مركبة من تلك الذوات ومن تلك الصفات ولو كانت كذلك لكانت ممكنة لأن كل حقيقة مركبة فهي محتاجة إلى أجزائها وكل واحد من أجزائها غيرها فإذن كل حقيقة مركبة في ذاتها فهي محتاجة إلى غيرها وذلك في حق الله تعالى محال فإذن يستحيل اتصاف ذاته بالصفات وقال في الجواب قوله يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا إن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما نلتزمه وهذا الجواب يقال نظيره إن عنيتم بكونه مؤلفاً مفتقراً إلى غيره افتقاره إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال أن تكون تلك الذات بما هي عليه من الصفة والقدر الواجبة واجبة لذاتها وإن عنيت(5/416)
أن تلك الذات لا يمكن وجودها أو لايعقل وجودها إلا على هذا الوجه فهذا مما نلتزمه الوجه الخامس عشر أن هذا يلزم سائر بني آدم وسائر من أقرَّ بوجود شيء ما فإن الموجود لابد أن يتميز منه شيء عن شيء وأما الوجود الواجب فالتميز فيه أظهر لأنه أكمل وأتم فلابد أن يتميز عن غيره من الموجودات بخصوص ذاته الواجبة مع مشاركته لها في عموم الوجود وهذا إثبات لمعنيين يُعلم أحدهما مع عدم العلم بالآخر فإما أن ينفي أحدهما مع تقدير عدم الآخر أو لا ينفي فإن لم ينفِ لزم أن يكون أحدهما عين الآخر وهو محال وإن جاز ذلك جاز ذلك في نظيره فلا فرق بين أن تُجعل الحقيقتان المتميزتان في الذهن إحداهما عين الأخرى أو يجعل الحيزات المتميزات أحدهما عين الآخر وغن لم ينف لزم التركيب من صفتين وأكثر فكذلك القول في كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً وذي عناية وفاعلاً وموجباً لغيره وسائر(5/417)
هذه المعاني وقول القائل هذه الأمور إضافية ليست وجودية لاينفعه ولو لم يقل إن الإضافات من جملة الأعراض الوجودية فكيف إذا قيل ذلك وذلك أنا نعلم بالاضطرار أن هذه الأمور يختص بها الموجود دون المعدوم وأنه لايجوز وصف المعدوم بها والأمور العدمية المحضة لا يختص بها الموجود ولا يكون وصف المعدوم بها ممتنعاً وأيضاً فإن المعدوم يوصف بنقائضها فيقال ليس بفاعل ولا عاقل ولامعقول ولا عقل ولا واجب ولا له عناية فلو كانت هي أموراً عدمية لكانت نقائضها وجودية فإن الوجود نقيض العدم ولو كانت نقائضها وجودية لامتنع وصف المعدوم بها فإنه من أَبْدَهِ العلوم الضرورية أن الوجود لايكون صفة للعدم فإن كانت نقائضها صفة للعدم كانت عدماً فتكون هي وجودية وهي معانٍ ثابتة لواجب الوجود بالاضطرار ولابد من ثبوت معاني متعددة لكل موجود فإن كانت هذه المعاني المتميزة في العلم من ضرورة الوجود الواجب(5/418)
وغير الواجب كان ما سموه تركيباً من ضرورة كل موجود فلا تكون محالاً بل تكون واجباً ويمتنع وجود موجود بدون هذه المعاني التي سموها تركيباً ويكون نفيها نفياً للوجود وذلك جماع السفسطة ولهذا جعل الناس أول قولهم سفسطة وآخره زندقة الوجه السادس عشر قوله أقصى ما في الباب أن يقول قائل إن تلك الأجزاء لاتقبل التفريق والانحلال إلا أن هذا لايمنع من كونه في نفسه مركباً مؤلفاً كما أن الفلسفي يقول إن الفلك جسم إلا أنه لايقبل الخرق والالتئام فإن ذلك لايمنع من اعتقاد كونه جسماً طويلاً عريضاً عميقاً يقال له هذا مثل قول القائل إن القول بثبوت الصفات قول بثبوت الأعراض والأعراض لا تقوم إلا بمتحيز غاية ما في الباب أن يقال تلك الصفات لازمة للموصوف لا تفارقه ولا تزايله ولهذا امتنع من امتنع من تسميتها أعراضاً قال لأن العرض ما لا يبقى بل يَعرض ويزول وتلك الصفات(5/419)
لازمة باقية فيقال له إلا أن هذا لا يمتنع كونه في نفسه متحيزاً قامت به الصفات التي هي من جنس الأعراض كما أن الفلسفي لما اعتقد في الإنسان أنه حيوان ناطق وأن هذه صفات ذاتية له لايمكن أن تفارق ذاته لا في الذهن ولا في الخارج لم يمنعه ذلك من أن تكون هذه الصفات عنده أعراضاً وكذلك إذا قال القائل القول بكونه عالماً قادراً حيًّا هو قولٌ بثبوت هذه الصفات بل إذا قال القائل القول بكونه واجب الوجود أنه فاعل العالم وأنه عاقل ومعقول وعقل وأن له عناية ونحو ذلك هو قول بثبوت الأعراض والصفات والتركيب أقصى ما في الباب أن يقول قائل إن هذه الصفات والأجزاء ذاتية للموصوف لايقبل مفارقتها ومما يوضح ذلك أن هؤلاء يسمون الصفات الذاتية أجزاء(5/420)
ويقولون أجزاء الحد وأجزاء الكم والقدر فهم إذا أثبتوا هذه المعاني كانوا مضطرين إلى القول بثبوت هذه الأمور التي يسمونها أجزاء وصفات ذاتية ونحو ذلك ومتى ادعوا أنها أمور ليست وجودية وأن المفهوم منها واحد كانوا من أعظم الناس مكابرة للضروريات في كل واحدة من الدعوتين ومتى أقروا بما هو معلوم بالفطرة الضرورية وبما هو أجلى العلوم البديهية أنها أمور وجودية وليس أحدهما هو الآخر فقد أقروا بما منه فروا وهذا شأن من فر من الحق الذي لا يفرّ منه إلا إليه ولا ملجأ منه إلا إليه قال تعالى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) [الذاريات 49] قالوا لتعلموا أن خالق الأزواج واحد فأخبر أن لكل شيء ندًّا ونظيراً خلاف زعم الذين جعلوا له ولداً وقالوا لم يتولَّد عنه ولم يصدر عنه إلا(5/421)
واحد وهو العقل الأول ثم قال فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) [الذاريات 50-51] فأمرهم بالفرار إليه وأن لايجعلوا معه إلهاً آخر فمن طلب نفي شيء عنه أو إثبات شيء له بالتسوية بينه وبين غيره فقد أشرك به ووقع فيما عنه فرَّ ولم ينجه إلا الفرار إلى الله وحده الوجه السابع عشر أن قول القائل في جميع هذه المعاني الثابتة في حق الرب أقصى ما في الباب أن يقول قائل هي لازمة ذاتية لاتقبل الانفصال والزوال كلامٌ فاسد فإن هذا ليس أقصى ما في الباب وليس هذا هو الفارق بين رب العالمين وبين بعض مخلوقاته بل بينهما من عدم التشابه والتماثل ما لا يدركه عقل عاقل وما يتصور من قدر مشترك فيه نوع مشابهة ما فتلك من أبعد الأمور بعداً عن الحقيقة بحيث لايقتضي مماثلة بوجه من الوجوه إذ هذه الأمور لا تقتضي مماثلة بين الوجودين المخلوقين فَأَنْ لا تقتضي بين وجود الرب الخالق ووجود المخلوق أولى وأحرى وهذا كقول القائل إذا كان حيًّا عالماً قادراً والعبد حيًّا عالما ً قادراً فقد ثبت أنه مركب أو انه مماثل ونحو ذلك أقصى ما في الباب أن ذلك تجب له هذه الأسماء وهذا لا تجب له أو أن يقول قائل إذا كان موصوفاً(5/422)
بالحياة والعلم والقدرة فقد ثبت التركيب ولذا أقصى ما في الباب أن ذلك تجب له هذه الأسماء وهذا لا تجب له أو أن يقول قائل إذا كان موصوفاً بالحياة والعلم والقدرة فقد ثبت التركيب أقصى ما في الباب أن يقال تلك الصفات لازمة دون هذه وكذلك سائر النظائر بل هو مثل أن يقول القائل إذا كان موجوداً وهذه المشهودات موجودة فقد تماثلا في الحقيقة الوجودية أقصى ما في الباب أن يقول هذا واجب وهذا ليس بواجب وكل هذه المقاييس والأمثال المضروبة باطلة فإن حقيقة ذات الله تعالى التي هي ليس بينها وبين غيرها من الحقائق تماثُل بوجه من الوجوه بل كل ما يعلم من التباين بين موجود وموجود فالتباين الذي بين الله وبين خلقه أعظم من ذلك بما لا يقدر قدره إلا الله إذ العلم بحقيقة ذلك من خواص الرب سبحانه وتعالى ولا يعلم ما هو إلا هو لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام 103] الوجه الثامن عشر أنا قدمنا غير مرة أن الله لايضرب له المثل بغيره ولا يسوَّى بينه وبين غيره لا في نفي ولا في إثبات بل هذا من الإشراك وجعل الأنداد والأكفاء له وهذا من(5/423)
أعظم الأمور فساداً وتحريماً في العقل والدين وذلك أكبر الذنوب بل ما ثبت لغيره من صفات الحمد والثناء فهو أحق به وأولى ولايكون مماثلا لذلك الغير في ذلك النفي والتنزيه وفد ذكرنا أن مثل هذا القياس العقلي والمثل المضروب هو الذي يستعمل في باب الربوبية في كتاب الله تعالى في باب التنزيه عن الشركاء والأولاد وغير ذلك ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه قال نعم قال فاقضوا الله فالله أحق بالقضاء وهذا المعنى جاء في أحاديث متعددة صحيحة فقبول الاستيفاء من الإنسان عن غيره لما(5/424)
كان من باب العدل والإحسان كان الله أحق بالعدل والإحسان من العباد وكان الذي يقضي عن غيره حق المخلوق هو أحق بأن يقضي عنه حق الخالق من جهتين من جهة أن حق الخالق أعظم ومن جهة أنه أعدل وأرحم ونظير ذلك في جانب النفي ما رواه الإمام أحمد في مسنده أنهم لما فاتتهم الصلاة سألوه هل يقضونها مرتين فقال أينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم يقول إنه نهى عن الربا لما فيه من الظلم وهو المعاوضة عن الشيء بما هو أكبر منه في الديون الثابتة في الذمة بعوض أو غيره وهو أحق بتنزيهه عن الظلم من عباده وكذلك الأمثال والمقاييس التي تضرب في عمل العبد له مثل طاعته وعبادته وشكره وخوفه ورجائه والاستحياء منه وغير ذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلم لبهز بن حكيم لما قال فإذا كان أحدنا خاليًا قال فالله(5/425)
أحق أن يُسْتَحْيَى منه من الناس ومثل قوله في القرآن وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة 62] فالأمثال تضرب تارة لما يوصف به من الصفات والأفعال وهو الحق الموجود وتارة لما يؤمر به الإنسان من الأعمال وهو الحق المقصود وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما رأى امرأة من السبي لما رأت طفلاً أخذته فأرضعته أترون هذه طارحة ولدها في النار قالوا لا يا رسول الله قال للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها فيه قياس الأولى لكن من باب التصور وقد يستعمل من باب(5/426)
التصديق بأن يقال إذا كانت هذه لكونها كانت سبباً في وجود هذا فيها هذه الرحمة فالرب الخالق لكل شيء ووجود كل شيء منه أحق بأن يكون رحيماً بذلك ومن باب الأمر قول ابن عمر لغلامه نافع وقد رآه يصلي في ثياب ناقصة فقال أرأيت لو أرسلتك في حاجة أكنت تذهب هكذا فقال لا فقال فالله أحق من تُزُيِّنَ له من الناس وهذا يسبه حديث بهز بن حكيم ومنه الحديث(5/427)
المرفوع لايمنعن أحدكم هيبةُ الناس أن يقول الحق إذا رأى منكراً أو سمعه فيقول الله له ما منعك أن تقول الحق فيقول ربِّ خفت الناس فيقول الله فإياي كنت أحق أن تخاف وهذا المعنى في قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت 10] ومن باب الخبر قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس 81] أمثال بني آدم فيعيدهم كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) [الأحقاف 33] وكما قال تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) [غافر 57] إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) [غافر 59] وأما ظن من ظن كالرازي أن قوله عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ(5/428)
المراد به إعادة خلق السموات والأرض واستدل بذلك في مسالة الإفناء فليس بشيء والعربية تمنع ذلك ومن ذلك الاستدلال على قدرته على الإعادة بقدرته على الابتداء كقوله وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) [يس 78-79] وقوله إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج 5] وقوله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ثم قال وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الروم 27-28] فأخبر أن له المثل الأعلى وذلك يدل على ما ذكرناه من أنه له قياس الأعلى لا المساوي وقد ذكر مثلين مثلاً لنفي الشرك ومثلاً لإعادة الخلق وذلك في الأصلين الإيمان بالله وباليوم الآخر ومنه قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) [القيامة 36-40] فبيَّن بما ضرب من المثل الأعلى أن الذي خلق الإنسان على هذه الصفة أولى بأن يكون قادراً على إحيائه وذلك معلوم بالفطرة(5/429)
الضرورية العقلية ومن باب النهي قوله تعالى وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة 267] يقول إذا كنتـ م في حقوق بعضكم على بعض لا تأخذو ن إلا بإغماض فأنا أحق ألا تؤدوا في حقي الخبيث ومنه قول بعض السلف لبنيه في الأضحية لايُهدى أحدكم ما يستحي أن يهديه لكريمه فإن الله أكرم الكرماء ومنه حديث عمر في الناقة التي أهداها وقد بُذِلَ له فيها مال كثير وهذا الذي نبهنا عليه من أن الطرق العقلية القياسية في أمر الربوبية لا تكون من باب التمثيل والتشريك الذي تستوي أفراده(5/430)
وإنما هو من باب قياس الأولى والتنبيه قاعدةٌ شريفة عظيمة القدر ولهذا خلاصة ما عند المتكلمين من الطرق العقلية هي من هذا الباب فإن كلامهم يشتمل على حق وباطل مثال ذلك أنهم لما أثبتوا كونه سميعاً بصيرًا بالطرق العقلية ذكر أبو عبد الله الرازي هذا المؤسس في كتاب نهاية العقول طرقَهم وبسط الكلام في ذلك بسطاً كثيراً ثم أنه زيفها وذكر عللها ثم قال الفصل الثالث فيما تُعَوِّلُ عليه هذه المسألة فذكر طريقة عقلية وطريقة سمعية قال والمعتمد طريقان الأول ما ذكره الإمام الغزالي وهو أنه قال نحن نعلم بالضرورة أن السميع والبصير أكمل ممن لايكون سميعاً بصيراً والواحد منا سميع بصير فلو لم يكن الباري كذلك لزم أن يكون الواحد منا أكمل من الباري وذلك معلوم الفساد بالضرورة فوجب القطع بكونه سميعاً بصيراً ثم أورد على هذه الطريقة أَسْوِلَةً وذكر جوابها وتقريرها يمكن أجود ما قرره وكذلك يمكن تقرير الطريقة المشهورة أنه(5/431)
حي والحي إما أن يكون سميعاً بصيراً أو أبكم وأصم وذكر غيرها وكان يمكن تقرير تلك الطرقة العقلية على هذه الطريقة الولية أيضاً لكن ليس هذا موضع شرح ذلك وإنما الغرض التنبيه على أن هذه القاعدة قاعدة شريفة عامة النفع وهي التي جاء بها الكتاب والسنة وهي مبرهنة معقولة في نفسها وقوله في القرآن وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ في موضعين من كتابه بيانٌ لها والمقصود هنا أنه سبحانه أنه كان له المثل الأعلى الذي فيه قياس الأولى فكونه تعالى لايتفرق ولاينحل ولايتمزق هو من معنى صمديته وقيوميته كما تقدم ذلك ومعلوم أن غيره إن كان له وصف من الاجتماع الذي فيه نوع تصمد فليس قيامه بنفسه كقيام الحق ولا تصمده كتصمد الحق سبحانه وتعالى بل هو القائم بنفسه الذي يجب له هذا القيام بنفسه ويمتنع عدمه وهو(5/432)
القيم لكل ما سواه وهو الصمد السيد الذي لاجوف له ولايتفرق ويتبعض ويتمزق وهو الذي يصمد له كل حي ما سواه فهو الصمد في نفسه الذي يصمد له كل شيء وهو القائم بنفسه المقيم لكل شيء وإذا كان كذلك لم بجز أن يمثل بشيء من الأجسام بوجه من الوجوه بل للمنازع أن يقول ما يذكره وهو الوجه التاسع عشر أن نفي مباينته للغير يوجب عدم قيامه بنفسه ونفي عدم تفرقه يوجب عدم صمديته فالذي يقول لا هو مباين لغيره ولامحايث له ولايوصف باجتماع ولا افتراق ونحو ذلك من الأمور المتقابلة التي ينفونها عنه من جنس نفي الملاحدة لكونه عالماً وجاهلاً ولكونه قادراً وعاجزاً يوجب نفي كونه قيوماً وكونه صمداً ودلالة هذه السماء على موجب قول أهل الإثبات أظهر كثير من دلالة ما ذكره من الأدلة السمعية على قول أهل النفي ولهذا كان فضلاء أهل النفي إذا سمعوا(5/433)
تفسير المفسرين لقوله الصمد بأنه الذي لا جوف له قالوا هذا تفسير المجسمة ومعلوم أن هذا تفسير الصحابة والتابعين وروي مرفوعاً وذلك أشهر من كلامهم من تفسير الصمد بأنه السيد وإن كان كلاهما حقًّا فإذا كان اسم الصمد يدل على أنه جسم واسمه القيوم يدل علة أنه ما باين العالم في الجهة أعظم من دلالة ما ذكره على النفي من وجوه كثيرة ظهر بطلان قول النفاة دع سائر الأسماء التي هي على ذلك أدل من اسمه العلي والأعلى والعظيم والكبير وغير ذلك الوجه العشرون قوله كما أن الفلسفي يقول الفلك(5/434)
جسم إلا أنه لايقبل الخرق والالتئام فإن ذلك لايمنعه من اعتقاد كونه جسماً طويلاً عريضاً عميقاً يقال لاريب أن بين الشيئين اللذين يقال إنهما جسم قدراً مشتركاً وقدراً مميزاً وكذلك ما يقال إنه جوهر ومتحيز وقائم بنفسه أو غني عن المحل أو مباين لغيره أو محل للصفات أو حامل الصفات أو محل للأعراض أو حامل للأعراض مثل ما يقال إنه موجود وثابت وكائن وحق وغير ذلك من الأسماء العامة التي يسميها أهل النحو أسماء الأجناس فلا ريب أن بين المسميات بها قدراً مشتركاً وقدراً مميزاً والمعنيُّ بالقدر المشترك أن يكون في أحد المسميات ما يشبه ما في الآخر ليس المراد أن يكون في الخارج شيء معين هو بعينه مشترك بينهما فإن هذا ممتنع بكل موجود في الخارج فإنه متميز بنفسه مختص بصفاته لايشركه غيره في نفس وجوده وماهيته وصفاته القائمة به إلا بمعنى المشابهة والذهن يرتسم فيه معنى يتناول المشتبهين وذلك هو المعنى العام وله لفظ يطابقه وهو اللفظ العام وإذا كان كذلك فكونُ الفلك مشاركاً لغيره في مسمى الجسم وممتازاً عنه بعدم قبول الانقسام والانحلال لا يقتضي لهذا أن يكون الباري مع مخلوقاته عند من يصرِّح بلفظ(5/435)
الجسم بهذه المنزلة فضلاً عمن يقول أعني به القائم بنفسه الغني عن المحل وإن كان عنده كل قائم بنفسه مباين لغيره حامل للصفات لا يُشار إليه بأنه هنا أو هناك وهو الذي يعنيه غيره بلفظ الجسم لكن مع هذا كله لايقتضي أن كون المميز بين الباري وبين مخلوقاته مثل المميز بين الفلك والعناصر وهو عدم الانخراق بل هذا بمنزلة أن يقال إذا كان قائماً بنفسه فهو مساوٍ لسائر القائمات بأنفسها من السموات والأرض والحيوان والشجر والنبات أقصى ما في الباب أن يقول قائل هذه القائمات بأنفسها تقبل التفرق والانحلال وهو ليس كذلك أو يقول إذا كان حيًّا عالماً قادراً سميعاً بصيراً فهو مساوٍ لكل موصوف بذلك من الآدميين والملائكة والجن أقصى ما في هذا الباب أن هذه الصفات يمكن زوالها عن محلها وتلك الصفات لايمكن زوالها عن محلها بل اشتراك الجسام والقائمات بأنفسها والمخلوقات في هذه الأمور العامة لايُوجِب اشتراكها في حقائقها بل لكل من هذه الأجناس حقيقة وصفات تخصه هو بها مباين مخالف لغيره أعظم بكثير مما هو له مشابه وقد تقدم بيان هذا لما بينا فساد قول من يقول بتماثل الأجسام وأنها لما اشتركت في(5/436)
مسمى القدر وهذا من أبعد الأشياء عن حقائقها وصفاتها المقومة لها فكيف تكون متماثلة بمجرد ذلك وإذا كان الأمر كذلك في المخلوقات مع تماثلها في الجملة وأنه ما من شيء منها إلا وقد خلق الله له زوجاً كما قال تعالى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات 49] فكيف بخالق الموجودات وبارئ الكائنات رب الأرض والسموات وصانع كل ما يعلم ويشهد خالق كل شيء ورب كل شيء ومليكه مع العلم بأن هذه العبارات العامة لم تدخل فيها نفسه المقدسة بما لها من السماء والصفات وهو سبحانه لايسمى من الأسماء ولايوصف من الصفات إلا بما يخصه ويمنع مشاركة غيره له وإذا أضيف ما يشبه ذلك الاسم أو الصفة إلى غيره كان أيضاً مقيداً بما يوجب اختصاص ذلك الغير به ويمنع أن يكون لله شريك في شيء من أسمائه وصفاته لكن إذا قُدِّر تجرُّد ذلك الاسم عن المخصصات وهذا تقدير لاوجود له في الخارج كان مشتركاً بين المسميات كما أنه إذا قدر صفة مشتركة بين الموصوفات وهو المعنى العام وهذا تقدير لاوجود له في الخارج كانت تلك الصفة وذلك المعنى العام مشتركاً بين الموصوفات والموجودات لكن هذا المطلق(5/437)
المشترك من السماء والمعاني والصفات إنما ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان وقد قدمنا أن هذا التقدير إنما يفعل للحاجة إلى زوال الاشتراك الذي في نفوس بني آدم الذين وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) فيقدر تقديراً ليبين بتقديره ما فيه من افتقاره أو ما فيه من علو الله على غيره وأن له المثل الأعلى وأنه أحق بكل ثناء وأبعد عن كل نقص كما يقدر وجود مثل للباري أو شريك في الملك ونحو ذلك ليس بتقديره امتناعه وتنزُّه الباري عنه إذ كل ما ينزه عنه الباري تعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً من الشركاء والأولاد والأنداد والعيوب والنقائص وسائر ما يصفه به المبطلون الذين سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) فلابد من تصوره وتقديره في النفس ليُنفى عن الرب وينزه عنه إذ حكم الذهن بنفي الشيء وإثباته لايكون إلا بعد تصوره فلا يمكن نفي شيء وتنزيه الرب عنه إن لم يكن معلوماً متصوراً في الذهن وهو لاحقيقة له في الخارج فيكون مقدراً تقديراً بطريق المقايسة والمشابهة للمخلوق الموصوف ثم حينئذ يصير معلوماً فيُنفى ويسلب ويقدس الرب عنه وينزه وهذا الذي قلناه عام في كل أمر يُقدَّرُ مشتركٍ بين الرب وبين عباده من الأسماء والصفات وغير ذلك فليس بينهما قدر مشترك يستويا فيه ولكن هو أحق من كل موجود(5/438)
وكامل بكل وصف له وجودية وكمالية وبنفي كل صفة سلبية ونقيصة وهو أحق بمناقضة المعدوم الناقص ومنافاته ومباينته من كل شيء فإذا ثبت لغيره صفة وجودية كمالية كان له من ذلك ما هو أكمل وأعلى وأرفع فإنه سبحانه وتعالى له المثل الأعلى وإذا نُزِّه غيره عن عدم أو نقص كان له من التنزيه ما هو أكمل وأعلى وارفع قال تعالى في الأول وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم 27] وقال في الثاني وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى وهي التي ضرب مثلاً إلى قوله لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل 58-60] وإذا ثبت له الأعلى من ثبوت الوجود والكمال ونفي العدم والنقص فإن الذهن أيضاً يأخذ هنا قدراً مشتركاً فيجرده تجريداً وإن لم يكن ذلك موجوداً في الخارج ليستدل بذلك القدر المشترك على أن لله ما هو أعلى وأرفع في جانب الوجود والعدم وهذا الذي يسميه بعض الناس الألفاظ المشكِّكة فينتقل الذهن والمتكلم من إثبات القدر(5/439)
المشترك إلى القدر المميز وإن لم يكن في الخارج شيء مشترك أصلاً ويثبت من المعاني والألفاظ التي فيها تشبيه واشتراك بحسب ذلك كلفظ الوجود والذات والعليم والقدير والسميع والبصير وغير ذلك من أسماء الرب وصفاته سبحانه وتعالى فليس لأحد قط أن يحصر الفارق بين الله وبين غيره في شيء معين من جنس ما يجده من الفوارق بين المخلوقات حتى يقول إنه ليس بينه وبين غيره من الفرق إلا مثل ما بين كذا وكذا ولو قال ذلك على تقدير قول منازعه وذلك أنه على ذلك التقدير أيضاً فلله حقيقة اختص بها تباين سائر الخلائق ولا يعلمها العباد وبالجملة فليس أحد يعلم حقيقة الرب كما يعلم الرب نفسه وقد قال إمام الأئمة صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك(5/440)
وإذا لم يكن هذا معلوماً وهو من الأمور التي يباين الله وتفارق حقيقته بها حقيقة غيره كان المدعي انحصارَ المباينة والمفارقة في شيء معين مبطلاً قائلاً على الله غير الحق مفترياً عليه وهذه الجملة مع بيانها فإنها نافعة في أصول عظيمة الوجه الحادي والعشرون قوله أقصى ما ذكره أنهم معتقدون كونه مركباً مؤلفاً فيقال قد تقدم غير مرة أن لفظ التركيب والتأليف فيه اشتراك وإجمال وإبهام وإيهام وأنت لم تُرد التركيب والتأليف المعروف في اللغة وهو أن يكون الشيء قد ركّبه غيره أو ألّفه غيره من شيئين مختلفين أو غير مختلفين أو ركبه في غيره أو ألّف بين شيئين كما قال تعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) [الانفطار 8] وقال تعالى هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال 62-63](5/441)
وقال إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة 60] فلم ترد ما يشبه هذا التأليف والتركيب المعروف من اللغة التي نزل بها القرآن وإنما أرادت ما سميتموه أنتم تأليفاً وتركيباً كما سمَّى المنطقيون الموصوف بالصفات مركباً مؤلفاً وبمثل هذا الكلام المجمل المتشابه الذي يذكرونه وليس له أصل في كتاب الله وسنة رسوله ضل من ضلَّ كما وصف ذلك الأئمة وذموا المتكلمين بمثل هذا الكلام كقول الإمام أحمد فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُلَبِّسون عليهم وهذا كما ذكر الأئمة فإن عامة الألفاظ التي يستعملونها هؤلاء من هذا الباب مثل لفظ الجسم والمتحيز والجوهر والطويل والعريض والعميق والمنقسم والمؤلف والمركب ليس فيها لفظ واحدٌ(5/442)
هو باقٍ على معناه في اللغة ولا منها لفظ إلا وهو مجمل متشابه يحتمل المعنيين المختلفين ويكون أحد المعنيين مما يجب تنزيه الرب تعالى عنه عند أهل الإيمان وفي صريح العقل كما يجب تنزيهه عن مماثلة المخلوقات وعن أن يكون يفتقر إلى غيره أو مفعولاً لغيره حتى يركبه أو يؤلفه أو غير ذلك من المعاني ويكون المعنى الآخر مما أثبته القرآن والعقل أو مما لا يُعلم نفيه أو مما يقتصر العقل على دَرْكه أو هو معنى دقيق يحتاج إلى نظر طويل وعلوم كثيرة فيطلقون نفي ذلك اللفظ المشترك مقروناً بالتنزيه والتعظيم فيقوم الاشتباه في ذهن المستمع حتى يظن ابتداءً أن المنفي هو المعنى الذي نفاه القرآن والعقل ثم لايميز بين هذا وذاك فينفي المعنيين جميعاً بغير حجة ويقع في القياس الفاسد بسبب اشتراك اللفظ ولهذا ذم السلف والأئمة هؤلاء المتكلمين الجهمية وأخبروا أن من وافقهم على ما ابتدعوه من الألفاظ والمعاني فإنه لابد أن يتجهم كما رواه الخلال عن أبي داود السجستاني(5/443)
سمعت أبا ثور قال قال لي الشافعي يا أبا ثور ما رأيت أحداً ارتدى شيئاً من الكلام فأفلح وعن أبي يوسف قال العلم بالكلام يدعو إلى الزندقة وعن أبي عمر الضرير(5/444)
قال العلم بالكلام بمنزلة العلم بالتخنث كلما كان صاحبه يزداد علماً كان أشد لفساده وعن عبد الملك بن الماجشون أنه أوصى رجلاً فقال إياك والكلام فإن لأوله آخر سوء وعن يزيد بن هارون قال لو تكلمت ما أمِنت أن أبتدع وقال من تكلم ابتدع ولو سكتت المرجئة لم يبتدعوا وقال إن المرجئة كانت لسان أهل السنة حتى غَلَوا نسأل الله العافية والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم(5/445)
فرغ من تعليقه أبو بكر بن المجد بن ماجد المقدسي بتاريخ العشرين من شهر جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بالقاهرة المصرية وحسبنا الله ونعم الوكيل(5/446)
فصل قال الرازي القسم الثاني من هذا الكتاب في تأويل المتشابهات من الأخبار والآيات والكلام فيه مرتب على مقدمة وفصول فيقال مقصوده بذلك الآيات والأخبار التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله التي يجب عنده نفي دلالتها على شيء من الصفات التي ينفيها وتسمية هذه الآيات والأحاديث كلها متشابهات واعتقاد أن المتشابه من ذلك له معنيان أحدهما حق والآخر باطل وأن ظاهرها باطل أمرٌ لم يذهب إليه من سلف الأمة وأئمتها فإن الله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ(5/447)
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران 7] وهذا حق وسنتكلم إن شاء الله على الآية حيث تكلم هو عليها لكن المقصود هنا أن تعيين هذه الآيات والأخبار بأنها من المتشابهات هو قوله ورأيه ورأي من يوافقه وكذلك كل طائفة من أهل الكلام والأهواء والبدع يجعلون ما خالف مذهبهم من القرآن والحديث متشابهاً وما وافقه محكماً والجهمية والمعتزلة لايجعلون المتشابه ما ذكر هو فقط بل عندهم ما دلَّ على أن الله يُرى وان لله علماً أو قدرة أو مشيئة أو وجهاً أو سمعاً أو بصراً أو أنه يتكلم بنفسه أو غير ذلك فهو عندهم من المتشابه والقرامطة والغالية والفلاسفة عندهم أسماء الله الحسنى هي من جملة المتشابه وكذلك عندهم ما أخبر الله به من أمور الآخرة هو من المتشابه(5/448)
وغرضهم بذكر لفظ المتشابه أن لا يؤمن بما دل عليه اللفظ بل إما أن يعرض عنه وإما أن يحال إلى معنى آخر بعيد عن دلالة اللفظ وكذلك القدرية من المعتزلة وغيرهم عندهم آيات القدر كلها متشابهة والمحكم آيات الأمر وإذا كانت كل طائفة تقول إنه متشابه ما تقول الأخرى إنه محكم كان تسميته لذلك متشابهاً من جملة دعاويه ولم يكن بُدٌّ من الفرق بين المحكم والمتشابه وهو قد ذكر ذلك فيما بعد فيؤخر الكلام عليه إلى موضعه إذ المقصود هنا أن لا يُسلم له تسميته جميع هذه الآيات(5/449)
والأخبار متشابهة فإن ذلك دعوى لم يذكر هنا حجتها(5/450)
فصل ثم قال أما المقدمة فهي في إثبات أن جميع فرق الإسلام مقرون بأنه لابد من التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار ثم ذكر تسعة عشر وجهاً بعد ما ذكره من النصوص الدالة على نفي الجسم وكلامه في الموضعين متقارب وقد ادعى هنا الإجماع على تأويل بعض الظواهر ومقصوده بذلك أن التأويل مما أجمعوا عليه في الجملة فمن نفاه مطلقاً كان مخالفاً للإجماع ومن أثبته في الجملة كان له حجة فأما لفظ التأويل فمرادُه به صرف اللفظ عن دلالته الظاهرة إلى غيرها بدليل(5/451)
وسنتكلم إن شاء الله على لفظ التأويل ومعانيه في القرآن والسنة وكلام المفسرين والفقهاء والمتكلمين وغير ذلك فإن لفظ التأويل في هذا الاصطلاح أخصُّ من لفظ التأويل في كلام كثير من السلف وأهل التفسير والأئمة وهو غير معنى لفظ التأويل في القرآن وذلك أن لفظ التأويل في كلامه وكلام كثير من متأخري المتكلمين والفقهاء وأهل الأصول والجدل معناه هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر بدليل ولهذا يقولون التأويل على خلاف الأصل ويقولون التأويل يحتاج إلى دليل ويتكلمون في التأويلات وانقسامها إلى مقبول ومردود وعلى هذا الاصطلاح فإقرار الكلام على معناه الظاهر وتفسيره بما يوافق معناه الظاهر ليس بتأويل وهذا اصطلاح خاص وإن كان قد شاع في عُرْفِ المتأخرين من هؤلاء وأما لفظ التأويل في كلام أكثر المتقدمين من السلف والأئمة(5/452)
من أهل الفقه والحديث والتفسير فإنهم يعنون بلفظ التأويل نظير ما يعنى بلفظ التفسير ويقول المصنف منهم في تفسير القرآن قد اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية كما يقال اختلف المفسرون في هذه الآية وهذا الاصطلاح أعم من الذي قبله وأما لفظ التأويل في القرآن فالمراد به حقيقة المعنى الذي يُؤوَّل إليه اللفظ وهو الحقيقة الموجودة في الخارج فإن الكلام قسمان خبر وأمر فتأويل الخبر هو الحقيقة المخبر عنها وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود به والمتوعَّد به وتأويل ما أخبر الله به من صفاته نفس حقيقته وما هو عليه وتأويل الأمر هو نفس الأفعال المأمور بها كما قال تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف 53] وقال تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 39] وقال يوسف عليه السلام يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف 100] وقال تعالى فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) [النساء 59] وقد بسطنا الكلام في ذلك في القواعد وغيرها(5/453)
