حقيقة إبليس وأصله
السؤال
هل إبليس من الملائكة؟
الجواب
في السؤال خطأ مزدوج؛ لأن السائل أراد أن يقول: كان، فقال: من الملائكة، فهذا إقرار للواقع، فالسؤال خطأ؛ لأن إبليس لم يكن يوماً ما من الملائكة، وهذا وهم شائع عند الناس، يقولون: إن إبليس كان طاوس الملائكة، وليس من الملائكة وحسب، بل طاوس الملائكة! والحقيقة أن إبليس كان جنياً صالحاً يعبد الله مع الملائكة، لكن لما اختبر سقط، لما أُمر بالسجود لآدم استعلى واستكبر وقال: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [الإسراء:61] ولسنا الآن في هذا الصدد، المهم أن هذا وهم شائع؛ لأن القرآن يقول: { كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [الكهف:50] (كان من الجن) التعليل: (ففسق عن أمر ربه) فهو لم يكن يوماً ما من الملائكة.(36/5)
حكم السؤال عن الأمور الغيبية
السؤال
لما رفض إبليس السجود أخرجه الله من الجنة وحرمها عليه وبقي آدم في الجنة، فكيف تمكن إبليس من الوسوسة لآدم وحواء؟ وهل من نصوص في بيان ذلك؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
السؤال هذا سؤالٌ خَلَفي وليس بسَلَفي، وأنا أقول لكم دائماً وأبداً: إن السؤال عن الأمور المغيبة لا يجوز، والسائل بطبيعة الحال يشعر معي أنه ليس هناك آية، بل ولا حديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا كيف تمكن الشيطان من الوسوسة لآدم عليه الصلاة والسلام، ولذلك فنحن نؤمن بأن الشيطان وسوس كما في نص القرآن، أما عن كيف؟ فنخشى أن نقول: السؤال عنه بدعة.
أخرجوا الرجل فإنه مبتدع!(36/6)
حكم لبس السراويل والبنطلونات
السؤال
هل يعد ارتداء السراويل من التشبه بالكفار إذا كان من غير ارتداء القميص فوقها والعمامة؟
الجواب
لا أدري إذا كان السائل يعني بالسراويل بالمعنى المفهوم لغة، أو أراد أن يستعمل كلمة السروال بدل البنطلون، فإن كان السائل يعني السروال الذي نفهمه، وهو اللباس الفضفاض العريض الذي لا يزال يلبسه بعض المسلمين، فهذا من أين يأتي فيه التشبه؟ ولا يعتبر لبسه تشبهاً بالكفار.
أما إذا كان يقصد البنطلون فقد تكلمنا عنه مراراً وتكراراً، وهو ليس من لباس المسلمين؛ لأنه يصف العورة ويحجمها، فهو يضيق حيث ينبغي أن يتسع، ويتسع حيث ينبغي أن يضيق، وهكذا (اعكس تصب) هكذا نظامهم في الحياة اليومية مع الأسف، فالتشبه يكون بلبس البنطلون وليس بلبس السروال.
هذا إن كان قصد بالسروال: البنطلون، أما إن كان قصده شيئاً آخر فلم أفهمه.(36/7)
هل تشترط اللحية للإمام؟
السؤال
هل يشترط للإمام في الصلاة أن يكون ملتحياً؟
الجواب
نقول: لا يشترط لصحة الصلاة أن يكون ملتحياً، لكني كنت أتمنى أن يكون السؤال كالآتي: هل يشترط في إيمان المسلم أن يكون ملتحياً؟ هكذا ينبغي أن يكون السؤال.
ومن كان منكم لا يزال مبتلىً بهذه المعصية فلا يشكلن عليه تحويل السؤال على النحو السابق، إلا من كان يرى أن الإيمان لا يقبل الزيادة، فحينئذٍ سيفهم أن هذا السؤال معناه: أن حليق اللحية خارج من الإيمان فليس بمسلم، لكن إذا علمتم أن الإيمان يقبل الزيادة، وأنه مراتب لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ فحينئذٍ تفهمون الفهم الصحيح: وهو أن من كان حليقاً فإيمانه ناقص، بحيث يمكن إذا كان لنا أن نقيس على بعض تعابير الرسول عليه الصلاة والسلام، يمكننا أن نقول: لا إيمان له، لكن ليس لنا مثل هذا القياس، ولنقس عليه قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له )، وفي هذا الحديث نفى الرسول عليه الصلاة والسلام الإيمان عمن لا أمانة له، الذي لا يؤدي الأمانات إلى أهلها، وهو يعني: الإيمان الكامل الذي إذا تحقق به صاحبه كان ذلك بشيراً له أنه من أهل الجنة، أما إن نقص عن ذلك فهو يستحق دخول النار، أما هل يدخلها أو لا؟ فهذا أمره إلى الله وحسابه عند الله.
لذلك نقول: حلق اللحية معصية كبيرة، فهي وإن لم تكن شرطاً من شروط صحة الصلاة؛ لأن كون الشيء شرطاً من شروط صحة الصلاة قد يتوهم بعض الناس أنه أمر كبير، مع أن العكس هو الصواب؛ فإن كون الشيء شرطاً من شروط الإيمان الكامل أخطر من أن يكون شرطاً من شروط صحة الصلاة، مثلاً: يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( لا يصلين أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء )، لو صلى الإنسان ونصف بدنه الأعلى عارٍ، هذا معروف عند جميع الناس إلا أهل العلم بالحديث أنه لا شيء عليه؛ لأنه صلى ساتر العورة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يلفت النظر إلى أن في الصلاة شيئاً آخر يليق بالصلاة، وهو أن يستر القسم الأعلى من بدنه أيضاً، كما قال: ( من وجد إزاراً ورداءً فليتزرْ وليرتدِ، فإن الله أحق أن يتزين له ) لكن هذا الرجل لو خرج يمشي في الطريق كاشفاً القسم الأعلى، فليس عليه بأس إطلاقاً من الناحية الإسلامية، أما أهل الأرض فإذا خرجت وأنت مكشوف القسم الأعلى وهو ليس بعورة عيرك الناس حتى النساء، مع أنك رجل أما إذا خرجن وهن مكشوفات القسم الأدنى فلا بأس، وهو من الموضة.
المهم أن الكشف خارج الصلاة لا بأس فيه، فإذا كان الحكم حكماً عاماً يتعلق بالمسلم خارج الصلاة فلا يجوز أن يكون حليقاً، فحينئذٍ هذا الحكم أخطر من أن يكون شرطاً من شروط الصلاة، يمعنى: لو كان لا يجوز للمسلم أن يمشي مكشوف القسم الأعلى، هذا أخطر وأشد في الحكم مما هو عليه الآن، لا يجوز هكذا أن يصلي، لكن يجوز أن يمشي هكذا، ولذلك يجب أن نتنبه للأمور ونضعها في مواضعها.
فحلق اللحية ليس خاصاً بالصلاة؛ بل هي معصية خارج الصلاة وداخل الصلاة، لكن الإنسان لو صلى وهو حليق فصلاته صحيحة، كما أن إيمانه صحيح، لكن إيمانه ناقص، وصلاته ناقصة بطبيعة الحال.
ولذلك فنحن نغتنمها فرصة ونذكر المبتلين بأن يحاولوا الخلاص من هذه المصيبة؛ لأنها مصيبة الدهر، والواقع لا يشعر بقباحتها إلا الذين عافاهم الله عز وجل مما ابتلى به غيرهم.
إن أخطر ما يخشى على جماهير المبتلين بهذه المعصية أنه لن يبقى عندهم حتى المرتبة الأخيرة من مراتب إنكار المنكر؛ لأنه مات حسهم بأن هذه معصية، قال عليه الصلاة والسلام كما تعلمون جميعاً: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) فإذا مات القلب ولم يعد يحس بأن هذه معصية فليس وراء ذلك ذرة من إيمان، كما جاء في حديثٍ آخر.
لذلك أرجو أن يبادر المبتلون إلى طاعة الله والرسول، والخلاص من هذه الموبقة والمعصية.(36/8)
حكم حلق الشارب
السؤال
ما حكم حلق الشاربين في الدين؟ وهل حرمته كحرمة حلق اللحى؟
الجواب
هذا السؤال طريف؛ لأن الواقع حلق الشاربين له صورتان: كان بعض السلف من الصحابة وغيرهم، ممن ائتمروا بقوله عليه الصلاة والسلام: ( وأعفوا اللحى ) كانوا يحلقون شواربهم، وذلك فهمٌ منهم للطرف الأول من الحديث: ( أحفوا الشارب ) أو ( حفوا الشارب ) وفي رواية: ( انهكوا ) وفي أخرى: ( جزوا ) فهموا من هذه الأحاديث استئصال الشارب، فكانوا يستأصلون الشارب ويعفون اللحى، كما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام.
لكن علماء آخرون لم يفهموا فهمهم الخاص للشوارب، وإنما فهموا أن المقصود بالاستئصال والحف والجز هو ما يزيد على الشفة، وليس استئصال الشارب من أصله وجذره، ولهم أدلة كثيرة على ذلك لسنا الآن في صددها، من أوضحها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث المغيرة بن شعبة : ( أن رجلاً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد وفى شاربه -أي: نما وطال- حتى سد الشفة ) كما هو شأن بعض الذين خرجوا عن الإسلام قديماً وحديثاً، ممن يتشبهون بـ استالين و لينين وأمثالهم، فيطيلون شواربهم: ( فأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام سواكاً، فوضعه تحت ما طال من الشارب، وأخذ مقراضاً -سكيناً- فقرضه ) فكان هذا بياناً عملياً من الرسول عليه الصلاة والسلام لقوله: ( أحفوا الشارب ) بمعنى: استأصلوا ما زاد على الشفة، هذا هو الصواب في مسألة الشارب وليس الحلق.
ولكن إذا كانت النيات لها علاقة ببعض الأعمال أحياناً، فلا شك أن ثمة فرقاً كبيراً بين أولئك الذي يأتمرون بالأمرين: بإحفاء الشارب، وإعفاء اللحى، ولكنهم يخطئون في فهم معنى الإحفاء، لا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين هؤلاء الذين يستأصلون شواربهم، وبين الشباب اليوم الذين يستأصلون الشارب مع اللحية من باب التشبه بالكفار.
ولذلك إذا كان الدافع على حلق الشارب هو التشبه فهذا لا يجوز، وإذا كان الدافع على ذلك هو الفهم الخطأ، فهو خطأ وصاحبه مأجور عليه أجراً واحداً، وهو غير آثم .(36/9)
النهي يفيد التحريم
السؤال
أحاديث النهي هل تفيد التحريم لا الحصر مثلاً: ( حفوا الشارب واعفوا اللحى )؟
الجواب
نعم.
الأصل في الأمر يفيد التحريم، ويفيد الوجوب مخالفة التحريم، وهناك أمور كثيرة جداً اقترنت مع أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى، نصبت القول فيها في كتابي: آداب الزفاف في السنة المطهرة ، فمن شاء التوسع فليرجع إليه .(36/10)
حكم الأخذ من اللحية بعد أن تبلغ القبضة
السؤال
هل يجوز للمرء أن يأخذ من لحيته قبل أن تبلغ قبضة؟ أي: هل الواجب هو مجرد الإطلاق أم القبضة؟
الجواب
الذي نختاره القبضة، والمسألة فيها نظر، والأحسن اتباع السنة على كل حال.(36/11)
التأويل
تناول الشيخ هذا الموضوع بتوثيقه لغة واصطلاحاً، وربطه بمنهج السلف، ثم أردف أسباباً وقع بسببها أهل الانحراف في أوحال تحريف الآيات عن معناها المراد منها.
وتقريباً لأبعاد الموضوع فقد ضربت أمثلة منها: مسألة المجيء، ومسألة الكلام، ومسألة هل الله في مكان أم لا.(37/1)
حقيقة التأويل
السؤال
نرجو أن تتفضلوا لنا بشرح وافٍ لكل ما يتعلق بموضوع التأويل، وجزاكم الله خيرا.
الجواب
التأويل له مفهومان: مفهوم لغوي، ومفهوم اصطلاحي.
المفهوم اللغوي هو مرادف لمعنى التفسير تماماً، كما جاء في كثير من الآيات: { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [الكهف:82] (تأويل) أي: تفسير { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ } [يوسف:100] أي: تفسير، وهكذا فهذا التأويل بهذا المعنى.
وللتأويل معنى اصطلاحي، وهذا الذي يجري كثيراً في أقوال العلماء، فمعنى التأويل اصطلاحاً هو: إخراج معنى النص من قرآن أو حديث عن ظاهره إلى معنى آخر يدل عليه الأسلوب العربي، كمثل: تفسير آية ما بالمجاز دون الحقيقة، فتفسير الآية في الحقيقة هو تفسير في الاصطلاح، وتفسير الآية بالتأويل بمعنى: إخراج النص عن ظاهره، هو التأويل المصطلح عليه، وهو على ما يبدو لي المراد بالسؤال.(37/2)
التأويل بين السلف والخلف
فمثلاً الآية التي اختلف السلف والخلف في تفسيرها: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] فما معنى استوى؟ معنى استوى بدون تأويل: استعلى، وهذا هو تفسير السلف، ومنهم أبو العالية ، كما رواه البخاري في صحيحه .
أما الخلف فيؤولون الآية، أي: يخرجون معناها عن ظاهرها إلى معنى آخر يبدو لهم، فيقولون -مثلاً-: استوى أي: استولى، فهذا المعنى الذي فيه خروج عن ظاهر الآية هو التأويل، والأمثلة على ذلك كثيرة: فمثل قوله تبارك وتعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر:22] فتفسير هذه الآية (وجاء ربك) كما قال بعض السلف: تفسيرها قراءتها، أي: أمر ظاهر (جاء ربك والملك).
أما تأويلها، بمعنى إخراج النص عن ظاهره (جاء ربك) أي: بعض آيات ربك، أو بعض ملائكة ربك، فهذا هو التأويل.
فإذاً: التأويل في الاصطلاح هو: الإتيان بمعنى للنص، سواء كان قرآناً أو سنة، لا يجري عليه ظاهر النص، وإنما يشار إليه بطريق المجاز أو الكناية أو نحو ذلك.
ومثل هذا التأويل لا يشرع عند علماء السلف، ولا يجوز المصير إليه إلا حينما تتعذر الحقيقة، أي: يتعذر ولا يمكن تفسير النص بدون تأويل؛ حينئذٍ يذهبون إلى التأويل، ومن هنا جاء الخلاف بين السلف والخلف الخلف يتوسعون كثيراً في تأويل الآيات، ويخرجونها عن دلالاتها الظاهرة لمجرد إبعادهم المعنى الظاهر من الآية، وكثيراً ما يكون الاستبعاد الذي قام في أذهانهم، سببه في الحقيقة قياسهم الغائب على الشاهد، وإذا كانت الآية التي يتأولونها تتعلق بالله عز وجل وبصفاته، فهذا أبعد ما يكون عن الصواب حينما تؤول الآية تأويلاً يصرف نص الآية عن ظاهر دلالتها.
فها هنا -مثلاً- { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22] ما تركوا الآية على ظاهرها كما هو واضح، وإنما قالوا: جاء بعض آيات ربك، لماذا؟ قالوا: لأن الله لا يوصف بأنه يجيء، واستلزموا من المجيء الحركة، فقالوا: الله لا يوصف بأنه يتحرك، وهذا الكلام معناه: أن هؤلاء المتأولين نظروا إلى رب العالمين نظرتهم إلى خلقه، فكما أن الإنسان يوصف بالحركة قالوا: إنه من الضروري ألا نصف الله بما يوصف به الإنسان، فالحركة للإنسان هذه صفته، فلا يجوز أن نصف الله ببعض الصفات التي هي من صفات البشر، فهذا الذي اضطرهم إلى التأويل: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22] كمثال ولا شك عند العاقل أنه إذا نظر إلى هذا السبب الذي حملهم إلى التأويل؛ لتبين له بأنه سبب من أضعف الأسباب، بل هو سبب باطل؛ ذلك لأن لازم هذا السبب وقصاراه ما دام أن البشر يتحرك فلا يجوز أن نصِف الله بأنه يتحرك، وما دام أن البشر يجيء فلا يجوز أن نصِف الله بأنه يجيء -وهو باطل بلا شك في الأصل- ما دام أن البشر يبصر ويرى فلا يجوز أن نصف الله بأنه يبصر ويرى ما دام أن البشر يسمع فلا يجوز أن نصف الله بأنه يسمع، بينما نصوص الكتاب والسنة متضافرة متتابعة متواترة على وصف الله عز وجل بأنه يسمع ويرى، قال تعالى لموسى وهارون: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه:46] كذلك قال ربنا تبارك وتعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] فهل هناك ضرورة لتأويل هذه النصوص التي تثبت لله عز وجل صفة السمع والبصر بمجرد اشتراك الإنسان مع الله اشتراكاً لفظياً في السمع والبصر؟ لو أنهم فعلوا ذلك لوقعوا في مثل ما وقع المعتزلة من قبلهم؛ فإن المعتزلة اشتطوا في التأويل، فأنكروا السمع والبصر أيضاً، بينما الأشاعرة -مثلاً- الذين تأولوا المجيء فنسبوا المجيء إلى غير الله، والله عز وجل يقول: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22] فهؤلاء الذين تأولوا من الأشاعرة هذه الآية لم يتأولوا: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه:46] فما أنكروا السمع والبصر، لكن المعتزلة غلوا فأنكروا السمع والبصر.(37/3)
طريقة إنكار أهل التحريف لآيات الصفات
هل أنكروا الآيات المثبتة لهاتين الصفتين، أي: صفة السمع والبصر؟
الجواب
لا.
ولكنهم أنكروا حقائق معانيها، فقالوا: سميع، بصير، عليم، يساوي عليم شيء، وبصير شيء، وسميع شيء آخر! هذا الذي يسميه علماء السلف بالتعطيل، أي: أنهم عطلوا دلالة الآية على أن الله سميع وبصير بطريق التأويل، فقالوا: وصف الله عز وجل لذاته بأنه سميع بصير كناية عن أنه عليم.(37/4)
شبهة المؤولة والرد عليها
ما هي الضرورة التي اضطرت هؤلاء إلى تأويل هذا النص تأويلاً يؤدي إلى إنكار هاتين الصفتين؟ قالوا: لأنه إذا قلنا: إن الله سميع حقيقة، معناه: شبهناه بالبشر الذي يوصف بأنه سميع وبصير، فالله وصف آدم فقال: { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان:2] هذه هي الشبهة التي إليها استند المؤولة الذين يؤولون الآيات ويخرجونها عن دلالتها الظاهرة، وهذه الشبهة تتلخص بأنهم ينظرون إلى أن الله عز وجل إذا وصفناه بما وصف به نفسه فقد شبهناه بخلقه، ونحن لا يجوز لنا أن نشبهه بخلقه.
والرد عليها باختصار وبسهولة بالغة أن يقال: إن الله عز وجل لما أثبت لنفسه السمع والبصر قدم بين يدي ذلك قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] فالله عز وجل في مطلع هذه الآية نزه نفسه أن يشابه أحداً من خلقه في شيءٍ من صفاته { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] فبعد أن نزه ونفى أن أحداً من خلقه يشبهه تبارك وتعالى في شيء من صفاته؛ أثبت لنفسه تبارك وتعالى صفة السمع والبصر فقال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]، فطريقة الرد على هؤلاء المؤولة أن يقال لهم: إذا قلنا: إن الله سميع، نقول: ليس كمثل سمعه شيء، وإذا قلنا: بصير؛ ليس كمثل بصره شيء، كذلك حينما نقرأ: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22] نقول: مجيئه لا يشبه مجيء البشر؛ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] .(37/5)
لازم مذهب المؤولة إنكار وجود ذات الله
وإذا اضطرد هؤلاء المؤولة في تأويل آيات الصفات؛ أدى بهم التأويل إلى إنكار وجود ذات الله، والسبب في هذا أننا نقول ببساطة لهؤلاء المؤولة : الله موجود وجوداً حقيقياً أم هو عدم؟ لا شك أنهم سيقولون: هو موجود.
فيقال لهم: الخلق الذي خلقه الله؛ كبشر، وحيوان، وشجر، وحجر، موجود أم عدم؟ فيضطرون أن يقولوا: موجود.
إذاً: هنا وجودان: وجود خالق المخلوقات كلها، ووجود المخلوقات نفسها، فهل إذا قلنا: إن المخلوقات موجودة والله موجود معنى ذلك: أننا شبهنا الله بمخلوقاته، أو شبهنا مخلوقات الله به نفسه؟
الجواب
لا؛ لأننا سنقول: الله موجود منذ الأزل؛ أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية، والإنسان ليس كذلك.
إذاً: عندما أثبتنا لله وجوداً أثبتنا له وجوداً ينافي وجود البشر؛ كذلك إذا أثبتنا لله سمعاً، وبصراً، ومجيئاً، واستواءً، ونزولاً، ويداً إلى آخر ما هنالك من صفات كثيرة منصوص عليها في الكتاب والسنة، فإنما نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقات.
باختصار: لله صفة الوجود وللمخلوق صفة الوجود، فهذا الإثبات للوجودين ليس معناه إثبات وجود مشابه لوجود، فوجود الله يليق بأزليته وبخالقيته، ووجود الإنسان يليق بضعفه وعجزه، وكونه كان عدماً فأوجده الله تبارك وتعالى.
إذاً: إثبات كون أن هناك مباينة في الصفة الإلهية عن صفة المخلوقات، هذه المباينة هي التي تنفي المشابهة، وهي التي تجعلنا نؤمن بالصفات كما جاءت في الكتاب والسنة، دون تشبيه بالمخلوقات؛ لأن الله تعالى يقول: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] ودون تعطيل، أي: إنكار للصفات؛ لأن الله أثبت لنفسه الصفات منها: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] .(37/6)
المعطل يعبد عدماً والمجسم يعبد صنماً
وما أحسن ما يقوله ابن القيم رحمه الله في هذه المناسبة: المعطل يعبد عدماً، والمجسم يعبد صنماً.
المعطل يعبد عدماً، لماذا؟ لأن الله تعالى يقول { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22] وهو يقول لك: ما جاء ينزل من السماء الدنيا في آخر كل ليلة فيقول: ( ألا هل من داعٍ ...) وهو يقول: ما ينزل استوى على العرش، وهو يقول: ما استوى على العرش له يد، وهو يقول: ليس له يد.
هذا هو الإنكار! لماذا تقول: ما استوى وما يجيء؟ يقول: لأن فيه مشابهة لمن يجيء من مخلوقاته.
وكذلك سميع بصير فيه مشابهة، إذاً: ليس سميعاً وليس بصيراً.
إذاً: هو موجود؟ إن قال: موجود، أقول: أنا أيضاً موجود، وهنا مشابهة! فالخلاص من هذا أن نقول: إن وجوده ليس كوجودنا، وبصره ليس كبصرنا وكل صفات الله ليست كصفات المخلوقات، فـ المؤولة وفي مقدمتهم المعتزلة ثم من يليهم من بعدهم الأشاعرة ، يصل بهم الأمر أنهم إذا قالوا: نحن نعبد الله، فإنما يعبدون عدماً؛ لأنه: ما هي صفات هذا الإله؟ لا نعرف الله إلا بما وصف به نفسه، فإذا جئنا إلى الصفات التي يصف بها نفسه فأولناها، أي: أخرجناها عن معانيها الواضحة بحجة أنّا إذا قلنا: جاء، فالإنسان يجيء، إذا قلنا: سميع، الإنسان سميع، قال علماء السلف: هذا هو التعطيل! الله أيضاً له ذات، ولكل منا له ذات! إذاً نقول: لا ذات لله عز وجل، رجع إيمانهم بالله إلى العدم، لذلك قال ابن القيم : المعطل يعبد عدماً؛ لأنه لا يثبت لله صفة، حتى صفة السمع والبصر تأولها إلى صفة العلم، لكن هو سيضطر إلى تأويل العلم أيضاً؛ لأننا نقول: الله عالم، وكذلك فلان عالم، والله تعالى قال في القرآن الكريم: { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر:9] { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة:11] .(37/7)
الاشتراك بين صفات الله وبين صفات المخلوقين اشتراك لفظي لا معنوي
إذاً: الله عالم، والإنسان عالم، نقول: إن الله ليس بعالم؛ لأنه صار هناك اشتراك -بزعمهم- بين الإنسان العالم وبين الرب العالم، وهذا على طريقتهم ليس لهم جواب إطلاقاً! أما على طريقة السلف فنقول: الله عالم علماً ليس كعلم البشر، ومن الواضح أن علم الله ذاتي، أما علم الإنسان فهو اكتسابي، أي: أن الإنسان كان جاهلاً فتعلم، أما الله عز وجل -إن صح التعبير- ففي طبيعة ذاته تبارك وتعالى هو عالم، فلم يكتسب العلم بعد أن كان جاهلاً، كما هو الإنسان.
فإذاً: الاشتراك بالاسم لا يضره، أي: إذا قلنا: إن الله سميع، وقلنا: إن الإنسان سميع، فهذا ليس تشبيهاً؛ لأنه مجرد اشتراك في الاسم.
نحن نقول -مثلاً: الإنسان موجود والحيوان موجود، إذاً: إما أننا رفعنا الحيوان إلى صف الإنسان، أو أننا نزلنا الإنسان من مرتبته التي وضعه الله فيها إلى مرتبة الحيوان، لمجرد الاشتراك في الوجود، والأمر ليس كذلك.
وإنما نقول: وجود الإنسان يتناسب مع إنسانيته، ووجود الحيوان يتناسب مع حيوانيته، كذلك يقال: الجماد موجود فعلاً، فهل وجود الجماد كوجود الحيوان الصامت أو الناطق؟
الجواب
لا.
إذاً: هذا يسميه العلماء: اشتراك لفظي، فوجود الجماد والإنسان والحيوان وخالق الموجودات كلها، هذا كله اشتراك لفظي، أما الحقيقة فلا اشتراك فيها أبداً، فوجود الجماد غير وجود الحيوان حقيقة، ووجود الحيوان الأعجم الذي لا ينطق غير وجود الإنسان الناطق حقيقة، ووجود هذا الإنسان غير وجود الملائكة، ووجود الجن، ووجود هذه المخلوقات كلها غير وجود واجد الوجود سبحانه وتعالى.
كذلك يقال تماماً عن كل الصفات التي يأتي ذكرها في الكتاب والسنة.
فالله يجيء قطعاً؛ لأن النص صريح: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22] لكن ليس ضرورياً أن نتصور نحن أنه يأتي على رجليه، أو يأتي على السيارة أو الطيارة .
إلخ مما هو من طبيعة الإنسان، هنا نقول: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] .
فالمذهب السلفي هو الجمع بين التنزيه وبين الإثبات، نثبت وننزه، أما مذهب المعتزلة ومن تأثر بمذهبهم من الأشاعرة وغيرهم، فهو لما ضاقت عقولهم عن أن يعقلوا أن هناك وجوداً لله عز وجل حقيقياً ينافي وجود المخلوقات، فهم اضطروا أن يقولوا: لا يجيء ما استوى على العرش، ولا ينزل، وليس له يد، ولا يتكلم، وهذه مشكلة أكبر وأكبر بكثير جداً!(37/8)
وجود الله تعالى حقيقي أزلي له صفات
كل المسلمين يشتركون على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم أن الله عز وجل حقيقة، وليس معناً قائماً في الذهن، يعني: هو له وجود خارج الكون وجود حقيقي، وليس هو معنى يتخيله الإنسان فكل موجود له صفات ولا شك وإلا فهذا يكون خيالاً، فالله عز وجل وجوده حقيقي وأزلي.
ما هي صفات هذا الموجود الأزلي؟ العقل قد يدرك شيئاً منها، ولكن لا يستطيع أن يستقصي الصفات كلها إلا بطريق النقل الذي هو عبارة عن الكتاب والسنة، فإذا جئنا إلى هذه النصوص التي وردت في الكتاب والسنة تصف هذا الموجود الحقيقي، وهو واجب الوجود سبحانه وتعالى بصفات، فكأن موقفنا تجاه تلك الصفات تأويلها وتعطيل معانيها، بقي وجود الله عز وجل وجود خيالي لا حقيقي؛ لأننا قلنا: إن الوجود الحقيقي له صفاته المناسبة له، فإذا جئنا إلى كل صفة فتأولناها بغير ما يدل عليه النص؛ حينئذٍ كأننا آمنا بوجود خيالي لا حقيقة له.
فكما قلنا آنفاً وأكرر وأقول: الله عز وجل وصف نفسه بصفات كثيرة، فهو يقول: يجيء، ويسمع، ويرى إلخ، فإذا قلنا: لا يسمع، لا يرى إلخ، معناها أننا ما وصفنا هذا الوجود الحقيقي الغائب عنا، وإن لم نصفه ما حكمنا بوجوده إلا حكماً ذهنياً.(37/9)
من أمثلة التأويل: قولهم: إن القرآن حادث
وضربت لكم بعض الأمثلة السابقة، والآن أريد أن أضرب مثلاً آخر لخطورته.
أظن أن الكثيرات منكن يعلمن الخلاف بين المعتزلة وبين أهل السنة بصورة عامة في القرآن الكريم، فـ المعتزلة يقولون: إنه حادث، و أهل السنة يقولون: هو قديم أزلي لماذا؟ لأن أهل السنة يقولون: القرآن كلام الله؛ فهو صفة من صفات الله، والله أزلي بصفاته، فإذاً: صفة الكلام ليست حادثة، وإنما هي صفة أزلية لله قديمة كذاته.
و المعتزلة يقولون: كلام الله الذي هو القرآن حادث، والله ما تكلم.
كيف هذا والله تعالى يقول: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [النساء:164] أثبت الله لنفسه كلاماً في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات: قال الله كذا وكذا، وقال وتكلم كله يدل على أن لله صفة الكلام، كل هذه النصوص أنكرها المعتزلة .(37/10)
شبهة تأويلهم لصفة الكلام والرد عليها
هل أنكروها بمعنى أنهم قالوا: ليس في القرآن: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [النساء:164]؟ لا.
وإنما أنكروها بتأويلها، أي: بتعطيل معانيها، لماذا؟ قالت المعتزلة : إذا قلنا: إن الله يتكلم فالإنسان يتكلم، فشابهنا الله بالإنسان، وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن نقول: إن الله يتكلم، إذاً: هذا الكلام الذي بين أيدينا ليس هو كلام الله، قالوا: هذا الكلام -تخيلوا شيئاً- سجله الله في اللوح المحفوظ، ثم نقله جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن تكلم به إذاً؟ لا بد أن يتكلم به إما جبريل حين أنزله، أو أيضاً جبريل خيله في قلب الرسول عليه السلام، ورسول الله عبر عنه للصحابة، فإذاً: معنى قول المعتزلة : هذا القرآن ليس كلام الله، أي أنه تكلم به غير الله.
وحينئذٍ اشتركوا مع الذين قالوا: { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [المدثر:25] وهم المشركون الذين كذبوا الرسول عليه السلام في قوله: هذا كلام الله أوحاه إلي، فكذبوه وقالوا: لا.
هذا كلامك، فيلتقي المعتزلة المؤمنون بالله ورسوله، وبأن دين الإسلام قائم على القرآن وعلى الحديث، يلتقون بشؤم التأويل مع هؤلاء الكفار الذين نسبوا القرآن إلى أنه من قول البشر.
وكل إنسان يعلم أن الكفر يتحقق؛ سواءً قيل: هذا القرآن هو قول البشر، أو قول ملائكي، كله كفر؛ لأن الحقيقة أنه كلام الله تبارك وتعالى، فما الذي أودى بـ المعتزلة إلى هذه الهوة السحيقة، فأنكروا أن يكون القرآن الكريم كلام الله، ولذلك قالوا: هو حادث؟ هو من فضائل التأويل، أي: من شؤم التأويل الذي أودى بهم إلى أن ينكروا أن يكون لله كلام أصلاً، وبالتالي أنكروا أن يكون هذا القرآن كلام الله تبارك وتعالى.
إذاً: ما هو؟ هو إما قول محمد، وإما قول جبريل، وإما قول خلق من خلق الله الكثير، المهم أنهم يقولون صراحة: ليس هو كلام الله عز وجل.
والسبب هو عدم انتباههم للفرق بين وجود الله وصفاته وجوداً حقيقاً ينافي وجود المخلوق وصفاته منافاةً حقيقية، لم ينتبهوا لهذا، فقالوا: مجرد ما يشترك المخلوق مع الخالق في صفة من الصفات من ذلك الكلام؛ لزم من ذلك أن يشابه الله خلقه، أو يشابه الخلق ربههم تبارك وتعالى.
و
الجواب
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، الله يتكلم ولكن كلامه ليس ككلامنا، كما أن ذاته ليست كذاتنا، وكل صفاته ليست كصفاتنا.(37/11)
دليل يثبت صفة الكلام لله تعالى
ثم إن الله تبارك وتعالى خلق في هذا العصر آية فيها رد واقعي على المعتزلة وأمثالهم، ذلك لأن المعتزلة يقولون: إذا قلنا: إن الله يتكلم فمعناه أن له شفتين، ولساناً، وأسناناً، ولثة، معناه ومعناه إلخ، هذا كله من ضيق عطنهم، وقصر تفكيرهم، فلم يتسع عقلهم أن يكون الله عز وجل شيئاً حقيقياً ينافي هذه الحقائق التي خلقها الله، فخلق الله عز وجل في هذا العصر من جملة ما خلق آلة صماء بكماء هي الراديو، فنحن نسمع الراديو يتكلم بكلام عربي مبين لا له شفة، ولا له أسنان، ولا له لهاةً، ولا أي شيء، هذا في الحقيقة من أكبر آيات الله في هذا العصر للرد على المؤولة -أي: المعطلة - الذين يتخيلون أنه من الضروري أن يكون الله مثلنا في صفة كلامه، لكن هو ليس مثلنا، إذاً: أنكرنا كلامه، فخلق الله عز وجل الراديو يتكلم بدون أي آلة، فالأخرس -مثلاً- لماذا لا يتكلم؟ فيه نقص-وأنا لست طبيباً- في تركيبه الجسدي، فلم يستطع أن يتكلم، فالله عز وجل خلق الراديو يتكلم بأوضح كلام بأي لغة من لغات الدنيا، وهو ليس له أي آلة من آلات الإنسان التي يتكلم بها عادة! فإذا كان الله خلق آلة جامدة تتكلم بدون هذه الوسائل، أليس الله عز وجل بقادر على أن يتكلم بدون لسان وشفتين وأسنان؟! بلى.
إنه على ذلك قدير! فانظروا إذاً كيف أن المعتزلة ضاق عقلهم أن يتفكروا ويعلموا أن الله إذا وصف نفسه بأنه يتكلم، فليس ضرورياً أن يكون كالإنسان له أعضاء الإنسان التي يتكلم بها هذه آية من آيات الله -الراديو- كما قلنا! باختصار، هذا التأويل الذي ذهب إليه كثيرٌ من المتأخرين وقليلٌ من المتقدمين، كان سبباً لانحراف علماء كبار عن طريق السنة والصحابة، الذين كانوا يؤمنون بكل ما وصف الله عز وجل به نفسه بشرط الإثبات والتنزيه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] .(37/12)
إنكار المعتزلة لمسألة الاستواء وشبهتهم في ذلك
حينما أنكر المعتزلة أن الله استوى على العرش -وهذا مثال آخر وله علاقة بحياتنا الفكرية والعقائدية القائمة اليوم- حينما أنكروا أن الله على العرش، كما قال تعالى صراحة: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] لماذا أنكروا؟ قالوا: لأننا إذا قلنا: استوى بمعنى استعلى، معناه: وضعناه في مكان، والله منزه عن المكان.
وهذا أيضاً جاء من ضيق عقلهم وتفكيرهم، والحقيقة كما يقول -أيضاً- ابن القيم تبعاً لـ ابن تيمية : إن المعتزلة وأمثالهم حينما يتأولون النصوص يتقدم تأويلهم أنهم فهموا من النصوص التشبيه، فهموا أن { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] مثلما يستوي الشيخ على كرسيه، أو السلطان على عرشه، وهو عز وجل لا ينبغي أن يكون كذلك، إذاً: (استوى) ليس معناه (استعلى).
فمعنى التأويل أنه سبق إلى ذهنهم التشبيه، وإلا لو لم يفهموا التشبيه لما كان بهم من حاجة إلى تأويل، وأنا أُفصِّل لكم هذا لضرورة المسألة: هم فهموا أن الخالق كالمخلوق من جملة أن المخلوق لو أزيل عنه الكرسي لوقع على أم رأسه، الله عز وجل قال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، فإذاً: الله حينما استوى -أي: استعلى على العرش- ليس كالإنسان، فلذلك جاء في كلام بعض العلماء في هذه النقطة بالذات شعر فقهاء فيه علم، قال:
ورب العرش فوق العرش لكن بلا وصف التمكن واتصال
يعني: قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت:6] فهو غني عن العرش أن يجلس عليه، وإنما له تبارك وتعالى صفة العلو .(37/13)
مناظرة مع عالم من علماء الأزهر حول مسألة المكان
وكما قلت مراراً وتكراراً، وكان آخر هذا القول في موسم مضى في الحج: جاءنا رجل من علماء الأزهر، فجرى حديث طويل بيني وبينه في هذه القضية، من جملتها قلنا له: أليس الله كان ولا شيء معه؟ قال: نعم، قلنا: هذه نقطة تلاق، لا خلاف بيننا والحمد لله.
قلنا له: إذ كان الله لا شيء معه، هل كان في مكان؟ قال: لا.
قلت: وهذا هو اعتقادنا، فالله عز وجل لما خلق الخلق بعد أن كان عدماً هل دخل فيه وامتزج فيه امتزاج الماء في الثلج، أو السمن والزبدة في الحليب، أم بقي مستغنياً عن خلقه؟ قال: بقي مستغنياً عن خلقه.
قلنا له: إذ بقي مستغنياً عن خلقه، هل هو لا يزال ليس في مكان كما اتفقنا آنفاً؟ قال: نعم.
ليس في مكان.
إذاً: الله ليس في مكان قبل الخلق وبعد الخلق.
ثم قلت له: المكان شيء وجودي أم عدمي؟ أي: يتخيله في الذهن أم هو له وجود حقيقي؟ قال: له وجود حقيقي، مكان يجلس فيه الإنسان يتمتع به .
إلخ.
هذه كانت الخطوة الأولى في التلاقي معه، وسلسلنا الأسئلة واتفقنا.
قلنا: فلما خلق الله الخلق، هل ظل كما كان مستغنياً عن الخلق وليس في مكان؟ قال: نعم.
قلنا: لما خلق الله الخلق -العقل الآن يحكم بشيء من شيئين، والشرع هو المرجح- فإن العقل يقول: إما أن يكون الله عز وجل حينما خلق الخلق وهو فوق خلقه، وإما أن يكون خلق خلقه فوق ذاته، هل يمكن هذا؟ لم يبق إلا الأمر الأول وهو أن يكون الله عز وجل فوق المخلوقات، هذه الفوقية التي يحكم بها العقل ضرورة، هي التي أخبر الله بها في كتابه وفي حديث نبيه، أما الكتاب فخذوا ما شئتم، أشهر هذه الآيات { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] أي: استعلى، ومنها آية نقرؤها ونمر عليها مر الكرام، ولا نتنتبه إلى أن الله عز وجل يصف فيها شيئين: الشيء الأول: ذاته تبارك وتعالى، نصفه بصفة الفوقية.
الشيء الثاني: يصف المؤمنين بأنهم يؤمنون بهذه الصفة، فيقول تبارك وتعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل:50] أي: أن المؤمن حينما يخشى الله إما دائماً وأبداً، وهذه من صفات الأنبياء والرسل، وإما أحياناً، فهو يلاحظ حين يخشاه ويخافه أنه يخاف رباً على العرش استوى، فإذاً: هذه الآية من جملة الآيات التي تثبت فوقية الله على عرشه وعلى خلقه جميعاً.
قلت للشيخ: ما رأيك هل أنت تؤمن معي بهذا الكلام؟ قال: نعم.
قلت: فأين المكان الذي تتهمونا؟ المكان هو طبيعة المخلوق، فالله عز وجل فوق المخلوقات، أي: حيث لا مكان ولا زمان؛ لأن الله الآن من هذه الحيثية كما كان، وسلسلنا الموضوع معه كان الله ولا شيء معه، هل كان في مكان؟ قال: لا.
فلما تسلسلنا معه في البحث وصلنا إلى نقاط تلاقينا فيها، لكن لا هو شعر أننا أثبتنا لله مكاناً، ولا أنا أيضاً شاعر بأنني أثبت لله مكاناً، فقلت له: إذاً: لماذا تتهمون السلفيين الذين يثبتون ما وصف الله به نفسه، ومنها صفة الفوقية وصفة العلو، أنهم حصروه في مكان؟ لكن الحقيقة (اعكس تصب) الذين أنكروا صفة الله هذه، وأنه فوق مخلوقاته كلها، هم الذين حصروه في مكان، والدليل على هذا الذي أقول: ألسنة الناس اليوم ما بين عالم وجاهل لا فرق في ذلك بينهم، هم الذين يقولون: الله موجود في كل مكان، معناها: إنكار ما جاء في كتاب الله وفي حديث رسول الله معناها: أن الله ليس فوق المخلوقات؛ لأنه لا يوجد فوق المخلوقات مكان كما شرحنا لكم؛ لأنه عدم، كان الله ولا شيء معه إطلاقاً، فلما خلق المخلوقات، بخلق المخلوقات وجد الزمان المكان، فهو سبحانه ما حل في هذا المكان ولا حل في هذا الزمان، فإذاً: الله مستغن عن المخلوقات بما فيه الزمان وبما فيه المكان، فالله ليس في مكان.
هذه عقيدة أهل السنة أو السلفيين بالعبارة الصريحة.
أما جماهير الناس اليوم فهم يقولون عبارتين كلتاهما تؤديان إلى ضلال معتقدها، يقولون: الله موجود في مكان، أو الله موجود في كل الوجود.
الله موجود في كل مكان: هذا مكان المطبخ مكان، وغير المطبخ أيضاً مكان، فالله في كل هذه الأمكنة؟! هذا معنى كلام الناس، الله موجود في كل مكان في الحمام في الأسواق في السينمائيات في إلخ، المكان اسم جنس يشمل كل مكان طاهر أو قذر، فلما يقول القائل: الله موجود في كل مكان، معناه: هو في كل هذه الأمكنة، الأماكن الطاهرة والقذرة، مع أنه لا يجوز لمسلم أن يقول: إن الله موجود في الأمكنة الطاهرة! لا يجوز أن يقول هذا؛ لأننا إذا قلنا: الله موجود في الأمكنة فقد حصرناه، وهو مستغن عن خلقه جميعاً، وهو فوق السماوات كلها.(37/14)
شرح حديث الجارية في إثبات علو الله تعالى
وأخيراً نروي الحديث الآتي تأكيداً لهذه العقيدة، أي: عقيدة استواء الرب على عرشه، واستعلائه على جميع خلقه من جهة، وكدليل لإبطال التأويل الذي مصيره إنكار الحقائق الإلهية.
يروي الإمام مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: ( أنه صلى يوماً وراء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعطس رجل بجانبه فقال له: يرحمك الله ) معاوية بن الحكم السلمي يقول للذي عطس بجانبه: يرحمك الله، كأنه خارج الصلاة، لا يعلم أن هذا كلام، وأنه لا يجوز للمصلي أن يتكلم، فنظر إليه من كان عن جنبيه نظرة إسكات، فما كان منه إلا أن انزعج أكثر من قبل وقال: وا ثكل أمي! ما لكم تنظرون إلي؟! لم يعرف بعد هذا المسكين لبعده عن العلم خطأه، وأنه تكلم في الصلاة، وأن الكلام مبطل، ولو كانت بكلمة: يرحمك الله أيها العاطس، فما كان من الصحابة إلا أن أخذوا ضرباً على أفخاذهم تسكيتاً له، يقول معاوية : [ فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصلاة أقبل إلي .
] تصوروا نفسية هذا الإنسان الذي شعر بعد زمن أنه مخطئ، والرسول يقبل عليه، ماذا تتصور أن يفعل الرسول معه؟! هل يريد أن يؤنبه أو أن يجهله، مثلما يعامل مشايخنا إلا قليلاً منهم؟ إذا أخطأ شخص خطيئة تافهة يتمنى من شدة التأنيب أن الأرض تبلعه، ربما تصور هذا معاوية ، أي: أن الرسول عليه السلام لما أتى أليه يريد أن يخطئه ويؤنبه، قال معاوية : ( فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إلي، فوالله ما ضربني، ولا قهرني، ولا شتمني، وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي تسبيح وتكبير وتحميد ) لما رأى معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق اللطيف الناعم، كأنه عاد إلى نفسه يحاسبها أنه جاهل، فلا بد أن يتعلم، لذلك أخذ يلقي على النبي صلى الله عليه وسلم السؤال بعد السؤال، فقال: ( يا رسول الله! إن منا أقواماً يأتون الكهان -أي: المنجمين والعرافين- قال: فلا تأتوهم، قال: يا رسول الله! إن منا أقواماً يتطيرون -يتشاءمون- قال: فلا يصدنكم ) أي: إذا تشاءم فلا يتجاوب معها، بل يتم مشيه في سبيله، وهذه كلمات سريعة وتحتاج إلى شرح، وربما في مناسبة أخرى نشرحها ( قال: يا رسول الله! إن منا أقواماً يخطون -الضرب في الرمل - قال عليه الصلاة والسلام: قد كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطُه خطَه فذاك -وهذه الجملة أيضاً تحتاج إلى شرح فيما بعد- قال: يا رسول الله! -وهنا الشاهد- إن عندي جارية ترعى لي غنماً في أحد ، فسطا الذئب يوماً على غنمي، فلما أخبرتني وأنا بشر أغضب كما يغضب البشر فصككتها صكة -هو نادم على ما فعل- يقول: وعلي عتق رقبة ) -كأنه يسأل الرسول: هل يجزيني أن أعتق هذه الجارية كفارة الظلم لها، بسبب ثورتي عليها وضربي لها تلك اللطمة؟ قال عليه السلام: ( ائت بها، فلما جاءت سألها الرسول عليه السلام، أين الله؟ قالت: في السماء، قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة ).
