بن
أبي الجعد أنه أرسل عن جمع من الصحابة، فهو لا يفيد انقطاعا هنا، لأنهم نصوا
على أنه لم يدركهم، أو لم يسمع منهم، وليس سالم منهم، وحينئذ وجب حمله على
الاتصال على مذهب الجمهور، وهو الراجح كما سبق تحقيقه.(6/1193)
ومثال ثان لما ذكرت
آنفا، كان الإمام مسلم قد ضربه مثلا في أنواع أخرى لما نحن فيه، واحتج بها
أهل العلم وصححوها، حديثان من رواية ربعي بن حراش عن عمران، أحدهما في إسلام
حصين والد عمران، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له قبل أن يسلم وبعد
أن أسلم: " قل: اللهم قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد أمري ". قال النووي
عقبه في شرحه لمقدمة مسلم: " إسناده صحيح ". وكذا قال الحافظ في " الإصابة /
ترجمة (حصين) ". ويبدو للناظر المنصف أهمية هذا المثال، وخاصة بالنسبة
للنووي، فإنه كان قبل هذا التصحيح بصفحات قد رد على الإمام مسلم مذهبه، فإذا
به يجد نفسه لا يسعه إلا أن يوافقه، وما ذلك إلا لقوته في واقع الأمر. وهذا
عين ما أصاب مضعف الأحاديث الصحيحة، فإنه لما جاء إلى هذا الحديث (1 / 107)
وخرجه، جود إسناده! فلا أدري أهو من الغفلة وقلة التحقيق، أم هو اللعب على
الحبلين، أو الهوى، وإلا لزمه أن يضعفه كما فعل بحديث الترجمة لاشتراكهما في
العلة عنده، وهي عدم تحقق شرط اللقاء، أو أن يصححهما معا، اكتفاء بالمعاصرة
، وهو الصواب. وقد أشار الحافظ إلى هذا الاكتفاء في آخر ترجمة (ربعي) ،
فإنه لما نقل عن ابن عساكر أن ربعيا لم يسمع من أبي ذر تعقبه بقوله: " وإذا
ثبت سماعه من عمر، فلا يمتنع سماعه من أبي ذر ". فهذا مما يؤكد أنه يتبنى
الاكتفاء بالمعاصرة. ويحضرني مثال ثالث، وهو حديث محمد بن عبد الله بن
الحسن العلوي، المعروف بـ (النفس الزكية) ، رواه عن أبي الزناد عن الأعرج عن
أبي هريرة مرفوعا:(6/1194)
" إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه
قبل ركبتيه " (1) . لقد صحح هذا الحديث جمع من الحفاظ، منهم عبد الحق الإشبيلي
، والشيخ النووي، وقواه الحافظ في " الفتح " (2 / 291) وفي " بلوغ المرام
"، وهم يعلمون أن اللقاء بين النفس الزكية وأبي الزناد غير معروف، كما أشار
إلى ذلك الإمام البخاري بقوله في ترجمة (النفس الزكية) من " التاريخ الكبير "
(1 / 1 / 139) : " لا أدري سمع من أبي الزناد أم لا؟ ". قلت: وهكذا يجد
الباحث في كتب تخريج الأحاديث عشرات بل مئات الأحاديث قد صححها الحفاظ
والعلماء مكتفين في ذلك بالمعاصرة، غير ملتزمين فيها شرط اللقاء، وما ذاك إلا
عن قناعة منهم بأن هذا الشرط إنما هو شرط الكمال، وليس شرط صحة، فإن تحقق
فبها ونعمت، وإلا ففي المعاصرة بركة وكفاية، على هذا جرى السلف، كما شرح
ذلك الإمام مسلم في " مقدمته "، وتبعهم على ذلك الخلف من الحفاظ الذين سمينا
بعضهم، واشتد إنكار مسلم على مخالفيهم غيرة منه على السنة المطهرة، وخوفا
منه أن يهدر منها شيء، وما قدمنا من الأمثلة يؤيد ما ذهب إليه رحمه الله.
وبالله التوفيق.
_________
(1) تنبيه: لقد وقفت على رسالة لأحد متعصبة الحنابلة المعاصرين في تضعيف هذا
الحديث الصحيح، جاء فيها تجاهلات ومكابرات عجيبة، أذكر ما تيسر منها:
1 - جعل قول البخاري الآتي معارضا لمن وثق النفس الزكية!
2 - تجاهل بروك الجمل على ركبتيه اللتين في مقدمتيه كما هو الثابت في كتب اللغة، وفي أثر عمر الذي
ذكره (ص 42) محتجا به وهو عليه: أنه كان يخر في صلاته بعد الركوع على
ركبتيه كما يخر البعير: يضع ركبتيه قبل يديه! هذا هو بروك البعير أن يضع
ركبتيه قبل يديه. وبذلك يكون قد هدم كل ما بنى، على أنه كان على شفا جرف هار
! . اهـ.(6/1195)
2980 - " هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدى وظلم. يعني الوضوء ثلاثا
ثلاثا ".
أخرجه النسائي (1 / 33) وابن ماجه (1 / 163 - 164) من طريق يعلى قال:
حدثنا سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء؟ فأراه الوضوء ثلاثا
ثلاثا، ثم قال: فذكره. قلت: وهذا إسناد حسن على الخلاف المعروف في
الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والذي استقر عليه عمل الحفاظ
المتقدمين والمتأخرين الاحتجاج بها، وحسب القارىء أن يعلم قول الحافظ الذهبي
فيه في كتابه " المغني ": " مختلف فيه، وحديثه حسن، وفوق الحسن، قال يحيى
القطان: إذا روى عنه ثقة فهو حجة، وقال أحمد: ربما احتججنا به. وقال
البخاري: رأيت أحمد وإسحاق وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون به، فمن
الناس بعدهم؟! ". وقد بسط الكلام في الخلاف المشار إليه الحافظ ابن حجر،
وذكر أقوال الأئمة فيه، وهي جد متعارضة تعارضا لا يستطيع الخروج منه بخلاصة
صحيحة إلا من كان مثله في المعرفة بهذا العلم الشريف والتحقيق فيه، ثم ختم
ذلك بقوله (8 / 48 - 55) : " فإذا شهد له ابن معين أن أحاديثه صحاح غير أنه
لم يسمعها، أو صح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة، وهو أحد
وجوه التحمل. والله أعلم ".(6/1196)
وقد كنت ذكرت شيئا من هذا الخلاف والترجيح في
تخريجي لهذا الحديث في " صحيح أبي داود " (رقم 124) ونقلت عن ابن القيم أنه
قال: " وقد احتج الأئمة الأربعة الفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده، ولا يعرف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها واحتج بها، وإنما طعن
فيها من لم يتحمل أعباء الفقه كأبي حاتم البستي وابن حزم وغيرهما ". وعلى
ذلك حسنت الحديث هناك، وصححته بشاهد له من حديث ابن عباس، مرجحا به رواية
سفيان لحديث الترجمة على رواية أبي عوانة التي فيها زيادة بلفظ: " فمن زاد أو
نقص "، فزاد على سفيان: " أو نقص "، وسفيان - وهو الثوري - أحفظ من أبي
عوانة. ثم وقفت بعد سنين على رواية أخرى لسفيان، فيها الزيادة المذكورة،
فكان هذا من البواعث على إعادة النظر في الترجيح المذكور، والنظر فيها، فقال
ابن أبي شيبة في " المصنف " (1 / 8 - 9) : حدثنا أبو أسامة عن سفيان به. قلت
: وهذا إسناد ظاهره الصحة، ولكن له علة، وهي عنعنة أبي أسامة - وهو حماد
بن أسامة - فإنه مع ثقته قال الحافظ فيه: " ربما دلس، وكان بأخرة يحدث من
كتب غيره ". وإذا كان الأمر كذلك، فلا تترجح روايته على رواية (يعلى)
لحديث الترجمة، وإن كان يعلى (وهو ابن عبيد الطنافسي) تكلم فيه بعضهم في
روايته عن سفيان خاصة، إلا أنه قد توبع من ثقة لا خلاف فيه، فقال ابن خزيمة
في " صحيحه " (1 / 89 / 174) وابن الجارود في " المنتقى " (35 / 75) :
أخبرنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي: حدثنا الأشجعي عن سفيان به. وهذا إسناد
صحيح غاية، فإن الدورقي ثقة حافظ.(6/1197)
والأشجعي - واسمه عبيد الله بن عبيد
الرحمن - ثقة مأمون، أثبت الناس كتابا في الثوري كما في " التقريب "، وقال
الذهبي في " الكاشف ": " إمام ثبت كتب عن الثوري ثلاثين ألفا ". وعلى هذا
فرواية (يعلى) أرجح من رواية أبي أسامة كما هو ظاهر. وقد يخدج على هذا
الترجيح، ما رواه أبو عبيد في كتابه " الطهور " عن الحكم بن بشير بن سليمان عن
موسى بن أبي موسى بلفظ: " الوضوء ثلاث، فمن زاد أو نقص.. " الحديث. فأقول:
لا، وإن سكت عنه ابن الملقن في " البدر المنير " (3 / 336) وما ينبغي له،
فإن الحكم هذا لا يقاوم الثوري في الثقة والحفظ، فإنه لم يوثقه غير ابن حبان
، وقال أبو حاتم: " صدوق ". ثم هو إلى ذلك قد خالفه في موضع آخر كما خالف
فيه أبا عوانة أيضا، وهو جعله وضوءه صلى الله عليه وسلم ثلاثا من قوله صلى
الله عليه وسلم، فدل على أنه لم يحفظ، فروايته مرجوحة أيضا، فبقي حديث
الترجمة هو المحفوظ دون الزيادة، وهو الذي جزم بصحته ابن القيم في " إغاثة
اللهفان ". هذا، وثمة باعث آخر على تخريج الحديث هنا، وهو الرد على عدو
السنة ومضعف الأحاديث الصحيحة، فقد رأيته شرع في توجيه ضربات تخريبية أخرى،
متظاهرا بتعليق وتحقيق بعض الكتب لأئمة مشهورين، وتضعيف أحاديثهم التي
أقاموا عليها بحوثهم، فقد خرب من قبل كتاب النووي " رياض الصالحين " كما هو
معروف، والآن طلع على الناس بطبعة جديدة لكتاب " الإغاثة " المذكور، فعلق
عليه بتعليقات سيئة جدا، أفسد بها كثيرا من بحوثه القيمة بتضعيفه - بجهله أو
تجاهله البالغ - لأحاديثها الصحيحة، منها هذا الحديث، فإن ابن القيم ساقه ردا(6/1198)
على الموسوسين في الطهارة، المخالفين لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ
مرة مرة، ولم يزد على ثلاث، وقال ابن القيم: " بل أخبر أن من زاد عليها
فقد أساء وتعدى وظلم ". فعلق المأفون عليه بعد تخريجه بقوله (1 / 180) : "
ولفظ أبي داود: " فمن زاد على هذا أو نقص.. ". قلت: وقد اختلف في رواية
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأميل إلى تضعيفها، ولم يرها من باب الصحيح
البخاري ومسلم وابن حبان "! . قلت: هكذا يضلل الرجل قراءه بمثل هذا الكلام
الواهي الذي يعرف جوابه المبتدئون في هذا العلم، وهو أنه لا يلزم من عدم
إخراج هؤلاء أو أحدهم للحديث أن يكون ضعيفا، فكم من حديث صحيح لم يخرجه هؤلاء
البتة، وكم من حديث أخرجه الشيخان ولم يخرجه ابن حبان، فضلا عن أحاديث
أخرجها هو دون الشيخين، بل كم من حديث رواه البخاري لم يروه مسلم، وعلى
العكس، هذا أولا. وثانيا: لقد ذكر هو اختلاف العلماء في رواية عمرو هذه،
فما فائدة تعقيبه عليه بذكر الذين لم يصححوها - وهم طرف في الخلاف - سوى
التضليل؟! هذا مع أن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن كما هو معروف عند أهل
العلم. وثالثا: لقد غش القراء بذكر البخاري معهم، فإنه لابد أنه رأى بعينه
في ترجمة (عمرو) من " التهذيب " قول البخاري: " رأيت أحمد بن حنبل، وعلي
بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: من
الناس بعدهم؟! ".(6/1199)
وهذا مما يؤكد لكل قارىء لبيب منصف أن الرجل من أهل
الأهواء، فإن من علاماتهم أنهم يذكرون ما لهم، ويكتمون ما عليهم. ورابعا:
مما يؤكد أنه منهم، أنه إذا كان الحديث لا يخالف هواه قواه ولو كان من هذه
الرواية، فقد خرج حديثا آخر من هذا الوجه، ثم قال: (1 / 93) : " وقال
الترمذي: " حسن غريب ". وهو كما قال "! ولقد كان الأولى به - لو كان عنده
شيء من هذا العلم بعيدا عن الغرضية والمخالفة والهوى - أن يبادر إلى بيان
شذوذ زيادة: " أو نقص " لمباينتها لرواية سفيان المحفوظة، ولشاهدها من حديث
ابن عباس، وللسنة العملية التي جرى عليها النبي صلى الله عليه وسلم من
الاقتصار أحيانا على دون الثلاث كما تقدم، ولكن أنى له ذلك وقد أوقف نفسه
لهدم السنة وتضعيفها؟! والله المستعان.
2981 - " تخصر بهذه حتى تلقاني، وأقل الناس المتخصرون. قاله لعبد الله بن أنيس
الجهني ".
أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (2 / 5 - 6) و " أخبار أصبهان " (1 / 189 -
190) : حدثنا القاضي أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم
بن محمد بن الحسن حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر حدثنا عبد العزيز بن محمد عن
يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن كعب عن عبد الله بن أنيس الجهني أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لي بخالد بن نبيح؟ ". رجل من هذيل،
وهو يومئذ قبل (عرفة) بـ (عرنة) ، قال عبد الله بن أنيس: أنا يا رسول
الله! انعته لي، قال:(6/1200)
" إذا رأيته هبته ". قال: يا رسول الله! والذي بعثك
بالحق ما هبت شيئا قط. قال: فخرج عبد الله بن أنيس حتى أتى جبال (عرفة) قبل
أن تغيب الشمس، قال عبد الله: فلقيت رجلا، فرعبت منه حين رأيته، فعرفت حين
رعبت منه أنه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: من الرجل؟ فقلت
: باغي حاجة، هل من مبيت؟ قال: نعم، فالحق، فرحت في أثره فصليت العصر
ركعتين خفيفتين، وأشفقت أن يراني، ثم لحقته، فضربته بالسيف، ثم خرجت،
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته. قال محمد بن كعب: فأعطاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم مخصرة، فقال: (فذكره) . قال محمد بن كعب: فلما
توفي عبد الله بن أنيس أمر بها فوضعت على بطنه وكفن، ودفن ودفنت معه. قلت
: وهذا إسناد جيد، ذكره أبو نعيم في ترجمة (إبراهيم بن محمد بن الحسن) من "
الأخبار "، وقال: " يعرف بـ (ابن متويه) ... كان من العباد والفضلاء،
يصوم الدهر ". وأورده الذهبي في " تذكرة الحفاظ " (2 / 740) ووصفه بـ: "
الحافظ القدوة.. وقال أبو الشيخ: كان من معادن الصدق ". وله ترجمة في "
السير " أيضا (14 / 142 - 143) . والقاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم
هو الحافظ العسال، ترجمه أبو نعيم في " الأخبار " بقوله (2 / 283) :(6/1201)
" مقبول
القول، من كبار الناس في المعرفة والإتقان والحفظ، صنف الشيوخ والتاريخ
والتفسير وعامة المسند ". وله ترجمة حافلة في " التذكرة " (3 / 886 - 889)
ووصفه بـ " الحافظ العلامة.. قال ابن مردويه: وهو أحد الأئمة في علم الحديث
فهما وإتقانا وأمانة ". وتوسع في ترجمته في " السير " (16 / 6 - 15)
وذكر فيها عن أبي بكر بن أبي علي الذكواني القاضي أنه قال فيه: " الثقة المأمون
الكبير في الحفظ والإتقان ". والحديث أورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (6
/ 203 - 204) وقال: " رواه الطبراني ورجاله ثقات ".
2982 - " إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه ".
أخرجه أحمد (6 / 290) والبزار (3 / 172 / 2496) والطبراني في " المعجم
الكبير " (23 / 319 / 724 و 394 / 941) من طريق أبي معاوية قال: حدثنا
الأعمش عن شقيق عن أم سلمة قالت: دخل عليها عبد الرحمن بن عوف فقال: يا
أمة! قد خفت أن يهلكني كثرة مالي، أنا أكثر قريش مالا؟ قالت: يا بني!
فأنفق، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فذكر الحديث) ، فخرج
فلقي عمر، فأخبره، فجاء عمر فدخل عليها، فقال: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا
، ولن أبلي أحدا بعدك. وقال البزار: " رواه الأعمش وغيره عن أبي وائل عن
أم سلمة، وأبو وائل روى عنها ثلاثة أحاديث، وأدخل بعض الناس بينه وبينها
مسروقا ".(6/1202)
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، والمتابع الذي
أشار إليه البزار للأعمش، لم أعرفه، وإنما توبع أبو معاوية، فأخرجه أحمد (
6 / 307 و 317) وإسحاق بن راهويه في " مسنده " (4 / 215 / 1) وأبو يعلى (
12 / 436 / 7003) وإبراهيم بن طهمان في " مشيخته " (189 / 143) والطبراني
أيضا (23 / 319 / 724) من طرق عن الأعمش به. ورواية مسروق، يرويها شريك عن
عاصم عن أبي وائل عنه قال: " دخل عبد الرحمن على أم سلمة، فقالت: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم.. " الحديث، ليس فيه قصة عبد الرحمن مع المال.
أخرجه أحمد (6 / 312) والطبراني (23 / 317 - 318) . قلت: وعاصم - وهو
ابن بهدلة - وهو حسن الحديث إذا لم يخالف، وقد خالفه الأعمش، وهو أوثق منه
، لكن فيه تدليس، وقد عنعنه، وقد ذكروا عاصما هذا في شيوخه، فإن كان سمعه
منه فالحديث حسن، وإلا فهو صحيح كما تقدم. وشريك - وهو ابن عبد الله
القاضي - سيىء الحفظ، لكن تابعه عند الطبراني عمرو بن أبي قيس، وهو صدوق له
أوهام كما في " التقريب ". والحديث أورده الهيثمي في موضعين من " المجمع " (
1 / 112 و 9 / 72) ، ساقه أولا بالرواية المختصرة - رواية شريك - وقال: "
رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في " الكبير "، وفي رواية أخرى لأبي يعلى
وأحمد عنها. (فذكر الرواية التامة - رواية الأعمش) وفيه عاصم بن بهدلة،
وهو ثقة يخطىء "! ثم ساقه ثانيا - أعني في الموضع الآخر - بلفظ الرواية التامة
، وقال:(6/1203)
" رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح "! وفي هذا السياق والتخريج
أوهام في العزو لا تخفى على اللبيب، منها مثلا اقتصاره أخيرا في العزو على
البزار، وسياقه عند أحمد أيضا والطبراني كما رأيت. وقال الحافظ في " مختصر
زوائد مسند البزار " (2 / 294) عقب قول البزار المتقدم: " صحيح ". والظاهر
أنه يعني صحيح الإسناد. والله أعلم.
2983 - " هلم إلى الغداء المبارك. يعني السحور ".
أخرجه النسائي في " السنن الصغرى " (1 / 304) وفي " الكبرى " (2 / 80 /
2475) من طريق خالد بن معدان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فذكره. قلت: وهذا إسناد صحيح مرسل، وله شواهد كثيرة مسندة في " السنن "
وغيرها، وصحح بعضها ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، وقد كنت ذكرت بعضها في "
صحيح أبي داود " برقم (2030) ، ومنها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوقفت
الآن على إسناده في " المعجم الأوسط " للطبراني، فأحببت أن أخرجه هنا، قال
رحمه الله (1 / 30 / 2 / 497 - بترقيمي) : حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور
الجوهري، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم - أخو أبي معمر - قال: حدثنا سفيان بن
عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب
يدعوني إلى السحور، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه الغداء
المبارك. وقال الطبراني:(6/1204)
" لا يروى عن عمر إلا من هذا الوجه، ولا نعلم
رواه عن ابن عيينة إلا محمد بن إبراهيم أخو أبي معمر ". قلت: ترجم له الخطيب
في " التاريخ " (1 / 387) وساق له هذا الحديث من طريق الطبراني، وروى عن
يحيى بن معين أنه سئل عن أبي معمر؟ فقال: " مثل أبي معمر لا يسأل عنه، هو
وأخوه من أهل الحديث ". ثم روى عن الحافظ موسى بن هارون قال: " محمد بن
إبراهيم أخو أبي معمر صدوق لا بأس به ". قلت: ومن فوقه ثقات من رجال الشيخين
. وابن مساور الجوهري من شيوخ الطبراني الثقات، عند الخطيب (4 / 349)
والذهبي في " السير " (13 / 59 - 60) ، فالإسناد صحيح. ومع كثرة شواهد هذا
الحديث وتصحيح جمع من الأئمة له، فقد أقدم المغرور المعجب بنفسه المعروف بـ (
حسان بن عبد المنان) على تضعيفه من طرقه الثلاثة التي خرجها في تعليقه على
كتاب ابن القيم: " إغاثة اللهفان " (1 / 528) عن ثلاثة من الصحابة، وكتم
شواهد أخرى كهذين الشاهدين القويين، فضلا عن مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "
تسحروا فإن في السحور بركة ". متفق عليه، وهو مخرج في " الروض النضير " (49
و1089) . وله من مثل هذا التضعيف الجائر الخاطئ في تعليقه على هذا الكتاب
وغيره مئات الأحاديث الصحيحة يضعفها هو بجرأة عجيبة وقد صححها العلماء! وأنا
الآن في صدد تتبعها في هذا الكتاب وغيره - إن تيسر لي ذلك -. وقد فرغت من
أحاديث الجزء الأول منه، فبلغت المائة تزيد قليلا أو تنقص. والله المستعان.(6/1205)
2984 - " ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ، أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا ".
روي عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أو عن أبيه عمرو وأبي
هريرة والحسن البصري مرسلا ويحيى بن جعدة مرسلا. 1 - أما حديث ابن عباس،
فله عنه طريقان: الأولى: عن حماد بن سلمة قال: أنبأنا علي بن زيد عن يوسف بن
مهران عنه مرفوعا به. أخرجه الحاكم (2 / 591) والبيهقي (10 / 186) وابن
أبي شيبة في " المصنف " (11 / 562) وأحمد (1 / 254 و 292 و 295 و 301 و 320
) وأبو يعلى (4 / 418 / 2544) والطبراني في " المعجم الكبير " (12 / 216 /
12933) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " (18 / 93) . قلت: وهذا إسناد ضعيف،
وقد بينه الهيثمي في " مجمع الزوائد "، فقال (8 / 209) : " رواه أحمد وأبو
يعلى والبزار والطبراني، وفيه علي بن زيد، وضعفه الجمهور، وقد وثق،
وبقية رجال أحمد رجال الصحيح ". قلت: كذا قال. وقد سئل النووي عن الحديث: "
هل هو صحيح، ومن رواه من أصحاب الكتب؟ ". فأجاب: " هذا حديث ضعيف لا يجوز
الاحتجاج به، رواه أبو يعلى في " مسنده " عن زهير عن عفان عن حماد بن سلمة..
وهذا الإسناد ضعيف، لأن علي بن(6/1206)
زيد بن جدعان فيه ضعف، ويوسف بن مهران مختلف
في جرحه. والله أعلم ". كذا في " الفتاوى " له (ص 120 - 121) . قلت: وفي
هذين النقلين نظر، بيانه فيما يأتي: أولا: لا يلزم من ضعف إسناد الحديث ضعف
متنه، لشواهده التي أشرت إليها أعلاه، والآتي تخريجها، وهي خالية عن الضعف
الشديد بل إن أسانيد بعضها صحيح كما يأتي. ثانيا: لقد قصر النووي جدا في عزوه
إياه لأبي يعلى وحده، وقد رواه من هو أعلى طبقة منه كابن أبي شيبة وأحمد.
ثالثا: تخصيص الهيثمي أحمد بالذكر بكون رجاله رجال الصحيح، مع أن رجال أبي
يعلى كذلك. رابعا: قوله: " رجاله رجال الصحيح " وهم، أو أنه ظن أن (يوسف
بن مهران) هذا هو (يوسف بن ماهك بن مهران) المخرج له في " الصحيحين "، وهو
قول لبعضهم، لكن الصحيح أنه ليس به كما جزم به الحافظ المزي والذهبي
والعسقلاني، وقد وثقه أبو زرعة وغيره. خامسا: حشره البزار مع أحمد وأبي
يعلى يشعر بأنه عنده من هذا الوجه، وليس كذلك، وإنما رواه من الطريق
التالية، ولم يتنبه لذلك المعلق أو المعلقان على " مسند أبي يعلى "! مغترين
بتعليق الشيخ الأعظمي الآتي! الطريق الثانية: عن محمد بن عون الخراساني عن
عكرمة عن ابن عباس. أخرجه البزار (3 / 109 / 2359) وابن عساكر (18 / 93)
. قلت: والخراساني هذا متروك الحديث، فيخشى أن يكون وهم في إسناده.(6/1207)
وقد ظن
الشيخ الأعظمي أنه سقط من إسناده ابن جدعان متأثرا بحشر الهيثمي المذكور آنفا،
فقال في تعليقه على " كشف الأستار " عقب عبارته المتقدمة: " قلت: ليس في
الأصل (علي بن زيد) في إسناد حديث عكرمة عن ابن عباس ". قلت: ولا ينبغي أن
يكون، فإنه ليس له رواية عن عكرمة، بخلاف محمد بن عون الخراساني، فقد ذكروه
في الرواة عنه. الطريق الثالثة: عن موسى بن إبراهيم بن جعفر بن مهران السباك
: أخبرنا أبي إبراهيم ابن جعفر بن مهران أخبرنا سليمان بن حرب أخبرنا شعبة عن
حبيب بن أبي ثابت عن سعيد ابن جبير عنه به. أخرجه ابن عساكر أيضا. قلت:
وموسى بن إبراهيم السباك وأبوه لم أعرفهما، ومن فوقه من رجال الشيخين، غير
أن ابن أبي ثابت مدلس. 2 - عبد الله بن عمرو بن العاص أو أبوه عمرو، يرويه
يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عنه. أخرجه الطبري في " التفسير " (3 / 174)
والبزار (2360) وابن عساكر (18 / 82) من طرق عن يحيى به. بعضهم قال: عن
ابن عمرو، وبعضهم: عن عمرو، وأحدهم: عن ابن العاص، وبعضهم أوقفه، وكل
ذلك لا يضر، فإنه في حكم المرفوع، لاسيما وزيادة الثقة مقبولة، وسواء كان
المسند ابن عمرو أو أباه، فهو انتقال من صحابي إلى صحابي، وكلهم عدول،
والأرجح أنه عن ابن عمرو، فإن سعيدا معروف بالرواية عنه. وزاد الطبري وابن
عساكر: قال: ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض، وأخذ عودا
صغيرا ثم قال:(6/1208)
" وذلك أنه لم يكن له ما للرجل إلا مثل هذا العود، ولذلك
سماه الله * (سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) *. وإسنادها حسن، وأخرجها
ابن أبي حاتم في " تفسيره " (2 / 2 / 1) من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد به،
إلا أنه قال: " عن ابن العاص، لا يدرى: عبد الله بن عمرو، أو عمرو ".
وإسناده صحيح، واستغربه ابن كثير (1 / 361) ولا أرى له وجها، فإنه لم يقف
على الطريق الأخرى عند الطبري وابن عساكر. وقال الهيثمي في رواية البزار: "
ورجاله ثقات ". وأقول: إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال البخاري غير
شيخه محمد بن الوليد - وهو البغدادي - قال الذهبي: " ثقة ". وقال الحافظ:
" صدوق ". ولفظ حديثه: " لا ينبغي لأحد [أن] يقول: أنا خير من يحيى بن
زكريا، ما هم بخطيئة، أحسبه قال: ولا عملها ". 3 - أبو هريرة، يرويه أبو
الأزهر حجاج بن سليمان عن الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع عن أبي
صالح عنه مرفوعا بلفظ: " كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن
شاء أو يرحمه، إلا يحيى ابن زكريا كان * (سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) *
". ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض، وقال: " كان ذكره
مثل هذه القذاة ".(6/1209)
أخرجه ابن أبي حاتم (2 / 23 / 2) وابن عدي (2 / 234)
والطبراني في " المعجم الأوسط " (2 / 8 - 1 / 6700 - بترقيمي) وابن عساكر (
18 / 93 - 94) من طريقين عن الحجاج به. وقال ابن أبي حاتم: " قال أبي: لم
يكن هذا الحديث عند أحد غير الحجاج، ولم يكن في كتاب (الليث) ، وحجاج هذا
شيخ معروف ". وكذا قال في " الجرح والتعديل "، وذكره ابن حبان في " الثقات
" (8 / 202) وقال: " يعتبر حديثه إذا روى عن الثقات ". ونحوه قول ابن عدي
في آخر ترجمته: " إذا روى عن غير ابن لهيعة، فهو مستقيم إن شاء الله تعالى "
. وفي " الميزان " و " اللسان ": " قال ابن يونس: في حديثه مناكير، وقال
أبو زرعة: منكر الحديث. ومشاه ابن عدي ". 4 - الحسن البصري مرفوعا مثل حديث
ابن مهران عن ابن عباس. رواه حماد بن سلمة أيضا عن حبيب بن الشهيد ويونس بن
عبيد وحميد عنه. أخرجه الحاكم أيضا، وكذا البيهقي، وابن عساكر، ثلاثتهم
مع حديث يوسف بن مهران عن ابن عباس، وبيض له الحاكم، وقال الذهبي في "
التلخيص ": " قلت: إسناده جيد ". كذا قال، والنقد العلمي - فيما أعلم - لا
يساعد على ذلك، أما بالنسبة لحديث ابن عباس فلما عرفت من حال ابن مهران وابن
جدعان، وأما بالنسبة لحديث الحسن فلإرساله، فلعله يريد أنه جيد بمجموع
الإسنادين. والله أعلم.(6/1210)
5 - يحيى بن جعدة: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يحيى بن زكريا، ما هم بخطيئة،
ولا حاكت في صدره امرأة ". أخرجه ابن عساكر (18 / 92) من طريق أبي الموجه
محمد بن عمرو بن الموجه بن إبراهيم بن غزوان: صدقة بن الفضل: أخبرنا ابن
عيينة عن عمرو عن يحيى بن جعدة به. وعزاه السيوطي في " الدر المنثور " (4 /
262) لأحمد أيضا في " الزهد "، وليس هو في القطعة المطبوعة منه. والله
أعلم. والسند الصحيح، ولكنه مرسل أيضا، رجاله كلهم ثقات رجال البخاري،
غير أبي الموجه محمد بن عمرو وهو من الحفاظ الثقات المترجمين في " تذكرة
الحفاظ "، وفي " السير " (13 / 347 - 348) وقد ذكر السمعاني في ترجمة
الراوي عنه (أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم الحليمي) أنه حدث بـ " مسند أبي
الموجه.. "، وهذه فائدة لم يذكرها الذهبي أن له (مسندا) ، ولا يبعد أن
يكون هذا الحديث فيه مع غيره مما في معناه. وهناك حديث آخر عند ابن عساكر (
18 / 94) من حديث معاذ بن جبل أعرضت عن ذكره، لأن فيه (إسحاق بن بشر) ،
وكنيته أبو حذيفة، متهم بالكذب. وبعد، فإني أستدرك وأقول: لقد أخرج البزار
أيضا حديث ابن عباس من الطريق الأولى أيضا، لكن مطولا، وجاء هذا المتن في
آخره رقم (2358) وهو رواية للطبراني (12 / 218 / 12938) وقال البزار: "
لا نعلم حدث به بهذا اللفظ إلا يوسف، ولا عنه إلا علي بن زيد وحده ". قلت:
وهو ضعيف كما تقدم. وعزاه السيوطي في " الدر " لابن المنذر أيضا،(6/1211)
وابن أبي
حاتم وابن مردويه وابن خزيمة، والدارقطني في " الأفراد "، وأبي نصر
السجزي، وسكت عنه كغالب عادته، وما أظنه إلا من هذا الوجه، ويؤيده أن
الحافظ ابن كثير ذكره في " التاريخ " (2 / 51) برواية ابن خزيمة والدارقطني
من هذا الوجه، وقال: " ثم قال ابن خزيمة: وليس على شرطنا ". قلت: وقال
في ابن جدعان: " لا أحتج به لسوء حفظه ". وخلاصة القول في هذا الحديث أنه
صحيح بلا ريب، على الأقل بمجموع طرقه، لأن أكثرها ليست شديدة الضعف، بل إن
بعضها صحيح لذاته عند البزار وغيره عن ابن عمرو، فتضعيف النووي إياه مردود،
وكذا إعلال ابن كثير لبعض طرقه في " التاريخ " و " التفسير " (1 / 361 و 3 /
113 - 114) ، فإنه لم يقف على أكثر الطرق التي ذكرتها، وبخاصة طريق البزار.
ولذلك فلا ينبغي أن يلتفت إلى ما ذكره عن القاضي عياض في تفسير قوله تعالى في
يحيى عليه السلام: * (وحصورا) *، مما يشعر رده لهذا الحديث. والله سبحانه
وتعالى أعلم. وزيادة في الفائدة أقول: وأما حديث أبي أمامة مرفوعا بلفظ:
" أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة.. "، فذكرهم، ورابعهم: " ورجل حصور،
ولم يجعل الله له حصورا إلا يحيى بن زكريا ". فهو حديث منكر ضعيف الإسناد جدا،
وقد خرجته في " غاية المرام " برقم (89) ، وسكت عنه الآلوسي في " تفسيره "
(2 / 148) ، فما أحسن.(6/1212)
2985 - " نهى أن نأكل طعام (وفي رواية: هدية) الأعراب ".
أخرجه الحاكم (4 / 128) وأحمد (6 / 133) والبزار (2 / 395) من طرق عن
عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي قال: سمعت عبد الله بن دينار الأسلمي يحدث عن
عروة عن عائشة قالت: أهدت أم سنبلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبنا،
فدخلت علي به، فلم تجده، فقلت لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى
أن نأكل طعام الأعراب، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: " يا أم سنبلة! ما هذا معك؟ ". قالت: لبن يا رسول
الله، أهديته لك، قال: " اسكبي أم سنبلة، ناولي أبا بكر ". ثم قال: "
اسكبي أم سنبلة، ناولي عائشة ". ثم قال: " اسكبي أم سنبلة ". فناولته النبي
صلى الله عليه وسلم فشرب، قالت: فقلت: يا بردها على الكبد! يا رسول الله!
قد كنت نهيت عن طعام الأعراب؟ قال: " يا عائشة! إنهم ليسوا بأعراب، هم أهل
باديتنا، ونحن أهل حاضرتهم، وإذا دعوا أجابوا، فليسوا بأعراب ". والسياق
للبزار، وقال الحاكم:(6/1213)
" صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
وقال الهيثمي في " المجمع " (4 / 149) : " رواه أحمد وأبو يعلى والبزار،
ورجاله رجال الصحيح ". قلت: وكذلك رجال البزار في إحدى روايتيه (1941)
وهو عنده في الرواية الأولى من طريق بشر بن معاذ العقدي: حدثنا عبد الله بن
جعفر: حدثنا عبد الرحمن بن حرملة.. وقد أخرجه ابن سعد في " الطبقات " (8 /
294) : أخبرنا محمد بن عمر: حدثني عبد الله بن جعفر به أتم منه بلفظ: "
نهانا أن نقبل هدية من أعرابي "، فقال: " هدية " مكان " الطعام ". لكن محمد
بن عمر - وهو الواقدي - متروك، وسكت عنه الحافظ في " الإصابة "، ولعل ذلك
لرواية ابن منده من طريق أبي أويس عن عبد الرحمن بن حرملة بلفظ: " نهى أن نأكل
ما تهديه الأعراب ". وأبو أويس اسمه عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي
المدني، وهو صدوق يهم، روى له مسلم في الشواهد. ويشهد له رواية أبي يعلى
في " مسنده " (8 / 209 / 4773) من طريق محمد بن إسحاق عن صالح بن كيسان عن
عروة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا أقبل هدية
من أعرابي ". فجاءته أم سنبلة الأسلمية بوطب لبن أهدته له.. الحديث نحوه.
وعزاه الحافظ لأبي نعيم، وسكت عنه. وابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه.(6/1214)
وأخرجه
الطبراني في " المعجم الكبير " (25 / 163 - 164) من طريق أخرى عن أم سنبلة
نفسها بزيادة ونقص. وفي إسناده من لا يعرف.
2986 - " اجلدوه ضرب مائة سوط، قالوا: يا نبي الله! هو أضعف من ذلك، لو ضربناه
مائة سوط مات؟ قال: فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة ".
أخرجه النسائي في " السنن الكبرى " (4 / 313 / 7309) وابن ماجه (2574)
والبيهقي (8 / 230) والبغوي في " شرح السنة " (10 / 303 / 2591) وأحمد (5
/ 222) والطبراني في " المعجم الكبير " (6 / 77 / 5521 و 5522) (1) كلهم من
طريق محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف
عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا رجل مخدج ضعيف، فلم يرع
إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها، فرفع شأنه سعد بن عبادة إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فذكره. قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن
ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه عندهم جميعا، وعلى ضعف يسير في حفظه، وقد
خالفه ابن عجلان فقال: حدثني يعقوب بن عبد الله بن الأشج عن أبي أمامة بن سهل
بن حنيف أن امرأة حملت.. الحديث. نحوه، لم يذكر في إسناده (سعيد بن سعد بن
عبادة) ، فأرسله، وهذا هو الصحيح أو الأصح، فقد أخرجه النسائي (7301 -
7308) والبيهقي أيضا، وكذا البغوي، والطبراني في " المعجم الأوسط " (1 /
38 / 2 / 652) من طرق كثيرة عن أبي أمامة بن سهل به مرسلا. وخالفهم جماعة،
فرواه
_________
(1) ثم رأيته في " غريب الحديث " لأبي عبيد (1 / 291) من هذا الوجه.(6/1215)
يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه.. فذكر الحديث بنحوه.
أخرجه أبو داود (4472) وابن الجارود في " المنتقى " (277 / 817) من طريقين
عنه. قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين لولا المخالفة. وأما
قول الحافظ في " بلوغ المرام " (4 / 16 - 17 - سبل السلام) : " رواه أحمد
والنسائي وابن ماجه، وإسناده حسن، لكن اختلفوا في وصله وإرساله ". فهو
يعني الطريق الأولى، وحينئذ ففي تحسينه نظر لعنعنة ابن إسحاق عند الثلاثة
الذين ذكرهم، والثلاثة الآخرين الذين ذكرتهم كما سبق. وأما إسناد أبي داود
فهو صحيح مع التحفظ المذكور، وأما جهالة اسم الصحابة فلا تضر، على أنه قد
جاء مسمى على وجوه ثلاثة: الأول: سهل بن حنيف، يرويه أبو الزناد عن أبي
أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: فذكره. أخرجه الدارقطني (3 / 100 رقم 67
) ، والطبراني (رقم 5565) بسندين ضعيفين عنه وتابعه الزهري عن أبي أمامة به
. أخرجه النسائي (رقم 7308) (1) ، والطبراني (5568 و 5587) من طريق إسحاق
بن راشد عن الزهري. لكن إسحاق هذا قال الدارقطني:
_________
(1) سقط منه " عن أبيه "، فصححته من " تحفة المزي " (4 / 98 / 4659) ،
ويؤيده أنه عنده كالطبراني من طريق أحمد بن أبي شبيب عن موسى بن أعين عن إسحاق
. اهـ.(6/1216)
" تكلموا في سماعه من
الزهري ". الثاني: أبو سعيد الخدري، يرويه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد
ويحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل عنه به مختصرا. أخرجه الطبراني (5446) ،
والدارقطني (65 / 66) بإسنادين صحيحين عن سفيان به، وهما عمرو بن عون
الواسطي، وداود بن مهران. لكن قد رواه النسائي (7302 - 7304) والبيهقي،
والبغوي من طرق أخرى وجمع ثقات أيضا عن سفيان به مرسلا دون (أبي سعيد) ،
وتابعه هشيم وابن أبي هلال عن يحيى بن سعيد وحده عن أبي أمامة مرسلا. وقال
البيهقي عقبه: " هذا هو المحفوظ عن سفيان مرسلا ". ثم أشار إلى الموصولات
المتقدمة. الثالث: سهل بن سعد، يرويه فليح عن أبي حازم عنه. أخرجه المحاملي
في " الأمالي " (1 / 117 / 77) ومن طريقه الدارقطني رقم (64) ، والبيهقي
، وقالا: " كذا قال، والصواب: عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل عن النبي
صلى الله عليه وسلم ". قلت: فليح هو ابن سليمان أبو يحيى المدني، مع كونه من
رجال الشيخين ففيه كلام من قبل حفظه، وقال الحافظ: " صدوق كثير الخطأ ".
لكنه لم يتفرد به، فقد تابعه أبو بكر بن أبي سبرة قال: حدثني أبو حازم به
مختصرا.(6/1217)
أخرجه الطبراني (6 / 188 / 5820) ، لكن ابن أبي سبرة هذا متروك كما
قال الهيثمي (6 / 252) إلا أنه قد تابعه الثقة المحتج به في " الصحيحين " زيد
بن أبي أنيسة، إلا أنه قد اختلف عليه، فقال عبيد الله بن عمرو عنه عن أبي
حازم عن سهل به. أخرجه النسائي في " الكبرى " (رقم 7299) من طريقين عنه،
وإسناده صحيح. وقال أبو عبد الرحيم: حدثني زيد به، إلا أنه لم يذكر سهلا
فأرسله. أخرجه النسائي رقم (7301) ، وإسناده صحيح أيضا، فإن (أبا عبد
الرحيم) - واسمه خالد بن أبي يزيد بن سماك الحراني - ثقة من رجال مسلم،
وكذلك مخالفه عبيد الله بن عمرو - وهو الرقي - ثقة من رجال الشيخين، وروايته
أرجح عندي لأسباب وجيهة: الأول: لأن البخاري احتج به، ولم يحتج بأبي عبد
الرحيم كما سبق. الثاني: ولأنه ألصق وأحفظ لحديث شيخه زيد بن أبي أنيسة،
كما يشعر بذلك قول ابن حبان في ترجمته في " الثقات " (7 / 149) : " كان راويا
لزيد بن أبي أنيسة ". الثالث: أن له متابعا، وهو فليح بن سليمان كما تقدم.
ولا يعكر على ترجيحي هذا رواية الطبراني في " الأوسط " برقم (652) من طريق
معلل بن نفيل الحراني قال: أخبرنا عبيد الله بن عمرو الرقي عن زيد به، إلا
أنه أرسله فلم يذكر فيه (سهلا) . فأقول: لا يعكر هذا على ما ذكرت، لأن (
معللا) غير مشهور، ولم يترجم له(6/1218)
أحد فيما علمت، غير أن ابن حبان ذكره في "
الثقات " (9 / 201) ، أضف إلى ذلك أنه خالف الطريقين المشار إليهما في رواية
النسائي المتقدمة. وختاما أقول: إن هذا الاختلاف الواقع في أسانيد الحديث عن
أبي أمامة بن سهل ابن حنيف هو من أغرب ما وقفت عليه من الاختلاف، فإنه ما يكاد
الباحث يقف على رواية ثقة ويقول في نفسه هذه هي المرجحة، حتى يقف على رواية
أخرى، فإذا هي تحول بينه وبين الترجيح، وهذا واضح جدا - والحمد لله - في
هذا التخريج دون سواه، ولتجلي ذلك في ذهن الحافظ ابن حجر رحمه الله، لم يجزم
بترجيح رواية على أخرى، فإنه لما خرج الحديث في " التلخيص " (4 / 50 - 51)
تخريجا مجملا ليس فيه التفصيل المتقدم، فقال في عقبه وبعد ما أقر تصويب
الدارقطني والبيهقي لإرساله: " فإن كانت الطرق كلها محفوظة فيكون أبو أمامة
قد حمله عن جماعة من الصحابة، وأرسله مرة ". وأقول: أما أن تكون الطرق
كلها محفوظة، فهو بعيد جدا، كما يتبين من هذا التحقيق الذي أجريته، ففي
رواية أبي أمامة عن سعيد بن سعد بن عبادة عنعنة ابن إسحاق، والطرق عنه عن
أبيه ضعيفة، ولا يبقى لدينا مما يمكن القول بأنه محفوظ عنه إلا روايته عن أبي
سعيد الخدري، لكثرة الطرق عنه به، لكن الطرق عنه مرسلا أكثر، ولذلك جزم
البيهقي بأنه المحفوظ، ووافقه الحافظ، ويليها في الصحة عندي رواية ابن شهاب
عنه عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه لذلك صححها وانتقاها ابن
الجارود كما تقدم، ويكون هذا (البعض) سهل بن سعد، كما في رواية أبي حازم
عنه، وعليه يكون أبو حازم متابعا قويا لأبي أمامة في إسناده كما ترجح عندي
بمتابعة زيد بن أبي أنيسة لفليح. ولقد لفت نظري أن الحافظ رحمه الله لم يقف
على هذه المتابعة، وإلا لتعقب(6/1219)
بها توهيم الدارقطني لفليح، ولترجح عنده أن
الحديث مسند صحيح، ولجزم دون ما تردد بأن أبا أمامة كان يسنده أحيانا كما في
رواية " المنتقى "، ولم يذكرها أيضا. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
. (تنبيهات) . الأول: حديث أبي أمامة عن أبيه ذكر الشيخ أبو الطيب في تعليقه
على " الدارقطني " (3 / 100) أن في إسناده عند النسائي عبد الأعلى بن عامر..
وهذا وهم محض، فإنه ليس عنده إلا طريق إسحاق بن راشد المتقدمة. ولم يذكر
المزي في " التحفة " غيرها. الثاني: عزا أبو الطيب في التعليق المذكور قول
الحافظ المتقدم: " إن كانت الطرق كلها محفوظة.. " للطبراني! وهذا وهم أيضا
، أو سوء حفظ، وهو الراجح عند التأمل. الثالث: لقد لخص المتعالم المدعو (
حسان عبد المنان) في تعليقه على كتاب ابن القيم " إغاثة اللهفان " (2 / 114 -
115) تخريج الحافظ ابن حجر للحديث الذي أخذ من كتابه المطبوع أربعة عشر سطرا،
لخص ذلك كله في أربعة أسطر! ثلاثة منها في سرد أرقام مواضع الحديث في المصادر
السبعة التي عزاه إليها!! الأمر الذي لا يعجز عنه كاتب! وأتبعها بقوله: "
.. بأسانيد وطرق مختلفة عن أبي أمامة بن سهل، يرسله ويوصله إلى غير واحد.
ويغلب عليه الصحة. انظر " تلخيص الحبير " (4 / 59) ". وفيه على إيجازه
جهالات: الأولى: إحالته إلى " التلخيص " موهما أنه صححه، أو أنه يمكن أن
يؤخذ منه الصحة، وليس كذلك، وقد نقلت لك آنفا كلامه الذي يصوب الإرسال،
والذي يشك فيه أن تكون الطرق كلها محفوظة، وبينت ما يرد عليه.(6/1220)
الثانية: أن
قوله المذكور ليس فيه إلا حكاية واقع تلك الأسانيد، وما هو الراجح منها وما
هو المرجوح. الثالثة: قوله: " ويغلب عليه الصحة " كلام عشوائي مرتجل، ليس
عليه أثارة من علم، ولا هو من عبارات أهل العلم. الرابعة: لم يذكر متابعة
أبي حازم القوية لرواية أبي أمامة عن سهل بن سعد، التي بها رجحنا رواية أبي
أمامة هذه، وبها صح الحديث كما ذكرنا، وكل هذا يدل على أن الرجل (يهرف بما
لا يعرف) . والله المستعان. والحديث احتج به الإمام أحمد كما ذكر ذلك ابن
القيم في " الإغاثة ".
2987 - " إن الجنة لا تدخلها عجوز ".
أخرجه الترمذي في " الشمائل " (2 / 39 - بشرحه) وعنه البغوي في " التفسير "
(8 / 14) وأبو الشيخ في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " (78 / 182 -
بترقيمي) (1) ، والبيهقي في " البعث " (2 / 68 / 1) والبغوي في " الأنوار
" (1 / 258 / 220) من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن قال: أتت عجوز إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة.
فقال: " يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز ". قال: فولت تبكي. فقال:
_________
(1) لكن سقط منه إسناده، وأدرج في آخر حديث أنس الصحيح في قوله صلى الله عليه
وسلم: " وهل تلد الإبل إلا النوق؟ ". وهو مخرج في " مختصر الشمائل " (رقم
205) .(6/1221)
"
أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: * (إنا أنشأناهن
إنشاء. فجعلناهن أبكارا، عربا أترابا) * ". قلت: وهذا إسناد ضعيف مرسل،
الحسن هو البصري، والمبارك بن فضالة ثقة، ولكنه مدلس وقد عنعنه.
وبالإرسال أعله الحافظ العراقي في " تخريج الأحياء " (3 / 129) ولكنه عقب
عليه فقال: " وأسنده ابن الجوزي في " الوفاء " من حديث أنس بسند ضعيف ".
وأقول: هو في النسخة المطبوعة من " الوفاء " (2 / 445 - تحقيق مصطفى عبد
الواحد) بدون إسناد، وقد جاء في مقدمته قول المؤلف: " ولا أطرق الأحاديث
خوفا على السامع من ملالته "، ولذلك قال المحقق في مقدمته (صفحة ص) : "
وقد آثر ابن الجوزي حذف الأسانيد من أخباره رغبة في الإيجاز ". قلت: وليته لم
يفعل، لأن قيمة الكتاب بأسانيده كما لا يخفى على المحققين حقا، ولكني في شك
كبير من كون ابن الجوزي هو الذي حذف الأسانيد، لتخريج الحافظ العراقي المذكور
، لكن عبارة ابن الجوزي في مقدمته تشعر بأن ذلك من عمله، فإن صح ذلك، فيكون
له كتابان بالاسم المذكور، أحدهما مسند، وهو الذي عزا إليه العراقي،
والآخر هذا المختصر. والله أعلم. وكنت أود منه أن يمدنا من حفظه ما يأخذ
بعضد هذا الإسناد المرسل ما نقوي به متنه علاوة على حديث أنس الذي ضعف إسناده،
ولا ندري ما نسبة الضعف فيه، لنعلم هل يصلح للاعتضاد به أم لا؟ وقد وقفت
على شاهد له من حديث(6/1222)
عائشة رضي الله عنها، من طريقين عنها، أحدهما يصلح
للاستشهاد والتقوي به، يرويه ليث عن مجاهد عنها قالت: فذكره، وفيه: أن
العجوز إحدى خالات عائشة رضي الله عنها. أخرجه البيهقي في " البعث " (1) أيضا
(2 / 67 / 2) وكذا أبو الشيخ في " الأخلاق " (رقم 184) ، لكن سقط من
الراوي أو الطابع أو الناسخ ذكر عائشة فصار مرسلا. وأما الطريق الأخرى،
فيرويها الطبراني في " المعجم الأوسط " قال (2 / 39 / 5675) : حدثنا محمد بن
عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا أحمد بن طارق الواشي قال: حدثنا مسعدة بن اليسع
، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة به.
وقال: " لم يروه عن قتادة إلا سعيد بن أبي عروبة ". قلت: وهؤلاء ثقات،
ولكن النظر إنما هو فيمن هم دونهم، وهم: أولا: مسعدة ابن اليسع، وبه أعله
الهيثمي، فقال في " المجمع " (10 / 419) : " رواه الطبراني في " الأوسط "،
وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف "! كذا قال! وفيه تساهل ظاهر، فإن هذا
التضعيف إنما يقوله الحفاظ المتأخرون الذين يعتمدون في الجرح والتعديل على
أقوال الحفاظ المتقدمين، إذا كانوا مسبوقين بالتضعيف من أحد هؤلاء المتقدمين،
ولو كان قوله مرجوحا بالنسبة لأقوال الآخرين منهم، أقول: لا بأس أن يذكره
المتأخر لرأي رآه خطأ كان أو صوابا، أما أن يقتصر عليه وليس له سلف من الحفاظ
المتقدمين، فلا شك أنه في
_________
(1) وقع في " الدر المنثور " (6 / 158) : " الشعب "، وكذلك وقع في بعض
تأليفي نقلا عنه، ويبدو لي أنه خطأ مطبعي. اهـ.(6/1223)
هذه الحالة يكون تساهلا مردودا كما هو الشأن هنا،
فإن مسعدة هذا قال الذهبي في " الميزان "، ووافقه العسقلاني في " اللسان ":
" هالك، كذبه أبو داود، وقال أحمد: حرقنا حديثه منذ دهر ". فمثل هذا
بالكاد أن يقال فيه: " متروك "، وأما أن يقال فيه: " ضعيف " فلا. ثانيا:
أحمد بن طارق الواشي لم أعرفه، وهذه النسبة لم يذكرها السمعاني وابن الأثير
. ثالثا: محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال الحافظ في " المغني ": " وثقه جزرة
، وكذبه عبد الله بن أحمد ". هذا ويشهد لمعنى حديث الترجمة عموم قوله صلى
الله عليه وسلم: " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين، بني ثلاث وثلاثين
". حسنه الترمذي، وهو صحيح بمجموع طرقه وشواهده، وقد بينت ذلك في "
التعليق الرغيب " (4 / 245) وتقدم بعضها برقم (2512) .
(تنبيه) : كنت خرجت الحديث في بعض مؤلفاتي مثل " غاية المرام " (ص 215 - 216
) محسنا إياه، والآن فقد ازداد قوة بهذا الحديث الصحيح، مع ما جاء في تفسير
* (إنا أنشأناهن إنشاء) *. ورغم ذلك كله، فقد أقدم (هدام السنة) المشهور
على تجاهل رواية البيهقي لحديث عائشة السالمة من مسعدة (الهالك) ، وإنما قلت
: " تجاهل " - ولم أقل " جهل " كما تقتضيه قاعدة حسن الظن بالمسلم، ولو أنه
لم يبق مجالا لحسن الظن به لكثرة تجاوزاته ومخالفاته - لم أقل " جهل "،
وإنما " تجاهل " لأنه على علم برواية البيهقي، لأنه لم ينقل رواية الطبراني
مباشرة من " معجمه "، وإنما بواسطة الدر " المنثور " كما ذكر ذلك بالجزء
والصفحة، وهو فيه معزو للبيهقي أيضا، فتعامى عنها، وهكذا فليكن التدليس
والإخلال بالأمانة العلمية.(6/1224)
وقد يقال: إنه لم يعزه للبيهقي لأنه لم يقف على
إسناده، وأنه مغاير لإسناد الطبراني. قلت: هذا ممكن، فإن كان كذلك فهو عذر
أقبح من ذنب، لأن من كان ناصحا لنفسه أولا، ثم لقرائه ثانيا لا يتجرأ على
تضعيف حديث رواه بعض الأئمة ولم يقف المضعف على إسناده، لاحتمال أن يتغير
الحكم على الحديث كما هو الشأن هنا، حتى ولو كان هو قد لا يرى ذلك، ولكن لا
غرابة في كتمانه لهذا الشاهد، فقد كتم ما هو أقوى منه في عشرات الأحاديث، كما
سبق بيانه في مناسبات كثيرة، وبخاصة فيما أنا فيه الآن من تتبعي لتضعيفاته
الكثيرة جدا لأحاديث " الإغاثة " الصحيحة. والله المستعان.
2988 - " يا جد! هل لك في جلاد بني الأصفر؟ ".
أخرجه ابن أبي حاتم في " التفسير " (4 / 51 / 1) من طريق محمد بن إسحاق:
أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن جابر بن عبد الله قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره، قال جد: أو تأذن لي يا رسول الله
، فإني رجل أحب النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت بنات بني الأصفر أن أفتن؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو معرض عنه -: " قد أذنت لك ". فعند
ذلك أنزل الله: * (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا) *
. قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات معروفون من رجال " التهذيب " غير سعيد بن
عبد الرحمن هذا، فأورده ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (2 / 1 / 39)
برواية ابن إسحاق هذا، وبيض له، وذكره ابن حبان في " الثقات " (6 / 249)
وقال:(6/1225)
" روى عنه أهل المدينة، وكان شاعرا ". قلت: فهو إذن معروف وتابعي
، ولذلك حسنته، وقد ذكره ابن إسحاق في " السيرة " (4 / 169 - 170) بأتم
منه من تحديثه عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر
بن قتادة وغيرهم من العلماء، الأمر الذي يشعر بأن الحديث كان مشهورا عندهم.
ومن طريق ابن إسحاق أخرجه الطبري في " التفسير " (10 / 104) والبيهقي في "
دلائل النبوة " (5 / 213 - 214) . وله شاهد من حديث ابن عباس، ومرسل مجاهد
. أما حديث ابن عباس، فله طريقان: أحدهما: يرويه بشر بن عمارة عن أبي ورق عن
الضحاك بن مزاحم عنه قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة (تبوك
) ، قال لجد بن قيس: " هل لك في بنات الأصفر؟ ". فقال: ائذن لي ولا تفتني
! فأنزل الله عز وجل: * (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) *. أخرجه
الطبراني في " المعجم الكبير " (2 / 308 / 2154 و 12 / 122 / 12954) و "
الأوسط " (2 / 42 / 2 / 5734 - بترقيمي) من طريق يحيى بن عبد الحميد: حدثنا
بشر بن عمارة به. وقال: " لم يروه عن أبي روق إلا بشر بن عمارة ".(6/1226)
قلت:
وهو ضعيف كما في " التقريب "، ونحوه الراوي عنه يحيى بن عبد الحميد، وهو
الحماني، وبه فقط أعله الهيثمي فقال في " المجمع " (7 / 30) : " رواه
الطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف ".
وقلده مضعف الأحاديث الصحيحة في تعليقه على " إغاثة اللهفان " (2 / 195) ولا
وجه لإعلاله به، لأنه لم يتفرد به، كما أشار إلى ذلك الطبراني في قوله
المذكور، فقد تابعه محمد بن عمران عند أبي نعيم في " المعرفة " (1 / 142 / 1
) . وابن عمران هو ابن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، وهو ثقة.
وفيه علة أخرى وهي الانقطاع بين الضحاك وابن عباس، فإنه لم يلقه. لكن يشهد
له الطريق الآتية، ولاسيما وقد قال فيه الذهبي في " المغني ": " وهو قوي
في التفسير ". والطريق الآخر: يرويه جبارة بن المغلس: حدثنا أبو شيبة
إبراهيم بن عثمان عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا: " اغزوا تغنموا بنات
الأصفر ". فقال ناس من المنافقين: إنه ليفتنكم بالنساء! فأنزل الله عز وجل
* (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) *. أخرجه الطبراني أيضا في " الكبير "
(11 / 63 / 11052) ، وأعله الهيثمي بقوله: " وفيه أبو شيبة إبراهيم بن
عثمان، وهو ضعيف ".(6/1227)
قلت: وقلده الهدام، وهذا منه على خلاف عادته وهدمه
، فإنه ينطلق فيه إلى تبني أسوأ ما قيل في الراوي، ولو كان مرجوحا، وما هنا
على العكس تماما، فإن الراجح في أبي شيبة هذا أنه متروك، كما في " الكاشف "
و" التقريب " وغيرهما، فما هو السبب يا ترى؟ والجواب: هو التقليد حين لا
يهمه الأمر، وإلا اجتهد، ولو خالف الأئمة الأوتاد! وإن مما يؤكد ما ذكرت
أنه فاته أن الراوي عنه جبارة بن المغلس ضعيف أيضا كما قال الذهبي والعسقلاني
، بل كذبه بعضهم. فالإسناد شديد الضعف لا يستشهد به. وإن مما يؤكد ذلك أن
المحفوظ عن مجاهد مرسل، أخرجه ابن جرير في " تفسيره " (10 / 104) من طريق
عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله: * (ائذن لي ولا تفتني) *. قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اغزوا تبوك تغنموا بنات الأصفر ونساء
الروم ". فقال الجد: ائذن لنا، ولا تفتنا بالنساء. قلت: وهذا إسناد صحيح
مرسل عن مجاهد، وهو شاهد قوي لحديث ابن عباس، فإنه من تلامذته، ممن تلقوا
التفسير عنه، وابن أبي نجيح اسمه عبد الله، قال الذهبي في " الميزان ": "
صاحب التفسير، أخذ عن مجاهد وعطاء، وهو من الأئمة الأثبات. وقال يحيى
القطان: لم يسمع التفسير كله من مجاهد، بل كله عن القاسم بن أبي بزة ". قلت
: والقاسم هذا ثقة احتج به الشيخان. وذكر المزي في ترجمة ابن أبي نجيح أن
الشيخين أخرجا له عن مجاهد.(6/1228)
وتابعه ابن جريج عن مجاهد. أخرجه ابن جرير أيضا
. وهو في " تفسير مجاهد " المطبوع على نفقة الشيخ خليفة أمير دولة قطر (ص 281
) من الطريق الأولى عن مجاهد، لكن في السند إليه متهم فهو - ككتاب - بحاجة إلى
دعم، لكن هذا الحديث منه مدعم برواية ابن جرير هذه، فتنبه. (تنبيه) : أخرج
عبد الرزاق في " تفسيره " (1 / 2 / 277) من طريق الكلبي في تفسير الآية
المتقدمة * (ائذن لي..) * نحو حديث الضحاك عن ابن عباس، والكلبي متهم بالكذب
، وما كنت لأذكره هنا إلا لأنبه على مصيبة من المصائب التي لا يعرفها المسلمون
، وبخاصة المثقفين منهم، وذلك لغلبة المادة عليهم سمعة أو مالا أو نحو ذلك،
فقد علق على هذا الحديث محققه الدكتور (مصطفى مسلم محمد) ، فقال، وبئس ما
قال: " رواه أحمد ج6 ص 22، ج5 ص 25، وابن ماجه في الفتن 25 "! وهذا
التخريج لا يصلح لهذا الحديث البتة، وإنما هو لحديث آخر من رواية عوف ابن
مالك رضي الله عنه في أشراط الساعة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم
يأتيكم بنو الأصفر.. "! فكيف وقع هذا الخلط من مثل هذا الدكتور؟ وليس هذا
خطأ مطبعيا كما يقع أحيانا، وإنما هو - والله أعلم - أن الدكتور رجع إلى بعض
الفهارس الحديثة، فوجد فيه لفظ " الأصفر " معزوا إلى أحمد وابن ماجه، فعزاه
إليهما! وهذه والله مصيبة الدهر، ومما زاد في الطين بلة أن الرقم الثاني (
5 / 25) ليس فيه حتى هذا اللفظ! وهذا مما يؤكد أنه نقله من (الفهرس) كما
وجده، ولم يكلف نفسه أن يرجع إلى(6/1229)
مكان الحديث المشار إليه بالرقم: هل هو
الحديث الذي أشير إليه بالرقم الأول، أم غيره؟ والله المستعان، وإنا لله
وإنا إليه راجعون. ثم رأيت الحافظ في " الإصابة " عزا حديث الضحاك لأبي نعيم
وابن مردويه، ثم قال: " ورواه ابن مردويه من حديث عائشة بسند ضعيف أيضا،
ومن حديث جابر بسند فيه مبهم ". قلت: فالظاهر أن إسناده عن جابر غير إسناده
عند ابن أبي حاتم، لأنه ليس فيه - كما رأيت - المبهم. والله أعلم.
2989 - " كان [يعلمنا] إذا أصبح [أحدنا أن] يقول: أصبحنا على فطرة الإسلام،
وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وملة أبينا إبراهيم
حنيفا [مسلما] وما كان من المشركين ".
أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة " (133 / 1) وكذا ابن السني (12 /
32) والدارمي (2 / 292) والطبراني في " الدعاء " (2 / 926 / 294) وابن
أبي شيبة في " المصنف " (9 / 71 / 6591) وأحمد (3 / 407) من طرق كثيرة
صحيحة عن يحيى بن سعيد عن سفيان قال: حدثني سلمة بن كهيل عن عبد الله بن عبد
الرحمن ابن أبزي عن أبيه قال: فذكره. والزيادتان الأوليان للطبراني،
والأخيرة للجميع إلا أحمد. وفي رواية له قال: حدثنا وكيع عن سفيان.. بلفظ:
" كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: أصبحنا.. " الحديث، فزاد: " وإذا(6/1230)
أمسى "
. وعندي وقفة في ثبوت هذه الزيادة لمخالفة وكيع ليحيى بن سعيد، وهو القطان
الحافظ الكبير، ووكيع أيضا حافظ مثله أو قريب منه، وقد أثنى عليه الإمام
أحمد ثناء بالغا، كما ترى في ترجمته من " التهذيب "، ولكنه قال في ترجمة
يحيى بن سعيد: " إنه أثبت من هؤلاء. يعني ابن مهدي ووكيعا وغيرهما ". يضاف
إلى ذلك أن الزيادة المذكورة لم ترد في رواية شعبة الآتية، ولا في رواية ثقات
آخرين عن سفيان عند النسائي (290 / 343 و 344) والبيهقي في " الدعوات الكبير
" (19 / 26) . وقد خالف تلك الطرق الكثيرة عن يحيى ومعه وكيع محمد بن بشار
فقال: حدثنا يحيى عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزي
عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أصبحنا.. الحديث. فأبهم التابعي
ولم يسمه، وأدخل بينه وبين سلمة (ذرا) . أخرجه النسائي (134 / 2) ولا
أشك في شذوذها لمخالفتها الجماعة. وهكذا رواه شعبة عن سلمة بالزيادة
والإبهام. أخرجه النسائي رقم (3 و 345) وأحمد (3 / 406 و 407) لكنه سمى
المبهم (سعيد بن عبد الرحمن) ، والبيهقي (رقم 27) . قلت: ومخالفة شعبة
لسفيان - وهو الثوري - تعتبر شاذة، لأنه أحفظ منه باعتراف شعبة نفسه كما يأتي
. ولكن من الممكن أن يقال: إن سلمة ثقة ثبت، وكان يرويه على الوجهين: مرة
عن عبد الله بن عبد الرحمن، فحفظه سفيان، ومرة عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن
، فحفظه شعبة.(6/1231)
وإن مما يقرب ذلك أن (عبد الله) و (سعيدا) أخوان. قال
الأثرم: قلت لأحمد: سعيد وعبد الله أخوان؟ قال: نعم. قلت: فأيهما أحب
إليك؟ قال: " كلاهما عندي حسن الحديث ". قلت: فلا يبعد أن يكون كل منهما
سمع الحديث من أبيهما عبد الرحمن، فرواه سلمة عن عبد الله مباشرة، وعن سعيد
بواسطة (ذر) ، فروى عنه كل من سفيان وشعبة ما سمع، وكلاهما ثقة حافظ،
ولعل هذا الجمع أولى من تخطئة شعبة. والله أعلم وعلى كل حال فالحديث صحيح،
فإن الأخوين ثقتان، وإن كان سعيد أوثق، فقد احتج به الشيخان. وأما عبد
الله، فقد ذكره ابن حبان في " الثقات " (7 / 9) ، وكذا ابن خلفون، وصحح
له الحاكم (2 / 240 - 241) والذهبي، وروى عنه جمع من الثقات، فقول الحافظ
في " التقريب ": " مقبول ". فهو غير مقبول، والأقرب قوله في " نتائج
الأفكار " (2 / 380) : " وهو حسن الحديث كما قاله الإمام أحمد ". فالإسناد
جيد، وبخاصة على الجمع المذكور بين روايتي سفيان وشعبة. وقد تابعه من لا
يفرح بمتابعته، وهو يحيى بن سلمة بن كهيل، ولكنه خالفه في صحابي الحديث،
فقال: عن أبيه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب.
هكذا أخرجه الطبراني (رقم 293) من طريقين عنه.(6/1232)
وخالفهما إسماعيل بن يحيى بن
سلمة بن كهيل، فقال: عن أبيه عن سلمة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى به، زاد
في آخره: " وإذا أمسينا مثل ذلك ". أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد "
المسند " (5 / 123) قال: حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل
: حدثني أبي. قلت: هذا إسناد ضعيف بمرة، إبراهيم هذا ضعيف، وأبوه إسماعيل
بن يحيى وجده متروكان، كما في " التقريب "، لكن الأب قد توبع كما تقدم،
فالآفة يحيى بن سلمة. والحديث أورده الهيثمي في " المجمع " (10 / 116)
بزيادة وكيع، وقال: " رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح ".
وعزاه النووي في " الأذكار " لابن السني فقط، وقال: " إسناده صحيح "، فما
أبعد، وتبعه الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " (1 / 327) وعزاه للنسائي
. وخالفه الحافظ في " تخريج الأذكار "، قال (2 / 379) : " حديث حسن "! ثم
ذكر الخلاف بين سفيان وشعبة، ثم قال: " ومع هذا الاختلاف لا يتأتى الحكم
بصحته. والله المستعان ". وأقول: ليس كل اختلاف له حظ من النظر، فإن
الراجح يقينا رواية سفيان على رواية شعبة، ومثل هذا لا يخفى على مثل الحافظ،
فالظاهر أنه لم يتيسر له(6/1233)
إمعان النظر في روايتيهما، كيف لا، وهو الذي ذكر في
ترجمة (سفيان) عن شعبة أنه قال: " سفيان أحفظ مني ". وبذلك جزم جماعة من
الحفاظ كأبي حاتم وأبي زرعة وابن معين وصالح جزرة وغيرهم. وقال يحيى
القطان: " ليس أحد أحب إلي من شعبة، ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان
أخذت بقول سفيان "، انظر " السير " (7 / 237) . وهنا تنبيهات على أوهام:
أولا: لقد ذكر الحديث ابن القيم رحمه الله في " إغاثة اللهفان " بلفظ: " كان
النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: أصبحنا.. ".
فلما أخرجه (الهدام) في تعليقه عليه (2 / 239) تخريجا مجملا، لبيان الخلاف
المتقدم في إسناده بين سفيان وشعبة ليختمه بقوله: " والذي يظهر أن رواية
شعبة أقرب إلى الصواب، وإسناده صحيح ". فأقول: عليه مؤاخذات: الأولى: أنه
لم يبين للقراء وجه ما استظهره! وهذا شأن العاجز أو الجاهل. وكثيرا ما يفعل
ذلك. الثانية: أن استظهاره باطل ما دام أنه سلك طريق الترجيح، لأنه خلاف قول
شعبة نفسه وأقوال الحفاظ الذين جاؤوا من بعده وشهدوا بشهادته أن رواية سفيان
عند الاختلاف أرجح من روايته كما تقدم، وهذا من الأدلة الكثيرة على أنه يركب
رأسه، ويخالف أئمته، ولا يبالي بهم أية مبالاة!(6/1234)
وقد يكون الذي حمله على
مخالفتهم أنه رأى رواية ابن بشار عن يحيى عن سفيان موافقة لرواية شعبة،
فاعتبرها مرجحة لها، جاهلا أو متجاهلا أنها خطأ لمخالفتها لرواية الجماعة عن
يحيى عن سفيان، ولرواية الثقات الآخرين عن سفيان! الثالثة: على ترجيحه
لرواية شعبة، فهو لم يخرج الحديث باللفظ الذي ذكره ابن القيم، لأنه ليس فيها
الوصية المذكورة فيه! والتي هي معنى الزيادة التي أودعتها في حديث الترجمة،
وقد أورده ابن أبي العز في " شرح الطحاوية " (ص 96 - 97 / التاسعة) بلفظ
أقرب إليها: " كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا.. "
. فهذا اللفظ إنما هو في حديث سفيان، وفي رواية الطبراني كما تقدم، وعليه
يكون عنده مرجوحا لا يصح! فيتأمل القراء نتيجة من يتكلم في علم لا يحسنه،
ومع ذلك فهو يخالف ويرد على كبار العلماء سلفا وخلفا! نعوذ بالله من العجب
والغرور والخذلان. واعلم أخي القارىء أن هذه الزيادة تتفق تماما مع قوله صلى
الله عليه وسلم في الحديث: " ودين نبينا محمد "، فإنه من المستبعد جدا أن
يذكر صلى الله عليه وسلم لفظا " نبينا " في دعائه لنفسه بهذا الورد، وإنما
تعليما لأمته صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما لم يطلع الإمام النووي على هذه
الزيادة أجاب بجواب غير مقنع، فقال عقب الحديث: " قلت: كذا وقع في كتابه: "
ودين نبينا محمد، وهو غير ممتنع، ولعله صلى الله عليه وسلم قال ذلك جهرا
ليسمعه غيره فيتعلمه. والله أعلم ". ومن الغرائب أن يمر عليه ابن علان في
شرحه (3 / 126) فلا يعلق عليه بشيء، وكذلك الشوكاني في " تحفة الذاكرين " (
ص 66) ! المؤاخذة الرابعة على (الهدام) : أنه عزاه لأحمد. والصواب: عبد
الله بن أحمد في " زوائد المسند " كما تقدم، ولعله لا يعلم أن في " المسند "
مئات(6/1235)
الأحاديث هي من رواية عبد الله عن شيوخه كما هو معروف عند العلماء بهذا
الفن الشريف، بخلاف عبيد الفهارس! وقد شاركه في هذا الجهل الدكتور المعلق
على كتاب " الدعاء "، فقال (2 / 926) تعليقا على حديث يحيى بن سلمة المتقدم
: " وقال في " المجمع " (10 / 166) : رواه عبد الله (كذا) وفيه إسماعيل
بن يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو متروك ". فقوله: " كذا " فيه إشارة قوية إلى
استنكاره عزوه لـ (عبد الله) ، وأكدها في الصفحة المقابلة، فعزاه لأحمد (5
/ 123) كما فعل الهدام تماما، ولعل هذا سرق هذا العزو منه، فإنه متأخر في
التأليف عنه، وهو مشهور - عند العارفين به - بالسرقة، ولاسيما من كتبي!
ثانيا: إعلال الهيثمي لرواية عبد الله بن أحمد بإسماعيل بن يحيى بن سلمة فقط،
كما نقله الدكتور المشار إليه آنفا وأقره عليه، تقصير واضح أو غفلة، لأن
أباه يحيى بن سلمة متروك أيضا مثل ابنه كما تقدم بيانه في (ص 1233) ، ويظهر
أهمية هذه الغفلة إذا تذكرت أن إسماعيل قد توبع من طريقين كما تقدم من رواية
الطبراني. ثالثا: وبمناسبة طريقي الطبراني، فلابد الآن من بيانهما للفت
النظر إلى خطأ آخر وقع فيه الدكتور المشار إليه آنفا، فإنه عند الطبراني من
طريق محمد بن عبد الوهاب الحارثي ويحيى بن عبد الحميد الحماني قالا: حدثنا
يحيى بن سلمة.. فأعله الدكتور بيحيى بن سلمة، وقال: " ويحيى الحماني متكلم
فيه "! فغفل عن متابعة محمد بن عبد الوهاب الحارثي، أو أنه لم يعرفه فسكت(6/1236)
عنه
، وهو ثقة، ترجمه الخطيب (2 / 390) ، وروى عن صالح جزرة أنه قال: ثقة.
مات سنة (229) ، ووثقه ابن حبان أيضا، والبزار، انظر " الصحيحة " (3038
و3040) . رابعا: غفل الأخ بدر البدر في تعليقه على " الزهد " عن شذوذ رواية
محمد بن بشار، ومخالفته لرواية الجماعة عن يحيى عن سفيان، فاعتبر رواية
سفيان الشاذة متابعة لرواية شعبة الشاذة!! فقال (2 / 19 و 20) : "
والإسنادان ثابتان لا علة فيهما.. وتابع شعبة عليه سفيان الثوري عند النسائي (
2) "! وهذا كله غفلة عن التحقيق السابق، وعن تسمية رواية أحمد (1) عن شعبة
لابن عبد الرحمن بن أبزى بـ (سعيد) الأمر الذي يؤكد أن الخلاف لا يزال قائما
بين الحافظين، فهذا يسميه بخلاف تسمية ذاك بـ (عبد الله) كما تقدم،
فالمتابعة غير ثابتة حتى لو سلمنا بثبوت رواية ابن بشار كما هو ظاهر. فالصواب
ترجيح رواية سفيان على رواية شعبة، أو الجمع بينهما بأن كلا منهما حفظ ما سمع
كما تقدم بيانه. وقد كنت أشرت (ص 1235) حين الرد على الهدام ترجيحه لرواية
شعبة على رواية سفيان، وتضعيفه لهذه أنه لعله اعتمد في ذلك على رواية ابن
بشار، فقد التقى مع الأخ بدر في الاعتماد، ولكن خالفه في التضعيف المذكور،
فكان أبعد منه عن الصواب، وهذا كله - فيما أظن - من باب خالف تعرف، ولكي لا
يقال: إنه مقلد!! خامسا: وقع الحديث في عدة نسخ من " أذكار النووي " من مسند
(عبد الله بن أبزى) ، وكذلك هو في " شرح ابن علان " إياه (3 / 126) وهو
خطأ
_________
(1) لما عزاه الأخ بدر إليه عزاه برقم (2: 407 *) هكذا بنجمة فلم أفهم أي
طبعة عنى، أو ماذا أراد! . اهـ.(6/1237)
فاحش، والصواب - كما عرفت - (عبد الرحمن بن أبزى) ، وهو صحابي صغير،
مثل (محمود بن لبيد) الذي ضعف حديثه (الهدام) (2 / 214) بحجة أنه مرسل!
بينما تراه هنا صحح حديث عبد الرحمن هذا! وهكذا تراه يكيل بكيلين، ويزن
بميزانين. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2990 - " ثلاثة كلهن سحت: كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب، إلا الكلب الضاري
".
أخرجه الدارقطني (3 / 72) من طريق محمد بن مصعب القرقساني: أخبرنا نافع بن
عمر عن الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح عن عمه عطاء عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم.. وقال: " الوليد بن عبيد الله ضعيف ". قلت: وكذا قال
البيهقي في " السنن " (6 / 6) بعد أن ذكره معلقا. ومحمد بن مصعب القرقساني
صدوق كثير الغلط، كما في " التقريب "، لكني أرى - والعلم عند الله - أن
الحديث صحيح لطرقه وشواهده، إلا جملة الاستثناء، فهي حسنة، وقد تصح للسبب
نفسه، فلننظر. أما الأول، فله طريق آخر، يرويه قيس بن سعد عن عطاء به نحوه
دون الاستثناء، وتقدم لفظه تحت الحديث (2971) . أخرجه ابن حبان (1118)
بسند جيد. وتابعه الحجاج عن عطاء به نحوه. أخرجه أحمد (2 / 500) بسند
رجاله ثقات رجال الشيخين غير الحجاج، وهو ابن أرطاة، وهو ثقة، لكنه مدلس،
وقد عنعنه.(6/1238)
وله شاهد من حديث رافع بن خديج مرفوعا نحوه. أخرجه مسلم (5 /
35) والترمذي (1275) (1) ، وقال: " حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند
أكثر أهل العلم، كرهوا ثمن الكلب، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقد
رخص بعض أهل العلم في ثمن كلب الصيد ". قلت: ولهذا البعض هذا الحديث وما
يشهد له: فأقول: له طريق أخرى، أو للوليد بن عبيد الله بن أبي رباح متابع
على جملة الاستثناء، فقال محمد بن سلمة: عن المثنى عن عطاء به. أخرجه
الدارقطني (3 / 73 / 275) وقال: " المثنى ضعيف ". قلت: هو ابن الصباح
اليماني، وليس شديد الضعف، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه الجمهور،
وأبو حاتم الرازي مع تشدده المعروف في جرح الرواة ألان القول فيه، فقال: "
لين الحديث ". واعتمده الذهبي في " الكاشف "، وقال في " المغني ": "
ومشاه بعضهم ". فكأنه يشير إلى ما تقدم، وقال الحافظ: " ضعيف اختلط بأخرة،
وكان عابدا ". فكأنه يشير إلى أنه أدركته غفلة الصالحين، فمثله يستشهد به إن
شاء الله تعالى.
_________
(1) واستدركه الحاكم (2 / 42) ، وقال: " صحيح على شرط الشيخين ". فوهم
على مسلم. اهـ.(6/1239)
وللاستثناء عن أبي هريرة طريق أخرى، يرويها حماد بن سلمة عن
أبي المهزم عنه قال: " نهي عن ثمن الكلب، إلا كلب الصيد ". أخرجه الترمذي (
1281) وقال: " لا يصح من هذا الوجه، وأبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان،
وتكلم فيه شعبة وضعفه. وقد روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا
، ولا يصح إسناده أيضا ". وأبو المهزم متروك كما في " التقريب "، فلا
يستشهد به، واقتصر في " التلخيص " على قوله فيه (3 / 4) : " وهو ضعيف ".
قلت: ولحماد بن سلمة إسناد آخر يرويه عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا مثله.
وهو الذي أشار إليه الترمذي وضعفه. وهو مخرج تحت الحديث الصحيح المتقدم برقم
(2971) برواية النسائي، وضعفه أيضا. وهو كما قال الحافظ: " رجاله ثقات "
، وفيه عنعنة أبي الزبير كما ترى. وقد اختلف في إسناده على حماد رفعا ووقفا
وإرسالا، وقال الدارقطني: " والموقوف أصح ". ولم أجد ما يؤيده، لاسيما
وقد رواه الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا. أخرجه الدارقطني (
274) ، وعلقه البيهقي، وقال: " الحسن بن أبي جعفر ليس بالقوي ".(6/1240)
وقال
الذهبي في " الكاشف ": " صالح، خير، ضعفوه ". وقال الحافظ: " ضعيف الحديث
مع عبادته وفضله ". قلت: فمثله يستشهد به إن شاء الله تعالى. فالراجح -
والله أعلم - أن المرفوع المسند صحيح، لولا عنعنة أبي الزبير، ولذلك فما
استظهره ابن التركماني في " الجوهر النقي " (6 / 7) أن الحديث بهذا الاستثناء
صحيح، غير بعيد، قال: " والاستثناء زيادة على أحاديث النهي عن ثمن الكلب،
فوجب قبولها. والله أعلم ". قلت: وقد جاءت آثار عن إبراهيم وعطاء
وغيرهما أنه لا بأس بثمن كلب الصيد، عند ابن أبي شيبة (6 / 246 - 248) .
وأما حديث " نهى عن ثمن الكلب، وإن كان ضاريا "، فهو منكر، تفرد به ابن
لهيعة، ولذلك كنت أوردته في " الضعيفة " (5790) . وجملة القول: أنني
بعدما وقفت على حديث الترجمة وبعض طرقه وشواهده وجب الرجوع عما كنت ذكرته تحت
الحديث (2971) مما ينافي ما جاء هنا من التحقيق، والله ولي التوفيق. (
تنبيه) : تقدم في أول هذا التخريج أن راوي الحديث (الوليد بن عبيد الله بن
أبي رباح) ضعفه الدارقطني. وقد نقله الذهبي عنه في " الميزان " وسكت
واستدرك عليه في " اللسان "، فقال:(6/1241)
" وذكره ابن حبان في " الثقات "، وأخرج
له ابن خزيمة في (صحيحه) ". قلت: أورده في طبقة (أتباع التابعين) (7 /
549) ، برواية حفص بن غياث عنه، وقد روى عنه معقل بن عبيد الله أيضا كما في
" الجرح والتعديل " (4 / 2 / 9) وروى توثيقه عن ابن معين، وقد وقعت هذه
الرواية نفسها في الترجمة التي قبلها (الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث مولى
بني عبد الدار) ، وكذلك هي في " تاريخ الدارمي " (ص 140) عن ابن معين،
لكنه لم يقل (ابن أبي مغيث..) ، فالظاهر أنها مقحمة في ترجمة (الوليد بن
عبيد الله) في طبقة " الجرح والتعديل ". وروى عنه أيضا (نافع بن عمر) كما
تقدم في حديث الترجمة. فهؤلاء ثلاثة من الثقات رووا عنه، فهو صدوق لولا أن
الدارقطني ضعفه، وأقره الذهبي كما تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وبهذه المناسبة أقول: أخرج له ابن حبان في " صحيحه " (201 - الموارد) حديث
صاحب الشجة الذي أجنب في شتاء بارد فأفتوه أنه لابد له من الغسل، فاغتسل فمات
، فقال صلى الله عليه وسلم: " قتلوه قتلهم الله.. " الحديث. أخرجه من طريق
ابن خزيمة، وهذا في " صحيحه " كما تقدم عن الحافظ، وأخرجه ابن الجارود
والحاكم، وصححه هو والذهبي، وقواه جمع منهم ابن القيم في " إغاثة اللهفان
"، أما المعلق عليه (الهدام) ابن عبد المنان، فضعفه كعادته في معاكسته
لأئمة السنة، ولما خرجه كتم عن قرائه هذا الإسناد الذي أقل ما يقال فيه - مع
تصحيح المذكورين إياه - أنه يستشهد به، كما كتم تصحيحهم، وكم له من مثل هذا
الجور في التضعيف والكتمان، عليه من الله ما يستحق. انظر التفصيل في ردي
عليه رقم (3) يسر الله لي إتمامه.(6/1242)
2991 - " سبحان الله! لا من الله استحيوا، ولا من رسول الله استتروا. قاله في فئة
عراة ".
أخرجه أحمد وابنه عبد الله (4 / 191) وأبو يعلى (3 / 109 - 110) والبزار
(2 / 429 - 430) من طريقين عن سليمان بن زياد الحضرمي أن عبد الله بن
الحارث بن جزء الزبيدي حدثه: أنه مر وصاحب له بـ (أيمن) وفئة من قريش قد
حلوا أزرهم فجعلوها مخاريق يجتلدون بها وهم عراة، قال عبد الله: فلما مررنا
بهم قالوا: إن هؤلاء قسيسون فدعوهم. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
عليهم، فلما أبصروه تبددوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا حتى دخل
، وكنت وراء الحجرة فسمعته يقول: (فذكره) ، وأم أيمن عنده تقول: استغفر
لهم يا رسول الله! قال عبد الله: فبلأي ما استغفر لهم. قلت: وهذا إسناد
صحيح رجاله ثقات. وقال الهيثمي (8 / 27) : " رواه أحمد وأبو يعلى والبزار
والطبراني، وأحد إسنادي الطبراني ثقات ". قلت: وفاته عزوه لعبد الله بن
أحمد، وقلده المعلق على " مسند أبي يعلى "، والمعلق على " المقصد العلي " (
3 / 50) مع أنهما عزواه لأحمد بنفس الجزء والصفحة، ولكنهما لم ينتبها لما
في آخر الحديث: " قال عبد الله: وسمعته أنا من هارون ". قلت: وهارون هو
شيخ أبيه أحمد فيه، وهو هارون بن معروف المروزي، ثقة من رجال الشيخين.(6/1243)
غريب الحديث. 1 - قوله: (بأيمن) كذا في " المسند " و " جامع المسانيد " (7
/ 409 - 410) و " أطراف المسند " (2 / 699) وفي " مسند أبي يعلى ": " بأم
أيمن "! وفي " البزار " " بناس "! وهما محرفان - والله أعلم - من الأول،
والثلاثة سقطوا من " مجمع الزوائد " و " المعجم الكبير " الذي فيه مسند (عبد
الله بن الحارث) لم يطبع بعد لنستعين به على التحقيق. و (أيمن) هو ابن (أم
أيمن) ، له ذكر في الصحابة. 2 - (مخاريق) جمع (مخراق) : ثوب يلف، ويضرب
به الصبيان بعضهم بعضا. 3 - (قسيسون) . قلت: هو جمع (قسيس) ، وهو العالم
العابد من رؤوس النصارى، كما في " المفردات " للراغب الأصبهاني وغيره.
فكأنهم يعنون أنهم متعبدون متشددون، كما يسمي اليهود وأذنابهم المتمسكين
بدينهم من المسلمين بـ (المتطرفين) ! * (تشابهت قلوبهم) *! 4 - (فبلأي)
كذا في " المسند ". وفي " أبي يعلى ": " فبأبي "، وكذا عزاه إليه الهيثمي
، لكن وقع فيه (فتابي) ، وهو خطأ مطبعي ظاهر، والصواب ما في " المسند "،
فقد أورده ابن الأثير (لأي) ، وقال: " أي بعد مشقة وجهد وإبطاء ". يعني
أن النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك ما استغفر لهم. (تنبيه على وهم نبيه) :
لما ساق الحافظ ابن حجر في " أطرافه " الطرف الأول من رواية أحمد، أتبعه(6/1244)
بطرفه
الآخر: ".. ولا من رسوله استتروا "، مشيرا بذلك إلى انتهاء روايته إلى هنا
لما يأتي، وقال عقبه: " حدثنا هارون.. عنه به. ورواه أبو يعلى عن هارون
به، وزاد: وأم أيمن عنده.. ما استغفر له ". كذا قال! ولم يتنبه لكون
هذه الزيادة عند أحمد أيضا - والسياق الذي سقته هو له -، فالظاهر أنه التبس
عليه سياقه بسياق البزار فهو الذي ليس عنده الزيادة المذكورة. ونحو ذلك ما
وقع للدكتور المعلق عليه، فقال تعليقا على قول الحافظ " وزاد ": " وهذه
الزيادة وردت أيضا في رواية هارون "! أراد أن يقول: " ... أحمد "، فقال: "
هارون "!
2992 - " إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون. قاله لأم سلمة ".
أخرجه البخاري (1626) من طريق أبي مروان يحيى بن أبي زكريا الغساني عن هشام
عن عروة عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو بمكة وأراد الخروج ولم تكن أم سلمة طافت
بالبيت وأرادت الخروج - فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذكره) ،
ففعلت ذلك، فلم تصل حتى خرجت. قلت: يحيى هذا مع إخراج البخاري إياه لم يوثقه
كثير أحد، بل قال أبو داود: " ضعيف ". وقال ابن حبان في " الضعفاء " (3 /
126) : " لا يجوز الرواية عنه لما أكثر من مخالفة الثقات، فيما يروي عن
الأثبات ". لكني رأيت البزار قال (4 / 23 - كشف الأستار) :(6/1245)
" ليس به بأس،
روى عنه الناس ". وذكر ابن طاهر المقدسي في " رجال الصحيحين " (2 / 568 /
2209) أن البخاري روى له في آخر " الاعتصام " مفردا، وفي سائر المواضع
مقرونا ". وأشار الحافظ في ترجمته من " التهذيب " أن هذا الحديث عند البخاري
متابعة. وكذلك ذكر في " التقريب "، لكن نصه فيه يخالف ما تقدم عن ابن طاهر،
فإنه قال: " ضعيف، ما له في البخاري سوى موضع واحد متابعة ". وهذا يخالف
أيضا قوله في ترجمته في " مقدمة فتح الباري " (ص 451) : " أخرج له البخاري
حديثا واحدا عن هشام عن أبيه عن عائشة في (الهدية) ، وقد توبع عليه عنده ".
وحديث (الهدية) هذا لم أعرفه، لكنه داخل في " سائر المواضيع " التي أشار
إليها، ومناف للواقع، فقد رأيت الحديث في آخر " الاعتصام " برقم (717)
بإسناده المتقدم، لكن قال: " عن عائشة " مكان " عن أم سلمة "، وهو قطعة من
حديث الإفك، ولم يتكلم الحافظ في " الفتح " (13 / 343) إلا على شيخ البخاري
فيه الراوي له عن يحيى، وكان الأولى به أن يبين حال يحيى هذا! ولكنه لم
يفعل لا هنا، ولا في الموضع الأول، وكأنه لكونه متابعا. ولعله من أجل ذلك
أورده الذهبي في " الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد " (187 / 365) ، مع
أنه لم يزد على الإشارة إلى أنه من رجال البخاري مع قوله: " ضعفه أبو داود ".
والحافظ يشير بالمتابعة إلى قوله في " الفتح " (3 / 487) : " وقد أخرج
الإسماعيلي من طريق حسان بن إبراهيم، وعلي بن هاشم(6/1246)
ومحاضر بن المودع، وهو
والنسائي عن عبدة بن سليمان كلهم عن هشام عن أبيه عن أم سلمة. وهذا هو
المحفوظ، وسماع عروة من أم سلمة ممكن، فإنه أدرك من حياتها نيفا وثلاثين
سنة، وهو معها في بلد واحد ". وفي هذا إشارة قوية إلى الانتصار لمذهب
الإمام مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة مع إمكان اللقاء، وأنه يكفي في إثبات
الاتصال، وإن كان اشتراط البخاري ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة أقوى، ولكنه
شرط كمال وليس شرط صحة كما حققته في غير موضع واحد، منها ما تقدم تحت الحديث
(2979) . هذا، ولفظ عبدة عند النسائي (2 / 37) : عن أم سلمة قالت: يا
رسول الله! ما طفت طواف الخروج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أقيمت
الصلاة (وفي رواية: صلى الناس الصبح) فطوفي على بعيرك من وراء الناس ".
وأخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (23 / 266 / 571 و 408 / 981) من طرق
أخرى عن هشام بن عروة به، والرواية الأخرى رواية له رحمه الله. وقد ظن بعض
المتقدمين أن هذا الحديث مخالف سندا ومتنا لرواية مالك بسنده عن عروة بن
الزبير عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه
وسلم قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: " طوفي
من وراء الناس وأنت راكبة ". فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي
إلى جنب البيت، وهو يقرأ * (والطور وكتاب مسطور) *. متفق عليه (1) .
_________
(1) وهو مخرج في " صحيح أبي داود " (1644) .(6/1247)
قلت:
فمن الملاحظ أن في هذا المتن ما ليس في الأول، وأن في إسناده زيادة (زينب
بنت أبي سلمة) بين عروة وأم سلمة مما ليس في الأول، الأمر الذي حمل
الدارقطني على إعلال هذا بالانقطاع وقوله: " لم يسمعه عروة من أم سلمة " (1)
ولكن الحافظ رده بأمور، منها ما تقدم ذكره عنه أنه متصل، ومنها اختلاف
المتنين، مما يدل على أنهما حديثان، الأول في طواف الوداع، والآخر في طواف
الإفاضة يوم النحر. وغير ذلك. فراجعه إن شئت المزيد.
2993 - " يذهب الصالحون، الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير والتمر، لا
يباليهم الله بالة ".
أخرجه البخاري (6434) وفي " التاريخ " (4 / 1 / 434) والدارمي (2 / 301
) والبيهقي (10 / 122) و " الزهد " (رقم 210) وأحمد (4 / 193) عن قيس
ابن أبي حازم عن مرداس الأسلمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره
. وصرح قيس بسماعه من مرداس في رواية لأحمد، لكنه أوقفه. وكذا هو في رواية
للبخاري (4156) ، وهو الأصح، ولاسيما أنه في حكم المرفوع، وله شواهد
تقدم ذكرها برقم (1781) . (فائدة) : مرداس هذا هو ابن مالك الأسلمي، وكان
من أصحاب الشجرة كما صرح قيس في الرواية الموقوفة، وتفرد بالرواية عنه قيس،
وقرن معه المزي (زياد ابن علاقة) ، وتبعه الذهبي في " الكاشف "، لكنهما
خولفا في ذلك، فذكره ابن الصلاح فيمن تفرد بروايته عنه قيس عند البخاري،
وتبعه الحافظ ابن كثير في " اختصار علوم الحديث " (ص 109) ، ولذلك قال الحافظ
ابن حجر تعقيبا على الحافظ المزي (10 / 86) :
_________
(1) وكذلك قال النسائي عقب رواية عبدة المتقدمة. اهـ.(6/1248)
" قلت: مرداس الذي روى عنه
زياد بن علاقة، إنما هو (مرداس بن عروة) صحابي آخر، ذكره البخاري وأبو
حاتم وابن حبان وابن منده وغير واحد، وصرح مسلم وأبو الفتح الأزدي
وجماعة أن (قيس بن أبي حازم) تفرد بالرواية عن مرداس بن مالك الأسلمي، وهو
الصواب ". قلت: وقد صرح بذلك الإمام الدارقطني أيضا، كما قال للحاكم،
وكتبه له بخطه كما في " المستدرك " (4 / 401) في آخرين انفردوا بالرواية عن
بعض الصحابة سماهم.
2994 - " فما عدلت بينهما. أي بين الابن والبنت في التقبيل ".
أخرجه ابن عدي في " الكامل " (4 / 239) ومن طريقه البيهقي في " الشعب " (6
/ 410 / 8700) - قال: القاسم بن مهدي: حدثنا يعقوب بن كاسب: حدثنا عبد الله
ابن معاذ عن معمر عن الزهري عن أنس: أن رجلا كان جالسا مع النبي صلى الله
عليه وسلم، فجاء بني له فأخذه فقبله وأجلسه في حجره، ثم جاءت بنية له فأخذها
فأجلسها إلى جنبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره، وقال ابن عدي: "
لا أعلم يرويه عن معمر بهذا الإسناد غير عبد الله بن معاذ، حدثنا محمد بن سعيد
بن مهران الأيلي (1) : حدثنا عباس العنبري: حدثنا يعقوب بن كاسب بهذا الحديث
بعينه ". أورده في ترجمة (عبد الله بن معاذ) هذا الصنعاني، وروى عن
البخاري أنه قال:
_________
(1) الأصل (الأبلي) بالباء الموحدة. وفي الطبعة الأولى (4 / 1553) (
الأيلي) بالمثناة التحتية، ولعله الصواب لموافقته للمصورة التي عندي. ولم
أجد له الآن ترجمة. اهـ.(6/1249)
" غمزه عبد الرزاق، وقال هشام بن يوسف: هو صدوق ". وعن
ابن معين أنه ثقة. ثم ساق له أحاديث أخرى، وقال: " وله أحاديث حسان غير ما
ذكرت، وأرجو أنه لا بأس به ". قلت: ووثقه مسلم أيضا، ولما حكى أبو زرعة
تكذيب عبد الرزاق إياه تعقبه بقوله: " وأنا أقول هو أوثق من عبد الرزاق ".
ولذلك قال الذهبي والحافظ فيه: " صدوق ". زاد الحافظ: " تحامل عليه عبد
الرزاق ". قلت: ومن فوقه ثقات على ضعف يسير في (يعقوب) ، وهو ابن حميد بن
كاسب، فالإسناد حسن كما أشار إلى ذلك ابن عدي، بل هو صحيح فقد توبع كما تقدم
برقم (2883) ، وقدر إعادة تخريجه هنا لفائدة ظاهرة.
2995 - " جاءت الشياطين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية، وتحدرت عليه
من الجبال، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال: فرعب، قال جعفر: أحسبه قال: جعل يتأخر. قال: وجاء
جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل. قال: ما أقول؟ قال: قل: " أعوذ
بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ
، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج(6/1250)
فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض
، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا
طارقا يطرق بخير يا رحمن! " فطفئت نار الشياطين، وهزمهم الله عز وجل ".
أخرجه أحمد (3 / 419) وأبو يعلى (12 / 237) وعنه ابن السني (631) وأبو
نعيم في " الدلائل " (ص 148) و " المعرفة " (2 / 49 / 2) والبيهقي في "
دلائل النبوة " (7 / 95) من طرق عن جعفر بن سليمان: حدثنا أبو التياح قال:
سأل رجل عبد الرحمن بن خنبش: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
كادته الشياطين؟ قال: فذكره. وفي رواية لأحمد، ومن طريقه أبو نعيم في "
المعرفة ": حدثنا سيار بن حاتم أبو سلمة العنزي قال: حدثنا جعفر: قال:
حدثنا أبو التياح قال: قلت لعبد الرحمن بن خنبش التميمي - وكان كبيرا -:
أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: قلت: كيف صنع رسول
الله صلى الله عليه وسلم.. الحديث. قلت: وهذا إسناد حسن من هذا الوجه،
سيار هذا صدوق كما قال الذهبي، وفيه كلام يسير، أشار إليه الحافظ بقوله: "
صدوق له أوهام " (1) . والحديث من الطرق الأخرى عن جعفر صحيح، لولا أن قول
أبي التياح فيها: " سأل رجل عبد الرحمن بن خنبش.. "، فهذا صورته في نقدي
صورة المرسل، بخلاف قول سيار، فهو متصل، ولعله لذلك قال البخاري بعد أن
ذكره في " الصحابة ":
_________
(1) وأما قول الهدام: " متهم بالكذب "! فمن اختلاقه في تعليقه على " الإغاثة
"، وبينته في " الرد عليه " رقم (27) . اهـ.(6/1251)
" في إسناده نظر ". كما في " الإصابة " لابن حجر،
ولذلك فإنه لم يحسن حين ساق إسناد (سيار) قارنا إليه (جعفرا) موهما أن
إسنادهما واحد، والواقع خلافه، ذاك إسناده مسند، وهذا إسناده مرسل، كما
بينت. ومن هنا يتضح خطأ قول المعلق على " مسند أبي يعلى " (12 / 238) : "
إسناده صحيح إلى عبد الرحمن بن خنبش، وهو موقوف عليه "! والصواب في إسناد
أبي التياح أنه مرسل كما سبق بيانه. وقوله: " وهو موقوف عليه ". من أدلة
حداثته في هذا العلم، فالقضية من أولها إلى آخرها تتعلق بالنبي صلى الله عليه
وسلم، من محاولة الشيطان حرقه صلى الله عليه وسلم، وصرف الله ذلك عنه، بعد
أن أصابه شيء من الرعب، وجعل يتأخر، وقوله لجبريل: " ما أقول؟ ". كيف
يقال في مثل هذا: " موقوف "؟!! وقلده في التصحيح المعلق على " المقصد العلي
" (4 / 338 - 339) ، وهو ممن لا علم عنده، بل هو له في الغالب إمعة!
ولذلك فقد أعجبني منه أنه لم يقلده في الوقف! وكذلك صحح إسناده المعلق على "
مجمع البحرين " (8 / 55) وزاد في الدلالة على الحداثة أن أتبع ذلك بقوله: "
وعزاه الهيثمي في " المجمع " (10 / 127) إلى " الكبير " أيضا، وصححه "!
والواقع أنه لم يصححه لأنه لم يقل كما قال هؤلاء المحدثون: إسناده صحيح،
وإنما قال: " رجاله رجال الصحيح ". وشتان ما بينهما، كما لا يخفى على أهل
العلم، وقد نبهت على ذلك مرارا. وللحديث شاهد من حديث ابن مسعود، فقال
الطبراني: حدثنا أحمد بن(6/1252)
محمد بن يحيى بن حمزة الدمشقي: حدثني أبي عن أبيه عن
أبي عمرو الأوزاعي عن إبراهيم بن طريف عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن أبي
يعلى عنه به نحوه. أخرجه الطبراني في " الدعاء " (2 / 1293 / 1058) ، وفي "
المعجم الأوسط " (1 / 4 / 1 / 43) وعنه أبو نعيم في " دلائل النبوة " (ص
149) وقال الطبراني: " لم يروه عن الأوزاعي إلا يحيى بن حمزة، تفرد به ولده
عنه ". وقال الهيثمي في " المجمع " (10 / 128) : " رواه الطبراني في "
الصغير "، وفيه من لم أعرفه "! كذا وقع فيه " الصغير " وهو خطأ مطبعي،
صوابه " الأوسط "، وقد تجاهل هذا الخطأ أحد الأحداث المشار إليهم، فأوهم أن
لا خطأ في المطبوعة، لأنه لم يذكر إلا قوله: " وفيه من لم أعرفه "! وأقره
! والظاهر أن الهيثمي يعني شيخ الطبراني (أحمد بن محمد بن يحيى الدمشقي)
وأباه. وهذه غفلة عجيبة منه، فإن أباه (محمد بن يحيى بن حمزة الدمشقي) قد
ترجمه ابن حبان في " الثقات " (9 / 74) ، وغمز فيها ابنه أحمد هذا، فقال
فيها: " يروي عن أبيه، روى عنه أهل الشام، ثقة في نفسه يتقى ما روى عنه (
أحمد بن محمد بن حمزة) وأخوه (عبيد) ، فإنهما كان يدخلان عليه كل شيء ".
ومن المعروف عند المشتغلين بهذا العلم أن الهيثمي كان له الفضل الأول في(6/1253)
تيسير
الانتفاع بـ " ثقات ابن حبان " بترتيبه على الحروف، وهذه الترجمة فيه،
فسبحان الله * (لا يضل ربي ولا ينسى) *. وقد نقلها الحافظ في " اللسان " (5
/ 422 - 423) ، لكنه قال عقبها: " وقد تقدم في ترجمة (أحمد) أن (محمدا)
هذا كان قد اختلط "! والذي في ترجمة (أحمد) قوله: " وقال الحاكم أبو أحمد
: الغالب علي أنني سمعت أبا الجهم، وسألته عن حال (أحمد بن محمد) ؟ فقال:
قد كان كبر فكان يلقن ما ليس من حديثه فيتلقن. مات سنة تسع وثمانين ومائتين
". قلت: فالظاهر أن الحافظ سبقه القلم، فكتب (محمد) مكان (أحمد) .
والله أعلم. ثم إن (أحمد) هذا مترجم في " الميزان " للذهبي، فقال: " له
مناكير، قال أبو أحمد الحاكم: فيه نظر، وحدث عنه أبو الجهم الشعراني
ببواطيل.. ". ثم ذكر له حديثين. فالعجب أيضا كيف خفي هذا على الهيثمي؟!
وسائر الرواة ثقات رجال الشيخين غير (إبراهيم بن طريف) ، فهو مجهول كما قال
الحافظ، وانظر " تيسير الانتفاع ". (تنبيه) : تقدم هذا الحديث في المجلد
الثاني برقم (840) باختصار في التخريج والتحقيق، ودون الفوائد المذكورة
هنا، وهذا هو المعتمد.(6/1254)
2996 - " كان إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى
جدك، ولا إله غيرك ".
أخرجه الطبراني في " الدعاء " (2 / 1034 / 506) : حدثنا محمود بن محمد
الواسطي: حدثنا زكريا بن يحيى، زحمويه: حدثنا الفضل بن موسى السيناني، عن
حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: فذكره. قلت: وهذا إسناد
صحيح، رجاله كلهم ثقات معروفون غير محمود بن محمد الواسطي، وهو (ابن منويه
- بنون -) الحافظ المفيد العالم، كما في " سير الذهبي " (14 / 242) وهو من
شيوخ الطبراني المعروفين، فقد روى له في " المعجم الأوسط " (2 / 192 / 2 -
198 / 2) أكثر من مائة حديث، وهذه أرقامها من نسختي المصورة والمرقمة
بترقيمي (7945 - 8047) ، على أنه لم يتفرد به كما يأتي. وشيخه زكريا بن
يحيى، و (زحمويه) لقبه كما في " التبصير " (2 / 595) للحافظ، وذكر في "
اللسان " أنه ثقة، روى عنه أبو زرعة وأبو يعلى.. وأخرج له ابن حبان في "
صحيحه ". قلت: وفاته أنه ذكره في " الثقات " (8 / 253) وقال: " كان من
المتقنين ". وقد أكثر عنه في " صحيحه "، فانظر أرقام أحاديثه في " فهرس
المؤسسة " (18 / 132) . وكذلك أكثر عنه بحشل في " تاريخ واسط "، وترجم له
ترجمة مختصرة، وكناه بأبي محمد، وقال (ص 197) : " كان أبيض الرأس
واللحية ". وقال عنه:(6/1255)
" ولد سنة (185) ". وتوفي سنة (235) . ومن فوقه
من رجال الشيخين. وقد تابع الفضل بن موسى أبو خالد، أخرجه الدارقطني في "
سننه " (1 / 300 / 12) ، وابن أبي حاتم في " العلل " (1 / 135 / 374)
معلقا من طريق محمد بن الصلت: حدثنا أبو خالد به. وذكر الزيلعي في " نصب
الراية " (1 / 320) عن الدارقطني أنه قال: " إسناده كلهم ثقات ". قلت:
محمد بن الصلت هذا هو أبو جعفر الكوفي الأصم، ثقة بلا خلاف ومن شيوخ البخاري
، ولولا أن الراوي عنه (الحسين بن علي بن الأسود العجلي) في رواية الدارقطني
فيه ضعف لقويت إسناده، فلعله هو الذي حمل أبا حاتم أن يقول عقب الحديث: " هذا
كذب لا أصل له، ومحمد بن الصلت، لا بأس به، كتبت عنه ". وقال فيه فيما
رواه عنه ابنه في " الجرح " (2 / 1 / 56) : " صدوق ". ولكن لم يتبين لي وجه
تكذيبه الحديث مع سلامة إسناده من كذاب، أنا أدري أنه كما أن الكذوب قد يصدق،
كما في الحديث المعروف، فكذلك الصدوق قد يكذب كما في حديث أبي السنابل، بمعنى
أنه قد يقول خطأ الكذب المخالف للواقع، ولكني والله لا أدري - ولا أحسب أنه
يمكنني يوما أن أدري - أنه يمكن أن يقال في حديث الصدوق: " كذب لا أصل له "،
وليس في متنه ما يستنكر(6/1256)
فضلا عن أن يكذب، وله من الطرق والشواهد وجريان
عمل السلف عليه، ما يقطع الواقف على ذلك أن الحديث صحيح له أصل أصيل، ولذلك
قال الترمذي في " سننه " (1 / 325) بعد أن ساق بعض شواهده: " وهكذا روي عن
عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من
التابعين وغيرهم ". فالذي يبدو لي - والله أعلم - أن ذلك زلة من زلات
العلماء - إن لم يكن سبق قلم - فيجب أن يتقى. ولقد بلغ اهتمام عمر الفاروق
بإذاعة هذا الحديث وتبليغه إلى الناس إلى درجة أنه كان يرفع صوته بما فيه
ليتعلمه الناس، كما رواه الأئمة الحفاظ وصححوه كما تراه مخرجا في " إرواء
الغليل " (2 / 52) ، وهو يعلم أن السنة الإسرار بدعاء الاستفتاح حرصا منه
على تعليمهم، وعملا بالسنة الأخرى الثابتة في " الصحيح " أنه كان يسمعهم
الآية أحيانا في صلاة الظهر والعصر. ومن طرق الحديث عن أنس ما رواه مخلد بن
يزيد عن عائذ بن شريح عنه بلفظ: " كان إذا استفتح الصلاة يكبر ثم يقول.. "
فذكره. أخرجه الطبراني في " الدعاء " (505) وفي " الأوسط " (1 / 171 /
3190) ، وقال في " الأوسط ": " لا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد، تفرد به
مخلد بن يزيد ". كذا قال: ولم يتذكر الطريق الأولى، وقال الهيثمي في هذه (
2 / 107) : " رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله موثوقون ".(6/1257)
كذا قال! (
عائذ بن شريح) وما علمت أحدا وثقه، حتى ولا ابن حبان، وقد قال الذهبي في
" المغني ": " لم أر لهم تضعيفا ولا توثيقا، إلا قول أبي حاتم: " في حديثه
ضعف ". قلت: وما هو بحجة ". قلت: وقد روى عنه جماعة كما في " الجرح " (3
/ 2 / 16) ، فمن الممكن الاستشهاد به، على أن الحجة قائمة برواية الثقتين أبي
خالد - وهو الأحمر - سليمان الأحمر، والفضل بن موسى المتابع له عن حميد عن
أنس. وقد قال الحافظ في " الدراية " (2 / 129) : " وهذه متابعة جيدة
لرواية أبي خالد الأحمر. والله أعلم ". وفيه إشارة قوية إلى رد قول أبي
حاتم المتقدم، وهو حري بذلك لما سبق بيانه، وقد أشار إشارة لطيفة إلى رفضه
إياه، بقوله في " التلخيص " فيه (1 / 230) : " وضعفها ". فلم ينشرح لنقل
نص قوله المذكور، لشدته وبعده عن الصواب، ولكنه مع ذلك فقد خلط بين طريق
وطريق، فقال بعد أن خرج الحديث من رواية أصحاب السنن وغيرهم عن أبي سعيد
وغيره: " وعن أنس نحوه. رواه الدارقطني، وفيه الحسين بن علي بن الأسود
وفيه مقال. وله طريق أخرى ذكرها ابن أبي حاتم في " العلل " عن أبيه وضعفها "
. قلت: وقد عرفت من تخريجنا هذا أن طريق أبي حاتم هي طريق الدارقطني كلاهما
أخرجه من طريق محمد بن الصلت، فتنبه.(6/1258)
وبمناسبة ذكر حديث أبي سعيد الخدري
أقول: قد عزاه الحافظ في " الفتح " (2 / 230) لـ " صحيح ابن حبان "، وهو
وهم، وإنما أخرجه من حديث جبير بن مطعم نحوه برقم (443 - موارد) ، ولذلك
لم يعزه في " بلوغ المرام " إلا للخمسة، يعني أصحاب السنن الأربعة وأحمد،
وهو وحديث جبير بن مطعم، من الشواهد التي سبقت الإشارة إليها، وهي مخرجة في
" الإرواء " مع حديث عمر الفاروق في الموضع الذي سبقت الإشارة إليه، ومع هذه
الطرق والشواهد فقد تجاسر المدعو (حسان بن عبد المنان) على تضعيف الحديث،
فتكلم على بعض طرقه معللا إياها في تعليقه على " إغاثة اللهفان " لابن قيم
الجوزية، ودلس على القراء فكتم عنهم حديث عمر هذا وحديث أنس بطريقيه، وقد
كنت صرحت هناك في " الإرواء " بصحة إسناده، فلم يتعرض له بذكر، ولا لحديث
عمر! فجحد واستكبر، فمن شاء فليعتبر.
2997 - " لا تنسوا، كتكبير الجنائز. وأشار بأصابعه، وقبض إبهامه. يعني في صلاة
العيد ".
أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (4 / 345 - طبع مصر) من طريقين عن عبد الله
ابن يوسف عن يحيى بن حمزة قال: حدثني الوضين بن عطاء أن القاسم أبا عبد الرحمن
حدثه قال: حدثني بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلى بنا
النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد، فكبر أربعا أربعا، ثم أقبل علينا بوجهه
حين انصرف، قال.. " فذكره. وقال: " هذا حديث حسن الإسناد، وعبد الله بن
يوسف ويحيى بن حمزة والوضين والقاسم كلهم أهل رواية، معروفون بصحة الرواية
".(6/1259)
قلت: وهو كما قال رحمه الله تعالى، فإن القاسم هذا هو ابن عبد الرحمن
الدمشقي أبو عبد الرحمن صاحب أبي أمامة، وهو صدوق حسن الحديث. والوضين بن
عطاء، أورده ابن أبي حاتم برواية جمع من الثقات عنه، وروى عن ابن معين أنه
قال فيه: " لا بأس به ". وعن أحمد: " ثقة ليس به بأس ". وعن أبي حاتم: "
نعرف وننكر ". قلت: فمثله لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن. وسكت عنه البخاري
في " التاريخ الكبير "، ومن دونه ثقتان مشهوران من رجال البخاري. فالحديث
شاهد قوي بهذا الإسناد لما أخرجه أبو داود وغيره بإسناد حسن عن أبي عائشة جليس
لأبي هريرة: أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان: كيف
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى:
كان يكبر أربعا تكبيره على الجنائز. فقال حذيفة: صدق. فقال أبو موسى: كذلك
كنت أكبر في البصرة حيث كنت عليهم. فقال أبو عائشة: وأنا حاضر سعيد بن العاص
. لكن أبو عائشة هذا غير معروف كما قال الذهبي، وقال الحافظ: " مقبول ".
يعني عند المتابعة. وعلى هذا ينبغي أن يكون هذا الحديث مقبولا عند الحافظ،
لأنه قد تابعه القاسم أبو عبد الرحمن في رواية الطحاوي، وهو وإن لم يسم
الصحابي فإنه لا يضر عند أهل السنة، لأن الصحابة كلهم عدول مع احتمال أن يكون
هو أبا موسى الذي في هذه الطريق الأخرى، ثم كيف لا يكون الحديث مقبولا وهو
حسن الإسناد من الرواية الأولى. وهي في الحقيقة رواية عزيزة جيدة،(6/1260)
مما حفظه
لنا الإمام الطحاوي رحمه الله، ولست أدري لم لم يتعرض لها بذكر كل الذين
أخرجوه من الطريق الأخرى من الذين تكلموا عليه بالتضعيف كالنووي والعسقلاني،
بل والزيلعي، هو أحوج ما يكون إليه لدعم مذهبه الحنفي! وقد استدركه عليه
المحشي الفاضل، ونقل عن الحافظ في " الفتح " أنه قال: " إسناده قوي ". ولم
أقف عليه الآن في مظانه من " الفتح ". والله أعلم. ويزداد قوة بما رواه عبد
الرزاق (5686) عن الثوري عن أبي إسحاق عن علقمة والأسود بن يزيد: أن ابن
مسعود كان يكبر في العيدين تسعا، تسعا، أربعا قبل القراءة ثم كبر فركع، وفي
الثانية يقرأ فإذا فرغ كبر أربعا ثم ركع. وإسناده صحيح كما قال ابن حزم
وغيره. وأخرجه ابن أبي شيبة (2 / 173) والطحاوي في " شرح المعاني " (4 /
348) عن سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الله بن أبي موسى، وعن حماد عن إبراهيم:
أن أميرا من أمراء الكوفة - قال سفيان: أحدهما سعيد بن العاصي، وقال الآخر:
الوليد بن عقبة - بعث إلى عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن
قيس (يعني أبا موسى) فقال: إن هذا العيد قد حضر فما ترون؟ فأسندوا أمرهم
إلى عبد الله، فقال: يكبر تسعا: تكبيرة يفتتح بها الصلاة، ثم يكبر ثلاثا،
ثم يقرأ سورة، ثم يكبر، ثم يركع. ثم يقوم فيقرأ سورة، ثم يكبر أربعا يركع
بإحداهن. وهو من طريق عبد الله بن أبي موسى صحيح، وهو حمصي مخضرم ثقة.
وكذلك هو من طريق إبراهيم، وهو ابن يزيد النخعي، وهو وإن كان لم يسمع من
ابن مسعود فمن المعروف من ترجمته أن ما أرسله عنه فهو صحيح.(6/1261)
ورواه الطحاوي من
طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن إبراهيم بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن
سعيد بن العاص دعاهم يوم عيد.. الحديث نحوه، فأدخل بين أبي إسحاق وعبد الله
بن قيس - إبراهيم بن عبد الله هذا، ومن الظاهر أنه ابن عبد الله بن أبي موسى
الذي في الإسناد الذي قبله، فإنه يقال: عبد الله بن أبي موسى، وعبد الله بن
قيس، وعبد الله بن أبي قيس كما في " التقريب "، فإن كان كذلك فإني لم أعرف
إبراهيم هذا. ومن طبقته إبراهيم بن أبي موسى الأشعري وثقه العجلي، فيحتمل
على بعد أنه هو. والله أعلم. وله طريق أخرى عند ابن أبي شيبة (2 / 174) ،
والبيهقي (3 / 291) عن معبد بن خالد عن كردوس قال: قدم سعيد بن العاص قبل
الأضحى فأرسل إلى عبد الله بن مسعود وإلى أبي موسى وإلى أبي مسعود الأنصاري،
فسألهم عن التكبير؟ قال: فقذفوا بالمقاليد إلى عبد الله، فقال عبد الله:
تقوم فتكبر أربع تكبيرات ثم تقرأ، ثم تركع في الخامسة، ثم تقوم فتقرأ ثم تكبر
أربع تكبيرات، فتركع بالرابعة. وإسناده صحيح إلى كردوس، وأما هذا، فقد
وثقه ابن حبان (3 / 228) ، وروى عنه جمع من الثقات كما في " الجرح والتعديل
" (7 / 175) و " التهذيب " لكن اختلفوا في اسم أبيه، وهل هو واحد أو أكثر،
فمثله إن لم يحتج به، فلا أقل من أن يستشهد به، وقد أشار إلى هذا الحافظ
بقوله في " التهذيب ": " مقبول ". ويشهد له ما روى عبد الله بن الحارث قال:
" صلى بنا ابن عباس يوم عيد فكبر تسع تكبيرات، خمسا في الأولى، وأربعا في
الأخرى، والى بين القراءتين ".(6/1262)
أخرجه ابن أبي شيبة. وإسناده صحيح على شرط
الشيخين، وعبد الله بن الحارث هو الأنصاري أبو الوليد البصري نسيب ابن سيرين
وختنه. قلت: فهذه آثار كثيرة قوية تشهد لحديث الترجمة، وهي وإن كانت
موقوفة، فهي في حكم المرفوع، لأنه يبعد عادة أن يتفق جماعة منهم على مثله دون
توقيف، ولو جاء مثله غير مرفوع لكان حجة، فكيف وقد جاء مرفوعا من وجهين
أحدهما حديث الترجمة، والآخر شاهده المذكور عن أبي عائشة، وأما إعلال
البيهقي إياه بمخالفته للذين رووه عن ابن مسعود موقوفا، فكان يمكن الاعتداد به
، لولا الطريق الأولى، وهي مما فات البيهقي فلم يتعرض لها بذكر، ولهذا قال
عقب أثر كردوس المتقدم وغيره: " وهذا رأي من جهة عبد الله رضي الله عنه،
والحديث المسند مع ما عليه عمل المسلمين أولى ". وقد تعقبه ابن التركماني
بقوله: " قلت: هذا لا يثبت بالرأي. قال أبو عمر في " التمهيد ": مثل هذا لا
يكون رأيا، ولا يكون إلا توقيفا، لأنه لا فرق بين سبع وأقل وأكثر من جهة
الرأي والقياس، وقال ابن رشد في " القواعد ": معلوم أن فعل الصحابة في ذلك
توقيف، إذ لا يدخل القياس في ذلك، وقد وافق ابن مسعود على ذلك جماعة من
الصحابة والتابعين، أما الصحابة فقد قدمنا ذكرهم، وأما التابعون فقد ذكرهم
ابن أبي شيبة في (مصنفه) ". قلت: أفليس هؤلاء من المسلمين؟! والحق أن
الأمر واسع في تكبيرات(6/1263)
العيدين، فمن شاء كبر أربعا أربعا بناء على هذا الحديث
والآثار التي معه، ومن شاء كبر سبعا في الأولى، وخمسا في الثانية بناء على
الحديث المسند الذي أشار إليه البيهقي، وقد جاء عن جمع من الصحابة، يرتقي
بمجموعها إلى درجة الصحة، كما حققته في " إرواء الغليل " رقم (639) . فتضعيف
الطحاوي لها مما لا وجه له، كتضعيف مخالفيه لأدلته هذه، والحق أن كل ذلك
جائز، فبأيهما فعل فقد أدى السنة، ولا داعي للتعصب والفرقة، وإن كان
السبع والخمس أحب إلي لأنه أكثر.
2998 - " إن كنتم تحبون أن يحبكم الله ورسوله فحافظوا على ثلاث خصال: صدق الحديث،
وأداء الأمانة، وحسن الجوار ".
رواه الخلعي في " الفوائد " (18 / 73 / 1) عن أبي الدرداء هاشم بن محمد
الأنصاري قال: أخبرنا عمرو بن بكر السكسكي عن ابن جابر عن أنس بن مالك قال
: نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم أضياف من البحرين فدعا النبي بوضوئه، فتوضأ،
فبادروا إلى وضوئه فشربوا ما أدركوه منه. وما انصب منه في الأرض فمسحوا به
وجوههم ورءوسهم وصدورهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دعاكم إلى
ذلك؟ قالوا: حبا لك، لعل الله يحبنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذكره، وزاد في آخره: " فإن أذى الجار يمحو الحسنات كما تمحو
الشمس الجليد ". قلت: وهذا سند ضعيف جدا، عمروا بن بكر السكسكي متروك كما
في " التقريب ". لكن الحديث قد روي جله من وجوه أخرى يدل مجموعها على أن له
أصلا ثابتا. أولا: خرج ابن وهب في جماعة من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب(6/1264)
قال: حدثني رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أو
تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته، فشربوه، ومسحوا به جلودهم،
فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم: لم تفعلون هذا؟ قالوا: نلتمس الطهور والبركة
بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان منكم يحب أن يحبه الله
ورسوله فليصدق الحديث، وليؤد الأمانة ولا يؤذ جاره ". ذكره الإمام الشاطبي
في كتابه القيم " الاعتصام " (2 / 139 - المنار) ، ورواه عبد الرزاق في "
المصنف " (11 / 7 / 19748) عن معمر عن الزهري به. قلت: وهذا الإسناد رجاله
ثقات غير الرجل الأنصاري، فإن كان تابعيا، فهو مرسل، ولا بأس به في الشواهد
، وإن كان صحابيا، فهو مسند صحيح لأن جهالة اسم الصحابي لا تضر، كما هو مقرر
في علم الحديث، ويغلب على الظن أنه أنس بن مالك رضي الله عنه الذي في الطريق
الأولى فإنه أنصاري، ويروي عنه الإمام الزهري كثيرا. ويشهد له ما قبله على
ضعفه. والله أعلم. ثانيا: ما رواه الطبراني في " الأوسط " (1 / 152 / 1)
: حدثنا محمد بن زريق: حدثنا محمد بن هشام السدوسي حدثنا عبيد بن واقد القيسي
: حدثنا يحيى بن أبي عطاء عن عمير بن يزيد عن عبد الرحمن بن الحارث عن أبي قراد
السلمي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بطهور قمس (1) يده فيه
، ثم توضأ، فتتبعناه فحسوناه، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما حملكم على ما
صنعتم؟ قلنا: حب الله ورسوله، قال: فإن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله،
فأدوا إذ ائتمنتم، واصدقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم ". وقال:
_________
(1) وفي " المجمع ": " غمس "، والمعنى واحد. اهـ.(6/1265)
" لا يروى عن أبي قراد إلا بهذا الإسناد. تفرد به عبيد ". قلت: وهو ضعيف
كما قال الهيثمي (4 / 145) ، والحافظ في " التقريب ". ومن هذا الوجه أخرجه
في " المعجم الكبير " أيضا (ق 47 / 1 - مجموع 6) ، وعنه ابن منده في "
المعرفة " (2 / 259 / 2) . وخالفه في إسناده الحسن بن أبي جعفر، فقال: عن
أبي جعفر الأنصاري (وهو عمير بن يزيد) عن الحارث بن فضيل عن عبد الرحمن بن
أبي قراد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ يوما.. الحديث. أخرجه ابن منده (
2 / 21 / 1) وكذا أبو نعيم في " فوائد ميمونة " كما في " الإصابة ". قلت:
فاختلف عبيد بن واقد والحسن بن أبي جعفر في إسناده، فالأول سمى الصحابي أبا
قراد، والراوي عنه عبد الرحمن بن الحارث، والآخر عن الحارث بن فضيل عن عبد
الرحمن بن أبي قراد، فسماه عبد الرحمن بن أبي قراد، وهو ضعيف أيضا أعني
الحسن بن أبي جعفر، ولذلك لا يمكن ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى.
وبالجملة، فالحديث عندي حسن على الأقل بمجموع هذه الطرق. والله أعلم. (
تنبيه) : أورده المنذري في " الترغيب " (4 / 26) من رواية الطبراني عن عبد
الرحمن بن الحارث بن أبي قراد السلمي رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى
الله عليه وسلم ... الحديث، هكذا وقع فيه " ابن أبي قراد "، والظاهر أنه
تحرف عليه لفظة " ابن " والصواب " عن " كما تقدم. ثم إن فيه إشارة إلى أن
الحديث عنده حسن أو قريب منه كما نص عليه في المقدمة.(6/1266)
2999 - " تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا،
ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا
تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب
به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله
، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه ".
هذا من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وله عنه ثلاث طرق: الأولى:
وهي الأشهر: عن أبي إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني أن عبادة ابن
الصامت - من الذين شهدوا بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه
ليلة العقبة - أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وحوله عصابة من
أصحابه -: (فذكر الحديث) قال: فبايعته على ذلك. أخرجه البخاري (1 / 54 -
58 و 7 / 176 و 8 / 518 و 12 / 69 - 70 و 13 / 173) والسياق له في رواية،
ومسلم (5 / 127) والترمذي (1439) والنسائي (2 / 182 و 183) والدارمي (
2 / 220) وأحمد (5 / 314 و 340) وزاد في رواية بعد قوله: ولا تقتلوا
أولادكم: " قرأ الآية التي أخذت على النساء: * (إذا جاءك المؤمنات) * ".
وهي رواية لمسلم. الطريق الثانية: عن الصنابحي عن عبادة به مختصرا، وزاد فيه
: " ولا تنتهب ".(6/1267)
أخرجه البخاري (7 / 176 - 178) ومسلم، وأحمد (5 / 321
) . الثالثة: عن أبي الأشعث الصنعاني عنه قال: " أخذ علينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم كما أخذ على النساء: أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا
نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا يعضه بعضنا بعضا، [ولا نعصيه في معروف]
فمن وفي منكم.. " الحديث. أخرجه مسلم، وأحمد (5 / 320) وابن ماجه (2 /
129) طرفه الأخير. وفي الحديث رد كما قال العلماء على الخوارج الذين يكفرون
بالذنوب، وعلى المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل لابد أن يعذبه.
قلت: ومثله قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك
لمن يشاء) *. فقد فرق تعالى بين الشرك وبين غيره من الذنوب، فأخبر أن الشرك
لا يغفره، وأن غيره تحت مشيئته، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له، ولابد من
حمل الآية والحديث على من لم يتب، وإلا فالتائب من الشرك مغفور له، فغيره
أولى، والآية قد فرقت بينهما، وبهذا احتججت على نابتة نبتت في العصر الحاضر
، يرون تكفير المسلمين بالكبائر تارة، وتارة يجزمون بأنها ليست تحت مشيئة
الله تعالى وأنها لا تغفر إلا بالتوبة، فسووا بينها وبين الشرك فخالفوا
الكتاب والسنة، ولما أقمت عليهم الحجة بذلك في ساعات، بل جلسات عديدة، رجع
بعضهم إلى الصواب، وصاروا من خيار الشباب السلفيين، هدى الله الباقين. قوله
: (ولا يعضه) : أي لا يرميه بـ (العضيهة) ، وهي البهتان والكذب.(6/1268)
3000 - " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن،
ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم وهو
مؤمن ".
أخرجه البخاري ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة، وله عنه طرق:
الأولى: عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عنه. أخرجه البخاري (5
/ 90 و 12 / 48) ومسلم (1 / 54) والنسائي (2 / 330) وابن ماجه (2 /
460 - 461) من طرق عن الزهري عنه به. وإسناد البخاري في الموضع الأول:
حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث: حدثنا عقيل عن ابن شهاب ... وإسناده
في الموضع الآخر: حدثني يحيى بن بكير: حدثنا الليث به. وهو عند الآخرين من
طرق أخرى عن الليث به. وتابعه يونس عن ابن شهاب الزهري به. أخرجه مسلم،
وكذا البخاري. الثانية والثالثة: قال ابن شهاب: وعن سعيد وأبي سلمة عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا النهبة. أخرجه البخاري (5 / 91
و10 / 28) ومسلم من طريق يونس عنه به. وتابعه الأوزاعي عن الزهري به، إلا
أنه قرن معهما أبا بكر بن عبد الرحمن. أخرجه مسلم، والنسائي. وأخرجه
الدارمي (2 / 115) عن أبي سلمة وحده، وكذا رواه ابن أبي شيبة في " الإيمان
" رقم (38 - بتحقيقي) . الرابعة: عن ذكوان عن أبي هريرة به، دون النهبة،
وزاد:(6/1269)
" والتوبة معروضة بعد ". أخرجه البخاري (12 / 67 و 95) ومسلم
والنسائي (2 / 254) وكذا أبو داود (2 / 270) والترمذي (2627) وأحمد (2
/ 376 - 377 و 479) كلهم عن الأعمش عنه به. وتابعه القعقاع ويزيد بن أبي
زياد عن أبي صالح به دون الزيادة، إلا أن الأول منهما ذكر النهبة، وأشار
الأول إليها بقوله: " وذكر رابعة فنسيتها "، وزاد: " فإذا فعل ذلك خلع
ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه ". وهذه زيادة منكرة تفرد بها
يزيد هذا، وهو الهاشمي مولاهم، وفيه ضعف لسوء حفظه. الخامسة: عن همام عنه
به نحوه، إلا أنه قال: " ولا ينتهب أحدكم نهبة ذات شرف يرفع إليه المؤمنون
أعينهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن،
فإياكم إياكم ". أخرجه مسلم، وأحمد (2 / 317) . السادسة والسابعة:
يرويهما صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار - مولى ميمونة - وحميد بن عبد الرحمن
عنه. أخرجه مسلم، وأحمد من طريق آخر عن عطاء وحده كما يأتي قريبا. الثامنة
: عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عنه. أخرجه مسلم. التاسعة: عن قتادة عن
الحسن وعطاء عنه.(6/1270)
أخرجه أحمد (2 / 386) ، وأخرجه مسلم من طريق آخر عن عطاء
كما سبق قريبا. العاشرة: عن الأعرج عنه. دون الزيادات. أخرجه أحمد (2 /
243) ، وسنده صحيح على شرط الشيخين، وقال الترمذي عقب الحديث: " وفي
الباب عن ابن عباس وعائشة وعبد الله بن أبي أوفى، (وقال:) حديث أبي
هريرة حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ". قلت: أما حديث ابن عباس، فأخرجه
البخاري (12 / 67 و 65) والنسائي (2 / 254) من طريق الفضيل بن غزوان عن
عكرمة عنه دون الزيادات المتقدمة، إلا أنه زاد في آخره: " ولا يقتل وهو
مؤمن ". زاد البخاري في إحدى روايتيه: " قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف
ينزع الإيمان منه؟! قال: هكذا - وشبك بين أصابعه ثم أخرجها - فإن تاب عاد
إليه هكذا. وشبك بين أصابعه ". وأما حديث عائشة، فأخرجه أحمد (6 / 139)
وابن أبي شيبة (رقم 39) ، بإسناد رجاله ثقات، لولا عنعنة ابن إسحاق. وأما
حديث ابن أبي أوفى، فأخرجه ابن أبي شيبة (40 و 41) بسند حسن كما بينته في
التعليق عليه، وأخرجه أحمد (4 / 352 - 353) أيضا. وروي من حديث ابن عمر
أيضا، فقال ابن لهيعة: عن أبي الزبير قال: سألت جابرا: أسمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (فذكر فقرة الزنى والسرقة فقط) ؟ قال جابر: لم أسمعه
. قال جابر: وأخبرني ابن عمر، وأنه قد سمعه.(6/1271)
أخرجه أحمد (3 / 3446) ،
ورجاله ثقات لولا ضعف ابن لهيعة، وقد أورده الهيثمي في " المجمع " (1 / 100)
عن ابن عمر مرفوعا بالفقرات الأربع، وقال: " رواه الطبراني في " الكبير "
بطوله، والبزار، وروى أحمد منه: لا يزني الزاني ولا يسرق فقط، وفي
إسناد أحمد ابن لهيعة، وفي إسناد الطبراني معلى ابن مهدي، قال أبو حاتم:
يحدث أحيانا بالحديث المنكر، وذكره ابن حبان في (الثقات) ". ثم ذكر لهما
شاهدين آخرين من رواية الطبراني من حديث عبد الله بن مغفل وأبي سعيد الخدري،
فليراجعهما من شاء. واعلم أن الداعي إلى تخريج هذا الحديث المجمع على صحته
عند أئمة الحديث من الشيخين وغيرهما أنني رأيت الشيخ زاهد الكوثري المعروف
بعدائه الشديد لأهل السنة والحديث، قد علق عليه في حاشيته على كتاب " التنبيه
" بما يشعر القارىء العادي أنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة، فرأيت من الضروري
القيام بهذا التخريج الذي يمكن به لكل قارىء أن يكشف ما في تعليقه عليه من
تضليل القراء، بإفهامه إياهم خلاف الحقيقة من نواح يأتي بيانها، فقد قال في
التعليق المشار إليه (ص 154) بعد أن ذكر حديثين آخرين صحيحين أحدهما حديث
عبادة المتقدم آنفا، والآخر حديث أبي ذر المتقدم برقم (826) : " وإن سرق
وإن زنى "، قال: " وأما حديث " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فأحط
منهما في الصحة (!) بل أنكر بعض أهل العلم صحته بالمرة كما حكى ابن جرير،
وفي سنده يحيى بن عبد الله بن بكير، وهو ممن لا يحتج به أبو حاتم، وقد ضعفه
النسائي، لكن مشاه الجمهور وأولوا الحديث لمخالفة ظاهر معناه الكتاب والسنة
والإجماع - راجع فتح الباري (12 - 47) ".(6/1272)
والرد عليه من وجوه: الأول:
أنه ليس أحط منهما في الصحة، بل هو أعلى منهما فيها، كيف لا وهو قد رواه
سبعة من الصحابة وهم أبو هريرة ولحديثه وحده عشرة طرق عنه كما تقدم بيانه!
وابن عباس، وعائشة، وابن أبي أوفى، وابن عمر، وعبد الله بن مغفل، وأبو
سعيد الخدري. وأما حديث أبي ذر، فله عنه ثلاث طرق فقط، وله شاهد من حديث
أبي الدرداء ضعفه البخاري، وآخر من حديث سلمة بن نعيم عند الإمام أحمد.
وأما حديث عبادة، فله عنه ثلاث طرق أيضا، ولم أجد له شاهدا في المصادر
المتوفرة لدي الآن. إذا عرفت هذا أيها القارىء الكريم يتبين لك بجلاء لا غموض
فيه بطلان قول الكوثري إن حديث الترجمة أحط من الحديثين المشار إليهما في الصحة
! إذ كيف يعقل ذلك وقد عرفت أنه أكثر منهما طرقا وشواهد؟ وهذا القول منه في
الحقيقة مما يؤكد أن الرجل - مع علمه - لا يوثق بأقواله، لأنه يتبع هواه
فيدفعه إلى أن يهرف بما لا يعرف، أو إلى أن ينحرف عما يعرف، فيجعل المرجوح
راجحا، أو المفضول فاضلا، وبالعكس، نسأل الله العافية. الثاني: هب أنه
أحط منهما في الصحة، فذلك مما لا يقدح فيه عند أهل المعرفة بهذا العلم الشريف
، ألا ترى أن الحديث الحسن لغيره أحط في الثبوت من الحسن لذاته، وهذا أحط في
الصحة من الصحيح لغيره، وهذا أحط من الصحيح لذاته، وهكذا يقال في المشهور
والمستفيض مع المتواتر كما هو ظاهر، والكوثري لا يخفى عليه هذا، ولكنها
المكابرة واتباع الهوى الذي يحمله على الغمز في الحديث الصحيح لمخالفته لمذهبه
، بل لهواه، كما يأتي بيانه!(6/1273)
الثالث: قوله: بل أنكر بعض أهل العلم صحته
بالمرة كما حكى ابن جرير. فأقول: فيه تحريف خبيث لغاية في نفسه من المبالغة
في تعظيم المنكر لصحة هذا الحديث، فإن نص كلام ابن جرير كما حكاه الحافظ عنه
في المكان الذي أشار إليه الكوثري نفسه: " وأنكر بعضهم أن يكون صلى الله عليه
وسلم قاله ". فقوله: " بعضهم " شرحه الكوثري بقوله: " بعض أهل العلم ".
وهذا مما لا دليل عليه، فقد يكون المنكر الذي أشار إليه ابن جرير ليس عنده من
أهل العلم الذين يستحقون أن يحشروا في زمرتهم، بل هو عنده من أهل الأهواء
والبدع كالمرجئة ونحوهم، كما هو شأن الكوثري عندي، فتأمل كيف حرف هذا النقل
عن ابن جرير لتضخيم شأن المنكر، مما يؤكد أنه لا يوثق بنقله عن العلماء، وكم
له من مثله مما لا مجال الآن للإفاضة فيه. الرابع: قوله: وفي سنده يحيى بن
عبد الله بن بكير، وهو ممن لا يحتج به أبو حاتم ... إلخ. قلت: وهذا أسوأ
ما في هذا التعليق من الجور والطعن في الراوي الثقة، وفي حديثه بدون حجة
ولا بينه، وإليك البيان: أولا: لقد اعتمد في الطعن في ابن بكير على كلام أبي
حاتم والنسائي، وهو يعلم أنه طعن غير مفسر، وأن مثله لا يقبل، لاسيما إذا
كان وثقه الجمهور، واحتج به الشيخان، ولذلك قال الذهبي: " ثقة صاحب حديث
ومعرفة، يحتج به في " الصحيحين " (ثم ذكر كلام أبي حاتم والنسائي فيه ثم قال
:) ووثقه غير واحد ". ثانيا: هب أن جرح من جرحه مقدم على توثيق من وثقه،
فلا يلزم أن يكون(6/1274)
مجروحا في كل من روى عنهم، كما أن العكس غير لازم أيضا، أي
لا يلزم من كون الراوي ثقة أن يكون ثقة في كل من روى عنهم، كما هو معلوم عند
المشتغلين بهذا العلم، فقد يكون المجروح له نوع اختصاص ببعض الرواة والحفظ
لحديثهم فيكون ثقة في مثلهم، وهذا الحديث قد رواه ابن بكير عن الليث كما تقدم
في أول هذا التخريج، وقد قال ابن عدي فيه: " كان جار الليث بن سعد، وهو
أثبت الناس فيه، وعنده عن الليث ما ليس عند أحد ". وقد لاحظ الحافظ ابن حجر
اختصاصه المذكور بالليث، فقال في " التقريب ": " ثقة في الليث، وتكلموا في
سماعه من مالك ". فتأمل أيها القارىء الكريم كيف كتم الكوثري الاختصاص المذكور
الذي لا يسمح مطلقا بجرح ابن بكير في روايته عن الليث خاصة، فما أجرأه على
كتمان الحق، والتدليس على الناس. ثالثا: هب أنه مجروح مطلقا حتى في روايته
عن الليث، فجرحه ليس لتهمة في نفسه، وإنما لضعف في حفظه يخشى أن يعرض له في
بعض حديثه، وهذه الخشية منفية هنا، لأنه قد تابعه سعيد بن عفير قال: حدثني
الليث به كما تقدم أيضا من رواية البخاري. وتابعه آخرون عند مسلم وغيره كما
سبقت الإشارة إلى ذلك في مطلع هذا التخريج، فماذا يقال عن هذا الكوثري الذي
تجاهل هذه المتابعات كلها وهي بين يديه وعلى مرأى منه، ثم كيف تجاهل الطرق
الأخرى عن سائر الصحابة الذين تابعوا أبا هريرة رضي الله عنهم جميعا، لقد
تجاهل الكوثري كل هذه الحقائق، ليوهم القارىء أن الحديث تفرد به ابن بكير
وأنه متكلم فيه، وأن الحديث ضعيف، وهو صحيح مستفيض، إن لم نقل إنه متواتر.
فالله تعالى يعامله بما يستحق، فما رأيت له شبها في قلب الحقائق وكتمانها إلا
السقاف والهدام!(6/1275)
رابعا: ولا يفيده شيء قوله: " لكن مشاه الجمهور "، لأنه
من قبيل التضليل والتغطية لعورته! لأنه إن كان معهم في تمشية حاله والاحتجاج
بحديثه، فلماذا نقل تضعيفه عن أبي حاتم والنسائي؟! وما المراد من التعليق
كله حينئذ؟! ولكن الحقيقة أن الكوثري يماري ويداري، ويتخذ لنفسه خط الرجعة
إذا ما رد عليه أحد من أهل العلم! خامسا: قوله: وأولوا الحديث ... إلخ.
قلت: وماذا في التأويل إذا كان المقصود منه التوفيق بين نصوص الشريعة، وهل
هو أول حديث صحيح يؤول؟! فماذا يفعل الكوثري بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا
يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "؟ متفق عليه. وقد مضى تخريجه رقم (
73) وقوله: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، الذي لا يأمن
جاره بوائقه ". رواه البخاري. والحقيقة أن الحديث وإن كان مؤولا، فهو حجة
على الحنفية الذين لا يزالون مصرين على مخالفة السلف في قولهم بأن الإيمان لا
يزيد ولا ينقص، فالإيمان عندهم مرتبة واحدة، فهم لا يتصورون إيمانا ناقصا،
ولذلك يحاول الكوثري رد هذا الحديث، لأنه بعد تأويله على الوجه الصحيح يصير
حجة عليهم، فإن معناه: " وهو مؤمن إيمانا كاملا ". قال ابن بطال: " وحمل
أهل السنة الإيمان هنا على الكامل، لأن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن
لا يعصي ". ذكره الحافظ (10 / 28) . ومثله ما نقله (12 / 49) عن الإمام
النووي قال: " والصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي
وهو كامل(6/1276)
الإيمان، هذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، والمراد نفي
كماله، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا ما نيل، ولا عيش إلا
عيش الآخرة ". ثم أيده الحافظ في بحث طويل ممتع، فراجعه. ومن الغرائب أن
الشيخ القارىء مع كونه حنفيا متعصبا فسر الحديث بمثل ما تقدم عن ابن بطال
والنووي، فقال في " المرقاة " (1 / 105) : " وأصحابنا تأولوه بأن المراد
المؤمن الكامل.. "، ثم قال: " على أن الإيمان هو التصديق، والأعمال خارجة
عنه "! فهذا يناقض ذاك التأويل. فتأمل.(6/1277)
الاستدراكات
1- صفحة 702، تحت الحديث (2796) :
ثم استدركت فقلت:
أولًا: حديث طلحة من رواية سليمان بن أيوب، قد أخرجه من طريقه الضياء في "المختارة" (3/43/848) .
ثانيًا: حديث أنس أخرجه ابن عساكر (8/548) من طريق أبي نعيم عند الطبراني بسنده الضعيف عمن سمع أنس بن مالك: يعني طلحة يوم أحد.
أقول: فلعل عزو السيوطي حديث أنس هذا للطبراني إنما هو تسليم منه لرواية ابن عساكر إياه عنه، ومثل هذا يفعله هو وغيره كثيرًا، والله أعلم.
ثالثًا: حديث الزهري أخرجه ابن عساكر أيضًا (549) من طريق الوليد بن مسلم: حدتني الليث عن (الأصل: بن) عقيل عن ابن شهاب الزهري به.
قلت: وهذا إسناد صحيح مرسل، فهو شاهد قوي لما تقدم.
وللحديث طريق أخرى عن طلحة، أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (2/745/1294) : ثنا هشيم قال: أنا إبراهيم بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن موسى بن طلحة: أن طلحة ضربت كفه يوم أحد ... وهذا صورته صورة المرسل.
وتابعه أبان بن سفيان: نا هشيم به، إلا أنه قال: عن أبيه ... فوصله.
أخرجه ابن عساكر (8/247-548) من طريق الدارقطني، وقال:
"قال الدارقطني: تفرد به هشيم، وهو قديم حديثه".
ثم رواه ابن عساكر من طريق الحافظ عبد الله بن سليمان بن الأشعث من(6/1278)
طريق أبان بن سفيان، إلا أنه قال: (إبراهيم بن محمد بن طلحة) مكان (إبراهيم ابن عبد الرحمن مولى آل طلحة) .
قلت: وهذا لم أعرفه، فقول المعلق على "الفضائل": "إسناده صحيح"؛ لا أدري وجهه! والذي قبله تابعي من رجال مسلم، مات سنة (110) ، وهشيم لم يدركه؛ مات سنة (183) ، وكان يدلس.
وله إسناد آخر يرويه عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء، وتابعه صفوان بن عمرو قال: حدثني أبو حمزة مولى أبي مريم الغساني قال: كان طلحة.. أخرجه الدولابي في "الكنى" (1/2577) ، وهو مرسل أيضًا؛ أبو حمزة هذا تابعي ثقة.
2- صفحة 948، تحت الحديث (2902 - هامش) :
ثم رأيته في "جامع المسانيد" للحافظ ابن كثير، ذكره (1/196/173) من طريق علي بن عياش فقط. وقد عزاه المعلق عليه الدكتور قلعجي لأحمد في "مسنده" (3: 417) ! هكذا بالجزء والصفحة! ولست أدري -والله- أهذا من أوهامه، أم من تشبعه بما لم يعط؛ كما يفعل بلديه الشيخ الصابوني؟ فإنه لا يوجد في المكان المشار إليه من "المسند" إلا حديث تخطي الرقاب الآتي ذكره (ص 951) ، وذكره ابن كثير قبيل هذا!