وسنتكلم إن شاء الله على ذلك إذا تكلمنا على ما ذكر في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] وأما لفظ الظاهر فينبغي أن يُعرف أن الظاهر قد يراد به نفس اللفظ لظهوره للسمع أو لظهور معناه للقلب وقد يراد به المعنى الذي يظهر من اللفظ للقلب وقد يراد به الأمران ويعلم أن الظهور والبطون من الأمور النسبية فقد يظهر لشخص أو طائفة ما لا يظهر لغيرهم تارة لأسباب تقترن بالكلام أو المتكلم وتارة لأسباب تكون عند المستمع وتارة لأسباب لأُخَر ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ لايجب أن يكون لمجرد الوضع اللغوي المفرد بل قد يكون من جهة الحقيقة اللغوية أو العرفية أو الشرعية وقد يكون من جهة المجاز الذي اقترن باللفظ من القرائن اللفظية والحالية ما جعله هو ظاهر اللفظ عند من يسميه مجازاً وأما من يمنع تسميته مجازاً إما في القرآن أو(5/454)
مطلقاً فلا يسمون ذلك مجازاً ويعلم أن وضع اللفظ حال الإفراد قد يخالف وضعه حال التركيب بل غالب الألفاظ كذلك وهذه مقدمات تحتاج إلى بسط ونحن نذكر ذلك في موضعه وإنما المقصود هنا التنبيه على أن كثيراً من الناس يدعي أن ظاهر القرآن والأخبار شيء إما موافق له وإما مخالف له ليتأوله وتكون دعواه باطلة فيجب الاعتناء أولاً بذلك فإنه مَقامٌ مهم ضلَّ وزلَّ فيه طوائف وهم الذين ينفي أهل العلم قولهم كما ورد في الحديث يحمل هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عدولهُ وينفون عنه تحريف العالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين(5/455)
وهؤلاء إما أنهم ضلوا معتقدين أنهم متبعون القرآن وإما أنهم جعلوا ظاهر القرآن ضلالاً لا هدىً للناس ونذكر مقدمة مختصرة فنقول قول القائل إقرار الطوائف بأنه لابد من التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار يقتضي أن إقرار بعض ظواهر الكتاب والسنة ضلال باتفاق الأئمة فبقال له أتقول حيث كان الظاهر ضلالاً غير مراد للمتكلم إن الله لم يبين ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله أو أنه لابد من بيان ذلك بالنصوص فإن أراد الأول كان مضمون كلامه أن من الآيات والأحاديث ما ظاهره ضلال وباطل إما كفر وإما ما دون الكفر وأن الله لم يبين ذلك ولا ذكر المراد الحق ولا ما ينفي المراد الباطل وعلى هذا فلا يكون القرآن كله هدى للناس ولا بياناً للناس ولا يكون الرسول بلَّغ البلاغ المبين ولا يكون الله قد بين للناس ما يتقون بل ضلوا بكلامه قبل أن يبين لهم ما يتقون ولايكون الناس مأمورين بتدبر القرآن كله ولا مأمورين باتباعه كله فإنه إذا كان بعض القرآن دلالته باطلة مضلة ولم يبين في القرآن ما يزيل هذا الضلال الباطل لزم من اتباعه الضلال(5/456)
وأما إن قال ما لم يُرَد ظاهره فإنه قد بين بخطاب آخر ما يبين المراد أو ينفي الباطل لم ينازعه عامة العلماء في هذا فإنه بالجمع بين النصوص من الآيات والأخبار يكون البيان من الله ورسوله حاصلاً وتقوم الحجة على الناس بالرسالة إذ على الناس أن يؤمنوا بالكتاب كله ولايؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض وللإمام أحمد رحمه الله في هذا رسالة معروفة في الرد على من تمسك ببعض الظواهر دون ما يفسره من الآيات والأخبار لكن هذا ما ينفعه في باب الصفات كما سنبينه إن شاء الله تعالى ونحن لا نقصد الكلام في إثبات التأويل في الجملة ولا نفيه ولا وجوب موافقة الظاهر مطلقاً ولا مخالفته إذ في هذا تفصيل وكلام على الألفاظ المشتركة كما قد تكلمنا على ذلك في جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية وفي غير ذلك وإنما المقصود تعقب كلامه بما يجب من ردٍّ أو قبول ونبهنا على أنه ليس كل ما يدعي المدعي أنه ظاهر اللفظ يكون(5/457)
كذلك سواء وافق ذلك الظاهر أو خالفه وهذا الغلط ما زال ولا يزال في الناس حتى أنه كان منه قطعة في الصدر الأول مثل ما ظن بعضهم أن ظاهر قوله تعالى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة 187] أن يتبين لهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود فكان يعمد أحدهم فيربط في رجليه حبلين ففي الصحيحين عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال أُنزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار(5/458)
وفي الصحيحين عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عمدت إلى عقال أسود وعقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر من الليل فلا يتبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار وفي رواية قال إن وسادك إذا لعريض وهذه الحال جرت لبعض الناس الذين شهدناهم ولا ريب أن هؤلاء غلطوا فيما ظنوه الظاهر لا لقصورٍ في بيان اللفظ ودلالته ولكن لقصورٍ في فهمهم فإن الله تعالى قال حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فذكر خيطين مفردين مُعرَّفَيْن باللام واللام تصرفهما إلى الخيط المعروف(5/459)
المعهود والخيط إنما يقال للشيء الدقيق دون الغليظ وقوله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ يقتضي أن الخيطين المعروفين يتناولهم كلهم فمن جعل ذلك عُقُلاً لكل الناس عقالان يختصان بهما ويختلفون في التبيّن بحسب المكان الذي هم فيه فإنما أُتي من نفسه قال الإمام أحمد أكثر ما يغلط الناس من جهة التأويل والقياس فالتأويل كحال هؤلاء الذين تأولوا القرآن على غير تأويله والمراد بالتأويل المعنى العام كما سنذكره إن شاء الله والتأويل في الألفاظ المسموعة كالقياس في المعاني المعقولة مثل ما ظن بعضهم لمَّا سمع أن الجنب يتيمم بالصعيد أن البدل يكون مثل المبدل منه فقاس التراب على الماء فَتَمَعَّكَ كما تتمعك الدابة ليوصِّل التراب إلى جميع البدن بحسب الإمكان كما وصل الماء(5/460)
قال الرازي أما في القرآن فبيانه من وجوه الأول وهو أنه ورد في القرآن ذكر الوجه وذكر الأعين وذكر الجنب الواحد وذكر الأيدي وذكر الساق الواحد فلو أخذنا بالظاهر يلزمنا إثبات شخص له وجه وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة وله جنب واحد وعليه أيدٍ كثيرة وله ساق واحد ة ولا نرى في الدنيا شخصاً أقبح صورة من هذه الصورة المتخيلة ولا أعتقد أن عاقلاً يرى بأن يوصف ربه بهذه الصفة(5/461)
يقال قد ادعى في هذا الوجه أن ظاهر القرآن الذي هو حجة الله على عباده وهو خير الكلام وأصدقه وأحسنه وهو الذي هدى الله به عباده وجعله شفاءً لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ادعى أن ظاهر كلامه أنه شخص له وجه فيه أعين كثيرة وله جنب واحد وعليه أيدٍ كثيرة وله ساق واحد فقد ادعى أن ظاهر ما وصف الله به نفسه في كتابه أنه على هذه الصورة الشنيعة القبيحة فلا يكون الله كما وصف به نفسه إذ قد وصف نفسه بأقبح الصفات في ظاهر خطابه(5/462)
ويكفي المرءَ المؤمن أن يعلم أن هؤلاء يجعلون القرآن بهذه الصفة فهل هذا إلا من جنس قول الذين جعلوا القرآن عضين فعضوه بالباطل وقالوا هو شعر أو سحر أو مفترى بل هذا أقبح من ذلك فإن أولئك اتفقوا على عظمة الكلام وارتفاع قدره لفظاً ومعنى ولم يدَّعوا أن ظاهره وصف الخالق بما لا توصف به القردة والخنازير ولو كان هذا ظاهر القرآن لكان هذا من أقوى الوجوه للذين جعلوا القرآن عضين نبين أن هذا ليس هو ظاهر القرآن من وجوه أحدها أن الله تعالى إنما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس 71] فدعوى المدعي أن ظاهره أعينٌ كثيرة وأيدٍ كثيرة فِريةٌ ظاهرة إذ لفظ الجمع لا يدل بمطلقه على الكثرة أصلاً الثاني دعواه أن ظاهر القرآن أن لله جنباً واحداً عليه أيدٍ كثيرة باطلٌ أيضاً فأين في القرآن أن الأيدي في الجنب غايته(5/463)
أن يجعل بالقياس على بني آدم وهذا ليس من ظاهر الخطاب وكذلك جعله للأعين الكثيرة في الوجه الواحد ليس في ظاهر القرآن ما يدل على هذا وإنما قالع بالقياس على عيون بني آدم التي في وجوههم الثالث أنه من أين في ظاهر القرآن أنه ليس لله إلا ساق واحد وجنب واحد فإنه قال أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] وقال يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم 42] وعلى تقدير أن يكون هذا من صفات الله فليس في القرآن ما يُوجِب أن لايكون لله إلا ساق واحد وجنب واحد فإنه لو دل على إثبات جنب واحد وساق واحد وسكت عن نفي الزيادة لم يكن ذلك دليلاً على النفي إلا عند القائلين بمفهوم الاسم واللقب لأنه متى كن للتخصيص بالذكر سبب غير الاختصاص بالحكم لم يكن المفهوم مراداً بلا نزاع ولم يكن المقصود بالخطاب في الآيتين إثبات الصفة حتى يكون المقصود تخصيص أحد الأمرين بالذكر بل قد يكون المقصود حكماً آخر مثل بيان تفريط العبد وبيان سجود العباد إذا كشف عن ساق وهذا الحكم قد يختص بالمذكور دون غيره مثل أن(5/464)
يقال هب أنه أخبر أنه يكشف عن ساق واحدة فمن أين في الكلام أنه ليس له إلا ساق واحدة والقائل إذا قال كشفت عن يدي أو عن عيني أو عن ساقي أو قدمي لم يكن ظاهر هذا أنه ليس له إلا واحد من ذلك بل قد يقال إنه لم يكشف إلا عن واحد فدعواه النفي في ظاهر القرآن دعوى باطلة وهو ممن لايقول بمفهوم الصفة فكيف بما ليس من باب المفهوم بحال فكيف وليس في القرآن ما يقتضي إثبات الوحدة العينية وذلك أن قوله يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] اسم جنس مضاف ومثل هذا إما أن يكون ظاهره العموم على القول المختار كالمعرَّف باللام عند الجمهور وإما أن يكون العموم كثيراً فيه كقوله لَيْلَةَ الصِّيَامِ [البقرة 187] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم 34] ولو كان هذا صفة لكان بمنزلة قوله بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 1] وبِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران 26] ووَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) [طه 39] الوجه الرابع أنه يقال من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد صفة لله ومن المعلوم أن هذا لا يثبته جميع مثبتة الصفات الخبرية بل كثير منهم ينفون ذلك بل ينفون قول أحدٍ(5/465)
منهم بذلك قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في النقض على المريسي ومتبعيه وادعى المعارض زوراً على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله تعالى يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] قال يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو وليس على ما يتوهمون قال فيقال لهذا المعارض ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك فإن كنت صادقاً في دعواك فَأَشِر بها إلى أحد من بني آدم قاله وإلا فَلِمَ تُشَنِّع بالكذب على قوم هم أعلم بالتفسير منك وأبصر بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك إنما تفسيرها عندهم تحسُّر الكافرين على ما فرَّطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله واختاروا عليها الكفر والسخرية بأولياء الله فسمّاهم الساخرين(5/466)
فهذا تفسير الجنب عندهم فمن أنبأك أنهم قالوا جنب من الجُنوب فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم وقد قال أبو بكر الصديق الكذب مجانبٌ للإيمان وقال ابن مسعود لايجوز من الكذب جد ولا هزل وقال الشعبي من كان كذاباً فهم منافق فاحذر أن تكون منهم وتوجيه ذلك أن الله تعالى قال أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) [الزمر 56-59] فهذا إخبار عما تقوله هذه النفس الموصوفة بما وصفت به(5/467)
وعليه هذه النفوس لاتعلم أن الله جنباً ولا تقرّ بذلك كما هو الموجود منها في الدنيا فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنه بذلك وقد قال في كلامهم يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ فجعلوا التفريط في جنب الله والتفريط فعل أو ترك فعل وهذا لايكون قائماً بذات الله لا في جنب ولا في غيره بل يكون منفصلاً عن الله وهذا معلومٌ بالحس والمشاهدة فظاهر القرآن يدل على أن قول القائل يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ليس أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله تعالى وأبعاضه فأين في ظاهر القرآن أنه ليس لله إلا جنب واحد بمعنى الشق لكن قد يقال القرآن فيه إثبات جنب الله تعالى وفيه إثبات التفريط فيه فثبوت نوع من التوسع والتجوز فيما جعل فيه لا يوجب ثبوت التوسع والتجوز فيه كما في قوله تعالى بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 1] فإن هناك شيئين اليد وكون الملك فيها ولهذا تنازعوا في إثبات ذلك صفة لله(5/468)
قال القاضي أبو يعلى فأما قوله تعالى يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الآية فحكى شيخنا أبو عبد الله في كتابه عن جماعة من أصحابنا الأخذ بظاهر الآية في إثبات الجنب صفة لله تعالى قال ونقلت من خط أبي حفص البرمكي قال ابن بطة قوله بذات الله أمر الله كما تقول في جنب الله يعني في أمر الله قال القاضي وهذا منه يمنع أن يكون صفة لذات وهو الصحيح عندي وأن المراد بذلك التقصير في طاعة الله تعالى والتفريط في عبادته لأن التفريط لا يقع في جنب الصفة وإنما يقع في الطاعة والعبادة وهذا مستعمل في كلامهم فلان في جنب فلان يريدون بذلك في طاعته وخدمته والتقرب منه ويبين صحة هذا التأويل ما في سياق الآية مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) ، لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) وهذا كله راجع إلى الطاعات(5/469)
قال وقد اعتبر أحمد القرائن في مثل هذا فقال في قوله مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] قال المراد به علم الله لأن الله افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم وقد يقال من يثبت ذلك من الصفات يحتاج إلى استنباط يثبت ذلك بأن يقول الجنب الجانب والناحية وهو الجهة أي على ما فرطت في جهة الله وجانبه وناحيته كما تقول أعيش في جنب الله وجانبه وجهته وكما يقال أعرضت عن جانبي وجنبي وجهتي ويميل على جوانبه ثم يقولون وهذا إنما يقال لما له جانب هو حدُّه ونهايته فيدل بطريق الاستلزام على أن له جنباً هو حدُّه ونهايته كما قد يقال في قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ [البقرة 115] إنه وإن كان المراد قبلة الله كما قال مجاهد والشافعي وغيرهما لأن الذي(5/470)
بالمكان الذي يتولاه أي يستقبله إنما هو نفس تضمن الجهة والمكان لا شيء من الله تعالى لكن كونه أضيف إلى الله فقيل وجه الله أي جهة الله وقبلة الله فإنه يدل على أن له وجهاً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلي إذا قام يصلي فإن الله قِبَلَ وجهه وأنه يستقبل الله بوجهه والغرض هنا أن المثبتة للصفة في هذا النص يستنبطونه بطريق آخر غير ظاهر النص وليس الغرض تقرير طريقهم الوجه الخامس أن يقال هب أن ظاهره أو مستنبطه إثبات جنب واحد لله فالجنب أعم من أن يكون أحد شِقّي الشيء بل يطلق على جوانبه كلها فيقال جوانب الشيء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب(5/471)
ومعلوم أن قوله على جنب لم يدل على أنه ليس لعمران إلا شق واحد بل المراد جميع جنوبه كما قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران 191] وقال فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء 103] وذلك يدخل فيه المستلقي على ظهره الوجه السادس أنه من أين في ظاهر القرآن لله ساقٌ وليس معه إلا قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم 42] والصحابة قد تنازعوا في تفسير الآية هل المراد به الكشف عن الشدة أو المراد به أنه يكشف الرب عن ساقه ولم يتنازع الصحابة والتابعون في ما يذكر من آيات الصفات إلا في هذه الآية بخلاف قوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن 27] ونحو ذلك فإنه لم يتنازع(5/472)
فيها الصحابة والتابعون وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك صفة لله تعالى لأنه قال يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ولم يقل عن ساق الله ولا قال يكشف الرب عن ساقه وإنما ذكر ساقاً منكَّرة غير معرَّفة ولا مضافة وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله والذين جعلوا ذلك من صفات الله تعالى أثبتوه بالحديث الصحيح المفسر للقرآن وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرج في الصحيحين الذي قال فيه فيكشف الرب عن ساقه وقد يقال إن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود والسجود لايصلح إلا لله فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه وأيضاً فحَمْلُ ذلك على الشدة لا يصحّ لأن المستعمل في الشدة أن يقال كشف الله الشدة أي أزالها كما قال فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) [الزخرف 50] وقال فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ [الأعراف 135](5/473)
وقال وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) [المؤمنون 75] وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال كشف الشدة أي أزالها فلفظ الآية يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وهذا يراد به الإظهار والإبانة كما قال كَشَفْنَا عَنْهُمُ وأيضاً فهناك تحدث الشدة ولا يزيلها فلا يكشف الشدة يوم القيامة لكن هذا الظاهر ليس ظاهراً من مجرد لفظ ساق بل بالتركيب والسياق وتدبر المعنى المقصود الوجه السابع أن دعواه أن ظاهر القرآن أن لله أعيناً كثيرة وأيدياً كثيرة باطلٌ وذلك أنه وإن كان قد قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وقال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود 37] وقال وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] فقد قال في قصة موسى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه 39-40] فقد جاء هذا بلفظ المفرد في موضعين فلم يكن دعواه الظهور في معنى الكثرة لكونه جاء بلفظ الجمع بأولى من دعوى غيره الظهور في معنى الإفراد لكونه قد(5/474)
جاء بلفظ المفرد في موضعين بل قد ادعى الأشعري فيما اختاره ونقله عن أهل السنة والحديث هو وطوائف معه إثبات العينين لأن الحديث ورد بذلك وفيه جمع بين النصين(5/475)
كما في لفظ اليد بل لو قال قائل الظاهر في العين للمفرد أو المثنى دون المجموع لتوجَّه قوله وذلك أن قوله بِأَعْيُنِنَا في الموضعين مضاف إلى ضمير جمع والمراد به الله وحده بلا نزاع ومثل هذا كثير في القرآن يسمي الرب نفسه من الأسماء المضمرة بصيغة الجمع على سبيل التعظيم لنفسه كقوله إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) [الفتح 1] وقوله نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف 32] فلما كان المضاف إليه لفظه لفظ الجمع جاء المضاف كذلك فقيل بِأَعْيُنِنَا وفي قصة موسى لما أفرد المضاف إليه افرد المضاف فقيل وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه 39] ومعلوم أن هذا هو الأصل والحقيقة فإن الله واحد سبحانه ومن احتج بما ذكره الله تعالى عن نفسه بلفظ الجمع على العدد فهو ممن تمسك بالمتشابه وترك المحكم كما فعل(5/476)
نصارى نجران الذين قَدِموا على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه في أمر المسيح وذكروا أن صدر آل عمران أُنزلت بسببهم إذ عامته في ذكر المسيح واتّباعهم للمتشابه أن قالوا ألم يقل في كتابك إنا ونحن فهذا يدل على أن الآلهة ثلاثة فتركوا المحكم في كتاب الله كقوله وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة 163] وقوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة 73] واتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهكذا قد يقال فيمن عمد إلى لفظ أعيننا وترك لفظ عيني أنه اتبع المتشابه دون المحكم ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا عائشة إذا رأيتِ الذين يتبعون ما تشابه منه(5/477)
فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم وهذا الكلام يقال في لفظ أيدينا مع قوله مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقوله بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] فإن صيغة المضاف إليه هناك صيغة جمع بخلاف صيغة المضاف إليه في بقية الآيات فجاء على لفظ المضاف إليه ومما يوضح الأمر في ذلك أن من لغة العرب الظاهرة التي نزل بها القرآن استعمال لفظ الجمع في موضع التثنية في المضاف إذا كان متصلاً بالمضاف إليه والمعنى ظاهر كقوله تعالى إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [التحريم 4] وليس لكل منهما إلا قلب فالمعنى قلباكما لكن النطق بلفظ الجمع أسهل والمعنى معروف أنه ليس لكل منهما إلا قلب وكذلك قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة 38] والمعنى فاقطعوا أيمانهما إذ لا يقطع من كل(5/478)
واحد إلا يده اليمنى لكن وضع الجمع موضع التثنية لسهولة الخطاب وظهور المراد وفي قراءة عبد الله فاقطعونا أيمانهما حتى أن التعبير في مثل هذا بلفظ التثنية عدول عن أفصح الكلام وغن كان جائزاً كما قال ظهراهما مثل ظهور الترسين وقد جاء مثل الأول في المضاف المنفصل وهو قليل كقوله وضعا رحالهما(5/479)
وإذا كان كذلك قيل لفظُ بأعيننا ولفظ أيدينا مع كون المضاف إليه ضمير جمع أولى بالحسن مما إذا كان المضاف إليه ضمير تثنية فإذا كان من لغتهم ترك استحسان قلباكما ويديهما فلأن يكون في لغتهم ترك استحسان بعيننا أو بعينينا ومما عملت يَدُنَا أو يدانا أولى وأحرى ويكون المضاف مفرداً أو مثنى والمضاف إليه مجموعاً وهذا خروج عن المطابقة وعدول عن الحسن أعظم من ذلك بل هنا يقبح مثل هذا اللفظ فإنه إذا عبر عن نفسه بصيغة الجمع تعظيماً وتفخيماً فالتعبير مع ذلك عما أضيف بما لا تعظيم فيه تناقض في البيان وتناسب الكلام ويوضح ذلك أنه في الصورة المستشهد بها كقوله صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وفَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا يعلل بأنـ ـه حسن العدول عن المثنى بأن صيغة الجمع واحدة معربة(5/480)
بالحروف فهي أخف من صيغة التثنية التي تختلف في النصب وفي الرفع والخفض إذ يحتاج أن يقول صيغ قلباهما وقلب الله قلبيهما وزيّن الإيمان في قلبيهما وعلى المعروف يقال صغت قلوبهما وقلب الله قلوبهما وزيّن الإيمان في قلوبهما فهذا أخف وأسهل وأحسن فإذا قال مما عملت يدانا وخلقنا بيدينا وبسطنا بيدينا كان هذا بخلاف ما لو قيل عملت أيدينا وخلقنا بأيدينا وبسطنا أيدينا كان هذا أخف وأسهل وأحسن من الأول فكيف وفي هذه الصور المضاف إليه لفظه لفظ الجمع فإذا كانوا يعدلون عن إضافة المثنى إلى المثنى فيجعلون المضاف بلفظ الجمع فلأن يعدلوا عن إضافة المثنى إلى الجمع ويجعلوا المضاف بلفظ الجمع أولى وأحرى الوجه الثامن أن القرآن جاء صريحاً في اليد بلفظ التثنية في قوله مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ولم يقل لما خلقته(5/481)
أيدينا كما قال هناك مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا بل أخبر أنه خلق هو وذكر أنه خلق بيديه ومثل هذا اللفظ لايحتمل من المجاز ما يحتمله ما عملت أيدينا فإن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد والمراد الإضافة إليه كقوله ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) [الحج 10] وقال تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] فأخبر عن اليهود أنهم ذكروا ذلك بصيغة الفرد ثم قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ فأخبر أن يديه مبسوطتان وجاء بلفظ المفرد في مواضع كقوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران 26] وقوله تبارك وتعالى تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 1] ولم يجئ بلفظ الجمع إلا في قوله مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا فإذا ادعى المدعي أن ظاهر القرآن أن لله أيدياً كثيرة بهذه الآية مع معارضة تلك الآيات المتعددة لها أليس هذا في غاية البهتان وكان إذا لم يعرف الجمع بين الآيات يكفيه أن يقول(5/482)
لا أعلم ظاهر القرآن أو يدعي أنه ليس له ظاهر أما تعيين المجمل المرجوح للظهور دون غيره فتحريف وتبديل الوجه التاسع أن يقال له أما صيغة التثنية فإنها نص في مسماها لأنها من أسماء العدد وأسماء العدد نصوص لايجوز اثنان أو ثلاثة أو أربعة ويعني به إلا ذلك العدد حتى أنه قيل في مثل قوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة 228] أن ذلك يوجب القروء الكاملة لكونه بلفظ العدد بخلاف قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة 197] فإنه يراد به بعض الثلاث لكونه لفظ جمع ولكون مثل ذلك مستعملاً في أسماء الزمان وأما صيغة المفرد فكثيراً ما يراد بها الجنس فيتناوله سواء كان واحداً أو اثنين أو ثلاثة كما قد يراد بها الواحد في العين وقد يقال الأصل هو الأول ولهذا إذا دخل حرف النفي عليها كان ظاهرها نفي الجنس وقد يراد بها نفي الواحد من الجنس فيقال ما جاءني رجل بل رجلان هذا خلاف الظاهر والأصل عند الإطلاق إذا قلت ما جاءني رجل أن تكون(5/483)
نافية للجنس ونفي الواحد يكون بقرينة ولهذا عامة المفرد المضاف في القرآن كذلك مثل قوله لَيْلَةَ الصِّيَامِ ونِعْمَةَ اللهِ ونحو ذلك وإذا كان كذلك فقوله بِيَدِكَ الْخَيْرُ وبِيَدِهِ الْمُلْكُ يدل على جنس اليد فيعم ما للمضاف إليه سواء كانت يداً أو يدين أو يكون مطلقاً لايدل على عموم ولا خصوص وكذلك قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي يتناول ما للمضاف إليه من ذلك وقوله فيكشف الرب عن ساقه وحتى يضع رب العزة فيها قدمه يقال إنه من المطلق أيضاً إذ الجنس المضاف يراد به العموم تارة ويراد به مطلق الجنس تارة والمقصود أن ذلك لايوجب أن يكون واحداً بالعين وأما صيغة الجمع واستعمالها بمعنى التثنية فقد تقدمت(5/484)
شواهده وإذا كان كذلك كان ظاهر القرآن بل نصه أن لله يدين وكان ما ذكر فيه من لفظ المفرد أريد به الجنس وما ذكر فيه من لفظ الجمع أريد به المثنى وكل هذا هو من ظاهر الخطاب وفصيح اللغة ليس فيه شيء من غريب اللغة وخفيها بل هو جارٍ على الاستعمال الظاهر المشهور فتبين أنما جعله ظاهر القرآن هو خلاف نصه وظاهره الوجه العاشر أنه إذا كان مقصوده أن الله ليس موصوفاً بظواهر النصوص فكان ينبغي أن يذكر ما وردت به الأخبار أيضاً فإنه موصوف بالأمرين جميعاً وفيما وصف به من الأخبار ما إذا ضم إلى القرآن تبين من مجموع النصوص زوال ما ادعاه من الشناعة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين(5/485)
فصل قال الرازي الوجه الثاني أنه ورد في القرآن أن الله نور السموات والأرض وأن كل عاقل يعلم بالبديهة أن الله ليس هو هذا الشيء المنبسط على الجدران والحيطان وليس هو النور الفائض من جرم الشمس والقمر والنار ولابد لكل واحدٍ منا أن يفسر قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بأنه مُنور السموات والأرض أو بأنه هادٍ لأهل السموات والأرض أو بأنه مصلح لأهل السموات والأرض وكل ذلك تأويل قلت والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال له الله أخبر أنه نور السموات والأرض فإن النار جملة وتفصيلاً كالموجود في السرج والمصابيح وغير ذلك إنما يكون(5/486)
في بعض الأرض أو بعض ما بين السماء والأرض فضلاً عن أن تكون هذه النيران نور السموات والأرض وكذلك ضوء الشمس والقمر ليسا نور السموات والأرض وإن كانا موجودين في بعض السموات ومنورين لبعض الأرض فإنا نعلم أن نور الشمس التي هي أعظم من نور القمر ليس هو نور جميع السموات والأرض فإذا كانت هذه الأمور ليست نور السموات والأرض والله قد أخبر أنه هو نور السموات والأرض لم يكن ظاهر كلامه أن الله هو هذه الأنوار حتى يجعل ظاهر كلام الله باطلاً ومحالاً وكفراً وضلالاً بالبهتان وتحريف الكلم عن مواضعه بل لو كان الخطاب الله هو النور الذي تشهدونه في السموات والأرض أو الله هو النور الذي في السموات والأرض لكان لكلامه وجه بل قال هو نور السموات والأرض فالمحرف لهذه الآية ظن أن مسمى نور السموات والأرض هي هذه الأنوار المشهودة المخلوقة من القمرين والنار فاعتقد أن ظاهر القرآن هو هذا الباطل الوجه الثاني أنه قد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام من الليل اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات(5/487)
والأرض ومن فيهن وهذا يقتضي أن كونه نور السموات والأرض أمر مغاير لكونه رب ذلك وقيمه ومن المعلوم أن إصلاح ذلك وهدايته وجعله نيِّراً هو داخل في كونه ربه وقيمه فعلم أن معنى كونه نور السموات والأرض غير ذلك الثالث أن الله قد قال في كتابه العزيز وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر 68-69] فقد اخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره وقال الإمام أحمد في الرد على الجهمية نقول إن اله لم يزل متكلماً إذا شاء ولا نقول إنه كان قد لا يتكلم حتى خلق كلاماً ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق(5/488)
لنفسه علماً فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نوراً ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة فقالت الجهمية لنا لمَّا وصفنا من الله هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره لم يزل وقدرته فقلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن لم يزل بقدرته وبنوره لا متى قدر ولا كيف قدر فكل ما له فهو في نفسه نور فإن إنارته على غيره فرع استنارته في نفسه ولهذا كان لفظ النور يقع على الجواهر المنيرة وعلى الأعراض القائمة بالمستنير بها أخرى قال تعالى وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [نوح 16] فجعل القمر نفسه نوراً وهو جوهر قائم بنفسه ويقال لضوئه وضوء الشمس نور(5/489)