هذا حديث في صحيح مسلم ، فاعتبروا يا أولي الأبصار! ومع كونه في صحيح مسلم فكثير من المشايخ اليوم ينكرون صحة هذا الحديث من حيث الإسناد، وإسناده من أصح الأسانيد، وبعضهم لا يستطيعون أن ينكروا؛ لأن السند صحيح، فماذا يقولون؟ يقولون: الرسول راعى ثقافة الجارية؛ لأنها بدوية، أي: سايرها في مفاهيمها؛ هي تعني أن الله في السماء أي: الأصنام الموجودة في الأرض ليست هي التي خلقت المخلوقات، إنما غير الأصنام -أي الله- يقولون: إن الرسول عليه السلام لما قالت: في السماء، لا تعني فوق، وإنما تعني مجرد إثبات أن لهذا الكون خالقاً، وليست الأصنام التي تعبدها أهل الجاهلية.
نقول لهم: أولاً: رسول الله لا يقر على باطل، ولو كانت جارية، ولو كانت بدوية! واجب الرسول عليه السلام أن يعلم المتعلم أم يعلم الجاهل؟ فإذا افترضتم أن هذه الجارية جاهلة، وتتكلم بالباطل -في ظنكم أنتم الذين لا تثبتون أن الله في السماء- فعندما ينظرون هذا الجواب من الجارية، يقولون: الجارية مخطئة في هذا.
كيف أقرها الرسول؟ قالوا: أقرها لأنها عنت معنىً مطلقاً مجرداً عن إثبات أن الله له صفة العلو، فنقول لهم: الجارية في الحقيقة يبدو لي من وراء هذه القرون الطويلة أنها أفقه من هؤلاء العلماء لسببين اثنين: لأنها أولاً: أثبتت ما أثبت الله في كتابه حيث قال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [الملك:16-17] فإذاً: الجارية مثقفة بثقافة القرآن، فهي أثبتت وشهدت بما شهد به القرآن، فكيف تقولون إنها كانت مخطئة في قولها: الله في السماء؟ ثانياً: هل تعتقدون أن الرسول عليه السلام يقر الباطل؟ سيقولون: لا.
فكيف أقر هذه الجارية على هذا القول الذي تنكرونه؟ الجارية تقول: إن الله في السماء، وأنتم تقولون: الله ليس في السماء، فكيف وقف الرسول عليه السلام تجاه هذه الجارية موقف المقر للباطل الذي أنتم تعتقدون أنه باطل، أهذا هو إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [لنجم:3-4]؟ هذا الحديث في صحيح مسلم ، لكن الناس اليوم الذين ينكرون علو الله فوق خلقه ما بين منكر له مع صحته، وما بين مقر بأن الجارية مخطئة والرسول سايرها في كلامها؛ لأنها قصدت فقط إثبات أن الله هو الخالق.
هذا من شؤم التأويل! الحقيقة أن الذي يدرس موضوع التأويل يجد له أخطاراً لا تكاد تنتهي؛ من إنكار آيات، ومن إنكار أحاديث صحيحة، فإن كان النص آية فبالتأويل، وإن كان النص حديثاً إما بطريقة الإنكار كما هو الشأن في هذا الحديث، أو بطريق التأويل كما يفعل البعض .(37/15)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (قد كان نبي من الأنبياء يخط)
السؤال
ما معنى: ( قد كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه فذاك )؟
الجواب
هذا السؤال قد ألمحت إلى معناه آنفاً، يقول الرسول عليه السلام في الحديث السابق: نبي من الأنبياء كان الله عز وجل قد أنعم عليه بنعمة الضرب بالرمل، يتخذ بذلك وسيلة للاطلاع على بعض المغيبات، والاطلاع على المغيبات هو من خصوص الأنبياء والرسل، لكن لما علم ذاك النبي ضرب الخط كان ينبئه عن بعض المغيبات بواسطة الرمل، بينما الأنبياء الآخرون ينبئهم فوراً بواسطة جبريل عليه السلام، بمعنى أن الخط على الرمل علم خص الله به بعض أنبيائه معجزة له، يقول الرسول عليه السلام من باب التعليق بالمحال: فمن وافق خطه اليوم خط ذلك النبي فهو مصيب، ومن لا فليس بمصيب وإنما يتعاطى الدجل؛ لأن هذا العلم لم يبق إليه سبيل ولا طريق؛ لأنه خاص بذاك النبي، وهذا يسميه العلماء: التعليق بالمحال، وفي هذا الجواب بهذا الأسلوب نكتة، فهو بدل أن يقول: الضرب بالرمل باطل، يعطيك فائدة أن الضرب بالرمل كان علم نبي من الأنبياء السابقين، فإذاً إذا كان باستطاعتك أن يطابق علمك كعلم ذلك النبي فأنت الموفق.
(ماذا سيكون الجواب؟ هل يمكن يصادف ضرب رمل إنسان غير موحى إليه ضرب ذلك النبي الموحى إليه؟.
هذا اسمه: تعليق المحال، فإذاً المقصود به: التعجيز، فإن كنت تستطيع أن تعيد الأيام التي فاتت الصلاة فيها فاقض، هو يعرف أنه لا يستطيع أن يعيد الأيام، فإذاً: سيعلم إذا قضاها، كذلك إذا كان هنا إنسان باستطاعته أن يوافق خطه خط ذلك النبي فهو المصيب الموفق، وهو يعلم أن ذاك النبي مضى وانقضى وذهب بمعجزته، فكل الأنبياء الذين ذهبوا ذهبوا بمعجزاتهم.
فإذاً: خلاصة معنى ( فمن وافق خطه خطه فذاك )هذا تعليق المستحيل، فلا يمكن أن يوافق خط رمالي اليوم -المنجمين- خط ذلك النبي.
إذاً: الضرب بالرمل أمر غير مشروع؛ لأنه تعليق المحال، كتعليق قضاء الصلاة بإعادة الأيام.
وأخيراً: أسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يلهمنا أن نسلك منهج السلف الصالح في فهم الشريعة، ويحفظنا ويصوننا عن أن ننحرف يميناً أو يساراً، كما وقع في ذلك كثير من الطوائف المنتمية إلى الإسلام.(37/16)
حقيقة الدعوة السلفية
إن الدعوة السلفية على مر العصور قديماً وحديثاً بمبدئها الصافي وهو الكتاب والسنة ستظل علماً شامخاً ومناراً هادياً لكل من أحب الحق، ولعل سبب عدول الخلف عن كثير مما كان عليه السلف هو اتباعهم لغير ما هم عليه واتجاههم إلى من أصابه الزيغ وعمى البصيرة.
والدعوة السلفية ترتكز على نقاط كلها تدعو إلى تسوية الصف الإسلامي ولم شمله تحت راية واحدة، بل وزجر كل مستورد لأي فكر يقدح في الدعوة السلفية أو يشرك في التشريع السماوي شريكاً من الهوى.(38/1)
مخالفة الخلف لمنهج السلف
كلمة للشيخ عيد عباسي : إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الموضوع الذي سأتحدث فيه هو عن الدعوة السلفية، ما هي حقيقتها؟ وما هو المراد بها؟ ولمحة عن تاريخها، ثم موقفها من الدعوات الأخرى بشكل إجمالي.
الدعوة السلفية: نسبة إلى السلف ، وفي اللغة: هم القوم المتقدمون.
ويراد بهم في الاصطلاح: أنهم القرون الثلاثة الخيرة التي جاء الثناء عليها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعد ذلك أناس يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويكون فيهم الكذب ) فهؤلاء بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: لهذه القرون الثلاثة- أنهم خير القرون، ولا شك أن هديهم وطريقتهم وسنتهم هي خير الهدي وخير السنن وخير الطرائق.
ويقابل السلف الخلف، وهم: الذين جاءوا بعد هذه القرون الثلاثة، ونحن نعلم أنه قد اختلفت طريقة السلف عن الخلف في كثير من الأمور، فقد ظهرت بعد القرن الثالث أمور لم تكن، وكان ذلك بسبب اختلاط المسلمين بغيرهم، ودخول الثقافات الأجنبية على الأمة الإسلامية، فقد دخلت ثقافات النصارى الذين أسلموا، وكذلك اليهود، واليونان، والهنود بعد الفتوحات الإسلامية الهائلة، وهذه الثقافات أثرت مع الأسف، وخاصة في الذين لم يتمكن الإسلام في قلوبهم، فقد انبهروا بها، وحين اطلعوا عليها -وهي شيء جديد عليهم- وثقوا بها، وانبهروا، فأخذوا يعتنون بها، وأخذ بعض الأمراء والحكام من الذين لم يفقهوا حقيقة الإسلام ولم يهتموا بالأمر وخطورته، أخذوا يعطونهم الجوائز الكبيرة من أجل ترجمة كتب هذه الأمم الأجنبية إلى المسلمين .(38/2)
الأدلة النقلية على تحريم مخالفة هدي الكتاب والسنة
نحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نبه إلى خطورة ذلك وحذر منه، ويكفينا في الدلالة على ذلك حديث عمر رضي الله عنه حينما كتب صحائف من التوراة فرآها عليه الصلاة والسلام فسأله عنها، فقال: إنه كان له صديق يهودي، وإنه نسخ منه بعض الصحائف من التوراة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال: ( أمتهوكون أنتم؟! كما تهوكت اليهود والنصارى! والذي نفسي بيده! لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا أن يتبعني ) فهو عليه الصلاة والسلام يعلن أنه لا هدي إلا الهدي الذي جاء به عن ربه، ولا يجوز لأحد أن يكون متبعاً وأن يكون إماماً وقدوة ومرضياً للاتباع ومأخوذاً عنه الهدي إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يشير إلى أنه لا يجوز للمسلمين أن يأخذوا دينهم، ولا هدايتهم، ولا إرشادهم، ولا أخلاقهم، ولا كل شيء من الأشكال والتصورات والقيم والسلوك عن أي أمة أخرى، وما السبب في ذلك؟ السبب أن الله عز وجل أرسل إليهم الهدى كاملاً، واختصهم بالفضل عاماً شاملاً، فليسوا بحاجة إلى هدي آخر، وليسوا بحاجة إلى إرشاد قوم آخرين، فقد أخبرهم الله عز وجل بأنه أكمل لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } [المائدة:3] فالذي يلجأ إلى غير طريق الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنما يعتقد بطريق المفهوم أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كافٍ، وأن هناك هدياً آخر وخيراً آخر يمكن أن يستمده لدى الأمم الأخرى، وهذا مؤداه الكفر، وأن كثيراً لا يفقهونه ولا يفهمونه.
فهذا النص وحده كافٍ في التحذير من اللجوء إلى طرائق الأمم الأخرى وهديها في أفكارها وعقائدها وأخلاقها وقيمها.(38/3)
جواز أخذ العلوم الدنيوية من غير المسلمين
وبالطبع! فإن هذا لا يدخل في الأمور الدنيوية، حتى لا يقول قائل: إن الإسلام حجر على العقول، وضيق على الأفكار؛ لأن العلوم المختلفة هي عامة شاملة لدى الأمم الأخرى، ولا يمكن أن نهمل أو نطرح ما يأتي به الأجانب وغير المسلمين من تقدم علمي، أو تفوق حضاري في بعض العصور.
هذا صحيح، فإن العلم الدنيوي غير خاص بالمسلمين، والعقل الإنساني يعمل، والأمم الأخرى تعمل وتنهض، والحضارة والتقدم العلمي الدنيوي كما يقال: متداول بين الأمم، فيومٌ يكون الحكم لهذه الأمة ويوم لتلك، وهي جميعاً تسير وتعمل وتبني هذه الحضارة المادية، في ناحية العلم لم يحرج علينا ربنا سبحانه وتعالى أن نأخذ عنهم العلم الدنيوي المحض الصناعي، الذي يفيد، مثلاً: علم الزراعة، وعلم الكيمياء، وعلم الفيزياء، والفلك ولكن بشريطة ألا يخالف شيء من هذه العلوم ومن هذه المبتكرات ما جاءنا به الإسلام الحنيف.
لأن هناك من مبتكرات العلم ومن نظرياته أموراً قد نجدها تخالف الإسلام فلا يجوز أن نقبلها؛ لأن الإسلام حق لا يتطرق إليه الريب والشك، أما هذه العلوم فهي من فعل بشر، وهي من صفات أناس يحتملون الخطأ والصواب، ولا يخلون من أغراض ومن أهواء، فلذلك إذا اصطدم النص الشرعي الواضح الصريح القطعي بنظرية علمية، أو أفكار خبيثة فيجب أن تكون ثقتنا بما جاء عن الله ورسوله لا غير، فيجب أن نقدمهم على هذه الأمور التي تأتينا من آخرين.
أقول: لا حرج من قبول هذه العلوم بهذا الشكل، وعمدتنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الذي هو حديث تأبير النخل، وخلاصته ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المدينة وجد أهل المدينة يؤبرون النخل فسألهم عما يفعلون، فقالوا: شيء اعتدنا عليه، فقال: لو لم تفعلوا لكان خيراً، فتركوه، فنقصت ثمرته، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما بعد فقال: إذا حدثتكم عن أمر من أمور دينكم فخذوا به، وإذا حدثتكم عن أمر من أمور دنياكم فأنتم أعلم بأمور دنياكم )أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
إذاً: هناك أمران من الأمور: أمور دينية تتضمن العقائد، والأخلاق، والأفكار، والتصورات، والقيم، والثقافة، والأدب، فهذه يجب ألا نقبلها إلا عن طريق كتابنا، ولا نأخذها إلا من طريق الوحي الصادق الصحيح الذي جاء به عليه الصلاة والسلام.
وهناك أمور دنيوية بحتة واجتماعية وعلمية، فيجوز أن نأخذها منهم، بل يجب، لكن بالشرط السابق ألا نأخذ ما يخالف ما جاءنا به الوحي الصادق وعن طريق خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.(38/4)
تاريخ الدعوة السلفية
نرجع إلى هذه الدعوة السلفية، فنقول: قد يقول البعض: إنها دعوة طارئة وجديدة، وإن أقدم من تنتسب إليه هو شيخ الإسلام ابن تيمية ، ثم ابن عبد الوهاب في العصر الحالي، وهذه فكرة خاطئة، بل هي باطلة، وإنما الدعوة السلفية هي دعوة الإسلام الصحيح نفسه، دعوة الكتاب والسنة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت خاتمة الدعوات، وآخر الشرائع، وآخر الأجيال، وإنما لم يكن يطلق عليها ذلك؛ لأنه لم يكن هناك حاجة، فالمسلمون الأولون كانوا على الإسلام الصحيح، فلم تكن هناك حاجة أو داعٍ للقول: الإسلام السلفي، أو الدعوة السلفية.
كما يقرب ذلك إلينا مثلاً العلوم الأخرى كعلوم العربية، كان الناس يتكلمون العربية الفصحى دون لحن ودون خطأ فلم يكن هناك حاجة لوضع قواعد النحو، وإلى اصطلاحات النحو واللغة والبلاعة، لأنها كانت معروفة سليقة، وكذلك الدعوة السلفية كان الناس عليها، ولم يكن هناك شذوذ ولا انحراف، ولكنها بدأت تظهر شيئاً فشيئاً عندما بدأت الأفكار الأخرى تظهر، وعندما بدأت هذه الثقافات الأجنبية تؤثر في المسلمين، فتحرف بعضها، وتزين لبعضهم أشياء تخالف الإسلام في العقائد وغيرها.
حين ذلك بدأ أئمة المسلمين من صحابة وتابعين ومن بعدهم يوجهون إلى خطورة هذه الدخائل والمحدثات، فكانت تظهر وتشتد الدعوة شيئاً فشيئاً كلما زادت هذه المحدثات، والثقافات التي تؤثر في المسلمين، وكان من أبرز من ميز هذه الدعوة ووضحها بجلاء الإمام أحمد بن حنبل حيث ظهرت فتنة خلق القرآن في زمانه، وأُرِيْدَ حملُ الناس جميعاً على هذه الفكرة المحدثة الباطلة، فصمد ذلك الصمود المثالي، ووقف ذلك الموقف الشجاع الرائع، وكان معه جمهور المسلمين بقلوبهم وأرواحهم، وكان أولئك المعتزلة في خط آخر خارج النطاق، فتميزت الدعوتان، وظهر الخلط بين الاتجاهين: اتجاه الرأي وأصحاب الرأي، أصحاب تقديم العقل على النقل، الذين لا يعتدون بنصوص الكتاب والسنة، ولا يعتدون بهدي السلف الصالح ، وبين من يجعل الأساس الكتاب والسنة، ويجعل الأساس هدي السلف الصالح .
وهكذا أخذت تتميز الدعوة السلفية شيئاً فشيئاً كلما ازداد المسلمون بعداً عن دينهم الصافي الحقيقي، وكلما أخذت الأفكار الأجنبية، والثقافات الدخيلة على الإسلام تظهر وتشتد ويعلن بها.
وفي زمن شيخ الإسلام ابن تيمية كان ذلك قد استفحل، وكانت الثقافات والتفسيرات الفكرية قد تضخمت حتى صرفت أكثر المسلمين، فلم يبق إلا قلة نادرة غريبة عن المجتمع هم الذين بقوا يحافظون على دعوة الكتاب والسنة، ويتقيدون بطريق السلف الصالح ، فحينئذٍ ظهرت الحاجة الملحة إلى توضيح هذه الدعوة وإلى تمييزها، وكانت كتابات شيخ الإسلام رحمه الله الكثيرة والرائعة التي ميز بها الإسلام الصحيح الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانت كتبه إنارة لمن يطلب الهداية، وكانت فيصلاً بين الحق والباطل، وقد أقام الحجة على المخالفين بالمناظرات، وبالرسائل، وبالكتب، وفي المجالس، ولم يبق حجة لمعاند إلا ما يكون بسبب العناد والاستكبار.
فلذلك في زمنه ميزت وظهر هذا الاسم دعوة السلف ، ومنهج السلف ، وطريقة السلف ، وإن كانت قد استعملت هذه الكلمات قبله أيضاً، وأظن قائل هذا البيت المشهور في العقائد عن مذهب السلف :
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
أظنه قبل شيخ الإسلام .
هذه اللفظة عربية فصيحة، وظهرت في كلامهم ولكن كما قلت: توضحت وتوطدت أكثر في عهد شيخ الإسلام رحمه الله.
وكما قُلتُ: الأفكار الصوفية سيطرت على الناس، وطرقها المختلفة، وأفكار علماء الكلام، والتعصب المذهبي، والبدعة في الدين، والأحاديث الضعيفة والموضوعة، فظهرت غربة الإسلام، وظهر أنه كان بحاجة ماسة إلى أن يتبين ويتضح حتى يعرف الناس الحق من الباطل ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فقد تابع هذه الرسالة وهذه الدعوة تلاميذ الإمام ابن تيمية ، ابن القيم ، و ابن كثير ، وغيرهما على مر العصور، لكنهم كانوا محارَبين مضطهدين، فمات منهم من مات في السجون، وقتل منهم من قتل، وعذب من عذب، وكانت الغلبة المادية في أكثر العصور للمخالفين، وإن كانت الغلبة المعنوية غلبة الحجة والبرهان لـ أهل السنة وفاقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).
ثم جدد هذه الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نجد ، حينما كانت في ظلام دامس، وحينما كانت الوثنيات تسيطر على البلاد، فتثقف بثقافة شيخ الإسلام وأخذ عنه، وقرأ كتبه، وأخذ ينشرها ويدعو إليها، ونال من جراء ذلك الأذى الكثير، وحرب العوام، ولكن وفقه الله عز وجل مع من أيده من الأمراء السعوديين الأوائل، كان من ذلك أن ظهرت هذه الدعوة وأثرت في المسلمين، ووصلت إلى بلدان كثيرة، وما تزال منها بقية في بلاد السعودية وغيرها.
لن نخوض كثيراً في هذه التفصيلات التاريخية، فلننتقل إلى حقيقة الدعوة السلفية .(38/5)
الدعوة السلفية حقيقتها وأصولها
لماذا تظهر؟ وما هي أهم أشكالها؟ وما هي أهم الأصول التي تركز عليها؟(38/6)
التوحيد الذي أمر الله به في كتابه
هناك أمور هامة وأصول أساسية تركز عليها الدعوة السلفية، أول هذه الأمور مسألة التوحيد، وهذه المسألة أخطأ فيها جماهير المسلمين عامتهم وخاصتهم، فقد شاع لديهم أن التوحيد الذي أمر الله به في كتابه وسنة نبيه هو الاعتقاد فقط بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً ورازقاً حكيماً يتصف بصفات الكمال، وقد ملئوا كتبهم وأتعبوا أنفسهم في إثبات هذه الحقيقة، مع أن -كما سمعتم من أستاذنا أكثر من مرة- هذه الحقيقة فطرية مركوزة في النفوس والأذهان، ولا تحتاج إلى كثير إثبات ولا إلى جهد كبير، فقد قال الله تعالى: { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [إبراهيم:10] { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم:30] .
وإن كل من ينظر إلى تاريخ البشر على مر العصور ليجد أن كل البشر يؤمنون بإله خالق مدبر وحكيم، إلا قلة نادرة من الملحدين على مر العصور كانوا يُسمَّون دهريين قديماً، ويسمون اليوم ملاحدة أو زنادقة أو شيوعيين، هؤلاء نسبتهم قليلة جداً بالنسبة لبقية البشر، لا يقول قائل: الشيوعيون مثلاً الآن هم سكان روسيا ، وسكان الصين ، وسكان الدول الشيوعية الأخرى الكثيرة، لا يقول أحد هذا، فإن سكان هذه الدول أكثرهم مؤمنون بالله، أكثرهم إما نصارى أو مجوس أو وثنيون يؤمنون بإله، ولكن الملاحدة منهم والشيوعيين مثلاً هم قلة قليلة، هم الحكام فقط، والذين يسيرون الأمور العسكرية وغيرهم، يعني هم أعضاء الحزب الشيوعي لا غير، أما بقية الشعب فتعلمون أن لهم كنائسهم، ولهم عباداتهم، وكانوا يجرون إحصاءات بين الحين والحين، أذكر أن آخر الإحصاءات أن الشيوعيين في روسيا نحو سبعة ملايين فقط، فإذاً هم قلة، ما قيمة سبعة ملايين أضف إليها مثلاً البلدان الأخرى خمسة عشر مليوناً أو عشرين مليوناً أو خمسين ما قيمتهم بالنسبة لبقية البشر الذين هم الآن نحو أربعة آلاف مليون نسمة؟ إن عامة البشر وجماهير الناس على مر العصور هم مؤمنون بإله، فإذاً ماذا يحتاج هؤلاء؟ إن أحوج ما يكونون إليه هو أن يؤمنوا بالله الإيمان الصحيح الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم والرسل السابقون.
إنه الإيمان الذي يعتد به إنه الذي ينجي صاحبه من الخلود في النار إنه طريق دخول الجنة إنه هو وحده الإيمان الصحيح وما عداه كفر، وكلنا نعرف أن المشركين كانوا يؤمنون بإله خالق إلا قلة نادرة جداً أيضاً، أشار إلى ذلك القرآن حيث قال: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [الزمر:38] وبين سبب ضلالهم وشركهم أنه بسبب اعتقاد الشفعاء والوسطاء بينهم وبين الله: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [يونس:18] { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر:3] وفي شعر للجاهليين تجد كثيراً لفظة الإله والخالق ويسلمون به، ويعظمونه، ولكنهم يعتقدون أن هذه الأصنام هي وسائط، وهي مقربات لهذا الإله، وإن ذكرها ودعوتها هو ضمان ليستجيب لهم الله دعاءهم ويغيثهم إذا استغاثوا به.(38/7)
اهتمام الدعوة السلفية بتبيين التوحيد الصحيح وتفصيل أنواعه
الدعوة السلفية تهتم بتبيين التوحيد الصحيح الذي يكون الناس أحوج ما يكونون إليه، وهو ما استخلصه العلماء المحققون من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، من أن هناك ثلاثة أنواع للتوحيد، التوحيد السابق واصطلحوا عليه أنه توحيد الربوبية وهو: الإيمان بأن لهذا الكون خالقاً رازقاً متصفاً بصفات الكمال.
والنوع الثاني للتوحيد: هو توحيد الألوهية.
والنوع الثالث: هو توحيد الصفات.
صحيح أن هذه أسماء اصطلح عليها من هؤلاء الأئمة الأعلام، ولكن مدلولها وحقيقتها موجود في ثنايا الكتاب والسنة، وإنما هؤلاء وضحوها وميزوها واصطلحوا عليها لتتضح الأمور وتتبين الحقائق.
أما توحيد الربوبية فقد شرحنا المراد به، أما توحيد الألوهية فهو أيضاً بصورة إجمالية أن يخص المسلم أصناف العبادة كلها لله عز وجل، هذا الخالق المدبر الذي آمن به، وهذا في الحقيقة أمر طبيعي، فإذا كان الله هو المدبر الخالق الرازق إلخ، فلماذا يدعون غيره؟ ولماذا يعبدون سواه؟ يعبدون المخلوقين والمحتاجين، يعبدون الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، كما يقول الشاعر:
ومن قصد البحر استقل السواقيا
هذا العبد الضعيف العاجز الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا بعثاً ولا حياة ولا نشوراً، كيف تدعوه وتترك ربك الذي بيده كل شيء، الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، هل هو قاسٍ عليك؟ هل هو لا يستجيب دعائك؟ هل هو بعيد؟ هل هو ظالم حتى تخاف منه وتلجأ إلى سواه؟ إنه رحيم بعباده، رءوف بهم، يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، يقبل التوبة عن عباده، إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، إنه الذي يفرح بتوبة التائب أشد من فرح الإنسان الذي كان في سفر وضلت راحلته ثم وجدها وعليها طعامه وشرابه بعدما يئس وأيقن بالهلاك.
فإذاً: هذا الإله العظيم الحكيم الرحيم لِمَ تتركه وتلجأ إلى غيره من هؤلاء الآلهة الضعفاء العجزة الذين لا يملكون لأنفسهم حياة ولا ضراً ولا نفعاً؟! فلذلك هذا التوحيد أمر فطري ضروري طبيعي.
ويعد توحيد الألوهية من أخص خصائص التوحيد، وهو من أهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في الحقيقة معنى قولنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فكلمة (لا إله إلا الله) هي التي تدخل الإنسان في الإسلام، وهي الكلمة الطيبة، وهي التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة ) فإذاً: علق دخول الجنة على من يقول هذه الكلمة مؤمناً بها مخلصاً من قلبه.
ما معنى هذه الكلمة؟ هل هي ألفاظ تقال باللسان هكذا دون فقه ولا اعتقاد ولا تطبيق؟ ليس كذلك، إن الأمور بحقائقها، هذه الكلمة معناها: الإله المعبود، أله يأله أي: عُبِد ويُعْبَد، الإله: المعبود، فلا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله.
فإذاً: من ألصق معاني (لا إله إلا الله) توجيه وتخصيص العبادة كلها بأنواعها المختلفة لله عز وجل.
كثير من المسلمين يجهلون العبادة، فيظنون أن معنى (لا إله إلا الله) آمنا بالله مع تخصيص العبادة لله، ونحن أيضاً نؤمن بذلك فلا نخصص صلاة ولا نسجد لأحد إلا لله، وهذا قصور في الفهم، فإنهم يجهلون أن العبادة معنى أشمل وأوسع من ذلك، إن العبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه، العبادة تشمل أنواع التعظيم التي يجب أن تخص بالخالق الحكيم، إنها تشمل الدعاء، والنذر، والذبح، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والخوف، والخشية، والاستغاثة، والرجاء، والمحبة، كل هذه الأنواع من العبادات، وهؤلاء لجهلهم يظنونها مقصورة على الصلاة والحج مثلاً.
فيدل على ذلك نصوص كثيرة أيضاً لا نحصيها وإنما نذكر بعض الأمثلة، مثلاً: الدعاء والاستعانة يقول الله عز وجل: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:5] وتقديم المفعول هنا يراد به التخصيص، (إياك نعبد) أي: لا نعبد غيرك، (وإياك نستعين) أي لا نستعين بسواك، وهذا الفرق بين قولنا: إياك نعبد، وبين قولنا: نعبدك، لم يقل: نعبدك؛ لاحتمال أن يراد بها وأن تشمل نعبدك، ولا مانع من أن نعبد غيرك، فقدم المفعول لهذا التخصيص.
كذلك قوله عز وجل: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60] فقابل بين (ادعوني) و(إن الذين يستكبرون عن عبادتي) مبيناً أن الدعاء هو عبادة، ويوضح هذا تماماً قوله صلى الله عليه وسلم الصادق: ( الدعاء هو العبادة ) وهكذا الذبح في قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام:162] ونسكي أي: ذبحي، ونصوص كثيرة تشمل الخوف والرجاء { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [البقرة:40] { فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران:175] { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة:23] وما أشبه ذلك من النصوص الكريمة.
هذا النوع الثاني من أنواع التوحيد الذي يجهله المسلمون وتركز عليه الدعوة السلفية؛ لأن من أخطأ فيه؛ أو جهله؛ أو اعتقد خلافه؛ فهو مشرك ويحكم عليه بالخلود في النار، إلا إذا كان لم تبلغه هذه الدعوة فأمره إلى الله فيعذره الله، ويوضح مصيره الحديث الذي رواه أحمد وغيره أنه يبعث إليه يوم القيامة رسول إلى آخر الحديث المعروف.
النوع الثالث من أنواع التوحيد الذي يجهله المسلمون ويخالفون مضمونه، ويشركون فيه بالله هو توحيد الصفات، وهو: اعتقاد أن أحداً يشارك الله في صفة من صفاته، الله من صفاته: يعلم الغيب، فحينما يعتقد إنسان أن بشراً من البشر يعلم الغيب كما يعتقد الصوفية أن شيوخهم يكاشفون فيعلمون ما في نفسك، ويطلعون على أحوالك ولو كنت في مشرق الأرض وهم في مغربها، فهذا لا شك أنه شك في الصفات، وكذلك حينما يعتقدون في بعض مشايخهم أنهم يقدرن على كل شيء، وأنهم يقولون للشيء: كن فيكون كما ورد في بعض كتبهم، وحينما يعتقدون صفات أخرى هي من أخص خصائص الله عز وجل في أوليائهم أو في مشايخهم أو الأنبياء والرسل، فإنما هم قد أشركوا بالله عز وجل.
ومع الأسف فقد انتشر هذا في كلام المتأخرين كثيراً فتجد الشعراء منهم الذين يسمون المداح للنبي صلى الله عليه وسلم الذين كتبوا قصائد في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ويهتم الناس بتلاوتها في الموالد والاحتفالات الدينية، هذه تكثر فيها هذه الصفات، وهذه الأمور التي لا تجوز إلا لله نسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى مشايخهم وأوليائهم.
والرسول عليه الصلاة والسلام قد حذر كثيراً من هذا، وقد أمر بعدم المبالغة في مدحه عليه الصلاة والسلام خشية من الوقوع في هذا الانحراف الخطير، قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ) وحينما جاء بعض الناس وقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا قال لهم عليه الصلاة والسلام: ( قولوا بقولكم هذا أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان ) فكلمة (سيدنا وابن سيدنا) الرسول صلى الله عليه وسلم وجد فيها شططاً؛ لأن ابن سيدنا معناه: أن عبد الله والد رسول الله هو سيد لهم، وأنه كان مشركاً كما في الأحاديث المعروفة، فهذا من الشطط وقد حذرهم منه.
وحينما سمع بعض الجواري والأولاد ينشدون:
وفينا نبي يعلم ما في غد .
نهاهم عن ذلك أيضاً وقال: لا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل.
فمع هذا التنبيه وهذا التحذير من النبي صلى الله عليه وسلم خالفه الناس صراحة وقال قائلهم البوصيري مثلاً:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
معنى البيت: لا تقل: إن محمداً ابن الله وقل ما شئت فيه من الأقوال، وهذا واضحٌ ضلاله وواضحٌ انحرافه وشططه لكل ذي لب.
فتوحيد الصفات من أخطر أنواع التوحيد التي جهلها المسلمون وخالفوها، ومعروف أن مسألة التوحيد هي الفيصل بين الإسلام والكفر كما قلنا، فلو كان إنسان متعبداً أعظم درجات التعبد، يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق، ويزكي ويقوم بأنواع النوافل المختلفة، ويتقرب إلى الله بشتى القربات، ويصل الأرحام إلى آخره، لو أشرك في عمره كله مرة واحدة كأن يكون استغاث بغير الله، أو قال كلمة فيها وصف أحد المخلوقات بصفة لله، فإن كل عمله باطل، وإنه خالد مخلد في النار إذا لم يتب منه، قال الله عز وجل: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65] .
فإذاً: المسألة خطيرة وخطيرة جداً، ولذلك يوليها السلفيون الاهتمام الكبير.
ومن العجب! أن باقي المشايخ والعلماء لا يدندنون حولها، بل يخاصموننا فيها فيقولون: ما فيها شيء، المسألة تتعلق بالنية -مثلاً- نية هذا الإنسان إنما يريد بذلك وجه الله، أو يريد التقرب والتحبب وتعظيم هذا النبي وهؤلاء الأولياء، مع أنهم يعلمون أن النية لا تشفع للعمل مهما كانت صالحة، فلابد أن يكون العمل صالحاً والنية صالحة مصداقاً لقول الله عز وجل: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } [الكهف:110] (لا يشرك) أي: لتكن نيته صالحة، (فليعمل عملاً صالحاً) أي: موافقاً للسنة، كما فسرها بذلك الأئمة والمفسرون مثل ابن كثير وغيره.
فإذاً: يجب الاهتمام بمسألة التوحيد بأنواعه الثلاثة -وخاصة النوعين الأخيرين- اهتماماً بالغاً لإنقاذ الناس من الهاوية ومن الضلال.(38/8)
الدعوة السلفية واهتمامها بمسألة الاتباع
المسألة الثانية التي يركز عليها السلفيون هي مسألة الاتباع، مسألة طريقة الأحكام وطريقة التفقه في الدين: الشائع لدى الناس خاصة في الآونة المتأخرة أن على كل إنسان إذا بلغ سن الرشد أن يأخذ مذهباً من المذاهب الأربعة هو مذهب والده -مثلاً- فيتفقه فيه ويلتزمه ولا يخالفه في مسألة من المسائل، ويقلده تقليداً ولا يسأله عن الدليل، ولا يسعى للاجتهاد، لأن الاجتهاد قد أغلق، ولأنه ليس أمامه إلا التقليد.
هذه المسألة أيضاً خطيرة وهامة، ويخالف فيها السلفيون جمهور الناس، فهم يرون أن الأصل في التفقه في أحكام الشرع الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة اتباعاً لقول الله عز وجل: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [الأعراف:3] .
فالأصل -إذاً- أخذ الأحكام من الكتاب والسنة، لكن من المعروف أن الناس يتفاوتون في ذلك، وأنه ليس بمقدور كل إنسان أن يأخذ من الكتاب والسنة، وخاصة بعد ما فشا اللحن، وبَعُدَ الناس عن لغة العرب وعن السليقة العربية وعن الفطرة، فأصبحوا غريبين عن لغة القرآن ولغة الحديث النبوي الشريف.
ولا شك أن من المعروف من قواعد الشريعة أنه إذا لم يستطع الإنسان أمراً فإنه يكلف بما دونه، فلم يستطع هذا الإنسان الأخذ من الكتاب والسنة -أخذ أحكام الكتاب والسنة- مباشرة فـ { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286] كما قال الله عز وجل، فينزل درجة في ذلك إلى الاتباع، وهو مما نختلف فيه عنهم أنهم يقولون: لا يوجد اتباع، إما مجتهد وإما مقلد فقط، وهذه مكابرة وعناد؛ لأنه مخالف لما هو مشاهد ومحسوس، فأنت ترى في الناس من هو عالم قد بلغ من العلم شوطاً بعيداً، قد تفقه في لغة العرب، ودرس علم أصول الفقه، وأخذ وسائل الاجتهاد، فهذا هو المجتهد الذي يتفق الكل على أنه يجوز له الأخذ من الكتاب والسنة، بل يجب عليه مباشرة.
وهناك بقية الناس غير هذا الإنسان نحن نرى صنفين اثنين وإن كانا يتفاوتان فيما بينهما، وفيهما مراتب كثيرة، هذان الصنفان هما عامة الناس الذين لا عناية لهم بالعلم، ولا دراسة لهم في الدين، فهؤلاء الذين يسمون مقلدين، هؤلاء إذا تلوت عليهم الآية لا يفقهونها إلا ما ندر من الآيات الواضحة الصريحة، أو ذكرت لهم الحديث لا يستطيعون أن يعرفوا معناه، أو يعرفوا الطريق الذي يعرفون صحته من ضعفه، فهؤلاء لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، يكلفون أن يسألوا أهل العلم، لكن عليهم أن يبذلوا جهدهم أيضاً في اختيار أهل العلم الموثوقين الذين لا تعصُب لديهم، والذين هم ثقات في دينهم وفي علمهم، ومع ذلك فليس عليهم أن يلتزموا واحداً بعينه من هؤلاء، وإنما عليهم كما قال الله تبارك وتعالى: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل:43] إن كنتم لا تعلمون فاسألوا أهل الذكر، لم يحدد واحداً بعينه وإنما يكون إزاء ذلك حسب ما يتيسر له فلان ممن يثق بعلمه ودينه، فيسأله ويسأل في مرة أخرى آخر فيسأله، ولا يضيق على نفسه ويحدد اتباعه وتقليده لعالم معين.
هناك بين هذا المقلد وذلك المجتهد أناس كثيرون لهم عناية بالعلم، دراسة للغة دراسة للعلوم الشرعية دراسة للقرآن للتفسير للحديث، فهؤلاء لا نستطيع أن نقول: إنهم مثل أولئك الأولين أو المقلدين، إنهم يختلفون عنهم وإننا نظلمهم حينما نسويهم بهم، لا شك أن لهم فضلاً عليهم، ولا يجوز أن نعاملهم مثلهم، فإنهم إذا ذكرت لهم الآيات والأحاديث عرفوا معانيها، أو تفقهوا في أكثرها بالجملة وقد تخفى عليهم طبعاً بعض المعاني، لكن إذا استعانوا ببعض العلماء يفقهونها ويفهمونها، فهؤلاء عليهم أن يبذلوا جهدهم، وجهدهم هو أن يعرفوا الحكم الشرعي عن طريق عالم من العلماء، ويعرفوا دليله الذي وصل به إلى الرأي الذي يتبناه، هؤلاء يستطيعون هذا، فكيف نسامحهم ونتساهل معهم فنقول لهم: يكفي أن تقلدوا العالم، تسأل العالم ما هو حكم الشرع في هذا؟ فيقول لك: كذا وكذا، أنت بإمكانك إذا ذكر لك الدليل أن تفقهه فلِمَ تتنازل عن ذلك؟ ولِمَ تتساهل؟ مع أنك في أمور الدنيا إذا كنت تاجراً -مثلاً- فلا تكتفي بسؤال المختص بذلك سؤالاً مجملاً معارضاً وإنما عليك أن تعلم وتدقق وتحاسب وتقارن، وتسأل أكثر من واحد، لماذا في أمور الدنيا تفعل ذلك، وأما في أمور الدين تتهاون وتتساهل؟ هل أمر دينك أهون عليك وأضعف عندك وأقل شأناً من أمور دنياك؟ إنك إن كنت كذلك فما أخطأك وما أضلك.
فلا شك أن مفسدةً نشَأت بين المقلد المجتهد وبين المقلد المبتدع الذي يتبع إمامه بدون حجة ولا معرفة الدليل وهذا بخلاف من يقتدي بعالم مجتهد بعد أن يفقه دليله، ويطلع على حجته ويقتنع بها ويرجح من أقوال العلماء ما يطمئن لها في نفسه، هذا موقف السلفيين في مسألة أخذ الأحكام الشرعية، ومسألة التفقه في الدين، ففي اعتقادنا أنه هو الموقف الحق العدل الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.
ويفتري علينا المخالفون افتراءات باطلة، نحن دائماً نكرر براءتنا منها، يدَّعون أننا نكره الأئمة الأربعة، وأننا نطعن فيهم، وأننا نوجب الاجتهاد على كل مسلم، وأننا نأمر كل أحد أن يكون مجتهداً عالماً ولا يجوز له أن يقلد، وهذا ظلم وافتراء طالما بينّا بطلانه، وطالما بينّا براءتنا منه، ومع ذلك فلا يتقون الله، ويصرون على نسبته إلينا، ويشهد الله أننا منه برآء، كما يقال: براءة الذئب من دم ابن يعقوب، مع أن كتبنا مليئة ببيان هذه الحقيقة، فبعضهم -مثلاً- سود كتاباً ملأه وحشاه لإثبات جواز التقليد، والاستدلال على أن التقليد جائز وواجب على بعض الناس، كل ذلك يرد به على السلفيين على أنهم ينكرون التقليد.
فهذا من الظلم الشنيع، كما أنه قد جُزم له بذلك وأُثبت له أن السلفيين يقولون: إن الجاهل عليه أن يقلد، مع ذلك يصرون على هذا، وهذا يبين ما في نفوسهم من الضغينة والحقد والتحامل والظلم.(38/9)
الدعوة السلفية وموقفها من مسألة التزكية النفسية والروحية
المسألة الثالثة هي: مسألة التزكية النفسية والتزكية الروحية، هذه المسألة قد شاع لدى المتأخرين فيها طريق المتصوفة، هؤلاء الذين يعتمدون لتزكية النفوس على المجاهدات الروحية، والوسائل النفسية، وما أحدثه مشايخهم من أمور ادّعوا أنها توصلهم إلى الله، وقد اعتمدوا فيها على غير ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء المتصوفة -والحق يقال-: إن أول درجات التصوف اتباع، وآخر درجاته زندقة، أول ما يدخل الإنسان في الصوفية لابد أن يقوم ببعض البدع؛ لأنه ما الذي يميز الصوفي عن غيره من أهل السنة ؟ أهل السنة يلتزمون بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح ، فبم يختلف الصوفي عنهم؟ إن قالوا: نحن على الكتاب والسنة، فلماذا -إذاً- تختصون لأنفسكم طريقاً؟ لماذا تلتزمون بأوراد؟ لماذا تلتزمون بنوع معين من الذكر، وطريقة خاصة به؟ لماذا تفرقون المسلمين؟ فهذا شاذلي، وهذا رفاعي، وهذا قادري وما أشبه ذلك؟ لا شك أن الحقيقة البينة الناصعة تدل على أنهم يخيرون في دين الله، فلا يكتفون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهدي السلف الصالح وإنما يزيدون ما استحسنوه لأنفسهم وما أضافوه إلى الدين من أمور هو منها بريء، وأمور هي ضلالات، فلذلك طرق الصوفية السلفيون ينكرونها جملة وتفصيلاً، وليست المسألة -كما يتوهم البعض- اتباع، وأن الصوفية هي نفس ما جاء به الإسلام من درجة الإحسان أو التزكية أو تلطيف القلوب أو الجانب الروحي.
وهناك ضلال آخر وهو أنهم يعتقدون أن هناك طريقاً لمعرفة الغيب ولمعرفة حقائق الأمور عن طريق الكشف، ولا يرجعون فيه إلى ما جاءهم عن طريق الشرع، ويزهدون في التعلم، وبعضهم أحرق كتبه، وقال آخرون: أنتم تأخذون علومكم ميتاً عن ميت ونحن نأخذها عن الحي الذي لا يموت! وهذا الذي يسمى بنظرية الكشف وهو من أبشع الباطل، ومن أضل الضلال، وهو إذا نظر فيه الإنسان نظرة شاملة صحيحة يجده إلغاء لكل ما جاءنا به الإسلام، واستبدال ما جاء عن طريق الحدس والتخمين والأهواء والنزغات الشيطانية به.
وهذا خطر عظيم ما بعده خطر، إنه الكهانة، يدعون أن الملائكة تأتيهم وتلهمهم، وأن الله هو الذي يخبرهم ويلهمهم، وما الدليل على ذلك؟ ما الذي يضمن أنه إلهام من الله وليس نزغات الشياطين؟! والأمور بنتائجها وتعلم من آثارها.