3- صفحة 1047، تحت الحديث (2934) :
قوله في حديث الدجال: "وإنه يمطر السماء، وتنبت الأرض". كذا وقع في "مصنف ابن أبي شيبة"، وفي "الدر النثور" (5/355) معزوًا إليه: " ... وتنبت الأرض"، بحذف (لا) النافية: وفي "المسند" و"السنة": " ... ولا ينبت الشجر"، فأثبت (لا) ، وذكر "الشجر" مكان "الأرض"، وكذا في "كنز العمال" (14/605) برواية البغوي.(6/1279)
ولعل الصواب هذا الأخير: إثبات (لا) ؛ لاتفاق المصادر المذكورة عليها، إلا "الدر"، فيكون قد سقط منه؛ من الناسخ أو الطابع، وإثبات "الشجر" مكان "الأرض"، وأما رواية "المصنف": "ولا تنبت الأرض"، فهي شاذة لمخالفتها لحديث النواس الطويل: "فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت..". رواه مسلم وغيره، ومضى تخريج طرف منه (1/869 و4/383) ، وهو بتمامه في "صحيح الجامع" (4042) . ومثله في حديث أبي أمامة الطويل عند ابن ماجه وغيره، ومضى تخريجه برقم (2457) ، وهو في "صحيح الجامع"، برقم (7752) محذوف ما لم أجد له شاهدًا. ثم أفرزته في رسالة خاصة بعنوان (قصة المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام وقتله إياه في آخر الزمان) ، وضممت إليه ما صح فيها عن غيره من الصحابة.
وأما رواية: "ولا ينبت الشجر"، فلا تخالف رواية "وتنبت الأرض"، لأنها أخص منها، فيكون المراد: ما تنبته الأرض من العشب لا الشجر، وهذا المعنى يكاد أن يكون صريحًا في تمام حديث النواس: "فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذُرًا، وأسبغه ضروعًا، وأمده خواصر ... ".
4- صفحة 1113، تحت الحديث (2957) :
أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" (134 و135/الروض النضير) بإسنادين أحدهما ضعيف، وهو مخرج في "الضعيفة" (5765) لزيادة في متنه، والآخر -وهذا متنه-، ورجاله ثقات رجال البخاري؛ غير شيخ الطبراني (كوشاذ ابن شهردان) ، ولم أجد له ترجمة، وقد ذكره أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/167) ، لروايته هذا الحديث عن شيخه الطبراني، ولم يذكر فيه شيئًا آخر، فهو في عداد المجهولين، وقد فات هذا الإسناد الحافظ الهيثمي، فلم يذكره في "المجمع" إلا بالإسناد الأول!(6/1280)
وأصله في "صحيح البخاري" مطولًا (5466) عن الوجه الثاني بنحوه، وله طرق كثيرة عن أنس في "الصحيحين" وغيرهما، وقد مضى تخريج أحدها تحت الحديث (3148) .
5- الصفحة 1131، تحت الحديث (2963) :
ثم طبع كتاب "الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -" لابن أبي عاصم، في سنة (1415) تحقيق أخينا حمدي السلفي، فرأيت الحديث فيه كما تقدم برواية الديلمي عنه، إلا أنه وقع فيه مكان (.. ابن أزهر) ( ... ابن زاهر) ، فلم أعرفه، لكن يحتمل أنه (محمد بن زاهر ابن أخي خيثمة زهير بن حرب) ، فإنه من هذه الطبقة، وقد ترجمه ابن أبي حاتم، والخطيب (5/289) ، وابن عساكر (15/ 327) فإن يكن هو فالإسناد جيد، فإن سائر رجاله ثقات على ضعف في بعضهم.
ثم قال ابن أبي عاصم (54/70) : حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم: حدثنا الحسين بن محمد: حدثنا شيبان عن قتادة عن أنس بن مالك عن أبي طلحة مرفوعًا بلفظ حديث (أبي العوام) المتقدم (ص 1126) ؛ دون قوله: "فإنما أنا رسول من المرسلين".
ورواه ابن أبي حاتم عن شيخه علي بن الحسين بن الجنيد: حدثنا أبو بكر الأعين ومحمد بن عبد الرحيم -صاعقة- قالا: حدثنا حسين بن محمد به. كما في "تفسير ابن كثير" (4/25) .
قلت: فهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، والحسين بن محمد هو ابن بهرام التميمي المرُّوزي، وشيبان هو ابن عبد الرحمن النحوي، فصح الحديث والحمد لله.(6/1281)
سلسة الأحاديث الصحيحة
وشيء من فقهها وفوائدها
تأليف
محمد ناصر الدين الألباني
رحمه الله
المجلد السابع
القسم الأول
مكتبة المعارف للنشر والتوزيع
لصاحبها
سعد بن عبد الرحمن الراشد
الرياض(7/1)
الطبعة الأولى
1422هجري -2002م(7/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الناشر
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد؛
فإنه كان من توفيق الله لي أن شرفني بالمشاركة في خدمة سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فكنت ناشراً لهذه السلسلة الذهبية، والدراري المضية، من الأحاديث الصحيحة النبوية، للشيخ المجدد الإمام، المحدث الفذ الهمام، محمد ناصر الدين الألباني، أبي عبد الرحمن، رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان.
وها هو بين يديك- أخي القارئ- آخر ما كتب الشيخ من "السلسلة الصحيحة"،
وهو يضم المجلد السابع (3001- 3500) ، والمجلد الثامن (3501- 4000) ، وبداية المجلد التاسع (4001- 4035) ، وننبه هنا أننا وجدنا قفزاً في الترقيم في المجلد الثامن بعد الحديث (3624) إلى (3937) ، وقفزاً آخر في المجلد التاسع (4006- 4033) - لم نعلم سببهما- فسقط بذلك (340) حديثاً، وقد رأينا الإبقاء على هذا الوضع لأهمية الترقيم الذي كان يعتمده الشيخ رحمه الله، حيث إنه يحيل في كتبه على أرقام الأحاديث التي يحققها ويرقمها بترقيمه الخاص.
ونظرأ لكثافة مادة هذا الكم من الأحاديث رأينا تقسيمها إلى ثلاثة مجلدات.
ومن الجدير بالذكر هنا أن هذا المجلد يمثل- بطبيعة الحال- خاتمة ما توصل إليه الشيخ من أسس وقواعد منهجه في البحث والتحقيق في مجال هذا العلم(7/3)
الشريف، وعصارة فكره وفقهه، وكل هذا يجده القارئ في هذا الكتاب- بأقسامه الثلاثة- الزاخر بالأبحاث الحديثية والفقهية القيمة، والردود العلمية، مما فتح الله به على الشيخ رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة.
ويحسن التنبيه هنا إلى أن الشيخ رحمه الله قد ذكر حديثين برقمي (3106، 3528) ، ثم عَدَلَ عن تصحيحهما ونَقَلَهُمَا إلى "الضعيفة" (6720، 5848) ، وقد أشار الشيخ إلى نقل الأول منهما، وأشرنا إلى نقل الآخر في مكانه.
وأخيراً؛ فقد قمنا بطباعة الكتاب كما هو في أصل الشيخ، مع تصويب ما لا ينجو منه بشر من خطأ ظاهر، وقمنا بصنع فهارسه العلمية على نحو ما كانت تصنع في حياة الشيخ- على قدر الإمكان- وذلك بالتعاون مع بعض إخواننا من طلبة العلم، جزاهم الله خيراً.
والله نسأل أن ينفع بهذا المجلد- كما نفع بما سبقه- المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يجزل للشيخ المثوبة، وينعم عليه بالمغفرة، إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
الناشر
8 جمادى الآخرة 1421هـ *(7/4)
3001- (إنْ أُدْخِلْتَ الجنَّةَ أُتِيتَ بفَرسٍ من ياقُوتَة لهُ جناحانِ، فَحُمِلْتَ عليهِ ثُمَّ طار بِكَ حيثُ شِئْتَ) .
أخرجه الترمذي (2547) ، والطبراني (4/215/4075) ، وعنه أبو نعيم في "صفة الجنة" (261/423) من طريق واصل بن السائب عن أبي سَوْرة عن أبي أيوب قال:
أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله! إني أحب الخيل، أفي الجنة خيل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وقال الترمذي:
"هذا حديث حسن، ليس إسناده بالقوي، ولا نعرفه من حديث أبي أيوب إلا من هذا الوجه، وأبو سورة- هو ابن أخي أيوب- يُضعَّف في الحديث، ضعّفه يحيى بن معين جداً، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: أبو سورة هذا منكر الحديث؛ يروي مناكير عن أبي أيوب لا يتابع عليها ".
قلت: وواصل أيضاً ضعيف كما في "التقريب ".
فإن قيل: كيف يحسن الترمذي الحديث مع تضعيفه لإسناده؟!
والجواب: أنه لا غرابة في ذلك؛ لأن التحسين المذكور إنما هو بالنظر لشواهده، وقد ساق الترمذي أحدها في الباب من طريق عاصم بن علي: حدثنا المسعودي عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه:
أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هل في الجنة من خيل؟ قال:
"إن الله أدخلك الجنة؛ فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت ".(7/5)
قال: وسأله رجل فقال: يا رسول الله! هل في الجنة من إبل؟ قال: فلم يقل
له مثلما قال لصاحبه، قال:
"إن يدخلك الله الجنة؛ يكن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك ".
حدثنا سويد بن نصر: أخبرنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن عبد الرحمن بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه. وهذا أصح من حديث المسعودي.
قلت: واسناد الموصول ضعيف؛ لضعف المسعودي، ونحوه عاصم بن علي، إلا أن هذا قد توبع؛ فقال أحمد (5/352) : ثنا يزيد: ثنا المسعودي به.
وبهذا الإسناد أخرجه ابن أبي شيبة (13/107/15838) ، وأخرجه الطيالسي (108/806) ، وأبو نعيم (425) ، والبيهقي في "البعث " (435- 437) . وأما المرسل فإسناده صحيح، فهو شاهد قوي لحديث الباب.
وللحديث شاهد آخر موصول من حديث عبد الرحمن بن ساعدة رضي الله عنه مرفوعاً. قال المنذري (4/269) ، ثم الهيثمي (10/413) :
"رواه الطبراني؛ ورواته ثقات ".
وقد أخرجه أبو نعيم (424) ، وفي "معرفة الصحابة " (2/48/ 1) ، والبيهقي (439) من طرق عن حَنَش بن الحارث عن علقمة بن مرثد عن عبد الرحمن بن ساعدة. ولم يذكر أبو نعيم في رواية له (عبد الرحمن بن ساعدة) . وقال البيهقي:
"ورواه الثوري عن علقمة بن مرثد عن عبد الرحمن بن سابط الجمحي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ".(7/6)
وأشار إلى ترجيحها، وهو ما رجحه الترمذي أنفاً.
وقال الحافظ في ترجمة (عبد الرحمن بن ساعدة) من "الإصابة ":
" وهو المحفوظ ".
وهكذا رواه ابن المبارك في "الزهد" (77/ 271- نعيم) ، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (78/244) من طريق سفيان به مرسلأ.
والخلاصة: أنه إذا ضم إلى هذا المرسل الصحيح حديث المسعودي المسند عن بريدة رضي الله عنه؛ ارتقى الحديث إلى درجة الحسن على أقل تقدير. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وللجملة الأخيرة من حديث بريدة شاهد من حديث المغيرة بن شعبة في حديثه المرفوع في أدنى أهل الجنة منزلة بلفظ:
"فقال في الخامسة: رضيت رب! فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك.. " الحديث.
أخرجه مسلم (1/ 121) . *
3002- (إنَّ الحُورَ في الجنَّةِ يَتَغَنَّينَ يَقُلْنَ: نَحْنُ الحُورُالحِسَان هدِينا لأزواجٍ كرام) .
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/1/16) ، وابن أبي داود في "البعث والنشور" (رقم: 75) ، والطبراني في "الأوسط " (6642) من طرق عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع عن ابنٍ لأنس(7/7)
ابن مالك: أنَّ أنس بن مالكٍ ... مرفوعاً.
وعون هذا لم يذكر فيه البخاري جرحاً ولا تعديلاً، وكذلك صنع ابن أبي
حاتم (3/1/386) ، ولعله في "ثقات ابن حبان "، فإن يدي لا تطوله الآن (1) . وظني أن الهيثمي أشار إلى توثيق ابن حبان إياه بقوله في "المجمع " (10/419) :
"رواه الطبراني في "الأوسط "، ورجاله وثقوا ".
وابنُ أنسٍ- رضي الله عنه-: لم يُسَمَّ
(تنبيه) : قد ذكر الطبراني أن الحسن بن داود المنكدري تفرد به عن ابن أبي فديك، وهذا إنما هو بالنسبة لما أحاط علمه، وإلا فهو عند غيره من غير طريقه عنه كما أشرت إلى ذلك بقولي المتقدم: "من طرق ".
وكذلك رواه أبو نعيم، ومن طريقه: الضياء المقدسي في "صفة الجنة" (3/182) ، وابن أبي الدنيا كما في "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" (2/4) .
ثم إن الحديث قد روي من حديث عبد الله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وأبي أمامة الباهلي، وعبد الله بن أبي أوفى، وقد خرجتها وتكلمت على أسانيدها في "الروض النضير" برقم (496) ، وأقواها حديث ابن عمر مرفوعاً بلفظ:
"إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات، ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين:
نحن الخَيْرات الحسان أزواج قوم كرام
ينظرن بِقُرّة أعيان.
_________
(1) ثم رأيته فيه (7/279) .(7/8)
وإن مما يغنين به:
نحن الخالدات فلا يَمُتْنَهْ نحن الآمنات فلا يَخَفْنَهْ
نحن المقيمات فلا يَظْعَنَّهْ".
رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط " (رقم 5049) ، ومن طريقه أبو نعيم
في "صفة الجنة " (ق 59/ 1- 2) ، وكذا الواحدي في "الوسيط " (1/11/1) ، ورجاله ثقات رجال الستة؛ غير شيخ الطبراني أبي رفاعة عُمارة بن وَثِيمة المصري؛ فإني لم أجد له ترجمة كما كنت ذكرت في "الروض "؛ خلافاً لما يوهمه إطلاق المنذري والهيثمي. *
من آداب الاستئذان
3003- (كانَ إذا جاءَ البابَ يستأذِنُ لم يستقبِلْهُ، يقولُ: يمشي مع الحائطِ حتى يستأذِنَ فَيُؤذنُ لهُ أو ينصرِفُ) .
أخرجه الإمام أحمد (4/189- 190) وابنه عبد الله (4/189- 190) قال: حدثني أبي: ثنا الحكم بن موسى- قال عبد الله: وسمعته أنا من الحكم-: ثنا بقية قال: وحدثني محمد بن عبد الرحمن اليَحْصَبي قال: سمعت عبد الله بن بُسْر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول ... فذكره.
وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1078) ، وأبو داود (5186) من طرق أخرى عن بقية به.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات قد صرح فيه بقية بالتحديث،
ولا يضره قول ابن حبان في "الثقات " عن اليحصبي هذا:(7/9)
"لا يعتد بحديثه ما كان من حديث بقية، ويحيى بن سعيد دونه؛ بل يعتبر
بحديثه من رواية الثقات عنه ".
قلت: وذلك لأمرين:
الأول: أن بقية قد صرح بالتحديث كما عرفت، وإنما يخشى من عنعنته،
وقد زالت.
والآخر: أنه قد تابعه إسماعيل بن عياش قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن الحميري به، ولفظه:
" كان إذا أتى بيت قوم أتاه مما يلي جداره، ولا يأتيه مستقبل بابه "
أخرجه أحمد أيضاً، وكذا ابنه عبد الله بإسنادهما السابق: ثنا الحكم: ثنا
إسماعيل بن عياش به.
وهذا إسناد صحيح؛ فإن ابن عياش ثقة في روايته عن الشاميين، وهذه منها؛
فإن محمد بن عبد الرحمن هذا- وهو ابن عِرْق، شامي حمصي- قال دُحيم:
"ما أعلمه إلا ثقة".
ووثقه ابن حبان أيضاً كما تقدم.
وقد رواه من طريقه الطبراني في "الكبير" بلفظ: عن عبد الله بن بسر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا تأتوا البيوت من أبوابها، ولكن ائتوها من جوانبها فاستأذنوا، فإن أذن
لكم فادخلوا؛ وإلا فارجعوا ".(7/10)
قال الهيثمي (8/44) :
"رواه الطبراني من طرق، ورجال هذا رجال "الصحيح "؛ غير محمد بن عبد الرحمن بن عرق، وهو ثقة".
وقال المنذري (3/273)
"رواه الطبراني في "الكبير" من طرق أحدها جيد".
قلت: وأنا أخشى أن يكون شاذاً بهذا اللفظ؛ لأنه مخالف للفظ الأول؛ فإنه
من قوله صلى الله عليه وسلم، وذاك من فعله، وقد اتفق عليه ثقتان، فلينظر.
ولعل من هذا القبيل زيادة أبي داود في اللفظ الأول:
"يقول: السلام عليكم، السلام عليكم. وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذٍ ستور".
وظني أنها مدرجة. والله أعلم. *
3004- (كانَ في [مَفْرِقِ] رَأْسِهِ شَعَرَاتٌ إذا دَهَنَ رأسَهُ لم تَتَبيَّنْ، وإذا لم يَدهنْهُ تَبيَّنَ) .
أخرجه الطيالسي في "مسنده " (2417- ترتيبه) : حدثنا شعبة عن سماك ابن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة، وذكر شيب النبي صلى الله عليه وسلم قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه في "صحيحه " (2344) ، والترمذي في " الشمائل " رقم (37- طبع سوريا) ، والنسائي في " الزينة " (8/150) ، وابن سعد في "الطبقات " (11/433) ؛ كلهم عن الطيالسي به.(7/11)
وتابعه حماد بن سلمة عن سماك به نحوه، والزيادة له.
أخرجه الترمذي (43) ، والحا كم (2/607) ، وأحمد (5/ 90 و 92 و95
و100 و 103 و104) من طرق عنه. وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي. وحقه أن يقولا:
"على شرط مسلم ". *
3005- (كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد شَمِطَ مُقدَّمُ رأسِهِ ولحيتِهِ، فإذا ادَّهَنَ ومشَطَ لم يتبيَّنْ، وإذا شَعِثَ رأسُهُ تَبَيَّنَ، وكانَ كَثِيرَ الشَّعرِ واللّحيةِ، فقالَ رجُلٌ:
وَجهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ قال: لا، بلْ كانَ مِثْلَ الشَّمسِ والقَمَرِ مُسْتدِيراً؛ قال:
ورأيتُ خَاتمهُ عِندَ كَتِفِهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الحمامَةِ يُشْبِهُ جَسَدَهُ) .
أخرجه مسلم (2344) ، وأحمد (5/104) من طرق عن إسرائيل عن سماك: أنه سمع جابر بن سمرة يقول ... فذكره. وعزاه النابلسي في "الذخائر" للنسائي في "الزينة "، ولعله من أوهامه؛ فإنه ليس فيه، وكان من الممكن أن يكون فيه من "الكبرى" له، ولكن الحافظ المزي في "تحفة الأشراف " لم يعزه إلا لمسلم!
ثم رأيته فيه (8/50) بالقطعة الأولى منه. *
3006- (كانَ أحَبَّ الشَّرَابِ إليهِ صلى الله عليه وسلم الحُلوُ البارِدُ) .
أخرجه أحمد (6/38، 40) : ثنا سفيان عن معمر عن الزهري عن عائشة
قالت: ... فذكرته.(7/12)
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وسفيان هو ابن عيينة، ومن طريقه أخرجه الترمذي في "الشمائل " (رقم- 205) ، وأبو الشيخ في "أخلاقه صلى الله عليه وسلم " (ص 227 و 228) ، والحاكم (4/137) وصححه، والترمذي أيضاً في "السنن " (رقم- 1896) ، وأعلّه بالإرسال فقال:
"هكذا روى غير واحد عن ابن عيينة عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة، والصحيح ما روي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً".
ثم ساقه من طريق عبد الله بن المبارك: أخبرنا معمر ويونس عن الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الشراب أطيب؟ قال: "الحلو البارد".
وقال: "وهكذا روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهذا أصح من حديث ابن عيينة رحمه الله ".
وما ذكره عن عبد الرزاق هو كذلك في "مصنفه " (10/426) مرسلاً، وهو الأرجح من الروايتين عن الزهري. وقد ذكر الحاكم للرواية الموصولة شاهداً من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير: ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به. وكذلك أخرجه أبو الشيخ.
قلت: ولكنه لا يصلح شاهداً لشدة ضعفه، ولذلك تعقبه الذهبي بقوله عقبه: "قلت: عبد الله هالك ".
وقال ابن حبان في "المجروحين " (2/11) :
"يروي عن هشام بن عروة، روى عنه إبراهيم بن المنذر الحزامي، كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، ويأتي عن هشام بن عروة ما لم يحدِّث به هشام قط، لا يحل كتابة حديثه ولا الرواية عنه ".(7/13)
قلت: فهو بهذا اللفظ منكر عن هشام بن عروة، والمحفوظ ما رواه أبو أسامة وغيره عن هشام به بلفظ:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ".
أخرجه أحمد (6/59) ، والشيخان وغيرهما، وهو مخرج في كتابي الجديد " مختصر الشمائل النبوية" (164) .
لكني وجدت لحديث الترجمة شاهداً من رواية إسماعيل بن أمية عن رجل
عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الشراب أطيب؟ قال:
"الحلو البارد".
أخرجه أحمد (1/338) .
قلت: ورجاله إسناده رجال "الصحيحين "؛ غير الرجل الذي لم يُسمَّ، وهو تابعي، فمثله يستشهد به. والله أعلم.
وقد تقدَّم الحديث مخرجاً - في المجلد الخامس برقم (2134) -؛ فاقتضى التنبيه. *
3007- (سيكونُ بعدي خلفاءُ يَعملونَ بما يَعلمونَ، ويَفعلون ما يُؤمرُونَ، وسيكونُ بعدي خلفاءُ يَعملونَ بما لا يَعلمون، ويَفعَلون ما لا يُؤمرونَ، فمن أنكرَ عليهم برئَ، ومن أمسك بيده سلم، ولكنْ من رضِيَ وتابع) .
أخرجه أبو يعلى في "مسنده " (4/1413) : حدثنا أبو بكر بن زنجويه: نا أبو المغيرة عبد القدوس: نا الأوزاعي: حدثني الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة(7/14)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
وأخرجه البيهقي في "السنن " (8/157- 158) من طريق أبي المغيرة وغيره
عن الأوزاعي به. وكذا أخرجه ابن حبان (8/229/6624و6625) .
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير أبي بكر هذا، واسمه محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي، وهو ثقة اتفاقاً.
وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن عمر، رواه الطبراني في "الأوسط "؛
لكن فيه مسلمة بن علي، وهومتروك كما في "المجمع " (7/270) .
ولآخره شاهد آخر من حديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعاً بلفظ:
" ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف (وفي رواية: كره) برئَ، ومن
أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع ". قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا؛ ما صلوا".
رواه مسلم (6/23) ، وأبو عوانة (4/ 471- 473) ، والبيهقي أيضاً، وأبو داود
(4760) ، والترمذي (2266) وقال: "حديث حسن صحيح "، وأحمد (6/295 و 302 و305 و 306 و 321) ، ومن طريقه: المزي في "تهذيبه "، والطبراني في "الكبير" (23/331) من طريق ضَبَّة بن محصن عنها.
(تنبيه) : وقع في آخر حديث أم سلمة هذا في "صحيح الجامع " (3618) زيادة: "لم يبرأ"، ولا أصل لها عند أحد ممن ذكرنا، فلتُحذفْ.
ثم بعد سنين من هذا التخريج، وقفت على طعن في إسناد حديث أم سلمة
هذا من محقق "رياض الصالحين " المدعو حسان عبد المنان، فقد علق على الحديث بقوله (ص 89/129) :(7/15)
"في صحته نظر؛ فإن في إسناده ضبة بن محصن، وفيه جهالة حال، ولم أر
له غير هذا الحديث مما اتصل إليه بإسناد صحيح "!
فأقول- والله المستعان-:
لقد كنت أسمع عن هذا الرجل ومجازفاته في الطعن في الأحاديث الصحيحة، وأنه وضع لنفسه قواعد- بزعمه- ينطلق منها في تضعيفها، وأحيانأ يتساهل فيقويها- اتباعاً للهوى- غير ملتزم في ذلك القواعد العلمية التي وضعها العلماء، فكنت أتريث حتى نجد من آثاره ما ندينه به؛ حتى صدر كتابه، فتأكدت من ذلك، وصدَّق الخُبر الخَبر، ولا أريد الإفاضة في ضرب الأمثلة، فالمجال ضيق الآن، فحسبنا الآن قوله المذكور أعلاه؛ فإنه يكفي للدلالة على ما تقدم، وذلك من وجوه:
الأول: زعمه أن ضَبة بن محصن مجهول الحال؛ فإنه مما لم يقله قبله أحد، ولا هو مما يساعد عليه قواعد هذا العلم وصنيع الحفاظ العارفين به.
الثاني: أن ضبة هذا قد وثقه ابن حبان، وقال الحافظ ابن خلفون الأندلسي: "ثقة مشهور"، وكذلك وثقه كل من صحّح حديثه؛ إما بإخراجه إياه في "الصحيح" كمسلم وأبي عوانة؛ أو بالنص على صحته كالترمذي.
الثالث: أنه قد روى عنه جمع من الثقات مثل عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن البصري، وقتادة، وميمون بن مهران، فلو أنه لم يوثقه من سبق ذكرهم لكانت رواية هؤلاء الثقات عنه كافيةً في إثبات عدالته، والاحتجاج بحديثه؛ ما دام أنه لم يرو منكراً، ولا سيما وهو من التابعين إن لم يكن من كبارهم؛ كما يدل على ذلك صنيع الحفاظ المتأخرين في أمثالهم، ولذلك صرح الذهبي في(7/16)
" الكاشف " بأنه: "ثقة "، والحافظ في " التقريب " بأنه: "صدوق ".
الرابع: لو سلمنا جدلاً بأنه مجهول الحال- كما زعم مدعي التحقيق- فمثله يصحح حديثه؛ أو على الأقل يحسن بالشواهد والمتابعات التي منها حديث الترجمة، وإن كان ليس فيه جملة الصلاة، فإنه يشهد لها حديث عوف ابن مالك عند مسلم من طريق مسلم بن قَرَظَة عنه، وفيه: أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: "لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة". وقد مضى تخريجه برقم (907) ؛ إلا أن المحقق المزعوم أعلّه أيضاً بمثل ما أعلّ حديث أم سلمة، فقال في تعليقه عليه (218/501) :
"في إسناده مسلم بن قرظة، وهو مجهول الحال. وانظر الحديث المتقدم برقم (129) ". يعني: حديث أم سلمة.
وهذا مما يدل الباحث على أنه قد وضع لنفسه قاعدة تضعيف أحاديث الثقات الذين تفرد ابن حبان بتوثيقهم- في حد علمه- ولو كان أحدهم من رجال "الصحيح"، وروى عنه جمع من الثقات، ووثقه بعض الحفاظ المتأخرين! فالمحقق المزعوم- بجهله وعجبه وغروره- يضرب بكل ذلك عرض الحائط! فإن القول في ابن قرظة هذا وحديثه كالقول في ضبة بن محصن وحديثه، فقد روى عنه ثلاثة من الثقات: رزيق بن حيان، وربيعة بن يزيد، ويزيد بن يزيد بن جابر؛ كما في "تاريخ البخاري " (4/1/270 - 271) وساق له هذا الحديث، و"جرح ابن أبي حاتم " (4/1/192) ، و"ثقات ابن حبان " (5/396) ، و"تاريخ ابن عساكر" (16/482) ، ولذلك جزم الذهبي في "الكاشف " بأنه "ثقة "، وصحح حديثه هذا مسلم وأبو عوانة وابن حبان، وكذلك البيهقي بإقراره لتصحيح مسلم، ثم هو إلى ذلك من كبار التابعين المشهورين؛ كما يدل على(7/17)
ذلك أقوال مؤلفي "الطبقات "؛ فقد روى ابن عساكر عن ابن سعد أنه أورده في (الطبقة الثانية) من تابعي الشام. وعن أبي زرعة الدمشقي أنه ذكره في الطبقة التي تلي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي العليا. وهكذا قال يعقوب الفسوي في "المعرفة" (2/333) . وقد احتج أحمد في عدم جواز الخروج على الأئمة بهذا الحديث، وذكر أنه جاء من غير وجه كما رواه عنه الخلال في "السنة" (1- 3/129- تحقيق الزهراني) .
وجملة القول؛ أن الرجل واسع الخطو جداً في تضعيف الأحاديث الصحيحة دون الاعتماد على القواعد العلمية، وفي كثير من الأحيان يتشبث في التضعيف ببعض الأقوال المرجوحة، كما فعل في إعلاله لحديث أبي قتادة مرفوعأ (رقم 957) : "صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية " بأن الراوي عن أبي قتادة- وهو عبد الله بن معبد الزماني- لا يعرف له سماع من أبي قتادة! وهو تابعي ثقة، والمعاصرة كافية في الاتصال، ولم يُرْمَ بالتدليس، فلا أدري هل هو يجهل هذا؛ أم هو التجاهل؟!
كما تجاهل الشواهد التي تؤكد صحته، وقد خرجته مع شواهده في "إرواء الغليل " (4/108- 110) . وقد وصل به التجاهل والطغيان في التضعيف للأحاديث الصحيحة إلى أن ضعف حديث العرباض بن سارية: "أوصيكم بتقوى الله.. " الحديث، وفيه: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عَضّوا عليها بالنواجذ.. " الحديث. قال (ص 79) :
" صححه الترمذي وابن حبان والحاكم، وضعفه ابن القطان لجهالة حال عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وإليه أميل "!(7/18)
كذا قال- هداه الله- وقد تجاهل الحقائق التالية:
الأولى: أن عبد الرحمن هذا روى عنه أيضأ جمع من الثقات، ووثقه ابن حبان، وذكره مسلمة في (الطبقة الأولى) من التابعين، ووثقه أيضأ كل الحفاظ الذين صرحوا بصحة حديثه- وهم جمع سيأتي تسميتهم- غير الثلاثة الذين سماهم هذا المكابر، وصرح الذهبي في "الكاشف " بأنه "صدوق ".
الثانية: أنه لم يتفرد به؛ فقال الحاكم (1/97) :
"وقد تابع عبد الرحمن بن عمرو على روايته عن العرباض اثنان من الثقات الأثبات من أئمة أهل الشام: حجر بن حجر الكلاعي ويحيى بن أبي المطاع القرشي ".
ثم ساق إسناده إليهما، وقال عقب ذلك:
"وقد صح هذا الحديث والحمد الله ".
ووافقه الذهبي.
قلت: وإسناده صحيح إلى يحيى القرشي، وهو ثقة، وقد صرح بالسماع من العرباض عند الحاكم وابن ماجه أيضاً وابن أبي عاصم.
الثالثة: أنه صحح الحديث- غير الذين تقدم ذكرهم- جمع من الحفاظ مثل البزار، فقال:
"حديث ثابت صحيح ".
والهروي في "ذم الكلام "، فقال: "هذا من أجود حديث أهل الشام ".(7/19)
وابن عبد البر حافظ المغرب؛ قال:
"حديث ثابت ".
ومنهم الضياء المقدسي في "جزء اتباع السنن واجتناب البدع ".
وقد ذكرت أقوالهم بعد أن خرجت الحديث في "الإرواء" كما تقدم، وهو على علم بذلك؛ فإنه كثير الرجوع إلى هذا الكتاب وغيره من تأليفي والاستفادة منها كشيخه؛ كما يعلم ذلك كل من وقف على تخاريجهما، ثم "لا حمداً ولا شكوراً" كما يقال في بعض البلاد، وإنما هو الغمز واللمز وتتبع العثرات مقروناً بالحسد والحقد الدفين؛ كما ينبئك به عن ذلك اطلاقه على السلسلتين "الصحيحة" و"الضعيفة" كلما عزا إليهما قال: "صحيحته "، "ضعيفته "؛ تقليداً منه للمتعصب الحاقد الشيخ حبيب الأعظمي ثم الغماري الصغير: السقاف! "فيا عجباً لوبْر تدلى علينا من قَدوم ضال " (1) يتعالى على هؤلاء الحفاظ، ويخطئهم وهو كما قيل: "ليس في العير، ولا في النفير"، وما ذلك منه إلا تشوفاً وحباً للظهور، متجاهلاً قول العلماء: "حب الظهور يقصم الظهور". وذاك- والله- منتهى العجب والغرور! كيف ل؛ وهذا أستاذه ومعلمه- الذي يسبح بحمده! ويتمسح به ويداهنه، ويتفاخر بموافقته إياه في عشرات الأحاديث (2) - لم يسعه إلا أن يصرح بصحة الحديث في تعليقه على "صحيح ابن حبان/ الإحسان " (1/178- 179) ، و"السير" (3/420 و 17/283) ، ولو وجد سبيلاً- هو الآخر- للمخالفة لم يقصر!! فما أشبهه بذلك الضال السقاف الذي يضلل أئمة السلف، ويخالف الحفاظ؛
_________
(1) من كلام أبان بن سعيد القرشي في قصته عند البخاري (4237- فتح) وغيره، وهو مخرج
في "صحيح أبي داود" (2434- 2435) .
(2) انظر الاستدراك (11- ص 711) في آخر المجلد الثاني من "الصحيحة" الطبعة الجديدة.(7/20)
فيضعّف ما صححوه من الأحاديث كحديث: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"! ولا يكتفي بذلك؛ بل يخالف شيوخه الغماريين الذين صححوه أيضاً! كما تراه محققاً في الاستدراك رقم (12) في آخر المجلد الثاني من "الصحيحة" الطبعة الجديدة بفضل الله تعالى ومنته.
(تنبيه) : ثم وقفت على حديث يخالف ظاهره حديث عوف بن مالك الناهي
عن منابذة الأئمة والحكام بالسيف، فرأيت أن أبين حاله خشية أن يتشبث به بعض الجهلة من خوارج هذا الزمان، أو ممن لا علم عنده بهذا العلم الشريف وفقه الحديث، ألا وهو ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (11/39- 40) من طريق الهياج بن بسطام عن ليث عن طاوس عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ:
"سيكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك ".
وهذا إسناد ضعيف بمرة؛ ليث- وهو ابن أبي سليم- ضعيف مختلط، والهياج ابن بسطام- وهو الخراساني- متفق على ضعفه؛ بل اتهمه ابن حبان؛ فقال: "يروي الموضوعات عن الثقات ". وبه أعله الهيثمي (5/228) .
أقول: وهذا الحديث قد عزاه السيوطي لابن أبي شيبة أيضاً؛ يعني في "المصنف "، ولم أره فيه بعد البحث الشديد، فإن صح إسناده عنده أو غيره كان لا بد من تأويل قوله: "نابذهم " أي: بالقول والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لا بالسيف؛ توفيقاً بينه وبين حديث عوف كما تقتضيه الأصول العلمية والقواعد الشرعية، وان لم يصح نبذناه لشدة ضعف إسناده. والله سبحانه وتعالى أعلم. *(7/21)
3008- (يُؤْتَى بالرجلِ مِن أهلِ الجنةِ، فيقول [الله] له: يا ابنَ آدمَ! كيف وجدتَ مَنزلَكَ؟ فيقول: أيْ ربِّ! خيرَ منزلِ، فيقول: سَلْ وتمنَّ، فيقولُ: ما أسألُ وأتمنى؟ إلا أن تَرُدَّني إلى الدنيا فَأُقتَلَ في سبيلكَ عشرَ مراتٍ، لما يرى من فضل الشهادة (وفي طريق بلفظ: من الكرامة) .
وُيؤتَى بالرجل من أهلِ النارِ، فيقول [الله] له: يا ابن آدم! كيف وجدت منزلكَ؟ فيقول: أي ربِّ! شرَّ منزلٍ، فيقول [الربُّ عز وجل] له: أَتَفْتَدِي منه بِطِلاعِ الأرضِ ذهباً؟ فيقولُ: أي ربِّ! نعم. فيقولُ: كَذَبْتَ؟ قدْ سألتُكَ أقَلْ من ذلكَ وأَيْسَرَ فلم تفعل. فَيُرَدُّ إلى النار) .
أخرجه أحمد (3/207- 208 و 239) ، وابن حبان (9/224/7306) ، والحاكم (2/75) من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. وقال الحاكم:
"صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي، وأقره المنذري في "الترغيب " (2/189) ، وهو كما قالوا، والزيادات الثلاث للحاكم.
وللنسائي في أول (الجهاد) الشطر الأول منه فقط، وهو رواية لأحمد (3/126 و 131 و 153 و 284) من هذا الوجه.
ورواه البخاري (2817) ، ومسلم (6/ 35) ، وابن حبان (7307) وأحمد أيضاً
(3/103 و 173 و 251 و 276 و 278) من طريق قتادة عن (وفي رواية: سمعت) أنس بن مالك يقول ... فذكره. وفيها اللفظ الآخر. وفي رواية أخرى عن قتادة بأتم مما هنا، وقد تقدمت برقم (172) مقرونة برواية أبي عمران الجوني عن أنس.(7/22)
وذكرت له هناك طريقاً ثالثاً من رواية مسلم والنسائي عن ثابت عن أنس- نقلاً عن "الفتح "- ونفيت ثمة وجودها في "مسلم "، واستظهرت أن تكون رواية النسائي في "الكبرى"، وقد تأكدت الآن من النفي المذكور، وتَبَيَّنْتُ أن رواية النسائي هي بالشطر الأول من حديث الترجمة، وليس له علاقة بالحديث المتقدم، كما أن لمسلم بإسناد حديث الترجمة حديثاً آخر تقدم برقم (1167) ؛ أظنه اشتبه على الحافظ بذاك. والله أعلم.
(طِلاع الأرض) ؟ أي: ما يملؤها حتى يطلع عنها ويسيل؛ كما في "النهاية". وقال الحافظ في "الفتح " (7/52) :
"أي: ملؤها، وأصل (الطلاع) : ما طلعت عليه الشمس، والمراد هنا ما يطلع عليها ويشرف فوقها من المال ". *
3009- (كان يُنتَبذُ له في سِقَاءٍ، فإذا لم يَكُنْ سِقَاءٌ فَتَوْرٌ من حجارةٍ) .
أخرجه أحمد (3/307) : ثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير: سمعه من
جابر ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد ثلاثي صحيح على شرط الشيخين؛ إلا أن البخاري قرن
أبا الزبير بغيره- واسمه محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي- وهو ثقة حافظ مدلس، لكن قد صرح سفيان عنه بأنه سمعه من جابر، وهذه فائدة هامة خلا منها "صحيح مسلم " وغيره من "السنن " وغيرها، ولذلك خرجته، ولعلو إسناده.
وقد تابعه زكريا بن إسحاق: ثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله به نحوه.(7/23)
أخرجه أحمد أيضاً (3/384) : ثنا روح: ثنا زكريا به.
وهذا صحيح أيضاً.
ثم أخرجه هو (3/ 304 و 326 و 379) ، ومسلم (6/98) ، وأبو داود (2/132
- التازية) ، والنسائي (2/227 و 229) ، والدارمي (2/116) ، وابن ماجه (2400) ، وأبو يعلى (1769) بالشطر الثاني، والطيالسي في "مسنده " (1751) بالشطر الأول، وابن أبي شيبة في "المصنف " (8/140/ 3921) بتمامه، وزاد:
"قال أشعث: و (التور) : من لحاء الشجر".
قلت: وهذا تفسير غريب هنا على الأقل! فإن المعروف في كتب اللغة مثل "النهاية " وغيره أنه: "إناءٌ مِنْ ُصْفرٍ أو حجارةٍ) .
فالظاهر أن ذلك من أوهام أشعث هذا، وهو ابن سوار الكوفي. *
3010- (كان يصومُ، فَتَحَيَّنْتُ فِطْرَهُ بِنَبِيذٍ صَنعتُهُ في دُبَّاءٍ، ثم أَتَيْتُهُ به، فإذا هو يَنِشُّ، فقال:
اضْرِبْ بهذا الحائطِ، فإنَّ هذا شرابُ مَنْ لا يؤمنُ بالله واليوم الآخر) .
أخرجه أبو داود (2/ 134) ، ومن طريقه: البيهقي (8/303) ، والنسائي (2/327) عن هشام بن عمار: ثنا صدقة بن خالد: ثنا زيد بن واقد عن خالد بن عبد الله بن حسين عن أبي هريرة قال: علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ... الحديث.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات؛ غير أن هشاماً فيه ضعف، وقد خالفه الوليد(7/24)
ابن مسلم فقال: عن صدقة أبي معاوية عن زيد بن واقد به دون الصيام والفطر.
أخرجه ابن ماجه (3409)
وصدقة أبو معاوية- وهو ابن عبد الله السمين- ضعيف، بخلاف صدقة بن خالد- وهو الأموي أبو العباس-؛ فهو ثقة، فإن كان هشام قد حفظه فالإسناد جيد؛ لأن شيخه زيد بن واقد ثقة من رجال البخاري.
وأما خالد بن عبد الله بن حسين فقد ذكره ابن حبان في "الثقات "، وروى
عنه ثقتان آخران، وقال البخاري: "سمع أبا هريرة"؛ كما في "التهذيب ".
قلت: ذكره في "التاريخ الكبير" (2/1/157) ، ثم رواه معلقاً، ووصله أحمد في "الأشربة" (68/153) : حدثنا الهيثم بن خارجة قال: حدثنا ابن علاق- وهو عثمان بن حصن (1) - عن زيد بن واقد قال: حدثني خالد بن حسين مولى عثمان ابن عفان قال: سمعت أبا هريرة يقول: علمت.. الحديث.
ووصله البيهقي من طريق أخرى عن الهيثم.
وتابعه علي بن حجر: حدثنا عثمان بن حصن.
أخرجه النسائي (2/334)
وهذا إسناد جيد أيضاً؛ فإن الهيثم وابن علاق ثقتان.
ولزيد بن واقد إسناد آخر أصح من هذا؛ فقال منصور بن أبي مزاحم: نا يحيى بن حمزة عن زيد بن واقد قال: حدثني قزعة: حدثني أبو هريرة به.
_________
(1) في "التاريخ ": (عثمان بن عبد الرحمن) .(7/25)
أخرجه الدارقطني (4/252/32) من طريقين عن منصور به.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح، وقزعة هو ابن يحيى البصري.
وله شاهد مرسل يرويه الأوزاعي: حدثني محمد بن أبي موسى أنه سمع القاسم بن مخيمرة يخبر:
أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بنبيذ جَرٍّ ينِشُّ فقال: "اضرب به الحائط.. " الحديث مثله.
أخرجه أبو يعلى (13/ 7259) ، وأحمد (89/239) ، والبيهقي، وقال:
"ولو كان إلى إحلاله- بصب الماء عليه- سبيل؛ لما أمر بإراقته. والله أعلم ".
قلت: وهو مرسل قوي الإسناد، فيزداد به الحديث قوة على قوة، وقد أشار النسائي إلى أنه صحيح عنده؛ فقال عقبه:
"وفي هذا دليل على تحريم السكر قليله وكثيره، وليس كما يقول المخادعون لأنفسهم بتحريمهم آخر الشربة، وتحليلهم ما تقدمها الذي يشرب في الفَرَق قبلها. ولا خلاف بين أهل العلم أن السكر بكليته لا يحدث على الشربة الأخيرة دون الأولى والثانية بعدها، وبالله التوفيق ".
ووافقه أبو الحسن السندي الحنفي في "حاشيته " عليه، فقال:
"وهو المعتمد عند علمائنا الحنفية، والاعتماد على القول بأن المحرم هو الشربة المسكرة، وما كان قبلها فحلال قد ردّه المحققون؛ كما رده المصنف رحمه الله تعالى". *(7/26)
عائشة زوجته صلى الله عليه وسلم في الجنة
3011- (أما ترضَيْنَ أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة؟ قلت:
بلى والله! قال: فأنت زوجتي في الدنيا والآخرة) .
أخرجه ابن حبان (7053- الإحسان) ، والحاكم (4/ 10) من طريق سعيد
ابن يحيى الأموي: حدثني أبي: حدثني أبو العنبس سعيد بن كثير عن أبيه قال: حدثتنا عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فاطمة، قالت: فتكلمت أنا، فقال ... فذكره. وقال الحاكم:
"أبو العنبس هذا ثقة، والحديث صحيح ".
ووافقه الذهبي. وعزاه الحافظ في "الفتح " (7/108) لا بن حبان وحده، وسكت عنه.
وللجملة الأخيرة منه طريق أخرى عن عائشة.
أخرجه الترمذي (3875) ، وابن حبان أيضاً (7052) من طريق ابن أبي مليكة عنها. وقال الترمذي:
"حديث غريب ".
طريق ثالث: عن يوسف بن يعقوب الماجشون: حدثني أبي عن عبد الرحمن
ابن كعب بن مالك عنها.
أخرجه ابن حبان (7054) ، والحاكم (4/13) ، وقال:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي.(7/27)
طريق رابع: عن أبي سلمة الماجشون عن أبي محمد مولى الغفاريين عنها
نحوه.
أخرجه ابن سعد في "الطبقات " (8/65) .
وله شواهد من حديث ابن عباس وعمار عند البخاري (3771 و 3772) . وقد تقدم حديث الترجمة برقم (2255) - مختصراً-. *
3012- (نهى عنِ اتِّباعِ النساءِ الجنائزَ، وقال: ليسَ لَهُنَّ في ذلك أجرٌ) .
أخرجه ابن حبان في "الثقات " (6/493) : ثنا السِّختياني: ثنا شيبان بن فَرُّوخ:
ثنا طيب بن سلمان، قال: سمعت عمرة تقول: سمعت عائشة تقول ... فذكره.
قلت: أورده في ترجمة الطيب هذا ولم يزد. وقال في "الميزان ":
"قال الدارقطني: بصري ضعيف ".
وتعقبه الحافظ في "اللسان " بتوثيق ابن حبان، وبقول الطبراني في "الأوسط ":
"بصري ثقة".
قلت: وأنا أرى- والله أعلم- أن الحديث صحيح؛ لأن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير السختياني- وهو عمران بن موسى بن مجاشع الجرجاني- وهو ثقة حافظ مترجم في "التذكرة"، فليس في السند من ينظر فيه سوى الطيب هذا، وقد روى عنه أيضاً بشر بن محمد أبو أحمد السكري؛ كما في "الجرح ". وهو صدوق كما في "الميزان "، فمثله تطمئن النفس لحديثه إذا وافق الثقات. وأرى أن حديثه هذا بمعنى حديث أم عطية رضي الله عنها قالت:(7/28)
"كنا نُنْهَى (وفي رواية: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا".
أخرجه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في "أحكام الجنائز" (ص 90- المعارف) . فهذا شاهد قوي للحديث؛ فإن قولها:
"ولم يعزم علينا".
كأنه بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم:
"ليس لهن في ذلك أجر".
على أن هذا القدر منه وجدت له شاهداً آخر يرويه صهيب بن محمد بن عباد بن صهيب: ثنا عباد بن صهيب عن الحسن بن ذكوان عن سليمان بن الربيع عن عطاء عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليس للنساء أجر في اتباع الجنائز".
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط " (2/ 231/ 1/8575) وقال:
"تفرد به الحسن بن ذكوان ".
قلت: وهو كما في "التقريب ":
"صدوق يخطئ، وكان يدلس ".
وأعله الهيثمي بقوله (3/28) :
"رواه الطبراني في "الأوسط "، وفيه مجاهيل ".
قلت: كأنه يشير إلى صهيب بن محمد بن عباد بن صهيب والراوي عنه(7/29)
موسى بن عيسى الجزري- وهو شيخ الطبراني فيه-؛ فإني لم أجد لهما ترجمة؛ إلا أن صهيباً قد غمزه عبدان بالتلقين؛ كما يأتي قريباً.
وعباد بن صهيب مختلف فيه، فوثقه بعضهم، واتهمه ابن حبان، وجزم الذهبي في "الميزان " بأنه أحد المتروكين، وذكر الخلاف فيه عند الأئمة، وزاد عليه الحافظ في "اللسان "، وذكر عن عبدان أنه قال:
"لم يكذبه الناس، وإنما لقنه صهيب بن محمد بن صهيب أحاديث في آخر الأمر".
وسليمان بن الربيع يحتمل أنه العدوي البصري الذي روى عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن بريدة.
وفي "تاريخ البخاري " (2/ 2/ 12) :
"سليمان أبو الربيع الهمداني أو الهمذاني، سمع سعيد بن جبير وأبا عبد الرحمن السلمي. روى عنه ابن المبارك، منقطع ".
فيحتمل أن يكون هو هذا ويكون أداة النسبة (ابن) محرفاً من أداة الكنية (أبي) . والله أعلم.
وهذا أورده ابن حبان في (أتباع التابعين) من "ثقاته " (6/389) .
وأورد الذي قبله في (التابعين) (4/309) . وأورد قبله (4/304) (سليمان بن
أبي هند مولى زيد بن الخطاب القرشي، كنيته أبو الربيع، يروي عن عمر بن الخطاب وخَبَّاب بن الأرت. روى عنه محمد بن جحادة، وإسماعيل بن سميع) . قلت: فيحتمل أن يكون هؤلاء الثلاثة واحداً. والله أعلم.(7/30)
وقد وجدت له متابعاً ضعيفاً- بل متروكاً-؛ يرويه أبو عتبة أحمد بن الفرج: ثنا بقية بن الوليد: ثنا أبو عائذ- وهو عُفَيْر بن مَعْدان-: ثنا عطاء بن أبي رباح به.
أخرجه البيهقي (4/63) ساكتاً عنه، ولعل ذلك من أجل عُفير بن معدان؛ فإنه متفق على تضعيفه. ونحوه أحمد بن الفرج، وراجع لترجمتيهما "الضعيفة" المجلد الأول.
ولعل بمعنى الحديث ما رواه الصباح أبو عبد الله عن جابر عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ:
"ليس للنساء في الجنازة نصيب ".
أخرجه البزار (1/376/793) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (11/145/
11309) .
وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي؛ وهو ضعيف.
والصباح أبو عبد الله لم أعرفه، وبه أعله الهيثمي فقال (3/13) :
" لم أجد من ذكره"
وأما الحافظ فقال في "مختصر الزوائد" (1/348) :
"الصباح ضعيف" وختاماً أقول:
هذه الشواهد إن لم تُفِدْ؛ فالعمدة في ذلك حديث أم عطية. والله أعلم. *(7/31)
3013- (كانَ فيمن كان قبلكم رجلٌ به جَرحٌ فَجَزِعَ، فأخذ سِكِّيناً فحَزَّ بها يَدَهُ، فما رَقَأَ الدَمُ حتى مات، قال الله تعالى: بادَرَني عَبْدي بنفسِهِ، حَرَّمْتُ عليه الجنة) .
أخرجه البخاري في "صحيحه " (3463- فتح) : حدثنا محمد قال: حدثنا حجاج: حدثنا جرير عن الحسن: حدثنا جندب بن عبد الله في هذا المسجد، وما نسينا منذ حدثنا، وما نخشى أن يكون جندب كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
وعلّقه في "كتاب الجنائز" (1364) فقال: وقال حجاج بن مِنْهال: حدثنا جرير بن حازم به مختصراً.
والحجاج هذا من رجال الشيخين؛ بل هو من شيوخ البخاري، وقد علقه عليه، ووصله في الموضع المشار إليه آنفاً، ولذلك قال الحافظ تعليقاً منه على هذا المعلَّق:
"وهو أحد المواضع التي يستدل بها على أنه ربما علق عن بعض شيوخه ما
بينه وبينه فيه واسطة".
وشيخ البخاري (محمد) هو ابن معمر، وقيل: هو الذهلي؛ كما قال الحافظ. قلت: وقد توبع؛ فقال الطبراني في "المعجم الكبير" (2/ 161/1664) : حدثنا علي بن عبد العزيز: ثنا حجاج بن المنهال به.
وتابعه وهب بن جرير: حدثنا أبي.. فذكره.
أخرجه مسلم، وأبو يعلى في "مسنده " (3/96/1527) .(7/32)
ثم أخرجه مسلم (1/75) ، وأحمد (4/312) من طريقين آخرين عن الحسن
به نحوه.
(تنبيه) : في هذا الإسناد فائدة هامة لم أر من نبّه عليها، بل وقع في بعض الكتب ما ينافيها، فقد قال ابن أبي حاتم في ترجمة الحسن البصري بعد أن ذكر عن أبيه: أنه سمع من جمع من الصحابة، ولم يسمع من جمع آخر منهم، قال أبو حاتم:
"ولم يصح له السماع من جندب ".
وحكاه الحافظ عنه في "التهذيب " وأقره! بينما تعقبه المزي في أصله "تهذيب الكمال " بتصريحه بالتحديث في هذا الإسناد!
وكأنه لم يقع لهم؛ أو على الأقل لم يستحضروا هذا الإسناد؛ بل هذه الأسانيد التي صحت عن الحسن بتصريحه بسماعه من جندب، ومؤكداً ذلك بقوله: " في هذا المسجد.........".
وهناك أحاديث أخرى صرح فيها الحسن رحمه الله بسماعه من جندب رضي الله عنه؛ كالحديث الذي في "معجم الطبراني " (رقم 1660) .
وقد تقدم حديث الترجمة برقم: (1485) . *
3014- (1- إذا اقتربَ الزمانُ لم تَكَدْ رُؤيا المسلم تَكذبُ.
2- وأَصْدَقُهُم رؤيا أصدقهم حديثاً.
3 - ورؤيا المسلمِ جُزءٌ من ستةٍ وأربعينَ جزءاً من النبوة.
قال: وقال:(7/33)
4- الرؤيا ثلاثةٌ: فالرؤيا الصالحةُ بُشْرَى من الله عز وجل، والرؤيا تَحزِينٌ من الشيطان، والرؤيا من الشيء يُحَدِّثُ به الإنسانُ نفسَهُ.
5- فإذا رأى أحدُكُم ما يَكرَهُ فلا يُحَدِّثهُ أحداً، وَلْيَقُمْ فَلْيصلِّ.
قال:
6 - وأُحِبُّ القَيْدَ في النومِ، وأكرهُ الغُلَّ، القَيدُ: ثباتٌ في الدِّين) .
أخرجه الإمام أحمد (2/507) : ثنا يزيد: أنا هشام عن محمد عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم به قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجاه كما سيأتي إن
شاء الله تعالى.
وروى الدارمي (2/145) من طريق مخلد بن حسين عن هشام به الفقرة
(1 و 2 و 4 و5) فقط.
وتابعه أيوب عن محمد بن سيرين به، ليس فيه: "قال: وقال ".
أخرجه الترمذي (2271) : حدثنا نصر بن علي: حدثنا عبد الوهاب الثقفي: حدثنا أيوب به. وقال:
"حديث حسن صحيح ".
وتابعه قتيبة بن سعيد: حدثنا عبد الوهاب به؛ إلا أنه لم يذكر الجملة (3) ،
أخرجه أبو داود (5019)
وتابعه محمد بن أبي عمر المكي: حدثنا عبد الوهاب الثقفي بتمامه؛ إلا أنه(7/34)
شك في رفع الجملة الأخيرة فقال:
"فلا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين؟ ".
أخرجه مسلم (7/52) .
وتابعه معمر عن أيوب به مع الشك المذكور؛ إلا أنه قدَّم وأخَّر؛ فجعل الجملة الثالثة مكان السادسة.
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف " (11/ 211- 212) ، ومن طريقه: مسلم، والحاكم (4/ 390) ، وأحمد (2/369) ، وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد ولم يخرجاه "!
كذا قال! وقد وهم في استدراكه على الشيخين، أما بالنسبة لمسلم فظاهر، وأما بالنسبة للبخاري فلما يأتي. وكأنه لذلك عزاه الذهبي في "التلخيص " للشيخين فأصاب.
وتابعه سفيان بن عيينة عن أيوب ببعضه، فرواه إبراهيم بن بشار الرمادي عنه بالجمل الثلاث الأولى والسادسة موقوفاً.
أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (7/614/6008- الإحسان) .
وقال الحميدي في "مسنده " (484/1145) : ثنا سفيان بالجملة الخامسة فقط، وقال:
"فليصل ركعتين "!
فزاد: "ركعتين "، وهي شاذة- إن لم تكن مقحمة من بعض النساخ؛ لأنها
لم ترد في شيء من طرق الحديث حسب علمي، ومن ذلك الطريق الآتية.(7/35)
وتابع أيوب عوف قال: حدثنا محمد بن سيرين به نحوه، وزاد ونقص، وأوقف حديث النفس؛ مما يدل أن الراوي لم يضبط ولم يحفظ نص الحديث، وقد رفع منه الجملة الأولى والثالثة.
أخرجه البخاري (12/404/4017) عن معتمر عنه.
وقد تكلم عليه الحافظ إسناداً ومتناً بكلام طويل، فليرجع إليه من شاء الاطلاع عليه، وقد ذكر عن الخطيب أنه قال:
"والمتن كله مرفوع إلا ذكر القيد والغل؛ فإنه قول أبي هريرة، أُدْرِجَ في الخبر".
وتابعه هوذة بن خليفة عن عوف بالجملة الرابعة والخامسة، وزاد:
"فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه؛ فليقصها إن شاء".
وقد سبق تخريجه برقم (1341) .
وتابعه الأوزاعي عن ابن سيرين بالجملة الأولى والثانية.
أخرجه ابن ماجه (3917) .
وتابعه قتادة عنه بالجملة الرابعة والخامسة.
أخرجه مسلم، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (511/ 910) .
وتابع ابن سيرين أبو سلمة عن أبي هريرة بالجملة الرابعة.
أخرجه النسائي أيضأ (509/903) . وإسناده صحيح. *
3015- (فُتِحَ اليومَ منْ رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مِثْلُ هذه. وعَقَدَ وُهَيْبٌ تِسْعِينَ [وَضَمَّها] ) .
أخرجه البخاري (7136) ، ومسلم (8/166) من طريق ابن أبي شيبة في(7/36)
"المصنف " (15/62/19117) ، وأحمد (2/ 351 و 529- 530) - والزيادة له- من طرق عن وهيب: حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ... فذكره.
ووُهَيب هذا هو ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري: ثقة ثبت، وكان تغير قليلاً بِأَخَرَةٍ، ولا يضره ذلك لا كثيراً ولا قليلاً؛ وبخاصة في هذا الحديث؟ فإن له شاهداً صحيحاً من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها عند الشيخين وغيرهما، وفيه بيان صفة عقد وهيب بلفظ:
"وحَلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها".
وقد مضى تخريجه برقم (987) .
وفي الحد يث إشارة قوية إلى أن السد سيفتح من يأجوج ومأجوج يوم يأذن الله لهم بذلك؛ كما في قوله تعالى: (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا) ، وقد جاء التصريح بالفتح المذكور في حديث صحيح مضى تخريجه برقم (1735) ، وفيه تفصيل الفتح المشار إليه، وأنهم يحفرونه ويخرجون على الناس. ومع أن إسناده صحيح، وقد صححه جمع من الحفاظ كما تقدم بيانه هناك ومنهم الحافظ ابن كثير، فإن هذا قد ادعى أنه متن منكر مخالف لقوله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) وهو وهم غريب منه رحمه الله؛ لأن النفي فيه هو فيما مضى، والمثبت في الحديث إنما هو فيما يأتي؛ كما، كنت بينت في ردي عليه هناك، وهو ظاهر لا يخفى على كل ذي عقل ولُبّ، فلا جرم أن الحافظ ابن كثير نفسه رجع عن دعواه تلك، وأجاب بنحو الجواب الذي أجبت به آنفاً، ومع هذا كله؛ فقد كابر الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه(7/37)
على هذا الحديث الصحيح في "الإحسان " (15/243- 244) ، فإنه مع تصريحه بأن إسناده صحيح على شرط البخاري؛ زعم- تقليداً منه لابن كثير- أن في رفعه نكارة! ثم نقل كلام ابن كثير في إنكاره وتبنّاه؛ متجاهلاً رجوع ابن كثير عنه! ثم إنه لم يكتفِ بذلك، فغلبته شهوته في الرد والنقد، فختم تعليقه بنسبة الوهم إليَّ في تصحيحي لهذا الحديث وردي على ابن كثير! دون أن يجيب عن الرد ولو بكلمة؛ سوى مجرد ادعاء الوهم؛ مما لا يعجز عنه أحد مهما بلغ به الجهل. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. *
3016- (لا تقومُ الساعةُ على أحدٍ يقولُ: الله، الله. وفي طريقٍ:
لا إله إلا الله) .
أخرجه مسلم (1/ 91) ، وأبو عوانة (1/ 101) ، وابن حبان (1911) ، وأحمد (3/162) ، وعنه البيهقي في "شعب الإيمان " (1/396/524) ، وعن غيره أيضاً؛ كلهم من طريق عبد الرزاق، وهذا في "المصنف " (11/402/20847) قال: عن معمر عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
وتابعه حماد بن سلمة عن ثابت به.
أخرجه مسلم أيضاً، وأبو عوانة، وابن حبان (8/299/6810 - الإحسان) ، وأحمد (3/259 و 268) ، وأبو يعلى (6/ 234/3526) ، والبيهقي أيضاً (525) ، والحاكم (4/ 495) .
وتابعه حميد عن أنس به.
أخرجه الترمذي (2207) ، والحاكم (4/494) ، وأحمد (3/107 و 201) من طرق عنه، وإسناده ثلاثي، وقال الحاكم:(7/38)
"صحيح على شرط الشيخين "! ووافقه الذهبي!
وتابعه سنان بن سعد عن أنس به، وزاد:
"ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".
أخرجه الحاكم أيضاً، والخطيب في "التاريخ " (3/82) من طريق ابن لهيعة
- زاد الأول: وعمرو بن الحارث- عن يزيد بن أبي حبيب عنه. وقال:
"صحيح على شرط مسلم ".
وتعقبه الذهبي بقوله:
"قلت: سنان لم يرو له مسلم ".
وأقول: هذا نقد قاصر؛ فإن الرجل مختلف فيه، فقد قال في "الكاشف ":
"ليس بحجة، وعن ابن معين: ثقة".
وقال في "المغني ":
"ضعفوه، ولم يترك ".
وقال الحافظ:
"صدوق له أفراد".
وقد وجدت للحديث شواهد:
الأول: عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً به.
أخرجه الحاكم من طريق محمد بن أبي صفوان الثقفي: ثنا بهز بن أسد: ثنا شعبة: أنبأ علي بن الأقمر قال: سمعت أبا الأحوص يحدث عن عبد الله به. وقال:(7/39)
"صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي.
وأقول: الثقفي ليس على شرطهما، وبهز بن أسد ليس من شيوخهما، فهو صحيح فقط إن سلم من الشذوذ أو المخالفة.
الثاني: عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص مجموعاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ... فذكره.
أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/305) من طريق عثمان بن عبد الله بن عمر الأموي: ثنا يحيى بن أيوب الثقة: حدثني هشام بن حسان وليث بن أبي سليم، وآخران سماهما، كل واحد منهما يقول: سمعت أبا الحجاج- يعني: مجاهداً- يقول: عن عبد الله بن عباس.. إلخ. وقال:
"هذا حديث صحيح ثابت من حديث أنس بن مالك، غريب عن مجاهد مجموعاً عنهم، تفرد به يحيى بن أيوب ".
قلت: هو الغافقي المصري، وهو ثقة، فإن كان محفوظاً عنه كما يشعر به تعصيبُ أبي نعيم التفرد به؛ فالسند صحيح؛ لكني في شك كبير من ذلك لغرابته، ولأن الأموي الراوي عنه متهم بالوضع، وله ترجمة سيئة في "الميزان " و"لسانه ". والله أعلم.
الثالث: عن أبي هريرة مرفوعاً مثل حديث سنان بن سعد عن أنس المتقدم. أخرجه الخطيب (8/262) من طريق حكيم بن نافع الرقي عن عطاء الخراساني عنه.
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ عطاء- هو ابن أبي مسلم الخراساني- قال الحافظ: "صدوق يهم كثيراً، ويرسل ويدلس ".(7/40)
والرقي ضعيف مترجم في "الميزان " و"اللسان ".
وجملة القول في هذه الشواهد؛ أنه ليس فيها ما تطمئن النفس لصحته، ولكنها إن لم تنفع وتعطي الحديث قوة على قوة؛ فلن تضر.
ثم إن اللفظ الآخر: "لا إله إلا الله " هو لابن حبان من طريق عبد الرزاق، وأحمد من طريق حماد بن سلمة في رواية، والحاكم من طريق حميد. وقد عزاه الشيخ شعيب في تعليقه على "الإحسان " (15/262) لمسلم فوهم!
كما وهم فيه المعتدي على حقوقي وكتبي ومشاريعي؛ ألا وهو صاحب المكتب الإسلامي، وقد نَبَّّّهْتُ مضطراً على بعض اعتداءاته في بعض كتاباتي؛ لعله يؤوب إلى رشده ويتوب إلى ربه، ومن ذلك أنه اختصر "السنن الأربعة " اختصاراً مخلاً- بل فاضحاً-، ونقل إليها مراتب أحاديثها التي كنت وضعتها عليها من صحة وضعف، وقدمتها- أعني: هذه "السنن " المحققة- إلى مدير مكتب التربية العربي الخليجي بطلب رسمي منه، ثم لا أدري كيف وقع ما يأتي بيانه؟! أكان ذلك باتفاق بين المكتبين؟! أم هو أمر دبر بليل؟! المهم أني فوجئت بأن (الصاحب) المشار إليه استغل مشروعي المقدم إلى مكتب التربية، وأصدر ما أسماه بـ "صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند"! وكذلك فعل ببقية "السنن " بقسميها "الصحيح " و"الضعيف "، قائلاً في ذلك كله: "ضعيف محمد ناصر الدين الألباني "! وهو كذب ومتاجرة غير شريفة باسم الألباني، وله سابقة أخرى من مثلها! فإن الاختصار منه وليس مني، وفيه أوهام وتخليطات وجهالات كثيرة جداً لا يمكن إحصاؤها، وإنما نذكر شيئاً منها- بالمناسبة تعرض- للتعريف والعبرة كمثل هذا الحديث؛ فإن (الصاحب) أورده في "صحيح الترمذي " (2/242/1798) ؛ وقال تحته مختصراً كلام الترمذي:(7/41)
"للحديث سند آخر نحوه "!
قلت: وهذا خلاف الواقع عند الترمذي؛ فإنه ليس للحديث فيه إلا طريق واحدة عن حميد عن أنس كما تقدم.
والأخرى: أن الترمذي إنما رواه من طريق أخرى عن حميد عن أنس؛ وليس
عن أنس كما أوهم! وقال الترمذي عقبها:
"نحوه ولم يرفعه، وهذا أصح من الأول ".
فليتأمل القارئ الفرق بين كلام الترمذي وكلام ذاك المختصر! فإنه نسب
- بجهله- إلى الترمذي ما ليس عنده: "سند آخر"! واحتفظ من كلامه ما لا قيمة له تذكر: "نحوه "! وأعرض عن قوله: "ولم يرفعه، وهذا أصح ".
ولو كان على شيء من العلم لما وقع في هذه التخليطات، ولعلق على هذا القول الأخير منه بما يناسب الطرق المتقدمة عن أنس، وهي كلها مرفوعة، ثم هو مع هذه الجهالات- وغيرها كثير كما سبقت الإشارة إلى ذلك- نسبها إلى الألباني. فإلى الله المشتكى، وبه العياذ من الحَوْر بعد الكَوْر! *
3017- (مَنْ حَمَلَ مِنْ أُمَّتي دَيْناً؛ ثُمَّ جَهَدَ في قضائِهِ فماتَ ولم يَقْضِهِ فأنا وَلِيَّهُ) .
أخرجه أحمد في "المسند" (6/74 و154) ، وأبو يعلى (8/252/4838) ، والطبراني في "الأوسط " (10/157- 158) ، والبيهقي في "السنن " (7/22) و"الشعب " (4/403) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ: ثنا سعيد بن أبي أيوب: ثنا عقيل بن خالد الأيلي- زاد البيهقي: ويونس بن يزيد الأيلي- عن(7/42)
ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة: أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذ كره.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين لا علة فيه، فالعجب من ابن حبان كيف لم يورده في "صحيحه "؟! ومن الحاكم كيف لم يستدركه على الشيخين؟! وقال المنذري في "الترغيب " (3/33) :
"رواه أحمد بإسناد جيد، وأبو يعلى، والطبراني في (الأ وسط) ".
وتبعه الهيثمي (4/132) في العزو إلى هؤلاء الثلاثة، لكنه قال:
"ورجال أحمد رجال الصحيح ".
وفي تخصيصه الإمام أحمد بالذكر دون أبي يعلى فيه نظر عندي؛ فإن إسناده كذلك. قال: "حدثنا هارون بن معروف: حدثنا أبو عبد الرحمن: حدثنا سعيد به "، فهذا أيضاً على شرط "الصحيحين "؛ لأن سعيداً هذا هو سعيد بن أبي أيوب المصرَّح به في الإسناد المتقدم، وهارون بن معروف من رجال الشيخين أيضاً. *
3018- (يا ضَمْرَةُ! أَتَرَى ثَوْبَيْكَ مَدْخلَيْكَ الجنةَ؟ فقال: لَئِنِ استغفرتَ لي يا رسول الله! لا أَقْعُدُ حتى أَنْزِعَهُما عَنّي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
اللهمَّ! اغفر لضَمْرةّ بنِ ثَعْلَبَةَ) .
أخرجه البخاري في " التاريخ " (4/236- 337) ، وأحمد (4/238- 339) ، والبزار (3/275/ 2740) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (8/369/8158) من طرق عن بقية بن الوليد عن سليمان بن سليم الكناني عن يحيى بن جابر عن ضمرة بن ثعلبة:(7/43)
أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حُلّتان من حُلَل اليمن، فقال ... فذكره، والسياق لأحمد، وفي آخره:
"فانطلق سريعاً حتى نزعهما عنه ".
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، وإنما يُخشى من عنعنة بقية، وقد صرّح بالتحديث عند البخاري والبزار والطبراني، ويحيى بن جابر تابعي معروف، وقد صرّح بالتحديث عند البخاري، فاتصل الإسناد وصح الحديث، والحمد الله.
ومن هذا التحقيق يتبين، أن قول المنذري في الحديث (3/ 111) :
"رواه أحمد، ورواته ثقات إلا بقية ".
إعلال خاص بـ "مسند أحمد"؛ مع ما فيه من الإجمال في الإشارة إلى علته، وقد أوضحها الهيثمي في قوله (5/136) :
"رواه أحمد، ورجاله ثقات إلا أن بقية مدلس ".
لكنه في مكان آخر سكت عنها بمرة، فقال (9/379) :
"رواه أحمد والطبراني "! *
3019- (لا يَبلُغُ عَبدٌ حَقيقةَ الإيمانِ حتى يَعْلَمَ أنَّ ما أصابَهُ لم يَكُنْ لِيُخْطِئهُ، وما أَخْطَأَهُ لم يَكُنْ لِيُصيبَهُ) .
أخرجه البزار (1/27/ 1/33 كشف الأستار) : حدثنا عمرو: ثنا سليمان بن عبد الرحمن: ثنا سليمان بن عتبة قال: سمعت يونس بن ميسرة بن حلبس يحدث عن أبي إدريس عن أبي الدرداء-، فذكر حديثاً بهذا الإسناد، ثم قال:(7/44)
وبإسناده- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ... فذكره. وقال البزار:
"وإسناده حسن ".
وأقره الحافظ في "مختصر الزوائد" (1/76) ، وهو كما قال أو أعلى؛ فإن رجاله ثقات كلهم؛ على ضعف يسير في ابن عبد الرحمن، وهو ابن بنت شرحبيل؛ من رجال البخاري.
وعمرو- شيخ البزار- الظاهر أنه ابن علي المتقدم عند البزار قبل أحاديث (ص 12 و15) ، وهو الفلاس الحافظ.
وقد توبع؛ فأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 246- بتحقيقي) ، وكذا ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (4/ 660) من طريق هشام بن عمار: حدثنا سليمان بن عتبة السلمي به.
وللحديث شواهد؛ تُنظر فيما تقدم من هذه "السلسلة" (2439) ، وفي "ظلال الجنَّة" (111) و (245-247) . *
3020- (لَيْسَ ذاكُمُ النِّفَاقَ) .
أخرجه البزار (1/34/52) ، وأبو يعلى (6/105/3369) من طريقين عن الحارث بن عبيد عن ثابت عن أنس قال:
قالوا: يا رسول الله! إنا نكون عندك على حال؛ فإذا فارقناك كنا على غيره!
فقال:
"كيف أنتم وربِّكم؟ ".
وقال أبو يعلى: "ونبيكم؟ ".(7/45)
قالوا: الله ربنا (وفي أبي يعلى: أنت نبينا! في السر والعلانية. قال ... فذكره.
قلت: ورجاله ثقات؛ غير الحارث بن عبيد، وهو أبو قدامة الإيادي المؤذن،
وهو ضعيف، قال أحمد:
"مضطرب الحديث ".
قلت: وذلك ظاهر في روايته لهذا الحديث، ولذلك قال الذهبي في "الكاشف ": "ليس بالقوي، وضعفه ابن معين ".
ولكن قد تابعه غسان بن بُرْزِين الطَّهَوي: حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك قال:
غدا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقالوا: يا رسول الله! هلكنا وربِّ الكعبة! فقال:
"وما ذاك؟ ".
قالوا: النفاق! النفاق! قال:
"ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؟ ".
قالوا: بلى. قال:
" ليس ذاك النفاق "
ثم عادوا الثانية، فقالوا: يا رسول الله! هلكنا وربِّ الكعبة! قال:
" وماذاك؟ ".
قالوا: النفاق! النفاق! قال:
"ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله؟ ".
قا لوا: بلى. قال:
"ليس ذاك النفاق ".
قال: ثم عادوا الثالثة، فقالوا: يا رسوله الله! هلكنا ورب الكعبة! قال:
"وما ذاك؟ ".(7/46)
قالوا: النفاق! قال:
"ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله؟ ".
قالوا: بلى. قال:
"ليس ذاك النفاق ".
قالوا: إنا إذا كنا عندك كنا على حالة، وإذا خرجنا من عندك همتنا الدنيا وأهلونا! قال:
"لو أنكم إذا خرجتم من عندي تكونون على الحال الذي تكونون عليه! لصافحتكم الملائكة بطرق المدينة".
أخرجه أبو يعلى في "مسنده " (6/58/3304) : حدثنا عبد الواحد: حدثنا غسان بن بُرزين به.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات كلهم، وعبد الواحد هو ابن غياث، وثابت هو البناني.
وقد تابعه قتادة عن أنس مختصراً، وقد مضى برقم (1965) *(7/47)
3021- (لَمَّا كان ليلة أُسْرِي بِي، وأصبحتُ بمكةَ فَظِعْتُ بِأمْري، وعَرَفتُ أنَّ الناسَ مُكَذِّبِّي. فَقَعَدَ معتزلاً حزيناً. قال: فَمَرَّ عدوُّ اللهِ أبو جَهْلٍ، فجاء حتى جلس إليه، فقالَ له- كالمستهزئِ-: هل كانَ من شيءٍ؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
نعم.
قال: ما هو؟ قال:
إنه أُسْريَ بي الليلةَ.
قال: إلى أين؟ قال:
إلى بيت المقدس.
قال: ثم أصبحتَ بين ظَهْرانَيْنَا؟ قال:
نعم.
فلم يَرَ أنه يُكَذِّبُهًُ مخافة أن يجْحَدَهُ الحديثَ إذا دعا قومَهُ إليه،
قال: أرأيت إن دعوتُ قومَكَ تُحَدِّثُهُم ما حَدَّثْتَنِي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
نعم
فقال: هَيَّا مَعشَرَ بني كعبِ بن لُؤيٍّ! فانتفضت إليه المجالس؛
وجاءوا حتى جَلَسُوا إليهما، قال: حَدِّثْ قومَكَ بما حَدِّثْتَنِي. فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(7/48)
إني أُسْرِيَ بي الليلة.
قالوا: إلى أين؟ قال:
إلى بيتِ المقدس.
قالوا: ثم أصبحتَ بين ظَهْرَانَيْنا؟ قال:
نعم.
قال: فَمِنْ بين مُصَفِّقٍ، ومن بين واضعٍ يَدَهُ على رأسِهِ متعجباً
للكذبِ؛ زعم!
قالوا: وهل تستطيعُ أن تَنْعَتَ لنا المسجد- وفي القومِ مَنْ قَد سافَرَ إلى ذلك البلد ورأى المسجد-؟! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
فذهبتُ أنعتُ، فما زلتُ أَنْعَتُ حتى الْتَبَسَ عليَّ بعضُ النَّعْتِ.
قال: فَجِيءَ بالمسجد وأنا أنظُرُ حتى وُضِعَ دُونَ دار عقالٍ- أوعقيلٍ
-، فنعتُّه وأنا أنظرُ إليه- قال: وكان مع هذا نعتُ لم أحفظه-قال: فقال
القوم: أما النعت؛ فوالله! لقد أصاب) .
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (6/377/11285) ، وابن أبي شيبة
في "المصنف " (11/ 461/11746) ، وأحمد (1/309) ومن طريقه الضياء المقدسي في "المختارة" (1/309) ، والحربي في "غريب الحديث " (5/115/2) ، والبزار (1/45- 46) ، والطبراني في " المعجم الكبير" (12/167/12782) و"الأوسط " (1/136/2/2623) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/363) من(7/49)
طرق عن عوف عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. وقال البزار والطبراني:
"لا يروى عن عبد الله بن عباس إلا بهذا الإسناد، تفرد به عوف ".
قلت: وهو ثقة من رجال الشيخين؛ بل قال ابن كثير في "التفسير" (3/15) :
"أحد الأئمة الثقات ".
ومثله زرارة بن أوفى، فالسند صحيح كما قال السيوطي في "الدر المنثور" (4/155) ، وسكت عنه الحافظ في "الفتح " (8/392) ، واقتصر في مكان آخر (7/199) على تحسين إسناده! *
3022- (ذاكَ رجلٌ أرادَ أمراً فَأَدْرَكَهُ. يعني: حاتِماً الطائيُّ) .
أخرجه البزار (1/64/92- الكشف) ، وابن عدي في "الكامل " (5/352) ، وتمام في "الفوائد" (ق 238/ 1) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (4/ 64) من طريق عبيد بن واقد القيسي: حدثنا أبو مُضَرَ الناجي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال:
ذكر حاتم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ... فذكره. وقال ابن عدي والدارقطني:
"لا يرويه غير عبيد بن واقد".
قلت: ضعفه أبو حاتم، وتبعه الذهبي والعسقلاني.
وقال الدارقطني- كما نقله ابن عساكر-:(7/50)
"حديث غريب، تفرد به أبو مضر الناجي، ويقال: اسمه (حماد) ، ولم يروه
عنه غيرعبيد".
قال ابن عساكر:
"سماه غير الدارقطني (شيبة) ، وفرق الحاكم أبو أحمد بين (أبي مضر الناجي) ، وبين (أبي مضر حماد) ، ولم يذكر (الناجي) ، وإنما أسماه ".
ثم ساق ابن عساكر من طريق أخرى عن عبيد بن واقد فقال: (أبي مضر شيبة الناجي) .
وهكذا ذكره الحافظ المزي في شيوخ عبيد بن واقد، ولم أجد لشيبة هذا ترجمة؛ بخلاف حماد أبي مضر؛ فقد ترجمه البخاري ترجمة مختصرة، وتبعه ابن أبي حاتم والدولابي (2/116) ؛ ثلاثتهم برواية عبد الوهاب الخفاف فقط عنه، ولم يذكروا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وترجم الأولان في "الكنى" لـ (أبي مضر) دون أن يسمياه بروايته عن الحسن وابن سيرين، وعنه سليمان الجرمي القافلاني، ولم يذكرا فيه أيضاً جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات " (7/665) ، فيحتمل أن يكون هو الناجي هذا. والله أعلم.
وبالجملة، فلم يتبين لي اسم (أبي مضر) هذا، ولا تحرر عندي حاله، وعلة الحديث الظاهرة إنما هي (عبيد) الراوي عنه. والله أعلم.
لكن للحديث شاهد من حديث عدي بن حاتم:
أخرجه أحمد (4/258) ، وابن حبان (45/68) ، وغيرهما، وهو مخرج في حديث له في "جلباب المرأة المسلمة" (ص 182) ، فهو به حسن- على الأقل- إن شاء الله تعالى. *(7/51)
تَغَيُّرُ النَّاسِ والنِّفاقُ
3023- (إنَّكم لتعملونَ أعمالاً هي أَدَقُّ في أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشِّعَرِ؛ كُنَّا نَعُدُّها على عَهْدِ رسولِ اللِه - صلى الله عليه وسلم - من المُوبقات) .
أخرجه أحمد (3/3) ، والبزار (1/72/108) من طريق عباد بن راشد عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد رجاله رجال "الصحيح "، ولولا بعض الكلام في حفظ عباد بن راشد؛ لحكمت عليه بالصحة، فالإسناد حسن، وقد أشار إلى هذا الهيثمي بقوله (1/106) :
"رواه البزار، وفيه عباد بن راشد؛ وثقه ابن معين وغيره، وضعفه أبو داود
وغيره ".
وأشار إلى ذلك أيضاً الحافظ بقوله فيه:
"صدوق له أوهام ".
وقد فات الهيثمي في الموضع المشار إليه أن يعزوه لأحمد، ولكنه استدرك ذلك في مكان آخر؛ إلا أنه هناك لم يعزه للبزار! فقال (10/ 190) :
"رواه أحمد، ورجاله رجال (الصحيح) ".
وقد جاء الحديث بإسنادين صحيحين عن صحابيين آخرين:
أحدهما: أنس بن مالك، وله عنه طريقان:
الأولى: عن مهدي عن غيلان عنه.(7/52)
أخرجه البخاري (11/329/6492) ، وأحمد (3/157) ، والبيهقي في "شعب الإيمان " (5/454/7258) .
والأخرى: عن سعيد بن زيد: ثنا علي بن زيد قال: أنس بن مالك يقول ... فذكره نحوه؛ لكنه قال:
"من الكبائر" مكان: "الموبقات"
لكن علي بن زيد- وهو ابن جدعان- فيه ضعف.
وبهذا اللفظ رواه الإسماعيلي في "المستخرج " من طريق أخرى عن مهدي، وهو ابن ميمون. لكن قال الحافظ:
"وكأنه ذكره بالمعنى".
والآخر: قال أبو داود الطيالسي في "مسنده " (193/1353) : حدثنا قرة وسليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة العدوي عن عبادة- بن قرص (1) - أو قال سليمان: ابن قرط- وكانت له صحبة- قال:
"والله إنكم لتعملون.. " إلخ.
وأخرجه البيهقي في "الشعب " (7260) من طريق الطيالسي، وأحمد (5/79) من طريقين آخرين عن سليمان بن المغيرة به، وزاد في رواية:
"فقلت لأبي قتادة: كيف لو أدرك زماننا هذا؟ فقال أبو قتادة: لكان لذلك أَقْوَلَ ".
_________
(1) الأصل: (قرط) ، وهو خطأ مطبعي ظاهر، والتصويب من "مسند أحمد" و"شعب البيهقي " وغيرهما.(7/53)
قلت: كذا هو في "المسند"، وكذلك هو في نقل الهيثمي (10/190) عنه؛
ولم يظهر لي المعنى، فأخشى أن يكون في أصله سَقْطٌ؛ ثم قال في تخريجه:
"رواه أحمد وقال: (عبادة) ، والطبراني وقال: (عباد) - والله أعلم- وبعض
أسانيد أحمد والطبراني رجاله رجال (الصحيح) ".
قلت: وهو إسناد متصل صحيح.
وقد أخرجه أحمد قبيل هذا الإسناد، وفي مكان آخر (3/ 470) ، وكذا الدارمي (2/315) ، والبخاري في " التاريخ " (3/ 2/94) ، والبيهقي (6141) من طريق أيوب عن حميد بن هلال قال: قال عبادة بن قرص به، وزاد:
"قال: فذكر ذلك لمحمد بن سيرين، فقال: صدق، وأرى جر الإزار منها".
قلت: وقوله: "قال: قال عبادة" صورته صورة تعليق، فالظاهر أنه لم يسمعه
من عبادة، ويؤيده الطريق الأولى؟ فإن بينهما (أبا قتادة العدوي) كما رأيت. *
3024- (مُعَلِّمُ الخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لهُ كُلُّ شيءٍ حتى الحيتانُ في البحارِ) .
أخرجه الطبراني في "الأوسط " (2/85/ 1/6355) : حدثنا محمد بن علي الصائغ قال: ثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة الرقي قال: ثنا أبو إسحاق الفزاري
عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره، وقال:
" لم يروه عن الأعمش إلا أبو إسحاق الفزاري ".
قلت: وهو ثقة حافظ من رجال الشيخين، واسمه إبراهيم بن محمد بن الحارث، ومثله الأعمش، واسمه سليمان بن مهران.
وأبو سفيان من رجالهما أيضاً، واسمه طلحة بن نافع الواسطي.(7/54)
وأما ابن زرارة الرقي؛ فروى عنه جمع من الثقات، وذكره غير واحد من الحفاظ في شيوخ البخاري، وقال الحافظ:
"صدوق، تكلم فيه الأزدي بغير حجة".
وأورده ابن حبان في "الثقات " (8/ 100) وقال:
"مات سنة (230) ".
وهذا مما يستدرك على "تهذيب الحافظ "؛ فإنه لم يعزه إلى "الثقات " مطلقاً.
وأما محمد بن علي الصائغ، فهو ممن أكثر الطبراني من الرواية عنهم من شيوخه، فروى عنه في "الأوسط " فقط نحو مئة وخمسين حديثاً. وترجمه الحافظ الذهبي في "السير" (13/428) بـ
"المحدث الإمام الثقة ... ".
ومما سبق من بيان حال رواة إسناد هذا الحديث يتبين أنه إسناد صحيح والحمد الله. وقال الهيثمي في "المجمع " (1/124) :
"رواه الطبراني في "الأوسط "، وفيه إسماعيل بن عبد الله بن زرارة، وثقه ابن حبان، وقال الأزدي: منكر الحديث. ولا يلتفت إلى قول الأزدي في مثله، وبقية رجاله رجال (الصحيح) ".
قلت: وقد فات هذا الحديث الصحيح على الحافظ المنذري، فذكر مكانه
في "الترغيب (1/ 60) حديث البزار عن عائشة بهذا اللفظ، وفاته أيضاً أن في إسناده عند البزار (1/82/133) محمد بن عبد الملك عن الزهري عن عروة عنها. ومحمد هذا- هو ابن عبد الملك الأنصاري- كذاب كما قال الهيثمي(7/55)
وذكره ابن حبان في "الضعفاء" وقال (2/269) :
"يروي عن ابن المنكدر ونافع والزهري، كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل ذكره في الكتب إلا على جهة القدح فيه ".
وقد أحسن السيوطي حين أورد الحديث في "الجامع الصغير" من رواية الطبراني عن جابر، والبزار عن عائشة. وأصاب المناوي في إعلاله إسناد البزار بذاك الكذاب. وأخطأ في إعلاله حديث جابر بقوله في "الفيض ":
"إسماعيل.. قال الأزدي: منكر الحديث، وإن وثقه ابن حبان "!
وظني أنه لو وقف على ترجمة إسماعيل في "التهذيب " وكثرة من روى عنه، وفيهم بعض الحفاظ، وتصديق الحافظ إياه، وإنكاره على الأزدي قوله المذكور- لو أنه وقف على هذا كله؛ لما وقع في هذا الخطأ الذي اغتر به- فيما يبدو- الشيخ الغماري؛ فلم يورد الحديث فيما سماه بـ "الكنز الثمين "، وفيه أحاديث كثيرة ضعيفة، وبعضها موضوعة؛ كما بينت كثيراً منها في "الضعيفة" وغيرها، ويتعامى عن ذلك كله من يدعي التتلمذ عليه، وهو الملقب بـ (السقاف) ، فلا يذكر له ولا عثرة واحدة عقدية أو حديثية أو فقهية مع كثرتها! بينما يراه المنصفون قد تفرغ للرد على الألباني بالبهت والافتراء؛ مما أشعرهم أن وراء الأَكَمة ما وراءها، هداه الله إن كان ضالاً يطلب الهداية من الله، وقصم الله ظهره إن كان منافقاً يريد الكيد والمكر بالإسلام والمسلمين؛ وصدق الله: ((ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)) .
ثم إن المناوي كأنه ظهر له فيما بعدُ خطؤه؛ فقال في "التيسير" الذي ألفه بعد "الفيض ":
"إسناده حسن ". والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/56)
وله شاهد من حديث مكحول مرسلاً.
أخرجه الدارمي في "سننه " (1/88) بسند حسن عنه. ووصله الترمذي (2686) ، والبيهقي في "الشعب " (2/262/1696) ، وابن عبد البر في "الجامع " (1/35- 38) من حديث أبي الدرداء وأبي أمامة، وفي سنده ضعف، وانظر التعليق على "المشكاة" (213) . *
جَوازُ السَّمَرِ في العِلْمِ
3025- (كانَ يُحَدِّثُنا عامَّةَ ليلِهِ عن بني إسرائيل؛ لا يقومُ إلا لعُظمِ صلاةٍ) .
أخرجه الحاكم (2/379) ، وأحمد (4/437 و 444) ، والبزار (1/119-
120) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/207/ 510) من طريق أبي هلال: ثنا قتادة عن أبي حسان عن عمران بن حصين قال ... فذكره. وقال البزار:
"خالف هشام أبا هلال في هذا الحديث، وهشام أحفظ ".
وهو كما قال؛ فإن أبا هلال- واسمه محمد بن سليم الراسبي- فيه ضعف
من قبل حفظه؛ خرّج له البخاري تعليقاً، وأما هشام- وهو ابن أبي عبد الله الدَّستثوائي- فهو ثقة ثبت احتج به الشيخان، وقد خالف أبا هلال في إسناده؛ فجعل (عبد الله بن عمرو) مكان (عمران بن حصين) .
أخرجه أبو داود (3663) ، وأحمد (4/437) من طريق معاذ بن هشام: حدثني أبي به.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، رجاله كلهم ثقات رجال(7/57)
الشيخين؛ غير أن البخاري إنما روى لأبي حسان- وهو الأعرج- تعليقاً، واسمه مسلم ابن عبد الله، وقد صححه ابن خزيمة؛ كما قال الحافظ في "الفتح " (1/213) وأقره.
ومما ذكرنا من التخريج تعلم خطأ الحاكم في قوله في حديث أبي هلال:
"صحيح الإسناد"! وإن وافقه الذهبي!
ومثله الهيثمي؛ فإنه قال (1/191) :
"رواه البزار وأحمد، والطبراني في "الكبير"، وإسناده صحيح ".
فهذا خطأ لما سبق بيانه؛ إلا أن يقصد إسناد أحمد عن هشام، وهذا بعيد جداً عن المعروف من أسلوبه، لا سيما وقد أخرجه أبو داود، فهو ليس من شرط "المجمع "!
وأن قوله في مكان آخر (8/264) :
"رواه أحمد، وإسناده حسن ".
قد يكون صواباً؛ لولا مخالفة أبي هلال لهشام الدستوائي.
واعلم أن السمر- وهو التحدث في الليل- منهي عنه في غير ما حديث عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك ترجمت لجوازه في العلم بهذا الحديث، ولذلك فما عليه جماهير الناس اليوم من السمر وراء التلفاز وأمثاله؛ هو من الفتن التي أصابت العالم الإسلامي في العصر الحاضر، نسأل الله السلامة من كل الفتن؛ ما ظهر منها وما بطن؛ إنه سميع مجيب.
ومن تلك الأحاديث التي أشرت إليها قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا سمر إلا لمُصلٍّ أو مسافرٍ".(7/58)
وهو حديث صحيح لطرقه وشواهده، وقد أعله الحافظ في "الفتح " بجهالة راوٍ
في سند أحمد، وهو كذلك، ولكن كان عليه أن يقويه بالشواهد كما هي عادته، ولذلك بدا لي أنه لا بد من التنبيه عليه؛ خشية أن يغتر به من لا علم عنده، وقد خرجته في (المجلد الخامس) من "الصحيحة" برقم (2435) ، يسر الله طبع ما وراءه بمنه وكرمه، ثم طبع المجلد السادس منه، والحمد الله. *
3026- (يأتي الشيطانُ أحَدَكُم فَيَنْقُرًُ عِنْدَ عِجانِهِ (1) ، فلا ينصرِفُ
حتى يَسْمَعَ صوتاً؛ [أو يَجِدَ ريحاً] ) .
أخرجه أبو إسحاق الحربي في "غريب الحديث " (5/98/ 1) : حدثني أبو مصعب عن عبد العزيز بن محمد عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً. قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله رجال "الصحيح "، وأبو مصعب اسمه أحمد
ابن أبي بكر الزهري المدني.
وتابع عبد العزيز بن محمد- وهو الدراوردي- أبو أويس- واسمه عبد الله بن عبد الله بن أويس- عن ثور بن زيد به نحوه مطولاً، وفيه الزيادة.
أخرجه البزار في " مسنده " (1/147/281) من طريق إسماعيل بن صبيح: ثنا أبو أويس به.
وتابع إسماعيل بن صبيح إسماعيل بن أبي أويس: حدثني أبي به؛ إلا أنه زاد فيه: عن ثور بن زيد عن داود بن الحصين عن عكرمة.
_________
(1) (العجان) : ما بين الدبر والأنثيين؛ قاله الحربي.
وذكره في "النهاية " بصيغة التمريض: "قيل "، وجزم بأنه الدبر.(7/59)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (11/222/11556) .
ثم أخرجه (11/341/11948) من طريق عمرو بن مخلد: ثنا بشر بن المفضل: ثنا خالد عن عكرمة به مختصراً، وفيه الزيادة.
وهذه متابعة قوية من خالد، وهو ابن ذكوان، أو ابن مهران الحذاء، وكلاهما
ثقة من رجال الشيخين؛ غير أن عمرو بن مخلد لم أعرفه.
وللحديث شاهد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه.
أخرجه أحمد (3/96) ، وأبو يعلى (2/443/1249) من طريق عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عنه.
وعلي بن زيد- وهو ابن جدعان- ضعيف؛ لكن لا بأس به في الشواهد، وتابعه الزهري على الجملة الأخيرة منه:
"لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ".
أخرجه ابن ماجه (514) بإسناد رجاله ثقات؛ لكنهم أعلوه.
ولهذه الجملة شاهدان من حديث عبد الله بن زيد وأبي هريرة مخرجان في
" الإرواء " (1/ 144- 145) .
وشاهد ثالث من حديث عبد الله بن مسعود موقوفاً نحوه، وهو في حكم
المرفوع.
أخرجه عبد الرزاق (1/ 141/ 536) ، وا بن أبي شيبة (1/429) ، وإسناده صحيح. *(7/60)
3027- (خَطَبَنا ابنُ مسعودٍ فقالَ:
كيف تَأْمُرُونِّي أقرأ على قراءةِ زيد بنِ ثابتٍ بعَد ما قرأتُ مِنْ في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِضْعاً وسَبْعين سُورَةً، وإنَّ زيداً مع الغِلمانِ له ذُؤابَتان؟!) .
أخرجه النسائي (2/277) : حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا أبو شهاب قال: حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال.... فذكره
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، وأبو شهاب اسمه عبد ربه بن نافع الكناني الخياط، وسعيد بن سليمان هو الواسطي الحافظ.
وتابعه عبد الواحد: ثنا سليمان الأعمش به دون الطرف الأول منه.
أخرجه أحمد (1/ 411) .
قلت: ورجاله ثقات أيضاً رجال الشيخين؛ لكنهم تكلموا في رواية عبد الواحد- وهو ابن زياد- عن الأعمش خاصة؛ لكن موافقته لما رواه غيره عن الأعمش تدل على أنه قد حفظه.
وللأعمش إسناد آخر؛ فقال عبدة بن سليمان: عنه عن أبي إسحاق عن هبيرة بن يريم قال: قال عبد الله بن مسعود:
" على قراءة من تأمروني أقرأ؟ لقد قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما بضعاً
وسبعين.." الحديث
أخرجه النسائي، وابن حبان (7024- الإحسان) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (9/71/8437) .
ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير هبيرة بن يريم؛ فإنه لا بأس به كما في(7/61)
"التقريب "؛ إلا أن أبا إسحاق- وهو عمرو بن عبد الله السبيعي- مدلس، وقد عنعنه.
وله فيه شيخ آخر، فقال سفيان: عن أبي إسحاق عن خُمير بن مالك قال:
قال عبد الله:
"قرأت من في رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.. " الحديث.
أخرجه ابن أبي شيبة (10/500/10112) ، وأحمد (1/389و405) ، والطبراني (8435) ، والحاكم (2/228) ، وصححه والذهبي.
ورجاله ثقات؛ إلا أن خُميراً لم يوثقه غير ابن حبان (4/214) ، وذكر له راوياً
آخر غير أبي إسحاق.
وتابع سفيان جمع عند الطبراني، والطيالسي (54/405) .
وله طرق أخرى عن ابن مسعود؛ منها: عن زر بن حبيش قال: قال عبد الله
ابن مسعود.. فذكره مثل لفظ خمير.
أخرجه الطبراني (8441) من طريق محمد بن أبي عبيدة: ثنا أبي عن الأعمش عن أبي رزين عنه.
وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال مسلم، وأبو رزين اسمه مسعود بن مالك، وأبو عبيدة والد محمد اسمه عبد الملك بن مسعود الهذلي المسعودي.
وتابع أبا رزين عاصم بن بهدلة مختصراً بلفظ:
"أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة، ولا ينازعني فيها أحد".
أخرجه الطيالسي (47/353) ، وأحمد (1/453 و 457) ، والطبراني (8442) من طريق حماد بن سلمة عنه.(7/62)
وهذا إسناد حسن. ورواه أبو يعلى (4985) من طريق آخرعنه.
وبقية الطرق عند الطبراني؛ وأبي يعلى (5052)
وأصله من الطريق الأولى من طرق أخرى عن الأعمش عند البخاري
(5000) ؛ومسلم (7/148) بلفظ:
" والله! لقد أخذت من في رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بضعاً وسبعين سورة؛ والله لقد علم
أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم ".
والسياق للبخاري. *
3028- (كانَ يَمُرُّ بالقِدْرِ فَيَأْخُذُ العَرْقَ فيصيبُ منه، ثم يصلي ولم
يتوضَّأُ ولم يَمَسَّ ماءً. وفي روايةٍ: فما توضَّأ ولا تَمَضْمَضَ) .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (1/50) وعنه أبو يعلى (7/427/ 4449) ، وأحمد (6/ 161) قالا: ثنا حسين بن علي عن زائدة عن عبد العزيز بن رفيع عن عكرمة وابن أبي مليكة عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ... فذكره، والسياق لأحمد.
قلت: وهذا إسناد صحيح غاية، وعلى شرط الشيخين، والعجب كيف لم يخرجه الحاكم مستدركاً إياه على الشيخين؟!
والرواية الأخرى: أخرجها البزار في "مسنده " (1/153/298) : حدثنا أحمد
ابن منصور بن سيار: ثنا يحيى بن يعلى: ثنا زائدة به.
وهذا صحيح أيضاً، ابن سيار- وهو الرمادي- ثقة اتفاقاً، ويحيى بن يعلى ـ وهو المحاربي- ثقة ومن رجال الشيخين أيضاً.(7/63)
وللحديث بهذه الرواية شاهد من حديث ابن عباس قال:
" رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل عرقاً من شاة، ثم صلى ولم يتمضمض ولم
يمس ماءً ".
أخرجه ابن حبان (2/236/115) ، وأحمد (1/253 و 281) من طريقين عن محمد بن عمرو بن عطاء عنه.
ومحمد هذا- وهو العامري القرشي- ثقة من رجال الشيخين، وكذلك سائر الرواة، فالسند صحيح، والحمد الله.
وهو في "الصحيحين " وغيرهما من طرق أخرى عن ابن عباس مختصراً دون
ذكر المضمضة، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (182 و 184 و5 18) .
ثم وجدت للحديث طريقاً آخر يرويه أبو مروان العثماني قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه به.
أخرجه ابن حبان أيضاً (1139) .
ورجاله ثقات؛ غير أبي مروان العثماني، واسمه محمد بن عثمان بن خالد الأموي، وهو صدوق يخطئ، فمثله يستشهد به. *
3029- (يا أبا ذر..! يُجْزِئُكَ الصَّعِيدُ وَلَوْ لَم تَجِدِ الماءَ عِشْرِينَ سَنَةً (وفي روايةٍ: عَشْرَ سِنِينَ) ؛ فإذا وَجَدْتَهُ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط " (2/198/1355- ط) : حدثنا أحمد قال: حدثنا مقدم قال: حدثنا القاسم عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال:(7/64)
كان أبو ذر في غُنَيمة له بـ (الربذة) ، فلما جاء؛ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" يا أبا ذر! "
فسكت، فرددها عليه، فسكت، فقال:
"يا أبا ذر! ثكلتك أمك ".
قال: إني جنب. فدعا له الجارية بماء، فجاءته، فاستتر براحلته واغتسل، ثم
أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" يجزئك.. " الحديث.
وأخرج المرفوع منه البزار في "مسنده " (1/157/ 310- كشف الأستار) : حدثنا مقدم بن محمد بن علي بن مقدم المقدمي: حدثني عمي القاسم بن يحيى ابن عطاء بن مقدم: ثنا هشام بن حسان به. ولفظه:
"الصعيد وَضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء؛ فليتق الله وليَمِسَّه بَشَرَهُ؛ فإن ذلك خير". وقال:
" لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه؛ ومقدم ثقة معروف النسب".
وقال الطبراني:
"تفرد به مقدم ".
قلت: وهو ثقة كما قال البزار وغيره، وهو من شيوخ البخاري في "الصحيح"؛ وكذا عمه ثقة من رجاله، ومن فوقه من رجال الشيخين، فالإسناد صحيح، وصححه ابن القطان كما في "التلخيص الحبير" (1/154) ، وعقب عليه بقوله: "لكن قال الدارقطني في "العلل ": إن إرساله أصح ".(7/65)
ويشهد له حديث أبي ذر نفسه مطولاً عند أبي داود وغيره، وصححه ابن حبان والدارقطني وغيرهما، وهو مخرج في "الإرواء " (1/ 181/153) ، و"صحيح أبي داود" (358- 360) . *
3030- (كان إذا أَسْلَمَ الرَّجُلُ، كان أَوَّلُ ما يُعَلِّمُنَا الصلاة، أو قال: عَلِّمَهُ الصلاة) .
أخرجه البزار في "مسنده " (1/ 171/338) : حدثنا أبو كريب: ثنا أبو معاوية: [ثنا] أبو مالك الأشجعي عن أبيه قال ... فذكره
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات:
أبو كريب- هو محمد بن العلاء الكوفي - ثقة حافظ من رجال الشيخين.
أبو معاوية - هو محمد بن خازم الكوفي - من رجال الشيخين؛ قال الحافظ في " التقريب ":
" ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش؛ وقد يهم في حديث غيره "
قلت: وقد توبع كما يأتي
أبو مالك الأشجعي- اسمه سعد بن طارق بن أشيم- ثقة من رجال مسلم، وأبوه صحابي معروف، أخرج له مسلم في "صحيحه " حديثين، والطبراني سبعة عشر حديثآ بحذف المكرر، ولأحمد ستة منها، وبعضها في "السنن "، وفي الكثير منها تصريحه بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحديث أخرجه الطبراني في" المعجم الكبير " مختصراً فقال:
(8/380/8186) : حدثنا محمد بن هشام بن أبي الدميك: ثنا الحسن بن حماد(7/66)
الحضرمي: ثنا مروان بن معاوية: ثنا أبو مالك الأشجعي به. ولفظه:
"كان الرجل إذا أسلم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - علموه الصلاة".
قلت: وهذا إسناد صحيح أيضاً:
ا- ابن أبي الدميك هذا بغدادي ثقة، ترجمه الخطيب في "تاريخه ".
2- والحسن بن حماد الحضرمي بغدادي أيضاً، وثقه ابن حبان والخطيب والذهبي
3- مروان بن معاوية- هو الفزاري الكوفي- ثقة من رجال الشيخين.
وقال الهيثمي في "المجمع " (1/293) :
"رواه الطبراني والبزار في " الكبير"، ورجاله رجال (الصحيح) ".
كذا وقع فيه على القلب، ولعل الأصل: "الطبراني في (الكبير) ".
ثم إن زيادة [ثنا] في إسناد البزار قد سقطت من "كشف الأستار"؛ فاستدركتها من "مختصر الزوائد" (ص 40) من مصورة عندي، وكذلك أثبتها محقق المطبوعة منه (1/188) ، وذكر في التعليق أنها سقطت من (س) .
وانظر- لمزيد من الفائدة- ما تقدم من هذه "السلسلة" (2953) . *
3031- (صلى على مَيِّتٍ بعد موتِهِ بثلاثٍ) .
أخرجه الدارقطني في "السنن " (2/78/7) ، ومن طريقه: البيهقي في "سننه " (4/46) ، والخطيب في "تاريخه " (7/455) عن الحسن بن يونس الزيات: ثنا إسحاق بن منصور: ثنا هريم بن سفيان عن الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ... الحديث.(7/67)
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير الحسن بن يونس الزيات، وكان ثقة كما قال الخطيب، وذكر أنه روى عنه جمع من الثقات مثل: ابن خزيمة وابن صاعد والمحاملي.
قلت: ومنهم البزار في "مسنده " (1/209/415) .
لكن أشار الدارقطني والبيهقي إلى أن لفظة "بثلاث " شاذة؛ خالف هريم فيها جمعاً من الثقات لم يذكروها، وصرح بذلك الحافظ فقال في "الفتح " بعد أن ذكر لفظين آخرين: "بليلتين "، و: "بعد شهر" (3/305) :
"وهذه روايات شاذة، وسياق الطرق الصحيحة يدل على أنه صلى عليه في صبيحة دفنه ".
وهو كما قال رحمه الله، وقد كنت خرجت بعض الطرق المشار إليها في "الإرواء" (3/183/736/2) ، وبعضها صريحة الدلالة على ما قال.
لكني أقول:
إن حديث الترجمة يشهد له أحاديث؛ أقواها حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
أن امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد، فماتت، ففقدها النبي- صلى الله عليه وسلم -، فسأل عنها
بعد أيام؟ فقيل: إنها ماتت. فقال:
"هلا كنتم آذنتموني؟ ".
فأتى قبرها وصلى عليها.
رواه الشيخان، وغيرهما كابن ماجه والبيهقي والسياق لهما، وهو مخرج في "أحكام الجنائز" (113- المعارف) .(7/68)
ففيه أنه صلى عليها بعد أيام من موتها، فهي ثلاثة أو أكثر؛ ففيه جواز الصلاة على الميت وهو في قبره، وأن ذلك لا يشمله النهي عن الصلاة إلى القبور؛ كما هو مبين في غير هذا الموضع، وأن الجواز لا يقيد بيوم أو ليلة، وإنما بعلمه الحادث بالوفاة والدفن. وقد أفاض الحافظ المغربي ابن عبد البر في كتابه "التمهيد" (6/279) في ذكر الأحاديث الواردة في الباب بأسانيدها- كما هي عادته- وبيان مذاهب الأئمة الفقهاء حولها، ووجهة نظرهم فيها، ثم ختم ذلك بخلاصة ما انتهى إليه من فقهها، فقال:
"من صلى على قبر، أو على جنازة قد صلي عليها؛ فمباح له ذلك؛ لأنه قد فعل خيراً لم يحظره الله ولا رسوله، ولا اتفق الجميع على المنع منه، وقد قال الله تعالى: ((وافعلوا الخير)) [الحج: 77] ، وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر، ولم يأت عنه نسخه، ولا اتفق الجميع على المنع منه، فمن فعل فغير حرج، ولا معنَّف، بل هو في حل وسعة وأجر جزيل إن شاء الله، إلا أنه ما قدم عَهْدُه فمكروه الصلاة عليه؛ لأنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه أنهم صلوا على القبر إلا بحدثان ذلك، وأكثر ما روي فيه شهر". *
3032- (كان إذا كان راكعاً أو ساجداً قال: سبحانك وبحمدك، أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إليك) .
أخرجه البزار في "مسنده " (1/263/542- كشف الأستار) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (10/192/10302) ، و"الأوسط " أيضاً (1/129/ 831) ، وكذا في "الدعاء" (2/1066/593) ؛ لكنه لم يذكر (راكعاً) عن زيد بن أبي أنيسة عن حماد بن أبي سليمان عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال:(7/69)
كان نبيكم.. الحديث، وقال البزار والطبراني- واللفظ له-:
"لا يروى عن ابن مسعود إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبد الله بن جعفر".
قلت: وهو الرقي، وهو ثقة من شيوخ البخاري ومسلم، وكذلك من فوقه؛ غير أن حماد بن أبي سليمان إنما روى له البخاري في "الأدب المفرد"، فالحديث حسن الإسناد، صحيح بشاهده المذكور- آنفاً-.
(تنبيه) : وقع (حماد) هكذا غير منسوب عند الطبراني، فلما أراد الهيثمي أن ينسبه وقع منه أخطاء، فلزم بيانها؛ فإنه قال (2/127) :
"ورجال الطبراني رجال "الصحيح "؛ خلا حماد بن سليمان، وهو ثقة، ولكنه اختلط ".
فأقول:
أولاً: ليس في الرواة مطلقاً- بله من وصف بالاختلاط- من يسمى (حماد
ابن سليمان) ، وقد يخطر في البال أنه أراد (حماد بن سلمة) ، وهو بعيد جداً؛ لأن الهيثمي استثناه من رجال "الصحيح "، وهو منهم، روى له مسلم محتجاً، واستشهد به البخاري، ثم إنه لم يرمه أحد بالاختلاط، وهو إمام من أئمة السنة رحمه الله تعالى.
ومن الغريب أن هذا الخطأ انطلى على المعلق على "مسند أبي يعلى" (9/149) ، فنقله عن الهيثمي دون أي تعليق عليه! بخلاف المعلق على "دعاء الطبراني "؛ فإنه لحظ أن فيه شيئاً؛ فطبع جنب الاسم علامة التعجب هكذا: ".. حماد بن سليمان، (كذا) .. ".
وقد عرفت أنه (حماد بن أبي سليمان) ؛ وقع هكذا في "مسند البزار"، وهو(7/70)
أبو إسماعيل الأشعري الكوفي الفقيه، ومن الرواة عن زيد بن أبي أنيسة، كما في "تهذيب المزي ".
ثانياً: عزاه الهيثمي لـ "أوسط الطبراني " دون "معجمه الكبير"، وهو تقصير؛
فقد أخرجه فيه- كما سبقت الإشارة إليه- بإسناده ومتنه.
هذا؛ وقد تنبهنا بعد تخريج الحديث أنه كان مخرجاً ومطبوعاً في (المجلد الخامس) من هذه "السلسلة " برقم (2084) ، وفي الإعادة إفادة إن شاء الله؛ وبخاصة أن هنا زيادة لم ترد هناك. *
3033- (صلاةُ القاعِدِ على النِّصْفِ مِنْ صلاةِ القائمِ) .
قلت: قد صح هذا عن جمع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيحين " و"السنن " وغيرهما، وقد خرجت الكثير منها قديماً في "الروض النضير" (585 و 776) ، و"صحيح أبي داود" (876- 878) ، و" الإرواء " (2/206/ 455) ، ولكني وقفت على رواية عزيزة عن صحابي آخر- هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- لنكتة سيأتي بيانها، وقد عزاه السيوطي للطبراني وحده فقصر. وبعد هذا فإني أقول:
لقد وجدت للحديث عدة طرق:
الأولى: الزهري أن عبد الله بن عمر قال:
قدمنا المدينة؛ فأصابنا وباء من وعك المدينة شديد، وكان الناس يكثرون أن يصلوا في سبحتهم جلوساً، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم عند الهاجرة وهم يصلون في سبحتهم جلوساً، فقال ... فذكره.
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (2/471/4120) عن معمر؛ وابن أبي(7/71)
شيبة (2/52) عن عبيد الله بن عمر؛ كلاهما عنه به.
قلت: وهذا إسناد صحيح لولا الانقطاع بين الزهري وابن عمر؛ فإنه لم يدركه، وقد وصله بعض الضعفاء كما يأتي.
الثانية: قال البزار في "مسنده " (1/274/567) : حدثنا يوسف بن محمد
ابن سابق: ثنا الحسين بن علي: ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عمر مرفوعاً به.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين؛ غير ابن سابق هذا؛ وقد أورده ابن حبان في (الطبقة الرابعة) من "الثقات " (9/282) ، وكناه بـ "أبي بكر القرشي الكوفي "، وقال:
"يروي عن وكيع، حدثنا عنه شيوخنا".
فهو معروف غير مجهول.
الثالثة: يرويه أبو صالح الحراني: ثنا عبد الرزاق بن عمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال ... فذكره.
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (12/282/13122) .
قلت: وهذا ضعيف جداً؛ عبد الرزاق بن عمر- هو أبو بكر الثقفي الدمشقي- قال الحافظ في "التقريب ":
"متروك الحديث عن الزهري، لين في غيره ".
فالعمدة على الطريق التي قبله.
وأبو صالح الحراني- هو عبد الغفار بن داود- ثقة من رجال البخاري(7/72)
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/149) :
"رواه البزار والطبراني في "الكبير"، وإسناده حسن "!
قلت: وهذا التخريج والتحسين يدل ظاهرهما على أمرين منكرين:
أحد هما: أن إسناد البزار والطبراني واحد، وهذا خلاف الواقع.
والآخر: أن إسناد الطبراني هو الحسن، والصواب العكس تماماً كما تقدم.
وقد انطلى الأمر على الشيخ الأعظمي؛ فنقله عن الهيثمي في تعليقه على "مسند البزار" دون أي تعقيب! ثم جاء من بعده الأخ حمدي السلفي وأخذ منه ما يتعلق بالطبراني فقال في تعليقه عليه:
"قال في "المجمع " (2/149) : وإسناده حسن "!!
ولا لوم عليه من حيث فهمه لعبارة الهيثمي؛ لكن كان عليه أن يدرس الإسناد وهو بين يديه!
فهذه الأوهام والتنبيه عليها كان من أقوى الأسباب التي حملتني على تخريج حديث ابن عمر هذا؛ مع صحته واستفاضته عن الصحابة الآخرين، رضي الله عنهم أجمعين. *
3034- (يكونُ خَلْفٌ مِنْ بَعْدِ ستينَ سنةً (أضاعُوا الصلاةَ واتبعوا الشَّهَوَات فسوفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) .
ثم يكونُ خلفٌ يَقْرَأُون القرآنَ لا يَعْدُو تَرَاقِيَهُم.
ويَقْرَأُ القرآنَ ثلاثةٌ: مؤمنٌ، ومنافقٌ، وفاجرٌ) .
أخرجه ابن حبان (2/67/752-الإحسان) ؛والحاكم (2/374و4/547) ؛(7/73)
وعنه البيهقي في كتابيه "الشعب " (2/533) ، و"الدلائل " (6/465) ، وأحمد (3/38- 39) من طريق بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره. وقال: قال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ فقال:
"المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به ". وقال الحاكم:
"صحيح، رواته حجازيون وشاميون أثبات ". ووافقه الذهبي.
(تنبيه) : لم يورد الهيثمي هذا الحديث في كتابه "مجمع الزوائد" بعد أن بحثت عنه في مظانه منه، ولم يورده زغلول في "فهارس مجمع الزوائد"، وكذلك لم يورده الهيثمي في كتابه الآخر: "موارد الظمآن "، فاستدركته عليه فيه، ومثله عشرات، والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات. *
3035- (كُتِبتْ عنده سورةُ (النجم) ، فلمَّا بَلغَ السَّجْدَة سَجَدَ، وسَجَدْنا معه، وسَجَدَتِ الدَّوَاةُ والقَلَمُ) .
أخرجه بهذا التمام البزار في " مسنده " (1/360/753- كشف الأستار) : حدثنا محمد بن عبد الرحيم: ثنا مسلم الجرمي: ثنا مخلد بن حسين عن هشام عن محمد عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبت عنده.. الحديث. وقال البزار:
" لانعلم رواه بهذا اللفظ إلا أبو هريرة؛ ولانعلمه إلا من هذا الوجه؛ تفرد به مخلد عن هشام ".
قلت: وهما ثقتان من رجال مسلم.
ومسلم الجرمي هو ابن أبي مسلم الجرمي؛ واسم أبيه (عبد الرحمن) ؛بيض(7/74)
له ابن أبي حاتم (4/ 1/188) ، وترجمه الخطيب في "التاريخ " (13/ 100) برواية جمع من الحفاظ عنه؛ منهم أبو يحيى صاعقة- وهو محمد بن عبد الرحيم الراوي عنه هنا-، ومنهم موسى بن هارون الحافظ، وقال:
"مات سنة أربعين (يعني ومئتين) ، وكتبت عنه ببغداد".
وقال الخطيب:
"وكان ثقة ".
وذكره ابن حبان في "الثقات " (9/198) وقال:
"ربما أخطأ".
وأخرج له في "صحيحه " عدة أحاديث، وهذه أرقامها (441 و 4434 و 5693
و7340- الإحسان) ، وأحدها تقدم برقم (2801) ، وله حديث آخر عند البزار (2/86/1265) حسن إسناده الحافظ، ولم يعرفه الهيثمي فيهما، وأما هنا فقال (2/285) :
"رواه البزار، ورجاله ثقات "!
وكذا قال الحافظ في "الفتح " (2/554) .
وعلى هذا فالإسناد جيد. وكذا قال المنذري (2/212/37) .
وقد توبع؛ فأخرجه الطحاوي في "شرح المعاني " (1/208) ، والدارقطني
في "سننه " (1/409/11) من طريقين آخرين عن مخلد بن الحسين به مختصراً بلفظ:(7/75)
" سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآخر (النجم) ، و [سجد معه من حضره من] الجن
والإنس والشجر".
وعزاه السيوطي في ((الدر)) (6/ 121) لابن مردويه فقط!
وفي سجوده- صلى الله عليه وسلم - في (النجم) أحاديث أخرى بعضها في "الصحيحين "؛ كحديث ابن مسعود، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (1267) . لكن في سجود أبي هريرة معه - صلى الله عليه وسلم - فائدة عزيزة تبطل قول من زعم أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يسجد وهو في المدينة؛ لتأخر إسلام أبي هريرة رضي الله عنه، ولذلك؛ ذكر الحافظ هذا الحديث، وأتبعه بقوله- بعد أن وثق رجاله كما تقدم-:
"وروى ابن مردويه " في التفسير" بإسناد حسن عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه رأى أبا هريرة سجد في خاتمة (النجم) ؛ فسأله؟ فقال: إنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها. وأبو هريرة إنما أسلم بالمدينة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن الأسود بن يزيد عن عمر: أنه سجد في (إذا السماء انشقت) . ومن طريق نافع عن ابن عمر: أنه سجد فيها. وفي هذا رد على من زعم أن عمل أهل المدينة استمر على ترك السجود في المفصل ".
واعلم أنه قد روي سجود الدواة والقلم في رؤيا رآها أبو سعيد الخدري رضي
الله عنه حين قرأ فيها سورة (ص) في حديث رواه أحمد وغيره، وهو مخرج في "الصحيحة" (2710) و"صحيح أبي داود" تحت الحديث (1271) ، فقد يقال: لعل ذكر سجود الدواة والقلم في حديث الترجمة وهم من بعض رواته؛ دخل عليه حديث في حديث. والله سبحانه وتعالى أعلم. *(7/76)
3036- (إنَّ الشيطانَ قَدْ خَلَفَكَ في أهلكَ؛ فاذهب بهذا العُرْجُونِ؛ فَأَمْسِكْ به حتى تأتِيَ بَيْتَكَ؛ فَخُذْهُ مِن وراءِ البيتِ فاضْرِبْهُ بالعُرْجُونِ (1))
أخرجه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (19/5-6) من طريق عاصم بن عمر ابن قتادة عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان قال:
كانت ليلة شديدة الظلمة والمطر، فقلت: لو أني اغتنمت هذه الليلة شهود العتمة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -! ففعلت، فلما انصرف النبي- صلى الله عليه وسلم - أبصرني ومعه عرجون يمشي عليه، فقال:
" ما لك يا قتادة! ههنا هذه الساعة؟ ".
قلت: اغتنمت شهود الصلاة معك يا رسول الله! فأعطاني العرجون، فقال ... فذكره، فخرجت من المسجد، فأضاء العرجون مثل الشمعة نوراً، فاتضأت به، فأتيت أهلي فوجدتهم رقوداً، فنظرت في الزاوية فإذا فيها قنفذ، فلم أزل أضربه بالعرجون حتى خرج.
قلت: ورجاله كلهم ثقات مترجمون في "التهذيب "؛ غير أن عمر بن قتادة أورده البخاري وابن أبي حاتم في كتابيهما من رواية ابنه عاصم هذا، ولم يذكروا فيه جرحاً، وكذلك ذكره ابن حبان في "الثقات " (5/146) ، وابنه عاصم تابعي معروف مات سنة (119) ، فيكون أبو عمر من كبار التابعين، فمثله يستشهد به.
وقد توبع، فأخرجه الطبراني أيضاً (19/13- 14) من طريق سويد بن عبد العزيز عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن قتادة بن النعمان به نحوه.
_________
(1) العرجون: وهو العود الأصفر الذي فيه شماريخ العذق؛ كما في النهاية ".(7/77)
وهذا وإن كان إسناده واهياً لحال ابن أبي فروة والراوي عنه؛ فإن للحديث شاهداً قوياً يرويه فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن أبي سلمة عن أبي سعيد بهذا الحديث نحوه دون ذكر (القنفذ) ، وفيه:
((خذ هذا فسيضيء أمامك عشراً وخلفك عشراً)) .
أخرجه أحمد (3/65) ، والبزار (1/296- 297) مطولاً؛ فيه قصة العراجين، والنهي عن البصق أمامه، ونسيان ساعة الجمعة، وقد أخرج شيئاً منه ابن خزيمة (881 و1741) ، والحاكم (1/ 279) ، وقال:
((صحيح على شرط الشيخين)) ! ووافقه الذهبي.
وهو كما قالا؛ لولا أن فليحاً هذا فيه كلام من جهة حفظه، ولذلك لم يزد الذهبي في ((الكاشف)) على قوله فيه:
((قال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ليس بالقوي)) .
وقال الحافظ: ((صدوق كثير الخطأ))
وقد تفرد- فيما علمت- بجملة نسيانه - صلى الله عليه وسلم - لساعة الإجابة يوم الجمعة، ولذلك كنت خرجتها في "الضعيفة" (1177) .
وأما روايته لقصة قتادة هذه، فإني لما وجدت لها هذه الطريق من رواية عاصم
ابن عمر عن أبيه؛ انشرح الصدر واطمأنت النفس لصحتها، فبادرت إلى إخراجها هنا؛ كمعجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام. وقد قال الهيثمي في حديث الترجمة (2/ 41) :(7/78)
((رواه الطبراني في ((الكبير)) ، ورجاله موثقون)) .
ثم قال في حديث أبي سعيد (2/167) :
((رواه أحمد والبزار.. ورجالهما رجال (الصحيح)) ) . *
3037- (كانَ يَخْطُبُ بِمِخْصَرَةٍ في يَدِهِ) .
أخرجه ابن سعد في "الطبقات " (1/377) : أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وقتيبة بن سعيد قالا: أخبرنا عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عامر ابن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات على ضعف في حفظ ابن لهيعة معروف؛ لكن قتيبة بن سعيد من الثقات الذين صحح العلماء حديثهم عن ابن لهيعة؛ لأنه كان يروي عنه من كتابه وليس من حفظه؛ كما تقدم تحقيق ذلك عن الذهبي في غيرما موضع، فلا داعي للإعادة.
والحديث أخرجه البزار في "مسنده " (1/306- 307) ، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " (128) ، والبغوي في "شرح السنة " (4/243) من طرق أخرى عن ابن لهيعة به. وقال البزار:
((لا نعلمه عن ابن الزبير إلا من هذا الطريق)) .
قلت: ولفظ البغوي:
((كان يخطب بمخصرة)) .
وبهذا اللفظ أورده الهيثمي في "المجمع " (2/187) ، وقال:
((رواه الطبراني في ((الكبير)) ، والبزار، وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام)) .(7/79)
وأقول: وهكذا وقع لفظه في ((مختصر زوائد البزار)) للحافظ (1/294/448) ، بخلاف لفظه في ((كشف الأستار)) ، فإنه بلفظ:
((كان يشير بمخصرة إذا خطب)) .
وهذا منكر عندي بلفظ "يشير"، فلا أدري هذه الزيادة ثابتة عند البزار- فيكون
من أوهامه- أو هي خطأ من بعض النساخ؛ أو لعل أصله: "يمسك " فتحرف على الناسخ؟! والله أعلم.
هذا؛ وللحديث شواهد كثيرة تزيده قوة على قوة؛ قد ذكرت بعضها في ((الإرواء)) (3/78 و 99) ، وخرجت الكثير الطيب منها في ((الضعيفة)) (2/380 ـ 383) ، وبينت فيها أن اعتماده على العصا لم يكن وهو - صلى الله عليه وسلم - على المنبر. فراجعه؛ فإنه مهم. *
3038- (مِنَ السُّنَّةِ أنْ يَطْعَمَ [يومَ الفِطْرِ] قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ) .
أخرجه البزار في ((مسنده)) (1/312/ 651) : حدثنا إبراهيم بن هانىء: ثنا محمد بن عبد الواهب عن أبي شهاب عبد ربه بن نافع- كوفي مشهور- عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن ابن عباس قال ... فذكره. وقال:
((لا نعلمه إلا بهذا الإسناد)) .
قلت: وهو إسناد صحيح، خفي حال بعض رجاله على الهيثمي؛ فقال (2/199) - بعد أن ذكره بهذا اللفظ وبلفظ ((أوسط الطبراني)) الآتي-:
((وفي إسناد البزار من لم أعرفه)) .
فتعقبه الحافظ في ((مختصر الزوائد)) ، فقال عقبه (1/299) :(7/80)
((قلت: لا أدري من غَنَى بهذا؟! فكلهم ثقات معروفون، والإسناد متصل!)) .
وأقول: من الظاهر عندي أنه يعني شيخ البزار إبراهيم بن هانئ، أو شيخ شيخه محمد بن عبد الواهب، أو كليهما معاً؛ فإن من فوقهما من رجال ((التهذيب)) ، فيستبعد جداً ًأن يخفى عليه حال أحدهم، ومع ذلك فإني أستغرب خفاء حالهما عليه! فإنه ممن رتب كتاب "الثقات " لابن حبان على الحروف، وهما في "ترتيبه ": الأول منهما في الجزء الأول، والثاني في الجزء الثالث، فالمتوقع أن يكون على علم بهما، أو على الأقل أن يراجع "ترتيبه "! فسبحان الله! (لايضل ربي ولا ينسى)
أما إبراهيم بن هانىء؛ فهو أبو إسحاق النيسابوري، أورده ابن حبان في (الطبقة الرابعة) من "الثقات " (8/83) ، وقال:
((روى عنه البغداديون؛ كان من إخوان أحمد ممن يجالسه على الحديث والدين)) .
وله ترجمة جيدة في "تاريخ بغداد" (2/204- 206) ، وروى توثيقه عن أحمد والدارقطني، توفي سنة (265) .
وأما شيخه محمد بن عبد الواهب؛ فهو أبو جعفر الحارثي، وهو بغدادي أيضاً، ذكره ابن حبان أيضاً في "الثقات " (9/83) برواية الحافظ البغوي عنه، ثم قال:
((ربما أخطأ)) .
وترجمه الخطيب أيضاً (2/ 390- 392) برواية جمع آخر عنه من الحفاظ، وروى توثيقه عن صالح جزرة، مات سنة (229) ، ووثقه البزار أيضاً.
وللحديث طرق أخرى؛ فرواه الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس قال:(7/81)
((من السُّنة أن لا تخرج يوم الفطر حتى تُخْرِجَ الصدقة وتَطْعَمَ شيئاً قبل أن تخرج)) .
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 160) ، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (11/ 141-142) .
قلت: ورجاله ثقات؛ لكن الحجاج مدلس، وقد عنعن.
وتابعه ابن جريج عن عطاء به؛ إلا أنه قال:
(( ... حتى تطعم، ولا يوم النحر حتى ترجع)) .
أخرجه الطبراني في "الأوسط " (2/238/1006- مجمع البحرين) من طريق إسحاق بن عبد الله التميمي الأذني: ثنا إسماعيل ابن علية عن ابن جريج به. وقال: ((تفرد به إسحاق)) .
قلت: ذكره ابن حبان في "الثقات " (8/ 120) من رواية بلال بن العلاء عنه. وبلال هذا لم أجده لا عنده ولا عند غيره، فهو وشيخه إسحاق من المجهولين. فقول الهيثمي:
((وإسناد الطبراني حسن)) غير حسن؛ لا سيما وابن جريج قد عنعن. لكنه قد صح عنه التصريح بالتحديث، فقال عبد الرزاق (3/305/5734) ، وعنه أحمد (1/313) : أنا ابن جريج: أنبأنا عطاء: أنه سمع ابن عباس يقول:
إن استطعتم أن لا يغدو أحدكم يوم الفطر حتى يطعم فليفعل.
قال: فلم أدع أن آكل قبل أن أغدو منذ سمعت ذلك من ابن عباس، فآكل
من طرف الصريقة الأُكلة، أو أشرب اللبن أو الماء.(7/82)
قلت: فعلام يؤوَّل هذا؟ قال: سمعه- أظن- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال: كانوا لا يخرجون حتى يمتد الضَّحاء، فيقولون: نطعم لئلا نعجل عن صلاتنا.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وروى ابن أبي شيبة (2/ 161) من طريق عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال:
إذا خرجت يوم العيد- يعني: الفطر، فكُلْ ولو تمرة.
وإسناده صحيح، وعبد الله هذا هو الأنصاري أبو الوليد.
وفي معنى حديث الترجمة ما رواه البيهقي (3/283) بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال:
كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل الصلاة؛ ولا يفعلون ذلك يوم النحر.
فإن (المسلمون) في هذا الأثر إنما هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين تلقوا هذه السنة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي المقصودة بقول ابن عباس: ((من السنة)) ؛ كما هو مقرر في علم مصطلح الحديث.
على أن للحديث شواهد كثيرة صريحة الرفع إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -؛ كحديث أنس: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات)) .
رواه البخاري وغيره. وزاد بعض الضعفاء ((سبع تمرات))
ولذلك خرجته في الكتاب الآخر (4248)(7/83)
(تنبيه) : قوله: (عبد الواهب) هكذا وقع في "كشف الأستار"، وكذا في أثناء ترجمته في "تاريخ بغداد"، وفي ترجمة (عبد ربه) من "تهذيب الحافظ المزي " (16/ 486) ، وهو الصواب.
ووقع في "ثقات ابن حبان "، و"ترتيبه " للهيثمي، وفي أول ترجمته من " التاريخ "، و"مختصر الزوائد ": (عبد الوهاب) ، وهو تصحيف، ومن الدليل على ذلك أن الخطيب كان قد ترجم قبله لجمع؛ منهم ثلاثة يسمون بـ (محمد بن عبد الوهاب) ، ثم عقد فصلاً خاصاً فقال:
"ذكر مفاريد الأسماء على التعبد".
فذكر تحته- أول ما ذكر- (محمد بن عبد الواهب) هذا، فلو كان الصواب كما وقع فيه تحته مباشرة (ابن عبد الوهاب) لم يذكره هنا؛ وإنما مع الثلاثة المشار إليهم هناك، فهذا دليل قاطع على أنه تحرف على الطابع أو الناسخ، ويؤيده أنه جاء على الصواب في أثناء الترجمة كما تقدم: (ابن عبد الواهب) ، وإن كنت لا أعلم أن من أسماء الله (الواهب) إلا اشتقاقاً، فهذا شيء آخر، وفيه نظر لا يخفى على أهل العلم.
ثم وقفت على حديث آخر لمحمد بن عبد الواهب هذا، فبادرت إلى إخراجه لعزته، ولتأكيد الصواب المذكور في اسمه، فانظره برقم (3040) . *
3039- (ما أَنعَمَ اللهُ على قومٍ نِعْمَةُ إلا أصبحُوا بها كافرِينَ) .
أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين " (2/157/1102) : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة: ثنا أبو اليمان: ثنا إسماعيل بن عياش. ح(7/84)
وحدثنا أبو زرعة الدمشقي: ثنا علي بن عياش: ثنا عبد الرحمن بن سليمان
ابن أبي الجون، قالا:
ثنا راشد بن داود الصنعاني عن أبي عثمان الصنعاني عن أبي الدرداء قال:
قحط المطر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه أن يستقي لنا، [فاستقى] ، فغدا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإذا هو بقوم يتحدثون يقولون: سقينا بنجم كذا وكذا! فقال:
النبي - صلى الله عليه وسلم -..... فذكره
وأخرجه البزار في "مسنده " (1/316/658- كشف الأستار) : حدثنا إبراهيم [هو] (1) ابن [هانىء: ثنا] أ (2) محمد بن إسماعيل بن عياش: حدثني أبي: حدثني راشد بن داود الصنعاني به. وزيادة: [فاستسقى] منه.
قلت: فهذان طريقان إلى راشد بن داود الصنعاني- وهو صدوق له أوهام- عن أبي عثمان الصنعاني- واسمه شراحيل بن مرثد- وهو ثقة مخضرم، فهو من الطريق الأولى عنه جيد؛ لأن رجاله كلهم ثقات؛ لأن إسماعيل بن عياش ثقة صحيح الحديث في روايته عن الشاميين، وهذه منها.
وهو من الطريق الأخرى عنه حسن لذاته، أو على الأقل حسن لغيره؛ لأن ابن أبي الجون صدوق يخطئ؛ كما في ((التقريب)) ، فهو قوي بمتابعة إسماعيل بن عياش له.
وللحديث شواهد يزداد بها قوة على قوة:
الأ ول: عن زيد بن خالد الجهني مرفوعاً نحوه، رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في ((الإرواء)) (3/ 144/ 681) .
_________
(1) و (2) سقطتا من ((الكشف)) ؛واستدركتهما من ((مختصر الزوائد)) (1/307) .(7/85)
وفي رواية عنه قال:
مُطر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فلما أصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال:
((ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ قال:
ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، فأما من
آمن بي وحمدني على سقياي؛ فذلك الذي آمن بي وكفر بالكواكب، وأما الذي قال: مُطرنا بنوء كذا؛ فذلك الذي آمن بالكواكب وكفر بي- أو كفر نعمتي-)) .
أخرجه أبوعوانة (1/26ـ 27) ؛ والنسائي (1/227) ؛ والحميدي في
((مسنده)) (356/813)
الثاني: عن أبي هريرة نحو حديث زيد مختصراً.
أخرجه مسلم (1/59- 60) من طريقين عنه، والنسائي، والبيهقي (3/358) ، وأحمد (2/362 و 368) من أحدهما عنه.
الثالث: عن ابن عباس قال:
مُطر الناس على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم -؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
((أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم:
لقد صدق نوء كذا وكذا. قال: فنزلت هذه الآية: (فلا أقسم بمواقع النجوم) حتى بلغ (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) [الواقعة/75ـ82] ))
أخرجه مسلم (1/ 60) ، وأبو عوانة، والبيهقي من طريق عكرمة بن عمار: حدثنا أبو زميل قال: حدثني ابن عباس..
وهذا إسناد حسن؛ فإن عكرمة هذا مع كونه من رجال مسلم ففي حفظه(7/86)
كلام، ولذلك قال الحافظ:
((صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب))
(تنبيه) : أعل الهيثمي الطريق الأولى عن أبي الدرداء بابن عياش؛ فقال (2/212) :
((رواه البزار، والطبراني في "الكبير"، وفيه إسماعيل بن عياش، وفيه كلام)) .
فأقول: هذا الإعلال ليس بشيء؛ لما تقدم ذكره أنه صحيح الحديث عن الشاميين، فالكلام فيه إنما هو إذا روى عن غيرهم؛ كما صرح به كبار الأئمة كأحمد والبخاري وغيرهم. وأما الشيخ الأعظمي فتعقبه في تعليقه على ((كشف الأستار)) بقوله:
((قلت: الذي بين أيدينا فيه محمد بن إسماعيل لا إسماعيل)) !
فأقول: بل فيه إسماعيل أيضاً؛ والشيخ إنما أتي من وقوفه مع ظاهر السند الذي بين يديه، ولم يتنبه للسقط الذي وقع فيه، ولست أدري هل هو كذلك في الأصل الذي طبع عليه، أم قدم كذلك مطبوعاً إليه فعلق بما تقدم عليه؟! وأيهما كان فأحلاهما مر؛ إذ كان عليه أن يدرك أن محمد بن إسماعيل لم يدرك راشد بن داود الصنعاني، أو على الأقل لم يذكروا رواية له عنه، وإنما لأبيه إسماعيل، ولم يذكروا لمحمد رواية عن أحد إلا عن أبيه، فهذا وحده كان يكفيه منبهاً لو كان مُحَقِّقاً حقاً!
وإنما لم يعله الهيثمي بمحمد هذا؛ لأنه- والله أعلم- متابع من أبي اليمان عند الطبراني في ((المعجم الكبير)) أيضاً. ومن المؤسف أن المجلد الذي فيه أحاديث أبي الدرداء لم يطبع بعد حتى نتحقق مما ذكرته. والله أعلم. *(7/87)
3040- (كان يجمع بين الصلاتين في السفر) .
أخرجه البزار في ((مسنده)) (1/ 330- 331) : حدثنا إبراهيم بن هانىء: ثنا محمد بن عبد الواهب: ثنا أبو شهاب عن عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره، وقال:
((لا نعلمه عن أبي سعيد إلا من هذا الوجه، ومحمد ثقة مشهور بالعبادة)) .
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، وأبو شهاب اسمه عبد ربه بن نافع، وهو ومن فوقه من رجال ((الصحيح)) ، واللذان دونه ثقتان كما تقدم بيانه قريباً عند الحديث (3038) . وقد استفدنا هنا فائدة مهمة؛ وهي توثيق البزار لمحمد ابن عبد الواهب، فلتُضم إلى توثيق ابن حبان وغيره ممن ذكرت هناك. كما أن تكرر هذا الاسم هنا يؤكد ما رجّحته هناك أن الصواب فيه (عبد الواهب) وليس (عبد الوهاب) ، فتنبه.
وقد كنت ذكرت هناك أنه خفي حاله وحال إبراهيم الراوي عنه على الهيثمي، فلعله تبين له الحال فيما بعد؛ فقد عقب على قول البزار الموثق لمحمد هذا بقوله (2/199) :
((قلت: وبقية رجاله ثقات)) .
ومن طريقه: أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) بلفظ أتم؛ فقال (2/205/ 1) : حدثنا موسى بن هارون: نا محمد بن عبد الواهب الحارثي به، ولفظه:
"جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، أخر المغرب وعجل العشاء، فصلاهما جميعاً ". وقال:(7/88)
((لم يروه عن عوف إلا أبو شهاب، تفرد به محمد بن عبد الواهب)) .
قلت: وهذه متابعة قوية لإبراهيم بن هانىء من موسى بن هارون، وهو حافظ ثقة، فإسناد الطبراني صحيح أيضاً، فالعجب من الهيثمي كيف خص إسناد البزار بالتوثيق وإسناد الطبراني أولى به؟! لأن موسى بن هارون أوثق وأحفظ وأشهر من إبراهيم بن هانىء إلى درجة أن هذا لم يعرفه الهيثمي كما تقدمت الإشارة إليه.
هذا؛ وللحديث شواهد كثيرة؛ منها: عن أبي هريرة مثل حديث الترجمة. أخرجه البزار (رقم 687) بإسنادين عن محمد بن أبان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه؛ وقال:
((تفرد به محمد بن أبان)) .
قلت: وهو ابن صالح القرشي الجعفي الكوفي، ضعفه ابن معين وغيره
ومنها: عن عبد الله بن مسعود به.
أخرجه البزار أيضاً (685) وغيره، وتقدم تخريجه تحت الحديث (2837) .
ومنها: عن معاذ بن جبل نحو حديث موسى بن هارون، وتقدم تخريجه في (المجلد الأول) رقم (164) ، وهو مخرج في "الإرواء " أيضاً (578) .
واعلم أن الجمع المذكور في هذا الحديث ونحوه إنما هو الجمع الحقيقي، وهو تأخير الصلاة الأولى إلى وقت الصلاة الأخرى " كالظهر والعصر مثلاً، يصليان معاً في وقت العصر، وكذلك القول في صلاة المغرب مع العشاء، وفي ذلك أحاديث صحيحة صريحة، وأصرح من ذلك أحاديث جمع التقديم الذي يعني تقديم صلاة العصر إلى وقت الظهر وصلاتهما فيه معاً، وكذلك القول في صلاة(7/89)
العشاء مع المغرب، فإن هذا الجمع لا يتصور فيه الجمع الصُّوري، ومن أَجْلَى أمثلته الجمع في المطر الثابت في السنة؛ فإنه لا يتصور إلا بجمع التقديم، وفي ذلك كله أحاديث كثيرة صحيحة؛ قد خرجت بعضها في غير موضع من تآليفي، ومنها تحت حديث ابن مسعود المشار إليه آنفاً (2837) ، ومنها حديث أنس في ((الإرواء)) (3/32/579) . *
3041- (لا تُصَلُّوا حتى تَرْتَفعَ الشمسُ؛ فإنَّها تَطْلُعُ بينَ قَرْنَيِ الشَّيطانِ) .
أخرجه أحمد (5/ 216) وابنه أيضاً، والبخاري في "كنى التاريخ " (15/107) ، والبزار في "مسنده " (1/336- 337) ، وكذا أبو يعلى (3/143/ 1572) ، والطبراني في "الأوسط " (2/ 106/1/6668) من طرق عن هارون بن معروف: ثنا عبد الله [بن وهب] : أخبرني مخرمة [بن بكير] عن أبيه عن سعيد ابن نافع قال:
رآني أبو بشير الأنصاري صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي صلاة الضحى حين طلعت الشمس؛ فعاب علي ذلك ونهاني، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره ... وقال البزار:
((لا نعلمه إلا من هذا الوجه، وسعيد لا نعلمه حدث عنه إلا بكير)) .
قلت: يشير إلى أنه مجهول لا يعرف، ويؤيده أن البخاري وابن أبي حاتم لما ترجماه لم يذكرا راوياً عنه سواه، ومع ذلك ذكره ابن حبان في "الثقات " (4/291) !(7/90)
وسائر رواته ثقات رجال مسلم.
لكن الحديث صحيح؛ له شواهد كثيرة من حديث علي وعمرو بن عتبة وغيرهما، وهي مخرجة في " الصحيحة " (314) ، و ((الإرواء)) (2/237) ، و"صحيح أبي داود" (1158) ، وإنما خرجته من الوجه المذكور للكشف عن هوية صحابيه الأنصاري، فأقول:
اختلفت المصادر المذكورة في ضبط كنيته، فهي عند أحمد وابنه والبخاري والطبراني كما تقدم (أبوبشير) .
وعند أبي يعلى (أبو هبيرة) !
وأما البزار؛ فلا أدري الذي وقع فيه؛ فإن أصله ليس تحت يدي، بل ولا وقفت عليه (1) ، وإنما عمدتي فيما أعزو إليه مطبوعة مؤسسة الرسالة، ولا أثق بها كثيراً لقلة التحقيق فيها، وكثرة أوهام المعلق عليها، ومن ذلك هذه الكنية، فقد وقعت فيها مخالفة لما تقدم هكذا (أبو اليسر) . وعلق عليها الشيخ الأعظمي فيما قيل:
((بفتح المثناة التحتية والسين المهملة، نبهت عليه لأنه في الأصل بسكون السين)) .
كذا قال! وأنا أظن أن الشيخ أو المعلق لم يحسن قراءة الأصل، وأنه ربما كان هكذا (أبو النسر) هكذا بالإهمال، وكذا هو في "مجمع الزوائد" (2/226) بزيادة نقطة من تحت مع إهمال السين، وهذا عندي أقرب، فهو (أبو البشر) ؛ أي بإعجام السين؛ على قاعدة بعض النساخ قد يماً؛ حيث كانوا يهملون المعجم اعتماداً منهم
_________
(1) وإنما عندي نسخة مصورة ناقصة يبدأ الموجود منها من كتاب البيوع، ويغلب عليها إهمال التنقيط، فمثلأ
(يحى بن أىوب) هكذا هو فيها دون النقط.(7/91)
على التلقي والحفظ، وإنما قلت: "أقرب "؛ لأنني وجدت هذا الحديث في ترجمة (أبي بشر الأنصاري) من "الإصابة "؛ قال:
"ذكره ابن أبي خيثمة، وأخرج له.. (فساق الحديث، ثم قال:) ، وغاير ابن أبي خيثمة بينه وبين (أبي بشير) الأنصاري الآتي المخرج حديثه في "الصحيحين "، فهذا أوله كسرة ثم سكون، والآتي فتحة ثم كسرة، ووحّد بينهما ابن عبد البر". ونحوه في "تهذيب التهذيب ".
وحديث "الصحيحين " الذي أشار إليه هو بلفظ: ((لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت)) ، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (2300) .
والخلاصة؛ أن صحابي هذا الحديث هو (أبو بشير الأنصاري) ؛ كما في رواية الجماعة، وأن رواية من كناه بـ (أبي بشر) أو (أبي هبيرة) شاذة، وأما تكنيته فيه بـ (أبي اليسر) فلم يروه أحد، وإنما هو من أوهام المعلق. والله الموفق، لا إله إلا هو. *
مَنْعُ المرأةِ أنْ َتُمَّر بَيْنَ يَدَيِ المصَلِّي بالإشارةِ إليها
3042- (كانَ يُصلي بهم ذاتَ يومٍ، فمَرَّتِ امرأةُ بالبطحاءِ، فأشارَ إليها أنْ تَأَخَّرِي، فَرَجَعَتْ حتى صَلَّى، ثُمَّ مَرَّتْ) .
أخرجه أحمد (5/216) من طريق عبد الله، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/294/751) من طريق يحيى بن بكير: ثنا ابن لهيعة: حدثنى حبان بن واسع عن أبيه عن عبد الله بن زيد وأبي بشير الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير أنه روى لابن(7/92)
لهيعة مقروناً؛ لكنه ثقة في نفسه، صحيح الحديث إذا روى العبادلة عنه، وهذا قد رواه عنه أحدهم: عبد الله- وهو ابن المبارك- وغفل عن هذا الهيثمي فأعله بقوله (2/60) :
" وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام "! *
مِنْ تَوَاضُعهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجُودِهِ
3043- (إنَّكَ وَطِئْت بنَعْلِكَ على رِجْلي بالأمسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَنَفحْتُكَ بالسَّوْطِ؛ فهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَة ًفَخُذْها بِها) .
أخرجه الدارمي (1/34- 35) من طريق محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله
ابن أبي بكر عن رجل من العرب قال:
زحمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت على رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنفحني نفحة بسوط في يده، وقال:
((بسم الله، أوجعتني)) .
قال: فبت لنفسي لائماً أقول: أوجعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبت بليلة كما يعلم الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول: أين فلان؟ قال: قلت: هذا والله الذي كان مني بالأمس. قال: فانطلقت وأنا متخوف، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم؛ إلا أنه إنما أخرج لابن إسحاق متابعة، ولكنه قد صرح بالتحديث؛ فأمنا بذلك تدليسه، فهو حجة؛ ولا سيما في السيرة النبوية. *(7/93)
3044- (لمَّا جاءَ نَعْيُ النَّجَاشِيُّ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
صَلُّوا عليه. قالوا: يا رسول الله! نُصَلِّي على عَبْدٍ حَبَشِيٍّ [ليس بمسلم] ؟ فأنزل الله عز وجل: ((وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لايشترون بآيات الله ثمناً قليلاً))
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (6/319/11088) من طريق أبي بكر ابن عياش، والبزار في "مسنده " (1/392/ 832) ، والواحدي في "أسباب النزول " (ص 104) ، والدارقطني في " الأ فراد" (ج 3 رقم 36- منسوختي) من طريق المعتمر ابن سليمان؛ كلاهما عن حميد عن أنس.
قلت: وهذا إسناد صحيح.
وله طريق أخرى عن أنس، وشاهد من مرسل قتادة.
أما الطريق؛ فهي من رواية مؤمل بن إسماعيل: نا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عنه قال:
لما مات النجاشي قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "استغفروا لأخيكم ". فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر له وقد مات بأرض الحبشة؟! فنزلت..
أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 100/ 1) ، والطبراني في "المعجم الأوسط " (1/ 150/ 1/2826) ، وقال:
((لم يروه عن حماد إلا مؤمل)) .
قلت: وهو ضعيف لسوء حفظه، بذلك وصفه غير واحد من الحفاظ(7/94)
المتقدمين والمتأخرين. وأما قول الهيثمي (3/38) - بعد أن ساقه بلفظ البزار، وهو بنحو المذكور أعلاه-:
"رواه البزار، والطبراني في " الأوسط "، ورجال الطبراني ثقات ".