الوجه الرابع أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نورٌ أنَّى أراه وثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال إن الله لاينام ولاينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو قال النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وقال عبد الله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أن له حجاباً من النور أو النار وهذا ليس هو نور وجهه الذي لو كشف هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وكذلك روى عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا محمد بن(5/490)
كثير أنا سفيان عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال احتجب الله من خلقه بأربعٍ بنارٍ وظلمةٍ ونورٍ وظلمةٍ(5/491)
وقال حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن زرارة بن أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل هل رأيت ربك فانتفض جبريل وقال يا محمد إن بيني وبينه سبعين حجاباً من نورٍ لو دنوت من أدناها حجاباً لاحترقت(5/492)
الخامس أن كونه نوراً أو تسميته نوراً مما لم يكن ينازع فيه قدماء الجهمية وأئمتهم الذين ينكرون الصفات بل كانوا يقولون إنه نور قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية وقلنا للجهمية حين زعموا أن الله بكل مكان لايخلو منه مكان فقلنا لهم أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف 143] لِمَ تجلى للجبل إذا كان فيه بزعمكم فلو كان فيه كما تزعمون لَمْ يكن متجلياً لشيء هو فيه لكن الله تبارك وتعالى على العرش وتجلى لشيء لم يكن فيه ورأى الجبل شيئاً لم يكن رآه قط قبل ذلك وقلنا(5/493)
للجهمية الله نور فقالوا هو نور كله فقلنا قال الله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا فقد أخبر جل ثناؤه أن له نوراً وقلنا لهم أخبرونا حين زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور فلِمَ لايضيء البيت مظلم من النور الذي هو فيه إذ زعمتم أن الله في كل مكان وما بال السراج إذا دخل البيت المظلم يضيء فعند ذلك تبين كذبهم على الله وقال الخلال حدثنا يحيى ن أبي طالب قال كنا عند عمر بن يحيى الواسطي بن أخي علي بن عاصم فتذاكرنا(5/494)
من قال القرآن مخلوق فقال حدثني يحيى بن عاصم قال كنت عند أبي فاستأذن عليه بشر المريسي فقلت له يا أبت مثل هذا يدخل عليك قال يا بني ما له قلت إنه يقول القرآن مخلوق وإن الله معه في الأرض وإن الشفاعة باطلة وإن الصراط باطل وإن الميزان باطل وإن منكراً باطل مع كلامٍ كثير قال ويحك أدخِله علىَّ قال فأدخلته فجعل يقول ويلك يا بشر اُدْنُه فما زال يدنيه حتى قرب منه ثم قال ويلك يا بشر ما هذا الكلام الذي بلغني عنك قال وما هو يا أبا الحسن قال بلغني أنك تقول القرآن مخلوق وأن الله في الأرض معك مع كلام كثير فقال ويلك من تعبد وأين ربك قال يا أبا الحسن لم أجئ لهذا إنما جئت لتقرأ عليَّ كتاب خالد قال فقال لا ولا نعمة عين ولا عزازة حتى أعلم ما أنت عليه أين ربك ويلك قال فقال أما إذ أبيت عليَّ يا أبا الحسن فربي نور في نور قال فجعل يزحف إليه(5/495)
من ضعف ويقول ويحكم اقتلوه فإنه والله زنديق وقد كلمت هذا الصنف بخراسان قال فأخرجناه قلت والصنف الذي أشار إليهم علي بن عاصم محتمل أنهم من أتباع المجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأنهما امتزجا واختلطا فإنهم لا يثبتون فوق العالم شيئاً كما تقول الجهمية وقد تقدم كلام ابن كلاب على مضاهاة المعتزلة للثنوية والدهرية فإذا كان أئمة المؤسس وقدماء أهل مذهبه يقولون إنه نور فكيف يدّعي الإجماع على خلاف ذلك فإن هذه التأويلات التي يذكرها في كتابه هي تأويلات بشر المريسي وهو إمام المتأولين فيها كما سننبه إن شاء الله على ذلك فهؤلاء المعطلة الجهمية وكذلك المجسمة كما نقل الأشعري في كتاب المقالات عن الهشامية أصحاب هشام بن الحكم أنهم يقولون إنه نور ساطع له قدر من الأقدار في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من(5/496)
جميع جوانبها وكذلك نقل عن أصحاب هشام بن سالم الجواليقي أنهم يقولون إنه نور ساطع يتلألأ بياضاً وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وانف وأذن وعين وفم وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم وكذلك نقل عن فرقة خامسة أنهم يزعمون أنه ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وأيضاً فالقول بأن الله في نفسه نور هو قول الصفاتية أهل الإثبات كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابها ولم يذكر الخلاف في ذلك إلا عن المعتزلة فذكر أبو بكر بن فورك في كتابه الذي سماه مقالات(5/497)
الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وذكر أنه وأبا الحسن الأشعري متفقان لا يتنازعان إلا فيما لا قدر له من الأمور اللطيفة وذكر مذهبه في أصول ذكرها إلى أن قال فصل في إبانة مذاهبه في الصفات هذا الباب منقسم على وجهين أحدهما ما اشتهر به من مذاهبه حتى تغني شهرته عن الاستشهاد عليه على التفصيل بكلامه في كتبه الموضوعة في هذا المعنى والثاني ما يغمض ويختلف فيه عنه ثم قال أما المشهور من مذهبه في باب الصفات وذكر(5/498)
أصولاً إلى أن قال والمشهور من مذاهبه في ذلك أن القول بأن الله سبحانه نورٌ لا كالأنوار حقيقة لا بمعنى أنه هادٍ وعلى ذلك نص في كتاب التوحيد في باب مفرد لذلك تكلم فيه على المعتزلة إذ تأولوا ذلك على أن معناه هادٍ فقال إن سئل سائل عن الله عز وجل أَنورٌ هو قيل له كلامك يحتمل وجهين إن كنت تريد أنه نور يتجزأ تجوز عليه الزيادة والنقصان فلا وهذه صفة النور المخلوق وإن كنت تريد معنى ما قاله سبحانه وتعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فالله عز وجل نور السموات والأرض على ما قاله قال فإن قال فما معنى قولك نور قيل له قد أخبرناك ما معنى النور المخلوق وما معنى النور الخالق وهو الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء ومن تعدى أن يقول الله نور فقد تعدى إلى غير سبيل المؤمنين لأن الله سبحانه لم يكن يسمي نفسه لعباده بما ليس هو به فإن قال لا أعرف النور إلا هذا النور المضيء المتجزئ قيل له فإن كان لايكون نوراً إلا مضيئاً فكذلك(5/499)
لايكون حكمه إلا وحكمه حكم ذلك الشيء قال ابن فورك ثم قال في هذا الفصل فإذا قال الله عز وجل إني نور قلت أنا هو نور على ما قال الله سبحانه وتعالى وقلت أنت ليس الله عز وجل نوراً فمن المثبت له على الحقيقة أنا أو أنت وكيف يتبين الحق فيه إلا من جهة ما أخبر الله سبحانه وتعالى والدافع لما قال الله سبحانه كافر بالله سبحانه وتعالى وإن لزمنا أن لا نقول إن الله نور لأن ذلك موجود في الخلق لزمنا أن لا نقول إن الله عز وجل شيء سميع بصير موجود لأن ذلك موجود في الخلق ومعنانا في هذا إثبات خلاف معناكم في ذلك التعطيل قال ومعنانا في قولنا إن الله نور نثبت لله تعالى اسمَ النور على ما ورد به كتابه مما يسمى به عندنا فنحن متبعون لما أخبرنا في كتابه فإن جاز لكم أن يكون شيء لا كالأشياء جاز أن نقول نورٌ(5/500)
لا كالأنوار وأنتم ظلمة فيما سألتم جَحَدَةٌ لما أخبر عن نفسه في كتابه ونحن وأنتم متفقون إن أقررتم بالكتاب أن الله نور السموات والأرض ومختلفون في أن نقول نور فقلنا نحن نور وقلتم أنتم لا نقول نور فإن زعمتم أن معنى نور معنى هادي قلنا لكم فيجوز أن يكون غيره نوراً هادياً فإن قلتم لا أَكْذَبكم القياسُ واللغة وإن قلتم نعم قلنا لكم فقد سويتم بين النور الهادي الذي هو غير الله سبحانه وبينه إذ كان هو النور الهادي ومعنى هذا نور ومعنى هذا نور فقد استويا في معنييهما وأسمائهما فدخلتم فيما عبتم على مخالفكم إذ زعمتم أنه نورٌ لا كنور وقلتم إنه نور هادٍ لا كنور هادٍ فما الفصل بينكم وبين من قال ذلك وما الفرق بينه وبينكم إن كان نوراً فالنور لا يكون إلا جسداً مجسداً وضياءً ساطعاً قلنا ولا يكون عالماً بصيراً إ لا لحم ودم متجزئ متبعض فإن جاز قياسكم عل مخالفكم جاز قياسه عليكم أنه لا يكون سميعاً بصيراً إلا لحم(5/501)
ودم فإن قلتم يكون عالماً لا لحم ولا دم قيل لكم كذلك يجوز أن يكون نوراً لاجسداً ولاضوءاً ساطعاً لا على ما تعقلون مما وقع عليه أثر الصفة والزيادة والنقصان وليس لكم إلا التعطيل والنفي لله سبحانه قال أبو بكر بن فورك وإنما استوفيت ذكر هذا الفصل من كتابه رحمه الله تعالى بألفاظه لتحقُّق هذا الوصف في الله تعالى تمسُّكاً بمحكم الكتاب وأنه لايرى أن يعدل عن الكتاب ما وجد السبيل إلى التمسك به لرأي وهوى لا يُوجِبه أصلٌ صحيح وقد كشف عن ذلك بغاية البيان وإزالة اللبس فيه وأن السمع هو الحجة في تسمية الله عز وجل ولايجب أن يحمل على المجاز لأجل أن ذلك يقتضي أن يكون على جميع معاني ما هو مخلوق لأنه يوجب أن يحمل سائر ما ورد به السمع من أسمائه سبحانه وتعالى على المجاز لأن جميع معاني ما هو في الخلق لايصح إطلاقه فيه تعالى قلت فهذا الكلام الذي ذكره عن ابن كلاب يقتضي إبطال التأويل له بالهادي ونحوه وأن ذلك هو تأويل مَن تأوَّله من المعتزلة ويقتضي أن المحذور فيما يُؤَوِّلُ عليه من جنس(5/502)
المحذور الذي يفر منه فلا حاجة إلى التأويل ولافائدة فيه وإن كان قد جرى في تحقيق ذلك على أصله في نظائره كما قد بينا أصله وأصل الأشعري والقلانسي وغيرهم في غير هذا الموضع وأنهما مع مخالفتهما للمعتزلة لم يوافقا السلف والأئمة بل لهم طريقة سلكوها وبينوا من تناقض المعتزلة ما يظهر به فساد قولهم وكذلك قال أبو الحسن الأشعري فيما حكاه عن أصحابه كالقاضي أبي بكر بن العربي وغيره فإنه(5/503)
قال وقد اختلف الناس بعد معرفتهم بالنور على ستة أقوال الأول معناه هادٍ قاله ابن عباس والثاني معناه منور قاله ابن مسعود وروي أنه في مصحفه مُنوِّر السموات والأرض والثالث أنه مزين وهو يرجع إلى معنى منور قاله أُبيّ بن كعب الرابع أنه ظاهر الخامس أنه ذو النور السادس أنه نور لا كالأنوار قاله الشيخ أبو الحسن الأشعري قال وقالت المعتزلة لايقال له نور إلا بالإضافة قال والصحيح عندنا أنه نور لا كالأنوار لأنه حقيقة والعدول عن الحقيقة إلى أنه هادٍ أو منور وما أشبه ذلك هو مجاز من غير دليل لايصح ولأن الأثر الصحيح يعضده ويصح أن يكون على هذا صفة ذات ويصح أن يكون صفة فعل على معنى أنه ظاهر إذ روح النور البيان والظهور(5/504)
قلت كونه ظاهراً ليس بصفة فعل وقال الإقليشي وتسمية الله سبحانه وتعالى بهذا صحيح في الشرع والنظر أما الشرع فقوله سبحانه وتعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور 35] فإن احتج محتج وقال أراد منير السموات والأرض أو هادي أهل السموات والأرض وأبى من تسمية الله نوراً احتججنا عليه بالحديث الذي خرَّجه مسلم في صحيحه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أنَّى أراه وحديث ابن عباس المخرج في مصنف الترمذي إذ قال رأى محمد ربه قيل له أليس يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ قال ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره فهذان الحديثان يصرحان بتسمية الله تعالى نوراً قال وأما النظر فإن النور يطلق على ما يظهر في ذاته فقط وغلى ما يظهر في ذاته ويُظهر غيره كجمرة النار فإنها(5/505)
تسمى نوراً لظهورها وكالشمس فإنها تسمى نوراً لأنها تظهر في ذاتها ويظهر بضوئها غيرُها وهذا القول وهو نفي كونه نوراً في الحقيقة حكاه الشعري في كتاب المقالات عن الجبائي فقال وكان الجبائي يزعم أن الباري نور السموات ومعنى ذلك أنه هادي أهل السموات والأرض وأنهم به يهتدون كما يهتدون بالنور والضياء وأنه لايجوز أن نسميه نوراً على الحقيقة إذا لم يكن من جنس الأنوار لأنا لو سميناه بذلك وليس هو من جنسها لكانت التسمية له بذلك تلقيباً إذا كان لايستحق معنى الاسم من جهة المعقول واللغة ولو جاز أن يسمى بأنه جسم محدث(5/506)
وبأنه إنسان وإن لم يكن مستحقًّا لهذه الأسماء ولا لمعانيها من جهة اللغة فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يسمى على جهة التلقيب قال وكان الحسين النجار يزعم أنه نور السموات والأرض بمعنى أنه هادي أهل السموات والأرض قلت القول بأنه نور حقيقةَ هو قول أئمة الأشعرية المتقدمين قلت وأما كلام المؤسس فإنه اتبع فيه أبا المعالي الجويني فإنه غَيّر مذهب الأشعري في كثير من القواعد ومال إلى قول المعتزلة فإنه كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم بن الجبائي وكان قليل المعرفة بمعاني الكتاب والسنة وكلام(5/507)
السلف والأئمة مع براعته وذكائه في فنه قال في الإرشاد له ذكره الأنصاري شارحه ومما يسأل عنه قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس هادي أهل السموات والأرض قال ولا يستجيز مُنْتَمٍ إلى الإسلام القول بأن نور السموات هو الله والله تعالى يقول لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ قال والمقصود من إطلاق هذا اللفظ ضرب الأمثال فهي كذلك على الإجمال وقد نطق بذلك(5/508)
سياق الآية وكذلك قوله وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ [النور 35] ولما كان النور يُستضاء به ويهتدى سُمِّي النبي صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب فسمت المطر سماء لنزوله من السماء فكذلك يحتمل أن يكون سبحانه أطلق هذا الاسم على نفسه وسماه به لأن النور من خلقه وكأنه قال منه نور السموات والأرض وهو مُنِّورهما قال وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا أي بنور من ربها وقال وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى 52] وفي التفسير وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا أي بآثارِ عدلِ ربها يعني بحيث ينتصف للمظلومين وقال تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام 1] وقال وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) [النور 40] وقال صلى الله عليه وسلم حين سئل عن شرح الصدور نور يقذف في القلب فثبت أن النور(5/509)
مجعول مخلوق والجعل المضاف إلى الله عز وجل لا يكون إلا بمعنى الخلق ونصوص القرآن شاهدة لما ذكرناه النور هو الهادي لايعلم العباد إلا ما علمهم ولايدركون إلا ما يسر لهم إدراكه فالحواسُ والعقل فطرته وعطيته وقال الخطابي ولايجوز أن يُتوهَّم أن الله نور من الأنوار فإن النور تُضادُّه الظلمة وتعاقبه فتزيله وتعالى الله أن يكون له ضد أو ندّ(5/510)
قلت ذكرنا كلام هؤلاء النفاة مع كلام المثبتة فإن أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لايكتبون إلا ما لهم والمرجع بعد ذلك إلى الحجة فإن هذه الأقوال المذكورة عن النفاة يظهر فسادها لمن تدبر ذلك بلا كلفة وأما ما ذكروه عن الصحابة فسنتكلم عليه إن شاء الله قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي وأتباعه الجهمية قال وادَّعى المعارض أيضاً أن قوماً زعموا أن الله عيناً يريدون جارحاً كجارح العين من الإنسان وأرادوا التركيب واحتجوا بقوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) [طه 39] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود 37] وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] قال المعارض والمعقول بين أن هذا يريد عين القوم يعني رئيسهم وكبيرهم ولايريد جارحاً ولكن يريد الذي يجوز في الكلام وقال ابن عباس في قوله فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا يقول في كلاءتنا وحفظنا ألا ترى إلى قول القائل عين الله عليك يقول(5/511)
أنت في حفظ الله وكلاءته قال فيقال لهذا المعارض أما ما ادعيت أن قومًا يزعمون أن لله عيناً فإنا نقوله لأن الله قاله ورسوله وأما جارح كجارح العين من الإنسان على التركيب فهذا كذب ادعيته علينا عمداً لما أنك تعلم أحداً لايقوله غير أنك لا تألو ما شنَّعت ليكون أنجع لضلالك في قلوب الجهال والكذب لايصلح منه جَدّ ولاهزل فمن أي الناس سمعت أنه جارح مركب فأشر إليه فإن قائله كافر فَلِمَ تكرِّر قولك جسم مركب وأعضاء وجوارح لأجزاء كأنك تهول بهذا التشنيع علينا أن نكف عن وصف الله بما وصف نفسه في كتابه وما وصفه به الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن وإن لم نصف الله بجسم كأجسام المخلوقين ولا بعضو ولا بجارحة لكنا نصفه بما يغيظك من(5/512)
هذه الصفات التي أنت ودعاتك لها منكرون فنقول إنه الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ذو الوجه الكريم والسمع السميع والبصر البصير نور السموات والأرض كما وصفه الرسول في دعائه حين يقول اللهم أنت نور السموات والأرض وكما قال أيضاً نور أنى أراه وكما قال ابن مسعود نور السموات والأرض من نور وجهه والنور لا يخلو من أن يكون له إضاءة واستنارة ومرأى ومنظر وأنه يُدرك يومئذ بحاسة النظر إذا كشف عنه الحجاب كما يُدرك الشمس والقمر في الدنيا وإنما احتجب الله عن أعين الناس في الدنيا رحمة لهم لأنه لو تجلَّى في الدنيا لهذه الأعين المخلوقة الفانية لصارت دكًّا وما احتملت النظر إلى الله تعالى لأنها أبصار خلقت للفناء لاتحتمل نور البقاء فإذا كان يوم القيامة ركبت الأبصار للبقاء فاحتملت النظر إلى نور البقاء(5/513)
وأما تفسيرك عن ابن عباس في قوله فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا أنه قال بحفظنا وكلاءتنا فإن صحّ قولك عن ابن عباس فمعناه الذي ادعينا لا ما ادعيت أنت نقول بحفظنا وكلاءتنا بأعيننا فإنه لايجوز في كلام العرب أن يوصف أحد بكلاءةٍ إلا وذلك الكالئ من ذوي الأعين فإن جهلت فسمِّ شيئاً من غير ذوي الأعين يوصف بالكلاءة وإنما أصل الكلاءة من جهة النظر وقد يكون الرجل كالئاً من غير نظر ولكنه لايخلو أن يكون من ذوي الأعين وكذلك معنى قولك عين الله عليك فافهم وقد فسرنا بعض هذا الكلام في صدر كتابنا غير أنك أعدته لحاجة فيك اغتياظاً على من يؤمن برؤية الله تعالى يوم القيامة وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة لمَّا بين ما سمى الله بعض خلقه من أسمائه مع انتفاء التمثيل قال وربنا جل وعلا النور وقد سمى الله تعالى بعض خلقه نوراً(5/514)
فقال مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ وقال نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور 35] وقال نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) [التحريم 8] وقال تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [الحديد 12] قال أبو بكر وقد كنت أخبرت منذ دهر طويل أن بعض من كان يدَّعي العلم ممن كان لايفهم هذا الباب يزعم أنه جائز أن يُقرأ اللهُ نُورُ السموات والأرض وكان يقرأ اللهُ نَوَّرَ السموات والأرض فبعثت إليه بعض أصحابي وقلت له قل له ما الذي تنكر أن يكون لله عز وجل اسم يسمي الله بذلك الاسم بعض خلقه فقد وجدنا الله تعالى قد سمى بعض خلقه بأسامٍ هي أسامي وبينت له بعض ما أمليته في هذا الفصل وقلت للرسول قل له قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإسناد الذي لايدفعه عالم بالأخبار ما يثبت أن الله نور السموات والأرض قلت في خبر طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان(5/515)
يدعو اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن فرجع الرسول وقال لست أنكر أن يكون الله نوراً كما قد بلغني بعد أنه رجع وقال أبو الحسن الأشعري في إبانته قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فسمى نفسه نوراً والنور عند الأمة لايخلو من أحد معنيين إما أن يكون نوراً يسمع أو نوراً يُرى فمن زعم أن الله يسمع ولا يرى كان مخطئاً في نفيه رؤيةَ ربِّه وتكذيبه بكتابه عز وجل وقول نبيه صلى الله عليه وسلم وقال القاضي أبو يعلى فأما قوله في حديث جابر بَيْنَا أهلُ الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوق رؤوسهم فإذا الرب سبحانه وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام(5/516)
عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) [يس 58] قال فينظر إليهم وينظرون إليه ولايلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه قال(5/517)
فلا يمتنع حمله على ظاهره وأنه نور ذاته لأنه إذا جاز أن يُظهر لهم ذاته فيرونها جاز أن يظهر لهم نوره فيرونه لأن النور من صفات ذاته ومنه قوله تعالى وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر 69] وذكر في موضع آخر قولين في ذلك ورجح هذا في المذهب فقال في تفسير الأسماء الحسنى وأما وصفه بأنه نور فقيل معناه منوِّر السموات والأرض بالنيرين أو منور قلوب أهل السموات والأرض بالهدى والتوفيق لأنه لايجوز أن يكون جسماً مضيئاً ولا شعاعاً وضياءً كبعض الأجسام فكان معناه ما ذكرنا قال وذكر أبو بكر عبد العزيز في كتاب التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(5/518)
[النور 35] يقول الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض وقيل هو نور لا كالأنوار ليس بذي شعاع ولاجسم مضيء على ظاهر القرآن وهو أشبه بكلام أحمد رحمه الله فيما خرجه في الرد على الجهمية لأنه قال قلنا للجهمية الله نور فقالوا هو نور كله فقلنا لهم قال الله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا فقد أخبر جل ثناؤه أن له نوراً وقلنا لهم لمّا زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان قال وظاهر هذا الكلام من أحمد أنه أثبت له هذه الصفة قلت كلام أحمد رحمه الله صريح في أن كونه نوراً يوجب أن تضيء به الأمكنة التي لا حجاب بينه وبينها كما دل على ذلك الكتاب والسنة في قوله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا(5/519)
وهؤلاء المفسرون للقرآن والأسماء الحسنى قدوتهم في تفسيره أنه هادي هو ما نقلوه عن ابن عباس وهذا إنما هو مأخوذ من تفسير الوالبي علي بن أبي طلحة الذي رواه عبد الله ابن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يقول الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض مثل هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه وكذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم فإذا أتاه العلم ازداد هُدىً على هدى ونوراً على نور فكلهم على هذه الرواية يعتمد فإن هذا تفسير رواه الناس عن عبد الله بن صالح وأبو بكر(5/520)
عبد العزيز نقل ذلك من تفسير محمد بن جرير إذ كان يعتمد عليه وابن جرير يروي من هذا التفسير بالإسناد وكذلك البيهقي في تفسير الأسماء الحسنى إنما رواه من هذا الطريق وهذا التفسير هو تفسير الوالبي وأما ثبوت ألفاظه عن ابن عباس ففيها نظر لأن الوالبي لم يسمعه من ابن عباس ولم يدركه بل هو منقطع وإنما أخذ عن أصحابه وكما أن السدي أيضاً يذكر تفسيره عن ابن مسعود(5/521)
هن ابن عباس وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وليست تلك ألفاظهم بعينها بل نقل هؤلاء شبيه بنقل أهل المغازي والسير وهو مما يُستشهد به ويعتبر به ويُضم بعضه إلى بعض فيصير حجة وأما ثبوت شيء بمجرد هذا النقل عن ابن عباس فهذا لايكون عند أهل المعرفة بالمنقولات وأحسن حال هذا أن يكون منقولاً عن ابن عباس بالمعنى الذي وصل إلى الوالبي إن كان له أصل عن ابن عباس وغايته أن يكون لفظ ابن عباس وإذا كان لفظه قول ابن عباس فليس مقصود ابن عباس بذلك أن الله هو نفسه ليس بنور وأنه لا نور له فإنه قد ثبت بالروايات الثابتة عن ابن عباس إثبات النور لله تعالى كقوله في حديث عكرمة لما سأله عن قوله لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ(5/522)
فقال ويحك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء وابن عباس هو الراوي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اللهم أنت رب السموات والأرض ومن فيهن وأنت نور السموات والأرض ومن فيهن وأنت قيّام السموات والأرض ومن فيهن ومعلوم أنه لو لم يكن النور إلا الهادي لكانت الهداية مختصة بالحيوانات فأما الأرض نفسها ف توصف بهدى والحديث صريح بأنه نور السموات والأرض ومن فيهن وأيضاً فوصفه بأنه القيم والرب وفرق بين ذلك وبين النور ولكن عادة السلف من الصحابة والتابعين كل منهم يذكر في(5/523)
تفسير الآية أو الاسم بعض معانيه التي يصلح للسائل كما ذكروا مثل ذلك في اسمه الصمد واسمه الرحمن وغيرهما من أسمائه لا يريدون بذكر ما يذكرونه نفي ما سواه مما يدل عليه الاسم وكذلك في سائر تفسير القرآن مثل تفسير قوله فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر 32] حيث يذكر كل منهم بعض أنواع هذه الأصناف وهذا كثير في التفسير ومقصوده هنا يذكر نوره الذي في قلوب المؤمنين ولاريب أن هذا متعلق بهدايته للمؤمنين فذكر من معنى الاسم ما يناسب مقصوده وكونه هادياً مثل كونه نوراً فـ ي ما يلزم عليهما كما نبهنا على هذا في غير هذا الموضع وكلام ابن كلاب قد نبَّه فيه على ذلك وأما ما ذكره عن ابن مسعود أنه قال منور وأنها في مصحفه كذلك فهذا لا ينافي كونه نوراً بل هو(5/524)
توكيد فإن الموجودات النورانية نوعان منها ما هو ينفسه مستنير كالجمرة فهذا لا يقال له نور ومنها ما هو مستنير وهو ينير غيره فهذا هو النور كالشمس والقمر والنار وليس في الموجودات ما ينوِّر غيره وهو في نفسه ليس بنور فقراءة ابن مسعود منوِّر هو تحقيق لمعنى كونه نوراً وهذا مثل كونه مكلماً ومعلماً فإن ذلك فرعُ كونه في نفسه متكلماً عالماً يؤيد ذلك أن ابن مسعود كان يقول إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وأما ما نُقِلَ عن أبي بن كعب أنه قال مزيِّن فهذا لا أصل له ولم يعز ذلك إلى حيث يقبل وهو بالكذب على أُبيٍّ أشبه فإن تفسير أُبيِّ بن كعب لهذه الآية معروف بالإسناد رواه(5/525)
العلماء كعبد الله بن المبارك وغيره عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبيِّ بن كعب وقد رواه عامة الأئمة المصنفين في التفسير بالإسناد كما كانت عادة أئمة السلف مثل ابن جريج ومعمر ووكيع وهُشَيم وابن المبارك وعبد الرزاق والإمام أحمد(5/526)
وإسحاق بن راهوية وخلائق غيرهم وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره ومحمد بن جرير وذكر الإمام أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريق عبد بن حميد ثنا عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية غن أبي بن كعب في قول(5/527)
الله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قال فبدأ بنور نفسه فذكره ثم ذكر نور المؤمن فقال مَثَلُ نُورِهِ يقول مثل نور المؤمن قال فكان أبي بن كعب يقرأها كذلك مثل نوره مثل نور المؤمن قال فهم عبدٌ جعل الإيمان والقرآن في صدره قال قلت كَمِشْكَاةٍ قال المشكاةُ صدرهُ فِيهَا مِصْبَاحٌ قال المصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره قال الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ قال الزجاجة قلبه قال الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ قال قلبه مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب دري يقول مضيء يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ قال فالشجرة المباركة الإخلاصُ لله وحده وعبادته لا شريك له لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ قال فمثله كمثل شجرةٍ التفَّ بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت(5/528)
لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هذا المؤمن قد أُجِير من أن يضله شيء من الفتن وقد ابتلي فثَّبته الله فيها فهو بين أربع خلال إن أُعطي شكر وإن ابتُلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات قال نُورٌ عَلَى نُورٍ فهو يتقلب في خمسة من النور فكلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة قال ثم ضرب مثل الكافر وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ الآية قال فكذلك الكافر يجيء في يوم القيامة وهو يحسب أن له عند الله خيراً فلا يجده فيدخله الله النار قال وضرب مثلاً آخر للكافر فقال أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ الآية فهو يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة(5/529)
ومصيره إلى الظلمات إلى النار الوجه السادس أنه لو فرض أن ظاهر هذه الآية أنه نور النيرين ونور النار المشهودة فهو سبحانه وتعالى قد بين في غير موضع أنه خالق ذلك قال تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) [فصلت 37] وقال هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [يونس 5] وقال وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) [إبراهيم 33] وقال يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف 54] وإذا كان في القرآن آية يفسر معناها آية أخرى لم يكن هذا مخلاًّ بكونه هدىً وبياناً وبلاغاً للناس بخلاف ما إذا كان ظاهره ضلال ولم يبين ذلك(5/530)
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء السادس
التأويل - المعية - القرب - النفس - الأصابع
الجسم والجهة - الصورة
حققه
د. عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى(6/1)
فصل قال الرازي الوجه الثالث قال الله تعالى وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد 25](6/3)
ومعلومٌ أن الحديد ما نزل جرمه من السماء إلى الأرض وقال تعالى وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر 6] ومعلوم أن الأنعام ما نزلت من السماء إلى الأرض والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال قوله معلوم أن الحديد ما نزل وأن الأنعام ما نزلت لم يذكر ما به يعلم ذلك أبضرورة أم بدليل فلو نازعه منازع وقال هذا غير معلوم لنا إذ من الممكن نزول أصل هذا الحيوان كنزول أصل الإنسان والجن والحية وكما روي في نزول كبش الفداء ونزول حديد من السماء احتاج إلى ما يدفع به هذا(6/4)