أيضاً: لا يتسع المقام للإفاضة في ذلك فحسبنا أن نكتفي بهذا، هذه أسس هامة ثلاثة للدعوة السلفية.(38/10)
الدعوة السلفية وتحذيرها من البدع وما دخل على الدين مما ليس منه
وهناك أمور أخرى تتصف بها ومن مبادئها وتركز عليها ونحذر من أمور لأنها سلبية، وهي: التحذير من أمور البدع، وما دخل على الدين من المحدثات التي شوهت جماله، وكدرت صفاءه، وعكرت ما كان عليه من جمال ونقاء.
هذه المحدثات دخلت على الدين فغيرت حُكم الله وضللت الناس، فالسلفيون يهتمون بتنبيه الناس إليها، ويحذرونهم منها، والابتداع أمر ليس سهلاً؛ ليست المسألة كما يقال: فرعيات ليس فيها شيء؛ الخير خير؛ لأن حقيقة الابتداع أنه استدراك على الله عز وجل، وأنه تشريع بالرأي وبالعقل، هذا الأمر يقال لك: يتعبد به ويتقرب به إلى الله عز وجل، ما مستند ذلك؟ إنه الرأي والاستحسان ليس غير، وهو ينسف آية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ } [المائدة:3] من أساسها، وغير ذلك من الآيات.
مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من البدع كثيراً، وقال عليه الصلاة والسلام: ( إياكم ومحدثات الأمور )وجعلها في خطبة الحاجة التي كان يكررها كل أسبوع في خطبة الجمعة، وفي غيرها من المجالس، كل ذلك توكيداً وتذكيراً لخطورة البدع، ولأهمية الالتزام بما جاءنا عن الله ورسوله، ومع ذلك فقد أصم هؤلاء الخلف آذانهم عن هذه الأحاديث البينة وعن نصوص الكتاب الواضحة، وأصروا على البدع وزادوا فيها.(38/11)
الدعوة السلفية وتحذيرها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة
أمر آخر -أيضاً- سلبي يحذر منه السلفيون وينبهون عليه وهو تلك الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي كانت عمدة لكثير من البدع، هذه الأحاديث شاع لدى الناس إيرادها وذكرها، الخطباء والمدرسون والكتاب والمؤلفون، تجد الكتب طافحة بنسبة الأقوال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم منها براء، ولا يتحرزون، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبه إلى ذلك كثيراً ويحذر منه، ويبين خطورته وأنه كذب عليه، ( وإن كذباً عليَّ ليس ككذباً على أحدكم ) فيستحل بالحديث المنسوب إلى رسول الله مما لا يصح أن يستحل به الحرام ويبنى به الأحكام، وهذا أيضاً أمر هام تقوم به الدعوة السلفية وتبين ما صح من الحديث وما لم يصح.
هذه الكلمة أصل فيها، ولقد أشرت أن التتمة لا يتسع الآن المقام لها، وهو: موقف السلفية من الدعوات الأخرى، فلعل ذلك في موقف آخر أو مجلسنا الثاني إن شاء الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(38/12)
كلمة الشيخ الألباني: الفرق بين الإمامين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب
اثنتان منهما من باب التنبيه والتذكير، والأخرى من باب التوضيح والتأكيد والبيان، لقد جاء في تضاعيف كلام الأستاذ عيد عباسي أنه ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه من أولئك الدعاة السلفيين، وهو كذلك بلا شك، ولكن الواقع يشهد بأنه سلفي في العقيدة، وما دمتم سمعتم شيئاً من التفصيل في كلامه عن الدعوة السلفية، وأن منها أنها تدعو إلى اتباع الكتاب والسنة كلاً حسب استطاعته كما سمعتم، وأنها تحذر من اتخاذ التقليد مذهباً وديناً، ما دام أن الدعوة السلفية هذا من مذهبها فيجب أن نعلم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان سلفياً في العقيدة، وله الفضل الأول من بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله جميعاً في نشر دعوة التوحيد في العالم الإسلامي بصورة عامة، وفي البلاد النجدية والحجازية فيما بعد بصورة خاصة، يعود الفضل إليه بعد ابن تيمية .
ولذلك فلعل انكبابه واجتهاده في دعوة الناس إلى هذا التوحيد الخالص المصفى من أدران الشرك والوثنية بكل التفاصيل هو الذي صرفه عن الاشتغال بإتمام الدعوة السلفية، وذلك في محاربة الجمود على التقليد، وعلى التمذهب الذي صار فيما قبل زمانه وفي زمانه وفيما بعده صار ديناً، كل من ترك التقليد نبذ بالزيغ والانحراف ونحو ذلك مما ألمح الأستاذ المحاضر إليه في كلمته السابقة.
وهو من هذه الحيثية، أي: من حيث أنه كان يدعو إلى التوحيد دون ما سوى ذلك مما يتعلق بالإسلام المصفى على ما سمعتم؛ يختلف عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإن هذا الشيخ الجليل قد دعا إلى الإسلام بعموم الإسلام من كل نواحيه أن يُفهم على الوجه الصحيح، على التفصيل الصحيح الذي سمعتموه، فهو -مثلاً- يحذر من الأحاديث الضعيفة، ويحذر من بناء الأحكام الشرعية عليها، و و إلى آخر ما هنالك من تفاصيل ذكرها الأستاذ، بخلاف الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فلم تكن له هذه العناية، لا في الحديث ولا في الفقه السلفي، فهو من الناحية المذهبية حنبلي، ومن الناحية الحديثية كغيره، فليس له آثار في الفقه تدلنا على أنه كـ ابن تيمية سلفي المنهج في التفقه في الدين، لعل له في ذلك عذراً كما ألمحنا إليه آنفاً.
وكذلك في الأحاديث فهو كغيره مع الأسف الشديد، لا معرفة عنده بالحديث الصحيح والضعيف، ومن الأدلة التي تدلنا على هذا أن له رسالة مطبوعة متداولة عند أتباعه النجديين حتى اليوم، اسمها آداب المشي إلى المسجد ، وقد أورد في مطلع هذه الرسالة الحديث المعروف عند السلفيين عامة إلا القليل منهم بضعفه، ألا وهو حديث أبي سعيد الخدري ، الذي أخرجه الإمام ابن ماجة في سننه ، من طريق الفضيل بن مرزوق ، عن عطية السعدي - عطيه العوفي ، و السعدي أيضاً، لكنه مشهور بـ العوفي أكثر- عن أبي سعيد الخدري ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته إلى المسجد قال: ( اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا ...) إلى آخر الحديث.
فهو أولاً أورده دون أن ينبه على ضعفه، مع أن فيه علتين اثنتين، لو أن واحدة منهما استقلت لنهضت بتضعيف الحديث، فكيف بالعلتين مجتمعتين معاً؟! وثانياً: أن ظاهر هذا الحديث يخالف ما كان يدعو إليه من عقيدة، ومن إخلاص التوحيد والدعوة لله عز وجل وهو التوسل بالمخلوقين، فهو كـ ابن تيمية وككل سلفي بصير في سلفيته وفي دعوته، يحارب التوسل إلى الله بعبادة غير الله عز وجل، وهذا الحديث في ظاهره التوسل إلى الله بحق السائلين، وبحق هذا العبد الذي يمشي إلى طاعة الله وإلى عبادته، أقول هذا غير ناسٍ أن الحديث لو صح لأمكن تأويله كما كنت ذكرت في بعض مؤلفاتي.
لكن موضع الشاهد من هذا أنه أورده كأدب من آداب المشي إلى المسجد، إذا خرج المسلم من بيته فعليه أن يدعو بهذا الدعاء، وهو حديث ضعيف، فهذا يدل على أن شيخ الإسلام الثاني في التوحيد محمد بن عبد الوهاب ليس كـ شيخ الإسلام الأول من حيث أنه كان سلفياً في كل نواحي الدعوة ومجالاتها الكثيرة.
هذه الناحية الأولى أردت التنبيه عليها، وهذا -طبعاً- من باب إعطاء كل ذي حق حقه، نحن بلا شك لا يسرنا أبداً أن ينال أحد من الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما يفعل أعداء الدعوة، وأعداء التوحيد حيث يتهمونه بكل ما يتهم به السلفيون في كل بلاد الدنيا، ولكن هذا لا يحملنا على الغلو في إعطاء كل شخص من حملة الدعوة السلفية ما ليس فيه، فيجب أن نفرق بين ابن تيمية وبين محمد بن عبد الوهاب ، ونعطي كل ذي حق حقه، من أجل هذا قلت ما قلت، وإلا فشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب له منزلته في الدعوة عندنا بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .(38/13)
الرد على من قال: إن المشركين يعتقدون الحكمة لله تعالى
التنبيه الثاني: جاء في كلام الأستاذ: عيد عباسي في صدد تحدثه عن توحيد الربوبية، وأن هذا التوحيد يعتقده جماهير الناس والأمم حتى المشركين وهذا كلام حق، ولكن جاء في أثناء كلامه بأنهم يعتقدون في الله أنه خالق مدبر حكيم، فأنا أريد أن ألفت النظر، ولي هدف غير الهدف الظاهر من كلمتي هذه.
قوله: إن المشركين كانوا يعتقدون بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً، لو وقف إلى هنا لكان الكلام مُسلَّماً، ولكنه أضاف إلى ذلك وصفاً وصفة أخرى وهي صفة حق لله تبارك وتعالى، ولكنه نسب إلى الكفار أنهم كانوا يعتقدون في الله هذه الصفة أيضاً وهي أنه حكيم.
من المؤسف أن أقول -وهذا هو الشيء الآخر الذي أرمي إليه في هذا الكلام-: إن اعتقاد أن الله حكيم ليس فقط مما لا يعتقده المشركون الذين كانوا يشركون في توحيد الألوهية، وفي توحيد الصفات كما سمعتم شيئاً من التفصيل في ذلك، ليس المشركون هؤلاء وحدهم كانوا لا يعرفون الله حكيماً، يعرفونه خالقاً مربياً مدبراً، أما أنهم يعرفونه حكيماً فلا، ولكن مع الأسف الشديد هناك جماهير من المسلمين اليوم لا يعتقدون هذه الصفة لله رب العالمين، هذا ما أردت التنبيه عليه، يعني: وصف المشركين بأنهم يعتقدون بأن الله حكيم خطأ؛ لأننا نعلم أن هذه الحكمة هي في كثير من الأمور الإيمانية، ومن أجل ذلك شك في هذه الصفة بعض الطوائف الإسلامية، بعض المذاهب الإسلامية، ولا أكتم الحق، ولذلك أقول: إن كتب الأشاعرة طافحة بأن الله عز وجل لا يوصف بأنه حكيم، مع علمهم بأن هذا الاسم الكريم مذكور في القرآن الكريم، ولكنهم يتأولون هذا الاسم: حكيم بأنه من الحكم وليس من الحكمة، فهو حكيم على وزن فعيل بمعنى فاعل، أي: أنه حاكم، أما أنه حكيم بمعنى أنه يضع الشيء في محله مقروناً بالحكمة، فهذا مع الأسف الشديد لا أقول: إن الأشاعرة لا يؤمنون به، بل يصرحون بنفيه، وكتبهم طافحة بذلك، وشبهتهم معروفة؛ لأنهم يتساءلون فيقولون: ما الحكمة من تعذيب الأطفال، أين الحكمة في تعذيب الأطفال؟ أين الحكمة في تعذيب الحيوانات؟ لا شك أن المسلم المؤمن بحكمة الله عز وجل يقول: قد لا أدري ما الحكمة في تعذيب الأطفال وإن كان بعض علماء التوحيد المؤمنين بهذا الاسم (حكيم) وبمعناه الصحيح يحاولون أن يوجدوا حكمة ظاهرة في تأليم الأطفال وتعذيب الحيوانات، ولكن أنا في اعتقادي ليس كل مسلم يستطيع أن يستكشف الحكمة الإلهية في كل تصرف إلهي، ولذلك فلابد في نهاية الأمر من الإيمان الذي هو الشرط الأول في وصف المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، فالإيمان بالغيب هو الفصل الحق بين المؤمن الصادق والمؤمن الكاذب، فإذا عرفنا الله عز وجل أنه وصف نفسه بأنه حكيم، فيجب أن نؤمن سواء ظهرت لنا الحكمة أو لم تظهر، على أن حكمة الحكيم العليم واضحة بينة في كثير من هذا الخلق المشهود، لا سيما المتخصصون في دراسة نظام هذا الكون.
لكن تبقى هناك أمور كثيرة أو قليلة يخفى الحكمة فيها على كل الناس، أو جُل الناس أو أقل الناس، فما الذي يمنعنا أن نقول: { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [النساء:65]؟ عجْز الأشاعرة عن أن يقفوا على الحكمة في بعض تصرفات الله عز وجل فيما يخلق، فحملهم إلى تحريف عن هذا النص القرآني، فيقولون: قال تعالى: { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [هود:107] { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء:23] لا يسأل عما يفعل؛ لأنه يفعل ما لا حكمة فيه ولا عدل فيه { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [هود:107] أي: كأي جبار من جبابرة الأرض يتصرف في حدود جبروته دون أن يتقيد بعدل أو بحكمة، هكذا وهم يقولون: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] ويغالون في ذلك حتى نفوا عنه الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه في حديثه، ومع ذلك يتأولون هذه الصفات، لماذا؟ قالوا: تنزيهاً لله رب العالمين، ثم ينسون هذا كله فيصفون الله عز وجل بمثل ما يصفون به الجبابرة، إنه فعال لما يريد بدون عدل وبدون حكمة.
ومن هنا توصلوا إلى التصريح بقولهم في عقيدة الجوهرة المشهورة عند الأشاعرة : لله تعذيب الطائع وإثابة العاصي، وشرح هذا عند بعضهم ممن لا يستحي ولا يخجل أن الله تبارك وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً له أن يدخل محمداً عليه الصلاة والسلام وأن يلقيه في الدرك الأسفل من النار مكان إبليس الرجيم، وأن يرفع إبليس الرجيم ويجعله في الدرجة الوحيدة التي قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ( أرجو أن أكون أنا هو ) في الحديث المعروف لديكم جميعاً، قالوا هذا في كتبهم: له إثابة العاصي وتعذيب الطائع، فلماذا لا يعذب الحيوان، ولماذا لا يعذب الطفل الذي لا يعرف الطاعة من المعصية، وهم يقولون: لله أن يعذب الطائع، أن يدخل الرسول في الدرك الأسفل من النار، ويرفع إبليس في أعلى درجات الجنان، قالوا هذا صراحة، من أين أخذوا هذا؟ من إطلاقات الآيات الكريمات { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [هود:107، البروج:16] بلا شك أنه فعال لما يريد، هل يستطيع أحد أن يحول بينه وبين ما يريد، ولكن هل فعال لما يريد، بمعنى أنه لا عدل عنده؟! حاشا لله، هل معنى فعال لما يريد، لا حكمة عنده؟ حاشا لله! ولذلك يجب كما نقول دائماً وأبداً: كل مسألة يجب أن تضم النصوص فيها بعضها إلى بعض، وتؤخذ الخلاصة من مجموع هذه النصوص، ففعال لما يريد إنما يريد الله عز وجل من هذا النص وأمثاله ألا أحد يستطيع أن يحول بينه وبين ما يريد أن يفعله، لكن هذا ليس معناه أنه ليس بحكيم، وليس بعادل، كيف والله عز وجل يقول: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم:35-36] .
الجبابرة من العبيد قد يفعلون هذا كما هو الواقع اليوم والمشاهد، يرفعون السفلة المجرمين في وظائف وفي منازل رفيعة جداً، ويعكسون فيضعون الناس الصالحين في وظائف يستطيع أن يقوم بها الأطفال الصغار، هذا شأن الجبابرة، أما الله عز وجل الجبار بحق، والحكيم العليم فهو منزه عن كل شيء ينافي صفة الكمال فيه تبارك وتعالى.
هذا ما أردت التنبيه عليه بالمناسبة، وأنا أريد أن أرمي عصفورين بحجر واحد.
العصفور الأول: ألا نصف الكفار بأنهم كانوا يعتقدون بأن الله حكيم؛ لأن بعض المسلمين ما آمنوا به، مع أن الله عز وجل أنزل هذه الصفة في القرآن الكريم.
والعصفور الثاني: إلفات النظر إلى أهمية الدعوة السلفية، التي تدعو المسلمين جميعاً إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة دون انحراف إلى الأخذ بأقوال علماء الكلام، ففي علماء الكلام ما هو إلحاد وكفر بالقرآن، وهذا مثاله قد جاءكم من باب التحذير عن وصف الكفار بأنهم يؤمنون بأن الله حكيم، وفي الوقت الذي يقولون: بأن الله خالق ومدبر الكون يؤمنون بأن الله حكيم، هذا إذا آمن به المسلمون فهذا هو واجبهم؛ لأن الله ذكر لهم في القرآن أن الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى آخره، فلا يمكن أن يؤمنوا بأن الله حكيم؛ لأن حكمته تخفى في كثير من الأمور، من أجل ذلك وقعت الأشاعرة في هذا الانحراف الخطير .(38/14)
الدعوة السلفية ورجوعها قديماً وحديثاً إلى الكتاب والسنة عل منهج السلف الصالح
المسألة الثالثة: وهي في الواقع زيادة بيان لبعض ما جاء في كلام الأخ، الدعوة السلفية تلتقي مع الدعوات الأخرى كلها قديمها وحديثها مما يحوم دعاتها في دائرة الإسلام، كلهم يلتقون في كلمة سواء وهي: أنهم يرجعون إلى الكتاب والسنة، فالدعوة السلفية من هذه الحيثية لا مزية لها على سائر الدعوات، خاصة ما كان منها قائماً في العصر الحاضر اليوم، ولكن إنما تتميز الدعوة السلفية في هذا المجال الذي يدندن الجميع حول الكتاب والسنة، أنهم يدعون إلى فهم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح ، لا يكتفون فقط بدعوة المسلمين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، بل يزيدون على ذلك إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح ؛ لأن هذه الفرق الكثيرة التي أشار إليها الرسول عليه الصلاة والسلام إشارة عابرة في حديث الفرق الثلاث والسبعين، ( كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: هي ما أنا عليه وأصحابي ) وفي رواية أخرى وهي الأصح قال: ( هي الجماعة ) وفي الحديث الآخر: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) إلى آخر الحديث.
فنجد هنا في هذين الحديثين تنبيهاً إلى هذا القيد الذي يتمسك به السلفيون من بين سائر الدعاة: كتاب وسنة وفهم على منهج السلف الصالح ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما قال: (ما أنا عليه) فقط، وإنما قال: (وأصحاب) وما قال: (عليكم بسنتي) فقط، وإنما قال: (وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) وهذا في الواقع اقتباس من القرآن الكريم، كمثل قول رب العالمين: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } [النساء:115] .
فالله عز وجل قال: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:115] لماذا جاء بهذه الجملة؟ هذه جملة بيانية خطيرة جداً، كان يكفي أن يقول: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى) ولكنه أضاف إلى مشاقّة الرسول قوله عز وجل: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:115] بحكمة بالغة ألا وهي: أن مشاقّة الرسول إنما تظهر بمخالفة سنة المؤمنين، ومنهج السلف الصالح الذي سمعتم عنه في الكلمة السابقة.
وفي ذلك يقول ابن القيم تأكيداً وإشارة عابرة سريعة إلى هذا القيد في فهم الكتاب والسنة، يقول:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
أيضاً لم يكتف بقوله: العلم قال الله قال رسوله كما يقول جماهير المسلمين، وإنما أضاف إلى ذلك:
قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشبيه
أريد أن أقول باختصار: إن الدعوة السلفية تدندن في جملة ما تدندن حول فهم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح ، ومن هنا تأتيهم العصمة من الوقوع في العقائد التي تكلم عنها علماء الإسلام، وأنها انحرفت عن الجادة كـ المعتزلة وكـ المرجئة وكـ الجبرية ونحو ذلك، ومن الأفكار الحديثة اليوم التي يتكلم بها ويسطرها كثير من الكتاب الإسلاميين باسم الإسلام وهي ليست من الإسلام في شيء، ولا يمكن لأحد من أهل العلم أن يعرف ذلك إلا إذا كان متمسكاً بالكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ، هذه ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين .(38/15)
مواضيع متنوعة في العقيدة
هذه المادة هي مجموعة من الأسئلة المختلفة في باب العقيدة، والتي أجاب عنها فضيلة الشيخ الألباني رحمه الله، فمنها ما يتعلق بالخلافة والاستخلاف ومعنى هاتين الكلمتين لغة وشرعاً، وحكم قول القائل: الإنسان خليفة الله في الأرض وغيرها من الأحكام التي تختص بهاتين الكلمتين، كما ألقيت عليه أسئلة أخرى مختلفة، ولكنها في باب واحد وهو باب العقيدة.(39/1)
معنى الخلافة والاستخلاف لغة وشرعاً
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
السؤال
ما معنى الخلافة والاستخلاف لغة وشرعاً؟
الجواب
السائل يسأل: ما معنى الخلافة والاستخلاف لغةً وشرعاً؟ ليس هناك فرق بين اللغة والشرع في هذه المسألة فكلاهما متحد فيها، لكن الشرع يؤكد التزام اللغة في ذلك.
الخلافة هي مصدر، كما جاء في القاموس يقال: خلفه خلافةً، أي: كان خليفته -ولاحظوا تمام التعبير- وبقي بعده.
ومما جاء في القاموس: الخليفة السلطان الأعظم كالخليف، أي: يقال بالتذكير والتأنيث، الخليف والخليفة، والجمع خلائف وخلفاء.
هذا ما في القاموس، لكن الشيء البديع ما في النهاية في غريب الحديث والأثر لـ ابن الأثير ، فقد ذكر أثراً فانتبهوا له! يقول: [ جاء أعرابيٌ فقال لـ أبي بكر : أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا.
قال: فما أنت إذا كنت تقول لست خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا الخالفة بعده ] أي: الذي يأتي بعده، أما أن يكون خليفة فلا، لماذا؟ لأن معنى الخليفة فيه معنى دقيق على ما كنا نعبر عنه إجمالاً ونستنكر في التعبير، بأن الإنسان خليفة الله في الأرض، من أجل ذلك المعنى الذي يوضحه لنا الآن الإمام ابن الأثير ، يقول: فقال: [ أنا الخالفة بعده ] أبو بكر لم يرض لنفسه أن يقول: إنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: [ أنا الخالفة بعده ] أي: جاء من بعده فقط، يفسر ابن الأثير فيقول: الخليفة من يقوم مقام الذاهب ويسدُّ مسدَّه، والهاء فيه للمبالغة، وجمعه الخلفاء إلى آخره.
فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو بشر لم يرض أبو بكر الصديق أن يقول: إنه خليفته؛ لأن معنى الخلافة بهذه اللفظة: أنه ينوب مناب الذي خلف ومضى وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن لـ أبي بكر مهما سما وعلا أن يداني كماله عليه الصلاة والسلام.
ومن هنا نعرف بأنه لا ينبغي من باب أولى أن يقال: الإنسان هو خليفة الله في الأرض؛ لأن البون أكبر من أن يذكر بين الخالق والمخلوق، فإذا كان أبو بكر لم يرض أن يقول عن نفسه إنه خليفة الرسول، فنحن لا نرضى أن نقول: إن الإنسان خليفة الله في الأرض.
السائل: إذاً: فما معنى قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة:36]؟ الشيخ: أنا كنت في صدد الإجابة عن مثل هذا السؤال؛ لأن الواقع أن هذا السؤال يكثر إيراده، والجواب عنه باختصار: جاء أنه في الأرض خليفة للعلماء، وهناك أكثر من قول في تفسير هذه الآية أو هذه اللفظة بخصوص هذه الآية، والقول الذي يجنح إليه ابن كثير وهو في ذلك تابع لـ ابن جرير ، يقول ابن كثير في تفسير الآية نفسها: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30]: ليس المراد هنا الخليفة آدم عليه السلام فقط، كما يقول طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى فلان وفلان، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير حكاه الرازي في تفسيره وغيره، والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً، إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [البقرة:30] فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك إلخ.
ثم قال ابن كثير : قال ابن جرير : وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرنٍ بعد قرن، قال: والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلانٌ فلاناً في هذا الأثر، إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [يونس:14] ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر، فكان منه خلفاً.
هذا هو معنى الخلافة، فنحن يجب أن نستحضر هذا المعنى العربي حتى نستعظم التعبير بأن الإنسان لا سيما إذا أطلقنا فنقول: إنه خليفة الله عز وجل؛ لأن الذي يريد أن يخلف غيره يجب أن يكون أقلَّ ما يكون قريباً منه، وكما أقول دائماً وأبداً: لا يحسن مطلقاً أن يقول القائل: فلان الجاهل، فلان الزبال، هو خليفة العالم الفلاني؛ هذا مستهزئ كل الاستهزاء؛ لأنه لا يصلح أن يكون خليفةً لذلك العالم؛ لبعد الشقة بينهما في صفة الخلافة، فماذا يقال عن إنسان بالنسبة لخالق الأكوان سبحانه وتعالى؟! ولذلك نجد التعابير في السنة الصحيحة تأتي لتضع الخليفة الحق، كما جاء في حديث في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر سفراً دعا قائلاً: ( اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل ) وفي رواية: ( في الحضر )، فإذا غاب الزوج عن بيته فمن الخليفة من بعده؟ هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يحسن الخلافة، أما أن يكون العبد العاجز الجاهل، مهما كان قوياً وعالماً، أن يكون خليفة عن الله عز وجل في الأرض، فهذا تعبير مستهجن لغةً وشرعاً!! هذا ما عندنا بالنسبة لهذا السؤال.(39/2)
الضابط في تمييز الأمور الاعتقادية عن التشريعية
السؤال
ما هو الضابط الذي يميز الأمور الاعتقادية عن غيرها من الأمور التشريعية؟
الجواب
قبل الإجابة عن هذا الضابط أقول: إن مما دخل في الإسلام ولا يعرفه السلف الصالح ، هو تقسيم الدين إلى أقسام لم يأتِ عليها نص في الكتاب ولا في السنة، من ذلك تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ومن ذلك ما جاء السؤال حوله، وهو تقسيم الإسلام إلى أمور اعتقادية وأحكام شرعية، وبناءً على هذا الاصطلاح الحادث جاء هذا السؤال: ما هو الضابط في تمييز الأمور الاعتقادية عن الأمور التشريعية -أي: الأحكام الفقهية-؟ من حيث اعتقادنا أن هذا التفريق لا أصل له، فأنا أنصح السائل بأنه لا يهتم بمعرفة هذا الضابط، بقدر ما يجب عليه أن يعرف أي شيءٍ كان هل هو من الإسلام أم ليس من الإسلام؟ ثم لا عليه بعد ذلك إذا عرف هذا الاصطلاح بقسميه، وأنه ينطبق على هذه الجزئية، القسم الأول أو القسم الآخر؛ لأن المهم عهو طاعة الله عز وجل في كل ما شرع، ولا يهمنا أبداً أن نعرف الأمور الاصطلاحية، لا سيما إذا كان يترتب من وراء هذه الأمور الاصطلاحية الاهتمام ببعضها دون الاهتمام بالبعض الآخر، أو تقويم -ويقولون اليوم: تقييم وهو خطأ- تقويم قسم منها ما يستحقه دون القسم الآخر وكله شرعي، ويترتب من وراء اصطلاح كهذا تنزيل قيمة بعض هذه الأحكام الشرعية عن البعض الآخر، فهذا اصطلاح يجب الإعراض عنه، بل يجب أن يضرب به عرض الحائط.
الآن أجيب على السؤال مع ضرب المثال الذي يتفرع من هذا الاصطلاح يميزون الأمور الاعتقادية عن الأمور التشريعية: بأن كل خبرٍ جاء في الكتاب أو في السنة له علاقة بأمر غيبي وليس له علاقة بحكم شرعي عملي، فهذا هو الذي يعنون به أنه من الأمور الاعتقادية، وبالعكس إذا كان ذلك الأمر الذي جاء في الكتاب والسنة يترتب من ورائه حكم عملي فهو حكم شرعي، ويتبين من هذا التقرير بأن الأمور الغيبية هي الأمور الاعتقادية، فمثلاً: الاعتقاد بعذاب القبر لا يترتب وراءه عمل؛ لأنه يقف فقط عند العقيدة، وكذلك الاعتقاد بالملائكة، ووجود الجن، وأشراط الساعة، ونحو ذلك من أخبار بدء الخلق وقيام الساعة، فكل شيء ليس له علاقة إلا بالعقيدة فهو من الأمور الاعتقادية، وما يقابل هذا من الأمور العملية هي الأحكام الشرعية.
وما حصيلة هذا التقرير؟ ذلك ما أشرت إليه أن بعضهم ابتدع فقال: إذا كانت الأمور الشرعية من القسم الأول -أي: لها علاقة بالأمور الغيبية الاعتقادية- وكان ذلك الأمر قد جاء في حديث صحيح فلا يؤخذ به؛ لأن له علاقة بالأمور الاعتقادية، أما إذا جاء هذا الحديث في القسم الثاني من الأحكام الشرعية فيجب الأخذ به؛ لأنه تضمن حكماً شرعياً، وهناك لا يؤخذ؛ لأنه تضمن أمراً اعتقادياً، هذا اصطلاح ليس له أصل في الكتاب والسنة مطلقاً، وإنما هو من علم الكلام والفلسفة الذي تسرب إلى المسلمين في صور شتى، فانحرف بهم عن كثيرٍ من دينهم وشريعتهم.
ولنا رسالة في بيان أن هذا التفريق بين الأمور الاعتقادية والأمور التشريعية تفريق لا أصل له، وأنه مجرد أن يأتي الخبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام صحيحاً يجب الإيمان والتصديق به؛ سواءً تضمن عقيدةً فقط أو تضمن حكماً شرعياً.
وهذه الرسالة مطبوعة، وباستطاعة من كان حريصاً على التوسع في هذه المسألة أن يرجع إليها.
لكني قبل الانتقال إلى الإجابة عن سؤال آخر أريد أن أذكر بحقيقة هامة، قلت في تلك الرسالة وفي غيرها: إن هذا التفريق مع أنه لا أصل له، لو عكس ذلك رجلٌ مثلي لكان أقرب إلى الصواب، أي: أن يقول: لا يجوز الأخذ بالأحكام إلا بالحديث المتواتر القطعي الذي اشترطوه في العقيدة فقط، أنا أقول: لو عكسوا لكانوا أقرب إلى الصواب، ولا أقول: لأصابوا؛ لأن التفريق لا أصل له في الشريعة، لكن لو عكسوا لكانوا أقرب إلى الصواب؛ لأن كل حكم شرعي يتضمن عقيدةً، وليس كل عقيدة تتضمن حكماً شرعياً، فمثلاً: الإيمان بعذاب القبر قضية اعتقادية محضة، لكن اعتقادك بأنه يجب كذا، أو يستحب كذا، أو يحرم كذا، فهذا يتضمن عقيدة، لو أن رجلاً صلى ركعتين والناس نيام بغير قصد التقرب إلى الله فلا يستفيد من ذلك شيئاً إطلاقاً، ولو صلاهما بقصد الفرض لا يستفيد من ذلك شيئاً؛ لأنه تضمن عقيدة عملها لكنه تضمن عقيدة غير مشروعة، عندما صلاهما بنية الفرض، لكن لما صلاهما بنية النفل صارت عبادة.
فكل أحكام الشريعة لا يمكن أن نفصل فيها بين الحكم وبين الاعتقاد بمضمونه، فالأحكام الخمسة التي تعرفونها: الفرض والسنة والحرام والمباح والمكروه، هذه كلها لا تنفصل عنها العقيدة، وإذا تصورنا حكماً عملياً قام به مسلم وفصلنا عنه الاعتقاد به لم يكن حكماً شرعياً مطلقاً.
لذلك فاشتراط الحيطة والحذر في الأحكام الشرعية التي تتضمن عقيدة وعملاً، أولى من اشتراط الحيطة والحذر في الأمور التي لا يقترنها حكم عملي، كالإيمان بعذاب القبر مثلاً، لكننا نقول: لا يجوز التفريق بين هذا وهذا مطلقاً.
عرفنا إذاً أننا بصفتنا مسلمين نتمسك بما كان عليه السلف الصالح من مفاهيم الكتاب والسنة، ونمشي على آثارهم، أننا لا نفرق بين الأمور الاعتقادية وبين الأحكام الشرعية، فكل ذلك دين يجب أن نتعبد الله به، لا نفرق بين العقيدة وبين الحكم الشرعي والعبادة، فإذا ثبت حديث وتضمن حكماً شرعياً سلمنا تسليماً، وإذا جاء حديث صحيح -أيضاً- وتضمن أمراً غيبياً سلمنا تسليماً، لا نفرق بين هذا وهذا؛ لأن السلف ما فرقوا بين هذا وهذا، وكذلك الأئمة الأربعة لا يصح عن أحدٍ منهم التفريق بين العقيدة وبين الأحكام الشرعية، وإنما حدث التفريق -كما أشرنا آنفاً- من بعض المتأخرين من علماء الكلام.
الذي نريد أن نذكر به مرة أخرى: موضوع الكفر الاعتقادي والكفر العملي، الذي تخبط فيه الشباب في العصر الحاضر تخبطاً خطيراً جداً، حتى وقع ألوف منهم في مذهب الخوارج ، فكفَّروا المسلمين بسبب عدم تفريقهم بين الكفر الاعتقادي والعملي نحن نقول: الكفر الاعتقادي مقره القلب، وهذا لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، والكفر اللساني نحن نعرفه؛ لأننا نسمع، وإنما ندين الناس مما يظهر لنا منهم من أعمالهم ومن أقوالهم، فعندما نفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي لا نريد أن نقول: فلان عند الله مؤمن، أو هو عند الله كافر، بل أمره إلى الله تبارك وتعالى، فإذا ظهر لنا منه ما يدلنا على أنه كافر بقلبه، فنحن نعامله على ما ظهر لنا منه وحسابه إلى الله تبارك وتعالى، لكن المشكلة التي هي نقطة الدقة في الموضوع، أننا نجد في العصر الحاضر أناساً يظهر منهم ما يدل على إسلامهم وإيمانهم، ومن جهة أخرى يظهر منهم ما يدل على كفرهم، فما هو الشيء الذي نغلبه على هذا الجنس من البشر؟ هنا يقع الخبط والخوض، فمجرد أن نرى في الإنسان -مثلاً- تركاً للصلاة حكمنا عليه بأنه مرتد عن دينه، وهو لم ينكر مشروعية الصلاة، فضلاً عن أن يكون موظفاً -مثلاً- في دولة لا تحكم بما أنزل الله، فنقول: إنه كافر مرتد عن دينه.
هذه الظواهر لا تدل على ما في قلب هذا الإنسان يقيناً حتى نتبنى الحكم عليه بالظاهر، لا سيما -كما قلت آنفاً- أن هناك ظواهر أخرى تدلنا على إسلامه، ولست أريد الخوض في هذه المسألة إلا بمقدار ما أنبه السائل أننا حينما نقول: الكفر الاعتقادي والكفر القلبي؛ لنحكم بالعدل بالنسبة للمكلفين أمام الله يوم القيامة، أما هنا في الدنيا فقد يظهر لنا إنسان كافر وهو ليس بكافر عند الله، وبالعكس؛ يظهر لنا أنه مسلم وهو منافق كبير عند الله تبارك وتعالى، وهذا معروف في التاريخ الإسلامي الأول فضلاً عن تاريخنا الحاضر.
أضرب لكم مثالاً نبهتكم عليه مراراً: أكثر أئمة المسلمين يقولون بالنسبة لتارك الصلاة: إنه يقتل حداً ويدفن بمقابر المسلمين، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا يتصور إنسان يؤثر القتل على أن يصلي، فهو يقتل كفراً؛ لوجود القرينة على أن هذا رجل كما يقال اليوم في لغة العصر الحاضر: عقائدي؛ لأنه لو كان لا ينكر الصلاة لما أثر القتل عليها وصلى ولو نفاقاً.
أما هذا السؤال الذي أنت تسأل عنه، تريد قرينة ظاهرة تستند إليها، تقول: يقتل حداً أو كفراً، ما دام أنك ما استطعت أن تصل إلى قرينة ظاهرة، وتدل قطعاً أنه منافق بقوله، فحينئذٍ حسبك أن الشارع أعطاك صلاحية استئصال شره من وجه الأرض، ثم حكمه إلى الله عز وجل، فهو يعلم السر وأخفى.(39/3)
إثبات صفة العلو لله عز وجل
السؤال
ما القول في الحديث الذي رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمطرت السماء حسر عن منكبيه حتى يصيبه المطر ويقول: إنه حديث عهدٍ بربه ) مع العلم أن السحابة مصدر المطر قريب من الأرض وهو في السماء الدنيا؟
الجواب
كأن السائل يفرق بين العلو القريب والعلو البعيد، وهناك فرق بين ما يتعلق بصفة العلي الأعلى المطر صحيح أنه ينزل من السحاب، لكن السحاب من السماء، وكل ما علاك فهو سماء، فهو ينزل من مكان يوصف بالعلو، فحينما رئي الرسول صلى الله عليه وسلم وقد نزل المطر وخرج يتوقاه بصدره، فاستغرب منه ذلك بعض أصحابه وسألوه عن السبب، فقال: ( إنه حديث عهدٍ بربه ) في ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل له صفة العلو، لكن نحن كما نقول دائماً وأبداً: علو الله عز وجل صفة من صفاته كأي صفةٍ أخرى، ومجموعة صفاته كذاته، كما أن ذاته لا تشبه شيئاً من الذوات، كذلك صفاته لا تشبه شيئاً من الصفات، فإذا كان الكتاب والسنة متواردين في آيات وأحاديث كثيرة جداً على إثبات صفة العلو للعلي الغفار؛ فهذا الحديث من تلك الأحاديث التي تشير إلى صفة العلو، لكن الحديث لا يعني أن الله في السحاب، وإنما يعني أن هذا المطر نزل من جهة العلو الذي هو صفة من صفات الله عز وجل، لكن العلو باعتباره صفة من صفات الله، فهو عالٍ على جميع مخلوقاته تبارك وتعالى، ونحن مجرد أن نتصور هذه الصفة بدون أي تكلف؛ لأن الأمر كما يقول العلماء: كل ما خطر في بالك فالله خلاف ذلك، لكن مجرد أن نتصور أنه عالٍ على جميع مخلوقاته يكفي أن نقنع أنفسنا؛ لأن هذه الصفة لا تشبه صفات المخلوقات، وأي مخلوق يكون فوق المخلوقات كلها؟! فالله عز وجل الذي له هذه الصفات المطلقة أن يكون عالياً على جميع مخلوقاته، فنزول المطر من السماء، وتلقي نبينا إياه بصدره وقوله: ( إنه حديث عهدٍ بربه ) أي: حديث عهد لانصبابه من الجهة التي تشترك في صفة العلو، ونحن دائماً وأبداً نقول: إن المخلوقات تشترك مع الله في الصفات اسماً لا حقيقةً، فنحن نقرأ آية الكرسي: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .
} [البقرة:255] ونحن أحياء ولسنا أمواتاً، لكن سنقول: حياة الله ليست كحياتنا، إذاً انتهت المشكلة، فردوا هذه القاعدة واستريحوا من فلسفة علم الكلام، كل صفة ثبتت في الكتاب والسنة فاحملوها على آية التنزيه والإثبات: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )[الشورى:11] .
الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( إنه حديث عهدٍ بربه ) أي: انفصاله من الجهة العليا، والجهة العليا هي صفة من صفات ربنا تبارك وتعالى، لكن هل هذه الصفة كهذه الصفة؟ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] .(39/4)
الإيمان يزيد وينقص
السؤال
يقول صلى الله عليه وسلم: ( إنما الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويخلعه أخرى )، وعنه مرفوعاً: ( إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان )، وقال أحمد : عن ابن عباس أنه قال لـ ابن مالك : [ من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زانٍ إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه ] الأحاديث السابقة تدل حسب ما بدا لي على أن الإيمان يخلع مرة واحدة أو ينفى مرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين الآيات التي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه؟ وما تعليق فضيلتكم على مذهب الأحناف في موضوع أن الإيمان يكون أو لا يكون في حديث إيمان الزاني، هذا مع أنه يوافق مذهبهم كما يبدو وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الحديث الأول لا أذكر إذا كان ثابتاً أو لا، وهو: ( إن الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويخلعه أخرى ).
الذي يستحق التعليق في ظني على هذا السؤال هو الحديث المرفوع الذي ذكره السائل بعد الحديث المروي عن أبي هريرة المرفوع في الأول، هذا على أنه موقوف، فأنا لا أذكر إذا كان ثابتاً عن أبي هريرة أم لا.
أما الحديث الثاني وهو قوله عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان )، هذا الحديث متمسك به لمن ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأرجو من السائل والسامع في آن واحد أن يكونوا أو يحاولوا أن يكونوا ممن تحدث رسولنا صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) فهو ينبغي أن ينظر في الحديث نظرة صادقة عن تأييد مذهب على مذهب، فإذا كان هذا الحديث -كما يتوهم السائل- يؤيد مذهب الحنفية، فهل الحنفية يقولون: إن الزاني إذا زنى كفر؟ فالحديث نفسه لا يكون للحنفية خلافاً لما توهم السائل؛ ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، هم الأحناف أنفسهم، وهذا في الواقع مما يقيم الحجة عليهم بكلامهم، لا يجدون تفسيراً لهذا الحديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) وهو مفسر لهذا الحديث إلا على طريقة الجمهور من السلف الصالح الذين يقولون: إن الإيمان لا يعني الاعتقاد فقط، بل وفيه يدخل -أيضاً- العمل الصالح.
ومن هنا جاء اعتقادهم الآخر الصحيح: أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا صريح في القرآن الكريم، ولذلك فقوله عليه السلام في الحديث المذكور: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) كيف تأوله الأحناف؟ قالوا: وهو مؤمن كامل الإيمان.
إذاً: الإيمان له مراتب وله درجات، يدخل فيه نقص وزيادة، فتأويلهم للحديث هو تأييد لرأي الجمهور الذين يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، وإن الإيمان من معناه العمل الصالح، إذا عرفنا هذه الحقيقة ورجعنا إلى هذا الحديث فلا يمكن أن يفسر هذا الحديث لا على مذهب الجمهور الذين يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، ولا على مذهب الحنفية الذين يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإنما هو حقيقة واحدة.
فقوله: ( إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة ) نحن إذا نظرنا هنا إلى لفظتين: أولاً: الإيمان، وثانياً: الظلة، فهل نأخذ لفظ الإيمان بالمعنى الجامد الذي لا يقبل الزيادة والنقص؟ وهذا لا يقوله علماء السلف قاطبةً، وهنا بالذات لا يقوله الحنفية أيضاً؛ لأنهم لو قالوا: خرج منه الإيمان، معناها أنهم قالوا بقول الخوارج ، وهو أن ارتكاب الذنب الكبير هو خروج من الدين، وهذا -والحمد لله- لا يقوله الحنفية، لذلك فهم سيضطرون إلى تأويل الإيمان مثلما أولوا الحديث الآخر: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) أي: وهو مؤمن كامل الإيمان، فهنا يخرج منه الإيمان كله، أو الإيمان الثاني الذي يستلزم ألا يقع في مثل هذه المعصية.
هذا التأويل الأول، أن نقول: الإيمان يعني الإيمان الثاني، أما الإيمان المنجي من الخلود يوم القيامة فأقل منه بكثير ينجي، هذه اللفظة ينبغي النظر إليها -أولاً- لفهم الحديث على الوجه الصحيح.
اللفظة الأخرى: (فكان عليه كالظلة) هذا لا يعني أن الإيمان خرج منه خروجاً، حتى لو فسرنا الإيمان بالإيمان المطلق، أي: خرج الإيمان الكامل والناقص بحيث لم يبق في قلبه شيء من الإيمان، لو فسرنا هذا التفسير -أيضاً- فلا يعني الحديث أن هذا الرجل خرج منه الإيمان وانفصل عنه بالكلية، أي: إنه مات موتاً معنوياً، صار كافراً، لا؛ لأنه خرج منه وصار متعلقاً به تعلق الظلة بالمستظل بها، وأقرب شيء نستطيع أن نفسر تعلق الإيمان والحالة هذه بصاحب هذه الجريمة، خروج الروح من الإنسان وهو نائم، وفرق بين خروج الروح من الإنسان وهو نائم فهو لا يزال حياً، لكن حياته غير الحياة الطبيعية وهو يقظ، وعلى العكس من ذلك خروج الروح من بدن الإنسان نهائياً، فيصبح بدنه كالخشبة، هكذا نستطيع أن نفرق بين خروج الإيمان كله من الإنسان فيموت موتاً معنوياً كما يموت الجسد في انفصال الروح منه انفصالاً كلياً، وبين أن يموت نصف موتة، أو بعض موتة -إذا صح التعبير- أن يخرج من الإنسان هذا الإيمان الكامل الذي لا يليق بهذا المجرم الذي ارتكب الزنا.