فهو منتقد من وجوه:
الأول: أنه أطلق توثيق مؤمل هذا، وليس بجيد لما ذكرت آنفاً، بل ولا هو من عادته؛ فقد جرى على حكاية الخلاف فيه، واذا ذكر عن أحد أنه وثقه أتبعه بقوله: "وضعفه الجمهور"، أو ذكر من خالفه، وتجد جملة أقواله- أو من أقواله- في ذلك في (المجلد الثالث) من فهرس الأخ الفاضل أبي هاجر لـ "مجمع الزوائد" (3/404-405) .
الثاني: أن توثيقه لرجال الطبراني دون رجال البزار يشعر إشعاراً قوياً أن إسناد البزار لايستحق التوثيق، والواقع خلاف ذلك تماماً، ولعل السبب أن البزار ساقه بسندين له عن حميد؛ الأول فيه كلام كما يأتي دون الآخر، ولم يتنبه لهذا! فقال البزار (1/392/832) : حدثنا محمد (!) بن عبد الرحمن بن المفضل (!) الحراني: ثنا عثمان بن عبد الرحمن: ثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حميد عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ح وحدثنا أحمد بن بكار الباهلي: ثنا المعتمر بن سليمان: ثنا حميد الطويل.. إلخ.
قلت: فهذا الإسناد الثاني رجاله ثقات، أما حميد والمعتمر؛ فمن رجال الشيخين المشهورين.
وأما أحمد بن بكار الباهلي؛ فذكره ابن حبان في "الثقات " (8/23) ، وقال: "مستقيم الحديث ".(7/95)
قلت: وهذا توثيق منه معتبر قائم على سبر حديث الرجل، وليس على أصله الشاذ القائم على توثيق المجهولين، فانتبه، فالإسناد صحيح لا غبار عليه، ولذلك قلت: لعل الهيثمي لم يتنبه له ولم نره عيَّنه كما ذكرت آنفاً.
ثم بدا لي شيء أخر، وهو أنه لعله لم يقف على توثيق ابن حبان المذكور؛ فقد مر بي كثير من الرواة لم يعرفهم الهيثمي، مع أنهم مترجمون في كتاب "ثقات ابن حبان " الذي عني هو به عناية خاصة، فرتبه على الحروف تسهيلاً للمراجعة!
ثم قوي عندي هذا الاحتمال حينما وجدته قال في حديث آخر للبزار (1445) أورده في " المجمع " (4/262) :
"رواه البزار عن أحمد بن بكار الباهلي، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال (الصحيح) ".
فتعقبه الحافظ في "مختصر الزوائد" فقال (1/568) :
"قلت: هو ثقة، ولكن قد بين البزار علة هذا الإسناد؛ فقال: أخطأ فيه عثمان بن عثمان؛ إنما يرويه هشام عن أبيه عن حجاج بن حجاج عن أبيه ".
قلت: وحجاج بن حجاج هذا مجهول، لم يرو عنه غير عروة، وقد أخطأ بعض المتأخرين فصحح حديثه، وقد شرحت ذلك في "ضعيف أبي داود" (351) .
وخلاصة هذا الوجه الثاني؛ أن إسناد البزار صحيح، ما كان ينبغي للهيثمي
أن يسكت عنه.
والوجه الثالث: أنه لم ينبه على اختلاف متن الطبراني عن متن البزار، وأنه كان ينبغي أن يسوق متن الأول لثقة رجاله عنده دون متن الآخر، والله الهادي.(7/96)
وبهذا ينتهي الكلام على الطريق الأخرى عن أنس.
وأما الشاهد؛ فهو الذي يرويه الطبري في "التفسير" (4/146) من طريقين
عن قتادة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن أخاكم النجاشي قد مات، فصلوا عليه ". قالوا: نصلي على رجل ليس
بمسلم؟ فنزلت.. ".
وهو مرسل صحيح كما تقدم.
وبمعناه حديث وحشي بن حرب في "كبير الطبراني " (22/136/361) ، وإسناده ضعيف.
ونحوه حديث أبي سعيد الخدري في "أوسط الطبراني " (1/284/2/4782) ، وإسناده ضعيف جداً وفيما تقدم كفاية.
(تنبيه) : حديث الطبراني في "الأوسط " لم يذكره الهيثمي في "مجمع البحرين "، وله أمثال.
وقد بقي الكلام على إسناد البزار الأول لننظر فيه؛ هل للهيثمي في عدم كلامه عنه وجه من النظر؟ فأقول:
أولاً: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الراوي عن حميد؛ قال الذهبي في "المغني ":
"صدوق، وقال أحمد: ليس بالقوي ".
وقال الحافظ:
((صدوق يخطىء))(7/97)
قلت: فمثله حسن الحديث، وبخاصة إذا توبع كما هنا.
ثانياً: عثمان بن عبد الرحمن- وهو الطرائفي-؛ وقد وثقه ابن معين وغيره، ومن تكلم فيه لم يذكر جرحاً يقدم على التعديل، بل إن بعضهم ذكر ما يدل على الضعف من بعض شيوخه؛ كمثل قول البخاري:
((يروي عن قوم ضعاف))
ولذلك لم يضعفه الحافظ؛ فقال في "التقريب " ملخصاً به ما يؤخذ من مجموع أقوال المحدثين فيه:
"صدوق، أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل، فضعَّف بسبب ذلك حتى نسبه ابن نمير إلى الكذب، وقد وثقه ابن معين ".
قلت: فهو حسن الحديث أيضاً إذا كان من فوقه حجة كما هو الشأن هنا.
ثالثاً: محمد بن عبد الرحمن بن المُفَضَّل الحراني. هكذا وقع الأصل، وكذلك هو في "مختصر الزوائد" (1/ 360/589) ، فالظاهر أنه من البزار، أو الهيثمي تبعه عليه الحافظ، والصواب (أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل) ، هكذا ذكره الحافظ المزي في ترجمة (الطرائفي) من "تهذيبه "، وترجمه الخطيب البغدادي في "التاريخ " (4/243) برواية جمع من الثقات الحفاظ عنه- كابن صاعد وغيره- ثم قال:
"وما علمت من حاله إلا خيراً".
ونقله السمعاني في نسبة (الكُزبُراني) ، وقد تحرفت في "التاريخ " إلى " الكريزاني "؛ فلتصحح.(7/98)
وبعد الاطلاع على حال هؤلاء الرواة الثلاثة؛ نستطيع أن نتوصل إلى القول
بأن هذا الإسناد حسن لذاته؛ صحيح بغيره. والله ولي التوفيق. *
3045- (رَشَّ على قَبْرِ ابنِهِ إبراهيمَ [الماء] ) .
أخرجه أبو داود في "المراسيل " (304/ 424) ، ومن طريقه: البيهقي في "السنن " (3/311) من طريقين عن عبد العزيز بن محمد عن عبد الله بن محمد - يعني ابن عمر- عن أبيه مرسلاً.
وأبوه- هو محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب- صدوق من أتباع التابعين. لكن قد جاء موصولاً بإسناد آخر لعبد العزيز بن محمد، فقال الطبراني في "المعجم الأوسط " (2/ 80/ 1/6282) : حدثنا محمد بن زهير الأبلي؛ قال: نا أحمد بن عبدة الضبي قال: نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعاً به. وقال:
((لم يروه عن هشام بن عروة إلا الدراوردي؛ تفرد به أحمد بن عبدة)) .
قلت: وهو ثقة من شيوخ مسلم، وكذلك من فوقه كلهم ثقات من رجاله، فالإسناد صحيح إذا كان محمد بن زهير الأبلي قد توبع كما يشعر بذلك قول الطبراني المذكور، وإلا فهو حسن؛ لأن الأبلي هذا فيه كلام؛ قال الذهبي في
((الميزان)) :
"قال الدارقطني: أخطأ في أحاديث، ما به بأس. وقال ابن غلام الزهري: اختلط قبل موته بسنتين، مات سنة ثمان عشرة وثلاث مئة، أدخل عليه شخص حراني حديثاً)) .(7/99)
وأما قول المعلق على "مجمع البحرين " (2/138) بعد أن ذكر قول الدارقطني: "وذكره ابن حبان في "الثقات "، وقال: "يخطئ ويهم "، توفي سنة (318) . اللسان (5/ 170) والميزان (3/ 551) "!
فهو من عجائب الأوهام، وإليك البيان:
أولاً: ليس لمحمد بن زهير الأبلي هذا ذكر في "ثقات ابن حبان " مطلقاً، بل ليس فيه بهذا الاسم (محمد بن زهير) ؛ إلا مترجم واحد لم ينسب، ومن التابعين؛ كما حققته في "تيسير الانتفاع "؛ فلا أدري كيف وقع له هذا؟!
ثانياً: إذا رجعت إلى المصدرين اللذين أحال عليهما؛ لم تجد فيهما ذكراً لابن حبان وقوله!
ثالثاً: ليس من أسلوب العلماء تقديم المتأخر طبقة على المتقدم فيها، فالصواب تقديم "الميزان " على "اللسان " كما لا يخفى.
ثم إن في رش النبي - صلى الله عليه وسلم - الماء على قبر ابنه وغيره أحاديث أخرى كنت خرجتها في "الإرواء" (3/205- 206) ، وكلها معلولة؛ لم أجد فيها يومئذ ما يقويها، فلما وجدت هذا الحديث في "أوسط الطبراني " بادرت إلى تخريجه تقوية لها. والله هو الموفق، لا رب سواه. *
3046- (الراعي يَرْمِي بالليلِ، ويَرْعَى بالنهارِ) .
أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني " (1/415) ، وابن عدي في "الكامل " (5/8) ، والبيهقي في "السنن " (5/ 151) من طريق ابن وهب: أخبرني عمر بن قيس عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.(7/100)
قلت: وهذا إسناد ضعيف جداً؛ عمر بن قيس هو المعروف بـ (سندل) ؛ وهو متروك
وقد رواه ابن وهب عن شيخين آخرين مرسلاً.
1- فقال: أخبرني ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص لرعاء الإبل أن يرموا الجمار بالليل.
أخرجه البيهقي. وهذا إسناد صحيح مرسل إن كان ابن جريج سمعه من عطاء- كما هو الظن الراجح-.
2- وقال أيضاً: أخبرني يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزيّة عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله.
أخرجه البيهقي أيضاً.
وهذا إسناد صحيح مرسل رجاله رجال "الصحيح ".
ويشهد له مسند مسلم بن خالد: ثنا عبيد الله بن عمرعن نافع عن ابن عمر؛
مثل حديث ابن جريج.
أخرجه البزار في "مسنده " (2/32/1139) ، والبيهقي أيضاً.
قلت: وهذا إسناد جيد عندي في الشواهد، رجاله كلهم رجال مسلم؛ غير مسلم بن خالد وهو الزنجي، وهو فقيه صدوق كثير الأوهام؛ كما قال الحافظ، ونحوه قول الذهبي:
" صدوق يهم ".
وأما قول ابن التركماني في " الجوهر النقي " متعقباً البيهقي بقوله:(7/101)
" قلت: ذكر في هذا الباب أربعة أحاديث وسكت عنها، ولا يحتج بشيء منها ... "
ثم أعل المسندين بعمر ومسلم، والمرسلين بالإرسال، وهذا تعقب مخالف الأصول؛ فإن قوله: "ولا يحتج بشيء منها" يصدق على كل حديث قوي بمجموع طرقه؛ مفرداتها ضعيفة ضعفاً يسيراً كما هنا؛ باستثناء طريق عمر بن قيس، فالتضعيف والحالة هذه مخالف لما عليه العلماء قاطبة من تقوية الأحاديث بالمتابعات والشواهد، وهذا أمر واضح جداً عند كل من شم رائحة هذا العلم الشريف، وبخاصة على قواعد الحنفية الذين يرون الاحتجاج بالحديث المرسل مطلقاً؛ سواء جاء مسنداً من طريق أخرى أو لا؛ خلافاً لمذهب الشافعي الذي يحتج بالحديث المرسل إذا جاء موصولاً من طريق آخر كما هنا، فالحديث صحيح على المذهبين؛ لولا التعصب وحب التعقب!
وقد تقدم الحديث في هذه "السلسلة" (2477) . *
3047- (أرأيتَ لو كانَ على أبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قاضِيَهُ؟ قال: نعم. قال: حُجَّ عَنْ أَبِيكَ) .
أخرجه ابن حبان (6/121/3971- الإحسان) من طريق حكيم بن سيف، والطحاوي في "المشكل " (3/ 221) ، والطبراني في "الكبير" (12/15/12332) من طريقين آخرين؛ ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمرو عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبيرعن ابن عباس:
أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال ...
فذكره.(7/102)
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.
ثم أخرجه ابن حبان (3983 و 3986) من طريقين عن أبي الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال ... فذكره نحوه؛ إلا أنه قال:
"إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج؛ أفأحج عنه؟ قال:
"نعم؛ فحج عنه ".
ورجاله ثقات؛ لكن سماك مضطرب الحديث عن عكرمة، فلا يحتج به إلا
في المتابعات والشواهد، وقد توبع في الطريق الأولى؛ إلا في قوله: "لا يستطيع الحج "، وقد جاء من طريق أخرى؛ فقال محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس قال: أخبرني حصين بن عوف قال:
قلت: يا رسول الله! إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج ... الحديث. أخرجه ابن ماجه (08 29) ، وابن أبي عاصم في "الآحاد" (4/468/ 2521) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 31/3548 و 3549) .
ومحمد بن كريب ضعيف.
وله عند الطبراني (3550) طريق أخرى عن الحصين.
وسنده ضعيف أيضاً.
لكن له شاهد صحيح من حديث أبي رزين، انظره في "المشكاة" (2528) .
ويغني عن ذاك الضعيف حديث ابن عباس عن أخيه الفضل- المتفق عليه-،
وإن كان فيه أن السائل المرأة الخثعمية، فالخطب في ذلك سهل، ولا سيما وفي بعض الروايات أن السائل رجل، وجمع الحافظ بينهما بما تراه في "الفتح " (4/68) ،(7/103)
وفي بعض ما ذكره نظر عندي؛ لا مجال لذكره الآن، والمهم أن جوابه- صلى الله عليه وسلم - واحد في كل هذه الروايات، وسواء بعد ذلك أكان السائل رجلاً أو امرأة، والمسؤول عنه أباً أو أماً؛ فلا يلحق بهما غيرهما؛ إلا إذا كان معذوراً وأوصى كما هو مذهب مالك، وعليه يحمل حديث شبرمة، وتفصيل هذا لا مجال له الآن.
ثم رأيت للحديث طريقاً آخر، يرويه ابن إسحاق: حدثني خالد بن كثير أن عطاء بن أبي رباح حدثه أن عبد الله بن عباس حدثه:
أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحج عن أبيه؟ قال:
"احجج عنه؛ ألا ترى أنه لو كان عليه دين.. " الحديث.
أخرجه الدارقطني (2/ 260/114) .
قلت: إسناده حسن.
ويزيده قوة أنه رواه من طريق شريك عن ابن أبي ليلى عن عطاء.
ثم أخرج له شاهداً من حديث عبَّاد بن راشد: نا ثابت عن أنس بن مالك:
أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
هلك أبي ولم يحج؟ قال: " أرأيت.. " الحديث.
ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/ 231/748) و"الأوسط " (1/8/ 1/98) وقال:
" لم يروه عن ثابت إلا عباد ".
كذا قال! وقد توبع كما يأتي، وهو صدوق له أوهام من رجال البخاري، فهو(7/104)
إسناد حسن، ويرتقي إلى الصحة بمتابعة صدقة بن موسى عن ثابت به.
أخرجه البزار في "مسنده " (2/36/1144) ، وقال:
"لا نعلم رواه عن ثابت إلا صدقة، وهو بصري، ليس به بأس، ولم يتابع على هذا، واحتمل حديثه ".
كذا قال! فهو في جانب، وقول الطبراني في جانب، وصدق الله: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) [الإسراء/85] .
وقد تعقبه الحافظ في "مختصر الزوائد" (1/ 1/468/79) بقوله:
"قلت: بل هو ضعيف؛ لكن توبع ".
كذا جزم هنا بضعفه- وهو صدقة الدقيقي-. ونحوه قول الذهبي في "الكاشف ": "ضُعّف ".
وقال الحافظ في " التقريب ":
" صدوق له أوهام ". *
3048- (كانَ رجلٌ ممَّن كان قبلكم لم يعمل خيراً قطُّ؛ إلا التوحيد، فلما احتُضر قال لأهله: انظروا: إذا أنا متُّ أن يحرِّقوه حتى يدعوه حمماً، ثم اطحنوه، ثم اذروه في يوم ريح، [ثم اذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله؛ لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين] ، فلما مات فعلوا ذلك به، [فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه] ، فإذا هو [قائم] في قبضة الله،(7/105)
فقال الله عز وجل: يا ابن آدم! ما حملك على ما فعلت؟ قال: أي ربِّ! من مخافتك (وفي طريق آخر: من خشيتك وأنت أعلم) ، قال: فغفر له بها، ولم يعمل خيراً قطُّ إلا التوحيد) .
أخرجه أحمد (2/304) : ثنا أبو كامل: ثنا حماد عن ثابت عن أبي رافع
عن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم -. وغير واحد عن الحسن وابن سيرين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قلت: وهذا إسناد صحيح متصل عن أبي هريرة، رجاله ثقات رجال مسلم؛
غير أبي كامل، وهو مظفر بن مدرك الخراساني، وهو حافظ ثقة اتفاقاً.
وحماد هو ابن سلمة، وله في هذا الحديث إسنادان آخران:
أحدهما: عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله بن وائل عن عبد الله
ابن مسعود رضي الله عنه:
أن رجلاً لم يعمل من الخير شيئاً قط إلا التوحيد.. الحديث.
أخرجه أحمد (1/398) هكذا موقوفاً (1) . وهو في حكم المرفوع كما لايخفى
وكأنَّ أحمد رحمه الله أشار إلى ذلك بأن عقب عليه بإسناده إياه من طريق حماد
عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بمثله.
والآخر: عن أبي قزعة عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن رجلاً كان فيمن كان قبلكم رَغَسَهُ الله تبارك وتعالى مالاً وولداً حتى
_________
(1) وكذلك رواه أبو يعلى (5105) من طريق آخر عن ابن مسعود موقوفأ. وسنده حسن في الشواهد.(7/106)
ذهب عصر وجاء عصر، فلما حضرته الوفاة قال: أي بني! أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب. قال: فهل أنتم مطيعي؟ قالوا: نعم. قال: انظروا: إذا مت أن تحرقوني حتى تدعوني فحماً، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ففعلوا ذلك. ثم اهرسوني بالمهراس- يومئ بيده-، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ففعلوا- والله! - ذلك. ثم اذروني في البحر في يوم ريح؛ لعلي أَضِلُّ الله تبارك وتعالى. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ففعلوا - والله! - ذلك، فإذا هو في قبضة الله تبارك وتعالى، فقال: يا ابن آدم! ما حملك على ما صنعت؟ فال: أي رب! مخافتك. قال: فتلافاه الله تبارك وتعالى بها".
أخرجه أحمد (4/447و5/3) ؛ والطبراني في " المعجم الكبير" (19/427/1073)
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات.
وأقول: إن رواية حماد بن سلمة لهذا الحديث بأسانيد ثلاثة عن ثلاثة من الصحابة مما يدل على أنه كان من كبار الحفاظ؛ كما يدل على أن الحديث كان مشهوراً بين الأصحاب. ويؤكد هذا أنه جاء عن أبي هريرة من طرق أخرى، وعن صحابة آخرين.
أما الطرق عن أبي هريرة:
1- فرواه أبو الزناد عن الأعرج عنه مرفوعاً نحوه.
أخرجه مالك (1/238) ، ومن طريقه: البخاري (7506) ، ومسلم (8/97) ، والخطيب في "التاريخ " (4/389) ، وابن عبد البر في "التمهيد" (18/38) ، كلهم عن مالك به. والزيادات والطريق لمسلم.(7/107)
2- الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به.
أخرجه البخاري (3481) ، ومسلم (8/97- 98) ، والنسائي (1/ 294) ،
وا بن ماجه (4255) ، وعبد الرزاق في "المصنف " (11/283/20548) ، وأحمد (2/269) ، وابن صاعد في "زوائد الزهد" (372/1056) .
وأما الصحابة:
1 و 2- حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكر
نحوه. قال عقبة بن عمرو:
وأنا سمعته يقول ذاك، وكان نباشاً.
أخرجه البخاري (3452) ؛ وأحمد (5/395) ؛ والبيهقي في " الشعب "
(5/430/ 7160) ، وا لطبراني (17/231- 235) .
ورواه النسائي، وابن حبان (2/22/ 650) عن حذيفة وحده، وهو رواية للبخاري (6480) .
3- أبو سعيد الخدري عن النبي- صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر رجلاً فيمن سلف.. الحديث نحوه، وفيه:
"وإن يقدِرِ الله عليه يعذِّبه ".
وفيه:
"فأخذ مواثيقهم على ذلك ".
أخرجه البخاري (6481 و 7508) ، ومسلم، وابن حبان (649) ، وأحمد (3/69- 70 و 77- 78) ، وابن عبد البر (11/39) ، والطبراني (6/306) .(7/108)
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده " (2/284/1001 و 8/469/5055) من طريق أخرى ضعيفة عن أبي سعيد به مختصراً.
4- سلمان رضي الله عنه:
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (6/306/6123) عقب حديث أبي سعيد الخدري، وأحال في لفظه عليه، فقال:
"نحوه، وقال: اذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر".
وكذلك رواه البخاري (6481) في آخر حديث أبي سعيد أيضاً، ولكنه لم يذكر هذه الزيادة بتمامها، وهي ثابتة في حديث أبي هريرة- كما تقدم- من الطريق المتفق عليه، فلا ريب في صحتها.
واعلم أن قوله في حديث الترجمة: "إلا التوحيد" مع كونها صحيحة الإسناد، فقد شكك فيها الحافظ ابن عبد البر من حيث الرواية، وإن كان قد جزم بصحتها من حيث الدراية، فكأنه لم يقف على إسنادها، لأنه علقها على أبي رافع عن أبي هريرة، فقال رحمه الله (18/ 40) :
"وهذه اللفظة- إن صحت- رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل، وإن لم تصح من جهة النقل؛ فهي صحيحة من جهة المعنى، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها، لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون وهم كفار؛ لأن الله عز وجل قد أخبر أنه (لا يغفر أن يشرك به) لمن مات كافراً، وهذا ما لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة.
والدليل على أن الرجل كان مؤمناً قوله حين قيل له " لم فعلت هذا؟ " فقال:
" من خشيتك يارب! ". والخشية لاتكون إلا لمؤمن مصدق؛ بل ما تكاد تكون إلا(7/109)
لمؤمن عالم؛ كما قال الله عز وجل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ، قالوا: كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه، ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به. وهذا واضح لمن فهم وألهم رشده.
وأما قوله: "لئن قدر الله علي "؛ فقد اختلف العلماء في معناه؛ فقال منهم قائلون: هذا رجل جهل بعض صفات الله عز وجل، وهي القدرة، فلم يعلم أن الله على كل ما يشاء قدير، قالوا: ومن جهل صفة من صفات الله عزوجل، وآمن بسائر صفاته وعرفها؛ لم يكن بجهله بعض صفات الله كافراً. قالوا: وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله. وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين.
وقال آخرون: أراد بقوله: "لئن قدر الله علي " من القدر الذي هو القضاء، وليس من باب القدرة والاستطاعة في شيء. قالوا: وهو مثل قول الله عز وجل في ذي النون: (إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه) .
وللعلماء في تأويل هذه اللفظة قولان:
أحدهما: أنها من التقدير والقضاء.
والآخر: أنها من التقتير والتضييق.
وكل ما قاله العلماء في تأويل هذه الآية فهو جائز في تأويل هذا الحديث في قوله: "لئن قدر الله علي "، فأحد الوجهين تقديره: كأن الرجل قال: لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه؛ ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين غيري.
والوجه الآخر: تقديره: والله! لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك. ثم أمر بأن يحرق بعد موته من إفراط خوفه.(7/110)
وأما جهل هذا الرجل بصفة من صفات الله في علمه وقدره؛ فليس ذلك بمخرجه من الإيمان، ألا ترى أن عمر بن الخطاب وعمران بن حصين وجماعة من الصحابة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القدر. ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، أو يكونوا حين سؤالهم عنه غير مؤمنين.
وروى الليث عن أبي قبيل عن شُفَيٍّ الأصبحي عن عبد الله بن عمرو بن العاص- فذكر حديثاً في القدر، وفيه: فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأي شيء نعمل إن كان الأمر قد فرغ منه؟ (1) -، فهؤلاء أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وهم العلماء الفضلاء- سألوا عن القدر سؤال متعلم جاهل؛ لا سؤال متعنت معاند، فعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جهلوا من ذلك، ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه، ولو كان لا يسعهم جهله وقتاً من الأوقات؟ لعلمهم ذلك مع الشهادة بالإيمان، وأخذ ذلك عليهم في حين إسلامهم، ولجعله عموداً سادساً للإسلام، فتدبر واستعن بالله.
فهذا الذي حضرني على ما فهمته من الأصول ووعيته، وقد أديت اجتهادي في تأويل حديث هذا الباب كله ولم آلُ، وما أبرئ نفسي، وفوق كل ذي علم عليم. وبالله التوفيق ".
هذا كله كلام الحافظ ابن عبد البر، وهو كلام قوي متين يدل على أنه كان إماماً في العلم والمعرفة بأصول الشريعة وفروعها، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
_________
(1) رواه أحمد والترمذي وصححه، وهو مخرج في "الصحيحة " (848) ، و"المشكاة" (96) ، وحديث عمران الذي أشار إليه متفق عليه، وهو مخرج في "ظلال الجنة" (412 و 413) ، وفيه حديث عمر (170) .(7/111)
وخلاصته؛ أن الرجل النباش كان مؤمناً موحداً، وأن أمره أولاده بحرقه ...
إنما كان إما لجهله بقدرة الله تعالى على إعادته- وهذا ما أستبعده أنا- أو لفرط خوفه من عذاب ربه، فغطى الخوف على فهمه؛ كما قال ابن الملقن فيما ذكره الحافظ (11/314) ، وهو الذي يترجح عندي من مجموع روايات قصته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسواء كان هذا أو ذاك؛ فمن المقطوع به أن الرجل لم يصدر منه ما ينافي توحيده، ويخرج به من الإيمان إلى الكفر؛ لأنه لو كان شيء من ذلك لما غفر الله له؛ كما تقدم تحقيقه من ابن عبد البر.
ومن ذلك يتبين بوضوح أنه ليس كل من وقع في الكفر من المؤمنين وقع الكفر عليه وأحاط به. ومن الأمثلة على ذلك: الرجل الذي كان قد ضلت راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فلما وجدها قال من شدة فرحه:
"اللهم! أنت عبدي وأنا ربك " (1) !
وفي ذلك كله رد قوي جداً على فئتين من الشباب المغرورين بما عندهم من علم ضحل:
الفئة الأولى: الذين يطلقون القول بأن الجهل ليس بعذر مطلقا؛ حتى ألف بعض المعاصرين منهم رسالة في ذلك! والصواب الذي تقتضيه الأصول
_________
(1) رواه مسلم (8/93) ، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (5/87) وصححه من حديث أنس، وعزاه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (4/5) لمسلم من حديث النعمان بن بشير أيضاً بزيادة " اللهم! أنت.. "، وهو وهم؛ فإنه عنده دون الزيادة، وكذلك أخرجه أحمد (4/273 و275) عن النعمان، والبخاري، ومسلم أيضاً من طريق أخرى عن أنس مختصراً، وأخرجاه من حديث ابن مسعود مطولاً؛ غير أن البخاري أوقفه. ومسلم، وابن حبان (2/9/ 620 - الإحسان) ، وأحمد (2/316 و500) عن أبي هريرة مختصراً نحو روايتهما عن أنس.(7/112)
والنصوص التفصيل؛ فمن كان من المسلمين يعيش في جو إسلامي علمي مصفى، وجهل من الأحكام ما كان منها معلوماً من الدين بالضرورة- كما يقول الفقهاء- فهذا لا يكون معذوراً؛ لأنه بلغته الدعوة وأقيمت الحجة. وأما من كان في مجتمع كافر لم تبلغه الدعوة، أو بلغته وأسلم؛ ولكن خفي عليه بعض تلك الأحكام لحداثة عهده بالإسلام، أو لعدم وجود من يبلغه ذلك من أهل العلم بالكتاب والسنة؛ فمثل هذا يكون معذوراً. ومثله- عندي- أولئك الذين يعيشون في بعض البلاد الإسلامية التي انتشر فيها الشرك والبدعة والخرافة، وغلب عليها الجهل، ولم يوجد فيهم عالم يبين لهم ما هم فيه من الضلال، أو وجد ولكن بعضهم لم يسمع بدعوته وإنذاره؛ فهؤلاء أيضاً معذورون بجامع اشتراكهم مع الأولين في عدم بلوغ دعوة الحق إليهم؛ لقوله تعالى: (لأنذركم به ومن بلغ) وقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ، ونحو ذلك من الأدلة التي تفرع منها تبني العلماء عدم مؤاخذة أهل الفترة؛ سواء كانوا أفراداً أو قبائل أو شعوباً؛ لاشتراكهم في العلة؛ كما هو ظاهر لا يخفى على أهل العلم والنُّهى.
ومن هنا يتجلى لكل مسلم غيور على الإسلام والمسلمين عظم المسؤولية الملقاة على أكتاف الأحزاب والجماعات الإسلامية الذين نصبوا أنفسهم للدعوة للإسلام، ثم هم مع ذلك يدعون المسلمين على جهلهم وغفلتهم عن الفهم الصحيح للإسلام، ولسان حالهم يقول- كما قال لي بعض الجهلة بهذه المناسبة-: "دعوا الناس في غفلاتهم "! بل وزعم أنه حديث شريف!! أو يقولون- كما تقول العوام في بعض البلاد-: "كل مين على دينه، الله يعينه "! وهذا خطأ جسيم لو كانوا يعلمون، ولكن صدق من قال: "فاقد الشيء لا يعطيه "!(7/113)
والفئة الثانية: نابتة نبتت في هذا العصر؛ لم يؤتوا من العلم الشرعي إلا نزراً يسيراً، وبخاصة ما كان منه متعلقاً بالأصول الفقهية، والقواعد العلمية المستقاة من الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، ومع ذلك؛ اغتروا بعلمهم فانطلقوا يبدِّعون كبار العلماء والفقهاء، وربما كفروهم لسوء فهم أو زلة وقعت منهم، لا يرقبون فيهم (إلاً ولا ذمة) ، فلم يشفع عندهم ما عرفوا به عند كافة العلماء من الإيمان والصلاح والعلم، وما ذلك إلا لجهلهم بحقيقة الكفر الذي يخرج به صاحبه من الإيمان؛ ألا وهو الجحد والإنكار لما بلغه من الحجة والعلم؛ كما قال تعالى في قوم فرعون: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) [النمل /13-14] . وقال في الذين كفروا بالقرآن: (ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاءً بما كانوا بآياتنا يجحدون) [فصلت/28] ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه (16/ 434- مجموع الفتاوى) :
" لا يجوز تكفير كل من خالف السنة؛ فليس كل مخطئ كافراً لا سيما في المسائل التي كثر فيها نزاع الأمة ".
يشير إلى مثل مسألة كلام الله وأنه غير مخلوق، ورؤية الله في الآخرة، واستواء الله على عرشه، وعلوه على خلقه؛ فإن الإيمان بذلك واجب، وجحدها كفر، ولكن لا يجوز تكفير من تأولها من المعتزلة والخوارج والأشاعرة بشبهة وقعت لهم؛ إلا من أقيمت عليه الحجة وعاند.
وهذا هو المثال بين أيدينا: الرجل النباش؟ فإنه مع شكه في قدرة الله على بعثه غفر الله له؛ لأنه لم يكن جاحداً معانداً؛ بل كان مؤمناً بالله وبالبعث على الجملة دون تفصيل لجهله. قال شيخ الإسلام بعد أن ساق الحديث برواية(7/114)
" الصحيح " وذكر أنه حديث متواتر (12/491) :
" وهنا أصلان عظيمان:
أحدهما: متعلق بالله تعالى؛ وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير.
والثاني: متعلق باليوم الآخر؛ وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله. ومع هذا فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملاً صالحاً- وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه-؛ غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ".
ولهذا؛ فإني أنصح أولئك الشباب أن يتورعوا عن تبديع العلماء وتكفيرهم، وأن يستمروا في طلب العلم حتى ينبغوا فيه، وأن لا يغتروا بأنفسهم، ويعرفوا حق العلماء وأسبقيتهم فيه، وبخاصة من كان منهم على منهج السلف الصالح كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وأَلْفِتُ نظرهم إلى " مجموع الفتاوى " فإنه " كُنَيْف مُلِىءَ علماً "، وبخاصة إلى فصول خاصة في هذه المسالة الهامة (التكفير) ، حيث فرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، وقال في أمثال أولئك الشباب:
"ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين؛ إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع. يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه ".
يعني الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق. ومن قال: إن الله لا يرى في
الآخرة؛ وأمثالهم.(7/115)
فأقول: وملاحظة هذا الفرق هو الفيصل في هذا الموضوع الهام، ولذلك فإني أحث الشباب على قراءته وتفهمه من "المجموع " (12/464- 501) الذي ختمه بقوله:
"وإذا عُرف هذا؛ فتكفير (المعين) من هؤلاء الجهال وأمثالهم- بحيث يحكم عليه أنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه؛ إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت مقالتهم لا ريب أنها كفر. (يعني: الدعاة إلى البدعة) .
وهكذا الكلام في تكفير جميع (المعينين) ؛ مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض. فليس لأحد أن يكفر أحدآ من المسلمين- وإن أخطأ وغلط- حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ".
هذا؛ وفي الحديث دلالة قوية على أن الموحد لا يخلد في النار؛ مهما كان فعله مخالفاً لما يستلزمه الإيمان ويوجبه من الأعمال؛ كالصلاة ونحوها من الأركان العملية، وإن مما يؤكد ذلك ما تواتر في أحاديث الشفاعة؛ أن الله يأمر الشافعين بأن يخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة من الإيمان. ويؤكد ذلك حديث أبي سعيد الخدري أن الله تبارك وتعالى يخرج من النار ناساً لم يعملوا خيراً قط. ويأتي تخريجه وبيان دلالته على ذلك، وأنه من الأدلة الصريحة الصحيحة على أن تارك الصلاة المؤمن بوجوبها يخرج من النار أيضاً ولا يخلد فيها، فانظره بالرقم (3054) . *(7/116)
3049- (رُدُّوهُ على صاحبِهِ (يعني: التمر الريان) ، فَبِيعُوهُ (يعني: التمر الرديء) بعينٍ، ثم ابتاعوا التمر) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط " (1/75/2/1393) : حدثنا أحمد
قال: نا محمد بن الحسن بن تسنيم قال: نا روح بن عبادة؛ قال: نا أبو الفضل
كثير بن يسار قال: نا ثابت البناني قال: نا أنس بن ماللك:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بتمر ريان؛ فقال:
" أنى لكم هذا؟ "
فقالوا: كان عندنا تمر بعل؛ فبعنا صاعين بصاع؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...
فذكره.
وأخرجه البزار في "مسنده " (2/108/1317) : حدثنا محمد بن معمر: ثنا
روح بن عبادة به، دون قوله: "بعين، ثم.. ". وقال الطبراني:
"لم يروه عن ثابت إلا كثير أبو الفضل، تفرد به روح ".
قلت: هو ثقة من رجال الشيخين، وكذا ثابت.
وأما كثير بن يسار أبو الفضل، فقد روى عنه جمع من الثقات؛ كما في "تهذيب الحافظ "، وذكره ابن حبان في "الثقات " (5/ 331 و 7/ 350) ، فالسند صحيح.
ثم رأيت الحديث قد أخرجه البخاري في ترجمة كثير هذا من "التاريخ " (4/1/214) من طريق عبد الله بن أبي الأسود: نا روح بن عبادة قال: ثنا كثير بن يسار أبو الفضل- قال عبد الله: وأثنى عليه سعيد بن عامر خيراً- قال: أخبرنا
ثابت به.(7/117)
قلت: وهذه فائدة من عبد الله- وهو ابن محمد بن أبي الأسود البصري، من شيوخ البخاري-، وهو ثقة حافظ.
وللحديث شاهد من حديث أبي سعيد الخدري مثله.
أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني " (2/234) ، وأحمد (3/45) من طريق سعيد بن المسيب عنه.
وإسناده صحيح.
وأخرجه مسلم (5/ 48) ، والبيهقي (5/296) من طريق أبي نضرة عنه نحوه.
وأخرجه الشيخان وغيرهما من طريق أخرى عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد وأبي هريرة معاً نحوه أتم منه؛ وهو مخرج في " إرواء الغليل " (5/190/1340) ؛ و" أحاديث البيوع ".
(تنبيهات) :
الأول: (أحمد) شيخ الطبراني الراوي عن (محمد بن الحسن بن تسنيم) هر (أحمد بن محمد بن صدقة أبو بكر البغدادي) ، وهو ثقة حافظ، وشيخه (محمد ابن الحسن بن تسنيم) صدوق، ولذلك حسن إسناده الهيثمي كما يأتي. وتداخل اسمه في اسم شيخه فصار ابناً له في مصورة "مجمع البحرين " هكذا: (أحمد بن محمد بن الحسن بن تسنيم) ! ولم يتنبه لذلك محققه، فوقع كذلك في مطبوعته (4/20/2027) ! وترتب عليه أنه لم يجد ترجمته، ولا وجد الحديث في " المعجم الأوسط "!!
وأيضاً فقد وقع في تعليقه هو عليه تحريف وسقط لما ترجم لـ (كثير بن يسار) ؛(7/118)
فقال: "وقال ابن حجر: أثنى عليه كثيراً "!
الثاني: أورد الحديث الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/113) برواية البزار المختصرة، وقال عقبها:
"رواه الطبراني في "الأوسط "؛ إلا أنه قال: "ردوه على صاحبه فبيعوه بعين،
ثم ابتاعوا التمر". وإسناده حسن ".
فسقط من الطابع ذكر البزار، فالصواب:
"رواه [البزار، و] الطبراني.. ".
ولم يتنبه لهذا السقط الدكتور الطحان في تعليقه على "المعجم الأوسط " (2/231) ، فنقله كما رآه في "المجمع " دون أي تعليق عليه! وكذلك فعل من قبله الشيخ الأعظمي في تعليقه على "زوائد البزار" للهيثمي، ولكنه عقب عليه- ضِغْثآ على إبالة- فقال (2/108) :
"لم يعزه الهيثمي للبزار وعنده حرفاً بحرف "!
وهذا مما يدل على بالغ غفلته، وإلا لما قال: ".. حرفاً بحرف " ورواية البزار أمامه مختصرة عن رواية الطبراني، وقد ذكرهما الهيثمي معاً؛ إلا أن الأولى لم تقع معزوة للبزار خطأ مطبعياً، فلو أنه تنبه لصنيع الهيثمي هذا لنجا من الوقوع في هذين الخطأين: "حرفاً بحرف "، و"لم يعزه الهيثمي "!!
ثالثاً: سقط من "كشف الأستار" قول البزار عقب الحديث:
"لا نعلم رواه عن ثابت إلا كثير".
وهو ثابت في "مختصر الزوائد" للحافظ (1/517) . *(7/119)
كراهةُ النُّخاعة في المسجد وتَخْلِيقُهًُ
3050- (ما أحسن هذا!)
أخرجه النسائي (1/119) ، وابن ماجه (762) من طريق عائذ بن حبيب
عن حميد عن أنس:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم - رأى نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمر وجهه، فجاءته امرأة من الأنصار فحكتها، وجعلت مكانها خلوقاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وحميد- وهو الطويل- وإن كان رمي بالتدليس؛ فقد ذكروا أن ما يرويه عن أنس بالعنعنة فإنما تلقاه عنه بواسطة ثابت البناني الثقة. *
3051- (حَضْرَمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ بني الحارثِ) .
أخرجه ابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص 124- 125) من طريق ابن لهيعة عن عتبة بن أبي حكيم عن ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره
قلت: وهذا إسناد ضغيف مرسل؛ ولكنه قد جاء موصولاً من حديث عمرو ابن عبسة مرفوعاً به في حديث له في مدح بعض القبائل وذم أخرى.
أخرجه أحمد (4/387) : ثنا أبو المغيرة: ثنا صفوان بن عمرو: حدثني شريح
ابن عبيد عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي عن عمرو بن عبسة السلمي. وأخرجه
الطبراني في " مسند الشاميين " (ص193)
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات.(7/120)
وقد تابعه معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي بتمامه.
أخرجه الحاكم (4/ 81) وقال:
"غريب المتن، صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي.
ثم رواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن رجل عن عمرو بن عبسة به.
ورجاله ثقات؛ غير الرجل الذي لم يسم.
والحديث قال الهيثمي (5/43) :
"رواه أحمد متصلاً ومرسلاً والطبراني، ورجال الجميع ثقات ".
ثم ساقه بتمامه وفيه موضع الشاهد منه، ثم قال:
"رواه الطبراني عن شيخه بكر بن سهل الدمياطي؛ قال الذهبي: "حمل عنه الناس وهو مقارب الحال "، وقال النسائي: "ضعيف ". وبقية رجاله رجال "الصحيح "، وقد رواه بنحوه بإسناد جيد عن شيخين آخرين ".
(تنبيه هام) : وقع حديث الترجمة سهواً في "ضعيف الجامع " (7225) ، وهو من حق "صحيح الجامع "، فلينقل إليه، وأستغفر الله وأتوب إليه. *
3052- (يُؤتَى بالرجل يوم القيامة فيُقالُ: اعرِضوا عليه صغارَ ذُنُوبِهِ. فتُعرضُ عليه، ويُخَبَّأُ عنه كبارُها، فيُقالُ: عملت يوم كذا وكذا؛ كذا وكذا، وهو مُقرٌّ لا يُنكرُ، وهو مُشفِقٌ من الكبارِ، فيُقالُ: أعطُوهُ مكان كلِّ سيئةٍ عَمِلَها حسنةً. قال: فيقول: إنَّ لي ذنوباً ما أراها هَهُنا.(7/121)
قال أبو ذرٍّ: فلقد رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتى بَدَتْ نَواجِذُهُ) .
أخرجه وكيع في " الزهد " (2/651/367) : حدثنا الأعمش عن المعرور بن
سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره
ومن طريق وكيع أخرجه أحمد (5/157) ، وهناد في "الزهد" (2/155/ 211) ،
وأبو عوانة في "صحيحه " (1/170) ، ومسلم أيضاً (1/122) ، إلا أنه لم يسق لفظه، وإنما أحال به على لفظ عبد الله بن نمير الآتي، وفيه زيادة في أوله.
وشذ الحسين بن حريث؛ فقال: حدثنا وكيع به، وزاد الزيادة بلفظ:
"إني لأعلم آخر رجل يدخل الجنة، وآخر رجل يخرج من النار؛ يؤتى بالرجل.. " الحديث.
أخرجه الترمذي في "الشمائل " (2/ 20 بشرح الشيخ القاري) ، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (15/192- 193) .
والحسين بن حريث ثقة من رجال الشيخين، لكن النفس لم تطمئن لمخالفته لرواية الجماعة عن وكيع. أقول هذا بالنسبة لروايته إياها عن وكيع، وإلا فقد رواه غيره عن الأعمش.
أولاً: عبد الله بن نمير: حدثنا الأعمش به، ولفظه:
"إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها؛ رجل يؤتى به.. " الحديث.
أخرجه مسلم، وأبو عوانة، والبيهقي في "السنن " (10/190) ، وفي "الأسماء والصفات " (ص 54) .(7/122)
ثانياً: أبو معاوية محمد بن خازم: ثنا الأعمش به؛ إلا أنه قال:
".. يؤتى برجل.. " الحديث.
أخرجه أحمد (5/ 170) ، ومسلم أيضاً- ولم يسق لفظه-، والترمذي في "السنن " (8/ 261/2599) ، وابن حبان (9/233/ 7331- الإحسان) ، وابن جرير في "تفسيره " (19/ 30) ؛ إلا أنه قال:
".. قال: يؤتى برجل.. ".
وقال الترمذي:
" حديث حسن صحيح "
ثالثاً: أبو يحيى الحماني قال: ثنا الأعمش به مثل لفظ ابن نمير. أخرجه أبو عوانة.
واسم أبي يحيى عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، وهو صدوق يخطئ من رجال الشيخين.
فقد اختلف على الأعمش في متن هذا الحديث؛ فابن نمير والحماني قالا:
".... آخر أهل النار خروجاً منها رجل يؤتى.. ".
وظاهره أن الرجل الذي يؤتى به هو الأول الذي ذكر قبله، وهذا مشكل جداً كما سيأتي بيانه.
وقال أبو معاوية:
".. يؤتى برجل ".(7/123)
فظاهره أنه غير الرجل الأول؛ وأكد ذلك بقوله في رواية ابن جرير:
".... قال: يؤتى برجل ".
فهذا صريح في أنه رجل آخر غير الأول؛ لأنه استأنف الحديث عنه، وفصله
عن الذي قبله، وأكد ذلك وكيع في حديث الترجمة؛ فإنه ابتدأ الحديث عنه دون الرجل الأول.
وأما أن رواية ابن نمير والحماني مشكلة؛ فمما لا يخفى على المتأمل؛ فإنها تدل على أن الرجل مع كونه قد بدلت سيئاته حسنات؛ فهو آخر من يخرج من النار، وآخر من يدخل الجنة! وهذا مما لا يستقيم في العقل.
وقد تكلم العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "طريق الهجرتين " (ص 247- 250) ، ورد على من احتج بالحديث (حديث مسلم) أن التبديل المذكور في آية الفرقان: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) ، إنما هو يوم القيامة، ورجح أن ذلك في الدنيا بتحول التائب من أعماله القبيحة إلى أضدادها وهي حسنات، فأصاب في ذلك وأجاد، ولكنه لم يتعرض لإزالة الإشكال؛ بل إنه قال في صدد الرد المذكور (ص 248) :
"وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات قد عذب عليها في النار؛ حتى كان آخر أهلها خروجاً منها، فهذا قد عوقب على سيئاته، فزال أثرها بالعقوبة، فبدل مكان كل سيئة بحسنة"!
فهذا إشكال جديد في كلامه، فإنه يؤكد أن التبديل كان بعد العقوبة!!
وقد أكد الإشكال ابن جرير رحمه الله؛ فإنه قال بعد أن رجح تفسير الآية بما تقدم عن ابن القيم:(7/124)
" وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القبح، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة إلى خلاف ما كانت عليه؛ إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى، فيجب إن فعل ذلك كذلك أن يصير شرك الكافر الذي كان شركاً في الكفر بعينه إيماناً يوم القيامة بالإسلام، ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة، وذلك ما لا يقوله ذو حجى ".
وقد أشار الشيخ علي القاري رحمه الله إلى الإشكال في "المرقاة" (5/272) ، وأجاب عنه بقوله:
"ويمكن أن يقال: فعل بعد التوبة ذنوباً استحق بها العقاب (!) وإما وقع التبديل له من باب الفضل من رب الأرباب، والثاني أظهر"!
قلت: لو كان كذلك لم يعذب ولم يكن أخر من يخرج من النار! وكأنه أخذ الجواب الثاني من ترجمة ابن حبان للحديث، فإنه قال:
"ذكر إبدال سيئات من أحب من عباده في القيامة بالحسنات ".
فأقول: وهذا إنما يصح على رواية أبي معاوية التي فصلت، وجعلت الرجل الذي بدلت سيئاته حسنات غير الرجل الأول الذي هو آخر من يخرج من النار. وبذلك يزول الإشكال من أصله، والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(تنبيه) : زاد أبو عوانة في رواية في آخر الحديث:
" ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) ".
وإسناده هكذا: حدثنا ابن أبي رجاء المصيصي قال: ثنا وكيع بسنده المتقدم.(7/125)
وابن أبي رجاء هذا اسمه أحمد بن محمد بن عبيد الله الطرسوسي، وقد
وثقه النسائي؛ وقال مرة:
" لا بأس به "
قلت: فمثله تقبل زيادته؛ لولا أنه خالف كل الذين رووه عن وكيع- وعلى رأسهم الإمام أحمد كما تقدم- " فإنهم لم يذكروها، فكانت زيادة شاذة إسناداً ومنكرة متناً؛ لمخالفتها للمعنى الصحيح للآية أولاً؛ ولأنها تؤكد الإشكال ثانياً. والله أعلم. *
3053- (لَيَتَمَنَّيَنَّ أقوامٌ لو أَكثَرُوا مِنَ السَّيِّئاتِ. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: الذِينَ بَدَّلَ اللهُ سَيِّئاتِهم حَسَناتٍ) .
أخرجه الحاكم (4/252) من طريق الفضل بن موسى عن أبي العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. وقال:
"أبو العنبس هذا: سعيد بن كثير، وإسناده صحيح ".
ووافقه الذهبي. وهو كما قالا، وتقدم لسعيد وأبيه حديث آخر برقم (3011) ، وصححاه أيضاً. وكثير هو ابن عبيد التيمي مولى أبي بكر الصديق، رضيع عائشة، وقد روى عنه جمع من الثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات "، فهو صدوق، ولم يعرفه ابن القيم ولا عرف ابنه سعيداً؛ فقد ساق الحديث في "طريق الهجرتين " (ص 248) من طريق أبي حفص المستملي عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة: حدثنا الفضل بن موسى القطيعي به. ثم قال:
"لا يثبت مثله، ومن أبو العنبس؟ ومن أبوه؟! ".(7/126)
قلت: وهذا منه عجيب! فإنهما من رجال البخاري في "الأدب المفرد" ورجال أبي داود، والأول وثقه جمع، منهم ابن معين، والآخر عرفت من وثقه وأنه صدوق.
والحديث عزاه في "الدر المنثور" (5/79) لابن أبي حاتم وابن مردويه.
وفيه إشارة إلى فضل الله عز وجل ورحمته بمن يشاء من عباده الذين يبدل يوم القيامة سيئاتهم حسنات؛ كما في الحديث الذي قبله. والله أعلم. *
حديثُ الشفاعة وأنَّها تشملُ تاركي الصلاةِ منَ المسلمين
3054- (إذا خَلصَ المؤمنونَ من النار وأَمِنُوا؛ فـ[والذي نفسي بيده!] ما مُجَادَلَةُ أحَدِكُم لصاحبِهِ في الحقِّ يكون له في الدنيا بأشدِّ من مجادلة المؤمنين لربِّهم في إخوانِهِمُ الذين أُدْخِلُوا النار. قال: يقولون: ربَّنا:! إخوانُنَا كانوا يصلُّون معنا؛ ويصومون , معنا؛ ويحُجُّون معنا؛ [ويُجاهدون معنا] ؛ فأدخلتَهم النار. قال: فيقولُ: اذهَبُوا فأخرِجُوا من عَرَفْتُم منهم؛ فيأتُونهم؛ فَيَعْرفونَهُم بِصُورِهم؛ لا تأكلُ النار صُوَرَهُم؛ [لم تَغْشَ الوَجْهَ] ؛ فَمِنْهم من أَخَذتْهُ النارُ إلى أنصافِ ساقَيْهِ؛ ومنهم من أخذته إلى كَعْبَيْه (1) [فَيُخرِجُونَ مِنْها بشراً كثيراً] ؛ فيقولون: ربَّنا! قد أَخْرَجنا مَنْ أَمَرتنا. قال: ثم [يَعُودون فيتكلمون فـ] يقولُ: أَخْرِجُوا من كان في قلبهِ مِثقالُ دينارٍ من الإيمانِ. [فيُخرِجُون]
_________
(1) الأصل: ((كفيه)) وعلى الهامش: ((في ((مسلم)) : ركبتيه)) .
قلت: والتصويب من ((المسند)) ؛ و ((النسائي)) ؛و ((ابن ماجة)) . وفي ((البخاري)) : ((قدميه)) وفي رواية مسلم سويد بن سعيد؛ وهو متكلم فيه.(7/127)
خلقاً كثيراً] ، ثم [يقولون: ربَّنا! لم نَذَرْ فيها أحداً ممن أَمَرتَنا. ثم
يقول: ارجعوا، فـ] من كان في قلبه وزنُ نصف دينارٍ [فأًخْرِجُوهُ. فيُخرِجونَ خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربَّنا! لم نَذَرْ فيها ممن أمرتنا ... ] ؛
حتى يقول: أخرِجُوا من كان في قلبه مثقال ذَرَّةٍ. [فيخرجون خلقاً
كثيراً] ، قال أبو سعيد: فمن لم يُصّدِّقْ بهذا الحديث فليَقْرَأْ هذه
الآية: (إن الله لايظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من
لَدُنْهُ أجراً عظيماً) [النساء /40] ؛ قال: فيقولون: ربنا! قد أَخْرَجْنا من
أمرتنا؛ فلم يَبْقَ في النار أحدٌ فيه خيرٌ. قال: ثم يقول الله: شفعَتِ
الملائكة؛ وشَفَعَتِ الأنبياء؛ وشَفَعَ المؤمنون؛ وبَقِيَ أرحم الراحمين
قال: فَيَقْبضُ قبضةً من النار- أو قال: قَبْضَتَينِ - ناساً لم يعملوا خيراً
قََطُّ؛ قد احتَرَقُوا حتى صاروا حُمَماً. قال: فَيُؤْتَى بهم إلى ماء يُقالُ
له: (الحياةُ) ؛ فَيُصَبُّ عليهم؛ فَيَنْبُتُونَ كما تَنْبُتُ الحبَّةُ في حَمِيلِ
السَّيلِ؛ [قد رَأَيْتُمُوها إلى جانب الصخرة؛ وإلى جانب الشجرة؛ فما
كان إلى الشمس منها كان أخضر؛ وما كان منها إلى الظلِّ كان
أبيض] ؛ قال: فَيَخْرُجُونَ من أجسادِهِم مِثلَ اللؤلؤِ؛ وفي أعناقهم
الخاتمُ؛ (وفي رواية: الخواتِمُ) : عُتَقاءُ الله. قال: فيُقالُ لَهُمُ: ادخلوا
الجنة؛ فما تمنَّيتمُ وَرَأيتُم من شيءٍ فهو لكُم [ومِثلُهُ مَعَهُ] . [فيقول أهل
الجنة: هؤلاء عُتقاءُ الرحمن أَدْخَلَهُمُ الجنة بغيرِ عملٍ عَمِلُوهُ؛ ولا خيرٍ
َقدَّمُوهُ] . قال: فيقولون: ربَّنا! أَعَطَيْتَنا ما لم تُعطِ أحداً من العالمين.
قال: فيقول: فإن لكم عندي أفْضَلَ منه. فيقولون: ربَّنا! وما أَفْضَلُ(7/128)
من ذلكَ؟ [قال:] فيقولُ: رِضائي عَنْكُم؛ فلا أَسْخَطُ عليكم أبداً) .
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف " (11/409- 411) : أخبرنا معمر عن زيد
ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (3/ 94) ، والنسائي (2/ 270) ، وابن
ماجة (رقم 60) ، والترمذي (2598) - مختصراً-، وابن خزيمة في " التوحيد "
(ص 184و201و212) ؛ وابن نصر المروزي في (تعظيم قدرالصلاة رقم: 276)
وتابعه محمد بن ثور عن معمر به؛ لم يسق لفظه؛ وإنما قال: بنحوه. يعني:
حديث هشام بن سعد الآتي تخريجه.
أخرجه أبوعوانة.
وتابعه سعيد بن هلال عن زيد بن أسلم به أتم منه؛ وأوله:
" هل تضارُّون في رؤية الشمس والقمر.." الحديث بطوله.
أخرجه البخاري (7439) ، ومسلم (1/114- 117) ، وابن خزيمة أيضاً (ص201) ؛ وابن حبان (7333- الإحسان) .
وحفص بن ميسرة عن زيد
أخرجه مسلم (1/114- 117) ، وكذا البخاري (4581) ؛ لكنه لم يسقه بتمامه؛ وكذا أبو عوانة (1/168- 169) .
وهشام بن سعد عنه
أخرجه أبو عوانة (1/181-183) بتمامه؛ وابن خزيمة (ص 200) ؛والحاكم(7/129)
(4/582- 584) وصححه، وكذا مسلم (1/117) ؛ إلا أنه لم يسق لفظه، وإنما أحال به على لفظ حديث حفص بن ميسرة نحوه.
وتابع عطاء (1) : سليمان بن عمرو بن عبيد العتواري- أحد بني ليث، وكان في حجر أبي سعيد- قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره نحوه مختصراً، وفيه الزيادة الثالثة.
أخرجه أحمد (3/ 11- 12) ، وابن خزيمة (ص 211) ، وابن أبي شيبة في "المصنف " (13/176/16039) ، وعنه ابن ماجه (4280) ، وابن جرير في "التفسير" (16/85) ، ويحيى بن صاعد في "زوائد الزهد" (ص 448/1268) ، والحا كم (4/ 585) وقال:
"صحيح الإسناد على شرط مسلم "! وبيض له الذهبي، وإنما هو حسن فقط؛ لأن فيه محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث.
أقول- بعد تخريج الحديث هذا التخريج الذي قد لا تراه في مكان آخر، وبيان أنه متفق عليه بين الشيخين وغيرهما من أهل" الصحاح " و" السنن" و" المسانيد"-:
فيه فوائد جمة عظيمة؛ منها شفاعة المؤمنين الصالحين في إخوانهم المصلين الذين أدخلوا النار بذنوبهم، ثم في غيرهم ممن هم دونهم على اختلاف قوة إيمانهم.
ثم يتفضل الله تبارك وتعالى على من بقي في النار من المؤمنين، فيخرجهم
من النار بغير عمل عملوه؛ ولا خير قدموه. ولقد توهم بعضهم أن المراد بالخير
المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار! قال الحافظ في الفتح (13/429) :
_________
(1) ووقع في رسالتي، حكم تارك الصلاة" (ص 31- المطبوعة) : ((وتابع زيداً)) وهو سهو وسبقُ قَلَم.(7/130)
"ورد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين؛ كما
تدل عليه بقية الأحاديث ".
قلت: منها قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الطويل في الشفاعة أيضاً:
"فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله ".
متفق عليه، وهو مخرج في "ظلال الجنة" (2/296/ رقم: 828) .
وفي طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه:
".. وفرغ الله من حساب الناس، وأدخل من بقي من أمتي النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز وجل لا تشركون بالله شيئاً؟ فيقول الجبار عز وجل: فبعزتي لأعتقنهم من النار. فيرسل إليهم فيخرجون وقد امتحشوا، فيدخلون في نهر الحياة، فينبتون.. " الحديث.
أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، وهو مخرج في "الظلال " تحت الحديث (844) ، وله فيه شواهد (842- 843) ، وفي "الفتح " (11/455) شواهد أخرى. وفي الحديث رد على استنباط ابن أبي جمرة من قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه:
"لم تغش الوجه "، ونحوه الحديث الآتي بعده: "إلا دارات الوجوه ": أن من
كان مسلماً ولكنه كان لايصلي لايخرج؛ إذ لا علامة له! ولذلك تعقبه الحافظ(7/131)
بقوله (11/457) :
" لكن يحمل على أنه يخرج في القبضة؛ لعموم قوله: " لم يعملوا خيراً قط "؛
وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في (التوحيد) ". يعني هذا.
وقد فات الحافظ رحمه الله أن في الحديث نَفْسِهِ تعقباً على ابن أبي جمرة
من وجه آخر؛ وهو أن المؤمنين كما شفعهم الله في إخوانهم المصلين والصائمين وغيرهم في المرة الأولى، فأخرجوهم من النار بالعلامة، فلما شُفِّعوا في المرات الأخرى، وأخرجوا بشراً كثيراً؛ لم يكن فيهم مصلون بداهة، وإنما فيهم من الخير كل حسب إيمانه. وهذا ظاهر جداً لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى.
وعلى ذلك؛ فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة- إذا مات مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله- لا يخلد في النار مع المشركين، ففيه دليل قوي جداً أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء/48؛116] ، وقد روى الإمام أحمد في "مسنده " (6/240) حديثاً صريحاً في هذا من رواية عائشة رضي الله عنها مرفوعاً بلفظ:
" الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة.. " الحديث، وفيه:
" فأما الديوان الذي لا يغفره الله؛ فالشرك بالله، قال الله عز وجل: (ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) [المائدة/72]
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً؛ فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه؛
من صوم يوم تركه؛ أو صلاة تركها؛ فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء.." الحديث. وقد صححه الحاكم (4/576) ، وهذا وإن كان غير مُسَلْمٍ عندي - لما بينته في "تخريج شرح الطحاوية" (رقم: 384) -؛ فإنه يشهد له هذا الحديث الصحيح: حديث الترجمة. فتنبه.
إذا عرفت ما سلف يا أخي المسلم! فإن عجبي حقاً لا يكاد ينتهي من إغفال(7/132)
جماهير المؤلفين الذين توسعوا في الكتابة في هذه المسألة الهامة؛ ألا وهي: هل يكفر تارك الصلاة كسلاً أم لا؟ لقد غفلوا جميعاً- فيما اطلعت- عن إيراد هذا الحديث الصحيح مع اتفاق الشيخين وغيرهما على صحته، لم يذكره من هو حجة له، ولم يجب عنه من هو حجة عليه، وبخاصة منهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فإنه مع توسعه في سوق أدلة المختلفين في كتابه القيم: "الصلاة"، وجواب كل منهم عن أدلة مخالفه؛ فإنه لم يذكر هذا الحديث في أدلة المانعين من التكفير؛ إلا مختصراً اختصاراً مخلاً لا يظهر دلالته الصريحة على أن الشفاعة تشمل تارك الصلاة أيضاً، فقد قال رحمه الله:
"وفي حديث الشفاعة: "يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأخرجن من
النار من قال: لا إله إلا الله ". وفيه: "فيخرج من النار من لم يعمل خيراً قط ... ".
قلت: وهذا السياق ملفق من حديثين؛ فالشطر الأول هو في آخر حديث
أنس المتفق عليه؛ وقد سبق أن ذكرت (ص 131) الطرف الأخير منه؛ والشطر
الآخر هو في حديث الترجمة:
" فيقبض قبضة من النار ناساً لم يعملوا لله خيراً قط ... ".
وأما أن اختصاره اختصار مخل؛ فهو واضح جداً إذا تذكرت أيها القارىء
الكريم ما سبق أن استدركته على الحافظ (ص132) متمماً به تعقيبه على ابن أبي
جمرة؛ مما يدل على أن شفاعة المؤمنين كانت لغير المصلين في المرة الثانية وما
بعدها؛ وأنهم أخرجوهم من النار؛ فهذا نص قاطع في المسألة؛ ينبغي أن يزول به
النزاع في هذه المسألة بين أهل العلم الذين تجمعهم العقيدة الواحدة؛ التي منها:
عدم تكفير أهل الكبائر من الأمة المحمدية؛ وبخاصة في هذا الزمان الذي توسع(7/133)
فيهم بعض المنتمين إلى العلم في تكفير المسلمين؛ لإهمالهم القيام بما يجب
عليهم عمله مع سلامة عقيدتهم؛ خلافاً للكفار الذين لا يصلون تديناً وعقيدة؛
والله سبحانه وتعالى يقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف
تحكمون) ؟! [القلم/35-36]
لما تقدم كنت أحب لابن القيم رحمه الله أن لا يغفل ذكر هذا الحديث الصحيح كدليل صريح للمانعين من التكفير؛ وأن يجيب عنه إن كان لديه جواب؛
وبذلك يكون قد أعطى البحث والإنصاف للفريقين دون تحيز لفئة.
نعم؛ إنه لممّا يجب علي أنوه به أنه عقد فصلاً خاصاً " في الحكم بين الفريقين؛ وفصل الخطاب بين الطائفتين "؛ يساعد الباحث على تفهم نصوص الفريقين؛ فهماً صحيحاً؛ فإنه حقق فيه تحقيقاً رائعاً ما هو مسلم به عند العلماء؛ أنه ليس كل كفر يقع فيه المسلم يخرج به من الملة. فمن المفيد أن أقدم إلى القارىء
فقرات أو خلاصات من كلامه تدل على مرامه؛ ثم أعقب عليه بما يلزم مما يلتقي مع هذا الحديث الصحيح؛ ويؤيد المذهب الرجيح.
لقد أفاد رحمه الله أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود واعتقاد.
وأن كفر العمل ينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه؛ يضاد الإيمان.
وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة؛ فهو من الكفر العملي قطعاً.
(قلت: قد يكون ذلك من الكفر الاعتقادي أحياناً، وذلك إذا اقترن به ما يدل على فساد عقيدته؛ كاستهزائه بالصلاة والمصلين، وكإيثاره القتل على أن يصلي إذا دعاه الحاكم إليها، كما سيأتي، فتذكر هذا؛ فإنه مهم. ثم قال:)(7/134)
ولا يمكن أن يُنفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه؛ ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد.
وقد نفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان عن الزاني، والسارق، وشارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نفى عنه اسم الإيمان؛ فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد.
(قلت: لكني أرى أنه لا يصح أن يطلق على أمثال هؤلاء لفظة الكفر؛ فيقال مثلاً: من زنى فقد كفر، فضلاً عن أنه لا يجوز أن يقال: فهو كافر، حتى على تارك الصلاة وعلى غيره ممن وصف في الحديث بالكفر، وقوفاً مع النص- ودفعاً لإيهام الوصف بالكفر الاعتقادي-، ومن باب أولى أن لا يقال: كافر حلال الدم!
قال بعد أن ذكر الحديث الصحيح: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر") :
ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية؛ كما لا يخرج الزاني والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر ولوازمهما.
ثم ذكر الأثر المعروف عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) : ليس بالكفر الذي تذهبون إليه.
(قلت: زاد الحاكم: إنه ليس كفراً ينقل عن الملة، كفر دون كفر. وصححه
هو (2/313) والذهبي. وهذا قاصمة ظهر جماعة التكفير وأمثالهم من الغلاة. ثم
قال ابن القيم رحمه الله:)(7/135)
والمقصود أن سلب الإيمان عن تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يسمى تارك الصلاة مسلماً ولا مؤمناً؛ وإن كان معه شعبة من شعب الإسلام والإيمان.
(قلت: نفي التسمية المذكورة عن تارك الصلاة فيه نظر؛ فقد سمى الله تعالى الفئة الباغية بالمؤمنة في الآية المعروفة: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما..) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: "وقتاله كفر"، فكما لم يلزم من وصف المسلم الباغي بالكفر نفي اسم المؤمن عنه فضلاً عن اسم المسلم، فكذلك تارك الصلاة؛ إلا إن كان يقصد بذلك أنه مسلم كامل، وذلك بعيد. قال:)
نعم، يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره، وإن كان المتروك شرطاً في اعتبار الباقي لم ينفعه.
فهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة.
(قلت: ثم أشار إلى الأدلة التي كان ذكرها للفريق الأول المكفر، ثم قال:)
وهي تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة.
(فأقول: يبدو لي جلياً أن ابن القيم رحمه الله بعد بحثه القيم في التفريق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي، وأن المسلم لا يخرج من الملة بكفر عملي؛ لم يستطع أن يحكم للفريق المكفر بترك الصلاة؛ مع الأدلة الكثيرة التي ساقها لهم؛ لأنها كلها لا تدل إلا على الكفر العملي. ولذلك لجأ أخيراً إلى أن يتساءل: هل ينفعه إيمانه؟ وهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟(7/136)
وإن كل من تأمل في جوابه على هذا التساؤل يلاحظ أنه حاد عنه إلى القول بأن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالصلاة، فأين الجواب عن كون الصلاة شرطاً لصحة الإيمان؟ أي: ليس فقط شرط كمال؛ فإن الأعمال الصالحة كلها شرط كمال عند أهل السنة؛ خلافاً للخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار؛ مع تصريح الخوارج بتكفيرهم، فلو قال قائل بأن الصلاة شرط لصحة الإيمان، وأن تاركها مخلد في النار؛ فقد التقى مع الخوارج في بعض قولهم هذا، وأخطر من ذلك أنه خالف حديث الشفاعة هذا كما تقدم بيانه.
ولعل ابن القيم رحمه الله بحيدته عن ذاك الجواب أراد أن يشعر القارئ بأهمية الصلاة في الإسلام من جهة؛ وأنه لا دليل على أنها شرط لصحة الإيمان من جهة أخرى.
وعليه؛ فتارك الصلاة كسلاً لا يكفر عنده إلا إذا اقترن مع تركه إياها ما يدل على أن كفره كفر اعتقادي، فهو في هذه الحالة فقط يكفر كفراً يخرج به من الملة؛ كما تقدمت الإشارة بذلك مني. وهو ما يشعر به كلام ابن القيم في آخر هذا الفصل) ؛ فإنه قال:
" ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك؟ فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً! "..
قلت: وعلى مثل هذا المصر على الترك والامتناع عن الصلاة- مع تهديد الحاكم له بالقتل- يجب أن تحمل كل أدلة الفريق المكفر للتارك، وبذلك تجتمع
أدلتهم مع أدلة المخالفين؛ ويلتقون على كلمة سواء: أن مجرد الترك لا يكفر؛ لأنه(7/137)
كفر عملي لا اعتقادي؛ كما تقدم عن ابن القيم، وهذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- أعني أنه حمل تلك الأدلة هذا الحمل-، فقال في "مجموع الفتاوى" (22/48) - وقد سئل عن تارك الصلاة من غير عذر هل هو مسلم في تلك الحال؟
فأجاب رحمه الله ببحث طويل ملىء علماً؛ لكن المهم منه الآن ما يتعلق منه بحديثنا هذا؛ فإنه بعد أن حكى أن تارك الصلاة يقتل عند جمهور العلماء: مالك والشافعي وأحمد؛ قال-:
"وإذا صبر حتى يقتل؛ فهل يقتل كافراً مرتداً؛ أو فاسقاً كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين حُكيا روايتين عن أحمد؛ فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن معتقداً لوجوبها؛ يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل ولا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم، ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام، ولا يعرف أن أحداً يعتقد وجوبها، ويقال له: إن لم تصل وإلا قتلناك. وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام.
ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها ولا ملتزماً بفعلها، فهذا كافر باتفاق المسلمين؛ كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة ". رواه مسلم ... فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط فهذا لا يكون قط؛ مسلماً مقراً بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل؛ هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإن كان قادراً ولم يصل قط؛ علم أن الداعي في حقه لم يوجد، والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل. لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور(7/138)
توجب تأخيرها، وترك بعض واجباتها، وتفويتها أحياناً. فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك؛ فهذا لا يكون مسلماً.
لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في "السنن "، حديث عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة؛ من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله؛ إن شاء عذبه؛ وإن شاء غفر له " (1) .
فالمحافظ عليها: الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى.
والذي يؤخرها (الأصل: ليس يؤخرها) أحياناً عن وقتها، أو يترك واجباتها؛ فهذا تحت مشيئة الله تعالى. وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه كما جاء في الحديث " (2) .
وعلى هذا المحمل يدل كلام الإمام أحمد أيضاً؛ الذي شهر عنه بعض أتباعه المتأخرين القول بتكفير تارك الصلاة دون تفصيل، وكلامه يدل على خلاف ذلك " بحيث لا يخالف هذا الحديث الصحيح، كيف وهو قد أخرجه في "مسنده " كما أخرج حديث عائشة بمعناه كما تقدم؟! فقد ذكر ابنه عبد الله في "مسائله (55) قال:
_________
(1) حديث صحيح مخرج في "صحيح أبي داود" (451 و 1276) .
(2) يشير- رحمه الله- إلى قوله له: "أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة؛ يقول ربنا عز وجل لملائكته- وهو أعلم-: انظروا؛ في صلاة عبدي أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا؛ هل لعبدي من تطوع؛ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم "
وهو حديث صحيح، مخرج في "صحيح أبي داود" (810) . (الناشر) .(7/139)
" سألت أبي رحمه الله عن ترك الصلاة متعمداً؟ قال:
والذي يتركها لا يصليها، والذي يصليها في غير وقتها؛ أدعوه ثلاثاً؛ فإن صلى وإلا ضربت عنقه، هو عندي بمنزلة المرتد.. ".
قلت: فهذا نص من الإمام أحمد بأنه لم يكفر بمجرد تركه للصلاة، وإنما بامتناعه من الصلاة مع علمه بأنه سيقتل إن لم يصل، فالسبب هو إيثاره القتل على الصلاة، فهو الذي دل على أن كفره كفر اعتقادي، فاستحق القتل.
ونحوه ما ذكره المجد ابن تيمية- جد شيخ الإسلام ابن تيمية- في كتابه " المحرر في الفقه الحنبلي " (ص 62) :
" ومن أخر صلاة تكاسلاً لا جحوداً أمر بها؛ فإن أصر حتى ضاق وقت الأخرى؛ وجب قتله ".
قلت: فلم يكفر بالتأخير، وإنما بالإصرار المنبئ عن الجحود. ولذلك قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في "مشكل الآثار" في باب عقده في هذه المسألة، وحكى شيئاً من أدلة الفريقين، ثم اختار أنه لا يكفر؛ قال (4/228) :
" والدليل على ذلك أنا نأمره أن يصلي، ولا نأمر كافراً أن يصلي، ولو كان بما كان منه كافراً لأمرناه بالإسلام؛ فإذا أسلم أمرناه بالصلاة؛ وفي تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة؛ ماقد دل على أنه من أهل الصلاة؛ ومن ذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي
أفطر في رمضان يوماً متعمداً بالكفارة التي أمره بها وفيها الصيام؛ لايكون الصيام
إلا من المسلمين. ولما كان الرجل يكون مسلماً إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتي بما
يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس؛ ومن صيام رمضان كان كذلك؛ ويكون
كافراً بجحوده لذلك؛ ولا يكون كافراً بتركه إياه بغير جحود منه له؛ ولا يكون(7/140)
كافراً إلا من حيث كان مسلماً، وإسلامه كان بإقراره بالإسلام؛ فكذلك ردته لا تكون إلا بجحوده الإسلام ".
قلت: وهذا فقه جيد، وكلام متين لا مرد له، وهو يلتقي تماماً ما تقدم من كلام الإمام أحمد رحمه الله الدال على أنه لا يكفر بمجرد الترك؛ بل بامتناعه من الصلاة بعد دعائه إليها، وإن مما يؤكد ما حملت عليه كلام الإمام أحمد؛ ما جاء في كتاب " الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل " للشيخ علاء الدين المرداوي؛ قال رحمه الله (1/402) - كالشارح لقول أحمد المتقدم آنفاً: " أدعوه ثلاثاً " -:
" الداعي له هو الإمام أو نائبه، فلو ترك صلوات كثيرة قبل الدعاء لم يجب قتله، ولا يكفر على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم ".
وممن اختار هذا المذهب أبو عبد الله بن بطة، كما ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي في كتابه " الشرح الكبير على المقنع " للإمام موفق الدين المقدسي (1/385) ، وزاد أنه أنكر قول من قال بكفره. قال أبو الفرج:
" وهو قول أكثر الفقهاء؛ منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي.. ".
ثم استدل على ذلك بأحاديث كثيرة أكثرها عند ابن القيم، ومنها حديث عبادة المتقدم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال عقبه:
" ولو كان كافراً لم يدخله في المشيئة ".
قلت: ويؤكد ذلك حديث الترجمة وحديث عائشة تأكيداً لا يدع لأحد شكاً أو شبهة، فلا تنسى. ثم قال أبو الفرج:(7/141)
" ولأن ذلك إجماع المسلمين؛ فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه، ولا مُنع ميراث مورِّثه، ولا فُرِّقَ بين زوجين لِتَرْكِ الصلاة من أحدهما- مع كثرة تاركي الصلاة-! ولوكفر لثبتت هذه الأحكام، ولا نعلم خلافاً بين المسلمين أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها مع اختلافهم في المرتد (1) . وأما الأحاديث المتقدمة (يعني: التي احتج بها المكفرون كحديث: " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة "؛ فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على الحقيقة؛ كقوله- صلى الله عليه وسلم -: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".. وأشباه هذه مما أريد به التشديد في الوعيد. قال شيخنا رحمه الله (يعني: الموفق المقدسي) : وهذا أصوب القولين. والله أعلم ".
قلت: ونقله الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في حاشيته على "المقنع " لابن قدامة (1/95- 96) مقراً له.
ومع تصريح الإمام الشوكاني في "السيل الجرار" (1/292) بتكفير تارك الصلاة عمداً، وأنه يستحق القتل، ويجب على إمام المسلمين قتله؛ فقد بين في "نيل الأوطار" أنه لا يعني كفراً لا يغفر، فقال بعد أن حكى أقوال العلماء واختلافهم، وذكر شيئاً من أدلتهم (1/ 254- 255) :
" والحق أنه كافر يقتل، أما كفره؛ فلأن الأحاديث صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم (!) وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الإطلاق.
ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون؛ لأنا نقول: لايمنع أن
_________
(1) قلت: الراجح أنه لا يقضي؛ كما حققه ابن تيمية رحمه الله (22/46) .(7/142)
يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة؛ ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفراً. فلا مُلْجِئَ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيقها ".
ولقد صدق رحمه الله. لكن ذهابه إلى جواز إطلاق اسم (الكافر) على تارك الصلاة؛ هو توسع غير محمود عندي، لأن الأحاديث التي أشار إليها ليس فيها الإطلاق المدعى، وإنما فيها: "فقد كفر"، وما أظن أن أحداً يستجيز له أن يشتق منه اسم فاعل فيقول فيه: (كافر) ، إذن؛ لزمه أن يطلقه أيضاً على كل من قيل فيه: "كَفَر"؛ كالذي يحلف بغير الله، ومن قاتل مسلماً، أو تبرأ من نسب، ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث.
نعم؛ لو صح ما رواه أبو يعلى وغيره عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ:
" عُرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة؛ عليهن أسس الإسلام؛ من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان ".
أقول: لو صح هذا؛ لكان دليلاً واضحاً على جواز إطلاقه على تارك الصلاة، ولكنه لم يصح كما كنت بينته في " السلسلة الضعيفة " (94) .
والخلاصة؛ أن مجرد الترك لا يمكن أن يكون حجة لتكفير المسلم، وإنما هو فاسق، أمره إلى الله، إن شاء عذبه؛ وإن شاء غفر له، وحديث الترجمة نص صريح في ذلك لا يسع مسلماً أن يرفضه.
وأن من دعي إلى الصلاة، وأنذر بالقتل؛ إن لم يستجب فقتل؛ فهو كافر يقيناً حلال الدم، لا يُصَلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، فمن أطلق(7/143)
التكفير فهو مخطئ، ومن أطلق عدم التكفير فهو مخطئ , والصواب التفصيل.
فهذا الحق ليس به خفاءُ فدعني عن بنيات الطريق
وبعد؛ فإن أخشى ما أخشاه أن يبادر بعض المتعصبين الجهلة إلى رد هذا الحديث الصحيح؛ لدلالته الصريحة على أن تارك الصلاة كسلاً مع الإيمان بوجوبها داخل في عموم قوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ؛كما فعل بعضهم أخيراً بتاريخ (1407 هـ) ، فقد تعاون اثنان من طلاب العلم: أحدهما سعودي، والآخر مصري، فتعقباني في بعض الأحاديث من المئة الأولى من " سلسلة الأحاديث الصحيحة "؛ منها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه المتقدم برقم (87) ولفظه:
" يَدْرُسُ الإسلام كما يَدْرُسُ وشْيُ الثوب حتى لا يُدرى ما صيام؛ ولا صلاة ولا نسك، ولا صدقة، ولَيُسْرَى على كتاب الله عز وجل في ليلة؛ فلا يبقى منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز؛ يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: " لا إله إلا الله "، فنحن نقولها ".
قال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم " لا إله إلا الله " وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم رددها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة. ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار (ثلاثاً) .
قلت: فسوّدا في تضعيف هذا الحديث ثلاث صفحات كبار في الرد عليَّ لتصحيحي إياه، لم يجدا ما يتعلقان به لتضعيفه؛ إلا أنه من رواية أبي معاوية محمد بن خازم الضرير؛ بحجة أنه كان يرى الإرجاء! وأن الحديث موافق لبدعة الإرجاء!!(7/144)
وهذا من الجهل البالغ، ولا مجال الآن لبيانه إلا مختصراً، فإن أبا معاوية مع كونه ثقة محتجاً به عند الشيخين؛ فإنه قد توبع من ثقة مثله، ثم إن الحديث لا صلة له بالإرجاء مطلقاً، وهما إنما ادعيا ذلك لجهلهما بالعلم، وكيف يكون كذلك وقد صححه الحاكم والذهبي، وكذا ابن تيمية والعسقلاني والبوصيري؟! ولئن جاز في عقلهما أنهم كانوا في تصحيحهم إياه جميعاً مخطئين فهل وصل الأمر بهما أن يعتقدا بأنهم يصححون ما يؤيد الإرجاء؟! تالله إنها لإحدى الكبر؛ أن يتسلط على هذا العلم من لا يحسنه، وأن يضعف ما يصححه أهل العلم!
وهذا الحديث الصحيح يستفاد منه؛ أن الجهل قد يبلغ ببعض الناس أنهم لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادة، وهذا لا يعني أنهم يعرفون وجوب الصلاة وسائر الأركان ثم هم لا يقومون بها؛ كلا، ليس في الحديث شيء من ذلك، بل هم في ذلك ككثير من أهل البوادي والمسلمين حديثاً في بلاد الكفر لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين، وقد يقع شيء من ذلك في بعض العواصم، فقد سألني أحدهم هاتفياً عن امرأة تزوجها، وكانت تصلي دون أن تغتسل من الجماع! وقريباً سألني إمام مسجد ينظر إلى نفسه أنه على شيء من العلم يسوغ له أن يخالف العلماء! سألني عن ابنه أنه كان يصلي جنباً بعد أن بلغ مبلغ الرجال واحتلم؛ لأنه كان لا يعلم وجوب الغسل من الجنابة! وقد قال ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " (22/ 41) :
" ومن علم أن محمداً رسول الله فآمن بذلك، ولم يعلم كثيراً مما جاء به؛ لم يعذبه الله على ما لم يبلغه؛ فإنه إذا لم يعذر على ترك الإيمان بعد البلوغ، فإنه [أن] لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى، وهذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المستفيضة عنه في أمثال ذلك ".(7/145)
ثم ذكر أمثلة طيبة؛ منها: المستحاضة؛ قالت: إني أستحاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصوم؟ فأمرها بالصلاة زمن دوام الاستحاضة، ولم يأمرها بالقضاء.
قلت: وهذه المستحاضة هي فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها، وحديثها في "الصحيحين " وغيرهما، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (281) .
ومثلها: أم حبيبة بنت جحش زوجة عبد الرحمن بن عوف، واستحيضت سبع سنين، وحديثها عند الشيخين أيضاً، وهو مخرج في " صحيح أبي داود " أيضاً (283) .
وثمة ثالثة؛ وهي حمنة بنت جحش، وهي التي أشار إليها ابن تيمية؛ فإن في حديثها: "إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة؛ فما ترى فيها؛ قد منعتني الصلاة والصوم.. " الحديث. أخرجه أبو داود وغيره من أصحاب "السنن " بإسناد حسن، وصححه جمع، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (293) ، و"الإرواء" (88 1) .
هذا؛ وهناك نص آخر للإمام أحمد كان ينبغي أن يضم إلى ما سبق نقله عنه؛ لشديد ارتباطه به ودلالته أيضاً على أن تارك الصلاة لا يكفر بمجرد الترك، ولكن هكذا قُدِّر؛ قال عبد الله بن أحمد في "مسائله " (ص 56/195) :
" سألت أبي عن رجل فرط في صلوات شهرين؟ فقال:
يصلي ما كان في وقت يحضره ذكر تلك الصلوات؛ فلا يزال يصلي حتى يكون آخر وقت الصلاة التي ذكر فيها هذه الصلوات التي فرط فيها؛ فإنه يصلي هذه التي يخاف فوتها؛ ولا يضيع مرتين؛ ثم يعود فيصلي أيضاً حتى يخاف فوت الصلاة التي بعدها؛ إلا إن كثر عليه؛ ويكون ممن يطلب المعاش؛ ولا يقوى أن يأتي بها؛ فإنه يصلي حتى يحتاج إلى أن يطلب ما يقيمه من معاشه؛ ثم يعود إلى(7/146)
الصلاة؛ لا تجزئه صلاة وهو ذاكر الفرض المتقدم قبلها، فهو يعيدها أيضاً إذا ذكرها وهو في صلاة ".
فانظر أيها القارئ الكريم! هل ترى في كلام الإمام أحمد هذا إلا ما يدل على
ما سبق تحقيقه؛ أن المسلم لا يخرج من الإسلام بمجرد ترك الصلاة؛ بل صلوات شهرين متتابعين! بل وأذن له أن يؤجل قضاء بعضها لطلب المعاش.
وهذا عندي يدل على شيئين: أحدهما - وهو ما سبق -: أنه يبقى على إسلامه، ولو لم تبرأ ذمته بقضاء كل ما عليه من الفوائت.
والآخر: أن حكم القضاء دون حكم الأداء؛ لأنني لا أعتقد أن الإمام أحمد - بل ولا من هو دونه في العلم- يأذن بترك الصلاة حتى يخرج وقتها لعذر طلب المعاش. والله سبحانه وتعالى أعلم.
واعلم أخي المسلم! أن هذه الرواية عن الإمام أحمد- وما في معناها- هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه كل مسلم لذات نفسه أولاً؛ ولخصوص الإمام أحمد
ثانياً؛ لقوله رحمه الله: " إذا صح الحديث فهو مذهبي "؛ وبخاصة أن الأقوال
الأخرى المروية عنه على خلاف ما تقدم مضطربة جداً؛ كما تراها في كتاب
" الإنصاف " (10/327-328) وغيره من الكتب المعتمدة؛ ومع اضطرابها؛ فليس في شيء منها التصريح بأن المسلم يكفر بمجرد ترك الصلاة؛ وإذ الأمر كذلك؛ فيجب حمل الروايات المطلقة عنه على الروايات المقيدة والمبنية لمراده رحمه الله؛ وهي ما تقدم نقله عن ابنه عبد الله.
ولو فرضنا أن هناك رواية صريحة عنه في التكفير بمجرد الترك؛ وجب تركها
والتمسك بالروايات الأخرى؛ لموافقتها لهذا الحديث الصحيح الصريح في خروج(7/147)
تارك الصلاة من النار بإيمانه ولو مقدار ذرة. وبهذا صرح كثير من كبار علماء الحنابلة المحققين؛ كابن قدامة المقدسي - كما تقدم في نقل أبي الفرج عنه -،
ونص كلام ابن قدامة:
" وإن ترك شيئاً من العبادات الخمس تهاوناً؛ لم يكفر".
كذا في كتابه "المقنع "، ونحوه في "المغني " (2/298- 302) في بحث طويل
له؛ ذكر الخلاف فيه وأدلة كل فريق؛ ثم انتهى إلى هذا الذي في " المقنع"؛ وهو
الحق الذي لاريب فيه؛ وعليه مؤلف " الشرح الكبير" و" الإنصاف " كما تقدم
وإذا عرفت الصحيح من قول أحمد؛ فلا يرد عليه ما ذكره السبكي في
ترجمة الإمام الشافعي؛ من " طبقات الشافعية الكبرى " (1/ 220) ، قال:
" حكي أن أحمد ناظر الشافعي في تارك الصلاة؛ فقال له الشافعي: يا أحمد! تقول: إنه يكفر؟ قال: نعم. قال: إذا كان كافراً فبم يسلم؟ قال: يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه!! قال: يسلم بأن يصلي. قال: صلاة الكافر لا تصح ولا يحكم بالإسلام بها. فانقطع أحمد وسكت ".
فأقول: لايرد هذا على أحمد رحمه الله لأمرين:
أحد هما: أن الحكاية لا تثبت، وقد أشار إلى ذلك السبكي رحمه الله بتصديره إياها بقوله: " حُكي"، فهي منقطعة.
والآخر: أنه ذكر بناءً على القول بأن أحمد يكفر المسلم بمجرد ترك الصلاة؛
وهذا لم يثبت عنه كما تقدم بيانه؛ وإنما يرد هذا على بعض المشايخ الذين لا
يزالون يقولون بالتكفير بمجرد الترك! وأملي أنهم سيرجعون عنه بعد أن يقفوا على
هذا الحديث الصحيح؛ وعلى قول أحمد وغيره من كبار أئمة الحنابلة الموافق له؛(7/148)
فإنه لا يجوز تكفير المسلم الموحد بعمل يصدر منه؛ حتى يتبين منه أنه جاحد ولو بعض ما شرع الله؛ كالذي يدعى إلى الصلاة فإن استجاب وإلا قتل كما تقدم. ويعجبني بهذه المناسبة ما نقله الحافظ في "الفتح " (12/300) عن
الغزالي أنه قال:
" والذي ينبغي الاحتراز منه: التكفير؛ ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة دماء المسلمين المقرِّين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد ".
هذا؛ وقد بلغني أن بعضهم لما أُوِقف على هذا الحديث؛ شك في دلالته على
نجاة المسلم التارك للصلاة من الخلود في النار مع الكفار، وزعم أنه ليس له ذكر في كل الدفعات التي أخرجت من النار. وهذه مكابرة عجيبة تذكرنا بمكابرة متعصبة المذاهب في رد دلالات النصوص انتصاراً للمذهب، فإن الحديث صريح في أن الدفعة الأولى شملت المصلين بعلامة أن النار لم تأكل وجوههم، فما بعدها من الدفعات ليس فيها مصلون بداهة، فإن لم ينفع مثل هذا بعض المقلدين الجامدين؛ فليس لنا إلا أن نقول: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) .
(تنبيه) : ابن قدامة رحمه الله من جملة الذين فاتهم الاستدلال بهذا الحديث الصحيح للمذهب الصحيح في عدم تكفير تارك الصلاة كسلاً. لكن العجيب أنه ذكر حديثاً آخر لو صح لكان قاطعاً للخلاف؛ لأن فيه أن مولى للأنصار مات وكان يصلي ويدع، ومع ذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بغسله والصلاة عليه ودفنه، وهو وإن كان قد سكت عنه؛ فإنه قد أحسن بذكره مع إسناده من رواية الخلال، الأمر الذي مكنني من دراسته والحكم عليه بما يستحق من الضعف والنكارة، ولذلك أودعته في الكتاب الآخر: " الضعيفة " (6036) .(7/149)
بعد كتابة ما تقدم بأيام أطلعني بعض إخواني على كتاب بعنوان هام: "فتح
من العزيز الغفار بإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار" تأليف عطاء بن عبد اللطيف بن أحمد، ففرحت به فرحاً كبيراً، وازداد سروري حينما قرأته، وتصفحت بعض فصوله، وتبين لي أسلوبه العلمي وطريقته في معالجة الأدلة المختلفة التي منها- بل هي أهمها- تخريج الأحاديث وتتبع طرقها وشواهدها، وتمييز صحيحها من ضعيفها؛ ليتسنى له بعد ذلك إسقاط ما لا يجوز الاشتغال به لضعفه، والاعتماد على ما ثبت منها، ثم الاستدلال به أو الجواب عنه، وهذا ما صنعه الأخ المؤلف جزاه الله خيراً؛ خلافاً لبعض المؤلفين الذي يحشرون كل ما يؤيدهم دون أن يتحروا الصحيح فقط؛ كما فعل الذين ردوا علي في مسألة وجه المرأة من المؤلفين في ذلك من السعوديين والمصريين وغيرهم. أما هذا الأخ (عطاء) ؛ فقد سلك المنهج العلمي في الرد على المكفرين؛ فتتبع أدلتهم، وذكر ما لها وما عليها، ثم ذكر الأدلة المخالفة لها على المنهج نفسه، ووفق بينها وبين ما يخالفها بأسلوب رصين متين، وإن كان يصحبه أحياناً شيء من التساهل في التصحيح باعتبار الشواهد، ثم التكلف في التوفيق بينه وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على عدم كفر تارك الصلاة؛ كما فعل في حديث أبي الدرداء في الصلاة: " فمن تركها فقد خرج من الملة ". فإنه بعد أن تكلم عليه وبين ضعف إسناده؛ عاد فقواه بشواهده، وهي في الحقيقة شواهد قاصرة لا تنهض لتقوية هذا الحديث، ثم أغرب فتأول الخروج المذكور فيه بأنه خروج دون الخروج!! وله غير ذلك من التساهل والتأويل؛ كالحديث المخرج في " الضعيفة " (6037) .
والحق؛ أن كتابه نافع جداً في بابه؛ فقد جمع كل ما يتعلق به سلباً أو إيجاباً، قبولاً أو رفضاً؛ دون تعصب ظاهر منه لأحد أو على أحد، وأحسن ما فيه(7/150)
الفصل الأول من الباب الثاني؛ وهو كما قال: " في ذكر أدلة خاصة تدل على أن تارك الصلاة لا يخرج من الملة "! وعدد أدلته المشار إليها (12) دليلاً، ولقد ظننت حين قرأت هذا العنوان في مقدمة كتابه أن منها حديث الشفاعة هذا؛ لأنه قاطع للنزاع كما سبق بيانه، ولكنه- مع الأسف- قد فاته كما فات غيره من المتقدمين على ما سلف ذكره.
غير أنه لابد لي من التنويه بدليل من أدلته لأهميته وغفلة المكفرين عنه؛
ألا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" إن للإسلام صُوىً ومناراً كمنار الطريق.. " الحديث، وفيه ذكر التوحيد،
والصلاة وغيرها من الأركان الخمسة المعروفة والواجبات، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -:
" فمن انتقص مِنْهُنَّ شيئاً؛ فهو سهم من الإسلام تركه؛ ومن تركهن؛ فقد
نبذ الإسلام وراءه ".
وقد خرجه المومى إليه تخريجاً جيداً، وتتبع طرقه؛ وبين أن بعضه صحيح الإسناد، ثم بين دلالته الصريحة على عدم خروج تارك الصلاة من الملة. فراجعه وراجع الكتاب كله؛ إن كان عندك شك في المسألة.
وقد كنت خرجته قديماً برقم (333) منذ أكثر من ثلاثين سنة، واستفاد هو منه- كما هو شأن المتأخر مع المتقدم- ولكنه لم يشر إلى ذلك أدنى إشارة، ولقد كان يحسن به ذلك؛ ولا سيما أنه خصني بالنقد في بعض الأحاديث، وذلك مما لا يضرني البتة؛ بل إنه لينفعني أصاب أم أخطأ، وليس الآن مجال تفصيل القول في ذلك.
والخلاصة؛ أن حديثنا هذا حديث الشفاعة حديث عظيم، ومن ذلك دلالته(7/151)
القاطعة على أن تارك الصلاة- مع إيمانه بوجوبها- لا يخرج من الملة، وأنه لا يخلد في النار مع الكفرة الفجرة.
ولذلك؛ فإني أرجو مخلصاً كل من وقف على هذا الحديث وغيره مما في معناه أن يتراجع عن تكفير المسلمين التاركين للصلاة مع إيمانهم بها، والموحدين لله تبارك وتعالى؛ فإن تكفير المسلم أمر خطير جداً كما تقدم. وعليهم فقط أن يذكروا بعظمة منزلة الصلاة في الإسلام بما جاء في ذلك في الكتاب والأحاديث النبوية، والآثار السلفية الصحيحة، فإن الحكم قد خرج- مع الأسف- من أيدي العلماء، فهم لذلك لا يستطيعون أن ينفذوا حكم الكفر والقتل في تارك واحد الصلاة؛ بله جمع من التاركين؛ ولو في دولتهم فضلاً عن الدول الإسلامية الأخرى! فإن قتل التارك للصلاة بعد دعوته إليها إنما كان لحكمة ظاهرة، وهو لعله يتوب إذا كان مؤمناً بها، فإذا آثر القتل عليها؛ دل ذلك على أن تركه كان عن جحد، فيموت- والحالة هذه- كافراً؛ كما تقدم عن ابن تيمية، فامتناعه منها في هذه الحالة دليل عملي على خروجه من الملة. وهذا مما لا سبيل إلى تحقيقه اليوم مع الأسف، فليقنع العلماء- إذن من الوجهة النظرية- على ما عليه جمهور أئمة المسلمين؛ بعدم تكفير تارك الصلاة مع إيمانه بها، وقد قدمنا الدليل القاطع على ذلك من السنة الصحيحة؛ فلا عذر لأحد بعد ذلك (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور/63] .
ثم طَبَعْتُ هذا البحث في رسالة خاصة بعنوان " حكم تارك الصلاة " فنفع الله
بها من شاء من عباده، واستنكر بعض المؤلفين ما فيه من الحكم: أن تارك الصلاة كسلاً- مع إيمانه بها- ليس بكافر؛ لمخالفته إياه عقيدة، فهو بهذا الاعتبار مخالف
له؛ وهو عمل قلبي؛ والله عز وجل ضمن أن لا يضيعه؛ كما قال أبو سعيد في(7/152)
الحديث هذا: " فمن لم يصدق بهذا الحديث؛ فليقرأ هذه الآية: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة..) ". وبالنظر إلى تركه الصلاة فهو مشابه للكفار عملاً؛ الذين
يتحسرون يوم القيامة؛ فيقولون وهم في سقر: (لم نك من المصلين. ولم نك
نطعم المسكين) ؛ فكفره كفر عملي؛ لأنه عمل عمل الكفار؛ فهو كالتارك للزكاة؛
وقد صح الحديث أيضاً أن مانع الزكاة يعذب يوم القيامة بماله الذي كان منعه، ثم يساق إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولكن المؤلف المشار إليه- هدانا الله وإياه-تأول هذا الحديث كما تأول حديث المانع للزكاة تأويلاً عطل دلالته الصريحة على ما ذهبنا إليه من الفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي؛ مع أنه قد صح هذا عن ابن عباس وبعض تلامذته، وجرى عليه من بعدهم من أتباع السلف؛ كابن القيم
وشيخه؛ كما تقدم في هذا البحث؛ ومع ذلك لم يعرج عليه المومى إليه مطلقاً
ولو لرده؛ ولا سبيل له إليه! والله عز وجل يقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين.
مالكم كيف تحكمون) ؟ وكذلك صرف المؤلف المذكور نظره عن حديث: " إن
للإسلام صوى.." الصريح في التفريق بين: " من ترك سهماً؛ فهو سهم من
الإسلام تركه "؛ وبين " من ترك الأسهم كلها؛ فقد نبذ الإسلام كله "؛ فلم
يتعرض له بجواب. ولا أستبعد أن يحاول تأويله أو تضعيفه؛ كما فعل بغيره من
الأحاديث الصحيحة.
وبالجملة؛ فمجال الرد عليه واسع جداً، ولا أدري متى تسنح لي الفرصة للرد عليه، وبيان ما يؤخذ عليها فقهاً وحديثاً؟ وإن كنت أشكر له أدبه ولطفه وتبجيله لكاتب هذه الأحرف، ودفاعه عن عقيدة أهل الحديث في أن الإيمان يزيد وينقص؛ وإن كان قد اقترن به أحياناً شيء من الغلو والمخالفة؛ والاتهام بالإرجاء؛ مع أنه يعلم أنني أخالفهم مخالفة جذرية؛ فأقول: الإيمان يزيد وينقص؛ وإن(7/153)
الأعمال الصالحة من الإيمان، وإنه يجوز الاستثناء فيه؛ خلافاً للمرجئة، ومع ذلك رماني أكثر من مرة بالإرجاء! فقلب بذلك وصية النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها.. "! فقلت: ما أشبه اليوم بالبارحة!
فقد قال رجل لابن المبارك: " ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر؛ أمؤمن هو؟ قال: لا أخرجه من الإيمان. فقال الرجل: على كبر السن صرت مرجئاً! فقال له ابن المبارك: إن المرجئة لا تقبلني! أنا أقول: الإيمان يزيد وينقص. والمرجئة لا تقول ذلك. والمرجئة تقول: حسناتنا متقبلة. وأنا لا أعلم تُقبلت مني حسنة؟ وما أحوجك إلى أن تأخذ سبورة فتجالس العلماء ". رواه ابن راهويه في "مسنده " (3/670- 671) .
قلت: ووجه المشابهة بين الاتهامين الظالمين هو الإشراك بالقول مع المرجئة في بعض ما يقوله المرجئة؛ أنا بقولي بعدم تكفير تارك الصلاة كسلاً؛ وابن المبارك في عدم تكفير مرتكب الكبيرة ولو أردت أن أقابله بالمثل لرميته بالخروج؛ لأن الخوارج يكفرون تارك الصلاة وبقية الأركان الأربعة! و (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) . *
3055- (إن قوماً يَخرجونَ مِنَ النارِ؛ يَحترقونَ فيها إلا داراتِ وجوهِهِم، حتى يَدْخلوا الجنة) .
أخرجه أحمد (3/355) : ثنا أبو أحمد الزبيري: حدثنا قيس بن سُلَيْمٍ العنبري حدثني يزيد الفقير: حدثنا جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذ كره.
ومن هذا الوجه أخرجه مسلم (1/122-123) ؛ وأبو عوانة (1/180) ؛ وفيه قصة.(7/154)
ورواه الآجري (ص 333) من طريق أخرى عن يزيد نحوه، وأحمد (3/330)
من طريق سعيد بن المهلب عن طلق بن حبيب عن جابر به ,والبخاري في " الأدب المفرد " (818) مختصراً، وسعيد هذا مجهول.
وأخرجه مسلم والطيالسي في "مسنده " (1703) من طريق حماد بن زيد
قال: قلت لعمرو بن دينار: أسمعت جابر بن عبد الله يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة "؟ قال: نعم.
وهذا الحديث والذي قبله لم يوردهما السيوطي في "الجامع الصغير"، ولا في " الزيادة عليه "، وأورد هذا في " الجامع الكبير"، وعزاه للطيالسي فقط!
وأخرجه الحميدي في "مسنده " (1245) ، وابن حبان (9/283/ 7440) من طريق سفيان- وهو ابن عيينة-: ثنا عمرو بن دينار به نحوه.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة " (839 و840) ، والآجري في "الشريعة "
(ص 334) من الطريقين.
وأخرجه البخاري (6558) من طريق حماد مختصراً. *
3056- (ما أَشْخَصَ أبصاركم عني؟ قالوا: نَظرْنا إلى القمرِ، قال: فكيف بكم إذا رأيتم الله جَهْرَةً؟ !) .
أخرجه الآجري في "الشريعة" (ص 263- 264) : حدثنا أبو بكر بن أبي
داود قال: حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري قال: حدثني أبي يحيى بن كثير قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أسلم العجلي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(7/155)
بينما هو يعلمهم من أمر دينهم إذْ شَخَصَتْ أبصارهم، فقال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد؛ أبو بكر بن أبي داود- وهو السجستاني- حافظ
ابن حافظ.
وسائرهم ثقات من رجال " التهذيب ".
وهذا شاهد قوي لحديث البخاري (7435) عن جرير بن عبد الله قال: قال:
النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" إنكم سترون ربكم عِياناً ".
ولمَّا أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (2/296/2233) من طريق أبي شهاب الحناط (الأصل: الخياط) بسنده الصحيح عن جرير؛ قال الطبراني:
" لفظة: "عياناً " تفرد بها أبو شهاب، وهو حافظ متقن من ثقات المسلمين ".
قلت: وقد تابعه جمع على أصل الحديث دون الزيادة، ولذلك فقد كنت حكمت عليها في "ظلال الجنة" (1/ 201/ 461) بالشذوذ، والآن فقد رجعت عن ذلك لهذا الشاهد القوي، ولعله لذلك احتج به الحافظ في " الفتح " (13/426) ، ولم يعله بالشذوذ. والله أعلم.
والحديث أورده السيوطي بلفظ البخاري في "الجامع الكبير"، ولم يعزه إلا للطبراني! وقد رواه غيرهما كما تراه في " الظلال ".
وفيه رد على المعتزلة والإباضية المنكرين لهذه النعمة العظيمة: رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وعلى المثبتين لها الذين تأولوها بمعنى العلم. انظر " الفتح ". *(7/156)
3057- (اقرأُوا القرآنَ، ولا تَغْلُوا فيه، ولا تَجْفُوا عنه، ولا تأكلُوا
به، ولا تستكثرُوا به) .
أخرجه أحمد (3/428) : ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام- يعني: الدَّستُوائي- قال: حدثني يحيى بن أبي كثير (الأصل: نمير!) عن أبي راشد الحُبْراني قال: قال عبد الرحمن بن شبل: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح إن كان يحيى سمعه من أبي راشد الحبراني؛ فإنه موصوف بشيء من التدليس؛ لكن قد صح في بعض الروايات عنه أنه تلقاه عن زيد بن سلام بن أبي سلام (ممطور الحبشي) عن أبي سلام عن أبي راشد الحبراني كما يأتي.
ثم أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة (2/400- 401) قالا: ثنا وكيع عن الدستوائي به.
وتابعه أيوب عن يحيى عن أبي راشد به.
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط " (1/ 143/ 1/ 2741) .
وأخرجه أحمد (3/444) ، والطحاوي في "شرح المعا ني " (2/ 10) ، وأبو يعلى في "مسنده " (3/88/1518) ، وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (9/9707) من طريق أبان: حدثنا يحيى بن أبي كثير: حدثني زيد عن أبي سلام عن الحبراني به.
قلت: وهذا إسناد صحيح متصل، وقال الحافظ (9/ 101) - بعدما عزاه
لأحمد وأبي يعلى -:
" وسنده قوي ".(7/157)
وتابعه علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير به.
وقد تقدم تخريج هذا الحديث برقم (260) بنحو آخر، وفي تخريجه هنا زيادة بيان ومصادر أخرى اقتضاه التمهيد لتخريج الحديث التالي.
وثمة حديث آخر ساقه الإمام أحمد وغيره بهذا السند أيضاً؛ تقدم تخريجه
برقم (366) . *
3058- (نَّ الفُسَّاقَ هم أهلُ النارِ. قيل: يا رسول الله! ومَنِ الفساقُ؟ قال: النساءُ. قال رجلٌ: يا رسول الله! أَوَلَسْنَ أُمَّهاتِنا وأخواتِنا وأزواجَنا؟ قال: بلى؛ ولكنّهنّ إذا أُعْطِينَ لم يَشْكُرْنَ، وإذا ابْتُلِينَ لم يَصْبِرْنَ) .
أخرجه أحمد بإسناد الحديث الذي قبله.
وكذلك أخرجه الحاكم (4/604) من طريق مسلم بن إبراهيم: ثنا هشام به. وقال:
" صحيح على شرط الشيخين "! ووافقه الذهبي!
قلت: وهو من أوهامهما؛ فإن أبا راشد الحبراني- الراوي له عن عبد الرحمن ابن شبل- ليس من رجالهما وإن كان ثقة. ونحوه في "المجمع " (10/394) .
ثم إن فيه عنعنة يحيى بن أبي كثير؛ لكن قد تبين في تخريج الحديث الذي
قبله أنه سمعه من زيد بن سلام عن أبي سلام عن أبي راشد. وكذلك وقع له في هذا الحديث، فقد أخرجه الحاكم (2/190- 191) من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده (هو أبو سلام: ممطور) قال:(7/158)
كتب معاوية إلى عبد الرحمن بن شبل: أنْ علِّم الناس ما سمعت من رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره. وقال:
" صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي.
قلت: كذا في رواية معمر لم يذكر فيها: " أبا راشد الحبراني ". وكذلك رواه
عنه أحمد (3/ 444) ، وابن عساكر في "التاريخ " (9/977) وقال:
"رواه أبان بن يزيد العطار مختصراً عن يحيى بن أبي كثير، وزاد في إسناده
أبا راشد الحبراني ".
ثم ساق إسناده بالحديث الذي قبله من طريق أبي يعلى، وليس فيه قصة معاوية: ثم قال:
" وكذا رواه معاوية بن سلام عن أخيه زيد ".
ثم ساق إسناده من طريق محمد بن شعيب: حدثني معاوية بن سلام عن أخيه عن جده عن أبي سلام عن أبي راشد قال:
كنا مع معاوية ... فذكر الحديث مختصراً.
ثم رواه من طريق الربيع بن نافع: نا معاوية بن سلام به. *
3059- (إنّ الله عز وجل إذا أرادَ رحمةَ أُمَّةٍ من عبادِهِ قَبَضَ نبيَِّها قبلها؛ فجعله لها فَرَطاً وسََلَفاً بين يديها؛ وإذا أراد هلكةَ أُمَّةٍ عَذَّبَها ونبيُّها حَيٌِّ؛ فَأَهْلَكَها وهو يَنظرُ؛ فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَكَتِها حينَ كَذَّبُوهُ وعَصَوْا أمرَهُ) .
أخرجه مسلم (7/65) معلقاً؛ فقال: وحدثت عن أبي أسامة- وممن روى(7/159)
ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدثنا أبو أسامة-: حدثني بُريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ فإنهما أخرجا أحاديث كثيرة عن أبي أسامة بإسناده هذا؛ لولا أنه منقطع بين مسلم وأبي أسامة؛ فإنه لم يذكر من الذي حدثه عنه؛ لكنه قد جزم بأنه رواه عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري، وقد وصله جمع عنه.
فأخرجه ابن حبان في "صحيحه " (8/223/6613 و 9/172/7171- الإحسان) ، وابن عدي في "الكامل " (2/496) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/77) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (15/518/2) من طرق عن الجوهري به.
ذكره ابن عدي في ترجمة (بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري) ، وقال:
" وبريد بن عبد الله قد اعتبرت حديثه؛ فلم أر فيه حديثاً منكراً، وأنكر ما روى هذا الحديث، وهذا طريق حسن رواه ثقات، وقد أدخله قوم في "صحاحهم"؛ وأرجو أن لا يكون ببريد هذا بأس".
قلت: قد أخرج له الشيخان كما ذكرت آنفاً، وقال الذهبي في " الكاشف ":
" صدوق ". وقال الحافظ في " التقريب ":
" ثقة يخطئ قليلاً ".
ثم إن أبا أسامة- واسمه حماد بن أسامة- قد تابعه يحيى بن بريد بن أبي بردة عن أبيه.
أخرجه ابن عدي (7/2681) من طريق القواريري عنه.(7/160)
ويحيى هذا مختلف فيه، وترجمته مبسوطة في "اللسان "، ووقع فيه: " يحيى ابن بردة.. " خطأ، فالعمدة على رواية أبي أسامة، فإنه ثقة ثبت. *
3060 - (أَتَعَلَّمُ بها قبرَ أخي، وأَدْفِنُ إليه مَنْ مات من أهلي.
يعني: عثمانَ بنَ مَظْعُونٍ رضي الله عنه) .
أخرجه أبو داود (3206) ، ومن طريقه: البيهقي (3/412) ، وابن شبَّة في " تاريخ المدينة " (1/102) عن كثير بن زيد المدني عن المطلب قال:
لما مات عثمان بن مظعون أُخرج بجنازته، فدُفن، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام إليها رسوله الله- صلى الله عليه وسلم - وحسر عن ذراعيه، قال كثير: قال المطلب: قال الذي يخبرني ذلك عن رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - حين حسر عنهما، ثم حملها فوضعها عند رأسه،
وقال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد متصل حسن؛ للخلاف المعروف في كثير بن زيد المدني هذا، ولخص ذلك الحافظ بقوله في " التقريب ":
" صدوق يخطئ ".
ولذلك قال في " التلخيص الحبير " (5/229- المنيرية) :
" وإسناده حسن، ليس فيه إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب، وهو صدوق، وقد بين المطلب أن مخبِراً أخبره، ولم يسمِّه، ولا يضر إبهام الصحابي. ورواه ابن ماجه، وابن عدي مختصراً؛ من طريق كثير بن زيد أيضاً عن زينب بنت نبيط عن
أنس. قال أبو زرعة: هذا خطأ. وأشار إلى أن الصواب رواية من رواه عن كثير عن المطلب. ورواه الطبراني في" الأوسط " من حديث أنس بإسناد آخر فيه ضعف ".(7/161)
وقال النووي في " شرح المهذب " (5/282) بعد أن ساق الحديث:
" فهو مسند لا مرسل؛ لأنه رواه عن صحابي، والصحابة رضي الله عنهم كلهم لا تضر الجهالة بأعيانهم، ورواه ابن ماجه رحمه الله عن أنس رضي الله عنه ".
قلت: قد عرفت أن الرواية عن أنس غير محفوظة، وأن الصحيح أنه من رواية كثير بن زيد عن المطلب، هكذا ذكر ابن أبي حاتم في "العلل " (1/348-349) عن أبي زرعة، ونقلته آنفاً، وهو عن أنس عند ابن ماجه (1561) ، و" الكامل " لابن عدي (6/2089) ؛ وقال عقبه وفي آخر ترجمة (كثير) :
" ولم أر بحديثه بأساً، وأرجو أنه لا بأس به ".
قلت: وإذا عرفت ما تقدم من التحقيق؛ تبين لك أنه أخطأ في هذا الحديث رجلان:
الأول: الحافظ الذهبي؛ بإعلاله إياه بالإرسال، فقال في " سير أعلام النبلاء " (1/154) :
" هذا مرسل "!
وسبب وهمه أنه ذكر الحديث مختصراً دون قول كثير بن زيد: " قال المطلب: قال الذي يخبرني ذلك…. "!
والظاهر أنه ذكره من ذاكرته، فهذا عذره، ولكن ما عذر المعلق عليه حين قال:
" وسنده حسن؛ لكنه مرسل كما قال المؤلف؛ فإن المطلب هو ابن عبد الله بن المطلب.. تابعي، وقد أخطأ من ظنه المطلب بن أبي وداعة الصحابي.. "؟!
فأقول: نعم لقد أخطأ من ظن ما ذكرت، ولكن ما بالك تبصر القذاة في عين(7/162)
أخيك؛ ولا ترى الجذع في عينيك؟! فها أنت تتابع الذهبي في وهمه , بدل أن تنبه عليه، وأنت لا عذر لك؛ لأنك تشير إلى الحديث برقمه في "السنن "؛ مشعراً بذلك أنك رجعت إلى الحديث فيه مباشرة! ومع ذلك لم تر قول المطلب فيه: " قال الذي يخبرني.. "! فلا عذر لك والحالة هذه! اللهم! إلا إذا كان الواقع خلاف ما أشعرت به القارىء! وكان ذكرك للرقم تزييناً منك للتخريج! كما تفعل أنت وغيرك من المتشبعين الموهمين للقراء بطول الباع في التحقيق! ولا تحقيق سوى التحويش والتقميش!! وحينئذ فلك عذر كالذهبي! ولكن شتان ما بين عذريكما؛ فإن عذره عذر العارفين بالتأليف- وبخاصة إذا كان مثل "السير"- يكون مقبولاً عندهم، وأما عذرك؛ فهو مثل ما يقال: "عذر أقبح من ذنب "!!
والرجل الآخر: البوصيري؛ فإنه قال في " زوائد ابن ماجه " (2/ 40) تحت حديث أنس المشار إليه آنفاً:
" هذا إسناد حسن، كثير بن زيد مختلف فيه، وله شاهد من حديث المطلب ابن أبي وداعة، رواه أبو داود في (سننه) ".
قلت: ووجه الخطأ ظاهر جداً لمن عرف أن حديث المطلب وحديث أنس حديثٌ واحدٌ، رواهما راوٍ واحد هو كثير بن زيد، وأنه أخطأ حين قال مرة: "عن أنس " فكيف يصح أن يجعل خطؤه شاهداً لصوابه؟! هذا مما لا يعقل!
ومن الغريب حقاً أن يخفى هذا الخطأ على المعلق المشار إليه آنفاً، فينقل عن البوصيري تحسينه لسند ابن ماجه؛ وهو يرى في السطور التي كتبها بيده- فيما أظن- أن سنده وسند أبي داود مدارهما على الراوي الواحد، الذي اضطرب هو فيه! فلو أنه كان يعي ما يكتب، ويعرف الفرق بين الحديث المعلول وغير المعلول؛ لما وقع في هذا الخطأ المجسد المجسم!!(7/163)
وأما قول البوصيري: ".. حديث المطلب بن أبي وداعة "؛ فهو خطأ تقدم التنبيه
عليه في كلام المعلق المذكور، وقد كنت وقعت أنا أيضاً فيه حين ألفت كتابي "أحكام الجنائز وبدعها " منذ نحو خمس وعشرين سنة، ثم نبهني عليه الدكتور الفاضل عبد العليم عبد العظيم جزاه الله خيراً، بناء على ما في "تحفة الأشراف " للحافظ المزي. ثم لما أعدت النظر في السند وفي ترجمة (كثير بن زيد) تبين لي الخطأ، وازددت تبصراً حين رأيت ابن سعد قد أخرج الحديث (3/399) مختصراً من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب.. وإن كان رواه عن شيخه محمد بن عمر، وهو الواقدي، وهو متروك، فإنه في مثل ما نحن فيه إن كان لا ينفع؛ فإنه لا يضر.
وقد أشار غير واحد إلى ثبوت الحديث في الجملة؛ فقال ابن عبد البر في ترجمة (عثمان بن مظعون) من "الاستيعاب ":
" وأَعْلَمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبرَه بحجر، وكان يزوره ".
وكذا قال ابن الأثير في " أسد الغابة ".
ووجدت له شاهداً مختصراً أيضاً من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم قال:
رأيت قبر عثمان بن مظعون وعنده شيء مرتفع. يعني: كأنه علم.
أخرجه ابن سعد (3/397) بسند حسن عنه.
وفيه إشارة إلى أن الحجر الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده كان باقياً على قبر ابن مظعون رضي الله عنه إلى القرن الثاني الهجري؛ فإن أبا بكر بن محمد بن حزم هذا مات سنة عشرين ومئة، ويظهر من قوله: " شيء " أن الحجر لم يكن ظاهراً، فلعل ذلك من تراكم الأتربة عليه. والله أعلم.(7/164)
ثم إنه قد ذكر غير واحد: أن عثمان بن مظعون كان أول من دفن في البقيع،
ولم أر ذلك متصلاً من وجه يحتج به، وأعلى ما وقفت عليه ما أخرجه ابن سعد (3/397) من طريق الواقدي نفسه قال: أخبرنا محمد بن عبد الله عن الزهري عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:
" أول من دفن بالبقيع من المسلمين عثمان بن مظعون.. ".
وابن ربيعة هذا ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لكن السند إليه هالك؛ لأن الواقدي متروك كما تقدم، وشيخه محمد بن عبد الله- هو ابن أبي سبرة أبو بكر المدني- قال الذهبي في " الميزان ":
" قال أحمد: كان يضع الحديث ".
وذكر ابن عبد البر من طريق الواقدي عن [ابن] أبي سبرة عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد الله بن أبي رافع قال ... فذكره.
وابن أبي رافع هذا تابعي ثقة.
ثم أخرج ابن سعد (3/612) من طريق الواقدي أيضاً قال: أخبرنا عبد الجبار ابن عمارة عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال:
أول من دفن بالبقيع أسعد بن زرارة.
قال الواقدي: هذا قول الأنصار. والمهاجرون يقولون: أول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون.
وعلقه ابن شبة في "تاريخه " (1/96) على الواقدي بإسناد آخر له نحوه مختصراً لم يذكر دفن عثمان.(7/165)
ثم روى (1/101) بسند فيه متروكان عن شيخ مخزومي يقال له: عمر قال:
كان عثمان بن مظعون رضي الله عنه من أول من مات من المهاجرين، فقالوا: يارسول الله! أين ندفنه؟ قال: " بالبقيع ". قال: فَلَحَدَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وفضل حجر من حجارة لحده، فحمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه عند رجليه، فلما ولي مروان ابن الحكم المدينة مر على ذلك الحجر؛ فأمر به فرمي.. إلخ.
وبالجملة؛ فلا يدرى من هو الصحابي الذي دفن في البقيع أولاً؛ أهو عثمان ابن مظعون؛ أم أسعد بن زرارة؟ على أن ذلك كله مدار روايته على الواقدي المتروك وبأسانيده المختلفة الواهية.
وقد استدل الشافعية وغيرهم بهذا الحديث على أنه يستحب أن يجعل عند رأسه علامة من حجر أو غيره؛ قالوا: ولأنه يعرف به فَيُزار.
وأقول: ولأنه إذا عرف لم يجلس عليه ولم يدس بالنعال. وقد ترجم له أبو داود بقوله:
" باب في جمع الموتى في قبر، والقبر يُعَلَّمُ ".
والبيهقي فقال:
" باب إعلام القبر بصخرة أو علامة ما كانت ". *
3061- (لا تقومُ الساعةُ حتى تزولَ الجبالُ عن أماكِنها؛ وترونَ
الأمورَ العِظامَ التي لم تكونوا ترونَها) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (7/250/6857) من طريق عُفير بن مَعْدان عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.(7/166)
قلت: ورجاله ثقات؛ غير عفير بن معدان، وهو ضعيف كما في "التقريب ". وبه أعله الهيثمي في "المجمع " (7/326) .
وأقول: قد رواه معمر عن قتادة عن الحسن- مرسلاً -.
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (11/374/20780) ؛فالعلة عنعنة الحسن
- وهو البصري-؛ فإنه مع اختلاف العلماء في سماعه من سمرة؛ فإنه قد رماه بعضهم بالتدليس، وقد عنعنه كما ترى، فمن المحتمل أنه تلقاه عن ثعلبة بن عِبَادٍ العبدي البصري؛ فإنه قد رواه الأسود بن قيس عن ثعلبة قال:
" شهدت يوماً خطبة لسمرة بن جندب، فذكر في خطبته حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:
قلت: فذكر صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف، ثم خطبته بعدها، وفيها:
" والله! لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً؛ آخرهم الأعور الدجال ... ولن يكون ذلك كذلك حتى تروا أموراً يتفاقم شأنها في أنفسكم وتساءلون بينكم: هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكراً؟ وحتى تزول جبال عن مراتبها، ثم على إثْرِ ذلك يكون القبض ".
أخرجه أحمد، والطبراني (7/225- 231) ، وبعض أصحاب "السنن "، وصححه ابن خزيمة (2/325/1397) ، وابن حبان (2852 و 2856الإحسان) ، والحاكم (1/ 329) .
ورجاله ثقات؛ غير ثعلبة هذا؛ لم يوثقه غير ابن حبان (4/98) ، ولم يرو عنه
غير الأسود هذا؛ وهو مخرج في " ضعيف أبي داود " (216) .(7/167)
لكن له طريق أخرى يتقوى بها من رواية جعفر بن سعد بن سمرة عن خُبيب ابن سليمان بن سمرة عن أبيه عن سمرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
" سوف ترون قبل أن تقوم الساعة أشياء تستنكرونها عظاماً؛ يقولون: هل كنا حدثنا بهذا؛ فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله تعالى، واعلموا أنها أوائل الساعة ... " حتى قال: " سوف ترون جبالاً تزول قبل حق الصيحة ".
أخرجه البزار (4/143/3397) ، والطبراني في "الكبير" (7/319/7083) من طريقين عن جعفربن سعد..
قلت: وهو إسناد ضعيف؛ خبيب هذا مجهول، وأبوه ضعيف، وجعفر ليس بالقوي.
والحديث سكت عليه الحافظ في " الفتح " (13/84) ؛ لكنه قال: " أموراً عظاماً لم تحدثوا بها أنفسكم "!
وله شاهد صحيح مختصر جداً من حديث الزهري: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فقام على المنبر، فذكر الساعة، فذكر أن فيها أموراً عظاماً، ثم قال.. الحديث.
أخرجه البخاري (540 و 7294- فتح) ، وأحمد (3/162) . *
3062- (لأنْ يُمسكَ أحدُكم يَدَهُ عَنِ الحَصى [في الصلاة] خيرٌ له من مئةِ ناقةٍ؛ كلُّها سُودُ الحَدَقِ؛ فإن غَلَبَ أحدَكم الشيطانُ فَلْيَمسحْ مَسحةً واحدةً) .
أخرجه أحمد (3/328 و 384) ، وعبد بن حميد في " المنتخب " (رقم 1143) ،(7/168)
والطحاوي في " مشكل الآثار " (2/184) من طرق عن ابن أبي ذئب عن شُرَحْبِيلَ ابن سعد عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.... فذكره.
وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه " (2/52/897) ، وأحمد أيضاً (3/300) ، وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف " (2/411- 412) ؛ قالوا: ثنا وكيع عن ابن أبي ذئب به عنه، قال:
سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسح الحصى في الصلاة، فقال:
" واحدة، ولو تمسك عنها خير لك من مئة ناقة سود الحدق ".
قلت: وشرحبيل بن سعد- وهو الأنصاري- ضعفه الجمهور، ووثقه ابن معين في رواية وابن حبان، وقال الحافظ في " التقريب ":
" صدوق، اختلط بأخرة ".
وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2/86) :
" رواه أحمد، وفيه شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف ".
لكن له شاهد من حديث أبي ذر يتقوى به، فقال الطيالسي في " مسنده " (63/469) : حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن أبي بصرة الغفاري عن أبي ذر قال:
" مسح الحصى واحدة، وأن لا تفعلها أحب إلي من مئة ناقة سود الحدق ".
ومن طريق الطيالسي أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/285) وقال:
" ورواه مجاهد عن أبي ذر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - في مسح الحصا واحدة. وقيل: عن مجاهد عن أبي وائل عن أبي ذر(7/169)
"
قلت: ورجاله ثقات رجال مسلم.
وقد توبع حماد؛ فقال عبد الرزاق (2/39/ 2402) : عن معمر وابن عيينة عن عمرو بن دينار عن رجل من بني غفار عن أبي بصرة به.
وفي رواية له (2400) عن معمر عن ابن دينار عن رجل سماه عن أبي ذر
به. لم يذكر: "عن أبي بصرة"، ولعله الصواب؛ فإن الرجل هو أبو بصرة كما في رواية حماد بن سلمة. والله أعلم.
ثم إن الحديث وإن كان موقوفاً، فهو في حكم المرفوع، فإن الأجر الذي فيه لا
يقال بمجرد الرأي كما هو ظاهر- والله أعلم-، وبخاصة أن أصله قد صح مرفوعاً؛ فقال الطيالسي (470) : حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي ذر قال:
سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل شيء؛ حتى عن مسح الحصى؟ فقال:
" واحدة ". وكذا رواه عبد الرزاق (2404) .
وإسناده صحيح إن كان مجاهد سمعه من أبي ذر، فقد قال الطيالسي عقبه:
" وقال سفيان: عن الأعمش عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه ".
وقد وصله عبد الرزاق (2403) ، وابن أبي شيبة، والبزار (1/ 275/570) من طريقين عن ابن أبي ليلى عن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن أبي ذر به، وزاد في آخره:
".... وإلا فدع ".
وكذا رواه الطحاوي (2/183) ، وأحمد (5/163) .(7/170)
وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف من قبل حفظه، وقد رواه مرة بإسناد آخر؛ فقال أحمد (5/402) : ثنا وكيع عن ابن أبي ليلى عن شيخ يقال له: هلال عن حذيفة قال: سألت.. الحديث. وكذا قال ابن
أبي شيبة.
والصواب روايته الأولى عن أبي ذر بشهادة رواية أبي بصرة الغفاري ومجاهد عنه. والله أعلم.
وقد رواه أبو الأحوص عن أبي ذر مرفوعاً بلفظ:
" إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى؛ فإن الرحمة تواجهه ".
وهو بهذا اللفظ ضعيف كما حققته في " الإرواء " (2/97/377) .
وفي "صحيح البخاري " (1207) ، و"صحيح مسلم " (546) ما يشهد له من حديث مُعَيقيب- رضي الله عنه -. *
3063- (إنّ من أَفْرَى الفِرَى أنْ يُرِيَ عَينيهِ في المنامِ ما لم تَرَيَا) .
أخرجه أحمد (2/96) - واللفظ له-، والبخاري (7043) من طريق عبد الرحمن ابن عبد الله بن دينار- مولى ابن عمر- عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال ... فذ كره.
قلت: وعبد الرحمن هذا مع كونه من رجال البخاري؛ ففيه ضعف من قبل حفظه؛ وقد مشاه الحافظ في " الفتح "؛ فقال تحت هذا الحديث (12/420) :
" مختلف فيه؛ قال ابن المديني: صدوق. وقال ابن معين: في حديثه عندي ضعف. وقال الدارقطني: خالف فيه البخاري الناس؛ وليس بمتروك. قلت (الحافظ) :(7/171)
عمدة البخاري فيه كلام شيخه علي، وأما قول ابن معين فلم يفسره، ولعله عنى حديثاً معيناً، ومع ذلك فما أخرج له البخاري شيئاً إلا وله فيه متابع أو شاهد.. ".
ثم ذكر له متابعاً وشاهداً كما يأتي، وبذلك يقوى الحديث؛ وإلا فدفاعه عنه غير مقنع؛ بل تحيزه فيه للبخاري ظاهر؛ فقد أغمض نظره عن أقوال أئمة آخرين فيه ذكرهم في " التهذيب "؛ فقال أبو حاتم:
" فيه لين، يكتب حديثه ولا يحتج به ".
وعليه اعتمد الذهبي في " الكاشف "؛ فلم يذكر غيره.
وقال ابن عدي:
" وبعض ما يرويه منكر لا يتابع عليه، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء " (1) .
ولخص ذلك الحافظ نفسه في " التقريب " فقال:
" صدوق يخطئ ".
وذلك يعني أنه من المرتبة الخامسة عنده؛ كما شرحه في المقدمة، وهي فيمن يكون حديثه مرشحاً للتحسين بغيره، فالأرجح من كلامه المتقدم في " الفتح " أن البخاري ما أخرج له إلا في المتابعات والشواهد.
علماً أن في هذا الإطلاق نظراً عندي. والله أعلم.
أما المتابع؛ فهو أبو عثمان عن عبد الله بن دينار به.
_________
(1) انظر ((الكامل)) لابن عدي (4/1607/1608) .(7/172)
أخرجه أحمد (2/118- 119) من طريق حيوة: أخبرني أبو عثمان به.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم؛ فإن أبا عثمان هذا هو الوليد بن أبي الوليد؛ كما في حديث آخر عند أحمد (2/97) أخرجه عن حيوة أيضا: حدثنا أبو عثمان الوليد عن عبد الله بن دينار مرفوعاً بلفظ:
" إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ".
وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (رقم 41) بإسناد أحمد نفسه، وقال فيه: "حدثني أبو عثمان الوليد بن أبي الوليد.. "، وكذا رواه ابن حبان (431) .
وأخرجه مسلم (8/6) من طريق سعيد بن أبي أيوب فقال: عن الوليد بن أبي الوليد عن عبد الله بن دينار به. وفيه قصة لابن عمر.
ووهم الهيثمي؛ فجزم في "المجمع " (7/174) أن أبا عثمان هذا هو العباس ابن الفضل البصري المتروك! ورد ذلك عليه الحافظ في "التعجيل " (ص504) ، وتبعه العلامة أحمد شاكر في تعليقه على " المسند " (8/243- 244) - جزاهما الله خيراً-، ولكنهما غفلا عن حجة أخرى- كما غفل عنها الهيثمي أيضاً-، وهي أن البزار قد أخرج الحديث أيضاً من طريق أبي عثمان باسمه لا بكنيته؛ فقال في "مسنده " (1/115/211- كشف الأستار) : حدثنا محمد بن مسكين: ثنا سعيد ابن أبي مريم: ثنا نافع بن يزيد عن الوليد بن أبي الوليد عن يزيد بن الهاد عن عبد الله بن دينار به أتم منه، ولفظه:
" من أفرى الفرى من ادعى إلى غير والده، ومن أفرى الفرى من أرى عينيه ما
لم تر، ومن أفرى الفرى من قال علي ما لم أقل ".(7/173)
وقال الهيثمي في " المجمع" (1/144) :
" رواه البزار، ورجاله رجال (الصحيح) ".
ولم تقع عنده الجملة الأولى منه. وإسناده صحيح على شرط مسلم؛ لكن زاد في إسناده يزيد بن الهاد بين الوليد وعبد الله بن دينار، وذكر يزيد بن الهاد فيه محفوظ؛ فقد رواه حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار بفقرة البر فقط.
أخرجه مسلم أيضاً. فمن الممكن أن يكون الوليد تلقاه أولاً عن ابن الهاد عن ابن دينار؛ كما في رواية نافع بن يزيد هذه، ثم تلقاه عن ابن دينار مباشرة؛ كما في رواية حيوة عند أحمد، وسعيد بن أبي أيوب عند مسلم. والله أعلم.
والمقصود؛ أن هذه الروايات الصحيحة تدل على أن الحديث حديث الوليد الثقة؛ وليس حديث العباس بن الفضل المتروك.
وأما الشاهد؛ فهو من حديث واثلة بن الأسقع، وله عنه طرق:
الأولى: عن عبد الواحد بن عبد الله النصري قال: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره مثل حديث البزار عن ابن عمر.
أخرجه البخاري (3509) ، وأحمد (4/106) ، والطبراني في " المعجم الكبير" (22/70/171- 180) .
الثانية: عن ربيعة بن يزيد قال: سمعت واثلة بن الأسقع به.
أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (1/118/32- الإحسان) ، والحاكم (4/398) من طريق أحمد- وهذا في "المسند" (3/490 و 491) -، والطبراني (164) ؛ كلهم من طريق معاوية بن صالح عنه. وقال الحاكم:(7/174)
" صحيح على شرط الشيخين "! ووافقه الذهبي.
وأقول: إنما هو على شرط مسلم فقط؛ معاوية لم يخرج له البخاري في "الصحيح ".
الثالثة: عن النضر بن عبد الرحمن بن عبد الله قال: سمعت واثلة بن الأسقع يقول ... فذ كره.
أخرجه أحمد (4/107) من طريق محمد بن عجلان عنه.
قلت: ورجاله ثقات؛ غير النضر هذا؛ أورده الحافظ في "التعجيل " وقال:
"فيه نظر، وقال في "الإكمال ": مجهول ".
فأقول: لعله تحرف اسمه على القطيعي أو غيره من رواة "المسند"؛ فقد أخرجه الطبراني (22/ 71/174) من الوجه الذي أخرجه أحمد: عن محمد بن عجلان قال: سمعت عبد الواحد بن عبد الله قال: سمعت واثلة بن الأسقع به.
فرجع الإسناد إلى الطريق الأولى.
الرابعة: عن عبد الأعلى بن هلال الحمصي عن واثلة بن الأسقع به.
أخرجه الطبراني (22/93/ 224) وفي " الأوسط " (2/80/2/6295- بترقيمي) من طريق طلحة بن زيد عن يونس بن يزيد عن الزهري عنه.
وعبد الأعلى- على هذا- هو السلمي؛ ترجمه البخاري وابن أبي حاتم، ولم- يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وأما ابن حبان فذكره في "الثقات " (5/128) ، وأخرج له في "الصحيح " (2093) حديث: " إني عند الله مكتوب خاتم النبيين.." الحديث. وقد صححته في "المشكاة" (5759) ، وبيانه في "الضعيفة " (2085) .(7/175)
لكن طلحة بن زيد- وهو الدمشقي ثم الرقي - متروك.
الخامسة: عن خصيلة بنت واثلة بن الأسقع قالت: سمعت أبي يقول ... فذكره مفرقاً دون حديث الترجمة.
أخرجه الطبراني (237 و 238) من طريق محمد بن الأشقر اللخمي عنها.
وابن الأشقر هذا ضعيف، وخصيلة- ويقال: فسيلة - لا تعرف، ولها حديث
آخر في "أبي داود" وهو مخرج في "غاية المرام " برقم (305) . *
3064- (إنّ الله قد غَفَرَ لك كَذِبَكَ بتصديقِكَ بـ " لا إله إلا الله ") .
روي من حديث أنس، وابن عمر، وابن عباس، والحسن البصري مرسلاً.
1 - أما حديث أنس؛ فيرويه الحارث بن عبيد عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل:
" يا فلان! فعلت كذا؟ ".
قال: لا والذي لا إله إلا هو! والنبي عليه السلام يعلم أنه قد فعله، فقال له ... فذكره.
أخرجه عبد بن حميد في " المنتخب من المسند " (3/175/1374) ، وأبو يعلى في "مسنده " (6/104/3368) ، والبزار (4/7/3068) ، والعقيلي في "الضعفاء " (1/213) والسياق له، وابن عدي في " الكامل " (2/608) ، والبيهقي في " السنن " (10/37) .
وقال العقيلي في ترجمة الحارث هذا- وهو الإيادي -:
" ولا يتابع عليه، وهذا المتن يروى بغير هذا الإسناد بإسناد صالح أصح من هذا ".(7/176)
قلت: كأنه يشير إلى حديث آخر- ممّا سنورده -.
وقال البزار:
"لا نعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا الحارث بن عبيد أبو قدامة، وخالفه حماد بن سلمة، فرواه عن ثابت عن ابن عمر ".
قلت: وهو الآتي بعده.
والحارث هذا قد ضعفوه لوهمه، وأشار إلى ذلك الحافظ بقوله في "التقريب ": "صدوق يخطئ ".
قلت: فمثله يستشهد بحديثه، ويتقوى بغيره، ولعل في كلام العقيلي المتقدم ما يشير إلى ذلك. وقد وهم فيه الهيثمي؛ فقال (10/83) بعد أن عزا الحديث للبزار وأبي يعلى:
" ورجالهما رجال (الصحيح) "!
فتعقبه الحافظ فكتب على هامش "المجمع ":
"قلت: فيه الحارث بن عبيد أبو قدامة، وهو كثير المناكير، وهذا منها، وقد ذكر البزار أنه تفرد به ".
2- وأما حديث ابن عمر فيرويه ثابت أيضاً عن عبد الله بن عمر:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل.. الحديث.
أخرجه أحمد (2/68) ، وأبو يعلى (10/55/5690) من طريق عفان: حدثنا حماد: حدثنا ثابت.... قال حماد:
"لم يسمع هذا من ابن عمر، بينهما رجل " يعني: ثابتا ً.(7/177)
ثم أخرجه أحمد (2/70 و 118) ، وعبد بن حميد في "المنتخب " (2/54/855) ، والبيهقي أيضاً من طرق ثلاثة أخرى عن حماد بن سلمة به دون قول حماد: " لم يسمع.. ".
قلت: ورجاله ثقات على شرط مسلم؛ لكنه منقطع لتصريح حماد بأن ثابتاً لم يسمعه من ابن عمر. وبهذا أعله الهيثمي.
وقد أعله بعض الناشئين في هذا العلم بعلة عجيبة! فقال المعلق على "المنتخب ":
"هذا سند رجاله ثقات؛ لكن في القلب شيء؛ وذلك لاختلاط حماد بن سلمة (!) ، فلم نستطع التمييز هل روى عنه يحيى قبل الاختلاط أم بعده؟ ".
قلت: والرد من وجوه:
أولاً: لا نعلم أحداً من أهل العلم وصفه بالاختلاط؛ وإنما بالتغير، وهذا لا يضر، ولذلك لم يذكره ابن الصلاح في المختلطين في آخر كتابه " مقدمة علوم الحديث "؛ ولا الكيال في كتابه الجامع في هذا المجال: " الكواكب النيرات "، واحتج به مسلم في الأصول؛ منها حديثه عن ثابت عن أنس المتقدم برقم (2592) .
ثانياً: قال ابن عدي في آخر ترجمة ثابت من " الكامل " (2/527) :
" كتب عنه الأئمة والثقات؛ وأروى الناس عنه حماد بن سلمة؛ وماهو إلا ثقة صدوق؛ وأحاديثه أحاديث صالحة مستقيمة إذا روى عنه ثقة؛ وله حديث
كثير؛ وهو من ثقات المسلمين؛ وما وقع في حديثه من النكرة فليس ذاك منه؛ إنما(7/178)
هو من الراوي عنه؛ لأنه قد روى عنه جماعة ضعفاء ومجهولون ".
قلت: وهذا الحديث قد رواه عنه أربعة من الثقات: عفان بن مسلم، ويحيى ابن آدم، وحسن بن موسى، وعبد الصمد - وهو ابن عبد الوارث-، وعليه؛ فحديثه هذا عن ثابت صحيح؛ لولا أنه هو نفسه رحمه الله ذكر أنه منقطع.
ومن عجيب أمر هذا الناشىء؛ أن في "مسند عبد بن حميد" هذا أكثر من خمسين حديثاً من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وحده؛ فضلاً عن غيره، وهاك أرقامها:
(1200و1202و1203و1204و1206و1208و1214و1256و1261و1290و1291و1294و1295و1297 - 1299و 1305- 1328و1331 ـ 1333 و 1335و1336و1338و1341و1358و1382و1384و1385) .
فأقول: وفي كل هذه الأحاديث لم أره أعل واحداً منها بحماد بن سلمة؛ بل إنه صرح بصحة بعضها، والكثير منها في "صحيح مسلم "، فما الذي جعله يعل حديثنا هذا به دونها؟ ! أخشى ما أخشاه أنه استنكر متنه لغرابته - وليس له ذلك - فنظر في سنده؛ فلم يجد ما يتعلق به إلا رميه لحماد بالاختلاط؛ لعدم تفريقه بين التغير والاختلاط كما تقدم! ولو أنه أعطى البحث حقه أولاً؛ لوجد العلة منصوصاً عليها في رواية أحمد- وقد عزاه إليه- وهي الانقطاع، ولأغناه ذلك عن رمي هذا الإمام بما ليس فيه! ثم لوجد للحديث من الشواهد ما يقويه ثانياً؛ ولكن هذا شأن كثير من الناشئين الذين لم يتمرسوا على التحقيق والتفتيش. والله المستعان.
ولحماد بن سلمة إسناد آخر، وهو الآتي:(7/179)
3- وأما حديث ابن عباس؛ فيرويه أبو يحيى عنه:
أن رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدعي البينة، فلم يكن له بينة، فاستحلف المطلوب، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قد فعلت، ولكن غفر لك بإخلاصك قول: لا إله إلا الله ".
أخرجه أبو داود (3275) ؛ وعنه البيهقي، وأحمد (1/253 و 289 و 2/70) من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى به. ثم أخرجه أبو داود (3620) عن أبي الأ حوص- مختصراً- والحاكم (4/95-96) عن عبد الوارث، وأحمد (1/299 و 322) عن شريك؛ ثلاثتهم عن عطاء به. وقال الحاكم:
" صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي.
قلت: عطاء- وهو ابن السائب- كان اختلط، وقد ادعى الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" (4/75) أن إسناده صحيح، وأن حماد بن سلمة سمع من عطاء قبل الاختلاط، وتبعه على ذلك المعلق على "مسند أبي يعلى " (10/56) ، ولكن يرد عليه أن حماداً سمع من عطاء بعد الاختلاط أيضاً كما استظهر الحافظ في آخر ترجمة عطاء، فيتوقف فيه.
نعم؛ قد رواه عن عطاء سفيان الثوري- كما علقه البيهقي، ووصله النسائي في "القضاء" من "السنن الكبرى"- من طريق محمد بن إسماعيل بن سمرة- وهو ثقة- عن وكيع عن سفيان به، كما في "تحفة المزي " (4/ 390) . وبهذه الطريق يصير الحديث صحيحاً؛ لأن سفيان الثوري سمع من عطاء قبل الاختلاط اتفاقا، وأبو يحيى؛ قال أبو داود عقب الحديث:(7/180)
" اسمه زياد، كوفي ثقة ".
ووثقه غيره.
4- وأما مرسل البصري؛ فيرويه أبو عمرو بن نُجَيد: أنبأ أبو مسلم: ثنا الأنصاري: ثنا أشعث عنه:
أن رجلاً فَقَدَ ناقة له، وادعاها على رجل، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا أخذ ناقتي، فقال: لا، والله الذي لا إله إلا هو ما أخذتها. فقال: قد أخذتها؛ رُدُّها عليه. فردها عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" قد غفر لك بإخلاصك ".
أخرجه البيهقي من طرق عن أبي عمرو بن نجيد، ولم أعرفه الآن (1) ، ومن فوقه ثقات:
أبو مسلم- هو إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي - ثقة حافظ مترجم في " تذكرة الحفاظ" و " تاريخ بغداد ".
والأنصاري هو محمد بن عبد الله بن المثنى من رجال الشيخين.
وأشعث هو ابن عبد الملك الحُمراني؛ وهو ثقة فقيه.
(فائدة) :
قال البيهقي عقب حديث الحسن هذا:
" هذا منقطع، فإن كان في الأصل صحيحاً فالمقصود منه البيان: أن الذنب وإن عظم لم يكن موجباً للنار متى ما صحت العقيدة، وكان ممن سبقت له المغفرة،
_________
(1) هو في "السير" (16/146) مفتتحة ترجمته بوصفه: "المحدث الرباني، شيخ نيسابور"! (الناشر) .(7/181)
وليس هذا التعيين لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ". *
3065- (لا تَحُجُّ امرأةٌ إلا ومعها مَحْرَمٌ) .
أخرجه البزار في "مسنده ": حدثنا عمرو بن علي: ثنا أبو عاصم عن ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع معبداً مولى ابن عباس يحدث عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره. فقال رجل: يا نبي الله! إني اكتُتِبتُ في غزوة كذا وامرأتي حاجة؟ قال:
" ارجع فحج معها ". كذا في "نصب الراية" (2/ 10) .
أقول: ورواه الطحاوي في "شرح المعاني " (1/356) من طريق أخرى عن أبي عاصم به إلا أنه لم يسق لفظه.
وأخرجه الدارقطني في "سننه " (2/222/30) من طريق أبي حميد قال: سمعت حجاجاً يقول: قال ابن جريج عن عمرو بن دينار به بلفظ:
جاء رجل إلى المدينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" أين نزلت؟ "
قال: على فلانة! قال:
" أغلقت عليك بابها؟ لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم ".
ورواه البزار (2/187/1488- كشف الأستار) ، والطبراني في " المعجم الكبير" (11/249/11638و11639) ، و"الأوسط " (2/229/8542- بترقيمي) من طرق عن عمرو بن دينار مختصراً.(7/182)
ورجال الدارقطني ثقات، وأبو حميد هو عبد الله بن محمد بن تميم المصيصي،
وقد وثقه النسائي وابن حبان (8/367) .
وحجاج هو ابن محمد المصيصي الأعور، قال الحافظ في" التقريب ":
" ثقة ثبت؛ لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته ".
قلت: لكنه قد توبع من أبي عاصم- وهو الضحاك بن مخلد النبيل، الثقة لثبت- في جملة الحج كما تقدم.
وأخرجه البزار بتمامه؛ إلا أنه لم يذكر جملة الحج، وقال:
" فكره ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
وقال الهيثمي (4/ 326) :
" رجال البزار رجال (الصحيح) ". وقد ذكر الحافظ في "الفتح " (4/ 76) حديث الترجمة بلفظ الدارقطني
وروا يته، وقال:
" وصححه أبو عوانة ".
وذكره في " الدراية " (2/ 4) بلفظ الترجمة من رواية البزار، ثم قال:
" وأخرجه الدارقطني بنحوه، وإسناده صحيح، وهو في "الصحيحين " من هذا الوجه بلفظ: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ". قلت: وهذا مخرج في "الإرواء" برقم (995) من رواية سفيان عن عمرو به، وزاد:(7/183)
" فقال رجل يا رسول الله! إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا؛ وامرأتي تريد الحج؟ فقال:
" اخرج معها"، وفي رواية: " انطلق فحج مع امرأتك ". وصححه ابن خزيمة (2529) ، وابن حبان (2720) ، ورواه الطحاوي في "شرح المعاني "، واستدل به على أنه لا ينبغي للمرأة أن تحج إلا بمحرم، وقال (1/ 358) :
" ولولا ذلك لقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما حاجتها إليك لأنها تخرج مع المسلمين، وأنت فامض لوجهك، ففي ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمره بذلك، وأمره أن يحج معها دليل على أنها لا يصلح لها الحج إلا به ".
وبهذا قال الحسن البصري وطاوس؛ أنه لا تحج المرأة إلا مع محرم.
أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (4/ 4 و5) عنهما. *
3066- (كان رجلٌ من الأنصار أسلمَ؛ ثم ارتدَّ ولَحِقَ بالشركِ؛ ثم تَنَدَّمَ، فأرسل إلى قومِهِ: سَلُوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل له من توبةٍ؟ فجاء قومُهُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنَّ فلاناً قد نَدِمَ، وإنّه أمَرَنا أن نسألك: هل له من توبةٍ؟ فنزلت: (كَيْفَ يهدِي اللهُ قوماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِم..) إلى قوله: (غفورٌ رحيمٌ) ، فأرسل إليهِ [قومُه] ؛ فأَسلَم) .
أخرجه النسائي (2/ 170) ، وابن جرير (3/ 241) قالا- والسياق للأول، والزيادة للآخر-: أخبرنا محمد بن عبد الله بن زريع قال: حدثنا يزيد- وهو ابن زريع- قال: أنبأنا داود عن عكرمة عن ابن عباس قال ... فذكره.