الثاني أن من الناس من قد روى أنه قد ينزل من السماء حديد الوجه الثالث وهو الجواب أن يقال له إن الله تعالى لم يقل أنزلنا الحديد من السماء ولا قال أنزلنا لكم ثمانية أزواج من السماء فقول القائل معلوم أن الحديد ما نزل جرمه من السماء إلى الأرض وأن الأنعام ما نزلت من السماء إلى الأرض لا يعارض ظاهر القرآن حتى يقال إن ظاهر القرآن ليس بحق وأنه مؤول بل قال وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد 25] والإنزال يقتضي أن يكون من محلٍّ عالٍ ولا ريب أن الحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال وهي عالية على الأرض وقد قيل إنه كلما كان المعدن أعلى كان حديده أجود والمستخرجون للحديد من المعادن يقولون نزل لنا من المعدن(6/5)
كذا وكذا يبين ذلك أن الله ذكر الإنزال على ثلاث درجات قال في الحديد وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد 25] فأطلق الإنزال ولم يذكر من أين نزل وقال في الغيث وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة 22] وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ فذكر أنه أنزل المطر من السماء فإنه نزل مما يسمو على رؤوس بني آدم ويعلو عليهم بخلاف الجبال فإنها نفسها لا تسامت رؤوس بني آدم وقال في القرآن تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) وقال حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) [غافر 1-2] وقال حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) [فصلت 1 -2] وقال وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام 114] وقال وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) [النمل 6] وقال الر كِتَابٌ(6/6)
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود 1] فأخبر أن القرآن منزل منه وأن المطر نزل من السماء وأخبر أنه أنزل الحديد ولم يذكر من أين نزل وبهذا يظهر ما لبَّسته الجهمية من المعتزلة وغيرهم(6/7)
في دعواهم أن الإخبار بان القرآن مُنزَّل لا يمنع أن يكون مخلوقًا فإن المخلوق يوصف بالإنزال كالماء والحديد وزعم بعضهم أن الإنزال يكون بمعنى الخلق فإن الله أخبر أن القرآن منزل والإنزال هو من العلو حيث كان وهذا من المعلوم بالضرورة من اللغة وهو من اللغة العامة الشائعة يوضح ذلك أن الله تعالى قال لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد 25] ثم قال وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد 25] ففرق بين إنزال الكتاب والميزان وذكر أنه أنزل ذلك مع الرسل وبين إنزال الحديد فوصفه بإنزال مطلق لم يجعله مع الكتاب والميزان ولم يصفه بالإنزال الذي وصف به الكتاب والميزان وقد قال تعالى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ [الأحزاب 26] فإذا كان قد يسمى هذا نزولاً فما أنزله من الجبال أولى أن يكون منزلاً فإن الجبال أعلى من الصياصي التي هي(6/8)
الحصون التي كانت بالحجاز وكذلك قال لنوح عليه السلام فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) [المؤمنون 28-29] وإنما هو نزوله من السفينة إلى الأرض يقرر ذلك أن الله تعالى قال لنوح يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ الآية [هود 48] بعد قوله وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود 44] فهذا هبوط من السفينة وقال لآدم ومن معه وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة 36] فهذا هبوط من السماء وكذلك قال لإبليس فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) [الأعراف 13] فلفظ الهبوط من جنس لفظ النزول فبعضه من السماء أو الجنة وبعضه من الأرض مكان عال في الأرض كالسفينة كما أن العلو والظهور الذي في مقابلته(6/9)
كذلك وأما قوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر 6] فإنه ينزل الماء من أصلاب الذكور إلى بطون الإناث ثم ينزل الأجنة من بطون الإناث إلى الأرض فأنزل منها ثمانية أزواج ومن المشهور في اللغة أنه يقال عن ابن آدم أنزل الماء أو المني ولم ينزل كما في الحديث وذلك أنه سبحانه قال خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الزمر 6] فحواء خلقت من نفس آدم من ضلعه(6/10)
القصراء لم تخلق من مني ولا في رحم كما قال يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] وقال هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف 189] فلم تكن زوج آدم منزلاً منه بل مخلوقاً مجعولاً منه وزوجها هي حواء وأما الأنعام فإنه يعلو بعضها بعضًا وهي قائمة أو قاعدة وتلد وهي كذلك قائمة فينزل الله تعالى منها أولادها وتسمية ذلك إنزالاً ليس بدون تسمية إخراج المني إنزالاً بل أبلغ وفي الصحيحين عن أسامة أنه قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أين ننزل غدًا قال بخيف بني(6/11)
كنانة حيث تقاسموا على الكفر واستعمال لفظ النزول في النزول من ظهر الدابة أكثر وأشهر وأظهر مما يذكر وعلى هذا فـ من في قوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ(6/12)
[الزمر 6] يحتمل وجهين أحدهما أن يكون لبيان الجنس كما هو الظاهر لكثير من الناس والمعنى أنزل ثمانية أزواج كما قال وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد 25] وإنزالها كإنزال المني ومن هنا مثل من في قوله وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام 141] إلى قوله وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام 142] إلى قوله ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام 143] أي أنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا ثمانية أزواج ويحتمل أن تكون من لابتداء الغاية كقوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الرعد 17] وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] والمعنى أنه أنزل ثمانية أزواج أنزلها من الأنعام فيكون قد ذكر المحل الذي أنزلت منه وهذان الوجهان يجيئان في قوله تعالى في السورة الأخرى جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] فقوله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا هل المراد جعل لكم(6/13)
من جنسكم أزواجًا يذرؤكم في ذلك أو المراد جعل أزواجكم من أنفسكم لكون حواء جعلت من نفس آدم وكذلك من الأنعام أزواجًا وقد يقال بيان الجنس أظهر لأنه لم يخلق من آدم إلا زوجه فقط كما قال خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] وأما أزواج ولده فلم تخلق من ذواتهم فيكون المعنى جنسكم أزواجًا كما قال لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [النور 12] وقال ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة 85] وقال وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات 11] وله نظائر في القرآن(6/14)
فصل قال الرازي الرابع قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] وقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وقال تعالى مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] وكل عاقل يعلم أن المراد منه القرب بالعلم والقدرة الإلهية قلت قد ذكر في هذا الوجه لفظ المعية ولفظ القرب ولم يذكر إلا تأويل لفظ القرب وذكر في الوجه السادس قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] مع قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] وتلك الآية هي نظير هذه لا نظير تلك ثم ذكر الوجه التاسع وهو آخر وجوه القرآن قال(6/15)
تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] وهذه المعية ليست إلا بالعلم والحفظ والرحمة فيكون ذكره لتلك المعية في تلك الآية لأنه جعل معناها معنى قربه فلابد من الكلام في لفظ المعية ولفظ القرب أما المعية فالكلام عليها من وجوه أحدها أن يقال لا يخلو إما أن يكون ظاهر قوله وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] أن ذاته نفسها مختلطة في المخلوقات أو لا يكون هذا ظاهر الخطاب فإن كان الأول فهذا قول طوائف من إخوانه الجهمية الذين ينكرون أنه فوق العرش ويقولون إنه في كل مكان أو إنه نفس وجود الأمكنة ولهم في ذلك مقالات تقدم حكايتها وبينَّا أنه عاجز عن مناظرتهم والرد عليهم إلا إذا وافق أهل(6/16)
الإثبات فهؤلاء إذا قالوا له نحن نتمسك بظاهر القرآن لم يمكنه الرد عليهم وقوله كل عاقل يعلم أن المراد منه القرب بالعلم والقدرة الإلهية هؤلاء إخوانه الجهمية ينازعونه في هذا ونحن وإن كنا نعلم بطلان قولهم لكن المقصود هنا أن ما ادعاه من الاتفاق على أن من ظواهر القرآن ما ليس بحق ليس كما ادعاه فليس في شيء مما ذكره وفاق ولا في صورة واحدة وإن لم يكن ظاهر الخطاب يدل على أن ذاته في المخلوقات لم تكن الآية مصروفة عن ظاهرها فعلى التقديرين لم يسلم ما ادعاه من الاتفاق على إحالة ظاهر القرآن الوجه الثاني أن أهل السنة والإيمان والإثبات لا ينازعونه في أن الله ليس في المخلوقات لكن ينازعونه في أن ظاهر هذه الآية يدل على ذلك فيقال لا يخلو إما أن يكون ظاهر الآية يدل على أن ذاته في نفس المخلوقات أم لا فإن كان الثاني بطل قوله وإن كان الأول فلا ريب أن الله قد فسر هذه الآيات وأزال(6/17)
الشبهة التي تعترض بما بينه في غير موضع من كتابه من أنه استوى على العرش وأنه إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح وانه رفع عيسى إليه وأنه تعرج الملائكة والروح إليه إلى غير ذلك من النصوص المفسرة المحكمة التي تبين أن الله فوق الخلق فكان ذلك بيانًا من الله بليغًا لعباده أن ذاته ليست في نفس المخلوقات وكان ذلك البيان مانعًا عن فهم هذا المعنى الباطل من القرآن وهم لاينازعون أن القرآن يفسر يعضه يعضًا ويكون بعضه مانعًا من حمل بعضه على معنى فاسد كما تقدم وإنما الممتنع أن يكون ظاهره ضلالاً ولم يبين الله ذلك الوجه الثالث أن هؤلاء يقولون إن الله تعالى قد بين في غير موضع أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وبين أن له ملك السموات والأرض وما بينهما(6/18)
وبين أن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه وأن كرسيه وسع السموات والأرض وأنه يمسك السموات والأرض أن تزولا إلى غير ذلك من الآيات التي فيها بيان أن جميع هذه المشهودات هي مخلوقة لله مملوكة لله مدبرة لله وهذه نصوص صريحة في أن الله تعالى ليس فيها لأن الخالق ليس هو المخلوق ولا بعض المخلوق ولا صفة للمخلوق وإذا كان كذلك فمثل هذه النصوص تهدي القلوب وتشفيها وتعصمها عن أن يفهم من قوله وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد 4] أنه في المخلوق كما يزعم ذلك من يزعمه من الزنادقة(6/19)
والجهمية من الاتحادية والحلولية عمومًا وخصوصًا ومثل هذا لا يمتنع كما تقدم الوجه الرابع أن يقال إنه ليس ظاهر قوله وَهُوَ(6/20)
مَعَكُمْ [الحديد 4] أنه في المخلوقات ولا أنه مختلط ممتزج بها ونحو ذلك من المعاني الفاسدة ولا يدل لفظ على هذا بوجه من الوجوه فضلا عن أن يكون ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ وذلك أن لفظ مع قد استعمل في القرآن في مواضع كثيرة وفي سائر الكلام ولا يوجب في عامة موارده أن يكون الأول في الثاني ولا مختلطًا به ومعنى اللفظ وظاهره وإنما يؤخذ من موارد استعمالاته قال تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا الآية [الفتح 29] وقال فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [الأعراف 157] وقال عن المنافقين يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد 14] وقال تعالى فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) [التوبة 83] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) [التوبة 119] وقال وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [البقرة 43] وقال يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [آل عمران 43] وقال رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى(6/21)
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) [التوبة 87] وقال عن نوح وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) [هود 40] وقال فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) [الشعراء 119] وقال قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود 48] وقال هارون فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) [الأعراف 150] وقال لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف 88] وقال قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [النمل 47] وقال فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة 249] وقال إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) [النساء 146] وقال عن فرعون فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) [الإسراء 103] وقال وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) [البقرة 14] وقال وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة 41] وقال وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة 213] وقال رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) [آل عمران 53] وقال وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران 146](6/22)
وقال وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) [آل عمران 193] وقال فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ إلى قوله وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء 102] وقال فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء 140] وقال وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) [المائدة 84] فهذه المواضع الكثيرة التي وصف الله بأن المخلوق مع المخلوق لم يوجب ذلك أن يكون الأول في الثاني ولا ذاته مختلطة ممتزجة بذاته أصلاً ولا أن يكون محايثًا له فكيف إذا وصف الرب نفسه بأنه مع عباده عمومًا وخصوصًا يقال إن ظاهر ذلك أن ذاته فيهم أو ممتزجة مختلطة بهم وذلك لأن مع ظرف مكان معناها المصاحبة والمقارنة والموافقة فإذا قيل هذا مع هذا كان التقدير أنه في مكان أو في مكانة لها اتصال بالثاني بحيث يكونان مقترنين(6/23)
مصطحبين متفقين وهذا معنى قول من يقول من النحاة إن مع للمصاحبة ثم ذلك الاقتران يدل على أمور أخرى تكون من لوازم الاقتران فالله سبحانه إذا قيل إنه مع خلقه فمن لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم وإذا كان مع بعضهم خصوصًا كان في السياق ما يبين أنه ناصر لهم معين لهم ولهذا جاءت المعية في كتاب الله عامة وخاصة لكن ذلك من خصوص التركيب والسياق وإلا فالقدر المشترك يبين مواردها هو ما تقدم قال تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) [التوبة 36] وقال فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) [آل عمران 81] وقال وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ [المائدة 12] وقال إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة 140] وقال إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) [النحل 128] وقال وَاصْبِرُوا إِنَّ(6/24)
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) [الأنفال 46] وقال خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) [الحديد 4] فأخبر أنه مستوٍ على عرشه وهو مع ذلك مع عباده وكلاهما حق فمن تدبر القرآن علم بالاضطرار أن كونه معهم ليس ذاته فيهم ولا أنه مختلط بهم كسائر موارد مع ومن ادعى ذلك أن هذا ظاهر القرآن فقد افترى على اللغة عمومًا وعلى القرآن خصوصًا وأما قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وقوله كل عاقل يعلم أن المراد منه القرب بالعلم والقدرة الإلهية فليس الأمر كما ادعاه من هذا العموم والإجماع وذلك أنه سبحانه قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وهل المراد بذلك(6/25)
الملائكة أو العلم أو كلاهما قال أبو عمر الطَّّلَمَنْكي ومن سأل عن قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ(6/26)
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] فاعلم أن ذلك كله على معنى العلم والقدرة عليه قال والدليل على ذلك صدر الآية قال الله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] لأن الله لما كان عالمًا بوسوسته كان أقرب إليه من حبل الوريد وحبل الوريد ما يَعْلَم ما توسوس به النفس ويلزم الملحد على اعتقاده أن يكون معبوده مخالطًا لدم الإنسان ولحمه وأن لا يُجَرد الإنسانُ تسميته المخلوق حتى يقول خالق ومخلوق لأن معبوده بزعمه داخلُ حبلِ الوريد من الإنسان وخارجه فهو على قوله ممتزج به غير مباين له قال وقد أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله على عرشه بائن من خلقه تعالى الله عن قول أهل الزيغ علوًّا(6/27)
كبيرًا قال وكذلك الجواب في قوله فيمن يحضره الموت وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) [الواقعة 85] أي بالعلم به والقدرة عليه إذ لا يقدرون له على حيلة ولا يدفعون عنه وقد قال الله تعالى تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) [الأنعام 61] وقال قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة 11] انتهى كلامه وهكذا ذكر غير واحد من المفسرين مثل الثعلبي(6/28)
وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وفي قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة 85] فذكر أبو الفرج القولين إنهم الملائكة وذكره عن أبي صالح عن ابن عباس(6/29)
وأنه القرب بالعلم وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات الباري جل وعلا قريبة من وريد العبد ومن الميت ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة فسروا ذلك بالعلم والقدرة كما في لفظ المعية ولا حاجة إلى هذا فإن المراد بقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة 85] أي بملائكتنا في الآيتين وهذا بخلاف لفظ المعية فإنه لم يقل ونحن معه بل جعل نفسه هو الذي مع العباد وأخبر أنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة وهو نفسه الذي خلق السموات والأرض وهو نفسه الذي استوى على العرش وتفسير قربه سبحانه(6/30)
بالعلم قاله جماعة من العلماء لظنهم أن القرب في الآية هو قربه وحده ففسروها بالعلم ولما رأوا ذلك عامًا قالوا هو قريب من كل موجود بمعنى العلم وهذا لا يحتاج إليه كما تقدم وقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] لا يجوز أن يراد به مجرد العلم فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال إنه أقرب إليه من(6/31)
غيره لمجرد علمه به ولا لمجرد قدرته عليه ثم إنه سبحانه وتعالى عالم بما يسره من القول وبما يجهر به وعالم بأعماله فلا معنى لتخصيصه حبلَ الوريدِ بمعنى أنه اقرب إلى العبد منه فإن حبل الوريد قريب إلى القلب ليس قريبًا إلى قوله الظاهر وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه قال تعالى وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) [الملك 13 - 14] وقال تعالى أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) [الزخرف 80](6/32)
وسياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة فإنه قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) [ق 16-18] فَقَيّدَ القرب بهذا الزمان وهو زمان تلقي المتلقيين قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) [ق 18] ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذاته لم يختص ذلك بهذه الحال ولم يكن لذكر العتيد والرقيب معنى مناسب وكذلك قوله في الآية الأخرى فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)(6/33)
[الواقعة 83-85] لو أراد قرب ذاته لم يخص ذلك بهذه الحال ولا قال وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) [الواقعة 85] فإن هذا إنما يقال إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال لكن لا نبصره والرب تبارك وتعالى لا يراه في هذه الحال أحد لا الملائكة ولا البشر وأيضًا فإنه قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة 85] فأخبر عمن هو أقرب إلى المختصر من الناس الذين عنده في هذه الحال وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل هي في كل مكان أو قيل فريبة من كل موجودٍ لا تختص بهذا الزمان والمكان والأحوال فلا يكون أقرب من شيء إلى شيء ولا يجوز أن يراد به قرب الرب الخاص كما في قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة 186] فإنما ذلك(6/34)
إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبده وهذا المحتضر قد يكون كافرًا أو فاجراً أو مؤمنًا ومقربًا ولهذا قال تعالى فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) [الواقعة 88-94] ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصه الرب بقربه منه دون من حوله وقد يكون حوله قوم مؤمنون وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء 97] وقال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال 50] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) [الأنعام 93] وقال تعالى حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) [الأنعام 61] وقال تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) [السجدة 11] ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال وَنَحْنُ(6/35)
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وهذا كقوله سبحانه نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) [القصص 3] وقال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف 3] وقال إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) [القيامة 17-19] فإن مثل هذا اللفظ ذكره الله تعالى في كتابه دلَّ على أنه المراد أنه سبحانه يفعل ذلك بجنوده وأعوانه من الملائكة فإن صيغة نحن يقولها المتبوع المطاع المعظم الذي له جنود يتبعون أمره وليس لأحد جنود يطيعونه كطاعة الملائكة لربهم وهو خالقهم وربّهم فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه وملائكته تعلم فكان لفظ نحن هنا هو المناسب وكذلك قوله وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق 16] فإنه سبحانه يعلم ذلك وملائكته يعلمون ذلك كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر حسنات وإذا(6/36)
هم بسيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة واحدة وإن تركها لله كتبت له حسنة فالمَلَكُ يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة وليس ذلك من علمهم بالغيب الذي اختص الله به وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث صفية(6/37)
رضي الله عنها إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم(6/38)
وقرب الملائكة والشيطان من قلب ابن آدم مما تواترت به الآثار سواء كان العبد مؤمنًا أو كافرًا وبما ذكرنا تبين أن قول المؤسس لا وجه له وبالله(6/39)
التوفيق(6/40)
فصل قال الرازي الخامس قوله تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] فإن هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال له أنت مقصودك أنه لابد من مخالفة ظاهر القرآن وليس في ظاهر الآية ذكر القرب إلى مَن بل قال وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] فلم يقل واقترب إلى كذا فيحتاج أن يقول ظاهر القرآن فيه واقترب إلى الله والاقتراب إلى الله محال وليس في ظاهر القرآن ذكر ذلك بل هو من باب المحذوف المضمر الوجه الثاني أن المقترَب إليه محذوف فلابد من إضماره فلا يخلو إما أن يكون الاقتراب من الله تعالى ممكنًا أو ممتنعًا فإن كان ممكنًا كان المعنى واقترب إلى الله كما أن(6/41)
المعنى واسجد لله وعلى هذا التقدير فلا يكون في ذلك مخالفة لظاهر القرآن ولا لمضمره أيضًا وإذا كان الاقتراب من الله غير ممكن بل من الممكن الاقتراب إلى ثوابه وكرامته أو غير ذلك كان هذا هو المضمر ابتداء وعلى هذا التقدير أيضًا فلا يكون قد خولف ظاهر القرآن فعلى التقديرين لم نترك ظاهر القرآن فدعواه ترك ظاهره دعوى باطلة وهذا بيِّنٌ لا مندوحة عنه الوجه الثالث قوله هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية لا يدل على أنه مخالف للظاهر كما لم يدل على المقترب إليه فمن المعلوم أن المُقْتَرِبَ إلى الله إنما يَقْتَرِبُ بطاعته وعبادته التي من جملتها السجود وهو أعظم العبادات البدنية الفعلية لكن إذا قال قائل التقرب بالطاعة والعبودية لم يكن قد بيَّن المتقرب إليه ولا بيَّن أن ظاهر(6/42)
التقرب غير مراد فقوله القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية كلام لا يليق بمورد النزاع ولا يتناول المقصود الوجه الرابع أن يقال التقرب سواء كان بالعبادة والطاعة أو بغير ذلك لابد له من متقرَّب إليه فإن القرب من الأمور المستلزمة للإضافة فلابد فيه من متقرب إليه وهو لم يذكر المتقرب إليه من هؤلاء في النص ولا في كلامه ليبين أن الظاهر من النص متروك وظهر أن كلامه كلام من لم يتصور ما يقول الوجه الخامس أن يقال إن هذا التقرب إذا لم يكن إلى الله تعالى فإلى من هو فإن قال إلى الطاعة والعبادة قيل له الطاعة والعبادة نفس فعل العبد الذي هو الاقتراب والمسئول عنه ما يتقرب إليه لا ما يتقرب به فما هذا(6/43)
المتقرب منه وإن قال المتقرب إليه هو ثواب الله قيل له ثواب الله في الآخرة هو الجنة وفي الدنيا ما يجده من النعم ومن المعلوم أن الساجد لم يتقرب إلى الجنة إلا كما يتقرب إلى الله تعالى فإنه لم يقطع ببدنه مسافة بينه وبين الجنة وإذا كان كذلك كان المحذور الذي فرَّ إليه المتأول من جنس ما فر منه وأما ثواب الدنيا فيقال أولاً ليس ذلك بلازم فمن المتقربين من لا يثاب إلا بعد الموت ويقال ثانيًا ليس في مجرد السجود تقرب إلى نفس الأجسام التي ينعمه الله بها فإن تلك قد تكون غير معلومة للعبد ولو كانت معلومة لم يكن التقرب إليها مقدوراً له بل إثباتها بقدرة الله ومشيئته فكيف يكون العبد متقربًا إليها الوجه السادس أن قوله فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود يقال له يحتاج أن نُبَيِّن أن ظاهر الخطاب هو الاقتراب بنفس السجود والقرآن إنما فيه وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)(6/44)
[العلق 19] وأنت لم تبين أن ظاهره الاقتراب بالسجود واعلم أنا نحن لا ننازع في السجود يكون بع اقتراب كما لا ننازع في أن الاقتراب إلى الله ولكن نحن كل ما نقوله لا ندعي أنه يخالف ظاهر القرآن بل إما أن يكون ظاهر القرآن دالاًّ عليه أو هو معلوم من ظاهر القرآن ومن دليل آخر أو معلوم من دليل لا يعارضه ظاهر القرآن الوجه السابع أن يقال له المعلوم بالضرورة أنه لا يكون اقتراب فعلي إلا الاقتراب بالجهة أي شيء كان المتقرب إليه فإذا أمر العبد أن يقرب إلى شيء أو يتباعد عنه أو يتقرب من شيء أو يتباعد عنه لم يعقل إلا الاقتراب والتباعد بالجهة وكذلك إذا قيل فلان قد تقرب إلى كذا أو تباعد منه فالمعلوم بالضرورة أن التقرب بالأفعال لا يكون إلا اقتراباً بالجهة(6/45)
فإن قيل فقد يقال هذا قريب من هذا بمعنى أنه مشابه له قيل عنه جوابان أحدهما أن هذا قرب في الصفات ونحن قلنا التقرب بالأفعال الثاني أن القرب هاهنا بالجهة أي هذا مكانه ومكانته قريب من هذا كما بسطنا هذا الكلام في موضعه فإن قيل القرب والبعد لا يعقل إلا للأجسام قيل وجميع ما يوصف به الرب مثل العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والرحمة والغضب والرضا والسخط والإرادة والمحبة والفعل وغير ذلك لا يعقل إلا للأجسام سواء بسواء فنفي إحدى الصفات بمثل هذا الكلام كنفي سائر الصفات وذلك باطل بالاتفاق ويقال هنا جواب مركب وهو أن هذه الصفات إما أن(6/46)
تكون في نفس الأمر لا تقوم إلا بما هو جسم أو لا تكون فإذا كان الأول لم يكن القول بالجسم باطلا على الإطلاق ولم يصح نفي الجسم مطلقًا بل يُنفى الباطل وإن كان الثاني كان قولهم هذه الصفات لا تكون إلا للأجسام قولاً باطلاً فهذا الكلام يبين بطلان إحدى المقدمتين لا بعينها وأيهما بطلت بطلت هذه المعارضة العقلية القياسية التي(6/47)
تزعمون أنها توجب تأويل النصوص الوجه الثامن قوله فإن هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود يقال هذا الكلام تضمن إثبات القرب الأول ونفي الثاني وأنهما متناقضان متضادان وليس فيما ذكرته بيان تناقضهما فإن كون القرب بالطاعة والعبودية لا ينافي كونه بالجهة إذ الطاعة هي فعل المقترب والجهة مكان فعله ولا منافاة بين الفعل والمكان فإن يُثْبِت قربًا ينافي قرب الجهة كان كلامه باطلاً وهذا ممتنع فليس في شيء من أنواع القرب ما ينافي قرب الجهة إذ القرب مستلزم الجهة الوجه التاسع قولك القرب بالجهة معلوم بالضرورة أنه(6/48)
لا يحصل بسبب السجود يقال تدعي أنه لا يحصل إلى الله أو لا يحصل إلى الله ولا إلى غيره فإن كان المدعى هو الثاني فهذا تعطيل للنص لا تأويل فإنك إذا ادعيت أن القرب لا يتصور إلى شيء من الأشياء بالجهة امتنع أن يكون العبد متقربًا إلى شيء من الأشياء وتسمية العمل الذي ليس فيه قرب إلى شيء تقربًا لا يكون لا حقيقة ولا مجازًا فيكون باطلاً ويكون قلبًا للغة وتبديلاً لها وإن ادعى أن القرب يحصل إلى غير الله بالجهة كان قوله إن القرب بالجهة يعلم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود إطلاقاً باطلاً بل كان عليه أن يقول لا يحصل إلى غير الله وإذا قال ذلك قيل له لا فرق بين كون السجود مقربًا بالجهة إلى الله أو إلى غيره وهذا الوجه بيِّنٌ ظاهر فإنه بين أمرين إما أن يسمى ما ليس فيه تقرب بوجه من الوجوه تقربًا وإما أن يخالف ما ادعاه من العلم الضروري(6/49)
وعلى التقديرين فهو يبطل بل مضمون قوله إنه زعم أن القرآن باطل بالضرورة الوجه العاشر أن يقال بل التقرب إلى الله بالسجود حق كما دلت عليه النصوص مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأخبر أن العبد يقرب من ربه وأنه أقرب ما يكون العبد في سجوده وقال في الحديث الآخر أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الآخر فهذا قرب الرب من عبده وذاك قرب العبد من ربه وقوله تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19](6/50)