فإذاً: هذا خروج لا يزال الإيمان متعلقاً بصاحبه، كما لا تزال الروح متعلقة بصاحبها في حالة نوم الجسد ولا تزال الروح متعلقة، فإذاً خرج منه الإيمان الكامل ولم يخرج منه خروجاً مطلقاً بحيث لم يبق له علاقة، فإذا انقلع -هكذا جاء في اللفظ وأظن أنه أقلع- رجع إليه الإيمان.
وأخذ الحديث ودراسته دراسة سطحية ظاهرية، هذا أولاً: ليس من طريقة العلماء إطلاقاً، لا فرق بين الماتريدية و الأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الإيمان زيادته وعدم زيادته، وماذا يقول السائل في مثل الحديث الصحيح وهو أصح من هذا: ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) هل نفسره هكذا على الظاهر، لا إيمان مطلقاً؟ لا أحد يقول هذا، لا حنفي ولا شافعي.
إذاً: لا إيمان كامل ولا دين كامل، كذلك هذا الحديث الذي يفسر ملاحظاً فيه الإيمان الكامل أولاً، وشيء زائد وهو أن يكون عليه كالظلة ليس منفصلاً عنه كلياً، لذلك إذا ما أقلع عن الذنب عاد هذا الإيمان إلى صاحبه؛ لأنه لم ينفصل عنه كلياً.
ومن هذا البيان والشبه أظن يؤخذ الجواب عن سؤال السائل حين أتبع ما سبق بقوله: وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: [ من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زانٍ إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه ] فهنا نزع الله منه نور الإيمان بُين المنزوع وليس هو الإيمان نفسه، وإنما نوره، وهذا بدل.
السائل: الأحاديث السابقة تدل حسب ما بدا لي على أن الإيمان يسقط مرة، أو ينفى مرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين الآيات التي تدل على زيادة الإيمان؟ الشيخ: قد عرفنا يا أخي الجواب! ما دام الإيمان يزداد وينقص فالمنفي هو الإيمان بالكامل، وليس أصل الإيمان، وقد ضربت مثلاً آنفاً واضحاً جداً: ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) ومثله أحاديث كثيرة، لا إيمان كاملاً، وإذا أخذنا الأحاديث وفسرناها على ما يريد السائل تركنا مذهب أهل السنة جميعاً على ما بينهم من اختلاف في زيادة الإيمان ونقصانه، والتحقنا بـ الخوارج الذين يكفرون المسلمين لمجرد وقوعهم في بعض المعاصي الكبيرة.
السائل: وما تعليل استشهادكم على مذهب الأحناف في موضوع أن الإيمان يكون مرة أو لا يكون بحديث إيمان الزاني، مع أنه يوافق مذهبهم، كيف يوافق مذهبهم؟ وهل الأحناف يقولون: الزاني يكفر؟ الشيخ: لا.
وقد فسرت ماذا يقول الأحناف، مما يؤيد أن الصواب في موضوع الإيمان هو ما يرجفون، ويكفي تنبيهاً للسائل أن الآيات التي أشار الشارع إليها صريحة في زيادة الإيمان، ولذلك إذا جاءنا الحديث الذي سأل عنه، أو حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) فلابد من تفسير هذه الأحاديث تفسيراً يتفق مع النصوص الأخرى من الكتاب والسنة، حتى نكون في حرزٍ وفي حصن من الانحراف يميناً أو يساراً، وأننا لسنا من الخوارج أو من المعتزلة والعياذ بالله تعالى!(39/5)
رأي الشيخ في أصول قررها أحد الكتاب الإسلاميين وتعليقه عليها
السؤال
ما رأيكم في هذه الأصول التي قررها كاتب إسلاميٌ كبير: آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يلحق بذلك من المتشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من اختلافٍ بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران:7]؟
الجواب
هذا كلام سليم وجميل، لولا أن فيه غموضاً في ناحية واحدة، فلا بد من توضيحها وبيانها، وهي قوله في آخر بيانه: وإنما يسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو كما قال نقول: نعم.
ولكن آيات الصفات هذه وأحاديث الصفات حينما لم يتأولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعطلها، يرد سؤال هنا: هل فهمها، أم لم يفهمها؟ إن قيل: فهمها، إذاً لا بد لنا من فهمها اقتداءً بالنبي عليه السلام؛ لأن الكاتب يقول: يسعنا ما وسع الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا كلام حق.
وإن قيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فهمها ولا بحث عنها، فهذا صدم وضرب لأعز شيء في الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أنه قد أنزل القرآن عليه، وكلف ببيانه للناس، فإذا قيل بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفهم هذه الآيات، فهو بطبيعة الحال لم يبينها للناس؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والقول بأنه لم يبين ذلك منافٍ لعديدٍ من النصوص، كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [المائدة:67] إلى آخر الآية، وإن قيل: لا.
حاشا لله، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد فهم هذه الآيات كما فهم القرآن كله، تجاوباً منه مع مثل قوله تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } [النساء:82] فحينئذٍ لا بد للخلاص من التأويل والتعطيل، من الفهم لنصوص آيات الصفات وأحاديث الصفات بدون تعطيل وبدون تشكيك.
الأصل في هذا أن في مسألة آيات الصفات وأحاديث الصفات مذاهب ثلاثة: مذهب السلف، وهو فهم النصوص كما جاءت بدون تشبيه وبدون تأويل: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] فقوله: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] لا نقول: الله أعلم بمراده.
المراد مفهوم من قوله: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]، لكن في الوقت الذي نفهم هاتين الصفتين بالأسلوب العربي لا نشبه ربنا عز وجل بشيءٍ من عباده، جمعاً بين التنزيه والإثبات المذكورين في هذه الآية: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] هذا مذهب السلف .
مذهب الخلف: هو المذهب الثاني، وهو تأويل آيات الصفات -زعموا- خشية التشبيه، فوقعوا -مع الأسف الشديد- في التعطيل، أي: أنكروا كثيراً من الصفات، والمذاهب هنا منها المؤولة المتعمقة في التأويل، حتى لتكاد تنكر وجود الله بسبب إنكارهم لصفات الله، ولا شك أن بعض الفلاسفة الإسلاميين وقعوا في هذا الجحد المطلق، يقولون: لا نصفه بأنه حي، ولا نقول: إنه حي أو ليس بحي، لماذا؟ لأنه لو قلت: إن الله حي، فأنا متكلم وأنا حي وأنت حي، وهذا تشبيه، ولا نقول: ليس بحي؛ لأننا حكمنا عليه بالعدم، وهكذا وقعوا في (حيص بيص) وفي حيرة، أدت بهم في الواقع إلى الجحد المطلق.
لذلك أحسن التعبير عن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ثم تبعه بعد ذلك ابن القيم فقال: المعطل يعبد عدماً.
لا شك، لكن قلت: إن المؤولة يتفاوتون في التأويل، فمنهم من أغرق في التأويل حتى وصل به الأمر إلى الجحد المطلق، ومنهم دون ذلك، ومنهم أقل وأقل، ومن هؤلاء الأشاعرة و الماتريدية مع الأسف؛ فهؤلاء -والكلام يهمنا بالنسبة إليهم؛ لأن جماهير المسلمين اليوم من أهل السنة يتمذهبون بمذهب هذين المذهبين- فهؤلاء -مثلاً- في الآية السابقة: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] لا يتأولون السمع والبصر، لا يقولون كما تقول المعتزلة (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: عالم، فـ المعتزلة أشد إغراقاً في تعطيل آيات الصفات بطريق التأويل، فهم لا يقولون: نصف ربنا بأن له سمعاً وله بصراً، لكن: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، و المعتزلة يقولون: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] أي: العليم.
فنقول: الله وصف نفسه في غير ما آية بأنه عليم، فكيف تعطلون هذه الآية أو هاتين الصفتين؟ الماتريدية و الأشاعرة سلكوا هنا على الجادة، قالوا: نقول كما قال ربنا: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] لكن: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] بينما أولوا آيات أخرى وأحاديث أخرى في صفات، لماذا؟ قالوا: نخشى من التشبيه، أي: إما أن تطردوا هذه الخشية فيصل بكم الأمر إلى الجحد المطلق، وإما أن تقفوا موقف السلف عند هذه الآية: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] هذان مذهبان: مذهب السلف : الفهم، وما يجب على ذلك من القواعد العربية مع التنزيه، ومذهب الخلف: التأويل خشية التشبيه، فوقعوا في كثيرٍ من التعطيل.
ووجدت طائفة ثالثة، وهم الذين -زعموا- يريدون أن يقفوا وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، وهؤلاء يسمون بـ المفوضة ، هم لا يفسرون تفسير السلف ، ولا يؤولون تأويل الخلف، فإذا قيل لهم: ما معنى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]؟ قالوا: الله أعلم بمراده { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر:22] قالوا: الله أعلم بمراده وهكذا كل آيات الصفات لسان حالهم يقول: لا نعلم، لا نعلم، لماذا لا تعلمون؟ الآيات واضحة: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22] { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [المعارج:4] إلخ، ويقولون: نحن إذا أردنا أن نفصل نريد أن نؤول، وإذا أولنا خالفنا السلف ، إذاً نقف بين هؤلاء وهؤلاء.
وأنا أعرف من تجربتي وقراءتي للبحوث التي تقع في هذا العصر، أن أكثر الكتاب الإسلاميين اليوم من غير السلفيين مذهبهم التفويض، لا يأخذون بمذهب السلف وهو واضح جداً؛ لأن الخلف هونوا وقللوا من قيمة مذهب السلف حينما قالوا: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحسن.
بئس ما قالوا! معنى هذا الكلام: أن السلف ومن بينهم محمد صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر و عمر وغيرهم، لم يفهموا الفهم الصحيح لهذه الآيات، لماذا؟ قالوا: لأن الولوج في تفسيرها قد يورط المفسر فيقع في شيء من التعطيل أو التشبيه، أما الخلف فقد ابتعدوا عن هذا وهذا، وجاءوا بالعلم الدقيق الصحيح بتفسير هذه الآيات كيف يمكن أن يعقل هذا؟!(39/6)
أبيات شعرية توضح العقيدة السلفية
عقيدتنا سلفية الأفكار والإيمان أصل الصواب على مدى الأزمان
تفنى العقائد والشعوب وتمتحي وتظل دعوتنا بكل مكان
حفظ الإله لنا عقيدة أحمدٍ بالحفظ من مكلوم والقرآن
لا زيغ فيها لا انحراف يمسها سلمت من التحريف والنقصان
خلبت على الأيام دعوة أحمدٍ عمت جميع الأرض والعمران
هي للبرايا رحمةٌ من ربهم جلت وعزت رحمة الرحمن
أخذ الصحابة ما أتاهم من هدى واستسلموا لعقيدة الفرقان
ما أولوا أو عطلوا أو شبهوا بل صدقوا ما جاء في إذعان
لم يعملوا أفكارهم في ذاته أو في صفات الخالق الحنَّان
فهموا من الأوصاف معنىً واضحاً في الوهلة الأولى مدى الأذهان
مرت كما جاءت على أفهامهم من دونما لفٍ ولا دوران
قالوا: سميع ذاك سمعٌ لائقٌ بجلاله لا السمع بالآذان
فالذات ليست كالذوات وسمعها لا يشبه الأسماع في الإنسان
وله يدٌ لا بل يدان وأعينٌ ليست كعين الخلق والأعيان
من قال إن العين تعني حفظه أو قال إعطاء العطاء يدان
مبسوطتان يداه جل جلاله بالخير والإكرام والإحسان
الله فوق العرش فوق عباده هو مستوٍ لا كاستوا إنسان
قالوا بل استولى لتأويل استوى قلنا: أكان العرش غير مصان
أم كان مملوكاً لربٍ غيره فأتى الإله منافساً للثاني
قالوا: استوى جهةٌ وحصرٌ عندها والله موجودٌ بكل مكان
جعلوا المكان لمن بغاه حاوياً والله فوق مكانهم وزمان
ليس العلو لربنا كجهاتهم هو ظاهرٌ فوق العباد وداني
الله خالق كل شيءٍ عالمٌ وهو المحيط بكل خلقٍ ثان
الأمر أمر الله حكمٌ نافذٌ لا يكره الإنسان في الأديان
أقداره خيرٌ ولا يرضى لنا كفراً وكسب الشر فعلٌ جاني
أفكارنا من أعطيات كتابنا ليست بتأويلٍ ولا هذيان
من فهم أحمد ثم فهم صحابه فلك الهدى والخير في الأكوان
من منهج الأصحاب نهج حياتنا في الفكر والأخلاق والإيمان
لا نرتضي بدعاً فكل ضلالة في النار صاحبها مع الشيطان
من شرع الأحكام كان منافساً لله في التشريع والتبيان
لا نأخذ الأحكام من زيدٍ ولا من أي إنسان بلا برهان
قال الإله وقال خاتم رسله برهاننا فالوزن بالميزان
بالحق نعرف قائلاً فنجله لا نعصم الإنسان عن نسيان
ما كثرة تعطي الصواب لكثرة لا توزن الأفكار بالقبان
لا نعبد الأشخاص في تقليدهم من دون فكرٍ مشية العميان
فإطاعة الأشخاص نوع عبادةٍ إن خالفوا هدياً من العدنان
ما طاعة مفروضة في شرعنا إلا لرب العرش والأكوان
وله العبادة لا شريك له بها هو وحده المخصوص بالإذعان
لا نستغيث بغيره أو نرتدي شيئاً من الطاغوت والكهان
كل التضرع والتذلل والرجا والخوف والإشفاق للديان
إن العبادة لا تجوز لغيره إن جوزت كانت إلى الأوثان
إن التوكل والخضوع عبادةٌ وكذا الدعاء وطلبة الغفران
ثم الذبائح والنذور تقرباً بالأولياء وكل صاحب شان
من يسأل المقبور يشرك عامداً ما الشرك والإيمان يجتمعان
كل الذنوب يجوز غفران لها لا يغفر الإشراك بالرحمن
الشرك يخفى عن كثيرٍ أمره أخفى دبيباً من دم الشريان
هذي عقيدتنا وهذا شأنها وبها نواجه منزل القرآن
في الله لا نخشى ملامة لائمٍ فاللوم بعض مصائب الشيطان
ندعو لكثرتنا ولا نخشى الردى لا يرهب الآجال غير جبان
لكننا لا ننثني عن عزمنا والله يعصمنا من الطغيان(39/7)
تفسير القرآن الكريم
إن تفسير القرآن الكريم يعتمد أول ما يعتمد على تفسيره بالقرآن، ثم بالسنة، وذلك وفق القواعد التي أقرها أهل العلم، وبهذا يتم الجمع بين النصوص التي ظاهرها الاختلاف في بعض الأحيان، مع فهمها فهماً صحيحاً دون ضرب النصوص بعضها ببعض.
وفي هذه المادة أجاب الشيخ عن بعض الأسئلة التي تجلِّي هذا المفهوم، كما أجاب عن بعض الأسئلة لبيان ضوابط حمل ألفاظ النصوص على المعاني المرادة فيها.(40/1)
حكم عدم الإنصات لتلاوة القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102] { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70-71] أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
السؤال
عندما تكون المسجلة مفتوحة على القرآن الكريم، وبعض الحاضرين لا يستمعون بسبب أنهم مشغولون بالكلام، فما حكم عدم الاستماع؟ وهل يأثم الذي فتح المسجلة أو أحد الحاضرين؟
الجواب
الجواب عن هذه القضية يختلف باختلاف المجلس الذي يتلى فيه القرآن من المسجلة، فإن كان المجلس مجلس علمٍ وذكرٍ وتلاوة للقرآن؛ فيجب والحالة هذه الإصغاء التام، ومن لم يفعل فهو آثم؛ لمخالفته لقول الله تعالى في القرآن: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأعراف:204] أما إذا كان المجلس ليس مجلس علم، ولا مجلس ذكر، ولا مجلس تلاوة قرآن، وإنما مجلساً عادياً، كأن يكون الإنسان يعمل في البيت، أو يدرس، أو يطالع؛ ففي هذه الحالة لا يجوز فتح آلة التسجيل ورفع صوت التلاوة، بحيث يصل إلى الآخرين الذين هم في البيت أو في المجلس، فهؤلاء في هذه الصورة ليسوا مكلفين بالسماع؛ لأنهم لم يجلسوا له، والمسئول هو الذي رفع صوت المسجلة، وأسمع صوتها للآخرين؛ لأنه يحرج الناس، ويحملهم على أن يستمعوا للقرآن وهم ليسوا مستعدين لهذا الاستماع.
وأقرب مثال على هذا: أن أحدنا يمر في الطريق فيسمع السمان، وبائع الفلافل، والذي يبيع (الكاسيتات) -الأشرطة-، وقد ملأ صوتُ القرآنِ الطريقَ، وأينما ذهبت تسمع الصوت، فهؤلاء الذين يمشون في الطريق كل في سبيله، هل هم مكلفون بأن ينصتوا لهذا القرآن الذي يتلى في غير محله؟ الجواب: لا، وإنما المسئول هو هذا الذي يحرج الناس ويسمعهم صوت القرآن، إما للتجارة، أو للفت نظر الناس إليه، ونحو ذلك من المصالح المادية.
فإذاً: هم يتخذون القرآن من جهة مزامير، كما جاء في بعض الأحاديث، ثم هم يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً بأسلوب آخر غير أسلوب اليهود والنصارى، الذين قال الله عز وجل في حقهم: { يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [آل عمران:199] .(40/2)
إثبات صفة المكر لله تعالى
السؤال
جاء في القرآن الكريم أن الله عز وجل يخبر عن نفسه سبحانه وتعالى بقوله: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران:54] فربما يضيق عقل بعض الناس عن فهم هذه الآية على ظاهرها؛ لأننا لسنا بحاجة إلى التأويل كما قلنا آنفاً، فكيف يكون الله خير الماكرين؟
الجواب
المسألة سهلة بفضل الله؛ ذلك لأننا نستطيع أن نعرف أن المكر من حيث هو مكر لا يوصف دائماً وأبداً بأنه شر، كما أنه لا يوصف دائماً وأبداً بأنه خير، فرب كافر يمكر بمسلم؛ لكن هذا المسلم كيس فطن ليس مغفلاً، وليس غبياً، فهو متنبه لمكر خصمه الكافر، فيعامله على نقيض مكره هو، بحيث تكون النتيجة أن هذا المسلم بمكره الحسن قضى على الكافر في مكره السيئ، فهل يقال: إن هذا المسلم حينما مكر بالكافر؛ قد تعاطى أمراً غير مشروع؟ لا أحد يقول هذا.
ومن السهل أن تفهموا هذه الحقيقة من قوله عليه الصلاة والسلام: ( الحرب خدعة ) ويقال في الخداع ما يقال في المكر تماماً، فمخادعة المسلم لأخيه المسلم حرام، لكن مخادعة المسلم للكافر عدو الله وعدو رسوله ليست حراماً، بل واجب.
كذلك مكر المسلم بالكافر الذي يريد المكر به، بحيث يبطل هذا المسلم مكر الكافر، فهذا مكر حسن، وهذا إنسان وهذا إنسان، فماذا نقول بالنسبة لرب العالمين، القادر العلي الحكيم؟ فهو يبطل مكر الماكرين جميعاً، لذلك قال: { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران:54] .
فحينما وصف ربنا عز وجل نفسه بهذه الصفة؛ فإنه قد لفت نظرنا بأن المكر حتى من البشر ليس مذموماً بإطلاق؛ لأنه قال: { خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ، فهناك ماكر بخير وماكر بشر، فمن مكر بخير فلن يذم، والله عز وجل كما قال: { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران:54] .
وباختصار أقول: كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك، فإذا توهم الإنسان أمراً لا يليق بالله فليفترض مباشرة أنه مخطئ، فهذه الآية هي مدح لله عز وجل، وليس فيها أي شيء لا يجوز نسبته إلى الله تبارك وتعالى.(40/3)
مصير من لم يدخل الإسلام من أهل الديانات السابقة
السؤال
كيف نوفق بين هاتين الآيتين: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران:85] وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة:62] .
الجواب
لا تعارض بين الآيتين كما يوهم السؤال؛ ذلك لأن آية الإسلام هي بعد أن تبلغ دعوة الإسلام أولئك الأقوام الذين وصفهم الله عز وجل في الآية الثانية بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذكر منهم الصابئة، والصابئة عندما يذكرون يسبق إلى الذهن أن المقصود بهم عباد الكواكب، والحقيقة أنهم كل قوم وقعوا في الشرك بعد التوحيد، والصابئة كانوا موحدين، ثم عرض لهم الشرك وعبادة الكواكب، فالذين ذكروا في هذه الآية هم المؤمنون الموحدون منهم.
فهؤلاء قبل مجيء دعوة الإسلام هم كاليهود والنصارى، وذكروا أيضاً في نفس السياق الذي ذكر الصابئة، فهؤلاء من كان منهم متمسكاً بدينه في زمانه؛ فهو من المؤمنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولكن بعد أن بعث الله عز وجل محمداً عليه الصلاة والسلام بدين الإسلام، وبلغت دعوة الإسلام أولئك الناس من يهود ونصارى وصابئة؛ فلا يقبل منهم إلا الإسلام.
إذاً: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً } [آل عمران:85] أي: بعد مجيء الإسلام على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلوغ دعوة الإسلام إليه، فلا يقبل منه.
أما الذين كانوا قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو الذين قد يوجدون اليوم على وجه الأرض ولم تبلغهم دعوة الإسلام، أو بلغتهم دعوة الإسلام ولكن بلغتهم محرفة عن أساسها وحقيقتها، كما ذكرت لكم في بعض المناسبات عن القاديانيين -مثلاً- اليوم، الذين انتشروا في أوروبا و أمريكا ، يدعون إلى الإسلام، ولكن هذا الإسلام الذي يدعون إليه ليس من الإسلام في شيء؛ لأنهم يقولون بمجيء أنبياء بعد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء الأقوام الأوروبيون الذين دُعُوا إلى إسلام قادياني لم تبلغهم دعوة الإسلام.
إذاً: باختصار من كان قبل الإسلام، ومن قد لا يزال حتى بعد الإسلام ولم تبلغه دعوة الإسلام، فهؤلاء يقسمون إلى قسمين: قسم منهم على دين سابق وهم متمسكون به، وعلى ذلك تحمل آية: { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة:62] .
وقسم انحرف عن هذا الدين، كما هو شأن الكثير من المسلمين اليوم، فالحجة قائمة عليهم.
أما من لم تبلغهم دعوة الإسلام مطلقاً سواء بعد الإسلام أو قبله؛ فهؤلاء لهم معاملة في الآخرة، وهي أن الله عز وجل يبعث إليهم رسولاً يمتحنهم كما امتحن الناس في الحياة الدنيا، فمن استجاب لذلك الرسول في عرصات يوم القيامة وأطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار .(40/4)
الإرادة الشرعية والإرادة الكونية
السؤال
قال تعالى: { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } [الإسراء:46] يشم البعض منها رائحة الجبر، فما رأيكم؟
الجواب
الجعل هو جعل كوني، ولفهم هذا لا بد من شرح الإرادة الإلهية، فإن الإرادة الإلهية تنقسم إلى قسمين: - إرادة شرعية.
- وإرادة كونية.
الإرادة الشرعية هي: كل ما شرعه الله عز وجل لعباده، وحضهم على القيام به، من طاعات وعبادات، على اختلاف أحكامها من فرائض إلى مندوبات، وهذه الطاعات والعبادات يريدها الله تبارك وتعالى ويحبها.
أما الإرادة الكونية فهي: قد تكون تارة مما شرع الله وأحبها لعباده، وقد تكون تارة مما لم يشرعها ولكنه قدرها، وهذه الإرادة إنما سميت بالإرادة الكونية اشتقاقاً من قوله تبارك وتعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس:82] فشيئاً: اسم نكرة يشمل كل شيء؛ سواءً كان طاعة أو كان معصية، إنما يكون ذلك بقوله تعالى: (كن).
أي: بمشيئته وبقضائه وقدره، فإذا عرفنا هذه الإرادة الكونية، وهي أنها تشمل كل شيء؛ سواء كان طاعة أو كان معصية، حين ذلك لا بد من الرجوع بنا إلى موضوع القضاء والقدر؛ لأن قوله عز وجل: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس:82] معنى ذلك أن هذا الذي قال له (كن) جعله أمراً مقدراً كائناً لا بد منه.
حينئذٍ طرقنا بحث القضاء والقدر مراراً وتكراراً، وقلنا: إن كل شيء عند الله عز وجل بقدر، أيضاً هذا يشمل الخير ويشمل الشر، ولكن ما يتعلق منه بنا نحن الثقلين الإنس والجن المكلفين المأمورين من الله عز وجل، فما يتعلق بنا نحن يجب أن ننظر إلى ما نقوم به نحن، حيث إنه: إما أن يكون بمحض إرادتنا واختيارنا، وإما أن يكون رغماً عنا، وهذا القسم الثاني لا يتعلق به طاعة ولا معصية، ولا يكون عاقبة ذلك جنة ولا نار، وإنما القسم الأول عليه تدور الأحكام الشرعية، وعلى ذلك يكون جزاء الإنسان الجنة أو النار.
أي: ما يفعله الإنسان بإرادته ويسعى إليه بكسبه واختياره، فهو الذي يحاسب عليه الإنسان إن خيراً فخير أو شراً فشر، هذه حقيقة! أي: كون الإنسان مختاراً في قسم كبير من أعماله؛ فهذه حقيقة لا يمكن المجادلة فيها لا شرعاً ولا عقلاً، أما الشرع فنصوص الكتاب والسنة متواترة يأمر الإنسان في أن يفعل ما أمر به، وفي أن يترك ما نهي عنه، وهي أكثر من أن تذكر، وأما عقلاً فواضح لكل إنسان متجرد عن الهوى والغرض بأنه حينما يتكلم حينما يمشي حينما يأكل حينما يشرب حينما يفعل أي شيء مما يدخل في اختياره؛ فهو مختار في ذلك وغير مضطر إطلاقاً.
هأنذا أتكلم معكم الآن، لا أحد يجبرني بطبيعة الحال، ولكنه مقدر، فمعنى كلامي هذا مع كونه مقدراً، أي: أنه مقدر مع اختياري لهذا الذي أقوله وأتكلم به، أنا الآن أتابع الحديث ولا أسكت، ولكن باستطاعتي أن أصمت لأبين لمن كان في شك مما أقول أني مختار في هذا الكلام، هأنا أصمت الآن ولو للحظات؛ لأنني مختار.
إذاً فاختيار الإنسان من حيث الواقع أمر لا يحتاج المناقشة والمجادلة، وإلا يكون الذي يجادل في مثل هذا إنما هو يسفسط ويشكك في البديهيات، وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة انقطع معه الكلام.
إذاً: أعمال الإنسان تنقسم إلى قسمين: اختيارية، واضطرارية.
فالاضطرارية ليس لنا فيها كلام، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية الواقعية، إنما الشرع يتعلق بالأمور الاختيارية، فهذه الحقيقة إذا ما ركزناها في ذهننا؛ استطعنا أن نفهم الآية السابقة: { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [الإسراء:46] فهذا الجعل كوني، ويجب أن تتفكروا في الآية السابقة { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } [يس:82] كوني، ولكن ليس رغماً عن هذا الذي جعل الله على قلبه أكنة، هذا مثاله من الناحية المادية: الإنسان حينما يخلق، يخلق ولحمه غض طري، ثم إذا ما كبر، وكبر، وكبر، يغلظ لحمه ويشتد عظمه، ولكن الناس ليسوا كلهم في ذلك سواء، ففرق كبير جداً بين إنسان منكب على نوع من الدراسة والعلم، فهذا ماذا يقوى فيه؟ يقوى عقله، ويقوى دماغه في الناحية التي هو ينشغل بها، وينصب في كل جهوده عليها، لكن من الناحية البدنية جسده لا يقوى، وعضلاته لا تنمو.
والعكس بالعكس تماماً؛ بالنسبة لشخص منصب على الناحية المادية، فهو كل يوم يتعاطى تمارين رياضية، فهذا تشتد عضلاته، ويقوى جسده، ويصبح له صورة، كما نرى ذلك أحياناً في الواقع وأحياناً في الصور، فهؤلاء الأبطال -مثلاً- تصبح أجسادهم كلها عضلات، فهل هو خلق هكذا، أم هو اكتسب هذه البنية القوية ذات العضلات الكثيرة؟ هذا شيء وصل إليه هو بكسبه وباختياره.
ذلك هو مثل الإنسان الذي يظل في ضلاله، وفي عناده، وفي كفره وجحوده، فيصل إلى الران إلى هذه الأكنة التي يجعلها الله عز وجل على قلوبهم، لا بفرض من الله واضطرار من الله لهم؛ وإنما بسبب كسبهم واختيارهم، فهذا هو الجعل الكوني الذي يكتسبه هؤلاء الناس الكفار، فيصلون إلى هذه النقطة التي يتوهم الجهال أنها فرضت عليهم، والحقيقة أن ذلك لم يفرض عليهم، وإنما ذلك بما كسبت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد.(40/5)
الجمع بين وجوب الأوامر الشرعية وتفويض الإتيان بها إلى الإرادة
السؤال
ما رأيكم في مسألة الأضحية أواجبة هي أم سنة؟ فإن كانت سنة فكيف نصنع بحديث أم سلمة في صحيح مسلم ولفظه: ( إذا دخل عشر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي ) علماً بأن الصنعاني نقل عن الشافعي قوله: وتفويض الأمر إلى الإرادة مشعر بعدم الوجوب؟
الجواب
الواقع أن هذه شبهة ليس لها قيمة من ناحية النصوص الشرعية ( وأراد أحدكم أن يضحي ) نحن نقول: نسبة الأمر إلى إرادة الإنسان له علاقة كبيرة جداً بموضوعنا السابق، أي: إن الإنسان مكلف بالعبادة وبالطاعة، فهو عليه أن يريدها، وأن يعملها وينهض بها، فإذا لم يردها فليس الله عز وجل بالذي يفرض ذلك عليه فرضاً، ويقصره على ذلك قصراً، لا.
فالنكتة هنا في أنه نسب حكم من أراد أن يضحي إلى إرادة الإنسان من هذه الناحية، وهذا واضح جداً في نفس القرآن الكريم { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [التكوير:28] إذاً: الاستقامة على هذا الفهم -مع الأسف أن هذا الفهم نسب إلى بعض الأئمة- ينتج قياساً على هذا الفهم أن الاستقامة غير واجبة، لماذا؟ لأن الله عز وجل نسبها إلى مشيئتنا، فكل شيء أمرنا به فلا بد للقيام به من مشيئتنا وإرادتنا في ذلك، ولذلك قلنا قبل أن نعرف ما ادخر لنا وما خبئ لنا من مثل هذا السؤال، قلنا: إن الإرادة قسمان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، فالبحث ليس في الإرادة الكونية، وإنما في الإرادة الشرعية، فالمفهوم هنا: يجب أن تفعل، وإن لم تفعل انتقل الأمر من الإرادة الشرعية إلى الإرادة الكونية؛ لأنه لا يقع شيء في هذا الكون رغماً عن الله عز وجل، فهنا لما قال الله عز وجل: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [التكوير:28] لماذا نسب الاستقامة إلى المشيئة؟ الجواب: لأن بها ربطت التكاليف الشرعية كلها.
ومثال على هذا الذي نقوله، وإن كانت الآية كافية في ذلك وشافية، ولكن على سبيل التفريع، قال عليه الصلاة والسلام: ( من أراد الحج فليعجل ) أيضاً نسب الإرادة هنا للإنسان في الحج الذي هو من أركان الإسلام الخمسة، فهل معنى ذلك أن الحج غير واجب؟ الجواب: لا.
لكن كل واجب لا بد له من إرادة تصدر من هذا الإنسان ليصبح مكلفاً، وإلا إذا كان لا إرادة له فلا تكليف عليه، ولذلك -كما تعلمون في الحديث الصحيح- ( رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ ).(40/6)
حقيقة وقوع المسخ في أمة الإسلام
السؤال
أرجو بيان حكم الإسلام فيما نسمعه عن مسخ بعض الناس على صور حيوانات!
الجواب
أما الجواب عن السؤال الأول، ففي السؤال غموض؛ لأنه إن كان يعني (ببعض الناس) ما أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم، أن الله تبارك وتعالى قال لليهود الذين عصوا أنبياءهم: { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65] فلا مجال للسؤال عن هذا ما دام أنه جاء في النص القرآني.
أما إن كان يعني بذلك أنه سمع أن بعض الناس مسخوا، فأنا لا أعلم بشيء من هذا أنه وقع، وما نعلم أن أحداً مسخ إلا بخبر القرآن، ونعلم أنه سيقع مسخ في آخر الزمان، لكن متى يكون ذلك؟ الله أعلم.
كذلك إذا كان السؤال الأول يربطه بالإسلام، فالإسلام أخبر بأن المسخ وقع، وأخبر بأنه سيقع بالنسبة لبعض العصاة والفساق والفجار، ولعل السائل يشكل عليه ما قد يقرؤه في بعض التفاسير الحديثة، التي لا تجري في تفسيرها للآيات مجرى مذهب السلف الصالح ، فهم يحكمون عقولهم في بعض النصوص القرآنية، التي يثقل عليهم تبني معانيها الظاهرة، مثل ما نحن فيه الآن من القول بالمسخ لليهود، فمع تصريح القرآن بذلك فهم تأولوا هذا المسخ بأنه مسخ خُلُقي وليس مسخاً بدنياً، أي: صارت أخلاقهم كأخلاق القردة!! ما الداعي إلى هذا التضييق للمسخ؟! فالذين يمسخون مسخاً حقيقياً قردة أو خنازير، بطبيعة الحال تصبح أخلاقهم أخلاق القردة والخنازير، فلماذا القول مسخوا من جهة ولم يمسخوا من جهة أخرى؟! والآيات التي جاءت في هذا الصدد مطلقة، فلا شيء يحملهم على تضييق دائرة المسخ إلا استبعادهم أن يستحق هؤلاء الكفار من اليهود قتلة الأنبياء ذلك المسخ.
فأقول: سبحان الله! هل هؤلاء هم الذين يحكمون على الله، ويضعون لهم منهاجاً لنسبة التعذيب، فلا يجوز لله أن يمسخ الذين يقتلون الأنبياء بغير حق قردة وخنازير! من الذي يحكم على الله بذلك؟!! فهذا تفسير أقل ما يقال فيه أنه تفسير مبتدع، وحديث لا يعرفه السلف الصالح فضلاً عن بعده عن اللغة العربية: { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65] لا سيما والسنة -كما تعلمون- دائماً وأبداً تأتي لتوضح القرآن الكريم، ولترد على أهل البدع والأهواء، فقد جاء في صحيح مسلم : ( إن الله عز وجل لم يمسخ قوماً فجعل لهم نسلاً، وإنما كانت القردة والخنازير قبل ذلك ) وفي هذا رد على بعض القصص التي قد توجد في بعض كتب الرقائق والمواعظ ولا سند لها، من أن القرود الموجودة اليوم هي من سلالة اليهود الممسوخين قردة، وهذا لا أصل له؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث يعطينا فائدتين: الفائدة الأولى: يؤكد فيها المعنى الظاهر من الآية الكريمة، من أن المسخ مسخ حقيقي.
والفائدة الأخرى: أن الله عز وجل إذا مسخ قوماً أهلكهم، ولا يبقيهم يتناسلون، وهذا هو الذي يجب أن ندين الله به فيما يتعلق بقضية المسخ، كما أن المسخ كان وسيكون؛ لأنه جاء في ذلك بعض الأحاديث الصحيحة، ومن أشهرها حديث البخاري : ( ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف، يمسون في لهو ولعب، ويصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير ).(40/7)
تأملات في فعل بعض الصحابة من الزيادة والنقص في سور القرآن
السؤال
هل صحيح أنه ثبت عن ابن مسعود أنه كان لا يعد المعوذتين من القرآن؟ وأن أُبي بن كعب أثبت في مصحفه دعاء القنوت وجعله سورتين؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
بالنسبة لهذا السؤال فهو ذو شطرين كما تقدم، أما فيما يتعلق بـ ابن مسعود ، فقد صح عنه، ولا غرابة في ذلك، وهذا دليل على أن الأمر كما قال الله عز وجل مخاطباً كل إنسان منا في عموم قوله: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [الإسراء:85] أن ابن مسعود رضي الله عنه الذي كان من السابقين في الدخول في الإسلام، ومع ذلك فاتته بعض الأشياء، والتي بعضها هام جداً جداً، ومن ذلك ما تضمنه هذا السؤال، إذ لم يكن قد فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أن المعوذتين: (قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس) من القرآن الكريم، إنما فهم أنهما معوذتان، أي: دعاء؛ ولذلك فحرصاً منه على ألا يدخل في المصحف الذي فيه القرآن شيء غريب عنه؛ فقد كان يحكه، ويكشط كل صفحة فيها هاتان السورتان؛ لأنه لم يعلم ذلك، ولكن هذه مزية القرآن، أنه لم يجمع من شخص واحد وإنما جمع من عشرات، بل مئات الأشخاص، بعد أن كانت كتبت في صحف من نوعية غريبة في تلك الأزمان، عبارة عن أكتاف الحيوانات -عظم- أو أوراق الشجر، أو غير ذلك، إذ سخر الله عز وجل مئات الصحابة ليحفظوا القرآن كله في صدورهم أولاً، وليسطروه في الوسائل التي كانت معروفة عندهم ثانياً.
من أجل هذه الحقيقة اعترف بعض الكتاب الغربيين بأن الإسلام لا يماثله دين آخر، في أن دستوره الأول ألا وهو القرآن مروي بالتواتر ومحفوظ، ويشهد بهذا الكثير منهم، ونحن لا نفخر ولكننا نقول:
والفضل ما شهدت به الأعداء
فلا يضرنا أبداً أن تكون هذه الرواية صحيحة وثابتة عن ابن مسعود ، بل نحن نأخذ من ثبوت هذه الرواية عبرة نعالج بها الغلاة من المسلمين قديماً وحديثاً، ممن يعتبرون بيان خطأ الشيخ الفلاني غمزاً فيه وطعناً له، لا
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فـ ابن مسعود صحابي جليل، له الفضل على الإسلام والمسلمين في أنه نقل إلينا مئات الأحكام الشرعية، وكان من حفاظ القرآن، وممن يحسنون تلاوته، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يثني عليه ويقول: ( من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ) يعني: عبد الله بن مسعود ، وهذا أسلوب لطيف جداً في التعبير.
الشاهد: هذا الرجل الفاضل إذا وجدت له بعض الأخطاء فهي أولاً: لا يؤاخذ عليها إطلاقاً؛ لأنها لم تكن مقصودة منه، بل على العكس -كما تقدم آنفاً- كان يكشط ويحك هاتين السورتين حفظاً للقرآن الكريم من الزيادة، فهذا لا يؤاخذ عليه إطلاقاً، ولذلك فلا عيب في أن نصرح بهذه الحقيقة، بل نستفيد من ذلك كما قلنا: أن الإنسان مهما سما وعلا فلا بد أن يكون له شيء من الأخطاء، كما جاء في بعض الأحاديث الموقوفة، والتي يروى بعضها عن ابن عباس ، وبعضها عن بعض التابعين، ثم أخيراً ما اشتهر عن مالك : ما منا من أحدٍ إلا رُدّ عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لم يعبأ المسلمون إطلاقاً بهذه الرواية وبهذا الخطأ الذي صدر من ابن مسعود ، فسجلت السورتان في المصحف، وهما متواترتان مع المصحف كله.
ومن غرائب ابن مسعود أيضاً: أنه كان إذا صلى -وأنا أذكر هذا لا عيباً وإنما عبرة فقط- يطبق، والتطبيق عند الفقهاء والمحدثين هو أن يشبك بين كفيه ثم يدخلهما وهو راكع بين فخذيه، ولا يقبض بكفيه على ركبتيه كما هو السنة، وهذا ثابت وصحيح عن ابن مسعود أيضاً، ولا مجال لإنكار ذلك، ولم يأخذ المسلمون بهذا لماذا؟ لأن الله عز وجل قد ألهم غيره من الصحابة أن يحفظوا لنا السنة، بل وأن يبينوا لنا أن ابن مسعود في تطبيقه هذا إنما حفظ ما كان مشروعاً في الإسلام أولاً، فقد ثبت أن ابناً لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان في الكوفة حيث كان عبد الله بن مسعود ، فصلى بجانب عبد الله بن مسعود يوماً وقبض -كما نفعل نحن اليوم- بكفيه على ركبتيه، فما كان من حرص ابن مسعود على المحافظة على ما علمه من الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا أن أخذ بيدي الرجل - ابن سعد - في الصلاة، وطبقهما، ووضعهما بين فخذيه، وبعد الصلاة الظاهر أنه أفهمه أنه هكذا السنة، وهكذا رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل.
فلما رجع ابن سعد إلى أبيه في المدينة - سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة- قص عليه قصة ابن مسعود معه، فقال: صدق! -انظروا إلى الأدب واللطف- قال: صدق أخي عبد الله بن مسعود ! كنا نفعل ذلك ثم أمرنا بالأخذ بالركب.
فلا عيب في هذا إذ فاته شيء، لكنه حفظ أشياء وأشياء كثيرة، فهذا ما يحضرنا.
أما بالنسبة لـ أُبي بن كعب ، وأنه كان يكتب في مصحفة: اللهم إنا نستعينك فقد مر بي قديماً شيء من ذلك، لكن لا أحفظ إذا كانت الرواية عنه صحيحة أم لا، ولعله يتيسر لي المراجعة لذلك، وآتيكم بالجواب -إن شاء الله- في الدرس الآتي بإذن الله، وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.(40/8)
آداب الإسلام
إن الناظر إلى حال المسلمين اليوم، ليرى البون الشاسع والفرق الواضح بينهم وبين تعاليم دينهم وأخلاقهم وآدابهم الإسلامية؛ بل أصبحت هذه الآداب مجهولة علماً، ومتروكة عملاً.
وفي هذه المادة يذكر الشيخ رحمه الله ببعض الآداب الإسلامية التي تفيد القارئ، وغيرها من الفوائد مما ستجدونه في طيات هذه المادة.(41/1)
من آداب مجالس العلم: التجمع وعدم التفرق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يبدو أنه لا بد من التفكير ما بين آونة وأخرى في بعض السنن والآداب الإسلامية التي أصبحت مجهولة علماً، ومتروكةً عملاً، فقد كنا ذكرنا في أكثر من مرة في مثل هذه الجلسة أن لمجالس العلم آداباً.
ومن ذلك: أنه لا يصح التفرق في مجالس العلم، أن نجلس هكذا كيف ما اتفق، أو كيف ما راق لأحدنا، فهذا ليس من الأدب العلمي في شيء مطلقاً، هذه جلسات (المقاهي والنوادي)، يأتي الآتي، ولا يأتي إلى تلك المجالس إلا للترويح عن النفس -زعموا- أو للتسلية، أو نحو ذلك، فهو حرٌ يجلس أينما شاء وكيفما شاء، أما مجلس العلم فله آدابه، وقد ذكرت لكم أكثر من مرة حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه الذي يقول فيه: ( أنهم كانوا إذا سافروا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه ونزلوا منزلاً تفرقوا في الوديان والشعاب، فسافروا يوماً ونزلوا وادياً وتفرقوا كما كانوا يفعلون سابقاً ) وهذا التفرق يوحي بالمصلحة الذاتية والشخصية، حيث كل شخص منهم يختار المكان المناسب له الذي له ظل وارف مثلاً فتفرقوا كما كانت عادتهم، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: ( إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان ) أي: إنما تفرقكم هذا في الوديان والشعاب من عمل الشيطان.
قال أبو ثعلبة رضي الله عنه: ( فكنا بعد ذلك إذا نزلنا منزلاً اجتمعنا فيه، حتى لو جلسنا على بساطٍ لوسعنا ).