وتابع محمداً بشر بن معاذ العقدي قال: حدثنا يزيد بن زريع به.(7/184)
أخرجه ابن حبان (1728- موارد) .
وتابع يزيد حفص بن غياث عن داود بن أبي هند به.
أخرجه الحاكم (2/142 و 4/ 366) وقال:
" صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي.
وتابعه أيضاً علي بن عاصم عن داود به؛ إلا أنه خالف في سياقه فقال:
" ارتد رجل من الأنصار.. " الحديث نحوه، وفي آخره:
" قال: فكتب بها قومه إليه، فلما قرئت عليه قال: والله! ما كذبني قومي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا كذب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على الله عز وجل، والله أصدق الثلاثة، قال: فرجع تائباً إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فقبل ذلك منه، وخلى سبيله ".
قلت: وعلي بن عاصم صدوق؛ لكنه كان يخطئ ويصر كما في "التقريب "؛ فلا يقبل تفرده ومخالفته.
لكنه قد توبع؛ فأخرجه ابن جرير من طريق حكيم بن جَمِيع عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال:
ارتد رجل من الأنصار.. فذكر نحوه.
كذا فيه، لم يسق لفظه، وإنما أحال به على لفظ يزيد بن زريع الذي قبله، وطرفه الأول مثل طرف حديث علي بن عاصم كما ترى. فالله أعلم؛ هل نحا نحوه- أعني: حديث عاصم- أم نحو حديث ابن زريع؟
لكن قد ساق ابن جرير عقبه شاهداً له من رواية عبد الرزاق قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال: أخبرنا حميد الأعرج عن مجاهد قال:(7/185)
جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنزل الله فيه القرآن: (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم) إلى (إلا الذين تابوا..) الآية، قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث:
إنك- والله! ما علمت- لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة، قال: فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه ".
قلت: ورجال إسناده ثقات، فهو مرسل صحيح. فهو شاهد قوي لحديث علي بن عاصم.
وأخرج له ابن جرير شاهداً آخر بإسناده عن السدي مرسلاً مختصراً.
هذا؛ وحكيم بن جميع المتقدم قد أورده البخاري وابن أبي حاتم في كتابيهما، من رواية أبي كريب عنه، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وكذلك ذكره ابن حبان في "الثقات " (8/ 212) ، وقال:
" يروي المقاطيع ".
قلت: فكأنه لم يقف على روايته الموصولة هذه. ولتمام الفائدة لا بد من ذكر الآيات الأربع بتمامها، وهي في (آل عمران/ 86 ـ89) :
(كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لايهدي القوم الظالمين. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله الملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لايخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) .(7/186)
ولا ينافي ذلك قوله تعالى بعدها:
(إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون. إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن تقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) .
ذلك؛ لأن المقصود: لن تقبل توبتهم عند الممات كما قال تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً) [النساء/18] .
قاله الحافظ ابن كثير. *
3067- (لولا أن أشُقَّ على أمتي؛ لَفَرَضْتُ على أمتي السِّوَاكَ كما فَرَضْتُ عليهم الوضوءَ) .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (1/ 170) : حدثنا عبيدة بن حميد قال: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن يسار عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رفعه قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال البخاري؛ غير عبد الله بن يسار- وهو الجهني الكوفي- وثقه النسائي وابن حبان، وروى عنه جمع من الثقات، وجهالة الصحابي لا تضر، ومن الممكن أن يكون أبا هريرة؛ وإلا فهو شاهد له: يرويه حماد بن زيد عن عبد الرحمن السراج عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع كل وضوء".(7/187)
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (2/ 366/ 2929- هندية) ، والحاكم (1/146) عنه، والبيهقي (1/36) ، وقال الحاكم:
"صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجا لفظ: "الفرض " فيه، وليس له علة ". ووافقه الذهبي.
وعزاه الحافظ في "الفتح " (4/ 159) للنسائي وسكت عنه، فهو عنده قوي.
ثم أخرجه النسائي (2934) من طريق بقية عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد به.
ثم ساق له الحاكم شاهداً من حديث جعفر بن تمام عن أبيه عن العباس بن عبد المطلب مرفوعاً بلفظ:
".. لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة كما فرضت عليهم الوضوء".
وهكذا أخرجه أبو يعلى (12/71/6710) ، والبزار (1/243/498) ، وأحمد أيضاً (1/ 214) ؛ إلا أنه لم يقل: "عن العباس ".
وكذا رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (2/64/ 1301- 1303) .
وفي رواية لأحمد (3/442) عن قثم بن تمام- أو تمام بن قثم- عن أبيه مرفوعاً. ومدار هذه الوجوه على أبي علي الصيقل، وهو مجهول، وسقط هو من إسناد الحاكم، وثمة وجوه أخرى من الاضطراب عند البيهقي، وختمها بقوله: "وهو حديث مختلف في إسناده ".
ومع ذلك صححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" (3/ 246-248) ! *(7/188)
3068- (فُقِدَتْ أُمَّةٌ من بني إسرائيل؛ لا يُدرَى ما فَعَلَتْ؟! وإنّي
لا أُراها إلا الفَأْرَ؛ [أَلا تَرَوْنَها] إذا وضعَ لها ألبانُ الإبِلِ لم تَشرب، وإذا وُضعَ لها ألبانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ؟!) .
أخرجه البخاري (3305) ؛ ومسلم (8/226) ؛وابن حبان (6225- الإحسان) ، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/277) ، وأحمد (2/ 234) ، وأبو يعلى (10/6031) ، والبغوي في "شرح السنة" (10/200/3271) من طريق خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.. فذكره.
وتابعه هشام عن محمد عن أبي هريرة قال:
" الفأرة مسخ، وآية ذلك أنه يوضع بين يديها لبن الغنم.. " الحديث، وفيه:
" فقال له كعب: أسمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أفأنزلت علي التوراة؟ ! "
أخرجه مسلم؛ وأحمد (2/279و411و507) ؛ وأبو يعلى مختصراً (رقم 6060و6061) . وتابعه أيوب عن محمد به.
أخرجه أحمد (2/289) ؛ وأبو يعلى أيضاً.
وتابعه أيضاً الأشعث عن محمد به مرفوعاً مختصراً بلفظ:
" أمة من الأمم فقدت؛ فالله أعلم الفأر هي أم لا؟ ! ألاترى أنها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تَطْعَمْهُ؟ !)) .
أخرجه أحمد (2/497) .(7/189)
قلت: إسناده صحيح، والأشعث هو ابن عبد الله الحُدّاني البصري.
وتابع ابن سيرين أبو سلمة عن أبي هريرة:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى فأرة فقال:
" جِنة؛ لا أعلم إلا من يهود "!
أخرجه ابن عدي في ((الكامل)) (5/1702) بهذا اللفظ، والطحاوي أيضا بلفظ " حنة ولا أعلم شيئاً حناً إلا من يهود ".
أخرجاه من طريق عمر بن علي عن موسى بن عقبة عنه.
وعمر هذا هو المقدمي، وكان يدلس تدليساً عجيباً.
و (جنة) : بالجيم في " الكامل "، وطبعتها سيئة جداً، وفي " المشكل ": (حنة) بالحاء المهملة ولم يتبين لي المعنى، ولم تذكر هذه اللفظة في بعض النسخ المصورة من " الكامل " الموجودة في الجامعة الإسلامية.
(فائدة) : من الظاهر أن هذا الحديث كان رأياً منه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُعْلِمَه الله تعالى أنه لم يجعل لمسخ نسلاً؛ كما تقدم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ:
" إن الله لم يمسخ شيئاً فيدع له نسلاً أو عاقبة.. " الحديث.
وقد سبق تخريجه تحت الحديث (2264) .
وبهذا جمع بين الحديثين الطحاوي وغيره من العلماء. *(7/190)
امرأة أفقه من رجل
3069- (صَدَقت أمُّ طُلَيْقٍ؛ لو أعطيتَها الجمَلَ كان في سبيلِ اللهِ،
ولو أعطيتها ناقتكَ كانت وكنتَ في سبيلِ اللهِ، ولو أعطيتها من نفقتِكَ أَخْلَفَكَها اللهُ) .
أخرجه الدولابي في "الأسماء والكنى" (1/ 41) : حدثنا إبراهيم بن يعقوب قال: حدثني عمر بن حفص بن غياث قال: ثنا أبي قال: حدثني المختار بن فُلْفُلٍ قال: حدثني طلق بن حبيب البصري أن أبا طليق حدثهم:
أن امرأته أم طليق أتته، فقالت له: حضر الحج يا أبا طليق! وكان له جمل وناقة، يحج على الناقة، ويغزو على الجمل، فسأَلَته أن يعطيها الجمل تحج عليه؟ فقال: ألم تعلمي أني حبسته في سبيل الله؟! قالت: إن الحج من سبيل الله؛ فأعطنيه يرحمك الله! قال: ما أريد أن أعطيَكِ. قالت: فأعطني ناقتك وحج أنت على الجمل. قال: لا أوثركِ بها على نفسي. قالت: فأعطني من نفقتك. قال: ما عندي فضل عني وعن عيالي ما أخرج به وما أترك (الأصل: أنزل) لكم، قالت: إنك لو أعطيتني أخلفكها الله.
قال: فلما أَبَيْتُ عليها، قالت: فإذا أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأَقْرِئْهُ مني السلام، وأخبره بالذي قلت لك.
قال: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقرأته منها السلام، وأخبرته بالذي قالت أم طليق، قال ... فذ كره.
قال: وإنها تسألك يا رسول الله! ما يعدل الحج [معك] ؟ قال: " عمرة في رمضان ".(7/191)
وهذا إسناد جيد؛ كما قال الحافظ في " الإصابة" , وعزاه لابن أبي شيبة أيضاً، والبغوي، وابن السكن، وابن منده.
وعزاه في "المطالب " (1/ 320) لأبي يعلى. يعني: في "المسند الكبير". وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 324/816 و25 /173/425) مطولاً ومختصراً بإسناد واحد من طريق عبد الرحيم بن سليمان عن المختار بن فلفل به، والزيادة له.
وأخرجه البزار (2/38/1151) من طريق محمد بن فضيل عن المختار به مختصراً.
وقد وقع مثل هذه القصة لأم معقل مع زوجها أبي معقل، وهو مخرج في "الإرواء" (3/375) عنها برواية أحمد.
ورواه ابن خزيمة في "صحيحه " (3077) ، والحاكم وغيرهما من حديث ابن عباس نحوه، وفيه الزيادة بلفظ:
".... تعدل حجة معي ".
وهو مخرج في "الإرواء " (6/32/1587) .
وهي في "صحيح البخاري " أيضاً (863 1) . انظر " مختصر البخاري " (28- جزاء الصيد/25- باب) . *
3070- (يا أبا رافعٍ! إنّها لم تَأْمُرْكَ إلا بخيرٍ. أي: بالوضوءِ من الريحِ) .
أخرجه أحمد (6/ 72) ، والبزار (1/ 146/ 280) ، والطبراني في " المعجم(7/192)
الكبير" (24/ 301/765) من طريق ابن إسحاق قال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت:
أتت سلمى مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو امرأة أبي رافع مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستأذنه على أبي رافع قد ضربها. قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي رافع:
" مالك ولها يا أبا رافع؟ ! ".
قال: تؤذيني يا رسول الله!
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" بم آذيتيه يا سلمى؟! ".
قالت: يا رسول الله! ما آذيته بشيء؛ ولكنه أحدث وهو يصلي، فقلت له: يا أبا رافع! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر المسلمين إذا خرج من أحدهم الريح أن يتوضأ. (وقال الطبراني: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "من خرج منه ريح فليعد الوضوء) ، فقام فضربني، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك ويقول ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير ابن إسحاق- وهو محمد صاحب "السيرة"- وهو حسن الحديث، وقد صرح بالتحديث، فأمِنَّا بذلك تدليسه. *
3071- (زينبُ خيرُ (وفي روايةٍ: أفضلُ) بناتي، أُصِيبَتْ بي) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط " (1/ 290/2/4863) : حدثنا عبد الرحمن
ابن حاتم المرادي قال: ثنا سعيد بن أبي مريم قال: ثنا يحيى بن أيوب قال:(7/193)
حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن عمر بن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره، فبلغ ذلك علي بن حسين فأتاه؛ فقال: ما حديث يبلغني عنك تنتقص فيه فاطمة؟ ! فقال عروة: ما أحب أن لي كذا وكذا وأني أنتقص فاطمة حقاً هو لها، وأما بعد ذلك فلك علي أن لا أحدث به أبداً. وقال:
" لم يروه عن عمر بن عبد الله بن عروة إلا يزيد بن الهاد "
قلت: وهما ثقتان من رجال الشيخين، وكذلك من دونهما؛ غير المرادي شيخ الطبراني؛ ففيه كلام- كما ترى في "اللسان "-، ولكنه قد توبع، فالسند صحيح، فقد أخرجه البزار (3/ 242/2666) ، والطبراني أيضاً في "المعجم الكبير" (22/431/1051) ، والحاكم (4/43- 44) من طرق عن سعيد بن أبي مريم به أتم منه بلفظ:
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة- أو ابن كنانة-، فخرجوا في إثرها، فأدركها هَبَّار بن الأسود، فلم يزل يطعُن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها، وهرقت دماً، فتحملت، واشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية، فقالت بنو أمية: نحن أحق بها. وكانت تحت ابنهم أبي العاص، وكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة، وكانت تقول لها هند: هذا في
سبب أبيك. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة: "ألا تنطلق فتجيء بزينب؟! ". فقال: بلى يا رسول الله! قال: "فخذ خاتمي فأعطها إياه "، فانطلق زيد، فلم يزل يتلطف، فلقي راعياً، فقال: لمن ترعى؟ فقال: لأبي العاص. فقال: لمن هذه الغنم؟ فقال: لزينب بنت محمد. فسار معه شيئاً، ثم قال: هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم. فأعطاه الخاتم، وانطلق الراعي،(7/194)
فأدخل غنمه، وأعطاها الخاتم، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل. قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا. فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما
جاءته قال لها: اركبي بين يدي- على بعيره-، قالت: لا؛ ولكن اركب أنت
بين يدي. فركب وركبت وراءه حتى أتت، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط الشيخين ". وقال الذهبي:
" قلت: هو خبر منكر، ويحيى ليس بالقوي ".
قلت: هو الغافقي المصري، وهو مختلف فيه، وقد ساق أقوال العلماء فيه الحافظ في "التهذيب "، وفي "مقدمة الفتح "، ثم قال (13/ 451) :
" قلت: استشهد به البخاري في عدة أحاديث من روايته عن حميد الطويل، ما له عنده غيرها سوى حديثه عن يزيد بن أبي حبيب في صفة الصلاة بمتابعة الليث وغيره، واحتج به الباقون".
وقال في " التقريب ":
" صدوق ربما أخطأ ".
قلت: فمثله حسن الحديث على الأقل؛ إلا إذا ظهر خطؤه، وما تبين لي في سياقه لهذه القصة- على طولها- ما يقضي الحكم على الحديث بالنكارة؛ إلا أن يكون قوله في حديث الترجمة: "زينب خير بناتي.. "؛ لأنه بظاهره يعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -في مرض موته:
" يا فاطمة! ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين؟! ".(7/195)
أخرجه البخاري (3624 و 6286) ، ومسلم (7/142ـ144) ؛ وأحمد (6/282) ، وابن سعد (2/247- 248 و 8/26- 27) . واستدركه الحاكم (3/156) فوهم! والغريب أنه اقتصر على تصحيحه فقط؛ ولم يقل: "على شرط الشيخين "! وقد مضى بتمامه برقم (2948) .
وقد أجاب عن التعارض؛ ووفق بين الحديثين الإمام ابن خزيمة رحمه الله فيما رواه عنه الحاكم عقب حديث الترجمة بقوله:
" معناه، أي: من أفضل بناتي.. وقد أمليت من هذا الجنس: أن العرب قد تقول: أفضل؛ تريد: من أفضل، وفي كتبي ما فيه الغنية والكفاية إن شاء الله عز وجل "
ثم ذكر الحاكم- من رأيه- وجهاً آخر في التوفيق، فليراجعه من شاء.
وبعد تخريجه بسنين، رأيت الحافظ في "مختصر الزوائد" (2/359) قد سبقني إلى تصحيحه. فالحمد الله على توفيقه، وأسأله المزيد من فضله. *
3072 - (يكونُ في آخرِ أمتي خليفةٌ يَحْثُو المالَ حَثْواً؛ لا يَعُدُّهُ عَدّاً) .
أخرجه أحمد (3/317) : ثنا إسماعيل- هو ابن عُلَيَّة- عن الجُرَيري عن أبي
نضرة قال: كنا عند جابر بن عبد الله قال:
يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم قَفِيز ولا درهم.
قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل العجم يمنعون ذاك.
ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم ديناراً ولا مُدَّ(7/196)
قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل الروم يمنعون ذاك.
قال: ثم أمسك هُنَيَّةً، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
وأخرجه مسلم (8/185) ، وابن حبان (6647) من طرق عن إسماعيل ابن علية به
وأخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن " (ق 115/2) دون حديث الترجمة.
وتابعه عبد الوهاب، بن عطاء: أنبأ سعيد بن إياس الجريري به.
أخرجه الحاكم (4/ 454) بزيادات في المتن وقال:
"صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذه السياقة! إنما أخرج مسلم حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يكون في آخر الزمان خليفة يعطي المال ولا يعده عداً ". وهذا له علة.. ".
ثم ساقه من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد- وهو الثقفي- (وفي الأصل: عبد الحميد، وهو تصحيف) : ثنا داود بن أبي هند به؛ لكنه قال:
" عن جابر أو أبي سعيد.. " على الشك.
وأقول: لي على هذا الكلام ملاحظات:
الأولى: أنه أوهم أن مسلماً لم يخرج حديث الجريري مطلقاً، وليس كذلك كما ترى.
الثانية: أن العلة التي أشار إليها ليست قادحة؛ لأن مسلماً قد أخرج الحديث من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث: حدثنا أبي: حدثنا داود به؛ إلا أنه قال:
"عن أبي سعيد وجابر بن عبد الله قالا.. "، هكذا بدون شك.(7/197)
وكذلك أخرجه أحمد (3/333) .
وهذا أصح، لأن عبد الوارث والد عبد الصمد ثقة ثبت؛ بخلاف عبد الوهاب ابن عبد المجيد (وفي الأصل: عبد الحميد، وهو خطأ مطبعي) ؛ ففيه ما يأتي.
الثالثة: أن عبد الوهاب هذا- وإن كان ثقة من رجال الشيخين؛ فإنه- مذكور فيمن كان اختلط، فلا يعل بروايته ما رواه الثقة الثبت عبد الوارث.
ثم إن الحديث قد أورده السيوطي في "الجامع الكبير" مفرقاً من حديث جابر دون جملة الشام، وعزا الجملة الأولى المتعلقة بالعراق لأحمد وأبي عوانة وابن عساكر، وعزا حديث الترجمة لأحمد ومسلم فقط، وفي ذكره للجملة الأولى فيه - مع كونها موقوفة- إشارة منه إلى أنها في حكم المرفوع، وذلك لأنها من الأمور الغيبية التي لا تقال بالرأي والاجتهاد.
وأيضاً، فإنه يشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:
" منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مُدْيَها ودينارها، ومنعت مصر إِرْدَبًّها ودينارها.. " الحديث.
رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (2679) ، وأخرجه البيهقي (19/137) ، وابن عبد البر في "التمهيد" (6/457) .
(فائدة) : قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم ":
"وفي معنى " منعت العراق " وغيرها قولان مشهوران:
أحدهما: لإسلامهم، فتسقط عنهم الجزية، وهذا قد وُجد.
والثاني: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان؛ فيمنعون(7/198)
حصول ذلك للمسلمين. وقد روى مسلم عن جابر: " يوشك أن لا يجبى إليهم قفيز " فذكر الحديث، قال النووي:
" وهذا قد وجد في زماننا في العراق، وهو الآن موجود.
وقيل: لأنهم يرتدون في آخر الزمان؛ فيمنعون ما لزمهم من الزكاة وغيرها.
وقيل: معناه أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان؛ فيمتنعون مما كانوا يؤدونه من الجزية والخراج وغير ذلك ".
قلت: وهذا المعنى هو الظاهر المتبادر من لفظ "المنع "؛ بخلاف المعنى الأول، فهو عنه بعيد جداً؛ لأن من أسلم وسقطت عنه الجزية لا يصح أن يقال فيه: امتنع من أداء ما عليه؛ كما هو ظاهر بين.
ولقد كان الداعي إلى تخريج هذا الحديث؛ وبيان أن الموقوف منه في حكم المرفوع؛ وبيان معناه؛ أن بعض الناس اليوم ظنوا أن لهذا الحديث علاقة بالفتنة العمياء التي حلت على المسلمين بسبب اجتياح الجيش العراقي لدولة الكويت، ما فرض على العراق من الحصار البري والبحري والجوي؛ لمنع وصول المؤن والأرزاق إليها من البلاد المسالمة لها!
فكثر السؤال عن هذا الحديث بهذه المناسبة، وهل له علاقة أو ارتباط بهذا الحصار للعراق؟
فأجبت بالنفي، وبينت لهم معناه بنحو ما تقدم نقله عن الإمام النووي - رحمه الله -.
كتبت هذا نهار الأربعاء: 1 صفر سنة 1411هـ. كفى الله المسلمين شر الفتن ماظهر منها وما بطن. *(7/199)
3073- (مَنْ صبرَ على شِدَّتِها ولأْوَائِها؛ كنتُ له شهيداً أو شفيعاً يومَ القيامةِ. يعني: المدينةَ. وفي لفظ:
لا يَصبرُ على لأوَائِها وشدتِها أَحَدٌ إلا كنتُ.....) .
أخرجه الترمذي (3918) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (1/169- طبع المجمع العلمي) من طريق المعتمر بن سليمان قال: سمعت عبيد الله (وفي "التاريخ ": " عبد الله " مكبراً) بن عمر عن نافع عن ابن عمر:
أن مولاةً له أتته فقالت: اشتد علي الزمان، وإني أريد أن أخرج إلى العراق؟ قال: فَهَلا الشام أرض المنشر (وفي "التاريخ ": المحشر) ؟! اصبري لَكاعِ! فإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -يقول ... فذكره باللفظ الأول، وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله ".
قلت: وهو ثقة من رجال الشيخين؛ بخلاف أخيه عبد الله (المكبَّر) ؛ فإنه ضعيف سيئ الحفظ.
والمعتمر بن سليمان ثقة محتج به في "الصحيحين "، وفي حفظه ضعف يسير، وقد خالفه عبيد الله بن عبد المجيد، فقال: حدثنا عبيد الله بن عمر عن قََطََن ابن وهب: أن مولاة لابن عمر أتته لتسلِّم عليه لتخرج من المدينة، وقالت: أخرج إلى الريف؛ فقد اشتد علينا الزمان؟ فقال ابن عمر: اجلسي لَكاعِ!.. الحديث، لم يذكر الشام.
أخرجه أبو يعلى في "مسنده " (10/166/5789) .
قلت: وإسناده صحيح؛ لولا الانقطاع في إسناده كما سيأتي، وعبيد الله بن(7/200)
عبد المجيد فيه كلام يسير؛ إلا أنه قد توبع كما سترى.
إلا أن عبيد الله بن عمر قد توبع على إسناده؛ فقال أحمد (2/155) : ثنا عثمان بن عمر: ثنا عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال: " من صبر.. " الحديث.
وكذا أخرجه مسلم (4/119) من طريق زهير بن حرب: حدثنا عثمان بن عمر به.
وتابعه أيوب عن نافع بلفظ:
" من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها؛ فإني أشفع لمن يموت بها ".
أخرجه الترمذي (3917) ، وابن ماجه (3112) ، وابن حبان (3733- الإحسان) ، وأحمد (2/ 74) ، والبغوي في "شرح السنة " (7/ 324/ 2020) ، وقال - هو والترمذي-:
" حديث حسن ". زاد الترمذي " صحيح غريب "
ولعبيد الله بن عمر إسناد آخر؛ يرويه عن قطن بن وهب عن مولاة لعبد الله ابن عمر:
أنها أرادت الجلاء في الفتنة، واشتد عليها الزمان، فاستأمرت عبد الله بن عمر، فقال: أين؟ فقالت: العراق. فقال: فهلا إلى الشام إلى المحشر؟! اصبري لكاع!.. الحديث مثل روايته المتقدمة عن نافع؛ لكن باللفظ الثاني.
أخرجه ابن عساكر أيضاً من طريق أحمد بن محمد بن سليم المخرمي: ثنا الزبير بن بكار بن عبد الله: حدثني أبو ضمرة عن عبيد الله بن عمر به.(7/201)
قلت: ورجاله ثقات؛ غير المخرمي هذا فلم أعرفه، وأخشى أن يكون هو أحمد ابن محمد المخرمي الذي حدث عن عبد العزيز بن الرماح بسنده الصحيح عن ابن عباس موقوفاً:
لما قتل ابن آدم أخاه قال آدم عليه السلام:
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح
الحديث.
رواه الخطيب في "التاريخ " (5/128) ، وذكره الذهبي في ترجمة المخرمي هذا، وقال:
" هو الآفة أو شيخه ".
وكذا في "اللسان "، لكن وقع فيه: "المخزومي "، وهو تحريف.
لكن قد توبع عبيد الله عن قطن، فقال مالك في "الموطأ" (3/83) : عن قطن ابن وهب بن عويمر بن الأجدع أن يُحَنَّسَ مولى الزبير بن العوام أخبره:
أنه كان جالساً عند عبد الله بن عمر في الفتنة، فأتته مولاة له تسلم عليه، فقالت: إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن! اشتد علينا الزمان. فقال لها عبد الله ابن عمر: اقعدي لكع! فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" لا يصبر.. " الحديث.
ومن طريق مالك أخرجه مسلم (4/119) ، وأحمد (2/113 و 119 و 133) وأبو يعلى (10/166/5790) ، والطبراني في" المعجم الكبير" (12/347/13307)
وله شاهد بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة وغيره عند مسلم وغيره،(7/202)
وصححه البغوي (2019) ، وابن حبان (3731و3732) ؛ وراجع "مسند أبي يعلى" (10/347/5943) ، فقد توسع المعلق عليه بذكر طرقه وبعض شواهده.
(تنبيه) : قد أورد السيوطي حديث الترجمة بلفظيه في "الجامع الكبير" من رواية ابن عساكر وحده! وهو في "كنز العمال " (14/160/ 38231) ، ففاته أن الترمذي رواه- كابن عساكر- باللفظ الأول! *
3074- (إذا قال الرجلُ: هَلَكَ الناسُ؛ فهو أَهْلَكهم) .
أخرجه مالك في "الموطأ" (3/148) ، ومسلم (8/36) ، والبخاري في "الأدب المفرد" (759) ، وأبو داود (4983) ، وابن حبان في "صحيحه " (5732) ، وأحمد (2/272و342و465و517) ، وأبو نعيم في" الحلية" (7/141) و"أخبار أصبهان" (1/150و276و2/364) ، والبغوي في"شرح السنة" (13/144) من طرق عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره. وقال البغوي:
"هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم "*
3075- (إنَّ موسى كان رجلاً حَيِيّاً سِتِّيراً، لا يُرَى من جِلْدِهِ شيءٌ استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يَسْتَترُ هذا التستر إلا من عيبٍ بجلدِهِ؛ إما بَرَصٍ، وإما أدْرَةٍ، وإما آفةٍ. وإنَّ الله أراد أن يُبرِّئَهُ مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنَّ الحجر عَدَا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حَجَرُ!(7/203)
ثوبي حَجَرُ! حتى انتهى إلى ملإ من بني إسرائيل، فَرَأَوْهُ عُرْيَاناً أحسَنَ ما خَلَقَ الله، وأبرأهُ مما يقولون، [قالوا: والله ما بموسى من بأس] ، وقام الحجرُ، فأخذَ ثوبَهُ فَلَبِسَهُ، وطَفِقَ بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله! إنَّ بالحجر لندباً من أثر ضَرْبهِ؛ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فذلك قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً) .)
أخرجه البخاري (278 و 3404 و 4799) والسياق له، ومسلم (1/183 و 7/99) ، وأبو عوانة (1/ 281) ، والزيادة لهما، والترمذي (3219) وقال: "حسن صحيح "، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/ 11) ، وابن جرير الطبري (22/37) ، وأحمد (2/ 324 و 392 و 514 و 535) ، وعبد الله (2/315) مطولاً ومختصراً، والطيالسي (2465) ، والبغوي في " التفسير" (6/378- 379) مختصراً جداً من طرق عن أبي هريرة مرفوعاً به.
وللحديث شاهد يرويه علي بن زيد عن أنس به مختصراً.
أخرجه البزار (3/66- 67) وقال:
"لا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد".
قلت: وحسنه الحافظ في "مختصر الزوائد" (2/103) ؛ لأنه يشهد له حديث أبي هريرة هذا.
(تنبيه) : وقعت للمدعو (حسان عبد المنان) في تخريج هذا الحديث خبطات عشوائية عجيبة في تعليقه على "إغاثة اللهفان " (2/398- 399) ، فعزا نصفه الأول للشيخين، ونصفه الآخر للطبري! وأعله براوٍ تحرف اسمه على الطابع، فلم(7/204)
يعرفه (الهدام) ! ثم عزا رواية أخرى- هي في " الصحيح " أيضاً- للطبري، وأعله براو لا وجود له عنده! (ظلمات بعضها فوق بعض) ، (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) . وقد فصلت هذا الذي أجملته هنا في ردي عليه:
"النصيحة" (ص 0 27) . *
3076- (غَطُّوا الإناء، وأوكُوا السِّقاء؛ فإن في السّنَةِ ليلة ينزل فيها وباء لا يَمُرُّ بإناءٍ لم يُغَطَّ ولا سقاءٍ لم يُوكَ؛ إلا وقع فيه من ذلك الوباء) .
أخرجه الإمام أحمد (3/355) : ثنا يونس: ثنا ليث عن يزيد- يعني: ابن الهاد- عن يحيى بن سعيد عن جعفر بن عبد الله بن الحكم عن القعقاع بن حكيم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ إلا أن البخاري لم يرو لجعفر ابن عبد الله وشيخه القعقاع إلا في "الأدب المفرد". وقد أخرج مسلم حديثهما كما يأتي.
وليث هو ابن سعد الإمام المصري.
ويونس هو ابن محمد، أبو محمد المؤدب، وهو ثقة ثبت.
والحديث أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان " (5/127/6059- بيروت) من طريق يونس هذا.
وتابع يونس: هاشم بن القاسم أبو النضر، وهو ثقة ثبت أيضاً.
أخرجه مسلم (6/107) ، ومن طريقه: البغوي في "شرح السنة" (11/392/3061) ، وأبو عوانة (5/ 334) .(7/205)
وقال البغوي:
"هذا حديث صحيح".
وتابعه موسى بن داود- وهو صدوق له أوهام-، وعلي بن عياش- وهو ثقة ثبت- عند أبي عوانة.
وسعيد بن سليمان- وهو الضبي الواسطي، ثقة حافظ- عند البيهقي.
قلت: وكلهم قالوا في الحديث: "ليلة".
وخالفهم علي بن نصر الجهضمي: حدثنا ليث بن سعد به؛ إلا أنه قال:
" يوماً" مكان: "ليلة "
أخرجه مسلم وحده، وزاد في آخره:
"قال الليث: فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول ".
وجمع النووي بين الروايتين: " ليلة " و " يوماً " بقوله:
"لا منافاة بينهما؛ إذ ليس في أحدهما نفي الآخر".
فأقول: كان ينبغي أن يكون الأمر كذلك؛ لولا أن تتبعنا للرواة عن الليث بن سعد قد دلنا على شذوذ رواية: "يوما"؛ لتفرد الجهضمي بها مخالفاً الثقات الخمسة الذين رووه باللفظ الأول، فاتفاق هؤلاء عليه يدل على وهم الجهضمي وشذوذ روايته، والشذوذ يثبت بأقل من هذا؛ كما يعرف ذلك من له ممارسة في هذا العلم الشريف.
ويشبه هذا الشذوذ ما وقع في حديث عمر؛ أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف(7/206)
ليلة.. الحديث، وفي رواية لمسلم: "يوماً"، فحكم الحافظ عليها بالشذوذ؛ مع أن الذي خالف فيها شعبة. انظر"الفتح" (4/274) ؛ و"صحيح أبي داود" (2137)
وإن مما يؤيد الشذوذ: ما أخرجه مسلم في الباب من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرني أبو حميد الساعدي قال:
أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن من النقيع ليس مخمراً، فقال:
"ألا خمَّرته؟! ولو تَعْرُض عليه عوداً".
قال أبو حميد: إنما أُمِر بالأسقية أن توكأ ليلاً، وبالأبواب أن تغلق ليلاً.
قلت: فقول أبي حميد هذا صريح في تخصيص ذلك بالليل؛ لكن رده النووي بقوله في"شرح مسلم ":
"ما قاله أبو حميد من تخصيصهما بالليل ليس في اللفظ ما يدل عليه، والمختار عند الأكثرين من الأصوليين- وهو مذهب الشافعي وغيره- أن تفسير الصحابي إذا كان خلاف ظاهر اللفظ ليس بحجة، ولا يلزم غيره من المجتهدين موافقته على تفسيره، وأما إذا لم يكن في ظاهر الحديث ما يخالفه- بأن كان مجملاً- فيرجع إلى تأويله، ويجب الحمل عليه؛ لأنه إذا كان مجملاً لا يحل له حمله على شيء إلا بتوقيف، وكذا لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي عند الشافعي والأكثرين، والأمر بتغطية الإناء عام؛ فلا يقبل تخصيصه بمذهب الراوي؛ بل يتمسك بالعموم ".
وأقول: ليس هذا من باب التخصيص بمذهب الراوي؛ وإنما هو من باب التخصيص بالنص؛ فإن قول أبي حميد: "أُمِر" بالبناء للمجهول في حكم المرفوع كما هو مقرر في علم المصطلح؛ كما في "الإرشاد" للنووي نفسه (1/161- 163-(7/207)
تحقيق الأخ الفاضل عبد الباري السلفي) ، وضربوا لذلك مثلاً بحديث أنس: "أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". متفق عليه، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (525) . بل قال النووي في شرحه على "صحيح مسلم ":
"وقوله: "أُمر" هو بضم الهمزة وكسر الميم؛ أي: أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء من الفقهاء وأصحاب الأصول وجميع المحدثين، وشذ بعضهم فقال: هذا اللفظ وشبهه موقوف؛ لاحتمال أن يكون الآمر غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا خطأ، والصواب أنه مرفوع؛ لأن إطلاق ذلك إنما ينصرف إلى صاحب الأمر والنهي، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
قلت: فقول أبي حميد: "أمر" كقول أنس ولا فرق، فهو- إذن- في حكم المرفوع. وأصرح منه رواية ابن حبان (1267) بلفظ:
"إنما كنا نؤمر.. ". *
3077- (ما أظنُّ فلاناً وفلاناً يَعْرِفانِ من دِينِنا [الذي نحن عليه] شيئاً)
أخرجه البخاري (6067و 6068) من طريق سعيد بن عُفير- والسياق له- ويحيى بن بكير- والزيادة له- قالا: ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت ... فذكرته، زاد ابن عفير:
"قال الليث: كانا رجلين منافقين ".
وزاد يحيى في أوله:
دخل عليَّ النبي- صلى الله عليه وسلم - يوماً، وقال ... فذكره.(7/208)
وترجم له البخاري بقوله:
"باب ما يجوز من الظن ".
قلت: والحديث مطابق لمفهوم قوله تعالى: (إن بعض الظن إثم) [الحجرات/12] ؛ أي: ليس كل الظن إثماً. ولهذا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (15/ 331) :
"فهذا الحديث يقتضي جواز بعض الظن؛ كما احتج البخاري على ذلك؛ لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الوازع له عن فعل الفاحشة يجب أن يُظن به الخير دون الشر".
وقد استشكل بعضهم ترجمة البخاري للحديث بما سبق؛ فقال:
"الحديث لا يطابق الترجمة؛ لأن في الترجمة إثبات الظن، وفي الحديث نفي الظن ".
حكاه الحافظ في "الفتح " (10/485) ، ثم رده بقوله:
"والجواب أن النفي في الحديث لظن النفي؛ لا لنفي الظن، فلا تنافي بينه وبين الترجمة. وحاصل الترجمة؛ أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه؛ لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن الظن السوء بالمسلم المسالم في دينه وعرضه. وقد قال ابن عمر: إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن. ومعناه: أنه لا يغيب إلا لأمر سيئ؛ إما في بدنه، وإما في دينه ".
قلت: وأثر ابن عمر: أخرجه البزار (1/228/462 و463) بإسنادين عن نافع عنه، وإسناده الثاني عنه صحيح.(7/209)
ورواه الطبراني (13085) بسند واه، ويشهد له قول ابن مسعود في "صحيح مسلم " (2/124) :
"..ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ". يعني: صلاة الجماعة. *
3078- (يُوشِكُ أن تطلبُوا في قُراكُم هذه طَسْتاً من ماءٍ فلا تَجدونَهُ، يَنْزَوِي كلُّ ماءٍ إلى عُنْصُرِهِ؛ فيكون في الشام بَقِيَّةُ المؤمنين والماءُ) .
أخرجه الحاكم في "المستدرك " (4/504) من طريق سفيان: وحدثني المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال عبد الله ... فذكره موقوفاً عليه، وقال:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي.
قلت: وهو كما قالا؛ فإن المسعودي هذا- واسمه عبد الرحمن بن عبد الله ابن عتبة- وإن كان قد اختلط؛ فقد ذكروا أن رواية سفيان- وهو الثوري- عنه قبل الاختلاط، كما ذكروا أن أحاديثه عن القاسم صحيحة، وهذا من روايته عنه كما ترى. فراجع إن شئت ترجمته في "التهذيب " و"الكواكب النيرات " (ص 282- 298) .
والحديث وإن كان موقوفاً؛ فهو في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، كما هو ظاهر.
والحديث حمله مؤلف كتاب "المسيح الدجال قراءة سياسية في أصول(7/210)
الديانات الكبرى" (ص 214) على أنه يكون بعد القحط الذي قال: إنه يأتي بعده الدجال!
وليس فيه ولا في غيره- فيما أعلم- ما يدل على هذا التحديد، فيمكن أن يكون قبل ذلك أو بعده، وهذا لعله هو الأقرب أن يكون بين يدي القيامة.
ومن المفيد هنا أن أنقل إلى القراء ما جاء في الكتاب المذكور (ص 210) فيما يتعلق بنضوب المياه:
"أصدر معهد (وواردوانش) الأ مريكي دراسة تشير إلى أن العالم استخرج كميات كبيرة من المياه الجوفية، وفي (تكساس) و (نيومكسيكو) أصبح هناك احتمال بنضوب المياه الجوفية تماماً في هذه المنطقة؛ وفي الأقاليم الشمالية يهبط مستوى المياه الجوفية بمقدار 12 قدماً كل عام. (الأهرام 1/ 10/1985) .
وأشارت دراسة في الولايات الأمريكية أن العالم سوف يتعرض لنقص في موارد المياه التي لا علاج لها، ولن تفيد الطرق التقليدية في توفير المياه، مثل السدود والخزانات والقنوات. (أهرام 2/ 10/1985) . كما أعلن مركز تحليل المناخ الفيدرالي في الولايات المتحدة في بيان له أن درجة حرارة مياه المحيط الهادي آخذة في الارتفاع. وهذه الظاهرة تؤثر على الأحوال المناخية في جميع أنحاء العالم، وتؤدي إلى تفاقم حالة الجفاف في إفريقيا واستراليا، وفيضانات في الصين، وسيول رعدية في (بيرو) و (أكوادور) ، وعواصف وأعاصير على الولايات المتحدة وكندا وجنوب إفريقيا. (أهرام 16/10/1986) ".
ثم وجدت للمسعودي متابعاً عند عبد الرزاق (11/373/20779) عن معمر عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن، قال.. لم يقل: "عن أبيه ". *(7/211)
3079- (يا عائشةُ! العربُ يومئذٍ قليلٌ. (يعني: بين يدي الدجال) . فقلت: ما يُجْزِي المؤمنين يومئذٍ من الطعامِ؟ قال: ما يُجْزِي الملائكة؛ التسبيحُ والتكبيرُ والتحميدُ والتهليلُ) .
أخرجه أحمد (6/75- 76 و 125) ، وأبو يعلى (7/78/4607) من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن عائشة:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر جهداً شديداً يكون بين يدي الدجال، فقلت: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ قال ... فذكره. وزاد:
فأي المال يومئذ خير؟ قال "غلام شديد يسقي أهله من الماء، وأما الطعام فلا طعام ".
قلت: ورجاله ثقات رجال مسلم؛ غير علي بن زيد- وهو ابن جدعان-، وهو ضعيف.
والحسن- وهو البصري- مدلس كثير التدليس؛ كما قال العلائي في "جامع التحصيل " (ص 194) ؛ وإن صح ما حكاه (ص 198) عن الحسن أنه سمع من عائشة رضي الله عنها؛ فلا يفيد مع العنعنة.
لكن للحديث شواهد أو شاهد يتقوى به دون الزيادة في آخر حديث أبي أمامة الطويل في فتنة الدجال عند ابن ماجه (4077) وغيره، وهو مخرج في "ظلال الجنة" (391) .
وأزيد هنا فأقول: روى الحاكم (4/536- 537) طرفه الأول، وقال: "صحيح(7/212)
على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي! وفيه عمرو بن عبد الله السَّيْباني؛ أشار في "الميزان " إلى جهالته بقوله:
"ما علمت روى عنه سوى يحيى بن أبي عمرو السّيْباني ".
وفي" الكاشف" (2/335) بقوله: " وثق".
يشير إلى تليين توثيق ابن حبان إياه؛ لأنه يوثق المجهولين.
وروى الحاكم أيضا (4/ 511) من طريق سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن طعام المؤمنين في زمن الدجال؟ قال: "طعام الملائكة ". قالوا: وما طعام الملائكة؟ قال: "طعامهم منطقهم بالتسبيح والتقديس.. " الحديث نحوه. وقال:
"صحيح الإسناد على شرط مسلم ". ورده الذهبي بقوله:
"قلت: كلا؛ فسعيد متهم تالف ".
ولقد أصاب هنا رحمه الله تعالى.
وشاهد ثالث من رواية شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن نحو حديث ابن عمر مختصراً.
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (1/616- 617) .
ولجملة العرب شاهد عن أم شريك: عند مسلم (8/207) ، وابن حبان (6759) ، وأحمد (6/462) . *(7/213)
3080- (يَتْبَعُ الدجال من يهودِ أصبهانَ سبعون ألفاً؛ عليهم الطيالِسةُ) .
أخرجه مسلم (8/207) ، وابن حبان (6760) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (2/ 250- مصورة المدينة) من طريقين عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري: حدثني أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذ كره.
وخالفهما في الإسناد محمد بن مصعب: حدثنا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك به.
أخرجه أحمد (3/ 224) ، وأبو يعلى (6/3639) .
وابن مصعب هذا فيه ضعف من قبل حفظه، فلا يحتج بمخالفته.
وقد روي الحديث بلفظ:
"يتبع الدجال من أمتي سبعون.. " الحديث.
وفيه متهم بالكذب، ولذلك خرجته في "الضعيفة " (6088) ، وهو بظاهره مخالف لهذا الحديث الصحيح؛ إلا أن يؤول. راجع المصدر المذكور.
وللحديث شاهد قوي من حديث جابر، وهو الآتي بعده: *
3081- (نِعْمَتِ الأرضُ المدينةُ إذا خرجَ الدجالُ؛ على كُلِّ نَقْبٍ من أنقابها مَلَكٌ لا يدخُلُها، فإذا كان كذلك رَجَفَتِ المدينة بأهلها ثلاث رجفات، لا يبقى منافقٌ ولا منافقةٌ إلا خرج إليه، وأكثرُ- يعني- من يَخْرُجُ إليه النساء، وذلك يوم التخليص، وذلك يوم تنفي المدينة(7/214)
الخَبَثَ كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد، يكون معه سبعون ألفاً من اليهود، على كل رجلٍ منهم ساجٌ وسيف محلى، فتُضْرَبُ قُبَّتُهُ بهذا الضرب الذي عند مجتمع السيول.
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ما كانت فتنة- ولا تكون حتى تقوم الساعة- أكبر من فتنة الدجال، ولا من نبيٍّ إلا حذر أمته، ولأخبِرَنَّكُم بشيء ما أخبَرهُ نبيٌّ قبلي. ثم وضع يده على عينه، ثم قال: أشهد أن الله عز وجل ليس بأعور) .
أخرجه الإمام أحمد (3/292) : ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو: ثنا زهير عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
أشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فلق من أفلاق الحَرَّة ونحن معه، فقال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، وزهير- وهو ابن محمد التميمي، أبو المنذر الخراساني- الراجح فيه أن رواية البصريين عنه مستقيمة - كما قال الإمام أحمد وغيره-، وهذه منها، ولهذا قال ابن كثير في "النهاية" (1/127) :
"تفرد به أحمد، وإسناده جيد، وصححه الحاكم ".
وقال الهيثمي (3/308) :
" رواه أحمد، والطبراني في " الأوسط ".. ورجاله رجال (الصحيح) ".
قلت: وهذا يوهم أن إسناد الطبراني كإسناد أحمد، وليس كذلك؛ فإنه في(7/215)
المعجم الأوسط " (1/119/2/2354) من طريق علي بن عاصم عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن جابر به نحوه، ولم يسق لفظه بتمامه.
وعلي بن عاصم مضعف؛ لإصراره على خطئه كما تقدم مراراً.
وأما الحاكم؛ فإنما أخرج الشطر الثاني منه (1/24) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم به. ولم يصرح بتصحيحه؛ بل ذكره شاهداً لحديث أبي هريرة قال:
"قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه (كان سميعاً بصيراً) ، فوضع إصبعه الدَّعَّاء على عينه؛ وإبهامه على أذنه". وقال:
"حديث صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" (ص 31) ، ومن طريقه: ابن حبان (1732 - موارد) ، والبيهقي في "الأسماء" (179) ، وأبو داود في "السنة " من آخر كتابه "السنن " (4728) ، وسنتكلم على إسناده هناك إن شاء الله تعالى.
وجملة (الأنقاب) ، و (الثلاثة رجفات) رواها البخاري (1881) من حديث أنس، وجملة (التحذير) أخرجها بنحوها (7127) من حديث ابن عمر. وجملة (نفي الخبث) أخرجها (1884) من حديث زيد بن ثابت، و (1883) من طريق أخرى عن جابر. *
3082- (لأنَا لِفِتْنَةِ بَعْضِكْم أخْوَفُ عندي فتنة الدجال، ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها، وما صُنِعَتْ فتنةٌ - منذ كانت الدنيا- صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال) .
أخرجه أحمد (5/389) : ثنا وهب بن جرير: ثنا أبي قال: سمعت الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال:(7/216)
ذُكر الدجال عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين؛ إن كان الأعمش سمعه من أبي وائل؛ فإنه قد خولف في إسناده؛ فأخرجه البزار (3391- كشف الأستار) ، وكذا ابن حبان (6807- الإحسان) من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن حذيفة نحوه، وزاد في آخره:
"والله! لا يضر مسلماً، مكتوب بين عينيه: كافر".
وإسناده حسن للخلاف المعروف في أبي بكر بن عياش.
لكن تابعه منصور بن أبي الأسود عن الأعمش: رواه البزار (3392) . قال مُخْتَصِرُ" البزار":
"قلت: فذكر نحوه باختصار".
فلم ندر ما لفظه، وما حدود اختصاره؟!
وقد رواه كذلك الطبراني في "المعجم الكبير" (3/185/3017) من طريق حفص بن غياث: ثنا الأعمش به بلفظ:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الدجال-: "مكتوب بين عينيه: كافر؛ يقرؤه كل مسلم"
وهذا القدر أخرجه مسلم (8/195) ، وأحمد (5/386 و404 - 405) من طريق ربعي بن حراش عن حذيفة في آخر حديث له، وزاد:
"كاتب وغير كاتب ".
والحديث قال الهيثمي (7/335) :
"رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال (الصحيح) ". *(7/217)
3083- (ليتَ شِعْري! متى تَخْرُجُ نارٌ من اليمن من جبل الوِرَاقِ؛ تضيء منها أعناقُ الإبل بُروكاً بِبُصرى كضَوْءِ النهارِ) .
أخرجه أحمد (5/144) : ثنا وهب بن جرير: ثنا أبي قال: سمعت الأعمش يحدث عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن حبيب بن جماز عن أبي ذر قال:
أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلنا (ذا الحليفة) ، فتعجلت رجال إلى المدينة، وبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبتنا معه، فلما أصبح سأل عنهم؟ فقيل: تعجلوا إلى المدينة. فقال:
"تعجلوا إلى المدينة والنساء! أما إنهم سيدعونها أحسن ما كانت ". ثم قال ... فذ كره.
وأخرجه ابن حبان (1891- موارد) من طريق علي بن المديني: حدثنا وهب ابن جرير به، وزاد- بعد قوله: "أحسن ما كانت "-:
"وقال للذين تخلفوا معروفاً". وهي عند البزار في "مسنده " (2/53- 54) .
قلت: وهذا إسناد جيد في نقدي، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم؛ غير حبيب بن جماز؛ ترجمه البخاري وابن أبي حاتم برواية سماك بن حرب عنه أيضاً، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وذكره ابن حبان في "الثقات " (4/139) ؛ وكذا العجلي فقال (106/245) :
"كوفي تابعي ثقة".
قلت: وروى عنه عمرو بن قيس أيضاً؛ كما يأتي قريباً، فهؤلاء ثلاثة من(7/218)
الثقات رووا عنه مع توثيق من ذُكر، وتصحيح ابن حبان لحديثه، وكذا الحاكم والذهبي كما سيأتي، فالنفس تطمئن لروايته والحالة هذه؛ ولا سيما أن لحديثه شواهد كثيرة في الجملة.
ثم أخرجه أحمد: ثنا معاوية بن عمرو: ثنا زائدة عن الأعمش بسنده المذكور عن أبي ذر قال:
كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر معناه.
وبهذا الإسناد أخرج ابن أبي شيبة (15/78/19166) منه حديث الترجمة فقط، ومن طريقه: أخرجه ابن شبة في "أخبار المدينة " (1/ 280) بتمامه.
وأخرجه الحاكم (4/442) من طريق أبي أسامة: حدثني زائدة به بتمامه. وقال:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي.
وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً (19162) : حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن رجل عن أبي ذر به.
وهذا إسناد جيد أيضاً؛ لأن الرجل هو حبيب بن جماز المصرح به فيما تقدم من إلأسانيد.
(تنبيه) : اختلفوا كثيراً في ضبط "جماز"؛ فقيل هكذا (1) ؛ وقيل: "جمار"؛ وقيل: " حمار"، وغير ذلك انظر " التعجيل "، والتعليق على " التاريخ " وغيرهما. وللحديث شاهد من حديث حذيفة بن أسيد مرفوعاً بلفظ:
_________
(1) وهو مارجحه ابن ماكولا (2/547) . (الناشر)(7/219)
"إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات.. " الحديث، وفيه:
"ونار تخرج من قعر عدن ". وفي رواية:
"وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ".
أخرجه مسلم (8/179) ، وغيره كابن حبان (6804- الإحسان) .
واعلم أن هذه النار التي تخرج من اليمن قبل قيام الساعة، هي غير النار التي خرجت في المدينة سنة (654 هـ) وفق قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى".
أخرجه البخاري (7118) ؛ومسلم (8/180) ؛وابن حبان (6800- الإحسان) ؛ وأبو نعيم في "أخبار أصبهان " (1/147) ، والحاكم (4/443) من حديث سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً. وهو من الأحاديث التي خلا منها "مسند أحمد" على سعته.
وللحديث شاهد آخر مختصر من حديث ابن عمر؛ صححه الترمذي وابن حبان، وهو مخرج في "فضائل الشام " رقم (11) ، ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (15/78) . وراجع لشرح حديث الشيخين: "فتح الباري" (13/78- 79) . *
3084- (إن الدجال يطوي الأرض كلها إلا مكة والمدينة، فيأتي المدينة فيجد بكل نقب من أنقابها صفوفاً من الملائكة، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة) .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (12/181 و15/143) : يونس بن(7/220)
محمد عن حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال ... فذكره.
وأخرجه مسلم (8/206- 207) من طريق ابن أبي شيبة، ولم يسق لفظه بتمامه، وإنما أحال به على ما قبله من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: حدثني أنس بن مالك بلفظ:
"ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال؛ إلا مكة والمدينة.. "، والباقي نحوه.
وأخرجه البخاري (1881) أيضاً، ومن طريقه: البغوي في "شرح السنة " (7/326/2022) ، وابن حبان (6765- الإحسان) ، وأحمد (3/238) . *
3085- (يا أيُّها الناس! لا تَطْرُقُوا النساء ليلاً، ولا تَغْتَرُّوهُنَّ) .
أخرجه البزار في "مسنده " (2/ 186/ 1485- كشف الأستار) : حدثنا محمد بن معمر: ثنا محمد بن عبد الله (!) : أنبأ عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل من غزوة فقال ... فذكره، وقال البزار:
"إنما يعرف عن ابن عجلان عن نافع، تفرد به محمد بن عبيد عن عبيد الله ".
قلت: وهما ثقتان من رجال الشيخين، وكذلك سائر الرواة، ومحمد بن عبيد- هو الطنافسي-؛ ذكره الحافظ المزي في جملة الرواة عن عبيد الله- وهو ابن عمر العمري المصغر-، وعليه: فقوله في أول السند: ".. محمد بن عبد الله " كأنه خطأ من الناسخ، وإنما لم أقل: "من الطابع "؛ لأنه كذلك وقع في النسخة المصورة.(7/221)
وقد تابع نافعاً سالم بن عمر؛ فقال البزار (1486) :
"نسخت من كتاب أحمد بن الفرج: عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن [سالم عن] أبيه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى أن تطرق النساء ليلا".
فلما نظر في الكتاب قال:
"رأيته عندي في موضعين: مَرَّةَّ: عن سالم عن أبيه؛ ومَرَّةَّ: عن سالم " (1) .
قلت: أحمد بن الفرج- وهو أبو عتبة الحمصي- ضعيف، وقد اضطرب بين وصله وارساله، والأول أرجح، فقد تابعه عليه الحسن بن داود المنكدري قال: ثنا ابن أبي فديك به موصولاً.
أخرجه ابن عدي في "الكامل " (2/333) ، وهذه متابعة قوية؛ فالحسن هذا قال الحافظ في "التقريب ":
"لا بأس به ".
فثبت الإسناد من هذا الوجه أيضاً، والحمد الله.
وقول البزار: "إنما يعرف عن ابن عجلان عن نافع ".
لعله يعني من حيث الشهرة، فلا ينافي صحته من غير طريق ابن عجلان، فقد تابعه من هو أحفظ وأوثق منه، وهو عبيد الله العمري كما تقدم.
وتابعه أيضاً عمر بن محمد- وهو ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدني- عن نافع بلفظ:
_________
(1) كذا الأصل المطبوع، وفي النسخة المصورة على القلب: تقديم المرة الأخرى على الأولى.(7/222)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم من غزوة قال: "لا تطرقوا النساء". وأرسل من يؤذن في الناس أنه قادم بالغداة.
أخرجه أبو عوانة في "صحيحه " (5/117) ، وكذا ابن خزيمة (9/340) ، والبيهقي (9/174) من طريق ابن وهب: أخبرني عمر بن محمد به.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وأما حديث ابن عجلان فيرويه خالد بن الحارث: ثنا محمد بن عجلان عن نافع عن عبد الله بن عمر:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل العقيق؛ فنهى عن طروق النساء الليلة التي يأتي فيها، فعصاه فتيان؛ فكلاهما رأى ما يكره.
أخرجه أحمد (2/ 104) ، والبزار (1485) .
قلت: وهذا إسناد جيد، كما قال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (2/46) .
وللعصيان الذي في هذه الرواية شاهد من حديث ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا تطرقوا النساء ليلاً"؛ يعني: إذا قدم أحدكم من سفر لا يأتي أهله إلا نهاراً. قال: فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً من سفر، وذهب رجلان؛ فسبقا بعد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأتيا أهليهما؛ فوجد كل واحد مع أهله رجلاً.
أخرجه الدارمي (1/118) ، والبزار (1487) ، والطبراني في " الكبير" (11/245/11626) من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عنه، والسياق للطبراني.(7/223)
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ من أجل زمعة وسلمة، ولكنهما ليسا شديدي الضعف، فيستشهد بهما.
وروى أحمد (3/ 451) ، والحاكم (4/293) من طريق أبي سلمة عن عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه. أنه كان في سفر، فقدم، فتعجل إلى أهله ليلاً، فإذا شيء نائم مع امرأته فأخذ السيف، فقالت امرأته: [إليك إليك عني] ؛ هذه فلانة مشطتني، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تطرقوا النساء ليلاً".
وقال الحاكم:
"صحيح على شرط الشيخين ".
ورده الذهبي بقوله:
"قلت: ذا مرسل ".
وبينه الهيثمي فقال (4/ 330) :
"رواه أحمد والطبراني باختصار، ورجاله رجال "الصحيح "؛ إلا أن أبا سلمة لم يلق ابن رواحة".
قلت: لكن له شاهد من حديث جابر قال:
أتى ابن رواحة رضي الله عنه امرأته وامرأة تمشطها، فأشار بالسيف، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً.
أخرجه أبو عوانة (5/116) بسند صحيح، وأصله في "صحيح مسلم " (6/56) ، ونحوه البخاري (5243) .(7/224)
ورواه أحمد (3/391) من طريق أخرى عن جابر مختصراً مرفوعاً بلفظ:
"لا يطرقن أحدكم أهله ليلا"
وإسناده صحيح أيضاً.
(تنبيه) : حديث الترجمة أخرجه عبد الرزاق في "المصنف " (7/495/14016) عن عبيد الله بن عمر به؛ لكن لم يذكر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا أدري أسقط ذلك من الناسخ أو الطابع؛ أم الرواية هكذا عنده؟ !
وقد وقعت فيه كلمة (دعمروهن) هكذا مهملة الحروف، وكذلك وقعت في "كشف الأستار"، ولم يعرف وجهها الشيخ الأعظمي في تعليقه عليه وعلى "المصنف "، فأهمل إعجامه وتفسيره، وقد بينها ابن الأثير في "النهاية"، فقال في مادة (غرر) :
"وفي حديث عمر (!) : "لا تطرقوا النساء ولا تغتروهن "، أي: لا تدخلوا إليهن على غرة، يقال: اغتررت الرجل: إذا طلبت غرته؛ أي: غفلته ". *
3086- (ألا لا يَبِيتنَّ رجلُ عند امرأةٍ ثيبٍ؛ إلا أنْ يكون ناكحاً أو مَحْرَماً) .
أخرجه مسلم (7/7) ، وابن أبي شيبة في "المصنف " (4/409) - ومن طريقه: عبد بن حميد (1073) -، والنسائي في "السنن الكبرى" (2/386/ 9215) ، ومن طريقه: ابن عبد البر في "التمهيد" (1/227) ، وأبو يعلى في "مسنده " (3/376 و 384/1848 و 1859) ، وعنه ابن حبان (5587 و5590- المؤسسة) ، وكذا البيهقي (7/98) ، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/109) من(7/225)
طرق عن هُشَيْمٍ: أخبرنا أبو الزبير عن جابر قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: ولم يصرح أبو الزبير بالتحديث عندهم جميعاً؛ وهو مدلس معروف؛ ولا رأيته من رواية الليث بن سعد عنه عند أحد منهم أومن غيرهم؛ لكنه بمعنى ما رواه عبد الرحمن بن جبير أن عبد الله بن عمرو بن العاص حدثه:
أن نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس، فدخل أبو بكر الصديق- وهي تحته يومئذ- فرآهم، فكره ذلك، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -وقال: لم أر إلا خيراً! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله قد برأها من ذلك ". ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فقال: "لا يَدْخُلَنَّ رجل بعد يومي هذا على مُغِيبَةٍ إلا ومعه رجل أو اثنان ".
أخرجه مسلم (7/8) ، والنسائي في "الكبرى" (9217) ، وفي "فضائل الصحابة " (284) ، وابن حبان (5585- المؤسسة) ، والبيهقي (7/90) ، وأحمد (2/171، 186، 213) ، وزاد في رواية:
" قال عبد الله بن عمرو: فما دخلت بعد ذلك المقام على مُغِيبَة إلا ومعي واحد أو اثنان ".
(تنبيهات) :
الأول: قوله في حديث الترجمة: "امرأة ثيِّب "؛ هكذا وقع في "صحيح مسلم "، و"تاريخ بغداد"، ورواية للبيهقي. ووقع في رواية أبي يعلى، وابن حبان: "امرأة في بيت "، وأما ابن أبي شيبة، والنسائي فأسقطا اللفظين: "ثيب " و"بيت "، وهو رواية للبيهقي! ولعل الراجح من ذلك رواية مسلم؛ لموافقتها حديث أسماء بنت عميس. والله تعالى أعلم.(7/226)
قال النووي في "شرح مسلم ":
"قال العلماء: إنما خص (الثيب) بالذكر، لكونها التي يدخل إليها غالباً، وأما البكر فمصونة متصونة في العادة؛ مجانِبَةٌ للرجال أشد مجانَبَةٍ، فلم يُحتج إلى ذكرها. ولأنه من باب التنبيه؛ لأنه إذا نهى عن الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة؛ فالبكر أولى".
قلت: يعني أنه باب القياس الأولوي؛ كقوله تعالى في تأديب الولد مع والديه: (ولا تقل لهما أف) [الإسراء/23] ؛ فمن باب أولى أنه لا يجوز له أن يضربهما بكف!
الثاني: من أوهام السيوطي أو تساهله أنه ذكر الحديث في "الزيادة على الجامع الصغير" بلفظ أبي يعلى المذكور: "في بيت " وعزاه لمسلم فقط! وهكذا وقع في " الفتح الكبير" تبعاً لأصله؛ وكذلك في " صحيح الجامع الصغير"؛ فليصحَّح.
الثالث: أن بعض المشتغلين بهذا العلم الشريف لا يصارحون قراءهم بالكشف عن علة الإسناد أداء للأمانة العلمية، فهذا- مثلاً- المعلق على "الإحسان/ طبعة مؤسسة الرسالة" يقول في تعليقه على الحديث في الموضع الأول منه (12/400) :
"رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير أبي الزبير فمن رجال مسلم ".
ثم عزاه لمسلم، ولما جاء دور تعليقه عليه في الموضع الآخر (12/403) منه؛ زاد هناك على قوله المذكور:
"وهو مدلس، وقد عنعن "!(7/227)
ولم يعزه هنا لمسلم؛ وانما أحال في تخريجه على الموضع الأول. ولقد كان حقه أن يذكر هذا هناك أداء للأمانة، وإنما لم يفعل لكي لا ينتقده بعض الجهلة - مبطلين- بأنه أعل حديث مسلم! فكان عاقبة أمره أنه انتقد بحق!! *
3087- (أنا آخذ بِحُجَزِكُم عن النار؛ أقولُ: إيَّاكم وجهنم! إياكم والحدود! فإذا متُّ فأنا فَرَطُكُم ومَوْعِدُكُم على الحوضِ، فَمَن وَرَدَ أفلح.
ويأتي قومٌ فيُؤخَُ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربِّ أمتي! فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك مُرتدِّين على أعقابهم) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (12/71/12508) : حدثنا جعفر بن أحمد الشامي الكوفي: ثنا أبو كريب: ثنا مختار بن غسان عن أبي محياة يحيى ابن يعلى عن أبيه عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد لا بأس به في الشواهد، وفيه ما يلي:
1- يعلى- وهو ابن حرملة التيمي والد يحيى-؛ لم يوثقه غير ابن حبان (5/556) ، ولم يرو عنه غير ابنه.
2- مختار بن غسان؛ لم يوثقه أحد، وذكر له في "التهذيب " راويين آخرين: إبراهيم بن إسماعيل الطلحي، وأحمد بن علي الأسدي، ولم أعرفهما.
3- جعفر بن أحمد الشامي الكوفي، لم أجد له ترجمة، وليس من شيوخ الطبراني المشهورين؛ فإنه لم يرو له في "المعجم الأوسط " (1/192/ 1) إلا أربعة أحاديث (3511- 3514) ؛ أحدها في "المعجم الصغير" (ص 65- هندية) رقم (63- الروض النضير) .(7/228)
ومن هذا البيان يتضح تساهل- أو خطأ- المعلق على "مجمع البحرين " حين قال (8/128) تحت حديث ليث بن أبي سليم الآتي:
"لكن رواه الطبراني في "الكبير" (12/ 71) بنحوه، وإسناده حسن "!
والصواب أن يقال:
"إسناده حسن لغيره ".
لرواية ليث المشار إليها؛ أخرجها البزار (4/176/ 3480) من طريق عبد الواحد ابن زياد عن ليث عن طاوس عن ابن عباس به.
وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (11/33/10953) ، و"الأوسط " (1/162/1/ 3022) وقال:
"لم يرو هذا الحديث إلا عبد الواحد".
قلت: وهو ثقة، وكذلك سائر الرواة؛ لكن الليث كان اختلط، فهو ممن يصلح للاستشهاد به، وقد رواه باسناد آخر؛ فقال: عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس به مثل رواية يعلى والد يحيى دون الشطر الثاني منه.
أخرجه البزار (2/210/1536) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/246/745 و359/773) مختصراً
وأخرجه أحمد وابنه عبد الله في زوائده (1/257) بالشطر الثاني دون ما قبله إلا مختصراً بلفظ:
"وأنا فرطكم على الحوض؛ فمن ورد أفلح. ويؤتى بأقوام.." الحديث. ومن الغرائب قول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على " المسند" (4/94) :(7/229)
"إسناده صحيح؛ عبد الملك بن سعيد بن جبير ثقة؛ أخرج له.."
فتكلم حول هذا الثقة، وكان يكفي منه الاشارة إلى ذلك، وأعرض عن الكلام في الليث بن أبي سليم. ولله في خلقه شؤون.
والشطر الثاني من الحديث قد جاء عن جمع من الصحابة بألفاظ متقاربة في " الصحيحين " وغيرهما.
وأما قوله: "أنا فرطكم على الحوض "؛ فهو متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد خرج الكثير الطيب منها الحافط ابن أبي عاصم في أول الجزء الثاني من "كتاب السنة"، فليراجعها من شاء.
(تنبيه) : عرفت مما سبق اختلاف ألفاظ الحديث عند مخرجيه: أحمد والبزار والطبراني في "معجميه "، واختلاف أحد طريقي "المعجم الكبير" عن الطريق الأخرى عندهم. فمن سوء الكلام والتخريج لهذا الحديث: ما وقع فيه الشيخ الأعظمي في تعليقه على "كشف الأستار"؛ فإنه لم يبين الفرق بين رواياتهم والاختلاف الذي فيها طولاً وقصراً، فأوهم أن اللفظ الذي عند أحمد هو لفظ البزار؛ كما أنه أوهم أنه ليس له طريق آخر غير طريق الليث، والواقع خلافه كما سبق بيانه. *
3088- (كان بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط إلى بني المُصطَلِقِ ليأخذ منهم الصدقات، وأنه لما أتاهم الخبرُ فرحوا، وخرجوا ليتلقَّوا رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه لَمَّا حُدِّثَ الوليدُ أنهم خرجوا يَتَلَقَّوْنَهُ رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال:
يا رسول الله! إن بني المصطلق قد مَنَعُوا الصدقة.(7/230)
فَغَضِبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك غضباً شديداً، فبينما هو يُحَدِّثُ نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد، فقالوا:
يا رسول الله! إنا حُدِّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنّا خشينا أن يكون إنما رّدَّهُ كتابٌ جاءه منك لغضبٍ غَضِبتَهُ علينا، وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله! وأن رسول الله اسْتَعْتَبَهُم (!) وهَمَّ بهم، فأنزل الله عز وجل عُذرَهُم في الكتاب: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) [الحجرات/6]
أخرجه ابن جرير الطبري في "التفسير" (25/78) ، والبيهقي في "سننه " (9/54- 55) - والسياق له- من طريق عطية بن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف عطية وبعض من دونه؛ لكن له شواهد تدل على صحته:
أولاً: ما رواه موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت:
"بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً في صدقات بني المصطلق.. " الحديث نحوه.
أخرجه ابن جرير
وموسى بن عبيدة ضعيف.
ثانياً: ما روى يعقوب بن حميد: ثنا عيسى بن الحضرمي بن كلثوم بن علقمة بن ناجية بن الحارث الخزاعي عن جده كلثوم عن أبيه علقمة قال:(7/231)
"بعث إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الوليد بن عقبة بن أبي معيط يُصَدِّقُ أموالنا.. " الحديث نحوه، وفيه:
"وذلك بعد وقعة (المريسيع) ، وفيه:
"فقبل منهم الفرائض.. فرجعوا إلى أهليهم، وبعث إليهم من يقبض بقية صدقاتهم "
أخرجه ابن أبي عاصم في "الأفراد" (4/309- 310) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/6- 7) .
قلت: وهذا إسناد حسن؛ كما سيأتي بيانه في حديث آخر برقم (3232) . وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد" (7/ 110) :
"رواه الطبراني بإسنادين؛ في أحدهما يعقوب بن حميد بن كاسب، وثقه ابن حبان، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات ".
قلت: الراجح في يعقوب هذا أنه حسن الحديث؛ كما بينت هناك، وأما الإسناد الآخر الذي أشار إليه الهيثمي؛ ففيه يعقوب بن محمد الزهري؛ فهو ضعيف. ثم إن متنه مختصر جداً؛ مع زيادة فيه غريبة، ولفظه برقم (5) :
عن أبيه: أنه كان في وفد بني المصطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر الوليد بن عقبة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال:
"انصرفوا غير محبوسين ولا محصورين ".
ثالثاً: قال عيسى بن دينار: ثنا أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي قال:
قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به،(7/232)
فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فيرسل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إبان كذا وكذا، ليأتيك ما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ (الإبان) الذي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته؛ فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز وجل ورسوله، فدعا بسرواتِ قومِهِ فقال لهم:
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان وَقَّتَ لي وَقْتاً يُرسلُ إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخُلْفُ؛ ولا أرى حبس رسوله إلا من سُخطةٍ كانت؛ فانطلقوا فنأتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
وبعث رسول- صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرِقَ، فرجع فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وقال:
يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي! فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البعث إلى الحارث.
فأقبل الحارث بأصحابه.
حتى إذا استقبل البعث وفصل من المدينة؛ لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بُعِثتُم؟ قالوا: إليك! قال: ولم؟! قالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله! قال: لا والذي بعث محمداً بالحق! ما رأيتُهُ بَتَّةَّ ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(7/233)
"منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟! ".
قال: لا والذي بعثك بالحق! ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ خشيت أن تكون كانت سُخطة من الله عز وجل ورسوله، قال: فنزلت (الحجرات) : (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) إلى هذا المكان: (فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم)
أخرجه أحمد (4/279) ، وابن أبي عاصم في "الأفراد" (4/322/2353) ، والطبراني في "الكبير" (3/310- 311) من طريق محمد بن سابق: ثنا عيسى ابن دينار به.
قلت: وهذا إسناد صحيح؛ رجاله كلهم ثقات مترجمون في "التهذيب ". ولذلك قال الحافظ ابن كثير في "التفسير":
"إنه من أحسن طرق الحديث ". وقال السيوطي في "الدر المنثور" (6/87) :
"سنده جيد".
وسكت الحافظ عنه في ترجمة (الحارث) من "الإصابة".
وأما في ترجمة (الوليد بن عقبة) ؛ فإنه- بعد أن أخرج القصة من وجوه مرسلة- قال:
"أخرجها الطبراني موصولة عن الحارث بن أبي ضرار المصطلقي مطولة، وفي السند من لا يعرف "!
كذا قال رحمه الله! فإنه مع تقصيره في اقتصاره على الطبراني دون أحمد(7/234)
وغيره- ممن عزاه إليهم في الموضع الأول- فالطبراني قد رواه من ثلاثة طرق عن محمد بن سابق. فهل الجهالة التي أشار إليها هي في محمد بن سابق فمن فوقه - وهذا ما لا يتصور صدوره من الحافظ؛ بل ولا ممن دونه-، أم هي في الطرق الثلاث؟ وهذا كالذي قبله؛ فإنها لو كانت كلها مجهولة لم يجز إعلال الحديث بها لتضافرها، فكيف واثنان منها- على الأقل- صحيحان؟! فكيف وقد رواه أحمد عن محمد بن سابق مباشرة؟! لا شك أن ذلك صدر من الحافظ سهواً وغفلة. وكلنا ذاك الرجل: (ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) *
3089- (إذا بُويعَ لِخلِيفتينِ؛ فاقتُلُوا الآخِرَ مِنْهُما) .
جاء من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأنس بن مالك، وعبد الله بن مسعود.
1- أما حديث أبي سعيد؛ فله عنه طريقان:
الأولى: عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.... فذكره
أخرجه مسلم (6/23) ، وأبو عوانة (4/ 460) ، والبيهقي في "السنن " (8/144) .
والأخرى: عن بشر بن حرب أن ابن عمر أتى أبا سعيد الخدري فقال: يا أبا سعيد! ألم أخبر أنك بايعت أميرين من قبل أن يجتمع الناس على أمير واحد؟ قال: نعم بايعت ابن الزبير، فجاء أهل الشام فساقوني إلى حبيش بن دلجة (1) فبايعته. فقال ابن عمر: إياها كنت أخاف، إياها كنت أخاف! ومد بها (حماد) صوته.
_________
(1) انظر" تاريخ دمشق" (12/86) لابن عساكر. (الناشر)(7/235)
قال أبو سعيد: يا أبا عبد الرحمن! أولم تسمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من استطاع أن لا ينام نوماً، ولا يصبح صباحاً، ولا يمسي مساءً؛ إلا وعليه أمير "؟! قال: نعم، ولكني أكره أن يبايع أميرين من قبل أن يجتمع الناس على أمير واحد.
أخرجه أحمد (3/29- 30) .
قلت: وبشر بن حرب هذا ضعفه الأكثر، وقال الذهبي في "الكاشف ": "ضعيف ". وقال الحافظ:
"صدوق فيه لين ".
2- وأما حديث أبي هريرة؛ فيرويه أبو هلال عن قتادة عن سعيد عنه مثل حديث الترجمة.
أخرجه البزار في "مسنده " (2/235/1595) ، والطبراني في "المعجم الأوسط " (4/320/ 2534- مجمع البحرين) ، وابن عدي في "الكامل " (6/213) .
وأبو هلال هو محمد بن سليم الراسبي، صدوق فيه لين؛ لكنه قد خولف في إسناده. فأخرجه ابن عدي من طريق أبي الوليد عن همام عن قتادة عن سعيد بن المسيب به مرسلاً. وذكر ابن عدي عن أبي موسى محمد بن المثنى- الراوي له عن أبي الوليد- أنه قال:
"قلت لأبي الوليد: فإن أبا هلال حدث عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -! قال لي أبو الوليد: يا أبا موسى! إن أبا هلال لا يحتمل هذا".(7/236)
قلت: يشير إلى ضعف أبي هلال وأنه ليس من القوة بحيث يحتمل منه إسناده إياه عن أبي هريرة. ولكنه على كل شاهد مرسل قوي. وأما الهيثمي فقال (5/198) :
"رواه البزار، وفيه أبو هلال، وهو ثقة، والطبراني في (الأوسط) "!
3- وأما حديث معاوية؛ فيرويه الهيثم بن مروان: ثنا زيد بن يحيى بن عبيد: ثنا سعيد بن بشير عن أبي بشر جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لمعاوية في الكلام الذي جرى بينهما في بيعة يزيد بن معاوية:
وأنت يا معاوية! حدثتني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا كان في الأرض خليفتان؛ فاقتلوا آخرهما".
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (19/314/710) ، وفي "الأوسط " (4/ 320/2535- مجمع البحرين) ، وقال:
"لم يروه عن ابن الزبير إلا سعيد، ولا عنه إلا أبو بشر، ولا عنه إلا سعيد بن بشير، تفرد به [زيد بن] يحيى".
قلت: وهو ثقة؛ وكذلك سائر الرجال؛ غير سعيد بن بشير؛ ففيه ضعف لا يمنع من الاستشهاد به؛ وأما الهيثمي؛ فتساهل فيه فقال:
"رواه الطبراني في " الكبير" و" الأوسط "، ورجاله ثقات "!
4- وأما حديث أنس؛ فيرويه عمار بن هارون: حدثنا فضالة بن دينار الشحام: حدثنا ثابت عن أنس.
أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (3/457) ، والخطيب في "التاريخ " (1/239) ، وقال العقيلي:(7/237)
"فضالة بن دينار منكر الحديث، والرواية في هذا الباب غير ثابتة" (1) .
كذا قال، وأقره الذهبي في "الميزان "، وتعقبه الحافظ في "اللسان " فقال:
"وهذا هو العجب العجاب! كيف يقول المؤلف هذا ويقر عليه؛ والحديث في "صحيح مسلم "، وإن كان من غير هذا الوجه؟! وقد راجعت كلام العقيلي فلم أر هذا الكلام فيه ".
فأقول: إن كان يعني بالنص فمسلم. وإن كان يعني مطلقاً ولو بالمعنى؛ فهو مردود بما نقلته عن العقيلي آنفاً. ويأتي عنه نحوه في الحديث التالي.
5- وأما حديث ابن مسعود؛ فعلقه العقيلي في ترجمة (الحكم بن ظهير) (1/259) عن عاصم عن زر عنه به. وقال:
"الحكم بن ظهير؛ قال البخاري: منكر الحديث ".
ثم قال العقيلي:
"ولا يصح في هذا المتن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من وجه ثابت"
قلت: وهذا نص آخر يؤيد ثبوت كلام العقيلي السابق والذي استنكره الحافظ ونفاه عن العقيلي، أما الاستنكار فلا شك فيه، وأما النفي فهو مردود بهذين النصين. ولعل مستند العقيلي في ذلك قول أحمد: "إن هذا الحديث من غرائب الجريري"؛ كما نقله الذهبي في ترجمة (الجريري) من "السير" (6/155) .
ولكن من المعلوم أن الغرابة قد تجامع الصحة، فإذا كان الراوي ثقة فلا يضر
_________
(1) وفي "الميزان " نقلاً عن العقيلي: "ولم يصح في هذا حديث ". فالظاهر أنه نقله بالمعنى، أو هو من إختلاف النساخ.(7/238)
حديثه أن يكون غريباً، والجريري- واسمه سعيد بن إياس- محتج به في "الصحيحين "؛ وإن كان اختلط قبل موته بثلاث سنين، ولكن لم يفحش اختلاطه، وكأنه لهذا احتج به ابن حبان في "صحيحه " تبعاً لـ "الصحيحين "، وأكثر هو عنه، فمثله ينبغي أن يحتج به ما لم يظهر خطؤه، فإذا توبع أو كان له شواهد- كما هو الشأن في حديثه هذا-؛ فلا يضر غرابته فيه إن شاء الله تعالى.
على أن له شاهداً أقوى مما تقدم، ولكنه في المعنى واحد عندي، وهو حديث عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول:
"من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه ".
أخرجه مسلم، وأبو عوانة (4/ 461- 464) ، وابن حبان (6/294/4389) ، واللفظ لمسلم، وهو رواية لأبي عوانة، ورواه بألفاظ أخرى متقاربة، وكذلك رواه آخرون، وهو مخرج! في " الإرواء " (8/ 105) . *
3090- (لَيَأتِيَنَّ على أمتي زمانٌ يتمنون فيه الدجال. قلتُ: يا رسول الله بأبي وأمي! مِمَّ ذَاكَ؟! قال: مما يَلْقونَ من العناء أو الضناء) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط " (1/259) : حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: نا أحمد بن عمر الوكيعي، قال: نا قبيصة بن عقبة، قال: نا عبيد بن طفيل أبو سيدان العبسي قال: سمعت شداد بن عمار يقول: قال حذيفة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. وقال:
"لم يروه عن عبيد بن طفيل إلا قبيصة، تفرد به أحمد بن عمر الوكيعي ".(7/239)
كذا قال! وهو ما أحاط به علمه، وإلا فهو مردود برواية البزار في "مسنده " (4/140- كشف الأستار) : حدثنا القاسم بن بشر بن معروف: ثنا قبيصة بن عقبة به؛ إلا أنه قال: "ربعي بن حراش " مكان " شداد بن عمار". وقال:
"لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن حذيفة بهذا الإسناد، وعبيد كوفي مشهور، حدث عنه جماعة".
قلت: منهم وكيع وعبيد الله بن موسى وأبو نعيم؛ كما في "الجرح " (2/2/409) ، وأبو أحمد الزبيري؛ كما في "ثقات ابن حبان " (7/157) ، فإذا ضُمَّ إليهم قبيصة هذا؛ يكون مجموعهم خمسة من الثقات، وأكثرهم من الحفاظ، فهو ثقة، وقد قال أبو حاتم وأبو زرعة: "لابأس به ". وقال ابن معين: "صويلح ".
وسائر رجال البزار ثقات من رجال "التهذيب "، غير القاسم بن بشر بن معروف، ترجمه الخطيب (12/427) ، وكناه بأبي محمد البغدادي وقال:
"وكان ثقة ".
وذكره ابن حبان في "الثقات " (9/19) ، فالسند صحيح، ولا يخدج فيه أنه خالفه أحمد بن عمر الوكيعي في رواية الطبراني؛ فجعل مكان ربعي بن حراش: "شداد بن عمار"؛ لأن كلاً من الوكيعي وابن معروف ثقة، فيجوز أن يكون عبيد بن طفيل رواه عن ربعي بن حراش وشداد بن عمار، فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وهو عن الأول صحيح كما تقدم؛ لأنه ثقة مخضرم. وأما شداد فليس بالمشهور، أورده البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في "الثقات " (4/358) برواية عبيد بن طفيل هذا عنه. وقد كدت أن أرجح رواية عبيد بن طفيل عن ربعي؛ لأنها أشهر من روايته عن شداد؛ لولا أنني رأيت الوكيعي قد تابعه البخاري في روايته، فقال فيها:(7/240)
"قاله لنا قبيصة: نا عبيد بن طفيل: نا شداد".
ثم إن شداداً هذا لم يقع والده مسمى عند البخاري، ووقع في "الثقات ": "عمارة"، وكذا في "ترتيبه " للهيثمي، ولعل الصواب ما في "المعجم الأوسط "؛ فإنه موافق لما في "الجرح"، والله أعلم.
والحديث عزاه السيوطي في "الجامع الكبير" لأبي نعيم عن حذيفة بلفظ:
"يأتي على الناس.. " إلخ؛ إلا أنه قال: "من الزلازل والفتن والبلايا".
وإطلاق عزوه لأبي نعيم يعني أنه في "الحلية"، ولم أجده فيه مستعيناً عليه بفهارسه، ولا في "أخبار أصبهان " مستعيناً عليه بفهرسي وفهرس غيري. فالله أعلم.
والحديث أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 284- 285) بلفظ الطبراني: "يأتي على الناس.. " الحديث؛ إلا أنه وقع فيه: "العناء والعناء"! هكذا مكرراً؛ ويمكن أن يقرأ كذلك من مصورة "المعجم الأوسط "، ولعل الصواب ما أثبته أعلاه. *
3091- (أيُّما أهل بيتٍ من العرب أو العجم أراد اللهُ بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام، ثم تقع الفتن كأنها الظُّلَُ، قال [رجل] : كلا والله إن شاء الله! قال: بلى والذي نفسي بيده! ثم تعودون فيها أساود صُبَاًَ يضرب بعضكم رقاب بعض) .
أخرجه أحمد (3/477) ، والحميدي (1/260/574) ، وابن أبي شيبة في " المصنف " (15/13) ، والبزار في "مسنده " (4/124/3353) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/198/443) ، والحاكم (1/34) ، وابن عبد البر في(7/241)
"التمهيد" (10/172) من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن كرز ابن علقمة الخزاعي قال:
قال رجل: يا رسول الله! هل للإسلام من منتهى؟ قال ... فذكره،
وتابعه معمر عن الزهري به.
أخرجه عبد الرزاق (11/362/20747) ، ومن طريقه: أحمد، وكذا الطبراني (رقم 442) ، والحاكم أيضاً (4/454) ؛ كلهم عن عبد الرزاق عن معمر به. وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي.
وتابعه عبد الله- وهو ابن المبارك- عن معمر به.
أخرجه الحاكم (1/34) ، ونقل عن الدارقطني أنه يلزم الشيخين إخراجه لصحته عن كرز؛ وإن كان ليس له راو غير عروة، فراجعه إن شئت.
ثم أخرجه البزار؛ والطبراني من طريق أخرى عن الزهري به.
وتابع الزهري عبد الواحد بن قيس قال: حدثنا عروة بن الزبير به، وزاد:
"وأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي ربه تبارك وتعالى، ويدع الناس من شره ".
أخرجه ابن حبان (1870- موارد) ، وأحمد أيضاً، والبزار (3355) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (10/574) .
قلت: ورجاله ثقات؛ غير عبد الواحد بن قيس؛ فهو مختلف فيه، وقال الحافظ في "التقريب ":(7/242)
"صدوق له أوهام ومراسيل ".
قلت: فأخشى أن تكون هذه الزيادة وهماً منه؛ وإن كان لها أصل في غيره؛ فقال مالك (3/139) : عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شَعَفَ! الجبال ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن ".
ومن طريق مالك: أخرجه البخاري (رقم 19و 3300 و 7088) ، وأبو داود (4267) ، والنسائي (2/272- 273) ، وابن حبان (5927- الإحسان) ، وأحمد (3/43 و 57) .
وتابعه سفيان بن عيينة عن ابن أبي صعصعة به.
أخرجه أحمد (3/6) ، والحميدي (733) ، وأبو يعلى (2/983) .
وتابعه جمع آخر عنه به.
رواه البخاري (3600 و6495) ، وأحمد (3/30) ، وابن أبي شيبة (15/10) ، وابن ماجه (3980) .
وللحديث طريق أخرى عن أبي سعيد به دون جملة الفتن.
أخرجه الشيخان وغيرهما، وقد سبق تخريجه برقم (1531) .
هذا؟ وقد كنت خرجت حديث أبي سعيد فيما تقدم برقم (51) باختصار في متنه، وذكر مصادره، فبدا لي أن أتوسع بمناسبة الزيادة المذكورة لحديث الترجمة بصورة أكمل وأفيد إن شاء الله تعالى.(7/243)
قوله: "شعف "؛ بفتح المعجمة والعين المهملة: جمع "شعفة" كـ "أكم " و"أكمة "، وهي: رؤوس الجبال؛ كما في " الفتح " (1/69) . ووقع في رواية للبخاري: "أو سعف الجبال " بالسين المهملة؛ أي: جريد النخل، ولا معنى له هنا. وهو شك من أحد الرواة؛ فلا داعي للتوفيق كما فعل الحافظ (6/614) .
وقوله: "أساود " جمع "أسود "، وهي: الحية؛ أو أخبث الحيات.
و"صباً": جمع "صبوب". قال النضر: إن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع ثم انصب على الملدوغ. "نهاية".
والحديث أورده الهيثمي (7/305) بالرواية الأخرى أيضاً التي فيها الزيادة، وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني بأسانيد، وأحدها رجاله رجال (الصحيح) "! *
هل يُوَلَّى طالب العمل؟
3092- (إنَّا- والله! - لا نولي هذا العمل أحداً سَأَلَهُ، ولا أحداً حرص عليه) .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (12/215/12587) : حدثنا أبو أسامة قال: ثنا بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أمرنا على بعض ما ولاك الله. وقال الآخر مثل ذلك، قال: فقال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجاه، فرواه مسلم (6/ 6) من طريق " المصنف ". وهو، والبخاري، وأبو يعلى (13/306/7320) ؛ وعنه ابن حبان (7/8/4464) من طريق محمد بن العلاء: حدثنا أبو أسامة به،(7/244)
أبو عوانة (4/408) من طرق أخرى عن أبي أسامة به.
وأخرجه هو والشيخان وغيرهما من طريق حميد بن هلال عن أبي بردة به مختصراً، وفيه قصة. وكذلك رواه أحمد (4/409) .
ثم رواه هو (4/417) ، وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه به، وزاد:
"قال أبو موسى: فاعتذرت مما قالوا، وأني لم أعلم حاجتهم ".
وقد روي بإسناد آخر عن أبي بردة به بلفظ آخر، وفي إسناده مجهولان واختلاف، ولذلك خرجته في "الضعيفة " (6090) . *
3093- (ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة، ولا يهودي، ولا نصراني، فلا يؤمن بي، إلا دخل النار) .
هو من حديث سعيد بن جبير رحمه الله تعالى؛ وقد اختلف عليه في إسناده على وجوه ثلاثة:
الأول ك عنه مرسلاً؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره؛ وزاد: فجعلت أقول: أين مصداقها في كتاب الله؟ ! قال: وقلما سمعت حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وجدت له تصديقاً في القرآن؛ حتى وجدت هذه الآية: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) : الملل كلها
أخرجه الطبري في" تفسيره" (12/13) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: ثنا محمد بن ثور عن معمر قال: ثني أيوب عنه.
وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات.(7/245)
وتابعه ابن علية عند الطبري، وعبد الوهاب الثقفي عند ابن أبي حاتم في "تفسيره " (ق 157/1) .
الثاني: عنه عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ... فذكره بتمامه.
أخرجه الحاكم (2/342) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي عمرو البصري عنه. وقال:
"صحيح على شرط الشيخين "! ووافقه الذهبي!
قلت: وهذا من أوهامهما، فإن أبا عمرو هذا ليس من رجال الشيخين، ولا روى له أحد من بقية الستة. وترجم له البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات " (5/156) ، وقد روى عنه ثقتان آخران: أمية بن شبل، وعبد العزيز بن أبي رواد.
الثالث: عنه عن أبي موسى مرفوعاً.
أخرجه الطيالسي في "مسنده " (509) : حدثنا شعبة عن أبي بشر عنه.
ومن طريق الطيالسي أخرجه البزار (1/16/16- الكشف) .
وتابعه محمد بن جعفر وعفان عند أحمد (4/396 و 398) ، والروياني في "مسنده " (1/109/ 1) ، وابن المبارك عند الطبري.
وتابعهم أبو الوليد: حدثنا شعبة به.
أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (4860- الإحسان) ؛ لكن سقطت منه بعض الألفاظ ولم يبق منه إلا ما أفسد المعنى:
"من سمع يهودياً أو نصرانياً دخل النار"!(7/246)
ويبدو أن الرواية هكذا وقعت له، ولذلك ترجم لها بقوله: "ذكر إيجاب النار لمن أسمع أهل الكتاب ما يكرهونه "! وقال البزار عقب الحديث:
" لا نعلم أحداً رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أبو موسى بهذا الإسناد، ولا أحسب سمع سعيد من أبي موسى".
قلت: وذلك لأن أبا موسى توفي سنة (53) على أكثر ما قيل، وسعيد بن جبير ولد سنة (46) ؛ فلم يدرك من حياة أبي موسى إلا ست سنين على أكثر تقدير. وهذا مما فات العلائي؛ فلم يذكره في "جامع التحصيل "! فليستدرك.
والحديث أخرجه النسائي في "التفسير" من "السنن الكبرى" (6/363- 364) من طريق خالد عن شعبة به.
وأورده الهيثمي في "المجمع " (8/261- 262) بتمامه؛ لكنه لم يذكر:
" الملل كلها ". وقال:
"رواه الطبراني- واللفظ له-، وأحمد نحوه، ورجال أحمد رجال "الصحيح "، والبزار أيضاً باختصار".
قلت: لكن أحمد ليس عنده إلا المرفوع منه فقط.
ونستخلص من هذا التخريج والتحقيق: أن الأصح من هذه الوجوه الثلاثة: الأول؛ لاتفاق أيوب والثقفي عليه، ولا يقاومهما اتفاق شعبة وأبي عمرو البصري على وصله؛ لاختلافهما، فجعله الأول من مسند أبي موسى والآخر من مسند ابن عباس. أما شعبة؛ فلأنه مع وصله إياه؛ فإنه منقطع بين سعيد وأبي موسى كما تقدم. وأما أبو عمرو؛ فقد عرفت من ترجمته أنه ليس بالمشهور؛ فلا يحتج بما خالف فيه الثقات.(7/247)
على أنه من الممكن أن يقال: يحتمل أن يكون بين سعيد وأبي موسى: أبو بردة بن أبي موسى؛ فإن سعيداً كان كتب لأبي بردة حين كان هذا على قضاء الكوفة. والله أعلم.
لكن الحديث على كل حال صحيح؛ فإن له شاهداً من حديث أبي هريرة مرفوعاً نحوه، وقد مضى لفظه وتخريجه من رواية مسلم وغيره من طريقين عنه برقم (157) .
وأزيد هنا فأقول: قد أخرجه أبو عوانة أيضاً (1/104) من الطريقين، وكذا أحمد (2/317 و350) ، والبغوي في "شرح السنن " (1/105) من أحدهما.
(تنبيه) : وقعت أوهام عجيبة حول هذا الحديث يحسن ذكرها:
1- عزاه الحافظ ابن كثير لـ "صحيح مسلم "، عن أبي موسى الأشعري! وقلده الحلبيان في "مختصريهما"، وزاد الصابوني على بَلَدِيَّهِ، فقال في الحاشية: "أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري "! فأوهم القراء- كما هي عادته- أن التخريج من علمه! تشبعاً منه بما لم يعط أولاً. ثم وقع في الخطأ بجهله تقليداً لغيره ثانياً. ثم زاد ضغثاً على إبالة، فجعل التخريج منه مكان قول ابن كثير: "وفي صحيح مسلم.. "؛ مع أنه- أعني الصابوني- كان اختصر هذا القول في المتن بقوله: "في الصحيح "، فهذا هو اللائق بالمختصر، وأما الحاشية؛ فهي بلا شك من التشبع، وهذا لو كان صواباً. فاللهم هداك!
ولو أنه كان من أهل العلم بالتخريج؛ لكانت حاشيته تنبيهاً على هذا الخطأ، وبياناً؛ لكون الصواب أن مسلماً إنما رواه من حديث أبي هريرة كما تقدم.
2- وعلى العكس من ذلك؛ فقد أورد الهيثمي حديث أبي هريرة في "مجمع(7/248)
الزوائد" (8/262) برواية أحمد، وليس ذلك من شرط كتابه؛ لأنه في "صحيح مسلم "! وادعى أن لفظه غير لفظ أحمد.
3- وعلى النقيض من ذلك؛ اقتصر السيوطي في " الدر المنثور" (3/325) في عزو حديث أبي هريرة على ابن مردويه فقط! مع أنه عزاه في "الجامعين " لأحمد ومسلم!
4- قول المعلق على حديث أبي موسى في "الإحسان " (11/238- طبع المؤسسة) :
"إسناده صحيح على شرط الشيخين ... وهذا الحديث لم أجده عند غير المؤلف "!
فغفل عن الانقطاع الذي بين سعيد بن جبير وأبي موسى، وعن السقط الذي وقع في رواية المؤلف، فأضله عن معرفة الصواب في متن الحديث الذي تقدم بيانه، وحمله على تفسير الحديث المبتور بتفسير باطل؛ فقال:
"وقوله: "من سمع " يقال: سمعت بالرجل تسميعاً وتسمعة: إذا شهرته ونددت به ".
فهذا التفسير باطل رواية ولغة وشرعاً.
1- أما الرواية؛ فظاهر من النظر في نص الحديث المذكور أعلاه، ولفظه عند أحمد وغيره من طريق شعبة التي عند ابن حبان:
"من سمع بي من أمتي، أو يهودي، أو نصراني، ثم لم يؤمن بي؛ دخل النار".
2- وأما اللغة؛ فلا يتفق المعنى الذي ذكره من لفظ الحديث المبتور؛ إلا لو كان بلفظ: "من سمع بيهودي أونصراني "، وإنما هو بلفظ: "من سمع يهودياً.. "،(7/249)
فهذا من (الإسماع) ؛ وما ذكره من (التسميع) ، وشتان ما بينهما!
3- ثم إن معنى (التنديد) المذكور في تفسيره إنما هو كناية عن فضح اليهودي أو النصراني وإذاعة عيوبه؛ فهل هذا موجب لدخول النار المذكور في الحديث؟ ! فاللهم هداك!
لقد كان يكفي ذاك المعلق بأن يتأمل فيما ترجم به المؤلف ابن حبان للحديث؛ ليتبين خطأ تفسيره إياه أولاً؛ وخطأ الترجمة المبنية على الحديث المختصر اختصاراً مخلاً ثانياً؛ فإنه قال كما تقدم:
".. لمن أسمع أهل الكتاب ما يكرهونه "!
فما قال: " سمع بأهل الكتاب "!
وبهذه المناسبة أقول: لقد أفادني أحد الإخوان- جزاه الله خيراً- أن الحافظ السخاوي قد سبقني إلى التنبيه على الخطأ الذي وقع فيه ابن حبان؛ وذلك في كتابه "فتح المغيث " (2/221) - تحت فصل الاقتصار في الرواية على بعض الحديث -؛ فقال:
"هذا الإمام أبو حاتم بن حبان- وناهيك به- قد ترجم في "صحيحه ": (إيجاب دخول النار لمن أسمع أهل الكتاب مايكرهونه) ، وساق فيه حديث أبي موسى الأشعري بلفظ: "من سمع يهودياً أونصرانياً دخل النار". وتبعه غيره فاستدل به على تحريم غيبة الذمي! وكل هذا خطأ، فلفظ الحديث: (من سمع بي من أمتي، أو يهودي أو نصراني فلم يؤمن بي؛ دخل النار) ".
فإن قيل: هذا الاختصار المخل؛ هل هو من ابن حبان، أم من أحد رواته؟(7/250)
أقول وبالله التوفيق:
أستبعد جداً أن يكون من ابن حبان، لحفظه وعلمه وفقهه، وإنما هو- فيما يغلب على ظني- من شيخه (أبي خليفة) ، واسمه (الفضل بن الحباب الجمحي) ، فإنه- مع كونه ثقة عالماً- كما قال الذهبي في "الميزان "-، ومعدوداً من الحفاظ-؛ فقد ذكر له الحافظ بعض الأخطاء في "اللسان "، فأرى أن يضم إلى ذلك هذا الحديث. والله أعلم.
ثم إن حديث الترجمة يمكن عده مبيناً ومفسراً لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) مع ملاحظة قوله - صلى الله عليه وسلم -فيه:
"يسمع بي "؛ أي: على حقيقته- صلى الله عليه وسلم - بشراً رسولاً نبياً فمن سمع به على غير ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم -من الهدى والنور ومحاسن الأخلاق؛ بسبب بعض جهلة المسلمين؛ أو دعاة الضلالة من المنصرين والملحدين؛ الذين يصورونه لشعوبهم على غير حقيقته - صلى الله عليه وسلم - المعروفة عنه؛ فأمثال هؤلاء الشعوب لم يسمعوا به، ولم تبلغهم الدعوة، فلا يشملهم الوعيد المذكور في الحديث.
وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من رآني في المنام.."؛ أي: على حقيقته وصفاته التي كان عليها في حال حياته، فمن ادعى فعلاً أنه رآه شيخاً كبيراً قد شابت لحيته؛ فلم يره؛ لأن هذه الصفة تخالف ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم -مما هو معروف من شمائله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. *
3094- (إذا عَطَسَ أحدكم فَحَمِدَ الله فَشَمِّتُوه، وإن لم يَحْمَدِ الله عز وجل فلا تُشَمِّتُوهُ) .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (8/683/ 6025) - وعنه البيهقي في(7/251)
" الشعب " (7/25/9330) -، وأحمد (4/412) - والسياق له-؛ قالا: ثنا القاسم ابن مالك أبو جعفر: ثنا عاصم بن كليب عن أبي بردة قال:
دخلت على أبي موسى في بيت ابنة أم الفضل، فعطست ولم يشمتني، وعطست فشمتها، فرجعت إلى أمي فأخبرتها، فلما جاءها قالت: عطس ابني عندك فلم تشمته، وعطست فشمتها؟ فقال: إن ابنك عطس فلم يحمد الله تعالى فلم أشمته، وإنها عطست وحمدت الله فشمتها، وسمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره. فقالت: أحسنت أحسنت.
…ومن هذا الوجه أخرجه مسلم (8/225) ، والبخاري في "الأدب المفرد" (941) ، والطبراني في " الدعاء " (3/1694/1997) ، والحاكم (4/265) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه "! ووافقه الذهبي!
كذا قالا، وقد وهما في استدراكه على مسلم!
(فائدة) : قال النووي في "شرح مسلم ":
"هذه البنت هي أم كلثوم بنت الفضل بن العباس امرأة أبي موسى الأشعري، تزوجها بعد فراق الحسن بن علي لها، وولدت لأبي موسى، ومات عنها؛ فتزوجها بعده عمران بن طلحة ففارقها، وماتت بالكوفة ودفنت بظاهرها".
(تنبيه) : سقطت لفظة: "ابنة" من "الأدب المفرد" طبعة محب الدين الخطيب، وطبعة الجيلاني (4/393) فقال: "في بيت أم الفضل بن العباس ". فأظنه من بعض النساخ.
واعلم أن المشهور بين العلماء أن التشميت فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، لكن قد صح من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:(7/252)
إذا عطس أحدكم فحمد الله؛ فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته.. ". وفي رواية: "أن يقول: يرحمك الله ".
أخرجه البخاري في "صحيحه "- بالرواية الأولى-، وفي "الأدب المفرد"- بالرواية الأخرى-، وهو مخرج في "الإرواء" (779) عن جمع آخر، وقد صححه ابن حبان (1/ 401/597) أيضاً، ورواه النسائي في "اليوم والليلة " (214و215) ، وعنه ابن السني (251) .
قلت: فهذا نص صريح في وجوب التشميت على كل من سمع تحميده، فهو فرض عين على الكل، ومن العجائب أن الحافظ لم يتكلم على هذه المسألة في شرحه لهذا الحديث في "الفتح " (10/607) ! *
3095- (كان أبْغَضَ الحديث إليهِ. يعني: الشِّعْرَ) .
أخرجه الطيالسي في "مسنده " (1490) ، وعنه البيهقي في "السنن " (10/245) : حدثنا الأسود بن شيبان قال: حدثنا أبو نوفل بن أبي عقرب قال: قيل لعائشة: أكان يتسامع عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الشعر؟ قالت ... فذكره.
ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (8/722/6142) ، وأحمد (6/134و148و188-189) من طرق عن الأسود به. وزاد أحمد في رواية:
"كان يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك ".
وأخرجها أبو داود وغيره، وصححها ابن حبان والحاكم والذهبي، وهي مخرجة في "صحيح أبي داود" (1332) ، وإسناده صحيح على شرط مسلم كما بينته هناك.
وزاد أحمد أيضاً: "وقالت عائشة: إذا ذكر الصالحون فحيَّ هلاً بعمر".(7/253)
وفي رواياته الثلاث: "سألت عائشة.. "، فصرح بالسماع منها. وهي رواية ابن أبي شيبة، وقال ابن حبان:
"أبو نوفل اسمه معاوية بن مسلم بن أبي عقرب، من أهل البصرة".
والحديث قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/119) :
"رواه أحمد، ورجاله رجال (الصحيح) ".
قلت: ووقع عنده: "سُئلت عائشة" بالبناء للمجهول، ولعله خطأ مطبعي أو من أحد النساخ، فإنه خلاف الواقع في المواضع الثلاثة من "المسند".
وللحديث شاهد عن قتادة في قوله: (وما علمناها الشعر وما ينبغي له) ، قال: قيل لعائشة: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس؛ فيجعل آخره أوله، وأوله آخره، فقال له أبو بكر: إنه ليس هكذا، فقال نبي الله- صلى الله عليه وسلم -:
"إني- والله-! ما أنا بشاعر، ولا ينبغي لي ".
أخرجه ابن جرير الطبري في "التفسير" (23/19) بسند صحيح عن قتادة، ولكنه لم يسمع من عائشة كما قال أبو حاتم، فهو مرسل منقطع، ولكنه- كشاهد- لا بأس به. *
3096- (وأنتم معشرَ الأنصار! فجزاكم الله خيراً- أو: أطيب الجزاء-، فإنكم- ما علمتُ- أَعِفَّةٌ صُبُرٌ، وسَتَرونَ بعدي أَثَرةً في القَسْمِ والأمر، فاصبروا حتى تَلْقَوْني على الحَوْضِ) .
أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (7277- الإحسان) ، والحاكم (4/79) ،(7/254)
وابن عدي في "الكامل " (5/1879) ، ومن طريقه: البيهقي في "شعب الإيمان " (6/520/9136) ، وكذا النسائي في "فضائل الصحابة" (240) من طرق عن عاصم بن سويد بن يزيد بن جارية الأنصاري قال: ثنا يحيى بن سعيد عن أنس ابن مالك قال:
أتى أسيد بن الحضير النقيب الأشهلي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلمه في أهل بيت من بني ظَفَر عامتهم نساء، فقسم لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شيء قسمه بين الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"تركتنا يا أسيد! حتى ذهب ما في أيدينا، فإذا سمعت بطعام قد أتاني؛ فأتني فاذكر لي أهل ذلك البيت، أو اذكر لي ذاك ".
فمكث ما شاء الله، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعام من خيبر: شعير وتمر، فقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس، قال: ثم قسم في الأنصار فأجزل، قال: ثم قسم في أهل ذلك البيت فأجزل، فقال له أسيد شاكراً له: جزاك الله أي رسول الله! أطيب الجزاء- أو خيراً؛ يشك عاصم- قال: فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي.
وأقول: هو كما قالا، فإن عاصماً هذا قال فيه أبو حاتم:
"شيخ محله الصدق ".
وذكره ابن حبان في "الثقات " (7/259) ، وروى عنه جمع من الثقات؛ منهم محمد بن الصباح وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبي وعلي بن حجر، وثلاثتهم رووا الحديث هذا عنه، ويعقوب بن محمد الزهري كما في "التهذيب "، وأبو مصعب؛ هو أحمد بن أبي بكر الزهري المدني كما في "الجرح "، وعليه؛ فقول ابن معين فيه:(7/255)
لا أعرفه " لا يجرحه إن شاء الله تعالى؛ فقد عرفه ابن حبان والحاكم والذهبي الذين صححوا حديثه، وأبو حاتم من قبلهم.
ولبعض حديثه أصل من غير طريقه وشواهد؛ فروى البخاري وغيره من طريق سفيان وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع أنس بن مالك مرفوعاً:
" إنكم ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا حتى تلقوني "، زاد من طريق آخر عن أنس- وسيأتي قريباً-:
"على الحوض ". وهي عند ابن حبان (7231) من الطريق الأولى.
وهو مخرج في "ظلال الجنة" (752 و 1102 و 1103) ،.
وروى الترمذي وغيره من طريق أخرى ضعيفة عن أنس عن أبي طلحة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أقرئ قومك السلام؛ فإنهم- ما علمت- أعفة صبر".
وصححه في بعض النسخ، ولا وجه له؛ إلا أن يعني تصحيحه لشواهده، فهو مقبول في الشطر الثاني منه، وهو مخرج في "المشكاة" (6242) ، وذهل الهيثمي؛ فأورده في "كشف الأستار" (3/304) ، و"المجمع " (10/33) من رواية البزار، وليس على شرط الكتابين.
وأما الشواهد؛ فقال معمر: عن الزهري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
"الأنصار أعفة صبر".
أخرجه عبد الرزاق (11/55/19894) .
قلت: وهذا معضل أو مرسل.(7/256)
ووصله يونس عن ابن شهاب: حدثني يزيد بن وديعة الأنصاري أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره.
أخرجه ابن حبان (2290- موارد و 6264- إحسان) .
قلت: ويزيد بن وديعة لا يعرف إلا برواية الزهري، كذلك أورده ابن حبان في "الثقات " (5/537) ، وذكره ابن أبي حاتم فبيض له!
وقال ابن أبي شيبة (12/ 160) : حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر قال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر الأنصار قال:
"أعفة صبر".
وقد خولف ابن إدريس في إسناده؛ فقال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة: حدثنا محمد بن إسحاق عن حصين بن عبد الرحمن عن محمود بن لبيد عن ابن شفيع- وكان طبيباً- قال:
دعاني أسيد بن حضير، فقطعت له عرق النسا، فحدثني بحديثين قال:
أتاني أهل بيتين من قومي: أهل بيت من بني ظَفَرٍ؛ وأهل بيت من بني معاوية، فقالوا: كلم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقسم لنا أو يعطينا- أو نحواً من هذا-، فكلمته، فقال:
"نعم، أقسم لكل أهل بيت منهم شطراً، فإن عاد الله علينا عدنا عليهم ".
قال: قلت: جزاك الله خيراً يا رسول الله! قال:
"وأنتم فجزاكم الله خيراً؛ فإنكم- ما علمتكم- أعفة صبر".(7/257)
قال: وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول:
"إنكم ستلقون أثرة بعدي ".
فلما كان عمر بن الخطاب قسم حُللاً بين الناس.. إلخ.
أخرجه أبو يعلى (945) : حدثنا زكريا بن يحيى زحمويه: عن ابن أبي زائدة به.
ومن طريق أبي يعلى أخرجه ابن حبان (7279) .
ورجاله ثقات- على عنعنة ابن إسحاق-؛ غير ابن شفيع فلم أجد له ترجمة فيما لدي من المراجع.
ثم رأيته مترجماً في "التاريخ الكبير" للبخاري، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وأما قول الهيثمي في "المجمع " (10/33) عقب رواية ابن شفيع هذا:
"رواه أحمد، ورجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس، وهو ثقة ".
فهو وهم؛ إما منه وإما من الناسخ؛ أراد أن يقول: " أبو يعلى" فقال: " أحمد"؛ فإنه ليس في "مسنده "؛ وإنما له فيه (4/352 و353) من طريق قتادة عن أنس عن أسيد بن حضير مرفوعاً بلفظ:
"إنكم ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا.. " الحديث كما تقدم مشاراً إليه بقولي: "زاد من طريق آخر" من رواية البخاري. وأخرجه مسلم أيضاً (6/19) ، وصححه الترمذي (2190) . *(7/258)
3097- (إنْ بُيِّتُّمْ فَلْيَكُنْ شِعارُكُم: (حم) لا يُنْصَرُونَ) .
هو من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، يرويه أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وقد اختلف عليه في إسناده على وجوه:
الأول: سفيان عنه عن المهلب بن أبي صفرة: أخبرني من سمع النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره.
أخرجه أبو داود (2597) ، والترمذي (1682) ، وابن الجارود في " المنتقى " (355/1063) ، والحاكم (2/107) وقال:
"وهكذا رواه زهير بن محمد عن أبي إسحاق، حدثناه.. "
ثم ساق إسناده من طريق أحمد بن يونس: ثنا زهير به. وقال:
"صحيح الإسناد على شرط الشيخين؛ إلا أن فيه إرسالاً، فإذا الرجل الذي لم يسمه المهلب بن أبي صفرة: البراء بن عازب ".
ثم ساقه من طريق شريك الآتية، والإرسال الذي يشير إليه إنما هو بالنسبة لرواية زهير عنده؛ فإنها بلفظ: "عن الملهب.. قال: سمعت من يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " بخلاف رواية سفيان المتقدمة؛ فإنها صريحة في الاتصال؛ لقول المهلب: " أخبرني من سمع النبي- صلى الله عليه وسلم - ".
لكن قد خولف أحمد بن يونس في إسناده، فأخرجه ابن سعد في "الطبقات " (2/72) قال: أخبرنا الحسن بن موسى: أخبرنا زهير به؛ إلا أنه لم يذكر: " قال: سمعت من يحدث ". فهو مرسل.
وقد توبع الحسن؛ فقال النسائي في "عمل اليوم والليلة" (399/618) : أخبرني هلال بن العلاء قال: حدثنا حسين قال: حدثنا زهير به.(7/259)
قلت: وحسين هو ابن عياش، وهو ثقة، ومثله الحسن بن موسى - وهو الأشيب-، فروايتهما مقدمة على رواية أحمد بن يونس؛ وإن كانت رواية هذا أرجح بالنظر لرواية سفيان المتقدمة وما يأتي.
فقال عبد الرزاق في "المصنف " (5/233/9467) : عن معمر والثوري عن أبي إسحاق قال: سمعت المهلب بن أبي صفرة يقول: أخبرني من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره
وتابعهما شريك عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة قال: حدثني رجل من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الخندق:
"إني لا أرى القوم إلا مُبَيِّتِيكم [الليلة] ؛ فإن شعاركم: (حم) لا ينصرون "
أخرجه ابن سعد، والنسائي، وأحمد (5/377) ، والحاكم أيضاً؛ إلا أنه قال: عن أبي إسحاق قال: سمعت المهلب بن أبى صفرة يذكر عن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنكم تلقون عدوكم غداً؛ فليكن شعاركم: (حم) لا ينصرون ".
وقال الحاكم:
"وقد قيل: عن أبي إسحاق عن البراء".
قلت: وهذا من الخلاف المشار إليه في مطلع هذا البحث، وهو:
الوجه الثاني: شيبان عن أبي إسحاق عن البراء أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنكم تلقون عدوكم غداً.. " الحديث، وزاد: " دعوة نبيكم ".
أخرجه النسائي (615) : أخبرنا هشام بن عمار عن الوليد عن شيبان..(7/260)
قلت: وشيبان هو ابن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي، وهو ثقة من رجال الشيخين.
والوليد هو ابن مسلم الدمشقي، وهو ثقة أيضاً؛ لكنه كان يدلس تدليس التسوية، فيمكن أن يكون هو الذي أسقط المهلب بين أبي إسحاق والبراء؛ إن لم يكن ذلك من أبي إسحاق نفسه؛ فإنه كان مدلساً، ولعله يؤيد ذلك أنه تابع شيبان الأجلح؛ فقال: عن أبي إسحاق عن البراء.
أخرجه النسائي (616) ، والحاكم، وابن أبي شيبة في "المصنف " (12/504) ، وأحمد (4/289) ، وابن عدي في "الكامل " (1/417- 418) من طرق عن الأجلح به مثل رواية شيبان دون الزيادة.
وسقط من مطبوعة ابن عدي لفظ: "إنكم "، ووقع فيها أخطاء أخرى نبهت عليها في "فهرس الكامل " الذي أنا في صدد وضعه، يسر الله لي إتمامه، وفي هذه الأثناء من العمل فيه قد اكتشفت مئات الأخطاء العلمية والمطبعية؛ التي تدل دلالة قاطعة على أن القائمين على تصحيح الكتاب ليسوا من العلماء ولا من طلاب العلم الأقوياء! وقد أعادوا طبع الكتاب طبعة ثالثة؛ وزعموا أنهم صححوا فيها الأخطاء التي كانت في الطبعة الأولى! وهذا الحديث من الأدلة الكثيرة على بطلان زعمهم؛ فإنه في الطبعة الأولى هكذا:
[تلقوا العدو إن شاء الله غدوة..] !
وهكذا وقع في الطبعة الثالثة أيضاً (1/427) ؛ مع خطأ جديد وهو:
[تلقوا ص العدو إن شاء الله غدوة..] !!.
هذا؛ والأجلح هو ابن عبد الله أبو حجية الكندي؛ فيه كلام من قبل حفظه،(7/261)
وقد حكى ابن عدي بعض ما قيل فيه من التضعيف والتوثيق، ثم ساق له أحاديث هذا أحدها، ثم قال:
" له أحاديث صالحة غير ما ذكرت، ولم أجد له شيئاً منكراً مجاوزاً الحد؛ لا إسناداً ولا متناً " إلا أنه يعد في شيعة الكوفة، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق ".
الوجه الثالث: قال زهير: حدثنا أبو إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة قال - وهو يخاف أن تبيته الحرورية -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفر الخندق، وهو يخاف أن يبيته أبو سفيان:
"إن بيتم.. " الحديث.
أخرجه النسائي- كما تقدم- مع ذكر مخالف له في الوجه الأول، وترجيح رواية النسائي هذه عن زهير.
ويبدو لي- والله أعلم- أن هذا الاختلاف في إسناده إنما هو من أبي إسحاق نفسه؛ فإنه كان مختلطاً يدلس، فكان تارة يسنده بذكر الصحابي فيه ولا يسميه؛ وتارة يسميه، وتارة يرسله، وتارة يذكر المهلب بن أبي صفرة بينه وبين الصحابي، وتارة يدلسه.
وان مما لا شك فيه عندي؛ أن الوجه الأول هو الصواب؛ لأنه من رواية سفيان ـ وهو الثوري-، وهو أحفظ المختلفين على أبي إسحاق من جهة؛ ثم إنه روى عنه قبل اختلاطه من جهة ثانية، وصرح بسماعه من المهلب في رواية عبد الرزاق والحاكم أيضاً، فأمنا بذلك شر تدليسه واختلاطه، وتابعه معمر على ذلك من جهة ثالثة. ولعله لذلك جزم الحافظ ابن كثير بقوله في "التفسير" (4/69) عقب رواية الثوري:
"وهذا إسناد صحيح ".(7/262)
وللحديث شاهد مرسل أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (12/504/15420) : حدثنا سليمان بن حرب قال: ثنا غالب بن سليمان أبو صالح قال: ثنا الزبير بن صراخ قال: قال لنا مصعب بن الزبير- ونحن مصافي المختار -: ليكن شعاركم: (حم) ، لا ينصرون؛ فإنه كان شعار النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا إسناد رجاله ثقات؛ مصعب بن الزبير أخو عبد الله بن الزبير، وذكره ابن حبان في "الثقات " (5/410) ، وسائر رجاله من رجال "التهذيب "؛ غير الزبير ابن صراخ فلم أعرفه. *
العدلُ بينَ الأولادِ الذكورِ والإناثِ حتى في التقبيلِ!
3098- (فَهَلا عَدَلْتَ بينهما؟! يعني: الابنَ والبنتَ) .
أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني " (2/246) ، وابن عساكر في "التاريخ " (4/601 - مصورة المدينة) من طريقين عن يعقوب بن حميد بن كاسب قال: ثنا عبد الله بن معاذ عن معمر عن الزهري عن أنس قال:
كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل، فجاء ابن له فقبّله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت بنت له فأجلسها إلى جنبه، قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد حسن؛ معمر والزهري ثقتان لا يسأل عنهما.
وعبد الله بن معاذ ويعقوب بن حميد صدوقان كما في "التقريب "؛ إلا أنه قال في الثاني منهما:
" ربما وهم ":
وهذا لا يضر في حديثه، ولا ينزله عن مرتبة الحسن؛ كما لا يخفى على أهل العلم بهذا الفن الشريف.(7/263)
وقد استدل به الطحاوي رحمه الله لقول أبي يوسف رحمه الله: إنه يسوي في العطية بين الأنثى والذكر؛ خلافاً لمحمد بن الحسن رحمه الله الذي قال: بل يجعلها على قدر المواريث للذكر مثل حظ الأنثيين، فرده الطحاوي بما رواه بالسند الصحيح عن النعمان بن بشير: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" سوُّوا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يُسووا بينكم في البر".
وأخرجه البيهقي (6/178) ، ومسلم (5/66- 67) نحوه، وابن حبان (5082) .
قال أبو جعفر:
"فيه دليل على أنه أراد من الأب لولده ما يريد من ولده له، وكان ما يريد من الأنثى من البر مثل ما يريد من الذكر، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منه لهم من العطية للأنثى مثل ما أراد للذكر".
ثم إن العدل المذكور بين الأولاد قد اختلفوا في حكمه؛ فمن قائل بأنه واجب، ومن قائل بأنه مستحب، وهذا مذهب الحنفية، وانتصر له الطحاوي، والحق الوجوب كما فصله الحافظ في " الفتح "؛ فليرجع إليه من شاء البسط، ويكفي للدلالة على ذلك أن راوي الحديث - وهو النعمان بن بشير رضي الله عنه - قال في بعض الطرق الصحيحة عنه:
" فرجع أبي، فرد تلك الصدقة ".
أخرجه الشيخان، وهو مخرج في "الإرواء" (6/41) .
وقد تقدم تخريج حديث الترجمة في هذه " السلسلة " (2883) و (2994) ، وما هنا فيه زيادة. *(7/264)
3099- (ثلاثةٌ لا يَنظرُ اللهُ إليهم يومَ القيامةِ: العاقُّ لوالديهِ، ومُدْمِنُ الخَمرِ، والمنانُ عطاءهُ.
وثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والدَّيُّوثُ، والرَّجُلَةُ) .
أخرجه البزار في "مسنده " (2/372- كشف الأستار) : حدثنا الحسن بن يحيى الأزدي (!) : ثنا محمد بن بلال: ثنا عمران القطان عن محمد بر عمرو عن سالم عن أبيه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد حسن رجاله معروفون من رجال "التهذيب "، وفي بعضهم كلام لا يضر؛ غير الحسن بن يحيى الأزدي؛ هكذا وقع فيه: "الأزدي "، وهو محرف من "الأرزي "، ففي هذه النسبة أورد الأمير ابن ماكولا (الحسن بن يحيى) هذا في "الإكمال " (1/151) ، وهي نسبة إلى "الرز" ويقال: "الرزي" كما في " أنساب السمعاني "، وبهذه النسبة الثانية ترجم في "التهذيب " و"التقريب" وقيدها بضم الراء وتشديد الزاي، وقال:
"صدوق صاحب حديث ".
وذكر في "التهذيب " أنه ذكره ابن حبان في "الثقات "، وقال: "مستقيم الحديث، كان صاحب حديث ".
فأقول: أورده فيمن روى عن أتباع التابعين؛ أي: في (الطبقة الرابعة) عنده (8/180) ، ولم يقع فيه ولا في "ترتيبه " للهيثمي قوله: "مستقيم الحديث "، ووقع فيه: "الأزدي "؛ كما وقع في "كشف الأستار" كما تقدم، وأما في "الترتيب "؛ فوقع على الصواب: "الأرزي ".
ثم إن ابن حبان لم يجاوز في نسبه أباه يحيى، ووقع في "التهذيب " منسوباً(7/265)
إلى جده "هشام " ومكنياً بأبي علي، وكذلك كناه في "الجرح " (1/2/44) ، وقال:
" نزيل الرملة ". ثم قال: "محله الصدق، كتبت عنه بالرملة ".
وسمى جده " السكن ".
وكأن الحافظ ابن حجر لم يقف على هذا؛ فإنه قال:
"وقال ابن عساكر في "النُّبَّل ": أظنه ابن يحيى بن السكن الذي سكن الرملة، فإن كان هو فإنه مات سنة (257) . قلت: ابن السكن ضعيف جداً، وهو غير هذا قطعاً ".
وأقول: لا أدري مستند الحافظ في هذا التعقب؟! مع مخالفته لقول ابن أبي حاتم فيه، وإعراضه عن ذكره إياه في "لسان الميزان "، ولا رأيته في "الميزان " فضلاً عن " التهذيب " وفروعه.
وقد أورد الرزي هذا الذهبي في "الكاشف " وقال: " ثقة حافظ "
ونحوه قال في "الميزان "، ولم يورد ابن السكن تمييزاً- كما هي عادته- بينه وبين من يشابهه في النسب أو في غيره. والله أعلم.
وقد تابعه عثمان بن طالوت: ثنا محمد بن بلال به.
أخرجه أبن عدي في "الكامل " (6/133) : حدثنا محمد: ثنا عثمان به.
قلت: وعثمان بن طالوت هذا ذكره ابن حبان في "الثقات " (8/454) ، ونسبه الجحدري البصري، يروي عن أبي عاصم وأهل بلده، كان أحفظ من أبيه، مات وهو شاب لم يتمتع بعلمه سنة (234) .(7/266)
وأما محمد - وهو ابن القاسم كما في حديث آخر قبله عند ابن عدي -؛ فلم أعرفه.
وللحديث طريق أخرى بلفظ آخر عن سالم به، وقد مضى برقم (674) ، وقد أخرجه البزار أيضاً، وأشار إليه الهيثمي عقب هذا المتن، وقال (8/148) :
"رواه البزار بإسنادين رجالهما ثقات ". *
3100- (مَن قال عليّ ما لم أَقُلْ؛ فَلْيَتَبَوَّأْ مقعده من النار) .
ورد من حديث جمع من الصحابة رضي الله عنهم بهذا اللفظ، وأنا سائق ما تيسر لي الوقوف عليه من الطرق عنهم مما يحتج أو يستشهد به.
الأول: عثمان رضي الله عنه؛ يرويه عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول:
ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون أوعى أصحابه عنه، ولكني أشهد لسمعته يقول ... فذكره.
أخرجه البخاري في " التاريخ " (3/2/209) ، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/166) ، وأحمد (1/65) ، والبزار (1/113/205) .
قلت: وهذا إسناد حسن للخلاف المعروف في عبد الرحمن بن أبي الزناد، وصححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" (1/363) .
الثاني: أبو هريرة رضي الله عنه؛ وله عنه طرق:
الأولى: عن محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو سلمة عن أبى هريرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
أخرجه ابن ماجه (34) ، وابن حبان (رقم 28- الإحسان) .(7/267)
قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات، على الخلاف المعروف في محمد بن عمرو، وقد خولف في إسناده، فقال حصن: حدثني أبو سلمة:
حدثتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
أخرجه الطحاوي في "المشكل " (1/168) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (5/145) من طريق بشر بن بكر: حدثنا الأوزاعي: حدثنا حصن به.
قلت: ورجاله ثقات؛ غير حصن هذا؛ قال ابن القطان:
"لا يعرف حاله ".
قلت: فلا يعتد بمخالفته.
الثانية: عن بكر بن عمرو عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة به
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (8/762) ، والبخاري في "الأدب المفرد" (259) ، والطحاوي (1/171) ، والحاكم (1/102) ، ومن طريقه البيهقي (10/112) ، وأحمد (2/321) من طريق سعيد بن أبي أيوب عنه به. كلهم أخرجوه من طريق عبد الله بن يزيد أبي عبد الرحمن، وزاد أحمد: "من كتابه ".
وزاد زيادة أخرى؛ وهي أنه أدخل بين بكر بن عمرو وأبي عثمان: عمرو بن أبي نعيمة، وهي رواية الحاكم؛ لكن من رواية ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب، وقال الحاكم عقبها:
" تابعه يحيى بن أيوب عن بكر بن عمرو ".
ثم وصله هو والبيهقي والطحاوي من طريقين عن يحيى عن بكر عن عمرو ابن أبي نعيمة به.
وتابعه رشدين: حدثني بكر بن عمرو به(7/268)
أخرجه أحمد (2/365) .
وبهاتين المتابعتين تترجح رواية أحمد من كتاب عبد الله بن يزيد التي فيها زيادة عمرو بن أبي نعيمة في الإسناد، وبذلك ينكشف لي أن الإسناد ضعيف؛ خلافاً لما كنت ذهبت إليه قديماً في بعض التعليقات، وذلك لأن عمرو بن أبي نعيمة قال الدارقطني فيه:
" مصري مجهول، يترك ".
وأما ابن حبان، فذكره في "الثقات " (7/229) على القاعدة!
وإذا علمت ذلك؛ ففي حديث ابن أبي نعيمة هذا زيادة عند البخاري وغيره:
" ومن استشاره أخوه المسلم؛ فأشار عليه بغير رشد؛ فقد خانه؛ ومن أفتى فتيا بغير تثبت؛ فإثمه على من أفتاه ".
وهذه الزيادة عند أبي داود (3657) ؛ وللدارمي الجملة الثانية منها (1/570) ؛ ولم يذكر في إسناده ابن أبي نعيمة؛ وهو إحدى روايتي أبي داود. وقد قال الذهبي في ترجمته من " الكاشف":
" لا يصح خبره "
يشير إلى هذا الحديث بهذه الزيادة، وإلا؛ فالجملة الأولى منه صحيحة؛ لما لها من الشواهد والطرق كما تقدم ويأتي.
على أن هذه الجملة قد صحت من طريق أخرى عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:
" من كذب علي متعمداً؛ فليتبوأ.. ".(7/269)
أخرجه البخاري (رقم 110) ، ومسلم (1/7- 8) وغيرهما.
ولحديثه طريق أخرى بلفظ الترجمة في مقدمة "موضوعات ابن الجوزي " (1/62) فيها عمر بن صالح برواية خالد بن مخلد عنه.
وعمر هذا أورده ابن أبي حاتم (3/1/116) بهذه الرواية وقال:
"سألت أبي عنه؟ فقال: ليس بقوي ".
وأما ابن حبان؛ فذكره في "الثقات " (8/443) ، وانظر تعليقي عليه في "التيسير".
الثالث: عبد الله بن عمرو؛ رواه يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره.
أخرجه أحمد (2/158 و171) .
قلت: وهذا إسناد حسن.
الرابع: عن عقبة بن عامر؛ يرويه أبو عشانة: أنه سمع عقبة بن عامر يقول ... فذكره مرفوعا ً.
أخرجه أحمد (4/159 و201) ، والطبراني في "الكبير" (17/ 301 و305/ 832 و 843) من طريقين عنه.
قلت: وإسناده صحيح، وأبو عُشّانة اسمه حي بن يؤمن، وهو ثقة، وقال الهيثمي (1/ 144) : " رواه أحمد، والبزار، والطبراني في " الكبير"، ورجاله ثقات ".
الخامس: الزبير بن العوام؛ يرويه عتيق بن يعقوب: حدثنا أبي: حدثني الزبير بن خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن هشام بن عروة عن أبيه قال:(7/270)
قال ابن الزبير لأبيه: يا أبت! حدثني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحدث عنك؛ فإن كل أبناء الصحابة يحدث عن أبيه، قال:
يا بني! ما من أحد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - بصحبة إلا وقد صحبته بمثلها أو أفضل، ولقد علمت يا بني! أن أمك أسماء بنت أبي بكر كانت تحتي، ولقد علمت أن عائشة بنت أبي بكر خالتك، ولقد علمت أن أمي صفية بنت عبد المطلب، وأن أخوالي حمزة وأبو طالب والعباس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن خالي، ولقد علمت أن عمتي خديجة بنت خويلد كانت تحته، وأن ابنتها فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقد علمت أن أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأن أم صفية وحمزة: هالة بنت وهب، ولقد صحبته بأحسن صُحْبَةٍ والحمد الله، ولقد سمعته يقول ... فذكر الحديث.
أخرجه ابن حبان (6982- المؤسسة) ، والحاكم (3/361) ، وسكت عنه هو والذهبي، وأقول:
إسناده ضعيف؛ لجهالة - أو ضعف - الزبير بن خبيب - بالخاء المعجمة كما في "الإكمال "، ووقع في "الكامل " و "الميزان " و "اللسان " وغيرها بالحاء المهملة! - لم يرو عنه غير اثنين، وقال الذهبي:
"فيه لين ". وانظر "الضعيفة" رقم (6100) فقد رجحت فيه أنه صدوق.
ويعقوب - هو ابن صديق بن موسى الزبيري المدني - والد عتيق، ولم أجد له ترجمة، وأما ابنه عتيق فهو ثقة، وثقه الدارقطني، وروى عنه أبو زرعة، وذكره ابن حبان في "الثقات " (8/527) ، وترجم قبله لآخر (8/225) ، وسمى أباه "محمداً"، فظن الحافظ في " اللسان " أن ابن حبان لم يعرف نسبه، وهو وهم من(7/271)
الحافظ؛ خفي عليه الترجمة الأولى التي ساق فيها نسبه، ولكنه جعلهما اثنين وهما واحد؛ كما حققته في " التيسير".
والحديث في "صحيح البخاري " (رقم 107) من طريق عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول ... فذكره بلفظ:
"من كذب علي؛ فليتبوأ.. " الحديث، وهو بهذا اللفظ متواتر كما في " الجامع الصغير" وغيره، وزاد فيه أحمد، وأبو يعلى (رقم 667) :
" متعمداً "
وهي زيادة محفوظة فيه؛ وإن كان الرواة اختلفوا فيه على شعبة؛ كما أفاده الحافظ (1/200- 201) ، وأيده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" (3/7- 8) ، ولا ينافي الاختلاف المذكور أن الزيادة صحت في الحديث عن غير شعبة؛ كما توهم المعلق على "مسند أبي يعلى" (2/31) ، فأخرجها أبو داود في "سننه " (3651) من طريق أخرى عن عامر بن عبد الله به؛ كما سنحققه إن شاء الله تعالى في "صحيح أبي داود".
وقد ثبتت في رواية جمع آخر من الصحابة رضي الله عنهم؛ منهم أبو هريرة في رواية الشيخين كما تقدم؛ ومنهم ابن عمرو، وأبو سعيد، وغيرهم، وقد خرجت بعضها في "الروض النضير" (582) ، ولذلك فإنكار بعض الكتاب لهذه الزيادة- كصاحب "أضواء على السنة المحمدية"- جهل وضلال؛ كما كنت ذكرت ذلك في مقدمة "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (1/49- طبعة مكتبة المعارف) ، و (1011) أيضاً، وبينت أن من ضلالهم أن الزيادة لو فرض عدم ثبوتها في الحديث؛ فمعناها لابُدَّ من تقديره؛ وإلا؛ فهو وأمثاله أول من يشملهم وعيد(7/272)
الحديث؛ لأنه لا بد أنهم يخطئون في روايتهم الأحاديث أكثر من غيرهم؛ لجهلهم بالسنة وعدم اعتنائهم بها.
السادس: سلمة بن الأكوع، يرويه يزيد بن أبي عبيد عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"من يَقُلْ عليّ ... " الحديث.
رواه البخاري (109) : حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا يزيد بن أبي عُبيد.
قلت: وهذا إسناد ثلاثي صحيح.
السابع: ابن عمر رضي الله عنهما؛ يرويه عبد الله بن دينار عنه في حديث له بلفظ:
"ومن أفرى الفرى من قال علي ما لم أقل ".
وتقدم تخريجه تحت الحديث (3063) .
الثامن: واثلة بن الأسقع؛ يرويه عبد الواحد بن عبد الله النَّصْري عنه مرفوعاً مثله.
أخرجه البخاري (3509) ، والطبراني في "مسند الشاميين " (ص 211 و 369 - 370) ؛ وتقدم أيضاً هناك.
التاسع: أبو موسى الغافقي؛ يرويه عنه وداعة الحمدي، وعنه يحيى بن ميمون الحضرمي، وعن هذا عمرو بن الحارث، واختلف الرواة عليه؛ فمنهم من لم يذكر فيه (وداعة) ، وهو مجهول لم يوثقه غير ابن حبان، وفيه لفظة غريبة - كما قال الحاكم-، ومن أجلها خرجته في "الضعيفة" (6406) . *(7/273)
3101- (لا تَصُمْ يومَ السبتِ إلا في فريضةٍ، ولو لم تَجِدْ إلا لحاءَ شجرةٍ فَأَفْطِرْ عليهِ) .
أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير" (8/303/7722) : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني الحكم بن موسى: ثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله ابن دينار عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات؛ لكن فيه علة؛ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/198) :
" رواه الطبراني في "الكبير" من طريق إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وهو ضعيف فيهم ".
قلت: وهو كما قال؛ لكن لإسماعيل بن عياش فيه إسناد آخر شامي صحيح؛ قال الإمام أحمد (6/368- 369) : ثنا الحكم بن نافع قال: ثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن الوليد الزبيدي عن لقمان بن عامر عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء به نحوه.
وهو مخرج في "الإرواء " (4/ 121) من هذه الطريق وغيرها.
وهذا الإسناد أصح؛ لأن الحكم بن نافع ثقة ثبت، والحكم بن موسى صدوق كما قال الحافظ في "التقريب "، فإسناد الأول صحيح؛ لأن محمد بن الوليد الزبيدي ثقة ثبت.
وقد تابع ابن نافع ضمرةُ بن ربيعة عن إسماعيل بن عياش به.
أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين " (ص 317) .(7/274)
وخالف إسماعيل بقية بن الوليد؛ فقال: عن الزبيدي عن لقمان بن عامر عن عامر بن جشيب عن خالد بن معدان به؛ إلا أنه لم يقل: "عن أخته الصماء"، وأدخل عامر بن جشيب بين لقمان وخالد. وابن جشيب وثقه الدارقطني، فهذه متابعة قوية من ابن جشيب لولا عنعنة الوليد.
لكن هناك متابعة قوية جداً رواها ثلاثة من الثقات عن ثور بن يزيد عن خالد ابن معدان به مثل رواية الحكم بن نافع. وهو مخرج في (الإرواء) . وقد ذكرت له فيه شاهداً صحيحاً من حديث أبي أمامة مرفوعاً؛ فليراجعه هناك من شاء الوقوف عليه.
ولقد كان الغرض من تخريج الحديث هنا بعد أن كنا حققنا الكلام عليه هناك في "الإرواء" تخريجاً وتصحيحاً، إنما هو تحقيق الكلام على طريق الحكم بن موسى هذه عن إسماعيل عن عبد الله بن دينار عن أبي أمامة.
والآن يبدو لي أنه لا يبعد أن يكون إسماعيل لم يخطئ في إسناده عن أبي أمامة؛ ما دام أن غيره قد رواه أيضاً عنه كما ذكرت آنفاً. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإذا عرفت ما تقدم؛ فمن الظلم للسنة والانحراف عنها أن يبادر بعض المعاصرين إلى الشك في صحة هذا الحديث بله الجزم بضعفه؛ فضلاً عن القول بأنه كذب! والله المستعان.
ثم وجدت له شاهداً أو طريقاً أخرى، يرويه أحمد (6/368) : حدثنا حسن ابن موسى قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: ثنا موسى بن وردان، قال: أخبرني عمير ابن جبير (!) مولى خارجة: أن المرأة التي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم السبت حدثته: أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك؟ فقال:
" لا لكِ؛ ولا عليك ".(7/275)
وهذا إسناد رجاله ثقات، فهو إسناد جيد لولا ما في ابن لهيعة من الضعف الذي ظهر في أحاديثه بعد احتراق أصوله وكتبه. ومن الظاهر أن هذا مما لم يحسن ضبط لفظه.
وهو على كل حال شاهد لا بأس به في الجملة؛ لأن قوله: (لا لكِ) يلتقي مع الروايات الأخرى المتفقة على النهي. وأما قوله: (ولا عليك) فينافي (النهي) والأمر بالإفطار ولو على لحاء شجرة؛ فهو من تخاليط ابن لهيعة. والله أعلم.
(تنبيه) : قوله في السند: (عمير بن جبير) خطأ نشأ عن تصحيف. والصواب (عبيد بن حنين) ، وهو مذكور في "التهذيب "، كما قال الحافظ في "التعجيل " (321/819)
وقد تقدم الحديث في هذه "السلسلة" (225- الطبعة الجديدة لمكتبة المعارف) ، ولا يخلو الموضعان عن فائدة زائدة. *
3102- (إياكم ومُحقراتُ الذنُوبِ، كقَومٍ نَزلُوا في بطْنِ وادٍ فجاءَ ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ حتى أنضَجُوا خبزتهم، وإنَّ محقَّراتِ الذُّنوب متى يُؤخذ بها صاحبُها تُهلِكْهُ) .
أخرجه الإمام أحمد (5/331) : ثنا أنس بن عياض: حدثني أبو حازم- لا أعلمه إلا- عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وهو من ثلاثيات "المسند". وأخرجه الروياني في "مسنده " (29/12/ 1- 2) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (6/204/5872) والأوسط (2/161/7459) و" الصغير" (ص 187- هندية) من طرق أخرى عن أنس بن عياض به. وقال الحافظ ابن كثير في "التفسير"(7/276)
(4/260) بعد أن ساقه من طريق أحمد:
" وله شواهد من وجوه أُخرَ صحاح وحسان ".
قلت: منها حديث ابن مسعود مرفوعاً مثله.
أخرجه الطيالسي في "مسنده " (53/ 400) : حدثنا عمران القطان عن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عنه.
قلت: وهذا إسناد حسن، ورواه جمع آخر من هذا الوجه، وهو مخرج في "الروض النضير" (351) .
وله شاهد آخر من حديث عائشة رضي الله عنها مختصراً، وقد مضى برقم (513) ، وكذا (2731) .
وقد تقدم الحديث في هذه "السلسلة" (389) . *
3103- (أَبشرْ يا كعبُ! فقالَتْ أمُّه: هنيئاً لكَ الجنَّةُ يا كعبُ! فقال: من هذه المتألّيةُ على الله؟ ! قالَ: هيَ أمِّي يا رسول الله! فقال: وما يدريك يا أمَّ كعب؟ ! لعلَّ كعباً قال ما لا يعنيه، أو منعَ ما لا يُغنيهِ) .
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت " (74/110) : حدثنا أحمد بن عيسى المصري: حدثنا ضمام بن إسماعيل الإسكندراني: حدثني يزيد بن أبي حبيب وموسى بن وردان عن كعب بن عجرة رضي الله عنه:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كعباً، فسأل عنه؛ فقالوا: مريض، فخرج يمشي حتى أتاه، فلما دخل عليه قال ... فذكره.
وأخرجه الخطيب في "التاريخ " (4/273) من طريق ابن أبي الدنيا،(7/277)
والطبراني في "المعجم الأوسط " (2/149/ 7299 بترقيمي) : حدثنا محمد بن عبد الرحيم: ثنا أحمد بن عيسى المصري به. وقال:
"لم يروه عن كعب إلا موسى بن وردان، تفرد به ضمام ".
قلت: وهو صدوق ربما أخطأ كما قال الحافظ في "التقريب "، وقال الذهبي في "الميزان ":
"صالح الحديث، لينه بعضهم بلا حجة ".
قلت: وسائر الرواة ثقات من رجال الشيخين؛ غير موسى بن وردان، وهو صدوق كما في " الكاشف " و" التقريب " وزاد:
" ربما أخطأ ".
وأقول: هو مقرون بيزيد بن أبي حبيب الثقة كما ترى، ولا ينفي ذلك قول الطبراني: "لم يروه عن كعب إلا موسى" لأنه يعني: موصولاً، والله أعلم؛ لأن يزيد بن أبي حبيب ولد في نحو سنة (48) ، ومات كعب بعد الخمسين، فالظاهر أنه لم يلقه، فكأن الطبراني رحمه الله أشار إلى أنه منقطع من طريق يزيد؛ وموصول من طريق موسى، وقد ذكروا له رواية عن كعب بن عجرة، وقد أفادوا في ترجمة موسى أنه مات سنة سبع عشرة ومئة، وله أربع وسبعون سنة؛ فقد أدرك كعباً والله أعلم، - ولذلك؛ فيكون الإسناد حسناً - إن شاء الله تعالى -، ولعله لذلك سكت عنه الحافظ في "الإصابة" وعزاه للطبراني وحده في "الأوسط "، وقال شيخه الهيثمي في "المجمع " (10/314) :
".. وإسناده جيد". وقال المنذري في "الترغيب " (4/110) :
".. ولا يحضرني الآن إسناده، إلا أن شيخنا الحافظ أبا الحسن - رحمه الله -(7/278)
كان يقول: إسناده جيد".
(تنبيه) : محمد بن عبد الرحيم شيخ الطبراني في هذا الحديث هو الديباجي التستري، ولم أقف له الآن على ترجمة، ويظهر لي أنه من مشايخه المعروفين، فقد روى له في "معجمه الأوسط " نحو عشرين حديثاً (2/148/2- 150/ 1) ، ولحديثه تتمة تراها في المكان المشار إليه من "الترغيب ".
هذا، ولآخر الحديث شاهدان من حديث أنس وأبي هريرة - فيهما نكارة - بسندين ضعيفين، خرجتهما في الكتاب الآخر برقم (6107) . *
3104- (كان إذا أوى إلى فِراشهِ كلَّ ليلةٍ جمَعَ كفَّيهِ، ثم نفَثَ فيهما، فقرأ فيهما (قل هو الله أحد) و (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأُ بهما على رأسهِ ووجههِ، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات) .
أخرجه البخاري (5017) ، وأبو داود (5056) ، والترمذي في "السنن " (3399) و"الشمائل " - باب ما جاء في نومه - صلى الله عليه وسلم - رقم (218- مختصره) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة " (788) ، ومن طريقه: ابن السني في "عمله " (691) ، وابن حبان في "صحيحه " (5519- الإحسان) ، وأحمد (6/16) من طريق المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ... الحديث.
وعُقيل هذا هو ابن خالد بن عَقيل الأيلي ثقة ثبت؛ كما قال الحافظ.
والمفضل بن فضالة هو القتباني المصري القاضي، قال الحافظ:
"ثقة فاضل عابد، أخطأ ابن سعد في تضعيفه ".(7/279)
قلت: وقد تابعه سعيد بن أبي أيوب: حدتني عقيل به.
أخرجه ابن حبان (5518) بلفظ:
"جمع يديه ثم نفث فيهما ثم قرأ.. "، وأحمد (6/154) إلا أنه قال:
"فينفث فيهما ثم يقرأ".
قلت: وسعيد بن أبي أيوب مصري أيضاً، قال الحافظ:
"ثقة ثبت "
واعلم أن الحديث قد رواه جمع آخر من الثقات عن الزهري، وآثرت ذكر رواية عقيل هذه لأمرين:
الأول: أنه عزاها جمع إلى الشيخين منهم ابن تيمية في "الكلم الطيب " (رقم30) وغيره كثير، كنت تبعتهم في بعض تعليقاتي، فلما تبين لي أنها من أفراد البخاري دون مسلم، وأن هذا إنما أخرجه من غير طريق عقيل هذه مختصراً، وقد أشار إلى ذلك الحافظ المزي في "تحفة الأشراف "، لما تبين لي ذلك بادرت إلى تخريجها والتنبيه عليها.
والآخر: أنها أتم من رواية الثقات الآخرين، منهم مالك، والليث، ويونس، ورواية هذا أقرب إلى رواية عقيل، أخرجها البخاري (5748) قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي: حدثنا سليمان عنه بلفظ:
" كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ (قل هو الله أحد) وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده ". قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به.(7/280)
قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أتى فراشه.
وتابعه عبد الله - وهو ابن المبارك -: أخبرنا يونس بلفظ:
"كان إذا اشتكى نفث على نفسه بـ (المعوذات) ، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه التي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي عنه ".
أخرجه البخاري أيضاً (4439) .
ورواه مسلم؛ وابن حبان (6556) من طريق آخر عنه.
وأما رواية مالك فهي في "الموطأ" (3/ 121) عن ابن شهاب به مختصراً بلفظ:
"كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بـ (المعوذات) وينفث ". قالت: فلما اشتد وجعه كنت أنا أقرأ عليه، وأمسح عليه بيمينه، رجاء بركتها.
ومن طريق مالك أخرجه البخاري (5016) ، ومسلم (7/16) ، وأبو داود (3902) ، والنسائي في "عمل اليوم " (1009) ، وابن ماجه (3528) ، وأحمد (6/104 و 114 و 181 و 256 و 263) ، كلهم عن مالك به.
ومن الأوهام الظاهرة قول المعلق على حديث الترجمة في حاشية "عمل النسائي":
"وأخرجه مسلم من رواية مالك عن ابن شهاب بأتم من هذا"!
فكأنه يعني قول عائشة: " فلما اشتد وجعه ... " وهذا خلاف المتبادر من قوله: " بأتم من هذا " فإن الحديث عند النسائي في أذكار النوم، وحديث الترجمة في الباب أتم منه كما ترى، ثم إنه قد فاته أنه عند البخاري أيضاً. ومن أجل هذا(7/281)
الاختلاف ذهب بعضهم إلى أن حديث مالك ومن تابعه عن ابن شهاب غير حديث الترجمة، فهما حديثان مدارهما على الزهري بإسناد واحد، وهو الذي رجحه الحافظ في "الفتح " (9/ 620) ، وحكى عن أبي مسعود أنهما حديث واحد، وهو عندي محتمل، بل هو الأرجح؛ بدليل رواية الأويسي المتقدمة عن سليمان - وهو ابن بلال - عن يونس؛ فإنه جمع فيها بين رواية عقيل وبعض رواية مالك المتعلق بشكواه- صلى الله عليه وسلم -، ولو بنحوه؛ فإنه ظاهر الدلالة أن الحديث واحد، وأن الرواة عن الزهري كان يزيد بعضهم على بعض. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا؛ وفي الحديث أن السنة أن ينفث في كفيه أولاً، ثم يقرأ، ثم يمسح، هذا ظاهر جداً فيه، وقد تأول بعضهم قوله: "ثم نفث فيهما فقرأ فيهما " بمعنى: ثم عزم على النفث، فقد جاء في "تحفة الأحوذي " للمباركفوري (4/231) ما نصه:
"قال العيني: قال المظهري في "شرح المصابيح ": ظاهر الحديث يدل على أنه نفث في كفه أولاً، ثم قرأ، وهذا لم يقل به أحد، ولا فائدة فيه، ولعله سهو من الراوي، والنفث ينبغي أن يكن بعد التلاوة ليوصل بركة القرآن إلى بشرة القارئ أو المقروء له. وأجاب الطيبي عنه: بأن الطعن فيما صحت روايته لا يجوز، وكيف والفاء فيه مثل ما في قوله تعالى: (إذا قرأت القرآن فاستعذ) ، فالمعنى: جمع كفيه ثم عزم على النفث. أو لعل السر في تقديم النفث فيه مخالفة السحرة. انتهى. وفي رواية للبخاري: كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ (قل هو الله أحد) وبـ (المعوذتين) جميعاً. قال الحافظ: أي: يقرأها وينفث حالة القراءة".