يدل على ذلك لأن قوله وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) ذكر بعد قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) إلى قوله أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) إلى قوله كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] ومعلوم أنه ذكر الصلاة لله وأمر بالسجود لله فقوله وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] أيضًا أمر بالاقتراب إلى الله وحذف مثل هذا المفعول للاختصار كثير في كلام العرب لدلالة الكلام ودلالة الحال عليه فإنه إذا كان قد أمره أن يقرأ باسم ربه الذي خلق فَلأن يكون السجود له والاقتراب إليه أولى وأحرى وأمره بالاقتراب مطلق لا يتقيد بالسجود بل يكون الاقتراب بالسجود وبغير السجود وإن كان العبد أقرب ما يكون من ربه إذا كان ساجدًا ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم(6/51)
قال يقول الله تعالى من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولايزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحبَبْتُهُ كنت سمعه الذي يسمع به وبَصَرَه الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولأن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله تَرَددِي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه(6/52)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ومن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وذكر التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة كثير في الأحاديث وقد قال تعالى في كتابه أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ(6/53)
[الإسراء 57] وابتغاء الوسيلة إلى ربهم أيهم اقرب هو طلب التقرب إليه وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة 35] وقال تعالى وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) [سبأ 37] وقال تعالى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) [الواقعة 10-12] وقال فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) [الواقعة 88-89] وقال وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) [المطففين 27-28] فوصف خير الأصناف الثلاثة من عباده بأنهم المقربون(6/54)
وقال تعالى في موسى وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) [مريم 52] وقال في داود وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) [ص 25] والزلفى هو القرب وفي الأثر المحفوظ عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال يدنيه حتى يَمَسَّ بعضه رواه حماد بن(6/55)
سلمة والثوري وسفيان بن عيينة عن ابن أبي(6/56)
نجيح عن مجاهد وقال في أم المسيح يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) [آل عمران 45] وقال في الملائكة لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) [النساء 172] وهذا أمر مستقر في الفطر حتى المشركين الذين يعبدون الأوثان أخبر عنهم بقوله تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3] والله لم ينكر على المشركين طلب التقرب إلى الله تعالى وإنما أنكر عليهم أنهم اتخذوا أولياء من دونه يتقربون(6/57)
بعبادتهم إليه وهو تعالى لم يشرع ذلك ولم يأمر به بل إنما يُتَقَرَّبُ إليه بعبادته وحده لا شريك له فأما قوله فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود فيقال له المعلوم بالضرورة أن جسد الإنسان لا يرتفع في السجود إلى فوق وليس قربه مجرد قرب جسده كما أن تقارب بني آدم وتباعدهم ليس بمجرد قرب الجسد وبعده بل كما قال قائلهم وإن كانت الأجساد منا تباعدت فإن المدى بين القلوب قريب وذلك أن قلوب بني آدم وأرواحهم لها قرب وبعد وحركة وصعود وهبوط ومكانة كما أن الجسد له كذلك والناس يحس أحدهم بقرب قلب بعض الناس من قلبه وبعده منه فالساجد إذا سجد يتقرب قلبه وروحه إلى الله تعالى نفسه وكذلك الأعمال الصالحة جميعها التي يتقرب بها إلى(6/58)
الله تقرب بها روحه وقلبه إلى الله نفسه فإذا كان في الدار الآخرة قرب جسده أيضَا مع قلبه ورفع بعضهم فوق بعض درجات وظهر في الدار الآخرة ما كان باطنًا في الدنيا وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ولو قال قائل إن السجود وغيره من الأعمال الصالحة هي تورث القرب إلى الله تعالى كما قال وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران 133] والمغفرة والجنة ليست من أفعالهم لكن المسارعة إليها هو بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة الموجبة لذلك فكذلك الأمر بالاقتراب إلى الله تعالى هو أمر بالأعمال الموجبة لذلك فكان في هذا الكلام ما يَرُد على المنازع ويمنع أن يكون ظاهر القرآن ضلالاً(6/59)
يقرر ذلك أن الله تعالى قد أخبر في غير موضع من كتابه بانتهاء العباد إليه عمومًا وخصوصًا فقال يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) [الانشقاق 6] فذكر أنه كادح إليه وأنه ملاقيه وقال تعالى وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) [الأنعام 38] وقال تعالى وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) [المائدة 48] وقال كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) [العلق 6-8] وقال تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) [الغاشية 25-26] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) [الأنعام 60-62] وقال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ [الأنعام 94] وقال وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) [يونس 46] وقال فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ(6/60)
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) [غافر 77] وقال وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) إلى قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام 27-31] فأخبر أنهم يقفون على ربهم وأخبر أن الذين كذبوا بلقاء الله خاسرون وقال تعالى وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) [السجدة 10-12] فذكر كفرهم بلقاء ربهم وذكر أنهم يرجعون إلى ربهم بعد الموت وذكر أن المجرمين ينكسون رؤوسهم عند ربهم وقال وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) [البقرة 45-46] وقال فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف 110] وقال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) [الأحزاب 44] وقال الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ(6/61)
مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) [البقرة 156-157] وقال يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) [القيامة 10-13] وقال إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) [القيامة 30] وقال يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 27-30] وقال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلى قوله إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا إلى قوله تعالى فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) إلى قوله وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس 13-15] وقال وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) [الأنعام 51] وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه(6/62)
يقول يدنو المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع كَنَفَهُ عليه فيقول هل تعرف فيقول أعرف ربِّ فيقول هل تعرف فيقول أعرف رب فيبلغ من ذلك ما شاء الله فيقول الله إني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أسترها عليك اليوم قال وأما الكافر أو المنافق فينادى عليهم على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين(6/63)
وقد ذكر سبحانه وتعالى السعي إليه في الدنيا كقوله تعالى عن الخليل صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) [الصافات 84] فقال الخليل صلى الله عليه وسلم وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) [الصافات 99] وقال موسى صلى الله عليه وسلم وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) [طه 84] وقول المسيح صلى الله عليه وسلم مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران 52] وفي الصف قال تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) [الذاريات 50] وقال تعالى وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر 54] وقال وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) [النور 31] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم 8] وقال المؤمنون رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ(6/64)
أَنَبْنَا [الممتحنة 4] وقال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) [الشورى 10] وقال تعالى اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) [الشورى 13] وقال وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) [الرعد 30] وقول نبينا صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه(6/65)
وفي الحديث الذي علمه البراء بن عازب اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضت أمري إليك رغبة ورهبة إليك لاملجأ ولا منجا منك إلا إليك وفي حديث المباهاة يوم عرفة يقول الله تعالى انظروا(6/66)
إلى عبادي أتوني شعثًَا غبرًا ما أراد هؤلاء والسجود هو نهاية خضوع العبد وتواضعه والعبد كلما تواضع رفعه الله كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله(6/67)
فالمتواضع لله الذي ذلَّ واستكان لله تعالى لا لخلقه يكون قلبه قريبًا من الله فيرفعه الله بذلك فهو في الظاهر هابط نازل وفي الباطن وهو في الحقيقة صاعد عالٍ كما في مسند الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ عن عمر موقوفًا قال ما من أحد إلا وفي(6/68)
رأسه حَكَمَة فإن رفعَ رأسه قيل له انتكس نَكَسَكَ الله وإن طأطأ رأسه قيل له انتعش نَعَشَكَ الله(6/69)
فالمتكبر الذي يطلب الاستعلاء يعاقب بأن يخفضه الله وينكسه والمتواضع الذي يتواضع لله فيطأطئ رأسه لله يثيبه الله بأن ينعشه ويرفعه وكل هذه أمور حقيقية وسنبسط الكلام إن شاء الله على ذلك في الكلام على نصوص العلو وما يتبعه(6/70)
فصل قال الرازي السدس قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] وقال تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) [الواقعة 85] قلت أما آية القرب فهي نظير قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وقد تقدمت وأما قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] فلم يذكر من أي وجه يجب مخالفة ظاهر الآية وكأنه يقول ظاهرها أن نفس صفة الله ثَمَّ وصفة الله لا تكون ثَمَّ والكلام على هذه الآية من وجوه أحدها أن يقال نحو ما ذكرتُه في بعض المجالس فإن هذه الآية هي التي أوردها عليّ بعض أكابر(6/71)
الجهمية لما ذكرت أن السلف لم يتأولوا آيات الصفات وأخبارها وجرى في ذلك مناظرة مشهورة وكانوا أيامًا يكشفون الكتب ويطالعون ما قدروا عليه ويفتشون الخزائن حتى وجدوا ما زعموا أنهم يعارضون به فلما اجتمعنا في المجلس الثاني أو الثالث قال ذلك الشخص قد وجدنا عن السلف أنهم تأولوا فقلت لعلك قد وجدت قولهم في قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] أي قبلة الله فقال نعم فقلت هذا معروف عن مجاهد والشافعي(6/72)
وغيرهما وهذا حق ولكن ليس هو من باب التأويل فإن لفظ الوجه ظاهر هنا في الوجهة على قول هؤلاء وقد قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] فأخبر أن الوجهة يوليها العبد أي يتولاها أي يستقبلها ويقولون أي وجه تقصد أَيْ أَيّ وجهة تقصد وفلان قد قصد هذا الوجه وجاء من هذا الوجه أي الوجهة والجهة وهو قد قال وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة 115] وهذه هي الجهات ثم قال فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] أي تستقبلوا فإن ولى هنا فعل لازم بمعنى تولى واستقبل وإن كان يستعمل أيضًا متعديًا فقد قرئ هُوَ مُوَلِّيهَا وهو مُولَّاها(6/73)
وهذا كما يقال وجه وتوجه وقدم وتقدم وبين وتبين فالمعنى أينما تستقبلوا فثم وجه الله أي مكان تستقبلوه فهنالك وجه الله والمقصود بهذا الكلام أن من قال من السلف والأئمة لم يقولوه لأنهم ينفون وجه الله الذي يراه المؤمنون في الآخرة ل قالوه لأن ذلك ظاهر الخطاب عندهم لأن لفظ الوجه مشهور أنه يقصد به الجهة والقبلة هي الجهة وقد اخبر أن وجهه ثم أي في ذلك المكان وهذا يناسب أن يكون قبلته في ذلك المكان لأن صفته ليست في مكان فهذا القول ليس عندنا من باب التأويل الذي هو مخالفة الظاهر أصلاً وليس المقصود نصر هذا القول بل بيان توجيهه وأن قائليه من السلف لم يكونوا من نفاة الصفة ولا ممن يقول ظاهر الآية ممتنع ثم يقال هنا جواب مطلق وهو أن الوجه يراد به الجهة ولا يكون ذلك خرفًا لظاهر الخطاب إذ كان ذلك(6/74)
مبينًا في الكلام كقول أنس في حديث الاستسقاء فلم يقدم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبر بالجود فهذه الآية إما أن يكون ظاهرها أن وجه الله الذي هو الصفة ثم أو يكون ظاهرها أن الذي ثم هو القبلة(6/75)
المخلوقة فقط أو يكون ظاهرها أن كلاهما ثم أو تكون مجملة تحتمل الأمرين فإن كان ظاهرها هو الأول أقرت على ظاهرها ولا محذور في ذلك ومن يقول هذا لا يقول إن وجه الله هو نفسه في نفس الأجسام المستقبلة فإن هذا لا يقوله أحد من أهل السنة بل يقول فثم إشارة إلى البعيد وقوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا [البقرة 115] أي أينما تستقبلوا والعبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه والله يقبل عليه بوجهه ما لم يصرف وجهه عنه كما تواترت بذلك الأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه وإذا(6/76)
كان كذلك فقد أخبر أنه أينما استقبل العبد فإنه يستقبل وجه الله فإن ثم وجه الله فإن الله فوق عرشه على سمواته وهو محيط بالعالم كله فأينما ولى العبد فإن الله يستقبله وعلى هذا فقوله ثم إشارة إلى ما دل عليه أينما وهو المستقبل وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وإن كان ظاهرها أن الذي ثم هو القبلة المخلوقة فقط لم تكن مصروفة عن ظاهرها إذا فسرت بذلك وتوجيه ذلك أن يقال قوله فثم إشارة إلى مكان وجود والله تعالى فوق العالم ليس هو في جوف الأمكنة لكن يرد على هذا أن يقال لو أراد الله ذلك لقال فأينما تولوا فوجهوا الله لأنه إذا لم يرد بالوجه إلا الجهة المستقبلة فهي التي تولى كما قال وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] فأخبر أن العباد يولون نفس الوجهة فإذا كان المراد بالوجه الوجهة قال فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115](6/77)
أي فهو قبلة الله وقد يؤكد ذلك بأن يقال لفظ الوجه وإن كان مراده الجهة لكن الله إنما سمى القبلة في كتابه وجهه لم يسمها وجهًا فيفسر القرآن بعضه ببعض ويقال أيضًا إذا كان المراد ليس هو إلا أن هناك قبلة مخلوقة لله فهذا قد عرف بقوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة 115] وأما إن قيل إن ظاهرها يتناول الأمرين وقول مجاهد وغيره لا ينافي ذلك فإن القبلة ما يستقبله المصلي وقد ثبت بالنصوص المتواترة أن المصلي يستقبل ربه وهو أيضًا يستقبل القبلة المخلوقة القريبة منه وهي السترة والبعيدة عنه وهي الكعبة مثلاً فإن كلاهما يسمى قبلة إذ القبلة ما يستقبل فيكون على هذا قوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] أي فثم جهته التي يصلي إليها وثم وجهه الذي يستقبله المصلي وكل ذلك موجود في توجه العبد وليس في ظاهر القرآن أن الله تعالى في جوف المخلوقات وإنما قال فثم وهذا إشارة إلى ما استقبل(6/78)
فتناول العالم وما وراءه وما فوقه فإن ذلك كله يستقبله العبد ومن قال هذا قال إن الله ذكر هذا الموضع بلفظ الوجه لا بلفظ الجهة والكلام هو في استقبال القبلة في الصلاة فلا يجوز حمل الآية على أحد المعنيين دون الثاني وقد تقدم بيان أنه لا يجوز حمله على الوجهة فقط وكذلك لا يجوز حمله على صفة الله فقط لأن المقصود بالآية بيان جواز استقبال تلك الجهة في الصلاة فلابد من دلالتها على هذا الحكم يوضح ذلك أن المصلي إنما مقصوده التوجه إلى ربه وكان من المناسب أن يبين له أنه إلى أي الجهات صليت فأنت متوجه إلى ربك ليس في الجهات ما يمنع التوجه إلى ربك فجاءت الآية وافية بالمقصود فقال وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة 115] فأخبر أن الجميع ملكه وهو خَلْقه وقد علم بالفطرة والشرعة أن الرب فوق خلقه ومحيط به فدل ذلك على أن من استقبل شيئًا من المشرق أو المغرب فإنه متوجه إلى ربه كسائر ما يستقبله والله قبل وجهه إلى أي جهة صلى لأنه فوق ذلك كله ومحيط بذلك كله الوجه الثالث أن يقال بل هذه الآية دلت على الصفة(6/79)
كغيرها وذلك هو ظاهر الخطاب وليست مصروفة عن ظاهرها وإن كانت مع ذلك دالة على استقبال قبلة مخلوقة ويجزم بذلك فلا نسلم أنها مصروفة عن ظاهرها ولفظ الوجه هو صفة الله فما الدليل على وجوب تأويلها وقوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] فيه الإشارة إلى وجه الله بأنه ثم والله تعالى يشار إليه كما تقدم تقرير هذا الوجه الرابع أن يقال أنت ادعيت أن جميع فرق الإسلام يقرون بالتأويل وذكرت هذه الآية للاحتجاج بذلك فإن لم يكن تأويلها متفقًا عليه لم ينفعك ذكرها ومعلوم عدم الاتفاق(6/80)
على ذلك فإن كثيرًا من أهل الإثبات بل أكثرهم جعلها من آيات الصفات مع قولهم إن الله فوق العرش خارج العالم كما تقدم بيانه وسواء كان قولهم حقًّا أو باطلاً لا إجماع معك وإن ادعيت وجوب التأويل بدليل آخر لم ينفعك في هذا المقام(6/81)
فصل قال الرازي السابع قال تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ولاشك أنه لابد فيه من التأويل والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال له هذا ممنوع ولم يذكر على ذلك حجة وغايته أن يقول الاقتراض لا يكون إلا من محتاج والله الغني فيقال له أين في لغة العرب أن مسمى القرض مطلقًا يستلزم حاجة المقترض الوجه الثاني إنه من المعلوم أن المقترض من الآدميين قد يكون مستغنيًا عن الاقتراض وإنما يقترض لحاجة المُقرِض كما كان الزبير بن العوام يفعل ففي(6/82)
صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير أنه قال حسبت ما كان على الزبير من الدين فوجدتها ألفي ألف ومائتي ألف قال وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير لا ولكن هو سلف إني أخشى عليه الضيعة وهذا كثير في الناس يريدون حمل أموالهم إلى مكان فيقرضونه لمليء وإذا كان هذا موجودًا في المحتاجين من بني آدم فكيف(6/83)
يقال إن لفظ القرض في حق الله تعالى ظاهره حاجة الله تعالى ومعلوم أن العبد محتاج إلى حسنات يثاب عليها فالله تعالى إذا اقترض منه ما يحفظ له حتى يؤديه إليه وقت حاجته إليه ألم يكن محسنًا باقتراضه ولايمنع ذلك أن يكون مقترضًا الوجه الثالث أن الإنسان يقترض لغيره بطريق الأمر بالمعروف والصلة والإحسان إلى الاثنين إلى المقترض لدفع حاجته وإلى المقرض ليحصل له الأجر ومع ذلك يضمن المقترض ماله ويقول لا تعرفه إلا مني فالله تعالى إذا اقترض من بعض عباده لبعض فرزق هذا المقترض وأثاب هذا المقرض وضمن له الوفاء الأكمل كيف يكون تسميته هذا قرضًا مخالفة للظاهر الوجه الرابع أن الإنسان يقترض من عبده ما أعطاه إياه ولو شاء أن ينتزعه منه بغير إقراض لساغ له في الشريعة لكن يأخذه اقتراضًا إحسانًا إليه ويعطيه لمن يحتاج إليه إما عبد آخر أو غيره والله سبحانه وهو المالك للخلق ولأموالهم وقد أعطاهم وأباح لهم فيها من التصرف ما أعطى(6/84)
وأباح ولو شاء أن ينتزعها منهم وهو غير ظالم لفعل فإذا أحسن إليهم بأن أخذ ما يأخذه قرضًا ليعطيه عبدًا آخر وأحسن إلى هذا المقرض بما يثيبه عليه كيف يمتنع أن يكون هذا قرضًا الوجه الخامس إن هذا السؤال هو سؤال اليهود الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران 181] فإن الله تعالى لما أنزل هذه الآية قال بعض اليهود إنما يقترض الفقير فالله فقير ونحن الأغنياء الوجه السادس أن يقال المعنى في قوله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة 245] هو ظاهر متفق عليه ليس فيه اشتباه ولا نزاع وكل من سمع هذا الخطاب علم المراد به هو التقرب إلى الله بإنفاق المال في سبيله غاية ما في هذا الباب أن يقول بعض الناس تسمية هذا(6/85)
قرضًا مجاز وكون اللفظ مجازًا لا يمنع أن يكون هو ظاهر الخطاب فإن المجاز المقرون بالقرائن اللفظية المبينة نص في معناه ليس للخطاب ظاهر إلا ذلك المعنى وليس الكلام هنا في كون اللفظ حقيقة أو مجازًا أو كون القرآن مشتملا على المجاز فإن هذه مسألة أخرى وشواهدها أضعاف ما ذكره وإنما المقصود هنا أن قولك إن الطوائف متفقة على وجوب التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار والتأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره فهل ظاهر هذه(6/86)
الآيات عند من يسمعها من المخاطبين خلاف ما أريد بها حتى يقال إنها متأولة وإنما تدخل الشبهة على هؤلاء بأن يقولوا القرض لايكون إلا لحاجة المقترض وانتفاعه هو به فيقال لهم هب أن الأمر كذلك في حق المخلوق فالقرض هنا مضاف إلى الله والمعنى ظاهر مفهوم وهو الصدقة على عباده والإنفاق في سبيله لم يظهر لأحد قط أن الله نفسه محتاج في نفسه إلى الانتفاع بالقرض فأكثر ما يقال إن تسمية هذا قرضًا مجاز لكن ليس هذا المجاز هو الظاهر من هذا اللفظ بعد التركيب والتأليف الذي يجعله نصًّا في معناه حيث أضيف القرض إلى الله ألا ترى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في خالد إنه سيف من سيوف(6/87)
الله وقوله في فرس أبي طلحة إن وجدناه لبحرًا(6/88)
وقول أبي بكر عن أبي قتادة لا يعمد إلى أَسَدٍ من أُسْدٍ الله ونحو ذلك(6/89)
فإن قيل إن هذا مجاز فلا يقول أحد إن ظاهر هذا اللفظ أن خالدًا حديد وأن الفرس ماء وأن أبا قتادة هو السبع الذي له ناب بل اللفظ نص في خلاف هذا وهو أن خالدًا شجاع متقدم بمنزلة السيف الذي يقتل الله به أعداءه وأن الفرس جواد جرى بمنزلة البحر وأن أبا قتادة رجل شجاع بمنزلة الأسد الذي سلطه الله على أعدائه وقد بسطنا هذه القاعدة في غير هذا الموضع(6/90)
فصل قال الرازي الثامن قوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل 26] ولابد فيه من التأويل والكلام على هذا أن يقال التأويل هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر لدليل وهذه الآية ليس ظاهرها والمعنى المفهوم منها أن الله سبحانه نفسه جاءت ذاته من أسفل الجدران كما تجيء الهوام والحشرات من أسفل البنيان وكما يخرج المحاصرون للحصون من أسفلها إذا نقبوا الأساس بل ظاهرها المراد هدم الله بنيانهم من أصله والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس وكان بعضهم يقول هذا مثل للاستئصال وإنما معناه أن الله استأصلهم والعرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء قاله ابن جرير وفي كتب اللغة يقال(6/91)
أُتي فلان إذا أطل عليه العدو وقد أتيت يا فلان إذا أنذر عدوًّا أشرف عليه قال الله عز وجل في النحل فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل 26] أي هدم بنيانهم وقلع بنيانهم من قواعده وأساسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم فأي حاجة حينئذ إلى التأويل(6/92)
فصل قال الرازي التاسع قال تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] وهذه المعية ليست إلا بالعلم والحفظ والرحمة فهذه وأمثالها من الأمور التي لابد لكل عاقل من الاعتراف بحملها على التأويل يقال له أما لفظ المعية فقد تقدم الكلام عليه وأما قوله إن هذه الأمور لابد لكل عاقل من الاعتراف بحملها على التأويل فالكلام عليه من وجوه أحدها أنه ادعى أن جميع فرق الإسلام مقرون بالتأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار وهنا ادعى وجوب الاعتراف بالتأويل فأين ذكر إقرارهم بالتأويل من ذكر وجوب إقرارهم(6/93)
بالتأويل فإن غايته تبين وجوب دخولهم في التأويل وهذا القدر قد ادعاه هذا المدعي في هذا الكتاب فليس في هذه المقدمة فائدة إلا إذا كان الخصم موافقًا على ما ذكر من التأويل وإلا فهو في الموضعين ملزم له بالتأويل فيكون غايته أن يقيس موضع النزاع على مورد النزاع لقيام الحجة في الموضعين الثاني أنا قد بينا أنه ليس في هذه المواضع موضع إلا ومن الناس من ينكر التأويل فيه فبطل ما ادعاه الثالث أنه قد تبين بما تقدم أنه ليس فيها موضع واحد يجب فيه التأويل ولم يذكر على عامة ذلك حجة الرابع أنه قد تبين بما تقدم من الوجوه الكثيرة أن هذه الآيات جميعها ليس فيها ما يجوز تأويله فضلاً عن وجوب تأويله الخامس أنه ادعى أنه لابد من التأويل في بعض ظواهر(6/94)
القرآن والأخبا ر بمعنى مخالفة ذلك الظاهر وقد تبين أن عامة هذه النصوص لا يظهر منها معنى باطل بل لا يظهر منها إلا ما هو حق سواء كان الظهور باللفظ المفرد أو بالتركيب(6/95)
فصل قال الرازي أما الأخبار فهذا النوع فيها كثير فالأول قول صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى مرضت فلم تعدني استطعمتك فما أطعمتني استسقيتك فما سقيتني ولا يشك كل عاقل أن المراد بها التمثيل فقط والكلام على هذا أن يقال هذا فيه من قلة المعرفة بأحاديث الرسول ومعنى التأويل ما به يضل الجهول وذلك أن هذا الحديث الصحيح له تمام آخر ذكر فيه تفسيره وأظهر فيه معناه ففي صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى يوم القيامة(6/96)
يا ابن آدم مرضت فلم تعدني فيقول يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ويقول يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني فيقول أي رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين فيقول تبارك وتعالى أما علمت أن عبدي فلانًا استسقاك فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي قال ويقول يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني فيقول أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانًا استطعمك فلم تطعمه أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي فإذا كان الرب لمَّا قال لعبده مرضت وجعت قال كيف أعودك وكيف أطعمك قال إن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده وعبدي فلان جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي فهل يكون في إظهار المعنى وبيانه وكشفه وإيضاحه أبلغ(6/97)
من هذا الخطاب وإذا كان المتكلم قد أظهر المعنى وبينه كيف يجوز أن يقول لابد من التأويل في الظاهر والتأويل صرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلى غيره فهل يجوز صرف هذا الكلام بتمامه عن هذا المعنى الذي أظهره المتكلم بل لو قيل له تأويل هذا الحديث كفر وضلال لكان متوجهًا فإن التأويل هو صرفه عن المعنى الظاهر إلى غيره فالمعنى الذي أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم المتكلَّم به هو أن المراد بقول جعت جوع عبدي ومرضت مرض عبدي فإن جاز أن يُصرف عن هذا المعنى اقتضى ذلك أن يكون الله نفسه هو الجائع المريض وذلك كفر صريح ولكن هذا المؤسس لم يذكر إلا بعض الحديث وكأنه ما سمع إلا ذلك فلو كان الحديث ليس فيه إلا اللفظ الذي ذكره لكان لكلامه مساغ وقيل إنه يتأول ولكن ليس الأمر كذلك ودعواه كثرة احتياج الأخبار إلى التأويل هو لقلة معرفتهم بها فإنهم لا يميزون بين صدقها وكذبها فكثيرًا ما يسمعون الكذب ويعتقدونه من جنس الصدق مبدلاً مغيرًا إما مزيدًا فيه وإما منقوصًا منه وإما مغيرًا في إعرابه كما وجدنا ذلك لهم ثم يكون حاجته إلى التأويل بحسب ذلك وهذا لا يمكن(6/98)
في القرآن لأن حروف القرآن محفوظة وأما قوله ولا يشك عاقل أن المراد منها التمثيل فقط فلفظ التمثيل مجمل فليس المقصود مجرد التمثيل بأن يكون قد جعل عائد العبد كأنه قد عاد الله إذا مرض في نفسه ومطعم العبد كأنه مطعم الله إذا جاع في نفسه فيكون قد مثَّل عيادة عبده وإطعامه عيادته وإطعامه بل حمل هذا الحديث على هذا المعنى ضلال وإشراك وتشبيه لله بخلقه ورد لمعناه الحق وذلك إنما التمثيل يكون إذا كان الحكم في الأصل صحيحاً ثم قدر وجوده في الفرع والله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يُطعَم ولا يجوز أن يمرض ويعاد حتى يقال جعل إطعام عبده وعيادته مثل إطعامه وعيادته وأيضًا فإنه قد فسر المراد فقال أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده وعبدي فلان جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي فبين أني أنا عند عبدي فإذا عدته كنت عائدًا إلي بهذا المعنى وإذا أطعمته كنت أنا الذي أقبض الصدقة وآخذها فهي لك عندي وجعل نفسه مريضًا وجائعًا(6/99)
لمرض العبد الذي يحبه وجوعه كما قال وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ولو أريد مجرد التمثيل لقيل لو عدته لكنت كأنك قد عدتني ولو أطعمته لكنت كأنك أطعمتني وهذا باطل(6/100)
فصل قال الرازي الثاني قوله صلى الله عليه وسلم من أتاني يمشي أتيته هرولة ولا يشك كل عاقل أن المراد منه التمثيل والتصوير يقال له هذا الحديث لفظه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ومن تقرَّب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ولا ريب أن الله تعالى جعل تقربه من عبده جزاء لتقرب عبده إليه لأن الثواب أبدًا من جنس العمل كما قال في أوله من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وكما قال صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن وارحموا من في(6/101)
الأرض يرحمكم من في السماء وقال لا يرحم الله من لا يرحم الناس وقال تعالى إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد 7] وقال إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) [النساء 149] وقال وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور 22] وإذا كان كذلك فظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر وكلاهما مذكور بلفظ المساحة(6/102)