فأحق المجالس بالمحافظة على مثل هذا الأدب -أدب التجمع- هي مجالس العلم، ولا أريد أن أطيل؛ لأن الحصة التي خصصتها في هذا الدرس الذي بدأت باستئنافه بعد تركٍ له دام مدة طويلة، الوقت المحدد نصف ساعة فقط في درس الترغيب، لذلك لا أريد أن أطيل في توظيف السر والحكمة من هذا الاجتماع الذي يوحيه لنا هذا الحديث الصحيح، ولكني أجمل القول فأقول: إن الظاهر عنوان الباطن، ففي كل شيء يتفرق فيه المسلمون في ظواهرهم؛ كان لهذا التفرق تأثير سيء في باطنهم، فالظاهر مرتبط بالباطن أشد الارتباط، وعندنا أدلة كثيرة وكثيرة جداً، ولذلك سأقتصر الآن على هذه الإشارة السريعة هذا التفرق بدنياً يؤدي إلى التفرق قلبياً، هذه حقيقة شرعية، ولدينا أدلة على ذلك، وحسبنا الآن هذه الإشارة العابرة .(41/2)
المحافظة على ذكر الله لفظاً وعملاً
وهذا تذكير ببعض المسائل، ومنها ما يتعلق بكل فردٍ، ومنها ما يتعلق بجماعتهم، حينما يجلسون في بيتٍ من بيوت الله يتلقون العلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما المسألة الأولى: ينبغي أن يكون المسلم دائماً على ذكرٍ من ذكر الله عز وجل، وعلى ذكر من تعاليم الله عز وجل، فإن قوله تبارك وتعالى: { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [الأحزاب:41] مما يدخل فيه الذكر العملي وليس فقط الذكر اللفظي، الذكر العملي مثلاً: إنسان وهو يمشي في الطريق بادره البصاق، فأراد أن يلفظ هذه الفضلة من فمه، فهل يلفظها أمامه؟ فهنا ذكرٌ لله عز وجل قل من يذكره وهو قبل أن تلفظ ما في فمك يجب أن تستعبر هل أنت مستقبل للقبلة أم لا؟ فإن كنت مستقبلاً للقبلة فيجب ألا تبصق أمامك؛ احتراماً لجهة القبلة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( من بصق تجاه القبلة جاء يوم القيامة وبصقه بين عينيه )، وهذا من آداب المسلمين الأولين التي أصبحت نسياً منسياً في الآخرين، فلا تكاد ترى مسلماً يذكر هذا الأدب الإسلامي حتى ولو كان في المسجد، فكثيراً ما شاهدنا بعض الناس في المسجد الذي له نوافذ مطلة إلى جهة القبلة، يأتي فيبصق إلى الجهة التي قد صلى إليها، أو سرعان ما سيصلي إليها، فهذه غفلة عن ذكر الله، لكن هذا من الذكر الذي لا يعرفه -مع الأسف- أهل الذكر المبتدع الذين يرقصون في أذكارهم، ولم يعرفوا من ذكر الله إلا هذا النوع الذي لا أصل له في كتاب الله ولا في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وليس المقصود التذكير بهذه المسألة، وإنما أختها وهي ألصق بالمصلي من هذه، فإنه إذا كان لا يجوز للمسلم أن يبصق تجاه القبلة وهو يمشي، أو هو جالس ليس في صلاة، فمن باب أولى إذا كان في صلاة؛ لأنه يكون قائماً متوجهاً إلى الله عز وجل في صلاته بكل جوارحه، وهذه المسألة فيها أحاديث كثيرة لست الآن بصددها.(41/3)
الأسئلة(41/4)
حكم سب علماء الدين
السؤال
ما حكم الإسلام في سب الأئمة والعلماء أحياءً وأمواتاً؟
الجواب
قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تسبوا الأموات فقد أفضوا إلى ما قدموا )، أي: لا يجوز سب المسلم حتى لو كان مطعوناً في إسلامه؛ لأنه ليس هناك فائدة من هذا الطعن بعد أن انتقل إلى حكم الله عز وجل، فالأولى ألا يجوز سب المسلمين الصالحين، ثم أولى وأولى ألا يجوز سب الأئمة؛ لأنهم يجمعون إلى صلاحهم العلم وخدمة الدين، ونقل الأحاديث، والتوضيح، وتفصيل أحكام الشريعة، وغير ذلك مما هو معروف، وأنا أستغرب مثل هذا السؤال؛ لأننا لا نعتقد أن في المسلمين ولو في الدرجة السفلى من الإسلام من يسب علماء الإسلام! السائل: أحياناً يبين الإنسان خطأ العالم، لكن بعض العلماء قد يفهمونه سباً، وهذا ليس من السب في شيء.
الشيخ: إن كان هذا هو المقصود فبئس ما قصد؛ لأن تخطئة الإنسان لآخر هذا أمر واجب في الإسلام، والتخطئة لا تعني نقداً ولا طعناً، فضلاً عن أن تعني شتماً وسباً، وإنما بيان الحق؛ ولذلك قال عليه السلام في الحديث الصحيح في صحيح البخاري : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد )، من الذي يخطر في باله أن الرسول قد يقول عن قاضٍ أو حاكمٍ ما: أنه أخطأ أنه ينال منه ويسبه ويجعل له أجراً واحداً؟ كذلك في قصة رواها البخاري -أيضاً- في تأويل رؤيا فسرها أبو بكر بين يدي الرسول عليه السلام، فقال له عليه السلام: ( أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً ) فهل يخطر في بال الإنسان أن يقول: بأن الرسول سب صاحبه في الغار أبا بكر الصديق ، حينما قال له: أخطأت بعضاً؟ لكن هذا من تأخر المسلمين في ثقافتهم الإسلامية، وابتعادهم عن اللغة الشرعية، والحقيقة أن المتأخرين حتى من الفقهاء، أو لعل الأصح أن نقول: المتفقهين يتحاشون مثل هذه العبارة؛ لأنهم هم أنفسهم قد انقلبت عليهم هذه الحقيقة، فهم قد يتصورون والعامة تبعاً لهم في ذلك، أنه إذا قيل: أخطأ فلان، فهذا طعن ولمز في هذا المخطئ، والأمر -كما سمعتم- ليس كذلك، وهذا أمر لا يحتاج إلى كبير بيان، فحسبنا هذا القدر.(41/5)
من منهج الخوارج
العلماء دائماً هم حرز الأمة، وإليهم يلجأ المسلمون فيما يحدث ويستجد من أحداث؛ لمعرفة الحكم الشرعي، والاسترشاد بقولهم في النوازل العظيمة.
وعلماء الحديث لهم الصدارة في ذلك؛ لصفاء منهلهم ورسوخهم في العلم.
وفي هذه المادة يجيب الشيخ رحمه الله عن أسئلة وردت عن الأحداث الدامية في الجزائر إذ قد أصبحت تغلي بالحرب والمجازر، وركزت الأسئلة على جانب مهم وهو التكفير، والخروج على الحكام، وخصائص جماعة التكفير.(42/1)
حديث حول الأحداث في الجزائر
السؤال
شيخنا! فيما يخص الوضع في الجزائر ، في هذا الفترة الأخيرة! خاصة ما يحدث من كوارث وفتن، وحيث صار الأمر إلى استخدام المتفجرات التي تودي بحياة العشرات من الناس؛ أكثرهم من الأبرياء، وفيهم نساء، وأطفال، ومن تعلمون، وقد سمعنا من بعض الناس الكبار أنهم ينددون بسكوت أهل العلم والمفتين من المشايخ الكبار، وعدم إنكارهم مثل هذه التصرفات الغير إسلامية قطعاً، ونحن أخبرناهم برأي أهل العلم ورأيكم في المسألة، ولكنهم ردوا بالجهل بما تقولونه، وعدم وجود الأشرطة المنتشرة لبيان الحق في المسألة، ولهذا نحن طرحنا السؤال بهذا الأسلوب الصريح حتى نكون على بينة من رأيكم ورأي من تنقلون عنهم، فبينوا الحق في القضية، وكيف يعرف الحق فيها عند كل مسلم؟ وهل الشيخ يسمع ما يدور من أحداث، أو يسمح لنا أن نبين له؟ الشيخ: لا يوجد داعٍ لذلك.
الجواب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أنت جزاك الله خيراً أشرت بأننا كنا تكلمنا في هذه المسألة، وذكرت بأنهم يردون بجهل وبغير علم، فإذا كان الكلام يصدر ممن يُظَنُّ فيه العلم، ثم يقابل ممن لا علم عندهم بالرفض والرد فما فائدة الكلام حينئذٍ؟؟ لكن نحن نجيب لمن قد يكون عنده شبهة بأن هذا الذي يفعلونه أمر جائزٌ شرعاً، وليس لإقناع ذوي الأهواء وأهل الجهل، وإنما لإقناع الذين قد يترددون في قبول أن هذا الذي يفعله هؤلاء المعتدون هو أمر غير مشروع.(42/2)
أهمية تصحيح القاعدة على الكتاب والسنة
لا بد لي قبل الدخول بشيء من التفصيل من أن أذكِّر -والذكرى تنفع المؤمنين- بقول أهل العلم: ما بني على فاسد فهو فاسد، فالصلاة التي تبني على غير طهارة -مثلاً- ليست بصلاة، لماذا؟ لأنها لم تقم على أساس الشرط الذي نص عليه الشارع الحكيم في نص قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( لا صلاة لمن لا وضوء له ) فمهما صلى المصلي بدون وضوء فلا تصح؛ لأن ما بني على فاسد فهو فاسد، والأمثلة في الشريعة من هذا القبيل شيء كثير وكثير جداً.
فنحن نذكر دائماً وأبداً أن الخروج على الحكام -ولو كانوا من المقطوع بكفرهم- ليس مشروعاً إطلاقاً؛ ذلك لأن هذا الخروج -إن كان ولا بد- ينبغي أن يكون خروجاً قائماً على الشرع، كالصلاة التي قلنا آنفاً أنها ينبغي أن تكون قائمة على الطهارة وهو الوضوء.
ونحن نحتج في مثل هذه المسألة بمثل قوله تبارك وتعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب:21] إن الدور الذي يمر به المسلمون اليوم من تحكم بعض الحكام، وعلى افتراض أن كفرهم كفر جليٌ واضح ككفر المشركين تماماً، إذا افترضنا هذه الفرضية فنقول: إن الوضع الذي يعيشه المسلمون بأن يكونوا محكومين من هؤلاء الحكام، ولنقل: الكفار؛ مجاراة لـ جماعة التكفير لفظاً لا معنى؛ لأن لنا في ذلك التفصيل المعروف فنقول: إن الحياة التي يحياها المسلمون اليوم تحت حكم هؤلاء الحكام، لا تخرج عن الحياة التي كان يحياها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه الكرام فيما يسمى في عرف أهل العلم بالعصر المكي لقد عاش عليه الصلاة والسلام تحت حكم الطواغيت الكافرة المشركة، والتي كانت تأبى صراحة أن تستجيب لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن يقولوا كلمة الحق: لا إله إلا الله، حتى إن عمه أبا طالب وهو في آخر رمق من حياته قال له: ( لولا أن تعيرني بها قومي لأقررت بها عينك ).
أولئك الكفار الصريحون في كفرهم، المعاندون لدعوة نبيهم، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعيش تحت حكمهم ونظامهم، ولم يتكلم معهم إلا أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وجاء العهد المدني، وتتابعت الأحكام الشرعية، وبدأ القتال بين المسلمين وبين المشركين، كما هو معروف في السيرة النبوية أما في العهد الأول العهد المكي فلم يكن هناك خروج، كما يفعل اليوم كثير من المسلمين في غير ما بلد إسلامي، فهذا الخروج ليس على هدي الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أمرنا بالاقتداء به، وبخاصة في الآية السابقة: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب:21] .
الآن -كما نسمع- في الجزائر طائفتان، وأنا أَهْتَبِلُها فرصة إذا كنت أنت أو أحد الحاضرين على بينة من الإجابة عن السؤال التالي، أقول: أنا أسمع وأقرأ بأن هناك طائفتين أو أكثر من المسلمين الذين يعادون الحكام هنالك؛ مثلاً جماعة جبهة الإنقاذ ، وأظن أن هناك جماعة تكفير.
مداخلة: جيش الإنقاذ قوات مسلحة غير الجبهة.
الشيخ: أليس له علاقة بالجبهة؟ الرجل: انفصل عنها، وهو متشدد.
الشيخ: إذاً: هذه مصيبة أكبر! وأنا أردت أن أستوثق من وجود أكثر من جماعة مسلمة، ولكلٍ منها سبيلها ومنهجها في الخروج على الحاكم.
ترى لو قضي على هذا الحاكم وانتصرت طائفة من هذه الطوائف التي تعلن إسلامها ومحاربتها للحاكم الكافر بزعمهم، ترى هل ستتفق هاتان الطائفتان فضلاً عما إذا كانت هناك طائفة أخرى، ويقيمون حكم الإسلام الذي يقاتلون من أجله؟ سيقع الخلاف بينهم! الشاهد الآن موجود مع الأسف الشديد في أفغانستان ، يوم قامت أن الحرب في أفغانستان كانت فعلاً في سبيل الإسلام والقضاء على الشيوعية ، فما كادوا يقضون على الشيوعية -والأحزاب كانت قائمة وموجودة أثناء القتال- إلا وينقلب بعضهم عدواً لبعض.
فإذاً: كل من خالف هدي الرسول عليه الصلاة والسلام فلن يكون عاقبة أمره إلا خسراً.(42/3)
(التصفية والتربية) هي القاعدة الصحيحة للتغيير
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الحكم الإسلامي، وتأسيس الأرض الإسلامية الصالحة لإقامة حكم الإسلام عليها إنما يكون بالدعوة أولاً دعوة التوحيد، ثم تربية المسلمين على أساس الكتاب والسنة.
وحينما نقول -إشارة إلى هذا الأصل الهام بكلمتين مختصرتين-: لا بد من التصفية والتربية.
بطبيعة الحال لا نعني بهما أن تصير هذه الملايين المملينة من هؤلاء المسلمين أمة واحدة، وإنما نريد أن نقول: إن من يريد أن يعمل للإسلام حقاً، وأن يتخذ الوسائل التي تمهد له إقامة حكم الله في الأرض؛ لابد أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكماً وأسلوباً.
بهذا نحن نقول: إنه ما يقع؛ سواءً في الجزائر أو في مصر ، هذا خلاف الإسلام؛ لأن الإسلام يأمر بالتصفية والتربية.
أقول: (التصفية والتربية) لسبب يعرفه أهل العلم نحن اليوم في القرن الخامس عشر ورثنا هذا الإسلام كما جاءنا طيلة هذه القرون الطويلة، لم نرث الإسلام كما أنزله الله على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، لذلك فالإسلام الذي آتى أكله وثماره في أول أمره، هو الذي سيؤتي أيضاً أكله وثماره في آخر أمره، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( أمتي كالمطر لا يدرى الخير في أوله أم في آخره ) فإذا أرادت الأمة المسلمة أن تكون حياتها على هذا الخير الذي أشار إليه الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث المذكور آنفاً، وفي الحديث الآخر، والذي هو منه أشهر: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ).
أقول: لا نريد بهاتين الكلمتين أن تصبح الملايين المملينة من المسلمين قد تبنوا الإسلام مصفىً، وربوا أنفسهم على هذا الإسلام المصفى، لكننا نريد لهؤلاء الذين يهتمون بشئون المسلمين حقاً: أولاً: تربية نفوسهم، ثم تربية ذويهم، ثم ثم فيصل الأمر إلى هذا الحاكم الذي لا يمكن تعديله أو إصلاحه أو القضاء عليه إلا بهذا التسلسل الشرعي المنطقي.
بهذا نحن كنا نجيب بأن هذه الثورات، وهذه الانقلابات التي تقام، حتى الجهاد الأفغاني كنا غير مؤيدين له، أو غير مستبشرين بعواقب أمره حينما وجدناهم خمسة أحزاب، والآن الذي يحكم والذي قاموا ضده معروف بأنه من رجال الصوفية -مثلاً-، فالقصد أن من أدلة القرآن الكريم أن الاختلاف ضعف، حيث أن الله عز وجل ذكر من أسباب الفشل هو التنازع والاختلاف: { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم:31-32] إذاً: إذا كان المسلمون أنفسهم شيعاً لا يمكن أن ينتصروا؛ لأن هذا التشيع وهذا التفرق إنما هو دليل الضعف.
إذاً: على الطائفة المنصورة التي تريد أن تقيم دولة الإسلام بحق، أن تتمثل بكلمة أعتبرها من حِكَمِ العصر الحاضر، قالها أحد الدعاة -ولكن أتباعه لا يتابعونه- ألا وهي قوله: (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم؛ تقم لكم على أرضكم).
فنحن نشاهد، لا أقول: الجماعات التي تقوم بهذه الثورات؛ بل أستطيع أن أقول: نشاهد كثيراً من رءوس هذه الجماعات لم يطبقوا هذه الحكمة التي تعني ما نقوله نحن بتلك اللفظتين: (التصفية والتربية)، إذ لم يقوموا بعدُ بتصفية الإسلام مما دخل فيه، مما لا يجوز أن ينسب إلى الإسلام في العقيدة، أو في العبادة، أو في السلوك، لم يحققوا هذا، أي: تصفية نفوسهم؛ فضلاً عن أن يحققوا التربية في ذويهم، فمن أين لهم أن يحققوا التصفية والتربية في الجماعة التي هم يقودونها ويثورون معها على هؤلاء الحكام؟! أقول: إذا عرفنا -بشيء من التفصيل- تلك الكلمة وهي (ما بني على فاسد فهو فاسد) فجوابنا واضح جداً أن ما يقع في الجزائر وفي مصر وغيرها هو: أولاً: سابق لأوانه.
ثانياً: مخالف لأحكام الشريعة غايةً وأسلوباً.
لكن لابد من شيء من التفصيل فيما جاء في السؤال.(42/4)
حكم الاعتداء على الأبرياء بالقتل
نحن نعلم أن الشارع الحكيم بما فيه من عدالة وحكمة، نهى الغزاة المسلمين الأولين أن يتعرضوا في غزوهم للنساء، فنهى عن قتل النساء، وعن قتل الصبيان -الأطفال-، بل ونهى عن قتل الرهبان المنطوين على أنفسهم بعبادة ربهم -زعموا- وهم على شرك وعلى ضلال؛ نهى الشارع الحكيم قواد المسلمين أن يتعرضوا لهؤلاء، تطبيقاً لأصلٍ من أصول الإسلام، ألا وهو قوله تبارك وتعالى في القرآن: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم:36-39] فهؤلاء الأطفال وهؤلاء النسوة، والرجال الذين ليسوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، قتلهم لا يجوز شرعاً.
وقد جاء في بعض الأحاديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى ناساً مجتمعين على شيء، فسأل، فقالوا: هذه امرأة قتيلة، قال عليه الصلاة والسلام: ما كانت هذه لتقاتل ) وهنا نأخذ حكمين متقابلين: أحدهما: سبقت الإشارة إليه، ألا وهو أنه لا يجوز قتل النساء لأنها لا تقاتل.
الحكم الآخر: إذا وجدنا بعض النسوة يقاتلن المسلمين في جيش المحاربين أو الخارجين، حينئذٍ يجوز للمسلمين أن يقتلوا هذه المرأة التي شاركت في القتال.
فإذا كان السؤال بأن هؤلاء إنما يفخخون -كما يقولون- بعض السيارات، ويفجرونها، فتصيب بشظاياها من ليس عليه المسئولية إطلاقاً في أحكام الشرع، فما يكون هذا من الإسلام في شيء إطلاقاً.
لكني أقول: إن هذه جزئية من كلية أخطر وهي الخروج الذي مضى عليه بضع سنين، ولا يزداد الأمر إلا سوءاً، بهذا نحن نقول: إنما الأعمال بالخواتيم، والخاتمة لا تكون حسنة إلا إذا كانت قائمة على الإسلام، فما بني على خلاف الإسلام فسوف لا يثمر إلا الخراب والدمار.(42/5)
حول لقاء الشيخ الألباني بعلي بلحاج
السؤال
بالنسبة للشريط الذي سجل فيه لقاؤكم مع الشيخ علي بلحاج ، فإنه لا يعلم عنه شيء في الوقت الحاضر، فيما علمتموه من العهد الذي أخذه الشيخ علي بلحاج في عدم إخراجه للناس، وقد تردد على ألسنة الكثير من الجزائريين التساؤل عما في هذا الشريط، وضرورة إخراجه للناس والأمة حتى يُعرف الحق الذي فيه، وخاصة أنه أمر متعلق بحق وباطل، ومصير شعب وأمة بأكملها، ولقد كلَّمنا الشيخ أبا ليلى عن إخراج الشريط فعلق الأمر بكم، أي: بشيخنا محمد ناصر الدين الألباني ، وبالشيخ أبي مالك محمد إبراهيم شقرة ، أما الشيخ أبو مالك فقد أخبرناه بذلك فأبدى القبول والرضا، وقال عن العهد المذكور: إنه باطل، وفيه كتم للحق، وبقي قولكم، فهل أنت موافق على إخراج الشريط للناس؟
الجواب
أنا قد أوافق وقد لا أوافق، لأني لست مستحضراً ما فيه من المسائل، فهل هو موجود عندك؟ السائل: هل تذكر أن الرجل رفض التسجيل، وجلست أكثر من ربع ساعة في إلحاح بيني وبينه أمامكم؟ أخيراً: أنتَ قلتَ له: لماذا لا تريد أن تسجل؟ قال: أنا لا أحب الشهرة وكذا، وفي النهاية قال له الشيخ أبو مالك : لا يخرج الشريط إلا بإذنك، وهذا الكلام مُسَجَّل، فسألتكم مرة أنا، وقلت: نجلس أنا والشيخ أبو مالك وإياكم حتى نتباحث في هذا الموضوع.
الشيخ: هل يذكر أبو مالك هذا الكلام؟ وعلى كل حال إن العهد كان مسئولاً.
السائل: كثير من الشعب من هؤلاء الخارجين متبعون لـ علي بلحاج ، ويجعلونه كأنه الشيخ المتبع وقوله هو النافذ.
الشيخ: لكن لو لم يكن مثل هذا العهد كنا نقول فوراً بوجوب الإخراج.
السائل: مع أن الأمر يا شيخ! متعلق بالأمة، والشيخ أبو مالك سألناه فقال: هذا عهد باطل، وقال: فيه كتمٌ للحق.
الشيخ: سألتك آنفاً: هل يتذكر أبو مالك هذه الكلمة التي قالها؟ السائل: أبو مالك حضر الجلسة، لأنني ما سمعت الشريط أنا ولا أحد.
الشيخ: على كل حال ينبغي أن نتدارس الموضوع إن شاء الله.
السائل: لا تنسوا يا شيخ! الشيخ: أيوجد أحد لا يتذكر مثل هذا؟!(42/6)
حوار حول منهج الخوارج
السؤال
كما قد سئلت من قبل وما زلت تسأل عن خوارج يسمون بخوارج السيف، أو من يدعون إلى مثل هذه الكلمة، وقد جلت وصلت في أناس كتبوا في منهج الخوارج ؛ منهجا، فوجدت من بعد استقراء هذا المنهج أنه على منوال خوارج أهل القرون الأولى كما بدا لي، ورتبت كلاماً لعلي أن أقتصر على الفائدة منه إن شاء الله كالآتي: خوارج العصر ينقلون عن السلف أقوالاً مبتورة مقطوعة ليس لها معنى ذا وحدة موضوعية، فإن أخذ الناقل منهم عن أحدهم أخذ الأول من كلامه دون التالي أو التالي دون الأول.
التقول عليهم بما لم يقولوا، وتحميلهم معاني لكلامهم لم يعنوها، وتقصيدهم ما لم يقصدوه في أقوالهم، أمينهم ينقل معتمداً أقوال السلف اعتضاداً بها ليس اعتماداً عليها! بحيث أن الإجمال سِمَتُهَا، وعدم الإيضاح في فكرتها واضح، وهذه الطريقة الوحيدة المعتضدة عندهم في منهجهم وإعلانه وإشهاره.
الموضوع الذي أحببت أن أظهره أمامك: أن الخروج عن منهج السلف كان بما كتبته هنا، أن من مات مقراً بالتوحيد ولم يعمل بمقتضاه، وأول مقتضى التوحيد هو الصلاة؛ فإنه منافق لم ينفعه هذا الإقرار.
الشيخ: هذا كلام من؟ السائل: هذا كلام خوارج العصر.
النقطة الثانية: أن أصل الإيمان ابتداءً هو الإقرار والتصديق، فمن لم يأت بمقتضاه نُقض هذا الأصل الذي زعمه صاحبه، وأن من شابه الكافر بفعلته أو بفعله أو بقوله وإن كان ملياً مهما كان متأولاً، ولو كان تأوله غير سائغ، فإنه بمشابهته يكفر بهذا القول أو الفعل.
كذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نصوصاً أو من كتاب الله مبتورة لا يفهم لها منهج، يتخذه أو اتخذه صاحبه دليلاً يُفْهِم القارئ أو السامع له أنه صاحب حجة.
وكذلك في مسألة العذر بالجهل، أن من كان معذوراً بالجهل هو الذي لم تصله الحجة، سواءً كانت عقلية، أو نقلية، أنا سأورد واحدة .
مداخلة: هذا كله يعرفه شيخنا.
الشيخ: أنت قلت عندك سؤال! وهذه محاضرة! والجلسة لا تتحمل محاضرة، فما سؤالك؟(42/7)
منزلة العمل من الإيمان
السؤال
هل صحيح أن من مات على التوحيد وإن لم يعمل بمقتضاه -وأول مقتضى التوحيد إقامة الصلاة- يكفر ويخلد مع الخالد الكافر في نار جهنم أم لا؟
الجواب
السلف فرقوا بين الإيمان وبين العمل، فجعلوا العمل شرط كمال في الإيمان، ولم يجعلوه شرط صحة؛ خلافاً للخوراج ، واضح هذا الجواب؟ السؤال: ما قولكم في تأويلهم لقوله صلى الله عليه وسلم أن كلمة (لم يعمل خيراً قط) ليست على ظاهرها؟ الشيخ: ولماذا؟ السائل: لأنها جاءت من باب إفهام القارئ أنها من جملة نفي كمال العمل لا جنسه.
الشيخ: نطيل السؤال فنقول: ما الدليل؟ السائل: الدليل من قوله صلى الله عليه وسلم: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ).
الشيخ: هل الكفر حينما يطلق يراد به الكفر المقارن للردة؟ السائل: لا.
وهم يقولون: لا، لكن الصلاة الشيخ: إذا قالوا: لا، فما هو الحد الفاصل بين كفرٍ في نص ما فيقال: إنه كفر ردة، وفي نص آخر: ليس بكفر ردة، وكل من الأمرين المذكورين في النصين عمل، ما الفرق بين هذا وهذا؟ السائل: التفريق كثير جداً يطول تفصيله عندهم بتأويلات منها: أن من ترك جزء العمل ليس كمن ترك كل العمل، أو أن من شابه ببعض أعمال الكافرين، ليس كمن يشابه بعض أفعالهم التي نص عليها الشرع أنها كفر تخرج عن الملة.
الشيخ: هل أجبت عن السؤال؟ السائل: هذا جوابهم.
الشيخ: لا.
ما أريد جوابهم.
هل أنت شعرت بأن هذا الذي تقول أنه جوابهم هو جواب سؤالي؟ السائل: لا.
الشيخ: إذاً: ما الفائدة يا أخي؟! أنا أريد أن ينتبه إخواننا الطلاب أنه ليس بمجرد الدعوى تثبت القضية، أنا أقول: ما الفرق بين كفر يُذكر في مثل هذا الحديث وبين كفر يُذكر في حديث آخر، وكل من الأمرين الذي أنيط به الكفر في كل من النصين هو عملي؟ أي: الجامع هو العمل، فلماذا هذا العمل كفر ردة وذاك العمل ليس كفر ردة؟ مثلاً قال عليه الصلاة والسلام: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) هل هذا كفر ردة أم دون ذلك؟ كذلك -مثلاً- قوله عليه الصلاة والسلام، والأحاديث في هذا الصدد كثيرة جداً: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) ما هو الفارق بين الكفر في حديث الصلاة والكفر في حديث القتال؟ لا بد أن يكون هناك دليل يعتمد عليه الذي يفرق.
قول أهل السنة والجماعة الذين نقلنا عنهم آنفاً: أن العمل ليس شرط صحةٍ وإنما هو شرط كمال، ولا يفرقون بين عمل وعمل آخر، بشرط أن يكون المؤمن قد آمن بذلك الحكم الذي تساهل في القيام به والعمل به، وما نقلتَه عنهم آنفاً في معنى (لم يعمل خيراً قط) تأويل، وإذا صح التأويل في نص كهذا يمكن أن يصح التأويل في نصهم أيضاً، وأنا أريد الآن أن ألفت النظر بأن هؤلاء الذين يأتون بمفاهيم جديدة تدندن حول تكفير المسلمين؛ بسبب إهمالهم في القيام بعملٍ أَمَرَ الشارع الحكيم به، هؤلاء ينبغي ألا يأتوا بشيء نابع من أهوائهم، أو لِنَقُلْ: من جهلهم، بل لِنَقُلْ: من علمهم؛ لأن علمهم مهما كان صحيحاً ودقيقاً فهو لا يساوي علم السلف .(42/8)
وجوب التزام فهم السلف
هنا لا بد من أن نذكر بما أذكره دائماً وأبداً حول قوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:115] هؤلاء يتبعون غير سبيل المؤمنين، هؤلاء لا يقيمون وزناً لهذا المقطع من هذه الآية الكريمة، وسواءً آمنوا بهذا المقطع ومعناه أو لم يؤمنوا به، لا فرق عندهم بين أن تكون الآية: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى) -لو كانت الآية هكذا- وبين ما هي عليه: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } .
فنحن نسألهم: هذه التآويل وهذه التفاسير التي تأتون بها من حيث اللغة العربية الأمر واسع جداً، ولا يستطيع أحد أبداً أن يوقف باب التأويل أمام الناس، وبخاصة إذا كانوا من أهل الأهواء، إذاً: ما هو الأمر الفاصل القاطع في الموضوع؟ هو الرجوع إلى ما كان عليه السلف ، هؤلاء كما أنهم لا يؤمنون بمعنى هذا الجزء من الآية: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } هم -أيضاً، وأنا على مثل اليقين- لا يؤمنون بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) لا يؤمنون بمثل قوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل عن الفرقة الناجية فقال: ( هي الجماعة )؛ لأنهم خرجوا عن الجماعة، وفي الرواية الأخرى: ( هي ما أنا عليه وأصحابي ) لا يقيمون وزناً إطلاقاً لما كان عليه السلف الصالح ،هذا يكفينا في بيان خروجهم عن مفاهيم السلف الصالح ، وبالتالي خروجهم عن الفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة.
كأن عندك شيئاً؟ السائل: عندي جواب على سؤال الشيخ من وجهة نظرهم هم، أذكره؟ الشيخ: تفضل.
السائل: ينقلون ويتكئون على كلمة لـ شيخ الإسلام رحمه الله في الاقتضاء يقول فيها: إن لفظة (كفر) إذا جاءت منكَّرة تدل على أنها كفر عملي، أما إذا جاءت معرفة بـ(ال) ومصدراً فإنها تدل على الكفر الاعتقادي، كما في الحديث ( بينه وبين الكفر ترك الصلاة ) فلم يقل: كفراً أو كفر، وإنما قال: الكفر، فهذا هو الكفر الاعتقادي.
الشيخ: المسألة هنا تكون فرعية، والموضوع ليس فرعياً وإنما هو أصل، فنحن نعلم أن بعض الحنابلة لا يزالون إلى اليوم يفتون بأن ترك الصلاة كفر وردة، لكنهم ليسوا خوارج ، ولا يتبنون الخط الذي يمشي عليه الخوارج ، فلو سلمنا لهم جدلاً بمثل هذا الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وغضضنا النظر عن النصوص الأخرى التي نذكرها خاصة في رسالة الصلاة التي تعرضها، فإذا صرفنا النظر عن هذه المسألة بالذات لأن الأدلة فيها متقابلة متشابهة، لكن المهم أنهم إذا وفقوا للصواب في تكفير تارك الصلاة، فذلك لا يعني تكفير المؤمن في أي عمل فرض عليه لا يقوم به، ههنا المعنى أن القاعدة سليمة، لكن لكل قاعدة شواذ، كما هو مذهب الحنابلة مثلاً، هم لا يقولون بصحة مذهب الخوارج ، بل هم ضد هذا المذهب، لكنهم التقوا مع هؤلاء، أو بعبارة أصح: هؤلاء التقوا مع الحنابلة في القول بتكفير تارك الصلاة، لكنهم خرجوا عن الحنابلة وعن الشافعية والمالكية والحنفية، وعن جماهير المسلمين في قولهم بتكفير التارك للعمل، كما قلتَ أنت: إن الإيمان لا يكفي -نقلاً عنهم- إنما لا يصح إلا بمقتضاه وهو العمل، بينما الأحاديث التي تعرفونها جيداً والتي هي من بعض أجزاء أحاديث الشفاعة، أن الله عز وجل يأمر أن يخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، هذا الإيمان هو الذي ينجي من الخلود في النار، وهذا هو من معاني قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء:48] .
السائل: بعد إذنك؛ أعطيك مثالاً على بتر هذا النص، أعني: حديث الشفاعة الطويل سئل أحدهم سؤالاً فقال: والدليل على أن العمل لازم للإيمان أن آخر فوج يخرج من النار يعرفون بآثار السجود، فعجبت منه أين بقية النص: ( ثم يقول الجبار: قد شَفَّعْتُ الملائكة والنبيين .
إلى قوله: فيخرج من النار -برواية مسلم - أقوامٌ لم يعملوا خيراً قط قد امتحشوا فيدخلهم الجنة فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجبار بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ) فأجاب بهذا الجواب، ولاحظ أنه وقف عند آثار السجود ولم يكمل.
الشيخ: كيف؟ بعدما سمع الجواب؟ معناه كفر بهذا النص.
السائل: هذا مثال والأمثلة كثيرة.(42/9)
الضابط في كفر المتأوِّل
السؤال الثاني: ما ضابط كفر المتأول الذي يقول أو يفعل فعل الكافر أو قوله؟
الجواب
الضابط بين البشر مأخوذ، لكن الله يعلم ما في القلوب، علماء السلف -كما تعلمون- يضلِّلون المرجئة ، ويضللون المعتزلة لكنهم لا يكفرونهم، أما عن صحة هذه الرواية من حيث السند، فلم يتح لي الوقوف على السند لكن المعنى صحيح، بمعنى: أنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه؛ لأننا نعلم أن المؤاخذة هي كالإيمان، فمن آمن هكذا دون قصد لا يحكم بإيمانه، ومن كفر دون قصد للكفر فلا يحكم بكفره ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) وهناك أحاديث كثيرة وكثيرة جداً، ومنها ما له صلة بما نقلتَ -آنفاً- عنهم من الغلو من قولهم أن من فَعَل فِعْل الكفار فهو كافر سبحان الله! ما هو الدليل؟ سيعودون إلى الدعوى التي لا أصل لها، وهي أن الإيمان يستلزم العمل، نحن نقول: الإيمان الكامل يستلزم العمل، لكن ليس شرطاً في كل إيمان، حتى ولو كان ذرة تنجيه من الخلود يوم القيامة في النار.
ومن تلك الأقوال والأحاديث التي تبطل دعواهم: الحديث الذي رواه الإمام أحمد و الترمذي وغيرهما: ( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه في مسيرٍ لهم مروا بشجرة ذات أنواط، فقال بعض أصحابه: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! هذه السنن؛ لقد قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ).
إذاً: مجرد القول بكلمة الكفر لا يستلزم أن يكون قائله كافراً فعلاً.
وتعلمون قصة عمار بن ياسر ونزول قوله تعالى: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } [النحل:106] .
كذلك الرجل الذي أشرتَ إلى حديثه آنفاً، حيث جاء في حديثه: ( كان فيمن قبلكم رجل لم يعمل خيراً قط، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه حوله فقال لهم: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أبٍ، قال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباًَ شديداً، فإذا أنا مت فحرقوني بالنار، ثم ذروا نصفي في البر ونصفي في البحر في يوم عاصف، فلما مات فعلوا ونفذوا وصيته، فقال الله عز وجل لذراته: كوني فلاناً فكان، فقال الله عز وجل: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، قال: اذهب فقد غفرت لك ) فلو كان قول الكفر كفراً فالكفر لا يغتفر بنص الآية، لكنه ليس كفراً لأنه لم يقصد الكفر، إذاً: هذا من أدلة ضلال هؤلاء، وأنهم: { يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } [آل عمران:7].(42/10)
القول في كفر الاستحلال
السؤال
هل يلزم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل فلان لارتكابه محرماً ما، بأنه قد استحله فأمر بقتله، أي: هل يلزم إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل فلان لأنه اقترف ذنباً، أن يكون بمجرد اقترافه له مستحلاً، فيكون بهذا الاستحلال كافراً؟
الجواب
هذه من كذباتهم أيضاً، وحديث التي زنت وقال عليه الصلاة والسلام في حقها: ( لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم )، مع أنه أقام الحد عليها، فهذا من أكاذيبهم أيضاً، ومن إعراضهم عن كثير من النصوص التي تخالف أهواءهم، ولذلك ما أرى -يا أخي- فائدة من ذكر شبهات هؤلاء الضلال؛ لأن هذا باب لا ينتهي.
السائل: أَذكرُ الحديث -يا شيخ- عن البراء بن عازب قال: ( لقيت عمي أبا بردة بن نيار معه لواء، فقلت: أي عم! أين تريد؟ قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أذهب إلى رجل تزوج بامرأة أبيه فأقتله ).
الشيخ: حسناً؛ ماذا في هذا؟ السائل: إن هذا النص دليل على أن من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله لارتكابه هذا المحظور، لزم من هذا أنه استحل ذلك الشيخ: يا أخي! فهمت قصدك، لكن ما الدليل على هذا؟ السائل: أنه تزوج زوجة أبيه؛ وهذا استحلال.
الشيخ: يا أخي! ما اختلفنا، الذي يقتل النفس المؤمنة أليس استحلالاً؟ السائل: نعم.
الشيخ: فهل هو كافر؟ السائل: ليس بكافر.
الشيخ: ما هو الفرق بين هذا وذاك؟ كما قلت لك آنفاً: ما هو الفرق بين كفر في عمل وكفر في عمل؟ السائل: لا فارق.
الشيخ: وهذا من هذا -يا أخي- فيمكن أن يضع الإنسان احتمالات في نصوص الكتاب والسنة، فإن النصارى -ولعلكم تعرفون ذلك- يحتجون ببعض نصوص القرآن على تثليثهم وعلى كفرهم، الأهواء لا يمكن وضع حدود لها، إلا أن نتبع السلف الصالح تماماً، وهذا هو الحكم الفصل بيننا وبينهم، وإلا سيأتونك بكل دليل ويضعون له تأويلاً حتى يتطابق مع أهوائهم، ولذلك قلت لك: هذا باب لا ينتهي.
مداخلة: يبدو أن شيخنا يقصد أن أفراد الشبهات لا تنتهي، فينبغي أن تكون الأسئلة عن أصول كاملة، بمعنى أن كل الكلام الذي تفضلت بالحديث عنه يدل على قضية تحريفهم واستدلالهم وترك أصل الإيمان وما شابهه، فإذا كان هناك أصل آخر دون الإكثار من أمثلتهم فهو أجدر بالبحث.
الشيخ: بلا شك.(42/11)
ضابط الجهل الذي يمنع وقوع الكفر على فاعله
السؤال
هل مَن تأول عن تقصير ولم يقصد قلنا بأنه لا يكفر؟ الشيخ: نعم؛ لكنه يؤاخذ.
السائل: الجاهل الذي يقصد بجهله الكفر، هذا أظن أنه لا يعذر بجهله، أليس كذلك؟ الشيخ: نعم، لكن ظنك سابقٌ لأوانه إلا بعد أن تتأمل في الكفر الذي قصده هذا الجاهل، هل هو يعلم أنه كفر شرعاً؟ السائل: يعلم نعم.
الشيخ: بهذا القيد ممكن، أما بدون القيد فلا يكفر، وحينئذٍ لا فرق بينه وبين من يكفر بعلم.
إذاً: يكون سؤالك -ولا مؤاخذة- شكلي محض؛ لأنه إن كان يعلم أن هذا العمل كفرٌ شرعاً فهو والعالم سواء، ولذلك أنا خشيت أن تطلق عليه الكفر وهو يجهل، مع أنه قصد هذا الكفر لكنه يجهل أنه كفرٌ شرعاً، فحينئذٍ نقول: هذا لا يكفر، لكن إذا كان عالماً فلا فرق إذاً بينه وقد وصفته بأنه جاهل، وبين غيره وقد وصفته بأنه عالم؛ لأنهما اشتركا كلاهما في معرفة أن هذا العمل كفرٌ شرعاً، فإذاً لا عذر لهذا.(42/12)
الرد على من لا يعتمد فهم السلف
السؤال
ما الرد على من يتأول قوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:115] فسيقول: سبيل المؤمنين هو الكتاب والسنة؟!
الجواب
هذا ما أشرت إليه آنفاً رجع الأمر إلى أنه لا فرق بين واقع الآية وبين ما لو كانت: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى).
هذا لغو يترفع الكلام الإلهي عن أن ينسب إليه، ليس في القرآن كلمة فضلاً عن جملة -كهذه الآية ( ويتبع غير سبيل المؤمنين )- إلا وضعت لقصدٍ وغاية عظيمةٍ جداً.
وهذا من جملة التآويل التي لا تنتهي، ولنسمها بالاسم الصحيح: من جملة التعطيل الذي يوصف به المعطلة في الصفات، ثم ماذا يقولون فيما إذا فعل بعض الصحابة فعلاً؟ انظر الآن كيف ينكشف ضلال هؤلاء من جوانب عديدة وكثيرة جداً جداً، ماذا يقولون فيما إذا جاء عن بعض الصحابة قولٌ أو فعل أو فتوى لا تخالف الكتاب والسنة؟ أيأخذون بها، أم يقولون: نحن رجال وهم رجال؟ ماذا تظن فيهم؟ السائل: لا يقولون: نحن رجال وهم رجال، لكنهم يقولون تأدباً: إن الفهم الذي فهمناه هو الفهم المطلوب، والفهم الذي تلزمنا إياه هو فهمك الذي تلزم به نفسك فقط.
الشيخ: حِدتَ عن الجواب! ما موقفهم بالنسبة لما فعله الصحابة من فعل أو ما أصدروه من فتوى، هل يتبنون هذا الفعل أو هذه الفتوى، أم يقولون: نحن رجال وهم رجال؟ السائل: يقولون: واقعنا أو حال المعصية التي بين أيدينا، والظاهر الذي نراه بين أيدينا ليس كما تصوره سلف الأمة الأوائل.
الشيخ: الله أكبر! يعني يؤثرون فهمهم على فهم أولئك؟ السائل: نعم.
الشيخ: وما معنى: ( ما أنا عليه وأصحابي ) أيضاً لا بد من تحريفه؟ السائل: قال الشيخ سفر : المجتمع الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صحابة مؤمنون كثيرو الإيمان كالبحر، لو أخطأ أحدهم -وإن لم يقصد- فإن هذه القطرة لا تؤثر في البحر، بينما من دونهم قد يتكلم أو يفعل وعنده ماء قليل -يمثل الإيمان بالماء- لو قطرت فيه قطرة نجاسة لوثته ونجسته وأصبح غير قابل للطهارة أو للتصفية.
الجواب: كلام شعري جميل، لكنه حَيْد عن الجواب، وأعيد عليك السؤال، أنا لا أسأل عن الفرق بين خطأ الأولين والآخرين حتى يأتي هذا الجواب بهذا الكلام الشعري الجميل، إنما أنا أسأل: إذا فعل بعض الصحابة فعلاً أو أفتوا بفتوى وليس هناك في الكتاب والسنة ما يخالفهم هل نؤثر فهمنا نحن على فهمهم، أم نتنازل عن فهمنا لفهمهم؛ لأنهم أطهر قلوباً، وأغزر علماً، و و إلى آخره، ما هناك من صفات معروفة جداً؟ لعل السؤال واضح، ولعلي أحظى بالجواب هذه المرة.
السائل: الجواب هو نفس القول في المسألة الثانية: أنهم هم أولى منهجاً وفهماً من غيرهم، لكن التأويل أبى إلا أن يكون الأول، والحق أن هؤلاء أولى منهجاً وفهماً.
الشيخ: أنا لا أسألك عن رأيك وإنما أسألك عن رأيهم هم.
السائل: جوابهم التالي: لكن التأويل يأبى إلا بالتقصيد أو أو أو .
إلخ، يتنزهون ويتأدبون أن يجيبوا عن هذا السؤال بالجملة الأولى.
الشيخ: أسأل عن عملهم؟ السائل: التأويل.
الشيخ: أسألك عن عملهم في المسألة التي يعملها الصحابة، لأنك تقول أنت: إنهم يتأدبون لفظاً، لكن هناك فتوى صدرت منهم، لنضرب مثلاً: أنا قلت آنفاً من باب التدرج وما وصلنا بعد إلى الدرجة الثانية لا نزال في الدرجة الأولى، قلت: بعضهم، بمعنى: يشمل واحداً فأكثر، الآن أضرب مثلاً من الناحية العملية، بحيث لا يمكن أن يقال عنهم وحكاية عنهم: إنهم يتأدبون لفظاً، أنا أسأل الآن: ماذا يفعلون عملاً، مثلاً: هناك حديث في صحيح مسلم : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الشرب قائماً ) وفي لفظٍ: ( زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً ) قيل لراوي الحديث أنس بن مالك خادم الرسول عليه الصلاة والسلام كما هو معلوم: [ والأكل؟ قال: شر ].
نحن الآن الذين نؤثر فهم الصحابي على فهمنا، وبخاصة أننا لا نجد في السنة -وقبل ذلك في القرآن- ما يخالف هذا الجواب من هذا الصحابي الجليل أنس بن مالك ، نحن الآن عملاً لا نفرق بين الشرب قائماً والأكل قائماً، كما أننا لا نشرب قياماً وإنما جلوساً، كذلك لا نأكل قياماً وإنما جلوساً هم ماذا يفعلون؟ السائل: أظن أنهم في هذه الأحكام متبعون مقتفون لطريقة السلف .