فأقول: لم ينشرح صدري لكل هذه الأقوال، وبعضها أوهن من بعض، وهاك البيان:(7/282)
أولاً: أما الطعن في الحديث فهو من أبطل الباطل؛ فإنه سبيل المبتدعة وعلماء الكلام، وقد عرفت أن رجاله ثقات أثبات.
ثانياً: وأما تأويله بنحو ما في آية التلاوة؛ فكان يمكن التسليم بذلك، لولا أن مجموع الروايات عن عقيل ترده وبخاصة رواية ابن حبان المتقدمة بلفظ:
"جمع كفيه، ثم نفث فيهما، ثم قرأ ".
ونحوها رواية أحمد:
".. فينفث فيهما؛ ثم يقرأ ".
فهذه صريحة في الترتيب المذكور لا تقبل التأويل.
ثالثاً: وأما دعوى أنه لم يقل به أحد ولا فائدة فيه؛ فهذا في البطل بمنزلة الطعن في الحديث؛ إذ لا يسوغ لمسلم أن يقول في العمل بما صح في الحديث: لا فائدة فيه؛ كما هو ظاهر.
وأما القول بأنه لم يعمل به أحد، فهو من الرجم بالغيب، ورحم الله الإمام أحمد إذ قال: "من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه؟ ! لعلهم اختلفوا ".
رابعاً: ما نقله عن الحافظ موجود في "الفتح " (10/210) في شرح حديث الأويسي المتقدم، وهو تأويل أيضاً مخالف لما تقدمت الإشارة إليه من الرواية الصحيحة مع توجيهها بمخالفة السحرة كما تقدم عن الطيبي رحمه الله.
ثم إنني لا أكاد أجد أي فرق بين تقديم النفث على القراءة، وتقديم المسح باليد على المريض قبل القراءة، كما في حديث عائشة أيضاً قالت:
" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه، ثم قال: أذهب البأس ربَّ الناس.. " الحديث.(7/283)
أخرجه مسلم (7/15) ، وأحمد (6/127) من طريقين عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عنها.
ورواه البخاري وغيره بنحوه، وسبق تخريجه برقم (2775) .
ونحوه حديث علي في شكواه لما دخل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: فمسحني بيده، ثم قال: "اللهم اشفه.. " الحديث.
أخرجه ابن أبي شيبة (8/46) ، وأحمد (1/ 128) بسند فيه ضعف، وصححه أحمد شاكر (2/234) !
أقول: فكما شرع المسح قبل القراءة، فمثله النفث قبل القراءة، فكما لا يقال: لا فائدة من المسح قبلها، فكذلك لا يقال: لا فائدة من النفث قبل القراءة؛ إذ الكل شرع لا مجال للرأي فيه؛ فتأمل!
(فائدة) : أخرج ابن حبان حديث المسح بزيادة في آخره، فوجب النظر فيها، أخرجه (1443) من طريق بشر بن الوليد الكندي: حدثنا حماد بن زيد عن عمرو ابن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن عائشة قالت:
كنت أعوِّذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعاء كان جبريل عليه السلام يعوذه به إذا مرض:
"أذهب البأس.. " الحديث، وزاد:
"فلما كان في مرضه الذي توفي فيه جعلت أعوذه بهذا الدعاء فقال- صلى الله عليه وسلم -:
"ارفعي يدك، فإنها كانت تنفعني في المدة ".
قلت: وهو إسناد ضعيف؛ أبو الجوزاء اسمه أوس بن عبد الله الربعي، قال ابن عبد البر في "التمهيد " (20/205) وغيره:(7/284)
"لم يسمع من عائشة".
وقد رد الحافظ في "التهذيب " هذا االزعم، وفي "صحيح مسلم " رواية أبي الجوزاء عنها رضي الله عنها.
وبشر بن الوليد الكندي مختلف فيه، وقد وثقه الدارقطني وغيره، وذكره ابن حبان في "الثقات " (8/148) , ولا أجد جرحاً عليه عند من طعن فيه سوى أنه كان قد خرف، ولذلك؛ لم يزد الذهبي على قوله في "المغني " فيه:
"قال صالح جزرة: صدوق، لكنه خرف ".
فمثله يستشهد به. وقد توبع؛ قال أحمد (6/260- 261) : ثنا يونس: ثنا حماد - يعني: ابن زيد - به.
وهذا إسناد صحيح لولا ما سبق بيانه؛ فإن يونس هذا هو ابن محمد بن مسلم المؤدب: ثقة ثبت من رجال الشيخين.
لكن قد صحت هذه الزيادة من طريقين آخرين عن عائشة، أحدهما من طريق أبي بردة عن عائشة قالت:
أغمي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجري، فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلما أفاق قال - صلى الله عليه وسلم -:
"لا، بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل ".
أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة " (رقم 1097) وفي "السنن الكبرى" (4/260/7104) ، وابن حبان أيضاً (8/199/6557) من طريق سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بردة به، وقال النسائي:(7/285)
"الأعلى: الأسعد".
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وعزاه الحافظ (8/137) للنسائي وابن حبان وأقره، لكنه جعله من رواية أبي بردة عن أبي موسى! وأنت ترى أنه عندهما من روايته عن عائشة وليس عن أبي موسى! لكن يبدو أن له أصلاً من حديث أبي موسى؛ فقد ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/37) من حديثه نحوه بلفظ:
"لا، ولكن أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد: جبريل.. ".
وقال الهيثمي:
" وفيه محمد بن سلام الجمحي، وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات "
فلا أدري إذا كان الحافظ وهم، فعزا حديث أبي بردة عن أبي موسى للنسائي وابن حبان، وهو للطبراني، وقد عزاه هو إليه في مكان آخر من "الفتح " (8/132) ، أو أنه وقع كذلك في نسخته من "النسائي " و"ابن حبان "؟ ! وهذا ما أستبعده. والله أعلم.
أما الطريق الأخرى عن عائشة بتلك الزيادة؛ فهي عند مسلم، وابن أبي شيبة، وأحمد بنحوه، وقد تقدم لفظها برقم (2775) . *
3105- (في التي لمْ يُرتعْ منها. قاله لعائشةَ رضي الله عنها) .
أخرجه البخاري (9/120/5077- فتح) ، وابن حبان بأتم منه بذكر غضب عائشة (4316) من طريق سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن(7/286)
عائشة رضي الله عنها قالت:
قلت: يا رسول الله! أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها؛ في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال ... فذكره. يعني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكراً غيرها.
قال الحافظ: "وسليمان هو ابن بلال، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج ".."
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" (3/130) :
"انفرد به البخاري ".
قلت: يعني دون مسلم. فقول الأديب أحمد عبيد - رحمه الله ـ في تعليقه على "روضة المحبين " لابن القيم (ص 242) :
" قال المحب الطبري في "مناقب أمهات المؤمنين ": خرجه مسلم وأبو حاتم ".
قلت: فهو وهم منه أو من المحب، ولعله أراد أن يقول: "البخاري " فقال: "مسلم". فإن الحافظ المزي في "تحفة الأشراف " (12/155) لم يعزه إلا للبخاري.
وقد وجدت لسليمان بن بلال متابعاً، ولكنه واهٍ، وهو عمران بن أبي الفضل عن هشام بن عروة بإسناده عنها قالت:
"يا رسول الله! أرأيت لو نزلت وادياً قد عري جميع شجره إلا شجرة واحدة؛ أين كنت تنزل؟ قال: على الشجرة التي لم تعر. قالت: فأنا تلك الشجرة".
أخرجه ابن عدي في "الكامل " (5/95) في ترجمة عمران هذا من رواية إسماعيل بن عياش عنه. وقال فيه:(7/287)
"وضعفه بَيْن على حديثه ".
وروى عن ابن معين أنه قال:
"ليس بشيء".
وعن النسائي:
" ضعيف ".
وقال ابن أبي حاتم (3/1/303) عن أبيه:
"ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا ً، روى عنه إسماعيل بن عياش حديثين باطلين موضوعين ".
قال الذهبي عقبه:
"أحدهما: مسابقة عائشة بألفاظ تنكر.
وثانيهما: عن هشام عن أبيه عن عائشة.. ".
قلت: فذكر حديثه هذا. وأقره الحافظ في "اللسان " ولم يتعقبه بشيء، وفي إطلاق الوضع عليه نظر ظاهر عندي؛ لأنه بمعنى حديث متابعة سليمان بن بلال كما ترى.
ووجدت طريقاً أخرى عن عائشة: قال ابن سعد (8/80) : أخبرنا محمد بن عمر: حدثتني فاطمة بنت مسلم عن فاطمة الخزاعية، قالت: سمعت عائشة ... الحديث بأتم منه. لكن محمد بن عمر - وهو الواقدي - متروك، فالعمدة على رواية البخاري عن سليمان بن بلال. *(7/288)
3106 (1) - (من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربنَّ مسجدنا، فإن كنتم لا بد آكليهما فأميتُموهما طبخاً) .
أخرجه أبو داود (3827) ، والنسائي في "السنن الكبرى" (4/158/ 6681) ، والطحاوي في "شرح المعاني " (2/338) ، والبيهقي في "السنن " (3/78) ، و"الشعب " (5/105/5962) ، وابن عدي في "الكامل " (3/ 20- 21) ، وأحمد (4/19) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/30/65) من طرق عن خالد بن ميسرة عن معاوية بن قرة عن أبيه؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
أورده ابن عدي في ترجمة (خالد) هذا، وقال:
" وله غير هذا، وهو عندي صدوق؛ فإني لم أر له حديثاً منكراً".
ولهذا؛ ذكره ابن حبان في "الثقات " (6/265) ، وقال الذهبي في "الكاشف ":
" صدوق ".
والحافظ في "التقريب ":
"صالح الحديث ".
قلت: وله عند الطبراني وكذا النسائي حديث آخر في التعزية وفضل من مات له فرط، وصححه الحافظ في "الفتح " (3/121) .
وقد تابعه عليه شعبة؛ عند الحاكم وغيره، وهو مخرج في " أحكام الجنائز" (205) .
_________
(1) كان سابقاً بهذا الرقم حديث: "إن الله ضمن لمن ... "، ثم نقل إلى "الضعيفة" (6720) .(7/289)
ولحديث الترجمة شاهد قوي من حديث أنس مرفوعاً به.
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط " (4/392/3668) : حدثنا سليمان ابن داود الطبيب، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، قال: حدثنا سلام بن مسكين عن ثابت عنه. وقال:
"لم يروه عن سلام بن مسكين إلا شيبان بن فروخ ".
قلت: هو من شيوخ مسلم في "صحيحه "، وفيه كلام لا يضر، ومن فوقه من رجال الشيخين، فالإسناد صحيح؛ لولا أنني لم أجد لشيخ الطبراني (سليمان بن داود الطبيب) ترجمة، وقد روى له حديثاً آخر فقط، مما يشعر أنه ليس بالمشهور من شيوخه؛ فلا أدري بعد هذا ما وجه قول الهيثمي (2/17) :
"رواه الطبراني في " الأوسط " ورجاله موثقون "؟!
فإن هذا التوثيق اللين إن كان من أجل الشيخ، فمن الذي وثقه؟ وإن كان المقصود به من فوقه دونه؛ فقد عرفت أنهم من رجال الصحيح، وعهدنا به أنه لا يغمز في أحدهم ولو كان فيهم مغمز، مثل ابن إسحاق وشريك وغيرهم؛ فإنه كثيراً ما يقول في بعض الأسانيد: "رجاله رجال الصحيح "، ولو كان فيه واحد من أمثال المذكورين، وهم ممن ضعفوا!
وهو في "الصحيحين " من طريق أخرى عن أنس مختصراً بلفظ:
"من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا، ولا يصلي معنا ".
وأخرجه أبو عوانة أيضاً (2/17- 18) .
وحديث الترجمة عنده (1/407- 410) .(7/290)
وكذا مسلم وغيره من حديث عمر نحوه وفيه:
" فمن كان منكم آكلهما لا بد؛ فليمتهما طبخاً ".
وهو مخرج في "الإرواء " (8/156/ 2514) .
وهو موقوف في حكم المرفوع. *
3107- (إنَّ رسولَ الله يفعلُ ذلكَ (يعني: تقبيلَ الزوجةِ وهو صائمٌ) ، أنا أتقاكم للهِ، وأعلمُكم بحدودِ اللهِ) .
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف " (4/184/8412) ، ومن طريقه: أحمد (5/434) : أنا ابن جريج: أخبرني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار: أن الأنصاري أخبر عطاءً:
أنه قبَّل امرأته على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم، فأمر امرأته فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"إن رسول الله يفعل ذلك ".
فأخبرته امرأته فقال: إن النبي يرخص له في أشياء، فارجعي إليه فقولي له، فرجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: قال: إن النبي يرخص له في أشياء؟ ! فقال:
"أنا أتقاكم لله، وأعلمكم بحدود الله ".
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين إلا الرجل الأنصاري فهو لم يسم، ومعلوم أن جهالة الصحابي لا تضر؛ لأنهم كلهم عدول عند أهل السنة.(7/291)
والحديث أخرجه مالك (1/273) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: أن رجلاً ... ؛ فأرسله. لم يذكر الرجل الأنصاري، والموصول أرجح؛ لأن زيادة الثقة مقبولة.
وللحديث شواهد كثيرة من حديث عائشة وغيرها بنحوه من طرق بألفاظ متقاربة، تقدم أحدها برقم (328) ، وفي طريق آخر عنها بلفظ:
"والله! إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي ".
أخرجه مسلم وابن خزيمة وابن حبان في "صحاحهم "، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (2067) .
وقد كان تقدم مني تخريج هذا الحديث برواية أحمد فقط عقب حديث عائشة المشار إليه آنفاً (329) ، والآن قدر لي إعادة تخريجه بزيادة فائدة والحمد لله.
وله شاهد بنحوه من حديث عمر بن أبي سلمة عند مسلم وغيره، وهو مخرج في " الإرواء " (4/84) . *
3108- (إنَّه سيُلحِدُ فيه رجلٌ من قريشٍ، لو وُزنتْ ذنوبُه بذنوبِ الثقلينِ لرجحت. يعني: الحرم) .
أخرجه أحمد (2/136) : ثنا محمد بن كُنَاسة: ثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال:
أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير! إياك والإلحاد في - حرم الله تبارك وتعالى؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول ... فذكره. قال: فانظر لا تكونه.(7/292)
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير محمد بن كناسة - وهو محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى بن كناسة الكوفي - وهو ثقة، لكن قال أبو حاتم: " كان صاحب أخبار، يكتب حديثه ولا يحتج به ".
قلت: وقد خالفه هاشم بن القاسم، فقال أحمد في مسند عبد الله بن عمرو (2/219) : ثنا هاشم: ثنا إسحاق - يعني: ابن سعيد -: ثنا سعيد بن عمرو قال:
أتى عبد الله بن عمرو ابن الزبير، وهو جالس في الحجر فقال: يا ابن الزبير! إياك والإلحاد.. الحديث نحوه، قال: فانظر أن لا تكون هو يا ابن عمرو! فإنك قد قرأت الكتب، وصحبت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإني أشهدك أن هذا وجهي إلى الشام مجاهداً.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، فهو أصح من الذي قبله؛ فإن هاشم بن القاسم - وهو أبو النضر الليثي مولاهم البغدادي - قال الحافظ فيه:
"ثقة ثبت ".
وقال في الذي قبله - ابن كناسة -:
" صدوق ".
وقال الهيثمي في حديث ابن كناسة هذا (3/258) :
"رواه أحمد، ورجاله ثقات ".
وقال في حديث هاشم:
"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح ".(7/293)
وإذا عرفت هذا؛ فقد اختلفا في راوي هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقائل لابن الزبير: إياك والإلحاد في.. فقال ابن كناسة: عبد الله بن عمر، وقال هاشم: عبد الله بن عمرو. وهذا هو الأرجح؛ لأن هاشماً أحفظ من ابن كناسة كما عرفت من ترجمة الحافظ لهما، ومن تخريج الهيثمي لحديثهما. ويؤيد ذلك أمور ثلاثة:
الأول: أن ابن كناسة اضطرب في إسناده، فرواه مرة عن إسحاق بن سعيد كما تقدم. ومرة قال: ثنا إسحاق بن عيسى بن عاصم عن أبيه قال ... فذكره مثل روايته المتقدمة.
أخرجه الحاكم (2/388) من طريق الحسين بن الفضل البجلي: ثنا محمد ابن كناسة به. وقال:
" صحيح الإسناد ".
ورده الذهبي بقوله:
"قلت: [قال] أبو حاتم: ابن كناسة لا يحتج به ".
والحسين الراوي عنه إمام محدث مفسر لغوي جليل، له ترجمة في "سير الأعلام " (13/ 414) للذهبي، ولذلك أنكر عليه الحافظ في "اللسان " إيراده إياه في " الميزان " وقال:
"فكان الأولى أن لا يذكره لجلالته ". فراجع "اللسان " (2/307- 308) .
والثاني: أن هاشم بن القاسم قد تابعه بشر بن الوليد الكندي: نا إسحاق ابن سعيد به.
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (9/2) .(7/294)
والثالث أن له طريقاً أخرى عن ابن عمرو من رواية محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد لرحمن عنه مرفوعاً بلفظ " لحد رجل بمكة يقال له عبد الله عليه نصف عذاب العالم "
أخرجه البزار (2/47- 48- الكشف) وقال
"هكذا رواه محمد بن كثير ولم يتابع على هذا الإسناد وقال عبد: عن الأوزاعي عن رجل من آل المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة عن عثمان ".
قلت: وبابن كثير هذا؛ أعله الهيثمي فقال (3/284) :
" وثقه صالح بن محمد وابن سعد وابن حبان، وضعفه أحمد ".
ومن طريقه: أخرجه ابن عساكر أيضاً في "التاريخ " (9/273) .
هذا؛ وقول البزار فيما تقدم: " وقال عبدة: عن الأوزاعي عن رجل من آل المغيرة.. " إلخ، فلم أجد من وصله عن عبدة عن الأوزاعي به. وإنما وصله أحمد عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بإسناد آخر له كما يأتي، وأظن أن الرجل من آل المغيرة هو جعفر بن أبي المغيرة؛ فقد رواه من طريقه يعقوب بن عبد الله عنه عن ابن أبزى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال له عبد الله بن الزبير حين حُصِر: إن عندي نجائب قد أعددتها لك؛ فهل لك أن تحول إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك؟ قال: لا؛ إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبد الله، عليه مثل نصف أوزار الناس ".
أخرجه أحمد (1/64) ، والبزار أيضاً، وابن عساكر (9/273) ، وقال الهيثمي بعد أن عزاه للأوَّليْن:
"ورجاله ثقات ".(7/295)
كذا قال! وجعفر بن أبي المغيرة، ويعقوب بن عبد الله - وهو القمي - قال الحافظ في ترجمة كل منهما:
"صدوق يهم ".
وفي إسنادهما علة أخرى، وهي الانقطاع بين عثمان رضي الله عنه وابن أبزى - واسمه سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الكوفي -، قال أبو زرعة:
" روايته عن عثمان مرسلة".
ولذلك؛ قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (3/375) عقب الحديث:
"رواه أحمد.. وفي إسناده مقال ".
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" (8/339) :
"وهذا الحديث منكر جداً، وفي إسناده ضعف، ويعقوب هذا هو القمي وفيه تشيع، ومثل هذا لا يقبل تفرده به، وبتقدير صحته فليس هو بعبد الله بن الزبير؛ فإنه كان على صفات حميدة، وقيامه بالإمارة إنما كان لله عز وجل، ثم كان هو الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد من مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت له البيعة في الآفاق، وانتظم له الأمر. والله أعلم ".
لكن قد جاء الحديث من طريق أخرى عن عثمان رضي الله عنه، فقال الإمام أحمد (1/67) : ثنا علي بن عياش: ثنا الوليد بن مسلم قال: وأخبرني الأوزاعي عن محمد بن عبد الملك بن مروان: أنه حدثه عن المغيرة بن شعبة: أنه دخل على عثمان - رضي الله عنه - وهو محصور فقال ... فذكر قصته، وفيه قول عثمان: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(7/296)
" يُلحِد رجل من قريش بمكة، يكون عليه نصف عذاب العالم ".
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات؛ لكن له عندي علتان:
الأولى: الانقطاع بين ابن مروان والمغيرة؛ وبه أعله الهيثمي فقال (7/230) :
"رواه أحمد، ورجاله ثقات، إلا أن محمد بن عبد الملك بن مروان لم أجد له سماعاً من المغيرة".
قلت: بل لم يذكروا له رواية عن صحابي، ولذلك؛ أورده ابن حبان في أتباع التابعين من "ثقاته " (7/435) ، وصرح ابن أبي حاتم بالانقطاع فقال في "الجرح " (4/1/4) :
" روى عن المغيرة بن شعبة؛ مرسل، وعمن سمع معاوية ".
وأيد هذا الانقطاع الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" (1/369) .
والأخرى: تدليس الوليد بن مسلم؛ فإنه كان يدلس تدليس التسوية، ومثله لا يكتفى منه بتصريحه بسماعه من شيخه فقط، بل لا بد من التصريح به فيمن فوقه أيضاً، كما هو معلوم من علم المصطلح، ولهذا قال الحافظ في "جزء ماء زمزم لما شرب به " (2/2) :
"والوليد يدلس فيسوي، فلا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالتحديث له ولشيخه ".
وجملة القول؛ أن الحديث صحيح من طريق هاشم بن القاسم ونحوها مما ليس فيه ذكر لعبد الله بن الزبير رضي الله عنه. *(7/297)
3109- (كُلُوهُ من ذِي الحجَّةِ إلى ذي الحجَّةِ. يعني: لحمَ الأضاحي) .
أخرجه البخاري في " التاريخ " (4/2/370- 371) ، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/308) ، وابن حبان في "صحيحه " (7/569/5903) ، وأحمد (6/155) ، والخطيب في "الموضح " (1/202) عن يزيد بن أبي يزيد الأنصاري عن امرأته: أنها سألت عائشة عن لحوم الأضاحي؟ فقالت عائشة:
قدم علينا علي من سفر، فقدمنا إليه منه، فقال: لا آكله حتى أسأل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فسأله علي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد لا بأس به في الشواهد؛ لأن يزيد هذا، أورده البخاري بهذا الحديث، ولم يتكلم عليه بجرح ولا تعديل، وكذلك فعل ابن أبي حاتم (4/2/298) ، وأما ابن حبان فذكره في "الثقات " (7/631) برواية الحارث بن يعقوب الأنصاري عنه وهو ثقة، وروى عنه ثقتان آخران كما يؤخذ من "التاريخ "، و "الموضح "؟ وهما: بكير بن عبد الله بن الأشج، وبكر بن سوادة، ورابع وهو عبد العزيز بن صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات " (7/112) ، وذكرهم الحافظ في ترجمته من "التعجيل " (ص 454) ؛ فهو صدوق إن شاء الله تعالى.
وأما امرأته فلم أعرفها، وقد جاءت في رواية ابن حبان مكنية بـ " أم سليم ". وقد أوردها الحافظ في " كنى النساء " من " التعجيل " فلم يزد على قوله فيها:
"تقدمت في ترجمة زوجها يزيد"!(7/298)
لكن في رواية للخطيب من طريق ابن لهيعة عن عبد العزيز بن صالح عن يزيد بن أبي يزيد قال:
حججت مع امرأتي أم سليم فدخلت على عائشة ... فذكرت مثل هذا الحديث.
فأقول: فإن كانت هذه الرواية محفوظة؛ وثبت أن يزيد هذا شارك امرأته في الدخول على عائشة رضي الله عنها وسماعه لهذا الحديث منها؛ فالإسناد جيد، والحديث صحيح، وإلا؛ فهو حسن لغيره؛ لأن له شواهد كثيرة:
منها قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث من رواية بريدة رضي الله عنه:
"ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم.. ".
رواه مسلم وابن حبان (5367) وغيرهما؛ وهو مخرج في " أحكام الجنائز" (ص 227- 228- المعارف) .
وروي نحوه عن غيره من الصحابة، فانظر "مجمع الزوائد" (4/25- 27) .
وقد صح عن جمع من الصحابة أنهم كانوا يتزودون لحوم الهدايا والضحايا إلى المدينة، وقد تقدم تخريجها برقم (805) . *
3110- (نهى أنْ يجلسَ بين الضَّحِّ والظل، وقال: مجلس الشيطان) .
أخرجه أحمد (3/413- 414) : حدثنا بهز وعفان قالا: ثنا همام - قال عفان في حديثه -: ثنا قتادة عن كثير عن أبي عياض عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى ...
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير كثير، وهو ابن(7/299)
أبي كثير البصري مولى عبد الرحمن بن سمرة، وقد وثقه ابن حبان (5/332) والعجلي، وروى عنه جمع من الثقات غير قتادة من التابعين الأجلاء مثل محمد ابن سيرين ومنصور بن المعتمر وأيوب السختياني، ولذلك رد الحافظ من جهله فقال في "التهذيب ":
"وزعم عبد الحق تبعاً لابن حزم أنه مجهول! فتعقب ذلك عليه ابن القطان بتوثيق العجلي ".
وعليه فما أنصفه الحافظ حين قال في "التقريب ":
"مقبول ".
ولا الذهبي حين قال في الكاشف ":
"وُثق "!
ولذلك؛ فالصواب أنه ثقة، وأن حديثه هذا صحيح كما قال في "التلخيص " كما يأتي، ولا يخدج عليه أن صحابيه لم يسم، لأن الصحابة كلهم عدول كما تقدم مراراً.
على أنه قد جاء مسمى، فقال عبد الله بن رجاء: ثنا همام عن قتادة عن كثير ابن أبي كثير عن [أبي] عياض عن أبي هريرة قال ... فذكره دون قوله: "مجلس الشيطان ".
أخرجه الحاكم (4/271) وقال:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي.
وعبد الله بن رجاء ثقة من رجال مسلم، والسند إليه صحيح.(7/300)
والحديث قال الهيثمي (8/60) :
"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير كثير بن أبي كثير، وهو ثقة".
وقد عمل بالحديث راويه قتادة - رحمه الله -، فروى عبد الرزاق في "المصنف " (11/25) عن معمر عنه قال:
"يكره أن يجلس الإنسان بعضه في الظل، وبعضه في الشمس ".
وروى قبله عن معمر أيضاً عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال:
" إذا كان أحدكم في الفيء، فقلص عنه؛ فليقم؛ فإنه مجلس الشيطان ". وتابعه عبد الوارث: ثنا محمد بن المنكدر به؛ لكن رفعه. رواه أحمد (2/383) .
وهذا الموقوف والمرفوع رجاله ثقات.
وخالفه سفيان في إسناده فقال: عن محمد بن المنكدر قال: حدثني من سمع أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم ( ... فذكره مرفوعاً نحوه بلفظ:
" إذا كان أحدكم في الشمس (وفي رواية: في الفيء) ، فقلص عنه الظل، وصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل؛ فليقم ".
أخرجه أبو داود (4821) ؛ ومن طريقه: البيهقي (3/236) .
قلت: ولعل رواية سفيان هذه أصح وصلاً ورفعاً، أما الوصل؛ فلأن ابن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة كما ذكروا في ترجمته. وأما الرفع؛ فلرواية أبي عياض المتقدمة عن أبي هريرة، ولعل أبا عياض هذا هو الواسطة بين ابن المنكدر وأبي هريرة.
وخالفهم جميعاً إسماعيل بن مسلم فقال: عن محمد بن المنكدر عن جابر:(7/301)
أن النبي (نهى أن يقعد أو يجلس الرجل بين الظل والشمس.
أخرجه البزار (2/423/2014) وقال:
" إسماعيل لين الحديث، ولم يتابع عليه ".
قلت: وهو المكي. قال الحافظ:
"ضعيف الحديث ".
قلت: فلا يحتج به، ولا سيما مع المخالفة، فالعمدة على حديث الترجمة وحديث أبي هريرة.
وللحديث شاهدان: - أحدهما من حديث بريدة - تقدما تحت قوله (: " تحول إلى الظل " رقم (833) ، وإنما خرجت هذا هنا لهذه الزيادة: " وقال: مجلس الشيطان "؛ فإنها تدل على أن النهي تعبدي، وليس كما قال البيهقي بعد أن ذكر حديث بريدة:
"يحتمل أن يكون أراد كيلا يتأذى بحرارة الشمس "!
فإن هذا التعليل لا علاقة له ظاهرة بمجلس الشيطان. والله أعلم.
(تنبيه) : ذكرت تحت الحديث المتقدم (837) أن ابن المنكدر قد سمع من أبي هريرة، وكان ذلك وهماً مني، أرجو الله أن يغفره لي، وكان هذا التنبيه من دواعي تخريجه هنا. *
3111- (ليسَ في الأرضِ منَ الجنةِ إلا ثلاثةُ أشياء: غرْسُ العجوة، وأواقٍ تنزلُ في الفراتِ كلَّ يومٍ من بركةِ الجنةِ والحَجَرُ) .
أخرجه الخطيب في "التاريخ " (1/55) قال: أخبرنا القاضي أبو عمر القاسم(7/302)
ابن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي- بالبصرة- قال: نا عبد الرحمن بن أحمد الخُتَّلي قال: حدثني عبد الله بن محمد بن علي البَلْخي قال: نا محمد بن أبان قال: نا أبو معاوية عن الحسن بن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات، وإليك البيان:
1- سالم بن أبي الجعد، واسم أبيه رافع الأشجعي مولاهم الكوفي، وهو ثقة بلا خلاف من رجال الشيخين.
2- ابنه الحسن بن سالم، قال ابن معين:
"صالح "، كما في "الجرح والتعديل " (1/2/15) ، وروى عنه ثلاثة من الثقات أحدهم أبو معاوية، وثانٍ يأتي ذكره قريباً، وذكره ابن حبان في "الثقات " (6/164) .
3- أبو معاوية- واسمه محمد بن خازم الضرير الكوفي-، ثقة من رجال الشيخين. قال الحافظ في "التقريب ":
"ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره ".
قلت: وهذا لا يضره؛ لأنه قليل، ومن هو الذي لا يَهِمُ؟! ومع ذلك فقد توبع كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
4- محمد بن أبان، وهو ابن وزير البَلْخي مستملي وكيع؛ من شيوخ البخاري في "صحيحه "، قال الحافظ:
"ثقة حافظ ".(7/303)
5- عبد الله بن محمد بن علي البلخي، ترجمه الخطيب في "التاريخ " برواية جمع من الحفاظ عنه، وقال (10/94) :
"وكان أحد أئمة أهل الحديث حفظاً، وإثباتاً، وثقة، وإكثاراً".
6- عبد الرحمن بن أحمد الخُتَّلي- بضم الخاء، وفتح التاء المشددة-، ترجمه الخطيب أيضاً (10/ 290) برواية الدارقطني وغيره عنه، ثم قال:
"وكان فهماً عارفاً ثقة حافظاً".
7- القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر، قال الخطيب (12/451) :
"كان ثقة أميناً، ولي القضاء بالبصرة، وسمعت منه بها "سنن أبي داود" وغيرها ".
وقد توبع أبو معاوية الضرير، فقال إسحاق بن راهويه في "مسنده " (4/41/1) : أخبرنا محمد بن عبيد: نا الحسن بن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن أبي هريرة قال:
"لم يبق من الجنة في الأرض شيء إلا هذا الحجر، وغرس العجوة، وأواق من الجنة يصب في ماء الفرات كل يوم ثلاث مرات ".
فقال رجل: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أنا ما طهوي؟ فأعاد عليه؟ فقال: أنا ما طهوي؟
قلت: ومحمد بن عبيد هو الطنافسي، قال الحافظ:
"ثقة يحفظ ".
وقوله: "أنا ما طهوي؟ "؛ أي: ما عملي إن لم أسمعه، يعني: أنه لم يكن(7/304)
لي عمل غير السماع، أو أنه إنكار لأن يكون الأمر على خلاف ما قال، وقيل: هو بمعنى التعجب، كأنه قال: وإلا فأي شيء في حفظي وإحكامي ما سمعت.
كذا في "النهاية " لابن الأثير، ووقع فيه: "إلا ما طهوي ". وقال المعلق:
" في الهروي: (إذاً) ".
والحديث أورده السيوطي في "الجامع الكبير" بلفظ الترجمة معزوّاً لابن مردويه أيضاً، والديلمي، يعني: في "مسند الفردوس "، وهو في " الفردوس " (3/396/5207) ، وذكر المعلق عليه إسناد الخطيب فيه، وسكت عنه! فلم يصنع شيئاً.
وله شواهد متفرقة؛ فانظر "صحيح الجامع " (3169 و3170 و4005 و4006) ، و"ضعيف الجامع " (2766- 2769 و 6463) .
(تنبيه) : قد كنت خرجت الحديث في الكتاب الآخر برقم (1600) لأسباب ذكرتها هناك، ولأنه لم يكن لدي "مسند إسحاق " الذي أخرجه من غير طريق الخطيب، فلما وقفت عليها بادرت لتخريجها هنا مع إعادة النظر في طريق الخطيب مع التوسع في الكلام على رواته، فأرجو أن أكون قد وفقت للصواب في تخريجه هنا، فلينقل من هناك.
ثم إنه يبدو أن بين هذا الحديث، وبين الحديث الآتي برقم (3355) بلفظ:
" ... وما على الأرض من شيء من الجنة غيره ": تعارضاً! فكيف التوفيق؟
فأقول: قد ذكرت هناك أنه لعل المراد بقوله: "غيره " أي: من الحجارة؛ فقوله: "شيء" مخصوص بها. والله أعلم. *(7/305)
3112- (اجعلُوا من صلاتِكم في بُيوتِكم، ولا تجعلُوها عليكم قُبوراً، كما اتَّخذت اليهود والنصارى في بيوتهم قبوراً، وإنَّ البيت ليُتلى فيه القرآن؛ فيتراءى لأهلِ السماء كما تتراءى النجومُ لأهل الأرضِ) .
أخرجه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (8/26- 27) من طريق السراج: حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد: حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
وأخرجه أحمد (6/65) : ثنا حسن: ثنا ابن لهيعة به، دون قوله: "كما اتخذت.. " إلخ.
قلت: وهذا إسناد جيد؛ لأن قتيبة صحيح الحديث عن ابن لهيعة، كما تقدم تحقيقه تحت الحديث (957- الطبعة الجديدة من المجلد الثاني) ؛ ولهذا قال الذهبي عقب الحديث:
"هذا حديث نظيف الإسناد، حسن المتن، فيه النهي عن الدفن في البيوت، وله شاهد من طريق آخر، وقد نهى عليه السلام أن يبنى على القبور، ولو اندفن الناس في بيوتهم؛ لصارت المقبرة والبيوت شيئاً واحداً، والصلاة في المقبرة منهي عنها نهي كراهة أو نهي تحريم، وقد قال عليه السلام: "أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة" (1) . فناسب ذلك ألا تُتخذ المساكن قبوراً.
وأما دفنه في بيت عائشة صلوات الله عليه وسلامه فمختص به، كما خُص ببسط قطيفة تحته في لحده، وكما خُص بأن صلوا عليه فرادى بلا إمام، فكان هو إمامهم حياً وميتاً في الدنيا والآخرة، وكما خُص بتأخير دفنه يومين، بخلاف
_________
(1) متفق عليه من حديث زيد بن ثابت، وهو مخرج في "صحيح أبي داود " (1301) . *(7/306)
تأخير أمته؛ لأنه هو أُمِن عليه التغير بخلافنا، ثم إنهم أخروه حتى صلوا كلهم عليه داخل بيته، فطال لذلك الأمر، ولأنهم ترددوا شطر اليوم في موته حتى قدم أبو بكر الصديق من السَنْح، فهذا كان سبب التأخير".
(تنبيه) : حديث عائشة هذا من رواية أحمد؛ هو من شرط الهيثمي في "مجمع الزوائد"، ولم يورده فيه، وفي معناه أحاديث عن زيد بن خالد، وصهيب ابن النعمان، والحسن بن علي، وقد أخرجها ثلاثتها فيه (4/247) ، وقد أورده السيوطي في "الجامع الكبير" من رواية أحمد وابن نصر في "كتاب الصلاة"، وعزاه المناوي في "الجامع الأزهر" لأحمد؛ وزاد: "بإسناد حسن ".
3113- (الله الله في قبطِ مِصرَ؛ فإنَّكم ستظهرونَ عليهم، ويكونُون لكم عُدَّةً وأعواناً في سبيل الله) .
أخرجه الطبراني في "الكبير" (23/265/561) قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي: ثنا بُندار. ح حدثنا محمد بن صالح النَّرْسي: حدثنا محمد ابن المثنى قالا: حدثنا وهب بن جرير: حدثنا أبي عن يحيى بن أيوب عن يزيد ابن أبي حبيب عن أبي سلمة عن أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند وفاته فقال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح لا أعرف له علة؛ فإن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير شيخي الطبراني، لكن الأول منهما زكريا الساجي؛ فهو ثقة حافظ مترجم في "تذكرة الحفاظ "، وقال في "الميزان ":
"أحد الأثبات، ما عرفت فيه جرحاً أصلاً ".
وشيخه "بُندار" اسمه محمد بن بشار أبو بكر، وقد تابعه محمد بن المثنى،(7/307)
وهو المعروف بـ "الزَّمِن "، وكلاهما من رجالهما، قال الحافظ في "التقريب ":
"وكان هو و"بندار" فَرَسَيْ رهان، وماتا في سنة واحدة".
لكن الراوي عنه محمد بن صالح النرسي لم أجد له ترجمة، وقد روى له الطبراني في "المعجم الصغير" حديثاً واحداً (129/147- الروض النضير) .
وبالجملة: فالحديث من طريق الساجي صحيح، وطريق النرسي شاهد قوي له.
والحديث قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/63) :
"رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح ". *
3114- (إن سَرَّك أنْ تفي بنذْركِ؛ فأعتقي مُحَرَّراً من هؤلاء. يعني: من بني العَنْبرِ) .
أخرجه مسلم (7/181) - ولم يسق لفظه-، والحاكم (4/84) ، والبيهقي (9/75) من طريق مسلمة بن علقمة المازني عن داود بن أبي هند عن عامر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
ثلاث سمعتهن لبني تميم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لا أبغض بني تميم بعدهن أبداً:
كان على عائشة رضي الله عنها نذرُ محرَّر من ولد إسماعيل، فسُبِيَ سَبْيٌّ من بني العنبر، فلما جيء بذلك السبي، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر الحديث وقال: فجعلهم من ولد إسماعيل.
وجيء بنَعَم من نعم الصدقة، فلما رآه راعه حسنه قال: فقال:
"هذا نَعَمُ قومي "، فجعلهم قومه، قال: وقال:(7/308)
"هم أشد قتالاً في الملاحم ".
وقال الحاكم:
"حديث صحيح على شرط مسلم ".
وبيض له الذهبي، ولعل الحاكم إنما استدركه على مسلم؛ لأنه لم يسقه بتمامه وإنما ساق منه جملة الملاحم، وأحال سائره على حديث قبله من رواية أبي زرعة قال: قال أبو هريرة ... فذكر الحديث بتمامه نحوه. وقال في الجملة:
"هم أشد أمتي على الدجال ".
وهكذا أخرجه البخاري (2543 و 4366) ، وأبو يعلى في "مسنده " (10/493/6108) ، ومن طريقه: البيهقي (7/11) .
وأخرجه أحمد (2/390) مختصراً بلفظ:
"هذه صدقة قومي، وهم أشد الناس على الدجال. يعني: بني تميم ".
قال أبو هريرة: ما كان قوم من الأحياء أبغض إلي منهم، فأحببتهم منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا.
وحديث الترجمة له شاهدان:
أحدهما: من حديث ابن عمر، بسند حسن، وصححه الحافظ ابن حجر في "مختصر الزوائد " (2/382) .
والآخر: من حديث ابن مسعود، بسند ضعيف.
رواهما البزار، وهما مخرجان في الكتاب الآخر (5731) . *(7/309)
3115- (كان في الكعبة صورٌ، فأمَرَ عمر بن الخطاب أنْ يمحوَها، فَبَلَّ عمرُ ثوباً ومحاها به، فدخلها - صلى الله عليه وسلم - وما فيها من شيءٍ) .
أخرجه أحمد (3/396) : ثنا سليمان بن داود: حدثنا عبد الرحمن عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد على شرط مسلم، وأبو الزبير قد صرح بالتحديث وتوبع كما يأتي؛ فقال أحمد (3/383) : ثنا روح: ثنا ابن جريج: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول ... فذكره بنحوه.
وهذا إسناد متصل صحيح.
ثم أخرجه أحمد (3/335) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/73) من طريقين آخرين عن ابن جريح به.
وتابعه ابن لهيعة: ثنا أبو الزبير به.
أخرجه أحمد (3/336) .
وتابعه وهب عن جابر به.
أخرجه ابن سعد في "الطبقات " (2/142) بسند جيد عن وهب، وهو ابن مُنَبَّه اليماني، وهو تابعي ثقة من رجال الشيخين.
وللحديث شاهدان مختصران:
أحدهما: عن صفية بنت شيبة قالت:
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَلَّ ثوباً وهو في الكعبة، ثم جعل يضرب التصاوير التي فيها.(7/310)
أخرجه الطبراني "المعجم الكبير" (24/323/811) : حدثنا جعفر بن الفضل المُخَرَّمي المؤدب: ثنا داود بن عبد الله بن أبي الكرام الجعفري: ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن منصور بن صفية بنت شيبة عن أمه..
وهذا إسناد حسن رجاله صدوقون مترجمون في "التهذيب " غير جعفر هذا، أورده الخطيب في "تاريخ بغداد" (7/194) برواية الطبراني فقط عنه، وساق له حديثاً آخر، رواه في " المعجم الصغير" (552- "الروض النضير") و" المعجم الأوسط " (1/193/1/3531) ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وقال الهيثمي في "المجمع " (5/173) :
"رواه الطبراني، ورجاله ثقات "!
والشاهد الآخر: أسامة بن زيد نحو حديث صفية، وقد سبق تخريجه في المجلد الثاني برقم (996) . *
3116- (كان يستَحبُّ للرجل أن يقاتل تحت راية قومه) .
أخرجه أحمد (4/263) قال: ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنِيَّة قال: حدثنا عقبة بن المغيرة عن جد أبيه المخارق قال:
لقيت عماراً يوم الجمل، وهو يبول في قرن؛ فقلت: أقاتل معك فأكون معك؟ فقال:
قاتل تحت راية قومك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ... الحديث.
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده " (3/206/1641) : حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان: حدثنا ابن أبي غنية به؛ إلا أنه أدخل واسطة بين عقبة والجد، فقال: "عمن حدثه عن جد أبيه.. ".(7/311)
قلت: وهذه الزيادة أقرب إلى الصواب، ولعل ابن أبي غنية كان يضطرب في إسناده؛ فيذكرها أحياناً، وتسقط عنه أحياناً؛ فإنه- وإن كان ثقة، واحتج به مسلم، وخرج له البخاري مقروناً بآخر؛ كما في "الميزان " ـ؛ فقد قال ابن عدي في "الكامل " (7/210) :
"بعض ما يرويه لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه ".
أضف إلى ذلك أن السَّقط لا يمكن أن ينسب إلى الإمام أحمد؛ لأنه إمام في الحفظ والضبط، ولأن الذي روى الزيادة عنه- وهو ابن أبان- ثقة أيضاً.
وإنما قلنا: إن الزيادة أقرب إلى الصواب؛ لأنه قد توبع عليها في الجملة؛ فقد رواه البخاري في " التاريخ " (4/1/430/1890) ، والبزار (2/278/1700) من طريقين عن عقبة بن المغيرة قال: حدثني إسحاق بن أبي إسحاق الشيباني عن أبيه عن المخارق بن سليم قال:
"رأيت عماراً يوم الجمل.. ". الحديث.
وقال البزار:
"لا نعلمه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد".
قلت: وهو حسن إن شاء الله تعالى، ولا بد من الكلام على رجاله ولو بإيجاز بعد أن اتفق الثقتان عليه، فأقول:
أما عقبة بن المغيرة؛ فهو صدوق، وثقه ابن حبان، وروى عنه جمع، كما كنت حققته في "الضعيفة" تحت الحديث (6035) .
ونحوه شيخه إسحاق بن أبي إسحاق الشيباني، كما تراه هناك.
وأما أبوه- واسمه سليمان بن أبي سليمان الشيباني-؛ فثقة من رجال الشيخين.(7/312)
وأما المخارق بن سُليم- وهو الشيباني- فهو تابعي كما في هذه الرواية، وصرح بذلك ابن حبان فذكره في "ثقات التابعين " (5/444) برواية ابنه عبد الله عنه. وزاد في "التهذيب " ابناً ثانياً عنه: قابوس. وظاهر صنيعه أنه لم يفرق بين المخارق ابن سليم الشيباني هذا الذي روى عنه أبو إسحاق الشيباني وبين مخارق أبي قابوس، وعنه ابنه قابوس. وقد ذكرهما البخاري في موضعين وابن أبي حاتم، خلافاً لابن حبان؛ فإنه ذكر في ترجمة أبي قابوس أنه روى عن علي وعمار، وهذا ذكره ابن أبي حاتم في الشيباني. وقال الحافظ في "التقريب ":
"مخارق بن سُليم الشيباني أبو قابوس، مختلف في صحبته، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ".
وأما الذهبي؛ فجزم في "الكاشف " بأنه صحابي!
قلت: فمثله حسن الحديث إن شاء الله تعالى.
والحديث قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/326) :
"رواه أحمد- وإسناده منقطع-، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، وفيه إسحاق ابن أبي إسحاق الشيباني، روى عنه جماعة، ولم يضعفه أحد، وبقية أحد أسانيد الطبراني ثقات ". *
3117- (إنْ لمْ تجدِيني فَأتي أبا بكرٍ) .
أخرجه البخاري (3659 و7220 و360) ، ومسلم (7/110) ، والترمذي (3677) وصححه، وابن حبان (8/226/6622) ، والطيالسي في "مسنده " (944) ، وكذا أحمد (4/82 و 83) ، وأبو يعلى (13/399/7402) ، وعنه ابن(7/313)
حبان أيضاً (9/12/6832) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/547/1151) ، والبيهقي في "السنن " (8/153) من حديث جبير بن مطعم قال:
أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئتُ ولم أجدكَ؟ كأنها تقول الموت، قال - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. *
3118- (تَهجُمون على رجلٍ مُعتَجرٍ ببردٍ حَبِرَةٍ، يبايعُ الناسَ، من أهل الجنة)
أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (2/290/1292) ، والحاكم (3/98) ، وابن عدي في "الكامل " (3/393) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (9/155- 156) من طريق حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ... فذكره. وزاد:
فهجمنا على عثمان بن عفان وهو معتجر ببرد حبرة يبايع الناس. قال: يعني: الشراء والبيع. والسياق لابن عدي وقال:
"وسعيد الجريري هذا مستقيم الحديث، وحديثه حجة؛ ممن سمع منه قبل الاختلاط ".
قلت: وحماد بن سلمة ممن سمع منه قبل الاختلاط كما في "التهذيب "، فهو صحيح الإسناد، وكذا قال الحاكم، ووافقه الذهبي.
وله شاهد بنحوه، وهو الآتي بعده.
ولعبد الله بن شقيق إسناد آخر، يرويه كَهْمس بن الحسن عنه قال: ثنا هَرَمِيُّ ابن الحارث وأسامة بن خُرَيْم- وكانا يغازيان، فحدثاني حديثاً، ولا يشعر كل(7/314)
واحد منهما أن صاحبه حدثنيه- عن مُرَّة البَهْزِي، قال:
بينما نحن مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق من طرق المدينة، فقال:
"كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر؟ ".
قالوا: نصنع ماذا يا نبي الله؟! قال:
"عليكم بهذا وأصحابه- أو: اتبعوا هذا وأصحابه- ".
قال: فأسرعت حتى عطفت على الرجل، فقلت: هذا يا نبي الله؟! قال: "هذا". فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه.
أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (9/31/6875- الإحسان) - وهو مما فات "الموارد"-، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/591/1296) من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة- وهو في "المصنف " (12/40- 41) -، وأحمد (5/33 و35) ، والطبراني أيضاً (20/316/752) من طريق أبي بكر وغيره (751) كلهم عن أبي أسامة عن كهمس.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير هرمي بن الحارث وأسامة بن خريم، فهما تابعيان مستوران لا يعرفان إلا برواية عبد الله بن شقيق هذه، ومع ذلك ذكرهما ابن حبان في "ثقاته " (4/44- 45 و5/514) على قاعدته! ولكن أحدهما يقوي الآخر.
وقد أسقطهما من الإسناد أبو هلال فقال: عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن مرَّة البهزي مرفوعاً مختصراً، وفيه: فمر رجل مقنع، فقال:
"هذا وأصحابه يومئذٍ على الهدى". فإذا عثمان بن عفان.(7/315)
أخرجه الطبراني (20/315 /750) واللفظ له، وأحمد (5/33) .
وأبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي، وهو صدوق فيه لين؛ كما قال في "التقريب "، فلعل السقط منه.
وخالف أبا أسامة في إسناده- واسمه حماد بن أسامة-: يزيد- وهو ابن هارون الواسطي-؛ فقال: أنا كهمس بن الحسن: ثنا عبد الله بن شقيق: حدثني رجل من عنزة يقال له: زائدة أو مزيدة بن حوالة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر من أسفاره فنزل النبي في ظل دوحة ... فذكر حديثاً آخر لابن حوالة، وفي آخره بعض حديث أبي أسامة لم يحفظه راويه.
أخرجه أحمد (5/33) .
وأقول: يبدو لي من سياق الحديث والسند أن الراوي لم يتقن ضبطه وحفظه، ولكن لم يتعين عندي من هو؟ لأنهم جميعاً ثقات. وقد أورد الحافظ زائدة هذا في "الإصابة " من أجل رواية أحمد هذه؛ وما أرى ذلك بجيد، وخاصة أنه لم يرتضِ صنيع الإمام أحمد الذي ساق الحديث في "مسند عبد الله بن حوالة" بالتمام الذي ساقه من طريق يزيد بن هارون وزاد عليه؛ ولم يَفُتْه شيء منه، أخرجه أحمد (4/109) : ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: ثنا الجريري عن عبد الله بن شقيق عن ابن حوالة قال:
أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو جالس في ظل دوحة.. الحديث، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - له:
"كيف تفعل في فتنة تخرج في أطراف الأرض.. " إلخ مثل ما في رواية أبي أسامة، وهو مما لم يحفظ في رواية يزيد بن هارون كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.(7/316)
فصنيع أحمد هذا لم يرضه الحافظ؛ بحجة أنه ليس في الخبر تسميته عبد الله؛ إلا أنه استدرك على نفسه فقال:
"لكن أخرجه الطبراني من طريق حماد بن سلمة عن الجريري فسماه عبد الله ".
وأقول: ساق لفظ الطبراني الهيثميُّ في "المجمع " (9/88- 89) ، فقال:
"عن عبد الله بن حوالة قال: أتيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. " الحديث مثل رواية أحمد من طريق إسماعيل، ثم قال:
"رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح ".
قلت: وكذلك سماه ابن أبي عاصم (1294) من طريق حماد بن سلمة عن الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عبد الله بن حوالة قال:
"أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بجنب دوحة ... " الحديث بتمامه مثل رواية أحمد عن إسماعيل- وهو ابن علية-. فثبت بذلك صواب ما صنع الإمام، وأن راوي الحديث بهذا التمام هو عبد الله بن حوالة الصحابي المشهور، فمن الغريب قول الحافظ:
"وهو أشهر من زائدة راوي هذا الخبر، فلعل بعض رواته سماه عبد الله ظنَّاً منه أنه ابن حوالة المشهور، فسماه عبد الله، والصواب زائدة أو مزيدة، على الشك ".
فأقول: بل الصواب أنه عبد الله بن حوالة، وذلك لسببين:
الأول: اتفاق إسماعيل ابن عُليَّة، وحماد بن سلمة عليه: عن الجريري.
والآخر: أن الذي سماه زائدة تردد في تسميته بين زائدة ومزيدة كما سبق.(7/317)
والتردد دليل عدم الضبط والحفظ، ومن المعلوم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ. والله أعلم.
هذا؛ ولحديث الترجمة شاهد من حديث ابن عمر قال:
ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنة؛ فمر رجل فقال:
"يُقتل فيها هذا المقنَّع يومئذ مظلوماً ".
قال: فنظرت، فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
أخرجه الترمذي (9/296/3708) ، وأحمد (2/115) من طريق سنان بن هارون عن كليب بن وائل عن ابن عمر قال ... فذكره، وقال الترمذي:
"حديث حسن غريب ".
وأقول: هو كما قال؛ بل أعلى بما قبله، وسنان بن هارون صدوق فيه لين؛ كما في "التقريب ". وقد أقر الحافظ ابن كثير في "البداية " (7/208) الترمذيَّ على تحسينه إياه. *
3119- (لَتَخْرُجَنَّ فتنةٌ من تحتِ قدمَيْ ـ أو بين رجلَيْ - هذا، (يعني: عثمان رضي الله عنه) ، هذا يومئذٍ ومن اتبعهُ على الهُدى) .
أخرجه أحمد (4/236) ، وابن أبي عاصم (2/591/1295) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (20/316/753) ، و"مسند الشاميين " (2/394) من طرق عن معاوية عن سُليم بن عامر عن جُبَيْر بن نُفَيْرٍ قال:
كنا معسكِرِين مع معاوية بعد قتل عثمان رضي الله عنه، فقام كعب بن مرة(7/318)
البهزي فقال: لولا شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قمت هذا المقام، فلما سمع [معاوية] بذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجلس الناس، فقال:
بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ مر عثمان بن عفان عليه مُرَجَّلاً [مُغدِفاُ] ، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره، قال: فقام ابن حوالة الأزدي من عند المنبر، فقال: إنك لصاحب هذا؟ قال: نعم، قال: والله! إني لحاضر ذلك المجلس، ولو علمت أن لي في الجيش مُصَدِّقاً؛ كنت أول متكلم به. والزيادتان للطبراني، واليه وحده عزاه الهيثمي في "المجمع " (9/89) وقال:
" ورجاله وُثِّقوا "!
قلت: واسناد أحمد صحيح على شرط مسلم، ومعاوية: هو ابن صالح الحمصي، قال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق له أوهام ".
وله طريق ثان، يرويه وُهيب بن خالد: ثنا أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث قال:
قامت خطباء بـ (إيلياء) في إمارة معاوية رضي الله عنه؛ فتكلموا، وكان آخر من تكلم مُرَّةُ بن كعب، فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قمت ... فذكره مختصراً، وفيه:
"فمر رجل مُقنْع، فقال: "هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى"، فقلت: هذا يا رسول الله- وأقبلت بوجهه إليه-؟ فقال: "هذا". فإذا هو عثمان رضي الله عنه ".(7/319)
أخرجه أحمد أيضاً، والحاكم (3/102) وقال:
"صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
وتابعه عبد الوهاب الثقفي: حدثنا أيوب به.
أخرجه الترمذي (3705) وقال:
"حديث حسن صحيح ".
وخالفهما إسماعيل بن إبراهيم: ثنا أيوب عن أبي قلابة قال:
لما قُتل عثمان رضي الله عنه قام خطباء بـ (إيلياء) .. إلخ، لم يذكر في إسناده أبا الأشعث.
أخرجه أحمد (4/235) ، وابن أبي شيبة (12/41/12075) .
ورجاله ثقات أيضاً، وإسماعيل هذا هو ابن عُلَيَّة، لكن الموصول أصح، لاتفاق ثقتين عليه.
وله شاهد يرويه محمد بن سيرين عن كعب بن عُجرة قال:
ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنة فقرَّبها، فمر رجل مقَنْغٌ رأسَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا يومئذ على الهدى" فوثبت، فأخذت بضَبْعَيْ عثمان، ثم استقبلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: هذا؟ قال: هذا".
أخرجه ابن ماجه (1/41/111) ، وابن أبي شيبة (12/41/12074) ، وعنه ابن أبي عاصم (1297) ، وأحمد (4/242 و 243) من طريقين عنه.
ورجاله ثقات، فالسند صحيح إن كان محمد بن سيرين سمع من كعب بن عُجرة؛ فقد ذكروا أن أبا حاتم قال: لم يسمع منه، مع أن سنَّه يمكنه من السماع(7/320)
منه فإنه ولد سنة (33) ، ومات كعب بعد الخمسين. فالله أعلم.
ثم وجدت للحديث طريقاً أخرى من طريق أبي سلمة سليمان بن سُليم عن ابن جابر قال:
اجتمع الناس ببيت المقدس، قد همُّوا أن يبايعوا معاوية بيعة على ما اجتمعت عليه الأمة، وفيهم عبد الله بن حوالة وكعب بن مرة، فقام عبد الله بن حوالة فقال ... فذكر الحديث نحو رواية جبير بن نفير، إلا أنه جعل الخطيب الأول ابن حوالة كما ترى، وكعباً الخطيب الآخر.
أخرجه ابن أبي عاصم (1293) .
ورجاله ثقات؛ إلا أنه منقطع؛ لأن ابن جابر- وهو يحيى الطائي الحمصي- تابع تابعي؛ لم يدرك أحداً من الصحابة. *
3120- (إذا تغوَّط الرَّجُلانِ، فليَتَوارَ كلَّ واحدٍ منهما عن صاحبِهِ، ولا يتحدَّثان على طوفِهِما، فإن الله يَمقُتُ على ذلك) .
قال أبو علي بن السكن: حدثني يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا الحسن ابن أحمد بن أبي شعيب الحراني: حدثنا مسكين بن بكير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
كذا في "الوهم والإيهام " (2/142/2) لابن القطان، وقال:
"قال ابن السكن: رواه عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأرجو أن يكونا صحيحين ".(7/321)
وقال ابن القطان عقبه:
"وليس فيه تصحيح حديث أبي سعيد الذي فَرغْنَا من تعليله، وإنما يعني أن القولين عن يحيى بن أبي كثير صحيحان، وصدق في ذلك؛ صح عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر، وأنه قال: عن عياض أو [هلال بن عياض، عن أبي سعيد الخدري. ولا يمكن أن يصحح ابن السكن حديث أبي سعيد] (1) أصلاً، ولو فعل، كان [ذلك خطأ من القول، وإنما يصح من حديث جابر] (1) ، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ثقة، وقد صح سماعه من جابر، وقد بينا ذلك فيما تقدم، ومسكين بن بكير أبو عبد الرحمن الحذاء لا بأس به؛ قاله ابن معين، وهذا اللفظ هو منه مؤنَس بين ذلك بنفسه، وبين أنه إذا قال في رجل: لا بأس به، فهو عنده ثقة، (2) وكذا قال فيه أبو حاتم.
والحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم: صدوق لا بأس به.
وسائر من في الإسناد لا يسأل عنه، وعن يحيى بن أبي كثير".
قلت: وخلاصة تحقيق ابن القطان هذا أن الحديث من هذه الطريق جيد، وهو ما صرح به قبل أن يسوق إسناده، وبعد أن تكلم طويلاً على طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض- وفي رواية: عياض بن أبي زهير- عن أبي سعيد، وأعله بالاضطراب في إسناده ومتنه، وجهالة عياض هذا، ومن أجل ذلك كنت أوردته في "ضعيف أبي داود" برقم (3) ، وبسطتُ القول فيه
_________
(1) في "الأصل " المخطوط بياضٌ، ثم استدركناه من مطبوعته (5/260) حيث استدركه محققه- جزاه الله خيراً-.
(2) انظر "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل " لأبي الحسنات اللكنوي (ص 100) .(7/322)
في اضطراب إسناده؛ وجهالة راويه عياض، ومن ذلك أنه روي عن عكرمة عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
والآن وقد أوقفنا ابن القطان- جزاه الله خيراً- على هذا السند الجيد من غير طريق عكرمة بن عمار، فقد وجب نقله من "ضعيف أبي داود"، إلى "صحيح أبي داود" ومن "ضعيف الجامع " إلى "صحيح الجامع "، و"ضعيف الترغيب " إلى "صحيح الترغيب "، و"ضعيف ابن ماجه " إلى "صحيح ابن ماجه "، ولفظه ولفظ أبي داود وغيرهما من طريق عكرمة نحو حديث الترجمة.
ثم وجدته في "تاريخ بغداد" (12/122) من طريق عبد الملك بن الصباح: حدثنا الأوزاعي عن يحيى، وعكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال ابن عياض عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً بلفظ:
"إذا تغوط الرجلان.. " الحديث.
ثم وجدت له طريقاً أخرى عن أبي سعيد، لكن فيها متهم بالوضع فلا يُفرح بها، أذكرها للعلم: أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك " من طريق محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي قال: ثنا إدريس بن علي الرازي قال: ثنا يحيى ابن الضُّرَيْس قال: ثنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد ... رفعه مثله. وقال الدارقطني:
"لا يصح عن عطاء، ولا عن زيد، ولا عن مالك، والمتهم بوضعه محمد بن يوسف، وكان يضع الأحاديث ".
ذكره الحافظ في ترجمة ابن يوسف هذا من "اللسان ".
وله شاهد من حديث خلاد بن السائب الجُهَني عن أبيه مرفوعاً نحوه،(7/323)
سيأتي الكلام عليه تحت الحديث (3316) ، وبه يزداد الحديث قوة على قوة. *
3121- (مَنْ مَرَّ بحائطٍ فلْيأكُلْ ولا يحْمِلْ) .
أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد في "مسائل أبي داود عنه " (ص 304) من طريق يحيى بن سُلَيْم عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي عليه السلام قال ... فذكره. وقال الترمذي:
"حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم ".
قلت: وبه أعله الإمام أحمد، كما أشار إلى ذلك أبو داود بقوله:
"ذكرت لأحمد حديث يحيى بن سليم.. فانتهرني؛ استضعافاً للحديث ".
قلت: لكني وجدت له شاهداً من حديث ابن عمرو، فقال ابن أبي شيبة في "المصنف " (6/85/356) : نا وكيع عن هشام بن سعد عن عمرو بن شعيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره بالحرف الواحد.
وهذا معضل، ولكنه قد جاء موصولاً، فقال الإمام أحمد في "المسند" (2/224) : ثنا حماد بن خالد: ثنا هشام بن سعد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يدخل الحائط؟ قال:
"يأكل غير متخذ خبنة".
وهذا إسناد متصل حسن.
وتابعه محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب به نحوه.(7/324)
أخرجه ابن أبي شيبة (6/82/347) ، وأحمد (2/180) .
وتابعه محمد بن عجلان به، ولفظه:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلق؟ فقال:
"من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خُبْنَةً؛ فلا شيء عليه ".
أخرجه جمع منهم الترمذي (1289) وقال:
"هذا حديث حسن ".
وله شاهد موقوف، يرويه مجاهد عن أبي عياض قال: قال عمر:
"إذا مررت ببستان فكل ولا تتخذ خبنة".
أخرجه ابن أبي شيبة (6/83/350) ، والبيهقي (9/359) من طريقين عن منصور عن مجاهد به.
قلت: وهذا إسناد صحيح كما قال البيهقي. وقال:
"وهو عندنا محمول على حال الضرورة. والله أعلم ".
قلت: وهذا معناه أو لازمه: أنه لا يجوز أن يدخل الحائط أو البستان إلا للضرورة، ومن الأدلة روايات عديدة ساقها البيهقي، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -:
".. وإذا أتيت على حائط بستان؛ فنادِ صاحب البستان ثلاث مرات، فإن أجابك، وإلا؛ فكل، غير أن لا تفسد، وفي رواية: ولا يحملن ".
وإسناده جيد، وهو مخرج في "الإرواء" (2521) .
ثم إن أثر عمر: رواه عبد الرزاق (10/223/18918) بسند آخر منقطع. *(7/325)
3122- (لا تأكل متَّكِئاً، ولا على غِرْبَالٍ، ولا تتخِذَنَّ مِنَ المسجدِ مُصلىً لا تصلِّي إلا فيهِ، ولا تَخَطَّ رِقابَ الناسِ يومَ الجُمُعَةِ؛ فيجعلَكَ الله لُهمْ جسراً يوم القيامة) .
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (13/391) قال: أنا أبو الحسن بن رزقويه: نا أبو العباس عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن حماد العسكري- إملاءً- في سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة: نا أيوب بن سليمان الصُّغْدي: نا أبو اليمان: نا أرطاة بن المنذر عن عبد الله بن رُزَيْق الألهاني عن عمرو بن الأسود العَنْسي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. وقال:
"قال الخطيب: كذا سماه ونسبه أبو اليمان؛ ووهم في ذلك، والصواب أنه رُزَيقٌ أبو عبد الله، كذلك ذكره أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر، وأبو عبد الله البخاري، وأبو حاتم الرازي ".
قلت: وكذا ابن حبان في كتابيه: "الثقات " (4/239) ، و"الضعفاء" (1/301) ، وذلك من تناقضه! والأول هو الأقرب؛ لقول ابن أبي حاتم (1/2/505) :
"سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: حمصي لا بأس به ".
ولذلك قال الذهبي في "المغني ":
"صدوق، قال ابن حبان: لا يحتج به ".
وفي "الميزان " جمع بين قول ابن حبان هذا وقول أبي زرعة، وفاته أنه في "ثقات ابن حبان ". وقال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق له أوهام ".(7/326)
قلت: فهو حسن الحديث- إن شاء الله تعالى-.
وسائر رجال الإسناد كلهم ثقات من رجال "التهذيب "؛ سوى مَن دون أبي اليمان، فهم مترجمون في "تاريخ بغداد":
1- أما أيوب بن سليمان الصُّغْدي؛ بضم الصاد المهملة وسكون الغين المعجمة؛ كما في "أنساب السمعاني "، و"الإكمال " (5/201) لابن ماكولا، ولم يترجما له بشيء، لكن الخطيب ترجمه (7/11) برواية جمع من الثقات منهم العسكري هذا، ثم قال:
"وكان ثقة، مات سنة (274) ".
2- وأما ابن حماد العسكري، فهو من تلامذة أبي داود، ومن شيوخ الإمام الدارقطني وغيره من الثقات، ترجمه الخطيب (1/33- 34) ، وروى عن الدارقطني أنه وثقه. مات سنة (341) .
3- وأما ابن رزقويه- واسمه محمد بن أحمد بن محمد؛ يعرف بابن رزقويه-؛ قال الخطيب (1/351) :
"كان ثقة صدوقاً، كثير السماع والكتابة، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، مديماً لتلاوة القرآن، شديداً على أهل البدع، وسمعت أبا بكر البّرْقاني يسأل عنه؟ فقال: ثقة. توفي سنة (412) ".
قلت: فإسناد الحديث حسن- إن شاء الله تعالى-.
والحديث ذكره ابن حبان في كتابه الثاني: "الضعفاء" من طريق أرطاة معلقاً، ثم قال:
"أخبرناه ابن جُوصا بدمشق ".(7/327)
قلت: كذا وقع فيه؛ لم يسق إسناده من ابن جوصا إلى ابن المنذر، فإن بينهما مفاوز، فلا أدري إذا كان السقط من الناسخ أو الطابع، أو هو اختصار من المؤلف؟! فألقي في البال احتمال أن يكون ابن جوصا هو الراوي للحديث عن أبي اليمان؛ لأن ابن جوصا من شيوخ الطبراني، وقد أخرج هذا طرفاً منه عن شيخ آخر له عن أبي اليمان، فقال في "معجمه الأوسط " (1/3/33- بترقيمي) : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة قال: نا أبو اليمان.. بإسناد الصغدي مختصراً بلفظ:
"لا تأكل متكئاً، ولا تخط رقاب الناس يوم الجمعة".
وقال الطبراني:
"لا يُروى عن أبي الدرداء إلا بهذا الإسناد، تفرد به أرطاة".
ثم استبعدت الاحتمال المذكور حينما علمت من "سير أعلام الذهبي " (15/15) أن ابن جوصا ولد في حدود الثلاثين ومئتين، فلم يدرك أبا اليمان؛ لأنه مات سنة (222) ، فلا بد- إذن- من أن يكون بينهما واسطة كما ذكرت أولاً، فيحتمل أن يكون الصغدي أو غيره؛ والله أعلم.
والحديث أورده الهيثمي من رواية الطبراني في موضعين من "مجمع الزوائد"، ففي الموضع الأول ذكره بتمامه بالفقرتين كما تقدم، وقال (2/179) :
"وفيه عبد الله بن زريق (كذا، وإنما هو رزيق) ، قال الأزدي: لا يصح حديثه ".
وفي الموضع الآخر، أورد منه الفقرة الأولى، وقال (5/24) :
"رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله ثقات ".(7/328)
قلت: ويبدو لي أنه بدا له أن "عبد الله بن رزيق " خطأ، وأن صوابه "رزيق أبو عبد الله " كما تقدم عن الخطيب، وأنه وثقه ابن حبان، فاعتمده كعادته، والله أعلم.
وقد سبق تخريج هذا الطرف من الحديث والكلام عليه تحت الحديث (2394) من هذا الكتاب.
هذا؛ ولأكثر فقرات الحديث شواهد تؤكد ثبوته:
أولاً: الاتكاء، قال محمد بن عبيد الله بن أبي مليكة عن ابن أبي إهاب [عن أبيه] قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو:
نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نأكل متكئين.
أخرجه البزار (3/331/2870- كشف الأستار) ؛ وسقط منه ما بين المعكوفتين، واستدركته من "مجمع الزوائد " (5/24) ، وقال:
"رواه البزار من رواية محمد بن عبيد الله بن أبي مليكة، ولم أعرف محمداً هذا، وبقية رجاله ثقات ".
كذا قال! ومحمد هذا أورده ابن أبي حاتم في كتابه (4/1/3) ، وروى عن ابن معين أنه قال:
"ضعيف ".
واعتمده الذهبي في "الميزان " فقال:
"ضعفه ابن معين، مُقِلٌّ ".
ووافقه الحافظ في "اللسان ".
وأورده الذهبيُّ- كذلك- في "محمد بن عبد الله " مُكَبِّراً، وقال:(7/329)
"لا يُعرف، وضعفه يحيى بن معين ".
وأقرَّه الحافظ أيضاً.
وابن أبي إهاب لم أعرفه.
وقد يشهد له حديث أبي جُحَيْفة مرفوعاً بلفظ:
" إني لا آكل متكئاً ".
وفي رواية:
"لا آكل وأنا متكئ ".
أخرجه البخاري (5398 و 5399) وغيره.
وفي لفظ آخر:
"أما أنا؛ فلا آكل متكئاً ".
رواه الترمذي- وصححه-، والبيهقي، وهو مخرج في " الإرواء " (7/27/1966) .
وإنما قلت: قد يشهد له؛ لأنه ليس صريحاً في النهي، ولذلك قال بعضهم: إن ذلك من الخصائص النبوية، وترجم له البخاري بقوله:
"باب الأكل متكئاً ".
فقال الحافظ في "شرحه " (9/541) :
"أي: ما حكمه؟ وإنما لم يجزم به؛ لأنه لم يأت فيه نهي صريح ".
كذا قال! ويَرِدُ عليه حديث الترجمة، ولا يقال: لعله لم يذكره؛ لأنه لم يصح عنده! قلت: هذا خلاف عادته؛ فإنه لو استحضره؛ لذكره وبين ضعفه كما هي عادته الغالبة.(7/330)
ثانياً: اتخاذ المصلى في المسجد، وهو استيطان المكان، فيشهد له حديث عبد الرحمن بن شبْل مرفوعاً بلفظ:
"نهى عن نَقْرَةِ الغراب، وافتراش السَّبُعِ، وأن يوطِّن الرجل المكان في المسجد كما يوطِّن البعير".
أخرجه أصحاب "السنن " إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والذهبي، وقد مضى تخريجه برقم (1168) .
ثالثاً: التخطي يوم الجمعة، شاهده حديث معاذ بن أنس مرفوعاً:
"من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة؛ اتُّخِذ جسراً إلى جهنم ".
أخرجه الترمذي وغيره، وقد تكلمت عليه في التعليق على "المشكاة" (1/438/1392) بما يقتضي تضعيفه، فبهذا الشاهد يرتقى إلى درجة الحسن- إن شاء الله تعالى-.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قد أورد حديث أبي إهاب في "الإصابة"؛ وقال في أبي إهاب:
"ذكره جعفر المستغفري في الصحابة، وقال: إنه روي عنه حديث.... " فذكره. *
3123- (من فطرة الإسلام: الغُسْلُ يومَ الجمعة، والاستنانُ، وأخذ الشارب، وإعفاءُ اللِّحى؛ فإنَّ المجوس تُعْفي شَوَارِبَها، وتُحفي لِحاها، فَخالِفُوهم: خُذُوا شواربَكم، وأعفُوا لحاكُم) .
أخرجه ابن حبان (560- الموارد) من طريق ابن أبي أويس: حدثني أخي(7/331)
- يعني: عبد الحميد- عن سليمان بن بلال عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد؛ ابن أبي مريم، روى عنه جمع من الثقات غير سليمان بن بلال، ذكرهم ابن أبي حاتم (7/306/1660) ، وروى عن يحيى القطان أنه قال:
"لم يكن به بأس ". وعن أبيه قال:
"شيخ مديني صالح الحديث ".
وذكره ابن حبان في "الثقات " (7/419) .
ومن دونه ثقات من رجال الشيخين؛ على ضعف في حفظ ابن أبي أويس، واسمه إسماعيل بن عبد الله.
والحديث أخرجه البخاري في ترجمة ابن أبي مريم من "التاريخ " فقال (1/139/419) : قال لي إسماعيل بن أبي أويس بإسناده بلفظ:
" المجوس تعفي شواربها، وتحفي لحاها؛ فخالفوهم، فجزوا شواربكم، وأعفوا لحاكم ". *
3124- (لا تُشَدِّدوا على أنفسكم؛ فإنّما هلك من قبلَكم بتشدِيدِهم على أنفسهم، وستَجِدُونَ بقاياهُم في الصوامع والدِّياراتِ) !.
أخرجه البخاري في "التاريخ " (2/2/97) : وقال لنا عبد الله بن صالح: حدثني أبو شُريح: سمع سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيفٍ عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.(7/332)
ومن هذا الوجه: أخرجه ابن قانع في ترجمة سهل من "المعجم "، والطبراني في "المعجم الكبير" (6/88/5551) و"الأوسط " (1/174/2/3230) ، والبيهقي في "شعب الإيمان " (3/401/3884) .
قلت: وهذا إسناد جيد بما بعده، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير عبد الله بن صالح، فهو من شيوخ البخاري كما ترى، وذكر غير واحد أنه روى عنه في "صحيحه "، كالمنذري في آخر "الترغيب " (4/286) ، والذهبي في "الكاشف "، وقال في " المغني ":
"والصحيح أن البخاري روى عنه في الصحيح ".
وقال تبعاً للمنذري:
"صالح الحديث، له مناكير".
وقال الحافظ في "التقريب ".
"صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة".
ورمز له بأن البخاري روى له تعليقاً، وذكر في "تهذيبه " تبعاً لأصله، أن البخاري استشهد به في "الصحيح "؛ لكنه في "مقدمة الفتح " (ص 414- 415) تتبع الأحاديث التي رواها البخاري عنه بصيغة: حدثنا، أو: قال لي، أو قال- المجردة- من تسعة مواضع من "الصحيح "، فتبين أن أكثرها متابعة أو استشهاداً، والقليل منها احتجاجاً. والله أعلم.
ولكنه قال بعد أن ساق أقوال الأئمة فيه ما بين جارح وموثِّق:
"قلت: ظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن حديثه في الأول كان مستقيماً، ثم طرأ(7/333)
عليه فيه تخليط، فمقتضى ذلك؛ أن ما يجيء من روايته عن أهل الحذق كيحيى ابن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم-؛ فهو من صحيح حديثه، وما يجيء من رواية الشيوخ عنه؛ فيتوقف فيه "؛ والله أعلم.
وأبو شريح: اسمه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني، ثقة محتج به في "الصحيحين "، وقد خالفه إسناداً ومتناً: سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء؛ فقال: عن سهل بن أبي أمامة أنه حدثه عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ... فذكر الحديث نحوه، وزاد:
" (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) ، ثم غَدَوْا من الغد، فقالوا: نركب فننظر ونعتبر ... " الحديث بطوله، وقد أوردته في الكتاب الآخر (3468) من أجل هذه الزيادة وتفرَّد سعيد بها؛ ولم يوثقه غير ابن حبان.
والحديث أورده الهيثمي في "المجمع "، وقال (1/62) :
"رواه الطبراني في "الأوسط "، و"الكبير"، وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وثقه جماعة وضعفه آخرون ".
قلت: وله شاهدان مرسلان:
أحدهما: عن أبي قلابة مرفوعاً بلفظ:
"إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شدِّدوا على أنفسهم؛ فشدِّد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ".
أخرجه ابن جرير في " التفسير" (7/7) ، والمروزي في "زوائد الزهد" (365/1031) وغيرهما من طريقين عن أيوب عنه.(7/334)
قلت: فهو مرسل صحيح الإسناد، وفيه قصة، وهو في "غاية المرام " (140/207) .
والآخر: عن قتادة مرفوعاً نحوه.
أخرجه ابن جرير قال: حدثنا بشر بن معاذ قال: ثنا جامع بن حماد قال: ثنا يزيد بن زريع عن سعيد عنه.
وهذا إسناد رجاله ثقات من رجال "التهذيب "؛ غير جامع بن حماد، فلم أعرفه، وانظر ما قاله العلامة شاكر في تعليقه عليه في حاشية "التفسير" (10/516) .
واعلم أنني كنت قد أخرجت الحديث في الكتاب الآخر من رواية سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء المطوَّلة، وفيها تلك الزيادة التي أشرت إليها آنفاً من رواية أبي داود وأبي يعلى، وبيّنت الفرق بين متنيهما وتفرَّد ابن أبي العمياء بها، وضعفت إسناده في "تخريج المشكاة" (1/64) بابن أبي العمياء هذا، وذكرت أن الحافظ أشار إلى أنه ليّن.
وكذلك فعلت في "غاية المرام " (140/207) ، لكني ذكرت له فيه شاهداً من مرسل أبي قلابة، ثم قلت:
"فلعله حسن بهذا الشاهد. والله أعلم ".
فتعقبني الشيخ عبد الله الدويش- رحمه الله- في "تنبيه القاري " (27/29) بقوله:
"قلت: وهذا هو الصواب ". ولم يزد!(7/335)
ولست أدري- والله - ما الذي حمله على الجزم بذلك؟! وهو لم يأت بما يؤكده إلا المعارضة! ولكني- والحمد لله- قد وفقني الله عز وجل، فجئت بهذه المتابعة القوية من عبد الرحمن بن شُريح الإسكندراني لابن أبي العمياء على الطرف الأول من الحديث، مع مخالفته إياه في إسناده، وبذلك اطمئنت النفس لتقوية هذا القدر من الحديث، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ويشبه صنيعَ الدويش هذا: ما فعله الشيخ نسيب الرفاعي في "مختصر تفسير ابن كثير"، والدكتور إسماعيل منصور مؤلف الكتاب العجيب الذي أسماه: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب "!! الذي خالف فيه سبيل المؤمنين، وادعى فيه ادعاءات باطلة نسبها إلى الصحابة وغيرهم، وجهالات عجيبة حديثية وفقهية وغيرها، مما لا مجال لذكر شيء منها هنا إلا ما يتعلق بهذا الحديث؛ فإن ابن كثير - رحمه الله- عزا الحديث لأبي يعلى بسنده عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء بسنده المتقدم عن أنس، وفيه تلك الزيادة: (رهبانية ابتدعوها) ، كما تقدم، وسكت ابن كثير عنه اكتفاءً منه بذكره بإسناده؛ لينظر فيه من أراد التثبت من صحته أو ضعفه، ولجهل الدكتور بذلك توهم أن الحديث صحيح! ولذلك؛ استجاز ذكره دون تخريج أو بيان لحال إسناده؛ بل عقب عليه بقوله:
"وهو مما نقله الحافظ ابن كثير بسنده (كذا) إلى عبد الرحمن بن أبي العمياء"!
كذا قال- هداه الله-! وكل من كان له ولو أدنى مشاركة في هذا العلم يعلم أن هذا التعقيب لا يفيد شيئاً، وفيه عديد من الأوهام:
أولاً: أن نقل الحافظ ابن كثير أو غيره للحديث لا يفيد شيئاً من تصحيح أو تضعيف.(7/336)
ثانياً: قوله: "بسنده " كذب وجهل بالغ؛ فإن هذا إنما يصح فيما لو أن ابن كثير ساق إسناده بالحديث قائلاً: حدثني فلان قال: حدثني فلان إلخ! وهو لم يصنع ذلك، ولا هو من عادته، وإنما عزاه لأبي يعلى قائلاً: "وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا ... إلخ "، فكان عليه أن يقول- لو كان عنده علم-: "عزاه الحافظ ابن كثير لأبي يعلى بسنده.. " أو نحوه.
ثالثاً: عبد الرحمن بن أبي العمياء ليس له علاقة برواية الحديث، وإنما هو ابنه سعيد كما تقدم.
رابعاً: سعيد هذا لين الحديث كما سبق، فما هي الحكمة من ذكر الدكتور إياه دون أن يبين لقرائه أهو صحابي الحديث؟! كما هي العادة المتبعة عند العلماء؛ فإنهم إذا ذكروا الحديث نسبوه إلى صحابيه وليس إلى أحد رواته الذين دونه! وإن ذكروا مثله؛ فإنما يفعلون ذلك لبيان حاله في الرواية، والدكتور لم يفعل ذلك فما هو السر إذن في ذكره إياه دون الصحابي؟!!
خامساً: جهله بأن الحديث في "سنن أبي داود"، و"تاريخ البخاري " تقليداً منه لابن كثير، وهذا إنما عزاه لأبي يعلى؛ لأنه عنده مطوَّل دون أبي داود والبخاري.
وأما الشيخ الرفاعي؛ فاغتر- كعادته- بسكوت ابن كثير عليه لما سبق ذكره، فظن أنه صحيح، فأورده في "مختصره " (3/315) زاعماً صحته- هدانا الله وإياه-! ثم توفي الشيخ، فنسأل الله أن يرحمه ويغفر له. *
3125- (كانَ يكرهُ أنْ يُؤْخَذَ مِنْ رأْسِ الطعامِ) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/297/754) من طريق إبراهيم بن(7/337)
المنذر الحِزامي: ثنا مَعْنُ بن عيسى: ثنا فائد مولى عبادل (1) عن مولاه عبيد الله بن علي بن أبي رافع عن جدته سلمى قالت ... فذكرته.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال البخاري؛ غير فائد هذا، وهو ثقة؛ وثقه ابن معين وغيره، وقال الحافظ في "التقريب ":
" صدوق ".
والحديث؛ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/27) :
"رواه الطبراني، ورجاله ثقات ".
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - النهي عن أن يأكل من أعلى الصّحْفة من حديث ابن عباس وعبد الله بن بسر، وهما مخرجان في "الإرواء" (7/38- 39) .
3126- (الإيمانُ يَمانٍ، هكذا إلى لَخْمٍ وجُذامٍ) .
أخرجه أحمد (3/224) ، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (3/150) : ثنا علي بن عياش: ثنا محمد بن مهاجر عن عروة بن رُوَيْمٍ قال:
أقبل أنس بن مالك إلى معاوية بن أبي سفيان- وهو بدمشق- فدخل عليه، فقال له معاوية: حدثني بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بينك وبينه أحد، قال: قال أنس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره.
وأخرجه الطبراني في "مسند الشاميين " (1/297) من طريق علي بن عياش به.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال "الصحيح "؛ غير عروة بن رويم،
_________
(1) الأصل: "عباد"! والتصحيح من كتب الرجال. *(7/338)
وهو ثقة من أهل الأردن، قال ابن عساكر (11/554) :
"قدم الجابية، وسمع بها أنس بن مالك يحدث الخليفة".
كأنه يشير إلى هذا الحديث. وقد علقه البخاري في "التاريخ " (3/1/87) ، وعنه ابن عساكر (9/189) ، فقال:
"وقال محمد بن مهاجر: عن عروة بن رويم عن أبي خالد الحرشي عن أنس ... ".
فأدخل بين عروة وأنس أبا خالد الحرشي، ولم أعرفه.
وقد وصله الدولابي في ترجمته من "الكنى" (1/163) من طريق أبي توبة الربيع بن نافع قال: حدثنا محمد بن مهاجر به.
قلت: ولم يسمه الدولابي، ولم يورده الذهبي في "المقتنى" مطلقاً، والله أعلم.
ثم رواه ابن عساكر- في ترجمة عروة- بسند ضعيف عن عروة عن أنس به مثل رواية أحمد، لكنه جعل مكان معاوية عبد الملك بن مروان، وفيه التصريح بحضور عروة في ذاك المجلس.
ثم علقه البخاري وابن عساكر من طريق عبد الله بن راشد: سمع عروة بن رويم عن أنس به.
وابن راشد هذا وثقه أبو مسهر، وابن حبان (7/35) .
ثم علقاه من طريق سليمان بن عبد الرحمن: حدثني عبد الكريم بن محمد اللخمي: حدثنا عروة بن رويم: سمعت أنساً- رضي الله عنه- ...
وهذا وصله أبو نعيم في "أخبار أصبهان " (1/156) ، وابن عساكر (10/434) .(7/339)
وعبد الكريم بن محمد اللخمي؛ ترجمه البخاري في "التاريخ " وابن حبان في كتابه "الثقات " (7/131) ، وابن عساكر أيضاً برواية سليمان بن عبد الرحمن هذا فقط، فهو مجهول.
وبالجملة؛ فالحديث صحيح فإن أكثر الطرق لا تُثْبت الواسطة بين عروة بن رويم وأنس، ولا سيما أن السند الأول صحيح، وقد قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/55) :
"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح؛ خلا عروة بن رويم، وهو ثقة ".
ثم وقفت على خلاف آخر في هذه الطريق، فقال الطبراني في "المعجم الكبير" (22/342/857) ، و"مسند الشاميين " (1/299/522) : حدثنا أحمد ابن خُلَيْدٍ الحلبي: ثنا أبو توبة الربيع بن نافع: ثنا محمد بن مهاجر عن عروة بن رويم عن أبي كبشة الأنماري قال:
خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة من مغازيه، فنزل منزلاً، فأتيناه فيه، فرفع يديه وقال ... فذكره.
قلت: وهذا صحيح أيضاً، رجاله ثقات من رجال "التهذيب "؛ غير أحمد بن خليد، وهو الكندي، روى عنه جمع من الحفاظ، وقال الذهبي في ترجمته من "السير" (13/489) :
"ما علمت به بأساً ".
وقوله: "عن أبي كبشة الأنماري "؛ إن كان قد حفظه، فلا يضر في إسناده؛ لأنه انتقال من صحابي إلى صحابي، والله أعلم.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(7/340)
"الإيمان يمان إلى هنا- وأشار بيده حذو جذام-؛ صلوات الله على جذام ".
وهذا مرسل، رجاله ثقات، وعزاه السيوطي في "الجامع الكبير" للشيرازي عن أبي هريرة مرفوعاً، وزاد: "يقاتلون الكفار على رؤوس الشَّعَف، ينصرون الله ورسوله ".
ولم أقف إلى الآن على إسناده، وقد أشار السمعاني في مادة (الجذامي) إلى ضعفه.
وللحديث شاهد صحيح في أول الحديث التالي.
والشطر الأول منه متفق عليه من حديث أبي هريرة، وله عندهما تتمة، وهو مخرج في "الروض النضير" (1045) .
ثم رأيته في " تاريخ دمشق " (6/298) من مرسل رَوْح بن زِنْبَاع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"الإيمان يمان حتى جبال جذام، وبارك الله في جذام ". *
3127- (خيرُ الرِّجالِ رِجالُ أهْلِ اليمنِ، والإيمانُ يمانٍ إلى لَخْمٍ وجُذَامٍ وعاملةَ، ومأكولُ حِميرَ خيرٌ من آكلِها، وحَضْرَموتُ خيرٌ من بني الحارث، وقبيلةٌ خيرٌ من قبيلةٍ، وقبيلةٌ شرٌّ من قبيلةٍ، واللهِ! ما أبالي أن يَهْلِكَ الحارثانِ كلاهُما، لعنَ الله الملوكَ الأربعةَ: جَمدَاءَ، ومِخْوَسَاءَ، ومِشْرَحَاء، وأبْضَعَةَ، وأُخْتَهُم العمَرَّدَةَ.
ثُمَّ قَالَ:
أمَرَني ربِّي عز وجل أن ألعنَ قريشاً مرّتين، فلعنتُهم، فأمرني أن(7/341)
أُصلّيَ عليهم؛ فصلَيتُ عليهم مرتين. ثم قال:
"عصيَّةُ عصتِ الله ورسولَه؛ غير قيْسٍ وجعْدَة وَعُصَيَّةَ (1) .
ثم قال:
لأسْلمُ، وغِفَارُ، ومزينةُ، وأخلاطُهم من جُهَيْنَةَ: خَيْرٌ من بني أسدٍ وتميم وغَطَفَانَ وهَوَازِنَ عندَ الله عزّ وجلّ يوم القيامة.
ثم قال:
شرُّ قبيلتين في العرب: نَجْرَان وَبنُو تَغْلِب، وأكثرُ القبائل في الجنة مَذحجُ ومَأكُولٌ) .
أخرجه الإمام أحمد (4/ 387) والسياق له، والحاكم (4/81) من طريق عبد الرحمن بن عائذ الأزدي عن عمرو بن عَبَسَة السُّلَمِيِّ قال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض يوماً خيلاً، وعنده عُيَيْنَةُ بن حِصْن بن بدر الفَزَاري، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أفرس بالخيل منك "، فقال عُيَيْنَةُ وأنا أفرس بالرجال منك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وكيف ذاك؟ "، قال: خير الرجال رجال يحملون سيوفهم على عواتقهم، جاعلين رماحهم على مناسج خيولهم، لابسو البرود من أهل نجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"كذبت، بل خير الرجال رجال أهل اليمن.. " الحديث.
وقال الحاكم:
"غريب المتن، صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
_________
(1) كذا الأصل، وكذا في"المجمع"برواية أحمد، وفي" المستدرك ": "وعصمة ".(7/342)
وأخرج النسائي في "السنن الكبرى" (5/92/8351) الجملة الأخيرة منه، دون قوله: " ومأكول ... ".
ثم رواه أحمد من طريق يزيد بن يزيد بن جابر، عن رجل، عن عمرو بن عبسة قال " فذكره مختصراً، وفيه:
"وما أبالي أن يهلك الحيان كلاهما، فلا قيل ولا مُلْكَ إلا لله عز وجل ... ".
وقال الهيثمي عقبه (10/43) :
"رواه أحمد متصلاً، مرسلاً والطبراني، وسمى الثاني: بسر بن عبيد الله. ورجال الجميع ثقات ".
وله شاهد نحو الرواية الأولى مختصراً: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (20/98/192) من طريق عبد الرزاق: أخبرني ثور بن يزيد عن
خالد بن معدان عن معاذ بن جبل ... فذكره نحوه.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات؛ إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ، كما قال الهيثمي (1) .
3128- (دعْهُم [يا عُمرُ!] ؛ فإنَّهم بنو أَرفدةَ) .
أخرجه النسائي (1/236) ، وابن حبان في "صحيحه " (7/548/5846- الإحسان) ، وأبو جعفر الطحاوي في "مشكل الآثار" (1/117) ، وأحمد (2/540) من طرق عن الأوزاعي: حدثني ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال:
_________
(1) وقد سبق تخريج الشيخ لهذا الحديث في المجلد السادس من هذه "السلسلة" (2606) ، ولا يخلو كلاهما من فائدة. *(7/343)
دخل عمر بن الخطاب والحبشة يلعبون في المسجد؛ فزجرهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره، والسياق للطحاوي، وليس عنده [يا عمر] .
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وأصله عندهما من طريق معمر عن الزهري به نحوه، ولفظه:
بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحرابهم؛ إذ دخل عمر بن الخطاب، فأهوى إلى الحصباء يَحْصِبُهم بها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"دعهم يا عمر! ".
أخرجه البخاري (6/92/2901) ، ومسلم (3/23) ، وابن حبان (7/544/5837) ، والبيهقي في "السنن " (10/17) ، وأحمد (2/ 308) ، والبغوي في "شرح السنة" (4/323/1112) كلهم من طريق عبد الرزاق: ثنا معمر به.
(تنبيه) : وقع للمعلق على " مشكل الآثار" (1/268- طبع مؤسسة الرسالة) في هذا الحديث أوهام ثلاثة:
الأول: أنه قال في إسناد الطحاوي: "صحيح على شرط البخاري "! وهذا غير صحيح؛ لأنه عند الطحاوي هكذا: حدثنا سليمان بن شعيب الكَيْسَاني: حدثنا بشر بن بكر: حدثني الأوزاعي ... إلخ.
فالكيساني هذا ليس من شيوخ البخاري، ولا من شيوخ غيره من بقية الستة، وإنما هو من طبقتهم، نعم، هو ثقة؛ وثقه العقيلي، كما في "اللسان " (3/96) ، والسمعاني في "أنسابه "؛ فالحق أن يقال: إسناده صحيح، فقط.
الثاني: أنه عزاه للشيخين والبغوي، وليس عندهم: "فإنهم بنو أرفدة"، كما سبق.(7/344)
الثالث: أنه قرن معهم النسائي، وعنده الزيادة المذكورة كما عرفت! وهي عند أبي عوانة في "صحيحه " أيضاً، كما أفاده الحافظ في "الفتح " (2/444) . *
3129- (آخرُ مَن يدخلُ الجنةَ رجلٌ؛ فهو يمشي مرة، ويكبو مرةً، وتسفعُهُ النارُ مرةً، فإذا ما جاوزَها التفتَ إليها فقال: تباركَ الذي نجاني منكِ، لقدْ أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فتُرفعُ لهُ شجرةٌ، فيقولُ: أيْ ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، فلأستظلَّ بظلِّها، وأشربَ من مائها، فيقولُ الله عزّ وجلّ: يا ابن أدم! لعلِّي إن أعطيتُكَها سألتني غيرها؟ فيقولُ: لا يا ربِّ! ويعاهدُه أن لا يسألَه غيرها، وربُّه يعذِرُه؛ لأنَّه يرى ما لا صبْرَ لَهُ عليه، فيدنيهِ منها، فيستَظلُّ بظلِّها، ويشربُ من مائها.
ثم ترفعُ له شجرةً هي أحسن من الأولى، فيقولُ: أيْ ربِّ! أدنني من هذه لأشربَ من مائها، وأستظلَّ بظلِّها، لا أسأَلُكَ غيرها، فيقولُ: يا ابن آدم! ألم تعاهدْني أن لا تسألنِي غيرها؟ فيقول: لعلِّي إن أدنيتُك منها تسألُني غيرها؟ فيعاهدهُ أن لا يسألَه غيرَها، وربُّه يعذرُه؛ لأنَّه يرى ما لا صَبْرَ له عليه، فيدنيهِ منها، فيستظلُّ بظلِّها، ويشربُ من مائها.
ثم ترفعُ له شجرةٌ عند باب الجنة هي أحسن من الأولَيَيْنِ، فيقولُ: أيْ ربِّ! أدنني من هذه لأستظلَّ بظلِّها، وأشربَ من مائها، لا أسألُكَ غيرها! فيقولُ: يا ابن آدمَ! ألمْ تعاهدني أن لا تسألَني غيرها؟ قال:(7/345)
بلى يا ربِّ! هذه لا أسألُك غيرها، وربُّه يعذرُه؛ لأنه يرى ما لا صَبْرَ له عليها، فيدنيه منها.
فيسمعُ أصوات أهل الجنة فيقولُ: أيْ ربِّ! أدخِلنِيها، فيقول: أيِ ابنَ أدمَ! ما يَصْرِيني منكَ؟ أيرضيك أن أعطيكَ الدنيا ومثلَها معَها؟ قال: يا ربِّ! أتستهزئ مني وأنت ربُّ العالمين؟
فضحكَ ابنُ مسعودٍ، فقالَ: ألا تسألوني ممَ أضحكُ؟ فقالوا: ممَ تضحكُ؟ قال:
من ضَحِكِ ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنتَ ربُّ العالمين؟ فيقول:
إني لا أستهزئُ منكَ، ولكنِّي على ما أشاء قادر. - وفي رواية: قدير-) (1) .
أخرجه مسلم (1/119- 120) ، وأبو عوانة (1/142- 144) ، وابن حبان (9/260/7387) ، وأحمد (1/391- 392 و410- 411) ، والآجري في "الشريعة" (ص 282- 283) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (10/10/9775) - والرواية الأخرى لهؤلاء الثلاثة، والسياق لمسلم- من طرق عن حماد بن سلمة: حدثنا ثابت عن أنس عن ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
وأخرجه الشيخان وغيرهما من طريق أخرى عن ابن مسعود مختصراً جداً، وهو مخرج في "مختصر الشمائل " (رقم 197) .
_________
(1) تقدم تخريج هذا الحديث برقم (2605) بزيادة في مصادر التخريج، وهو هنا بزيادة في الشرح والتفصيل.(7/346)
(فائدة) : قوله: "ولكني على ما أشاء قادر- أو قدير- ": فيه دليل على جواز استعمال هذه الكلمة: "إن الله تعالى على ما يشاء قدير"، وقد كنت توقفت عنها حين علقت على قول الطحاوي في "العقيدة" (ص 20) : "ذلك بأنه على كل شيء قدير" كلمة للشيخ ابن مانع- رحمه الله- أن ذلك ليس بصواب، وأن الصواب ما في الكتاب والسنة (وهو على كل شيء قدير) لعموم مشيئة الله وقدرته.. إلخ كلامه. ثم وقفت بعد ذلك على هذه الكلمة في هذا الحديث في "صحيح مسلم "، فخشيت- متأثراً بكلام الشيخ- أن تكون شاذة في الحديث؛ أو خطأ من بعض الرواة، فتريَّثت حتى يتسنى لي تخريجه والنظر في إسناده ورواته.
ثم كنت في ليلة من ليالي غرة شهر ذي الحجة في بعض مخيمات عمّان ألقي كلمة حول وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح؛ ووجوب قرن ذلك بالعمل، وبعد الفراغ منها فتحنا باب الأسئلة، فسأل أحد إخواننا الحاضرين- ويبدو أنه على شيء من العلم والثقافة- عن هذه الكلمة، مشيراً إلى تعليقي المذكور على "العقيدة الطحاوية "، وذكر- جزاه الله خيراً- بقوله تعالى: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) [الشورى/29] ، فأجبته بأن الحديث بحاجة إلى تخريج وتحقيق، مشيراً إلى أنه من الممكن أن يكون أصل الكلمة: "وأنا على كل شيء قدير" أو نحوها، فبادرت إلى تخريج الحديث، فوجدت أن الرواة عن حماد بن سلمة اتفقوا على اللفظ المتقدم.
ثم تابعت البحث والتحقيق فوجدت للحديث طريقاً أخرى عن ابن مسعود، يرويه يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني: ثنا المنهال بن عمرو عن أبي عُبيدة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً مطولاً جداً؛ لكن بلفظ:
"ولكني على ذلك قادر".(7/347)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (9/416 - 421) ، والحاكم (2/376- 377 و 4/589- 592) وقال في الموضع الأول:
"صحيح على شرط الشيخين "! ووافقه الذهبي!
وقال في الموضع الآخر:
"رواة هذا الحديث- عن آخرهم- ثقات؛ غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في "الصحيحين "؛ لما ذكر من انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأمّا الأئمة المستقدمون؛ فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث صحيح ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة".
كذا قال! وما عرفت من شهد له بالإتقان، أما الصدق؛ فنعم، وفي حفظه ضعف كما يأتي، وأما الذهبي؛ فتعقبه هنا بقوله:
"ما أنكره حديثاً على جودة إسناده، وأبو خالد شيعي منحرف "!
وأقول: لم أر من رماه بالتشيع، فلعله التبس عليه بغيره، ثم هو مختلف فيه، فقال الذهبي نفسه في "الكاشف ":
"وثقة أبو حاتم، وقال ابن عدي: في حديثه لين ".
وقال في " المغني ":
"مشهور، حسن الحديث، قال أحمد: لا بأس به، وقال ابن حبان: فاحِشُ الوهم، لا يجوز الاحتجاج به ".
ولذلك قال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق يخطئ كثيراً، وكان يدلس ".(7/348)
قلت: وجزم الهيثمي بتوثيقه؛ كما يأتي، وهو من تساهله، وإن كان مسبوقاً إليه، ولكن لا ينبغي غض النظر عن الجرح المفسر، الذي تضمنه كلام ابن حبان وغيره، فيتقى من حديثه ما يخشى أن يكون وهم فيه، أو ينتقى من حديثه ما سلم من خطئه، كما هو الواقع هنا؛ فقد توبع عليه، فقال زيد بن أبي أنيسة: عن المنهال بن عمرو به مطولاً أيضاً، وباللفظ المذكور في رواية الدالاني.
أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (2/520- 524- دار ابن القيم) ، والطبراني أيضاً عنه وعن حافظين آخرين ثلاثتهم، والبيهقي في "البعث " (239/479) ، كلهم عن إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحرَّاني: ثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة به.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم؛ غير إسماعيل ابن عُبَيد الحراني، وهو ثقة كما قال الذهبي في "الكاشف "، والحافظ في " التقريب "؛ وزاد: " يغرب ".
وقال المنذري في "الترغيب " (4/198 و 248) :
"رواه ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق أحدها صحيح، والحاكم وقال: صحيح الإسناد".
وقال ابن القيم في "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " (2/94- طبعة الكردي) :
"هذا حديث كبير حسن.. ".
وأما الهيثمي فقال (10/343) :
"رواه كله الطبرانى من طرق رجال أحدها رجال الصحيح؛ غير أبي خالد الدالاني؛ وهو ثقة "!(7/349)
كذا قال: وفيه شيئان:
أحدهما: جزمه بتوثيق الدالاني، وقد عرفت ما فيه.
والآخر: أنه فاته أن الطريق الأخرى من رواية الحرانيين أصح من طريق الدالاني كما تبين لك مما ذكرنا، وهي التي جزم بصحتها المنذري، وحسنها ابن القيم، ولا أدري لِمَ لَمْ يصححها؟ على أنه أخرجها الطبراني أيضاً عقب روايته عن الدالاني.
وقد خالفهم في إسناد الطريقين: أبو طيبة فقال: عن كُرْز بن وبرة عن نُعَيْمٍ ابن أبي هند عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود به مطولاً بلفظ:
" يقوم الناس لرب العالمين أربعين سنة، شاخصة أبصارهم ". الحديث، وفيه اللفظ الثاني الذي في طريق الدالاني والحراني.
أخرجه السهمي في "تاريخ جرجان " (350- 354) بطوله، والطبراني (9764) عقب حديث ابن أبي أنيسة، ولم يسق منه إلا طرفاً من أوله، وكذا ابن عدي في "الكامل " (5/258) في ترجمة أبي طيبة- واسمه عيسى بن سليمان الجرجاني- وقال الطبراني عقبه:
"ثم ذكر نحو حديث زيد بن أبي أنيسة".
قلت: وأبو طيبة هذا قال ابن عدي- وقد ساق له هذا الحديث مع أحاديث أخرى-:
"وهذه الأحاديث كلها غير محفوظة، وأبو طيبة رجل صالح، ولا أظن أنه كان يتعمد الكذب، ولكن لعله كان يُشَبْهُ عليه فيغلط ".(7/350)
قلت: وذكره ابن حبان في "الثقات " (7/234) وقال:
"يخطئ ".
ومن الظاهر أنه هو الذي خالف في هذا الإسناد، فأسقط- من بين ابن مسعود وأبي عبيدة- مسروقاً؛ فإن رجاله ثقات غير كرز بن وبرة، وقد روى عنه جمع من الثقات، وقد ذكره ابن حبان فيهم، وقد تناقض فيه تناقضاً عجيباً، فأورده في "التابعين " (5/338) بروايته عن أنس! وما إخاله يصح، ثم ذكره (9/27) فيمن روى عن "أتباع التابعين "؛ بروايته عن الثوري (1) ! ولعل الصواب أن يذكر في "أتباع التابعين "؛ لأنه روى عن نعيم بن أبي هند كما في هذه الرواية، وكما في "الجرح"، وقال (3/2/170) :
"روى عنه الثوري وابن شبرمة وعبيد الله الوَصَّافي وفُضَيل بن غزوان وورقاء ابن عمر".
فإن هؤلاء أكثرهم من أتباع التابعين، غير ابن شبرمة- واسمه- عبد الله؛ فإنه تابعي كنعيم بن أبي هند، وعبيد الله الوصافي- وهو ابن الوليد-؛ فإنه من الرواة عن التابعين، فمن المحتمل أن يكون كُرْز هذا من صغار التابعين، وكان مشهوراً بالعبادة، بل وبالمبالغة فيها، وحكوا عنه في ذلك عجائب، له ترجمة واسعة في "تاريخ جرجان " (ص 336- 344) ، و"الحلية " (5/79- 83) ، و"سير أعلام النبلاء" (6/84- 86) ، ولقد عجبت منه- والله! وهو المحدث السلفي- كيف سكت عن بعض تلك المبالغات؟! مثل ختمه للقرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات، وهو يعلم أنه خلاف السنة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) كذا وقع فيه، والصواب أن الثوري روى عنه؛ كما يأتي عن "الجرح والتعديل ".(7/351)
"لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث " (1) .
بل إنه سكت عما هو أدهى وأمرُّ، وهو أنه سأل ربَّه أن يعطيه الاسم الأعظم، فسأل أن يقوى على الختم المذكور! وهذا من الاعتداء في الدعاء المنهي عنه أيضاً في قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"سيكون قوم يعتدون في الدعاء".
وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (1330) .
وجملة القول؛ أن هذه الجملة قد اختلف في ضبطها عن ابن مسعود رضي الله عنه على اللفظين السابقين:
الأول: "ولكني على ما أشاء قادر".
والآخر: "ولكني على ذلك قادر".
واللفظ الأول أصح إسناداً كما هو ظاهر.
لكن الآخر- مع صحة إسناده- مطابق لنص الآية تمام المطابقة: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) . لأن المعنى: إذا يشاء ذلك الجمع، قال العلامة الآلوسي في "روح المعا ني ":
"و (إذا) متعلقة بما قبلها لا بـ (قدير) ؛ لأن المقيّد بالمشيئة جمعُه تعالى، لا قدرته سبحانه ".
قلت: وعلى ضوء تفسيره للآية، نقول: إن اسم الإشارة في الحديث:
_________
(1) أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح عن ابن عمرو، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (1257) ؛ وانظر "صفة الصلاة".(7/352)
"ذلك " يعود إلى ما أعطى الله عز وجل عبده من النعم الكثيرة التي لا يستحقها؛ فضلاً منه تعالى عليه، فلما قال ما قال مستكثراً ذلك عليه؛ قال تعالى: "ولكني على ذلك قادر"، فإذا فُسِّرَ بهذا اللفظ الأول أيضاً ولم يوقف عند ما فيه من مفهوم المخالفة، المشعر بأنه تعالى غير قادر على ما لا يشاء؛ على حد قوله تعالى: (لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة) ونحوه من المفاهيم التي قامت الأدلة القاطعة على أنها غير مرادة، إذا فسر هذا اللفظ الأول بهذا الذي دل عليه اللفظ الثاني؛ استقام المعنى، ولم يثق أي إشكال إن شاء الله تعالى.
هذا ما عندي من علم، فإن أصبت؛ فمن الله، وإن أخطأت، فمني، وأستغفره تعالى من كل ذنب لي، ومن كان عنده فضل علم؛ فليتفضل به شاكرين له.
ثم وقفت بعد زمن من تحرير هذا التخريج على من ينكر صحة الحديث من جهة ما فيه من إثبات صفة الضحك لرب العالمين بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
".. من ضَحِكِ رب العالمين ".
وأعني به ذاك الجهمي الجاحد المعطل، فقد قال- فُضَّ فوه- في تعليقه على "دفع الشبه " (ص 178) مشيراً إلى إنكاره هذه الصفة:
"وهي عندنا (!) لا تثبت؛ لأن راويها حماد بن سلمة ضعفه مشهور؛ وإن كان من رجال مسلم.. ".
فأقول: مجال الكلام في الرد عليه واسع جداً لا سبيل إليه الآن، فحسبي منه ما يأتي؛ مما يؤكد تجهمه وعداءه لأئمة السنة وكذبه عليهم!
أولاً: قوله في حماد- رحمه الله-! "ضعفه مشهور"؛ كذب وزور، لم يسبقه(7/353)
إليه أحد من المسلمين! فخذ ما شئت من كتب الرجال، فلن تجد فيها هذا التضعيف المطلق فضلاً عن أن يكون مقروناً بأنه مشهور!! غاية ما قيل فيه: إنه يخطئ! وهل هناك من لا يخطئ غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
ومع ذلك؛ فحماد موصوف بالضبط والإتقان فيما يرويه عن بعض التابعين؛ ومنهم ثابت البناني راوي هذا الحديث عند مسلم وغيره كما رأيت، وقد قال الإمام أحمد في "العلل " (1/263 و 2/222) :
"حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت البناني ".
وكذا قال ابن المديني وغيره.
وهو أن القارئ الكريم راجع ترجمته في المطوَّلات من كتب الرجال والتاريخ؛ لرأى العجب العجاب من الثناء عليه والرفع من شأنه، وحسبك في ذلك قول إمام المؤرخين- الذي لا يحابي ولا يداري- الحافظ الذهبي، فقد أورده في "تذكرة الحفاظ "، وفي "أعلام النبلاء"، ووصفه بالحافظ الإمام القدوة شيخ الإسلام، ثم قال:
"قلت: كان بحراً من بحور العلم، وله أوهام في سعة ما روى؛ وهو صدوق حجة.. وكان مع إمامته في الحديث إماماً كبيراً في العربية، فقيهاً فصيحاً، رأساً في السنة.. ".
وقال ابن حبان في " الثقات " (6/216) :
"لم يكن من أقرانه مثله في البصرة في الفضل والدين والعلم، والنسك، والصلابة في السنة، والقمع لأهل البدعة، ولم يكن يَثْلُبُه في أيامه إلا قدري أو مبتدع جهمي، لما كان يظهر من السنن الصحيحة التي ينكرها المعتزلة".(7/354)
قلت: سبحان الله اما أشبه اليوم بالبارحة، فها هو الجهمي المبتدع- بل الجاحد- يثلبه من جديد ويطعن فيه تقليداً منه للكوثري والغماري وأمثالهما من المتجهمة للسبب نفسه الذي ذكره ابن حبان- رحمه الله-، لذلك؛ تجده قد نصب نفسه- مثلهما- لرميه بما لا يصح، حتى ضعف به هذا الحديث الصحيح المتلقى من الأمة بالقبول، حتى من ابن الجوزي في "الدفع " الذي فتح له باب التجهم؛ فإنه لعلمه بثقة حماد لم يَسَعْهُ إلا التسليم به، ولكنه فسره بالمجاز الذي يؤدي بهم إلى أن يفسروا وجود ذاته تعالى بالمجاز أيضاً؛ لأن للمخلوقات وجوداً أيضاً، فإذا قالوا: لا ينسب الضحك إلى الله لأن الضحك من صفة الإنسان؛ فلينفوا إذن وجوده تعالى؛ لأن الإنسان موجود أيضاً! فسيقولون: وجوده تعالى ليس كوجودنا.. فنقول: قولوا إذن في كل صفة لله ثبتت في الكتاب أو السنة: إنها ليست كصفتنا؛ تستريحوا وتهتدوا (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) ؛ فله سمع ولكن ليس كسمعنا، وبصر ليس كبصرنا.. ويضحك ولكن ليس كضحكنا؛ فإنه يقال في الصفات كلها ما يقال في الذات إثباتاً وتنزيهاً.
فهذا الحق ما به من خفاءٍ فدعني عن بُنَيَّات الطريق
ثم إن الواقع يشهد أن كل جهمي جاحد إنما هو من الذين قال الله فيهم: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) ذلك؛ لأنهم يحاولون تضعيف أحاديث الصفات بكل وسيلة غير مشروعة، كما فعل هذا الجاحد بهذا الحديث، فضعف إماماً من أئمة المسلمين بزور ادعاه عليه، ثم لم يعبأ بمن تابعه من الثقات كما تقدم، ولا بورود هذه الصفة في أحاديث أخرى في "الصحيحين " وغيرهما، بحيث يقطع الواقف عليها بثبوت نسبتها إلى الله تعالى. وكذلك يفعل بكل أحاديث الصفات(7/355)
الأخرى جحداً لها- بتضعيفها-، أو تعطيلاً لها- بتأويلها- كما فعل بآيات الصفات كالمجيء والفوقية والاستواء؛ تقليداً منه للكوثري وأمثاله من الجهمية، عاملهم الله بما يستحقون! *
3130- (إذا ذبحَ أحدُكم؛ فليُجْهِزْ) .
أخرجه أحمد (2/108) : حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا ابن لهيعة عن عُقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بحدِّ الشِّفار، وأن توارى عن البهائم، وإذا ذبح ... الحديث.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل " (4/148) ، ومن طريقه: البيهقي في "شعب الإيمان " (7/483/11074) من طريق أخرى عن قتيبة بن سعيد به، إلا أنه قال: "ثنا عقيل.. "، فَصرح ابن لهيعة بالتحديث عندهما. ذكره ابن عدي في جملة أحاديث ساقها في ترجمة ابن لهيعة من (ص 144- 154) ، وكذلك ذكره الذهبي في "الميزان "، وقال ابن عدي في آخر الترجمة:
"وحديثه حسن، وهو ممن يكتب حديثه ".
قلت: والذي استقر عليه رأي المحققين أن حديثه حسن في الشواهد؛ إلا ما كان من رواية العبادلة، ومنهم عبد الله بن وهب، فهو صحيح كما نص على ذلك بعض الأئمة.
ثم تبين لي أن من قبيل رواية العبادلة رواية قتيبة بن سعيد عنه، فقد قال الإمام أحمد له:
"أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح ".(7/356)
وقد سبق بيان سبب ذلك تحت الحديث (2843) .
وعلى هذا؛ فالسند صحيح، وقد صححه أيضاً الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" (8/169) ، لكن ذلك منه على خطته التي جرى عليها في توثيق ابن لهيعة وتصحيح أحاديثه، وهو توسع غير محمود عندي!
ثم إن قتيبة قد تابعه أبو الأسود النضر بن عبد الجبار: ثنا ابن لهيعة، عن عقيل به.
أخرجه البيهقي في "السنن " (9/280) عن محمد بن إسحاق عنه. والنضر هذا ثقة، ولذلك قال البيهقي عقبه:
" كذا رواه ابن لهيعة موصولاً جيداً ".
ومحمد بن إسحاق هو الصَّغاني، وهو ثقة ثبت من شيوخ مسلم.
وقد خالفه جعفر بن مسافر فقال: ثنا أبو الأسود: ثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم عن أبيه به.
أخرجه ابن ماجه (3172) .
قلت: وجعفر بن مسافر فيه كلام، قال في "التقريب ":
"صدوق ربما أخطأ".
فمخالفته للصَّغاني لا تؤثر، وخاصة أنه مخالف لقتيبة أيضاً.
وتابعهما محمد بن معاوية النيسابوري: ثنا ابن لهيعة به.
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (12/289/13144) .(7/357)
لكن النيسابوري هذا متهم، قال الحافظ:
"متروك مع معرفته؛ لأنه كان يَتَلَقَّن، وقد أطلق عليه ابن معين الكذب ".
وتابع ابن لهيعة حيوة عن عقيل به.
ذكره ابن أبي حاتم في "العلل " (2/45) من رواية هشام بن عمار عن شعيب ابن إسحاق عن حيوة..
وحيوة هذا؛ هو ابن شريح المصري الثقة.
لكن ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أن الصحيح: عن الزهري عن ابن عمر بلا سالم.
كذا قال! ولم يذكر الحجة في ذلك.
ورواه مروان بن محمد: ثنا ابن لهيعة: حدثني قرة بن حَيْوَئِيلَ عن الزهري عن سالم به.
أخرجه ابن ماجه أيضاً.
وخالف ابن لهيعة: ابن وهب فقال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن المعافري عن ابن شهاب أن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال ... فذكره.
أخرجه البيهقي (9/280) .
وهذا أصح من رواية ابن لهيعة عن قرة، وكأنه لذلك صححها أبو حاتم كما تقدم آنفاً. لكن هذا لا يعل رواية قتيبة عن ابن لهيعة عن عقيل لما تقدم بيانه.
وقد وجدت له متابعاً يرويه؛ الحسين بن سيار: حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سالم عن أبيه به.(7/358)
أخرجه الخطيب في "التاريخ " (8/49) في ترجمة الحسين هذا، وروى عن أبي عروبة الحراني أنه قال فيه:
"كتبنا عنه، ثم اختلط علينا أمره، وظهرت من كتبه أحاديث مناكير، فترك أصحابنا حديثه ".
ولَخَّصَ هذا الذهبيُّ في "الميزان "، فقال:
"قال أبو عروبة وغيره: متروك ".
قال الحافظ عقبه:
"والغير هو الأزدي ".
قلت: فهو- أعني: الحسين- ممن لا يتقوى به.
لكن يشهد للحديث ويزيده قوة قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم؛ فأحسنوا الذبحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته ".
أخرجه مسلم وابن الجارود وابن حبان وأصحاب "السنن " وغيرهم، وهو مخرج في "إرواء الغليل " (7/293) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"أتريد أن تميتها موتاتٍ؟! هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها؟ ".
أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وهو مخرج في " الصحيحة " برقم (24) .(7/359)
(تنبيه) : واعلم أن حديث ابن عمر هذا مما كان نظري اختلف في الحكم عليه على نوبات مختلفة، وعوامل متعددة، فلما خَرَّجتُهُ في "غاية المرام " (ص 40- 41) ضعفته لاضطراب ابن لهيعة في إسناده، كما بينته هناك، وسلفي في تضعيفه: الحافظ المنذري في "ترغيبه " (2/103- 104) ، ولذلك كنت أودعته في "ضعيف الجامع ".
ثم لما صنفت "صحيح الترغيب " لاحظت أن معناه قد جاء في عديد من أحاديث الباب، فما رأيت من المناسب أن ألحقه بـ "ضعيف الترغيب "؛ فأوردته في "صحيح الترغيب " (1/529/1076- مكتبة المعارف) محسِّناً إياه.
ثم هتف إلي أحد الإخوان سائلاً عن هذا الاختلاف؟ فأجبته بنحو ما تقدم، ووعدته بأن أعيد النظر حينما يتيسر لي ذلك.
والآن وقد يسر الله، فقد تبين لي مجدداً صحة إسناده، على ضوء ما كان بدا لي: أن رواية قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة ملحقة في الصحة برواية العبادلة عنه كما تقدم الإشارة إلى موضع بيان ذلك آنفاً. يضاف إلى ذلك تلك الطرق التي لم أكن قد وقفت عليها من قبل، على ما فيها من وهن، فاطمأنت النفس تماماً لصحة الحديث، وعليه قررت نقله من "ضعيف الجامع " إلى "صحيح الجامع "، والحمد لله على توفيقه، وأسأله المزيد من فضله.
أذكر هذا بياناً للحقيقة أولاً، وتبرئة للذمة ثانياً، واعترافاً بعجز الإنسان وضعفه ثالثاً، وأنه كما قال ربنا في كتابه: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) ، وقوله: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) ، ولعل في ذلك عبرة لبعض الناشئين في هذا العلم، الذين يتسرعون في النقد وإصدار الحكم، دون أي جهد(7/360)
أو بحث وتفكر؛ إلا عفو الخاطر! كالشيخ عبد الله الدويش في ما سماه بـ "تنبيه القاري لتقوية ما ضعفه الألباني "؛ فإن غالب الأحاديث التي قواها هي من هذا النوع الذي تبين لي فيما بعد ثبوته، ونصصت على ذلك في بعض مؤلفاتي، فأتى هذا الشيخ وتتبَّع ذلك من مؤلفاتي، ونسب تقويتها إلى نفسه- عفا الله عنا وعنه بمنه وكرمه-، وقلَّما يضيف إلى ذلك فائدة تذكر، ومن ذلك هذا الحديث (ص 131) رقم (201) ؛ فإنه نقل كلامي المذكور في "غاية المرام "، وقد أشرت إليه آنفاً. ثم عقب عليه بقوله:
"أقول: لكن كل جملة من هذا الحديث قد وردت من وجه آخر صحيح، ولذلك حسنه في صحيح الترغيب1: 457 رقم 1083 ".
كذا قال! ولم يزد، فلم ينظر في الاضطراب المذكور في "الغاية" وهل يمكن استخراج طريق منه، يمكن تصحيحه والاعتماد عليه كما فعلت أنا هنا؟! فهذا مما لم يفعله، ولا يفعله إلا نادراً جداً.
وقد تيسر لي المرور على المئة الأولى من أحاديث كتابه المذكور، فوجدت نصفها تقريباً من هذا النوع الذي أخذ قوته من بعض مؤلفاتي دون أن يقرن مع ذلك جهداً له أو فائدة تذكر، ولا بأس من الإشارة إلى أرقامها للفائدة:
(1، 3، 4، 10، 21، 23، 28، 30، 31، 32، 40، 41، 45، 46، 48، 49، 52، 59، 62، 63، 64، 65، 66، 67، 68، 69، 70، 71، 72، 73، 76، 77، 78، 0 8، 81، 83، 85، 86، 87، 88، 90، 91، 92، 93، 95) .
ولقد كان من الواجب على الشيخ- رحمه الله- أن يلتمس لأخيه عذراً؛ ويبين لقرائه سبب تفاوت الحكم من الباحث على الحديث الواحد، وهي كثيرة لا(7/361)
مجال لبيانها هنا، ولكن على الأقل أن يبين ما قد يشترك في فهمه عامة القراء، كالذهول أو النسيان الذي هو طبيعة الإنسان، أو عدم توفر المراجع عنده ولو أحياناً، ليتتبع طرق الحديث فيها، أو عدم نشاطه للبحث، أو ظهور مراجع جديدة لم تكن مطبوعة أو مصورة مبذولة من قبل، أو اختلاف اجتهاد ورأي باحث عن غيره، هنا يظهر الفرق والاختلاف في الحكم، وهذا أمر طبيعي جدّاً، فعلى الإنسان أن لا يكون إمَّعة لأحد، وإنما يجتهد لمعرفة الحق مما اختلفوا فيه حسب الطاقة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وقد تبين لي أن الشيخ الدويش- رحمه الله- لا يتعدى أن يكون أوتي ذاكرة وحفظاً، أما التحقيق والتصحيح فليس هناك، ولعلي سبق أن ذكرت بعض الأمثلة على ذلك فيما سبق، فهو في كثير من الأحيان ينتقدني على تضعيفي لبعض الأحاديث بشواهد يذكرها؛ وتكون شواهد قاصرة غير كاملة للحديث كله، كالأحاديث (2، 42، 44، 52، 55، 75، 82، 89، 94، 98، 100) . فالحديث رقم (2) نصه:
"من قرأ القرآن وعمل بما فيه؛ ألبس والده تاجاً يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا ... " الحديث قوَّاه بشاهد ذكره في آخره:
"ويُكْسى والداه حُلَّتين لا يقوم لهما أهل الدنيا ... "؛ فأين هذا من ذاك، أين الحلتان من التاج؟ !
وتارة يكون الحديث الضعيف في الوقف، فيستشهد له بحديث في الوصية، وشتان ما بينهما عند الفقهاء، وانظر الحديث (16) .
وتارة يغض النظر عن الراوي المضعف لمجرد كونه من رجال "الصحيح "(7/362)
كالحديث (18، 94) ، والأول مخرج في "الضعيفة " (4021) ، والآخر برقم (372) ، فتعقبني بحديثين ضعيفين سيأتي تخريجهما برقم (6235 و 6236) ! *
3131- (قُوما فاغسِلا وجوهَكُما، يعني: عائشة وسودة) .
أخرجه أبو بكر الشافعي في "الفوائد" (ق 18/1) : حدثني إسحاق بن الحسن بن ميمون الحربي: ثنا أبو سلمة: ثنا حماد: ثنا محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن أن عائشة قالت:
أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخزيرة طبختها له، فقلت لسودة والنبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينها، فقلت لها: كلي. فأبت، فقلت: لتأكلِنَّ أو لألطخن وجهك. فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة فطليت بها وجهها! فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع فخذه (!) لها وقال لسودة:
" الطخي وجهها "
فلطخت وجهي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، فمرَّ عمر فنادى: يا عبد الله! يا عبد الله! فظن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيدخل فقال لهما ... (فذكر الحديث) . قالت عائشة: فما زلت أهاب عمر؛ لهيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه.
قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات من رجال "التهذيب "؛ غير إسحاق الحربي هذا، وهو ثقة؛ كما قال إبراهيم الحربي وعبد الله بن أحمد والدارقطني وهو مترجم في "تاريخ بغداد" (6/382) .
وأبو سلمة اسمه موسى بن إسماعيل التبوذكي.
وحماد هو ابن سلمة.(7/363)
ويحيى بن عبد الرحمن هو ابن حاطب المدني، روى عن جمع من الصحابة منهم عائشة، رضي الله عنهم.
ثم رأيت الحديث في "مسند أبي يعلى" (7/449/4476) ، حدثنا إبراهيم: حدثنا حماد به. وفيه: "فوضع بيده لها" مكان ".. فخذه.. " فوضح المراد. والحمد لله.
وإبراهيم هذا هو ابن الحجاج السامي، قال الحافظ:
"ثقة، يهم قليلاً".
وقال الهيثمي في "المجمع " (4/316) :
"رواه أبو يعلى، ورجاله رجال "الصحيح "؛ خلا محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن ". *
3132- (إن المؤمن خُلقَ مُفَتَّناَ توَّاباً نسَّاءً؛ إذا ذُكِّر تذكَّر) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (10/342/10666) ، وابن عدي في "الكامل " (3/91) ، وأبو نعيم في "الحلية" (3/211) من طريق عتبة بن يقظان، عن داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد ضعيف، لكنه ليس شديد الضعف:
داود بن علي، قال الذهبي في "الكاشف ":
"وُثِّق، فصيح مفوَّه بليغ ". وقال الحافظ:(7/364)
"مقبول ".
وعتبة بن يقظان، قال الذهبي:
"وثقة بعضهم، وقال النسائي: غير ثقة".
قلت: له طريقان آخران عن ابن عباس يتقوى بهما:
الأول: يرويه أبو معاذ عن أبي بشر جعفر بن أبي وَحْشِيَّة عن سعيد بن جبير عنه مرفوعاً بلفظ:
"ما من مؤمن إلا وله ذنب يصيبه الفَيْنة بعد الفينة، إن المؤمن نسَّاءً؛ إذا ذُكِّر ذَكَر".
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط " (2/60/2/6011) ، وقال:
"لم يروه عن أبي بشر إلا أبو معاذ، وهو سليمان بن أرقم ".
قلت: قال الحافظ:
"ضعيف ". وقال الذهبي:
" متروك ".
قلت: ويغني عنه الثالث؛ فإنه صحيح: يرويه عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ أتم، وقد تقدم تخريجه برقم (2276) . وقال الهيثمي تحته (10/201) :
"رواه الطبراني في " الكبير" و" الأوسط " باختصار، وأحد أسانيد "الكبير" ثقات، وله السياق ".
يعني طريق عكرمة هذه. *(7/365)
3133- (لا تنتَفِعُوا من الميْتةِ بشيءٍ) .
أخرجه البخاري في "التاريخ " (4/1/167) وابن عساكر (14/370) عنه، وابن حبان في "صحيحه " (2/286/1276) من طريق هشام بن عمار عن صدقة ابن خالد عن يزيد بن أبي مريم عن القاسم بن مُخَيمرَة عن عبد الله بن عُكيم قال: نا مشيخة لنا من جهينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليهم: أن لا ... الحديث.
وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال "الصحيح "، وفي هشام بن عمار كلام معروف مع كونه من شيوخ البخاري، لكنه قد تابعه جمع:
1- محمد بن المبارك: ثنا صدقة بن خالد به.
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/271) و"مشكل الآثار" (4/260- 261) .
2- الحكم بن موسى: ثنا صدقة به.
أخرجه البيهقي في "سننه " (1/25) .
ومحمد بن المبارك ثقة من رجال الشيخين.
والحكم بن موسى ثقة من رجال مسلم.
ثم إن صدقة بن خالد قد تابعه أيوب بن حسان: ثنا يزيد بن أبي مريم به.
أخرجه البيهقي (1/25) .
وأيوب بن حسان صدوق، كما قال الحافظ تبعاً لأبي حاتم، وذكره ابن حبان في "الثقات " (8/127) .(7/366)
قلت: فالسند صحيح لا يُعَلُّ بهشام بن عمار لهذه المتابعات، وقد أعله الطحاوي في "المشكل " دون "معاني الآثار"؛ فقال:
"الأشياخ من جهينة لم يُسَمَّوْا، ولا نعلم أنهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
قلت: وهذا ليس بشيء، لأنهم إن لم يكونوا كلهم من الصحابة- وهذا ما أستبعده-؛ فهم بلا شك من أتباعهم كعبد الله بن عكيم، فقد ذكره ابن حبان في " الصحابة " من كتابه "الثقات " (3/247) ، وقال:
"أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه شيئاً.. "، ثم ذكر حديثه هذا.
وقد ترجمه الخطيب في "التاريخ " (10/3- 4) بسماعه عن جمع من الصحابة، وعنه جمع من التابعين الثقات غير القاسم بن مخيمرة، ثم قال:
"وكان ثقة ".
فأشياخه في الحديث- على فرض أنه ليس فيهم صحابي- هم من التابعين المخضرمين، وأعلى طبقة من ابن عكيم، فإن لم يكونوا ثقات مثله- وهذا مما أستبعده أيضاً-؛ فهم مستورون، ولكنهم جمع تنجبر جهالتهم بكثرتهم، كما قال السخاوي وغيره في غير هذا الحديث؛ فقال- رحمه الله- في حديث رواه عدة من أبناء الصحابة:
"وسنده لا بأس به، ولا يضره جهالة من لم يُسمَّ من أبناء الصحابة؛ فإنهم عدد تنجبر به جهالتهم ".
فراجعه في "غاية المرام " (272/471) .
قلت: وحينئذٍ؛ فالحديث صحيح موصول؛ لأنهم يروون عن كتاب النبي(7/367)
- صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله إليهم، وهم واثقون بأنه كتابه، كما نروي نحن اليوم عن كتب السنة ولم نر مؤلفيها ولا سمعناها منهم، فالحديث إذن داخل في حكم "الوجادة" المذكورة في "علم المصطلح "، وقد تقرر فيه وجوب العمل بها، فراجع لذلك كتاب "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث " للشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى-.
قلت: فإعلال الحديث بالإرسال كما فعل الخطابي وغيره غير وارد إذن! لأنه خلاف هذا المتقرر، والله أعلم.
ولعل هذا الذي ذكرته من الرد لهذا الإعلال هو الذي لحظة المحقق الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه "تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق " حين أورد الحديث فيه (1/278) من رواية البخاري في "تاريخه "، وابن حبان في "صحيحه "، ثم لم يُعِلَّهُ بما أعلّه الطحاوي.
وأما إعلال البعض إياه بالاضطراب؛ فهو بخصوص غير رواية القاسم بن مخيمرة هذه كما هو مشروح في "الإرواء" (1/79) ؛ فتنبه.
وإن مما يزيد الحديث قوة: أن له شاهداً من رواية زَمْعَة بن صالح قال: حدثنا أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول ... فذكره مرفوعاً باللفظ المذكور أعلاه، وفيه قصة.
أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (9/48) بسند صحيح عن أبي نعيم قال: حدثنا زمعة بن صالح به.
قلت: وهذا إسناد صالح للاستشهاد به؛ فقد صرح أبو الزبير بالتحديث، فأمنا بذلك شر تدليسه.(7/368)
وزمعة بن صالح- وإن كان ضعيفاً؛ فإنه- ليس شديد الضعف، كما أشار إلى ذلك الذهبي بقوله في "الكاشف ":
"ضعفه أحمد، وقرنه (م) بآخر".
بل قال في "المغني ":
"صالح الحديث، ضعفه أحمد وأبو حاتم، ووثقة ابن معين ".
واعلم أيها القارئ الكريم! أنني كنت خرجت حديث جابر هذا منذ أكثر من ثلاثين سنة في المجلد الأول من "الضعيفة" برقم (118) من رواية ابن وهب عن زمعة عن أبي الزبير عن جابر معنعناً، وفيه القصة أيضاً، فلما شرعنا في إعادة طبع هذا المجلد، ووصلت في تصحيح تجاربه إلى هذا الحديث؛ تذكرت أنني كنت خرجت في "الإرواء" ما يشبهه، وكان تأليفه بعد "الضعيفة" بنحو خمسة عشر عاماً، فوجدت فيه حديث عبد الله بن عُكيم من طريقين عنه بلفظين، أحدهما بلفظ الترجمة، والآخر مثله إلا أنه قال: ".. بإهاب ولا عصب ". وملت فيه إلى تصحيح إسناده، وصرحت بأن إسناد الأول صحيح، فخشيت أن يكون في هذا التصحيح شيء من الوهم، فأعدت النظر فيه بطريقة أوسع- كما ترى- مما هناك، فتأكدت من صحته، وازددت قناعة به، والحمد لله، وعليه؛ رأيت لزاماً عليّ أن أنبه القراء الأفاضل أن الحديث- بشاهد حديث ابن عكيم- صار صحيحاً لغيره، وأنني نقلته إلى هنا، والله ولي التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم طريق.
وأريد أن أنبه هنا على أمرين اثنين:
الأول: أن المعلق على "شرح السنة" (2/99) قد كان أعل الحديث فيه بالاضطراب متجاهلاً جوابي عنه في "الإرواء" (1/79) . ثم رجع عن ذلك في(7/369)
تعليقه "الإحسان " (4/95- المؤسسة) ؛ فجزم بصحة إسناده من الطريقين عن عبد الله بن عكيم، فأصاب، لكن كان عليه أن ينبه على تراجعه عن إعلاله بالاضطراب؛ لأن ذلك ينافي الجزم المذكور.
على أن بعضهم يقول: إن التعليق على "الإحسان " ليس للمعلق على "الشرح "، وإنما هو لبعض الموظفين عنده! فإذا صح هذا، فهو السبب في عدم التنبيه على الخطأ السابق؛ لأنه من غير المصحِّح في التعليق على "الإحسان ".
والآخر: سبق في تخريج الحديث أنه من رواية القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عكيم، هكذا هو عند البخاري عن هشام، وعند غيره عن غير هشام من المتابعين، ووقع عند ابن حبان: "عن القاسم بن مخيمرة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم "، فزاد بين القاسم وابن عكيم: الحكم وابن أبي ليلى، وأظن أن هذه الزيادة خطأ من بعض النساخ؛ لمخالفتها لرواية البخاري والآخرين، ولأن الذين ترجموا للقاسم والحكم- وهو ابن عتيبة- لم يذكروا له رواية عنه. ويبدو أنه خطأ قديم؛ فقد عزاه الزيلعي "في نصب الراية" (1/120) لابن حبان هكذا! الأمر الذي يبعد عن الذهن أن يكون ذلك من الطابع؛ فإن هذا الخطأ وقع أيضاً في طبعة مؤسسة الرسالة (4/95) وهي أصح بكثير من طبعة دار الكتب العلمية التي نعزو إليها لأنها كاملة، ولا أدري السبب في عدم مسارعة المؤسسة لإتمام طبعتها (1) !
وتنبيه ثالث: وهو أن الحديث- بلفظيه- قد سقط من "زوائد ابن حبان " (ص 61) فليُلحق به، وله أمثلة كثيرة أنا في صدد جمعها- إن شاء الله تعالى-.
هذا؛ ولعل مما يفيد القراء الكرام أن أذكر بأن مثل هذا التصحيح لغيره بعد
_________
(1) تم طبعها الآن كاملة. (الناشر) .(7/370)
ذاك التضعيف لذاته مما يشير حفيظة بعض الجهلة الأغرار، ويعدُّه تناقضاً وجهلاً؛ كذاك المسمى بحسن السقاف، والمنتسب إلى آل البيت الأطهار، والشاطر في قلب الحق باطلاً، والصواب خطأ، وقد نذر نفسه، وجعل دأبه الرد على الألباني، فكم له من رسالة في ذلك، منها ما أظهره أخيراً بعنوان؛ "تناقضات الألباني.. "، وقد كفاني مؤنة الرد عليه والكشف عن زوره وبهتانه، وجهله وضلاله: الأخ الفاضل علي الحلبي في كتابه القيم "الأنوار الكاشفة لـ "تناقضات " الخساف الزائفة وكشف ما فيها من الزيغ والتحريف والمجازفة"؛ فإليها ألفت الأنظار؛ فقد نفع الله بها كثيراً، حتى بعض المغرورين به سابقاً حينما علموا وأنصفوا.
ولكني أريد هنا أن أقول له (قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) :
أولاً: هل أنت معصوم فلا يقع منك خطأ علمي ما؟ فإن أجاب بأنه ليس بمعصوم، وأن الخطأ منه وارد- كما هو الواجب على المؤمن حقّاً- قلت:
ثانياً: فإذا تبين لك الصواب فيما بعد؛ هل ترجع إليه- كما يفعل الألباني- أم تصرُّ عليه؟ فإن أجبت بالإيجاب- كما هو جواب المؤمن- فلماذا تسمي إذن تراجع الألباني إلى الصواب خطأ، بديل أن تشجعه على الرجوع إلى الصواب دائماً وأبداً، وإن كان هو بفضل الله ليس بحاجة إلى تشجيع واحد مثلك؟!!! أليس "تناقضك "! وعدم تراجعك عنه من أكبر الأدلة على أن وراء الأكمة ما وراءها؟! وختاماً أسأل الله تبارك وتعالى أن يهديك إلى أن تتعلم علم الكتاب والسنة معاً وعلى منهج السلف الصالح، حتى ينجو المغرر بهم من ضلالك، وإلا ... فعلى نفسها جنت براقش.
وأما أنا؛ فإني أرجو منه تعالى أن يزيدني توفيقاً في خدمة الحديث والسنة والانتصار لها، وأن يسدد في ذلك خطاي، وأن يجعل ذلك سبباً ليغفر لي خطيئتي يوم الدين.(7/371)
وأما الخلاص من كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وطعن الطاعنين؛ فلا سبيل إليه إلا بالوفاة على الإيمان إن شاء الله تعالى. وما أحسن ما قيل:
ولست بناجٍ من مقالة طاعن ولو كنت في غارٍ على جبل وَعْرِ
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالماً ولو غاب عنهم بين خافِيَتَيْ نَسْرِ *
سبب النهي عن سفر الرجل وحده
3134- (خرجَ رجلٌ من (خيبرَ) ، فاتبَعه رجلان، وآخرُ يتلوهما يقول: ارجعا ارجعا، حتَّى ردَّهما، ثم لحق الأول، فقال:
إنَّ هذينِ شيطانانِ، وإنِّي لمْ أزلْ بهما حتى رددتهما، فإذا أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأَقرئه السلامَ، وأخبره أنَّا ههنا في جمع صدقاتنا، ولو كانت تصلحُ له لبَعَثْنَا بها إليه.
قال: فلمَّا قدمَ الرجلُ المدينةَ أخبرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فعند ذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخَلْوةِ) .
أخرجه الحاكم (2/102) ، وأحمد (1/278 و 299) من طرق عن عبيد الله ابن عمرو الرَّقِّي عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ... فذكره. وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي، وقواه الحافظ في " الفتح " (6/345) بسكوته عنه، وفسر (الخلوة) بقوله:
"أي: السفر وحده " كما يدل عليه السياق. *(7/372)
3135- (ذاك جبريلُ عليه السلامُ، وإنَّ منكم لرِجَالاً لو أنَّ أحدَهم يقسمُ على الله لأبرَّه)
أخرجه البزار في "مسنده " (3/306- 307- الكشف) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (12/11 - 12) و"الأوسط " (1/153/1/2873) ، ومن طريقه: الضياء في "المختارة" (59/212/1- 2) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (7/76) من طرق عن محمد بن عبد الوهاب الحارثي: ثنا يعقوب القَمِّي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأنصار، فلما دنا من منزله سمعه يتكلم في الداخل، فلما أستأذن عليه دخل عليه فلم ير أحداً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
سمعتك تكلم غيرك؟ قال: يا رسول الله! لقد دخلت الداخل اغتماماً بكلام الناس مما بي من الحمى، فدخل علي داخل ما رأيت رجلاً قط بعدك أكرم مجلساً ولا أحسن حديثاً منه، قال ... فذكره. وقال البزار- والطبراني- نحوه:
"لا يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد".
قلت: وهو إسناد حسن؛ الحارثي هذا ترجمه الخطيب في "التاريخ " (2/390 - 391) برواية جمع من الثقات والحفاظ عنه، ثم روى عن الحافظ أبي علي صالح ابن محمد- جزرة- (1) أنه قال: "ثقة ". وذكره ابن حبان في "الثقات " (9/83) برواية الحافظ عبد الله بن محمد البغوي، ثم قال:
"ربما أخطأ".
_________
(1) له ترجمة في "تاريخ بغداد" (8/322- 328) و" تذكرة الحفاظ ". *(7/373)
وقال الهيثمي في "المجمع " (10/41) :
"رواه البزار والطبراني في " الكبير" و"الأوسط "، وأسانيدهم حسنة ".
وهذا تعبير موهم لغير الواقع فقد عرفت من كلام البزار والطبراني أنه ليس له إلا هذا الإسناد، فهو إنما يعني بـ (الأسانيد) : الطرق المشار إليها عن الحارثي؛ فتنبه!
ثم رأيت الحافظ قد سبقني إلى تحسينه، فقال في "مختصر زوائد البزار" (2/377) :
"وإسناده حسن ".
3136- (إنَّ أول شيءٍ خَلَقَهَ الله عزَّ وجلَّ: القلمُ، فأخذَهُ بيمينه- وكلتا يديهِ يمين- قال: فكتبَ الدنيا وما يكونُ فيها من عملٍ معمولٍ: بِرَّ أو فجورٍ، رطب أو يابس، فأحصاهُ عندَه في الذِّكر، ثم قال: اقرَأُوا إن شئتم: (هذا كتابُنا يَنْطِقُ عليكم بالحق إنا كنا نَسْتَنْسِخُ ما كنتم تعملون) ؛ فهل تكون النسخةُ إلا مِنْ أمرٍ قد فُرغَ منه) .
أخرجه الآجري في "الشريعة " (321- 322) قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله ابن صالح البخاري قال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني قال: حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع عن بقية بن الوليد قال: حدثنا أرطاة بن المنذر عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات مترجَمون في "التهذيب "؛ غير أبي محمد البخاري، ترجمه الخطيب (9/481- 482) وروى عن غير واحد من الحفاظ أنه مأمون، ووصفه الذهبي في " السير" (14/243) بـ "الإمام الصدوق ".(7/374)
وبقية بن الوليد قد صرح بالتحديث؛ فأمنا بذلك شر تدليسه.
ثم أخرجه الآجري من طريق أبي أنس مالك بن سليمان الحمصي قال: حدثنا بقية بن الوليد عن أرطاة بن المنذر به.
ومالك بن سليمان هذا، ذكره ابن أبي حاتم بروايته عن بقية؛ ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولكنه قال:
"روى عنه أبو زرعة ".
ومن المعروف عن أبي زرعة أنه لا يروي إلا عن ثقة، والله أعلم.
وللحديث شواهد متفرقة تزيده قوة على قوة:
أولاً: فقرة خلق القلم، فمن شواهده حديث ابن عباس المتقدم برقم (133) ، وحديث عبادة بن الصامت الذي كنت خرجته من طرق عنه في التعليق على "المشكاة" (1/34/94) .
ثانياً: قوله: "وكلتا يديه يمين "، قد جاء في حديث: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين.. ".
رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في "آداب الزفاف " (281) .
وقد رواه أيضاً ابن حبان (1538) ، والآجري، والبيهقي في "الأسماء" (ص 354) من حديث ابن عمرو.
وله شاهد ثان من حديث أبي هريرة مرفوعاً:
"لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس ... " الحديث، وفيه ذكر القبضتين، وقوله تعالى لآدم:(7/375)
"اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة ... ".
وهو مخرج في "الظلال " (91/206) .
وله شاهد من حديث عبد الله بن سلام موقوفاً عليه.
أخرجه الآجري (ص 322) بسند جيد.
وفي القبضتين أحاديث أخرى كنت خرجتها في المجلد الأول برقم (46- 50) . وليس في شيء منها ذكر الشمال؛ إلا في رواية في حديث لابن عمر في طيّ السموات والأرض؛ مذكور في "صحيح الجامع " برواية مسلم وأبي داود عنه، تَفَرَّد بذكره عمر بن حمزة عن سالم عنه. قال البيهقي في "الأسماء" (ص 324) :
"وقد روى هذا الحديث نافع، وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر، ولم يذكر فيه: "الشمال "، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر فيه أحد منهم الشمال. وروي ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة؛ إلا أنه ضعيف بمرة تفرد بأحدهما جعفر بن الزبير، وبالآخر يزيد الرقاشي وهما متروكان، وكيف يصح ذلك والصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى كلتا يديه يميناً؟ ! ".
قلت: معنى كلام البيهقي في ذكر "الشمال " في حديث ابن عمر المشار إليه أنه شاذ لمخالفته الثقات الذين لم يذكروا ذلك؛ لا في حديث ابن عمر، ولا في حديث أبي هريرة وغيره، وهذا الحكم بالشذوذ إنما يصح اصطلاحاً فيما لو كان عمر بن حمزة ثقة عند العلماء، لكن الواقع أنه ضعيف؛ كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر وغيره، ووصفه الإمام أحمد بقوله:
"أحاديثه مناكير".(7/376)
ومن مناكيره حديث: "من أشر الناس.. الرجل يفضي إلى امرأته.. ثم ينشر سرها" الذي كنت تكلمت عليه في مقدمة "آداب الزفاف " الطبعة الجديدة، ورددت فيها على ذاك المصري الجاني الذي نسبني بسبب ذلك إلى مخالفة الإجماع! فهذا مثال آخر يؤكد ضعف عمر بن حمزة، ومخالفته للثقات بشهادة الإمام البيهقي، وعليه؛ فتكون زيادته المذكورة: " الشمال " منكرة، والله سبحانه وتعالى أعلم. *
3137- (كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -:
اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من جارِ السُّوءِ، ومن زوجٍ تشيِّبني قبلَ المشيب، ومن ولد يكونُ عليّ رَبّاً، ومن مال يكونُ عليّ عذاباً، ومن خليلٍ ماكر عينَه تراني، وقلبُه يرعاني؛ إن رأى حسنة دفنها، وإذا رأى سيّئةً أذاعها) .
أخرجه الطبراني في "الدعاء" (3/1425/1339) : حدثنا عبد الله بن أحمد أبن حنبل: ثنا الحسن بن حماد الحضرمي: ثنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم من رجال "التهذيب "، ولولا الخلاف المعروف في ابن عجلان؛ لقلت بصحته.
والحديث أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس " (1/1/183) من طريق أبي بكر بن أبي عاصم: حدثنا الحسن بن سهل: حدثنا أبو خالد الأحمر به مقتصراً على الشطر الثاني منه، بلفظ: "اللهم إني أعوذ بك من خليلٍ ماكرٍ ... " إلخ.(7/377)
والحسن بن سهل هو أبو علي الجُعْفِيُّ الكوفي، أورده ابن حبان في "الثقات " (8/177) بروايته عن أبي خالد الأحمر، وعنه الحسن بن سفيان وغيره، وقد روى عنه أبو زرعة كما في "الجرح "، وهو لا يروي إلا عن ثقة، فهو متابع قوي للحسن ابن حماد الحضرمي.