فيقال لا يخلو إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه وهو تقرب بالمساحة المذكورة أو لا يكون فإن كان ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ فإما أن يكون ممكنًا أو لا يكون فإن كان ممكنًا فالآخر أيضًا ممكن ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر وإن لم يكن ممكنًا فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه وسعيه فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك فيكون الآخر أيضًا ظاهرًا في الخطاب فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع بل ظاهره هو المعنى الحق ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرًا وذراعًا ومشيًا وهرولة لكن قد يقال عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكًا يقال هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد هي أبلغ من القرينة اللفظية فيكون بمعنى الخطاب ما ظهر بها(6/103)
لا ما ظهر بدونها فقد تنازع الناس في مثل هذه القرينة المقترنة باللفظ العام هل هي من باب التخصيصات المتصلة أو المنفصلة وعلى التقديرين فالمتكلَّم الذي ظهر معناه بها لم يُضِل المخاطب ولم يلبس عليه المعنى بل هو مخاطب له بأحسن البيان ثم يقال الحجة لمن جعل ذلك مخصصًا متصلاً لا من منع ذلك أن يكون ذلك تخصيصًا(6/104)
فصل قال الرازي الوجه الثالث نقل الشيخ الغزالي عن أحمد بن حنبل أنه أقر بالتأويل في ثلاثة من الأحاديث أحدها قوله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود يمين الله في الأرض(6/105)
وثانيها قوله صلى الله عليه وسلم إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن(6/106)
وثالثها قوله صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن الله أنا جليس من ذكرني والكلام على هذا من وجوه أحدها أن الذي ذكره الغزالي في كتابه المسمى بإحياء علوم الدين أنه قال سمعت بعض أصحابه يقول(6/107)
إنه حسم الباب في التأويل إلا لثلاثة ألفاظ قوله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود يمين الله في الأرض وقوله صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وقوله صلى الله عليه وسلم إني(6/108)
أجد نفس الرحمن من قبل اليمين فقد نقل عن الغزالي خلاف ما ذكر في الإحياء فإما أن يكون هو غلط في النقل عن الغزالي أو الغزالي نقل في كتاب آخر خلاف ما نقل في الإحياء وعلى التقديرين فيعلم أن هذا النقل الذي ذكره غير مضبوط الثاني أنا قد تكلمنا على ما ذكره الغزالي في هذا الباب ونحوه وبينا أن في هؤلاء من القصور في معرفة الكتاب والسنة وحقائق الإيمان ومعرفة السلف وكلامهم ما أوجب ظهور ما يظهر منهم من التناقض والبدع وطريق الزنادقة(6/109)
المنافقين وفتح باب الإلحاد والتحريف فإنهم قليلو المعرفة بالأحاديث النبوية والآثار السلفية ومعاني الكتاب والسنة إلى الغاية وهم في المعقولات في غاية الاضطراب وللغزالي في ذم الكلام والمتكلمين والفلاسفة ما يطول(6/110)
ذكره وهذه الأمور أكبر من عقول عامة الخلائق وغاية المتكلم فيها أن يتكلم بمبلغ علمه ومقدار علمه وسمعه ونهاية اجتهاده ووسعه كما يفعله أبو حامد ونحوه إذا اجتهدوا وقصدوا الحق مع سعة مرادهم وتفننهم في علوم كثيرة وهذا الكلام الذي نقله عن أبي حامد ذكره لما تكلم عن مراتب التأويلات واختلاف الناس فيها وقد تكلمنا على ما ذكره في ذلك في الأجوبة المصرية وغيرها وسنتكلم(6/111)
إن شاء الله تعالى على ما ذكره الغزالي وغيره إذا تكلمنا على ما ذكره الرازي في الفرق بين ما يؤول وما لا يؤول فإنهم جميعهم مضطربون في الأصل كما أنهم مقصرون في معرفة السلف والأئمة وما دل عليه الكتاب والسنة لكن المقصود هنا ذكر ما نقله عن أحمد فإنه قال في أثناء كلامه في التأويلات وفي هذا المقام لأرباب المقامات إسراف واقتصاد فمن مسرف في دفع الظواهر انتهى إلى تغيير جميع الظواهر أو أكثرها حتى حملوا قوله تعالى وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس 65](6/112)
وقوله وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت 21] وكذلك جميع المخاطبات التي تجري من منكر ونكير والميزان والحساب ومناظرات أهل النار وأهل الجنة وفي قولهم أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله زعموا أن كل ذلك لسان الحال قال وغلا آخرون منهم أحمد بن حنبل حتى منع تأويل قوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ (117) وزعموا أن ذلك خطاب بحرف وصوت يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كل مكون حتى سمعت لبعض أصحابه أنه حسم الباب في التأويل إلا لثلاثة ألفاظ قوله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود يمين الله(6/113)
في الأرض وقوله صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وقوله صلى الله عليه وسلم إني أجد نفس الرحمن من جانب اليمن ومال إلى حسم الباب أرباب الظواهر قال والظن بأحمد بن حنبل أنه علم أن الاستواء ليس هو الاستقرار والنزول ليس هو الانتقال ولكنه منع من التأويل حسمًا للباب ورعاية لصلاح الخلق فإنه إذا فتح الباب اتسع الخرق وخرج عن الضبط وجاوز الاقتصاد إذ حد الاقتصاد لا ينضبط ويشهد له سيرة السلف فإنهم كانوا يقولون أمروها كما جاءت حتى قال مالك لما سئل عن(6/114)
الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة(6/115)
قال وذهب طائفة إلى الاقتصاد ففتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله تعالى وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها ومنعوا التأويل وهم الأشعرية وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا من صفات الله تعالى تعلق الرؤية به وأولوا كونه سميعًا بصيرًا وأولوا المعراج وزعموا أنه لم يكن بالجسد وأولوا عذاب القبر والميزان والصراط وجملة من أحكام الآخرة لكن أقروا بحشر(6/116)
الأجساد بالجنة وباشتمالها على المأكولات والمشروبات والمنكوحات والملاذ المحسوسة وبالنار وباشتمالها على جسم محسوس محرق تحرق الجلود وتذيب الشحوم ومن ترقيهم على هذا الحد تدرجت الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة وردوها إلى آلام عقلية روحانية ولذات عقلية وأنكروا حشر الأجساد وقالوا ببقاء النفوس وأنها تكون إما معذبة وإما منعمة بعذاب ونعيم لا يدركه الحس وهؤلاء هم المسرفون وحد هذا الاقتصاد بين هذا الانحلال وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين وقرروه وما خالف ما أولوه فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد(6/117)
فلا يستقر له فيه قدم ولا يتعين له موقف والأليق بالمقتصر على السمع المجرد مقام أحمد بن حنبل والآن فكشف الغطاء في حد الاقتصاد في هذه الأمور داخل في علم المكاشفة(6/118)
والقول فيه يطول قلت وقد تكلمنا على هذا الكلام وما فيه من مردود مقبول وما فيه من عزل الرسول صلى الله عليه وسلم عزلاً معنويًّا وإحالة الخلائق على الخيالات والمجهولات وفتح باب النفاق وبيناه في الأجوبة المصرية والمقصود هنا أن أبا حامد تكلم بمبلغ علمه وما وصل إليه من كلام السلف والأئمة ولهذا كلامه في ذلك في غاية التقصير فإن كلام الإمام أحمد بن حنبل في الأصول مع أنه ملء الدنيا وقد صنف في ذلك مصنفات وما من مسألة منها إلا وقد ذكر فيها من الدلائل وكلام الله ورسوله والصحابة والتابعين وما شاء الله وناظر الجهمية وغيرهم من الذين حرفوا باب الإيمان بالله واليوم الآخر ومع هذا فلم يكن(6/119)
عنده منه شيء وكذلك غير كلام أحمد بن حنبل من كلام الصحابة والتابعين فيه أعظم مما في كلام أحمد بن حنبل ونحوه فإن أحمد بن حنبل لم يبتدع من عنده شيئًا ولكن كان أعلم أهل زمانه بما أنزل الله على رسوله وما كان عليه الصحابة والتابعون وكان أتبع الناس لذلك وابتلى بالمخالفين من أهل الأهواء ومناظرتهم بالخطاب والكتاب والرد عليهم فأظهر من علوم السلف ما هو متبع فيه كسائر الأئمة قبله وما من قول يقوله إلا وقد قاله بلفظه أو بمعناه ما شاء الله من الأئمة قبله وفي زمانه وعليه من الدلائل ما شاء الله فلهذا اتخذته الأمة إمامًا لأن الله تعالى يقول وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) [السجدة 24] وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ممن آتاه الله من الصبر واليقين بآيات الله ما استحق به الإمامة حتى اشتهر ذلك عند الخاصة والعامة فصار لفظ الإمامة مقرونًا باسمه أكثر وأشهر مما يقترن باسم غيره(6/120)
قال أبو بكر الخلال في أثناء كتاب السنة قال أبو بكر المروذي قال وقال ابن(6/121)
دريد في قوله تعالى وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) [الصافات 173] هم أهل السنة وقال عبد الوهاب الوراق إن لم يكونوا هذه العصابة(6/122)
فلا أدري أي عصابة هي قال أبو بكر الخلال فهي عصابة أحمد بن حنبل رضي الله عنه الذابون عن السنة المحيون لما أماته الناس من السنن عن أهل الخلاف وإظهار ذلك وإحياء أمر المجانبة لأهل الزيغ والجدال والتمسك بما عليه إمام الناس في زمانه أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأبو حامد كانت مواده في العلوم الإلهية من المتكلمين والفلاسفة والصوفية الذين فهم كلامهم وقد(6/123)
ذكر في المنقذ من الضلال أن هؤلاء هم والباطنية هم الخائضون في هذا الفن وذكر بعض ما في طريق الباطنية(6/124)
من الضلال وهو كثيرًا يعيب طريقة المتكلمين والفلاسفة ويذكر أنها لا توصل إلى علم ويقين وكان يؤثر من طريق الصوفية مجملات لم يفصلها ولم تتفصل له بل يحيل على مكاشفات ومشاهدات لا وصل إليها ولا رأى من وصل إليها فأما الطريقة التي لخاصة المسلمين أهل الوراثة النبوية والخلافة الرسالية أهل السنة ظاهرًا وباطنًا المقتبسين من مشكاة الرسالة أهل العلم والإيمان الذين يرون أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق من ربهم الذين قذف الله في قلوبهم من نوره ما أبصروا به وأيقنوا بحقائق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهؤلاء لم يصل أبو حامد إلى معرفتهم ومعرفة طريقهم وإن كان يومئ إليهم جملة لا تفصيلاً ويشتاق إلى سبيلهم لكونه(6/125)
كان قليل المعرفة بالحديث والآثار والمعرفة لمعانيها وكان يقول بضاعتي من الحديث مزجاة كما نقل عنه أبوبكر بن العربي أنه سمعه منه ولهذا في كتبه من المنقولات المكذوبة الموضوعة ما شاء الله مع أن تلك الأبواب يكون فيها من الأحاديث الصحيحة ما فيه كفاية وشفاء ومن ذلك هذا النقل الذي نقله عن أحمد فإنه نقله عن مجهول لا يعرف وذلك المجهول أرسله إرسالاً عن أحمد ولا يتنازع من يعرف أحمد وكلامه أن هذا كذب مفترى عليه ونصوصه المنقول عنه بنقل الثقات الأثبات والمتواتر عنه يرد هذا الهذيان الذي نقله عنه بل إذا كان أبو حامد ينقل عن(6/126)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله فكيف ما ينقله عن مثل أحمد ولم يكن ممن يتعمد الكذب فإنه كان أجل قدرًا من ذلك وكان من أعظم الناس ذكاء وطلبًا للعلم وبحثًا عن الأمور ولما قاله كان من أعظم الناس قصدًا للحق وله من الكلام الحسن المقبول أشياء عظيمة بليغة ومن حسن التقسيم والترتيب ما هو به من أحسن المصنفين لكن لكونه لم يصل إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الطرق الصحيحة كان ينقل ذلك بحسب ما بلغه لاسيما مع هذا الأصل الفاسد إذ جعل النبوات فرعًا على غيرها وقد قيل عنه إن كثيرًا مما يذكر في كتبه مما كان يسمعه من بعض القصاص والوعاظ أو(6/127)
السؤال والشحاذين وبعض العباد والزهاد وقد قال الإمام أحمد أكذب الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم القصاص والسؤال وكذلك أحاديث العباد الذين لا يضبطون مردوده حتى قال يحيى بن سعيد ما رأينا(6/128)
الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث وقال أيوب السختياني إن لي جيرانًا أرجو بركة دعائهم في السحر ولو شهد أحدهم عندي على جزرة بصل لما قبلت شهادته وقال ملك بن أنس أدركت بهذا المسجد كذا وكذا شيخًا كان يقول حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم فضل وصلاح فلم يكن يأخذ عن أحد منهم شيئًا وكان يقدم(6/129)
ابن شهاب وهو شاب فيردهم على بابه ولهذا لم يذكر أهل الصحيح عن زهاد البصرة وعبادها مثل مالك بن دينار وحبيب العجمي وفرقد(6/130)
السبخي وثابت البناني إلا لثابت وحده والباقون أبعد الناس عن تعمد الكذب لكن قد لا يحفظونه فأحاديثهم تصلح لأن يستشهد بها ويعتبر لا تصلح للاعتماد مع ما فيهم من الخير والدين والصلاح وما لهم من الكرامات والمقصود أن هذا المنقول عن أحمد كذب عليه ولم يقل أحمد قط إن قوله كُنْ فَيَكُونُ (117) خطاب بحرف وصوت يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كل مكون(6/131)
ولا توجد هذه العبارة في شيء من كلامه ولا من كلام أصحابه وكذلك أحمد لم يحسم التأويل إلا في هذه الأحاديث الثلاثة وقد ذكرنا من كلامه في مسمى التأويل وتأويل الأحاديث في هذا الباب ما فيه كفاية وفي كتاب السنة للخلال وغيره من الكتب من كلام الإمام أحمد ما يعرف به مذهبه وسنبين أن استثناء هذه الأحاديث الثلاثة من التأويل لا يصلح أن يقوله أحد من المنتسبين إلى غلمان أحمد فضلاً عن أن يقول هو وإنما يصلح أن يثبت هذه الأحاديث ويجعلها مما يتأول مثل هؤلاء الذين لا يعرفون الأحاديث الصحيحة من الضعيفة ولا يعرفون دلالة الألفاظ حتى يميزوا ما هو تأويل مخالف للظاهر وما ليس تأويلاً مخالفًا للظاهر فلقلة معرفتهم بأعلام الهدى وهي ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم ووجه دلالتها يقعون في الحيرة والاضطراب حتى لا يميزوا بين ما يقبل من كلام الفلاسفة والمتكلمين وما يرد بل(6/132)
تارة يوافقونهم وتارة يخالفونهم وتارة يكفرونهم فهم دائمًا متناقضون في قول مختلف يؤفك عنه من أفك وأبو حامد من خيارهم وأعلمهم وأدينهم وهو مع هذا يكفر الفلاسفة فضلاً عن أن يضللهم تارة وتارة يجعل ما كفرهم به من العلم المضنون به على غير أهله ويضلل المتكلمين تارة ويجعل طريقهم ليس فيها بيان للحق وتارة يجعلها عمدته وأصله الذي يضلل من خالفه وكذلك تارة يقول في الصوفية الأقوال المتناقضة فتارة يجعلهم خاصة الأمة ويفضلهم على الفقهاء وتارة يمنع إعطاءهم الزكاة ويوجب عليهم الاكتساب(6/133)
مع إباحته إعطاء الزكاة للمتفقهة وإن كان في آخر عمره مال إلى طريقة أهل الحديث وكان كثير المطالعة لصحيح البخاري وبذلك ختم عمله وعليه مات وهو أفضل أحواله والله تعالى يغفر لنا ولسائر إخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا يجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ومع هذا فأبو حامد لم يعرف في كلامه خروج إلى الشرك وعبادة الأوثان بل غاية ما ينتهي إليه ضلال الصابئين من المتفلسفة ونحوهم(6/134)
فكيف بمن يخرج إلى الإشراك بالله الصريح والردة إلى الأمر بعبادة الكواكب والأوثان وإن كان قد تاب من ذلك وأسلم بعد ذلك فإنه يكون كالذين ارتدوا على(6/135)
عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ثم عادوا مثل الأشعث بن قيس والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ومن خيار من عاد إلى الإسلام من المرتدين عبد الله بن سعد ين أبي سرح فإنه(6/136)
كان كاتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وارتد ثم أسلم عام فتح مكة الوجه الثالث أما قوله الحجر الأسود يمين الله في الأرض فإنه ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بل قد رووه عن ابن عباس ولم يقل أحمد قط إن هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يتأول بل هذا الحديث سواء كان عن ابن عباس أو كان مرفوعًا فلفظه نص صريح لا يحتاج إلى تأويل فإن لفظه الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه(6/137)
وقبّله فكأنما صافح الله وقبّل يده وتسمية هذا تأويلاً أبعد من تسمية الحديث الذي فيه جعت وذلك أنه يمين الله في الأرض فقوله في الأرض متصل بالكلام مظهر لمعناه فدل بطريق النص أنه ليس هو يمين الله الذي هو صفة له حيث قال في الأرض كما لو قال الأمير مخاطبًا للقوم في جاسوس له هذا عيني عندكم فإن هذا نص في أنه جاسوسه الذي هو بمنزلة عينه ليس هو نفس عينه التي هي صفة فكيف يجوز أن يقال إن هذا متأول مصروف عن ظاهره وهو نص في المعنى الصحيح لا يحتمل الباطل فضلاً عن أن يكون ظاهره باطلاً وأيضًا فإنه قال من استلمه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يده فجعل المستلم له كأنما صافح الله تعالى ولم يقل فقد صافح الله والمشبه ليس هو المشبه به بل ذلك نص في المغايرة بينهما فكيف يقال إنه مصروف عن ظاهره وهو نص في المعنى الصحيح(6/138)
بل تأويل هذا الحديث لو كان مما يقبل التأويل أن يجعل الحجر عين يمين الله وهو الكفر الصريح الذي فروا منه قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على(6/139)
المريسي ومتبعيه وروى المعارض أيضًا عن ابن عباس الركن يمين الله في الأرض يصافح به خلقه وروي عن الثلجي يعني محمد بن شجاع الثلجي أنه قال يمين(6/140)
الله نعمته وبركته وكرامته لا يمين الأيدي قال فيقال لهذا الثلجي الذي يريد أن ينفي عن الله تعالى يديه اللتين خلق يهما آدم ويلك أيها الثلجي إن تفسيره على خلاف ما ذهبت إليه وقد علمنا يقينًا أن الحجر الأسود ليس بيد الله نفسه فإن يمين الله معه على العرش غير باين منه ولكن تأويله عند أهل العلم أن الذي يصافح الحجر الأسود ويستلمه كأنما يصافح الله كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] فثبت له اليد التي هي اليد عند ذكر المبايعة إذ سمى اليد مع اليد واليد معه على العرش وكقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل يد السائل فثبت بهذا لله اليد التي(6/141)
هي اليد وإن لم يضعها المتصدق في نفس يد الله وكذلك تأويل الحجر الأسود إنما هو إكرام للحجر الأسود وتعظيم له وتثبيت ليد الرحمن ويمينه لا النعمة كما ادعى الثلجي الجاهل في تأويله وكما يقدر أن يكون مع كل صاحب نجوى وفوق عرشه كذلك يقدر أن تكون يده فوق أيديهم من فوق عرشه وقد ذكر القاضي أبو يعلى هذا الأثر عن أحمد ولم(6/142)
يذكر عنه فيه كلامًا فرواه مرفوعًا بإسناد ضعيف قال حدثنا أبو القاسم يعني عبد العزيز بن علي الأزجي قال حدثنا القاضي عمر بن سَبَنْك حدثنا أحمد بن القاسم بن نصر ابن زياد حدثنا أبو سالم العلاء بن مسلمة(6/143)
الرواس قال حدثنا أبو حفص العبدي عن أبان عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر في الأرض يمين الله جل اسمه فمن مسح يده على الحجر فقد بايع الله عز وجل أن لا يعصيه وهذا إسناد ضعيف قال القاضي وروى ابن جريج عن محمد بن عباد(6/144)
ابن جعفر المخزومي قال سمعت عبد الله بن عباس يقول إن هذا الركن الأسود يمين الله في الأرض يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه وهذا هو المعروف ثم قال القاضي اعلم أن هذا الخبر ليس على ظاهره لأن إضافة الحجر إلى أنه صفة ذات هي يمين تحيل صفاته وتخرجها عما تستحقه لأن الحجر جسم مخلوق حالٌّ(6/145)
في مخلوق وفي الأرض والقديم سبحانه تستحيل عليه هذه الصفات ويفارق هذا ما تقدم من إثبات اليمين في الخبر الذي قبله وأن ذلك صفة ذات يعني قوله الذي في صحيح مسلم المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين لأنه لا يستحيل إضافة(6/146)
اليمين إليه لأنها غير مستحيلة عليه لأن إضافة اليمين إليه كإضافة اليد إليه وذلك جائز قال ومثل هذا غير موجود هاهنا يبين صحة هذا من كلام أحمد أنه فسر قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] قال معناه هو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو على العرش قلم يحمل قوله وَفِي الْأَرْضِ على ظاهره بل تأوله وبين أنه على العرش فوجب أيضًا أن يمتنع من إطلاق صفة ذات في الأرض(6/147)
تلمس في جهة من الجهات وقد قيل في تأويله أوجه أحدها أن هذا على طريق المثل وأصله أن الملك كان إذا صافح رجلاً قبَّل الرجل يده فكأن الحجر لله عز وجل بمنزلة اليمين للملك تستلم وتلثم وقد روي في الخبر أن الله عز وجل حين أخذ الميثاق من بني آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى جعل ذلك في الحجر الأسود وكذلك يقال إيماناً بك ووفاء بعهدك قال وقد قيل فيه وجه آخر وهو أنه يحتمل أن يكون معنى قوله الحجر يمين الله في أرضه إنما إضافة اليد على طريق التعظيم للحجر وهو فعل من أفعال الله تعالى سماه يمينًا(6/148)
بنسبته إلى نفسه وأمر باستلامه ومصافحته ليظهر طاعتهم بالائتمار وتقربهم إلى الله تعالى فيحصل لهم بذلك البركة والسعادة قال وقيل وجه آخر وهو أن قوله يمين الله أمان الله لأن الحجر من جملة البيت وقد قال سبحانه وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران 97] قال ولا بأس بهذه الوجوه للمعنى الذي بينا من امتناع إضافة ذلك إلى الله سبحانه وتعالى ويبين صحة ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود من ياقوت الجنة وإنما سودته خطايا بني آدم وأيضًا قول عمر إني لأعلم(6/149)
أنك حجر لا تضر ولا تنفع وهذا لا يقال في صفات(6/150)
القديم فالقاضي نفى عنه المعنى الفاسد الذي يقال إنه ظاهره وسمى ذلك ظاهره موافقة لمن جعل ذلك ظاهره وبين امتناع ذلك المعنى بالأدلة الشرعية والعقلية ولم يذكر عن أحمد في ذلك شيئًا وتسميته لذلك ظاهرًا هو موافقة منه لمن سماه ظاهرًا من المتأولين فإنه صنف كتابه على كتاب أبي بكر بن(6/151)
فورك وكذلك في معناه الوجوه التي ذكرها هؤلاء وهي فاسدة إلا الوجه الأول الذي هو ظاهر الحديث وكذلك إن قوله ‘ن أحمد لم يحمل قوله وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] على ظاهره موافقة على تسمية ذلك ظاهر والذي ذكره أحمد في الآية هو ظاهرها كما بيناه في غير هذا الموضع وهذا الذي قاله القاضي من التسمية لا يلزم الإمام أحمد(6/152)
فإن القاضي واحد أصحابه وهو وغيره من أصحاب أحمد قد يوافقون المثبتة على أشياء من قولهم على أحاديث ضعيفة ودلالات ضعيفة ويوافقون النفاة على أشياء أيضًا من قولهم مثل نفي الأسماء التي يزعمون أن العقل نفاها كالجوهر والجسم ونحو ذلك وليس هذا ولا هذا من قول السلف والأئمة وأصحاب أحمد فيهم من النفي والإثبات ما يوجد في غيرهم لكنهم أقرب إلى الاعتدال في الطريقين وأقل غلوًّا فيهما من غيرهم لأن الإمام أحمد له من تقرير أصول السنة ما لايوجد لغيره فلا يمكن أتباعه أن يغلوا في الانحراف عن السنة والاعتدال كانحراف غيرهم وإن كان يوجد فيهم من قد ينحرف إلى النفي أو الإثبات أو كليهما جميعًا على وجه التناقض أو لاختلاف الاجتهاد ولعل هذا المنقول من أنه لم يتأول إلا كذا أصله عن(6/153)
القاضي فإن القاضي في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات قد يتأول أشياء مثل هذا لكنه مع ذلك يبين أن تأويلها وجب لأن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة نفت ذلك كما ذكره هنا وكما يأتي كلامه في قوله إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمين ولا ريب أن صرف ظاهر النص ينص آخر ليس مما ينازع فيه الفقهاء والذي أنكرناه وهو كون ظاهر القرآن باطلاً وكفراً من غير أن يبين الله تعالى ذلك فهذا مما ينكره علماء الإسلام وقد روى عثمان بن سعيد الدارمي هذا الخبر مرفوعًا في إثبات صفة اليد بلفظ آخر فقال حدثنا الهيثم بن خارجة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن أبي(6/154)
سويد عن عطاء عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من فاوض الحجر فإنما يفاوض كف الرحمن يعني استلام الحجر الأسود(6/155)
فهذا فيه إثبات وصف صفة الرحمن بمفاوضته كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] الوجه الرابع أن قوله إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمين فلم أجد عن أحمد فيه كلامًا أيضًا ولا نقل ذلك عن أصحابه الذين تتبعوا نصوصه كالخلال وغيره ولكن تكلم فيه ابن حامد وابن بطة والقاضي وغيرهم(6/156)
فذكر القاضي ما حدثه به أبوالقاسم الأزجي بإسناده عن أبي بن كعب أنه قال لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن جل اسمه وفي رواية فإنها من نفس الله جل وعز فإذا رأيتموها فقولوا اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به(6/157)
قال وروى ابن بطة في بعض مكاتباته إلى بعض أصدقائه جواب مسائل سأله عنها بإسناده عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الريح فلا تسبوها فإنها من نفس الرحمن تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فاسألوا الله من(6/158)
خيرها واستعيذوا بالله من شرها ثم قال القاضي اعلم أن شيخنا أبا عبد الله ذكر هذا الحديث في كتابه وامتنع أن يكون على ظاهره في أن الريح صفة ترجع إلى الذات والأمر على ما قاله ويكون معناه أن الريح مما يفرج الله تعالى بها عن المكروب والمغموم فيكون معنى النفس معنى التنفس وذلك معروف من قولهم نفست عن فلان أي فرجت عنه وكلمت فلانًا في التنفيس عن غريمه ويقال نفس الله عن فلان كربه أي فرج الله عنه وروي في الخبر من نفس عن مكروب كربة نفس الله عنه كربة يوم القيامة(6/159)
وروي في الخبر أن الله فرج عن نبيه بالريح يوم الأحزاب فقال فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا(6/160)
[الأحزاب 9] قلت ثم رأيت أبا عبد الله بن حامد ذكر في كتابه في ذلك نزاعًا بين أصحابه فقال فصل وهل يجوز أن يقال بأن الريح من نفس الرحمن فقد ذكر ابن قتيبة في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن فقال فرأيت بعض أصحابنا يثبتون لله وصفًا في ذاته بأنه يتنفس وقد فصلوا بين الرياح فقالوا ما كان من هذه الرياح الهابة مثل رياح الرحمة والعذاب من الريح العقيم(6/161)
والعاصف والجنوب والشمال والصبا والدبور وما دخل في ذلك وهي ثلاثون ريحًا كلها خاصة بالأفعال مخلوقة وريح أخرى من صفاته هي ذات نسيم(6/162)
صباي هو خارج عن الريح وهي من نفس الرحمن قال ابن حامد ولم أجد ذلك لأبي عبد الله نصًّا ولا أدخله الخلال في جامعه من كتاب السنة والأشبه عندي أنه ضعيف الإسناد فلا يجوز أن يثبت به صفات الله تعالى قلت فابن حامد قد طعن في نفس هذا الخبر من أصله فلم يحتج إلى تأويله وأما القاضي فقال وإنما وجب حمل هذا(6/163)
الخبر على هذا ولم يجب تأويل غيره من الأخبار لأنه قد روي في الخبر ما يدل على ذلك وذلك أنه قال فإذا رأيتموها فقولوا اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وهذا يقتضي أن فيها شرًّا وأنها مرسلة وهذا من صفات المحدثات قال وحدثنا أبو القاسم بإسناده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الريح من روح الله يبعثها بالرحمة ويبعثها بالعذاب فلا تسبوها واسألوا الله خيرها وعوذوا بالله من شرها قال وقوله فإنها من روح الله يدل على صحة هذا التأوبل وأنه يروح بها عن المكروب وقوله يبعثها بالرحمة(6/164)
وبالعذاب صريح في أنها مخلوقة مأمورة بالرحمة تارة وبالعذاب أخرى وهذا دليل على صحة هذا التأويل ثم قال حديث آخر في هذا المعنى من حديث دعلج عن ابن خزيمة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو(6/165)
مولي ظهره إلى اليمين إني أجد نفس الرحمن من هاهنا وروى ابن بطة في مكاتبته إلى بعض أصدقائه بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الإيمان يمان والحكمة يمانية وأجد نفس ربكم الكريم من قبل اليمن قال القاضي ومعناه ما تقدم من الحديث الذي قبله وهو أني أجد تفريج الله عني وتنفيسه عن كربي بنصرته إياي من قبل اليمن وذلك لما نصره المهاجرون والأنصار نفس الله عن نبيه ما كان فيه من أذى المشركين وقتلهم الله على أيدي المهاجرين من أهل اليمن والأنصار وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يمدح أهل اليمن فروي عنه أنه قال الإيمان يمان والحكمة يمانية وإنما وجب حمله على ذلك لما تقدم في الحديث الذي قبله وأن فيه ما دل على أن النفس مخلوق لأنه أضافه إلى الريح والريح مخلوقة من جهة أنها مأمورة بالرحمة والعذاب فوجب حمل هذا(6/166)
المطلق على ذلك قال ورأيت في بعض مكاتبات ابن بطة إلى بعض أصدقائه وقد ذكر هذين الخبرين حديث جابر إذا رأيتم الريح فلا تسبوها وحديث ابن هريرة أجد نفس ربكم وحكى كلام ابن قتيبة في ذلك فقال أنت في نفس من أمرك أي في سعة وقوله من نفس الرحمن معناه أن يفرج بها الكرب ويذهب بها الجدب يقال اللهم نفس عني أي فرج عني وذكر كلامًا طويلاً(6/167)
ثم قال ابن بطة بعده ومما يشهد لصحة هذا التأويل وأن الريح من نفس ربكم وإنما أراد بالنفس الفرج والروح ما سمعت أبا بكر بن الأنباري يقول إنما سميت الريح ريحًا لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم والأذى فهي مأخوذة من الروح وأصلها روح فصارت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم قال ابن بطة فهذا ما قاله أهل العلم بتأويل الكتاب والسنة وكلام العرب في تأويل الريح ومعنى النفس بها وفي كتاب الله تعالى ما دل على أنها بمعنى الفرج من الغم والنفس من الكرب إذ الغم والضيق يكونان بركودها(6/168)
كما يدل عليه قوله عز وجل حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا [يونس 22] وقوله وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف 57] وقوله إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ [الشورى 33] قال القاضي أبو يعلى وفي معنى ذلك حديث رواه ابن فورك ولم يقع لي طريقه أنه قال هذا نفس ربي أجده بين كتفي أتتكم الساعة معناه هذا فرج الله عني صرف به همومي وغمومي وكشف عن قلبي وسرى عن فؤادي ما كان يجده صلى الله عليه وسلم في مستقبل أوقاته من زوائد(6/169)