الشيخ: ما أظن ذلك؛ لأنهم يحاجّون في ذلك، وأنا أرجو أن تكون حكايتك هذه حكاية صحيحة، وليست من باب إحسان الظن، أنا أرجو أن تكون هذه الحكاية عنهم حكاية مطابقة لواقعهم؛ لأننا حينئذٍ نؤاخذهم من هنا من هذه الجزئية، ونقيم عليهم الحجة لماذا أنتم الآن اتبعتم السلف في هذه الجزئية، بل اتبعتم شخصاً واحداً، بينما أنا كان كلامي في السابق قلت: (بعضهم) يشمل الواحد والاثنين والأكثر من ذلك ؟ أنت أجبت بجواب يخالف هذا الجواب الآن، لماذا؟ لأني طورت السؤال بناءً على تطور إجابتك عنهم، قلت: إنهم يتأدبون باللفظ، فماذا يفعلون في العمل الذي عملوه؟ هذا ما عملوه جميعاً وإنما عمله صحابي واحد، إذا قال: [ الأكل شر ] إذاً: نحن أتباع السلف إن شاء الله -أيضاً- لا نأكل من قيام، وهم ماذا يفعلون؟ قلت عنهم -وأرجو أن يكون هذا عنهم صواباً-: إنهم يتبعون السلف ، نقول: بأي حجة أنتم اتبعتم السلف في هذه الجزئية؟ أنتم مدينون ومكلفون بأن تتبعوا السلف فيما هو أهم من هذه الجزئية بكثير، خاصة فيما يتعلق بالعقيدة وبصورة أخص فيما يتعلق بالتكفير.
مداخلة: كلمة في تأييد كلام شيخنا في قضية فهم السلف ، كلمة في سطرين للإمام الشاطبي رائعة جداً، يقول في كتاب الموافقات (ج3 ص 77): يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل.
الشيخ: إي والله! آمنت بالله والذي جاء به رسول الله، وبما اتبعه سلفنا الصالح .
مداخلة: ابن عبد البر في الاستذكار ينقل عبارة وينسبها إلى أبي حنيفة و حماد بن سليم و ربيعة الرأي ، فيقول: كانوا يقولون: رأينا لمن بعدنا خير لهم من رأيهم لأنفسهم.
الشيخ: فما بال رأي الصحابي بالنسبة لمن بعده؟ من باب أولى.(42/13)
حكم الحاكم بغير ما أنزل الله
السائل: يتأولون تفسير قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: { مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة:44] تأدباً، أن ابن عباس لم يقصد بقوله هذا فيمن ضاهى بتشريعه أحكام وتشريع الله تعالى، وأتى بتشريعات مضاهية لتشريع الله، بل قصد هذا فيمن غيَّر وبدل في نظام الحكم من شورى أو خلافة إلى ملكي .
إلخ فقط، فأرجو الجواب عن هذا.
الشيخ: لا يفيدهم هذا التأويل الهزيل شيئاً إطلاقاً، ذلك لأنه: أولاً: كأي تأويل من تأويلاتهم سنقول لهم: ما دليلكم على هذا التأويل؟ وسوف لا يحررون جواباً.
ثانياً: الآية التي قال فيها عبد الله بن عباس هذه الكلمة معروفة، وهي قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة:44] بماذا فسرها علماء التفسير؟ فيعود للمناقشة من أولها.
علماء التفسير اتفقوا على أن الكفر قسمان: كفر اعتقادي، وكفر عملي، وقالوا في هذه الآية بالذات: من لم يعمل بحكمٍ أنزله الله فهو في حالة من حالتين: إما أنه لم يعمل بهذا الحكم كفراً به؛ فهذا من أهل النار خالداً فيها أبداً، وإما اتباعاً لهواه لا عقيدة وإنما عملاً كهؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالإسلام؛ فلا كلام فيه، هذا بالنسبة للكفر الاعتقادي.
وكهؤلاء المسلمين الذين فيهم المرابي، وفيهم الزاني، وفيهم السارق و و .
إلخ، هؤلاء لا يطلق عليهم كلمة الكفر بمعنى الردة إذا كانوا يؤمنون بشرعية تحريم هذه المسائل، حينئذٍ علماء التفسير في هذه الآية صرحوا بخلاف ما تأولوا، فقالوا: الحكم الذي أنزله الله إن لم يعمل به اعتقاداً فهو كافر، وإن لم يعمل به إيماناً بالحكم لكنه تساهل في تطبيقه فهذا كفره كفر عملي.
إذاً: هم خالفوا ليس السلف الأولين بل وأتباعهم من المفسرين والفقهاء والمحدثين، إذاً: هم خالفوا الفرقة الناجية .
مداخلة: ذكر أخونا في معرض كلامه تلك الفقرة، ونسألكم ما هو القصد منها؟ الشيخ: هم يفكرون ويظنون أن كلام سفر له علاقة بموضوعنا، وقد قلت: هذا الكلام شعري وجميل، لكن ليس جواباً لسؤالنا!! وأنا لا أدري ما رمى إليه! مداخلة: لدي فائدة لك في أثر علي رضي الله تعالى عنه لما سألوه [ أمشركون أو كفار هم؟ قال: لا.
بل من الكفر فروا ] وجدتها في سنن البيهقي بسندها، ووجدتها كذلك في مصنف ابن أبي شيبة ، لكنها ليست عندي، وممكن إذا اتصلت بك أو أعطيتها للأخ الشيخ علي يفيدك بها.
الشيخ: ما تمت الفائدة إذاً: مداخلة: شيخنا يتكلم عن الصحة، أما المصادر فأمرها سهل! الشيخ: على كل حالٍ جزاك الله خيراً.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(42/14)
الرد على المفوضة
وردت الكثير من الشبه حول مسألة التفويض في آيات الصفات، ونسبتها إلى أهل السنة، وعقيدة السلف في هذه ذلك هو الإيمان بالمعنى وتفويض الكيف، أما المعطلة فيظهر فساد مذهبهم في ذلك وتأثرهم بعلم المنطق.
وعلى هذا فقد بين الشيخ هذه القضية في معرض الرد على بعض الأسئلة، مفنداً بعض هذه الشبه.(43/1)
فهم الصحابة للنصوص على الحقيقة لا على المجاز
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
نفتتح الليلة مباشرة بتلقي الأسئلة المتوفرة عند بعض إخواننا، ونجيب عليها -إن شاء الله- بما يسر الله لنا، ثم نختصر الجلسة بقدر الإمكان لظروف عارضة، وهي وإن كانت عارضة فليس فيها ما يزعج، وإنما نحن معكم إلى الساعة العاشرة والنصف، وبالكثير إلى الحادية عشرة، فتوكلوا على الله، وهاتوا ما عندكم.
السؤال
هل العقيدة التي يحملها السلفيون هي عقيدة الصحابة؟ فإن من الناس من يزعم ويقول: إن كانت هي عقيدة الصحابة؛ فأتونا ولو بصحابي واحد يقول في الصفات: نؤمن بالمعنى ونفوض الكيف، فما هو قولكم؟
الجواب
نحن نعكس السؤال، ثم نجيب عن هذا السؤال فنقول: هل هناك صحابيٌ تأول تأويل الخلف؟ ونريد على ذلك مثالاً أو مثالين؟ السائل: يذكرون أحياناً عن ابن عباس رضي الله عنه أنه تأول آية من كتاب الله تبارك وتعالى.
الشيخ: إذا كان قد تأول، فما الذي حمله على التأويل؟ وهل كان ذلك هو منهج الصحابة الأولين؟ فجواباً على السؤال الأول نقول: إن السلف الصالح لم يكونوا بحاجة إلى أن يشرحوا ما هو واضح لديهم وضوح الشمس في رابعة النهار، والمثال السابق يشبه تماماً ما لو قال قائل: أعطونا مثالاً واحداً على أن أحد الصحابة قال: هذا فاعل، وهذا مفعول به، وهذا مفعول للتمييز، وهذا للحال إلى آخر ما هنالك من مصطلحات وضعت بعد الصحابة، وبعد السلف ؛ لضبط فهم النصوص على الأسلوب القرآني والعربي الأصيل؛ فلن نستطيع أن نأتيهم بنص من مثل هذه النصوص التي اصطلح عليها العلماء الذين وضعوا قواعد النحو، ووضعوا قواعد الصرف، وكذلك سائر العلوم التي منها أصول الفقه، ومنها أصول الحديث إلى آخره؛ ذلك لأن الصحابة الأولين كانوا عرباً أقحاحاً، فلم يكونوا بحاجة إلى أن يفسروا ما يفسره اليوم السلفيون الذين ينتمون إلى السلف الصالح ؛ ذلك لأنهم يفهمون النصوص المتعلقة بآيات الصفات، وأحاديث الصفات كما فهمها السلف .
المهم أن الأصل ليس هو التأويل، بل الأصل هو عدم التأويل، وهذا الأصل أمر متفق عليه عند جميع العلماء، حتى الذين يؤولون أي كلام عربي سواءً أكان متعلقاً بآيات الصفات، أو أحاديث الصفات، أو متعلقاً بأي خبرٍ عربي، فكلهم يتفقون فيقولون مثلاً: الأصل في كل جملة عربية أن تحمل على الحقيقة، وليس على المجاز، فإذا تعذرت الحقيقة حينئذٍ يقولون: نصير إلى المجاز.
ففي هذه القاعدة المتفق عليها بين السلف والخلف، نحن نقول: إن العرب الأولين -الصحابة الذين قصد السائل فهمهم لتلك النصوص- سائرون على هذه القاعدة التي عليها الخلف فضلاً عن السلف .
فإذاً حينما قال الله عز وجل: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر:22] ما الذي يفهمه العربي فيما يتعلق بالملائكة -مثلاً- من كلمة (جاء الملائكة)؟ هل يفهم المعنى المؤول، أم يفهم المعنى الحقيقي؟ لاشك أن الجواب سيكون: إنه يفهم المعنى الحقيقي، سنقول له: أعطنا نصاً على أن الصحابة فسروا مجيء الملائكة بالمعنى الحقيقي، فلن يستطيع أن يصل إلى ذلك أبداً! لماذا؟ لأن الأمر واضح لديهم، فهم يسيرون على قاعدة علمية مجمع عليها ليس فقط بين السلف بل والخلف أيضاً، فما كان جوابهم عن هذا المثال السهل البسيط، فهو نفس جوابنا على السؤال الذي وجهته آنفاً.
الحق أن نقول: إن هؤلاء المعطلة متأثرون بعلم المنطق الذي يخرج كثيراً أصحابه من دائرة الاتباع إلى دائرة الابتداع، فحينما يوردون هذا السؤال، معنى ذلك: أنه ليس هناك ضابطٌ لفهم نصوص الشريعة إطلاقاً؛ لأنه لا يمكننا أن نتصور إلا أن كل من يدعي العلم، سواءً كان سلفياً أو كان خلفياً لا بد له من أن يفسر نصاً في القرآن أو في السنة على القاعدة المذكورة آنفاً، وهي: الأصل الحقيقة، وليس المجاز، فحينما يأتينا أي خلفي من هؤلاء، ويفسر لنا تفسيراً ما لنصٍ ما، نسأله قائلين: ما هو مستندك في هذا التفسير؟ هل عندك نص عن الصحابة عن التابعين عن أتباع التابعين؟ فسيضطر إلى أن يعود إلى أصل اللغة، وحينئذ نقول: هذه حجتنا عليكم، لماذا تتأولون النصوص التي لا تعجبكم ظواهرها ولا إشكال فيها؟ إنما جاء الإشكال -كما هو الأصل- من التكييف والتشبيه.
لهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أصل المعطلة أنهم وقعوا في التشبيه، فلما أرادوا الخلاص من التشبيه لجئوا إلى التأويل، فلو أنهم أخذوا بمثل قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] وكذلك سورة الصمد { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1] { اللَّهُ الصَّمَدُ } [الإخلاص:2] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [الإخلاص:3] { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص:4] لو أنهم وقفوا عند هذا النص لما احتاجوا إلى التأويل؛ لأن الذي دفعهم إلى التأويل هو أنهم فهموا هذه الآيات على مقتضى التشبيه.
فإذا قلنا: (جاء ربك) أي: كما يليق بجلاله، كذلك الملائكة خلقٌ من خلق الله، لكن لا شك ولا ريب أن مجيئهم لا يشبه مجيء البشر، بل الجن الذين خلقوا من نار، مجيئهم، وذهابهم، وإيابهم، لا يشبه بأي وجه من الوجوه مجيء البشر، فهل نؤول المجيء المتعلق بالجن، أو المجيء المتعلق بالملائكة، أم نقول: إن مجيء كل ذات تتناسب مع تلك الذات؟ هكذا ينبغي أن تفهم نصوص الكتاب والسنة، أي: على القاعدة العربية: الأصل في كل جملة الحقيقة وليس المجاز، فإذا تعذرت الحقيقة صير إلى المجاز، فهذا جواب ذلك السؤال.
ثم يخطر في بالي شيءٌ آخر وهو: أن هذا السؤال يعني عدم الاعتداد بفهم الأئمة والذين يتظاهر هؤلاء بالتمسك بعلمهم وبفهمهم، بينما هنا لا يقيمون لفهمهم وزناً إطلاقاً، مع أن الأئمة هم الذين اقتدينا بمنهجهم وبأسلوبهم في تفسير الآيات، وتفسير الأحاديث.
لذلك كان كثير من علماء السلف يحذرون عامة الناس من أن يجالسوا أهل الأهواء؛ لأنهم أهل شبهات، وطرح إشكالات، ومع الأسف لا يستطيع كثيرٌ من أهل العلم أن يجيبوا جواباً مقنعاً موافقاً للكتاب والسنة من جهة، ومتابعاً للعقل الصحيح من جهة أخرى، وكثير من الناس لا يستطيعون أن يقدموا الحجة والبيان لأولئك الذين تأثروا بالشبهات والإشكالات التي يطرحها أهل الأهواء والبدع؛ لذلك حسموا الأمر، ونهوا عن مخالطة أهل البدع والأهواء .(43/2)
عقيدة السلف في رؤية الله تعالى في الآخرة
السؤال
بالنسبة لقوله تعالى: { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } [المطففين:23] والنظر الذي فسره بعض الأئمة بأنه النظر إلى الله تعالى، ثم هناك حديث: ( إن أعلى أهل الجنة منزلة هو من ينظر إلى الله كل يومٍ مرتين ) مع أن هذا الحديث قد أوردتموه في ضعيف الجامع ، فهل هناك وصفٌ لرؤية المؤمنين لربهم في الجنة، وقد جاء في حديث أن يوم الجمعة في الجنة ينظر فيه المؤمنون لربهم؟ وكيف يكون التفسير هنا بالنسبة للآية: { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } [المطففين:23] فهم متكئون على الأرائك ينظرون، ومع ذلك هناك يوم يخصص للنظر، والحديث الذي ورد في هذا أيضاً ضعيف، فكيف يوجه هذا؟
الجواب
سامحك الله! هل تسأل عن أصل رؤية المؤمنين لربهم؟ أم تسأل عن عدد المرات التي ينظرون فيها إلى ربهم؟ سؤالك ذو شعب كثيرة، فلو أنك حددت سؤالاً أولاً، وثانياً، وثالثاً، إن كان الأمر كما نتصور، ليكون هذا أوضح للحاضرين سؤالاً وجواباً، فإن كان في سؤالك ثلاثة أسئلة؛ فابدأ إذاً بالأهم فالأهم.
السائل: بالنسبة لقول الله تعالى: { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ) [المطففين:23] هل هذا دائم في الجنة؟ الشيخ: نعم.
السائل: أقصد هل هذا دائم من حيث الوقت؟ الشيخ: (رجعت حليمة إلى عادتها القديمة)، يا أخي! حدد سؤالك بارك الله فيك، هل أنت مؤمن بأصل الرؤية؟ السائل: نعم.
الشيخ: إذاً ما هو سؤالك؟ السائل: هل هذا النظر دائم في كل وقت في الجنة؟ الشيخ: لا نعلم! لماذا مثل هذا السؤال؟ هلا سألت -مثلاً- عن حديث الجمعة، المسمى بـ (حديث يوم المزيد)، هل هو صحيح أم لا؟! نقول: نعم.
فالحمد لله هو صحيح، إذاً المؤمنون يرون ربهم كل يوم جمعة، أما كل ساعة وكل لحظة، فما عندنا علم! ولماذا السؤال في الأمور الغيبية؟! وأنت بلا شك تعلم -في حدود ما علمت- أنك لم تقف على أن المؤمنين يرون ربهم في كل لحظة وفي كل ساعة، ولا غيرك يعلم ذلك إطلاقاً ! إذاً الذي يجب على كل مؤمن هو أن يؤمن بأصل الرؤية التي ثبتت في الكتاب والسنة، ولذلك أنا استغربت أول الأمر حينما سألت عن قوله تعالى: { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } [المطففين:23] فهل معنى هذا: أنهم ينظرون إلى ربهم؟ الجواب: نعم.
لكن هناك نصوص أوضح في إثبات أصل الرؤية من هذه الآية، ولسنا بحاجة إلى أن نذكر شيئاً من هذا الآن؛ لأني لا أعتقد أن أحداً من الحاضرين -على الأقل- عنده شكٌ في أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، حتى الذين ينكرون الصفات بطريق تأويلها كـ الأشاعرة و الماتريدية -مثلاً- مما يحجون به وتقام عليهم الحجة به: أنهم يؤمنون برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، خلافاً للمعتزلة ، وخلافاً للخوارج ، فهؤلاء المعتزلة و الخوارج ينكرون أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة.
أما الماتريدية و الأشعرية فهم يشاركون أهل السنة -أهل الحديث- في إيمانهم بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة.
هنا تأتي الحجة القاصمة لظهر المنكرين لاستواء الله عز وجل على عرشه، واستعلائه على مخلوقاته؛ ذلك لأن هذه الرؤية التي اشترك الماتريدية و الأشاعرة مع أهل الحديث في الإيمان بها، تستلزم إثبات العلو لله عز وجل، وهم ينكرون العلو، فيقال لهم: كيف تنكرون علو الله على خلقه، ومع ذلك تثبتون رؤية المؤمنين لربهم؟! فكيف تعتقدون رؤية المؤمنين لربهم وأنتم تنكرون علو الله عز وجل على خلقه؟! فهذا تنافر وتضاد؛ ولذلك الآن تجد ذاك الرجل الذي ملأت رائحته الكريهة أنوف المؤمنين جميعاً، لا يتعرض إطلاقاً لإثبات هذه العقيدة، وهي عقيدة رؤية المؤمنين لرب العالمين؛ مع أنها عقيدة الأشاعرة ، وعقيدة الماتريدية ، لماذا؟ لأن هذه العقيدة وحدها تكفي لإبطال قولهم: إن الله عز وجل ليس فوق العرش، وليس فوق المخلوقات كلها.
إذاً يجب أن نؤمن بأصل هذه الرؤية، وبثبوتها في الكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف، وإقرار الماتريدية و الأشاعرة بها، أما الدخول في التفاصيل فيقف المؤمن عند ما علم منها، علمنا حديث يوم المزيد، وهو يوم الجمعة، وأن المؤمنين يرون ربهم في كل جمعة؛ فآمنا بذلك، ولسنا مكلفين، بل لا يجوز لنا أن نتعمق أكثر من ذلك.
ويعجبني بهذه المناسبة قول أحد علماء الحنفية الماتريدية الذين -كما ذكرت آنفاً- يشتركون مع أهل الحديث في الإيمان بهذه النعمة العظمى، وهي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، قال هذا الرجل العالم الفاضل الحنفي الماتريدي:
يراه المؤمنون بغير كيفٍ وتشبيه وضربٍ بالمثال
هذا ما يمكنني أن أتحدث به في هذه اللحظة جواباً عن تلك المسألة .(43/3)
رد شبهة حول منهج السلف في إثبات الصفات
السؤال
كثيراً ما يُزعم أن مذهب السلف هو التفويض في الصفات، ويستندون في ذلك على بعض الأقوال لأهل العلم، كالإمام أحمد في قوله: أمروها كما جاءت بلا تفسير.
شيخنا! لو توضحون هذه الأقوال، خاصة وأنها ثابتة عن الإمام أحمد وغيره، نرجو منكم بيان هذه المسألة، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
سبق أن تكلمنا عن هذه المسألة، وجواباً عنها نقول: إن السلف كما جاء في كتب أئمة الحديث، وكما جاء في بعض كتب الأشاعرة كالحافظ ابن حجر العسقلاني ، وهو من حيث الأصول والعقيدة أشعري -على علمه وفضله- وهو قد ذكر في أكثر من موضعٍ واحد في كتابه العظيم المسمى بـ فتح الباري ، أن عقيدة السلف تحمل آيات على ظاهرها دون تأويل ودون تشبيه، فقول الإمام أحمد : أمروها كما جاءت، أي: افهموها كما جاءت، دون أن تتعمقوا في محاولة معرفة الكيفية.
والذين يقولون: إن مذهب السلف هو التفويض، يلزمهم أولاً أمران اثنان، وكما يقال: أحلاهما مر، فيلزمهم أن الآيات التي وصف الله عز وجل نفسه فيها، فضلاً عن الأحاديث الكثيرة التي وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه فيها؛ كل هذه النصوص معناها على مذهب التفويض: أننا لا نفهم هذه النصوص، بل ولا ندري لماذا أنزلها ربنا عز وجل في كتابه! ولا ندري لماذا وصف النبي ربه بهذه الصفات! والواجب علينا ألا نفهم هذه الصفات المذكورة في القرآن والسنة؛ علماً بأن الله عز وجل نعى على قومٍ أنهم لا يهتمون بفهم القرآن الكريم، حينما قال رب العالمين: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد:24] فلا شك أن أعظم شيء يتعلق بهذا الإسلام هو: معرفة الرب الذي شرع هذا الدين على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، فحينما يقال في آيات الصفات، وفي أحاديث الصفات: لا نفهم منها شيئاً، إذاً هم لم يعتبروا بمثل قوله في الآية السابقة: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد:24] ويشملهم أيضاً قوله تعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا } [الأعراف:179]، وقوله: { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ } [العنكبوت:43]، والآيات كلها إنما أنزلت لتعقل وتفهم عن الله عز وجل، فإن كانت متعلقة بالعقيدة تبناها عقيدة، وإن كانت متعلقة بالأحكام تبناها وعمل بها.
إذاً: إذا كانت الآيات المتعلقة بصفة الله عز وجل لا تفهم؛ فإذاً نحن لا ندري عن ربنا شيئاً إلا أن له وجوداً، وعلى هذا فهناك صفات مجمع عليها بين العلماء حتى علماء الخلف: مثلاً: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] فهل نفهم من صفة السميع أن نفوض فنقول: لا ندري ما هي صفة السمع؟ كذلك البصير، لا ندري ما هي صفة البصر! والقدير والحكيم والعليم إلخ، معنى ذلك التفويض المزعوم: أننا لا نفهم شيئاً من هذه الصفات!! إذاً: على هذا نكون قد آمنا بربٍ موجود، لكن لا نعرف له صفة من الصفات، وحينئذٍ كفرنا برب العباد حينما أنكرنا الصفات بزعم التفويض، وهذا هو الذي يرد -أولاً- على أولئك المفوضة زعموا.
اللازم الثاني: إذا قال الإمام أحمد أو غيره: أمروها كما جاءت، فقبل الإمام أحمد كان هناك إمام دار الهجرة وهو الإمام مالك رحمه الله تعالى، فهل كان على هذا المذهب؟ حينما جاءه ذلك السائل فقال له: يا مالك ! { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، فلا يعني أن الاستواء مفوض معناه، بل إن الاستواء معلوم وهو العلو، ولكن الكيف مجهول، وهذا هو مذهب السلف ؛ ولذلك كان تمام كلام الإمام مالك رحمه الله أن قال: أخرجوا الرجل فإنه مبتدع.
فهذا الرجل السائل لم يكن مبتدعاً لأنه سأل عن معنى خفي عليه من قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، وإنما أخرج وبُدِّع لأنه سأل عن كيفية الاستواء، فكان قول الإمام مالك هذا هو الذي يمثل منهج السلف الصالح ، والمتبعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وهو أن معاني آيات، وأحاديث الصفات مفهومة لغة، لكن كيفياتها مجهولة تماماً، فلا يعرف كيفية الذات إلا صاحب الذات! ولا يعرف كيفية الصفات إلا الذات نفسها! لكن الاستواء معلوم، والسمع معلوم، والبصر معلوم، والعلم معلوم و و إلخ.
ولذلك فأنا أعتقد أن تفسير كلمة الإمام أحمد : أمروها كما جاءت، بأنها تعني عدم فهم الآيات، وأن نقول: الله أعلم بمراده -كما يزعم الخلف- فهذا هو أصل التعطيل المؤدي إلى جحد الخالق سبحانه وتعالى.
لذلك فأنا يعجبني كلمة الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأكررها على مسامعكم لتحفظوها؛ لأن فيها جماع هذه المسألة في كلمتين اثنتين، يقول رحمه الله: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً.
فإذا قال الإنسان: إن الله ليس فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا داخل العالم ولا خارجه؛ كما يقول بعض المبتدعة الضالين في هذا البلد خاصة؛ حيث يزعمون بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فهذا وصف للمعدوم الذي لا وجود له، ولو قيل لإنسان: هل العدم شيءٌ؟ ماذا تتصورون أن يكون الجواب؟! سيكون الجواب: العدم لا شيء.
وإذا قيل: هذا العدم الذي هو لا شيء، هل هو داخل العالم أو خارجه؟ هل يصح هذا الوصف؟ لا يصح، فإذا كان هناك شيء له وجوده، وله كيانه، فهل يقال: إنه ليس داخل العالم ولا خارجه؟ كذلك هذا لا يقال.
إذاً: من هنا قال ابن تيمية رحمه الله: والمعطل يعبد عدماً، أي: شيئاً لا وجود له، وقد قلنا في بعض المناسبات الكثيرة: إن حديث عمران بن حصين رضي الله عنه المروي في صحيح البخاري : ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن العرش، وعما خلق الله بعد العرش، وعما كان قبل العرش، فقال عليه الصلاة والسلام: كان الله ولا شيء معه ) أي: لا مخلوقات.
فإذاً هو كان ولا مخلوق معه، ثم خلق العرش، ثم خلق السماوات والأرض.
فإذاً: حينما خلق الله السماوات والأرض صارت هي الموجود بإيجاد الله إياها، فلا شك ولا ريب أن الله -والحالة هذه- ليس في المخلوقات، أما أن يقال: إنه ليس خارج المخلوقات، فهذا جحد لوجود الله عز وجل؛ لأنه كان ولا مخلوقات، ولا عرش، ولا كرسي، ولا سماء، ولا أرض، ولا إلخ.
لذلك نحن نقول: إن عاقبة التأويل هي التعطيل، لهذا يقول ابن تيمية : المجسم يعبد صنماً، وهذا حرام بلا شك؛ لأن الله يقول: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] والمعطل يعبد عدماً، أي: يعبد شيئاً لا وجود له، فآمنوا بالله ورسوله على أساسٍ من الفهم للآيات، على الأسلوب العربي الذي كان عليه سلفنا الصالح أولاً، مع الاحتفاظ بأن حقائق هذه الصفات وهذه الأسماء لا يعرفها إلا الله تبارك وتعالى.
السائل: كذلك مما يثبت أن الإمام أحمد رضي الله عنه ورحمه الله تعالى يعرف ويفهم معنى قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، عندما أثبت أن الله عز وجل فوق السماوات بذاته، حيث سئل وقيل له: يا إمام! ماذا تقول في قول الله تعالى: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } [المجادلة:7]؟ قال: بعلمه.
فهذا أيضاً يدل على أن الإمام أحمد يفهم ويعرف معنى قول الله تبارك وتعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] .
الشيخ: أن يقال: إن السلف ما فسروا، فهذا جحد لحقيقةٍ تشبه جحد المنهجيات من الأمور، والله المستعان!(43/4)
الرد على السقاف
السؤال
هناك بدعة جديدة يا شيخ! ابتدعها السقاف في هذه الأيام بالنسبة لهذه المسألة، حيث تكلمت مع أحد تلامذته أو رواده، فعندما ناقشته في هذه المسألة قال: حين سئل شيخنا عن حديث الجارية، وهو في صحيح مسلم قال: الصحابة قالوا: إن الرحمن على العرش استوى، ولكنهم يريدون التأويل، فعندما ناقشت هذا الرجل، كنت كلما يأتي بشيء آتي له بشيء ينقضه، حتى قال في النهاية: أنا أثبت أن الله عز وجل فوق السماء كما أثبتته الجارية، وبقي مصراً على كلام شيخه، وأن الجارية أثبتته؛ ولكنها تريد التأويل.
الشيخ: وما يدريه؟ السائل: أنا قلت له: ما هي الحجة والبرهان؟ فهذا لا بد له من برهان ودليل؟
الجواب
على كل حال أنا أعتقد أنها كلمة يقولونها بألسنتهم، ويقولونها هرباً من الحجة التي تقام عليهم؛ لأن الرجل يصرح في كتبه بأن القول بأن الله في السماء كفر، في مثل قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16] قال في بعض كتبه، ونقلاً عن بعض المفسرين المؤولين -مع الأسف-: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16] كما يقوله أهل الشرك، هكذا هو مطبوع في الكتاب، ولذلك إذا وصل معك إلى أن يقول: أنا أقول كما قالت الجارية؛ لكن مع التأويل، فهذا في اعتقادي أنه سيكون أحد شيئين، وذلك حتى ننصف هذا الرجل الذي تشير إليه: فإما أنه كفر بشيخه، أو تأول كلام الشيخ بتأويل لا يرضاه الشيخ، أو أن الشيخ علمهم: أن إذا قيل لكم كذا فقولوا كذا، لكن قولهم هذا يخالف المسطور في كتبهم؛ لأن الرجل يصرح بأنه لا يجوز للمسلم أن يقول: إن الله في السماء؛ لأن هذه قولة الكفار المشركين في العهد الجاهلي، وهو تلقاه عن الشيخ عبد الله الغماري المغربي ، فهو يصرح -أيضاً- في بعض تعليقاته على كتاب التمهيد ، هذا الكتاب العظيم الذي ابتلي ببعض المعلقين من أهل الأهواء وأهل التعطيل، ولا أقول: التأويل-.
ولذلك إذا قال هذا القول حقيقة فهذه خطوة إلى الأمام، لكن الحقيقة أن السقاف لا يؤمن إلا أن كلمة: (الله في السماء) كفر؛ لأنه يفسر (في السماء) أي: (في جوف السماء)، وهذا كفر، لهذا يقول بأننا نحن نقول: إن الله عز وجل ليس في مكان، ومن قال: إن الله في مكان؛ فقد كفر، لذلك يتأولون (في) بمعنى (على) كما هو صريح الآيات الأخرى، ثم يقول: إن الله عز وجل ليس في مكان، وليس خارج المكان، أو إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، تلك هي شنشنة المعطلة ، ومن عجائب أقوالهم أنهم يكفرون من يقول بقول الله ورسوله ويؤمنون بمن يقول بقولةٍ ما قالها رسول الله، ولا صحابي، ولا تابعي، ولا إمام من أئمة المسلمين! فنقول لذلك السائل: من من العلماء الذين يعرفون بعلمهم وصلاحهم قال: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه؟ وهؤلاء المعطلة من أين جاءوا بهذه العقيدة؟ نقول: فهم مهما حاولوا أن يتأولوا مثل هذا الكلام؛ فإن هذا التأويل لا يقبل في شطره الثاني إلا إنكار وجود الله تبارك وتعالى، ونحن نعتقد أن كثيراً من المؤولة ليسوا زنادقة، لكن في الحقيقة إنهم يقولون قولة الزنادقة، فالزنديق المنكر لوجود الله هو الذي سيقول: لا شيء مما تزعمون يصح، فإن الله لا داخل العالم ولا خارجه، لكن هم بسبب تأثرهم بعلم الكلام وصلوا إلى أن يقولوا كلمة هي الزندقة بعينها، لكن مع ذلك فهم لا يعلمون، ويصدق فيهم قول رب العالمين: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } [الكهف:103] { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف:104] .(43/5)
بيان قول البخاري في تفسير: (كل شيء هالك إلا وجهه)
السؤال
لي عدة أسئلة، ولكن قبل أن أبدأ أقول: أنا غفلت بالأمس عن ذكر هذه المسألة، وهي عندما قلت: إن الإمام البخاري ترجم في صحيحه في معنى قوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص:88] قال: إلا ملكه.
صراحة أنا نقلت هذا الكلام عن كتاب اسمه: دراسة تحليلية لعقيدة ابن حجر ، كتبه أحمد عصام الكاتب ، وكنت معتقداً أن نقل هذا الرجل إن شاء الله صحيح، ولازلت أقول: يمكن أن يكون نقله صحيحاً، ولكن أقرأ عليك كلامه في هذا الكتاب.
إذ يقول: قد تقدم ترجمة البخاري لسورة القصص في قوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص:88]، أي: إلا ملكه، ويقال: (إلا) ما أريد به وجه الله، وقوله: إلا ملكه، قال الحافظ في رواية النسفي وقال معمر فذكره، و معمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى ، وهذا كلامه في كتابه مجاز القرآن ، لكن بلفظ (إلا هو)، فأنا رجعت اليوم إلى الفتح نفسه فلم أجد ترجمة للبخاري بهذا الشيء، ورجعت لـ صحيح البخاري دون الفتح ، فلم أجد هذا الكلام للإمام البخاري ، ولكنه هنا كأنه يشير إلى أن هذا الشيء موجود برواية النسفي عن الإمام البخاري ، فما جوابكم؟
الجواب
جوابي تقدم سلفاً.
السائل: أنا أردت أن أبين هذا مخافة أن أقع في كلام على الإمام البخاري .
الشيخ: أنت سمعت مني التشكيك في أن يقول البخاري هذه الكلمة؛ لأن تفسير قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ } [الرحمن:27] أي: ملكه، يا أخي! هذا لا يقوله مسلم مؤمن، وقلت أيضاً: إن كان هذا موجوداً فقد يكون في بعض النسخ، فإذاً الجواب تقدم سلفاً، وأنت جزاك الله خيراً الآن بهذا الكلام الذي ذكرته تؤكد أنه ليس في البخاري مثل هذا التأويل الذي هو عين التعطيل.
السائل: يا شيخنا! على هذا كأن مثل هذا القول موجود في الفتح ، وأنا أذكر أني مرة راجعت هذه العبارة باستدلال أحدهم، فكأني وجدت مثل نوع هذا الاستدلال، أي: أنه موجود وهو في بعض النسخ، لكن أنا قلت له: إنه لا يوجد إلا الله عز وجل، وإلا مخلوقات الله عز وجل، ولا شيء غيرها، فإذا كان كل شيء هالك إلا وجهه، أي: إلا ملكه، إذاً ما هو الشيء الهالك؟!! الشيخ: هذا يا أخي! لا يحتاج إلى تدليل على بطلانه، لكن المهم أن ننزه الإمام البخاري عن أن يؤول هذه الآية وهو إمام في الحديث وفي الصفات، وهو سلفي العقيدة والحمد لله.
وسبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك .(43/6)
التعامل مع الجن
هذا اللقاء عبارة عن مجموعة من الأسئلة ألقاها الحاضرون على الشيخ رحمه الله، وهذه الأسئلة تختلف في مواضيعها، فمنها ما يتعلق بالسفر والمدة التي يقصر فيها المسافر، ومنها ما يتعلق بحكم التعامل مع الجن وإمكانية التعامل معهم وغيرها من المسائل المختلفة.(44/1)
مدة القصر والجمع في السفر
السؤال
مدة القصر والجمع بالنسبة للمسافر، كأن يأتي المسافر زائراً إلى عمّان وينوي الإقامة شهراً إلى شهر ونصف، فهل له الجمع والقصر؟
الجواب
أولاً -يا أخي- الجمع إنما هو رخصة بالنسبة للمسافر؛ سواء كان بحاجة إليها أو لم يكن بحاجة إليها، والعمل بها هو أمر يحبه الله عز وجل، كما جاء في الحديث الصحيح: ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) فإذا كان الرجل مسافراً فعلاً فله أن يجمع؛ سواءً كان في حاجة إلى الجمع أو لم يكن في حاجة إليه، لكن الجمع ليس خاصاً بالمسافر فقط وإنما يجوز أيضاً للمقيم، لكن ليس من باب الترخص وإنما من باب الحاجة الملحة؛ لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه كما في صحيح مسلم : ( جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، بدون سفر ولا مطر، قالوا: ماذا أراد بذلك يا ابن العباس ؟ قال: أراد ألا يحرج أمته ).
فأقف هنا قليلاً؛ لأن هذه المسألة مهمة جداً، ألا وهي الجمع بالنسبة للمقيم، ثم نعود إلى الجمع بالنسبة للمسافر؛ لأن أكثر الناس كما قال رب العالمين: (لا يعلمون) ومن جملة ما لا يعلمون الجمع بالنسبة للمقيم، بعضهم يعلم أن الجمع للمقيم يجوز لكنه لا يشترط له أي شرط، فيجعل الجمع للمقيم كالجمع للمسافر، لا يستويان مثلاً؛ لأن الجمع للمقيم يختلف عن الجمع للمسافر.
الجمع للمسافر -كما قلت آنفاً- رخصة، ولو لم يكن مضطراً، ولا في حاجة ملحة إلى هذه الرخصة، وله أن يفعل ذلك ولا يستطيع أحد أن ينكر؛ لأنه ثبت الجمع بين الصلاتين في الأحاديث الصحيحة، خلافاً لمن يصور هذا الجمع في السفر ويسميه بالجمع الصوْري، وأنتم تقولون: الجمع الصُوري، وهذا لا حاجة إليه لغة، إنما هو جمع صوري، والجمع الحقيقي هو: إما تأخير الصلاة الأولى كالظهر مثلاً إلى الصلاة الأخرى العصر، فتصليهما معاً في وقت العصر، ويسمى جمع تأخير، وإما أن تقدم الصلاة الأخرى فتضمها إلى الصلاة الأولى وتصليهما في وقت الأولى الظهر، فيسمى جمع تقديم، فهذا جمع حقيقي وليس جمعاً صورياً.
كذلك الجمع في حالة الإقامة جمع حقيقي، ولكن يشترط هناك شرط لا يشترط في الجمع للمسافر، ألا وهو: الحاجة التي تعترض سبيل المصلي، فيجد حرجاً يوماً ما في وقت ما أن يصلي الظهر في وقتها والعصر في وقتها، فيجمع بينهما جمع تقديم أو جمع تأخير تمسكاً بالرخصة.
إذا عرفنا هذه الحقيقة في الجمع في السفر والجمع في الحضر، وأنهما من حيث صورة الجمع جمعاً حقيقياً، أما من حيث جواز الجمع ففي السفر للرخصة وفي الحضر لدفع الحرج.
نعود إلى الإجابة على السؤال فنقول: هذا الذي نوى الإقامة في بلد سفره شهراً أو شهرين، أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك هذه الإقامة ليس لها في الشرع أيام معدودات، وإنما هي تتعلق بحالة المقيم، فإن كان أقام تلك الأيام أو أقل منها أو أكثر وهو نوى الإقامة فعلاً، واطمأن في نزوله في ذلك المكان، فهذا أصبح مقيماً ولو أنه ليس في بلده، فلا يجوز له القصر حيث يجب القصر على المسافر فضلاً عن أنه لا يجوز له الجمع، إلا كما ذكرت آنفاً لدفع الحرج، أي: هذا الذي نوى الإقامة شهراً أو أقل أو أكثر أصبح مقيماً، فتجري عليه أحكام المقيم.
أما من نزل في بلد غير بلده ولم ينوِ الإقامة، إنما له في هذا البلد مصالح يريد أن يقضيها، لكنه لا يدري متى ستنقضي، بحيث أنها إذا انقضت عاد أدراجه إلى بلده، فما دام أنه لم ينوِ الإقامة وإنما قال في نفسه: متى أنتهي من قضاء حاجتي رجعت إلى بلدي؛ فهذا غير مقيم، وصورته أن يقول: أول ما أكمل عملي أسافر، فلو مضت أيام كثيرة بل وشهور ولم يكمل عمله فهو مسافر.
فإذاً: القضية لها علاقة بوضع الإنسان في حالة الإقامة المؤقتة ونيته، إذا نوى الإقامة والاستقرار أياماً معدودات فهو مقيم، وإذا لم ينو الإقامة وإنما هو مقيم إقامة مؤقتة لقضاء تلك المصالح ومتابعة تلك الأعمال فإذا انتهى منها يعود إلى بلده، فهذا مسافر مهما طالت الأيام .(44/2)
حكم الصيام على المسافر الذي نوى الإقامة
السؤال
بالنسبة للمسافر أيضاً من حيث الصيام، كأن يصل وينوي الإقامة، فهل له أن يفطر أم أن عليه أن يواصل صومه؟
الجواب
أنا في اعتقادي أن جوابي السابق يعطيك جواب هذا السؤال اللاحق، قلت: أنه إذا نوى الإقامة فهو مقيم، وارتبطت به أحكام المقيم، وإما أنه لم ينوِ هذه الإقامة وله أعمال يريد أن يقضيها فإذا انتهت رجع، فهو مسافر .(44/3)
الجمع بين السنن بنية واحدة
السؤال
هناك من يقول: يجمع المصلي سنة تحية المسجد وسنة الظهر ركعتين ويأخذ أجر الأربعة، ما رأيكم في هذا القول؟
الجواب
وهذا القول يمكن تصحيحه ويمكن تضعيفه؛ لأن فيه إجمالاً يحتاج إلى تفصيل، عندما يقول هذا السائل: بأنه يأخذ الأجر، فنحن نقول: يقول الله عز وجل لملائكته في الحديث القدسي: ( يا ملائكتي! إذا همَّ عبدي بحسنة فعملها فاكتبوها له عشر حسنات، إلى مائة حسنة، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء ) وللحديث تتمة ما أظن أني بحاجة إليها الآن، فهذا الذي يقول: يصلي سنة الوضوء والتحية ويأخذ أجر اثنتين، هذا الإطلاق خطأ، لماذا؟ لأننا نفترض أنه لو صلى تحية المسجد لوحدها وصلى سنة الظهر -مثلاً- لوحدهما صلى أربع ركعات، فهذا كتب له تلقاء صلاة التحية على الأقل عشر حسنات، وقد يكون مائة وقد يكون سبعمائة إلخ، فنحن نأخذ الآن أقل عدد وهو عشر حسنات، ولما صلى سنة الظهر كتب له على الأقل عشر حسنات، إذاً مجموع الصلاتين عشرون حسنة، فنقول للذي تنقل عنه هذا الكلام: إذا صلى شخص ركعتين بنية العبادتين هل تكتب له عشرون حسنة؟ إن قال: نعم.
نقول له: أخطأت، لماذا؟ ( إذا همَّ عبدي بحسنة فعملها فاكتبوها له عشر حسنات ) هذا ما عمل العبادة الثانية -أي: سنة الوضوء- وإنما صلى ركعتين فقط، إذاً هذا لا يكتب له إلا عشر حسنات، لكن هناك زيادة حسنة واحدة فقط، وهي تمام الحديث السابق: ( وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة واحدة ) إذاً هذا عمل عبادة واحدة فكتبت له عشر حسنات على الأقل، والعبادة الثانية ما عملها ولكن نواها، فيكتب له حسنة واحدة.
إذاً الجواب: يكتب له العشر حسنات مقابل العمل، وحسنة واحدة مقابل النية وإذا فرضنا أن الله عز وجل تفضل عليه وكتب له مقابل الركعتين مائة حسنة، يكتب له مع النية حسنة فتصبح مائة وواحدة، وهكذا دواليك، لذلك نحن نقول: عندنا الآن ثلاث صور وهي في التفاضل كما يأتي: الصورة الأولى: وهي أعلاها: يصلي ركعتين تحية، وركعتين سنة وضوء، وركعتين سنة الوقت، صارت ست ركعات.
الصورة الثانية: أن يصلي ركعتين بثلاث نيات: التحية، ونية الوضوء، ونية سنة الوقت.
الصورة الثالثة والأخيرة: يصلي ركعتين بنية واحدة، فهذا يكتب له عشر حسنات، والذي قبله يكتب له عشر حسنات زائداً أجر النية أو النيتين، والذي قبله كذلك يكتب له أجر العبادة الواحدة زائداً مائتين، المهم كل عمل له عشر حسنات، إذا تكرر العمل تتكرر العشر حسنات وإذا لم يتكرر العمل إنما النية تكررت فالنية لها أجر واحد.(44/4)
حكم التبرع بأعضاء الميت
السؤال
أوصى رجل إذا توفى أن يتبرع بأحد أعضاء جسمه، كأمثال الذين يتبرعون بالقرنية حالياً، فما هو الحكم بارك الله فيكم؟
الجواب
نحن لا نعتقد جواز هذا التبرع؛ لأن فيه اعتداء على الميت، وحرمة الميت المسلم لا تزال قائمة كما لو كان حياً، ولذلك جاءت أحاديث تنهى المسلم أن يطأ قبر المسلم وأن يجلس عليه، بل جاء وعيد شديد، فقال عليه الصلاة والسلام: ( كسر عظم الميت ككسره حياً )، أي: من حيث العقوبة، وإلا الميت بعد أن يموت لا يحس بأي شيء يقع في جسده، لكن من حيث الحكم الشرعي، فكسر عظم الميت ككسره حياً.