والقطعة الثانية من الحديث: عزاها في "الجامع " لابن النجار، عن سعيد المَقْبُريِّ- مُرسَلاً-.
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف " (10/450) من طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي قال:
كان داود النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
اللهم إني أعوذ بك من جار عينه تراني، وقلبه يرعاني، إن رأى خيراً دفنه، وإن رأى شراً أشاعه!
ورجاله ثقات، لكنه مقطوع غير مرفوع. *
3138- (يا أسَدُ بْنَ كُرْزٍ! لا تدخلُ الجنةَ بعملٍ، ولكن برحمةِ الله، [قلتُ: ولا أنتَ يا رسول الله؛ قال:] ولا أنا؛ إلا أن يتلافاني الله، أو يتغمدني [الله] منه برحمةٍ) .
أخرجه البخاري في "التاريخ " (1/2/49) والطبراني في "المعجم الكبير" (1/334/1001) من طريقين عن بقية قال: ثني أرطاة بن المنذر السكوني، قال: حدثني مهاصر بن حبيب الزُّبَيدي عن أسد بن كرز قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره؛ والسياق للبخاري، والزيادتان للطبراني.(7/378)
قلت: وهذا إسناد جيد، أسد بن كرز- بالضم- صحابي معروف مترجم في " الإصابة " وغيره.
ومن دونه ثقات مترجَمون في "التهذيب " وغيره، سوى مهاصر بن حبيب الزبيدي، وهو أخو ضمرة بن حبيب الزبيدي الشامي، قال أبو حاتم:
"لا بأس به ".
وذكره ابن حبان في (أتباع التابعين) من "الثقات " (7/525- 526) ، وذكره أيضاً في (التابعين) منه (5/454) ، وقال:
"يروي عن جماعة من الصحابة، وعنه أهل الشام، مات سنة ثمان وعشرين ومئة".
وذكره في هذه الطبقة نفسها (5/427) ، وقد تحرف اسمه على بعض الرواة قديماً وحديثاً أيضاً؛ فقال:
"مهاجر بن حبيب الزبيدي. يروي عن أسد بن كرز، وله صحبة، روى عنه أرطاة بن المنذر، وأخاف أن يكون هو مهاصر بن حبيب الزبيدي ".
قلت: والذي خافه قد وقع حتى في هذا المكان من كتابه، ولم يتنبه له محققه، فعلق عليه بقوله:
"له ذكر في "الإصابة" في ترجمة شيخه أسد بن كرز".
وهناك في "الإصابة" ساق الحافظ حديثنا هذا من رواية البخاري في "تاريخه " والطبراني وابن السكن من طريق أرطاة.. إلخ، فوقع فيه: "مهاجر بن حبيب "! وقال عقبه:(7/379)
"إسناده حسن ".
ومهاجر بن حبيب لا وجود له في كتب التراجم؛ إلا ما تقدم من ابن حبان مع ذكره خوفه أن يكون محرفاً من "مهاصر"، فكذلك تحرف على نساخ "الإصابة "، و"أسد الغابة " (1/85) ، وعلى واضع "فهارس الجرح والتعديل " (ص 561) وغيرهم؛ كالمعلق على "الثقات "؛ فقد وقعت العبارة المتقدمة عنه: "وأخاف أن يكون هو مهاجر.. "، هكذا: "مهاجر"!!
وعلى الصواب وقع في ترجمة أرطاة بن المنذر في "تاريخ ابن عساكر"، و"تهذيب الكمال "، وكذا في "ترتيب ثقات العجلي " للهيثمي (442/1645) وقال:
"شامي تابعي ثقة".
قلت: ولم يذكر الهيثمي في كتابه "ترتيب ثقات ابن حبان " ترجمة "مهاجر.. " المحرفة، فلا أدري أكان ذلك اقتناعاً منه بأنها محرفة فلا يصح إيرادها في الكتاب، أو أنها لم تقع له في نسخته من "الثقات ". والله أعلم.
وقد أشار في "مجمع الزوائد" إلى توثيق المهاصر هذا، فقال عقب حديث الترجمة (10/357) :
"رواه الطبراني، وفيه بقية بن الوليد، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات " -
وأقول: قد صرح بقية في رواية البخاري بالتحديث فأمنَّا بذلك تدليسه، ولذلك حسن الحافظ إسناده، كما تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد تحرف اسم "المهاصر" هذا في حديث آخر، فلا بد من تخريجه: *(7/380)
3139- (مَنْ دَخَلَ سُوقاً من الأسواقِ فقال:
"لا إله إلا الله وحده لا شريكَ لهُ، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلَّ شيءٍ قديرٌ"
كَتَبَ الله له ألفَ ألفِ حسنةٍ، ومحا عنه ألفَ ألفِ سيئةٍ) .
أخرجه الطبراني في "الدعاء" (2/1167/793) : حدثنا عُبَيدُ بن غَنَّام والحضرميُّ قالا: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا أبو خالد الأحمر عن المهاجر بن حبيب قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" (ص 214) : حدثنا أبو بكر به؛ إلا أنه سقط منه ذِكْرُ سالم، وعمر، ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -! وأظن ذلك من الناسخ؛ لأن الطريق واحدة تدور على أبي بكر بن أبي شيبة.
ورجال إسناده ثقات غير المهاجر بن حبيب، وهو محرف، والصواب "مهاصر"، وعلى الصواب وقع في إسناد هذا الحديث عند الدارقطني في "العلل " (2/50) ، وهو ثقة عند ابن حبان والعجلي والهيثمي كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبله، وحسَّن إسناده الحافظ ثمة.
ولذلك؛ فقد أخطأ بعض الناشئين في هذا العلم حين أقدم على تضعيف هذا الحديث من جميع طرقه- وقد بلغت عنده سبعة طرق؛ هذا أحدها- في رسالة صغيرة أصدرها بعنوان "بذل الجهد في تحقيق حديثي السوق والزهد"، يعني تضعيفهما، ولا مجال الآن لمناقشته فيما ذهب إليه من التضعيف، وإنما أقتصر هنا على مناقشته فيما تمسك به في تضعيفه لهذا الحديث بهذا الإسناد، ليتبيَّن القراء(7/381)
أنه مبتدئ في هذا العلم، أو أنه تبنى سلفاً تضعيف الحديث، ثم تشبث بما يظن أنه يؤدي به إلى ضعفه. فأقول:
لقد أعله بثلاث علل:
الأولى: قول أبي حاتم المتقدم في الحديث الذي قبله في (المهاصر) :
"لا بأس به "! فقال المومى إليه: "وهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه عند أبي حاتم، كما في "مقدمة الجرح والتعديل " ... ".
فأقول: نعم، هذا مذهبه فكان ماذا؟! هلا بينت لقرائك ماذا تفهم منه؟! ألم تعلم أنه لا يعني هذا الذي عنيته أنت من تضعيفه، وإنما عنى أنه ليس في المرتبة الأولى في الاحتجاج به؟! فقد قال:
1- "إذا قيل للواحد: إنه ثقة، أو متقن، ثبت؛ فهو ممن يحتج بحديثه ".
2- "وإذا قيل له: إنه صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به؛ فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية".
فهذا صريح في أن من كان في المنزلة الثانية أنه يحتج به، ولكن ليس شأنه شأن من كان في المنزلة الأولى. فهذه مرتبة من كان صحيح الحديث، والثانية مرتبة من كان حسن الحديث. ولذلك حسن الحافظ ابن حجر إسناد حديثه الذي قبل هذا.
وهذا كله يقال إذا فرضنا أنه ليس هناك من وثق المهاصر هذا، وقد عرفت من وثقه.
العلة الثانية والثالثة: قال بعد أن نقل عن "علل الدارقطني " أنه سماه مهاصراً:
"على كل حال فهو قد اضطرب في الحديث سنداً ومتناً. والراوي عنه هو(7/382)
سليمان بن حيان أبو خالد الأحمر؛ فيه ضعف من قبل حفظه ... وفي " التقريب ": صدوق يخطئ ".
فأقول- جواباً عن العلة الثانية-: هكذا أجمل القول في زعم الاضطراب، وكان عليه أن يبينه للناس ولا يكتمه! وهو يعني بالاضطراب سنداً ما نقله (ص 26) عن المزي في "تحفة الأشراف " (8/58) :
"ورواه أبو خالد الأحمر عن المهاجر (كذا) بن حبيب عن سالم عن أبيه عن جده- ورواه غيره عن المهاجر (كذا) فلم يقل: عن جده ".
ثم ذكر رواية عبد الله بن أحمد المتقدمة التي سقط منها ما تقدم بيانه، ومن ذلك؛ رفعُ الحديث.
فأقول: هذا الزعم وحده يكفي للدلالة على أن المدعي لا علم عنده بالقواعد العلمية الحديثية، ذلك؛ لأنه ليس كل اختلاف في السند أو المتن يُعَدُّ علة قادحة عند العلماء، بل يشترط لذلك أن تتساوى وجوه الاضطراب بحيث لا يمكن ترجيح وجه على آخر، وهذا غير متحقق هنا.
أما الإسناد؛ فقد عرفت أن مدار حديث أبي خالد الأحمر على رواية ابن أبي شيبة عنه، وأنه رواه عن عُبَيْد بن غَنَّام والحضرمي- وهما ثقتان وثانيهما من الحفاظ المشهورين- بإثبات الجد الذي هو عمر؛ مرفوعاً.
وخالفهما عبد الله بن أحمد- على فرض سلامة كتاب "الزهد" من السقط-؛ فلم يذكر: "عن جده ".
ولا يخفى على البصير بهذا العلم أن رواية الثقتين أرجح من الثقة الواحد، وهذا إذا فرضنا التضاد بين الروايتين، وليس كذلك؛ لأنه سواء كان الراجح أنه(7/383)
عن ابن عمر عن عمر، أو عن ابن عمر دون عمر؛ لم يضرَّ؛ إذ إن الإسناد مسند على كل حال.
ولا يرجِّحُ رواية عبد الله ما ذكره المزي؛ أنه رواه غير أبي خالد الأحمر عن المهاصر فلم يقل: "عن جده "! وذلك لجهالة الغير المشار إليه. ولو فرضنا أنه ثقة؛ لم يكن الاختلاف علة قادحة؛ لأنه- على الوجهين- مداره على صحابي كما ذكرنا آنفاً.
أما المتن؛ فلم يبينه الناقد مكتفياً بمجرد الدعوى! وليس هناك اختلاف ظاهر؛ إلا إن كان يريد أن في آخر رواية عبد الله زيادة ليست في رواية الطبراني عن الثقتين، وهي: "وحط عنه ألف ألف خطيئة".
ومثل هذه الزيادة لا علاقة لها بالاضطراب، وإنما ينظر إليها بمنظار قاعدة: "زيادة الثقة مقبولة " أو قاعدة: "رد الزيادة لمخالفة من هو أوثق منه أو أكثر عدداً"؛ وهو الحديث الشاذ. وسواء كان الراجح هذا أو ذاك فذلك لا يخدج في صحة أصل الحديث، ولا مجال الآن لبيان الراجح منها؛ إذ البحث في رد دعوى الاضطراب في المتن والسند، وقد تم ردها والحمد لله، وهي العلة الثانية عنده.
ثم تنبهت إلى أن الزيادة خطأ من بعض النساخ؛ لأنها تكرار لما قبلها، ولفظها: "ومحا عنه ألف ألف سيئة، وحط عنه ألف ألف خطيئة"، ولعل الأصل: "أو حط.. " إلخ.
وأما الثالثة: فهو قوله في أبي خالد الأحمر: "فيه ضعف من قبل حفظه.. وفي " التقريب ": صدوق يخطئ ".
والجواب من وجهين:
الأول: أن أبا خالد هذا قد وثقه جمهور المحدثين، وحسب القارئ أن يعلم أن البخاري ومسلماً قد احتجا به في "صحيحيهما"، ولا ينافي ذلك أن في حفظه(7/384)
ضعفاً، خلافاً لما يوهمه الناقد بما نقله عن الحافظ من قوله: "صدوق يخطئ "! وغالب الظن أنه لا يعلم أنه يعني بذلك أنه قليل الغلط كما صرح بذلك في "مقدمة الفتح " (ص 384) ، وقد أشار إلى ذلك الذهبي بقوله في "الميزان ":
" الرجل صاحب حديث وحفظ، من رجال الستة، وهو مكثر، يهم كغيره ".
ولذلك؛ قال في كتابه "الكاشف ":
"صدوق إمام ".
فهل يجوز رد حديث مثل هذا الإمام يا أبا عبد الله؟! فاتق الله! ولا تتبع الهوى؛ فَيُضِلَّكَ عن سبيل الله.
ثم إن الباحث عن الحق لا ينبغي أن يقف عند كلمة للحافظ أو لغيره، ويبني عليها توثيقاً وتصحيحاً أو تجريحاً وتضعيفاً! وإنما ينبغي عليه أن يستخلص من أقوال الأئمة خلاصة يطمئن إليها، ويبني أحكامه عليها، وإلا؛ صَدَرَتْ منه أحكام مضطربة، وهذا ما نراه في كثير من الطلاب الناشئين اليوم، بحيث يُقَوِّي حديثَ راوٍ تارةً، ويُضَعِّفُه أخرى، ليس ذلك من باب تغير الاجتهاد، أو من باب تطبيق قاعدة (الشذوذ والمخالفة) ونحوها؛ وإنما من باب: " الغاية تبرر الوسيلة "! فأحدهم قد يميل إلى تضعيف حديث؛ فيجلب ما هبَّ ودبَّ من الأقوال لتأييد ضعفه، أو العكس من ذلك إذا كان هواه في صحة الحديث!
وعلى ضوء ما ذكرت؛ نسأل هذا الناقد: ما هو الأصل عندك في حديث أبي خالد الأحمر هذا؟ أهو الاحتجاج به، أم تضعيفه؟
فإن قلت بالأولى؛ فلماذا ضعّفت حديثه هذا؟!
وان قلت بالآخر، فما هي حُجَّتُك مقابل احتجاج الشيخين بحديثه؛ فضلاً عن(7/385)
غيرهما؟! فكم من حديث له في "السنن " وغيرها صححه العلماء! كحديث: "لا ينظر الله إلى رَجُلٍ يأتي امْرأَتَهُ في دُبُرِهَا"؛ فقد حسَّنه الترمذي، وقواه ابن الجارود (729) ، وصححه ابن حبان (1302) ، ومن قبله الإمام إسحاق بن راهويه في "مسائل المروزي " (ص 221) ، وابن حزم أيضاً (10/70) ، وابن دقيق العيد في "الإلمام " (1127) .
والشيخ مقبل الوادعي نفسُه لم يُضَعِّفْ! هذا الحديث- أعني حديث إتيان المرأة في دبرها- في تعليقه على "تفسير ابن كثير" (1/485) ؛ بل أقرَّ الترمذيَّ على تحسينه إياه، وأيده بقوله: "رجاله رجال الصحيح "!
وهذا كلُّه يدل الباحثَ أن هذا الناقد جعل النقد غايةً له، وليس الدفاع عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا؛ كيف يُقدِم على مخالفة الحفاظ في توثيق هذا الرجل وتصحيحهم لحديثه؛ لمجرد نقد رآه لبعضهم فيه، لا يستطيع- لحداثته في هذا العلم- أن يجد له وجهاً لا يختلف مع التوثيق والتصحيح المذكورين على النحو الذي ذكرناه؟!!
وحقاً: إن عجبي لا يكاد ينتهي من أخينا الفاضل الشيخ مقبل بن هادي؛ كيف يحضُّ هذا وأمثالَه من الناشئين- مثل العدوي والمؤذن ونحوهما- على أن يتسلَّقوا سلَّم النقد في هذا العلم؛ وهم- بعد- في أول الطريق؟! وأن يشغلونا عما نحن في صدده - من خدمة كتب السنة- بالردّ على أمثالهم، ولو بقدر ضئيل من الوقت؟!
ولا يشفع له ذلك: قوله في تقديمه للرسالة (ص 9) :
"والأخ عادل حفظه الله، وإن لم يكن بمنزلة محدِّث العصر الشيخ ناصر الدين ... ".
فهذا حق وصدق؛ بل أنا أشهد على نفسي أنني دون ذلك بكثير، ولكني - مع ذلك- أرى أن من الواجب على الشيخ مقبل أن ينصح أولئك الناشئين أن(7/386)
يدأبوا على دراسة هذا العلم حتى يَنْبُغُوا فيه، وأن ينشروا ما ينفع الأمة من البحوث الحديثية والفقهية، مما يعلمون أن الناس بحاجة إليه، حتى يطِّلع الناسُ على ثمرة عِلْمهم، ويُشْهَد لهم به!
ألا يعلم هؤلاء أنهم إذا قاموا بالردّ على من يزعمون بأنه: "محدث العصر". أن هذا يدفعنا للرد عليهم، وبيان عوارهم وجهلهم بهذا العلم، وأنهم تزبَّبوا قبل أن يتحصرموا؟!
والآخر: لقد نقلت عن الحافظ المزي أن أبا خالد هذا قد توبع في روايته عن المهاصر بن حبيب، فكيف جاز لك أن تذكر ذلك لإثبات الاضطراب المزعوم، وأن تتجاهله حين يناسبك ذلك؟! أليس ذلك صنيع أهل الأهواء الذين يكيلون بكيلين، ويلعبون على الحبلين؟! فأعظك أن تكون من الجاهلين!
على أن المهاصر هذا؛ قد تابعه محمد بن واسع عن سالم عن عبد الله بن عمر عن عمر به مرفوعاً.
أخرجه جمع من الأئمة؛ كالبخاري في "الكنى" (50/430) ، والدارمي، والترمذي، والحاكم، وغيرهم من طريق أزهر بن سنان عنه.
وهذا إسناد يستشهد به؛ لأن محمد بن واسع ثقة عابد كثير المناقب، احتج به مسلم كما في "التقريب ".
وأزهر بن سنان- وإن كان قد ضعفه جمع، وقال فيه الحافظ: "ضعيف "- فإنه لم يتهم، بل قال ابن عدي في "الكامل " (1/420) - وقد ساق له أحاديث هذا أحدها-:
"وأحاديثه صالحة ليست بالمنكرة جدّاً، وأرجو أنه لا بأس به ".(7/387)
ولذلك؛ لما أخرجه الحاكم وقال في أزهر هذا: "بصري زاهد"؛ لم يتعقبه الذهبي إلا بقوله (1/538) :
"قلت: قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به ".
وقال المنذري في "الترغيب " (3/5) :
"وإسناده متصل حسن، ورواته ثقات أثبات، وفي أزهر بن سنان خلاف، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به ".
ولذلك؛ أورده الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (ج 1/ رقم 176- 178- بتحقيقي) ، وله طرق أخرى ومتابعات ذكرت بعضها هناك، وفيما تقدم كفاية لمن أنصف.
هذا؛ ويبدو لي من صنيع الناقد لهذا الحديث أمران:
الأول: أنه يتبنى الجرح مطلقاً، ولو كان غير مفسِّر؛ خلافاً للمعروف في علم المصطلح.
والآخر: أنه لا يتبنى قاعدة تقوية الحديث الضعيف بكثرة الطرق التي لم يشتد ضعفها، كما قرره ابن الصلاح في "المقدمة"، وأشاد بها شيخ الإسلام ابن تيمية في غير ما موضع من كتبه و"فتاويه "! فقد ساق الناقد لهذا الحديث سبعة طرق، أكثرها ليس فيها متهم بالكذب، ومع ذلك؛ فإنه لما ضعف مفرداتها كلها؛ لم يستفد من مجموعها للحديث قوة، وبخاصة حديث المهاصر بن حبيب الذي هو حجة وحده في هذا الباب، فكيف إذا انضم إليه حديث الأزهر بن سنان ونحوه؟! فاللهم هداك!!
وكأني بهذا الرجل- مثل كثير غيره- يستكثرون على الله تعالى أن يعطي عباده هذا الأجر الكبير على هذا التهليل، فلما استقر ذلك في نفسه؛ أخذ(7/388)
يُضَعَّفُ حديثَ نبيِّه بكل وسيلة، متجاهلاً حقيقة شرعية لا تخفى على أي مؤمن، وهي فضل الله على عباده؛ كما صرح بذلك في كتابه بقوله: (والله ذو فضل عظيم) ، وفي الآية الأخرى: (والله ذو الفضل العظيم) .
على أن للفضل المذكور في الحديث شاهداً من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه- لعله لم يطرق سمعه لحداثته! -: يرويه علي بن زيد عن أبي عثمان قال:
بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله عز وجل يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة. قال: فقضي أني انطلقت حاجاً أو معتمراً فلقيته، فقلت: بلغني عنك حديث: أنك تقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"إن الله عز وجل يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة"؟ قال أبو هريرة: لا، بل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة. ثم تلا (يُضَاعِفْها ويُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجراً عظيماً) ".
فقال: إذا قال: (أجراً عظيماً) ؛ فمن يقدر قدره؟!
أخرجه أحمد (2/296 و521- 522) وغيره، ورجاله ثقات؛ غير علي بن زيد- وهو ابن جدعان-؛ فيه ضعف من قبل حفظه، وقد أورده الذهبي في " الضعفاء "، وقال:
"صالح الحديث ".
وقال الحافظ:
"ضعيف".(7/389)
ورمزا له بأنه روى له مسلم، فأطلقا! وإنما روى له مقروناً بثابت البُناني كما في "الجمع بين رجال الصحيحين " (1/358- 359) .
قلت: فمثله صالح للاستشهاد به، ولعله مراد الذهبي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
على أنه قد توبع، وإن كانت متابعة واهية، ولكنها إن لم تنفع فلا تضر، فلنذكرها إذن: قال ابن كثير في "تفسيره "- عقب رواية أحمد-:
"حديث غريب، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير، لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، فقال.. ".
قلت: فساق إسناده إلى محمد بن عقبة الرفاعي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي به نحوه.
وسكت عنه ابن كثير لظهور ضعفه؛ فإن زياداً هذا- وهو ابن أبي زياد الجصاص- ضعيف اتفاقاً، لم يوثقه أحد سوى ابن حبان؛ فإنه ذكره في "الثقات " (6/320) ! ومع ذلك، فإنه قال:
"ربما وهم ".
ومحمد بن عقبة ليس بالمشهور، قال ابن أبي حاتم (4/1/36) :
"سألت أبي عنه؟ فقال: شيخ ".
ثم قال ابن كثير:
"وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من دخل السوق ... " الحديث.(7/390)
قلت: وسكت عنه، فكأنه أشار بذلك إلى تقويته بما قدمه قبله من حديث أبي هريرة بطريقيه عنه. والله أعلم. *
3140- (ومَا أنا والدنيا؟! وما أنا والرَّقْم؟ !) .
أخرجه أبو داود (4149) ، وأحمد (2/21) ، وابن أبي شيبة في "المصنف " (13/239/16221) ، وابن حبان (8/91/6319) من طريق ابن نمير: حدثنا فضيل بن غزوان عن نافع عن عبد الله بن عمر:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة رضي الله عنها، فوجد على بابها ستراً، فلم يدخل، قال: وقلما كان يدخل إلا بدأ بها، فجاء علي ـ رضي الله عنه- فرآها مهتمة، فقال: ما لك؟! قالت: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي؛ فلم يدخل، فأتاه علي - رضي الله عنه-، فقال:
يا رسول الله! إن فاطمة اشتد عليها أنك جئتها فلم تدخل عليها؟! قال: ... (فذكر الحديث) ، فذهب إلى فاطمة، فأخبرها بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: قل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يأمرني به؟ قال:
"قل لها: فلترسل به إلى بني فلان ".
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وابن نمير اسمه عبد الله، أبو هشام الكوفي، قال الحافظ:
"ثقة صاحب حديث من أهل السنة".
وقد تابعه محمد بن فضيل عن أبيه به نحوه، وفيه:
"وكان سِتراً موشَياً "؛ أي: مزخرفاً منقوشاً.(7/391)
وزاد في آخره:
"أهل بيت بهم حاجة".
أخرجه البخاري في "صحيحه " (رقم 2613- فتح) ، (ج 2/194/ رقم 1179 - مختصر البخاري) ، وأبو داود أيضاً (4150) ، والبيهقي في "شعب الإيمان " (7/312) .
ثم تبين أن الحديث سبق تخريجه برقم (2421) ، لكنه هنا أوسع وأكثر فائدة، فلا بأس من نشره مرة أخرى. *
3141- (كل أمَّتي يدخلُ الجنة إلا مَنْ أبى. قالوا: ومَنْ يأبى؟! قال: من أطاعني دخلَ الجنةَ، ومن عصاني فقدْ أبى) .
أخرجه البخاري (رقم 7280- فتح) ، وأحمد (2/361) من طرق عن فليح: حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسارعن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذ كره.
قلت: وفليح هذا هو ابن سليمان؛ فيه كلام كثير من قبل حفظه، مع أنه أخرجا له في "الصحيحين "، لكن قال الحافظ في "مقدمة الفتح ":
"احتج به البخاري وأصحاب "السنن "، وروى له مسلم حديثاً واحداً، وهو حديث الإفك، وضعفه ابن معين والنسائي وأبو داود، وقال الساجي: هو من أهل الصدق، وكان يهم.. ".
وقول الساجي هو الذي اعتمده الحافظ في "التقريب "؛ فقال:
"صدوق، كثير الخطأ".
وكذلك أورده الذهبي في "الضعفاء"، وذكر أقوال من ضعفه.(7/392)
قلت: فمثله قد يحسَّن حديثه، أما الصحة فلا، وقال ابن عدي فيه (6/30) :
"روى أحاديث مستقيمة وغرائب، وقد اعتمده البخاري في "صحيحه "، وروى عنه الكثير، وهو عندي لا بأس به ".
وقد ذكر له الحافظ شاهدين من حديث أبي أمامة وأبي هريرة، وقد كنت خرجتهما فيما تقدم، الأول برقم (2043) ، والآخر تحت حديث أبي سعيد الخدري برقم (2044) ، ولفظه أتم، وهو شاهد قوي لحديث فليح، فكان على الحافظ أن يذكره، فالظاهر أنه لم يستحضره؛ لأنه تفرد به ابن حبان. وكنت صححت إسناده ثمة على شرط البخاري، بناء على إسناده الذي ساقه الهيثمي في "موارد الظمآن "، وفيه: "خليفة بن خياط "، وهو من رجال البخاري. ثم تبينت أنه خطأ- لا أدري أمن الهيثمي هو أم الناسخ؟ -، وأن الصواب: "خلف بن خليفة"! وهذا وإن كان صدوقاً ومن رجال مسلم؛ فإنه كان اختلط، ولم يتبين لي أنه حدث به قبل الاختلاط، فحديثه شاهد جيد لحديث الترجمة. والله أعلم.
وحديث أبي هريرة المشار إليه هو مختصر بلفظ:
"لتدخلن الجنة إلا من أبى، وشرد على الله كشِراد البعير".
وقد كنت عزوته هناك للحاكم وحده، وتعقبت تصحيحه إياه على شرط الشيخين بأن فيه إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس.. ثم رأيت الحافظ قد عزاه في "الفتح " (13/254) لأحمد والحاكم معاً، وقال الحافظ:
"وسنده على شرط الشيخين ".
وقلده المعلق على "الإحسان " (1/197) في هذا وفي العزو إليهما معاً، وقد لفت نظري أنه مع ذكره موضع إخراج الحاكم إياه؛ بيَّض لأحمد فلم يعين موضعه(7/393)
من "مسنده "، فأشكل ذلك علي، فتابعت البحث للوصول إلى الحقيقة، فوجدت الحاكم قد أخرجه في مكان آخر غير المكان الذي كنت عزوت رواية إسماعيل إليه، ومن غير طريقه: أخرجه (1/55) من طريق يعقوب بن إبراهيم، وهذه متابعة قوية؛ لو ثبتت كان الإسناد صحيحاً على شرطهما كما قال الحاكم، لكن في النفس منها شيء؛ فإنه رواه عن شيخه القطيعي: ثنا عبد الله بن أحمد: ثني أبي: ثنا يعقوب ابن إبراهيم ... إلخ. وظاهر هذا الإسناد أن الحديث في "مسند أحمد"؛ لأنه من رواية القطيعي كما هو معلوم، وليس هو فيه كما يغلب على ظني بعد مزيد من البحث عنه، والاستعانة على ذلك بكل الوسائل الممكنة؛ قديمها وحديثها:
أولاً: لم يذكره الهيثمي في "مجمعه "، وقد ذكر فيه حديث أبي سعيد، وحديث أبي أمامة المشار إليهما آنفاً.
ثانياً: لم يورده الحافظ نفسه في "أطراف المسند"، كما نبأني بذلك أحد إخواني.
ثالثاً: لم يذكره أيضاً أخونا حمدي عبد المجيد السلفي في "فهارس المسند".
إلى غير ذلك من الوسائل المعروفة اليوم.
وينتج من ذلك أن إطلاق العزو لأحمد وهم؛ لأنه يعني أنه في "المسند" وليس فيه. فالأمر لا يتعدى احتمالاً من الاحتمالات الثلاثة:
الأول: أن يكون الحديث من رواية أحمد في غير "المسند"؛ مثل "الزهد" و"فضائل الصحابة"؛ فإنهما من رواية القطيعي.
الثاني: أن يكون من أوهام القطيعي؛ فإن فيه كلاماً من حيث كان اختلط في آخر أمره.
الثالث: أن يكون من أخطاء الحاكم على القطيعي. والله سبحانه وتعالى أعلم. *(7/394)
3142- (يا مَعْشرَ النساء! تصدَّقْنَ، فما رأيتُ من نواقصِ عقلٍ - قطُّ - أو دينٍ أذْهبَ لقلوبِ ذوي الألبابِ منكنَّ، وإني رأيتُكُنَّ أكثرَ أهلِ النارِ يومَ القيامةِ، فتقرَّبنَ إلى الله بما استطعتُنَّ.
وكان في النساء امرأة ابن مسعود ... فساق الحديث، فقالت: فما نقصان ديننا وعقولنا يا رسول الله؟! فقال:
أمَّا ما ذكرتُ من نقصانِ دينكُنَّ؛ فالحيضةُ التي تصيبُكُنَّ؛ تمكثُ إحداكُنَّ ما شاءَ الله أنْ تمكثَ لا تُصلي، وأمَّا ما ذكرتُ من نقصانِ عقولِكنَّ؛ فشهادةُ المرأة نصفُ شهادةِ الرجلِ) .
أخرجه مسلم (1/61) ، والنسائي في "الكبرى" (5/400/9271) ، وابن خزيمة في "صحيحه " (4/106- 107) - ببعضه-، والطحاوي في "شرح المعاني " (1/309) ، وأحمد في "المسند" (2/373- 374) ، وأبو يعلى في "مسنده " (11/462- 464) ، وابن عبد البر في "التمهيد" (3/323- 324) - والسياق له- كلهم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة الصبح، فأتى النساء في المسجد، فوقف عليهن، فقال: ... فذكره، والسياق لابن عبد البر، ولم يسق مسلم لفظه، وإنما أحال به على لفظ حديث ابن عمر، ساقه قبله، فقال:
"بمثل معنى حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
ولذلك استجاز ابن كثير في "تفسيره " (1/335) عزوه لمسلم، فقال:
_________
(1) وحديث ابن عمر مخرج في "الإرواء" (1/205) ، و"الظلال " (2/463- 464) .(7/395)
"قال مسلم في "صحيحه ": حدثنا قتيبة: حدثنا إسماعيل بن جعفر ... " فساقه بلفظ حديث ابن عمر.
وأقول: لكن جمعه بين إسناد مسلم عن أبي هريرة ولفظ ابن عمر عنده؛ غير محمود كما هو ظاهر! لأن في كل من حديثيهما ما ليس في الآخر، ولذلك كان عليه أن ينبه على ذلك كما صنع مسلم- رحمه الله-.
ومن أجل ما بيَّنت من أن مسلماً لم يسق لفظه؛ أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/118) ، فقال:
"رواه أحمد وأبو يعلى، ورجال أحمد ثقات ".
وذكر قبله:
" قلت: في "الصحيح " طرف منه ".
وهو يشير بذلك إلى لفظ حديث ابن عمر، وهو تعبير قاصر، لا يُجَلِّي الأمر للقارئ كما بينت.
ثم إن تخصيصه لأحمد بأن رجاله ثقات؛ مما لا وجه له؛ لأنه يشعر بأن رجال أبي يعلى ليسوا كذلك، وهو خطأ؛ لأن شيخ أحمد: سليمان بن داود- وهو الطيالسي-، وشيخ أبي يعلى: يحيى بن أيوب- وهو المقابري-؛ كلاهما قال: حدثنا إسماعيل به، وكلاهما ثقة من رجال مسلم، فكان الصواب أن يقول:
"ورجالهما ثقات ".
والأولى أن يضيف إلى ذلك:
" رجال الصحيح "، كما هي عادته، والأصح أن يقول:
" وإسنادهما صحيح على شرط مسلم ".(7/396)
لأنه رواه عن ثلاثة من شيوخه منهم يحيى بن أيوب هذا!
ومن فوق هؤلاء الثلاثة- والرابع الطيالسي-: من رجال الشيخين، وعلى هذا فيمكن تصحيح الإسناد على شرطهما.
وعمرو بن أبي عمرو هو مولى المطلب المدني، قال الحافظ:
"ثقة ربما وهم ".
قلت: وقد أمنّا من وهمه: أنه قد تابعه عمر بن نُبَيه الكعبي عن المقبري به.
أخرجه الطحاوي، وإسناده صحيح.
وله طريق أخرى عن أبي هريرة ببعض اختصار.
أخرجه الترمذي (7/2616) وابن أبي عاصم في "السنة " (2/464/956) ، وقال الترمذي:
"حديث صحيح غريب حسن من هذا الوجه ".
قلت: وهو على شرط مسلم.
واعلم أخي الكريم! أن هذه القصة قد وقعت أكثر من مرة:
ففي حديث أبي هريرة هذا أنها كانت بعد انصراف النبي من صلاة الصبح والنساء في المسجد.
ورواه أبو سعيد الخدري فقال:
"خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو في فطر إلى المصلى، فمرَّ على النساء، فقال: "يا معشر النساء! تصدقن ... " الحديث، رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في " الإرواء" (1/204) .(7/397)
ففي هذا أنها كانت في العيد: أضحى أو فطر في المصلى، وليس يخفى على البصير أن هذا لا ينفي وقوع ذلك في غير العيد، كما في حديث أبي هريرة أنه وقع بعد انصرافه - صلى الله عليه وسلم - من صلاة الصبح والنساء في المسجد، وهذا مما يبطل ما جاء في كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة " (1/276) أن هذه الكلمة: "ناقصات عقل ودين "؛ قال:
"إنما جاءت مرة واحدة، وفي مجال إثارة الانتباه والتمهيد اللطيف لعظة خاصة بالنساء، ولم تجئ قط مستقلة في صيغة تقريرية"!
كذا قال! وهذه جرأة عجيبة في تأويل كلامه - صلى الله عليه وسلم - وتحميله ما لا يحتمل من المعاني! وقد أقره الشيخ القرضاوي في تقديمه للكتاب (ص 25) ، وذلك لتوهمهما أن فيها غضّاً من قيمة المرأة، وليس ذلك من ذلك ألبتة! مثلهم في ذلك مثل المعتزلة والمعطلة؛ الذين يتأولون آيات الصفات وأحاديث الصفات؛ لزعمهم أن ظواهرها تفيد التجسيم والتشبيه، وذلك مما لا يليق بالله تعالى فوجب التأويل! وردُّ أهل السنة عليهم معروف، وهو أن فهم التشبيه من تلك النصوص هو الخطأ، ولذلك؛ اضطروا إلى رده بالتأويل، وعليه؛ فنحن نقول لهم ولأمثالهم من المؤوَّلة: صحح الفهم للنص تسلم من التأويل والتعطيل. فالمشكلة الأساسية تعود إلى سوء الفهم، أو ضعف الإيمان، وقد يجتمعان، كما يفعل الشيخ الغزالي ومقلدوه من الآرائيين الجهلة. وهذا هو المثال بين أيدينا؛ فإن صاحبنا مؤلف "التحرير" لمّا فهم من الحديث أن فيه غضّاً من شأن النساء؛ تأوله بما لا يحتمله من المعنى بما تقدم نقله عنه، حتى حمله ذلك على إنكار وروده عنه - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى! وعلى إنكار أنه - صلى الله عليه وسلم - يقرر قاعدة عامة! وهذا - والله- منتهى الغفلة أو المكابرة!! وذلك؛ لأن الحديث يقرر أمراً جِبِلْيّاً لا يمكن لأحد أن ينكره ولو كان ملحداً، وهو أن المرأة تحيض، وأن عقلها دون عقل الرجل، هكذا(7/398)
خلقها الله لحكمة بالغة، كما قال عز وجل: (وما خلق الذكر والأنثى) ، ولهذا قال العلماء- واللفظ لعلامة الأندلس الحافظ ابن عبد البر (3/326- 327) -:
"هذا الحديث يدل على أن نقصان الدين قد يقع ضرورة لا تُدفع، ألا ترى أن الله جَبَلَهُنَّ على ما يكون نقصاً فيهن، قال الله عز وجل: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضَهُم على بعض) ، وقد فضل الله أيضاً بعض الرجال على بعض، وبعض النساء على بعض، وبعض الأنبياء على بعض، (لا يُسأل عما يفعل) ، (وهو الحكيم العليم) ".
فهذه قاعدة عامة لا تستطيع امرأة أن تخرج عنها، فكل امرأة تحيض، كما أن كل رجل يمذي!
ثم إن الله تعالى بحكمته رتب على تلك الجبلَّة حُكمَينِ ثابتين: شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، والمرأة الحائض لا تصلي ولا تصوم، فهذه قاعدة لا استثناء فيها شرعاً، كالتي قبلها لا استثناء فيها قدراً. وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الحقيقة بقوله: "كمَل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ". رواه الشيخان، وهو مخرج في " الروض النضير" (رقم 73) .
ويشبه ذلك الفرق الجِبِلِّيَّ بين الرجال والنساء: الفرقُ المعروف بين الملائكة كافة، والبشر عامة، فالأولون كما قال الله: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) ، والبشر على خلاف ذلك، طبعهم الله على المعصية، ولكن أمرهم بالاستغفار، وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"والذي نفسي بيده؛ لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم ". رواه مسلم، وهو مخرج في هذه "السلسلة" (برقم 1950) .(7/399)
(تنبيه) : في قول ابن عبد البر: "فساق الحديث " إشارة قوية إلى أن له تتمة اختصرها لعدم علاقتها بالباب، فرأيت من تمام الفائدة أن أسوقها، مع الإشارة إلى حرف مشكل فيه كنت نبهت عليه في تعليقي على "صحيح ابن خزيمة"، فتمام الحديث- عنده وعند المذكورين بعده في التخريج-:
وكان في النساء امرأة عبد الله بن مسعود، فانقلبت إلى عبد الله بن مسعود فأخبرته بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذت حُلِيَّها، فقال ابن مسعود: أين تذهبين بهذا الحلي؟! قالت: أتقرب به إلى الله ورسوله (!) قال: ويحك، هلمي تصدقي به علي وعلى ولدي، فأنا له موضع! فقالت: لا! حتى أذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذهبت تستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! هذه زينب تستأذن، قال: "أي الزيانب هي؟ "، قال: امرأة ابن مسعود قال: "ائذنوا لها"، فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إني سمعت منك مقالة، فرجعت إلى ابن مسعود فحدثته، وأخذت حليةً لي أتقرب به إلى الله وإليك (!) رجاء أن لا يجعلني الله من أهل النار! فقال لي ابن مسعود: تصدقي به علي وعلى ولدي، فأنا له موضع، فقلت: حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"تصدقي به عليه وعلى بنيه؛ فإنهم له موضع ".
قلت: فقولها أمام ابن مسعود: "أتقرب به إلى الله ورسوله "، ثم أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أتقرب به إلى الله وإليك " مشكل؛ لأن التقرب بالعبادة لا تكون إلا إلى الله فقط كما بينت هناك. وأزيد هنا فأقول:
لعلها ضمنت قولها معنى الطاعة، فكأنها قالت: أطيع الله ورسوله، أو أن قولها كان قبل النهي عن مثلها كمثل: " ما شاء الله وشئت "؛ فقد كانوا يقولون ذلك، ويسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينهاهم، حتى أمره الله تعالى بالنهي؛ فقد صح(7/400)
عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث الطفيل المتقدم برقم (138) :
".. كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها؛ لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد".
(تنبيه آخر) : تقدم عزوي الحديث إلى الترمذي مقروناً بقولي: "ببعض اختصار"، أي: عن حديث الترجمة الخالي من قصة زينب المذكورة آنفاً. فمن سوء التخريج، وقلة الفقه والتحقيق: أن يعزوه إليه المعلق على "مسند أبي يعلى"، والحديث فيه بتمامه دون أن يشير على الأقل أنه عند الترمذي مختصر من هذا جداً ليس فيه القصة! ولا يخفى ما في هذا الإخلال من الإيهام للقراء أن الترمذي رواه بتمامه كأبي يعلى.
ومن المؤسف أن مثل هذا الإيهام يتكرر منه كثيراً على هذا الكتاب "المسند"، وعلى "موارد الظمآن " الذي توسع في تخريجه والتعليق عليه حتى صار الكتاب مطبوعاً في ثمان مجلدات، وقد نبهت على شيء من هذه الإيهامات وعلى تساهله في التصحيح في بعض المواضع من كتابيَّ: "صحيح موارد الظمآن "، و"ضعيف موارد الظمآن "، وهما تحت الطبع. *
3143- (من ابتُليَ من [هذه] البنات بشيءٍ فأحسن إليهنَّ؛ كنَّ لَهُ سِتْراً من النار) .
أخرجه البخاري (1418و5995) - وفي "الأدب المفرد" (132) -، ومسلم (8/38) والترمذي (1916) - وحسنه-، و (1918) - وصححه-، وابن حبان (2928) ، والخرائطي في "مكارم الأخلاق " (ص 72) ، والبيهقي في "السنن " (7/478) ، وفي "الشعب " (7/467) ، والبغوي في " شرح السنة " (6/187) ،(7/401)
وعبد الرزاق في "المصنف " (10/457) ، وأحمد (6/33 و87- 88و166، 243) ، وعبد بن حميد (1473- المنتخب) من طرق عن الزهري: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت:
جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئاً، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحدثته حديثها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... فذ كره.
ولم يذكر الترمذي وابن حبان وغيرهما (عبد الله بن أبي بكر) في إسناده، وهو ابن حزم الأنصاري، والزيادة للبخاري- في رواية- وغيره.
وتابعه زيد بن علي عن عروة به مرفوعاً دون القصة بلفظ:
"ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، فيحسن إليهن؛ إلا كنَّ له ستراً من النار".
أخرجه البيهقي في "الشعب " (7/469) من طريق أبي همام: نا أبي: نا زياد بن خيثمة عن زيد بن علي به.
قلت: وإسناده جيد، لكني أخشى أن يكون وهم في لفظِهِ والدُ أبي همام، واسمه شجاع بن الوليد؛ فإنه مع كونه من رجال الشيخين؛ فقد تكلموا في حفظه، وقد أشار إلى ذلك الحافظ بقوله في "التقريب ":
"صدوق ورع، له أوهام ".
ولكنه قد أصاب المعنى.
وتابع عروة: عراك بن مالك عن عائشة أنها قالت:(7/402)
جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتُها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعتْ إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرتُ الذي صنعتْ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت:
"إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار".
أخرجه مسلم، وأحمد (6/92) ، والبيهقي في "الشعب " (7/468) .
وتابعه صعصعة عمُّ الأحنف به نحوه.
رواه ابن ماجه (3668) .
وله شاهد من حديث أم سلمة مرفوعاً دون القصة، ولفظه:
"من أنفق على ابنتين، أو أختين، أو ذواتي قرابة، يحتسب النفقة عليهما حتى يغنيهما الله من فضله عزَّ وجل أو يكفيهما؛ كانتا له ستراً من النار".
أخرجه أحمد (6/293) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/392- 393) من طريق محمد بن أبي حميد عن المطلب بن عبد الله المخزومي عنها.
قلت: ورجاله ثقات؛ غير محمد بن أبي حميد- وهو الأزرقي الأنصاري-، قال الحافظ في "التقريب "- تبعاً لشيخه الهيثمي في "المجمع " (8/157) -: "ضعيف ".
لكن قال المنذري في "الترغيب " (3/ 84) :
"ولم يترك، ومشاه بعضهم، ولا يضر في المتابعات ".
وأخرجه البزار (1890- كشف) من طريق أخرى عن أنس أن امرأة دخلت على عائشة ... ". *(7/403)
3144- ( [يا أيُّها الناسُ!] إنَّ الله بَعثني إليكم، فقلتُم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صَدَقَ، وواساني بنفسهِ ومالهِ، فهلْ أنتُم تاركو لي صاحبي؟ (مرَّتين) فَمَا أُوذِيَ بعدَها) .
أخرجه البخاري (7/18/ 3661) : حدثنا هشام بن عمار: حدثنا صدقة ابن خالد: حدثنا زيد بن واقد عن بسر بن عبيد الله عن عائذ الله أبي إدريس عن أبي الدرداء قال:
كنت جالساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أما صاحبكم فقد غامر"، فسلّم وقال: يا رسول الله! إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي! فأقبلت إليك. فقال:
"يغفر الله لك يا أبا بكر! (ثلاثاً) ".
ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثَمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل وجه النبي يتمعَّر حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله! واللهِ! أنا كنت أظلم (مرتين) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.
وبهذا الإسناد أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (2/576/ 1223) مختصراً دون القصة، ودون قوله: "فما أوذي بعدها"، وعنده الزيادة.
وأخرجه البيهقي (10/236) من طريق أخرى عن هشام بن عمار بتمامه، وفيه الزيادتان: الأولى، والأخيرة. وقد قال الحافظ في هذه الأخيرة (7/26) : "ولم أر هذه الزيادة من غير رواية هشام بن عمار"!(7/404)
وقد غاب عنه- رحمه الله- أنها في رواية محمد بن المبارك الصوري قال: نا صدقة بن خالد ... فساقه بإسناده ومتنه، وفيه الزيادتان.
أخرجه عبد الله بن أحمد في "فضائل الصحابة" (1/240/297) ، وأبو نعيم
في "الحلية" (9/303- 304) دون الثانية، وسنده صحيح رجاله ثقات.
وتابعه عبد الله بن يوسف: نا صدقة به.
أخرجه أبو نعيم أيضاً.
ثم أخرجه البخاري (4640) بإسناد آخر عن عبد الله بن العلاء بن زبْر قال: حدثني بسر بن عبيد الله به نحوه، وفيه الزيادة الأولى مع تقديم وتأخير، وقال أبو عبد الله- يعني: البخاري- عقب الحديث:
"غامر: سَبَقَ بالخير".
(تنبيه) : جملة التصديق والمواساة قد رُويت في الثناء على خديجة أيضاً من حديث عائشة، ولكن في إسناده ضعف؛ ولذلك خرجته في "الضعيفة" (6224) .
(فائدة) أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (9/4- 5) من طريق سعيد بن سليمان: حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت:
أنفق أبو بكر- رضي الله عنه- على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألفاً.
قلت: ورجاله ثقات؛ غير سعيد بن سليمان- وهو النَّشِيطي-، وهو ضعيف؛ كما في "التقريب "، ويؤكد ذلك أنه قد خالفه ابن سعد في "الطبقات "؛ فقال (3/172) : أخبرنا أبو أسامة حماد بن أسامة به. لم يذكر عائشة، ولم يَتَعَدَّ به عروة، فهو مرسل.(7/405)
وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة:
أخرجه عنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (9/557) ، لكن في رواية له من طريق أبي داود: نا يحيى بن علي: نا أبو أسامة به وزاد:
قال عروة: فأخبرتني عائشة قالت: توفي أبو بكر وما ترك ديناراً ولا درهماً.
فالظاهر أن أصل هذا الأثر متصل عن عائشة، لم يجاوزوا بِهِ عروة لشهرته عنها، فكان بعضهم يذكرها، ومنهم سعيد بن سليمان.
وقد ذكرت أنفاً أنه النشيطي الضعيف؛ لأنه روى عنه أبو زرعة، ولمخالفته الثقات؛ ثم بدا لي أنه سعيد بن سليمان الواسطي المعروف بـ "سَعْدَوَيهِ " الثقة، وذلك؛ لأنه هو الذي ذكر في الرواة عن أبي أسامة- واسمه حماد بن أسامة- في "الجرح والتعديل " (1/2/132) و"تهذيب المزي " (7/220) ، وأيضاً فابن حبان لم يوثق إلا الواسطي هذا (8/267) ، فيستبعد أن يروي في "صحيحه " عن سَمِيِّهِ النشيطي، على أن أبا زرعة قد روى عنهما كليهما، وهذا من روايته عن سعيد بن سليمان غير منسوب، فكان ذلك من دواعي الخطأ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وبذلك نتبين صحة حديث عائشة هذا، والحمد لله.
ويؤيده حديث أبي هريرة مرفوعاً:
"ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر".
وقد مضى تخريجه برقم (2718) .
ولحديث الترجمة شاهد من حديث أبي أمامة بأسانيد فيها مقال: أخرجها ابن عساكر (9/580- 583) .(7/406)
ورواه الطبراني (12/272) عن ابن عمر، وفيه متروك.
وقد وردت مثل هذه القصة بين أبي بكر وربيعة الأسلمي، فلا بأس من سوقها: *
3145- (يا ربيعةُ! ما لك وللصِّدِّيقِ؟ قلتُ: يا رسول الله! كان كذا، وكان كذا، فقال لي كلمةًً كرهتُها، فقال لي: قل كما قلتُ لك حتى يكون قصاصاً، [فأبيتُ] ؟! فقال رسول الله:
أجل، فلا تردَّ عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر!) .
أخرجه أحمد (4/58- 59) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (5/52- 53) ، وابن عساكر في "التاريخ " (9/583) من طرق عن مبارك بن فضالة: ثنا أبو عمران الجوني عن ربيعة الأسلمي قال:
كنت أخدُم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاني أرضاً، وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عِذقِ نخلة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هي في حدِّ أرضي، وقلت أنا: هي في حدِّي، وكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، وندم؛ فقال لي: يا ربيعة! رد علي مثلها حتى يكون قصاصاً، قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن، أو لأستعدين عليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: ما أنا بفاعل. قال: ورفض الأرض، فانطلق أبو بكر- رضي الله عنه- إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانطلقت أتلوه، فجاء أناس من أسلم، فقالوا: رحم الله أبا بكر! في أي شيء يستعدي عليك رسول الله، وهو الذي قال لك ما قال؟! فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، وهو ثاني اثنين، وهو ذو شيبة المسلمين، فإياكم يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما؛ فيهلك ربيعة، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ارجعوا.(7/407)
فانطلق أبو بكر- رضي الله عنه- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتبعته وحدي، وجعلت أتلوه؛ حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه فقال: ... (فذكر الحديث) وزاد:
[فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر!] قال: فولى أبو بكر- رحمه الله- وهو يبكي.
والسياق للطبراني، والزيادتان لأحمد، وإسناده حسن، والمبارك بن فضالة صدوق مدلس، ولكنه قد صرح بالتحديث في كل الطرق عنه، فأمنّا تدليسه، ولذا قال الهيثمي (9/45) :
"رواه الطبراني، وأحمد بنحوه في حديث طويل تقدم في النكاح، وفيه مبارك بن فضالة، وحديثه حسن ".
قلت: وهكذا مطولاً: أخرجه الحاكم في "النكاح " (2/173- 174) ، وقال: "صحيح على شرط مسلم "!
ورده الذهبي بقوله:
"قلت: لم يحتج مسلم بمبارك ". *
3146- (حيثما كنتُم، فأحسنتُم عبادة الله؛ فأبشروا بالجنة) .
أخرجه الدَّولابي في "الكنى" (1/179- 180) : حدثنا إسحاق بن سُوَيدِ الرملي قال: حدثنا ابن أبي أويس: حدثني يحيى بن عُمَيْرٍ أبو زكريا البزاز- مولى نوفل بن عدي بن نوفل بن أسد - أنه سمع سعيد بن أبي سعيد المقبري يحدث عن أبيه عن أبي هريرة قال:
أتى نفر من أهل البادية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! إن أهل(7/408)
قرآن زعموا أنه لا ينفع عمل دون الهجرة والجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:......فذكره.
قلت: وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال الشيخين، غير إسحاق بن سويد الرملي، وهو ثقة.
ويحيى بن عمير قال ابن أبي حاتم عن أبيه (9/178 /738) :
"صالح الحديث ".
وذكره ابن حبان في "الثقات " (7/602) ، وقد روى عنه جمع من الثقات
غير ابن أبي أويس- وهو إسماعيل-، فهو حسن الحديث على الأقل، ولذلك قال الذهبي في "الكاشف ":
" صدوق ".
وهذا أصح من قول الحافظ فيه:
"مقبول "!
وذلك؛ لرواية الثقات عنه، وهم خمسة:
ا- ابن أبي أويس.
2- خالد بن مَخْلَد.
3- عبد الله بن مَسْلَمة القَعْنَبِي.
4- محمدُ بن خالد بن عَثْمَةَ.
5- مَعْنُ بن عيسى.
والحديث أخرجه البيهقي (9/17) مثل حديث الترجمة من طريق العباس(7/409)
ابن محمد: ثنا يحيى بن عمير: ثنا المقبري عن أبي هريرة به؛ لم يقل: "عن أبيه "، وقال: "من قرابتنا" مكان: "أهل قرآن "؛ ولعله أصح.
والعباس بن محمد هو الدوري- وهو ثقة- ما أظنه بإمكانه أن يسمع من يحيى بن عمير؛ فإن هذا تابع تابعي، وذاك ولد سنة (185) ، فأظن أن بينهما خالد بن مخلد؛ فقد ذكروه في شيوخ الدوري، وفي الرواة عن يحيى ابن عمير.
وللحديث شاهد أتم منه، لكن في إسناده جهالة وإرسال، ولذلك أخرجته في الكتاب الآخر (6300) . *
3147- (والذي نفسي بيدِه! لوتتابعتُم حتَّى لا يبقى منكم أحدٌ؛ لسال بكُمُ الوادي ناراً) .
أخرجه أبو يعلى في "مسنده " (3/468/ 1979) - ومن طريقه: ابن حبان (6877- ط: المؤسسة) : حدثنا زكريا بن يحيى قال: حدثنا هُشَيم عن حُصَين عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال:
بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة؛ وقدمت عِيرٌ إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:..! فذكره، فنزلت هذه الآية: (وإذا رَأوْا تجارة أو لهواً انفضُّوا إليها وتركوك قائماً) [الجمعة: 11] ، وقال: في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات؛ لولا أن هشيماً مدلس وقد عنعنه، لكنه قد صرح بالتحديث عند مسلم (3/10) : حدثنا إسماعيل بن سالم: أخبرنا هشيم: أخبرنا حصين به، إلا أنه لم يذكر حديث الترجمة.(7/410)
وكذلك أخرجه الترمذي (3308) : حدثنا أحمد بن منيع: حدثنا هشيم: حدثنا حصين به، وقال:
"حديث حسن صحيح ".
وكذا أخرجه أبن حبان (6837) من طريق آخر عن هشيم.
وتابع هشيماً جمعٌ من الثقات عن حصين به دون حديث الترجمة.
أخرجه البخاري (936 و 4899) ، ومسلم أيضاً، وابن خزيمة (3/161- 162)
وأبو يعلى (1888) أيضاً، وأحمد (3/313 و370) ، وابن أبي شيبة (2/113) ، وابن جرير في "التفسير" (28/67- 68) ، والبيهقي (3/ 181- 182) من طرق عدة عن حصين به، منهم من لا يذكر أبا سفيان، وجميعهم لم يذكروا حديث الترجمة، فيكون شاذاً لتفرد زكريا بن يحيى به؛ وهو الواسطي الملقب (زَحْمَوَيهِ) ؛ وهو ثقة، كما قال الحافظ في "اللسان " (2/484) ، وذكره ابن حبان في "الثقات " (8/253) ، وقال:
"كان من المتقنين "!
ولعل مخالفته لهؤلاء الثقات بهذه الزيادة عليهم لا يؤيد قول ابن حبان هذا فيه، فليُتأمَّل!
ولذلك؛ فقد غفل عن هذه المخالفة: المعلِّق على "مسند أبي يعلى" حين قال
في تعليقه على الحديث:
"إسناده صحيح، وقد تقدم برقم (1888) ".
ومثله المعلق على "الإحسان " (15/300) فقال:
"إسناده صحيح، زكريا بن يحيى زحمويه، روى عنه جمع، وذكره المؤلف في(7/411)
"الثقات ".. وهو في "مسند أبي يعلى" (1979) ، وانظر ما قبله "!
وغفلتهما من ناحيتين:
الأولى: أن عنعنة هشيم تمنع من إطلاق الصحة على إسناده كما تقدم.
هذا أولاً.
وثانياً: اتفاق إسماعيل بن سالم، وأحمد بن مَنيع، وسُرَيج بن يونس عند
ابن حبان على روايتهم عن هشيم مصرحاً بالتحديث دون حديث الترجمة يجعل رواية زحمويه بهذه الزيادة شاذة.
وثالثاً: متابعة الجمع الثقات لهشيم على رواية الحديث عن حصين دون الزيادة تؤكد شذوذها، ولذلك اقتصر الشيخان على إخراج الحديث دونها.
والأخرى: أن كُلاً من المعلقين أشار إلى رواية أبي يعلى الموافقة لرواية الشيخين المتقدمة، وذلك من تمام الغفلة!
ثم إن زيادة: "وقال: في الإثني عشر ... " ثابتة من بعض الطرق الأخرى عن هشيم عند ابن حبان ومسلم أيضاً وغيرهما.
نعم؛ لحديث الترجمة شاهد مرسل قوي، فقال الطبري في "تفسيره " (28/67- 68) : حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة:
بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة، فجعلوا يتسللون ويقومون، حتى بقيت منهم عصابة، فقال: "كم أنتم؟ " فعدوا أنفسهم، فإذا اثنا عشر رجلاً وامرأة، ثم قام في الجمعة الثانية فجعل يخطبهم- قال سعيد: ولا أعلم إلا أن في حديثه: ويعظهم ويذكرهم، فجعلوا يتسللون ويقومون حتى بقيت عصابة، فقال: "كم أنتم؟ " فعدوا أنفسهم، فإذا اثنا عشر رجلاً وامرأة، ثم قام في الجمعة الثالثة،(7/412)
فجعلوا يتسللون ويقومون، حتى بقيت منهم عصابة، فقال: "كم أنتم؟ " فعدوا أنفسهم، فإذا اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال:
"والذي نفسي بيده؛ لو اتبع آخرُكم أولَكم؛ لالتهب عليكم الوادي ناراً "، وأنزل الله عز وجل: (وإذا رأوا تجارة..) الآية.
قلت: وهذا مرسل صحيح الإسناد، رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير بشر
- وهو ابن معاذ العقدي الضرير-؛ قال عنه أبو حاتم (2/368/1417) :
"صالح الحديث صدوق ".
وذكره ابن حبان في "الثقات " (8/ 144) ، وقال:
"ثنا عنه ابن خزيمة وشيوخنا، مات سنة (245) أو قبلها أو بعدها بقليل ". (تنبيه) : جاء في "فتح الباري " (2/424) ما نصه:
"ووقع في "تفسير الطبري " و"ابن أبي حاتم " بإسناد صحيح إلى أبي قتادة قال ... " فذكر الحديث.
فأقول: هكذا وقع فيه "أبي قتادة"! وهكذا نقله عن "الفتح " مؤلف "تحرير المرأة في عصر الرسالة " (2/182) ، وهو خطأ مطبعي، والصواب: "قتادة" دون أداة الكنية: " أبي "، ويؤيد ذلك أنه وقع على الصواب في موضعين آخرين من " الفتح ": أحد هما: في " التفسير" قال (8/ 644) :
"ووقع عند الطبري من طريق قتادة ... ".
والآخر: في "الجمعة" قبل الموضع الأول بصفحة (2/423) قال:
"وفي مرسل قتادة عند الطبراني "!(7/413)
كذا وقع فيه، وهو خطأ مطبعي أيضاً؛ بدليل أن محققه علق عليه بقوله:
" وفي المخطوطة: (الطبري) ".
قلت: وهذا هو الصواب الذي يدل عليه ويؤكده تحقيقنا هذا.
فلا أدري لِمَ لَمْ يثبته محققه كما في الأصل؟!
وكذلك أورده السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 221) من رواية عبد بن حُميد
عن قتادة، ومن روايته عن الحسن- وهو البصري- قال:
"بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة إذ قدمت عير المدينة فانفضوا ... " الحديث نحو حديث الترجمة، ليس فيه ذكر الجمعة الثانية والثالثة، وهو الصواب - إن شاء الله تعالى-.
ثم رأيت البيهقي قد أخرج الحديث في "شعب الإيمان " (5/235- 236) بسند ضعيف عن مقاتل بن حَيَّان، معضلاً مثل حديث قتادة عند ابن جرير، والله أعلم.
وأخرجه أبو داود في "المراسيل " (105/62) بسند صحيح عن مقاتل بن حيان قال:
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي يخطب وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دِحْيَة بن خليفة قدم بتجارته، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدِّفاف، فخرج الناس، فأنزل الله عز وجل: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) ، فقدَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الخطبة يوم الجمعة وأخَّر الصلاة ... " الحديث.
قلت: وهذا منكر بهذا السياق مع إعضاله.(7/414)
ثم رأيت حديث الحسن البصري قد أخرجه البيهقي في "الشعب " (3/107/3019) من طريق الأوزاعي: حدثني داود بن علي: أنه سمع الحسن بن أبي الحسن يقوله:
بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة؛ أقبل شاءٌ وشيء من سمن، فجعل الناس يقومون إليه، حتى لم يبق إلا قليل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"لو تتابعتم لتأجج الوادي ناراً ".
قلت: وهذا إسناد حسن مرسل، وداود بن علي: هو ابن عبد الله بن عباس، قال ابن حبان في "الثقات ":
"يخطىء ". وقال الحافظ:
"مقبول ".
قلت: فهو حسن الحديث في الشواهد كما هنا. *
3148- (إنَّه قد أُذِن لَكُنَّ أن تَخْرجْنَ لحاجتكنَّ، وفي رواية: لحوائجكُنَّ) .
أخرجه البخاري (147 و4795 و 5237) ، ومسلم (7/6) ، وابن جرير في "التفسير" (28/39) ، والبيهقي (7/88) ، وأحمد (6/56) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت:
خرجت سودة بعد ما ضُرِبَ الحجاب لحاجتها- وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها-، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة! أما والله! ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟! فانكفأت راجعة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وإنه(7/415)
ليتعشى وفي يده عَرَق، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رُفع عنه- وإن العرَقَ في يده ما وضعه-، فقال ... فذكره؛ والسياق للبخاري، والرواية الأخرى للبيهقي، وهي رواية للبخاري.
هذه رواية هشام بن عروة- رحمه الله-، وقد خالفه ابن شهاب الزهري- رحمه الله- في قوله: ".. بعدما ضرب الحجاب "، فقال الزهري: عن عروة عن عائشة:
أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يخرجن بالليل إذا تبرَّزن إلى المناصع- وهو صعيد أفيح- فكان عمر يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: احجُبْ نساءك. فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي عِشاءً- وكانت امرأة طويلة-، فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة! حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب [ (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي....) الآية] [الأحزاب/53] .
أخرجه البخاري (146) ، ومسلم أيضاً، والطحاوي في "شرح المعاني " (2/392) ، وابن جرير (28/29) ، والبيهقي أيضاً، وأحمد (6/223) ، والزيادة لابن جرير، وسندها جيد، وعزاها الحافظ (1/249) لأبي عوانة في "صحيحه ".
ولها شاهد من حديث أنس في قصة تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب المعروفة في "الصحيحين " وغيرهما، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى هنا.
ويرى القارئ الاختلاف بين الروايتين ظاهراً، ففي رواية هشام أن القصة وقعت بعد نزول آية الحجاب، وفي رواية الزهري أنها نزلت قبلها، قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره " (3/505) :
"والمشهور الأول ".(7/416)
وبالغ ابن العربي في "أحكام القرآن " (3/ 1574- 1575) ، فصرح بضعف رواية الزهري
وأما الحافظ فجمع بين الروايتين، بأن حمل رواية ابن شهاب على أن عمر أراد أولاً الأمر بستر وجوههن، فلما وقع الأمر بوفق ما أراد؛ أحب أن يحجب أشخاصهن مبالغة في التستر؛ فلم يجب لأجل الضرورة، يعني كما في رواية هشام؛ ثم قال:
"وعلى هذا؛ فقد كان لهن في التستر عند قضاء الحاجات حالات:
أولها: بالظلمة؛ لأنهن كن يخرجن بالليل دون النهار، كما قالت عائشة في حديث الزهري: "كن يخرجن بالليل "، وسيأتي في حديث عائشة في "قصة الإفك ": "فخرجت معي أم مسطح قِبل المناصع وهو مُتَبَرَّزُنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل ".
ثم نزل الحجاب فتسترن بالثياب، لكن كانت أشخاصهن ربما تتميز، ولهذا قال عمر لسودة في المرة الثانية بعد نزول (الحجاب) : "أما والله ما تخفين علينا".
ثم اتخذت الكُنُف في البيوت فتسترن بها كما في حديث عائشة في "قصة الإفك " أيضاً؛ فإن فيها: "وذلك قبل أن تتخذ الكُنُف "، وكان "قصة الإفك " بعد نزول آية الحجاب ".
قلت: وفي قول الحافظ عن عمر: "فلم يجب؛ لأجل الضرورة" رد على من يزعم قديماً وحديثاً أن أمهات المؤمنين كان يَحْرُمُ عليهن إبراز أشخاصهن، ولو كن منتقبات متلفعات، وعزا الحافظ هذا الزعم للقاضي عياض، وقال (8/530- 531) :
"ثم استدل بما في "الموطأ": أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها".(7/417)
قال الحافظ:
"وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مُتَسَتِّراتُ الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في "الحج " قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب ".
وقال في مكان آخر بعد أن ذكر الزعم المذكور باختصار (9/337) :
"والحاصل في رد قوله؛ كثرة الأخبار الواردة أنهن كن يحججن ويطفن، ويخرجن إلى المساجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده ".
قلت: ووجه قول الحافظ: "وليس فيما ذكره دليل ... " إلخ: أنه مجرد فعل لا يدل على الفرضية المزعومة، وهذا إن صح ما عزاه القاضي لـ"الموطأ"؛ فإني لم أَرَ ذلك في "الموطأ" المعروف اليوم من رواية يحيى الليثي بعد مزيد البحث عنه؛ والله أعلم.
ولعل من الأدلة التي تؤيد ما قاله الحافظ- رحمه الله-: حديث أنس- رضي الله عنه- في سبب نزول آية الحجاب الذي سبقت الإشارة إليه، وقد جاء من طرق عنه بألفاظ مختصراً ومطولاً، أذكر أحدها من "صحيح البخاري " (4792) ، مع زيادات هامة من غيره تناسب المقام، فقال- رضي الله عنه-:
أنا أعلم الناس بهذه الآية ـ آية الحجاب -: لما أهديت زينب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت معه في البيت، صنع طعاماً ودعا القوم، فقعدوا يتحدثون، [ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، وزوجته مُوَلِّيَةٌ وجهها إلى الحائط] ، [وكانت قد أُعطيت جمالاً] ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج ثم يرجع، وهم قعود يتحدثون، فأنزل الله تعالى: (يا أيها(7/418)
الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) إلى قوله: (من وراء حجاب) ، فضُرب الحجاب، وقام القوم.
وأخرجه مسلم (4/150- 151) مطولاً، وكذا الترمذي (3217) - وصححه -، والزيادة الأولى لهما، والزيادة الأخرى للطبري في " التفسير" (22/26) ، وسندها صحيح.
قلت: وفي هاتين الزيادتين حجة قوية على أن زينب- رضي الله عنها- كانت مكشوفة الوجه، وإلا لم يكن لذكر أنس تولية وجهها إلى الحائط، ووصفه إياها بأنها كانت جميلة فائدة تذكر.
وأما قول مؤلف "تحرير المرأة في عصر الرسالة " (3/68) :
"لو كانت سافرة الوجه لأمرها الرسول الكريم بستره، ولا حاجة لإلقاء الحجاب ومنع أنس من الدخول "!!
وجوابي على ذلك:
أولاً: قوله: "لأمرها بستره " مجرد دعوى لا دليل عليها؛ لأن ستر الوجه من نسائه - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول آية الحجاب هذه لم يكن واجباً، حتى يأمرها بستره، وهذا بيّن لا يخفى إن شاء الله تعالى.
ثانياً: قوله: "ولا حاجة لإلقاء الحجاب.. " فيه مغالطة ظاهرة، على رأيه الذي يدافع عنه بكل تكلف وحرارة، وهو حجب أشخاص زوجاته - صلى الله عليه وسلم - خلف ستر لا يرى الرجال أشخاصهن، ولا هن يَرَينَهم! عند التكلُّم معهن.
وأما على ما رجحه الحافظ من أن المقصود حجب البدن لا الشخص؛ فالحاجة للحجاب قائمة أيضاً؛ لأنهن بحكم كونهن يتردد الرجال كثيراً عليهن(7/419)
لسؤالهن عن أمور دينهم، فلولا الحجاب لوجب عليهن أن يسترن وجوههن كلما سئلن لو دخلوا عليهن، وفي ذلك مشقة ظاهرة وحرج، فرفع ذلك عنهن بالحجاب إذا كن في بيوتهن، أما إذا خرجن من بيوتهن لحاجة ما؛ سترن وجوههن؛ كما في روايات عدة مذكورة في كتابي "جلباب المرأة المسلمة".
هذا، وهناك في السنة أحاديث كثيرة تدل على أن النساء- ومنهن بعض زوجاته - صلى الله عليه وسلم -- كن لا يسترن وجوههن قبل نزول آية الحجاب هذه، يتيسر لي الآن منها ثلاثة:
الأول: قال أنس رضي الله عنه:
لما انقضت عدة زينب؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد: "فاذكرها عليّ "، قال: فانطلق زيد حتى أتاها، وهي تخمِّر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ... الحديث نحو ما تقدم، وفيه نزول آية الحجاب.
أخرجه مسلم (4/148) ، وأحمد (3/ 195) ، وأبو يعلى (6/77- 78) .
الثاني: حديث عائشة، وقولها في "قصة الإفك " في صفوان بن المعطِّل السُّلَمي:
".. فرأى سواد إنسان نائم؛ فأتاني حين رآني، وكان قد رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرت وجهي بجلبابي........ " الحديث بطوله، وهو متفق عليه.
الثالث: عن عائشة أيضاً قالت:
كنت آكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حَيْساً في قَعْبٍ، فمر عمر- رضي الله عنه-(7/420)
فدعاه، فأكل، فأصاب إصبعه إصبعي، فقال: حَسِّ، أوّه أوّه! لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزلت آية الحجاب.
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1053) ، والنسائي في "الكبرى/ التفسير" (6/435) ، والطبراني في "المعجم الصغير" (ص 45- هندية، رقم (801 - الروض النضير) و"الأوسط " أيضاً (1/166/2/ 3100 بترقيمي) ، وعنه أبو نعيم في "أخبار أصبهان " (1/ 188) من طريق موسى بن أبي كثير عن مجاهد عنها.
قلت: وإسناده جيد، وقال السيوطي في "الدر المنثور" (5/213) - وعزاه لابن أبي حاتم أيضاً والطبراني وابن مردويه-:
"سنده صحيح ".
وقال الهيثمي في "المجمع " (7/93) :
"رواه الطبراني في "الأوسط "، ورجاله رجال "الصحيح "؛ غير موسى بن أبي كثير، وهو ثقة".
وكذا وثقه الذهبي في "الكاشف "، وقال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق، رمي بالإرجاء، لم يصب من ضَعَّفَه ".
قلت: وفات الهيثمي أنه في "المعجم الصغير" أيضاً، وسكت الحافظ عن إسناده في "الفتح " (8/ 531) مشيراً إلى تقويته بعدما عزاه للنسائي فقط، وذكره بعد حديث الباب وقصة زينب، وقال:
"ويمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلِقُرْبِهِ منها؛ أطلقت (عائشة) نزول الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب ".
المقصود أن هذه الأحاديث تبطل دعوى مؤلف "التحرير" المتقدمة بأن زينب لو(7/421)
كانت سافرة الوجه لأمرها - صلى الله عليه وسلم - بستره، ويؤكد ذلك أن آية (الجلباب) نزلت بعد آية (الحجاب) : (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) [الأحزاب/59] ، فلم يكن من الواجب عليهن قبل نزولها أن يتجلببن فضلاً عن أن يسترن وجوههن، ولذلك رأى زيد من زينب قبل نزول آية (الحجاب) ما رأى كما تقدم في حديث مسلم وغيره. *
3149- (تطوُّعُ الرجل في بيتِهِ يزيدُ على تطوُّعِه عندَ الناس، كفضْلِ صلاة الرجل في جماعةٍ على صلاتهِ وحدَه) .
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه " (3/70/4835) ، وكذا ابن أبي شيبة (2/256) عن الثوري عن منصور عن هلال بن يساف عن ضَمْرة بن حبيب بن صهيب عن رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير ضمرة هذا، وهو الزُّبَيدِي الحمصي، وهو تابعي ثقة، وظاهر إسناده الوقف، ولكنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال بالرأي والاجتهاد؛ كما هو بَيِّن لا يخفى على العلماء.
وقد روي مرفوعاً، فقال الطبراني في "المعجم الكبير" (8/53/7322) :
حدثنا الحسن بن علي المعمري: ثنا أيوب بن محمد الوارق: ثنا محمد بن مصعب القرْقسَانِيُّ: ثنا قيس بن الربيع عن منصور عن هلال بن يساف عن صهيب بن النعمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... نحوه إلا أنه قال:
"كفضل المكتوبة على النافلة".
وعزاه الحافظ في "الإصابة " للطبراني والمعمري في "اليوم والليلة "، وسكت عنه، وقال الهيثمي في "المجمع " (2/247) :(7/422)
"رواه الطبراني في "الكبير"؛ وفيه محمد بن مصعب القرقساني، ضعفه ابن معين وغيره، ووثقه أحمد".
قلت: وقيس بن الربيع ضعيف أيضاً.
لكن له شاهد مرفوع، فقال أبو يعلى في "مسنده "- بروايته المطوَّلة-: حدثنا إبراهيم بن سعيد: ثنا يحيى بن صالح عن جابر بن غانم السلفي عن أبي صهيب عن أبيه صهيب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"صلاة الرجل تطوعاً حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمساً وعشرين ".
وأخرجه الديلمي في "مسند الفردوس " (2/ 244) من طريق أبي الشيخ عن عصام بن خالد: حدثنا جابر بن غانم: حدثنا ابن صهيب عن أبيه عن جده مرفوعاً به.
قلت: وجابر بن غانم ومن دونه ثقات، لكن من فوقه: أبو صهيب- أو ابن صهيب وأبوه وجده لم أعرفهم، ولعل صهيباً هو جد ضمرة بن حبيب بن صهيب المذكور في إسناد حديث الترجمة، ولكني لم أجد له ترجمة، والله أعلم.
لكن حديث الترجمة يشهد لمعناه، وقد أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان " (3/173/3259) من طريق أبي عوانة عن منصور عن هلال بن يساف عن ضمرة ابن حبيب عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... فذكره موقوفاً بلفظ:
"فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع ".
وهكذا أورده المنذري في "الترغيب " (1/159) ، لكنه زاد بعد قوله: ".. من(7/423)
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -":
"أراه رفعه ".
فلا أدري أهي في إسناد الحديث في نسخته من "البيهقي "، أم هي زيادة من رأيه؟! وقال عقبه:
"رواه البيهقي، وإسناده جيد إن شاء الله تعالى".
(تنبيه) : لم يورد الهيثمي الحديث من رواية أبي يعلى؛ لأنها ليست في "مسنده " المختصر، وإنما استفدت إسناده من "المطالب العالية " من النسخة المسندة المصورة (ق 20/ 1) للحافظ ابن حجر، وهو في "المطالب العالية " المطبوعة مجردة من الأسانيد (1/138/504) .
ثم رأيت في ترجمة (حبيب الكلاعي أبو ضمرة) من "الإصابة" للحافظ ابن حجر، قد ذكر حديث الترجمة من رواية ابن السكن عن عبد العزيز بن ضمرة بن حبيب عن أبيه عن جده مرفوعاً، وقال ابن السكن:
"لم أجد لـ (حبيب) ذكراً إلا في هذا الحديث "
وأقره ابن حجر.
قلت: ورواية عبد الرزاق في صدر هذا التخريج تبيِّن أن الحديث لضمرة بن حبيب أسنده عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فليس لأبيه (حبيب) علاقة بهذا الحديث وأن قول (عبد العزيز بن ضمرة) : "عن جده " مقحم من عبد العزيز هذا، فإنه مجهول لا يعرف، ولم يذكر ألبتة في كتب الرجال، حتى ولا في "ثقات ابن حبان "! ولعل هذا هو ملحظ المناوي في "فيض القدير" حين جزم بأن (ضمرة) في حديث (ابن السكن) :(7/424)
"هو ضمرة بن حبيب الزهري الحمصي، وثقة ابن معين ".
ولكنه سكت عن الحديث، ولم يبين مرتبته! وهو بلا شك صحيح كما يتبين للقراء من هذا التخريج الذي أظن أنه مما لم أسبق إليه، والفضل لله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً. *
3150- (لو كنتُ أنا لأسرعتُ الإجابةَ، وما ابتغيتُ العُذْرَ) .
أخرجه أحمد (2/346 و 389) ، وابن جرير الطبري في "تفسيره " (12/139) ، والحاكم (2/346- 347) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- وقرأ هذه الآية (ارجع إلى رَبِّكَ فاسأله ما بال النِّسْوةِ اللاتي قطعْنَ أيدِيَهُنَّ إنَّ ربّي بكيدِهِنَّ عليمٌ) - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره. وقال الحاكم:
"صحيح على شرط مسلم "، وأقره الذهبي.
وأقول: بل هو حسن فقط؛ لأن محمد بن عمرو، إنما أخرج له مسلم متابعة، وفي حفظه شيء، وقد حسن له الترمذي غير ما حديث؛ منها هذا الحديث، وقد رواه نحوه بأتم منه، وقد تقدم برقم (1617) ، وأصله متفق عليه، ومضى برقم (1867) ، وانظر (1945) . *
3151- (كان يقولُ: اللهمَّ! انفعْني بما علَّمْتني، وعلِّمْنِي ما ينفعُني، وارزقْني عِلْماً تنفعُني به) .
أخرجه الحاكم (1/510) ، وعنه البيهقي في "الدعوات الكبير" (157- 158) ، والطبراني في "الدعاء" (3/1455/1405) من طريق عبد الله بن وهب: أخبرني أسامة بن زيد أن سليمان بن موسى حدثه عن مكحول أنه دخل على أنس بن(7/425)
مالك- رضي الله عنه- قال: فسمعته يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ... فذكره. وقال الحاكم:
"صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي!
قلت: وهو كما قالا؛ لكن سليمان بن موسى- وهو الدمشقي الأشدق - فيه كلام، مع أنه من الأعلام، وقد وصفه الذهبي في "السير" (5/433- 437) بأنه: "الإمام الكبير، مفتي دمشق ".
ثم ذكر الخلاف فيه، وقال:
"وله شيء في مقدمة مسلم ".
يشير إلى أنه لم يحتج به. ولذلك قال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل ".
قلت: فمثله بالكاد أن يصل حديثه مرتبة الحسن.
وقريب منه أسامة بن زيد- وهو الليثي مولاهم المدني-؛ قال الحافظ الذهبي في "الكاشف ":
"روى مسلم نسخة لابن وهب عن أسامة؛ أكثرها شواهد أو يقرنه بآخر". وقال الحافظ العسقلاني:
"صدوق يهم ".
ورمز له بأنه روى له مسلم، والبخاري تعليقاً، وكذا في أصله "تهذيب الكمال " للمزي، لكنه صرح في آخر ترجمته بأن البخاري استشهد به في "الصحيح "، وسكت عن رواية مسلم، فأوهم أنه احتج به. ولذلك انتقده الدكتور بشارفي تعليقه عليه بقوله:(7/426)
"فيه نظر؛ لما ذكره الحافظ أبو الحسن القطان في كتاب "الوهم والإيهام " من
أن مسلماً- رحمه الله تعالى- لم يحتجَّ به، إنما روى له استشهاداً كالبخاري ".
ومن الغريب أن ابن طاهر المقدسي في كتابه "الجمع بين رجال الصحيحين " لم ينبِّه إلى هذا الذي ذكره ابن القطان، والله أعلم.
وقد وجدت للحديث طريقاً أخرى وشاهداً.
أما الطريق؛ فأخرجه أبو الشيخ في "طبقات الأصبهانيين " (182/179) ،
ومن طريقه الشجري في "الأمالي" (1/57) قال: حدثنا أبو علي بن إبراهيم قال: حدثنا محمد بن عامر قال: حدثنا أبي قال: حدثنا النعمان: حدثنا أبو بكر عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال: ... فذكره؛ إلا أنه قال:
"وزدنا علماً إلى علمنا "؛ بصيغة الجمع، وكذلك قال في الفقرتين اللتين قبلها، وزاد:
"قال أبو علي: كان حاتم بن يونس معنا، فقال: أبو بكر هذا هو من أهل البصرة ".
قلت: ليته سماه؛ فإن البصريين الذين يكنون بهذه الكنية من هذه الطبقة كثر، منهم: الربيع بن صَبيح، وعمران بن مسلم المِنقَري، وقريش بن أنس الأنصاري، ووهيب بن خالد الباهلي مولاهم، وأبو بكر بن شعيب بن الحبحاب المِعْوَلِيُّ، وكلهم ثقات، على كلام في الربيع، وأبو بكر الهذلي، وهو لين الحديث؛ كما في "الميزان "، لكن الحافظ المزي لم يذكر في ترجمة شريك بن عبد الله واحداً من هؤلاء في الرواة عنه، بل ذكر فيهم أبا بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرة، وهذا مدني متروك متهم بالوضع؛ والله أعلم.(7/427)
وسائر رجال الإسناد ثقات؛ أما أبو علي بن إبراهيم شيخ أبي الشيخ؛ فقد ترجمه
في كتابه، وسماه أحمد بن محمد بن إبراهيم المصاحفي (1) ، وقال (442/643) :
"شيخ كثير الحديث عن العراقيين والأصبهانيين، ثقة، مات سنة [أربع وثلاثين وثلاث مئة] " (2) .
وأما محمد بن عامر؛ فهو ابن إبراهيم بن واقد أبو عبد الله، قال ابن أبي حاتم (4/1/44) :
"سمعت منه بـ (أصبهان) ، وكان صدوقاً".
ووصفه الذهبي في "السير" (12/594) بـ:
"الإمام العلامة.. توفي سنة 267 ".
وأما أبوه عامر بن إبراهيم؛ فثقة من رجال النسائي.
ومثله النعمان، وهو ابن عبد السلام الأصبهاني.
وأما حاتم بن يونس- الذي ذكر أن أبا بكر شيخ النعمان هو من أهل البصرة-؛ فقد ترجمه أبو الشيخ في كتابه (237/270) ؛ فقال:
"جرجاني، قدم أصبهان، وكان من الحفاظ، وكان يذاكر".
وكذا قال أبو نعيم (1/297) ، ونحوه في "تاريخ جرجان " (203/297) .
والحديث أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 181) بلفظ الترجمة دون الجملة الأخيرة منه، وقال:
_________
(1) الأصل. " الصحاف "، والتصحيح من "أخبار أصبهان " (1/ 140) ، و" الأنساب ".
(2) هذه الزيادة سقطت من الأصل، واستدركتها من "الأخبار".(7/428)
"رواه الطبراني في "الأوسط " من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين، وهي ضعيفة".
قلت: فلا أدري أهي من أحد الوجهين المتقدمين، أم من طريق ثالث؟! فإني لم أره في "مجمع البحرين "، وبالتالي لم يتيسر لي الوقوف عليه، مع أنني مررت على كل أحاديث أنس التي في "المعجم الأوسط "، مستعيناً على ذلك بالفهرس الذي كنت وضعته له.
قلت: ثم وجدته في "الأوسط " (1748) بعد مزيد بحث من طريق إسماعيل ابن عياش عن عمارة بن غزية عن سليمان بن موسى ... به.
وهذه متابعة قوية لأسامة بن زيد، وإن كان فيها ابن عياش، لكنه متابع، فالحمد لله. وهي- كما هو ظاهر- من الطريق الأولى نفسها.
وأما الشاهد، فيرويه موسى بن عُبَيْدة عن محمد بن ثابت القرشي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"اللهم! انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من عذاب النار".
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (10/281/9442) ، وعنه ابن ماجه (251 و 3833) ، والترمذي (3593) ، والبيهقي في " الشعب" (4/91/4376) ، والبغوي في "شرح السنة " (5/173/1372) ، والطبراني في "الدعاء " (3/1455/ 1404) - والزيادة له-.
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ موسى بن عُبيدة- وهو الزَّبَذِيُّ- ضعفه الجمهور(7/429)
على صلاحه وعبادته ولم يتهم، وبعضهم يضعفه في روايته عن عبد الله بن دينار فقط؛ قال أبو داود:
"أحاديثه مستوية إلا عن عبد الله بن دينار".
وقال وكيع:
"كان ثقة، وقد حدث عن عبد الله بن دينار أحاديث لم يتابع عليها". وقال ابن معين في رواية:
"إنما ضُعِّف حديثه؛ لأنه روى عن عبد الله بن دينار مناكير".
وفي رواية أخرى عنه:
"ضعيف إلا أنه يُكتب من أحاديثه الرقاق ".
فيبدو لي من هذه الأقوال أنه ممن يستشهد به، ولعل في قول الترمذي فيه: "يُضعَّف " إشارة إلى ذلك، ولا سيما وقد قال عقب حديثه هذا:
"حديث حسن، غريب من هذا الوجه ".
فهذا نص منه على أنه حسن الحديث، وأن قوله: "يضعف " لا يعني تضعيفه مطلقاً، ولعل مستنده في ذلك قول أحمد في رواية عنه:
"لم يكن به بأس، ولكنه حدث بأحاديث منكرة، وأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا، وضم على يديه ".
قلت: فلعل تحسين الترمذي المذكور هو من هذا الباب: أنه ليس في الحلال والحرام، وإلا؛ فهو من تساهله المعروف، فكان الأولى به أن لا يزيد على قوله:(7/430)
"حديث حسن " إشارة إلى أنه حسن لغيره كما هو اصطلاحه الذي نص عليه في "العلل " الذي في آخر "سننه ".
بقي الكلام على محمد بن ثابت القرشي:
فاعلم أن محمد بن ثابت قد تُرجم له هكذا غير منسوب إلى قريش، وأنه روى عن أبي حكيم وأبي هريرة، وأنه لم يرو عنه غير موسى بن عبيدة، ولذلك حكموا بجهالته، ولكن ذكر الحافظ المزي ثم العسقلاني في "تهذيبيهما": أنه هو محمد بن ثابت بن شُرحْبِيل من بني عبد الدار، واستشهدا له برواية الطبراني هذه التي ذكر فيها أنه القرشي، ثم قالا- واللفظ للمزي-:
"وهذا يقوي ما قاله يعقوب بن شيبة من أنه محمد بن ثابت بن شرحبيل ".
قلت: وهذا هو الراجح عندي؛ لأنهم ذكروا له- أيضاً- رواية عن أبي هريرة، وأنه قرشي، فالتفريق بينهما صعب، وعليه؛ فهو صدوق؛ لأنهم ذكروا أن ابن شرحبيل هذا قد روى عنه جمع، ووثقه ابن حبان، ذكره في "التابعين " (5/358) ، وفي "أتباع التابعين " (7/408) .
وبالجملة؛ فالحديث بهذا الشاهد حسن على أقل الأحوال.
ولجملة: "وزدني علماً " منه شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
كان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم! أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم! زدني علماً ... " الحديث.
أخرجه أبو داود (5061) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة " (865) ، وكذا
ابن السني (752) ، وابن حبان (2359) ، والحاكم (1/540) من طريق عبد الله ابن الوليد عن سعيد بن المسيب عنها. وقال الحاكم:(7/431)
"صحيح الإسناد"! ووافقه الذهبي!
كذا قالا، وعبد الله بن الوليد هذا- وهو المصري- لم يوثقه أحد غير ابن حبان، وقال الدارقطني:
"لا يعتبر بحديثه ". وقال الحافظ في "التقريب ":
" لين الحديث ".
وبيض له الذهبي في "الكاشف "! *
3152- (وُلِدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل) .
روي من حديث عبد الله بن عباس، وقيس بن مخرمة.
أما حديث ابن عباس؛ فيرويه حجاج بن محمد: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن سعيد بن جبير عنه.
أخرجه ابن سعد في "الطبقات " (1/101) قال: أخبرنا يحيى بن معين: أخبرنا حجاج بن محمد به، ولفظه:
"يوم الفيل، يعني: عام الفيل ".
وسقط من إسناده: "عن أبيه "؛ ولعله من الطابع أو الناسخ.
وأخرجه أبن حبان في "الثقات " (1/ 14) ، والطبراني في "المعجم الكبير"
(12/47/12432) ، والبيهقي في "دلاثل النبوة" (1/75- 76) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (1/400) من طرق أخرى عن يحيى بن معين به بلفظ:
"عام الفيل " دون قوله: "يوم الفيل، يعني ". وعكس ذلك البيهقي فقال:
"يوم الفيل " دون قوله: "يعني عام الفيل "!(7/432)
والأرجح الأول: "عام الفيل "؛ لأن عليه أكثر الروايات، وتوبع عليه ابن معين، فأخرجه البزار (1/ 121/226) ، والحاكم (2/603) ، وعنه البيهقي، وابن عساكر من طرق أخرى عن حجاج بن محمد به، وقال الحاكم:
"صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي.
قلت: وهو كما قالا، لولا أن أبا إسحاق- وهو السبيعي- مدلس مختلط، ويونس ابنه روى عنه في الاختلاط.
ثم رواه الحاكم من طريق الحسين بن حميد بن الربيع: ثنا أبي: ثنا حجاج ابن محمد بلفظ:
"يوم الفيل ". وقال:
"تفرد حميد بن الربيع بهذه اللفظة، ولم يتابع عليه ".
قلت: قد اختلفوا فيه ما بين مكذب له وموثِّق، فراجع له "اللسان ". لكن ابنه الحسين أسوأ حالاً منه؛ فقد كذبه مُطَيّن، واتهمه ابن عدي، ولم يوثقه أحد، فمثله لا يؤخذ بحديثه ولو لم يخالف، فكيف إذا خالف؟! انظر "اللسان ".
وأما حديث قيس بن مَخْرَمة؛ فيرويه محمد بن إسحاق في "السيرة" (1/171) قال: حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قال:
"ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل، فنحن لِدَتان ".
ومن طريق ابن إسحاق: أخرجه الترمذي (9/ 24/3623) ، والحاكم
(2/603 و 3/456) ، ومن طريقه: البيهقي في "الدلائل " (1/76) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/342/43) ، وأبو نعيم في "الدلائل " (1/101) ، وابن عساكر أيضاً كلهم عن ابن إسحاق به، وقال الترمذي- وعنده زيادة في المتن-:(7/433)
"حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق ".
قلت: كان يكون كما قال- بعد أن صرح ابن إسحاق بالتحديث- لو أن شيخه المطلب بن عبد الله هذا كان معروفاً بالعدالة والضبط، وليس كذلك؛ لأنه لم يرو عنه غير ابن إسحاق، ولم يوثقه غير ابن حبان (7/506) ، ولذلك مرّض توثيقه إياه الذهبى بقوله في "الكاشف ":
"وثِّق "! واقتصر الحافظ في "التقريب " على قوله فيه:
"مقبول ".
يعني: عند المتابعة، وقد توبع من سعيد بن جبير عن ابن عباس كما تقدم، الحديث- به- حسن إن شاء الله تعالى، ويقويه اتفاق العلماء عليه، فقد ذكر الحافظ ابن عساكر (1/ 401) عن ابن المنذر أنه قال:
"لا يشك أحد من علمائنا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولد عام الفيل، وبُعث على رأس أربعين سنة من الفيل ". *
3153- (ألا هل عَسَتِ امرأةٌ أن تُخبرَ القوم بما يكونُ من زوجها إذا خلا بها؟! ألا هل عسى رجلٌ أن يخبرَ القوم بما يكونُ منهُ إذا خلا بأهله؟ ! فقامت منهنَّ امرأةٌ سفعاءُ الخدَّين فقالت: واللهِ! إنَّهُم ليفعلون، وإنهنَّ لَيفعلْنَ! قال: فلا تفعلوا ذلكَ، أفلا أنبئُكم ما مَثَلُ ذلكَ؟ ! مَثَلُ شيطانٍ أتى شيطانةً بالطريق؛ فوقعَ بها والناس ينظرون!) .
أخرجه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق " (39/2) : حدثنا أحمد بن ملاعب البغدادي: ثنا عثمان بن الهيثم المؤذِّن: ثنا عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال:(7/434)
دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، وفيه نسوة من الأنصار، فوعظهن وذكرهن، وأمرهن أن يتصدقن ولو من حليهن، ثم قال: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد حسن أو قريب من الحسن؛ للخلاف المعروف في عثمان ابن الهيثم المؤذن، فإنه مع كونه من شيوخ البخاري، فقد تكلموا فيه من قبل حفظه، قال ابن أبي حاتم (3/172) :
"روى عنه أبي، وسألته عنه؟ فقال: كان صدوقاً؛ غير أنه بأخرة كان يتلقن ما
يُلَقَّنُ ".
وذكره ابن حبان في "الثقات " (8/453- 454) ، وقال:
"مات سنة عشرين ومئتين ". وقال الدارقطني:
"صدوق كثير الخطأ".
ولخص ذلك الحافظ فقال في "التقريب ":
"ثقة، تغير فصار يتلقن ".
وسكت عنه البخاري في "التاريخ الكبير"، فلعل إخراجه له في "صحيحه " كان على طريقة الاختيار والانتقاء من حديثه، فليكن حديثنا هذا من هذا القبيل، ولذلك خرجته، فإن له طريقاً أخرى:
رواه أبو نضرة: حدثني شيخ من طفاوة عن أبي هريرة به مطولاً.
رواه أبو داود وغيره، وكنت خرجته في "الإرواء" (7/73/ 2011) ، وقوّيته
هناك بشواهد من حديث أسماء بنت يزيد، وأبي سعيد الخدري، فلما وقفت على متابعة ابن سيرين هذه للطفاوي بادرت إلى تخريجها هنا؛ لعزتها وندرتها، وتأكيداً لصحة الحديث. والله أعلم.(7/435)
وأما الراوي له عن الهيثم: أحمدُ بن ملاعب البغدادي؛ فهو ثقة حافظ، وله ترجمة جيدة في "تاريخ بغداد" (5/168- 170) ، ووصفه الذهبى فى "السير" (13/42) بـ "الإمام المحدث الحافظ.. ".
ثم ذكر توثيقه عن ابن خراش وغيره.
هذا؛ وحديث أبي سعيد المشار إليه كنت ذكرت في "الإرواء" قول الهيثمي في تخريجه:
"رواه البزار عن رَوْح بن حاتم، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات ".
ثم وقفت على إسناده، فتبين لي خطأ الهيثمي في تضعيفه لراويهِ رَوْح بن حاتم، اشتبه عليه، فقال البزار (2/170/1450) : حدثنا روح بن حاتم أبو غسان: ثنا مهدي بن عيسى: ثنا عَبَّاد بن عَبَّاد المُهَلَّبي: ثنا سعيد بن يزيد أبومَسْلَمة عن أبي نَضْرة عن أبي سعيد مرفوعاً نحو حديث الترجمة، وفيه وصف المرأة بـ "سَفعَاء الخَدّين "، وقال البزار:
"لا نعلمه عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد، وأبو مسلمة ثقة، ومهدي واسطي لا بأس به ".
قلت: وذكره بَحْشَلُ في "تاريخ واسط " (168) ، وساق له حديث الثلاثة الذين أووا في الغار، ولم يذكر فيه جرحاً ولا توثيقاً كعادته، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه:
" صد وق ".
وروى عنه أبو زرعة، فهو ثقة عنده، وذكره ابن حبان في "الثقات " (9/ 201) . وسائر رجال الإسناد ثقات رجال مسلم؛ غير روح بن حاتم أبي غسان، قال ابن أبي حاتم (1/2/500) :(7/436)
"روى عنه أبي، وسئل عنه؟ فقال: صدوق ".
وذكره ابن حبان في "الثقات " (8/244) ، وقال:
"مستقيم الحديث ".
قلت: فقول الهيثمي فيه: "وهو ضعيف "!
من أوهامه، فإنه لا مضعِّف له مع توثيق من ذكرت، والظاهر أنه اشتبه عليه بالذي في " الميزان " وغيره:
"روح بن حاتم البزار بغدادي.. عن ابن معين: ليس بشيء".
وهو ملخص من "تاريخ بغداد" (8/406- 407) .
قلت: فهذا غير راوي هذا الحديث؛ فإن كنيته فيه: "أبو غسان " كما رأيت، وهذا لا كنية له، وإن كانا في طبقة واحدة، فمن هنا جاء الاشتباه، فصح الإسناد، وازداد الحديث قوة على قوة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وقوله فيه: "سفعاء الخدين "؛ معناه: فيهما تغير وسواد؛ فهو من الأدلة الكثيرة على أن وجه المرأة ليس بعورة؛ لأنه لو كان مغطى كما يزعم المتشددون؛ لما استطاع أبو سعيد أن يصف خَدَّيها، وكذلك وصفها جابر رضي الله عنه في "صحيح مسلم " وغيره، وهو مخرج في "حجاب المرأة المسلمة "، وسميته أخيراً بـ "جلباب المرأة المسلمة". *
3154- (اللهُ يَعْلَمُ أنَّ قلبي يُحبُّكُنَّ. قالهَ لِجَوَارٍ مِنْ بني النَّجارِ) . أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" (ص 15- هندية، 25- الروض النضير) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/508) من طريقين عن أبي خيثمة(7/437)
مصعب بن سعيد المِصِّيصي قال: حدثنا عيسى بن يونس عن عوف الأعرابي عن ثُمَامة عن أنس قال:
مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيِّ بني النجار، وإذا جوارٍ يضربن بالدف، يقلن:
نحن جوارٍ من بني النجارِ يا حبَّذا محمدٌ من جارِ
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره. وقال الطبراني:
"لم يروه عن عوف إلا عيسى، تفرد به مصعب بن سعيد".
قلت: وهو صدوق، كما قال ابن أبي حاتم (4/1/309) عن أبيه.
وقد وثقه ابن حبان في "الثقات " (9/175) ، وقال:
"ربما أخطأ، يُعتبر حديثه إذا روى عن الثقات وبيَّن السماع؛ لأنه كان مدلِّساً ".
قلت: قد صرح بالسماع كما ترى، ومن فوقه ثقات من رجال الشيخين، فالإسناد حسن، وإن كان ابن عدي قد تكلم في المصيصي هذا، فأورده الذهبي في "الميزان "، وتبعه الحافظ في "اللسان "، وقد فاتهما قول أبي حاتم فيه: "صدوق "! ثم إنه لم يتفرد به: خلافاً لقول الطبراني؛ فقال ابن ماجه (1/612/1899) : حدثنا هشام بن عمار: ثنا عيسى بن يونس به، ولفظه:
"الله يعْلَمُ أني لأحِبُّكُنُّ ".
وقال البوصيري:
"إسناده صحيح، ورجاله ثقات ".
قلت: يمكن أن يقال: إنه صحيح لغيره؛ لمتابعة المصيصي إياه؛ للخلاف المعروف في هشام بن عمار؛ مع أنه من شيوخ البخاري في "صحيحه" محتجّاً به،(7/438)
كما قال الحافظ في "مقدمة الفتح "، ولعل أعدل ما قيل فيه قول الحافظ الذهبي في "المغني ":
"ثقة مُكْثِرٌ, له ما يُنْكَرُ ".
وله طريق أخرى عند البيهقي- أيضاً- عن محمد بن سليمان بن إسماعيل ابن أبي الورد قال: حدثنا إبراهيم بن صِرْمة قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس به نحوه.
وعزاه الحافظ (7/ 261) للحاكم، وسكت عنه.
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ إبراهيم بن صرمة مختلف فيه، وقد أورده الذهبي في "المغني "، وقال:
"ضعفه الدارقطني وغيره ".
طريق ثالث: يرويه سعيد: حدثنا رُشَيْدٌ: حدثنا ثابت عن أنس به؛ إلا أنه قال:
"اللهم بارك فيهن ".
أخرجه أبو يعلى في "مسنده " (6/134/3409) ، ومن طريقه: ابن عدي في "الكامل " (3/159) ، وابن السني في "عمل اليوم والليلة " (225) ، وعنه الحافظ عبد الغني المقدسي في "أحاديث الشعر" (75/26- عمان) كلهم عن أبي يعلى - وقد قرن به ابن عدي: عبدان- قالا: ثنا سعيد بن أبي الربيع السمان به.
قلت: وسعيد هذا سمى ابن أبي حاتم أباه: أشعث بن سعيد السَّمَّان، وهو ابن أبي الربيع السمان، وقال عن أبيه:
"ما أراه إلا صدوقاً ".(7/439)
وذكره ابن حبان في "الثقات " (8/268) ، وقال:
" حدثنا عنه الحسن بن سفيان، وأبو يعلى، يُعْتَبَرُ حديثه من غير روايته عن أبيه ".
قلت: وروى عنه عبدان، فهؤلاء ثلاثة من الثقات الحفاظ قد رووا عنه، وهناك حافظ رابع، وهو أبو زرعة كما ذكر ابن أبي حاتم- وهو لا يروي إلا عن ثقة-، فهو إذن ثقة؛ وإنما علة هذه الرواية رشيد هذا، ووقع مكنياً في "ابن السني " بـ "أبي عبد الله " وكذا في "كامل ابن عدي "، وقال فيه:
"حدث عن ثابت بأحاديث لم يتابع عليها، وله عن ثابت غير هذا الحديث، وهذا إنما يروى عن عوف عن ثمامة عن أنس: رواه عن عوف عيسى بن يونس، وابن أبي عدي، وعمر بن النعمان، ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي ".
وقال الذهبي- وتبعه العسقلاني-:
"مجهول "؛ وكذا قال الهيثمي (10/42) .
وقد تابعه محمد بن ثابت البناني: حدثني أبي به؛ إلا أنه قال:
"والله! إني لأحبكم ".
وهذا هو المحفوظ؛ لأنه موافق لحديث الترجمة، خلافاً لحديث رشيد؛ فإنه منكر. أخرجه ابن السني أيضاً (224) ، وفيه:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبله نساء وصبيان وخدم جائين من عرس لهم، فسلم عليهم وقال: ... فذكره.
ولجملة العرس شاهد من حديث الرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ، وفيه أن ذلك كان حين بُنِي عليها.(7/440)
أخرجه البخاري وغيره، وقد خرجته في "آداب الزفاف " (ص 180- الطبعة الجديدة/ المعا رف) .
(تنبيه) : لقد حسَّن حديث رشيد أبي عبد الله. المعلق على "أحاديث الشعر"
مع تضعيفه لرشيد تبعاً لابن عدي والذهبي! وكأنه حسنه لرواية ثمامة عن أنس، فإنه ساقها عقبها من رواية ابن ماجه والطبراني، والغريب أنه لم يتكلم عليها مطلقاً، ولا يخفى أن هذه الرواية هي الصحيحة كما تقدم، وأن تحسين حديث الرشيد خطأ واضح لمخالفته للروايات المتقدمة؛ فهو منكر، وهذا إن دل على شيء؛ فهو يدل- كما يقال اليوم- على حداثته بهذا العلم، وبخاصة أنه لم يسق لفظ رواية ابن ماجه والطبراني ليتبين القراء أنه مخالف للفظ رواية الرشيد؛ فتأمل! *
3155- (1) (ما بال دَعْْوى الجاهلية؟! دَعُوها؛ فإنَّها مُنْتنةٌ) .
أخرجه البخاري (4905 و 4907) ، ومسلم (8/ 19) ، والترمذي (3312)
- وقال: "حسن صحيح "-، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/239) ، وابن حبان (7/592/5958 و 8/193/6548) ، والبيهقي في "الدلائل " (4/53- 54) ، وعبد الرزاق في " المصنف " (9/468/18041) ، وأحمد (3/ 392- 393) ، وأبو يعلى (3/356- 357 و 458) كلهم من طريق سفيان بن عيينة- وقرن عبد الرزاق به معمر…اً- عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول:
كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال رسول الله
_________
(1) كان هنا حديث: "كان الرَّجُلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -إذا التقيا ... قرأ أحدهما سورة (والعصر..) ... "، وهو المتقدم في المجلد السادس برقم (2648) ، فانظره ثَمَّ.(7/441)
- صلى الله عليه وسلم -: "ما بال دعوى الجاهلية؟! "، قالوا: يا رسول الله! كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: " دعوها؛ فإنها منتنة" [قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد] ، فسمعها عبد الله بن أبيّ فقال: قد فعلوها؟! لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ! قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال:
"دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ".
والسياق لمسلم، والزيادة للبخاري وأحمد وغيرهما.
وتابعه ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار به نحوه.
أخرجه البخاري (3518) .
وتابعه جمع آخر مطولاً ومختصراً.
أخرجه أبو يعلى (3/459/1959) ، وابن جرير في "التفسير" (27/72- 73
و73) ؛ وعنده الزيادة في رواية. وزاد في رواية أخرى:
".. كسع رجلاً من الأنصار برجله، وذلك في أهل اليمن شديد".
ورجاله ثقات؛ غير ابن حميد- وهو محمد بن حميد الرازي-؛ وهو ضعيف
مع حفظه. *
3156- (إذا ظَهَرَ السُّوءُ في الأرضِ؛ أنزلَ الله بأهلِ الأرضِ بأسَهُ. قالت [عائشة] : وفيهم أهل طاعة الله عزَّ وجلَّ؟! قال: نعمْ، ثمَّ يصيرون إلى رحمة الله تعالى) .
أخرجه أحمد (6/ 41) ، وابن أبي شيبة (15/42- 43) : حدثنا [سفيان](7/442)
ابن عيينة عن جامع [بن أبي راشد] عن منذر عن حسن بن محمد عن امرأة عن عائشة تبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ...
وأخرجه البيهقي في "الشعب " (6/98/7599 م) من طريق محمود بن آدم:
نا سفيان بن عيينة به؛ إلا أنه لم يقل: "عن امرأة"؛ فلا أدري أهكذا الرواية عنده، أم هو سقط من الناسخ؟!
والمحفوظ إثباته؛ فقد تابع أحمد وابن أبي شيبة: عبد الله- وهو ابن المبارك- في إثبات هذه الواسطة مع مخالفة يسيرة؛ فقال: أنبأ سفيان- بسنده- عن الحسن ابن محمد بن علي عن مولاة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت:
دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة، أو على بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا عنده، فقال: ... فذكر الحديث.
أخرجه الحاكم (4/523) : أخبرني الحسن بن حكيم المروزي: ثنا أبو الموجِّه:
أنبأ عبدان: أنبأ عبد الله ... وسكت عنه هو والذهبي.
قلت: ورجاله ثقات معروفون؛ غير المروزي هذا، وقد سماه الذهبي: "الحسن
ابن محمد بن حليم "، ذكره في الرواة عن أبي الموجه، واسمه محمد بن عمرو الفزاري، ووصفه في " السير" (13/347) بـ " الشيخ الإمام، محدث مرو، الحافظ".
وأما ابن حليم فلم أجد له ترجمة الآن.
وخالفهم في إسناده شريك بن عبد الله؛ فقال: عن جامع بن أبي راشد عن منذر الثوري عن الحسن بن محمد بن علي قال: حدثتني امرأة من الأنصار- وهي حية اليوم، إن شئت أدخلتك عليها، قلت: لا، [حدِّثني]- قالت: دخلت على أم سلمة، فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكأنه غضبان، فاستترت بكمِّ درعي،(7/443)
فتكلم بكلام لم أفهمه، فقلت: يا أم المؤمنين! كأني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبان؟ قالت: نعم، أو ما سمعتيه؟! قالت: قلت: وما قال؟ قالت: قال: ... فذكرت الحديث بنحوه.
أخرجه أحمد (6/ 294 و 418) .
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم؛ إلا أنه لم يخرج لشريك بن عبد الله- وهو النخعي القاضي- إلا متابعة؛ لضعف فيه، فحديثه قوي بما قبله من رواية ابن عيينة، مع ما فيها من الاختلاف عليه في رواية الحديث؛ هل هي عائشة، أو مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وفي رواية شريك هذه أنها أم سلمة.
وله طريق أخرى: يرويه خلف بن خليفة عن ليث عن علقمة بن مرثد عن المعرور بن سُوَيد عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... فذكره.
أخرجه أحمد (6/304) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/325/747) من طرق عن خلف به.
قلت: وليث؛ الظاهر أنه ابن أبي سليم الحمصي، وكان اختلط، ومثله خلف بن خليفة؛ مع أنهما من رجال مسلم، ولذلك قال الهيثمي في "المجمع " (7/268) :
"رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح "!
يعني هذا الإسناد، ويعني بالآخر- والله أعلم- رواية شريك التي قبل هذه.
ولجامع بن أبي راشد إسناد آخر: يرويه هاشم بن القاسم: ثنا محمد بن طلحة عن زُبَيدٍ قال: حدثني جامع بن أبي راشد- ودموعه تنحدر- عن أم مبشر عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - به.(7/444)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (10/218) : حدثنا سليمان بن أحمد: ثنا أحمد بن زهير: ثنا محمد بن منصور الطوسي: ثنا هاشم بن القاسم به
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات.
أحمد بن زهير: هو أحمد بن يحيى بن زهير التُّسْتَري الحافظ شيخ سليمان ابن أحمد- وهو الطبراني الحافظ-، وهو من مشايخه المشهورين؛ فقد روى له في "المعجم الأوسط " أكثر من مئة وخمسين حديثاً (2229- 2384- بترقيمي) في "السير" (14/362) .
ومن فوقه من رواة الشيخين؛ غير الطوسي، وهو ثقة.
وشيخه هاشم بن القاسم كنيته أبو النضر.
وقد أخرجه الطبراني عنه في "المعجم الكبير" (23/377/891) بسند آخر له فقال: حدثنا أبو يحيى الرازي: ثنا محمود بن غيلان: ثنا أبو النضر: ثنا سالم بن طلحة: ثنا جامع بن أبي راشد- ودموعه تنحدر- عن أم مبشر به.
قلت: كذا وقع فيه "سالم بن طلحة"، ولم أجد له ترجمة، فأخشى أن يكون "سالم " خطأ من الناسخ أو الطابع؛ والصواب: "محمد" كما في إسناد "الحلية " المتقدم، كما أخشى أن يكون سقط منه "زُبَيد"، فإنه مذكور في شيوخ محمد بن طلحة، وهو اليامي الكوفي، وفي الرواة عن جامع بن أبي راشد.
وحديث عائشة له طريق أخرى بلفظ أخر مختصر نحوه؛ مخرج فيما تقدم برقم (1622و2693) ، وقد أوردهما الحافظ في "الفتح " (13/60) ساكتاً عنهما؛ مشيراً بذلك إلى تقوية الحديث. *(7/445)
3157- (كَانَ في آخِرِ أمْرِهِِ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: سبحانَ اللهِ وبحمده، أَستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليهِ، [قالت عائشة:] فقلت: يا رسولَ الله! ما لي أَراكَ تكثرُ منْ قولِ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه أسْتَغْفرُ اللهَ وأتوبُ إليه؟ ! قال: إنَّ ربِّي أخْبَرَني أنِّي سأرى علامة في أمَّتي، وأمرني- إذا رأيتُ تلك العلامة- أنْ أسبِّحَ بحمدِهِ وأَستغفرَه، فَقَدْ رأيتُها: (إذا جاءَ نصرُ اللهِ والفَتْحُ. ورأيتَ الناسَ يد خلونَ في دينِ اللهِ أفواجاً. [فسبِّحْ بحَمْدِ ربِّك واستغفرْهُ إنه كان تواباً] )) .
أخرجه أحمد (6/35) : ثنا محمد بن أبي عدي عن داود. ورِبَعِيُّ بن إبراهيم قال: ثنا داود عن الشعبي عن مسروق قال: قالت عائشة ...
وأخرجه الحسين المروزي في "زوائد الزهد" (398/1130) : حدثنا محمد بن أبي عدي قال: حدثنا داود ... به.
وأخرجه مسلم (2/50) ، وابن جرير في "التفسير" (30/215) ، قالا: حدثني محمد بن المثنى: حدثني عبد الأعلى: حدثنا داود به، وزادا: " والفتح: فتح مكة".
ثم أخرجه ابن جرير، وابن سعد في "الطبقات " (2/192- 193) من طرق أخرى عن داود بن أبي هند به دون الزيادة.
وأخرجه مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق به
نحوه.
وأخرجه هو، والبخاري (4967) من طريق أخرى عن الأعمش به مختصراً.(7/446)
(تنبيه) : مع كثرة هذه المصادر التي روت هذا الحديث، ومنها "صحيح مسلم "، ومع ذلك فلم يستحضر الحافظ شيئاً منها، فعزاه في "الفتح " (8/734) لابن مردويه فقط! وقلده في ذلك الشيخ الأعظمي في تعليقه على "زوائد الزهد"! وللحديث شاهد مختصر من حديث أم سلمة قالت:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت يكثر أن يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، استغفرك وأتوب إليك "، قلت: يا رسول الله! إني أراك تكثر أن تقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، استغفرك وأتوب إليك "؟! فقال: "إني أمرت بأمر" فقرأ: (إذا جاء نصر الله والفتح) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" (ص 141- هند/1186- الروض) ، وفي "الأوسط " (1/291/1/4869) : ثنا عبد الرحمن بن سَلْم أبو يحيى الرازي: ثنا سهل بن عثمان: ثنا حفص بن غِياث عن عاصم الأحول عن الشعبي عنها. وقال:
"تفرد به سهل "!
وهو ثقة من رجال مسلم، وقد توبع؛ فقال ابن جرير: حدثنا أبو السائب عن
حفص به.
وأبو السائب هذا هو سلم بن جنادة، وهو صدوق ربما خالف؛ كما في "التقريب "، فالسند صحيح.
وله شاهد آخر من رواية ابن مسعود، وعنه ابنه أبو عبيدة.
أخرجه الطيالسي (339) ، ورجاله ثقات.(7/447)
وله طريق أخرى عن عائشة فيها زيادة منكرة، فخرجتها في "الضعيفة"
(6322) . *
الحض على الزواج بالبكر إلا لمصلحة الصغار
3158- (فإنَّك نِعْمَ ما رأيتَ. قالَهُ لجابرٍ حينَ أخبَرَه بأَنَّه تزوَّج ثيباً لِتَخْدُمَ أَخواتِه الصِّغَارَ) .
أخرجه أحمد (2/358) ، وابن أبي شيبة في "المصنف " (4/417) قالا: حدثنا عَبِيدة بن حميد عن الأسود بن قيس العبدي عن نُبَيح بن عبد الله العَنَزي عن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"يا جابر! ألك امرأة؟ " قال: قلت: نعم. قال: "أثيباً نكحت أم بكراً؟ " قال: قلت له: تزوجتها وهي ثيب، قال: فقال: "فهلا تزوجتها جويرية؟ " قال له: قُتل أبي معك يوم كذا وكذا، وترك جواري، فكرهت أن أضم جارية كإحداهن، فتزوجت ثيباً تقصع قملة إحداهن، وتخيط درع إحداهن إذا تَخرّق! قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.
وسياق السند لابن أبي شيبة، وفي متنه أخطاء مطبعية كثيرة تصخَّح من سياقه هنا؛ وهو لأحمد.
قلت: وإسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير نبيح هذا، وقد وثقة أبو زرعة والعجلي وابن حبان، وصحح له الترمذي- وصرَّح بتوثيقه-، وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم، وروى عنه أبو خالد الدالاني أيضاً. وأما الحافظ فقال:(7/448)
"مقبول "! وهذا منه هنا غير مقبول؛ لتوثيق من ذكرنا أولاً، ولكونه تابعيَّاً ثانياً؛ ولهذا قال الذهبي في "الكاشف ":
"ثقة".
ثم رأيتُ الحافظَ ابن حجر نفسه يوثّقه في "الإصابة" (1/13) ؛ فالحمد لله.
والحديث أخرجه الشيخان وأحمد وغيرهم من طرق أخرى عن جابر بنحوه، وهو مخرج في "الإرواء" (6/196- 197) ، وفي بعضها: "بارك الله لك "، أو قال خيراً.
وفي أخرى:
"أصبت، إن شاء الله ".
وفي لفظ:
" ألا تزوجتها بكراً تلاعبك وتلاعبها، وتضاحكك وتضاحكها؟! ". *
3159- (الخَمرُ من هاتين الشَّجرتينِ: النَّخْلةِ والعِنَبَةِ)
حديث صحيح يرويه أبو كَثِيرٍ السُّحَيْمِىُّ عن أبي هريرة سماعاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله عنه طرق:
الأولى: الأوزاعي: حدثنا أبو كثير قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... فذكره.
أخرجه مسلم (6/89) ، والترمذي (1876) ، والنسائي (2/ 325) ، والد ارمي
(2/113) ، والطحاوي في "شرح المعاني " (2/322) ، وابن أبي شيبة في(7/449)
"المصنف" (8/109) ، وأحمد (2/409 و496 و157) ، وأبويعلى (10/398/6002) ، والبيهقي (8/289- 290) من طرق كثيرة عن الأوزاعي به. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح ".
الثانية: يحيى بن أبي كثير: أن أبا كثير حدثه به.
أخرجه مسلم، وأبو داود (3678) ، والنسائي أيضاً، وكذا الطحاوي، وعبد الرزاق
في "المصنف " (9/234) ، ومن طريقه: أحمد (2/279) وعن غيره أيضاً (2/408) من طرق عن يحيى به.
الثالثة: عكرمة بن عمار عنه.
أخرجه مسلم، وابن ماجه (2/1121/3378) ، وابن حبان (7/366/5320) ، والطحاوي أيضاً، وأحمد (2/526) من طرق عنه.
الرابعة: عن عقبة بن التوأم عنه.
أخرجه مسلم والطحاوي من طريقين عنه، وزاد الطحاوي من طريق عبد الله ابن حمران قال: ثنا عقبة بن التوأم الرقاشي قال: حدثني أبو كثير اليمامي قال:
دخلت من اليمامة إلى المدينة لما أكثر الناس الاختلاف في النبيذ؛ لألقى أبا هريرة فأسأله عن ذلك، فلقيته، فقلت: يا أبا هريرة! إني أتيتك من اليمامة أسألك عن النبيذ، فحدِّثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لا تحدثني عن غيره، فقال: ... فذكره. وإسناده جيد في المتابعات.
الخامسة: قال الطيالسي في "مسنده " (335/2569) : حدثنا أيوب بن عتبة
عن أبي كثير السحيمي به.(7/450)
وأيوب، قال الحافظ:
"ضعيف ".
واعلم أنهم اختلفوا في اسم أبي كثير هذا على ثلاثة أقوال، ذكرها الحافظ
في "التهذيب "، وجزم الترمذي عقب الحديث بأنة يزيد بن عبد الرحمن بن غُفَيلة، وجزم أبو داود بأنه الصواب.
(فائدة) : قال البغوي في "شرح السنة" (11/353) - وقد ذكر الحديث معلقاً-:
"وهذا لا يخالف حديث النعمان بن بشير، وإنما معناه: أن معظم الخمر يكون منهما، وهو الأغلب على عادات الناس فيما يتخذون من الخمور".
قلت: وحديث النعمان الذي أشار البغوي إليه سبق تخريجه برفي (1593) بلفظ:
"إن من العنب خمراُ ... " الحديث؛ فذكر فيه التمر أيضاُ والعسل والبُر والشعير. ونحوه حديث عمر بن الخطاب وزاد:
"والخمرة ما خامر العقل ".
أخرجه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في "الإرواء" (8/ 41- 42) ، وقد قال الحافظ عقبه (10/35) :
"وفيه إشارة إلى ضعف الحديث الذي جاء عن أبي هريرة مرفوعاً.. (فذكره وقال:) ، أو أنه ليس المراد الحصر فيهما".
قلت: وهذا المراد هو الصواب كما جزم به البغوي فيما تقدم، ومن الغريب
أنه يشير إلى ضعف الحديث، وهو حديث صحيح متواتر عن تابعيِّه أبي كثير كما(7/451)
تقدم، وهو ثقة اتفاقاً، والقاعدة في مثل هذا الحديث التوفيق بينه- بعد ثبوته- وبين ما يعارضه بمثل ما تقدم، وهذا بعينه ما فعله الحافظ نفسه في مثل هذا الحديث من رواية جابر مرفوعاً بلفظ:
"الزبيب والتمر هو الخمر".
وتقدم تخريجه برقم (1875) ، فقال الحافظ في الصفحة التي بعد الصفحة المشار إليها آنفاً:
"وسنده صحيح، وظاهره الحصر، لكن المراد المبالغة، وهو بالنسبة إلى ما كان حينئذٍ بالمدينة موجوداً كما تقرر في حديث أنس ".
وحديث أنس الذي يشير إليه هو عند البخاري بلفظ:
"حُرِّمَت علينا الخمر حين حرمت؛ وما نجد- يعني: بالمدينة- خمر الأعناب
إلا قليلاً، وعامة خمرنا البسر والتمر". *
3160- (كانَ يقولُ في دُبُرِ الصَّلاةِ إذا سلَّم قبْلَ أنْ يقومَ، يرفعُ بذلكَ صوتَه:
لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ، وله الحمدُ، وهو على
كلِّ شيءٍ قديرٌ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، لا إلهَ إلا اللهُ، [و] لا نعبدُ إلا إيَّاهُ، له النعمةُ، وله الفضلُ، وله الثناءُ الحسنُ، لا إله إلا اللهُ مخلصينَ لَهُ الدِّينَ، ولو كَرِهَ الكافِرُونَ) .
أخرجه الطبراني في " الدعاء " (2/1107/681) : حدثنا عبد الرحمن بن سلم (الأصل: مسلم!) الرازي: ثنا سهل بن عثمان: ثنا جُُنادة بن سلم عن(7/452)
عبيد الله بن عمر عن نافع عن محمد بن مسلم أبي الزبير قال: سمعت عبد الله ابن الزبير يقول ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال مسلم من فوق الرازي؛ غير جنادة؛ وهو صدوق يغلط.
وأما عبد الرحمن بن سلم الرازي؛ فهو ابن محمد بن سلم الرازي، نُسب إلى جده، وله ترجمة في " طبقات الأصبهانيين "، و" أخبار أصبهان "، و "تذكرة الحفاظ " وقال:
"كان من الثقات ".
وروى له الطبراني في "المعجم الأوسط " ستةً وعشرين حديثاً (4864-
4890) .
والحديث أخرجه مسلم، وأبو عوانة في "صحيحيهما" وغيرهما من طرق عن
أبي الزبير به، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (1350 و 1351) ، وزادوا:
"وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهنَّ دُبُرَ كل صلاة".
وأخرجه كذلك ابن حبان في "صحيحه " (3/228- 229/2005- 2007) .
وأخرجه الشافعي في "الأم " (1/ 110) ، ومن طريقه: البغوي في "شرح السنة" (3/226/716) من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزبير به؛ وزاد الشافعي:
"يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله ... " إلخ.
وهي بمعنى زيادة مسلم وغيره: "يهلل.. "؛ أي: يرفع صوته.(7/453)
ورواه المحاملي في "الأمالي " (211/197) من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: "يصيح بذلك صياحاً عالياً "؛ وسنده ضعيف.
ويشهد لرفع الصوت- بهذا الذكر أو بغيره مما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -- قول ابن عباس:
إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته.
رواه الشيخان وأبو عوانة وغيرهم، وهو مخرج في "صحيح سنن أبي داود" (920- 921) . وفي رواية لهم:
"كنت أعرف انقضاء صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير" 0
قلت: ورواية التكبير هذه لعلها رواية بالمعنى، والمحفوظ الرواية التي قبلها:
" الذكر"، فإن الأ ذكار الواردة في " الصحيحين " وغيرهما من " السنن "، و"المسانيد"، و"المعاجم "، وغيرها على كثرتها، وقد استوعب الحافظ الطبراني جَمعاً غفيراً منها في "جامع أبواب القول في أدبار الصلوات " من كتابه "الدعاء" (2/1086- 1136) ، وليس في شيءٍ منها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكبِّربعد المكتوبة، حتى ولا في الأذكار التي حض أمته على أن يقولوها دبر الصلوات، اللهم إلا حديثاً واحداً في قراءة آية: (الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً) الآية، إلى قوله تعالى: (وكبِّره تكبيراً) [الإسراء: 111] .
تفرد به الطبراني، وهو حديث منكر كما بينته في "الضعيفة" (6317) .
ثم إن الأصل في الأذكار خفض الصوت فيها، كما هو المنصوص عليه في الكتاب والسنة إلا ما استثني، وبخاصة إذا كان في الرفع تشويش على مصلٍّ أو ذاكر، ولا سيما إذا كان بصوت جماعي كما يفعلون في التهليلات العشر في(7/454)
بعض البلاد العربية، غير مبالين بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"يا أيها الناس! كلكم يناجي ربَّه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة؛ فتؤذوا المؤمنين ".
وهو حديث صحيح: رواه مالك، وأبو داود، وابن خزيمة وغيرهم، وهو مخرج
في "صحيح سنن أبي داود" (1203) ، وبوب له ابن خزيمة بقوله (2/190) :
"باب الزجر عن الجهر بالقراءة في الصلاة إذا تأذى بالجهر بعض المصلين غير الجاهر بها".
ولهذا؛ قال الإمام الشافعي في "الأم " (1/ 110) - عقب حديث ابن عباس
المذكور-:
"وأختارُ للإمام والمأموم أن يذكر الله بعد الانصراف من الصلاة؛ ويخفيان الذكر إلا أن يكون إماماً يحب أن يُتعلَّم منه، فيجهر حتى يرى أنه قد تُعلِّم منه ثم يُسِرُّ؛ فإن الله عز وجل يقول: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) [الإسراء: 110] يعني- والله تعالى أعلم-: الدعاء، (ولا تجهر) : ترفع، (ولا تخافت) : حتى لا تسمع نفسك، وأحسب أن ما روى ابن الزبير من تهليل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما روى ابن عباس من تكبيره.. إنما جهر قليلاً ليتعلم الناس منه، وذلك؛ لأن عامة الروايات التي كتبناها- مع هذا وغيرها- ليس يُذكر فيها بعد التسليم تهليل ولا تكبير، وقد يذكر أنه ذكر بعد الصلاة بما وصفت، ويذكر انصرافه بلا ذكر، وذكرت أم سلمة مكثه ولم يذكر جهراً، وأحسبه لم يكن إلا ليذكر ذكراً غير جهر".
قلت: وهذا غاية في التحقيق والفقه من هذا الإمام جزاه الله خيراً.(7/455)
وأقول: وإذا كان من الثابت في السنة أن يجهر الإمام في الصلاة السرية أحياناً للتعليم كما في "الصحيحين " وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمعهم الآية في صلاة الظهر والعصر- وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (763) -، وكما صح عن عمر- رضي الله عنه- أنه كان يسمعهم دعاء الاستفتاح: "سبحانك اللهم ... "، قال الأسود بن يزيد: "يسمعنا ذلك ويعلمنا " - وهو مخرج في " الإرواء " (2/ 48- 49) -.
أقول: فإذا كان هذا جائزاً؛ فبالأولى أن يَجُوزَ رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة للغاية نفسها: التعليم. وهذا ظاهر والحمد لله. *
3161- (أعْتِقْها؟ فإنَّها مؤْمِنَةٌ. يعني: الجاريةَ التي شَهِدَتْ بأنَّ
اللهَ في السماء)
1- أخرجه أبو داود (3/588/3283) ، والنسائي (2/129) ، والد ارمي (2/187) ، وابن حبان في "صحيحه " (6/256/4296) ، والبيهقي في "السنن " (7/388) ، وأحمد (4/222 و 388 و389) ، والبزار في " مسنده" (1/29/38/- الكشف) ، والطبراني (7/383/7257) من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الشَّرِيدِ بن سُوَيْدٍ الثقفي قال:
قلت: يا رسول الله! إن أمي أوصت إليّ أن أعتق عنها رقبة، وإن عندي جارية سوداء نُوبية؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادع بها"، فقال:
"مَن ربُّكِ؟ "، قالت: الله، قال: "فمن أنا؟ "، قالت: رسول الله، قال: ... فذكره.(7/456)
قلت: وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال مسلم؛ إلا أنه أخرج لمحمد بن عمرو متابعة، وحماد بن سلمة في روايته عن غير ثابت البناني شيء من الضعف، وليس له رواية عن محمد بن عمرو- وهو ابن علقمة بن وقاص الليثي- عند مسلم.
وقد خولف حماد في إسناده ومتنه، فقال ابن خزيمة في "التوحيد" (ص 81) : حدثنا محمد بن يحيى القُطَعِي قال: حدثنا زياد بن الربيع قال: ثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة- رضي الله عنه-:
أن محمد بن الشريد جاء بخادم سوداء عتماء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن أمي جعلت عليها عتق رقبة مؤمنة، فهل تجزي أن أعتق هذه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخادم:
"مَنْ رَبُّكِ؟ ".
فرفعت برأسها فقالت: في السماء ... ثم ذكر باقي الحديث مثله.
وهذا السند أصح؛ لأن زياد بن الربيع ثقة من رجال البخاري، لكن يبدو أن قوله: "محمد بن الشريد" وهم من بعض الرواة؛ فإنه ليس له ذكر في "الصحابة"، وقد أورده الحافظ في القسم الرابع من "الإصابة" من رواية ابن منده وابن السكن والباوردي وابن شاهين؛ لكنه قال في روايته: " (جاء محمد بن الشريد أو الشريد بجارية) كذا عنده على الشك، وأخرجه أبو نعيم من رواية إبراهيم بن حرب العسكري عن القطعي (الأصل: القطيعي) مثله؛ إلا أنه قال: (إن عمرو بن الشريد جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ) ، وصوّب هذا الطريق، وكل ذلك غير محفوظ! والمحفوظ: ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، من(7/457)
طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو ... (فذكر الرواية الأولى) ، ثم قال:
"قال ابن السكن: محمد بن الشريد ليس بمعروف في الصحابة، ولم أر له
ذكراً إلا في هذه الرواية".
وقد جاء الحديث من طريق أخرى عن أبي هريرة، ليس فيها تسمية الرجل، وهو من رواية المسعودي عن عون بن عبد الله عن أخيه عُبيدالله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة:
أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله! إن عليَّ
عتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله؟ "، فأشارت إلى السماء بإصبعها السبابة، فقال لها: "من أنا؟ "، فأشارت بإصبعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى السماء؛ أي: أنت رسول الله، فقال:
"أعتقها " فإنها مؤمنة ".
أخرجه أبو داود (3/588/ 3284) ، وابن خزيمة أيضاً، والبيهقي في "السنن " (7/388) ، وأحمد (2/291) ؛ كلهم من طريق يزيد بن هارون عنه.
قلت: ويزيد سمع من المسعودي- وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة- بعد اختلاطه؛ كما قال ابن نمير، فيما نقله الذهبي في "الكاشف " وغيره، فقوله في "العلو": "إسناده حسن "، غير حسن كما كنت ذكرت في كتابي "مختصر العلو" (81- 82) ، لكن بدا لي الآن أنه أحسن من الحسن، وذلك لأمرين:
الأول: أنني وجدت عند ابن خزيمة متابعين اثنين ليزيد، وهما أسد بن موسى (أسد السنة) ، وأبو داود- وهو الطيالسي؛ صاحب "المسند" المعروف به، وليس الحديث فيه-، وهو بصري، وقد ذكر عبد الله بن أحمد في "العلل " عن أبيه أنه قال:(7/458)
"سماع وكيع من المسعودي بالكوفة قديماً، وأبو نعيم أيضاً، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالبصرة والكوفة؛ فسماعه جيد".
وذكر نحوه في مكان آخر (2/130- 131) ؛ وزاد:
"وأما يزيد بن هارون، وحجاج، ومن سمع منه ببغداد؛ فهو في الاختلاط ".
وعلى هذا فالسند جيد؛ لأن الطيالسي بصري كما تقدم.
هذا هو الأمر الأول.
والأمر الآخر: أن ابن معين صحح أحاديث المسعودي عن القاسم وعن عون؛ كما في "التهذيب "، وهذا من روايته عن عون كما ترى، فصح الحديث والحمد لله.
وفي حديث أسد السنة:
"بجارية سوداء لا تُفْصِحُ ".
وفي حديث الطيالسي:
"بجارية عجماء لا تفصح "؛ وعندهما: "مَنْ رَبُّكِ؟ ".
لكن قد خولف عون في إسناد الحديث من قِبَلِ الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن رجل من الأنصار:
أنه جاء بأمة سوداء، فقال: يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة؛ أعتقها؟! فقال:
"تشهدين أن لا إله إلا الله؟ ".
قالت: نعم، قال:(7/459)
"تشهدين أني رسول الله؟ ". قالت: نعم، قال:
"أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ ". قالت: نعم، قال:
"أعتقها".
(1
أخرجه ابن خزيمة من طريق عبد الرزاق، وهذا في "المصنف " (9/175/ 16814) قال: أخبرنا معمر عن الزهري به.
ومن طريق عبد الرزاق: أخرجه أحمد (3/ 451) ، وابن الجارود في "المنتقى" 31/ 931) . وقال ابن كثير في "التفسير" بعد أن عزاه لأحمد:
"وإسناده صحيح، وجهالة الصحابي لا تضره ".
قلت: وهو كما قال؛ لولا أن معمراً خالفه جماعة من الثقات فأرسلوه:
فرواه مالك (2/6) ، ويونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عبيد الله: أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث مثله.
أخرجه البيهقي (7/388 و10/57) ، وقال:
"هذا مرسل، وقد قيل: عن عون بن عبيد الله بن عتبة عن عبيد الله بن عتبة أبي هريرة- رضي الله عنه-.
وقد قيل: عن عون عن أبيه عن جده ".
قلت: وصله الحاكم (3/258) وعنه البيهقي في الموضع الأول، وكذا(7/460)
الطبراني (17/136) من طريق أبي عاصم: نا أبو مَعْدان المِنْقَري- يعني: عامر بن مسعود-: نا عون بن عبيد الله بن عتبة: حدثني أبي عن جدي.
وعامر هذا لم أعرفه، ولا وجدت له ترجمة فيما لدي من المراجع، لا فيمن يسمى بـ "عامر" ولا فيمن يكنى بأبي معدان، ولا فيمن نسبته "المنقري ".
2- وروي عنه بإسناد آخر، فقال الجراح بن مَخلَد: ثنا محمد بن عثمان الجزري: ثنا سعيد بن عَنْبسة القطان: ثنا أبو معدان قال: سمعت عون بن أبي جحيفة يحدث عن أبيه قال:
أتت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ ومعها جارية سوداء، فقالت المرأة: يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة، أفتجزي عني هذه؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أين الله؟ ". قالت: في السماء. قال:
"فمن أنا؟ ". قالت: أنت رسول الله. قال:
"أتشهدين أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ ". قالت: نعم. قال:
"أتؤمنين بما جاء من عند الله؟ ". قالت: نعم، قال:
"أعتقيها؛ فإنها مؤمنة".
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/116- 117) .
قلت: وهذا إسناد ضعيف جدّاً مسلسل بالعلل:
الأولى: أبو معدان هذا؛ فإنه غير معروف كما تقدم، وقد سماه الطبراني في باب "أبو معدان: عامر بن مرة عن عون "، ثم ساق هذا الحديث، ولم أجده أيضاً.(7/461)
الثانية: سعيد بن عنبسة القطان، والظاهر أنه أبو عثمان الخزاز الرازي الذي
ذكره ابن أبي حاتم (2/1/52) وقال عن أبيه:
"فيه نظر".
ثم روى عن علي بن الحسين بن الجنيد قال: "سعيد بن عنبسة كذاب، سمعت أبي يقول: كان لا يصدق ".
وبه أعله الهيثمي؛ فقال (4/244) :
"رواه الطبراني، وفيه سعيد بن عنبسة، وهو ضعيف ".
الثالثة: محمد بن عثمان الجزري، لم أجد له ترجمة أيضاً.
ثم وجدت لسعيد بن عنبسة متابعاً لا بأس به، وعرفنا بسببه اسم أبي معدان: رواه صُرَدُ بن حماد أبو سهل قال: حدثنا الحسن بن الحكم بن طَهْمان: حدثنا أبو معدان به.
أخرجه الخطيب في "التاريخ " (9/343) ، وقال:
"تفرد به أبو معدان، وهو غريب من حديث أبي معدان عبد الله بن معدان، تفرد به الحسن بن الحكم عنه، ولا أعلم حدث به غير صرد، وما علمت من حاله إلا خيراً".
قلت: وابن طهمان هذا؛ قال ابن أبي حاتم عن أبيه:
"حديثه صالح ليس بذلك، يضطرب".
وعبد الله بن معدان روى عنه أيضاً وكيع وأبو نعيم كما في "الجرح "، وذكر الذهبي في "المقتنى في الكنى": (البُرْساني) مكان: (أبي نعيم) .(7/462)
ثم رأيت في "الجرح " (9/446) : "أبو معدان...... عن يحيى بن معين قال:
أبو معدان صالح "، وعلَّق المعلمي عليه بما يشعر أنهما واحد.
3- حديث ابن عباس، وله عنه طريقان:
الأول: يرويه ابن أبي ليلى عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعن الحكم يرفعه:
أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن على أمي رقبةً مؤمنةً، وعندي رقبة سوداء أعجمية؟ قال: "ائتِ بها"، قال: "أتشهدين أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ "، قالت: نعم، قال:
"فأعتقها".
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (11/20/10392) ، وفي "كتاب الإيمان " (28/85- بتحقيقي) : حدثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى ...
هكذا وقع في إسناده: ".. عن ابن عباس، وعن الحكم "! وهو معطوف على المنهال- وهو ابن عمرو- على خلاف المتبادر، ولكن مثله يقع كثيراً في الأسانيد، كما يعرفه من مارس هذا العلم.
وقد رواه الطبراني (12/26-27) و"الأوسط " (2/36/2/5653) من طريق الحسن بن فرات القزاز: ثنا علي بن هاشم به؛ إلا أنه قال:
"عن المنهال بن عمرو، والحكم عن سعيد بن جبير ... "، فهذا على الجادة، وقال:
"لم يروه عن المنهال والحكم إلا ابن أبي ليلى".(7/463)
قلت: وهو ضعيف لسوء حفظه، وبه أعله الهيثمي فقال (4/244) :
"وفيه محمد بن أبي ليلى، وهوسيىء الحفظ، وقد وُثِّق".
قلت: ومن طريقه: أخرجه البزار (1/14/13- الكشف) ، ولم يذكر في إسناده الحكم، وقال:
"وهذا قد روي نحوه بألفاظ مختلفة"!
قلت: هو بهذا اللفظ المرفوع له طريق أخرى، يرويه يزيد بن حكيم: ثنا يحيى
ابن السكن عن قيس بن الربيع: ثنا حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي عن حنين عن ابن عباس به إلا أنه قال:
"إن عليّ رقبة مؤمنة.. "؛ لم يذكر أمَّه.
أخرجه الطبراني في "الأوسط " (2/143/1/ 7212) : حدثنا محمد بن يحيى: ثنا يزيد به، وقال:
"لم يروه عن حبيب إلا قيس ".
قلت: وهو ضعيف من قبل حفظه، ويحيى بن السَّكَن- وهو الرقي ثم البصري- ضعيف، وإن وثقه ابن حبان.
ويزيد بن حكيم مجهول الحال، لم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلاً.
وأما اللفظ الآخر؛ فيرويه سعيد بن المَرْزُبَان عن عكرمة عن ابن عباس قال:
جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ومعه جارية له سوداء، فقال: إن علي رقبة- أحسبه قال: مؤمنة-، فهل يجزئ عني هذه؟ فقال لها:
"أين الله؟ ".(7/464)
قالت بيدها إلى السماء، قال:
"من أنا؟ ".
قالت: أنت رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أعتقها؛ فإنها مؤمنة ".
أخرجه البزار (1/28/37) بسند صحيح عن ابن المرزبان، لكن هذا- مع ضعفه- مدلس، وهو وإن كان ذكروا له رواية عن عكرمة؛ فإنه لم يصرح بسماعه منه كما ترى، وبه وبابن أبي ليلى أعله الهيثمي (4/424) .
4- ومما يشهد لهذا اللفظ: "السماء" حديث كعب بن مالك قال:
جاءت جارية ترعى غنماً لي، فأكل الذئب شاة، فضربتُ وجهَ الجارية، فندمت، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله! لو أعلم أنها مؤمنة؛ لأعتقتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجارية:
"من أنا؟ ". قالت: رسول الله. قال:
"فمن الله؟ ". قالت: الذي في السماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أعتقها، فإنها مؤمنة ".
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (19/98/193) و"الأوسط " (2/171/1/7712) من طريق عبد الله بن شبيب: ثنا داود بن عبد الله الجعفري: ثنا حاتم بن إسماعيل عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن ابن كعب بن مالك عن أبيه به، وقال:
"لم يروه عن ابن عجلان إلا حاتم، ولا عن حاتم إلا داود الجعفري، ولا يروى عن كعب إلا بهذا الإسناد".(7/465)
قلت: ورجاله ثقات؛ غير عبد الله بن شبيب؛ فإنه ضعيف، وبه أعله الهيثمي.
وبالجملة؛ فهذه الطرق التي وقفت عليها عن هؤلاء الصحابة الأربعة، وهم: الشريد بن سويد- وإسناده حسن على الخلاف في صحابيِّه ومسنِدِه، فمنهم من جعله من رواية أبي سلمة عنه، ومنهم من جعله من مسند أبي هريرة من رواية أبي سلمة نفسه، على اختلاف في ضبط بعض ألفاظه كما يأتي بيانه ملخصاً-، وأبو هريرة- وإسناده صحيح-، وأبو جحيفة- بإسناد ضعيف-، وابن عباس- بإسنادين عنه؛ واختلاف أيضاً في بعض ألفاظه-.
ولعله من الضروري أن أقدم إلى القراء الكرام خلاصة نيِّرة عن تلك الروايات والاختلافات في بعض ألفاظها، وبيان الراجح من المرجوح منها؛ ليكون القراء على معرفة بصحيحها من ضعيفها، والنظر في إمكانية الجمع بينها؛ ليكون القراء على حذر من بعض المضللين:
أولاً: لقد اتفقت الروايات كلها على شهادته - صلى الله عليه وسلم - للجارية بأنها مؤمنة.
ثانياً: واختلفت في نص سؤاله - صلى الله عليه وسلم - إياها وجوابها على وجوه ثمانية:
الأول: "من ربك؟ قالت: الله ". (الحديث الأول عن شريد، وهو حسن) .
الثاني: "من ربك؟ فقالت: في السماء". (الحديث الأول عن أبي هريرة؛ وهو حسن) .
الثالث: "أين الله؟ فأشارت إلى السماء". (الحديث الأول أيضاً من الطريق الآخر عنه، وهو صحيح) .
الرابع: "تشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم ". (الحديث الأول أيضاً عن الرجل الأنصاري. وهو معلول بالإرسال) .(7/466)
الخامس: "أين الله؟ قالت: في السماء". (الحديث الثاني، وهو ضعيف؛ لكنه بمعنى الوجه الثالث) .
السادس: "أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم ". (الحديث الثالث من الطريق الأول، وهو ضعيف) .
السابع: "أين الله؟ قالت بيدها إلى السماء" (الحديث نفسه من الطريق الآخر، وهو ضعيف أيضاً) .
الثامن: "فمن الله؟ قالت: الذي في السماء". (الحديث الرابع، وسنده ضعيف) .
قلت: وبهذا التلخيص الدقيق يتبين للقراء الحقيقة التالية وهي:
أن الأرجح أن سؤاله - صلى الله عليه وسلم - كان: "أين الله؟ ".
وأن جواب الجارية كان: "في السماء".
وذلك؛ لأن ثلاث روايات اتفقت على السؤال المذكور، والأولى منها هي الرواية الصحيحة عن أبي هريرة، والثانية إن لم تنفع فلا تضر، والثالثة تصلح للاستشهاد بها؛ لأنها ليست شديدة الضعف.
كما اتفقت خمس روايات على الجواب المذكور، وهو في الطريق الأصح في الحديث الأول عن أبي هريرة، وفي الطريق الأخرى الصحيحة عنه، والروايات الباقية منها شاهدة لها.
وإذا كان هذا هو الراجح من مجموع تلك الوجوه الثمانية لاتفاق أكثر الروايات وأصحها عليه؛ فإن ما خالفها؛ إما أن تؤول، وإما أن ترد بالمخالفة؛ فيقال(7/467)
مثلاً: إن رواية: "من ربك؟ " مختصرة من رواية: "أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ "، وأن هذه لا تنافي سؤالها بـ "أين الله؟ "، فإننا نعلم اليوم كثيراً ممن ينطقون بهذه الشهادة إذا سئلوا بهذا السؤال بادروك بقولهم: (الله في كل مكان) ! وهم يعلمون أن الله كان ولا مكان! وقد تنبه بعض المجادلين بالباطل لضلال هذا القول فلجأ إلى المراوغة، فقال: لا يقال: إنه في كل مكان، ولا: إنه ليس في مكان (1) ، وهذا احتيال منهم في التعبير، يتظاهرون بذلك بالتنزيه، وهو يشبه قول أسلافهم من الجهمية والمعتزلة وأذنابهم من المعطلة: "ليس هو داخل العالم ولا خارجه "؛ ورحم الله من قال في أمثالهم: "هؤلاء قوم أضاعوا ربهم "! فلا يبعد أن يكون السؤال وقع باللفظين: "أين " و: "أتشهدين "، ويؤيده الحديث الثاني.
وإن مما يقطع ويؤكد ترجيحنا المذكور: حديث معاوية بن الحكم الذي وعدتُ بذكره، فإنه قد ساق قصة الجارية سياقاً تامَّاً رائعاً، لم يسقه غيره كسياقه، ولا غرابة في ذلك؛ فإنه سيدها، فقال- رضي الله عنه- في حادثة وقعت له وهو يصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله بعض الأسئلة، فأجابه عليها:
5- فقال رضي الله عنه:
"وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَلَ أُحُدٍ والجَوَّانِيَّة، فاطّلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعظَّم ذلك عليّ، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟! قال: "ائتني بها"، فأتيته بها، فقال لها:
"أين الله؟ ".
_________
(1) ويقول آخرون: الله موجود بلا مكان!(7/468)
قالت: "في السماء"، قال: "من أنا"، قالت: أنت رسول الله، قال:
"أعتقها؛ فإنها مؤمنة ".
أخرجه مسلم، وأبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود في "صحاحهم " وغيرهم، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (862) ، و"الإرواء" (390) .
هذا؛ ويشهد لسؤال: "أين الله " حديث مرفوع، وأثر موقوف.
أما الحديث؛ فيرويه وكيع بن حُدُسٍ عن عمه أبي رَزِين قال:
قلت: يا رسول الله! أين كان ربُّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: "كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وما ثَمَّ خلق، عرشه على الماء".
أخرجه الترمذي (2108) ، وابن ماجه (182) ، وابن حبان (39- الموارد) ، وابن أبي عاصم (1/271/612) ، وأحمد (4/11 و 12) ، وابن عبد البر في "التمهيد" (7/137) ، وقال الترمذي:
"حديث حسن ". وقال الذهبي في "مختصر العلو" (186/193) :
"رواه الترمذي وابن ماجه، وإسناده حسن "
وفيه نظر؛ لأن وكيعاً هذا مجهول، كما بينته هناك.
وأما الأثر؛ فهو ما رواه زيد بن أسلم قال:
مرَّ ابن عمر براعي غنم فقال: يا راعي الغنم! هل من جَزَرة (1) ؟ قال الراعي: ليس ههنا ربُّها، فقال ابن عمر: تقول: أكلها الذئب! فرفع الراعي رأسه إلى
_________
(1) أي: شاة تصلح للذبح.(7/469)
السماء ثم قال: فأين الله؟!
فاشترى ابن عمر الراعي واشترى الغنم فأعتقه، وأعطاه الغنم.