روح اليقين والألطاف فسمى ذلك نفس الرب لأنه هو الذي نفس به عنه والإضافة إلى طريق الملك والموجب لحمله على ذلك ما تقدم من الخبر الأول وقد بينا أن فيه ما دل عليه قلت فهذا كلام القاضي وما ذكره فيه من كلام غيره وقد بين أنه إنما تأول هذا الخبر لأن في الخبر نفسه ما دل على صحة التأويل ومثل هذا لا نزاع فيه فإنه إذا كان في الحديث الواحد متصلاً به ما يبين معناه فذلك مثل التخصيص المتصل ومثل هذا لا يقال فيه إنه خلاف الظاهر بل ذلك هو الظاهر بلا نزاع بين الناس ولهذا يقبل مثل ذلك في الإقرار والطلاق والعتاق والنذر واليمين وغير ذلك من المواضع التي ليس له أن يرفع الظاهر بعد تمام الكلام وله أن يصل بالكلام من(6/170)
الاستثناء والشرط والعطف والصفات والأحوال وغير ذلك مما يقيد أوله ويخصه ويصرفه عن موجب إطلاقه بل لا نزاع بين الناس إلا نزاعًا شاذًا في الطلاق أو فيه وفي العتق فإن في الناس من يقول إنه لا يقبل رفع مطلقه بشرط ملحق ولا باستثناء يروى ذلك عن شريح وهو قول في مذهب أحمد وهو رواية شاذة عنه والمتواتر عنه وعن سائر العلماء خلاف ذلك وهو الصواب وليس المقصود هنا الكلام على خصوص هذه الأحاديث وتفسيرها ولكن الغرض الكلام على ما احتج به المؤسس من(6/171)
أن صرف الظواهر متفق على الحاجة إليه ومقصوده بذلك صرفها بالأدلة القياسية كما قد قرره في أثناء الكتاب وبين أن اللفظ لا يجوز صرفه عن ظاهره إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال وأن الدليل القاطع لا يجوز صرفه عن ظاهره إلا عند قيام دليل قاطع آخر وهذا محال وهذا الذي قاله خلاف ما اتفقت عليه الأمة وقد حكى هو في غير هذا الموضع اتفاق الأمة على خلافه كما سنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه الوجه الخامس أن قوله قلوب العباد بين أصبعين من(6/172)
أصابع الرحمن قد نص أحمد على رد تأويل الجهمية فيه روى الخلال في كتاب السنة عن أبي طالب قال قلت لأبي عبد الله قال أبو إسحاق بن أبي الليث الذين يصفون ربهم يقول هو السميع البصير قال عافاه الله كأنه أعجبه قوله قلت ما تقول أنت قال أقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ووصف ولا يجوز الحديث قال بين أصبعين وقال خلق الله آدم وكما جاء في الحديث(6/173)
مثل هذا قلنا مثله قلت فنحن الذين يصفون قال نعم قال وصف النبي صلى الله عليه وسلم لا نجوزه(6/174)
فصل قال الرازي الرابع حكي أن المعتزلة تمسكوا في خلق القرآن بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال تأتي سورة البقرة وآل عمران كذا وكذا يوم القيامة كأنهما غمامتان فأجاب أحمد ابن حنبل وقال يعني ثواب قارئيهما وهذا تصريح منه بالتأويل(6/175)
يقال هذه الحجة والجواب عنها مذكور فيما حفظ من مناظرة أحمد للجهمية من المعتزلة وغيرهم لما حبس وامتحن وهو أيضًا مذكور فيما خرجه في الرد على الجهمية فقال فيما خرجه وقد ذكره الخلال عنه في كتاب السنة باب ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت أن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب فيأتي صاحبه فيقول هل تعرفني فيقول له من أنت فيقول أنا القرآن الذي أظمأت نهارك وأسهرت(6/176)
ليلك قال فيأتي الله به فيقول يا رب فادَّعوا أن القرآن مخلوق من هذه الأحاديث فقلنا لهم إن القرآن لا يجيء إنه قد جاء من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فله كذا وكذا(6/177)
ألا ترون أن من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا تجيئه يجيء ثوابه لأنا نقرأ القرآن ويجيء ثواب القرآن فيقول يا رب كلام الله لا يجيء ولا يتغير من حال إلى حال وأما كلامه في المناظرة فروى الخلال في كتاب السنة أخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم أن(6/178)
أبا عبد الله قال احتجوا علي يومئذ فقالوا تجيء البقرة يوم القيامة وتجيء تبارك وقلت لهم إن هذا الثواب قال الله تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] إنما تأتي قدرته إنما القرآن أمثال ومواعظ وكذا وكذا وأمر وقال حنبل في موضع آخر ومواعظ وأمر وزجر(6/179)
وهذا نظير ما روي عن مجيء سائر الأعمال الصالحة في الصور الحسنة ومثل ما في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور الذي رواه أحمد من حديثه حدثنا(6/180)
أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان أبي عمر عن البراء بن عازب قال(6/181)
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير في يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال أستعيذ بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثًا ثم قال إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من كفن الجنة وحنوط من حنوط الجنة فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقا فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك(6/182)
الكفن وذلك الحنوط فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيبة فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا حتى ينتهون بها إلى السماء الدنيا ثم إلى التي تليها حتى ينتهون بها إلى السماء السابعة فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فتعاد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان له وما علمك فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت(6/183)
قال فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي أفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها فيفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح فيقول له أبشر بالذي يَسُرُّك فهذا يومك الذي كنت توعد فيقول له من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول ربِّ أقم الساعة رب أقم الساعة ثلاثًا حتى أرجع إلى أهلي ومالي قال وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه(6/184)
فتتفرق في أعضائه كلها فينتزعها نزع السفود من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب قال فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في تلك المسوح قال ويخرج منها كأنتن جيفة وجدت على الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمي بها في الدنيا حتى ينتهون بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون لها فلا يُفتح(6/185)
لها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف 40] ثم يقول الله تعالى اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى قال فيطرح روحه طرحًا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) [الحج 31] قال فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري قال فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي منادٍ من السماء كذب عبدي فأفرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار فيدخل عليه من حرها وسمومها ويضيق عليه في قبره(6/186)
حتى تختلف فيه أضلاعه قال ويأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول أنا عملك السيئ فيقول رب لا تقم الساعة وكذلك ما جاء في الكتاب والسنة من حمل الأعمال ووزنها كقوله تعالى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ(6/187)
أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) [الأنعام 31] وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وفي السنن لأبي داود وغيره عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من شيء يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن(6/188)
والمعنى الظاهر الذي يظهر للمخاطب من قوله يجيء عمله في صورة رجل أن الله تعالى يخلق من عمله صورة يصورها ليس المعنى الظاهر أن نفس أقواله وأفعاله على صورة رجل فإن هذا لا يظهر من هذا الخطاب ولا يفهمه أحد منه وعلى هذا فلا يكون هذا الخطاب مصروفًا عن ظاهره ولكن أزيل عنه المعنى الفاسد الذي يتأوله عليه المبتدع حيث جعل نفس كلام الله الذي تكلم به هو الصورة المصورة كما جعلوا نفس المسيح ابن مريم هو كلمة الله التي تكلم بها وإنما المسيح تكوَّن بكلمة الله فسمي كلمة الله لذلك وليس ظاهر الخطاب أن نفس كلام الله هو نفس جسد المسيح فالمفعول بالكلمة والمفعول مما يقرؤه الإنسان ويعمله من الصالحات يسمى باسمها فلو قيل إن في هذا نوعًا من التوسع والتجوز حيث سمي(6/189)
ما يكون عن العمل باسم العمل لكان هذا سايغًا لكن ذلك لا يمنع أن يكون ذلك هو المعنى الظاهر كما تقدم نظيره هذا مع أن الناس قد تنازعوا في نفس الأعراض من العمال وغيرها هل يجوز قلبها أجسامًا قائمة بأنفسها وذكر النزاع في ذلك أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات فقال واختلف يعني أهل الكلام(6/190)
ونحوهم في قلب الأعراض أجساماً والأجسام أعراضًا فقال قائلون منهم حفص الفرد وغيره جائز أن تقلب الأعراض أجسامًا والأجسام أعراضًا لأنه خلق الجسم جسمًا والعرض عرضًا وإنما كان العرض عرضًا بأن خلقه الله عرضًا وكان الجسم جسمًا بأن خلقه الله جسمًا فجائز أن يكون الذي خلقه الله عرضًا أن يخلقه جسمًا والذي خلقه جسمًا يخلقه عرضًا وكذلك زعم أن الله تعالى خلق اللون(6/191)
لونًا والطعم طعمًا وكذلك قوله في سائر الأجناس وأن الأشياء إنما هي على ما هي عليه بأن خلقت كذلك وأن الإنسان لم يفعل الأشياء على ما هي عليه ولم تكن على ما هي عليه بأن فعلها كذلك قال وقال أكثر أهل النظر بإنكار قلب الأعراض أجسامًا والجسام أعراضاً وقالوا ذلك محال لأن القلب إنما هو رفع الأعراض وإحداث أعراض والأعراض لا تحتمل أعراضًا واعتلوا بعلل كثيرة قلت والقول الأول قول طوائف من العلماء منهم(6/192)
أبو الوفاء بن عقيل قال في كفايته في الجواب عن هذا الحديث لما احتجت به المعتزلة على خلق القرآن فقال والجواب أن هذا معنى ثوابها بدليل قوله اتقوا النار ولو بشق تمرة ومعلوم أن التمرة لا تقيه فضلاً عن شقها وإنما(6/193)
المراد به اتقوا النار ولو بثواب شق تمرة قالوا الثواب عرض فكيف تقول والكلام عندك عرض فكيف يجيء فرجع الكلام يردك فأنت احتججت وأنت أخذت بما به استدللت قال ولأن الله قادر على أن يقلب العرض جسمًا والجسم عرضًا ولأنه يحتمل أن يكون من بعض ثوابه شخص كولدان الجنة وحورها فيجيء ذلك الوليد في هذه الصورة قلت ثم إني وجدت هذا التمثيل الذي ذكرته من تمثيل(6/194)
مجيء القرآن في صورة مجيء عمله الصالح في صورة قد ذكروه أئمة السنة كما ذكر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي ومتبعيه قال في كلامه عليه في النزول فكان من أعظم حجج المعارض لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول حكاية حكاها عن أبي معاوية لعلها مكذوبة عليه أنه قال نزوله أمره وسلطانه وملائكته ورحمته وما أشبهها فتكلم على إبطال ذلك بما ليس هذا موضعه إلى أن قال ثم قلت ويحتمل ما قال أبو معاوية أن نزوله أمره وسلطانه(6/195)
كما يرون أن القرآن يجيء يوم القيامة شافعًا مشفعًا وماحلاً مصدقًا فقالوا معنى ذلك أنه ثوابه فإن جاز لهم هذا التأويل في القرآن جاز لنا أن نقول إنا نزوله أمره ورحمته قال فيقال لهذا المعارض لقد قست بغير أصل ولا مثال لأن العلماء قد علموا أن القرآن كلام والكلام لا يقوم بنفسه شيئًا قائماً حتى تقيمه الألسن ويستبين عليها وأنه بنفسه لا يقدر على المجيء والتحرك والنزول بغير(6/196)
منزل ولا محرك إلا أن يؤتى به وينزل والله تعالى حي قيوم ملك عظيم قائم بنفسه في عزه وبهائه يفعل ما يشاء كما يشاء وينزل بلا منزل ويرتفع بلا رافع ويفعل ما يشاء بغير استعانة بأحد ولا حاجة فيما يفعل إلى أحد فلا يقاس الحي القيوم الفعال لما يشاء بالكلام الذي ليس له عين قائم حتى تقيمه الألسن ولا له أمر ولا قدرة ولا يستبين إلا بقراءة أرأيت إن كان نزوله أمره ورحمته لا تنزل إلا في ثلث الليل ثم إلى السماء الدنيا وما بال أمره ورحمته في دعواك لا ينزل إلى الأرض حيث مستقر العباد ممن يريد الله أن يرحم ويحب ويعطي فما بالها تنزل إلى(6/197)
السماء الدنيا لا تجوزها وما بال رحمته تبقى على عباده من ثلث الليل إلى انفجار الفجر ثم ترجع من حيث جاءت بزعمك وما باله إذ الله بزعمك في الأرض فإذا استرحمه عباده واستغفروه وتضرعوا إليه بَعَّدَ عنهم رحمته على السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام ولا يغشيهم إياها وهو معهم في الأرض بزعمك إذ زعمت أن نزوله تقريب رحمته إياهم كقوله الآخر من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا فقلت هذا تقرب بالرحمة ففي دعواك في تفسير النزول من تقرب إليه شبرًا(6/198)
تباعد هو عنه مسيرة ما بين الأرض إلى السماء أو كلما ازداد العباد إلى الله اقترابًا تباعد هو برحمته عنهم بعد ما بين السماء والأرض بزعمك لقد علمت أيها الجاهل أن هذا تفسير محال يدعو إلى ضلال والحديث نفسه يبطل هذا التفسير ويكذبه غير أنه أغيظ حديث للجهمية وأنقض شيء لدعواهم لأنهم لا يقرون أن الله فوق عرشه فوق سمواته ولكنه في الأرض كما هو في السماء فكيف ينزل إلى سماء الدنيا من هو تحتها في الأرض وجميع الأماكن منها ولفظ الحديث ناقض لدعواهم وقاطع لحججهم قال وأخرى أنه قد عقل كل ذي عقل ورأي أن القول لا يتحول صورة له لسان وفم ينطق ويشفع فحين اتفقت المعرفة من المسلمين أن ذلك كذلك علموا أن ذلك(6/199)
ثواب يصوره الله تعالى بقدرته صورة رجل يبشر به المؤمنين لأنه لو كان للقرآن صورة كصورة الإنسان لم يتشعب أكثر من ألف ألف صورة فيأتي أكثر من ألف ألف شافعًا وماحلاً لأن الصورة الواحدة إذ هي أتت واحدًا زالت عن غيره فهذا معقول لا يجهله إلا كل جهول قال وهذا كحديث الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا مات تأتيه أعماله الصالحة في صورة رجل في أحسن هيئة وأحسن لباس وأطيب ريح فيقول له من أنت فيقول أنا عملك الصالح كان حسنًا فكذلك تراني(6/200)
حسنًا وإن كان طيبًا تراه طيبًا وكذلك العمل السيئ بأتي صاحبه فيقول له مثل ذلك ويبشره بعذاب الله قال وإنما عملهما الصلاة والزكاة والصيام وما أشبهها من الأعمال الصالحة وعمل الآخر الزنا والربا وقتل النفس بغير حقها وما أشبهها من المعاصي وقد اضمحلت وذهبت في الدنيا فيصور الله بقدرته للمؤمن والفاجر ثوابها وعقابها ويبشرهما به إكرامًا للمؤمنين وحسرة على الكافرين وهذا المعنى أوضح من الشمس وقد علمتم ذلك إن شاء الله تعالى ولكن تغالطون وتدلسون وعليكم أوزاركم وأوزار من تضلون وقال(6/201)
الخلال في كتاب السنة أخبرني محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثني أبو جعفر قال كان رجل يأتي أبا عبيد قال فسأله عن الحديث الذي يروى فيه أن البقرة وآل عمران تأتي يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أليس ذلك يدل على أن هذا مخلوق فقال أبو عبيد إن إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عن علي بن زيد بن جُدْعان عن سعيد بن(6/202)
كعب قال لو رأى أحدكم ثواب ركعتين لرأى أعظم من الجبال الراسيات وقال النبي صلى الله عليه وسلم ظل المؤمن صدقته يوم القيامة فيجيء ديناره ودرهمه يظله إنما هذا ثواب ذلك وقال الله تعالى مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام 160] ومن أكبر الحسنات أن يقول الرجل لا إله إلا الله فإذا قال لا إله إلا الله يقال له يوم القيامة لا إله إلا الله عشر مرات إنما هذا ثواب ذلك قال ولم نر العرب تدفع في طبعها أن يقول الرجل للرجل(6/203)
لأوفينك ما عملت ليس أنه يريد نفس ما عمل إنما يعده على الطاعة الثواب ويتوعده على المعاصي العقاب وإنما معنى مجيء البقرة وآل عمران إنما يعني ثوابهما(6/204)
فصل قال الرازي الخامس قوله عليه السلام إن الرحم تتعلق بحقوي الرحمن فيقول سبحانه صلي من وصلك وهذا(6/205)
لابد فيه من التأويل يقال له بل هذا من الأخبار التي يقره من يقر نظيره والنزاع فيه كالنزاع في نظيره فدعواك أنه لابد فيه من التأويل بلا حجة تخصه لا يصح فإنك إن ذكرت الحجة التي تذكرها على وجوب تأويل خلقه بيديه ووضعه قدمه ونحو(6/206)
ذلك فهذا يحتاج إلى أن يحتج له كما سيأتي وإن كنت هنا ادعيت وجوب التأويل بالإجماع فذكرت هذا وأمثاله فيما لا يشك احد في وجوب تأويله وليس الأمر كذلك قال القاضي أبو يعلى اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره وان الحقو والحُجْزَة صفة ذات لا على وجه الجارحة والبعض وأن الرحم آخذة بها لا على وجه الاتصال والمماسة بل يطلق تسمية ذلك كما أطلقها الشرع(6/207)
ونظير هذا ما حملناه على ظاهره في وضع القدم في النار وفي أخذ داود بقدمه لا على وجه الجارحة ولا على وجه المماسة كما أثبتنا خلق آدم بيديه فاليدان صفة ذات والخلق بهما لا على وجه المماسة والملاقات وكذلك هاهنا قال وذكر شيخنا أبو عبد الله في كتابه هذا في الحديث وأخْذُه يظاهره وهو ظاهر كلام أحمد قال المروذي جاءني كتاب من دمشق فعرضته على أبي عبد الله فنظر فيه وكان فيه أن رجلاً ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت(6/208)
الرحم فأخذت بحقو الرحمن وكان الرجل تلقاه يعني حديث أبي هريرة فرفع المحدث رأسه فقال أخاف أن تكون كفرت فقال أبو عبد الله هذا جهمي وقال أبو طالب سمعت أبا عبد الله سئل عن حديث هشام بن عمار أنه قرأ عليه حديث يجيء الرحم يوم القيامة فتتعلق بالرحمن فقال أخاف أن تكون قد(6/209)
كفرت فقال هذا شامي ما له ولهذا قلت ما تقول قال يمضي الحديث على ما جاء قلت أما قول القاضي على غير وجه الاتصال والمماسة وغير ذلك ففيه نزاع يذكر في غير هذا الموضع وأما ما ذكره عن شيخه أبي عبد الله بن حامد فقد قال ابن حامد في كتابه فصل ومما يجب التصديق به أن لله حقوًا قال المروذي قرأت على أبي عبد الله كتابًا فنظر فيه فإذا فيه ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلق الرحم حتى إذا فرغ منها أخذت بحقو الرحمن فرفع المحدث رأسه وقال أخاف أن تكون قد كفرت قال أبوعبد الله هذا جهمي وقال أبو طالب سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث هشام بن عمار أنه قرئ عليه حديث(6/210)
الرحم تجيء يوم القيامة فتتعلق بالرحمن تعالى فقال أخاف أن تكون قد كفرت فقال هذا شامي ما له ولهذا قلت ما تقول قال يمضي كل حديث على ما جاء وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحم شجنة يعني لها تعلق تقرب من الرحمن تعالى تتعلق بحقو الرحمن تعالى تقول اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني قال فقال أحمد في الحديث في كنَفَه قيل له(6/211)
قول النبي صلى الله عليه وسلم يضع عليه كنفه قال هكذا يقول بيديه وهذه أحاديث مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرحم والحقو وأنه يضع كنفه على عبده ومثل ذلك أيضًا ما رواه عنه أبو علي الصانع من أصحاب إدريس الحداد المقري قال سمعت عمران النجار يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول وسألته ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ [الروم 25] فمن قال إن دعوة الله مخلوقة فقد كفر قال فجملة هذه المسائل مذهب إمامنا فيها الإيمان والتصديق بها والتسليم والرضا وأن الله يضع كنفه على عبده تقريبًا له إلى أن يضع كنفه عليه وذلك صفة ذاته لا يدري ما التكييف فيها ولا ماذا صفتها وكذلك في الرحم تأخذ بحقو(6/212)
الرحمن صفة ذاته لا يدري ما التكييف فيها ولا ماذا صفتها وكذلك دعوة الله لعباده وهم في الأرض أموات بالخروج منها فيخرجون كل ذلك صفات ذاته من غير تكييف ولا تشبيه قال فأما الحديث في الرحم والحقو فحديث صحيح ذكره البخاري وقد سئل إمامنا عنه فأثبته وقال يمضي الحديث كما جاء وأما الحديث في كنفه فهو حديث ثابت رواه الأئمة أحمد بن حنبل وابن معين وابن المديني(6/213)
ووكيع أن الله يدني عبده يوم القيامة يقول أُدْنُه أُدْنُه حتى يضع كنفه عليه فيقول أتذكر كذا أتذكر كذا ثم قال ابن حامد فصل ومما يجب الإيمان به والتصديق ما ورد في الأخبار من المماسة والقرب من الحق سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام وقد اعتمد أصحابنا في ذلك على جواب أبي عبد الله في هذا في المقام المحمود فقال أبو بكر بن صدقة ذكر الحديث عند أبي عبد الله فقال فاتني عن ابن فضيل وجعل يتلهف(6/214)
وقال عبد الله قال أبي ما وقع لي بعلو وجعل كأنه يتلهف إذ لم يقع له بعلو وهو حديث أحمد بن حنبل عن ابن فضيل عن ليث عن(6/215)
مجاهد عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) [الإسراء 79] قال يقعده معه على العرش فيطلق ذلك كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون مقامًا مخصوصًا لمقعد النبي صلى الله عليه وسلم ويشهد لذلك ما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله كتب كتابًا بيده قبل أن يخلق(6/216)
السموات والأرض وهون معه على العرش إن رحمتي تغلب غضبي وأحمد بن حنبل قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا(6/217)
أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله يعني الخلق كتب كتابًا هو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي قال ابن حامد وقد ذكر في كتاب السنة أخبارًا عن الصحابة في الدنو فروى عن محمد بن بشر قال حدثنا(6/218)
عبد الرحمن بن شريك عن أبيه حدثني عبد العزيز بن رفيع وسالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال إذا(6/219)
نظر داود إلى خطيئته ولى هاربًا فيناديه الله عز وجل يا داود اُدْنُ مني فلا يزال يدنيه حتى يمس بعضه ورواه وكيع عن سفيان عن منصور وعن مجاهد عن عبيد ابن عمير وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى [ص 25] قال ذكر الدنو حتى يمس بعضه قال وقد روي أشد من هذا عن مجاهد فرووا منه(6/220)
طريق الحديث الأول قال حدثني إبراهيم بن مهاجر وليث بن أبي سليم قالا حدثنا مجاهد قال إذا كان يوم القيامة ذكر داود ذنبه فيقول الله تعالى كن أمامي فيقول ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل كن خلفي فيقول ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل خذ بقدمي وبالإسناد حدثني أبو يحيى القتات وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن(6/221)
أبي مالك عن ابن عباس في قوله تعالى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) [ص 25] قال يدنو منه حتى يقول الله عز وجل خذ بقدمي قال ابن حامد وهذا كله يقطع به كما جاءت به الأخبار والمقصود هنا أن هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء وردوا على من نفى مُوجَبه والغرض أن هذا ليس مما اتفقت الأئمة على تأويله(6/222)
فلا يكون حجة له فإن قيل فقد ذكر الخطابي وغيره أن هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق فقال أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين القول في مراتب الصفات أن قومًا من المثبتين للصفات أفرطوا في تحقيقها حتى خرجوا إلى ضرب التشبيه والتمثيل كما أفرط قوم في نفيها حتى صاروا إلى نوع من الإبطال والتعطيل وكلا القولين خطأ وخطل وللحق(6/223)
بينهما نهج واضح لا يخفى صوابه على من وفقه الله فأما النفاة من الجهمية فإنهم قصدوا إلى كل شيء يفهم ويدري أو يتوهم من أسماء الله وصفاته فسموه تشبيهًا بغير حجة وأما المشبهة فإنهم حملوا كل شيء من هذا على حقيقة اسمه بظاهر معناه من غير تأويل له أو يخرج على وجه يصح على معاني أصول العلم وتعسفوا أيضًا في جهات مأخذها حتى جعلوا شيئاً كثيرًا مما تلقفوه من أفواه الناس وحفظوه من ألسن القصاص وسمعوه رواية عن قراءة الكتب مثل كعب(6/224)
ووهب وأمثالهما مثل نوف البكالي وعن بعض أهل التفسير كمقاتل بن سليمان وكأشياء تروى عن مجاهد ومن نحا نحوه من المقتحمين في هذا الباب أصلاً يعتقدونه دينًا ويتخذونه مذهبًا وهذا مما يجب التثبت فيه(6/225)
والتوقف عنه فإن هذا الشأن أعظم من أن يدخله شيء من التساهل أو يكون فيه للظن مدخل أو للتأويل موضع أو للعقل والقياس متعلق إنما طريق العلم به السماع أو التوقيف من قبل الكتاب المنزل أو قول الرسول المرسل بالخبر الصحيح الذي يقطع العذر به وقد أخبر الله أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فقطع الشبه بينه وبين الأشياء كلها وأبطل القياس فيها وقال سبحانه وتعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة 255] وقال وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء 36] وقال وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) [البقرة 169] فأما ما ثبت من الصفات بكتاب الله وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي ينقطع العذر به فإن القول به واجب لأن الله سبحانه وتعالى شهد لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله الصدق ونزهه عن الكذب فقال وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم 3-4] وقال جل وعلا عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا(6/226)
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) [الجن 26-27] قال والكلام فيها ينقسم إلى ثلاثة أقسام قسم منها يحقق ولا يتأول كالعلم والقدرة ونحوهما وقسم يتأول ولا يجري على ظاهره وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى من تقرب إلي شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وما أشبهه لا أعلم أحدًا من العلماء أجراه على ظاهره أو اقتضى منه أو احتج بمعناه بل كل منهم تأوله على القبول من الله تعالى لعبده وحسن الإقبال عليه والرضا بفعله ومضاعفة الجزاء له على صنيعه وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال سبحانه وعزتي لأقطعنّ من قطعك ولأصلن من وصلك(6/227)
ولا أعلم أحدًا من العلماء حمل الحقو على ظاهر مقتضى الاسم له في موضع اللغة وإنما معناه اللياذ والاعتصام به تمثيلاً له بفعل من اعتصم بحبل ذي عزة واستجار بذي ملكة وقدرة كما روي الكبرياء رداء الله قال وليس هذا الضرب في الحقيقة من أقسام الصفات ولكن ألفاظه متشاكلة لها في موضع الاسم فوجب تخريجه ليقع بع الفصل بين ما له حقيقة منها وبين ما لا حقيقة له من جملتها ومن هذا الباب قوله تعالى أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] لا أعلم أحدًا من علماء المسلمين إلا تأول الجنب في هذه الآية ولم أسمع أحدًا منهم أجراه على ظاهره أو اقتضى منه معنى الجنب الذي هو الذات وإنما تأولوه على القرب والتمكين وقال الفراء معنى الجنب معظم الشيء كما يقول الرجل(6/228)
لصاحبه هذا قليل في جنب ما أوجبه لك والقسم الثالث من الصفات يحمل على ظاهره ويجري بلفظه الذي جاء به من غير أن يقتضي له معرفة كيفية أو يشبه بمشبهات الجنس ومن غير أن يتأول فيعدل به عن الظاهر إلى ما يحتمله التأويل من وجه المجاز والاتساع وذلك كاليد والسمع والبصر والوجه ونحو ذلك فإنها ليست بجوارح ولا أعضاء ولا أجزاء ولكنها صفات الله عز وجل لا كيفية لها ولا تُتَأوَّل فيقال معنى اليد النعمة والقوة ومعنى السمع والبصر والعلم ومعنى الوجه الذات على ما ذهب إليه نفاة الصفات فإن قيل ما منعكم أن تجعلوا سبيل هذا الضرب من الصفات سبيل الضرب الأول في حملها على حقيقة مقتضى(6/229)
الاسم أو سبيل الضرب الثاني في حملها على سعة المجاز والتأويل وما الذي أوجب التفريق بينه وبينها وتعليق القول فيها على الوجه الذي ذكرتموه قيل منعهم من إجرائها على حقيقة مقتضى أسبابها في العرف أن ذلك يفضي بنا إلى التشبيه والتمثيل وهو منفي عن الله وأما حملها على الوجه الآخر فإن الكتاب قد منع منه لأنك إذا تأملت لفظه في الكتاب وجدته ممتنعًا على تأويل القوم غير مطاوع له ألا تراه يقول مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] بتشديد الياء في الإضافة وذلك تحقيق التثنية والعرب إنما تستعمل ذلك في موضع لا يجوز أن يكون وراءه ثالث كما يقول الرجل رد علي درْهَمي إذا لم يكن عندي غيرهما وكما قال سبحانه مخبرًا عن شعيب أنه قال لموسى عليه السلام أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ [القصص 27] إذ لم يكن له غيرهما وإذا تحققت التثنية لم(6/230)
يجز صرفها إلى النعمة ولا إلى القوة لأنه ليس تخصيص التثنية في نعم الله تعالى ولا في قوته معنى يصح لأن نعمه أكثر من أن تعد أو تحصى قال الله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم 34] فدل ذلك على تحقق خلق الله آدم عليه السلام بيديه اللتين هما صفتان له من صفات ذاته كما قال في تكذيب اليهود عند قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة 64] مستقصاً ذكر اللفظ الموضوع للتثنية فدل ذلك على تحقيق ما قلناه وأيضًا فإن معنى اليد لو كان النعمة والقوة لوجد إبليس متعلقًا من هذه الجهة لما امتنع من السجود لآدم عليه السلام فيقول وما في خلقك إياه بنعمتيك أو قوتيك مما يوجب علي أن أسجد له لقد خلقتني بنعمتيك وقوتيك وأنا مساوٍ له في خلقك إيانا جميعًا بيديك اللتين هما النعمة والقوة لأنه لا يخفى على أحد من ذوي العقول أن الله سبحانه خلق(6/231)
الأشياء بقوته وقدرته فلما لم يتعلق إبليس بهذه الحجة وأعرض عنها إلى قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) [ص 76] كان فيه أوضح دليل على أنه علم تخصيص الله لآدم عليه السلام في خلقه إياه بمعنى لم يشاركه إبليس ولا غيره من الملائكة فيه وليس لذلك التخصيص وجه غير ما بينه الله عز وجل في قوله تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] على ما نطق به التنزيل وشهد بصحته التأويل والله أعلم وأيضًا فإن نعم الله تعالى مخلوقة كآدم لا فرق بينهما في سمة الخلق فكيف يخبر عن خلق مخلوق بمخلوق وأي فائدة في ذلك إذا كان هكذا وأيضًا فإن الله عز وجل لا يوصف بالقوة عند نفاة الصفات فكيف يثبتون له في تأويل هذه الآية ومن مذهبهم أن القوة عن الله منتفية وقد زعم بعضهم أن معنى النعمتين هنا الماء والطين لأنه خلق آدم عليه السلام منهما وهذا تأويل ساقط لا معنى له ولو أراد ذلك لقال لما خلقت من(6/232)