كثيراً ما يرد سؤال في ذكر مثل هذه المناسبة: أنهم يجرون عمليات جراحية تشريحية ليتعلموا على حساب جثث الموتى، فنقول: لا يجوز؛ لأن الرسول قال: ( كسر عظم الميت ككسره حياً )، بالإضافة إلى أحاديث كثيرة تنهى عن المثلة بالميت، حتى الكافر لا يجوز التمثيل به إذا ما قتله المسلم، أما أن يمثل به ويشوهه فيقطع آذانه وأنفه وأعضاءه .
إلخ.
هذا لا يجوز حرمة لهذا الميت الكافر فضلاً عن المسلم.
فنقول: إذا كان لابد للطبيب المسلم أن يتمرن على حساب جثث الموتى فليبتعد عن جثث المسلمين؛ لأنه جاء في رواية صحيحة: ( كسر عظم المؤمن الميت ككسره حياً ) حتى هنا نحن نقول: إذا كان هناك مجال للتمرن في التشريح أن يجري هذا التمرن على جثث الحيوانات -أيضاً- ينبغي الابتعاد عن جثث أموات الكفار فضلاً عن المسلمين؛ لما ذكرت آنفاً من أن النبي عليه السلام نهى عن التمثيل .(44/5)
حكم التعامل مع الجن
السؤال
ما حكم التعامل مع الجن؟
الجواب
أقول: التعامل مع الجن ضلالة عصرية، لم نكن نسمع من قبل -قبل هذا الزمان- تعامل الإنس مع الجن، ذلك أمرٌ طبيعي جداً، ألا يمكن تعامل الإنس مع الجن لاختلاف الطبيعتين؛ قال عليه الصلاة والسلام تأكيداً لما جاء في القرآن: { وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } [الرحمن:15] وزيادة على ما في القرآن قال عليه السلام: ( خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ) فإذاً البشر خلقوا من طين والجان خلقوا من نار، فأنا أعتقد أن من يقول بإمكان التعامل مع الجن مع هذا التفاوت في أصل الخلقة، مثله عندي كمثل من قد يقول -وما سمعنا بعد من يقول - تعامل الإنس مع الملائكة.
هل يمكن أن نقول بأن الإنس بإمكانهم أن يتعاملوا مع الملائكة؟ الجواب: لا.
لماذا؟ نفس الجواب، خلقت الملائكة من نور وخلق آدم مما وصف لكم، أي: من تراب، فهذا الذي خلق من تراب لا يمكنه أن يتعامل مع الذي خُلق من نور.
كذلك أنا أقول: لا يمكن للإنسي أن يتعامل مع الجني بمعنى التعامل المعروف بيننا نحن البشر، نعم.
يمكن أن يكون هناك نوع من التعامل بين الإنس والجن، كما أنه يمكن أن يكون هناك نوع من التعامل بين الإنس والملائكة أيضاً، لكن هذا نادر نادر جداً، ولا يمكن ذلك مع الندرة إلا إذا شاء الملك وشاء الجان.
أما أن يشاء الإنسي أن يتعامل معاملة ما مع ملك ما فهذا مستحيل، وأما أن يشاء الإنسي أن يتعامل مع الجني رغم أنف الجني فهذا مستحيل؛ لأن هذا كان معجزة لسليمان عليه الصلاة والسلام، ولذلك جاء في الحديث الصحيح في البخاري أو مسلم أو في كليهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( قام يصلي يوماً بالناس إماماً، وإذا بهم يرونه كأنه يهجم على شيء ويقبض عليه، ولما سلّم قالوا له: يا رسول الله! رأيناك فعلت كذا وكذا، قال: نعم.
إن الشيطان هجم -أو قال عليه السلام هذا المعنى- علي وفي يده شعلة من نار يريد أن يقطع علي صلاتي، فأخذت بعنقه حتى وجدت برد لعابه في يدي، ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام : { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } [ص:35] لربطته بسارية من سواري المسجد حتى يصبح أطفال المسلمين يلعبون به ) لكنه عليه الصلاة والسلام تذكر دعاء أخيه سليمان عليه السلام: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } [ص:35]، لولا هذه الدعوة لربطه الرسول، لكنه لم يفعل؛ فأطلق سبيله برغم أنه أراد أن يقطع عليه صلاته.
فالآن ما يشاع في هذا الزمان من تخاطب الإنس مع الجن، أو الإنسي المتخصص في هذه المهنة يزعم أنه يتخاطب مع الجني، وأنه يتفاهم معه، وأنه يسأله عن داء هذا المصاب أو هذا المريض وعن علاجه، هذا إلى حدود معينة يمكن، لكن يمكن واقعياً ولا يمكن شرعاً؛ لأن ليس ما هو ممكن واقعاً يمكن أو يجوز شرعاً فإنه يمكن للمسلم أن ينال رزقه بالحرام، كما ابتلي المسلمون اليوم بالتعامل بالربا معاملات كثيرة وكثيرة جداً، لكن هذا لا يجوز ولا يمكن شرعاً، فما كل ما يجوز واقعاً يجوز شرعاً.
لذلك نحن ننصح الذين ابتلوا بإرقاء المصروعين من الإنس بالجن، ألا يحيدوا أو ألا يزيدوا على تلاوة القرآن على هذا المصروع أو ذاك في سبيل تخليص هذا الإنسي الصريع من ذاك الجني الصريع -صريع اسم مفعول، اسم فاعل- ففي هذه الحدود فقط يجوز، وما سوى ذلك فيه تنبيه لنا في القرآن الكريم على أنه لا يجوز بشهادة الجن الذين آمنوا بالله ورسوله، وقالوا كما حكى ربنا عز وجل في قرآنه: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [الجن:6] وكانت الاستعاذة على أنواع، ولا توجد حاجة للتعرض لها.
المهم أن الاستعانة بالجن سبب من الأسباب لإضلال الإنس؛ لأن الجني لا يخدم الإنسي لوجه الله، وإنما ليتمكن منه لقضاء وطره منه بطريقة أو بأخرى.
لقد كنا في زمن مضى ابتلينا بضلالة لم تكن معروفة من قبل، وهي التنويم المغناطيسي، فكانوا يضللون الناس بشيء سموه بالتنويم المغناطيسي، يسلطون بصر شخص معين على شخص عنده استعداد لينام ثم يتكلم -زعم- في أمور غيبية، ومضى على هذه الضلالة ما شاء الله عز وجل من السنين تقديراً، ثم حل محلها ضلالة جديدة وهي استحضار الأرواح، ولا نزال إلى الآن نسمع شيئاً عنها، ولكن ليس كما كنا نسمع من قبل ذلك؛ لأنه حل محلها الآن الاتصال بالجن مباشرة لكن من طائفة معينين، وهم الذين دخلوا في باب الاتصال بالجن باسم الدين، وهذا أخطر من ذي قبل، فالتنويم المغناطيسي لم يكن باسم الدين وإنما كان باسم العلم، واستحضار الأرواح كذلك لم يكن باسم الدين إنما كان باسم العلم أيضاً.
أما الآن فبعض المسلمين وقعوا في ضلالة الاستعانة بالجن باسم الدين، ذلك أن الرسول عليه السلام ثبت عنه أنه قرأ بعض الآيات على بعض الناس الذين كانوا يصرعون من الجن فشفاهم الله، هذا صحيح؛ لكن هؤلاء بدءوا من هذه النقطة ثم وسعوا الدائرة إلى الكلام: هل أنت مسلم؟ ما دينك؟ نصراني يهودي بوذي؟ وبعد ذلك يقولون له: أسلم تسلم، وبعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، آمن الإنس بكلام الجني وهم لا يرونه ولا يحسون به إطلاقاً، نحن نعيش اليوم سنين طويلة نتعامل مع بني جنسنا -إنس مع إنس-.
وبعد كل هذه السنين يتبين لك أن الذي كنت تعامله كان غاشاً لك، فكيف تريد أن تتعامل مع رجل من الجن لا تعرف حقيقته؟ ويقول لك: أسلمت، ويقول لك: أنا مؤمن، وأنا في خدمتك، ماذا تريد مني؟ أنا حاضر.
هذا نسمعه كثيراً، سبحان الله! من هنا يدخل الضلال على المسلمين كما يقال: (ومعظم النار من مستصغر الشرر).
بدأنا مهنة نتعاطها في استخراج الجن من الإنس وتوسعنا فيها حتى صارت واسعة.
وقد يسأل سائل فيقول: هل يمكن التعامل مع الجن؟ فنقول: لا يمكن إلا بما ذكرته آنفاً من التفصيل والنصيحة، كما قلت آنفاً: أنه لا يجوز لمسلم أن يزيد على الرقية في معاجلة الإنسي الذي صرعه الجني، يقرأ عليه ما يشاء من كتاب الله ومن أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة.
وهناك أشياء عجيبة جداً، كلها توهيم على الناس ومحاولة للانفراد بهذه المهنة عن كل الناس؛ لأنه لو بقيت القضية على تلاوة الآيات فكل أحد يستطيع أن يقرأ بعض الآيات وإذا بالجني يخرج، يقولون: لا.
نريد أن نحيطه بشيء من التمويه والسرية -زعموا- حتى تكون مخصصة في طائفة دون طائفة.
أذكر بقوله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [الجن:6] .
نسأل الله عز وجل أن يحفظنا عن الانصراف إلى الاستعانة بالجن.(44/6)
الجمع بين حديث ابن عباس والقول بإتمام الصلاة للمسافر إذا نوى الإقامة
السؤال
بارك الله فيك، قرأت في صحيح مسلم عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع تسعة عشر يوماً جمعاً وقصراً )، وفي رواية عن عائشة : (أحد عشر يوماً) والسؤال: كيف نوفق بين أن الإنسان إذا نوى أن يقيم يصلي صلاة المقيم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع وهو مسافر؟ الشيخ: أنت تتسرع يا أبا فارس .
السائل: أنا كنت حذراً قلت: شبهة.
الشيخ: أنت تتسرع في سرد الحديث، وهل الحديث له علاقة بالجمع؟ السائل: نعم.
له علاقة بالجمع والقصر، والأخ سأل عن مدة القصر.
الشيخ: أنت تروي الحديث في الجمع، والحديث ليس له علاقة بالجمع، وإنما يتعلق بالقصر.
السائل: القصر ليس مرتبطاً بالجمع؟
الجواب
ليس ضرورياً يا أخي، القصر هو عزيمة والجمع رخصة، والحديث الذي أنت تذكره عن ابن عباس ليس له علاقة بالجمع، وإنما هو أداة ذكرناها وهو يتعلق بالقصر.
السائل: يمكن شيخنا تفيدنا في هذه النقطة؟ الجواب: أنا ذكرتها بروايتين، أنت ذكرت رواية الجمع، وحديث ابن عباس في الجمع وحديث عائشة في الجمع وهو شيء إنما هو في القصر.
السائل: إذاً أنا ملتبس علي جمع وقصر أم قصر؟ انتفت الشبهة.(44/7)
حكم التركة إذا لم توزع بالعدل
السؤال
يقول السائل: بأن أباه وزع التركة على الذكور بالتساوي، أما الإناث فأعطاهم مبالغ بالتراضي دون أن يأخذن الحصة الصحيحة لهن، يقول: حصل هذا وأنا صغير والآن أنا كبرت وعلمت بما صنعه والدي، فماذا عليَّ؟
الجواب
هؤلاء الذكور أحياء كلهم وكذلك البنات؟ السائل: نعم.
الشيخ: بما أن أباهم مات إذاً يتصافون جميعاً، ما في سبيل إلا هذا.
السائل: يجب على الجميع أن يجلسوا ويعطوا الإناث حقهن من جديد؟ الشيخ: وكل واحد يأخذ حصته بعد ما مات أبوهم.(44/8)
حكم جلوس المرأة المسلمة مع الأجنبي بقصد الدعوة مع وجود المحرم
السؤال
أخونا في الله ذهب إلى البيت بعد صلاة المغرب ووجد سائحاً سويدياً، وكان جالساً هو وأخوه، وهما لا يستطيعا أن يتكلما اللغة الإنجليزية؛ فأحضروا أختهم وجلست معهم في الغرفة من باب الدعوة إلى الله، ومن باب أن الضرورات تبيح المحظورات، فأجلس أخته في هذه الجلسة حتى تترجم ما يقوله، فهل يجوز هذا؟ وهل يجوز لنا أن نتحدث معهم؟ الشيخ: أنا ما فهمت سؤالك، مهد لي قليلاً قليلاً، من في المجلس؟ السائل: الشاب وأخوه.
الشيخ: ومن هو الثالث؟ السائل: الشاب السويدي.
الشيخ: هو كافر أجنبي، صاروا ثلاثة شباب، ثم ماذا بعد ذلك؟ السائل: الشاب وأخوه لا يستطيعان أن يتكلما باللغة الإنجليزية المتقنة حتى يدعواه إلى الله؛ فأخونا في الله جاء بأخته وأجلسها في الغرفة حتى تترجم الكلام، فهل يجوز هذا؟ الشيخ: إذا كانت متحجبة فيجوز لها أن تترجم كلام أخيها العالم إن كان الأمر كذلك، وتبين هذه المترجمة الدين لذلك السويدي .(44/9)
حكم التحدث مع المرأة الأجنبية بقصد الدعوة
السؤال
هل يجوز للأخ المسلم حينما يدعو الناس الأوروبيين الذين يأتون عن طريق السياحة إلى هنا هل يجوز له أن يتحدث معهم، وهم غالباً يكونون رجالاً ونساءً؟
الجواب
إذا كان متزوجاً ومحصناً خلقياً فيجوز وإلا فلا.
السؤال: وإذا كان أخونا أعزب؟ الجواب: لا يجوز على كل حال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة:105] .(44/10)
حكم التدخين
السؤال
هل الدخان محرم وما الدليل من الكتاب والسنة؟
الجواب
لا شك في تحريم الدخان، وهو حرام لأسباب كثيرة: أولاً: أن المدخن يضر بنفسه، وهذا الضرر في النفس له صورتان: ضرر في بدنه، وضرر في ماله، ثم الضرر الذي في بدنه يتعدى إلى غيره؛ فيصير التحريم يعلو ويتضاعف.
والمعصية إما أن يأتي بها العاصي سراً، وإما أن يأتي بها جهراً أمام الناس، فإذا أتى بها سراً فهو عاصٍ لله مرة، وإذا أتى بها جهراً فهو عاصٍ لله مرتين، والسبب في ذلك أن عدوى معصيته تنتقل إلى غيره فيتضرر الغير بمعصيته في نفسه.
ثانياً: كذلك الدخان الذي يشربه الإنسان لا يكتفي بأنه يضر نفسه وماله بل يتعدى في ضرره إلى غيره، وهذا الذي يسمى في لغة العرب: الإضرار ما يتعلق بنفسه الضرر وما يتعلق بغيره الإضرار، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( لا ضرر ولا ضرار ) فلا يجوز للمسلم أن يضر بنفسه فضلاً عن أن يضر بغيره.
فشارب الدخان جمع الخبيثتين: خبيثة الإضرار بنفسه على التفصيل السابق مادياً وبدنياً، وخبيثة الإضرار بالغير، لا أعني هنا بالإضرار بالغير كالذي يعلن شرب الدخان أمام الناس، هذا واضح، لكنه بهذا الدخان الذي يبثه في الجو الصافي النقي يضر الآخرين، ومعلوم الآن من الأخبار والمجلات الطبية، أن سبب إضرار الدخان في بدن متعاطيه إنما يعود إلى المادة الكمينة فيه وهي التي يسمونها بالنيكوتين، يقولون: هذا الدخان الذي ينفثه شارب الدخان وفيه مادة النيكوتين، فهؤلاء الأبرياء الذين طهرهم الله من شرب الدخان، مكرهون من هذا الشارب أن يشموا وأن يبلعوا رغم أنوفهم شيئاً من مادة النيكوتين هذه.
إذاً: هو جمع المصيبتين في الحديث: الضرر بنفسه والإضرار بغيره، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم من رأفته ورحمته بأمته أنه جاءهم بكل شيء، وحذرهم من كل شر، حتى وصل به الأمر إلى أن ينهى المسلم أن يتعاطى الطعام الحلال الذي فيه رائحة كريهة، إذا ما كان من الواجب عليه أن يحضر مجلساً فيشم الجالسون منه تلك الرائحة الكريهة، فنهاه عن هذا الطعام الحلال؛ لكي لا يؤذي غيره برائحة الطعام الحلال، وقد عرفتم أن الطعام هو الثوم والبصل، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، إذاً كأن الرسول عليه السلام يقول: أيها المسلم المصلي! لا تأكلن طعاماً فيه ثوم أو بصل وتحضر المسجد، كل الطعام الذي فيه الثوم والبصل قبل أن تحضر المسجد؛ أما إذا أكلت هذا الطعام قبيل حضورك المسجد فنحن في غنى عن حضورك المسجد، مع أن حضور المسجد فرض عليه كالصلاة نفسها، ولم يقتصر عليه الصلاة والسلام على هذا التوجيه: ( من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا ) بل طبق ذلك عملياً، حيث دخل ذات يوم المسجد النبوي فشم من أحدهم رائحة الثوم فأمر بإخراجه من المسجد، وإلى أين؟ إلى البقيع -إلى المقابر- لأنه يشير بهذا التنفيذ العملي، أن المسلم الذي يحضر مساجد المسلمين وهو يحمل في فمه رائحة كريهة يؤذي المصلين، هذا لا يليق بأن يعيش مع المصلين، بل ولا مع الأحياء الذين خارج المسجد، بل عليه أن يعيش مع الأموات في المقابر.
تُرى لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عصرنا هذا، ودخل المسجد، وشم رائحة الدخان من إنسان يصلي بجانبه أو من خلفه، كان سيخرجه إلى المريخ وليس إلى المقابر، لماذا؟ لأنه يضر المسلمين، لكن الطعام ماذا فيه؟ فيه منفعة، الأطباء اليوم يذكرون منافع البصل والثوم أشياء عجيبة غريبة جداً، وعلى العكس من ذلك؛ فهم يذكرون الآن من أضرار الدخان المرض الخبيث السرطان.
فإذا كانت رائحة الطعام النافع بسبب رائحة كريهة في المسجد أخرجه إلى البقيع ، فإذا شم رائحة شارب الدخان الذي يضر نفسه ويضر زوجه وأولاده، ومن عجبه أن ترى بعض الآباء يدمنون شرب الدخان، فإذا رأى ابنه يشرب الدخان ينهره، حُق له أن ينهره وما حق له أن ينهره، لماذا؟ لأنه هو قدوة سيئة له.
{ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [الفتح:11] لماذا هو لا ينتهي؟ لأنه نشأ على هذا الداء الوبيل.
ولذلك فلا شك ولا ريب شرعاً بأن الدخان حرام، ربما يكون تحريمه من حيث آثاره السيئة أشد من الخمر التي جاء تحريمها بنص القرآن الكريم، والمحرمات في الشرع ليس من الضروري أن تكون كلها بنصوص يشترك في فهمها كل مسلم، الآن لو ضربنا مثلاً هذه المخدرات التي انتشرت في بلاد الكفر والضلال، كـ أوروبا و أمريكا إلخ، وهم يجهزون جيوشاً من أنواع مختلفة لمقاومة انتشار هذا الفساد، ولا يكادون يقضون عليه، لا يوجد عندنا نص في القرآن يتحدث عن الحشيش المخدر، لكن هل هو حلال أم حرام؟ حرام من حيث: ( لا ضرر ولا ضرار ).
إذاًَ أخذت الجواب إن شاء الله .(44/11)
حكم المسح على الخفين أكثر من المدة المحددة
السؤال
الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز للمسافر المسح ثلاثة أيام بلياليها وللمقيم يوماً وليلة، فإذا تعدى المقيم هذا اليوم ومسح فهل يجوز ذلك؟
الجواب
لا يجوز، وإذا قلنا بالجواز فما هي فائدة التحديد؟ السائل: التحديد هذا هل هو للوجوب أم للسنية؟ الشيخ: نفس الجواب، ماذا كان الجواب السابق؟ لا يجوز، الآن عندما تقول أنت: هل هو للوجوب أم للسنية؟ ماذا يكون الجواب: يجوز أم لا يجوز؟ السائل: لا يجوز.
الشيخ: هذا هو، الجواب تقدم، ولو أنك طورت السؤال، أما الجواب فهو هو، يعني: للوجوب وليس للسنية؛ لأنه لو قيل للسنية، معناها أنك مخير أن تمسح ما شئت، كما هو القول في مذهب الإمام مالك .(44/12)
مدة المسح للمقيم
السؤال
ما معنى قول الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ( وقت لنا المسح ) هل إذا توضأت الصبح ومسحت الظهر أمسح يوماً وليلة وانتقض وضوئي -مثلاً- في المغرب، هل تعتبر هذه مسحة أم مسحتان؟ وكيف أعمل؟
الجواب
متى يبدأ المسح؟ دعنا نضرب مثالاً: مع أذان الفجر مسح فله أن يمسح إلى قبيل أذان الفجر بلحظة، مسح المسحة قبيل أذان الفجر، فيصلي بهذا الوضوء ما شاء من الصلوات حتى ينتقض.(44/13)
حكم العمليات الاستشهادية
السؤال
العمليات الاستشهادية التي تقوم بها بعض الحركات الإسلامية هل تجوز أم لا تجوز؟
الجواب
لا تجوز.(44/14)
حكم إخراج المبتلى بالحشرات من المسجد
السؤال
قياساً على إخراج آكل الثوم والبصل هل يخرج المبتلى بالحشرات في جسمه؟
الجواب
كل مؤذٍ يُخرج، لكن من المخرج؟(44/15)
حكم التلقيح الصناعي
السؤال
ما حكم التلقيح الصناعي بين الزوجين؟
الجواب
لا يجوز، إلا إذا كان الزوجان طبيبين أو أحدهما على الأقل ويتعاطى أحدهما التلقيح بيده، أما التلقيح بين الزوجين على أيدي رجال أو نساء غرباء عنهما فهذا لا يجوز، فالقضية من حيث أنها تلقيح صناعي ليس فيها شيء إطلاقاً، كالتفقيس بالنسبة للدجاجة تماماً، لكن باعتبار ما قد يطرأ على هذا التلقيح من غش، ومن ضياع النسب، فمن هنا لا يجوز.
ولذلك قلنا: إذا افترضنا أن الزوجين طبيبان أو أحدهما على الأقل، فأحدهما يسحب ماء الثاني ويعملون عملية التلقيح الصناعي إن كان فيها أمل، وإلا فلا تجوز.
السائل: حتى لو عرف من صلاح الرجل القائم على هذا العمل؟ الشيخ: حتى لو عرف .(44/16)
حكم الجوائز التي تضعها الشركات لتسويق منتجاتها
السؤال
شخص اشترى علبة دهان فربح سيارة، فما حكم هذه الجوائز؟
الجواب
هذه فيها تفصيل بارك الله فيكم، وهي مشكلة قائمة في هذا الزمان، ولها صور كثيرة وكثيرة جداً، فيجب النظر في هذه الأمور التي تباع للجماهير، ثم يوضع في بعضها أوراق اليانصيب، حتى مرة فعلوا ذلك في قارورات البيبسي، فالجواب في هذه الصورة أو في تلك، أو في نوع آخر من الأمور التجارية، ينبني على معرفة ما إذا كانت هذه الجوائز صادرة من جيب التاجر، أو من جيوب المشتركين في شراء هذه المواد.
مثال مصغر لتوضيح المسألة: لو فرضنا أن شركة البيبسي التي كانت تصدر هذا الشراب، كانت تبيع القارورة بسبعة قروش ونصف، فلما قررت أن تضع جائزة رفعت السعر من سبعة ونصف إلى ثمانية فضلاً عن عشرة ووضعت جائزة، هذه الصورة لو جمعناها، خاصة في زمن الكمبيوتر الحسيب الدقيق، مثلاً: مليون قارورة، زادوا بهذه المليون نصف، قرش أو اثنين ونصف فيشترون بهذا المجموع -مثلاً- دراجة نارية أو ما شابه ذلك، فوضعوا بمقدار الفرق الذي أضافوه وضعوا جوائز، إذاً هذا الفرق ليس من كيس الشركة أو من المعمل، إنما هو من كيس هؤلاء الذين اشتروا، فهذه القوارير هذا قمار وهو لا يجوز.
أما إذا كانت الشركة دفعت قيمة الجوائز من جيبها والسعر هو هو سبعة ونصف، لكن ترويجاً وتشجيعاً للزبائن على شرائها وضعت هذه الجائزة، فهذه اسمها في الشرع جُعالة، فمثلاً إذا قلت لشخص: إذا أنت قطعت المسافة في ظرف كذا لك كذا، هذه جُعالة، فإذاً وضح الجواب.
فعلبة الدهان التي ربح منها الرجل سيارة، هل تباع بسعر معين دائماً، أم رفعوا سعرها لأجل الجائزة؟ فإذا رفعوا سعرها فلا يجوز، وقس على المثال السابق.
أنا ضربت مثالاً لكي يفهم الموضوع، فإذا كانت هناك بضاعة جديدة -مثلاً- ونظامهم أن يربحوا في المائة عشرة، فلما قرروا أن يجعلوا جائزة رفعوا سعر الربح وقالوا: بالمائة اثنا عشر ونصف، أو خمسة عشر، من أجل ماذا؟ من أجل أن يشتروا بالزيادة قيمة الجوائز، فهذا قمار لا يجوز، أنا لا أحكي عن حقائق وعلم، وإنما أصور لك متى يكون حلالاً ومتى يكون حراماً.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(44/17)
الشدة عند السلفية
كان الرفق سمة بارزة وخلقاً غالباً على النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه أحياناً كان يستعمل الشدة لما تقتضيه الحكمة في الدعوة.
وفي هذه الأيام نجد من كثير من المتساهلين في دينهم وصْفَهم للسلفيين جميعاً بالشدة، ولا يخفى ما في ذلك من مجازفة وعدم إنصاف.
وقد أبان الشيخ رحمه الله في هذه المادة أبعاد هذا الاتهام، موضحاً أن الحكمة تستلزم الرفق في الدعوة إلا لما تقتضيه المصلحة الشرعية، ومركزاً على العدل والإنصاف كأساس للتربية المثالية.
وفي ختامها أثنى على ناصر العمر، مع بيان انحراف السقاف في عقيدته.(45/1)
دعوى الشدة عند السلفيين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
السؤال
فضيلة الشيخ! هناك سؤال في مجال الدعوة، يقول: الرفق والسماحة ولين الجانب من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهل توفر الرفق واستعماله واجب في الدعوة أم مستحب؟
الجواب
واجب.
السائل: السؤال له مغزى وله هدف.
الشيخ: طبعاً؛ وراء الأكمة ما وراءها.
السائل: السلفيون بشتى أصنافهم مشهورٌ عنهم -وقد يكون صحيحاً- الشدة في نشر الدعوة وقلة الرفق، فهل ترى أن هذا صحيحٌ -وهذا ما أراه أنا- وما هو تعليقك على ذلك؟ الشيخ: أولاً في كلامك ملاحظة، وهي قولك: وقد يكون صحيحاً.
السائل: قلت: فهل تراه صحيحاً.
الشيخ: أولاً: قلتَ: وقد يكون صحيحاً، أي: ما يقال عنهم من الشدة؟ السائل: معذرة.
الشيخ: قلت هذا؟ السائل: نعم، وأرجو المعذرة.
الشيخ: فهنا الملاحظة، نحن نلفت نظر إخواننا حينما يتكلمون بمثل هذا الكلام، نقول: هذا الكلام للسياسيين، وقد لا يعنونه، لكنه:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
فحينما يقول المتكلم في أمر ما: قد يكون كذا، فيقابله: قد لا يكون كذا، فهنا يَرِدُ على سؤالك أمران اثنان، وبعد ذلك نتابع الجواب: هل أنت متأكد من هذا الذي يقال: إن السلفيين لا لين عندهم وإنما الشدة هي نبراسهم أو هي منهجهم؟ وأنت فتحت لي باب هذا السؤال؛ لأنك قلت: وقد يكون صحيحاً! السائل: يا شيخ! أنا قلت: معذرة من قولي: قد يكون.
الشيخ: هكذا؟ السائل: نعم.
الشيخ: إذاً نسمع الكلام الصحيح، ما هو؟ السائل: هل أعيده؟ الشيخ: لا تُعده لأنه خطأ، وإلا من ماذا تعتذر، تعيد على الوجه الصحيح بدون (قدقدة)، هل كلامي واضح؟ السائل: نعم.
الشيخ: تفضل.
السائل: السؤال من أوله.
الشيخ: لا بأس، وهذا لك الخيار فيه.
السائل: نحن قلنا -وأنت أجبت وهذا حاصل- أن الرفق، والسماحة، ولين الجانب، واجب في الدعوة، وأنا سؤالي عن الدعوة ليس عن الأمور الشخصية أو الحياتية، كما ذكرت أنه يجب توفر اللين والرفق في الدعوة والرفق بالناس المدعوين، فالسلفيون مشهور عنهم -فيما أراه أنا- الشدة وقلة الرفق في الدعوة، فهذا رأيي أنا، فما هو رأيك؟ الشيخ: أنت منهم؟ السائل: أرجو ذلك.
الشيخ: أنت منهم، هل أنت سلفي؟ السائل: نعم.
الشيخ: إذاً: هل أنت من هؤلاء السلفيين المتشددين؟ السائل: لا أزكي نفسي، أنا أقصد سمة بارزة لهم.
الشيخ: القضية الآن ليست قضية تزكية، بل قضية بيان واقع، وقلنا: إنك الآن تثير هذا السؤال من أجل التناصح، فأنا عندما أسألك: هل أنت من هؤلاء المتشددين؟ ما يرد هنا موضوع (أنا لا أزكي نفسي)، لأنك تريد أن تبين الواقع، بمعنى أنك لو سألتني هذا السؤال لقلت لك: أنا فيما أظن لست متشدداً، وأنا لا أعني أنني أزكي نفسي؛ لأني أخبر عن واقعي، ففكر في السؤال.
السائل: نعم -يا شيخ- وجوابي مثل جوابك.
الشيخ: إذاً: لا يصح أن نطلق أن السلفيين متشددون، والصواب أن نقول: بعضهم متشددون، فإذاً نقول: إن بعض السلفيين عنده أسلوب في الشدة، لكن تُرى هل هذه الصفة اختص بها السلفيون؟ السائل: لا.
الشيخ: إذاً: ما الفائدة وما المغزى من مثل هذا السؤال؟ ثانياً: هل اللين الذي قلنا أنه واجب، هل هو واجب دائماً وأبداً؟ السائل: لا.(45/2)
وجود بعض صور الشدة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
الشيخ: فإذاً أولاً: لا يجوز لك ولا لغيرك أن تصف طائفة من الناس بصفة تعممها على جميعهم.
ثانياً: لا يجوز لك أن تطلق هذه الصفة على فرد من أفراد المسلمين، سواءً كان سلفياً أو خلفياً في حدود تعبيرنا، إلا في جزئية معينة، ما دمنا اتفقنا أن اللين ليس هو المشروع دائماً وأبداً، فنحن نجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل الشدة التي لو فعلها سلفي اليوم لكان الناس ينكرون عليه أشد الإنكار.
مثلاً: لعلك تعرف قصة أبي السنابل بن بعكك .
السائل: لا.
الشيخ: امرأة مات عنها زوجها وهي حامل فوضعت، وكان قد بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضعها للحمل، يقول في الحديث -وهو في صحيح البخاري - أنها بعد أن وضعت تشوفت للخطاب وتجملت وتكحلت، فرآها أبو السنابل -وكان قد خطبها لنفسه فأبت عليه- فقال لها: لا يحل لك إلا بعد أن تنقضي عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام -وهي فيما يبدو أنها امرأة تهتم بدينها- فما كان منها إلا أن سارعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ما قال لها أبو السنابل ، فقال عليه السلام: ( كذب أبو السنابل ) هذه شدة أم لين؟ السائل: شدة.
الشيخ: شدة ممن؟ من أبي اللين: { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران:159]، إذاً ليس مبدأ اللين بقاعدة مطردة كما ذكرنا آنفاً، وإنما ينبغي على المسلم أن يضع اللين في محله والشدة في محلها.
وكذلك -مثلاً- ما جاء في مسند الإمام أحمد : ( لما خطب عليه الصلاة والسلام خطبة قام رجل من الصحابة وقال له: ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده ) هذه شدة أم لين؟ السائل: أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: هذه أنا أسميها حيدة؛ لأنك لم تجبني كما أجبتني من قبل، عندما قلت لك: إن أبا السنابل قال عليه الصلاة والسلام في حقه: ( كذب أبو السنابل )، شدة أم لين؟ السائل: هذه شدة.
الشيخ: وهذه الثانية؟ السائل: بيّن له فقط وقال: (أجعلتني لله نداً ؟!).
الشيخ: هذه حيدة بارك الله فيك، أنا ما أسألك: بيّن أم لم يُبيّن؟ أنا أسألك: شدة أم لين؟ لماذا الآن اختلف منهجك في الجواب؟ من قبل ما قلتَ: بيّن له، لما قال له: كذب أبو السنابل، هو بين، ولكن هذا البيان كان بأسلوب هين لين -كما اتفقنا أنه القاعدة- أم كان فيه شدة؟ قلتها بكل صراحة: كان فيه شدة.
فماذا تجيب به عن السؤال الثاني؟ السائل: السؤال الثاني لم يقل له: (كذب )، وإنما قال له: ( أجعلتني لله نداً ).
الشيخ: الله أكبر! هذا أبلغ في الإنكار، بارك الله فيك، وهناك حديث آخر: ( قام خطيب فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس الخطيب أنت ) شدة أم لين؟ السائل: شدة.
الشيخ: المهم بارك الله فيك، هناك أسلوب لين، وأسلوب شدة، فالآن بعد أن اتفقنا أنه ليس هناك قاعدة مطردة باستمرار: لين دائماً أو شدة دائماً، إذاً تارة هكذا وهكذا.(45/3)
أسباب وصف السلفيين بالشدة
الآن: حينما يتهم السلفيون بعامة أنهم متشددون، ألا ترى أن السلفيين بالنسبة لبقية الطوائف والجماعات والأحزاب هم يهتمون بمعرفة الأحكام الشرعية وبدعوة الناس إليها أكثر من الآخرين؟ السائل: لا شك في ذلك.
الشيخ: بارك الله فيك! إذاً بسبب هذا الاهتمام الذي فاق اهتمام الآخرين من هذه الحيثية، فإن الآخرين يعتبرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -ولو كان مقروناً باللين- شدة، بل بعضهم يقول: هذا ليس زمانه اليوم، بل بعضهم غلا وطغى وقال: البحث في التوحيد يفرق الصفوف اليوم.
فإذاً: بارك الله فيك! الذي أريد أن أصل معك إليه هو: أن القضية نسبية، فهناك إنسان ليس متحمساً للدعوة -وخاصة للدخول في الفروع التي يسمونها القشور أو أموراً ثانوية- فهو يعتبر البحث ولو كان مقروناً بالأسلوب الحسن؛ يعتبره شدة في غير محلها.
ولا ينبغي وأنت سلفي -مثلنا- أن تشيع بين الناس -ولو بين هؤلاء الناس القليلين الآن- وتذكر أن السلفيين متشددون؛ لأننا اتفقنا أن بعضهم متشدد، وهذا لا يخلو حتى من الصحابة، ففيهم اللين وفيهم المتشدد، ولعلك تعرف قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فهمَّ الصحابة بضربه، هذا لين أم شدة؟ السائل: شدة.
الشيخ: لكن قال لهم الرسول: دعوه، فإذاً قد لا يستطيع أن ينجو من الشدة إلا القليل من الناس، لكن الحق هو أن الأصل في الدعوة أن تكون على الحكمة والموعظة الحسنة، ومن الحكمة أن تضع اللين في محله والشدة في محلها.
أما أن نصف خير الطوائف الإسلامية، التي امتازت على كل الطوائف بحرصها على اتباع الكتاب والسنة، وعلى ما كان عليه السلف الصالح بالشدة، هكذا على الإطلاق؟ ما أظن هذا من الإنصاف في شيء، بل هو من السرف.
أما أن يقال: فيهم من هو متشدد؛ فمن الذي يستطيع أن ينكر؟ ما دام أن من الصحابة من كان متشدداً في غير محل شدة، فأولى وأولى في الخلف من أمثالنا -خلف بالمعنى اللغوي- بأن يوجد فينا متشدد، ثم الآن نتكلم عن شخص بعينه، هب أنه هين لين، هل ينجو من استعمال الشدة في غير محلها؟ السائل: لا، أبداً.
الشيخ: فإذاً: بارك الله فيك! القضية مفروغ منها، فإذا كان الأمر كذلك فما علينا إلا أن نتناصح، فإذا رأينا إنساناً وعظ ونصح وذكّر بالشدة في غير محلها ذكرناه، فقد يكون له وجهة نظر، فإن تذكر فجزاه الله خيراً، وإن كان له وجهة نظر سمعناها منه وينتهي الأمر.(45/4)
الحكمة في الدعوة بين اللين والشدة
السؤال
كثير من السلفيين يستخدمون الشدة ولا يستخدمون اللين، فيستخدمون الشدة في غير موضعها، ولا يستخدمون الرفق في موضعه، وليسوا قليلاً، أنا أقول: كل الطوائف تفعل هذا، وأنا لا أقيس السلفيين على غيرهم من الطوائف الأخرى، فأنا لا يهمني أمر الطوائف الأخرى، بل يهمني أمر السلفيين، فكثير من السلفيين يصدون عن المنهج السلفي بأسلوب دعوتهم للناس، فأنا قصدت من السؤال أن توجه نصيحة لمن ابتلوا بالشدة وبضيق الصدر.
الجواب
بارك الله فيك، ويحتاج إلى واحد مثلي لكي يوجه النصيحة، والسلفيون وغير السلفيين يعلمون الآية التي ذكرناها آنفاً: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل:125]، ويقرأ السلفيون أكثر من غيرهم حديث السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: ( حينما جاء ذلك اليهودي مسلِّماً على النبي صلى الله عليه وسلم لاوياً لسانه قائلاً: السام عليكم، فسمعت السيدة عائشة هذا السلام الملوي فانتفضت وراء الحجاب حتى تكاد تنفلق فلقتين -كما جاء في الحديث غضباً- فكان جوابها: وعليك السام واللعنة والغضب, يا إخوة القردة والخنازير! أما الرسول فما زاد على قوله له: وعليك، ولما خرج اليهودي من عند الرسول عليه الصلاة والسلام أنكر صلى الله عليه وسلم عليها وقال لها: يا عائشة ! ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه، قالت: يا رسول الله ألم تسمع ما قال؟ قال لها: ألم تسمعي ما قلته ).
فإذاً السيدة عائشة التي ربيت منذ نعومة أظفارها في بيت النبوة والرسالة، ما وسعها إلا أن تستعمل الشدة مكان اللين، فماذا نقول في غيرها؟ السلفيون لم يربوا في بيت النبوة والرسالة، بل أنا أقول الآن كلمة ربما طرقت سمعك يوماً ما من بعض الأشرطة المسجلة من لساني: إن آفة العالم الإسلامي اليوم مقابل ما يقال في الصحوة الإسلامية، هو أن هذه الصحوة لم تقترن بالتربية الإسلامية، لا يوجد تربية إسلامية اليوم، ولذلك فأنا أعتقد أن أثر هذه الصحوة العلمية سيمضي زمناً طويلاً حتى تظهر آثارها التربوية في الجيل الناشئ الآن في حدود الصحوة الإسلامية، ففيها تصرفات وعثرات، لكن هؤلاء الأفراد يعيشون تحت رحمة الله عز وجل، ومنهم القريب ومنهم البعيد، ولذلك فمن الناحية الفكرية والعلمية، سوف لا تجد من يخاصمك ويخالفك في أن الأصل في الدعوة أن تكون باللين والموعظة الحسنة، لكن المهم التطبيق، والتطبيق هذا يحتاج إلى مرشد وإلى مربي يربي تحته عشرات من طلاب العلم، وهؤلاء يتخرجون على يد هذا المربي مربين لغيرهم، وهكذا تنتشر التربية الإسلامية رويداً رويداً، بتربية هؤلاء المرشدين لمن حولهم من التلامذة، وبلا شك أن الأمر كما قال تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت:35] .
ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الأمة الوسط لا إفراط ولا تفريط.
السائل: جزاك الله خيراً يا شيخ.
السؤال: أحياناً يلاقي السني ممن يقابله من أهل البدع عتواً واستكباراً، والأمر كما أمر الله عز وجل موسى باللين مع فرعون قال له: { وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً } [الإسراء:102] يوجد دكاترة في الكلية يستهزئون بنا عندما نقول لهم: قال الرسول، ويمثلون صلاة السلفيين وبعض التصرفات، فيخرج الإنسان عن طوره ويستعمل معهم الشدة، وأعجبني المثل الذي سمعته منك يا شيخ الذي يقول: (قال الحائط للوتد: لِمَ تشقني؟ قال: سل من يدقني).
وكذلك في إحدى المرات كنا نناقش بعض أفراد حزب التحرير -وكما لا يخفى عليكم هدفهم هو مسألة الخلافة، ونحن -بحمد لله- هدفنا أولاً العقيدة والتوحيد- فلما بدأنا معهم في البحث العلمي من الأساس -كما تعلمنا منكم- فجاءت مسألة الأسماء والصفات، فكان أحدهم ومن كبارهم يقول: نحن ننتظر طول الليل بإصبعه ورجله! يستهزئ بصفات الله عز وجل.
فماذا نقول لهذا؟ الشيخ: على كل حال، نسأل الله أن يؤتينا الحكمة وهي أن نضع كل شيء في محله.
السائل: عمر لما قال له رجل: [ استغفر لأخيك، قال: لا غفر الله له ] .
الشيخ: عندي أمثلة كثيرة جداً، يذكرنا الأخ أبو عبد الله بأثر عن عمر أن رجلاً قال له: [ استغفر لأخيك، فقال: لا غفر الله له ] ما رأيك في هذا؟ لا شك أنك لو رأيتني أقول هذه الكلمة لقلت: الشيخ متشدد، لكن هنا يكون في نفس المُنكِر الغيرة على الشريعة فتحمله أن يقسو في العبارة، بينما ذلك المتفرج لا توجد لديه هذه الغيرة التي ثارت في نفس هذا الإنسان فيخرج منه هذا الكلام.
وهنا عندنا في سوريا يقولون: (شوها الشدة يا رسول الله؟) هذه لهجة سورية خاطئة، يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن الشدة صادرة منه صلى الله عليه وسلم، وهم يعنون هذا الإنسان.(45/5)
وجوب العدل والإنصاف في تقييم الآخرين
سبحان الله! المسألة ينبغي أن تراعى جوانبها من كل النواحي، حتى الإنسان يكون حكمه عدلاً، ثم أيضاً مما يبدو لي الآن أن من أسباب إشاعة هذه التهمة -إذا صح أنها تهمة- عن السلفيين، تعرف أنت أن من كثر كلامه كثر خطؤه.
فالذين يتكلمون في المسائل الشرعية هم السلفيون، فلذلك لا بد أن يخطئوا لكثرة ما يتكلمون، فيتجلى خطؤهم، ومن هذا الخطأ الشدة عند الآخرين الذين هم لا يجولون ولا يخوضون في هذه القضايا، بينما لو نظرت هذه الشدة في عموم ما يصدر منهم من نصح على العدل وعلى الإنصاف واللين؛ لوجدنا من مثل بعض الأمثلة التي ذكرناها عن بعض السلف وأمام الرسول عليه السلام فيها شدة، ولكن هذه الشدة لا تسوغ لنا أن ننسب هؤلاء الصحابة الذين وقعوا في الشدة في جزئية معينة أنهم كانوا متشددين، وإنما قد نقع -كما قلنا- أنا وأنت وغيرك في شيء من الشدة.
السائل: كانت السمة البارزة عليه اللين والرفق، حتى وإن قال: كذب فلان، أو أجعلتني لله نداً وما شابهه.
الشيخ: نعم.(45/6)
رأي الشيخ الألباني في ناصر العمر
السائل: علمت أن الشيخ ناصر العمر زاركم قريباً.
الشيخ: نعم.
السائل: فكيف كانت زيارة الشيخ؟ وما هو انطباعكم عن الشيخ ناصر العمر ؟ الشيخ: ما شاء الله، نعم الرجل طالب علم قوي فيما يبدو لنا، ولا نزكي على الله أحداً، متجرد عن الهوى.
السائل: الحمد لله.
الشيخ: الحمد لله، وفيه خير كبير، ونسأل الله أن يكون كل طلاب العلم بهذا الخلق الإسلامي العالي.(45/7)
السقاف وانحرافاته في العقيدة
السائل: ما رأيكم في شريط ناصر العمر الذي رد فيه على المدعو السقاف ؟ الشيخ: قام بواجب طيب، ونحن الآن نحاول أن ننشر هذا الشريط في هذا البلد.