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (12/263/13054) : حدثنا محمد
ابن نصر الصائغ: ثنا أبو مصعب: ثنا عبد الله بن الحارث الجُمَحِي: ثنا زيد بن أسلم به.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات مترجمون في "التهذيب "، غير شيخ الطبراني محمد بن نصر الصائغ، وهو ثقة مترجم في "تاريخ بغداد" (3/318- 319) ، مات سنة (297) .
وهذا الأثر احتج به الحافظ الذهبي في "العلو"، ذكره معلقاً على أبي مصعب الزهري، وكنت جوّدت إسناده في "مختصره " (127) ولم أكن قد وقفت يومئذ على وصله، فها قد وقفت عليه الآن، والحمد لله.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/347) :
"رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن الحارث الحاطبي، وهو ثقة".
وجملة القول: إن أصح الأحاديث المتقدمة إنما هو حديث معاوية، فلا جرم أن يتفق العلماء- من محدثين وفقهاء- على تصحيحه على مرِّ العصور دون أي خلاف بينهم؛ فقد صححه الخمسة الذين أخرجوه في "صحاحهم " كما تقدم، وكذا البيهقي في "الأسماء" (422) ، والبغوي في "شرح السنة" (3/239) ، والذهبي كما يأتي، والحافظ في "الفتح " (13/359) ، كل هؤلاء صرحوا بصحة الحديث وإسناده، ويُلحق بهم كل من احتج بالحديث من أئمة الحديث والفقه(7/470)
والتفسير على اختلاف مذاهبهم، ممن احتج به في باب من أبواب الشريعة، ضرورة أنه لا يحتج إلا بما صح عنده، كالإمام مالك في "الموطأ" (3/5- 6) ، والشافعي في "الأم " (5/266) ، وأحمد في "مسائل عبد الله " (101/363) ، و"مسائل صالح " (3/74/1374) ، والطحاوي في "شرح المعاني " (1/258) ، وابن عبد البر في "الاستيعاب "، وابن الجوزي في "دفع شبه التشبيه "، والنووي في "المجموع "، وابن الوزير في " العواصم والقواصم " (1/379- 380) ، وغيرهم كثير وكثير ممن لا يمكن حصرهم، وفيهم بعض المبتدعة المعروفين بمعاداتهم لأهل السنة، وسُوِّد في الرد عليهم رسائل عدة، كالشيخ الصابوني؛ فإنه تابع الحافظ ابن كثير في الاحتجاج بهذا الحديث، فأورده في موضعين (1/ 421 و 523) من "مختصره " الذي التزم أن لا يورد فيه إلا ما صح من الحديث!
أما الغلاة من المبتدعة والمتجهمة في هذا العصر؛ فقد أعلن بعضهم عن تضعيفه لهذا الحديث، وإنكاره لصحة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله؟ "، وجواب الجارية: "في السماء"! وعلى رأس هؤلاء الشيخ الكوثري ومقلِّدوه، وقد كنت رددت عليه في كتابي "مختصر العلو" (ص 82) بما يغني عن إعادته هنا، وكان الرد حول حديث معاوية هذا فقط، قبل أن يتيسر لي جمع شواهده المتقدمة عن أبي هريرة، وأبي جُحَيفة، وابن عباس، ثم أوقفني بعض الإخوان على حديث خامس من رواية ابن شاهين بسنده عن عُكَّاشة الغَنَوِي في "أسد الغابة"، و"الإصابة"، وإسناده حسن.
ثم رأيت في "تلخيص ابن حجر" (3/223) حديثاً سادساً عن يحيى ابن عبد الرحمن بن حاطب- الثقة- مرسلاً، رواه أبو أحمد العسَّال في "السنة " من طريق أسامة بن زيد، وفي الحديثين: "أين الله؟ "، قالت: "في السماء".(7/471)
فماذا عسى أن يقول القائل في مثل هذا المكابر الجاحد للحقائق العلمية المعترف بها عند العلماء الفطاحل كما تقدم؟! إلا أن يقرأ: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ! وأن يذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاوية- رضي الله عنه- في حديث تفرّق الأمة:
"وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ": "صحيح الترغيب " (1/97/48) ؛ نسأل الله السلامة والعافية!
وقد جرى على سَنَنِ هذا الجاحد: الشيخُ المغربي عبد الله الغماري المعروف بعدائه الشديد- كالكوثري- للسنة وأتباعها، ويزيد عليه أنه شيخ الطريقة الدرقاوية، ويزعم أنه مجدد العصر الحاضر! فقد رَدَّ في تعليقه على "التمهيد" (7/135) حديث مسلم، فزعم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه: "أين الله؟ " وجواب الجارية عليه بقولها: "في السماء" أنه من تصرف الرواة! ضارباً صفحاً عن تصحيح أولئك الحفاظ إياه، وعن الشواهد المؤكدة لصحته، وعن إمكانية الجمع بينه وبين بعض الألفاظ التي تخالفه بزعمه، مع كونه أصح منها كما تقدم، فما أحراه هو وسلفه الكوثري وأمثالهما ممن يرد الأحاديث الصحيحة المتلقاة من الأمة بالقبول- كالغزالي المعاصر- بوعيد قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) [النساء/15] .
ثم زاد الجاحد إغراقاً في الضلال بعد أن اتهم رواة اللفظ الأصح بالخطأ والرواية بالمعنى؛ فقال:
"ويؤيد ذلك أن المعهود من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه بالتواتر أنه كان يختبر إسلام الشخص بسؤاله عن الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام ودليله ".(7/472)
فأقول: هذا باطل من وجوه:
الأول: ما زعمه من التواتر مجرد دعوى لا دليل عليه، وما كان كذلك؛ وجب طرحه وعدم الاشتغال به.
الثاني: أنه يبطل زعمَه بعضُ الألفاظ التي اعتمد عليها في تخطئة اللفظ الأصح، وهو لفظ: "من ربكِ؟ " " فهذا ليس فيه الاختبار بالشهادتين كما زعم.
فإن قيل: هذا لا ينافي اللفظ المذكور!
قلنا: وكذلك لا ينافي اللفظ الأصح: "أين الله؟ "؟ كما تقدم بيانه في الخلاصة النيرة، فتذكر!
الثالث: أنه قال أخيراً:
"أما كون الله في السماء؛ فكانت عقيدة العرب في الجاهلية، وكانوا مشركين، فكيف تكون دليلاً على الإسلام؟! ".
كذا قال فُضَّ فوه! فإنه يعلم أن الجاهليين كانوا يؤمنون- مع شركهم- بتوحيد الربوبية بدليل قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) ونحوه من الآيات، وكانوا يُلبُّون به وهم يطوفون حول البيت، فيقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك! رواه مسلم (4/8) .
فإذا كان توحيدهم هذا حقاً، وإذا كان اعتقادهم أن الله في السماء حقاً كذلك، لمطابقته لنص القرآن، وبه أجابت الجارية التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان، أفيُعقل أن يقول مؤمن بالله ورسوله حقاً: لا نؤمن بأن الله في السماء لأن المشركين كانوا يعتقدون ذلك؟! إذن؛ يلزمه أن لا يؤمن بتوحيد الربوبية؛ لأن(7/473)
المشركين يؤمنون به!! ذلك هو الضلال البعيد.
وأصل ضلال هؤلاء المتجهمة أنهم تأثروا بالمعتزلة والجهمية الذين ضلُّوا ضلالاً مبيناً؛ بإنكارهم كثيراً من الغيبيات المتعلقة بالله تعالى وصفاته، وذلك يعود إلى أمرين:
أحدهما: ضعف إيمانهم بالله ورسوله وما جاء عنهما.
والآخر: ضعف عقولهم وقلة فهمهم للنصوص، وهذا هو المثال بين يديك: لم يؤمنوا بأن الله في السماء مع صراحة الآيات في ذلك، والتي منها قوله تعالى: (أأمِنْتُم مَنْ في السماء أنْ يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) [الملك: 16] ، وصحة حديث الجارية، الذي شهد لها بالإيمان لأنها عرفت ربها في السماء، ولذلك بادروا إلى إنكار صحته، وأما الآية فعطلوا دلالتها بعقولهم المريضة، ذلك أنهم تبادر إلى أذهانهم الكليلة أن (في) هنا ظرفية، وهذا خطأ ظاهر، ففروا منه، فتأولوا (مَنْ) بالملائكة، فوقعوا في خطأ آخر، فوقف في طريقهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء"، فهذا صريح في أن (في) في شَطْرَيِ الحديث بمعنى (على) ، ولما رأى ذلك بعض جهلة الغماريين وأنه يبطل تأويله المذكور؛ بادر بكل صفاقة وجهل إلى القول بأنه "حديث باطل "! (1) خلافاً لكل العلماء حتى شيوخه الغماريين، كما بينته في الاستدراك المطبوع في آخر المجلد الثاني من "الصحيحة"، طبع عمّان رقم (12) .
_________
(1) انظر مقدمة المسمى حسن السقاف لكتاب "دفع شبه التشبيه "لابن الجوزي (ص 62و64) الذي دفعه الذهبي في "السير" (21/368) دفعاً لطيفاً بقوله:
" ليته لم يخض في التأويل، ولا خالف إمامه "!(7/474)
والمقصود أن معنى الآية المذكورة (أأمنتم من في السماء) ؛ أي: من على السماء. يعني: على العرش؛ كما قال ابن عبد البر (7/129و130و134) وغيره؛ كالبيهقي في "الأسماء" (377) ؛ حيثما قال: "يعني: من فوق السماء".
وهذا التفسير هو الذي لا يمكن القول إلا به؛ لمن سلّم بمعاني النصوص الكثيرة من القرآن والسنة المجمعة على إثبات العلو والفوقية لله تعالى علوّاً يليق بعظمته؛ كقوله تعالى في الملائكة: (يخافون رَبَّهُم مِنْ فوقهم) وغيرها من الآيات المعروفة، وعلى هذا أهل السنة والجماعة؛ خلافاً للمعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش!
كما في "التمهيد" (7/129) .
والعجيب من أمر هؤلاء النفاة أنهم أرادوا بنفيهم تنزيه ربهم أن يكون فوق المخلوقات؛ فحصروه في داخلها، كما روي عن بشر المريسي أنه لما قال: هو في كل شيء! قيل له: وفي قَلَنْسُوتك هذه؟ قال: نعم، قيل: وفي جوف حمار؟! قال: نعم!
وهذا القول يلزم كل من يقول بأنه تعالى في كل مكان، وهو من أبطل ما قيل في رب العالمين الحكيم الحليم، ولذلك قال بعض السلف: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية!
ولوضوح بطلان هذا القول لبعض علماء الكلام؛ فرُّوا إلى القول بما هو أبطل منه، وسمعته بأذني من بعض الخطباء يوم الجمعة على المنبر:
الله ليس فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه، وزاد بعض الفلاسفة: لا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه!!(7/475)
وهذا هو التعطيل المطلق الذي لا يمكن لأفصح الناس أن يصف العدم بأكثر مما وصف هؤلاء ربهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! ورحم الله ذلك الأمير العاقل الذي قال لما سمع هذا من بعض علماء الكلام: "هؤلاء قوم أضاعوا ربّهم "!
ولهذا؛ قال بعض العلماء:
"المجسِّم يعبد صنماً، والمعطّل يعبد عدماً، المجسم أعشى، والمعطل أعمى"!
ومن المؤسف أن العلامة ابن الجوزي- في رده على المشبهة- قد وقع منه من ذاك الكلام؛ فقال في كتابه المتقدم بعد أن تأول (الاستواء) بالاستيلاء واستشهد على ذلك ببيت الأخطل النصراني المعروف:
قد استوى بِشْرٌ على العراقِ
من غير سيف ولا دمٍ مُهْراقِ
وتفلسف في رد المعنى الصحيح وهو الاستعلاء، قال:
"ولذا؛ ينبغي أن يقال: ليس بداخل في العالم، وليس بخارج منه "!
ولم يعلق المسمى بـ (حسن السقاف) على هذا النفي الباطل؛ الذي لم يقل به إمام معروف من قبل، والذي ليس فيه ذَرَّةٌ من علم كما هو شأن النفاة، ومن عجائبه وجهالاته أنه يقلد ابن الجوزي في إنكاره على من يقول من المثبتة: "استوى على العرش بذاته "؛ فيقول ابن الجوزي (ص 127) منكراً لهذه اللفظة " بذاته ":
"وهي زيادة لم تنقل ".
فيا سبحان الله! زيادة كهذه يُراد بها دفع التعطيل تُنكر لأنها لم تنقل، وقوله المتقدم: "ليس بداخل ... "لا ينكر! اللهم إن هذه لإحدى الكُبَرِ!!(7/476)
وكذلك لم يعلِّق على تأويل ابن الجوزي لآية (الاستواء) بل أقرَّه، لأنه صرح (ص 123) - بعد كلام طويل له فيه كثير من التحريف والكذب لا مجال الآن لبيانه- قال:
"الاستواء عندنا هو الاستيلاء والقهر، أو تفويض معناه إلى الله ".
كذا قال! وهذا يدل على أنه لم يعرف الحق بعدُ، لتردده بين التأويل والتفويض!
ولكنني أعتقد أن ذكره التفويض هنا؛ إنما هو سياسة منه، ومراوغة وتضليل للقراء الذين قد ينكرون عليه التأويل، فإنه قال بعدُ (ص 127) :
"وأما رد الإمام أبي الحسن الأشعري تفسير الاستواء بالاستعلاء؛ فنحن لا نوافقه في ذلك أبداً، ونقول: إنه قال ذلك بسبب رَدّة فعل حصلت عنده من المعتزلة، وهم وإن لم نوافقهم في كثير من مسائلهم؛ إلا أننا هنا نوافقهم ونعتقد أنهم مصيبون في هذه المسألة"!
أي: في إنكارهم علوَّ الله على خلقه، لكن المعتزلة وأمثالهم كالإباضية يقولون بأن الله في كل مكان، وهذا مما ينكره أشدَّ الإنكار ذلك الجاهل المتعالم، ويصرِّح بتكفير من يقول به، ويعتقد أن الله سبحانه وتعالى موجود بلا مكان! ويعني: أنه ليس فوق العرش كما أخبر تعالى في كثير من آياته، وأخبر نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه، فراجع كلامه في ذلك في "الأحاديث الضعيفة" تحت الحديث (6332) .
وإن من ضلال ذاك السقاف أنه يصرح بنفي ثبوت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله؟ "؟ مع قوله بأنه في " صحيح الإمام مسلم "! ثم يؤكد ذلك فيقول - فُضَّ فوه - (ص 108) :(7/477)
"ونحن نقطع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: "أين الله؟ "، وإنما قال: "أتشهدين أن لا إله إلا الله " الذي رواه أحمد.. و.. و ... بأسانيد صحيحة".
ثم أعاد نحو هذا الكلام في مكان آخر (ص 186-187) .
وفيه أكاذيب عجيبة عديدة- تؤكد أن الرجل لا يخشى الله، ولا يستحي من عباد الله- يطول الكلام عليها جدّاً، فأوجزُ في العبارة ما استطعت:
فمن ذلك أن اللفظ الذي عزاه لأحمد- وغيره ممن أشرت إليهم بالنقط وهم ثمانية-، يوهم القراء أنهم جميعاً رووه باللفظ المذكور، وعن صحابي واحد، وهو كذب وزور، فإنما رووه بأكثر من لفظ وعن أكثر من صحابي، فبعضهم رواه: عن أنصاري- وهو الذي أعله البيهقي بالإرسال كما تقدم-، وبعضهم: عن الشريد- وسنده حَسن على الخلاف في إسناده كما تقدم، ثم هو بلفظ: "من ربك؟ "، خلافاً للفظ المذكور! -، وبعضهم عن ابن عباس- وفيه ابن أبي ليلى-.
فأين الأسانيد الصحيحة التي ادعاها كذباً ومَيْناً؟! على أنه سرعان ما كذَّب نفسه بنفسه في المكان الآخر المشار إليه؛ فإنه قال- عقب بعض المصادر المشار إليها بالنقط-:
".. والطبراني (12/27) بسند صحيح.. "، ثم ذكر مصدرين آخرين تمام
الثمانية.
قلت: وهذا كذب أيضاً لما عرفت، وبخاصة إذا أرجعنا الضمير إلى أقرب مذكور- وهو الطبراني- فإن فيه ابن أبي ليلى كما عرفت!
ومن تدجيله- زيادة على ما تقدم- أنه تعمد أن لا يضيف إلى تلك المصادر
أبا داود، وابن خزيمة مطلقاً، ولا إلى المجلد السابع من "سنن البيهقي "؛ لأن(7/478)
الحديث عندهم باللفظ الذي قطع بتكذيبه، عامله الله بما يستحق!!
ولو أن طالب علم عكس عليه قطعه المأفون، فجزم ببطلان اللفظ الذي زعم صحته؛ لكان قاهراً عليه؛ لأن معه بعض الروايات التي فيها. "أين الله " من طرق أكثر وأصح من لفظه، فكيف ومعه حديث معاوية بن الحكم- رضي الله عنه- وقد صححه جمع غفير من المحدثين قديماً وحديثاً كما تقدم؟! ولكننا لا نرى تعارضاً حتى نلجأ إلى الترجيح كما سبق، وإلى هذا جنح العلامة ابن قيّم الجوزية- رحمه الله- في "إعلام الموقعين " (3/ 521- كردي) ؛ فقد ذكر روايتين مما تقدم: "من ربك؟ "، و"أين الله "، ثم قال:
"وسأل صلى الله عليه وآله وسلم: "أين الله؟ "، فأجاب من سأله بأن الله في السماء، فرضي جوابه وعلم به أنه حقيقة الإيمان بربه، ولم ينكر هذا السؤال عليه، وعند الجهمي أن السؤال بـ "أين الله؟ " كالسؤال بـ: ما لونه، وما طعمه، وما جنسه، وما أصله؟ ونحو ذلك من الأسئلة المحالة الباطلة! ".
ولقد صدق- رحمه الله- وأصاب كبد الحقيقة، فأنت ترى هذا (السخاف) كيف يصر على التكذيب بهذا الحديث الصحيح الذي صححه أئمة المسلمين كما تقدم بيانه، ثم لا يكتفي بذلك، فيتهمهم بالتجسيم! فيقول- فُضَّ فوه- (ص 187) :
"ومن الغريب العجيب: أننا نرى المجسمة يرددون هذا اللفظ: "أين الله؟ " على ألسنتهم دائماً، ولا يدركون (!) أن هذا تصرف رواة، وحكاية لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى المخطئ، وخصوصاً بعد ثبوت هذا الحديث عند غير مسلم بلفظ: "أتشهدين أن لا إله إلا الله.. " مخالفة تامة، أو على الأقل مخالفة لا تفيد معنى: أين الله؟ ".
ثم أكد جَزْمَهُ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هذه الكلمة التي صحت عند الأئمة، وما ذاك إلا لأنها قاصمة ظهر المبتدعة الجهمية، ولست أدري- والله- ماذا أقول في(7/479)
هذا الرجل المكابر الجاحد؟! إلا أن أنذره بقوله تعالى:
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين
نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) . *
3162- (أَعطاني - صلى الله عليه وسلم - شَيئاً من تمر، فجعلتُه في مِكْتَلِ لنا، فعلّقناه
في سَقْفِ البيتِ، فلمْ نَزَل نأكلُ منه؛ حتَّى كانَ آخرُهُ أصابَهُ أهلُ الشام حيثُ أغارُوا على المدينةِ) .
أخرجه أحمد في "المسند" (2/324) : ثنا أبو عامر: ثنا إسماعيل- يعني:
ابن مسلم- عن أبي المتوكل عن أبي هريرة قال: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، وأبو عامر هو عبد الملك بن عمرو القيسي العَقَدي.
وأبو المتوكل: اسمه علي بن داود الناجي، ثقة اتفاقاً، وقد احتج به الشيخان وغيرهما، وقد ذكروا له رواية عن جمع من الصحابة غير أبي هريرة المتوفى سنة (59) ؛ مثل عائشة- رضي الله عنها-، وقد توفيت قبله بسنتين، فضلاً عن غيرهما ممن تأخرت وفاته مثل ابن عباس وجابر وأم سلمة- رضي الله عنهم أجمعين -، وروى له الترمذي حديثاً عن عائشة بلفظ:
"قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن "
ثم قال (2/100/448) :
"حديث حسن غريب من هذا الوجه ".
وهذا يعني- في اصطلاحه- أنه قوي لذاته، كما لا يخفى على العارفين بكتابه، كما روى له النسائي في "عمل اليوم والليلة" (531- 532) حديثاً آخر(7/480)
من طريق إسماعيل بن مسلم هذا- وهو العبدي البصري- عنه عن أبي هريرة بحديث الجني الذي كان يسرق من تمر الصدقة، فأمسك به أبو هريرة ليأخذه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -...... الحديث، وفيه: أن الجني قال له: خلِّ عني أعلمك كلمات إذا قلتهن لم يقربك الجن..... آية الكرسي، اقرأها كل صباح ومساء..... الحديث، وفيه: قال أبو هريرة: فخلَّيت عنه، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
"أو ما علمت أنه كذلك؟ ".
وقد علقه البخاري من طريق أخرى عن أبي هريرة بأتم منه، وفي آخره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له:
"صدقك وهو كذوب " " وهو في "مختصري لصحيح البخاري " (ج 2/106/
363) وقد طبع- والحمد لله-، ووصله النسائي وابن خزيمة في "صحيحه " (2424) وغيرهما، وقد خرجه مع شواهده الكثيرة الأخ الفاضل الشيخ محمد بن رزق بن طرهوني في كتابه القيم "موسوعة فضائل سور وآيات القرآن " (1/152- 167) ، وانتهى بطبيعة الحال إلى الجزم بصحته جزاه الله خيراً، وهو الذي لا يمكن لحديثيٍّ أن يخالف فيه، خلافاً لأهل الجهل والأهواء، مثل المسمى بـ "حسان عبد المنان " الذي زعم أنه حقق "رياض الصالحين " للإمام النووي- رحمه الله-، واستخرج منه (129) حديثاً جمعها في آخر الكتاب تحت عنوان:
"ذكر الأحاديث الضعيفة المحذوفة من أصل الكتاب "! أعْمَلَ فيها مِعْوَلَ الهدم والطعن في كثير من الأحاديث الصحيحة، متفاخراً بذلك على من سبقه من المحققين للكتاب! حيث بلغ عددها عنده ضعفي عددها عندهم، ومنهم شيخه شعيب الأرنؤوط، الذي نسب إليه أنه وافقه على أكثر من (90) حديثاً! وأن ذلك من فضل شيخه لرجوعه إلى الحق! ويعقِّب على تلك الأحاديث بقوله:(7/481)
"وافقني على تضعيفه الشيخ شعيب الأرنؤوط "!
ولم يقل- في أي حديث من تلك الأحاديث التي كنت ضعفتها من قبل شيخه (1) ، بل واستفاد هذا مني (كهذا التلميذ) تضعيفها كما يعلم هو ذلك جيداً-:
وافقني الشيخ الألباني، بل وافقت الشيخ الألباني على تضعيفه!! وبخاصة في مثل حديث ابن عباس رقم (30) عنده؛ فإنه خالف فيه جادَّته، فقال عقبه (ص 520) :
"قال الشيخ شعيب: حسن لغيره "!
قال هذا في شيخه، وهو يعلم أنني جزمت بضعفه في التعليق على "الرياض" (رقم 588) ، وأن فيه زيادة منكرة كما بينته في " أحكام الجنائز" (ص 197) ، فلماذا لم يقل: وافقت الشيخ الألباني على تضعيفه؟ ا
الجواب عند القراء الأذكياء! وبإمكانهم أن يستعينوا عليه بأن يتأملوا قوله في حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة في فضل التهليل؛ وفيه:
"من قالها في مرضه ثم مات؛ لم تَطْعَمْهُ النار"، قال (ص 531) :
"ويرى الشيخ الألباني في "صحيحته " (1390) أنه في حكم المرفوع، ولا أراه. وافقني على تضعيف المرفوع الشيخ شعيب "!
فتأملوا في قوله: "ولا أراه " يتبين لكم الجواب، ألا وهو ما يشار إليه في بعض البلاد: "خَالِفْ تُعْرَفْ ".
_________
(1) إلا حديثاً واحداً نسب ضعفه إلي (ص 556- 557) ، لما لم يجد شيخه وافقه عليه! كأنه جبن عن تضعيفه، بل جزم بحسنه في تعليقه على "صحيح ابن حبان " (16/333) !(7/482)
ثم إنه في قوله المذكور في شعيب تلبيساً أو تدليساً خبيثاً، لا أدري إذا كان الشيخ شعيب تنبه له أم لا؟ لأنه قد وافقني- ولا أقول: قلَّدني كما هو شأنه في كثير من أحكامه، كما يعلم ذلك تلميذه البار! -، وافقني على أن الحديث في حكم المرفوع في تعليقه على ".. صحيح ابن حبان " (3/132) ، وتلميذه على علم بذلك، فلماذا كتم هذه الموافقة؟! وهي حق؛ لأننا قلنا هناك في "الصحيحة":
"وكونه موقوفاً لا يضره؛ لأنه لا يقال بمجرد الرأي كما هو ظاهر، ويؤيده أن أبا إسحاق قد توبع على رفعه.. "
ثم سقت إسناده، وبينت أنه جيد، ووافقني شعيب عليه أيضاً.
فلا أدري هل رجع الشيخ شعيب عن تعليقه المتضمن الموافقة على الأمرين المذكورين، أم أن المعلق على "الرياض " غير صادق فيما نسب إليه؟!
وكيف ما كان الأمر، فالسؤال الذي يطرح نفسه- كما يقال اليوم- هو: إن أي جاهل مهما كان عريقاً في الجهل، يستطيع أن يعارض العالم في رأيه، ولو كان علامة زمانه بل الأزمنة كلها، فيقول كما قال المذكر:
"هذا رأيه، ولا أراه "!
على حد قول بعض الجهلة في رأي بعض الصحابة والمجتهدين:
"أولئك رجال، ونحن رجال "!
فأقول لهذا المتعالم:
لقد عرفت حجتنا من "الصحيحة" في أن الحديث في حكم المرفوع، وهي أنه: "لا يقال بمجرد الرأي "، فلماذا لم تقابل الحجة بالحجة، بل لجأت إلى ردها بمجرد الدعوى التي لا يعجز عنها أجهل الجهلة؛ فقلت أنت: "ولا أراه "؟! وهل(7/483)
يعقل عاقل مسلم أن يقول مسلم- فضلاً عن صحابيين جليلين: أبي سعيد وأبي هريرة- في فضل التهليل الذي روياه: إن من قال ذلك في مرضه ثم مات لم تطعمه النار؟! وكذلك قوله عن ربه: "صدّقه ربه "، وقوله: "لا إله إلا أنا" يقول ذلك كله برأيه، دون توقيف من الشارع الحكيم؟! تالله إنها لاحدى الكبر، أن ينسب ذلك مسلم للصحابيين الجليلين، أليس هذا كله مما يدل على أن هذا المعلق يصدق عليه المثل المعروف: (تزبَّب قبل أن يتحصرم) ؟! بلى والله!
وإن مما يؤكد ذلك: إعلاله لحديث الترجمة وحديث فضل آية الكرسي- اللذين رواهما أبو المتوكل عن أبي هريرة- بالانقطاع الذي لم يقله غيره، فقال (ص 535- 536) :
"وأرى أن هذه الرواية مرسلة، أرسلها أبو المتوكل ولم يسمعها من أبي هريرة، كما أوضحت ذلك رواية ابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" (1/306) ، ثم إني لم أجد رواية واحدة لأبي المتوكل عن أبي هريرة، صرح فيها بالتحديث منه، ولم أجد له في الكتب الستة و"مسند أحمد" غير هذه الرواية، وأخرى عند أحمد (2/324) فيها نكارة"!
فأقول- والله المستعان على مدَّعي العلم في هذا الزمان-:
أولاً: قوله: "وأرى أن الرواية مرسلة ... " (1) ، فأقول: "ليس هذا عُشُّكِ فادْرُجي "! فإنك لن تستطيع أنت ولا غيرك أن يثبت عدم سماع التابعي من
_________
(1) ومن جنفه وغروره أنه أعل حديث مسلم: "خلق الله التربة يوم السبت ... " بمثل هذه العلة، فقال (ص 566) : "إسماعيل بن أمية لم يصرح بالتحديث ... "! وهذا كالذي قبله مما لم يُسبق إليه؛ فإن إسماعيل هذا ثقة، لم يرمه بالتدليس إلا هذا الدَّعي! وانظر "الصحيحة " (1833) .(7/484)
صحابي، أثبت العلماء الذين إليهم المرجع في معرفة ذلك روايته عن بعضهم، دون أن يشيروا أدنى إشارة إلى عدم السماع، كما هي عادتهم فيمن يترجمون له، وقد قدمت في أول هذا التخريج تصحيح الترمذي لحديث أبي المتوكل عن عائشة تصحيحاً ذاتيّاً، وهي قد توفيت قبل أبي هريرة كما تقدم، وهذا يعني أنه أدركها وأنه لا انقطاع بينه وبينها، فكذلك القول في روايته عن أبي هريرة كما لا يخفى على أهل العلم؛ لأنه من المقرر عندهم أن المعاصرة تكفي لإثبات الاتصال كما هو مقرر في علم المصطلح.
وإن مما يؤكد ذلك: أن الحافظ العلائي لما أورد أبا المتوكل هذا في كتابه ".. أحكام المراسيل " لم يزد على قوله (294/450) :
"قال أبو حاتم: لم يسمع من عمر- رضي الله عنه- شيئاً ".
وهذا معناه: أنه سمع من الصحابة الآخرين الذين سبقت الإشارة إليهم، كما هو ظاهر، ومنهم أبو هريرة- رضي الله عنه-.
ثانياً: قوله: "كما أوضحت ذلك رواية ابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" ... ".
فأقول: فيه تدليس خبيث؛ لأنه ليس في "تفسير ابن كثير" التوضيح المذكور، بل فيه عكس ما أوهم القراء بتدليسه؛ فإنه ساق رواية ابن مردويه بسنده عن أبي المتوكل: أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة ... وهذا ظاهره الإرسال الذي ادعاه، لكن الحافظ ابن كثير دفعه بأن عقَّب عليه برواية النسائي المتصلة؛ كهذا الحديث- حديث الترجمة- من طريق إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة، وقال عقبه:(7/485)
"وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضاً، فهذه ثلاث وقائع ".
قلت: ففي تعقيب ابن كثير هذا إشارة إلى تقويته لرواية النسائي؛ لاتصالها، ووجه ذلك في علم المصطلح؛ أنه إذا اختلف ثقتان في إسناد حديث ما، فأرسله أحدهما، وأسنده الآخر؛ فالراجح رواية من أسند، وذلك؛ لأن معه زيادة، وزيادة الثقة مقبولة، وهذا هو الواقع هنا في حديث النسائي ورواية ابن مردويه؛ فإنه عند الأول من حديث شعيب بن حرب، وعند الآخر من حديث مسلم بن إبراهيم، وكلاهما ثقة؛ لكن كتاب النسائي مخدوم ومعتنى بروايته، ولا نعلم مثله في كتاب ابن مردويه، والله سبحانه أعلم.
ثالثاً: قوله: "ثم إني لم أجد ... " إلخ.
فأقوله: وماذا وراء هذه الدعوى؟! هل أنت من حفاظ الحديث، وأنت فيه ابن اليوم؛ كما يقال في بعض البلاد، وكما تدل عليه أخطاؤك الكثيرة في تعليقك على "الرياض "، وهذا بعضها، والحبل جرار كما يقال، وتقدمت بعض الأمثلة الأخرى، فانظر "الصحيحة" (رقم 944) ومقدمة المجلد الثاني من الطبعة الجديدة، ورقم (3007) ! *
3163- (كانَ إذا خرجَ من بيته قال:
بسم الله، توكلتُ على الله، اللهمَّ! إنَّا نعوذُ بكَ أن نَزِلَّ (وفي رواية: أَزلَّ، أو أُزِلَّ..... بالإفراد في الأفعال كلها) ، أو نَضِلَّ، أو نَظلِمَ أو نُظْلمَ، أو نجهلَ أو يُجْهلَ علينا) .
هو من حديث أم سلمة- رضي الله تعالى عنها-: رواه عنها الشعبي، وعنه(7/486)
منصور- وهو ابن المعتمر- وعنه جمع غفير من الثقات، فهو عنه متواتر، وإليك البيان:
الأول: سفيان الثوري- وهو أحفظهم-:
أخرجه الترمذي (9/126/3423) ، والنسائي في "السنن " (2/322) ، و"عمل اليوم والليلة " (176/87) ، وكذا ابن السني (72 1) ، والحاكم (1/519) ، وابن أبي شيبة في "المصنف " (10/211/9250) ، وأحمد (6/306) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/320/727) وفي "الدعاء" (2/986/411) من طرق عنه، وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح ".
وقال الحاكم:
"صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وربما توهم متوهم أن الشعبي لم يسمع من أم سلمة، وليس كذلك؛ فإنه دخل على عائشة وأم سلمة جميعاً؛ ثم أكثر الرواية عنهما جميعاً ".
كذا قال! وتعقبه الحافظ في "نتائج الأفكار" فقال عقبه (1/159) :
"وقد خالف ذلك في "علوم الحديث " له، فقال: لم يسمع الشعبي من عائشة".
قلت: هكذا قال الحاكم في "العلوم " (ص 111) ، ولكن مما لا ريب فيه أن إثبات الحاكم مقدَّم على نفيه، ولا سيّما أن ما نفاه خاص بعائشة، وحديثه هنا عن أم سلمة، وقد تأخرت وفاتها عن وفاة عائشة خمس سنوات، فقد توفيت أم(7/487)
سلمة سنة (62) على الأصح، وولد الشعبي في حدود سنة عشرين، فقد عاصرها وأدرك عمراً طيباً من حياتها، وقول الحافظ عقب ما تقدم:
"وقال علي بن المديني في كتاب "العلل ": لم يسمع الشعبي من أم سلمة، وعلى هذا فالحديث منقطع ":
أظنه قائماً على اشتراط ثبوت اللقاء الذي يقول به البخاري في " صحيحه " في ثبوت الاتصال، ولعله تلقى ذلك من شيخه ابن المديني، والجمهور يكتفون بثبوت المعاصرة، وهذا متحقق هنا كما تقدم، يضاف إلى ذلك ما جاء في ترجمة الشعبي: "أنه سمع من ثمانية وأربعين من الصحابة، وهو أكبر من أبي إسحاق بسنتين، وأبو إسحاق أكبر من عبد الملك بسنتين، ولا يكاد الشعبي يرسل إلا صحيحاً ".!
ذكره الحافظ في "التهذيب "، نقلاً عن العجلي، وأقره.
فلعله- أعني: الحافظ- من أجل هذا صدّر تخريجه للحديث بقوله:
"حديث حسن ".
وإلا؛ فحقه أن يقول- بناءً على حكمه بالانقطاع-:
"حديث ضعيف "! والله أعلم.
الثاني: شعبة بن الحجاج، قال الطيالسي في "مسنده " (224/1607) :
حدثنا شعبة به.
ومن طريقه: أخرجه أبو داود (5/327/5094) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة " (رقم 86) ، وأحمد (6/321- 322) ، والطبراني في "معجمه" (رقم726)(7/488)
وفي "الدعاء" (رقم 412) من طرق عنه، وليس عندهم قوله: "بسم الله، توكلت على الله "، إلا أحمد؛ فعنده: "بسم الله " فقط، وزاد أبو داود والطبراني في أوله ما لفظه:
ما خرج من بيته قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: "اللهم إني أعوذ بك أن أضل، أو أزل أو أزل ... " الحديث إلخ، هكذا بصيغة الإفراد.
أخرجه المذكوران من طريق مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، لكن تفرُّده بجملة رفع الطرف إلى السماء دون الطرق الأخرى عن شعبة يلقي في النفس عدم الاطمئنان لثبوتها، ولا سيما أنها لم ترد في الطرق الأخرى الآتية عن منصور، إلا في بعض الطرق عن الفضيل بن عياض- وهو (الخامس) - وفيه ما سيأتي.
الثالث: جرير- وهو ابن عبد الحميد- عن منصور به، وزاد التسمية فقط: أخرجه النسائي، والبيهقي في "السنن " (5/251) .
الرابع: عبيدة بن حميد عنه: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (10/ 211/9249) ، وعنه ابن ماجه (2/1278/3884) ، وكذا الطبراني (رقم 732) كلاهما عنه قال: حدثنا عبيدة بن حميد به؛ بلفظ الإفراد في جميع الأفعال. الخامس: فُضَيل بن عِيَاض؛ قال الحميدي في "مسنده " (145/303) : ثنا
فضيل بن عياض عن منصوربه كالذي قبله.
وأخرجه الطبراني في "الدعاء"، وأبو نعيم في "الحلية " (8/125) من طرق أخرى عن الفضيل به، إلا أن الطبراني زاد الزيادة المتقدمة التي عند أبي داود والطبراني في حديث شعبة (الثاني) ، لكنه من طريق محمد بن زياد الزيادي وأحمد بن يونس قالا: ثنا الفضيل بن عياض به، وقال: "صباحاً" مكان "قط "!(7/489)
قلت: وأحمد بن يونس: هو ابن عبد الله بن يونس اليربوعي الكوفي، ثقة حافظ من رجال الشيخين، لكن قرينه محمد بن زياد الزيادي فيه ضعف،
استشهد به البخاري، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وقال ابن منده:
"ضعيف ".
قلت: فمن المحتمل أن تكون هذه الزيادة منه: من مفاريده لم يشاركه عليها أحمد بن يونس، ويكون الطبراني عطف روايته على رواية الزيادي لمشاركته إياه في أصل الرواية وليس في الزيادة أيضاً؛ والسند إليهما صحيح؛ فقد قال (رقم 413) : حدثنا زكريا بن يحيى الساجي: ثنا محمد بن زياد الزيادي. ح وحدثنا أبو حصين القاضي: ثنا أحمد بن يونس قالا: ثنا الفضيل بن عياض به.
وأبو حصين القاضي: هو عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي
وهو يروي عن أبيه- كما هنا- وعبثر بن القاسم، وساق له الحافظ المزي عن أبيه بسند له آخر عن أبي ذر حديثاً آخر، وقال:
"ولا نعرف له عن أبيه، ولا عن غير أبي زبيد حديثاً غير هذا، وقد وقع لنا بعلو عنه "!
قلت: فيستدرك عليه هذا، وهو ثقة كما قال النسائي والحضرمي، ويحيى بن زكريا الساجي حافظ ثقة مشهور. فهذا كله يحملني على أن أعصب الوهم في تلك الزيادة بـ (الزيادي) ، ولا سيما وقد خالف الطريق المتقدمة عن شعبة بلفظ:
"قط "، فقال الزيادي: "صباحاً" كما تقدم، ولا يخفى الفرق بينهما على أحد إن
شاء الله تعالى.
وإن افترضنا أنه تابعه عليه أحمد بن يونس، فنقول حينئذٍ ما قلناه في رواية الفراهيدي عن شعبة: إنها شاذة؛ لمخالفته لرواية الحميدي عن الفضيل، ومتابعة(7/490)
القواريري عنه في "الحلية " أولاً، ولرواية الجماعة عن منصور ثانياً.
السادس: إدريس الأودي عن منصور نحوه.
أخرجه الطبراني (برقم 728) وفي "الدعاء" (415) قال: حدثنا محمد بن عمرو
ابن خالد الحرَّاني. ثنا أبي عن موسى بن أعين عنه به، لكن من قوله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ:
"إذا خرجت من منزلك، فقل ... "، فذكر الدعاء بالإفراد.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات رجال البخاري؛ غير محمد بن عمرو بن خالد الحراني، شيخ الطبراني، فلم أجد له ترجمة، فلعله هو الذي قلب هذا الدعاء
فجعله من أمره - صلى الله عليه وسلم -، خلافاً لكل من رواه عن منصور ممن تقدم ذكره ويأتي، حيث جعلوه من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصواب.
ولعله اختلط عليه بحديث آخر في الباب عن أنس نحوه، وهو حديث
صحيح، كما في "الكلم الطيب " (49/58) ، وحسنه الحافظ في "النتائج " (1/163) ، وفيه قوله: "بسم الله توكلت على الله ".
ثم رأيتُ في "السير" (10/428) واصفاً إياه في ترجمة أبيه بـ "الإمام ".
السابع: مِسْعَرُ بْنُ كِدَام عن منصور به كرواية الجماعة بلفظ الإفراد، كما في حديث (الرابع) ، وزاد: " أو أُزَلَّ ".
أخرجه الطبراني في "الدعاء" (731) ، وفي "الكبير" أيضاً (416) ولكنه لم يسق لفظه، ووقع فيه: "معمر" مكان: "مسعر بن كدام "! وهو خطأ من الناسخ أو الطابع.
الثامن: القاسم بن معن عنه مثل الذي قبله، دون الزيادة.
أخرجه الطبراني في "الدعاء" (414) : حدثنا سليمان بن المُعَافَى بن
سليمان: حدثني أبي: ثنا القاسم بن معن.(7/491)
قلت: ورجاله ثقات؛ غير سليمان بن المعافى، قال الذهبي:
"قال ابن عدي: لم يسمع من أبيه شيئاً، فحملوه على أن روى عنه ". قلت: فعلى هذا تكون روايته عن أبيه وجادة.
وأقول: لم يذكر هو ولا الحافظ في "اللسان " غير هذا، ويبدو لي أنه من شيوخ الطبراني المقلِّين؛ فإنه لم يرو عنه في "المعجم الأوسط " سوى ثلاثة أحاديث (3790- 3792) ، وروى له في "الصغير" (420 - الروض) رابعاً، وهذا هو الخامس.
التاسع: أبو الأحوص عن منصور به نحوه، وفيه التسمية.
أخرجه الخطيب في "التاريخ " (11/ 141) .
ولعل من المفيد- بعد هذا التخريج المبسط والتحقيق- أن نلخص فوائده فيما يأتي:
الأولى: أن الحديث صحيح عن أم سلمة- رضي الله عنها-، وأن ما أُعِلَّ به من الانقطاع لا يقدح في صحته، ولا سيما وقد صححه الترمذي والحاكم
والذهبي، وحسنه الحافظ، ثم رأيت النووي قد صححه أيضاً في "الأذكار".
الثانية: أن زيادة: "بسم الله توكلت على الله " ثابتة فيه، وإن تفرد بها سفيان الثوري؛ فإنه جبل في الحفظ، ويشهد له حديث أنس المذكور آنفاً، وتوبع سفيان على التسمية فيه من غير ما واحد كما تقدم.
الثالثة: أكثر الرواة على إفراد الأفعال فيه، وزاد بعضهم: "أو أُزل "، ولعل ذلك أرجح.
الرابعة: أن زيادة: "رفع طرفه إلى السماء" لا تصح؛ لعدم اتفاق الرواة عن شعبة عليها، ومخالفتهما لرواية الآخرين الثقات. ثم هي مخالفة للأحاديث(7/492)
الصحيحة الناهية عن رفع البصر في الصلاة، في "الصحيحين " وغيرهما، ترى الكثير الطيب منها في "الترغيب " (1/188- 189) ، وخرجت بعضها في "صحيح أبي داود" (847- 848) ، ولا يبدو لي اختصاص هذا النهي بالدعاء في الصلاة دون الدعاء خارجها، بل الظاهر أن الرفع منهي عنه في الحالتين. والله أعلم.
(تنبيه) عزا الخطيب التبريزي في "المشكاة" (1/749 و 750) رواية أبي داود - الشاذة- في رفع البصر إلى السماء إلى ابن ماجه أيضاً! وهو وهم محض.
وعزاها ابن تيمية في "الكلم الطيب " (49/59) للأربعة! وفيه تساهل ظاهر؛
لأنه ليس عند غير أبي داود الرفع المذكور، وقلده في ذلك ابن القيم في "الوابل الصيب " (ص 132- تحقيق الشيخ عبد القادر) ، وانطلى ذلك عليه، مع أنه قد خرج الحديث بذكر مواضع الحديث عند الأربعة بالأجزاء والصفحات!
وصحح إسناده! وبيض له الأنصاري في طبعته (ص 214) ، وهكذا يكون التحقيق المزعوم! ! . *
3164- (كان إذا جلسَ مَجْلِساً، أو صلَّى صلاة تكلَّمَ بكلماتٍ، فسألَتهُ عائشة عن الكلماتِ؟ فقال:
إن تكلّمَ بخيرٍ كان طابعاً عليهِنَّ إلى يومِ القيامةِ، وإن تكلَّمَ بغيرِ ذلكَ كان كفارةً له:
سبحانكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ) .
أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة " (309/400) ومن طريقه: الحافظ
في آخر كتابه "فتح الباري " (13/546) : أخبرنا أبو بكر بن إسحاق: أخبرنا أبو سلمة الخُزَاعي منصور بن سَلَمة: أنا خلاد بن سليمان- قال أبو سلمة: وكان من(7/493)
الخائفين- عن خالد بن أبي عمران عن عروة عن عائشة مرفوعاً.
وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان " (1/435/629) من طريق أخرى عن محمد بن إسحاق الصغاني به.
وأخرجه أحمد (6/77) : ثنا أبو سلمة به.
وأخرجه الطبراني في "الدعاء" (3/1656- 1657) من طريقين آخرين عن خلاد بن سليمان به.
قلت: وهذا إسناد صحيح كما قال الحافظ في "النكت على ابن الصلاح " (2/732- 733) ، ورجاله كلهم ثقات رجال مسلم.
وقول المعلق عليه صاحبنا الفاضل الدكتور ربيع بن هادي:
"الحق أن يقال: إن إسناده حسن "!
لا وجه له عندي، لأنه قائم أو مبني على قول الحافظ في خالد بن أبي عمران هذا في "التقريب ":
" صد وق ".
فإن هذا لا يستلزم التحسين فقط، ما دام أنه خرج له مسلم في "صحيحه "، وقد وثقه ابن سعد والعجلي وابن حبان، وقال أبو حاتم:
"لا بأس به ". وقال ابن يونس:
"كان فقيه أهل المغرب، ومفتي أهل مصر والمغرب، وكان يقال: إنه
مستجاب الدعوة". ولذا قال الذهبي في "السير" (5/378) :
"وكان فقيه أهل المغرب، ثقة ثبتاً، صالحاً ربَّانيّاً ".(7/494)
والحديث الذي أخرجه له مسلم في البيوع، صححه الترمذي أيضاً، وهو مخرج في " الإرواء " (5/203- 204) .
ولحديث الترجمة طريق أخرى عن عائشة نحوه، دون قوله: "أو صلى صلاة". أخرجه النسائي أيضاً (رقم 398) ، والحاكم (1/496- 497) ، وقال:
"صحيح الإسناد". وقال الذهبي:
"قلت: على شرط البخاري ومسلم ".
(تنبيه) : وقع الحديث عند الحافظ في "نكته " بلفظ:
"ما جلس - صلى الله عليه وسلم - مجلساً، ولا تلا قرآناً، ولا صلى إلا ختم ذلك بكلمات،
فقلت: يا رسول الله! ما أكثر ما تقول هذه الكلمات؟! فقال - صلى الله عليه وسلم -: نعم، من قال خيراً كُنَّ طابعاً له على ذلك الخير، ومن قال شرّاً كانت كفارة له ... " الحديث،
والباقي مثله.
كذا وقع فيه! وهو يخالف لفظ الترجمة مخالفة ظاهرة، كما يخالف لفظه في "الفتح " أيضاً، ولفظه في "سنن النسائي " أيضاً (1/197) بالإسناد نفسه، فالظاهر أنه رواية أخرى للنسائي.
ثم رأيته قد أورده في مكان متقدم برقم (308) تحت "باب ما يختم تلاوة القرآن " قال: أخبرنا محمد بن سهل بن عسكر قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا خلاد بن سليمان أبو سليمان به.
قلت: هذا إسناد صحيح أيضاً على شرط مسلم، وابن أبي مريم هذا: هو سعيد بن الحكم بن محمد المصري.(7/495)
ثم ذكر الحافظ طريقاً أخرى بلفظ آخر، أخرجه (2/734) من رواية أبي أحمد العسال في "كتاب الأبواب " من طريق عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت.. وفيه قال - صلى الله عليه وسلم -:
"إني لأرجو أن لا يقولها عبد إذا قام من مجلسه؛ إلا غُفِرَ له ".
وقال الحافظ:
"وإسناده حسن "!
كذا قال! وأبو إسحاق هو السبيعي، وكان اختلط.
وللحديث طريق ثالث عن عائشة، فيه زيادة منكرة خرجته من أجلها في "الضعيفة" (6322) .
ومثله حديث الأمر بأن يقول في آخر مجلسه: "سبحان ربك رب العزة عما يصفون ... "، فهو ضعيف مخرج هناك برقم (6530) .
وتقدم الحديث نحوه في المجلد الأول رقم (81) من حديث جبير بن مطعم. *
3165- (إنَّها ستكونُ فتنةٌ. فقالوا: كيف لنا يا رسول الله؟! أو كيف نصنعُ؟ قال:
ترجعون إلى أمْرِكم الأوَّلِ) .
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (3/ 181- 182) و"الأوسط " (2/249/8843) من طريق عبد الله بن صالح: حدثني الليث عن عَيَّاش بن عَبَّاس القِتْبَاني عن بُكَيْرٍ بن عبد الله بن الأشَجِّ أن بُسْرَ بن سعيد حدثه أن أبا واقد(7/496)
الليثي قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال- ونحن جلوس على بساط-:
"إنها ستكون فتنة"، قالوا: وكيف نفعل يا رسول الله؟! فرد يده إلى البساط وأمسك به، فقال:
"تفعلون هكذا ".
وذكر لهم يوماً: "أنها ستكون فتنة"، فلم يسمعه كثير من الناس، فقال معاذ
ابن جبل: ألا تسمعون ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فقالوا: ما قال؟! قال: ...
فذ كره. وقال:
"لا يروى عن أبي واقد إلا من حديث بكير".
قلت: وهو ثقة من رجال الشيخين، وكذلك سائر رجال الإسناد ثقات رجال "الصحيح "؛ إلا أن عبد الله بن صالح فيه ضعف، لكنه قد توبع:
فقال الطحاوي في "مشكل الآثار" (2/68) : حدثنا يونس بن عبد الأعلى:
ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير: حدثني الليث به.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، فصح الحديث،
والحمد لله تعالى.
(تنبيه) : بُسْر بن سعيد- وهو العابد المدني- تحرف في "المشكل " إلى "بشير
ابن سعد"! فقال المعلق عليه:
" لعله بشير بن سعد بن النعمان، شهد أحداً وغيرها مع أبيه، كما في
" التجريد ... " ... "!
قلت: هذا أبعد ما يكون عن التحقيق؛ وذلك لأمور:(7/497)
أولاً: أن بشيراً هذا لم يذكروا له رواية.
ثانياً: أنه وقع على الصواب في "المعجمين ": بسر بن سعيد؛ كما تقدم.
ثالثاً: أنهم ذكروه - أعني بسراً - في شيوخ بكير بن الأشج، لكنه وقع في "تهذيب الكمال" للمزي: "بِِشر بن سعيد" هكذا مقيداً بكسر الباء! ثم صُحِّحَتْ في الطبعة الجديدة. *
المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم
3166- (آخى - صلى الله عليه وسلم - بَين الزُّبَيرِ وبينَ عبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعود) .
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (568) ، والبيهقي في "السنن " (6/262) من طريقين عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس به.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم والحاكم، فالعجب منه كيف لم يستدركه عليه؟! وكذلك غفل عنه الحافظ في "الفتح " (7/271) فلم يذكره من حديث أنس، وإنما من حديث ابن عباس مَعْزُوّاً للحاكم وابن عبد البر بسند حسن.
فأقول: أخرجه الحاكم (3/314) ، والطبراني في "الكبير" (12/179/
12816) و"الأوسط " (1/53/ 1/915) من طريق سعيد بن سليمان الواسطي: ثنا عَبَّاد بق العَوَّام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: ... فذكره. وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي.
وأقول: بل هو صحيح على شرط مسلم؛ فإن رجاله كلهم ثقات من رجال(7/498)
الشيخين؛ إلا أن البخاري إنما أخرج لسفيان بن حسين تعليقاً كما في "تقريب الحافظ "، وقال فيه:
"ثقة في غير الزهري باتفاقهم ".
قلت: وهذا عن غير الزهري كما ترى، فلا أدري لماذا اقتصر الحافظ على تحسينه فقط، وسائر رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين كما تقدم، وقد وثقهم جميعاً الحافظ في "تقريبه "؟!
وقد أخرجه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (58/189/2) من طريق أبي نعيم والطبراني.
(فائدة) : قال ابن عبد البر: "كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة، وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار".
ومن الأدلة على المؤاخاة الأولى هذا الحديث الصحيح؛ لأن الزبير وابن مسعود من المهاجرين كما هو معلوم، والظاهر أن شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- لم يقف على هذا الحديث ونحوه؛ فأنكر هذه المؤاخاة (11/99- 100) ، وقد ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، وردَّه عليه بهذا الحديث وغيره، فراجعه.
وحديث ابن عباس أورده الهيثمي في "المجمع " (8/ 171) ، وقال:
" رواه الطبراني في " الأوسط " و" الكبير"، ورجال " الأوسط " ثقات "!
قلت: كذا قال! وفيه إشعار باختلاف إسنادي "المعجمين "، وإلا؛ لما خص "الأوسط " منهما بتوثيق رجاله، وليس كذلك؛ فقد قال فيهما: حدثنا أحمد بن يحيى الحُلْواني: ثنا سعيد بن سليمان ... *(7/499)
3167- (بُعثَ موسى عليه السلامُ وهو راعي غنمٍ، وبُعثَ داودُ
عليه السلامُ وهو راعي غنمٍ، وبُعثتُ أنا وأنا راعي غنمٍ بأَجيادَ) .
أخرجه البخاري في "التاريخ " (3/2/113- 114) و"الأدب المفرد" (577) ، والدَّولابي في "الكنى" (1/92) من طريق شعبة: سمعت أبا إسحاق: سمعت
عَبْدَةَ بْنَ حَزْنٍ يقول:
تفاخر أهل الإبل وأصحاب الشاة، فقال النبي: - صلى الله عليه وسلم -? ... فذكره.
ومن هذا الوجه أخرجه النسائي في "الكبرى/ التفسير"؛ كما في "تحفة الأشراف ".
قلت: وهذا إسناد صحيح؛ إن ثبتت صحبة عبدة بن حزن؛ فقد اختلفوا في صحبته، كما تراه مشروحاً في "الإصابة "، و"التهذيب "، واستظهر الذهبي في "التجريد" أن لا صحبة له، وفي "الجرح والتعديل " (6/89/454) ، و"المراسيل " (136/240) كلاهما لابن أبي حاتم أثبت تابعيته وعدم صحبته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد خالف شعبة: زهيرٌ فقال: أخبرنا أبو إسحاق قال: كان بين أصحاب الغنم وبين أصحاب الإبل تنازع، فاستطال عليهم أصحاب الإبل، قال: فبلغنا- والله أعلم- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكره.
فأسقط من الإسناد عبدة بن حزن، فصار معضلاً، والأصح إثباته.
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري قال:
افتخر أهل الإبل والغنم عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(7/500)
"الفخر والخُيلاء في أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم "، وقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"بُعث موسى عليه السلام وهو يرعى غنماً على أهله، وبعثت أنا وأنا أرعى
غنماً لأهلي بجياد".
أخرجه أحمد (3/42 و 96) ، والبزار (3/114/ 4370) من طريق حجاج بن أرطاة عن عطية بن سعد عنه.
قلت: وهذا إسناد ضعيف لضعف حجاج وعطية، وأعله الهيثمي (4/65
و8/ 256) بالحجاج! فقط، وقال:
"وهو مدلس ".
وللحديث شاهد صحيح من رواية أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:
"ما بعث الله نبيّاً إلا رعى الغنم ... " الحديث؛ رواه البخاري وغيره، وهو
مخرج في "غاية المرام " (121/ 161) . *
3168- (إنَّ سبحان اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ
تنفضُ الخطايا كما تنفضُ الشجرةُ ورقَها) .
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (634) ، وأحمد (3/152) ، والحارث
ابن أبي أسامة في "مسنده/ زوائده " (ق 124/2) من طريق عبد الوارث قال: حدثنا أبو ربيعة سنان قال: حدثنا أنس بن مالك قال:
أخذالنبي - صلى الله عليه وسلم - غصناً فنفضه، فلم ينتفض، ثم نفضه فلم ينتفض، ثم
نفضه، فانتفض، فقال: ... فذكره.(7/501)
قلت: وهذا إسناد حسن؛ سنان هو ابن ربيعة الباهلي، مختلف فيه، فلا
ينزل حديثه عن مرتبة الحسن، قال الذهبي في "الكاشف ":
"صدوق، وقال ابن معين: ليس بالقوي، وقرنه البخاري بآخر".
وقال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق فيه لين، أخرج له البخاري مقروناً".
وللحديث طريق آخر، يرويه الفضل بن موسى عن الأعمش عن أنس به.
أخرجه الترمذي (3527) ، وأبو نعيم في "الحلية " (5/55) ، وأبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب " (1/317/ 721) ، وقال الترمذي:
"حديث غريب، ولا نعرف للأعمش سماعاً من أنس، إلا أنه قد رآه ".
قلت: الأعمش مدلس، فلا ندري عمَّن تلقاه! ولكنه لا يضعِّف رواية سنان
إن لم يقوِّها.
(تنبيه) : قوله: "فانتفض"، هكذا هو في كل المصادر المتقدمة في الرواية الأولى لفظاً؛ وفي الأخرى معنى، وهو الذي يقتضيه التشبيه المذكور في آخر الحديث كما هو ظاهر، إلا رواية "الأدب "؛ فقد وقع فيه: "فلم ينتفض " كما في المرة الأولى والثانية، ومن الواضح أنه خطأ من الناسخ، فمن الغريب أن يخفى
ذلك على شارحه الجيلاني؛ فلا ينبه عليه في "شرحه "! *
3169- (رأيتُ ربِّي في أحسنِ صورةٍ، فقال: فيمَ يختصمُ الملأُ الأعلى، فقلت: لا أدري، فوضع يده بين كتفيَّ، حتَّى وجدتُ بردَ
أنامِله، ثمَّ قالَ: فيم يختصمُ الملأ الأعلى؟ قلتُ: في الكفَّارات
والدرجات، قال: وما الكفَّارات؟ قلت: إسباغُ الوضوءِ في السّبَرات،(7/502)
ونقلُ الأقدام إلى الجماعاتِ، وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاة، قال: فما
الدرجاتُ؟ قلتُ: إطعامُ الطعامِ، وإفشاءُ السلامِ، وصلاةٌ بالليل
والناسُ نيام، قال: قل، قال: قلتُ: ما أقولُ؟ قالَ: قلِ: اللهمّ! إنِّي
أسألك عَمَلاً بالحسناتِ، وتركاً للمنكراتِ، وإذا أردتَ في قومٍ فتنةً
وأنا فيهم؛ فاقبضني إليكَ غيرَ مفتونٍ)
أخرجه الطبراني في "الدعاء" (3/1462/1416) : حدثنا الحسن بن علي المعمَري: ثنا سليمان بن محمد المُباركي: ثنا حماد بن دُليلٍ عن سفيان بن سعيد الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، أو عبد الرحمن بن سابط. قال حماد بن دُليلٍ: وحدثني الحسن بن صالح بن حَيٍّ عن عمرو بن مُرَّة عن
عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخُشَنِي عن أبي عُبَيدة بن الجراح- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكره.
وأخرجه الخطيب في "التاريخ " (8/ 151) من طريق الطبراني، ولكنه زاد في أوله:
"لما كان ليلة أسري بي رأيت ربي ... " الحديث.
وهذه الزيادة شاذة؛ لمخالفتها لكتاب الطبراني أولاً، ولأن الخطيب عقب عليها
من طريق أخرى عن محمد بن علي بن المديني: حدثنا أبو داود المباركي به.
وابن المديني هذا لم أعرفه، لكن تابعه الحسن بن علي المعمري كما تقدم،
وهو من شيوخ الطبراني الثقات، ومن فوقه ثقات من رجال مسلم، غير حماد بن دُليل، وهو صدوق كما في " التقريب "، وقال الذهبي في " الكاشف ":
"ثقة، جاور"، فالسند صحيح.(7/503)
وقد جاء الحديث من طرق أخرى، صحح بعضها البخاري والترمذي، وفيها
أن ذلك كان رؤيا منامية، وذلك مما يؤكد شذوذ تلك الزيادة فتنبه! وراجع بعض تلك الطرق في "ظلال الجنة" 3881 و465- 471) .
وقد خلط ابن الجوزي خلطاً عجيباً بين هذه الأحاديث الصحيحة التي فيها اختصام الملأ الأعلى، وفي بعضها أنها رؤيا منامية- كما عرفت-، وبين بعض الأحاديث الموضوعة التي فيها أنه رأى ربَّه على الأرض بمنى على جمل أورق، ونحوه من الموضوعات، وقد خرجت بعضها في "الضعيفة " (6330) ، وقلده في ذلك الجهمي الجلد المتعنت المسمى ب (حسن السقاف) في تعليقه على "دفع شبه التشبيه "؛ الذي دفعه الذهبي وتمنى أنه لم يؤلفه مؤلفه؛ لما فيه من التأويلات المعطلة للصفات الإلهية حتى ذكر أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، تعالى الله الذي على العرش استوى استواءً يليق بجلاله وعظمته.
ثم رأيت الطبراني قد أخرج الحديث مختصراً في "المعجم الكبير" (8/386/ 8207) و"الأوسط " (2/36/1/5626) : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة:
ثنا فَروة بن أبي المغرَاء: ثنا القاسم بن مالك عن سعيد بن المرزبان أبي سعد عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال:
"سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ ... " الحديث، إلى قوله: "الصلاة بعد الصلاة".
وأعله الهيثمي بقوله (1/238) :
"وفيه أبو سعد البقاَّل، وهو مدلس، وقد وثقه وكيع ".
قلت: وابن أبي شيبة هذا فيه ضعف، فأخشى أن يكون لم يحفظ إسناده،
والله أعلم.(7/504)
وجملة القول؛ أن الحديث صحيح، لا يشك في ذلك أحد بعد أن يقف
على هذه الطرق وتصحيح بعض أئمة الحديث لبعضها؛ إلا إن كان ممن طمس الله على قلوبهم من ذوي الأهواء كذاك (السخاف) (1) الجاهل الذي يخالف سبيل المؤمنين والعلماء العارفين، فيضعف ما صححوه، كهذا الحديث الذي وضع فيه رسالة سماها- فُضَّ فوه- "أقوال الحفاظ المأثورة لبيان وضع حديث: (رأيت ربي في أحسن صورة) "!
وكذب- والله- عليهم، كيف وعلى رأس الحفاظ الإمام البخاري الذي
صححه كما تقدم؟! وتبعه تلميذه الإمام الترمذي وغيره؛ فقال ابن عبد البر في "التمهيد" (24/325) :
"معناه عند أهل العلم: في منامه، وهو حديث حسن، رواه الثقات ".
فهذا (السخاف) يعلم يقيناً أن الذي قال الحفاظ بوضعه؛ إنما هو الحديث
الموضوع حقّاً المشار إليه آنفاً: "أنه رأى ربه على الأرض ... " إلخ، وليس هو
حديث الاختصام الذي هو رؤيا منامية كما جاء مصرحاً في بعض الطرق، وقال به العلماء كما تقدم.
ووالله! إني لأخشى أن يكون وراء هذا الرجل جماعة من المفسدين في
الأرض، اتخذوه مَطِيَّةً لإفساد الدين، ويسروا له أسباب التأليف والنشر؛ لاستمراره في الطعن في السلف والعلماء وتعمده مخالفتهم، ورميه إياهم بالتجسيم! ومن آخر ما ظهر منه تصريحه بأن الاعتقاد بأن الله في السماء هي عقيدة المشركين والمشبهة. وكذلك جماهير العلماء الذين صححوا حديث الجارية: "أين الله؟ "،
_________
(1) ليس هذا من باب التنابز، وإنما من باب الجرح؛ فقد قال الأئمة في أمثاله: أفَّاك دجَّال كذَّاب!(7/505)
فضعفه، بل قطع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقله، وسبق الرد عليه بحمد الله تحت حديثها
برقم (3162) . *
3170- (كان يدعوُ ربَّه فيقولُ:
اللهمَّ! متِّعني بسمعِي وبصري، واجعلهُمَا الوارث منِّي، وانصرني
على من ظَلَمني، وخذ منهُ بثأرِي) .
روي عن جمع من الصحابة، منهم أبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وعلي بن
أبي طالب، وعائشة، وسعد بن زرارة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن الشِّخِّيرِ.
1- أما حديث أبي هريرة؛ فله عنه طريقان:
الأولى: عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه به.
ويرويه عن محمد بن عمرو جمع:
الأول: جابر بن نوح، وهو الحِمّاني.
أخرجه الترمذي (3606) : حدثنا يحيى بن موسى: حدثنا جابر بن نوح
به. وقال:
"غريب من هذا الوجه ".
يعني: ضعيف؛ لضعف جابر هذا. قال الحافظ:
"ضعيف ". وقال الذهبي في "الكاشف ":
"ليس بالقوي ".
قلت: فمثله يستشهد به في المتابعات.(7/506)
الثاني: عبد الرحمن بن محمد المحاربي، وله عنه طريقان:
الأولى: عن العلاء بن عمرو الحنفي: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ثنا
محمد بن عمرو به.
أخرجه الحاكم (1/523) ، وقال:
"حديث صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي!
قلت: وهذا من أوهامه، فإن الحنفي هذا متروك كما قال الذهبي نفسه في
"الميزان "، وساق له فيه حديثاً في فضل العرب، وقال فيه: "موضوع "؛ كما تقدم برقم (160) ، ولما صححه أيضاً الحاكم؛ تعقبه الذهبي بقوله:
"العلاء بن عمروالحنفي ليس بعمدة".
الثانية: محمد بن إسماعيل- وهو ابن سمرة الأحمسي-: ثنا عبد الرحمن
ابن محمد المحاربي عن محمد بن عمرو به.
أخرجه البزار (4/59/3193) : حدثنا محمد بن إسماعيل به. وقال:
"لا نحفظه من حديث محمد بن عمرو إلا عن المحاربي ".
كذا قال! ويرده ما تقدم ويأتي، ورجال إسناده كلهم ثقات، فالإسناد حسن للخلاف المعروف في محمد بن عمرو؛ لولا أن المحاربي رمي بالتدليس وقد عنعن كما ترى، إلا أنه صرح بالتحديث في الطريق الأولى؛ لكن فيها العلاء المتروك، فلا يُعتد بها، فتجويد الهيثمي (10/178) لإسناد البزار غير جيد!
نعم، هو كذلك بالمتابعة الآتية:(7/507)
الثالث: حماد بن سلمة: حدثني محمد بن عمرو به.
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (رقم 650) ، والحاكم (2/142) ، وقال: "صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي!
وأقول: إنما هو على شرطه لو كان احتج بمحمد بن عمرو، وليس كذلك؛ فقد
ذكر غير واحد من العلماء أنه إنما روى له متابعة، فالسند حسن فقط.
والطريق الأخرى: يرويها إبراهيم بن خُثَيم بن عِراك بن مالك: حدثني أبي
عن جدي عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:
كان يكثر أن يدعو بهذا الدعاء؛ لا يكاد يفارقه، يقول: "اللهم! اجعلني
أخشاك كأني أراك أبداً ... " الحديث بطوله، وفيه حديث الترجمة.
أخرجه الطبراني في "الدعاء" (2/1466) و"المعجم الأوسط " (2/17/ 1/ 6140) ، وقال الهيثمي بعدما عزاه ل "الأوسط " (10/178) :
"وفيه إبراهيم بن خثيم بن عراك، وهو متروك ".
قلت: فلا يستشهد به لشدة ضعفه (1) .
2- وأما حديث جابر " فيرويه ليث بن أبي سُليم عن محارب بن دِثَار عنه به. أخرجه البخاري في "الأ دب المفرد" (649) ، والبزار (3194) .
قلت: ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير الليث هذا، وهو ضعيف لاختلاطه،
وقد قال في رواية البخاري:
_________
(1) ثم خرجته في "الضعيفة" (7047) .(7/508)
"اللهم أصلح لي ... " إلخ.
ولعل ذلك من تخاليطه؛ فإنه قال في رواية البزار كما في رواية الجماعة:
"اللهم متعني ... ".
وهذا هو الصواب، فهو بهذه الرواية شاهد حسن.
3- وأما حديث علي؛ فيرويه موسى بن عقبة، وله عنه راويان:
أحدهما.: عبد الله بن جعفر المديني عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي
طالب عن أبيه عن جده مرفوعاً به.
أخرجه الطبراني في "الدعاء" (2/1457) و"المعجم الصغير" (ص 221-
هندية) و" الأ وسط " (2/198/ 2/8048) ، وقال:
"لم يروه عن موسى بن عقبة إلا عبد الله بن جعفر".
قلت: وهو ضعيف، لكنه قد توبع، وإن خفي ذلك على الطبراني؛ إلا أنه قد
خولف في إسناده كما يأتي.
والآخر: حفص بن ميسرة قال: عن موسى بن عقبة عن حسين بن علي بن الحسين عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي به.
أخرجه الحاكم (1/527) ، وقال:
"صحيح الإسناد، وحسين بن علي هو حسين الأصغر الذي أدركه عبد الله
ابن المبارك، وروى عنه حديث مواقيت الصلاة".
قلت: ووافقه الذهبي على تصحيحه، وهو كما قالا؛ فإن حسيناً هذا ثقة،
لكن علي بن الحسين بن علي، قال أبو زرعة:
"(7/509)
لم يدرك جده علياً"؛ ذكره العلائي في "جامع التحصيل في أحكام
المراسيل " (ص 294/539) ، وعليه؛ فهو منقطع، والله سبحانه وتعالى أعلم. وحديث المواقيت المشار إليه مخرج في "الإرواء" (1/ 271) .
4- وأما حديث عائشة؛ فيرويه هشام بن عروة عن أبيه عنها، ورواه عن
هشام جمع.
الأول: يحيى بن سُليم عنه.
أخرجه الطبراني في "الدعاء" (2/1478/1453) .
قلت: ويحيى هذا هو الطائفى مع كونه من رجال الشيخين؛ فقد تكلموا فيه
من قبل حفظه، ولخص الحافظ أقوال الأئمة فيه بقوله في "التقريب ":
"صدوق سيئ الحفظ ".
فالسند حسن في المتابعات على الأقل.
الثاني: بكر بن سُليم الصواف عنه.
أخرجه ابن عدي في "الكامل " (2/ 30) ، وقال- وساق له أحاديث أخرى-: "عامة ما يرويه غير محفوظ، ولا يتابع عليه، وهو من جملة الضعفاء الذين يُكتب حديثهم ".
قلت: فمثله يستشهد به، وأشار إلى ذلك الحافظ بقوله:
"مقبول ".
لكن قد قال فيه أبو حاتم:
"شيخ يُكتب حديثه ".(7/510)
وذكره ابن حبان في "الثقات " (8/149) ، وقال الذهبي:
" صد وق ".
وجزم الهيثمي بأنه ثقة في حديث سبق تخريجه برقم (2827) ، وعليه؛
فالإسناد حسن، والله أعلم.
الثالث: أبو المقدام هشام بن زياد عنه به أتم منه.
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان " (4/170/ 4701) ، وقال:
"تفرد به أبو المقدام، وليس بالقوي ".
وتابع هشاماً: حبيبُ بن أبي ثابت عن عروة به مختصراً، وفيه زيادة.
أخرجه الترمذي (3476) ، وقال:
"حديث حسن غريب؛ سمعت محمداً يقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع
من عروة بن الزبير شيئاً".
قلت: وهو- أيضاً- مدلس، فيحتمل أن يكون تلقاه من هشام بن عروة.
وقد صحَّ عن عروة مرسلاً.
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف " (10/441/19640) عن معمر عن هشام
ابن عروة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح مرسل؛ وشاهد قوي لما تقدم من المسندات ولما يأتي.
5- وأما حديث سعد بن زرارة: فتفرد به الطبراني، أخرجه في "الدعاء" (2/1475/1448) : حدثنا محمد بن عَبدُروس بن كامل: ثنامحمد بن عبد الرحيم(7/511)
أبو يحيى: ثنا أبو زيد الهَرَوي: ثنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه به مع تقديم وتأخير؛ وزاد:
"وعافني في جسدي ".
وهذا إسناده رجاله كلهم ثقات من شيخ الطبراني إلى سعد:
أما الشيخ؛ فقد وثقه ابن المنادي، ووصفه بالحفظ وحسن المعرفة، وله ترجمة حسنة في "تاريخ بغداد" (2/ 381) ، توفي سنة (293) .
ومن فوقه كلهم من رجال البخاري، وأبو زيد الهروي اسمه سعيد بن الربيع البصري؛ فالسند صحيح؛ لولا عنعنة يحيى بن أبي كثير؛ فإنه مذكور بالتدليس. والله أعلم.
والزيادة المذكورة قد جاءت في حديث عائشة المتقدم برواية الترمذي التي
فيها عنعنة حبيب بن أبي ثابت.
6- وأما حديث أنس؛ فيرويه يوسف بن عطية: ثنا يزيد الرقاشي عن أنس
ابن مالك قال:
كان إذا أصاب الرمد واحداً من أصحابه قال: ... فذكر الدعاء.
أخرجه ابن السني في"عمل اليوم والليلة" (181/559) ، والحاكم (4/414) ؛ وسكت عنه! وقال الذهبي:
"فيه ضعيفان ".
قلت: بل الأول: وهو يوسف بن عطية: متروك، وهما اثنان؛ هذا أحدهما
وهو البصري، والآخر: الكوفي، وهو متروك أيضاً، ولعله شر منه؛ فقد كذبه(7/512)
بعضهم، وهما من طبقة واحدة، فينبغي التنبه لذلك، وعدم الخلط بينهما.
7- وأما حديث عبد الله بن الشِّخِّير؛ فيرويه الحسن بن الحكم بن طهمان:
ثنا سيَّار أبو الحكم قال: سمعت مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير يحدث عن أبيه به مختصراً بلفظ:
كان يقول: "اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعله الوارث مني ".
أخرجه البزار (4/60 /3195) ، ومن طريقه: الضياء في "المختارة" (58/83/2
- 84/ 1) ، والطبراني كما في "المجمع " (10/178) ، وقال:
"وفيه الحسن بن الحكم بن طهمان، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات ".
قلت: روى عنه جمع من الثقات، وقال فيه أبو حاتم:
"ما أقربه من عبد الله بن العلاء بن خالد، وحديثه صالح ليس بذلك،
يضطرب ".
وابن العلاء هذا قال فيه أبو حاتم: "صالح ".
وساق له ابن عدي (2/325) حديثين معروفين من غير طريقه، ثم قال:
" ليس له من الحديث إلا القليل، وأنكر ما رأيت له ما ذكرته ".
وقال الذهبي في "الميزان ":
"تُكلِّم فيه ولم يُترك.. ساق له ابن عدي حديثين، لكنهما معروفا المتن ".
قلت: فمثله يستشهد به إن لم يكن حسن الحديث، وعلى هذا يدل إخراج
الضياء لحديثه في "المختارة". والله أعلم.(7/513)
8- وأما حديث جرير؛ فيرويه الفرج بن اليمان: نا عمر بن يزيد عن زياد بن علاقة عنه.
أخرجه البيهقي في"شعب الإيمان " (4/ 170/4700) ، وقال: "هذا إسناد ضعيف ".
قلت: والفرج بن اليمان وعمر بن يزيد؛ لم أعرفهما.
وبالجملة، فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح، ولا سيما وبعضها حسن
لذاته كما تقدم. والله أعلم. *
3171- (أتريدُ أن تكون فتّاناً يا معاذُ؟! إذا أمَمتَ الناس فاقرأ
ب (والشمسِ وضُحاها) و (سبِّحِ اسمَ ربِّك الأعلى) و (والليلِ إذا
يغشى) و (اقرأ باسمِ ربِّك)) .
هو من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ورواه عنه جمع بألفاظ مختلفة، منهم المطول، ومنهم المختصر، وهذا لفظ أبي الزبير، يرويه عنه الليث بن سعد.
أخرجه مسلم (2/42) ، والنسائي (1/155) ، وابن ماجه (1/315/986) ،
وأبو عوانة (2/173) ، والبيهقي في "السنن " (3/116) من طرق عن الليث عن أبي الزبير، عنه قال:
صلى معاذ بن جبل لأصحابه العشاء، فطول عليهم، فانصرف رجل منا، [فصلى] ، فأُخبر معاذ عنه، فقال: إنه منافق، فلما بلغ ذلك الرجل دخل على
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بما قال معاذ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.(7/514)
وقرن البيهقيُّ ابن لهيعة مع الليث.
وتابع أبا الزبير: عمرُو بن دينار، فقال الحميدي في "مسنده " (523/ 1246) :
ثنا سفيان قال؛ حدثنا عَمرُوكُم إن شاء الله قال: سمعت جابر بن عبد الله به
نحوه، وفيه:
"فتنحى رجل من خلفه، فصلى وحده ".
قال سفيان: فقلت لعمرو بن دينار: إن أبا الزبير يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقرأ
ب (سبح اسم ربك الأعلى) ... "؟ فقال عمرو: هو هذا أو نحو هذا.
وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه " (2/ 171) من طريق الحميدي، وكذا
البيهقي (3/112) .
وقال أحمد (3/308) : ثنا سفيان به، وكذا قال الشافعي في كتاب "الأم " (1/152- 153) ، وثلاثتهم قالوا:
"فتنحى رجل من خلفه، فصلى وحده ".
وقد تابعهم جماعة من الشيوخ الثقات، منهم:
ا- محمد بن منصور. قال النسائي (1/134) : أخبرنا محمد بن منصور:
حدثنا سفيان به.
2- إبراهيم بن بشار. أخرجه ابن حبان (4/58- 59) ، والطحاوي (1/136) عنه: ثنا سفيان.
3- أحمد بن عبدة. ابن خزيمة (1/262/ 521) عنه.
4- عبد الجبار بن العلاء. ابن خزيمة أيضاً (3/51/1611) .(7/515)
5- ابن المقرئ. ابن الجارود في "المنتقى" (120/327) .
هؤلاء الخمسة- وسادسهم سفيان المتقدم من رواية الحفاظ الثلاثة عنه، وهو
ابن عيينة- كلهم اتفقوا على ذكر التنحِّي أو معناه المشعر بأنه قطع صلاته ولم يسلِّم.
وخالفهم محمد بن عباد فقال: حدثنا سفيان به؛ وفيه:
"فانحرف رجل، فسلم، ثم صلى وحده ".
أخرجه مسلم (2/ 41- 42) ، والبيهقي (3/85 و 112) ، وأشار إلى شذوذ ذكر السلام، وهذا مما لا يشك باحث وقف على رواية أولئك الحفاظ المخالفين لزيادة السلام هذه من محمد بن عَبَّاد- وهو ابن الزّبرِقان المكي-، وهو مع كونه من شيوخ الشيخين؛ فقد ذكروا له أوهاماً؛ وقد أشار إلى ذلك الحافظ بقوله في"التقريب ":
"صدوق يهم ".
فهذه الزيادة من أوهامه يقيناً، ويؤكد ذلك المتابعات التالية:
الأولى: شعبة عن عمرو مختصراً، وفيه:
"فا نصرف الرجل ". وفي رواية:
"فجاء رجل من الأنصار، فصلى، ثم ذهب ".
أخرجه البخاري (2/ 92 1/ 701) ، والد ارمي (1/297) - والروا ية الأخرى له-، وأحمد (3/369) .
الثانية: سَليم- وهو ابن حَيان الهذلي البصري- عن عمرو به.
أخرجه البخاري (10/200/705) .(7/516)
وتابع عمراً جمعٌ، يذكرون في المتابعات التالية:
الثالثة: محارب بن دِثار عنه.
أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده " قال (239/1728) : حدثنا شعبة
عن محارب به، وفيه:
"فلما رأى ذلك الرجل؛ صلى، ثم انطلق ".
ومن هذا الوجه أخرجه البخاري (1/ 200/705) ، والطحاوي (1/125) ، والبيهقي (3/116) ، وأحمد (3/299) ، وابن أبي شيبة (1/359) .
وتابعه الأعمش عن محارب بن دثار بلفظ:
"فانصرف الرجل، فصلى في ناحية المسجد".
أخرجه النسائي (1/133) .
الرابعة: عبيد الله بن مِقسمٍ عن جابر، وفيه:
"وصلى خلفه فتى من قومه، فلما طال على الفتى؛ صلى وخرج ".
أخرجه ابن خزيمة (3/64/1634) ، والبيهقي (3/116) .
الخامسة: أبو الزبير عنه. وقد تقدم ذكر من أخرجها في أول هذا التخريج،
وفيها زيادات لم ترد في الروايات الأخرى، وقد سقت لفظها في"صفة الصلاة".
وجملة القول: إن عدم ورود سلام الرجل في تلك الروايات الصحيحة عن
سفيان بن عيينة، وفي تلك المتابعات له ولشيخه عمرو بن دينار، مما لا يدع مجالاً للشك في خطأ محمد بن عباد بذكر السلام فيه؛ وهو الذي أشار إليه البيهقي كما تقدم، وقد بينه الحافظ بقوله في "الفتح" (2/194) - بعد ذكر لفظ ابن عباد-:(7/517)
"وهو ظاهر في أنه قطع الصلاة؛ لكن ذكر البيهقي أن محمد بن عباد- شيخ
مسلم- تفرد عن ابن عيينة بقوله: "ثم سلم "، وأن الحفاظ من أصحاب ابن عيينة وكذا من أصحاب شيخه عمرو بن دينار، وكذا من أصحاب جابر لم يذكروا السلام؛ وكأنه فَهِمَ أن هذه اللفظة تدل على أن الرجل قطع الصلاة؛ لأن السلام يتحلل به من الصلاة، وسائر الروايات تدل على أنه قطع القدوة فقط ولم يخرج من الصلاة، بل استمر فيها منفرداً".
ثم ذكر الخلاف بين الرافعي والنووي في دلالة الحديث؛ هل المراد به قطع القدوة فقط، أم قطع الصلاة وإبطالها؟ فحكى الأول عن الرافعي، والآخر عن النووي، وهذا هو الذي كنت ملت إليه في "الإرواء " (1/ 331) ، وذكرت هناك ردّاً على الحافظ أنه لو كان المراد قطع القدوة؛ لم يكن هناك ما يبرر له الانصراف المذكور إلى ناحية المسجد؛ لأنه يتضمن عملاً كثيراً تبطل الصلاة به كما لا يخفى؛ وكنت استدللت عليه برواية مسلم: "فسلم، ثم صلى وحده "، وقلت:
"فهذا نص فيما ذكرنا. والله أعلم ".
والآن، وقد تبين بوضوح لا خفاء فيه أنها رواية شاذة غير صحيحة؛ فقد رجعت عن الاستدلال بها، والروايات الأخرى تغني عنها. والحمد لله على توفيقه، وأسأله المزيد من فضله.
هذا؛ ولحديث جابر شاهد من حديث بُريدةَ بسند صحيح مخرج في
" الإرواء "، وفيه:
"فترك رجل من قبل أن يفرغ من صلاته، فانصرف ".
فهذا يؤيد القطع والإبطال. والله أعلم. *(7/518)
3172- (كانت (عائشةُ) تحتُّ المنِيَّ من ثوبه - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلِّي) .
أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه " (1/147/290) : نا الحسن بن محمد: نا إسحاق- يعني: الأزرق-: نا محمد بن قيس عن محارب بن دِثار عن عائشة أنها كانت ... إلخ.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال "الصحيح "؛ محمد بن قيس هو الأسدي الوالِبي؛ وإسحاق هو ابن يوسف الواسطي؛ والحسن بن محمد هو ابن الصَّبَّاح الزعفراني.
والحديث قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/32) :
"رواه ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي من حديث محارب بن
دثار عن عائشة قالت: ربما حتتُّهُ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي. لفظ الدارقطني، ولفظ ابن خزيمة (فذكره) ، ولابن حبان من حديث الأسود بن يزيد عن عائشة قالت: لقد رأيتني أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ". قلت: لي على هذا التخريج ملاحظتان:
الأولى: أن إطلاق العزو للدار قطني إنما يعني- عُرفاً- "السنن" له، وليس الحديث فيه بهذا اللفظ، وكذلك ليس هو في "سنن البيهقي ".
والأخرى: أنني أشك في ثبوت قوله: "وهو يصلي " في رواية ابن حبان؛
فإن إسناده عنده (2/330/1377- الإحسان) : أخبرنا محمد بن علان- بأذَنَة- قال: حدثنا لُوين قال: حدثنا حماد بن زيد عن هشام الدَّ ستُوائي عن أبي معشرِ
عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة ... باللفظ الذي ذكره الحافظ؛ إلا أنه قال:
"وهو يصلي فيه "، فزاد في آخره: "فيه ".(7/519)
فأقول: وسبب الشك المذكور؛ إنما هو أن الحديث أخرجه جمع من الأئمة من طرق عن أبي معشر به، إلا أن بعضهم لم يذكر فيه اللفظ المذكور، وبعضهم ذكره بلفظ:
"فيصلي فيه".
أخرجه مسلم (1/164- 165) ، وابن الجارود في "المنتقى" (55/136) وغيرهما، وهذا هو المحفوظ.
ولا يخفى الفرق بين هذا وبين اللفظ الأول؛ فإن هذا صريح في أن الفرك لم يكن في الصلاة، وإنما كان يصلي بعد الفرك، وأما اللفظ الأول؛ فيدل ظاهره أن الفرك كان وهو - صلى الله عليه وسلم - يصلي، ولذلك ساقه الحافظ عقب حديث الترجمة كشاهد له، على أنه يمكن تأويله بأن تكون هذه الجملة: "وهو يصلي فيه "معطوفة على قولها: "رأيتني"؛أي: ورأيته يصلي فيه، أو نحوه من التأويل، ولا يخلو من التكلف.
ثم إنني أرى شذوذاً آخر، لكنه في السند، وهو قوله فيه: "هشام الدستوائي "، وذلك لسببين اثنين:
الأول: أن الحافظ المزي وغيره لم يذكروا هشاماً الدستوائي في شيوخ حماد
ابن زيد، وإنما ذكروا هشام بن حسان.
والآخر: أن مسلماً، والنسائي (1/56) قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا
حماد بن زيد عن هشام بن حسان به.
وإن مما لا شك فيه أن هذا أصح من رواية ابن حبان، ذلك؛ لأن شيخه محمد بن علان- ويقال: (ابن علي) - الأذَني؛ مع أنه غير معروف لدينا، والسمعاني
لما أورده في هذه النسبة؛ لم يزد على أن ذكره بروايته عن لُوَين شيخه(7/520)
في هذا الإسناد؛ فنسبة الوهم إليه أولى من نسبته إلى لوين- واسمه محمد بن سليمان بن حبيب المِصِّيصِي-؛ لأنه ثقة، وأولى منه أن لا ينسب الوهم إلى ابن حبان نفسه؛ لحفظه وضبطه الذي عرف به؛ ولذلك فقد غفل المعلق على
"الإحسان " (4/219) حين نسب الوهم إليه، فقال:
"ويغلب على الظن أنه سبق قلم من ابن حبان؛ فإن حماد بن زيد لا تعرف
له رواية عن الدستوائي ... "!
وأظن أن هذا الوهم نشأ من وهم آخر له، ألا وهو قوله بعد ما تقدم:
"إسناده صحيح، لُوين لقب محمد بن سليمان بن حبيب الأسدي ثم
المصيصي، أخرج له أبو داود والنسائي، وباقي رجال السند رجال الصحيح "!
فهذا يؤكد ما قلت؛ لأن الأذني شيخ ابن حبان غير معروف كما تقدم؛
فضلاً عن أن يكون من "رجال الصحيح"، فكان هو أحقّ بأن يترجم من شيخه "لُوين"، ولكنه غفل عنه ونسي، فجلُّ من لا يضل ولا ينسى.
وقد توبع حماد بن زيد من قِبلِ عبد الأعلى بن عبد الأعلى عند ابن خزيمة في "صحيحه" (1/146) ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري عند ابن الجارود كما تقدم، والبغوي في "شرح السنة" (2/89/298) ، كلهم قالوا: ثنا هشام بن حسان عن أبي معشر به.
ولهشام متابعون عن أبي معشر، ولهذا متابعون عن إبراهيم وهو ابن يزيد النخعي في"صحيح مسلم" و"صحيح ابن خزيمة" وغيرهما، وبعضها مخرج في "صحيح أبي داود" (398 و 399) .
وجملة القول: إن رواية ابن حبان معلولة بالمخالفة، وإن كانت بمعنى حديث(7/521)
الترجمة عند ابن خزيمة التي لم نجد لها علة وكأنه لذلك سكت عنها الحافظ في ((التلخيص)) كما تقدم وكذا في ((الفتح)) (1/333) وكلها متفقة الدلالة علي طهارة المني وحديث الترجمة أصرحها وأقواها في الدلالة كما هو ظاهر ولذلك كان القول بطهارته هو الصواب الذي عليه الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث كما في ((الفتح)) *
3173- (أحسنَ (وفي رواية: صدق) ابنُ الخطابِ)
أخرجه أحمد (5/368) : حدثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة عن الأزرق بن
قيس عن عبد الله بن رباح عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر فقام رجل يصلي [بعدها] فرآه عمر [فأخذ بردائه أو بثوبه] فقال له اجلس فإنما أهلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 0000 فذكره بالرواية الأولى
وأخرجه أبو يعلي في مسنده (13/107/7166) قال: حدثنا محمد بن بشار: حدثنا محمد به
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات على شرط مسلم غير الصحابي الذي لم يسم وذلك لا يضر لأن الصحابة كلهم عدول0
وقد توبع شعبة فقال عبد الرزاق في (المصنف) (2/432/3973) : عن عبد الله بن سعيد قال: أخبرني الأزرق بن قيس قال: سمعت عبد الله بن رباح الأنصاري به والرواية الثانية مع الزيادات له
وهذا إسناد صحيح أيضاً وعبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند الفزاري ثقة من رجال الشيخين ذكره الحافظ المزي في شيوخ عبد الرزاق0(7/522)
والحديث أورده الهيثمي في (المجمع) (2/234) قال:
(رواه أحمد وأبو يعلي ورجال أحمد رجال (الصحيح))
وأقول: لا وجه لتخصيص إسناد أحمد بذلك فإسناد أبو يعلى كذلك
رجاله رجال (الصحيح) فإن محمد بن بشار- وهو أبو بكر بندار- ثقة أيضاً من رجال الشيخين وشيخه محمد: هو ابن جعفر الملقب بـ (غندر)
وأخرجه أبو داود (1/611/1007) والحاكم (1/270) والبيهقي (2/190) ,والطبراني في (المعجم الكبير) (22/284/728) من طريق أشعث بن شعبة عن المنهال بن خليفة عن الأزرق بن قيس قال:
صلي لنا إمام يكنى أبا رمثة فقال صليت هذه الصلاة أو مثل هذه الصلاة
مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: وكان أبو بكر وعمر يقومان في الصف المقدم عن يمينه وكان رجل قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة فصلي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثم سلم عن يمينه وعن يساره حتى رأينا بياض خده ثم انتفل كانتفال أبي رمثة - يعنى نفسه-
فقام الرجل الذي أدرك معه التكبيرة الأولى من الصلاة يشفع فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبه فهزه ثم قال: اجلس 000 الحديث إلا أنه قال: فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم -
بصره فقال: (أصاب الله بك يا ابن الخطاب!)
وقال الحاكم
(صحيح علي شرط مسلم) !
ورده الذهبي بقوله
(قلت: المنهال ضعفه ابن معين وأشعث فيه لين والحديث منكر)(7/523)
قلت: وبهما أعله المنذرى في (مختصر السنن) ولذلك كنت أوردته في
(ضعيف أبي داود) فلما وقفت على متابعة شعبة وعبد الله بن سعيد الفزاري لهما على الشطر الثاني من حديثهما قررت نقله إلى (صحيح أبي داود) لأن الشطر الأول منه ليس فيه كبير شيء مع كونه موقوفا, ً وكذلك كنت ضعفته في تعليقي علي (المشكاة) (1/306-307) فليصحح إذن بالطريق الأولى والله ولي التوفيق والهادي لا إله إلا هو.
وفى الحديث فائدتان هامتان:
الأولي: أنه لا بد من الفصل بين الفريضة والنافلة التي بعدها إما بالكلام
أو بالتحول من المكان, وفى ذلك أحاديث صحيحة أحدها في (صحيح مسلم) من حديث معاوية - رضي الله عنه - وهو مخرج في (الإرواء) (2/190/344) و (صحيح
أبي داود) (1034) وفيه أحاديث أخري برقم (631و922) ولذلك؛ تكاثرت الآثار عن السلف بالعمل بها وقد روي الكثير الطيب منها عبد الرزاق في
(المصنف) (2/416-418) وكذا ابن أبي شيبة (2/138-139) والبيهقي في
(سننه) فما يفعله اليوم بعض المصلين في بعض البلاد من تبادلهم أماكنهم حين قياهم إلي السنة البعدية: هو من التحول المذكور وقد فعله السلف فروي ابن
أبي شيبة عن عاصم قال:
صليت معه الجمعة فلما قضيت صلاتي أخذ بيدي فقام في مقامي وأقامني في مقامه. وسنده صحيح
وروي نحوه عن أبي مجِلزٍ وصفوان بن ُمحرِزِ
والفائدة الأخرى: جواز التطوع بعد صلاة العصر؛ لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم
عمر الرجل على الصلاة بعدها مع أنه أنكر عليه ترك الفصل وصوّبه النبي - صلى الله عليه وسلم -(7/524)
على ذلك، فدل ذلك على جواز الصلاة بعد العصر دون الوصل، وقد جاء ما يدل على الجواز من فعله - صلى الله عليه وسلم - عن من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع ركعتين بعد العصر. رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في "الإرواء" (2/188-189) من طرق عنها، ويأتي طريق آخر عقب هذا.
وقد ثبت العمل به عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كما يأتي.
فإن قيل: كيف يصح الاستدلال بهذا الإقرار من عمر، وقد صح عنه أنه كان
يضرب من يصلي الركعتين بعد العصر؟
والجواب: أن ضربَهُ عليهما إنما كان من باب سد الذريعة، وخشية أن
يتوسع الناس مع الزمن فيصلوهما في وقت الاصفرار المنهي عنه، وهو المراد بالأحاديث الناهية عن الصلاة بعد العصر نهياً مطلقاً كما سيأتي في الحديث بعده، وليس لأنه لا يجوز صلاتهما قبل الاصفرار، ولذلك لم ينكر على الرجل صلاته بعد العصر مباشرة، وقد جاء عن عمر نفسه ما يؤكد هذا، فقال
الحافظ في "الفتح " (2/65) :
" (تنبيه) : روى عبد الرزاق [2/431-432] من حديث زيد بن خالد
[الجهني] سبب ضرب عمر الناس على ذلك، فقال ... عن زيد بن خالد:
أن عمر رآه وهو خليفة ركع بعد العصر فضربه، فذكر الحديث، وفيه:
"فقال عمر: يا زيد! لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس سُلَّماً إلى الصلاة
حتى الليل لم أضرب فيهما".
فلعل عمر كان يرى أن النهي عن الصلاة إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند(7/525)
غروب الشمس، وهذا يوافق قول ابن عمر الماضي (1) وما نقلناه عن ابن المنذر
وغيره (1) .
وقد روى يحيى بن بُكير عن الليث عن أبي الأسود عن عروة عن تميم الداري نحو رواية زيد بن خالد، وجواب عمر له، وفيه: "ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب، حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! أن يصلى فيها". وهذا أيضاً يدل لما قلناه ".
قلت: ومثله ما رواه الطحاوي (1/180) عن البراء بن عازب قال: بعثني سلمان بن ربيعة بريداً إلى عمر بن الخطاب في حاجة له، فقدمت عليه، فقال لي: لا تصلوا بعد العصر؛ فإني أخاف عليكم أن تتركوها إلى غيرها.
قلت: يعني إلى وقت الاصفرار المحرم، وإسناده صحيح.
فهذه الآثار تؤكد ما ذكرته من قبل أن نهيه اجتهاد منه سدّاً للذريعة، فلا ينبغي أن يعارض به إقراره للرجل اتباعاً منه للنبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاته بعد العصر، فضلاً عن معارضة الأحاديث الصحيحة في صلاته- صلى الله عليه وسلم - الركعتين، أو معارضتها بالعموم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس "؛ فإنه يُخصُّ بحديث علي الذي صححه الحافظ كما تقدم ويأتي في الحديث التالي.
وحديث الترجمة تقدم تخريجه برقم (2549) باختصار عما هنا.
ثم وجدت من صحيح حديث عائشة ما يشهد لرواية عبد الرزاق ويؤيدها، فخرجته في ما يأتي برقم (3489) .
_________
(1) أما ابن عمر؛ فذكر أن الطبري روى عنه إباحة الصلاة بعد العصر حتى تصفر. وذكر
أنه قال به محمد بن سيرين والطبري وابن حزم، واحتج بحديث علي: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر إلا والشمس مرتفعة. ورواه أبو داود بإسناد صحيح قوي.
وأما ابن المنذر فلم يسبق له ذكر. والله أعلم. *(7/526)
صلاة مَنسِيَّة ينبغي إحياؤها
3174- (كان لا يدعُ ركعتينِ قبل الفجرِ، وركعتينِ بعدالعصرِ) .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (2/352) : حدثنا عفان قال: نا أبو عوانة قال: ثنا إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه: أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين، فقيل له؟ فقال: لو لم أصلهما إلا أني رأيت مسروقاً يصليهما؛ لكان ثقة، ولكني سألت عائشة؟ فقالت: ... فذكره.
قلت: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، رجاله كلهم ثقات لا مغمز فيهم، وإنما خرجته لصحته وعزة إسناده، ولما فيه من عمل محمد بن المنتشر
تبعاً لمسروق التابعي الجليل- به، وإلا فالحديث مخرج في "الصحيحين " وغيرهما كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في الحديث الذي قبله.
والمرفوع من هذا قد أخرجه الطحاوي في"شرح المعاني" (1/177) من طريق أخرى عن أبي عوانة به.
وروى ابن أبي شيبة قبيل هذا بسند صحيح عن أشعث بن أبي الشعثاء قال: خرجت مع أبي (واسمه سُليم بن أسود المحاربي) وعمرو بن ميمون والأسود
ابن يزيد وأبي وائل، فكانوا يصلون بعد العصر.
ثم روى مثله عن جمع آخر من السلف؛ منهم الزبير بن العوام، وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وكذا علي رضي الله عنه، وأبو بردة بن أبي موسى.
بل روى ابن حبان (1568- 1570) ، والشيخان عن الأسود ومسروق عن(7/527)
عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما. وهو مخرج في"صحيح أبي داود" (1160) . وروى عبد الرزاق (2/433/377) بسند صحيح عن طاوس: أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر، فلما استخلف عمر تركهما، فلما توفي ركعهما، فقيل له: ما هذا؟ فقال: إن عمر كان يضرب الناس عليهما. قال ابن طاوس: كان أبي لا يدعهما.
قلت: فمن الخطأ الشائع في كتب الفقه: النهي عن هاتين الركعتين، بل وعدم ذكرهما في زمرة السنن الرواتب مع ثبوت مداومته - صلى الله عليه وسلم - عليهما كما كان يداوم على ركعتي الفجر، ولا دليل على نسخهما، ولا على أنهما من خصوصياته
- صلى الله عليه وسلم -، كيف وأعرف الناس بهما يحافظ عليهما-وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- ومن وافقها من الصحابة والسلف كما تقدم.
يضاف إلى ذلك أن النصوص الناهية بعمومها عن الصلاة بعد العصرهي مقيدة بالأحاديث الأخرى الصريحة بإباحة الصلاة قبل اصفرار الشمس، ومنها حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ:
"لا تصلوا بعد العصر؛ إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة ".
وهو حديث صحيح جاء من أكثر من طريق، وقد سبق تخريجه برقم (200
و314) . وقد ذهب إلى شرعية هاتين الركعتين أبو محمد بن حزم في "المحلى" والرد على المخالفين في بحث واسع شيق في آخر الجزء الثالث وأول الرابع؛ فليراجعه من شاء.
وراجع الحديث الذي قبله؛ لتعرف سبب ضرب عمر لمن كان يصلي الركعتين. *(7/528)
3175- (إِِنَّ عبداً مِن عبادِ الله بعثهَُ الله إلى قومهِ؛ فكذَّبُوه
وشجُّوه، فكان يمسحُ الدم عن جبهته ويقول: اللهمَّ! اغفر لقومي؛ فإِنَّهم لا يعلمون) .
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (757) ، وأحمد (1/427و456) من طريق حماد بن زيد عن عاصم ابن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود قال:
لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنين ب (الجِعرّانة) ازدحموا عليه فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: 000 فذكره. قال عبد الله بن مسعود: فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي الرجل يمسح عن جبهته.
قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير أنهما إنما أخرجا لعاصم ابن بهدلة مقروناً، كما في "التقريب ".
وقد تابع حماد بن زيد حماد بن سلمة عن عاصم به نحوه بزيادة فيه؛ فقال
تكلم رجل من الأنصار كلمة فيها مَوجِدة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم تُقِرَّني نفسي
أن أخبرت بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلوددت أني افتديت منها بكل أهل ومال، فقال:
"قد آذوا موسى عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك، فصبر"، ثم أخبر أن نبياً كذبه قومه وشجوه حين جاءهم بأمر الله، فقال- وهو يمسح الدم عن وجهه-: "اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون ".
أخرجه أحمد أيضاً (1/453) بسندٍ حسن أيضاً.
وتابع عاصماً: الأعمشُ قال: حدثني شَقِيقٌ به مختصراً، فقال عبد الله بن
مسعود:(7/529)
كأني أنظر إلى النبي يحكي نبيّاً من الأنبياء ضربه قومه، فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
"اللهم اغفر ... " الحديث.
أخرجه البخاري (3477) ، ومسلم (5/ 179) ، وا بن ماجه (4025) ، وأحمد
(1/380 و 432 و441) ، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان " (2/ 161) من طرق عن الأعمش به، وزاد أحمد في رواية بلفظ:
"كان قومه يضربونه حتى يُصرع ".
وإسنادها صحيح على شرط الشيخين.
وساق بعدها بنفس الإسناد عن ابن مسعود قال:
قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً، فقال رجل: إن هذه لقِسمةً ما أريدَ بها وجه الله!
قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فاحمر وجهه- قال شعبة: وأظنه قال: - وغضب؛ حتى وددت أني لم أخبره- قال شعبة: وأحسبه- قال: "يرحمنا الله وموسى- شك شعبة في "يرحمنا الله وموسى"- قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
هذه ليس فيها شك: "قد أوذي بأكثر من ذلك، فصبر".
وأخرجه في مكان آخر (1/ 411) دون شك شعبة.
وكذلك أخرجه البخاري (6/436/3405و11/136/6336) من طرق أخرى
عن شعبة به.
وكذلك رواه أحمد (1/ 380) ، والبخاري (8/55و10/475و511) من طريق
سفيان عن الأعمش به.(7/530)
وتابع الأعمشَ: منصور عن أبي وائل به، وفيه قصة غنائم حنين.
وكأن الإمام أحمد- رحمه الله- أتبع رواية عاصم ابن بهدلة برواية شعبة
كشاهد للزيادة التي في روايته؛ ليؤكد صحتها. والله أعلم.
هذا، وقد اختصر بعض الرواة حديث الترجمة اختصاراً مُخِلاً بحيث يظهر
أن قوله: "اللهم اغفر ... " لم يحكه - صلى الله عليه وسلم - عن ذاك النبي، وإنما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - قاصداً قومه، فقال محمد بن فليح: عن موسى بن عقبة عن الزهري عن سهل بن سعد مرفوعاً به.
أخرجه ابن أبي عاصم في"الآحاد والمثاني" (4/123/2096) ، وأبو يوسف الفسوي في"المعرفة " (1/338) ، وابن حبان في "صحيحه " (2/160/969/الإحسان) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (6/146/5694) من طرق عنه.
وكذا رواه البيهقي في "الشعب " (2/164/1448) .
قلت: ورجاله ثقات رجال البخاري؛ غير أن محمد بن فليح فيه كلام من قبل حفظه، أشار إلى ذلك الحافظ بقوله في "تقريبه ":
"صدوق يهم ".
ثم رأيت ما استظهرته آنفاً صريحاً في رواية البيهقي للحديث في "دلائل النبوة"؛ فإنه ساقه مطولاً (3/206-215) في قصة غزوة أحد، من طريق ابن فليح هذا، لكنه لم يقع ذكر للزهري في إسناده.
فيبدو لي- والله أعلم- أن هذا الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - لقومه ثابت؛ لأن هناك عدة
روايات في ذلك، أسوق ما تيسر لي منها:(7/531)
أولاً: رواية زُهرة بن عمرو بن معبدٍ التيمي عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال:
شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كُسِرت رباعِيتُهُ وجُرح وجهه وهُشمت البيضة على رأسه، وإني لأعرف من يغسل الدم عن وجهه، ومن ينقل عليه الماء، وماذا جعل على جرحه حتى رقأ الدم؛ كانت فاطمة بنت محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له تغسل الدم عن وجهه، وعلي- رضي الله عنه- ينقل الماء إليها في مِجنَّةٍ، فلما غسلت الدم عن وجه أبيها أحرقت حصيراً، حتى إذا صارت رماداً أخذت من ذلك الرماد، فوضعته على وجهه حتى رقأ الدم، ثم قال يومئذ:
"اشتد غضب الله على قوم كلموا وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
ثم مكث ساعة، ثم قال:
"اللهم! اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون ".
أخرجه الطبراني في"المعجم الكبير" (6/ 200- 201) : حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي: ثنا داود بن عمرو الضبي: ثنا زُهرة بن عمرو بن معبد التيمي ...
قلت: وهذا إسناد حسن أو صحيح؛ فإن رجاله ثقات معروفون؛ غير زهرة هذا، أورده البخاري (2/1/443) وابن أبي حاتم (1/2/ 615) برواية ثلاثة آخرين عنه، ولم يذكر فيه البخاريُّ جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات " (6/344) .
ومن الغريب أن الحديث لم يورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"، لا في غزوة أحد، ولا في مكان آخر فيما تيسّر لي من المراجعة، ولا ذكره البسيوني في "فهارس المجمع "،
ولا عزاه إليه أخونا حمدي عبد المجيد السلفي في تعليقه على(7/532)
"المعجم الكبير"! مع أن الحافظ في "الفتح " (7/373) قد عزاه إليه، لكنه ذكر أنه عنده من طريق زهير بن محمد عن أبي حازم، وسقط من المطبوعة المشار إليها وغيرها ذكر: "عن سهل بن سعد"، كما سقط ذلك في رواية قبل هذه عزاها للطبراني أيضاً، وهي في "المعجم " (6/189) ! وعلى هذا؛ فإني أظن أن قوله: "زهير بن محمد" خطأ، ولعله محرف من "زهرة بن معبد"؛ لأنه لا وجود لزهير بن محمد في الرواة عن أبي حازم- واسمه سلمة بن دينار- في "المعجم الكبير"، وإن كان له رواية عنه في"سنن ابن ماجه "؛كما في "تهذيب المزي ".
ثم ذكر الحافظ للحديث شاهداً من رواية ابن عائذ من طريق الأوزاعي بلاغاً:
أنه لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ... الحديث مختصراً، وفيه:
"ثم قال: اللهم اغفر ... " الحديث.
وبالجملة؛ فإن دعاءه - صلى الله عليه وسلم - هذا لقومه ثابت بمجموع الطرق، وعلى هذا جرى جمع من الحفاظ، لكن لا على طلب المغفرة للمشركين لكفرهم، وإنما لذنبهم في
شجّهم إياه - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن حبان عقب الحديث:
"يعني هذا الدعاء: أنه قال يوم أحد لما شُجَّ وجهه: اللهم! اغفر لقومي ذنبهم
بي من الشج لوجهي، لا أنه دعاء للكفار بالمغفرة، ولو دعا لهم بالمغفرة لأسلموا في ذلك الوقت لا محالة".
وأقره الحافظ علي أول كلامه، وتعقبه على الشطر الثاني منه بقوله (6/521) :
"كذا قال! وكأنه بناه على أنه لا يجوز أن يتخلف بعض دعائه على بعض،
أو عن بعض، وفيه نظر لثبوت: "أعطاني اثنتين، ومنعني واحدة؛ وسيأتي ".
قلت: وهو مخرج فيما تقدم برقم (1724) ، وفي "صفة الصلاة" أيضاً، وقد(7/533)
أخرجه ابن حبان أيضاً في "صحيحه " (9/179-180) من حديث خبّاب بن الأرت، وحديث سعد بن أبي وقاص، فكأنه كان أُنسِيهُ لما قال ما سبق.
(تنبيه) : حسّن المعلق على "الإحسان " (3/254) حديث محمد بن فُليح، ولم يتنبه لمخالفته لطرق الحديث، وبعضها عند البخاري ومسلم، ولروايته هو نفسه عند البيهقي، وأيضاً؛ فإنه لما ساق لفظ البخاري، لم يعزه لمسلم وعزاه لأحمد! وهذا خطأ في فن التخريج. *
3176- (اسمَعُوا وأطيعُوا فإنّما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكُم ما حُمِّلتُم) .
أخرجه مسلم (6/11) ، والبخاري في "التاريخ " (2/2/73) ، وأبو عوانة في
"صحيحه" (4/468-469) ، والترمذي (6/357/2220) ، والبيهقي في "السنن " (8/158) ، و"الشعب" (6/ 61- 62) ، والطبراني في"المعجم الكبير" (22/16/20) من طريق شعبة عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجل سأله فقال: أرايت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألونا حقهم؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.
وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح ".
وأخرجه الطيالسي (137/1019) ، والطبراني أيضاً (رقم 21) من طرق أخرى عن سماك به.
والحديث عزاه النووي في "الرياض " لمسلم، فعلق عليه المسمى ب (حسان عبد المنان) بقوله (ص 220) :
"في إسناده نظر! ".(7/534)
كذا قال هداه الله! وهو واسع الخطو في تضعيف الأحاديث الصحيحة بهوى
بالغ وجهل بهذا العلم الشريف؛ فإن هذا الإسناد الذي تدور طرقه على سماك بن حرب عن علقمة، لا يمكن لأحد من العارفين أن يغمز من صحته إلا بجهل أو هوى، وذلك؛ لأن سماك بن حرب قد اتفقوا على صدقه وثقته، ولكنهم تكلموا في حفظه في الجملة، لكن الحفاظ منهم قد نبَّهوا على أن ذلك ليس على إطلاقه، وإنما في من سمع منه بأخره، كما قال ابن المبارك وغيره، نعم؛ قد ضعفوا حديثه عن عكرمة خاصة، ولذلك قال يعقوب بن شيبة مبيِّناً القول الفصل فيه؛ وهو على ثلاثة أحوال: "
1- روايته عن عكرمة خاصة مضطربة
2- وهو في عكرمة صالح وليس من المتثبِّتين
3- ومن سمع منه قديماً مثل شعبة وسفيان؛ فحديثهم عنه صحيح مستقيم، والذي قاله ابن المبارك إنما نرى أنه فيمن سمع منه بأخره ".
وأقره الحافظ الذهبي في "السير" (5/248) ، فقال عقبه:
"قلت: ولهذا تجنب البخاري إخراج حديثه، وقد علق له البخاري استشهاداً
به، ف (سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس) : عدة أحاديث، فلا هي على شرط مسلم "لإعراضه عن عكرمة، ولا هي على شرط البخاري؛ لإعراضه عن سماك، ولا ينبغي أن تُعدَّ صحيحة؛ لأن سماكاً إنما تُكُلَّمَ فيه من أجلها".
قلت: وفي تعليله تضعيف رواية سماك عن عكرمة إشارة قوية إلى أنه يرى تقوية روايته عن غير عكرمة، وهذا هو الذي جرى عليه الإمام مسلم في "صحيحه "، ومن جرى على منواله من أصحاب "الصحاح "؛كابن حبان وأبي(7/535)
عوانة وأبي نعيم وغيرهم، فضلاً عن أصحاب "السنن"، وبخاصة منهم الترمذي الذي صححها إذا كان السند إليه صحيحاً، وأنا أقرِّب إلى القراء بأمثلة من رواية سماك عن جابر بن سمرة مرفوعاً: فقد روى له مسلم عنه نحو أربعين حديثاً ,والترمذي بعضها مع أحاديث أخرى له، صحح ثمانية منها، وحسن ستة (1) !
وقد لخَّص الحافظ ابن حجر أقوال الحفاظ فيه- كما هي عادته- بأوجز عبارة، فقال:
"صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة وقد تغير بآخره، فكان ربما تلقن ". فإذن؛ قد اتفق الحفاظ المحققون- قديماً وحديثاً- على الاحتجاج بحديثه إذا روى عن غير عكرمة، وعلى التفصيل المتقدم عن ابن شيبة، ولما كان شعبةُ مِن الرُّواة عنه في حديث الترجمة؛ كان الحديث صحيحاً لا إشكال فيه.
هذا إذا كان الرجل بنظرته المذكورة يغمز في صحة الحديث من أجل كونه من رواية سماك.
وأما إن كان بنظرته تلك يعني إعلال الحديث بأنه من رواية علقمة بن وائل عن أبيه، وقد جاء في "التهذيب ":
"وحكى العسكري عن ابن معين أنه قال: علقمة بن وائل عن أبيه: مرسل ". فالجواب من وجهين:
أحدهما: عدم التسليم بثبوت ذلك عن ابن معين؛ لجهالة الراوي بينه وبين العسكري- وهو أبو أحمد الحسن بن عبد الله الحمصي فيما أظن- مات سنة (382) ، وابن معين توفي سنة (233) ، فبينهما نحو قرن ونصف من الزمان.
_________
(1) انظر"تحفةالأشراف" (2/148- 160) للمزي.(7/536)
والآخر: أنه ثبت سماعه من أبيه في حديث أخرجه النسائي بسندٍ صحيح
عنه قال: حدثني أبي: ... فذكره.
ويؤيده احتجاج أصحاب الصحاح بحديثه هذا كما ترى وبغيره، فعند مسلم أربعة أخرى، وبعضها عند الترمذي، وعنده أخرى تتمتها خمسة، وقد صححها كلّها.
وقد تقدم الحديث بنحوه (1987) من رواية البخاري في"التاريخ" (1/42/779) . *
3177- (يا بَني كعبِ بن لُؤيٍّ! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني
مُرَّة بن كعبٍ! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد منافٍ! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطَّلب! أنقذُوا أنفسكم من النار، يا فاطمةُ [بنت محمد!] أنقذي نفسكِ من النار، فإنِّي لا أملكُ لكُم من الله شيئاً؛ غير أنّ لكُم رحِماً سأبُلُّها بِبِلالِها) .
أخرجه البخاري في"الأدب المفرد" (48) ، ومسلم (1/133) - والسياق له-،
وأبو عوانة (1/93- 94) ، والترمذي (8/ 330/ 3184) ، وا بن حبان (2/19/645) ، والنسائي (2/128) ، وأحمد (2/333و360و519) من طرق، بعضهم مطولاً وبعضهم مختصراً عن عبد الملك بن عُميرٍ عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: لما أنزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين
دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً،
فاجتمعوا، فعمّ وخص، فقال: ... فذكره. وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ".(7/537)
وتابعه معاوية بن إسحاق عن موسى بن طلحة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ...
فذكره مختصراً مرسلاً.
وكذلك رواه النسائي أيضاً في "السنن الكبرى" (4/108/6472/2) ، ولعل ذلك من معاوية بن إسحاق فإنه مع كونه من رجال البخاري فإن له بعض الأوهام، كما يشير إلى ذلك الحافظ بقوله: "صدوق ربما وهم ".
وتابع موسى بن طلحة: أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة به نحوه ببعض اختصار، وفيه قوله:
"ويا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً".
أخرجه البخاري (4771) ، ومسلم، وأبو عوانة، وابن حبان (8/173/6515) ، والنسائي.
وأخرجوه- إلا البخاري- والترمذي (7/72/2310و8/329/3184) من حديث عائشة مختصراً، ليس فيه مع نزول الآية إلا مناداة صفية وفاطمة، وزاد: "سلوني من مالي ما شئتم ".
وقال الترمذي:
"حسن صحيح ".
وفي نزول الآية: عن ابن عباس أيضاً، ومناداته - صلى الله عليه وسلم - لبني عبد المطلب وغيرهم، وفيه نزول تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
أخرجه الشيخان، وأبو عوانة، وابن حبان، وغيرهم، وقال الترمذي (9/89/3360) :
"حديث حسن صحيح ".(7/538)
(تنبيه) : قوله في حديث الترجمة: "غير أن لكم رحماً سأبُلُّها ببلالها ": هو شاهد قوي لزيادةٍ بمعناه، علقها البخاري في حديث عمرو بن العاص المتقدم في المجلد الثاني برقم (764) كان فاتني ذكره هناك، وجلّ من أحاط بكُلِّ شيء علما ولذلك فإني استدركت هذا الشاهد في آخر المجلد المذكور من طبعته الجديدة (رقم: 6)
ومن الغرائب التي ينبغي لفت النظر إليها: أن المدعو حسان بن عبد المنان كان قد علل الزيادة المذكور فيما علقه على طبعته لكتاب
"رياض الصالحين " للإمام النووي (133/241) بقوله:
"هذه الزيادة زادها البخاري دون مسلم تعليقاً عقب الحديث، ووصله البخاري في كتاب "البر"
عن محمد بن عبد الواحد بن عنبسة، ولم أجد له ترجمة"
وهذا ما كنت ذكرته هناك في محمد هذا، وخفي علي يومئذ الشاهد المذكور،
فلو أن المومى إليه كان باحثاً ومحققاً- كما يزعم- لاستدركه علي؛ لأنه- أعني: الشاهد- كان بين عينيه حين أعل الزيادة "لأنه في "الرياض " قبيل حديث عمرو! لكن الرجل قد تبين لي- بتتبع أحاديث طبعته هذه- أنه لا يحسن من هذا العلم شيئاً إلا تضعيف الأحاديث الصحيحة، كحديث العرباض بن سارية في الموعظة، الذي صححه جمع من الأئمة، وله خمسة طرق بعضها صحيح، وشاهد، كما تراه في آخر المجلد المشار إليه آنفاً!! *
3178- (كنّا نشربُ ونحنُ قِيامٌ، ونأكلُ ونحنُ نمشي، على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -) .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (8/205/4170) : حدثنا حفص عن(7/539)
عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: ... فذكره.
ومن طريق ابن أبي شيبة: أخرجه أحمد (2/108) ، وكذا الدارمي في
"سننه " (2/120) .
وأخرجه الترمذي (6/148/1880) ، والطحاوي في "شرح المعاني " (2/358) من طريق أخرى عن حفص بن غياث به. وقال الترمذي:
"حديث صحيح غريب من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر".
قلت: وإسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، وهو على شرط مسلم؛
لأنه روى لحفص عن عبيد الله بن عمر.
وللحديث طريق أخرى أشار إليها الترمذي عقب قوله المتقدم آنفاً، قال:
"وروى عمران بن حُديرٍ هذا الحديث عن أبي البرزي عن ابن عمر، وأبو البرزي اسمه يزيد بن عُطارد".
قلت: هذا وصله ابن أبي شيبة (4167) ، والدار مي أيضاً، وكذا الطحاوي، والدّولابي في"الكنى " (1/127) ، والبييقي في " السنن " (7/283) من طريق الطيالسي-وهذا في"مسنده" (258/1094) -، وأحمد أيضاً (2/12) من طرق عنه.
قلت: ورجاله ثقات رجال مسلم؛ غير يزيد بن عطارد، قال ابن أبي حاتم عن أبيه (4/2/281-282) :
"لا أعلم روى عنه غير عمران بن حدير، وليس ممن يحتج بحديثه ".
وأقول: نعم، ولكن ذلك لا يمنع من الاستشهاد به؛ فإنه تابعي وقد وثقه
ابن حبان (5/547) ، ولذلك جزم الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على(7/540)
"المسند" (6/274) بأن إسناده صحيح، وهذا من تساهله الذي نبهت عليه مراراً! وإنما هو صحيح بما قبله، وقد سكت عليه الحافظ في "الفتح " (10/84) .
على أن الأمر ليس كما قال أبو حاتم- رحمه الله-، فقد روى عن يزيد- أيضاً- مشمعلّ بنُ إياس؛ كما في ترجمته من "التهذيبين "، فهو مجهول الحال، لا مجهول العين.
وللحديث شاهد موقوف يرويه الحسن بن الحكم عن الحُرِّ بن الصَّيَّاح قال:
سأل رجل ابن عمر فقال: ما ترى في الشرب قائماً؟ فقال ابن عمر:
إني أشرب وأنا قائم، وآكل وأنا أمشي.
رواه ابن أبي شيبة (4167) .
قلت: وإسناده حسن.
ومن بغي المسمى ب (حسان عبد المنان) وجنفه على السنة: جزمه بأن الحديث
وهم في إسناده حفص بن غياث، قال في "ضعيفته " التي جعلها في آخر طبعته لكتاب "رياض الصالحين " للنووي (524/ 41) :
"كما ذكر ذلك ابن معين وابن المديني وأحمد وغيرهم، وإنما هو حديث أبي البزري (!) كما في "مسند أحمد " (2/12) وغيره، وهو مجهول ".
قلت: وعزوه جزمه بالوهم إلى الأئمة الثلاثة من تدليساته الكثيرة؛ فإنه لم
يجزم به إلا ابن المديني فقط، وأما ابن معين فقال:
"تفرَّد به، وما أراه إلا وهم فيه ".
وقال أحمد:
"ما أدري ما ذاك؟! "؛ كالمنكر له.(7/541)
قلت: ففي قولهما تلميح لطيف إلى أنه ليس لديهما حجة علمية في التوهيم المذكور، وإنما هو الرأي فقط، وبمثله لا ينبغي أن يخطَّأ الثقة؛ لأن تفرده حجة إلا عند المخالفة لمن هو أوثق منه وأحفظ، وهي مفقودة هنا، ولقد أصاب الترمذي رحمه الله حينما جمع في كلمته السابقة بين تصحيح الحديث، والحكم عليه بالغرابة؛ لأنه الأصل المصرح به في علم المصطلح كما هو معروف عند العلماء، ولولا ذلك صارت الأحاديث الصحيحة عُرضةً للتضعيف لمجرد التفرد وهذا خُلف، وبخاصة أن الطريق الأخرى هي بإسناد آخر ورجال آخرين؛ فهي تؤيد رواية حفص وتشد من أزره، وتدل على أنه قد حفظ. والله أعلم.
وفي الحديث فائدة هامة، وهي جواز الأكل ماشياً، بخلاف الشرب قائماً؛
فإنه منهي عنه كما ثبت في"صحيح مسلم"وغيره، وقد سبق تخريج بعضها في المجلد الأول (رقم 177) ، وذكرت هناك اختلاف العلماء في حكمه مرجِّحاً التحريم؛ لزجره - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب قائماً وغيره مما يؤيده؛ فراجعه.
ولا يجوز معارضة ذلك بأحاديث شربه - صلى الله عليه وسلم - قائماً؛ لأنها وقعت إما على البراءة الأصلية، وإما لعذر، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له؛ فليراجعها من شاء (32/209- 0 21) .
ثم أوقفني بعض الإخوان- جزاه الله خيراً- على إعلال أبي حاتم أيضاً
للحديث، بعلة غريبة، فقال ابنه في "العلل " (2/9/1500) :
"سألت أبي عن حديث رواه محمد بن آدم بن سليمان المصِّيصي عن حفص
ابن غياث ... (فذكر الحديث) ؟ قال أبي: قد تابعه على روايته ابن أبي شيبة عن حفص، وإنما هو حفص عن محمد بن عبيد الله العرزمي، وهذا حديث لا أصل له بهذا الإسناد".(7/542)
فأقول: هذا الإعلال يُعرف جوابه مما سبق، وخلاصته أنه توهيم للثقة بدون حجة، ونقول هنا شيئاً آخر، وهو أن التسليم بهذا الإعلال يلزم منه نسبة (حفص ابن غياث) إلى التدليس، وهذا مما لم يقله أحد فيما علمت، وما لزم منه باطل فهو باطل.
وقد تابع المذكورين على روايتهما: سَلم بن جنادة عن حفص بن غياث:
عند الترمذي، وابن حبان (1369) ، فالحديث حديثه؛ وهو حجة، ولا يجوز ردُّه بغير حجة. *
3179- (أما إنّ ربَّك يُحبُّ المحامدَ) .
أخرجه البخاري في"الأدب المفرد" (859 و861و868) و" التاريخ " (1/ 445/ 425 1) ، والنسائي في "السنن الكبرى" (4/416/7745) ، والحاكم (3/ 614) ، وأحمد (3/ 435) ، والطبراني في " المعجم الكبير" (1/258/ 0 82- 825) ، والطحاوي في "شرح المعاني " (2/372) من طرق عن الحسن عن الأسود بن سريع، قال: كنت شاعراً، فقلت: يا رسول الله! امتدحتُ ربي، فقال: ... فذكره، وما استزادني على ذلك. وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي.
قلت: هو كذلك بالنظر لرواية البخاري في كتابيه؛ فإن الحسن قد صرح بالتحديث عن الأسود من طريقين عنه، ولولا ذاك لكان معلَّلاً بالعنعنة؛ لأن الحسن معروف بالتدليس، والذين جزموا بأن الحسن لم يسمع من الأسود، لم يذكروا حجة سوى حكاية لا يُعرف لها إسناد: أن الأسود لم يُرَ بعد قتل عثمان، وإلا قولاً لبعضهم: إن الأسود مات يوم الجمل سنة ست وثلاثين؛ وإنما قدم الحسن(7/543)
البصرة بعد ذلك! وهناك قول آخر: أن الأسود بقي بعد الأربعين، وهذا يلتقي مع تصريح الحسن بالسماع منه؛ لأن هذا ولد في نحو سنة (22) ؛ فبإمكانه أن يسمع منه كما هو ظاهر، وإلى هذا مال الدكتور بشار في تعليقه على
"تهذيب الكمال " للحافظ المزي (3/222- 223) ، فراجعه؛ فإنه مفيد.
ثم وجدت لتصريحه بالتحديث عن الأسود طريقاً ثالثاً عند النسائي في "الكبرى" (5/184/6 861) بحديث النهي عن قتل الذرية، الذي كنت خرجته قديماً في المجلد الأول برقم (402) معتمداً في تصريحه بالسماع على رواية الحاكم إياه، والآن وقد طبع "السنن الكبرى" للنسائي، ووقفنا فيه أيضاً على التصريح؛ فلينقل إلى الحديث المذكور.
ثم ألحقته به في الطبعة الجديدة، في مكتبة المعارف- الرياض.
ويبدو لي أن الحافظ المزي معنا في إثبات السماع منه؛ بدليل أنه لما ذكر شيوخ الحسن البصري (6/97) مصرحاً بعدم إدراكه لبعضهم، أو الخلاف فيه كما هي عادته- وذلك من دقته وتحقيقه جزاه الله خيراً- قال: ".. والأسود بن سريع (س) "؛ فلم يذكر في سماعه منه شكاً بله نفيٍ، خلافاً للحافظ في
"تهذيبه "! وللحديث طريق أخرى، يرويها عبد الرحمن بن أبي بكرة أن الأسود بن سريع قال:
أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله! إني قد حمدت ربي تبارك وتعالى بمحامد ومدح، وإياك، فقال: "أما إن ربك تبارك وتعالى يحب المدح "، فجعلت أُنشِده، فاستأذن رجل طُوال أصلع، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اسكت "، فدخل
فتكلم ساعة ثم خرج، فأنشدته، ثم جاء فسكتني! ثم خرج، فعل ذلك مرتين أو(7/544)
ثلاثاً، فقلت: من هذا الذي سكّتني له؟! قال: "هذا رجل لا يحب الباطل،
[هذا عمر ابن الخطاب] ".
أخرجه البخاري في "الأ دب المفرد" (342) - والسياق له-، والطحاوي
- مختصراً- وأحمد (3/435) ، وكذا الحاكم (3/ 4 61 و615) - والزيادة لهما-، والطبراني أيضاً (1/ رقم 842 و 843) من طريق علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة به.
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ له علتان:
الأولى: الانقطاع بين عبد الرحمن هذا والأسود بن سريع، على ما صرح به
ابن منده؛ فقد ذكر الحافظ في "التهذيب " في ترجمة الأسود: أنه روى عنه الحسن وعبد الرحمن هذا، وأتبعه بقوله:
"قال ابن منده: ولا يصح سماعهما منه، توفي أيام الجمل سنة (42) .
قلت: تبعه الذهبي على هذا الكلام ... ".
ثم تعقبه بما خلاصته أن وقعة الجمل كانت سنة (36) بلا خلاف، وأن أحمد وابن معين ذكرا أنه توفي سنة (42) .
قلت: وسواء كانت وفاته في هذه السنة- وهو الذي نميل إليه لما تقدم-، أو كانت التي قبلها؛ فلا أرى وجهاً للانقطاع الذي ادعاه ابن منده؛ لأن عبد الرحمن هذا ولد سنة (14) في البصرة، فهو قد أدرك الأسود يقيناً؛ لأننا إذا افترضنا أن الوفاة كانت سنة (36) فيكون عُمُرُ عبدِ الرحمن حينئذ (22) سنة، وعلى ما هو الراجح لدينا يكون عمره يومئذ (28) سنة، مع العلم أن الأسود كان نزل البصرة وقص بها. وكأنه لذلك لما ترجم له الحافظ المزي وغيره، وذكروا من روى عنهم من(7/545)
الصحابة؛ كان منهم الأسود هذا ولم ينفوا سماعه منه؛ فهذه العلة إذن غير قادحة.
والعلة الأخرى: ضعف علي بن زيدان جُدعان؛ لكنه لم يتفرد به؛ فقال الطبراني في "معجمه " (1/ رقم 844) : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي: ثنا مَعمَرُ بنُ بكَّار السَّعدي: ثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة به نحوه.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات؛ غير معمر بن بكار السعدي، قال العقيلي
في "الضعفاء" (4/207) :
"في حديثه وهم، ولايتابع على أكثره ".
وذكره ابن أبي حاتم (4/ 1/259) دون تجريح أو تعديل.
وأما ابن حبان؛ فذكره في "الثقات " (9/196) .
وقال الذهبي في "الميزان ":
"شيخ لمطيّن، صويلح ".
قلت: فيبدو مما تقدم من ترجمته أنه يمكن الاستشهاد به، وبخاصة إذا تذكَّرنا أن الحاكم صحح له هذا الحديث؛ فإنه رواه (3/615) من طريق الحضرمي - وهو (مطين) - عنه، وقال عقبه:
"حديث صحيح".
ولكن رده الذهبي بقوله:
"قلت: معمر له مناكير".(7/546)
وهذا لا يمنع من الاستشهاد به، ومتابعة ابن جدعان له ترفع عنه النكارة،
وبها يثبت الحديث بتمامه، والله أعلم.
والحديث جزم شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على البكري " (ص 291)
بنسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وكنت قد أشرت إلى ضعفه في "تحريم آلات الطرب " (ص 123) ، وجزمت
في "ضعيف الأدب المفرد" (55/342) أنه ضعيف بهذا التمام، وأحلت على "الضعيفة" (2922) ، ولم أكن وقفتُ- حينذاك- على متابعة الزهريِّ لابن جدعان، فسبحان من قد أحاط بكل شيء علماً، والمعصوم من عصمه الله. *
3180- (لا يُتمَ بعدَ احتلامٍ، ولا يُتمَ على جاريةٍ إذا هي حاضت) . أخرجه الطبراني في "الكبير" (4/16/3502) : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي: ثنا محمد بن أبي بكر المقدَّمي: ثنا سَلمُ بن قتيبة: ثنا ذيَّالُ بن عُبَيد قال: سمعت جدي حنظلة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات معروفون؛ وذيَّال بن عُبيد وثقه
ابن معين، وابن حبان (4/222) ، ولا ينافيه قول ابن أبي حاتم بعد أن روى توثيق ابن معين:
"سألت أبي عنه؟ فقال: تابعي. قلت: يحتج بحديثه؟ فقال: شيخ أعرابي ".
فأقول: إنه يشير بذلك إلى أنه وسط ليس في الحجة كغيره من الحفاظ المشهورين، وقد روى عنه جمع من الثقات، ولهذا؛ قال فيه الحافظ في"التقريب ": "صدوق". وقال في"التلخيص الحبير" (3/ 101) :(7/547)
"وإسناده لا بأس به ". وقال شيخه الهيثمي في مجمع الزوائد" (4/226) :
"رواه الطبراني، ورجاله ثقات ".
وعزاه الحافظ في ترجمة حنظلة من "الإصابة" للحسن بن سفيان والباوردي
وابن السكن من طريق سلم بن قتيبة به.
وللحديث طرق أخرى كنت خرجتها في "الإرواء" (5/79- 83) وبينت
عللها، وانتهيت إلى أنه صحيح بمجموعها، وبخاصة وأن من بينها حديثاً صحيحاً موقوفاً على ابن عباس، وآخر مرفوعاً حسنه النووي في "الرياض" (1808- بتحقيقي) ، فعارضني في ذلك أحد الناشئين الأغمار في هذا المجال، فذكره في "الأحاديث الضعيفة"التي استخرجها من كتاب "الرياض"، وجعلها في آخر الكتاب من طبعته هو، استعمل فيها مِعوَل الهدم في الأحاديث الصحيحة، بغير علم ولا هدى؛ لأنه لا علم عنده بهذا الفن، ويغلب عليه التعلق بالجرح بالراوي وبأحاديثه، مهما كان الجرح سهلاً لا يعارض به التوثيق، أو أن يتابع ممن يتقوى به حديثه عند أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، بل رأيته أحياناً يتجاهل التوثيق أو ينكره لِيسلمَ له الجرح والتضعيف، وقد دلت طريقة تضعيفه على أنه لا يتبنى الحديث المعروف عند المحدثين بالحديث الصحيح لغيره، بله الحديث الحسن لغيره، الذي ينتج من تقوية الحديث الضعيف بالشواهد والطرق، والذي يكني الترمذي عنه بقوله:
"حديث حسن " فقط دون قوله: "حديث حسن غريب "؛ كما نص عليه في آخر كتابه؛ الأمر الذي ذكرني بضلال أحد المدعين العلم والطاعنين في السنة والأحاديث الصحيحة بهواه أيضاً، قال- بجهل بالغ في تعليقه على
"دفع شبه التشبيه " (ص 64) -:
"والقول الفصل: أنه لا يجوز تصحيح الأحاديث بالشواهد ألبتة"!(7/548)
ثم أعاد هذا المعنى في أواخر الكتاب، فقال (ص 222) :
"ولسنا ممن يصحح بالشواهد" (1) !
على مثل هذا وغيره-مما يخالف القواعد العلمية التي وضعها علماء الإسلام- جرى المشار إليه، فيا ترى من السابق منهما إلى مثل هذه الجهالة؟! وهل كان ذلك من باب (تشابهت قلوبهم) ، أم أن أحدهما يلقَّن الآخر، أو كما قال تعالى: (أتواصوا به بل هم قوم طاغون) ؟!
والمقصود أن المومى إليه ضعف هذا الحديث في "ضعيفته " المشار إليها آنفاً برقم (125) ، ناظراً إلى مفردات طرقه دون أن يعتمد على ما يعطيه مجموعها من قوة للحديث! فماذا يا ترى سيكون موقفه من طريق حديث الترجمة؟! إن أخشى ما أخشاه أن يبتدع له علة يتشبث بها للطعن فيه، كما فعل في بعض طرق حديث العرباض بن سارية في الموعظة؛ فإنه مع تضعيفه إياه من جميع طرقه على تلك القاعدة المشؤومة، ومع أن أكثرها صحيحة؛ فإني لما قدَّمت إليه
طريقاً أخرى من "مسند الشاميين"لم يكن وقف عليها؛ اعترف بصحتها
بحضورنا، ثم نكص على عقبيه، كما تراه مبيناً في الاستدراك رقم (13)
المطبوع في آخر المجلد الثاني من "سلسلة الأحاديث الصحيحة" الطبعة الجديدة!
والله المستعان.
_________
(1) لقد تراجع الرجل عن ضلالته هذه في فهرس الخطأ والصواب، ولعل ذلك بتنبيه أحدهم إياه، وإلا فالرجل- عملياً- كالناقد (!) المشار إليه، لا يعبأ بالطرق المقوية للأحاديث، وهذا هو المثال أمامك، وأما ذاك الضال؛ فقد أبطل حديث: "أين الله؟ "مع كثرة طرقه، وأحدها في مسلم، كما تقدم بيانه قريباً برقم (3161) . *(7/549)
أحاديث في تحريك الإصبع في التشهد، والردُّ على من أنكره
3181- (كان يشير بإصبعه السَّبَّاحةِ في الصلاة) .
أخرجه أحمد (3/407) ، والبخاري في "التاريخ " (2/ 1/296) من طريق سفيان عن منصور عن أبي سعيد الخُزاعي عن عبد الرحمن بن أبزى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذ كره.
قلت: وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير أبي سعيد هذا.
وقال جرير: عن منصور عن راشد أبي سعد؛ أخرجه أحمد أيضاً، وفي ترجمته أورده البخاري، ولم يذكر فيه جرحاً. وأورده ابن حبان في "الثقات "،
وسمى أباه سعداً، فقال (6/303) :
"راشد بن سعد أبو سعد، يروي عن عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ، روى عنه منصور
والأعمش ".
وقال المعلق عليه:
"لم يسم أباه البخاري، ولا ابن أبي حاتم، ولا صاحب "التهذيب ".. "!
قلت: هو ليس في "التهذيب " مطلقاً؛ فتنبه.
وللحديث شواهد تؤكد صحته من حديث جمع من الصحابة:
أولاً: أبو حميد الساعدي في وصفه لتشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه:
"ثم يشير في الدعاء بإصبع واحدة".
أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (3/ 170- 171- الإحسان) ، والطحاوي(7/550)
في"شرح معاني الآثار" (1/153) ، والسَّرَّاج في"مسنده" (ق 5 2/ 1) ، والبيهقي (2/101- 102) بسند فيه جهالة، بينته فى "ضعيف أبى داود" (118) ، وعدَّه
ابن حبان محفوظاً.
ثانياً: خُفافُ بن إيماءٍ قال:
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في آخر صلاته " يشير بإصبعه السبابة، وكان المشركون يقولون: يسحر بها؛ وكذبوا، ولكنه التوحيد".
أخرجه أحمد (4/57) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (4/257/4176)
- والسياق له-، والبيهقي (2/133) بسند رجاله ثقات؛ لكن أدخل بعضهم بين تابعي الحديث وخفاف رجلاً لم يسم.
ثالثاً: وائل بن حُجر في حديث وصفه لتشهده - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها، يدعو بها".
أخرجه أصحاب بعض "السنن " وغيرهم، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان،
وابن الجارود، وابن الملقن، والنووي، وابن القيم، وا بن حجر العسقلاني، وهو مخرج في "الإرواء" (2/68- 69) ، و"صحيح أبي داود" (717) ، وهو شاهد قوي لحديث الترجمة؛ فإن قوله فيه: "يشير"بمعنى قول وائل: "يحركها"، كما يأتي بيانه قريباً إن شاء الله تعالى.
وقد شذ بعض المتأخرين عن هؤلاء الأئمة المصحِّحين للحديث- وغيرهم ممن تلقى الحديث بالقبول وعمل به أو تأوله، كما بينت ذلك في "تمام المنة"
(ص 218) - " فضعفوه بدعوى تفرد زائدة بن قدامة عن عاصم بن كليب..
بقوله: "يحركها"دون سائر أصحاب عاصم، وقد رددت على هؤلاء المتأخرين
في(7/551)
المصدر المذكور بما خلاصته أن الإشارة لا تنافي التحريك، كل ما في الأمر أنها ليست نصاً في التحريك، ولا هي تنافيه، مع مخالفتهم لأولئك الأئمة كما حققته هناك؛ فليرجع إليه من شاء التوسع.
ولكنني أريد الآن أن أؤكد صحة حديث زائدة بمتابعات مِن غيرِهِ له، تبين للقراء وهم أولئك المتأخرين في تضعيفهم لحديثه ومخالفتهم للأئمة، وذلك؛ بمناسبة أنني وقفت أخيراً على رسالة لأحد الطلبة المتعلقين بهذا العلم سماها: "المنهج الصحيح في الحكم على الحديث النبوي الشريف " بقلم عادل مرشد، ويذكر فيها أنه من تلامذة الشيخ شعيب الأرناؤوط، ويبدو لي منها أنها إن لم تكن من تأليفه، فهي على الغالب من تلقينه إياه، ويهمُّني منها الآن أنه ذكر حديث زائدة هذا مثالاً من أربعة أمثلة للحديث الشاذ بزعمه، وهو في ذلك مقلد لمن سبقت الإشارة إليهم من المتأخرين، ولم يأت هو بشيء جديد إلا الكشف عن جهله، وأنه ليس أهلاً للخوض في مثل هذا الموضوع الخطير! فعياذاً بالله تعالى من العجب والغرور وحب الظهور؛ فإنه يقصم الظهور! وهاك البيان:
لقد سمى الرجل أحد عشر راوياً من أصحاب عاصم بن كُلَيب عارض بهم رواية زائدة (1) ، مشيراً إلى مصادرها من كتب السنة مرقماً إياهم بأرقام متسلسلة، وأنت إذا رجعت إلى تلك المصادر؛ وجدت أنه موَّه على القراء بما لا طائل تحته ببعض من سمى مثل: "7- عبد الله بن إدريس عند ابن ماجه (912) و: "9- أبو عوانة عند الطبراني 22/ 90"؛ فإن هذين لا يجوز حشرهم مخالفين لرواية زائدة؛ لأنهما لم يذكرا الإشارة مطلقاً، وذلك يدل أنهم اختصروا الحديث، خلافاً للذين
_________
(1) وهو في ذلك مقلد لمؤلف رسالة "البشارة في شذوذ تحريك الأصبع في التشهد" التي كنت رددت عليها في "تمام المنة".(7/552)
أثبتوها، وهم التسعة الباقون، فكما لا يجوز معارضتهم بروايتهما، فكذلك لا يجوز معارضة رواية زائدة بهما! وذلك؛ لأن معه- كالتسعة- زيادة علم، وزيادة الثقة مقبولة كما هو ظاهر معروف عند أهل العلم.
إذا تبين هذا؛ فلننظر في روايات التسعة الباقين وألفاظهم، فإننا سنجد فيهم
من وافق زائدة على روايته التحريك من حيث المعنى، وإن اختلفت ألفاظهم، ولست أدري إذا كان عدم سرده إياها كان عن عمد أو جهل، وأحلاهما مر! فأقدَّم أسماءهم مع التخريج حسبما جاء في رسالته، معقّباً لها بألفاظهم المشار إليها:
الأ ول: " 4- أبو الأ حوص سلاَّم بن سُليمٍ عند الطيالسي (1020) ، والطبراني (22/80) ".
فأقول: لفظه عند المذكورين: "وجعل يدعو"، زاد الطيالسي: "هكذا يعني:
بالسبابة، يشير بها".
الثاني: "8- زهير بن معاوية عند أحمد (4/318) ، والطبراني (22/84) ".
قلت: ولفظهما: "ثم رأيته يقول هكذا، ورفع زهير بإصبعه المسبَّحة".
الثالث: " 11- بشر بن المُفضَّل عند النسائي (3/ 35- 36) ".
قلت: ولفظه: ورأيته يقول هكذا؛ وأشار بشر بالسبابة من اليمنى وحلَّق
الإبهام والوسطى".
ورواية بشر هذه: أخرجها ابن خزيمة أيضاً في "صحيحه " (1/353/713) مقرونة برواية عبد الله بن إدريس بلفظ:
"ثم حلَّق، وجعل يشير بالسباحة يدعو".(7/553)
قلت: فهذه الألفاظ من هؤلاء الثقات الأربعة تؤيد رواية زائدة، وتؤكد صحتها وبطلان إعلال هؤلاء المتأخرين لها بالشذوذ، وذلك؛ لأن قول زهير وبشر:
"يقول هكذا": هو بمعنى رواية أبي الأحو ص وابن إدريس: "يشير"؛ لأنه فعل مضارع يفيد التكرار عند العارفين باللغة العربية وآدابها، كما هو الشأن في قول زائدة: "يحرِّكها"، ولذلك؛ أنكرها المتأخرون المشار إليهم آنفاً، فكذلك قول هؤلاء الثقات: "يشير"؛هو فعل مضارع يفيد تكرر الإشارة ولا فرق، فهو بمعنى"يحرك "، وهذا ظاهر جداً، فلا أدري كيف خفي ذلك على المنكرين للتحريك؟! وإن مما يؤكد ما ذكرت: زيادة أبي الأحو ص، وكذا بشر عند ابن خزيمة: "وجعل.. يشير بها"؛فإنه أصرح في الدلالة على الإشارة والتحريك، وهذا ظاهر أيضاً.
والخلاصة: أن حديث وائل من رواية زائدة في التحريك صحيح، وله متابعون ثقات في معناه، وأن الذين أعلوه بالشذوذ تغافلوا عن روايات الثقات الموافقة له، وعن إفادة الفعل المضارع الاستمرار، كما تجاهلوا تصحيح الأئمة المتقدمين له، واستعلوا عليهم! وادعوا علم ما لم يعلموا!
ومن الغريب حقاً: أن تلميذ الشيخ شعيب المومى إليه- والذي يتبجّح بالتتلمذ
عليه والعمل تحت إشرافه وتوجيهه- قد خالف في هذا الحديث شيخه أيضاً! فإن
هذا قد قال في تعليقه على حديث زائدة هذا في "صحيح ابن حبان " (5/171) : "إسناده قوي "! ولم يعله بالشذوذ، وهو الحق!
فلا أدري أتراجع الشيخ عن هذه التقوية إلى رأي التلميذ وجهله، أم أصابه منه
ما أصابه من تلميذه الآخر (حسان عبد المنان) من المخالفة في عشرات الأحاديث التي ضعفها من "رياض الصالحين "، وذكر في أعقابها أن الشيخ وافقه عليها، مع أن بعضها قد صححها أيضاً في بعض تعليقاته؟!
ذلك مما ستكشفه الأيام.(7/554)
وانظر بعض الأحاديث الصحيحة التي ضعفها (حسان) هذا بجهل بالغ في الاستدراك رقم (6و11و13) في آخر المجلد الثاني من "سلسلة الأحاديث الصحيحة" الطبعة الجديدة، والاستدراك (14) ، فتحته حديث آخر صحيح ضعفه المسمى ب (عادل) بجهل بالغ يدل على أنه لا فقه عنده.
(تنبيه) : ثم وقفت على حديث خُفاف بن إيماء في "مسند أبي يعلى"
(2/207- 208) من طريق يزيد بن عياض عن عمران بن أبي أنس عن أبي القاسم مقسم مولى بني ربيعة عن الحارث قال:
صليت في مسجد بني غفار، فلما جلست؛ جعلت أدعو وأشير بإصبع واحدة، فدخل عليَّ خفاف بن إيماء الغفاري وأنا كذلك، فقال: ... فذكر الحديث.
فقال المعلق عليه- بعد أن ضعفه بيزيد بن عياض، وخرجه من رواية أحمد والبيهقي-:
"وهو إسناد ظاهره أنه منقطع، غير أن الرواية التي عندنا هنا لعلها تُعِينُ في
تعيين الرجل المجهول وأنه ابن خُفاف، فإذا كان الأمر كذلك يكون الإسناد صحيحاً"!
كذا قال! وهو عجيب غريب لأمور:
أولاً: ليس في الإسناد التصريح بأن الحارث هو ابن خفاف، بل الظاهر أنه
غيره؛ إذ لو كان كذلك لقال: "دخل علي أبي خُفافٌ" أو نحوه، ولم يكن مقبولاً
منه قوله: "صليت في مسجد بني غفار" وهو غفاري!
ثانياً: لو كان فيه التصريح بأنه ابن خفاف؛ لم يكن الإسناد صحيحاً، كيف
وفيه يزيد بن عياض وقد ضعفه؟!(7/555)
ثالثاً: إن اقتصاره على تضعيف يزيد فيه تساهل واضح؛ فإن الرجل أسوأ
حالاً؛ فقد تركه النسائي وغيره، وقال الحافظ في "التقريب ":
"كذبه مالك وغيره ". *
3182- (كان إذا حزبَه أمرٌ، قال: يا حيُ! يا قيُّومُ! برحمتِكَ
أستغيثُ) .
أخرجه الترمذي (9/185/3524) ، وابن السني في "عمل اليوم والليلة "
(109/332) - واللفظ له- من طريق يزيد الرّقاشي عن أنس بن مالك قال: ... فذكره. وقال الترمذي:
"حديث غريب ".
قلت: وعلته يزيد هذا- وهو ابن أبان-، وهو ضعيف كما في "الكاشف "
و"التقريب "، مع صلاحه وعبادته.
لكن له شاهد من حديث عبد الله بن مسعود قال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل به هم أو غم قال: ... فذكره.
أخرجه الحاكم في "المستدرك " (1/509) ، ومن طريقه البيهقي في "الدعوات الكبير" (127/ 170) ، من طريق النضر بن إسماعيل البجلي: ثنا عبد الرحمن بن إسحاق: ثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عنه. وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد". ورده الذهبي بقوله:
"قلت: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، وعبد الرحمن ومن بعده ليسوا
بحجة".(7/556)
وتعقبه المعلق عليه بقوله:
"أقول: ذكره في "التقريب "، فقال: ثقة من صغار الثانية (التابعين) ، مات
سنة تسع وسبعين، وقد سمع من أبيه، ولكن شيئاً يسيراً. وقال في ترجمة ابنه القاسم: ثقة عابد من الرابعة. فكيف يصح إطلاق الذهبي عدم حُجِّيّتِهم؟ الحسن النعماني ".
قلت: يرد عليه أمران:
الأول: أنه لا يصح الاعتراض بقول الحافظ ابن حجر على الذهبي، لجواز أن يكون الراجح عنده عدم سماع عبد الرحمن من أبيه؛ فإن الحفاظ مختلفون فيه،
وإن كان الراجح ما ذكره الحافظ.
والآخر: أن النعماني لم يفهم كلام الذهبي؛ فإن قوله: "وعبد الرحمن ومن
بعده ليسوا بحجة" لا يعني عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وإنما عبد الرحمن ابن إسحاق- وهو أبو شيبة الواسطي-؛ فقد قال فيه في "الكاشف " وغيره:
"ضعفوه ".
والراوي عنه: النضر بن إسماعيل البجلي قال فيه في "الكاشف ":
"ليس بالقوي ". وكذا قال الحافظ في "التقريب ".
وانظر تعليق الأخ بدر على "الدعوات ".
ويشهد للحديث ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة رضي الله عنها أن تقول إذا
أصبحت وإذا أمست:
"يا حي! يا قيوم! برحمتك أستغيث، وأصلح لي شأني كله، ولا تكلني(7/557)
إلى نفسي طرفة عين أبداً".
رواه النسائي وغيره بسند حسن، وصححه المنذري، وقد مضى تخريجه برقم (227) .
(تنبيه) : أورد شيخ الإسلام ابن تيمية حديث الترجمة في "الكلم الطيب "
(رقم 118) بلفظ ابن السني معزوّاً للترمذي، وإنما هو عنده بلفظ: "كربة"، وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم في "الوابل الصيب " (235) ! وسكت عليه- وعن الكشف عن علته-: الشيخ الأنصاري كما هي عادته! وكذلك فعل الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في طبعته ل "أذكار النووي " (ص102) ، لكن الحديث فيه بلفظ الترمذي معزواً إليه؛ إلا أنه قال عقبه:
"قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد"!
ولم أره في "مستدركه "، وأظنه التبس عليه بحديث فاطمة المذكور آنفاً؛ فإنه
من حديث أنس أيضاً، لكنه من طريق آخر عنه.
ثم رأيت ابن علان قد نقل في "شرح الأذكار" (4/5) عن الحافظ ما يدل
على وهم النووي، فراجعه إن شئت. *
3183- (إذا سمعتُم صياحَ الدِّيكة [بالليلِ] ؛فاسألوا الله من
فضلهِ، [وارغبُوا إِليه] ؛ فإنّها رأت ملَكاً، وإذا سمعتُم نهيقَ الحمارِ [بالليلِ] ؛ فتعوَّذُوا باللهِ من الشيطانِ؛ فإنهُ رأى شيطاناً) .
أخرجه البخاري (3303) ومسلم (8/85) وأبو داود (5105) والترمذي (3455) ، والنسائي في "السنن الكبرى" (6/427/11391) و"عمل اليوم والليلة " (رقم 944) ، وابن أبي شيبة (10/420/9854) كلهم من طريق قتيبة بن سعيد:(7/558)
ثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكره. وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح ".
قلت: وتابع قتيبة: سعيدُ بن أبي مريم عند البغوي في "شرح السنة"
(5/126/ 1334) ، وقال:
"حديث متفق على صحته، أخرجاه جميعاً عن قتيبة عن الليث ".
وتابعه آخرون من الثقات، وزادوا عليه تلك الفوائد الهامة التي تراها بين المعكوفات، وهاك البيان:
الأول: شعيب بن حرب المدائني، وهو ثقة احتج به البخاري، قال أحمد (2/364) : حدثنا شعيب بن حرب أبو صالح- بمكة- قال: ثنا ليث بن سعد به؛ وزاد الزيادة الأولى والثالثة.
الثاني: هاشم بن القاسم أبو النضر البغدادي، وهو ثقة ثبت احتج به الشيخان،
قال أحمد أيضاً (2/306) : ثنا هاشم: ثنا ليث به، وعنده الزيادة الأولى.
الثالث: عبد الله بن صالح أبو صالح كاتب الليث، وهو مستقيم الحديث
فيما روى عنه البخاري وأمثاله من الحفاظ، وروى عنه في "الصحيح "، قال في "الأدب المفرد" (رقم 1236) : حدثنا عبد الله بن صالح: حدثني الليث به، وزاد الزيادة الأولى.
قلت: فاتفاق هؤلاء الثقات الثلاثة على الزيادة الأولى مما يلقي الطمأنينة في النفس على صحتها، حتى ولو فرض تفرد هاشم بها؛ لأنه ثقة ثبت كما تقدم،(7/559)
بناءً على قاعدة: "زيادة الثقة مقبولة"، فكيف ومعه من ذكرنا؟! فكيف ولها شاهد من حديث جابر كما يأتي بعده؟!
وأما الزيادة الثالثة؛ فهي وإن كان تفرد بها شعيب بن حرب دون الآخرين؛
فهي زيادة لفظية؛ لأن السياق مع الزيادة المتفق عليها يؤيد معناها، فتأمل.
وأما الزيادة الثانية؛ فقد تفرد بها ثقة آخر، وهو سعيد بن أبي أيوب، وهو ثقة
ثبت أيضاً احتج به الشيخان، فقال الإمام أحمد (2/ 321) : ثنا أبو عبد الرحمن:
ثنا سعيد: حدثني جعفر بن ربيعة به.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وأبو عبد الرحمن هو عبد الله
ابن يزيد المكي المقرئ، وهو ثقة فاضل من كبار شيوخ البخاري.
ومن طريقه: أخرجه ابن حبان (2/175/ 1001) وأبو يعلى (11/148) وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (306) .
وقد أخرجه النسائي في "عمله " (943) من طريق أخرى عن سعيد؛
مقروناً بالليث بالزيادة الأولى، فقال: أخبرنا وهب بن بيان قال: حدثنا الليث
ابن سعد وسعيد بن أبي أيوب عن جعفر بن ربيعة به مثل حديث الترجمة،
وفيه الزيادة الأولى.
وهذه متابعة قوية للثقات الثلاثة المتقدمين في هذه الزيادة، وكان الأولى أن
تذكر عقبهم مباشرة، ولكن هكذا قُدِّرَ.
وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير وهب بن بيان،
وهو ثقة.(7/560)
(تنبيه) : قد تبين لك من تخريج الحديث أن زيادة: "الليل " فيه من أفراد
"الأ دب المفرد " وغيره دون "الصحيحين "، ولذلك؛ فعزو محمد فؤاد عبد الباقي إياه في تعليقه على "الأدب " ل"الصحيحين " من أوهامه الكثيرة التي تدل على أنه لا علم عنده بفن التخريج، وقد وهم الجيلاني شارح "الأدب " (2/637) فعزاه ل "الخمسة "، ويعني: الستة دون ابن ماجه، وهذا أغرق في الوهم من ذاك؛ لأن الزيادة ليست عندهم جميعاً كما تقدم.
ونحوه ما فعله المعلق على ".. صحيح ابن حبان " (3/286) ؛ فإنه خرَّج
الحديث معزوّاً لأكثر المصادر المتقدمة مشيراً إلى مواضعها بالأرقام، ومنها الخمسة، موهماً أن زيادة ابن حبان: "وارغبوا إليه " عندهم أيضاً! وليس كذلك؛ كما سبق. ولذلك؛ قررت أن أستدرك الحديث لهذه الزيادة، فَأُورِدها في "صحيح موارد الظمآن "، حيث إن الهيثمي لم يورده في "الموارد"؛لأن أصله في "الصحيحين "؛ والله أعلم. *
3184- (إذا سمعتُم نُباحَ الكلبِ بالليل أو نُهاقَ الحميرِ؛ فتعوّذوا
باللهِ؛ فإنَّهم يرون ما لا ترون.
وأقلّوا الخروج إذا هدَأتِ الرِّجلُ؛ فإنّ الله يبُثُّ في ليلهِ من خلقِه ما يشاء.
وأجيفُوا الأبوابَ، واذكرُوا اسم الله عليها؛ فإن الشيطان لا يفتحُ
باباً أُجيفَ وذُكرَ اسمُ اللهِ عليه.
وغطُّوا الجرار، وأكفِئُوا الآنية، وأؤكُوا القِربَ) .
أخرجه أبو يعلى في"مسنده " (4/ 210- 211) ، ومن طريقه: ابن حبان
(5493) : حدثنا عبيد الله بن عمر: حدثنا يزيد بن زُريع: حدثنا محمد بن(7/561)
إسحاق قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث عن عطاء بن يسار عن جابر ابن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير محمد بن إسحاق وهو صاحب "السيرة"، وهو مدلس، ولكنه قد صرح في رواية يزيد بن زريع عنه بالتحديث، ويزيد ثقة ثبت، وهذه فائدة لم أكن وقفت عليها يوم خرجت فقرة الخروج في المجلد الرابع من هذه السلسلة (1518) ، فقد خرجته هناك من رواية جمع منهم الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ومن الغريب أن المعلق على "مسند أبي يعلى"- الذي صحح هذا الإسناد-
لم يكن تنبه لتحديث ابن إسحاق في موضع آخر رواه أبو يعلى برقم (2221) عنه بالعنعنة، فأعله المومى إليه بالعنعنة! فكان عليه أن يشير إلى روايته الأخرى الآتية في "المسند" مصرحاً بالتحديث، ولكن جلَّ من لا ينسى.
والشطر الثاني من الحديث له طرق أخرى عن جابر، بعضها في"الصحيحين "، خرجتها في "الإرواء" (1/ 80- 81) ؛فليراجعها من شاء.
وللجملة الأولى منه شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:
"إذا سمعتم نهيق الحمار، ونُباح الكلب، وصوت ديك بالليل؛ فتعوذوا بالله
من شر الشيطان؛ فإنهم يرون ما لا ترون ".
أخرجه أبو يعلى في "مسنده " (11/187/6296) ، وعنه ابن السني (307)
من طريق يحيى بن أبي سليمان عن سعد بن إبراهيم عن الأعرج عنه.
قلت: ورجاله ثقات؛ غير يحيى هذا؛ وهو ضعيف، بل قال البخاري:
"منكر الحديث ".(7/562)
والنكارة في حديثه هذا ظاهرة؛ حيث جعل صوت الديك بالليل مما يستعاذ
منه! فلعله سقط عنه جملة سؤال الله من فضله. والله أعلم. *
3185- (لا تقومُ السّاعةُ؛ حتّى يقتل الرجلُ جارَه وأخاه وأباه) .
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (رقم 118) : حدثنا مَخلدُ بن مالك
قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء قال: حدثنا بُريد بن عبد الله عن أبي بُردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.
وذكره الديلمي في "مسند الفردوس " (3/168- الغرائب) عن الحاكم معلقاً
عليه بإسناده عن مخلد بن مالك به.
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال البخاري؛ غير عبد الرحمن بن
مغراء، وهو مختلف فيه، قال الذهبي في "الكاشف":
"وثقه أبو زرعة وغيره، ولينه ابن عدي ".
وقال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق تُكُلِّم في حديثه عن الأعمش ".
قلت: وهذا عن غيره كما ترى، فهو جيد كما ذكرنا.
(تنبيه) : ليس عند الديلمي قوله: "جاره وأباه "، وكذلك ذكره السيوطي في
"الجامع الكبير"برواية الحاكم في "تاريخه "! ففاته هذا المصدر العالي الموثوق به، وبتحري مؤلفه الإمام البخاري، وهذا النص الأتم! وكذلك فات ذلك المعلق على " الفردوس " (5/ 81/ 7520) . *(7/563)
3186- (من صلّى صلاةً لم يُتِمَّها؛ زِيدَ عليها مِن سُبُحاتِه حتّى تتِمَّ) . أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (18/22- 23) : حدثنا عبد الله بن أحمد
بن حنبل: ثنا الهيثم بن خارجة: ثنا محمد بن حِميرٍعن عمرو بن قيس
السَّكوني قال: سمعت عائذ بن قُرطٍ يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال البخاري- على كلام يسير في
محمد بن حمير-؛ غير عبد الله بن أحمد، وهو ثقة حافظ.
والحديث عزاه الحافظ في ترجمة عائذ بن قرط من "الإصابة" للبغوي أيضاً، وابن أبي خيثمة، وابن شاهين من طريق قيس بن مسلم السكوني عن عائذ بن قرط به، وقال:
"وإسناده حسن ".
كذا وقع فيه: "قيس بن مسلم " مقلوباً محرفاً! ولعله من الطابع إن لم يكن
سبق قلم من المؤلف.
وقال الهيثمي في "المجمع " (1/ 291) :
"رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات. وعن عبد الله بن قرط قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... (قلت: فذكر الحديث وقال:) رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات ".
فأقول: لم يطبع بعدُ مسند عبد الله بن قرط من "كبير الطبراني " لننظر في إسناده، وأظنه هو الذي في كتاب الطبراني الآخر: "مسند الشاميين "؛ فقد قال
فيه (2/493- المصورة) : حدثنا أحمد بن المُعَلَّى الدمشقي: ثنا هشام بن عمار:(7/564)
ثنامحمد بن حمير: ثنا عمرو بن قيس الكندي عن عبد الله بن قرط به.
قلت: والقول في هذا الإسناد نحو القول في الذي قبله؛ ذلك أن رجاله
رجال البخاري أيضاً؛ غير أحمد بن المعلى الدمشقي ثقة مترجم في "التهذيب " كعبد الله بن أحمد؛ وإنما قلت: "نحو ... "؛ لأن هشام بن عمار مع كونه من
رجال بل من شيوخ البخاري في "الصحيح "؛ ففيه كلام كثير، يقرِّبه لك قول الذهبي في "المغني ":
"ثقة مكثر، له ما ينكر، قال أبو حاتم: صدوق قد تغير، وكان كلما لُقِّنَ
تلقن. وقال أبو داود: حدث بأرجح من أربع مئة حديث لا أصل لها".
وقال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق، مقرئ، كبِر فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح ".
فأقول: من أجل هذا التلقن، فإني لا أستطيع الحكم على إسناده بالصحة، وبخاصة وقد خالف الهيثم بن خارجة الثقة في قوله في اسم صحابي الحديث:
"عبد الله بن قرط "، والهيثم قال: "عائذ بن قرط "، وهو الصواب.
ولعل ابن عبد البر- حافظ الأندلس- لم يقف إلا على طريق هشام هذا؛ فإنه ذكره في "التمهيد" (24/81) من طريق محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكوني عن عبد الله بن قرط به، وقال:
"هو عندي حديث منكر، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه، وليس بالقوي ".
قلت: ولا وجه لهذا الإنكار عندي؛ إلا إن كان وقع لديه من طريق هشام، وإلا؛ فالطريق الأولى سالمة منه، إلا إن كان يعتد بما قيل في محمد بن حمير من(7/565)
الكلام اليسير، فإن كان كذلك فلا وجه له كما تقدم؛ فإنه لا ينزل به عن مرتبة الاحتجاج به ولو بمرتبة الحسن كما تقدم عن الحافظ؛ وبخاصة أن للحديث
شواهد من حديث أبي هريرة وتميم الداري وغيرهما، وهي مخرجة في "صحيح أبي داود" (810- 812) .
ثم بدا لي شيء في الإنكار المذكور، وهو أن ابن عبد البر ساق الحديث بلفظ:
"من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده وخشوعه؛ زيد فيها من سبحاته حتى تتم "، فزيادة الركوع والسجود والخشوع فيه لم ترد في الشواهد المشار إليها آنفاً، فلعله لذلك أنكرها. والله أعلم.
على أنه قال عقب إنكاره المذكور:
"وإن صح كان معناه أنه خرج من صلاته- وقد أتمها عند نفسه، وليست في الحكم تامة- والله أعلم، على أنه قد كان يلزمه أن يتعلم، فإن عُذِّبَ عذب على ترك التعلم، وإن عفي عنه، فالله أهل العفو وأهل المغفرة".
وقد ذكر ابن عبد البر قبل ذلك فائدة فقهية عزيزة، لم أستجز إلا نقلها إلى القراء لتمام الفائدة، قال رحمه الله:
"أما إكمال الفريضة من التطوع؛ فإنما يكون ذلك- والله أعلم- فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أو لم يحسن ركوعها ولم يدر قدر ذلك، وأما من تعمد تركها، أو نسي، ثم ذكرها، فلم يأت بها عامداً، واشتغل بالتطوع عن أداء فرضه، وهو ذاكر له؛ فلا تكمل له فريضته تلك من تطوعه. والله أعلم ". *
3187- (إني عُوتبتُ الليلة في الخيلِ) .
أخرجه مالك في "الموطأ" (2/23) عن يحيى بن سعيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(7/566)
رؤي وهو يمسح وجه فرسه بردائه، فسئل عن ذلك؟ فقال: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد مرسل، بل معضل؛ فإن يحيى بن سعيد- وهو الأنصاري البخاري القاضي- لم يسمع من صحابي غير أنس؛ كما قال ابن المديني. ولهذا
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (24/100) :
"هكذا الحديث في "الموطأ" عند جماعة رواته؛ فيما علمت، وقد روي عن
مالك مسنداً عن يحيى بن سعيد عن أنس؛ ولا يصح ".
ثم ساقه من طريق النَّضرِ بنِ سلمَة: حدثنا عبد الله بن عمرو الفِهري: حدثنا
مالك: سمعته يقول: سمعت يحيى بن سعيد يحدث عن أنس مرفوعاً به.
قلت: سكت عنه ابن عبد البر لظهور ضعفه؛ الفهري هذا لم أعرفه.
والنضر بن سلمة: هو المروزي، كان مقيماً بمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: بمكة.
قال أبو حاتم:
"كان يفتعل الحديث ".
واتهمه غير واحد بالكذب، فهو آفة هذا المسند.
وذكره الحافظ في "المطالب العالية " (2/158/1929) من رواية مُسدَّدِ عن
يحيى بن سعيد الأنصاري عن رجل قال: ... فذكره، وقال الشيخ الأعظمي
تعليقاً عليه:
"قال البوصيري: رواته ثقات "!
قلت: كيف هذا والرجل لم يُسمَّ؟! ولعله توهم أنه صحابي؛ وليس كذلك؛
فقد رواه سعيد بن منصور في "سننه " (3438) عن ابن عيينة، والدمياطىُّ في(7/567)
"فضل الخيل " (ص 37) من طريق عبََّاد- وهو ابن العوََّام- كلاهما عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث.
قلت: فالرجل الذي لم يُسَمَّ عند مسدد: هو مسلم بن يسار هذا، والظاهر أنَّه البصري الأموي المكي الفقيه، وهو تابعي ثقة، فهو مرسل.
وروي مرسلاً من وجه آخر؛ فقال الطيالسي في "مسنده " (1059) : حدثنا
جرير بن حازم قال: حدثنا الزُّبيرُ بن الخِرّيتِ الأزدي: حدثني نُعيمُ ابن أبي هند الأشجعي قال:
رؤي النبي- صلى الله عليه وسلم - يمسح خدَّ فرس، فقيل له في ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه واله وسلم:
"إن جبريل عاتبني في الفرس ".
ومن طريق الطيالسي: أخرجه ابن عبد البر (24/ 101) ، وأبو داود في "المراسيل " (228/ 291) من طريق موسى بن إسماعيل: حدثنا جرير به.
قلت: وهذا إسناد صحيح مرسل، ولكنه من مراسيل الكوفيين، فإن نُعَيماً
هذا كوفي، فلعله يعطي قوة للذي قبله؛ لاختلاف بلديهما وشيوخهما، ولا سيما
أنه قد جاء مسنداً؛ فقال أبو بشر يونس بن حبيب- وهو راوي "مسند الطيالسي "
- قال عقب الحديث: أنبأ أحمد بن الفرات عن مسلم بن إبراهيم عن سعيد بن
زيد عن الزبير بن خريت عن نعيم بن أبي هند عن عروة- يعني: عروة البارقي-، وفي"مسنده"ساقه، ولذلك؛ وهم الحافظ ابن حجر حين عزاه للطيالسي في "المطالب "! وقد قال في ترجمة سعيد بن زيد من "التقريب ":
"صدوق له أوهام ".(7/568)
قلت: فيخشى أن يكون إسناده لهذا الحديث من أوهامه، وبخاصة أن محمد
ابن أبي نُعَيم قال: ثنا سعيد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن نعيم بن أبي هند عن عروة بن أبي الجعد قال:
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتل ناصية فرسه بين إصبعيه وقال:
"الخيل بنواصيها الخير إلى يوم القيامة".
فلم يذكر حديث الترجمة.
هكذا أخرجه بحشل في "تاريخ واسط " (ص 48) بالسند الصحيح عنه؛
لكن محمد بن أبي نعيم فيه كلام، فلا يعارض بروايته رواية مسلم بن إبراهيم
- وهو الفراهيدي الثقة- المتقدمة، وفيها حديث الترجمة.
نعم؛ قد صح حديث محمد بن أبي نعيم من طريق أخرى عن جرير بن
عبد الله قال:
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوي ناصية فرس بإصبعه ويقول:
"الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة".
أخرجه مسلم (6/ 31- 32) وأبو عوانة (5/ 1 1) والنسائي (2/ 0 2 1) وفي "الكبرى" (3/38/4414) وابن أبي شيبة في "المصنف " (12/ 481) ومن طريقه البيهقي في " السنن " (6/ 326) وأحمد (4/ 361) والطبراني في
" الكبير" (2/385/2409) وابن عبد البر في "التمهيد" (24/103) كلهم من طريق يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير بن عبد الله به.(7/569)
وأخرج الطرف الأول منه: الحارثُ بن أبي أسامة في"مسنده " (ق 80/1- 2)
بلفظ:
"رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح وجه فرسٍ بكمِّه ".
كذا قال: "بكمه "! وهو شاذ مخالف لرواية الحفاظ المذكورين آنفاً، ولعله
لذلك أورده الحافظ في "المطالب" (1931) ؛لكن وقع فيه: "عن أبيه"مكان قوله: "عن جرير"، وهو شاذ أيضاً، أو مجاز، وخفي ذلك على المعلق الأعظمي، فزاد
- بعد قوله: "عن أبيه "-: " [عن جده] "، وعلق عليها بقوله:
"الإضافة مني؛ لأن الحديث في "الإتحاف ": عن جرير بن عبد الله "!
فأقول: نعم، الحديث عن جرير، ولكنك بهذه الزيادة جعلت الحديث من
رواية أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبيه (وهو عمرو بن جرير) عن جده جرير، ولا أصل لرواية أبي زرعة عن أبيه عمرو في هذا الحديث ولا في غيره! فهكذا فليكن "تحقيق الأستاذ المحقق حبيب الرحمن الأعظمي "!
فلنسق الآن إسناد الحارث بن أبي أسامة لتتأكد من بطلان تلك الزيادة،
قال: حدثنا العباس بن الفضل: ثنا عبد الوارث بن سعيد: ثنا يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبيه جرير قال ...
قلت: فأنت ترى أن "جرير" بدل من "أبيه "، فليس للأب الحقيقي عمرو بن سعيد ذكر في هذا الإسناد، فقوله: "أبيه " في هذا الإسناد إما مجاز كما تقدم،
وهو ظاهر من جعله"جرير"بدلاً منه، وإما خطأ من الراوي؛ وهو شيخ الحارث: العباس بن الفضل؛ وهو الأنصاري الواقفي؛ فإنه متفق على تضعيفه، بل قال الذهبي في "الكاشف ":
" واهٍ ".(7/570)
وقال الحافظ في"التقريب ":
"متروك، واتهمه أبو زرعة ".
ويمكن أن يكون الخطأ من الأصل، أعني: "مسند الحارث "أو من "زوائده" للهيثمي، ومنه نقلت، ويرجّح الأول إيرادُ الحافظ إياه في "المطالب " كما تقدم، لقوله: "عن أبيه "، إشارة منه إلى أنه خطأ؛ لكن يعكِّر عليه أمران:
أحدهما: أن الحافظ لم يقل عقبه "جرير" كما هو في "الزوائد" كما
تقدم.
والآخر: أن أبا عوانة قد رواه بعدة روايات عن يونس بن عبيد، منها قوله:
"حدثنا الحارث بن أبي أسامة.. " فساق إسناده إلى يونس دون سائره؛ غير أنه قال:
"حديث الفريابي عن الثوري ".
قلت: وحديث الثوري كحديث الآخرين عن يونس، ليس فيه ذكر الأب،
فلا أدري أكذلك هو عند الحارث في رواية أبي عوانة عنه، أو أن هذا غضَّ النظر عن ذاك الخطأ لظهوره؟!
ويؤيد الخطأ: أنه وقع عند ابن عبد البر من طريق عبد الوارث- شيخ العباس
ابن الفضل- على الصواب. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا؛ وحديث جرير المرفوع من قوله - صلى الله عليه وسلم - دون: "الأجر والغنيمة "؛- قد جاء
في"الصحيحين"وغيرهما من حديث جمع آخر من الصحابة؛ منهم عروة البارقي
وابن عمر وغيرهم. *(7/571)
3188- (إنَّكم تَلقَونَ بَعدي فِتنةً واختلافاً- أو قال: اختلافاً وفتنةً-، فقال له قائلٌ من الناس: فمن لنا يا رسولَ اللهِ؟! قال: عليكم بالأمينِ وأصحابهِ، وهو يشيرُ إلى عثمان بذلك) .
أخرجه الحاكم (3/99 و 4/433- 434) ، وأحمد (2/345) من طريق وُهَيب
ابن خالد: ثنا موسى بن عقبة قال: حدثني جدي أبو أمي (وفي رواية للحاكم: ثنا موسى ومحمد وإبراهيم بنو عقبة قالوا: ثنا أبو أمنا) أبو حبيبة: أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... فذكره.
وقالت الحاكم في الموضعين:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي.
قلت: ورجاله ثقات رجال الصحيح؛ غير أبي حبيبة هذا، وقد ذكره ابن حبان
في كنى "ثقات التابعين " (5/591) ، وقال العجلي في "ثقاته " (495/1929) :
"مدني تابعي ثقة".
وقد وقع فيه أنه مولى عروة، ولعله وراثة، فإنه مولى الزبير بن العوام والد عروة، كما في "تاريخ البخاري " (الكنى 24/ 184) ، و"الجرح " (4/ 2/359) وغيرهما، وأفادا أنه روى عنه أبو الأسود أيضاً: محمد بن عبد الرحمن، وهو ثقة من رجاله الشيخين كموسى بن عقبة، ومثله في الثقة أخواه المقرونان معه في رواية الحاكم، وهما من رجال مسلم، وقد ذكر الثلاثة الإخوة أبو أحمد الحاكم في "الأسماء والكنى" رواة عن أبي حبيبة، فهؤلاء أربعة من الثقات رووا عنه، مع كونه تابعياً، فهو ثقة إن شاء الله تعالى.(7/572)
والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (12/ 50/ 12098) من طريق أخرى عن موسى بن عقبة وحده.
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" (7/209) :
"تفرد به أحمد، وإسناده جيد حسن، ولم يخرجوه من هذا الوجه ".
قلت: وهو من الأحاديث التي فاتت الحافظ الهيثمي، فلم يوردها في "مجمع الزوائد"! مع أنه على شرطه كما يشير إلى ذلك قول ابن كثير هذا. *
3189- ( [إنكم] أصبحتُم في زمانٍ كثيرٍ فقهاؤُه، قليلٍ خطباؤُه،
قليلٍ سُؤّاله، كثيرٍ معطوهُ، العملُ فيه خيرٌ من العِلمِ.
وسيأتي زمانٌ قليلٌ فقهاؤُه، كثيرٌ خطباؤُه، كثيرٌ سُؤّاله، قليلٌ
مُعطوهُ، العلمُ فيه خيرٌمن العمل) .
أخرجه الطبراني في"المعجم الكبير"وفي "مسند الشاميين " (2/ 221/1225) : حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم: ثنا عمرو بن أبي سَلمَة التِّنِّيسِي: ثنا صدقة بن عبد الله: حدثني زيد بن واقد عن حَرام بن حكيم عن عمه عبد الله ابن سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد ضعيف " كما قال العراقي في "تخريج الإحياء" (1/7) ،
وله علتان:
الأولى: صدقة بن عبد الله، وهو السَّمين، وهو ضعيف؛ كما قال الذهبي في "الكاشف"، والحافظ في"التقريب"، وبه أعله الهيثمي في"مجمع الزوائد" (1/127) .(7/573)
والأخرى: عبد الله بن أبي مريم هذا، أورده ابن عدي في "الكامل "، وقال
(4/ 5 25-256) :.
"مصري، يحدث عن الفريابي وغيره بالبواطيل ".
قلت: ثم ساق له أربعة أحاديث، ثلاثة منها معروفة الصحة من غير طريقه،
ثم قال:
" وعبد الله هذا إما أن يكون مغفَّلاًًً لا يدري ما يخرج من رأسه، أو يتعمد؛
فإني رأيت له غير حديث- مما لم أذكره- غير محفوظ ".
وأقول: لم أخرجه هنا من أجله، وإنما من أجل ما له من الشواهد؛ كما
يأتي، ولمصداقيته ومطابقة ما فيه للواقع في هذا الزمان.
والحديث أخرجه ابن عبد البر في "الجامع " (1/23) من طريق أخرى عن
عبد الله هذا.
وأخرجه الخطيب في "الموضح " (1/108- ط) ، وكذا ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (4/313- 314- المصورة) من طريق الطبراني.
ثم وجدت له طريقاً أخرى في"معجم الطبراني" (3/ 221/ 3111) من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن صدقة عن زيد بن واقد عن العلاء بن الحارث عن حِزام بن حكيم بن حزام عن أبيه، مرفوعاً به. وقال الهيثمي:
"رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، وهو
ثقة، إلا أنه قيل فيه: يروي عن الضعفاء، وهذا من روايته عن صدقة بن خالد، وهو من رجال (الصحيح) ".(7/574)
قلت: وفي التعليق على "المجمع " ما نصه:
" (فائدة) : بل صدقة المذكور في إسناده هو ابن عبد الله السمين، وهو ضعيف جدّاً. كما في هامش الأصل ".
قلت: وأنا أظن أن هذه الفائدة هي من الحافظ ابن حجر تلميذ الهيثمي، وكذلك كل ما يعزى في التعليقات إلى"هامش الأصل"، وقوله: "ضعيف جداً"
يخالف اقتصاره على قوله في "التقريب ": "ضعيف "؛كما تقدم نقله عنه، وهو الأقرب إلى الصواب؛ لأن الرجل مختلف فيه، وقد وثقه بعضهم، وترجمته
مبسَّطة في "تاريخ دمشق " لابن عساكر، و"التهذيب " وغيرهما.
ثم إنه ليس في السند ما يرجح أنه صدقة بن عبد الله السمين؛ فإن هذا
وصدقة بن خالد كلاهما روى عن زيد بن واقد، ولم يذكروا في ترجمة السمين
أنه روى عنه الطرائفي، وكون هذا يروي عن الضعفاء لا يكفي للترجيح؛ لأنه قد روى عن الثقات أيضاً، منهم الإمام مالك مثلاً، فتأمل!
هذا؛ وللحديث شاهد من حديث أبي ذر مرفوعاً نحوه، سبق تخريجه،
والكلام عليه، وبيان صحة إسناده في أول المجلد السادس رقم (2510) .
وقد صح موقوفاً من حديث عبد الله بن مسعود، فذكره مالك في"الموطأ" (1/187) عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان:
"إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه.. " الحديث نحوه.
وهذا معضل، وهو مما فات ابن عبد البر في "التمهيد"؛فلم يورده في أحاديث
يحيى بن سعيد، وعددها فيه (77) حديثاً، وهي في آخر المجلد (23) وأول (24)(7/575)
إلى صفحة (119) ، ولا خرَّجه الباجي في "المنتقى" كما هي غالب عادته (1/308-309) !
ووصل الطرف الأول منه: زهير بن حرب في "العلم " (135/109) من طريق كُميل بن زياد عن عبد الله قال:
"إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وإن بعدكم زماناً كثير خطباؤه والعلماء فيه قليل ".
وإسناده صحيح؛ كما كنت بينته في التعليق على "العلم ".
وله عنه طريق أخرى بسياق أتم عند البخاري في"الأدب المفرد"، قال (205/789) : حدثنا عبد الله بن أبي الأسود قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا الحارث بن حَصِيرة قال: حدثنا زيد بن وهب قال: سمعت ابن مسعود يقول: ... فذكره إلى قوله: "كثير معطوه "، وزاد:
"العمل فيه قائد للهوى، وسيأتي من بعدكم زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، كثير سُؤَّاله، قليل معطوه، الهوى قائد فيه للعمل، اعلموا أن حسن
الهدي في آخر الزمان خير من بعض العمل ".
قلت: وهذا إسناده جيد رجاله ثقات رجال البخاري؛ غير الحارث بن حصيرة، وثقه الجمهور، وضعفه العقيلي وابن عدي، وقال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق يخطئ، ورمي بالرفض ".
قلت: ومع هذا؛ فقد صحح الحافظ في "الفتح " إسناده، فقد ذكر فيه (10/510) الجملة الأخيرة منه وقال:(7/576)
"وسنده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي ".
قلت: ويؤيده مطابقة ما قبلها للواقع اليوم مما لا يُعلم إلا بالوحي.
وعبد الله بن أبي الأسود هو: ابن محمد بن أبي الأسود البصري أبو بكر، وهو
ثقة حافظ. *
3190- (إنَّ بأرضِ الحبشةِ مَلِكاً لا يُظلمُ أحدٌ عنده، فالحقُوا
ببلادِه حتّى يجعل اللهُ لكم فرجاً ومخرجاً مّما أنتُم فيهِ) .
أخرجه البيهقي في "السنن " (9/9) وفي "الدلائل " (2/ 301) من طريق ابن إسحاق: حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت:
لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفُتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في مَنَعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره؛ مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا ونزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنَّا على ديننا، ولم نخشى منه ظلماً ... وذكر الحديث بطوله.
كذا في "السنن "، وقد ساقه بطوله في أربع صفحات.
والحديث في "سيرة ابن هشام " (1/343) عن ابن إسحاق قال: ... فذكره
نحوه، هكذا معضلاً لم يسق إسناده، ولفظه:
"لو خرجتم إلى أرض الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض
صدق، حتى يجعل الله ... " الحديث.(7/577)
ولكنه ساق إسناده المتقدم عند البيهقي إلى أم سلمة، دون حديث الترجمة،
قالت:
"لما نزلنا أرض الحبشة؛ جاورنا بها خير جارٍ: النجاشي، أمنَّا على ديننا،
وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ... " الحديث بطوله.
وهكذا رواه أحمد في "المسند" (1/ 201 و5/ 290) من طريق ابن إسحاق به، وقال الهيثمي- عقب عزوه لأحمد (6/27) -:
"ورجاله رجال "الصحيح " غير [ابن] إسحاق، وقد صرح بالسماع ".
قلت: فهو إسناد جيد، وقد سكت عنه الحافظ في "الفتح " (7/188) .
ومن هذا التخريج يتبين أن عزو الحديث أو جملة: "لا يظلم عنده أحد" من
الأخ الفاضل سلمان العودة في رسالته المفيدة "من أخلاق الداعية" (ص 45) للإمام أحمد لا يخلو من تساهل! والله ولي التوفيق.
وفي الحديث دلالة ظاهرة على جواز هجرة المسلم من بلد الكفر إذا اشتد الضغط عليه من أهله إلى بلد آخر يجد فيه الحرية الدينية، وليس كذلك ما يفعله بعض الشباب المسلم من السفر من بلده المسلم إلى بعض البلاد الكافرة، لمجرد أنه يجد فيه شيئاً من التضييق أو التعذيب من بعض الحكام الظالمين، فهذا لا يجوز للأحاديث الكثيرة في النهي عن ذلك، كقوله- صلى الله عليه وسلم -: "المسلم والمشرك لا تتراءى نارهما"ونحوه، ولكثرة الفسق والخلاعة المنتشرة في كل مكان من تلك البلاد، بحيث يندر أن لا يتأثر المسلم بذلك، فكيف بأولاده الذين يُرَبّون فيها، ويرضعون لبانتها كما هو مشاهد؟! ولذلك فنحن ننصحهم- ومن أسلم من أهلها- أن يهاجروا إلى بلد من البلاد الإسلامية، يتمكنون فيه من القيام بشعائر دينهم، ويكثِّرون(7/578)
سواد إخوانهم المؤمنين، والله عز وجل يقول: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضغفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ... ) الآية [النساء: 97] . *
3191- (تعوَّذُوا باللهِ من رأس السبعينِ، وإمارةِ الصبيانِ) .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (5/49/19082) ، وأحمد (2/326
و355و 448) ، والبزار (4/126/3358) ، وابن عدي في "الكامل" (6/ 81) من طرق عن كامل أبي العلاء قال: سمعت أبا صالح- مؤذناً كان يؤذن لهم- قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... فذكره، وقال البزار: "لا نعلم رواه عن أبي هريرة إلا أبو صالح هذا ولا نعلم رواه عنه إلا أبو كامل ".
قلت: قال ابن عدي- بعد أن ساق له جملة أحاديث هذا أحدها-:
"أرجو أنه لا بأس به ".
قلت: وهو مختلف فيه، وفي "التقريب ":
"صدوق يخطئ ".
فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى، وإلى ذلك يشير الذهبي بقوله فيه في
" الكاشف ":
"وثقه ابن معين، وقال (س) : ليس بالقوي ".
وأبو صالح؛ لم يرو عنه إلا كامل، ووثقه ابن حبان، والذهبي في "الميزان "،
وحسّن له الترمذي.(7/579)
وقال الهيثمي في "المجمع " (7/ 220) : "رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال "الصحيح "؛غير كامل بن العلاء، وهو ثقة"!
قلت: لي على هذا تعليقان:
الأول: أن إسناد البزّار هو إسناد أحمد.
الثاني: أنّ أبا صالح ليس من رجال "الصحيح ".
وقد توبع أبو صالح، فقال سعيد بن سَمعان قال: سمعت أبا هريرة يتعوّذ من إمارة الصبيان والسفهاء.
فقال سعيد بن سمعان: فأخبرني ابن حسنة الجُهني أنه قال لأبي هريرة: ما
آية ذلك؟ قال: "أن تُقطع الأرحام، ويُطاع المُغوِي، ويعصَى المُرشِدُ".
رواه البخاري في "الأدب المفرد" (66) : حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا
ابن أبي ذئب قال: حدثنا سعيد ... به.
قلت: سعيد بن سمعان ثقة؛ فحديثه عن أبي هريرة صحيح، وهو موقوف في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال بمجرد الرأي كما هو ظاهر، ويشهد له الطريق الأولى. وكذا ما رواه مالك بن ظالم قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان بن الحكم:
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"إن فساد أمتي على يدي أُغَيلِمةٍ من سفهاء قريش ".
أخرجه البخاري في "التاريخ " (4/ 1/309) ، وابن حبان في "صحيحه "
(8/251/6678) ، و"الثقات" (5/388) ، والحا كم (4/ 470و527) ، والطيالسي (08 25) ، وأحمد (2/299 و 328 و485) ، وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي!(7/580)
قلت: ومالك بن ظالم من رجال "الميزان "، وقال:
"قال الأزدي: لا يتابع عليه ".
وكذا في "اللسان "، وذكرا له هذا الحديث، وفاتهما توثيق ابن حبان إياه،
لكن لم يذكروا له راوياً غير سماك بن حرب؛ فهو مجهول.
لكن أخرجه ابن حبان (6677) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:
"هلاك أمتي على يدي غلمان سفهاء من قريش ".
وزاد: فقال مروان: والغلمان هؤلاء.
وإسناده صحيح.
وله طريق أخرى يرويه سعيد بن عمرو بن سعيد قال: كنت جالساً مع أبي
هريرة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول:
"هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش ".
فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول: بني
فلان، بني فلان؛ لفعلت، [قال عمرو بن يحيى:] فكنت أخرج مع جدي إلى
بني مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم! قلنا: أنت أعلم.
أخرجه البخاري (6/612/ 3605 و 13/9) - والسياق له-، وأحمد (2/ 324)
- مختصراً-.
وله عنده طريق أخرى (2/52و536) عن أبي هريرة. *(7/581)
من فضل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
3192- (ممَّ تضحكون؟ قالوا: يا نبيَّ اللهِ! من دِقَّةِ ساقيهِ!! فقال:
والذي نفسي بيدهِ؛ لهُما أثقلُ في الميزانِ من أُحُدٍ) .
ورد من حديث ابن مسعود، وعلي بن أبي طالب.
1- أما حديث ابن مسعود؛ فله طريقان:
الأولى: عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زِرٍّ بن حُبَيش عن ابن مسعود:
أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.
أخرجه أحمد (1/ 420- 421) ، وابن سعد (3/155) ، وابن حبان
(9/103/7029) ، وكذا الطيالسي (355) ، وأبو يعلى (9/209- 0 21) ، والبزار (3/249/2678) ، والطبراني في "الكبير" (9/75/8452) ، وأبو نعيم في"الحلية " (1/127) ؛ كلهم من طرق عن حماد به.
وخالفه زائدة فقال: عن عاصم بن أبي النَّجُود عن زِرٍّ قال: ... فذكره
مرسلاً؛ ليس فيه ابن مسعود.
أخرجه ابن أبي شيبة في"المصنف " (12/113/11279) .
وزائدة- وهو ابن قدامة- أحفظ من حماد بن سلمة، لكن يقويه:
الطريق الأخرى، يرويها سهل بن حماد أبو عتاب: ثنا شعبة عن معاوية بن
قرة عن أبيه: أن عبد الله بن مسعود رقي في شجرة ... الحديث نحوه.(7/582)
أخرجه الحاكم (3/317) ، والبزار (3/248/6677) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/28/59) ، وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي.
قلت وإسناد البزار على شرط مسلم، وقال:
"لا نعلم رواه عن شعبة إلا سهل ".
كذا قال! وقد رواه الطيالسي في "مسنده " (145/1077) : حدثنا شعبة عن
معاوية بن قرة أن ابن مسعود ... الحديث.
هكذا وقع فيه! لم يقل: "- عن أبيه "، فإما أنه سقط من الناسخ أو الطابع، أو
هكذا الرواية عنده، والأول هو الأرجح؛ لأنه أورده في "مسند قرة"، وذكر فيه عدة أحاديث من رواية معاوية بن قرة عن أبيه، وأحدها على شرط الترمذي وصححه، وهو مخرج في "فضائل الشام " (رقم 5) .
وأيضاً لو كانت الرواية وقعت له دون قوله: "عن أبيه "؛لكان الحديث
مرسلاً، وفي هذه الحالة لا يصلح أن يورده في "المسند". والله أعلم.
وعلى ما رجحت؛ فإن كان قرة تلقاه مباشرة عن ابن مسعود؛ فهي طريق
ثانية عنه؛ وإلا فهو مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة حجة.
وله طريق ثالثة، ولكنها واهية؛ لأنها من رواية المُعَلَّى بن عُرفان- وهو متروك الحديث- عن أبي وائل، عن عبد الله به نحوه.
أخرجه الطبراني (8453) .
وطريق رابعة بسند جيد عن سارة بنت عبد الله بن مسعود أن أباها أخبرها قال:(7/583)
بينما هو يمشي وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ همزه أصحابه أو بعضهم، فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"والذي نفسي بيده! لعبد الله في الموازين يوم القيامة أثقل من أُحُدٍ ".
كأنهم عجبوا من خِفّتِهِ!
قلت: وهذه قصة أخرى- كما هو ظاهر- لو صحَّت؛ فإن سارة هذه لم أجد
لها ذكراً في شيء من كتب التراجم التي عندي، والله أعلم.
ثم وجدت له طريقاً خامسة، لكنها واهية أيضاً؛ من رواية شريك عن جابر
عن أبي الضحى عن الأزهر بن الأسود عن عبد الله بن مسعود قال:
صعدت أراكةً لأجني منها سواكاً (الأصل: أراكة) ، فجعل أصحابي
يتعجبون من خِفّتي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"ما تعجبون؟! فو الذي نفسي بيده! لهو أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد". أخرجه الطبراني (9/97/8517) .
وجابر هذا: هو ابن يزيد الجعفي، وهو متروك.
والأزهر بن الأسود لم أجد من ذكره.
2- وأما حديث علي رضي الله عنه؛ فيرويه محمد بن الفُضيل بن غزوان عن مغيرة عن أم موسى قالت: سمعت علياً يقول: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن مسعود
أن يصعد شجرة فيأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله، فضحكوا من حموشة ساقَيهِ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "مما تضحكون؟! لرِجل عبد الله أثقل في الميزان من أُحُدٍ".(7/584)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (237) ، وأحمد (1/ 114) ، وأبو يعلى
(1/409/279) ، ومن طريقه الضياء المقدسي في"الأحاديث المختارة" (مسند علي) ، وابن سعد أيضاً، وكذا ابن أبي شيبة (رقم 12882) كلهم عن محمد بن الفضيل به.
وتابعه جرير عن مغيرة به.
أخرجه أبو يعلى (رقم 334) ، والطبراني (6 1 85) ، ومن طريقه الضياء أيضاً، وقال الهيثمي في "المجمع " (9/288- 289) :
"رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجالهم رجال (الصحيح) ؛غير أم موسى، وهي ثقة".
قلت: ترجمتها في "التهذيب " كالتالي:
"أم موسى، سُرِّيِّة علي بن أبي طالب، قيل: اسمها فاختة، وقيل: حبيبة.
روت عن علي بن أبي طالب، وعن أم سلمة. روى عنها مغيرة بن مِقسم الضبي. قال الدارقطني: حديثها مستقيم، يخرّج حديثها اعتباراً.
قلت: وقال العجلي: كوفية تابعية ثقة".
والمغيرة بن مِقسم ثقة من رجال الشيخين، ولكنه كان يدلس، ولم يصرِّح
بالسماع من أم موسى عند أحد من مخرِّجي الحديث، فتحسين بعض المعلقين لإسناده غير حسن؛ إلا أن يعني أنه حسن بما قبله، فنعم.
وفاتني أن أذكر أن الهيثمي أورد الحديث من الطريق الأولى عن ابن مسعود، وذكر بعض ألفاظ الطرق الأخرى، وقال:(7/585)
"رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني من طرق.. وأمثلها فيه عاصم بن أبي النَّجود، وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح ". *
من فضائل جرير بن عبد الله البجلي
3193- (يَدخُلُ مِن هذا البابِ رجلٌ مِن خيرِ ذي يَمَنٍ، على وجههِ
مَسحَةُ ملكٍ. فدخلَ جريرٌ) .
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (250) : حدثنا علي بن عبد الله قال:
حدثنا سفيان عن إسماعيل عن قيس قال: سمعت جريراً يقول:
ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.
قلت: علي هو ابن المديني. وقد توبع من الحميدي، فقال في "مسنده " (350/800) : ثنا سفيان به.
وأخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (5/82) من طريق قتيبة عن سفيان به. قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، فيُتعجّب من الحاكم كيف
لم يستدركه؟! أعني حديث الترجمة وإلا فقول جرير: "ما رآني ... " إلخ قد أخرجاه: البخاري (0 1/ 504/6089) ، ومسلم (7/157- 158) ، وابن حبان (9/165/7156) ، وابن أبي شيبة (12/152/12390) ، وكذا ابن ماجه (159) ، وأحمد (4/358و362 و365) ، والطبراني في"المعجم الكبير" (2/ 330/2219- 2223) من طرق كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به.(7/586)
ومن هذه الطرق رواية سفيان هذه عند مسلم، ولكنه لم يسق حديث
الترجمة، وإنما ساقه الطبراني في مكان آخر (340/2258) .
ولقول جرير المذكور طريق آخر، يرويه بيان عن قيس بن أبي حازم به.
أخرجه البخاري (7/ 131/3822) ، ومسلم أيضاً، وأحمد (4/359) ،
والطبراني (2/ 350/2286و 2287) من طرق عنه.
ولحديث الترجمة طريق أخرى يرويه يونس بن أبي إسحاق عن المغيرة بن
شِبلٍ عن جرير بن عبد الله قال:
لما دنوت من مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛أنختُ راحلتي، وحللتُ عَيبتي، فلبست
حُلَّتي، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فسلّمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
فرماني الناس بالحدق، فقلت لجليس: يا عبد الله! هل ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
أمري شيئاً؟ قال: نعم، ذكرك بأحسن الذكر، بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته فقال:
"إنه سيدخل عليكم ... " الحديث مثله، إلا أنه قال في آخره:
"فحمدت الله على ما أبلاني ".
أخرجه النسائي أيضاً في "الكبرى" (رقم 8304) ، وابن حبان (7155) ،
وابن أبي شيبة (12391) ، وأحمد (4/359 و 364) ، والطبراني أيضاً (2483) من طرق عنه.
قلت: وإسناده صحيح. رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير المغيرة هذا؛ وهو ثقة
بلا خلاف.(7/587)
(تنبيه) : زاد الشيخان وغيرهما من طريق إسماعيل:
"ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري وقال:
اللهم ثبته، واجعله هادياً مهديّاً".
وهي عند النسائي وابن ماجه.
(تنبيه آخر) : عزا حديث الترجمة الأستاذُ محمد فؤاد عبد الباقي في تخريجه
ل "الأدب المفرد"للشيخين مشيراً إلى رقم الكتاب والباب من كل منهما! ومثلُهُ
في ذلك الشارح (1/ 350) ، وزاد عليه أنه عزاه للترمذي في"المناقب "، وأبي داود في "الجهاد"، وابن ماجه في "السنة"! وكل هؤلاء ليس عندهم حديث الترجمة، وإنما عندهم قول ابن جرير المتقدم، وليس يخفى أن هذا لا يُسوِّغ لهم العزو الموهم لخلاف الواقع.
وأما عزوه لأ بي داود؛ فهو أغرق في الخطأ؛ لأنه لم يرو القول المذكورأيضاً!!
وإنما له عنه حديث آخر، أخرجه الشيخان أيضاً، وهو في كتابي"صحيح أبي
داود " (2477) .
ولعل مثل هذا الوهم هو السبب في عدم إيراد الحافظ الهيثمي هذا الحديث
في كتابه "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان "؛لظنه أنه في "الصحيحين "! والغريب أن الحافظ لم ينبِّه عليه في هامش الكتاب كما هي عادته أحياناً،
ولذلك؛ فقد استدركته عليه في نسختي من "الموارد"، في أحاديث أخرى كثيرة استدركتها، تهيئة لنشره في جملة مشروعي الكبير "تقريب السنة بين يدي الأمة"، وأرجو أن أنتهي منه قريباً إن شاء الله تعالى. *(7/588)
3194- (والذي نفسي بيدِه! لوتعلمونَ ما أعلمُ؛ لضحكتُم قليلاً،
ولبكيتُم كثيراً.
ثم انصرف - صلى الله عليه وسلم -؛ وأبكى القوم، وأوحى اللهُ عز وجل إليه:
يا محمدُ! لم تُقنِّط عبادي؟!
فرجع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال:
أبشرُوا، وسدِّدُوا، وقاربُوا) .
أخرجه البخاري في"الأدب المفرد" (254) ، والبيهقي في "شعب الإيمان " (2/22/1058) من طريق الربيع بن مسلم القرشي: حدثنا محمد بن زياد عن
أبي هريرة قال:
خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على رهط من أصحابه يضحكون ويتحدثون، فقال: ...
فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وكذلك أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (1/162/113و 285/359) ، وقال:
" (سدِّدوا) يريد به: كونوا مسدِّدين. والتسديد: لزوم طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباع
سننه.
وقوله: (وقاربوا) يريد به: لا تحملوا على أنفسكم من التشديد ما لا تطيقون. (وأبشروا) ؛ فإن لكم الجنة إذا لزمتم طريقتي في التسديد، وقاربتم في
الأعمال ".(7/589)
وقال البيهقي عقب الحديث:
"ففي هذا دلالة على أنه لا ينبغي أن يكون خوفه بحيث يؤيِّسه ويقنِّطه من رحمة الله، كما لا ينبغي أن يكون رجاؤه بحيث يأمن مكر الله، أو يجرئه على معصية الله عز وجل ".
والحديث رواه حماد بن سلمة عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت أبا القاسم يقول: ... فذكر الجملة الأولى منه، والأخيرة منه:
" أبشروا.. ".
أخرجه أحمد (2/467) .
ثم أخرجه هو (2/257و 313 و 418 و 432 و 453 و 502) ، والبخاري (6485و 6637) ، ومن طريقه البيهقي في "السنن " (10/26) ، وابن حبان (7/519/5763) والترمذي (4 231) ، وابن حبان أيضاً (8/249/ 6671)
من طرق أخرى عن أبي هريرة بالشطر الأول فقط، وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح ".
وزاد ابن حبان في الموضع الثاني من طريق خالد بن عبد الله الزِّيادي عن أبي عثمان عنه:
"يظهر النفاق، وتُرفع الأمانة، وتُقبض الرحمة، ويُتهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، أناخِ بكم الشُّرف الجُون "، قالوا: وما الشُّرف الجُون يا رسول الله؟! قال: "فتن كقطع الليل المظلم ".
وهكذا أخرجه الحاكم (4/579) ، وقال:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي!(7/590)
كذا قالا! وخالد بن عبد الله الزيادي- وقيل: الزبادي- لم يذكروا عنه راوياً
غير اثنين أحدهما: جعفر بن ربيعة، والآخر: عمرو بن الحارث، وهو راويه هنا، وذكره ابن حبان في "الثقات " (6/259) ، فمثله يحتمِلُ حديثه التحسين، أما
الصحة فلا.
ومثله- أو خير منه- شيخه أبو عثمان وهو الأصبحي، كما وقع مصرَّحاً به
في إسناد الحاكم، وكذلك في ترجمته من "التهذيب "، وسماه عبيد بن عمير، وذكر أنه روى عنه جمع غير الزيادي، ولم يحك فيه جرحاً ولا توثيقاً.
وفي "ثقات ابن حبان " (5/568 و 576) من طبقته اثنان بكنيته هذه "أبي
عثمان "رويا عن أبي هريرة، روى عن أحدهما معاوية بن صالح، وعن الآخر ثابت البناني؛ فمن المحتمل أن يكون هو هذا. والله أعلم.
ومهما يكن حال هذا وحال الذي قبله؛ فإني أرى أن حديثه هذا لا ينزل عن
مرتبة الحسن؛ لما له من الشواهد المبثوثة في مختلف الأحاديث. والله أعلم. وللشطر الأول من حديث الترجمة شواهد كثيرة، أصحها حديث أنس بن مالك مرفوعاً به.
أخرجه البخاري (6486) ، ومسلم (7/92) ، وا بن حبان (5762) ، ووكيع
في"الزهد" (1/242/17) ، وابن أبي شيبة في"المصنف" (13/246/ 16240) ، وأحمد (3/180و 93 1و 210و251 و 268) من طرق كثيرة عنه.
وقد استوعب شواهدَه وطرقه الأخُ الفاضل عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي في تعليقه على "الزهد" (1/242- 244) .
(تنبيه) : حديث ابن حبان المتقدم من رواية أبي عثمان، وقع هذا منسوباً في(7/591)
"موارد الظمآن " (462/ 1871) هكذا: (أبي عثمان الهندي) ! وهذا مخالف لما في "الإحسان " أولاً كما تقدم؛ فإنه لم ينسب فيه. وثانياً: أنه مخالف لما في
"الجرح "وغيره في ترجمة خالد الزيادي: أنه روى عن أبي عثمان الأصبحي؛ فاقتضى التنبيه.
والحديث مما جنى عليه المدعوب (حسان بن عبد المنان) ، فضعفه في حديث لأبي ذر، فيه فقرات هذا منها، جاهلاً أو متجاهلاً شواهده، منها حديث أنس المتفق عليه، وقد رددت عليه مفصلاً في
"النصيحة بتحذير المسلمين من تضعيفات ابن عبد المنان للأحاديث الصحيحة ومن تخريبه بتعليقاته لكتب الأئمةالرجيحة" (برقم: 123) . *
3195- (كأنِّي أنظرُ إلى بَياضِ كشحِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجدٌ) .
أخرجه أحمد (3/15) من طريقين عن ابن لهيعة عن عبيد الله بن المغيرة: سمعت أبا الهيثم يقول: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: ... فذكره.
قلت؛ وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن ابن لهيعة فيه ضعف من قبل حفظه،
وبه أعلَّه الهيثمي؛ فقال (2/125) :
"رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام ".
وأقول: هذا من صحيح حديثه يقيناً؛ لكثرة شواهده عن جمع من الصحابة، منهم البراء بن عازب، وعبد الله بن مالك ابن بُحينَة، وأبو هريرة، وعبد الله بن أقرم، وميمونة؛ وغيرهم بمعناه، وقد أسندها عن المذكورين: النسائيُّ في"السنن الكبرى" (1/233 و 234) ، وبعضها في "صحيح مسلم " (2/53- 54) ، والكثير منها مخرج في"صحيح أبي داود" (835 و837) ، وحديث ابن بحينة عند البخاري أيضاً (807) ، وكذا ابن حبان (3/93/1916) ؛وانظر
"التلخيص الحبير" (1/255) .(7/592)
وإنما أوردت حديث الترجمة للفظ: "الكشح " الذي فيه، ولأخرِّج له بعض الشواهد التي تقوِّيه، مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله عنه طريقان: الأولى: عن أسامة بن زيد قال: أخبرني موسى بن مسلم مولى ابنة قارظ
عن أبي هريرة: أنه ربما حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: حدثنيه:
"أهدب الشفرين، أبيض الكَشحين، إذا أقبل أقبل جميعاً، وإذا أدبر أدبر
جميعاً، لم تر عين مثله، ولن تراه ".
أخرجه البخاري في "الأ دب المفرد" (255) وفي "التاريخ " (4/ 1/295) ، وابن سعد في "الطبقات " (1/415) .
ذكره البخاري في ترجمة موسى هذا، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وتبعه
في ذلك ابن أبي حاتم، ولم يذكرا له راوياً غير أسامة هذا، ولذلك قال الذهبي
في "الميزان ":
"لا يعرف ".
وأما ابن حبان؛ فذكره على قاعدته في "الثقات " (5/403) ! وقال الحافظ
في"التقريب ":
"مقبول ".
يعني عند المتابعة، وقد توبع، فقد رواه عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم
الجُمَحي عن قدامة بن موسى عن محمد بن سعيد [بن] المسيب [عن أبيه] :
أن أبا هريرة كان إذا رأى أحداً من الأعراب أو أحداًَ لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قال:
ألا أصف لكم النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ كان شَثنَ القدمين، أهدب العينين، أبيض الكشحين،(7/593)
يُقبِلُ معاً، وُيدبِرُ معاً، فِدّى له أبي وأمي، ما رأيت مثله قبله ولا بعده.
أخرجه ابن سعد (1/414-415) .
قلت: ورجال إسناده ثقات؛ غير عبد الملك بن قدامة؛ فإنه ضعيف كما في
"التقريب "، وقد وثقه ابن معين وابن عبد البر، فمثله يستشهد به إن شاء الله تعالى. وأخرجه البزار (3/122/2387) من طريق إسحاق بن إبراهيم الحمصي: ثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم عن الزُّبيدي عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:
كان رجلاً رَبعَةً، وهو إلى الطول أقرب، شديد البياض، أسود اللحية، حسن
الشعر، أهدب أشفار العينين ... الحديث دون ذكر الكشحين. وقال البزار:
"لا نعلم رواه عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة إلا الزبيدي ".
قلت: وهذا إسناد صحيح إن سلم من إسحاق الحمصي؛ قال الحافظ:
"يهم كثيراً، وأطلق محمد بن عوف أنه يكذب ".
وجملة "أهدب العينين "، وردت من طريق جيدة عن أبي هريرة في حديث
آخر تقدم برقم (2095) ، وفيه قوله: "يُقِبِلُ جميعاً، ويُدبِِرُ جميعاً".
ولهذا- والجملة المشار إليها- شاهد من حديث علي من طرق عنه في
"الطبقات " (1/ 410- 413) ، وفيه:
"لم أرقبله ولا بعده مثله ".
وهو في "شماثل الترمذي " أيضاً (15/4- مختصره) ، وصححه ابن حبان (2117- موارد) من طريق أخرى، وتقدم أيضاً تخريجها برقم (2053) . *(7/594)
3196- (يأخذُ اللهُ- عزَ وجل- سماواتِه وأرَضيِه بيديهِ، فيقولُ:
أنا اللهُ- ويقبضُ أصابعَه ويبسطُها- أنا الملِكُ، [وتمايلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -
عن يمينه وعن شماله] حتى نظرتُ إلى المنبرِ يتحركُ من أسفلِ شيءٍ منه، حتّى إني لأقولُ: أساقطٌ هو برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟) .
أخرجه مسلم (8/126-127) ، وابن خزيمة في "التوحيد" (49- 50) ،
والبيهقي في "الأسماء والصفات " (339) كلهم عن سعيد بن منصور: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن: حدثني أبو حازم عن عبيد الله بن مِقسَمٍ: أنه نظر إلى
عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكره.
وتابعه قتيبة بن سعيد: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن به. أخرجه ابن حبان
(9/213/ 0 728) .
ثم أخرجه مسلم، والبيهقي من طريق سعيد بن منصور أيضاً قال: حدثنا
عبد العزيز بن أبي حازم: حدثني أبي عن عبيد الله بن مقسم عن عبد الله بن عمر قال:
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وهو يقول:
"يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأرضيه بيديه ... " الحديث.
وتابعه جمع عن عبد العزيز بن أبي حازم به.
أخرجه ابن ماجه (198و4275) ، والدارمي في "الرد على المريسي "
(ص 31) ، وابن جرير في "التفسير" (24/18) ، والطبراني في "المعجم الكبير"
(12/355/13327) ، وابن منده في " التوحيد " (2/47/190) وزادوا:(7/595)
"وتمايل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه وعن شماله، حتى نظرت ... ".
وإسنادها صحيح على شرط الشيخين.
وخالفهم في السند عبد الله بن نافع؛ فقال: عن عبد العزيز بن أبي حازم عن
أبيه عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عمر مرفوعاً به.
أخرجه ابن جرير.
وعبد الله بن نافع هو الصائغ المخزومي؛ وفيه ضعف من قبل حفظه، قال
الحافظ في "التقريب ":
"ثقة صحيح الكتاب، في حفظه لين ".
قلت: وقد خالفهم بذكره عبيد بن عمير مكان عبيد الله بن مقسم، وعبيد بن عمير هو الليثي المكي، وهو ثقة أيضاً من رجال الشيخين، فإن كان حفظه؛ فالإسناد صحيح، والله أعلم.
ثم وجدت له متابعاً قوياً عند الطبراني (12/389/13437) ، وابن منده (2/101/248) من طريق علي بن عبد العزيز: ثنا القعنبي [عبد الله بن مسلمة] : ثنا عبد العزيز بن أبي حازم به.
وتابع أبا حازم: إسحاقُ بنُ عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن
ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: (وما قدروا الله
حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه
سبحانه وتعالى عما يشركون) [الزمر: 67] ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هكذا بيده ويحركها؛ يقبل بها ويدبر، يمجِّد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر، حتى قلنا: ليخرَّن به.(7/596)
أخرجه أحمد (2/72) - والسياق له-، وابن أبي عاصم في "السنة " (1/240/546) ، وابن خزيمة أيضاً من طرق عن حماد بن سلمة عنه.
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
والحديث أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (5/ 481) بزيادة
بعض الأسماء الحسنى فيه، وقوله:
"أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئاً، أنا الذي أعيدها".
وقال:
"رواه ابن منده وابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي وسعيد بن منصور
وغيرهم من الأئمة الحفاظ النقاد الجهابذة".
ولم أجد لهذه الزيادة ذِكراً في شيء من المصادر المتقدمة، والله سبحانه
وتعالى أعلم. *
3197- (لا ينبغي لِذِي الوجهينِ أن يكون أمِيناً) .
أخرجه البخاري في"الأدب المفرد" (313) : حدثنا خالد بن مَخلَدٍ قال:
حدثنا سليمان بن بلال عن عبيد الله بن سلمان عن أبيه عن أبي هريرة- رضي
الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير عبيد الله بن
سلمان- وهو الأغر-؛ فإنه من رجال البخاري.
وخالد بن مخلد له مناكير؛ كما قال أحمد وغيره، وقد خولف في إسناده ممن
هو أوثق منه، فقال الخرائطي في"مساوئ الأخلاق " (138/292) : حدثنا أحمد(7/597)
ابن منصور الرمادي: ثنا أبو سلمة الخزاعي: ثنا سليمان بن بلال عن محمد بن
عجلان عن عبيد الله بن سلمان الأغر به.
قلت: وأبو سلمة الخزاعي اسمه منصور بن سلمة، وهو ثقة ثبت حافظ، وقد
زاد في الإسناد محمد بن عجلان، وهو حسن الحديث، والرمادي ثقة أيضاً،
فالإسناد جيد.
وقد تابع الرماديّ: الإمامُ أحمد فقال في "مسنده " (2/365) : ثنا الخزاعي
به؛ إلا أنه قال: "ما ينبغي ... ".
وتابعه أيضاً أبو أمية الطَّرسُوسِيُّ: ثنا منصور بن سلمة به.
أخرجه البيهقي في "السنن " (10/264) و"الشعب " (4/229/ 4880) .
وتوبع الخزاعي، فقال أحمد أيضاً (2/289) : ثنا عُبيدَةُ بن أبي قُرَّة: ثنا
سليمان به.
و (عبيدة) هكذا وقع في "المسند" في هذا الحديث، وفي حديث آخر قبله
بأحاديث! وفي طبعة أحمد شاكر (15/8 و 9) : "عُبيد"، وهو الصواب الموافق
لترجمته في كتب الرجال: "تاريخ البخاري "، "الجرح والتعديل "، "ثقات ابن
حبان" (8/ 431) ، "تاريخ بغداد" (11/95) ، و"تعجيل المنفعة" للحافظ ابن
حجر، ومن الغريب أنه لم يذكر في ترجمته ما يدل على حاله سوى قول البخاري في "التاريخ " (3/2/2) في حديث للعباس:
"لا يتابع في حديثه ".
وقول يعقوب بن شيبة:
"ثقة صدوق ".(7/598)
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال:
"ربما خالف ".
هذا ما ذكره في "التعجيل "! وفاته قول ابن أبي حاتم عن أبيه:
" صد وق ".
وما رواه الخطيب عن ابن معين:
"ما كان به بأس ".
قلت: فالرجل ثقة، فمتابعته قوية.
والحديث عزاه الحافظ في "الفتح " (10/475) للبخاري، وأشار إلى تقويته
بسكوته عليه.
وقد روي من طريق أخرى عن أبي هريرة، يرويه كثير بن زيد عن الوليد بن
رباح عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ الترجمة.
أخرجه ابن عدي (6/68) في ترجمة كثير هذا- وهو الأسلمي-، وقال:
"لم أر بحديثه بأساً، وأرجو أنه لا بأس به ".
وقال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق يخطئ ".
وروى ابن أبي شيبة (8/558) بسند صحيح عن عكرمة قال:
"لَقَمِنٌ ذو الوجهين أن لا يكون عند الله أميناً".
(تنبيه) : لقد وهم الشيخ الجيلاني في شرحه على "الأدب المفرد" حين قال
في حديث الترجمة:(7/599)
"أخرجه الترمذي في"البر" وأحمد بطريقين (ص 365ج 2) "!
وذلك؛ لأن الترمذي لم يخرجه مطلقاً، وأحمد إنما رواه من طريقين عن
سليمان بن بلال كما تقدم، وليس عن أبي هريرة كما هو المتبادر من كلامه.
ثم إن الحديث- مع كونه ليس في شيء من الكتب الستة-؛فلم يورده
الهيثمي في "مجمع الزوائد" مع كونه على شرطه؛ لأنه قد رواه أحمد! *
3198- (كان يقولُ: إنّ الخيرَ خيرُ الآخرِة، أو قال:
اللهم لا خير إلا خيرُ الآخرة فاغفر للأنصارِ والمهاجرة) .
أخرجه أحمد (3/169) : ثنا حجاج قال: حدثني شعبة قال: سمعت
قتادة: حدثنا أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. قال شعبة:
فكان قتادة يقول هذا في قصصه.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وقد أخرجه البخاري (3795 و 3796) ، ومسلم (5/188) ، والترمذي
(3857) - وصححه-، والنسائي في"السنن الكبرى" (5/84/8313و8314) ، وأحمد (3/169و170و72 1و 278) ، وأبو يعلى (5/358و476) من طرق أخرى عن شعبة به، دون قوله: "فكان قتادة ... "، إلا أن بعضهم ذكر معاوية بن قرة أبا إياس، وحميداً مكان قتادة.
وتابعهم أبو التَّيَّاح الضُّبَعي عن أنس به.
أخرجه ابن ماجه (742) ، وابن حبان (9/ 190/7215) ، وأحمد (3/118
و244) من طرق عن حماد به، وهو رواية لمسلم (5/189) .(7/600)
وأخرجه الشيخان وغيرهما من طرق أخرى عن أبي التَّيَّاح به نحوه؛ وهو
مخرج في "صحيح أبي داود" (478) .
وله شاهد من حديث أم سلمة قالت:
ما نسيت قوله يوم الخندق وهو يعاطيهم اللبن، وقد اغبرَّ شعر صدره، وهو يقول: "اللهم إن الخير خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة".
قال: فرأى عماراً، فقال:
"ويحَ ابنِ سُمَيَّةَ! تقتله الفئة الباغية".
أخرجه أحمد (6/289) ، وأبو يعلى (3/ 209/1645) ، وأبو نعيم في "الحلية" (3/43) من طريق ابن عون عن الحسن عن أمه عنها.
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وقد أخرج في "صحيحه " (8/186) قضية عمار فقط، وهو رواية لأحمد؛ خلافاً لما يوهمه صنيع المعلق على "مسند أبي يعلى"؛ حيث عزاه لمسلم والطيالسي، وليس عندهما حديث الترجمة!
وجملة: "إن الخير خير الآخرة"؛ أخرجها البخاري في "الأدب المفرد" (رقم
346) من طريق أبي غالب عن أم الدرداء قالت:
زارنا سلمان من المدائن إلى الشام ماشياً؛ وعليه كساء وانْدَرْوَرد (قال: يعني سراويل مشمرة) . قال ابن شوذب: رؤي سلمان وعليه كساء مطموم الرأس، ساقط الأذنين، يعني أنه كان أرفش، فقيل له: شَوَّهت نفسك! قال: إن الخير خير الآخرة. قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات، وفي أبي غالب- وهو صاحب أبي أمامة- كلام يسير، لا ينزل حديثه من مرتبة الحسن.(7/601)
وأما قول ابن شوذب: رؤي ... إلخ؛ فهو معضل؛ لأنه لم يدرك سلمان،
مات سنة ست أو سبع ومئة.
وقد جاء الحديث عن أنس والبراء بأتم من رواية قتادة، وسيأتي تخريجه برقم (3243) . *
3199- (كان إذا قام من الليل يتهجد، صلى ركعتين خفيفتين) .
أخرجه أبو عوانة في "صحيحه " (2/ 331- الثانية) ، ومن طريقه: الأصبهاني
في "الترغيب " (2/782/ 1 1 9 1) ، والبغوي في"شرح السنة " (4/18/8 0 9) - وصححه-، وابن أبي شيبة في "المصنف " (2/273) ، ومن طريقه: البيهقي في "السنن " (3/6) من طريق سليمان بن حَيَّان عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: ... فذكره مرفوعاً.
قلت: وهذا إسناد جيد، وهو على شرط مسلم، على كلام في حفظ سليمان
ابن حيان، وقد اختلف عليه في لفظه، فرواه بعضهم هكذا من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وبعضهم من أمره، وهذا الأمر قد اختلفوا فيه على هشام بن حسان، فبعضهم رفعه، وبعضهم أوقفه، ورجحه أبو داود والبيهقي.
أما الأول؛ فرواه ابن أبي شيبة- وتابعه آدم بن أبي إياس- قالا: عن سليمان
به؛ كما ذكرنا أعلاه من فعله - صلى الله عليه وسلم -.
وخالفهما الربيع بن نافع أبو توبة: حدثنا سليمان بن حيان به مرفوعاً بلفظ:
"إذا قام أحدكم من الليل؛ فليصل ركعتين خفيفتين ".
أخرجه أبو داود (1323) : حدثنا الربيع به، وأعله بالوقف؛ فقال عقبه:(7/602)
"روى هذا الحديث حماد بن سلمة، وزهير بن معاوية، وجماعة عن هشام
عن محمد، أوقفوه على أبي هريرة، وكذلك رواه أيوب وابن عون، أوقفوه على أبي هريرة". وكذا قال البيهقي.
ورواية أيوب التي علقها أبو داود، أخرجها (1324) ، ومن طريقه: البيهقي
من طريق معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال:
"إذا.. " بمعناه، زاد: "ثم ليطول بعد ما شاء"
قلت: وإسناده صحيح.
وأما الأمر الآخر- وهو الاختلاف على هشام بن حسان-؛ فقد ذكره أبو داود معلّقاً من رواية حماد بن سلمة وزهير بن معاوية وجماعة عنه موقوفاً. ومن الجماعة هشيم بن بشير، فقال ابن أبي شيبة (2/272-273) : حدثنا هشيم قال: أخبرنا هشام به موقوفاً.
نعم؛ لقد كنت خرجت الحديث مرفوعاً من قوله - صلى الله عليه وسلم - في "الإرواء" (2/202/
453) من رواية ثلاثة من الثقات الآخرين عن هشام به، وملت هناك إلى ترجيح الرفع على الوقف إعمالاً لقاعدة: زيادة الثقة مقبولة.
ثم ترجح عندي الوقف لسببين اثنين، أوردته من أجل ذلك في "ضعيف أبي
داود" (رقم 240) .
ثم بدا لي علة في رواية أحد الثلاثة المشار إليهم، وهو أبو أسامة- واسمه حماد بن أسامة-؛ فقد رواه مسلم والبيهقي من طريق أبي بكر بن أبي شيبة:
حدثنا أبو أسامة عن هشام به مرفوعاً، فكان تخريج مسلم من هذا الوجه من الدواعي على ترجيح المرفوع هناك.(7/603)
ثم بدا لي ما يقدح في هذا الوجه، وهو أن ابن أبي شيبة لم يسنده في
"مصنفه "؛ فإنه قال (2/233) :
حدثنا أبوأسامة عن هشام عن محمد قال:
"ما رأيته افتتح صلاة تطوع إلا بركعتين ".
فقد أوقفه على محمد بن سيرين.
ثم وجدت لابن أبي شيبة متابعاً مرفوعاً، فقال الترمذي في "الشمائل " (2/88- بشرح القاري) ، وعنه البغوي (4/17 /07 9) - وصححه-: حدثنا محمد ابن العلاء: أنبأنا أبو أسامة به؛ فانتفى القدح المذكور، وبقي ترجيح الوقف على السببين المشار إليهما:
أحدهما: أن هشاماً قد توبع من أيوب وغيره على وقفه، ولم يتابعه أحد-
فيما علمت- على رفعه.
والآخر: أنه لم نجد له شاهداً، ووجدنا للمرفوع من فعله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه مسلم وغيره عن عائشة، وهو مخرج هناك مثل حديث الترجمة. *
3200- (لو أن الله يؤاخذُني وعيسى بذنوبنا (وفي رواية: بما جنت هاتان- يعني: الإبهام والتي تليها-) ، لُعذَّبَنا ولا (وفي الأخرى: ولم) يظلِمنا شَيئاً) .
أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (2/656 و 658) - بالروايتين-، وأبو نعيم
في"الحلية" (8/132) - بالرواية الأخرى-من طرق عن حسين بن علي الجُعْفِيِّ عن فُضَيلٍ بن عياض عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال:(7/604)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره. وقال أبو نعيم:
"غريب من حديث الفضيل وهشام، تفرد به عنه الحسين بن علي الجعفي ".
قلت: وهو ثقة من رجال الشيخين، وكذلك من فوقه، فالسند صحيح على شرطهما، فيتعجب من الحاكم كيف لم يورده في "مستدركه "؟!
وللحديث طريق أخرى، يرويه محمد بن يوسف الفريابي: ثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به نحوه.
أخرجه الطبراني في" الأوسط " (2294) ، والبزار (4/162/3448-كشف) من طريقين عن الفريابي به. وقال الطبراني:
"لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا الفريابي ".
قلت: وهو ثقة من رجال الشيخين، وكذلك من فوقه؛ فالسند صحيح أيضاً.
وله شاهد من حديث زيد بن ثابت نحوه، ليس فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيسى؛ وسنده صحيح، وهو مخرج في "الظلال " (245) . *
3201- (إن أخوف ما أخاف عليكم رجل قرأ القرآن، حتّى إذا رُئيتْ بهجتُه عليه، وكان رِدْءاً للإسلام؛ انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك. قلت: يا نبيَّ الله! أيُّهما أولى بالشرك، الرامي أو المرمي؟ قال: بل الرامي) .
أخرجه البخاري في "التاريخ " (4/ 301/07 29) ، وأبو يعلى في "مسنده الكبير"
- كما في "تفسير ابن كثير" (2/265) و"المطالب العالية" (4/273/4423) -، ومن طريق أبي يعلى: ابن حبان في "صحيحه " (1/148/ 81) ، والبزار في
"(7/605)
مسنده " (1/99/175) من طرق عن محمد بن بكر عن الصلت] بن بهرام [: حدثنا الحسن: حدثنا جندب البجلي- في هذا المسجد- أن حذيفة حدثه قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره. وقال ابن كثير:
"هذا إسناد جيد، والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين، ولم يُرْمَ بشيء
إلا الإرجاء، وقد وثقه أحمد وابن معين وغيرهما".
وأقول: لا شك أن الصلت بن بهرام ثقة، ولكن هل هو راوي هذا الحديث
عن الحسن- وهو البصري-؟! هذا فيه نظر، وإن كان جزم به ابن كثير، وسلفه في ذلك ابن حبان، فقد قال في ترجمة الصلت بن بهرام من "ثقاته " (6/471) : "كوفي عزيز الحديث، يروي عن جماعة من التابعين، روى عنه أهل الكوفة،
وهو الذي يروي عن الحسن، روى عنه محمد بن بكر المقرئ الكوفي- ليس بالبَرَساني-، ومن قال: إنه الصلت بن مهران؛ فقد وهم، إنما هو الصلت بن بهرام ". كذا قال! وتعقبه الحافظ بقوله في "التهذيب ":
"هذا الذي رده جزم به البخاري عن شيخه علي بن المديني، وهو أخبر بشيخه، وقال البخاري في "التاريخ ": قال لي علي: ثنا محمد بن بكر البرساني عن الصلت بن مهران: حدثني الحسن البصري ... فذكر حديثاً ".
قلت: وهو هذا، وفيما ذكره كل من الحافظ وابن حبان ما يلفت النظر:
أولاً: لا يوجد في نسخة "التاريخ " المطبوعة: " البرساني، ابن مهران، البصري "؛فالظاهر أن ذلك من الحافظ ذكره من عنده على سبيل البيان لا الرواية.
ثانياً: جزم ابن حبان بأن محمد بن بكر الراوي عن الصلت ليس هو البرساني، لا أدري ما مستنده في ذلك؟! بل هو مخالف لصنيع الحفاظ الذين ذكروا في(7/606)
ترجمة البرساني أنه روى عنه علي بن المديني ومحمد بن مرزوق الباهلي، وهما ممن رويا هذا الحديث عنه، الأول عند البخاري كما تقدم، والآخر عند أبي يعلى وابن حبان وكذا البزار، بل إن هذا وقع في إسناده أنه (البرساني) !
ثالثاً: لا نعرف في الرواة (محمد بن بكر المقرئ الكوفي) حتى يَرِدَ جزم ابن حبان بأنه هو، ولو احتمالاً، وكان على ابن حبان أن يورده في "ثقاته " كما فعل بـ (البرساني) ، فقد أورده في موضعين منه؛ في (أتباع التابعين) (7/442) ، وفي (أتباع أتباعهم) (9/38) ؛ فهو إذن من المجهولين.
رابعاً: سلمنا- جدلاً- أنه غير البرساني، فلا يستقيم جزمه بأن الصلت هو
ابن بهرام، لأنه لم يقع التصريح به إلا في رواية المقرئ هذا، وهو غير معروف.
خامساً: إذا كان الأمر كذلك؛ فمن يكون الصلت هذا؟ أما البخاري فصنيعه المتقدم صريح بأنه ابن مهران؛ لأنه ساق الحديث في ترجمته، ونحوه قول ابن أبي
حاتم فيه (4/439/927 1) :
"روى عن الحسن وشهر بن حوشب، وعنه محمد بن بكر البرساني وسهل
ابن حماد".
وعليه " فالصلت هنا اثنان: ابن بهرام، وقد وثقه جماعة كما تقدم، وابن مهران، وهو غير مشهور؛ لأنه لم يرو عنه غير البرساني وشهر، ولذلك قال الذهبي في " الميزان ":
"مستور، قال ابن القطان: مجهول الحال ".
وظاهر كلام البزار يميل إلى أن الصلت هذا هو الأول؛ فقد قال عقب الحديث:
"(7/607)
لا نعلمه يروى إلا عن حذيفة، وإسناده حسن، والصلت مشهور، ومن بعده لا يسأل عن أمثالهم ".
قلت: وسواء كان هذا أو ذاك، فالحديث حسن إن شاء الله تعالى؛ لأن له شواهد في الجملة، منها حديث عمر مرفوعاً:
"إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان "
رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن عمر، وهو مخرج فيما تقدم (3/11/1013) . ورواه البيهقي في "شعب الإيمان " (2/284/777 1) بلفظ:
".. منافق يتكلم بالحكمة، ويعمل بالجور".
وحديث ابن عمر مرفوعاً بلفظ:
"إذا قال الرجل للرجل: "يا كافر! فقد باء به أحدهما إن كان كما قال، وإلا؛ رجعت على الآخر".
أخرجه أحمد (2/44) ، ومسلم وغيرهما، وقد مضى تخريجه برقم (2891)
في المجلد السادس-. *
3202- (من صام الدهر؛ ضيِّقت عليه جهنم هكذا- وعقد
تسعين-) .
أخرجه الطيالسي في "مسنده " (514) ، وعنه البزار في "مسنده " (1041) ، وكذا البيهقي (4/300) : حدثنا الضحاك بن يسار عن أبي تميمة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
ثم أخرجه البيهقي، وابن أبي شيبة (3/78) ، وأحمد (4/414) ،(7/608)
وابن حبان (5/238/3576) من طرق أخرى عن الضحاك بن يسار به.
قلت: وهذا إسناد جيد، أبو تميمة- واسمه طريف بن مجالد الهجيمي- ثقة
من رجال البخاري.
والضحاك بن يسار، قال ابن أبي حاتم (4/462/ 2040) :
"سألت أبي عنه؟ فقال: لا بأس به ".
وذكر عن ابن معين أنه قال:
"يضعفه البصريون ".
وضعفه آخرون ذكرهم الحافظ في "التعجيل "، وهو جرح غير مفسر، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات " (6/683) ، وروى عنه جمع من الحفاظ مثل وكيع وأبي نعيم ومسلم بن إبراهيم، وغيرهم، فمثله يحتج به، وتطمئن النفس لحديثه،
ولا سيما وقد توبع، فقال الطيالسي (513) : حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي تميمة به موقوفاً. وقال:
"لم يرفعه شعبة، ورفعه سعيد".
يعني: ابن أبي عروبة.
ومن طريق الطيالسي أخرجه البيهقي أيضاً.
وقد توبع، فقال ابن أبي شيبة (3/78) : حدثنا وكيع عن شعبة به.
وكذا رواه أحمد (4/414) : ثنا وكيع ...
وتابعه الثوري في "مصنف عبد الرزاق " (4/296/7866) ؛ فقال: عن الثوري
عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى به.(7/609)
كذا وقع فيه! لم يذكر قتادة بين أبي تميمة والثوري، وهذا لم يدرك أبا
تميمة (1) ، فلا أدري أسقط ذكر قتادة من الناسخ أو الطابع، أم الرواية هكذا؟! والأول أرجح، والله أعلم.
ولم يتنبه لهذا الانقطاع: المعلق على "المصنف "، وكذا المعلق على "الإحسان "
(8/ 350- طبع المؤسسة) .
وأما رواية سعيد المرفوعة، فقال الروياني في "مسنده " (ق 107/2) : نا محمد
ابن بشار: نا ابن أبي عدي وعبد الأعلى (2) قالا: نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة
به مرفوعاً.
وهكذا أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه " (3/313/2154) ، والبزار أيضاً (1040) من طريق محمد بن أبي عدي وحده.
قلت: وهذا إسناد صحيح، ولا يضرُّه وقف من أوقفه؛ فإنه لا يقال بالرأي
كما هو ظاهر، وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (1/238) :
"أخرجه أحمد والنسائي قي "الكبرى" وابن حبان، وحسنه أبو علي الطوسي ". قلت: ليس هو في "كبرى النسائي " المطبوعة حديثاً، وهي من رواية ابن الأحمر، وقد أفاد الحافظ المزي في "تحفة الأشراف " (6/423) أنه في رواية أبي الحسن بت حَيَّوَيهِ عن النسائي.
وقال الهيثمي (3/193) :
"رواه أحمد والبزار والطبراني في " الكبير"، ورجاله رجال الصحيح ".
_________
(1) لأن هذا مات في خلافة سليمان بن عبد الملك، وفيها ولد سفيان.
(2) فيه رد لقول ابن خزيمة: "لم يسنده عن قتادة غير ابن أبي عدي"!(7/610)
قلت: والحديث ظاهر الدلالة في تحريم صوم الدهر، وبه قال ابن حزم في "المحلى" (7/12- 16) ، واستدل على ذلك أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام الدهر؛ فلا صام ولا أفطر".
ولقد تكلف كثير من العلماء في رد دلالتهما بتأويلهما، وبخاصة الأول منهما؛ فقد حمله ابن حبان على من صام الدهر الذي فيه أيام العيد والتشريق! وأسوأمنه من تأوَّله بقوله:
"ضُيِّقُت عنه جهنم حتى لا يدخلها"!
حكاه ابن خزيمة وغيره عن المزني! ولقد أحسن ابن حزم في ردْه بقوله:
"وهذه لكنة وكذب.
أما اللكنة؛ فإنه لو أراد هذا؛ لقال: "ضيقت عنه "، ولم يقل: "عليه ".
وأما الكذب؛ فإنما أورده رواته كلهم على التشديد والنهي عن صومه ".
وانظر ما كنت علقته على كلمة المزني في "صحيح ابن خزيمة" (3/314) . *
3203- (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير) .
أخرجه أبو داود (1/388- جهاد) ، وا لحا كم (4/ 486- 487) ، وعبد الرزاق
(11/376/20790) ، وأحمد (2/84 و 198- 199و209) ، وأبو نعيم في "الحلية" (6/54 و 66) ، وابن عساكر في"تاريخ دمشق " (1/149 و150- طبع دمشق) من طريق شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً ... وفيه قصة.(7/611)
قلت: وهذا إسناد ضعيف، سكت عنه الحاكم والذهبي، وعلته شهر هذا؛
فإنه ضعيف لسوء حفظه. ومع ذلك؛ فقد قال الحافظ في "الفتح " (11/380) : "أخرجه أحمد، وسنده لا بأس به "!
ثم وجدت للحديث طريقاً أخرى، وشاهداً، يتقوى الحديث بهما ولا بد.
أما الطريق الأخرى؛ فقال الحاكم (4/ 510) : أخبرني أحمد بن محمد بن
سلمة العنزي (!) : ثنا عثمان بن سعيد الدارمي: ثنا عبد الله بن صالح: ثنا موسى ابن علي بن رباح قال: سمعت أبي يقول:
خرجت حاجّاً، فقال لي سليمان بن عنز- قاضي مصر-: أبلغ أبا هريرة مني السلام، وأعلمه أني قد استغفرت الغداة له ولأمه، فلقيته؛ فأبلغته، قال: وأنا قد استغفرت له، ثم قال: كيف تركتم أم حنو؟ يعني مصر، قال: فذكرت له من رفاهيتها وعيشها، قال: أما إنها أول الأرض خراباً، ثم أرمينية؛ قلت: سمعت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، ولكن حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص
- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إنها تكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض.. " الحديث.
وقال الحاكم:
"حديث صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي!
وأقول: عبد الله بن صالح- وهو أبو صالح كاتب الليث- ليس من رجال
مسلم، ثم إن فيه كلاما من قبل حفظه، وقد توسط فيه الحافظ في "مقدمة
الفتح "، فقال بعد أن ساق أقوال أئمة الجرح فيه:(7/612)
"قلت: ظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن حديثه في الأول كان مستقيماً، ثم طرأ عليه فيه تخليط، فمقتضى ذلك أن ما يجيء من روايته عن أهل الحذق، كيحيى ابن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم؛ فهو من صحيح حديثه، وما يجيء من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه ... ".
قلت: ولعل من هؤلاء الحذاق عثمان بن سعيد الدارمي؛ فقد ذكر الذهبي
في ترجمته من "السير" (13/ 320) أنه أخذ علم الحديث وعلله عن علي ويحيى وأحمد، وفاق أهل زمانه، ووصفه في مطلع ترجمته بـ: "الإمام العلامة الحافظ الناقد ... ".
لكن يبقى النظر في حال شيخ الحاكم أحمد بن محمد بن سلمة العنزي؛ فإني لم أجد له ترجمة، لكن يظهر من تصحيح الحاكم لحديثه هذا أنه ثقة عنده.
وقد ذكره الذهبي في الرواة عن الدارمي، لكنه لم يسم جده، وقال في نسبته (العنبري) مكان (العنزي) ، فهو ممن يستشهد به على الأقل. والله أعلم.
وأما الشاهد؛ فيرويه يحيى بن حمزة: ثنا الأوزاعي عن نافع- وقال أبو
النضر: عمن حدثه عن نافع- عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة ... " الحديث.
أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات " (ص 464) وابن عساكر (1/ 151)
من طريق أبي النضر إسحاق بن إبراهيم بن يزيد وهشام بن عمار الدمشقيين قالا: ثنا يحيى بن حمزة به.(7/613)
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات رجال البخاري، فهو صحيح؛ لولا الواسطة
بين الأوزاعي ونافع؛ فإنه لم يسم، مع أن رواية الأوزاعي عن نافع ثابتة في "صحيح البخاري ".
وعلى كل حال؛ فهو شاهد صالح، وبه يرتقي الحديث إلى مرتبة الصحة إن
شاء الله تعالى.
وهنا بعض التنبيهات التي لا بد منها:
أولاً: كنت ذكرت الحديث في "الضعيفة" برقم (3697) من الطريق الأولى، فلما وقفت على الطريق الأخرى والشاهد؛ لم استجز إبقاءه هناك، فنقلته إلى
هنا، سائلاً المولى سبحانه وتعالى مزيداً من التوفيق والهداية.
ثانياً: وبناء على ذلك نقلته أيضاً من "ضعيف الجامع " (3258) إلى "صحيح الجامع "، فالرجاء من مقتنيهما، أن يفعل هذا.
ثالثاً: لقد جاء الحديث في "الفتح الكبير" الذي هو أصل كتابي "صحيح
الجامع"و"ضعيف الجامع"غير مرموز له بحرف (ز) إشارة إلى أنه من"الزيادة على الجامع الصغير" كما جرى عليه مؤلف "الفتح "، وبناء عليه؛ جاء في "ضعيف الجامع وزيادته"غير مقرون برقمه الخاص الذي كنت اصطلحت عليه مكان حرف (ز) ؛والآن تبين لي أنه ليس في"الجامع الصغير" وإنما في"الزيادة عليه" فاقتضى التنبيه.
رابعاً: أشار المنذري إلى تقوية الحديث بمجموع الطريقين عن ابن عمرو؛ بتصديره إياه بلفظ: "عن "، ولكنه في الوقت نفسه أشار إلى تخطئة الحاكم في تصحيحه إسناده، بقوله (3/62) :(7/614)
"رواه أبو داود عن شهر عنه، والحاكم عن أبي هريرة عنه، وقال: "صحيح
على شرط الشيخين " كذا قال! ".
وقد عرفت علة إسناده، وأنه محل للاستشهاد به، ولعله لذلك جزم شيخ الإسلام ابن تيمية بنسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير ما موضع من "فتاويه "، فانظر (ص 41 و 44و509) من المجلد (27) من "مجموع الفتاوى"، وقال في الصفحة الأخيرة من المذكورات؛ في فصل كان عقده في فضل الشام وأهله:
"وفي هذا الحديث بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من (حران) وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم، ودين نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد (كذا، ولعل الصواب: تعدل) هجرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم يعدل لنا مهاجر نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الهجرة انقطعت بفتح مكة".
وبهذه المناسبة يحق لي أن أقول بيانأ للتاريخ، وشكرأ لوالدي- رحمه الله تعالى-:
وكذلك في الحديث بشرى لنا: آل الوالد الذي هاجر بأهله من بلده
(أشقودرة) عاصمة (ألبانيا) يومئذ؛ فراراً بالدين من ثورة (أحمد زوغو) أزاغ الله قلبه، الذي بدأ يسير في المسلمين الألبان مسيرة سلفه (أتاتورك) في الأتراك، فجنيت- بفضل الله ورحمته - بسبب هجرته هذه إلى (دمشق الشام) ما لا أستطيع أن أقوم لربي بواجب شكره، ولو عشت عمر نوح عليه الصلاة والسلام؛ فقد تعلمت فيها اللغة العربية السورية أولاً، ثم اللغة العربية الفصحى ثانياً، الأمر الذي مكنني أن أعرف التوحيد الصحيح الذي يجهله أكثر العرب الذين كانوا من(7/615)
حولي- فضلاً عن أهلي وقومي-؛ إلا قليلاً منهم، ثم وفقني الله- بفضله وكرمه
دون توجيه من أحد منهم- إلى دراسة الحديث والسنة أصولاً وفقهاً، بعد أن درست على والدي وغيره من المشايخ شيئاً من الفقه الحنفي وما يعرف بعلوم الآلة، كالنحو والصرف والبلاغة، بعد التخرج من مدرسة (الإسعاف الخيري) الابتدائية، وبدأت أدعو من حولي من إخوتي وأصحابي إلى تصحيح العقيدة، وترك التعصب المذهبي، وأحذرهم من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وأرغبهم في إحياء السنن الصحيحة التي أماتها حتى الخاصة منهم، وكان من ذلك إقامة صلاة العيدين في المصلى في دمشق، ثم أحياها إخواننا في حلب، ثم في بلاد أخرى في سوريا، واستمرت هذه السنة تنتشر حتى أحياها بعض إخواننا في (عمان/ الأردن) ؛ كما حذرت الناس من بناء المساجد على القبور والصلاة، وألفت في ذلك كتابي "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد"، وفاجأت قومي وبني وطني الجديد بما لم يسمعوا من قبل، وتركت الصلاة في المسجد الأموي، في الوقت الذي كان يقصده بعض أقاربي؛ لأن قبر يحيى فيه كما يزعمون! ولقيت في سبيل ذلك- من الأقارب والأباعد- ما يلقاه كل داعية للحق لا تأخذه في الله
لومة لائم، وألفت بعض الرسائل في بعض المتعصبين الجهلة، وسُجِنْتُ مرتين بسبب وشاياتهم إلى الحكام الوطنيين والبعثيين، وبتصريحي لبعضهم حين
سئلت: لا أؤيد الحكم القائم؛ لأنه مخالف للإسلام، وكان ذلك خيراً لي وسبباً
لانتشار دعوتي.
ولقد يسر الله لي الخروج للدعوة إلى التوحيد والسنة إلى كثير من البلاد السورية والعربية، ثم إلى بعض البلاد الأوروبية، مع التركيز على أنه لا نجاة للمسلمين مما أصابهم من الاستعمار والذل والهوان، ولا فائدة للتكتلات(7/616)
الإسلامية، والأحزاب السياسية إلا بالتزام السنة الصحيحة وعلى منهج السلف الصالح- رضي الله عنهم-؛ وليس على ما عليه الخلف اليوم- عقيدة وفقهاً وسلوكاً-؛ فنفع الله ما شاء ومن شاء من عباده الصالحين، وظهر ذلك جليّاً
في عقيدتهم وعبادتهم، وفي بنائهم لمساجدهم، وفي هيئاتهم وألبستهم، مما يشهد به كل عالم منصف، ولا يجحده إلا كل حاقد أو مخرف، مما أرجو أن يغفر الله لي بذلك ذنوبي، وأن يكتب أجر ذلك لأبي وأمي، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات: (ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) ، ربِّ (.. وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين) .
خامساً: كنت علَّقت على الفصل المشار إليه آنفاً، حين قام بطبعه صاحب المكتب الإسلامي بتعليقي عليه، ألحقه بكتابي "تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي "، وفيه هذا الحديث كما تقدم، وكنت علقت عليه بما خلاصته أنه حديث حسن، ثم خرجته من الطريقين عن ابن عمرو مبيِّنآً علتهما باختصار، وختمته بقولي:
"ولكن الحديث قوي بمجموع الطريقين إن شاء الله تعالى".
ولما قام بطبع مشروعي "صحيح السنن الأربعة" و"ضعيفها" بتكليف من "مكتب التربية العربي "دون علمي؛ أخذ يتصرف بها ويعلق عليها كما يوحي إليه جهله وغروره بما لا يتسع المجال الآن لبيانه، ولا سيما وقد بينت شيئاًً من ذلك في غير ما موضع.
والمقصود الآن أن هذا الحديث، كنت أوردته في "ضعيف أبي داود" لضعف(7/617)
إسناده كما تقدم بيانه، وبناءً على الاتفاق القائم بيني وبين مكتب التربية- كما
هو منصوص عليه في مقدمة "ضعيف أبي داود" (ص 8- 9) وغيره-؛ فقلت فيه تحت الحديث:
"ضعيف".
أي: ضعيف إسناده، فأضاف الصاحب من عنده معتدياً:
" [ضعيف الجامع الصغير] ".
وزاد في الاعتداء فعلق عليه بما لا يخرج عن الخلاصة التي ذكرتها آنفاً،
ولكن بأسلوب ماكر يفهم القارئ منه أنني متناقض، تماماً كما يفعل ذاك السقاف الجاهل الحاقد مدعي "التناقضات " بجهله المتراكم، فسار على وتيرته الصاحب القديم! بالتعليق المشار إليه، وكان حقه- لو اتقى الله وأنصف- أن يبين أنه لا تناقض بين التضعيف؛ فهو بالنظر لسند أبي داود، والتحسين؛ فهو بالنظر لمجموع الطريقين كما هو صريح في تخريجي على الفصل المشار إليه آنفاً.
ولم يكتف بهذا الاعتداء؛ بل جاء بثالثة الأثافي! فأخذ يوهم القراء
التناقض في اسم صحابي الحديث؛ إذ وقع في التعليق المذكور "ابن عمر" خطأ مطبعيّاً أو قلمياً، قال:
"وذكر في "صحيح (كذا) الجامع " أنه عن ابن عمرو"!
هكذا وقع في تعليقه هذا: "صحيح الجامع "! وهو خطأ أيضاً قلمي أو مطبعي، فكأن الله أراد أن يخزيه فوقع فيما رمى به غيره؛ مصداقاً للحكمة القائلة: "من حفر بئراً لأخيه؛ وقع فيه "! فاعتبروا يا أولي الأبصار! والله المستعان، ولا حول ولا قوة(7/618)
إلا بالله، نسأل الله تعالى أن يحفظنا من فتن هذا الزمان وشرور أهله.
ثم رأيت الحافظ إبراهيم الناجي قد نبه في"عجالة الإملاء" (ق 5 20/ 1) أن
قول المنذري- فيما تقدم- أن الحاكم رواه عن أبي هريرة عن ابن عمرو وهم؛ إذ ليس في إسناد الحاكم ذكر لأبي هريرة مطلقاً! ومن الواضح جداً أنه يعني الطريق الأولى التي فيها شهر، وأنه لم يقف على الطريق الأخرى، فإنها من رواية أبي هريرة عن ابن عمرو- رضي الله عنهما-.
وإن من غفلة المعلقين الثلاثة على "الترغيب " وجهلهم وتقليدهم؛ أنهم مع عزوهم (3/642) الحديث للحاكم برقم الصفحة التي فيها الطريق الأخرى؛ فإنهم مع ذلك ضعفوا الحديث وأعلُّوه بـ (شهر بن حوشب) !! *
3204- (إذا أراد أحدكم أن يسأل؛ فليبدأ بالمدحة والثناء على
الله بما هو أهله، ثم ليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ليسأل بعد؛ فإنه أجدر أن ينجح) .
موقوف في حكم المرفوع: أخرجه عبد الرزاق في"المصنف " (1/ 441/19642) ،
ومن طريقه: الطبراني في "المعجم الكبير" (9/170/ 8780) عن معمر عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن ابن مسعود قال: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ لانقطاعه بين أبي عبيدة وأبيه، قال الهيثمي في "المجمع " (10/155) :
"رواه الطبراني، ورجاله رجال "الصحيح "؛ إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ". قلت: فقوله (10/160) :
"وهو حديث جيد"!(7/619)
غير جيد للانقطاع الذي فيه، وأيضاً فأبو إسحاق- وهو السبيعي- مدلس مختلط؛ إلا إن كان يريد أنه جيد لشواهده، فهو كما قال، ولكنه لم يوضح.
فيقويه أن له طريقاً أخرى عند الترمذي (2/184/593) من طريق أبي بكر
ابن عياش عن عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله قال:
كنت أصلي؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء
على الله، ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"سل تعطه، سل تعطه ".
وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح ".
قلت: إسناده حسن، وقد أخرجه أحمد (1/445) من طريق أخرى عن
زائدة: ثنا عاصم بن أبي النجود بالجملة الأخيرة منه في قصة أخرى. وكذلك رواه شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله.
أخرجه أحمد (1/386 و 437) ؛ وانظر "تخريج المختارة" (455) و" المشكاة" (931) .
وله شاهد آخر بنحوه، تقدم برقم (2035) . *
من أدبه - صلى الله عليه وسلم - مع نسائه
3205- (كذلك سَوْقُكَ بالقوارير، يعني النساء. قاله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع) .
أخرجه أحمد (6/337- 338) : حدثنا عبد الرزاق قال: ثنا جعفر بن(7/620)
سليمان عن ثابت قال: حدثتني شميسة- أو سمية؛ قال عبد الرزاق: هو في
كتابي سمينة- عن صفية بنت حُيَيٍّ:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج بنسائه، فلما كان في بعض الطريق؛ نزل رجل فساق بهن فأسرع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره، فبينما هم يسيرون؛ بَرَكَ بصفية بنت حيي جملُها، وكانت من أحسنهن ظهراً، فبكت، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُخبر
بذلك، فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها، فلما أكثرت زَبَرَها وانتهرها، وأمر الناس بالنزول فنزلوا، ولم يكن يريد أن ينزل، قالت: فنزلوا، وكان يومي، فلما نزلوا ضرب خباء النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل فيه، قالت: فلم أدرِ عَلامَ أهجم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخشيت أن يكون في نفسه شيء مني! قالت: فانطلقت إلى عائشة فقلت لها: تعلمين أني لم أكن أبيع يومي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء أبداً، وإني قد وهبت يومي لك على أن تُرْضِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني! قالت: نعم، قالت: فأخذت عائشة خماراً لها قد ثردته بزعفران، فرشته بالماء ليذكى ريحه، ثم لبست ثيابها، ثم انطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفعت طرف الخباء، فقال لها:
"ما لك يا عائشة؟! إن هذا ليس بيومك ".
قالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فقال مع أهله.
فلما كان عند الرواح؛ قال لزينب بنت جحش:
"يا زينب! أفقري أختك صفية جملاً".
وكانت من أكثرهن ظهراً، فقالت: أنا أفقر يهوديتك! فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع ذلك منها، فهجرها فلم يكلمها حتى قدم مكة وأيام منى في سفره،
حتى رجع إلى المدينة؛ والمحرم وصفر، فلم يأتها، ولم يَقْسِم لها، ويئست منه.(7/621)
فلما كان شهر ربيع الأول؛ دخل عليها، فرأت ظلَّه، فقالت: إن هذا لظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن هذا؟! فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأته قالت: يا رسول الله! ما أدري ما أصنع حين دخلت علي؟!
قالت: وكانت لها جارية، وكانت تخبِّئُها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: فلانة لك، فمشى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سرير زينب، وكان قد رُفع، فوضعه بيده، ثم أصاب أهله، ورضي عنهم.
ثم قال أحمد عقب هذا الحديث- وفي "مسند عائشة (6/131- 132) -:
ثنا عفان: ثنا حماد- يعني: ابن سلمة- قال: ثنا ثابت عن شميسة عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر له، فاعتلَّ بعير لصفية، وفي إبل زينب فضل، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن بعيراً لصفية اعتل، فلو أعطيتِها بعيراً من إبلك ".
فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية؟!
قال: فتركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا الحجة والمحرم شهرين أو ثلاثة لا يأتيها، قالت: حتى يئستُ منه، وحَوُّلْتُ سريري.
قالت: فبينما أنا يوماً بنصف النهار؛ إذا أنا بظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُقْبِل.
قال عفان: حدثنيه حماد عن شميسة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم سمعته بعد
يحدثه عن شميسة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعد: في حج أو عمرة، ولا أظنه إلا قال: في حجة الوداع.
وأخرجه الطبراني في" المعجم الأوسط " (1/145/2/ 2770) - بتمامه نحوه-،(7/622)
والنسائي، وابن ماجه، وأبو داود- بعضه-، وهو مخرج في "الإرواء" (7/85) ، وسقط تخريجه من مطبوعته، فيستدرك من هنا.
وقد قلت هناك:
"ورجاله ثقات رجال مسلم؛ غير سمية هذه، وهي مقبولة عند الحافظ ابن
حجر".
وأزيد هنا فأقول: وذكرها الذهبي في آخر "الميزان " في فصل "النسوة المجهولات "، وقال في أوله:
"وما علمت في النساء من اتُّهِِمَتْ، ولا من تركوها".
وقال الهيثمي في حديث عائشة (4/323) :
"رواه الطبراني في "الأوسط "، وفيه سمية، روى لها أبو داود وغيره، ولم يجرِّحها أحد، وبقية رجاله ثقات "!
كذا قال! وفاته عزوه لأحمد، وفي روايته لحديث صفية ملاحظتان:
إحداهما: موافقة ما في كتاب عبد الرزاق لما في رواية أحمد وغيره لحديث عائشة أن الراوي عن صفية، وعن عائشة هي "سمية"، لكن وقع في مطبوعة عبد الرزاق: "سمينة " بزيادة النون بين الياء والهاء! وأظنها خطأ مطبعياً.
والأخرى: أن في حفظ عبد الرزاق أن اسم الراوي "شميسة " تصغير "الشمس "، وهذا موافق لما رواه البخاري في "الأدب المفرد" (47/142) من طريق شعبة عن شميسة العتكية قال:
ذُكِرَ أدب اليتيم عند عائشة- رضي الله عنها-، فقالت:(7/623)
إني لأضرب اليتيم حتى ينبسط.
ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير شميسة هذه؛ فقد أوردها المزي في
" التهذ يب "، وقال:
"روى عنها شعبة بن الحجاج وهشام بن حسان ".
ثم ساق له هذا الأثر، ولم يحكِ فيها جرحاً ولا تعديلاً، وتبعه الحافظ، وهذه
غريبة منهما! نتجت من غريبة أخرى، وهي أن ابن أبي حاتم أوردها في "الجرح والتعديل " (2/ 1/ 391) ؛ فوقع فيه على أنها رجل؛ ففيه:
"شميسة روى عنه شعبة".
ثم روى بسنده عن عثمان بن سعيد قال: سأ لت يحيى بن معين؛ قلت: شمسية؟ قال: "ثقة".
وعلق عليه محققه الفاضل بقوله:
"شميسة امرأة، فالصواب: "روى عنها".. ولم يذكر المزي ولا ابن حجر توثيق ابن معين لها، كأنهما لم يعثرا على ذكر المؤلف لها في أسماء الرجال؛ وقد وقع له مثل هذا في "دقرة" كما تقدم في باب الدال ".
وأفاد هناك (2/1/444) أن قوله: "روى عنه " خطأ من تصرف من بعد المؤلف؛ فإنه قد يذكر نادراً بين تراجم الرجال بعض النسوة كما في آخر باب الذال: "ذرة، روت عن عائشة ... ".
وإن مما يؤيد الخطأ المذكور: أن يزيد بن الهيثم قد روى- في جزء "من كلام
أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال "، تحقيق الدكتور أحمد محمد نور سيف-(7/624)
مثلما روى عثمان بن سعيد عنه، فقال (105/333) :
"قيل له: فشميسة؟ قال: ثقة، روى عنها شعبة، وابن أبي حازم والدراوردي،
ليس بها بأس ".
قلت: وهذه فائدة هامة تضم إلى ترجمة شميسة في "تهذيب المزي "
وفروعه، وقد ذكر عبد الله بن أحمد شميسة هذه فيمن رأى شعبة من الرواة في كتابه "العلل " (1/162) ، ثم قال (1/267 و 2/245) : حدثني أبي قال: حدثنا عبيد الله بن ثور قال: حدثتني أمي قالت:
رأيت شميسة بنت عزيز بن غافر (1) الوسقية- قال عبيد الله: بطن منا، يعني العتيك- عليها خلخالان، وهي عجوز كبيرة.
قلت: والظاهر أنها التي في "تاريخ واسط " لبحشل، قال (109/88) : حدثنا محمد بن إسماعيل قال: ثنا عفان قال: ثنا شعبة قال: قالت لي أمي: ههنا امرأة تحدث عن عائشة- رضي الله عنها-؛ اذهب فاسمع منها، قال: فذهبت فسمعت منها، فقلت: قد ذهبت، قالت: سلمك الله. قال أبو الحسن (هو بحشل المؤلف) :
"هذه المرأة يقال لها: شمسية (كذا) أم سلمة".
وهذه فائدة أخرى تفرد بها (بحشل) أن كنيتها أم سلمة، وهو مما يستدرك
على الحافظ الذهبي في "المقتنى في سرد الكنى".
وقوله: "شمسية" أظنه محرفاً من "شميسة"، والله تعالى أعلم.
وجملة القول: أن "شميسة" هذه ثقة، بخلاف سمية، فهي مجهولة،
__________
(1) كذا بالغين المعجمة في الموضعين منه، وفي"الإكمال" (7/6) ، و"تهذيب الكمال": "عاقر"؛وهو الصواب كما في "التبصير"(7/625)
وكلاهما تابعية بصرية تروي عن عائشة، فإن كانتا واحدة فالحديث صحيح، ولا سيما وجملة القوارير منه صحيحة؛ لأن لها شاهداً من حديث أنس- رضي الله
عنه-، فقال أحمد (3/206) : ثنا روح: ثنا زُرارة بن أبي الحلال العتكي قال: سمعت أنس بن مالك يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يا أنجشة! كذاك سيرك بالقوارير".
قلت: وسنده ثلاثي صحيح متصل بالسماع؛ روح- وهو ابن عبادة- ثقة من رجال الشيخين، وزرارة وئقه ابن حبان وابن خُلفون، وروى عنه جمع آخر من الثقات، كما في "التعجيل ":
وتابعه حميد عند الحارث- كما في "الفتح " (10/544) -، وذكر أن قوله:
" كذاك " معناه: كفاك.
وله طرق أخرى عن أنس بمعناه في "الصحيحين " وغيرهما، وقد خرجت بعضها في "السلسلة الأخرى" تحت الحديث (6059) .
(تنبيه) : تقدم عند الكلام في ترجمة "شميسة العتكية" نقلاً عن "الجرح والتعديل " أن الذي وثقها إنما هو ابن معين، وهو الموافق لما في "جزء يزيد بن الهيثم " كما تقدم، فقول الشيخ الجيلاني في "شرح الأدب المفرد" (1/236) : "وثقها ابن عدي (كتاب الجرح والتعديل. النسخة الخطية المملوكة لدائرة المعارف بحيدر أباد الدكن) "!
قوله: "ابن عدي " تحريف "ابن معين "، لا أدري أهو من النسخة، أم من الناقل عنها، أم الطابع؟ وأياً ما كان فهو خطأ بلا شك لما تقدم، ولأن ابن أبي حاتم(7/626)
لا يروي عن ابن عدي شيئاً؛ فإن بين وفاتيهما (38) سنة، توفي الأول سنة (327) ، وا لآخره سنة (365) .
3206- (لا تكرهوا البنات؛ فإنَّهنَّ المؤنسات الغاليات) .
أخرجه أحمد (4/ 151) ومن طريقه: ابن الجوزي في "العلل "، وتمّام
(11/197/2) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/310/856) عن ابن لهيعة عن أبي عُشَّانةَ عن عقبة بن عامر مرفوعاً.
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ لسوء حفظ ابن لهيعة، وبه أعله ابن الجوزي.
وقد جاء من طريق أخرى مرسلاً وموصولاً:
أما المرسل؛ فأخرجه علي بن حرب الطائي في حديثه (ق 81/ 1) : نا أبو
معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه مرفوعاً به؛ إلا أنه قال:
" المحقَّرات " بدل: " الغاليات ".
وأما الموصول؛ فأخرجه ابن عدي (6/278) ، ومن طريقه: ابن الجوزي عن محمد بن معاوية قال: ثنا أبو معاوية الضرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعاً.
ومحمد بن معاوية- وهو النيسا بوري-: متروك متهم.
وبعد كتابة هذا بنحو عشرين سنة؛ تبين لي أن رواية قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة ملحقة- من حيث الصحة- برواية العبادلة عنه كما بينه الحافظ الذهبي في "السير"، ونقلته عنه في غير ما موضع من تخريجاتي وتعليقاتي (1) ، ولما كان هذا
__________
(1) انظر مثلا "الصحيحة" (1/595) ، و (6/825) ، و"الضعيفة" (1/421) .(7/627)
ولما كان هذا الحديث من رواية قتيبة عن ابن لهيعة؛ فقد قررت نقله من "الضعيفة" إلى هنا، وبخاصة أنه يشهد له مرسل عروة بن الزبير.
3207- (أنا حظُّكُم من الأنبياء، وأنتم حظِّي من الأمم) .
أخرجه ابن حبان (2304) ، وا بن شاهين في "الأفراد" (ق 4/ 1) ، والبزار
(3/ 321/2847) ، وأبو نعيم في"أخبار أصبهان" (2/ 224- 225) من طريق أبي كريب محمد بن العلاء: حدثنا زيد بن الحُبَاب: حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي حَبِيبة الطائي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره. وقال البزار:
"لا نعلمه رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أبو الدرداء، ولا نعلم رواه عن زيد بن
حُباب إلا أبو كريب ".
كذا قال! ومع أن أبا كريب ثقة من رجال الشيخين؛ فلم يتفرد به؛ فقد فال
ابن شاهين عقبه:
"وهو حديث صحيح، تابعه أبو عامر الأسدي عن الثوري ".
وأقول: هذه المتابعة أخرجها الطبراني في "الكبير"، فقد أورده الهيثمي في
"مجمع الزوائد" (1/174) بأتم منه، فقال:
"وعن أبي الدرداء قال:
جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! جوامع
من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زُرَيق، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عبد الله بن زيد- الذي أُرِيَ الأذان-: أمسخ الله عقلك؟! ألا ترى الذي بوجه(7/628)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً! فَسُرِّيَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال:
"والذي نفس محمد بيده! لو كان موسى بين أظهركم، ثم اتبعتموه وتركتموني؛ لضللتم ضلالاً بعيداً، أنتم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين ". هكذا ساقه الهيثمي، وقال:
"رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه أبو عامر القاسم بن محمد الأسدي، ولم
أر من ترجمه، وبقية رجاله وثقوا"!
كذا قال! وفيه نظر من ناحيتين:
الأولى: أن أبا عامر هذا ترجمه البخاري (4/ 1/164) وابن أبي حاتم فقالا:
"القاسم بن محمد أبو عامر سمع سفيان الثوري، روى عنه يحيى بن واضح
أبو تميلة".
زاد ابن أبي حاتم:
"ومنجاب بن الحارث ".
ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً! وذكره ابن حبان في "الثقات " (5/305)
هكذا:
"القاسم بن محمد أبو نهيك الأسدي، يروي عن أنس بن مالك، روى عنه
منصور والثوري ".
هكذا أورده في طبقة (التابعين) لروايته عن أنس.(7/629)
ثم أورد عقبه- بترجمة-؛ فقال:
"القاسم بن محمد أبو نهيك، أصله من الكوفة، سكن (مرو) ، سمع أبا زيد عمرو بن أخطب، روى عنه الحسين بن واقد. وقد ذكرناه في (أتباع التابعين) ؛ لأن الناس لا يعرفون سماعه عن أبي زيد".
والقاسم الذي أشار إلى أنه ذكره في (أتباع التابعين) لم أره فيهم، فلا أدري أنسيه، أم سقط من الناسخ أو الطابع؟
قلت: والظاهر أن القاسم بن محمد المكني بأبي عامر، هو غير المكني بأبي نهيك، وأن المكني بهذه الكنية (أبي نهيك) اثنان؛ أحدهما: تابعي، وهو الراوي
عن أبي زيد. والآخر: تابع تابعي، وهو الأسدي الضبي، مترجم في "التهذيب " برواية قرة بن خالد ومنصور بن المعتمر، قال في "التهذيب ":
"ذكره ابن حبان في (الثقات) ".
فلعله الساقط المشار إليه آنفاً؛ فإني أستبعد أن يكون أراد الذي ذكرت أولاً- أنه يروي عن أنس-؛ لأنه لو أراده لذكر الحافظ روايته عن أنس، ولما ذكره في "كنى التقريب " من الطبقة السادسة! والله أعلم، فالأمر بحاجة إلى مزيد من البحث والتحقيق.
وأما الناحية الأخرى؛ فهي قول الهيثمي:
".. وثقوا".
ففيه إشارة- كما عرفت ذلك منه بالاستقراء- إلى أن أحد رواته في توثيقه
نظر؛ وإنما هو أبو حبيبة الطائي؛ فإنه لم يوثقه غيرابن حبان (5/577) ، ولا يعرف(7/630)
له راو غير أبي إسحاق هذا- وهو السبيعي-,فهو في عداد المجهولين، ولذلك أشار الذهبي- كعادته أيضاً في "الكاشف "- إلى تمريض توثيقه بقوله فيه:
"وُثِّق "!
ولذا؛ قال الحافظ فيه:
"مقبول ".
يعني عند المتابعة، ولم يوثقه، وقد أشار الهيثمي إلى تقوية حديثه، فقال
- عقب عزوه إليه للبزار- (10/68) :
"ورجاله رجال (الصحيح) ؛ غير أبي حبيبة الطائي، وقد صحح له الترمذي
حديثاً، وذكره ابن حبان في (الثقات) ".
قلت: والحديث الذي أشار إليه: هو فيمن يعتق عند الموت، وهو مخرج في "الضعيفة" (1322) لجهالة الطائي هذا، ومع ذلك حسنه الحافظ، وقلده بعض المعاصرين، ومنهم المعلق على "شرح السنة " (6/172) ، ثم جزم بضعف إسناده في حديث الترجمة في تعليقه على "الإحسان " (16/197) .
ولو أنه عكس لأصاب؛ لأن أبا حبيبة الطائي له متابع، يرويه جابر الجُعْفي
عن عامر الشعبي عن عبد الله بن ثابت خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
جاء عمر- رضي الله عنه- بصحيفة ... الحديث مثل رواية الطبراني عن أبي
الد رداء.
أخرجه عبد الرزاق (6/113/10164) ، ومن طريقه: أحمد (3/ 470- 471
و4/265) ، وابن قانع في"المعجم "، وجمع آخر تراهم في"الإرواء" (6/34- 35) .(7/631)
قلت: وجابر الجعفي لا يحتج به؛ مع علمه وتوثيق شعبة والثوري وغيرهما
له؛ فإنه ضعيف رافضي، لكنه يمكن الاستشهاد به في مثل هذا الحديث؛ فيصير
به حسناً. والله سبحانه وتعالى أعلم. *
3208- (يا معشر قريش! إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير
- وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم، وما تقول في محمد-؛ فقالوا: يا محمد! ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من
عباد الله صالحاً؟! فلئن كنت صادقاً فإن آلهتهم لكما يقولون- (الأصل: تقولون!) -، قال: فأنزل الله عز وجل: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا
قومك منه يصدون) (الزخرف: 57) قال: قلت: ما (يصدون) ؟ قال: يضجُّون. (وإنه لعلم للساعة) (الزخرف: 61) ، قال: هو خروج (وفي رواية: نزول) عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة) .
أخرجه أحمد (1/317- 318) : ثنا هاشم بن القاسم: ثنا شيبان عن عاصم
عن أبي رَزين عن أبي يحيى مولى ابن عقيل الأنصاري قال: قال ابن عباس:
لقد علمتُ آية من القرآن ما سأ لني عنها رجل قط، فما أدري أعلمها الناس
فلم يسألوا عنها؟ أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها؟ ثم طفق يحدثنا، فلما قام تلاومنا أن لا نكون سألناه عنها! فقلت: أنا لها إذا راح غداً، فلما راح الغد؛ قلت: يا ابن عباس! ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل قط؛ فلا تدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها؟ أم لم يفطنوا لها؟ فقلت: أخبرني عنها وعن اللاتي قرأت قبلها؟ قال: نعم، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش: ... فذكره.
وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (12/154/ 12470) من طريق أخرى(7/632)
عن شيبان والثوري عن عاصم به مختصراً؛ دون قصة ابن عباس التي قبل قوله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ...
وروى ابن جرير الطبري في "تفسيره " (25/54) من طريق سفيان، وابن حبان (1758) - والرواية الأخرى له- من طريق شيبان بن عبد الرحمن ... تفسير آية (الساعة) .
وعزاه ابن كثير في "التفسير" (3/132) من طريق ثالثة عن شيبان وحده مثل رواية الطبراني، لكن وقع فيه: "أبي أحمد مولى الأنصار"! وأظن أن اسم (أحمد) محرف من (عفراء) ، وكذلك اسم (عقيل) في "المسند "! والله أعلم.
بعد هذا التخريج أقول:
هذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير أن عاصماً- وهو ابن بهدلة- فيه كلام يسير، لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن كما تقدم مراراً، ولذلك لم يخرج له الشيخان إلا مقرونا. ولذلك قال الهيثمي بعدما عزاه لأحمد والطبراني (7/104) : "وفيه عاصم ابن بهدلة، وثقة أحمد وغيره، وهو سيئ الحفظ، وبقية رجاله
رجال الصحيح ".
وقال الحافظ:
"صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في "الصحيحين " مقرون ".
وأبو رَزين هو مسعود بن مالك الأسدي الكوفي.
وأبو يحيى هو مِصْدَع الأعرج المُعَرْقَبُ مولى معاذ بن عفراء الأنصاري، وقد وثقه مسلم بإخراجه له في "صحيحه " كما تقدم، ووثقه ابن حبان وابن شاهين(7/633)
والعجلي، ثم تناقض ابن حبان فذكره في "الضعفاء" أيضاً! وخفي حاله على الحافظ، فقال:
"مقبول "!
وأما الذهبي فقال في "الكاشف ":
" صدوق ".
وقد تابعه عكرمة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في تفسير آية الساعة.
أخرجه الحاكم (2/488) من طريق سماك بن حرب عنه. وقال:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي!
قلت: وهو كما قالا؛ لولا أن سماك بن حرب مضطرب الرواية عن عكرمة خاصة، لكنه قد توبع، فقال "عبد الرزاق في تفسيره " (2/198 - 99 1) : عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: قال ابن عباس:
إن كان ما يقول أبو هريرة حقاً فهو عيسى؛ لقول الله: (وإنه لعلم للساعة) . قلت: وهذا إسناد صحيح.
واعلم أن الحديث صريح الدلالة على أن الضمير في قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة) يعود إلى عيسى عليه السلام، وليس إلى القرآن كما روي عن بعضهم، ولذلك قال الحافظ ابن كثير:
(بل الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام؛ فإن السياق في ذكره، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة كما قال تعالى: (وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) أي: قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام،(7/634)
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً ".
قلت: وقد خرجت بعضها فيما تقدم تحت رقم (2236) ، وفي "تخريج
فضائل الشام " (22 و 23 و5 2 و 26) . *
3209- (بت الليلة أقرأعلى الجن رفقاء بـ "الحَجُون ") .
أخرجه ابن حبان (1768) ، والطبري في "التفسير" (26/ 21) ، وأحمد (1/416) ، وأبو يعلى (8/474/5062) ، وأبو الشيخ في "العظمة" (5/1664/ 1104) من طريقين عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات؛ لولا أنه منقطع؛ فإن عبيد الله- وهو
ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود- لم يسمع من ابن مسعود؛ كما ذكروا في ترجمته، بل قال الحافظ المزي في "تحفة الأشراف " (7/90) :
"لم يدركه ".
وأما ما وقع في "العظمة" من قوله: "حدثني ابن مسعود"؛ فهو خطأ من محمد بن عزيز، أو من شيخه سلامة، وهو ابن روح بن خالد- ابن أخي عقيل ابن خالد-، وهو الراوي عن ابن شهاب، وقد قال الحافظ في سلامة:
"صدوق له أوهام، وقيل: لم يسمع من عمه (عقيل) ، وإنما يحدث من كتبه ". وقال في محمد بن عُزَيز:
"فيه ضعف، وقد تكلموا في صحة سماعه من ابن عمه سلامة".(7/635)
لكن الحديث صحيح؛ فقد جاء موصولاً من طريق داود بن أبي هند عن
الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعاً بلفظ:
"أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن " ... وفيه قصة.
أخرجه مسلم، وأبو عوانة، وابن حبان أيضاً (2/ 350- 351 و 8/77) وغيرهم،
وهو مخرج في "الضعيفة" (1038) لزيادة شاذة وقعت في المرفوع من القصة، وبعضه مخرج في "الإرواء" (1/85/46) .
وأخرجه البيهقي في "السنن " (1/9) من طريق قيس بن الربيع: أنا أبو فزارة العبسي عن أبي زيد عن ابن مسعود نحوه، وفيه حديث الترجمة.
وهذا إسناد ضعيف، وفيه زيادة منكرة بلفظ:
"تمرة طيبة، وماء طهور".
ولذلك خرجته في "ضعيف أبي داود" (رقم 11) .
وقد رويت القصة بألفاظ أخرى ليس فيها حديث الترجمة، ولكن فيها أنها
كانت في "الحجون ": من ذلك ما رواه أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال:
انطلقت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن حتى أتى (الحجون) ، فخط علي خطاً، ثم
تقدم إليهم ... الحديث.
أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (2/ 231) .
ورجال إسناده ثقات، فهو صحيح لولا أنه قيل:
"أبو الجوزاء- واسمه أوس بن عبد الله الربعي- لم يسمع من ابن مسعود".(7/636)
وقد جاء عن قتادة مرسلاً، وفيه:
فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شِعباً يقال له: (شعب الحجون) ، قال: وخط نبي الله
- صلى الله عليه وسلم - على عبد الله خطاً ... الحديث.
رواه ابن جرير (26/ 20) بسند صحيح عنه. *
3210- (خروج الآيات بعضها على إثر بعض؛ يتتابعن كما تتابع الخَرَزُ في النظام) .
أخرجه ابن حبان في"صحيحه " (1883) ، والطبراني في"الأوسط" (1/258/4431) من طريق أبي الربيع الزهراني قال: ناأبي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: ... فذكره. وقال الطبراني: "لم يروه عن هشام إلا داود العتكي، تفرد به أبو الربيع ".
قلت: هو ثقة، واسمه سليمان بن داود العتكي الزهراني، احتج به الشيخان، وقال الحافظ في "التقريب ":
"ثقة، لم يتكلم فيه أحد بحجة".
قلت: وأبوه داود العتكي غير معروف إلا برواية ابنه عنه، ولم يترجم له أحد فيما علمت غير ابن حبان؛ فذكره في "الثقات " (8/234) بهذه الرواية فقط! ومع ذلك وثقه الهيثمي فقال في "المجمع " (7/ 321) :
"رواه الطبراني في "الأ وسط "، ورجاله رجال الصحيح؛ غير عبد الله بن أحمد
ابن حنبل وداود الزهراني، وكلاهما ثقة "!
وأغرب منه إعلال الدارقطني الحديث بابنه أبي الر بيع- فيما نقله عنه ابن(7/637)
الجوزي في "العلل المتناهية "- قال (2/ 371) :
"قال الدارقطني: وهم أبو الربيع، وإنما رواه هشام عن حفصة بنت سيرين عن
أبي العالية من قوله ".
والأولى إعلاله بأبيه داود لجهالته كما تقدم.
ثم إن قوله: ".. من قوله " لا أدري إذا كان دقيقاً! فقد وجدت في "فتح
الباري " لابن حجر العسقلاني (13/77) :
"وفي مرسل أبي العالية: الآيات كلها في ستة أشهر".
فهذا ظاهره أنه مرفوع، لكنه مرسل. فالله أعلم.
وله شاهد موقوف من حديث حذيفة قال:
"إذا رأيتم أول الآيات؛ تتابعت ".
أخرجه ابن أبي شيبة (15/63) من طريق مجالد عن الشعبي عن صلة عنه.
وهذا إسناد جيد في الشواهد، وهو في حكم المرفوع، ولا سيما وهو من
حديث حذيفة صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وله عنده شاهد آخر من حديث ابن عمرو، وقد مضى تخريجه برقم
(1762) . وذكرت له هناك شاهداً من حديث أنس أيضاً.
وبالجملة؛ فالحديث بهذه الشواهد صحيح بلا ريب، وكأنه لذلك ثبته الحافظ
في "الفتح " (13/77) .
وأما حديث: "الآيات بعد المئتين "؛ فهو موضوع، وقد خرجته في "الضعيفة" (1966) .(7/638)
ثم وقفت على حديث أبي العالية عند ابن أبي شيبة في "المصنف " (15/182/
19456) من طريق حفصة عن أبي العالية قال:
"ما بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر، تتابع كما تتابع الخرز في النظام ".
وإسناده صحيح، وهو يؤيد ما تقدم عن الدارقطني أنه من قوله.
فلعل وصف الحافظ إياه بأنه مرسل؛ إنما هو بالنظر إلى أنه في المعنى في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، أو أنه وقف على رواية أخرى صريحة في الرفع. والله أعلم.
ثم رواه ابن أبي شيبة (19457) من طريق أبي المهزم عن أبي هريرة قال:
"ما بين أول الآيات وآخرها ثمانية أشهر".
لكن أبو المهزم ضعيف. *
3211- (والذي نفس محمد بيده! لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل، ويخوَّن الأمين، ويؤتمن الخائن، ويهلك الوعول، وتظهر التُّحوت. قالوا: يا رسول الله! وما الوعول وما التحوتُ؟ قال: الوعول: وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس لايعلم بهم) .
أخرجه البخاري في "التاريخ " (1/98/275) ، ومن طريقه: ابن حبان رقم (1886- موارد) ، وا لحا كم (4/547) ، والطبراني في"المعجم الأ وسط" (1/ 0 22/ 1/ 3920) من طرق عن إسماعيل بن أبي أويس: حدثني زُفَرُ بن عبد الرحمن بن أردك عن محمد بن سليمان بن والبة عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة رضي الله(7/639)
عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ... فذكره.
أورده البخاري في ترجمة ابن والبة هذا، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً،
وكذلك فعل ابن أبي حاتم.
وأما ابن حبان؛ فذكره على قاعدته في "الثقات " (7/416) ، وخرج له هذا الحديث في "صحيحه " كما ترى!
وأما قول الحاكم عقبه:
"رواته كلهم مدنيون؛ ممن لم ينسبوا إلى نوع من الجرح "!
فهو لا يفيد توثيقاً؛ لأن كل من كان مجهولاًكهذا يصدق عليه أنه لم ينسب
إلى جرح، فتنبه.
وقال الطبرا ني:
"لا يروى هذا الحديث عن سعيد بن جبير إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن أبي
أويس".
قلت: هو مع كونه من رجال الشيخين؛ فقد تكلم فيه من قبل حفظه، قال
الحافظ في "التقريب ":
"صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه ".
قلت: وفي الحديث علة أخرى، وهي الانقطاع بين سعيد بن جبير وأبي
هريرة؛ فقد قال ابن معين:
"لم يصح أنه سمع منه ".(7/640)
وخالف ابن حبان؛ فقال عقب الحديث- كما في "الإحسان " (8/298) -:
"سمع سعيد بن جبير أبا هريرة وهو ابن عشر سنين إذ ذاك ".
ولا أدري ما مستنده في هذا؟
وعلى أية حال؛ فقد وجدت له متابعاً قوياً، فقال محمد بن الحارث:
قدم رجل يقال له: أبو علقمة- حليف بني هاشم-، وكان فيما حدثنا أن
قال: سمعت أبا هريرة يقول:
"إن من أشراط الساعة أن يظهر الشح والفحش، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، ويظهر ثياب يلبسها نساء كاسيات عاريات، يعلو التحوت الوعول. أكذاك يا عبد الله بن مسعود سمعته من حبي؟ قال: نعم، وربِّ الكعبة! قلنا: وما التحوت؟ قال: فسول الرجال وأهل البيوت الغامضة، يرفعون فوق صالحيهم، والوعول: أهل البيوت الصالحة ".
أخرجه الطبراني أيضاً في "الأوسط " (1/42/2/735) : حدثنا أبو أيوب أحمد بن بشير الطيالسي قال: نا يحيى بن معين قال: نا حجاج بن محمد عن
ابن جريج قال: أخبرني محمد بن الحارث ... وقال:
"لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إلا الحجاج".
قلت: هو الأعور المصيصي، قال الحافظ في "مقدمة الفتح " (ص 395- 396) :
"أحد الأثبات، أجمعوا على توثيقه، وذكره أبو العرب الصِّقِلِّيُّ في "الضعفاء" بسبب أنه تغير في آخر عمره واختلط، لكن ما ضره الاختلاط؛ فإن إبراهيم الحربي حكى أن يحيى بن معين منع ابنه أن يدخل عليه بعد اختلاطه أحداً.
روى له الجماعة".(7/641)
ومحمد بن الحارث- وهو ابن سفيان المخزومي المكي- ذكره ابن حبان في "الثقات " (7/407- 408) برواية ثقتين عنه: ابن جريج- هنا- أحدهما،
والآخر: سفيان بن عيينة، وروى عنه ثلاثة ثقات آخرون، سماهم في
"التهذيب "، فهو ثقة- إن شاء الله-، فقول الحافظ عنه في "التقريب ":
"مقبول "!
غير مقبول؛ لأن المعهود منه في أمثاله أن يقول:
" صد وق ":
وكذلك يصنع الذهبي في "الكاشف "؛ إلا أن هذا لم يترجم له فيه؛ لأنه ليس
من رجال الستة، وإنما روى له البخاري في "الأدب المفرد"، وقد وثقه الهيثمي، فقال عقب الحديث (7/327) :
".. ورجاله رجال الصحيح؛ غير محمد بن الحارث بن سفيان، وهو ثقة"!
هكذا فيه، لم يذكر مخرج الحديث محل النقطتين، وهما من عندي، والظاهر
أن الساقط هو: "رواه الطبراني في (الأوسط) ".
وفاتني أن أنقل عنه قوله في الطريق الأولى (7/324- 325) :
"رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه محمد بن سليمان بن والبة؛ ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات "!
كذا قال! وفاته أنه مترجم في الكتب الثلاثة، ومنها "ثقات ابن حبان "!
ثم إنه بقي الكلام في ترجمة شيخ الطبراني في الطريق الأخرى، وهو أحمد
ابن بشير الطيالسي أبو أيوب، قال في "اللسان ":(7/642)
"ليَّنه الدارقطني ... قال ابن المنادي: كتب الناس عنه. وقال أحمد بن
كامل: ... وكان قليل العلم بالحديث، ولم يطعن عليه بالسماع ".
وغالب الظن أنه المترجم في "تاريخ بغداد" (4/54) ، لكن وقع فيه: "بشر" مكان "بشير"، وكذلك في إسناد حديث آخر في "المعجم الصغير" (رقم 86- الروض) ، لكنه في"الأوسط"في هذا الحديث وغيره: "بشير"؛فالظاهر أنه الصواب. وجملة القول؛ أن الحديث صحيح بمجموع الطريقين، إن لم يكن صحيحاً أو
على الأقل حسناً من الطريق الأخرى. وقد أشار الحافظ إلى ذلك بسكوته عليه، وقد ساقه بطريقيه في "الفتح " (13/15) .
ثم إن لبعضه شاهداً من حديث ابن عمرو بلفظ:
"من أشراط الساعة: أن يظهر القول، ويخزن العمل، ويرفع الأشرار، ويوضع
الأ خيار ... ".
وقد سبق تخريجه برقم (2821) .
ومثله حديث الروبيضة المتقدم (2253) ، والفحش والتفحش (2238) . *
3212- (لأَسْلَم وغِفارُ، ورجالُ من مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ؛ خير من
الحليفين؛ غطُفان وبني عامر بن صعصعة) .
أخرجه البزار (3/308/2814) : حدثنا محمد بن مسكين: ثنا إبراهيم بن
محمد [بن] جناح: ثنا هلال بن الجهم: ثنا إسحاق عن أنس مرفوعاً به، قال:
فقال عيينة بن بدر: والله! لأن أكون في هؤلاء في النار- يعني: غطفان وبني عامر- أحب إلي من أن أكون في هؤلاء في الجنة.(7/643)
قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ كما قال الحافظ في "مختصر زوائد البزار"
(2/380 /2051) ، وأما الهيثمي فقال (10 /45) :
"رواه البزار، وفيه إبراهيم بن محمد بن جناح، ولم أعرفه، وبقية رجاله
ثقات "!
كذا قال! وهلال بن الجهم أشار أبو حاتم إلى تضعيفه بقوله (4/2/78) :
"ليس بمشهور، حديثه ليس بموضوع "!
ولم يذكر له راوياً غير عمر بن يونس؛ وكذلك فعل ابن حبان في "الثقات " (7/575) ، وعليه اعتمد الهيثمي في إطلاقه التوثيق على بقية رجاله، وهي عادة له معروفة.
ولكن ينبغي أن يضاف إلى عمر بن يونس: إبراهيم بن محمد بن جناح
هذا، ولو أنه غير معروف، كما أشار إلى ذلك الهيثمي، وقد ذكره الحافظ المزي في شيوخ محمد بن مسكين في كتابه "تهذيب الكمال ".
واعلم أنني كنت أوردت الحديث سابقاً في "الضعيفة"؛ لذكر "بني عامر"
في آخره، ثم وجدت له شاهداً من حديث أبي بكرة، وفيه ذكر "بني عامر" بلفظ: "أسلم وغفار، ومزينة وجُهينة خير من بني تميم، ومن بني عامر، والحليفين:
بني أسد وبني غطفان ".
أخرجه البخاري (3515 و 3516) ، ومسلم (7/179- 180) ، والترمذي (3947) ، وابن حبان (7246) ، وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح ".(7/644)
ولهذا الشاهد الكامل الصحيح، نقلته إلى هذه "الصحيحة"، ويبقى قول
عيينة بن بدر في آخره دون شاهد، ولا يضر؛ لأنه ليس من كلام المعصوم، ولا سيما أن عيينة كان من المؤلفة قلوبهم؛ فانظر "الإصابة".
ولعله لا يخالف هذا الحديث الصحيح: ما أخرجه ابن حبان (2300- موارد) بسنده الصحيح عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال:
دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عامر، فقال:
"من أنتم؟ ".
فقلنا؛ من بني عامر، فقال:
"مرحباً بكم، أنتم مني ".
ورواه البزار (3/ 314/ 2831) ، وأبو يعلى (4/ 191/ 894) ، والطبرا ني (22/264- 266) .
لأن من المقطوع به شرعاً أن التفاضل إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح، وليس بالحسب والنسب، فإذا كان الرجل من قبيلة مفضولة، بل ومذمومة، وآمن منها رجل؛ استحق الترحيب والثناء؛ بخلاف من كان من قبيلة ممدوحة، وكان فرد من أفرادها كافراً أو فاسقاُ؛ لم يستحق المدح، وإنما الذم والقدح: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ، "ومن بطأ به عمله؛ لم يسرع به نسبه " (1) .
وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة مرفوعاُ بلفظ:
"لأسلم وغفار، وشيء من مزينة وجهينة، أو شيء من جهينة ومزينة خير
__________
(1) رواه مسلم وغيره، وهو مخرج عندي في"صحيح الترغيب" (66) .(7/645)
عند الله- قال: أحسبه قال: - يوم القيامة من أسد وغطفان، وهوازن وتميم ".
أخرجه البخاري (3523) ، ومسلم (7/179) من طريق أيوب عن محمد عنه. وأخرجه الترمذي (3950) من طريق أبي الزنَّاد عن الأعرج عنه.
وأخرجه ابن حبان (7247- الإحسان) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه.
وتقدم نحوه في حديث عمرو بن عبسة (3127) .
(تنبيه) حديث أبي جحيفة أعله الهيثمي (10/ 51) بأ نه من رواية الحجاج
ابن أرطاة وهو مدلس! ورواية ابن حبان سالمة منه، ولذلك فقد وهم المعلق على "مسند أبي يعلى"، فقال:
"إسناده صحيح "!
ولم يعزه إلى غير أبي يعلى! فغفل عن رواية ابن حبان الصحيحة! وتبعه في
هذه الغفلة المعلق على "المقصد العلي " (2/254) ، ولكنه قال: "إسناده ضعيف " متبعاً إعلال الهيثمي بالعنعنة!
وكذلك فعل أخونا حمدي السلفي (22/156) ، وزاد وهماً آخر فقال:
"ورواه ابن ماجه (711) "!
وليس عنده إلا قصة قدوم أبي جحيفة دون الترحيب، وهي في "الصحيحين " وغيرهما، وهي مخرجة في "الإرواء " (1/248- 249) ، وهذا هو الذي غر أيضاً المعلق على"أبي يعلى"، فصححه دون أن يتنبه أنه ليس فيها الترحيب المذكور! *(7/646)
3213- (للشهيد عند الله خصال:
1- يغفرُ له في أول دفعةٍ من دمه.
2- ويُرى مقعده من الجنة.
3- ويُحلى حلية الإيمان.
4- ويُزوجُ [اثنتين وسبعين زوجة] من الحور العين.
5- ويجارُ من عذاب القبر.
6- ويأمن من الفزع الأكبر.
7- ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا
وما فيها.
8- ويشفع في سبعين إنساناً من أهل بيته) .
أخرجه الترمذي (1663) من طريق بقية، وابن ماجه (2799) ، وأحمد
(4/ 131) ، والبيهقي في "الشعب " (4/25/4254) ، وابن عساكر في"التاريخ " (5/517) - والسياق لهما- من طريق إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد الكلاعي عن خالد بن معدان عن المقدام بن معدي يكرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكره. وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح ".
قلت: وإسناده شامي صحيح، وإسماعيل بن عياش روايته عن الشاميين-
وهذه منها- صحيحة، خلافاً لذاك المغرور الذي ضعف حديثه في سنة الخلفاء(7/647)
الراشدين، الذي رواه بإسناده عن العرباض بن سارية، وقد رددت عليه في مكان آخر، فانظر " الصحيحة " الثاني، الاستدراك رقم (13) .
ثم إن ما بين المعكوفتين للترمذي، وليس عنده الفقرة (3) ، وهي عند ابن ماجه وأحمد، لكن ليس عند ابن ماجه الفقرة (7) ، فمجموع الفقرات في
"السنن " سبع، وفي "المسند" ثمان، ومع ذلك فلفظ الحديث عندهم:
".. ست خصال "!
فالمعدود عندهم أكثر من العدد، على التفصيل المذكور آنفاُ.
وهذا من نوادر الاضطراب في المتن- فيما علمت- مع صحة السند، فاختلف موقف الحفاظ المخرجين لهذا الحديث في هذا اللفظ، فمنهم من ذكره كما ورد: "ست "، كالحافظ المنذري في"الترغيب" (2/ 194) وعزاه إلى "السنن "، والحافظ ابن كثير في "التفسير" (4/ 174) وعزاه إلى الثلاثة، وأقرَّا الترمذي على تصحيحه، وكنت جريت على سننهم في "أحكام الجنائز" (ص هـ 3- 36) .
وخالف السيوطي في"الجامع الكبير"وفي"الزيادة على الجامع الصغير"- وتبعه النبهاني في "الفتح الكبير"-، فجعل مكان لفظ "ست " لفظ: "سبع " ليوافق
العدد المعدود! ولكن بقي الخلاف بينهما بالنسبة لرواية أحمد؛ فإن المعدود عنده "ثمان "، كما في سياق رواية البيهقي وابن عساكر، دون لفظ العدد، فسلمت من الاضطراب المذكور، ولا أدري إذا كان ذلك من تصرفهما، أو تصرف أحد رواة إسنادهما؟! والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد وقع اضطراب في سند الحديث أيضاً عند أحمد؛ فإنه بعد أن رواه عن شيخه إسحاق بن عيسى والحكم بن نافع عن إسماعيل بن عياش بإسناده المتقدم؛(7/648)
قال: "ثنا الحكم بن نافع: ثنا ابن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان
عن كثير بن مرة عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك ".
وقال المنذري:
"رواه أحمد والطبراني، وإسناد أحمد حسن ".
وقال الهيثمي (5/293) :
"رواه أحمد هكذا؛ قال: "مثل ذلك "، والبزار والطبراني " إلا أنه قال: "سبع خصال "، وهي كذلك، ورجال أحمد والطبرا ني ثقات ".
فأقول: وحديث المقدام أرجح عندي؛ لأنها رواية الأكثر عن ابن عياش. والله أعلم.
وقد اختلف أيضاً على كثير بن مرة في إسناده؛ فقال أحمد (4/200) : ثنا
زيد بن يحيى الدمشقي قال: ثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي- رجل كانت له صحبة- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"يُعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه ... " الحديث.
قلت: فذكر الخصال (1 و 2 و 3 و 4 وه و 6) مع تقديم وتأخير.
وقال الهيثمي:
"رواه أحمد، وفيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وثقه أبو حاتم وجماعة، وضعفه جماعة ".
قلت: ورواه ابن أبي عاصم في "الجهاد" (ق 91/ 1- 2) من حديث المقدام، ومن حديث قيس الجذامي، وقد أخرجه ابن سعد أيضاً في "الطبقات " (7/426- 427) ، والبخاري في " التاريخ " (4/ 1/143- 144) بإسناد أحمد.(7/649)
قلت: وهو إسناد حسن؛ إن كان حفظه عبد الرحمن، وإلا؛ فإسناد خالد بن
معدان عن المقدام أصح.
(تنبيه) : سقط اسم صحابي هذا الحديث من "المجمع "؛ فوقع فيه هكذا:
"وعن رجل كانت له صحبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... "!
فلا أدري أهو من الهيثمي أم الناسخ أم الطابع؟!
وللحديث شاهد من رواية عبد الله بن عمرو مرفوعاً مثل لفظ قيس الجذامي،
إلا أنه لم يذكر الخصلة الثالثة، فصارت الخصال خمساً هكذا في"المجمع "؛ وقال: "رواه الطبراني، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وهو ضعيف ".
وللفقرة الأخيرة شاهد من حديث أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ:
"الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته ".
أخرجه أبو داود (2522) ، وابن حبان (1612) ، وا بن عساكر في"التاريخ " (17/321/2) بسند فيه جهالة التابعي كما هو مبين في "صحيح سنن أبي داود" (2277) ، و" التعليق الرغيب " (2/192) .
ولبعض الفقرات شواهد أخرى في "المجمع "، فليراجعها من شا