لأن هذا السقاف رجل مجرم كبير، وهو في اعتقادي أن وراءه أناساً، ليس هو وحده في الميدان، وهو جهمي جلد مُرٌّ، ويتلاعب بالسنة، يصحح منها ما يشاء وهو ضعيف، ويضعف منها ما يشاء وهو صحيح عند العلماء، وحسبك دليلاً على ذلك حديث الجارية: ( أين الله؟ ) يقول: أنا أقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقل هذا الحديث، وهو يعلم بل ويعزوه إلى صحيح مسلم ، ومع ذلك فهو يقطع بأن هذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه يصححه كثير من العلماء الذين هو يركن إليهم فيما يتعلق بتأويل الصفات أو في تأويل بعض الصفات، كالإمام البيهقي مثلاً.
فالإمام البيهقي -والحمد لله- هو من كبار علماء الحديث وإن كان فيه أشعرية، فهو من هؤلاء الذين صححوا هذا الحديث، فهو لا يبالي به أي مبالاة، فضلاً عن الحافظ ابن حجر أيضاً الذي صحح الحديث لا يبالي به، فهو يقول أنه يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال هذا الحديث.
ويأتي بأحاديث بعضها صحيح، ليس فيها جملة (أين الله)، فيضرب هذه الجملة بتلك الروايات التي ليس فيها هذه الجملة، مع أنه لا تَعَارُض، وأكثر الروايات التي يعتمد عليها لا تخلو من علة حديثية، ومع ذلك هو لا يبالي، وهو ينطلق فيما يرد على أهل السنة من القاعدة اليهودية الصهيونية التي تقول: (الغاية تبرر الوسيلة)، هكذا.(45/8)
اعتداءات السقاف في تعليقاته على كتاب دفع شبه التشبيه
وما أدري وصلكم كتاب دفع شبهة التشبيه لـ ابن الجوزي بتعليق هذا الرجل الدجال؟ السائل: ما رأيته.
الشيخ: هذه مصيبة المصائب، هذا وضع فيه مقدمة طويلة كلها رد على أهل السنة ، ويسمي المثبتين للصفات وأنا في مقدمتهم بـ المجسمة ، لمجرد أننا نثبت الصفات، وأظنك وقفت على كتابي: مختصر العلو للذهبي ، وقفت عليه؟ السائل: نعم.
الشيخ: والمقدمة التي تبلغ سبعين صفحة تقريباً كلها جمع بين الإثبات مع التنزيه، ومع ذلك كلما ذكرني جعل بين هلالين (المجسم)، وهو يقول في تفسير قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء } [الملك:16] أن اعتقاد أن الله في السماء عقيدة المشركين في الجاهلية، ومن هنا ينطلق ويضرب حديث الجارية بأنه موضوع، لأنه يحمل عقيدة المشركين، الجارية تقول: الله في السماء، هذا قول المشركين.
السائل: ممن زار السقاف قبل مدة الشيخ نسيب الرفاعي ، وبعد أن صلينا الجمعة في مسجدنا صلى الشيخ أحمد السالك ، لأن الشيخ نسيب كان مريضاً، وإذا بـ السقاف أتى، وكنا قد سبقناه.
الشيخ: جاء إلى من؟ السائل: إلى الشيخ نسيب .
الشيخ: يأتيه باستمرار؟ السائل: لا.
هذه ثاني مرة جاء، فقال له الشيخ نسيب : أنت تؤول الصفات وتنفيها، فما دليلك على هذا التأويل؟ فقال: دليلي أن البخاري أوَّل.
الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله! السائل: فقال له الشيخ أحمد السالك : يا حسن ! أتثبت لله ذاتاً، قال: نعم، قال: والصفات فرع عن الذات، فكما أن له ذاتاً ليست كالذوات، أي أن يده ليست كالأيدي، فقال: أنا ما جئت هنا للمناقشة.
الشيخ: هذا دأبهم.
السائل: ثم قال للشيخ نسيب : إن الشيخ ناصر يقول: إنك مشرك، فقال: له الشيخ نسيب : ومع ذلك فأنا معه ضدك، فجلس قليلاً ثم انصرف وما عاد بعدها.
الشيخ: كذاب لا شك، أعوذ بالله! السائل: أنا تتبعت جميع رسائل السقاف ما عدا هذه، لا لمناقشة أقواله فقط، بل أرجع إلى المصادر التي ينقل منها وأقواله، فوجدت العجب العجاب في جميع رسائله التي طبعها! الشيخ: أحسنت.
السائل: وهي مجموعة، وأعطيتها للشيخ علي حتى ينظر فيها.
الشيخ: جزاك الله خيراً.
السائل: فوجدت ضعفه في اللغة.
الشيخ: حدث ولا حرج.
السائل: فعجبت جداً! حتى في بعض رسائله وجدته ينقل إجماع أهل الحديث على أنه لا يجوز التصحيح ولا التضعيف إلا من قبل حافظ، ويقول: ومنهم الحافظ ابن حجر ، و السيوطي .
الشيخ: الله أكبر! الله أكبر! السائل: وهذه دعوى ما ادعاها أحد قبله.
الشيخ: نعم هو دجال، الله أكبر عليه! الله أكبر عليه!(45/9)
طعن السقاف في شيخ الإسلام ابن تيمية
السائل: وفي بعض رسائله رأيته يدعي ويقول: إن سير أعلام النبلاء تطبع إلا المجلد الأخير الذي فيه ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية ، قال: والله أعلم لماذا أخفوا هذا الكتاب.
مع أن ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية نقلها ابن الوزير في العواصم ، وعندي صورة من مخطوطتها لما حققه شعيب الأرنؤوط وفيها المدح لـ شيخ الإسلام .
الشيخ: نقلها من السير ؟ السائل: ابن الوزير يقول: ولقد أكثرت في هذا الجزء من النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية فهاك ترجمته من سير أعلام النبلاء ، وساقها، وعندي صورة المخطوطة، وفيها الثناء القوي على ابن تيمية .
الشيخ: هل تنوي أن تنشر هذه الحقائق عن الرجل هذا؟ السائل: ما نصحنا من باب عدم شهرة هذا الرجل، وعدم الرد عليهم أولى، وعدم متابعتهم، والقلب يميل إلى أنه لابد من إخراج شيء منه.
سائل آخر: الفرق بين كتاب السقاف وغيره من الكتب التي تهاجم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني : أنه يتأثر به حتى العامي الذي يقرأ الكتب، وحتى المثقف، والمهندس، حتى الكيميائي بخلاف الردود الأخرى، مثل ردود محمود ممدوح سعيد أو غيره فلا يستطيع أن يعرفها أو يتفاعل معها حتى كثير من طلبة العلم، فمن ههنا تكمن خطورة هذا الكتاب، وفي نفس الوقت أهمية الرد على هذا الكتاب برد موجز في رسالة قابله للانتشار من الرسائل الصغيرة التي بقدر الكف، فقط لإعطاء نماذج من تحريفاته ومن خزعبلاته، ويضاف ما لديه من شذوذ من تكفيره للألباني مثلاً وتكفيره لـ شيخ الإسلام وغيره.
الشيخ: أنا أعتقد أن هذا المشروع الذي أشرت إليه مهم جداً.
السائل: هلا ناقشته يا شيخ! فهو جاهل.
الشيخ: مناقشته تحتاج إلى مجلدات، كم تريد أن تناقش لو كنت مناقشاً له؟ الله أكبر عليه! العجيب أنه نقل من تفسير البحر المحيط لـ أبي حيان في تفسير الآية السابقة: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء } [الملك:16] تفسيراً عجيباً جداً، قال: إن ربنا عز وجل يقول للمشركين: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء، أعوذ بالله! الله أكبر! شيء فظيع لا مثيل له في قلب الحقائق!! فتجد هنا في كتاب ابن الجوزي ، و ابن الجوزي مع الأسف انحرف عن المنهج السلفي في الصفات، فينقل عن بعض الحنابلة -والحقيقة أن عندهم شيئاً من الغلو في الإثبات- فـ السقاف هذا عندما يذكر ابن الجوزي رجلاً من هؤلاء الحنابلة يضع بين هلالين (المجسم فلان) كيف استجاز لنفسه أن يدسَّ في كتاب غيره، وليته ذكر في المقدمة أنه اصطلح هذا الاصطلاح، بل جعلها معمية كي يضل الناس.(45/10)
طعنه في الشيخ الألباني
السائل: يا شيخ! رأيت له كتاب: الشهاب الحارق في الرد على الألباني المارق ، يذكر في أول الكتاب مقدمة زعفرانية كما يسميها -ما شاء الله! بلغ به العلم إلى كتابة مقدمة- فيورد عليك بعض الأسئلة وهي لغتها قوية، فوقع في نفسي أنها ليست من قوله، وبعد أن أكملها وبدأ ينشئ قال: (ونحن على ثقة ) فخطر على بالي أن أراجع كتب المقامات، فراجعت مقامات الحريري وإذا بالمقامة نفسها التي كتبها الحريري وذكر بأنه ذهب إلى الحرم، وكان هناك شيخ متصدر للفتوى، وجاءه رجل يكني عنه الحريري أبا يزيد فقام له فتىً فتيق اللسان، وسأله أسئلة فقهية فيها ألغاز، فـ السقاف أوردها وجعلك أنت ذلك الشيخ، وهو الفتى السائل فصيح اللسان، وغيَّر المقامة.
الشيخ: الله أكبر! السائل: حتى يوهم الناس أنها من مقاماته.
الشيخ: الله المستعان.
السائل: يا شيخ! وأنا عندما جلست عند الشيخ نسيب قلت له أنك تقول في كتابك: رفاعة أو شداد بن رفاعة القِتباني ، فقال: إن الصواب الفتباني وهذا دليل على جهل الألباني أنه قال: القِتباني ، فقلت له: أولاً: الشيخ ناصر العمر نقل من سنن ابن ماجة وفيها القِتباني .
ثانياً: الحافظ ابن حجر يقول في التقريب : شداد بن رفاعة أو رفاعة بن شداد القِتباني ، بكسر القاف، فهل الشيخ ناصر ملزم أن يتتبع كل الكتب حتى يتأكد أنها الفتباني أو القِتباني ، وخاصة أن هناك نسبتين عند أهل الحديث، هناك الفتباني و القِتباني ، فهو غير ملزم بعد قول الحافظ ابن حجر .
قال: أعرف أن الحافظ ابن حجر قال هكذا.
قلت: فكيف تدلس على الناس؟ قال: حتى أري الناس أن الألباني غير معصوم.
الشيخ: ما شاء الله، مسكين يتتبع العثرات.
السائل: وجاءه الشيخ أحمد السالك وقال له الشيخ نسيب : هذه مؤلفاتي انظر فيها، فالشيخ أحمد السالك مسك الكتاب وقال: تنشر هذه على الناس؟ قال: نعم، قال: هذا غلط إملائي وهذا غلط نحوي وهذا غلط؛ فاحمر وجهه واستحيا.
الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله!(45/11)
الرد على الأحباش
الأحباش هم تلاميذ عبد الله الحبشي، وهم من الفرق التي تأخذ عقيدتها من علم الكلام القائم على العقل، فهم لا يعتمدون على فهم السلف الصالح للكتاب والسنة وإنما يعتمدون على عقولهم.
وقد قام الشيخ الألباني رحمه الله بالرد عليهم ودحض عقائدهم الباطلة في الله عز وجل بأدلة الكتاب والسنة.(46/1)
نعمة العقل واختلاف الناس فيه
بعض الأحباش -تلاميذ عبد الله الحبشي - قاموا بمخاطبة بعض نساء هذا البلد عن طريق الفطرة، كأن يقولوا لهن: من خلق المكان؟ فيقلن: الله.
فيقول هذا الحبشي: وهل يجوز أن الله هو خالق المكان أن يكون داخل هذا المكان؟ فتجيب المرأة: لا.
فيقول لها: إذاً الله لا يحده شيء، لا هو في الأعلى ولا في الأسفل، ولا في الأمام ولا في الخلف، ولا في اليمين ولا في اليسار، وكذلك سائر الصفات، يقولون: إن اليد المتعارف عليها هي الجارحة المتعارف عليها بين البشر، وهذا محال أن يكون لخالق البشر وهو رب العباد، أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
ليتها كانت طريقة فطرية! إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102] { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قبل أن أشرع في الإجابة عن هذا السؤال، أطمئن المسلمين جميعاً الحاضرين منهم والغائبين، الرجال منهم والنساء: بأن الله تبارك وتعالى منزه عن كل مكان؛ ذلك لأن المكان حينما يطلق فإنما يقصد به ما كان عدماً ثم خلقه الله عز وجل، فجعله مكاناً لمثل هذه المخلوقات المختلفة من إنس وجن وملائكة، ولكن هذه الكلمة التي تلقى من أولئك الناس، وهم معلومون عند أهل العلم بأنهم يحيون سنة سيئة من علم الكلام القائم على العقل، وليت هذا العقل كان عقلاً موحداً بين جميع الناس، بين المسلمين منهم والكافرين، وبين الصالحين من المسلمين والطالحين، ليت هذا العقل كان عقلاً موحداً؛ حتى يصح لكل عاقل أن يرجع في الحكم إليه! ولذلك كان من الحماقة بمكان عظيم أن يحكم هؤلاء المنتمون إلى الإسلام بإخلاص أو بغير إخلاص، فحسابهم على الله!! لكن لو كان العقل موحداً لكان لهم نوع من العذر أن يحكموا عقولهم، أما والعقول -أولاً- مختلفة -كما قلنا ولا أعيد التفصيل- بين صالح وطالح؛ فليس لهم عذر أن يحكموا عقولهم.
والآن أقول فرقاً آخر: عقل العالم يختلف كل الاختلاف عن عقل الجاهل، ولا أقول: عقل عالم بالشرع، وإنما أقول: عقل عالم بأي علم، يختلف كل الاختلاف عن عقل آخر ليس بعالم ذاك العلم الذي عقله الرجل الأول -فمثلاً الطبيب العاقل لا يمكن أن يشاركه في عقله وفي علمه من لم يكن مشاركاً له في طبه، والعكس بالعكس تماماً، من كان عالماً -مثلاً- بالفيزياء أو الكيمياء لا يمكن أن يشاركه من كان عالماً بالطب .(46/2)
الفرق بين العاقل العالم وبين العاقل الجاهل في فهم الكتاب والسنة
وهكذا نقول في نهاية المطاف: لا يمكن أن يكون العاقل العالم بالكتاب والسنة كذاك العاقل الجاهل بالكتاب والسنة.
والأمر أهم من هذا التقسيم وهذا التفصيل، العاقل العالم بالكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ، لا يمكن أن يكون عقله كعقل ذلك الرجل الذي يتكئ على عقله في فهم الكتاب والسنة، ولا يرجع في فهمه إلى ما كان عليه السلف الصالح ، فهنا إذاً في نهاية هذا التقسيم عالمان بالكتاب والسنة، لكن أحدهما يعتمد في فهمه للكتاب والسنة على الآثار السلفية، التي تعود -أولاً- إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأولين، ثم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
هذا الذي يعتمد على الكتاب والسنة، وعلى المنهج السلفي، يختلف عقله كل الاختلاف عن ذاك الرجل الآخر الذي يعتمد على الكتاب والسنة ولكن يعتمد على فهمه إياهما وليس على فهم السلف لهما، هؤلاء الناس من علماء الكلام المحدثين، أو أولئك العلماء -علماء الكلام القدامى- الذين يحكمون عقولهم، وليت عقلهم كان معتمداً فقط على الكتاب والسنة! وليس كالفريق الأول الذي يعتمد على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح.
لا أدري إذا كان هذا المكان يتطلب مني وقفة أرجو أن تكون قصيرة للتفريق بين الرجلين: الأول: الذي يعتمد على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح.
والثاني: الذي يعتمد على الكتاب والسنة دون أن يلوي رأسه وعقله وفهمه إلى ما كان عليه سلفنا الصالح.
لعل هذا لا يحتاج إلى التوضيح.(46/3)
مسألة المكان وضلال الأحباش والمتكلمين فيها
فإذا كان هذا التفريق واضحاً في أذهان إخواننا الحاضرين وأخواتنا الحاضرات، فأقول: هذه فلسفة نعرفها من أخزم -شنشنة نعرفها من أخزم- حينما يعتمدون على الكلام، ولا أقول على العقل بعد ذاك التفصيل، وإنما على عقلهم فقط يريدون أن ينزهوا الله عز وجل عن المكان وهو منزه عن المكان بحكم قوله عز وجل: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } [البقرة:255] فالله عز وجل -كما نعلم جميعاً على اختلاف الفرق الإسلامية- كان الله ولا شيء معه، لم يكن ثمة زمان ولا مكان، ثم خلق الله عز وجل المكان والزمان؛ فلذلك لا شك ولا ريب أن الله عز وجل ليس في مكان، ولكن الذي يجب الانتباه له: أن تلك الكلمة الحبشية -إذا صحت هذه النسبة- كلمة حق أريد بها باطل، أي: قولهم: إن المكان مخلوق، ولا يُعقل أن يكون الله عز وجل حالاً في مخلوق!! هذا كلام صحيح، لكنها كلمة حق أريد بها باطل، ما هو الباطل الذي يراد بهذه الكلمة؟ يريدون أن يعطلوا الله عز وجل عن صفاته وعن أسمائه تبارك وتعالى المصرح بها في القرآن وفي السنة الصحيحة.
فنحن نقول معهم بأن الله عز وجل ليس في مكان، ولكن هل يقولون معنا كما قال الله عز وجل في القرآن: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]؟ هل يقولون معنا كما في الآية الكريمة: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر:10]؟ هل يقولون معنا كما قال ربنا: { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج:4]؟ الجواب -مع الأسف-: لا.
إذاً تلك كلمة حق أريد بها باطل، والآن سيتضح لكم، ولكل من قد يكون تسربت إليهم أو إليهن شيء من شبه أولئك الأحباش، فنقول: إن الله عز وجل قد وصف في هذه الآيات وفي غيرها، وفي أحاديث كثيرة وكثيرة جداً، أن له تبارك وتعالى صفة العلو، فلا جرم أن المصلي حينما يسجد يقول: سبحان ربي الأعلى، وأن من أدب التلاوة في صلاة الليل إذا قرأ الإمام : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [الأعلى:1] أن يقول المقتدون من ورائه: سبحان ربي الأعلى، ونحو ذلك من نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، قاطعة الدلالة على أن لله عز وجل صفة العلو على المخلوقات كلها، هل هم يقولون مع قولهم: إن الله ليس في مكان، أن الله عز وجل على العرش استوى؟ لا يقولون بذلك؛ والسبب يعود إلى أحد أمرين اثنين، والأمران كما يقال: أحلاهما مر؛ فإما أن يكون هذا الأمر يعود إلى انحراف في الفكر والعقل، وإلى نقص في العقل والفهم، وإما أن يكون القصد الهدم للإسلام من أقوى جوانبه، ألا وهو العقيدة المتعلقة بالله تبارك وتعالى، وكما علمتم أحلاهما مر، سواءً كان قولهم هذا بأن ينكروا ما صرح الله عز وجل في تلك الآيات والنصوص ما ذكرنا منها وما لم نذكر، بأن له صفة العلو.
نحن سنقول الآن: الله عز وجل ليس في مكانٍ خلقه بعد أن كان عدماً، هذه حقيقة لا شك ولا ريب فيها، لكن هل الله عز وجل فوق المخلوقات كلها وهو ليس في مكان؟ لا تلازم -وهنا يظهر جهل هؤلاء أو كيدهم- لا تلازم إطلاقاً بين إثبات صفة العلو لله عز وجل على المخلوقات كلها، وبين أن يكون هو في مكان؛ لأن المكان حينما يطلق إنما يراد به شيء كان مسبوقاً بالعدم ثم خلقه الله عز وجل.
إذاً: هؤلاء الذين يبدءون الكلام بالفلسفة الكلامية: المكان مخلوق أم ليس بمخلوق؟ نعم.
هو مخلوق هل يليق بالله عز وجل أن يكون في مكان خلقه؟
الجواب
لا يليق، إذاً كيف يقال: إن الله في مكان؟ نقول: لا أحد من المسلمين يقول: إن الله في مكان، إلا المنحرفين عن الكتاب والسنة.(46/4)
الفرق المنحرفة في إثبات المكان لله تعالى
هناك طائفتان اثنتان: طائفة تثبت المكان لله ولعلكم تسمعون هذا الإثبات من ألسنة من ينتمون إلى أهل السنة والجماعة من بين أظهرنا، ولا نذهب بكم بعيداً عنا، فأحدنا في بعض المجالس طالما سمع بأذنيه قائلاً من المسلمين وليسوا من الأحباش يقول: الله في كل مكان، الله موجود في كل الوجود، هذه عقيدة ليست من عقائد المسلمين إطلاقاً، وإنما هي عقيدة طائفتين انحرفتا عن العقيدة الصحيحة التي ذكرنا آنفاً أنها من المقطوع بها في القرآن وفي السنة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى.
الطائفة الأولى: هم المعتزلة قديماً وحديثاً، المعتزلة القدامى يصرحون بأن الله في كل مكان، ومن هؤلاء الطوائف التي لا تعرف اليوم باسم المعتزلة ، لكنهم يعرفون باسم آخر، وهم طائفة من الخوارج ، الذين نعرف جميعاً شيئاً من تاريخهم ومن إسرافهم في كثير من العقائد الصحيحة، تلك الطائفة الموجودة اليوم هم المعروفون بـ الإباضية ، وهم يتبنون عقيدة المعتزلة أن الله عز وجل في كل مكان، ولا كلام لنا الآن مع هؤلاء؛ لأنكم قد عرفتم بأنهم مبطلون حينما يحشرون الله عز وجل في كل مكان، لكن يجب أن تتنبهوا وأن تتذكروا أن هؤلاء الأحباش وأمثالهم حينما يلتقون مع بعض المسلمين أو المسلمات، ويشككونهم في عقيدتهم الصحيحة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى، كيف؟ لا كيف -كما تعلمون- وهذا له بحث آخر، فبدل أن يعالجوا ما نسمع في مجالس أهل السنة والجماعة -كما يقولون اليوم أن الله موجود في كل مكان- بدل أن يعالجوا هذا الخطأ يعالجون عقيدة صحيحة باسم إنكار هذا الخطأ.
المعتزلة قديماً ومن على شاكلتهم من الإباضية حديثاً، يصرحون بأن الله في كل مكان، وهذا ضلال ما بعده ضلال، ولعلنا نعرج لتفصيل شيء من هذا الضلال.
أما الطائفة الأخرى فهم الذين يقولون: إن الله ليس في مكان مطلقاً، سواء كان المكان مكاناً وجودياً -أي: الذي كان عدماً ثم خلقه الله- أو كان مكاناً ذهنياً.
كلنا يعلم -كما ذكرت لكم آنفاً- بأن الله عز وجل كان ولا زمان ولا مكان، هل كان في مكان؟ إن كان المقصود بالمكان المكان المخلوق فحاشاه! فقد كان ولا شيء معه مطلقاً، لكنه كان، فكان في مكان، أما إن كان في هذا العدم الذي كونه فيما بعد، فجعل قسماً منه خلقاً بقوله: { كُنْ فَيَكُونُ } [البقرة:117] فالله كان وهو من هذه الحيثية لا يزال كما كان، أي: ليس في مكان مخلوق، هذا واضح جداً.
فالطائفة الأخرى ينكرون أن يكون الله عز وجل كما كان في الأزل ليس في مكان، ولذلك فهم لا يثبتون له صفة العلو على المخلوقات كلها.
هؤلاء لهم مقولة من أبطل ما يقوله كافر -لا أقول: مسلم- وهم الفرقة الثانية الذين يخالفون المعتزلة في ضلالهم، وقد عرفتم أن المعتزلة يقولون: إن الله في كل مكان، وهذا ضلال واضح ولا يحتاج إلى بيان إن شاء الله، على الأقل الآن أولئك الذين يقولون: الله ليس في مكان -كما تقول المعتزلة وكما تقول الأحباش- هؤلاء لا يقولون: إن الله عز وجل له صفة العلو على المخلوقات كلها، لا يعلم كيفية ذلك إلا الله عز وجل، ماذا يقولون؟ يقولون وهذه عقيدة الأحباش، فأرجو ممن تمكنوا من الوسوسة إليهم أن يعرفوا حصيلة وسوستهم، ألا وهي جحد الخالق، والمصير إلى الإلحاد المطلق، كما هو مذهب الشيوعيين والدهريين و الزنادقة والملاحدة، الذين يقولون: لا شيء إلا المادة، هؤلاء يصفون ربهم ويقولون: الله تبارك وتعالى لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه.
نحن اتفقنا معهم أن المكان مخلوق وهو العالم، فالله ليس داخل العالم، ولكن ما بالهم يقولون أيضاً: ليس خارج العالم؟ هذا هو الإلحاد، وهذا هو الجحد المطلق.
زاد بعضهم إغراقاً في التعطيل وفي النفي فقالوا -بعد أن قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه- قالوا: لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه هذا هو الجحد، هذا هو الذي يقوله الدهريون جميعاً، ويعجبني -بهذه المناسبة- مناظرة وقعت بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً، وبين بعض علماء الكلام من أمثال الأحباش هؤلاء، الذين شكوا شيخ الإسلام ابن تيمية إلى حاكم البلد يومئذ في دمشق بأنه يقول كذا وكذا، ويجسم، ويتهمونه بما ليس فيه، وطلبوا عقد مجلس مناظرة معه؛ فاستجاب الأمير لذلك، ودعا شيخ الإسلام ابن تيمية والمخالفين له، فجلسوا أمام الأمير، فسمع الأمير دعوى هؤلاء المشايخ، وسمع من شيخ الإسلام الآيات والأحاديث التي تثبت لله عز وجل صفة العلو على خلقه، مع التنزيه التام، كما صرح به القرآن: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] فلما سمع كلام الشيخ من جهة وكلام أولئك العلماء من جهة أخرى؛ قال -وهذا يدل على عقل وذكاء ممتاز- قال: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم.
هذه كلمة حق تقال لأناس يقولون عن ربهم باختصار: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، صدق ذلك الأمير حينما قال عن هؤلاء الأقوام: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم؛ لأننا إذا قلنا لأفصح رجل في اللغة العربية: صف لنا المعدوم الذي لا وجود له لما استطاع أن يصف بأكثر مما يصف هؤلاء معبودهم وربهم، فالمعدوم: الذي ليس داخل العالم ولا خارجه، فهل الله كذلك؟ حاشا لله! بل كان الله ولا شيء معه.
لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يصف المجسمة الذين يشبهون الله ببعض مخلوقاته، وهؤلاء هم الذين يتستر من ورائهم الأحباش، فينكرون أن يكون لله -مثلاً- صفة اليد التي ذكرها في القرآن، والصفات الأخرى التي قد نتعرض لذكر شيء منها قريباً إن شاء الله.
وصف ابن تيمية هؤلاء المجسمة بوصف دقيق جداً، كما أنه وصف المعطلة ، وقرن الطائفتين وجمعهم في وصف يجمعهم الضلال قال: المجسم يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً.
هذا هو الحق، المجسم يعبد صنماً، الله ليس جسماً، حاشا لله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] أما المعطل فيعبد عدماً، كيف؟ لا داخل العالم ولا خارجه، لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، هذه هي عقيدة المعتزلة وعلماء الكلام ومنهم الأشاعرة اليوم، ومنهم بعض الماتريدية قديماً، وقد يكونون اليوم عامةً ماتريدية حيث لا يقولون بقولة الحق التي قالها بعض الماتريدية القدامى، الذين تمسكوا بهدي السلف الصالح ، فقال قائلهم بحق:
ورب العرش فوق العرش لكن بلا وصف التمكن واتصال
أي: إن الله عز وجل -كما قال- هو الغني عن العالمين، فالله عز وجل استوى على العرش، أي: استوى على المخلوقات كلها، ليس لأنه بحاجة إليها، وإنما ليكون مهيمناً وقاهراً لكل مخلوقاته.(46/5)
إثبات صفة العلو لله عز وجل والرد على من أنكرها
يأتي هنا أن نقول لهؤلاء الأحباش وأمثالهم من المنحرفين عن عقيدة السلف الصالح: إن الله عز وجل فوق العرش، استعلى بنص القرآن الكريم وتفسير السلف الصالح، هأنتم تقولون: إن الله ليس في مكان، فهل يجوز للمسلم أن يقول: أين الله؟! هنا ينكشف البرقع عن هؤلاء المتسترين بتنزيه الله عز وجل عن المكان المخلوق، لكننا نسألهم: هل الله عز وجل في السماء؟ علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن لنا -نحن معشر المسلمين، المتبعين للكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح- هو الذي سن لنا أن نسأل من نشك في إيمانه بالله عز وجل: أين الله؟ وبالتالي سن لنا الجواب أن نقول: الله في السماء، لكن هذا لا بد أنه بحاجة إلى شيء من البيان -أي: حينما نقول: الله في السماء- وهذا سأقوم به -إن شاء الله- بعد أن أذكر إخواننا وأخواتنا الحاضرات بحديث أخرجه الأئمة في كتبهم، واتفق علماء الحديث، وعلماء التفسير، وفقهاء الأئمة الأربعة وغيرهم على صحة الحديث التالي، وقد أخرجه من أهل الحديث الإمام مسلم في صحيحه، ومن قبله الإمام مالك في موطئه ، ومن بعده الإمام أحمد في مسنده ، وغيرهم كثير وكثير جداً ممن تبعوهم بإحسان، ذلك الحديث هو ما جاء بالسند الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه: ( أنه صلى يوماً وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل بجانبه فقال له وهو يصلي: يرحمك الله، فنظروا إليه بأطراف أعينهم مسكتين له ) لكن يبدو أنه كان حديث عهد بالإسلام ومعرفة الأحكام المتعلقة بالصلاة؛ ولذلك فقد ضاق بهم ذرعاً حينما رآهم ينظرون إليه نظرة تسكيت له- ( فقال رافعاً صوته: واثكل أمي! ما بالكم تنظرون إلي؟! فأخذوا ضرباً على أفخاذهم ) أيضاً يتابعونه بالإسكات، فحينئذٍ كأنه تبين أنه على خطأ، فذكر من هديه عليه السلام ولطفه معه قال: ( فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة أقبل إلي، فوالله ما قهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي تسبيح وتكبير وتحميد ).
ولما وجد الرجل هذا اللطف -وكل شيء من معدنه جميل، فهو الذي وصفه رب العالمين في القرآن الكريم: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4] حينما وجد منه هذا اللطف في التعليم؛ طمع أن يزداد علماً بعد أن عرف أنه أخطأ في الصلاة وتكلم ولا يجوز له الكلام، فقال: ( يا رسول الله! إن منا أقواماً يتطيرون.
قال: فلا يصدنكم، قال: إن منا أقواماً يأتون الكهان.
قال: فلا تأتوهم، قال: إن منا أقواماً يخطون بالرمل ...) وضرب الرمل معروف، وهو إلى اليوم مع الأسف، فقال عليه الصلاة والسلام: ( قد كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه خطه فذاك ) والشاهد الآن يأتي، وما مضى يحتاج إلى محاضرة بل وأكثر من محاضرة، ولكن الشاهد هو ما سيأتي الآن ( قال: يا رسول الله! لي جارية ترعى غنماً لي في أحد ، فسطا الذئب يوماً على غنمي، وأنا رجل أغضب كما يغضب البشر، فصككتها صكة وعليَّ عتق رقبة.
فقال عليه الصلاة والسلام: هاتها، فلما جاءت قال لها عليه الصلاة والسلام: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال لسيدها: اعتقها فإنها مؤمنة ) هذا الحديث اتفق علماء المسلمين على اختلاف تخصصاتهم؛ من علماء الحديث -وهذا تخصصهم- وعلماء التفسير، والفقه، والتوحيد، كلهم اتفقوا على تصحيح هذا الحديث، إلا علماء الكلام الذين يركبون رءوسهم ويتبعون أهواءهم، فهم الذين يردون هذا الحديث بعقولهم التي عرفتم أنها لا قيمة لها.(46/6)
جواب الأحباش وغيرهم عن سؤال: أين الله؟
هذا الحديث أجاز لنا أن نسأل الأحباش وأمثالهم من أذناب المعتزلة أو الإباضية : أين الله؟ فستراهم حيارى، والجيد منهم يقول: هذا سؤال لا يجوز.
وهم يجهلون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا السؤال لأمته، فهم إذاً يردون على نبيهم الذي يزعمون أنهم يؤمنون به.
قد لا تصدقون، لكن الكتاب موجود، وبعض العلماء في العصر الحاضر يقولون: إن القول بأن الله في السماء هي عقيدة الجاهلية وليست عقيدة المسلمين، وأن هذه الكلمة "إن الله في السماء" حكاها عنهم رب العالمين في القرآن الكريم من سورة تبارك: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } [الملك:16] { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [الملك:17] .
وهناك قسم آخر أقرب إلى الهدى وأبعد عن ضلال القسم الأول الذين قالوا: إن القول بأن الله في السماء هو قول جاهلية، يتأولون هذه الآية بتأويل، فيقولون: (من في السماء) أي: الملائكة.
وهذا من شؤم ما يسمونه بالمجاز، إنهم يسلكون طرق المجاز لتعطيل الصفات الإلهية، وتأتي هنا أحاديث كثيرة لإبطال مثل هذا التأويل، من ذلك: الحديث المتداول بين الناس اليوم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بل لا يفقهون ما به يتكلمون، ذلك الحديث هو: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، من في السماء؟ الله، ومن في الأرض؟ خلق الله؛ من إنسان، وحيوان، ودواب إلخ.
هذا الحديث لأنه يوضح المعنى المقصود من قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16] وهذا الذي قلت آنفاً: ربما نعرج لبيان معنى (من في السماء) لأن (في) من حيث الاستعمال العربي تأتي في بعض الأحيان بمعنى الظرفية، وأحياناً تأتي بمعنى آخر من حروف الجر، فتأتي بمعنى على، فيا ترى (في) هنا في هذه الآية هل هي بالمعنى المعهود أي أنها ظرف؟
الجواب
لا.
ومن هنا يظن علماء الكلام أنهم إذا نفوا أن يكون الله في السماء أنهم نزهوه، وهم في الحقيقة نزهوه عن فهمهم الخطأ للآية، لكن قد أنكروا أن يقولوا كما قال الله "الله في السماء" فجهلوا معنى أن الله في السماء أنه على السماء، وفي هذه الحالة تلتقي معنا هذه الآية مفسرة بالحديث السابق: ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) (من في الأرض) ليس المقصود من كان في جوف الأرض من ديدان وحشرات إلخ، وإنما المعنى واضح جداً: من على الأرض، من تتعاملون معهم من بني جنسكم من الإنس، أو مما ذلل الله لكم من الحيوانات، ارحموا من على الأرض يرحمكم من في السماء، أي: من على السماء.
وحينئذ هذا التفسير الذي يوضحه هذا الحديث، يلتقي تماماً مع كل الآيات التي ذكرنا بعضها، وأحاديث أخرى أن الله عز وجل له صفة العلو، فحينما نوجه السؤال إلى هؤلاء الأحباش، أو إلى غيرهم ممن هم على شاكلتهم في ضلالهم: أين الله؟ يجب أن يكون جوابهم كما قالت الجارية: الله في السماء.
لكن ليس بمفهومهم "في" ظرفية، لا.
وإنما بالمفهوم الذي وضحه الحديث أولاً، وكان عليه سلفنا الصالح ثانياً، ومعنى: (إن الله في السماء) أي: على السماء، فوق العرش؛ لأن كل ما علاك فهو سماء.
فحينئذٍ تسد الطرق كلها أمام هؤلاء الأحباش الذين يظنون أولاً: أنه لا يجوز أن يسأل المسلم: أين الله؟ وثانياً: يظنون أنه لا يجوز أن يقول: الله في السماء، بعد أن تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا
السؤال
أين الله؟ وهو الذي شهد لتلك الجارية بالإيمان؛ حينما نطقت بلفظ القرآن: الله في السماء.(46/7)
الفرق بين الصحابة وبين عامة الناس اليوم في فهم العقيدة
وهنا عبرة لا بد أن أذكرها، وهي: يتبين لنا الفرق بين الحياة التي كان يعيشها عامة المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى الجارية راعية الغنم، وبين ما يعيشه اليوم عامة المسلمين وكثير من خاصتهم؛ لأن هذا السؤال لو وجه إلى كثير من الخاصة، وفيهم بعض كبار علماء الأزهر الذي يوصف فيقال: الأزهر الشريف، لو وجه إليهم هذا
السؤال
أين الله؟ لم يجيبوا بجواب الجارية ما هذه الفارقة بين كبار العلماء في العصر الحاضر لا يجيبون عن سؤال الرسول عليه السلام، بينما راعية الغنم تعرف الجواب الصحيح لهذا السؤال الوجيه؟ أقول: هذا دليل على أن المسلمين في العهد الأول ربوا جميعاً -لا فرق بين خاصتهم وعامتهم- ربوا جميعاً بتربية النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق -على الأقل- بالعقيدة التي لا بد لكل مسلم أن يكون فاهماً لها أولاً، ثم مؤمناً بها.
هذه الجارية كيف عرفت العقيدة الصحيحة؟
الجواب
الجارية لا نتصور أنها كانت تتمكن أن تحضر حلقات العلم، التي كان يحضرها كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخاصتهم، بينما الآخرون ما كانوا يحضرون جلسات الرسول عليه السلام، إذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما سمع حديثاً من أبي هريرة رضي الله عنه ندم فقال: [ شغلنا الصفق في الأسواق ] إذا كان هذا عمر فماذا نقول عن الصحابة الآخرين؟ وماذا نقول عن النساء؟ بل ماذا نقول أخيراً عن الجواري وعن راعية الغنم؟ أريد من هذه التوطئة: كيف فهمت هذه الجارية هذه العقيدة الصحيحة، التي إلى الآن لم يفهمها بعض الخاصة من أهل العلم؟ إنها كانت تعيش في جو موحد بالتوحيد الصحيح الذي لا مثيل له في الدنيا إطلاقاً؛ بسبب وجود النور بين ظهراني أولئك الصحابة من الرجال والنساء، من الخاصة والعامة، وهو الرسول عليه السلام، هذه الجارية تلقت هذه العقيدة من سيدها، فسيدها يسمع العقيدة الصحيحة؛ بل والأحكام الشرعية من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يقتصر على الاحتفاظ بها بل ينقلها إلى من يعوله، إلى من ينفق عليه مادة وينفق عليه -أيضاً- علماً ومعنى.
من هنا نعرف لماذا عرفت الجارية هذه العقيدة الصحيحة؛ لأنها عاشت في ذلك الجو الوحيد في فهمه بالتوحيد الصحيح، أما اليوم فالمسلمون يعيشون في أجواء متباينة في عقائد متفرقة متضاربة أشد التضارب؛ ولذلك فلا نجاة للمسلمين في هذا الزمان إلا أن يعودوا إلى ما كان عليه السلف الصالح، وأن يحققوا في أنفسهم خبر نبيهم صلى الله عليه وسلم، حينما قال واصفاً للفرقة الناجية: ( هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي ).(46/8)
الرد على الأحباش في تحريفهم لصفة اليد لله
أردت أن أختم الكلمة بهذا الحديث، لكني تذكرت أنه كان في جملة السؤال المطروح: أن هؤلاء الأحباش ينكرون في جملة ما ينكرون اليد التي وصف الله عز وجل نفسه بها، ويقولون: اليد جارحة سبحان الله! وهم يتكلمون عن أنفسهم، فكيف يقولون في اليد التي ذكرها الله: إنها جارحة؟ هؤلاء من أجهل الناس إن لم يكونوا من أضل الناس؛ ذلك لأنهم يقيسون الغائب على الشاهد، بل يقيسون غيب الغيوب وهو الله تبارك وتعالى على أنفسهم، هذا في منتهى الحماقة إن لم يكن في منتهى الضلال! نحن نجاريهم جدلاً لا عقيدة، وحاشا أن نشاركهم في عقيدتهم، نقول لهم: الله ذات متصف بصفات الكمال، هل تقولون معنا؟ لا بد أن يقولوا: نعم.
أو يقولوا: لا.
فإن قالوا: لا.
فذاك هو الذي يدل على ضلالهم، ويؤكد ما هم فيه، فلا كلام لنا معهم؛ لأن الكلام حينئذٍ يكون مع الزنادقة ، والمفروض أننا نتكلم مع مسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون و إلخ، فإذا قالوا: نحن معكم بأن الله عز وجل ذات له كل صفات الكمال، فإذا قالوا هذه الكلمة فقد تناقضوا حينما قالوا: الله ذات وله صفات، وأنت أيها المتكلم بكلام علماء الكلام حينما تقول: اليد جارحة، هذه الجارحة بالنسبة لذاتك؛ فهل ذاتك كذات الله أو ذات الله كذاتك؟ ستقول: حاشا له! ذاته ليست كالذوات، وبالتالي صفاته ليست كسائر صفات المخلوقات.
إذاً: انتهت المشكلة، يقال في الذات ما يقال في الصفات، ويقال في الصفات ما يقال في الذات، إيجاباً وسلباً، الله ذات، له كل صفات الكمال، ومنزه عن كل صفات النقص، ذلك قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] فهو سميع وبصير؛ لكن سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، ولا بد لهؤلاء المجادلين بالباطل، والمتسترين بكلام ظاهره حق وباطنه باطل، لا بد لهم أن ينكروا كل صفات الله عز وجل لماذا؟ لأن وصف الله بهذه الصفات في الغالب فيها اشتراك لغوي ليس حقيقياً معنوياً، الله عز وجل قال عن آدم: { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان:2] ووصف نفسه بأنه سميع بصير فقال: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]، فعلى طريقة هؤلاء الأحباش وأمثالهم من المعطلة لا بد من أحد شيئين: إما أن نقول: إن الله ليس كما قال: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] لأنه قال في آدم: { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان:2] أو أن نقول: لا.
هو كما وصف به نفسه، لكن قوله في آدم: { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان:2] ليس كذلك، فلا بد من تعطيل أحد الوصفين: إما ما كان منهما متعلقاً بالله عز وجل، وهذا كفر، وإما ما كان متعلقاً بوصف الله لآدم عليه السلام بأنه جعله سمعياً بصيراً، فهذا إنكار، وهو أيضاً كفر، وهم دائرون ما بين كفر وكفر، وذلك عاقبة من لا يتبع السلف الصالح، ولذلك قيل:
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
فنوصي الحاضرين جميعاً ألا يصغوا لعلماء الكلام ولا لأذنابهم، وعليهم أن يعرفوا عقيدة السلف؛ ليكونوا -إن شاء الله- مهتدين، والحمد لله رب العالمين.(46/9)
أهمية العلم بالسنة والبدعة للرد على أهل البدع
السؤال
لا يخفى عليكم أن أهل البدع بين كل فينة يظهرون أمراً يحاولون في ظنهم أن يخفوا منار السنة، فهل نواكب أهل البدع في الرد عليهم؟ وما هي النصيحة منكم في مثل هذا لنا ولإخواننا في الداخل والخارج؟ وبارك الله فيكم.
الجواب
الرد على أهل البدع لا يجوز إلا من كان عالماً بالسنة من جهة، والبدعة من جهة أخرى، لعلكم تذكرون معي حديث حذيفة بن اليمان في الصحيحين حين قال: ( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه ) وهذا كما قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه
فمن كان عالماً بالخير والشر كـ حذيفة بن اليمان ، وكان بالتالي في هذا الزمان عارفاً بالسنة، فيتبعها ويحض الناس عليها، وعالماً بالبدعة فيجتنبها ويحذر الناس منها، هذا الشخص هو الذي يجوز له أن يجادل أهل البدعة أو المبتدعة.
أما أن يفعل كما يفعل بعض إخواننا الذين لم يؤتوا من العلم إلا حظاً قليلاً، ثم يدخلون في مجادلة من هم أقوى منهم علماً، ولو كان هذا العلم مشوباً بكثير من البدعة أو علم الكلام -كما قلنا آنفاً- فهؤلاء ننصحهم أن ينطووا على أنفسهم، وأن يعتزلوا المبتدعة، وألا يجادلوهم؛ لأنهم سيتأثرون بشبهاتهم، كمثل ذاك السؤال الذي سمعتم في أول الجلسة، وسمعتم الرد عليه، أنهم يصغون لكل ناعق ولكل صائح، فتتعلق الشبهة في ذهن السامع؛ حتى يتيسر له عالم يتمكن من إزالة هذه الشبهة من نفسه.
لذلك تكاثرت النصوص عن سلفنا الصالح من العلماء، كـ مالك و أحمد وغيرهم، أنهم كانوا يحذرون الناس كل التحذير من الجلوس مع أهل البدع؛ بل وكانوا يأمرونهم بمقاطعتهم؛ خشية أن يتسرب شيء من شبهاتهم إلى نفوسهم.
فهذا -أظن- جواب ما سألت، والأجر للجميع -إن شاء الله- ما دمنا مخلصين وقاصدين -أولاً- العلم النافع المستقى من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج السلف الصالح، ثم قاصدين -أيضاً- أن نعمل بما تعلمنا، ثم بعد ذلك نسأل الله عز وجل أن يزيدنا وإياكم علماً.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك .(46/10)