يدي ولم يقل بيدي كما يقول القائل صنعت هذا الكوز من الفضة أو النحاس وطبعت هذا السيف من الحديد ونسجت هذا الثوب من الكتان ولا يقول في شيء من هذا بالباء لأن الباء حرف للإلصاق وحرف لتعدية الفعل قال وكذلك القول في الوجه والبصر وسائر الصفات التي تذكر في الباب وذلك أنه تعالى لما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) [الرحمن 27] فأضاف الوجه على الذات وفي حكم اللغة أن المضاف غير المضاف إليه وأن إعراب النعوت تابع لإعراب المنعوت فلو كان الوجه(6/233)
ههنا صلة ولم يكن صفة للذات لقال ذي الجلال والإكرام فيكون نعتًا للذات فلما رَفَع فقال ذو الجلال والإكرام علم أنه نعت للوجه وصفة للذات ولو كان معنى البصر العلم كما تأوله هؤلاء القوم لذهب فائدة قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] لأنه قد نفى عن خلقه شيئًا أثبته لنفسه دونهم وقد احتج القوم بهذه الآية في أن الله تعالى لا يُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة فلو كان معناه يعلم بالأبصار لم يكن بينه وبين خلقه في ذلك فرق لأنهم يعرفون الله ويعلمونه فما الذي أثبته لنفسه ونفاه عن خلقه إذاً إذا كانت الأبصار لا تراه ولا يراها نظرًا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات اليد والوجه والسمع والبصر مع ما جاء في الكتاب من ذكرها أحاديث كثيرة بأسانيد صحيحة والكتاب يطول باقتصاصها وهي مشهورة عند أهل العلم والعناية بهذا الشأن قال والأصل أن الخطاب في الكتاب والسنة وبيان الشريعة محمول على ما تعقله العرب وتستعمله في كلامها(6/234)
فإن الله تعالى لم يخاطبنا بما لا نعقله ولا نفهمه إلا أنا لا ننكر التأويل في بعض ما تدعو إليه الحاجة من الكلام والعدول عن ظاهر اللفظ وموضوعه لقيام دليل يوجبه أو ضرورة تلجئ إليه فأما أن يكون الظاهر المفهوم وهو الحجة والبيان بلا حجة ولا بيان فلا يجوز ذلك وكفانا أن ننفي الكيفية عن صفات الله تعالى فأما أن نبطل الصفات مع ورود التوقيف بها فلا يجوز ذلك في حق دين ولا دلالة علم وهذا الباب من نوع العلم الذي يلزمنا الإيمان بظاهره لوقوع الحجة به وقيام الدليل عليه من جهة التوقيف ولا يجوز لنا البحث عن باطنه والكشف عن علته كما لا يجوز لنا ذلك في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى بل يصح الإيمان والعلم به وبأنِيَّنِه من غير علم بالمائية التي(6/235)
هي سؤال عن التجنيس إذ لا جنس له سبحانه ولا بالكيفية التي هي سؤال عن الهيئة والصورة فإنه سبحانه واحد ليس بذي هيئة ولا صورة ولا بالكمية التي هي سؤال عن العدد فإنه سبحانه واحد ليس بذي عدد ولا كثرة ولا بالكمية التي هي سؤال عن برهان الشيء وعلته وتعالى الله عز وجل فإن الماهية والكيفية والكمية عن الله منفية ولهذا كان إعراض موسى عليه السلام في الجواب لما سأله فرعون حين قال له وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قال موسى عليه السلام رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) وذلك أنه لما أحال في سؤاله فسأله عن جنس ما لا جنس له ولا تحديد استجهله موسى عليه السلام فأضرب عن سؤاله فلم يجب عنه ثم أخبره عن قدرته وعظم ملكه وسلطانه بما يرد به من جهله فيما سأل عنه وانتظر الجواب فيه(6/236)
كما يقول الرجل العاقل للجاهل إذا سأل عن الباطل والمحال ليس لك عندي جواب إلا أن الذي أعرف وأجيب به كذا وقد أمرنا بالإيمان بملائكة الله تعالى وهم مخلوقون لله تحيط بهم الحدود وتصفهم الكيفية ثم إنا لا نعلم خواصهم ولا نقف على حقائق صفاتهم ولم يكن ذلك قادحًا في صحة العلم بكونهم والإيمان بهم وقد حجب عنا علم الروح ومعرفة كيفية العقل مع علمنا بأنه آلة التمييز وبه تدرك المعارف وهذه كلها مخلوقات لله عز وجل فما ظنك بصفات رب العزة سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] فإن قيل أما هذه الأمور فإنما جاز أن يطوى عنا علمها لأنك لم تجد عليها دلالة من حس ولا في كيفيتها بيانًا من نص ولا رأيتَ لها مثالاً من نظير وشكل واليد والسمع والبصر والوجه معلومة بأسمائها ونظائرها موجودة بخواص صفاتها قيل هذا ظلم في المعارضة وجور في حق المطالبة وذلك أن اليد والسمع والبصر إنما كانت جوارح لذات هو جسم عريض عميق فلما كان الذات الذي به قيام هذه الصفات معلوم الكيفية كانت صفاته كذلك فأما إذا كانت هذه(6/237)
الأسماء صفة للذات المتحاشي عن هذه النعوت المنزهة عما جرى الأمر عن النزاهة والبعد عن التحديد والتكييف حصل العلم بظاهرها من طريق التوقيف حسب ولا حول ولا قوة إلا بالله قيل هذا الذي ذكره الخطابي ذكره بمبلغ علمه حيث لم يبلغه في حديث الرحم عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت والخطابي له مرتبة في العلم معروفة ومرتبة أئمة الدين المتبوعين فوق طبقة الخطابي ونحوه وهذه الطريقة التي سلكها في تقسيم الأحاديث إلى الأقسام الثلاثة وما ذكر في الصفات الخبرية هي تشبه طريقة أبي(6/238)
محمد بن كُلاَّب وهي طريقة طوائف كثيرة ممن يقول بالكلام والحديث وغير ذلك وهي طريقة الشعري نَفسِه والبيهقي في آخر أمره وطريقة ابن عقيل في آخر(6/239)
أمره وجمهور أئمة الحديث وأئمة الفقهاء وأئمة الصوفية طريقهم أكمل من ذلك وأتبع للسنة كما قد بين في مواضع وأما ما ذكره الخطابي من الحاجة إلى تأويل بعض النصوص وكذلك يقول القاضي أبو يعلى وأمثاله فهؤلاء وإن قالوا بذلك فالقاضي قد بين أن التأويل يكون لدلالة نص آخر على خلاف ظاهر النص المؤول والخطابي قد ذكر أن التأويل يكون لدلالة أو ضرورة ومعنى الضرورة أن العلم بالضرورة نفي الظاهر وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن العموم ونحوه من الظواهر إذا علم بالحس أو الضرورة أنه انتفاءُ ظاهرها ففي تسمية ذلك تخصيصًا وصرفًا ونزاع بين الناس لأن ذلك يجري مجرى القرائن المتصلة وهؤلاء المثبتون للصفات التي يسمونها الصفات الخبرية(6/240)
كاليد والوجه بينهم نزاع في أصلين أحدهما فيما ثبت من ذلك هل هو ما جاء به القرآن أو ما يوافقه من الأخبار أو ما جاء به القرآن والأخبار المتواترة أو ما جاءت به الأخبار الصحيحة أيضًا أو ما جاءت به الأخبار الحسان أو ما جاءت به الآثار ويعنون بإثباتها أنه ليس القول بها ممتنعًا على نزاع لهم في ذلك والأصل الثاني هل إثبات معاني هذه النصوص على الوجه الذي ذكره الخطابي وهو الذي يقوله ابن كلاب والأشعري وكثير من طوائف أتباع الأئمة ويقوله القاضي أبو يعلى وغيره في كثير من الأحاديث أو أكثرها أو على وجوه أخرى لهم في ذلك أيضًا نزاع وليس هذا موضع تفصيل مقالاتهم ولكن نبهنا على أصله(6/241)
فصل قال الرازي السادس قال صلى الله عليه وسلم إن المسجد لينزوي من النخامة كما ينزوي الجلد من النار(6/242)
ولابد من التأويل(6/243)
فصل قال الرازي السابع قال صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وهذا لابد فيه من التأويل لأنَّا نعلم بالضرورة أنه ليس في صدورنا إصبعان بينهما قلوبنا قلت هذا الحديث في الصحيح والكلام عليه من وجوه أحدها أنه ليس ظاهر هذا الحديث أن أصابع الرب في صدور العباد إنما أخبر أن قلوبهم بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء لم يقل إن الأصابع في صدورهم ولا قال إن قلوبهم معلقة بالأصبع أو متصلة بها بل قال إنها بين أصبعين وكون أن الشيء بين شيئين ليس ظاهره أنه مماس لهما كما في قوله عن الجنة والنار وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [الأعراف 46] وكما في قوله تعالى يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف 38](6/244)
الوجه الثاني أنه لو فرض أنه أخبر عن شيء من الغيب بأنه في قلوب العباد لم يكن ما ذكر من الضرورة مانعة من ذلك لأن الضرورة تمنع أن تكون الأشياء التي نشاهدها في قلوبنا ونحن لا نشاهد كذلك أما إذا أخبرنا بأن الملائكة تنزل على قلوبنا أو الشياطين تنزل أو أن على أفواهنا ملائكة تكتب كلامًا ونحو ذلك من الأمور الغائبة التي ليست من جنس المشاهدات لنا فإذا أخبرنا بوجودها لم نعلم بالضرورة انتفاء ذلك فقول القائل نعلم بالضرورة أنه ليس في صدورنا أصبعان بينهما قلوبنا يقال له المعلوم بالضرورة أن الأصابع التي شهدناها مثل أصابع الآدميين ليست في صدورنا أما لو أخْبِرنا أن أصابع الملائكة أو الجن في صدورنا لم نعلم انتفاء ذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مولود إلاّ يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه(6/245)
إلا مريم وابنها ثم قرأ أبو هريرة وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) [آل عمران 36] وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خياشيمه وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال إن الشيطان يعقد على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد يضرب(6/246)
مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد مع أنا لا نشهد هذا المس لجسم المولود ولا هذا المبيت على الخياشيم ولا العقد ولا نحو ذلك وظهر أن هذا الحديث لو كان ما ادعاه لم يكن ذلك معلوم الانتفاء بما ادعاه من الضرورة الوجه الثالث إنَّ سنبين فساد ما ذكروه من التأويل في(6/247)
ذلك وإبطال السلف له(6/248)
فصل قال الرازي الثامن قال صلى الله عليه وسلم حكايةً عن الله أنا عند المنكسرة قلوبهم وليست هذه العندية إلا بالرحمة وأيضًا قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى في صفة الأولياء فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ومن المعلوم بالضرورة أن القوة الباصرة التي بها يرى الأشياء ليست هي الله تعالى(6/249)
والكلام على هذا من وجوه أما قوله أنا عند المنكسرة قلوبهم فهذا قد روي في كتاب الزهد للإمام أحمد عن عمران القصير أن موسى عليه السلام قال يا رب أين أجدك قال عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقترب إليها كل يوم شبرًا ولولا ذلك لاحترقت وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى عبدي مرضت فلم تعدني فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده عبدي جعت فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي(6/250)
فلانًا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي ففي هذا الحديث ثبت هذا القول وهو قوله فلو عدته لوجدتني عنده لكن لفظ المنقول أن الله يوجد عند بعض المرضى وعند المنكسرة قلوبهم لم يقل أنا عند المنكسرة قلوبهم بل قال لوجدتني هناك وأين أجدك قال هناك والكلام عليه من وجوه أحدها أنه ليس هذا ظاهر هذا الحديث أن الله نزل من فوق العرش وانتقل إلى عند هؤلاء ولا ظاهره أن جميع الوجود خال عن الله إلا هذا الظرف الخاص ولا يفهم من إطلاق هذا الحديث هذا المعنى بل هذا المعنى المعلوم فساده بالضرورة والحس يَعْلَمُ أنه ليس ظاهر الحديث كل من يعلم هذا فلو كان ظاهر اللفظ في اللغة لو تجرد هذا لدل على ذلك المعنى الفاسد لكان مع اقترانه بهذا العلم الظاهر الحسي الضروري تسمية ذلك المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ نزاعًا وكذلك في تسمية مثل ذلك لفظًا ومن منع ذلك قال هذه(6/251)
القرينة الظاهرة للمخاطبين المعلومة بالبديهة والحس العام هي من القرائن المتصلة بالخطاب وهي أبلغ من القرائن اللفظية المتصلة فإذا كانت القرائن اللفظية المتصلة تمنع أن يكون ظاهر الخطاب هم معناه لو عدمت الصلات اللفظية فهذا كذلك وأولى ومن المعلوم أن الخطاب الذي اتصل به استثناء أو شرط أو صفة ليس ظاهره ما يدل عليه بدون ذلك الاستثناء والشرط والصفة فكذلك هذه القرينة فإن دلالة الخطاب لابد فيها من علم المخاطَب بالمخاطِب وحاله وباللغة التي يخاطبه بها وإذا كان كذلك كان هذا العلم هو(6/252)
الدال على مدلول الخطاب فظاهر الخطاب ما يظهر بهذا العلم الوجه الثاني أن الألفاظ التي يسميها النحاة ظروفًا يتنوع تعلقها بمعاني الأسماء والأفعال التي يسميها النحاة مظروفة بحسب حقائق تلك المظروفات وهذا الموضع من لم يهتد لهذا التنوع فيه وإلاَّ ضل كما ضل كثير من الناس حتى وجدوا ما يسميه أهل اللغة ظروفًا وأوعية من شأنه ألا يكون هو المظروف الموعى فيه كالمائعات في الآنية وكالجامدات فيما يحيط بها من الملابس والمساكن وغير ذلك ورأوا النحاةَ يسمون ألفاظًا ظروفًا فاعتقدوا أن معنى هذه في اللغة أن تكون محيطة بالمظروف حاوية له كما يحيط ظرف اللبن والخمر والماء بذلك ويقول أحدهم في للظرفية فالظرف يكون حاويًا للمظروف وهذا غلط فإن العرب لم يقولوا في للظرفية حتى يجعل معنى أحد اللفظين في كلامهم هو معنى الآخر لأن الأصل عدم الاشتراك بل نطقوا بهذه(6/253)
الأدوات في مواضعها مستوفين لتعلقها بما تعلقت به بحسب تلك الحقائق وإن كان يكون بين تلك المعاني قدر مشترك لكن ذلك القدر المشترك مطلق لا وجود له في الخارج بل الذهن يجرده إذ هم لم يتكلموا بهذه الأدوات مطلقة قط ثم إن النحاة رأوا ذلك المعنى المشترك فيه نوع مشابهة لما تسميه العرب من الأجسام ظرفًا فسموه ظرفًا حقيقة عرفية خاصة اصطلاحية ليست هي اللغة التي تكلم بها العرب وجاء بها القرآن والحديث وهكذا سائر اصطلاحهم مثل الفاعل والمفعول والحال والصفة والتمييز والمعرب والمبني والمبتدأ والخبر ونحو ذلك فإن العرب لا تفرق بين الجملة الإسمية والفعلية في تسمية كل منهما خبرًا صادقًا أو كاذبًا ولا يسمى المفرد الذي لا يستقل بالإفادة خبرًا فتسمية المفرد الذي هو أحد ركني الجملة خبرًا وتخصيص ذلك بالجملة الإسمية دون الفعلية بل تخصيص ذلك بالجزء الثاني منها دون الأول هذا لفظ النحاة واصطلاحهم وإن كان بينه(6/254)
وبين اللغة الأصلية نوع تعلق يجعله بالنسبة إليه مجازاً كما سمع بعض الأعراب قومًا من النحاة يتحدثون باصطلاحهم فقال قوم يتكلمون في كلامنا بغير كلامنا ليصلحوا به كلامنا وكذلك اسم الفاعل هو الاسم الذي اسند إليه الفعل ونحوه متقدمًا عليه مثل قام زيد وأقام زيد ونحو ذلك ولا يسمون الاسم الظاهر في قولك زيد قائم فاعلاً بل مبتدأ ومن المعلوم أن لفظ الفاعل ليس لمسماه في اللغة لفظ ولا يختص إذا جعل اسمًا لاسم الفاعل عن قديم أو آخر بل هذا اصطلاح احتاجوا إليه لبيان قوانين اللغة العربية في نحوها وتصريفها وهو من أنفع الأشياء في معرفة الأدلة السمعية واللغة العربية لكن ينبغي أن يعرف اصطلاح اللغات ليحمل كلام كل متكلم على لغته وعادته ومثال ذلك في الأدوات التي يسميها النحاة ظروفًا أنهم يقولون رأيت فلانًا في داره ويقولون رأيت فلانًا في المرآة أو الماء ويقولون رأيت فلانًا في المنام فلفظ في التي يسميها النحاة ظرف مكان موجود في المواضع الثلاثة مع العلم بأنه ليس المعنى الظاهر ولا حقيقة اللفظ في قولهم في البيت مثل قولهم في المرآة(6/255)
ولا مثل قولهم في المنام وكل من الألفاظ الثلاثة حقيقة في معناه وقوله رأيته في المرآة حقيقة ومعنى ظاهر لا مجاز ولا خلاف الظاهر وكذلك قوله رأيته في المنام معناه ظاهر وهو أيضًا حقيقة هذا اللفظ مع العلم بأن ظاهر اللفظ الأول أن ذاته قد كانت في داره وليس ظاهر اللفظين الآخرين أن ذاته كانت في المرآة ولا في نفس الرائي ومع العلم بأن كونه مرئيًّا في المرآة ووجوده في المرآة ليس مساويًا لكونه مرئيًّا في المنام ولا لوجوده في نفس الرائي وذلك لاختلاف حقائق المَحَال وتعلق الحال بها التي هي معاني اللفظ لظرف فليس الدار كالمرآة ولا المرآة كنفس الرائي ولا وجود زيد في الدار كوجوده في المرآة أو في نفس الرائي إذا عرف هذا فلفظ عند هي من الألفاظ التي يسميها النحاة ظرف مكان فتتنوع دلالتها بتنوع معنى الاسم أو الفعل الذي يسمونه مظروفًا ويتنوع أيضًا بتنوع ما يضاف(6/256)
إليه من الظرف وهي في نفسها اسم ليست حرفًا بخلاف في فإنها حرف وإذا كان كذلك فهم يقولون ويستعملون ذلك في بعض الأعيان القائمة بنفسها كقولهم فلان أو المال عند فلان كما في مثل قوله تعالى وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) [الصافات 48] وقوله أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) [الطور 37] ومن هذا قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) [القمر 54-55] وقوله إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) [الأعراف 206] وقوله وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) [الأنبياء 19] وقوله فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) [فصلت 38] وقوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف 42] أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ [النجم 35] ويستعملون ذلك أيضًا فيما يقوم بغيره من الصفات والأفعال كقوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف 42] وقوله أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) [النجم 35] وقوله أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) [الطور 41] ومعلوم أن الذي عنده هو قائم بنفسه وكذلك الذكر(6/257)
الذي عند الملك قائم بالذاكر وهذه الألفاظ على ظاهرها وهي حقيقة كالأولى بل النحاة يقولون إن الظرف لا يتعلق في نفس الأمر إلا بفعل مذكور أو محذوف فإذا علق بالأعيان أو الصفات في خبر المبتدأ أو الصفة أو الحال كان العامل فيه فعلاً عامًا أو اسم فاعل عام فإذا قيل زيد في البيت كان التقدير استقر أو مستقر في البيت أو كان أو حصل أو وجد أو كائن أو حاصل ونحو ذلك ويقولون إن ذكر عامل الظرف في خبر المبتدأ شريعة منسوخة ومحققوهم يقولون لم يكن هذا شريعة قط فإن الناطقين باللغة لم ينطقوا بهذا قط وإنما هو موجب بالقياس لكن عدل عن ذكره لوضوح المعنى بدونه وعدم الحاجة إليه فإن مقصودهم بذلك طرد القياس في أن الظرف إنما ينتصب بفعل مذكور أو مقدر ومن الناس من تنازع في ذلك وفي هذا من البحوث ما ليس هذا موضعه ويقولون أيضًا فلان عند فلان عالم أو عدل أو مسلم وهذا عنده جائز أو محرم وهذا عنده محبوب أو مكروه وعظيم أو حقير ونحو ذلك ومنه قوله تعالى عن(6/258)
جبريل إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) [التكوير 19-21] وقوله وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) [ص 47] وهذا نظير كون العلم عند العالم فإن الذي عنده من قبل ما في نفسه من الاعتقاد والإرادة وما يتبع ذلك فإذا اعتقد أنه عالم أو عدل كان عند محبته وتعظيمه وكذلك بالعكس ومعلوم أن ذلك إنما صار ظرفًا لفظيًّا لأن المعلوم المحبوب والمعظم لابد أن ترتسم صورته في النفس فيقال فلان عالم عندي فيجعل الظرف ظرفًا للجملة وهي الاسمان والمعنى ظاهر معروف أن المظروف إنما هو اعتقاد علمه لا نفس ذاته ولا نفس علمه وذلك(6/259)
لأن الخبر بقوله عالم أفاد ثبوت علمه بذكر الظرف بعد ذلك أي هذا الثبوت وهذه النسبة التي دل عليها اللفظ هي عندي في نفسي وأما كونها في الخارج فذلك مقام آخر وكذلك إذا قيل إنه محبوب أو معظم عندي فإن التقييد بالظرف دل على أن هذه المحبة وهذه العظمة في نفسه فإذا كان معنى الجملة يقوم بالنفس وذلك مسبوق بقيام مفرديها فمعنى المفرد أيضًا يقوم بالنفس فيقال فلان لا يزال عندي أي في نفسي فهو مثاله وصورته العلمية ويحصل الفرق بين كون المظروف ذاته في الخارج أو المظروف صورته علمًا وحبًّا ونحو ذلك في النفس بحسب الظرف والمظروف فإذا كان الخطاب عن ميت أو غائب مثل أن يقول القائل إذا اجتمع بمن كان غائباً عنه والله ما زلت عندنا كان ظاهر هذا اللفظ ما زلنا نستحضرك بقلوبنا ونذكرك بألسنتنا ونحو ذلك وقد يقال في مثل ذلك ما زلت معنا إذا كانوا(6/260)
مستحضرين له ذاكرين له وإن لم يشعر هو بذلك ويقال فلان ما عنده إلا الله ورسوله ثم من المعلوم أن العلم والذكر والمحبة والتعظيم قد يكون من الطرفين فمن كان زيد عنده معلوماً مذكورًا محبوبًا معظمًا فإنه قد يكون عند زيد كذلك وهذا ثابت في حق الله تعالى كما جاء في الأثر إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله في قلبه فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه وقد قال تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ومن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وقال لايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه لأن النوافل(6/261)
محاب الحق تعالى فإذا كان الله تعالى محبوبًا معظمًا مذكورًا عند عبده وكان العبد متقربًا إليه كان العبد محبوبًا معظمًا مذكورًا عند الرب متقربًا إليه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من أعظم ما يكون العبد متقربًا إلى ربه إذا ذل له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وربه في هذه الحال عنده في قلبه في غاية الإجلال والإكرام وقد تقرب إلى ربه بنهاية تقربه فربه أيضًا يتقرب إليه ويجله ويكرمه فمن انكسر قلبه لله فإنه متواضع خاشع لله سواء كان هو قد شهد من عظمة الحق ما أوجب انكسار قلبه أو كان أعداء الله قد آذوه وكسروا قلبه لأجل عبادته وطاعته لله فالأول كالمصلي والثاني كالمجاهد فهذا يكون متقربًا إلى الله تعالى بغاية التقرب فيتقرب الله إليه أيضًا كذلك فيكون الله عنده في قلبه وهذا على ثلاث درجات(6/262)
أما الدرجة الأولى فهو وجود الرب عنده في قلبه معلومًا معبودًا محبوبًا معظمًا وهذا مما لا ينازع فيه الثانية صعود قلبه إلى الله وعروجه إليه ودنوه منه بحيث يقرب نفس الظرف إلى المظروف حتى يحصل من كون الله نفسه عنده ما ليس لغيره وهذا متفق عليه بين أهل الإثبات والجهمية تنازع فيه ويلزم من قربه هو من الله ودنوه منه قرب الرب منه ودنوه منه فإن ما قربت إليه فقد قرب إليك بالضرورة الثالثة أن يكون الرب نفسه تقرب إليه تقرب من نفسه ودنو من نفسه غير ما جعله فيه من التقرب فهذا أيضًا ثابت عند كثير من أهل الإثبات أو أكثرهم ومنهم من(6/263)
ينازع فيه وهذا مبسوط في مسألة القرب وعلى هذا التقدير فإن الرب نفسه يكون عند عبده خارجًا عما في نفس العبد وقد قال من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وقال أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقرب إليها كل يوم شبرًا ولولا ذلك لاحترقت وهو يخرج على القولين فالأولون يقولون إن الرب يتقرب إلى عبده بنفسه غير ما يوفق العبد له من تقربه إلى ربه وهؤلاء يقولون بل هو إذا تقرب إلى ربه أثابه بما يوفقه له(6/264)
من تقرب آخر يكون الرب متقربًا إليه أكثر مما يقرب إليه وهؤلاء يمنعون أن يكون الله موصوفًا بذاته بحركة أو تقرب أو نحو ذلك والأولون لا يمنعون ذلك وقد بسطنا الكلام على هذا في الأجوبة المصرية وغير ذلك والمقصود هنا أن قوله لو عدته لوجدتني عنده وقوله أين أجدك قال عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقرب إليها كل يوم شبرًا ولولا ذلك لاحترقت ليس ظاهره أن ذات الله تكون موجودة في المكان الذي يكون ذلك فيه بل يكون الله موجودًا عنده أي في نفسه إذ هذه العندية أقرب إليه من تلك العندية فإن الظرف المتصل بالإنسان أقرب إليه من الظرف المنفصل عنه فحمل الكلام عليه أولى وإذا كان الظرف هو نفسه فقوله وجدتني عنده كقوله وجدتني في قلبه ووجدتني في نفسه ووجدتني حاضرًا في قلبه ووجدتني ثابتًا في قلبه ونحو ذلك من العبارات(6/265)
ومعلوم أن هذا الخطاب حق على ظاهره كما تقدم من ثبوت تعلقات الظرف بالمظروف وإن ذلك ليس بمنزلة قوله كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) [النور 39] بل باقتران ما أضيف إليه الظرف في الموضعين اقترن تعلقه بالمظروف كما لو قيل لبعض الصحابة وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أحد وقال الآخر وجدت رسول الله عند المتبعين لسنته لاسيما وقد علم المخاطب أنه يمتنع أن يشاهد الموجود عند غيره فقد علم المخاطب بقوله لو عدته لوجدتني عنده وعلم موسى بن عمران أنهم لا يشهدون الله عيانًا في الدنيا فلا يظهر لهم من قوله لوجدتني عند عبدي المريض وعند المنكسرة قلوبهم من أجلي إلاَّ ما هو المناسب اللائق بهذا المضاف إليه دون المضاف إلى غيره وأما قوله صلى الله عليه وسلم كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به فلو ذكر الحديث بألفاظه لعلم أن معناه ظاهر لا يحتاج(6/266)
إلى تأويل فإنه قال من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبس يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة فقوله من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة تصريح منه بالفرق والجمع حيث جعل معاداة وليه معاداة له ولم يجعل نفسه ذات وليه ثم قال وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه فقد بين وأظهر أن المتقرب إليه عبده والمتقرب ليس المتقرب إليه(6/267)
وقال لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه وهذا كله إظهار وبيان لأن الله تعالى ليس هو عين العبد وأعضائه وقواه ثم قال فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه فقد بين واظهر بعد قوله كنت سمعه وبصره وقوله فبي يسمع وبي يبصر أنه لئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ومن المعلوم أن هذا صريه في أن السائل المستعيذ ليس هو المستعاذ به ثم قال وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نقس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته وهذا تصريح بأنه عبده ليس الرب جزءاً منه ولا صفة له وأنه يقبض ويموت ومعلوم أن الله حي لا يموت فضلاً عن أن يكون بعضًا أو صفة لمن يموت فإنه لو كان ظاهره أن الله نفسه هو عين العبد وسمعه ويده ورجله لكانت هذه الأعضاء تموت بموت الجملة(6/268)
وهذا كله يبين أنه ليس ظاهر الحديث أن الله هو القوة الباصرة بل ظاهره ما ظهر منه وما بينه الرسول الذي هو من أحسن الألفاظ وأحسنها بيانًا وإظهارًا إذ لا يكون أحد غير الرسول أحسن بيانًا وإظهاراً لما يخبره به عن ربه من الرسول وقد نزهه الله أن يكون ظاهر كلامه كفرًا وضلالاً وإفكًا ومحالاً ولا يكون هو قد جعل هذا الظاهر غير ظاهر وقذف بالحق على الباطل حتى يظهر الحق ويخفى الباطل كيف وقد تكفل الرب بإظهار دينه على الدين كله بظهور العلم والحجة وظهور القدرة والنصرة وأخبر أنه أرسله بالهدى ودين الحق فكيف يكون كلامه مضلاًّ إذا كان ظاهره الضلال ولم يبين ذلك(6/269)
فصل قال الرازي الوجه التاسع قال صلى الله عليه وسلم الكبرياء ردائي والعظمة إزاري والعاقل لا يثبت لله تعالى إزارًا ورداء فيقال هذا الحديث في الصحيح رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدًا منهما عذبته وقد ورد أيضًا سبحان من تقمص بالعز ولاق(6/270)
به وليس ظاهر هذا الحديث أن لله إزارًا ورداء من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس مما يصنع من جلود الأنعام والثياب كالقطن والكتان بل الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد فإنه لو قال عن بعض العباد إن العظمة إزاره والكبرياء رداؤه لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء اللذين ليسا من جنس ما على ظهور الأنعام ولا من جنس الثياب ما يبين ويظهر أنه ليس المعنى أن العظمة والكبرياء هما إزار ورداء بهذا المعنى فإذا كان المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق بذلك لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك ويبين المعنى الحق فكيف يدعي أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله تعالى الذي يعلم كل مخاطب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر عنه بلبس الأكسية وثياب القطن والكتان التي يحتاج إليها لدفع الحر وابرد وستر العورة وهذا أقبح ممن يزعم أن قوله إن خالدًا(6/271)
سيق من سيوف الله سلًَّه الله على المشركين أن ظاهره أن خالدًا من حديد وأقبح ممن يزعم أن قوله عن الفرس إن وجدناه لبحرًا ظاهره أن الفرس ماء كثير ونظائر هذا كثيرة وإذا كان هذا المعنى الفاسد ليس ظاهر الحديث بل نص الحديث الذي هو أبلغ من مجرد الظاهر ينافيه كان ما ذكره باطلاً يبقى أن يقال فالتعبير عن هاتين الصفتين بإضافة الرداء والإزار إليه فهذا لا يحتاج إليه في رد ما قال لكن فيه زيادة الفائدة وقد قال الخطابي وغيره إن المعنى أني مختص بهاتين الصفتين كاختصاص المؤتزر المرتدي بإزاره وردائه فلا يصلح أن أنازع فيهما وهذا كلام مجمل وبسط ذلك يحتاج إلى أن يعرف أن جنس اللباس في كل ما يضاف بحبسه فبنو آدم يذكر لهم(6/272)
اللباس الذي على أبدانهم الذي يقيهم الحر والبرد والسلاح ويستر عوراتهم وهو المذكور في قوله تعالى قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ [الأعراف 26] ثم الصفات التي تقوم بالإنسان التي هي لباس له بها يكون من المتقين كما قال وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف 26] وليس قوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى مما يقال فيه أنه خلاف الظاهر فيحتاج إلى تأويل فإنه لم يجرد لفظ اللباس بل أضافه إلى التقوى وهذا قد يعم اللباس الظاهر الذي يتقى به والأخلاق والأعمال الصالحة ولهذا تجعل هذه الصفات ظرفًا للموصوف كما قد يجعل هو محلا لها فيقال فلان في علمه وحكمه وصدقه وعدله من خيار الناس ولباس الإنسان منه ما لا يصلح مشاركة غيره فيه كالإزار والرداء والسراويل ونحو ذلك بل مشاركة الإنسان فيه(6/273)
يوجب له من النقص والضرر ما يدعوه على أن يمنع طالب الشركة في ذلك والكبرياء والعظمة لا تصلح إلا لله رب العالمين الرب الخالق الباري الغني الصمد القيوم دون العبد المخلوق الفقير المحتاج والكبرياء فوق العظمة كما جعل ذلك رداء وهذا إزارًا ولهذا كان المشروع في العبادات الله أكبر دون الله أعظم وذلك في الصلاة والأذان والأعياد والمناسك وعلى الأشراف حتى لو قال المؤذن الله أعظم أو الله الكبير أو الله الأكبر لكان قد بدل شريعة الإسلام عند جميع المسلمين وكان ذلك مما ينكره المسلمون كلهم وكذلك إمام الصلاة لو جعل يقول الله أعظم بدل الله أكبر أو قال الله الكبير أو قال الله الأكبر لكان المسلمون يتبادرون إلى إنكار ذلك ومن جوز من الفقهاء ذلك فهو قول يقوله فلو ظهر ذلك إلى(6/274)
العمل وشاع بين المسلمين كان هو من أعظم الناس إنكارًا لذلك لكن بين تقدير العمل وبين وقوعه في الخارج فروق عظيمة وهما مع أنهما لا يصلحان إلا لله فيمتنع وجود ذاته بدونهما بحيث لو قدر عدم ذلك للزم تقدير المحذور الممتنع من النقص والعيب في ذات الله فكان وجودهما من لوازم ذاته وكمالها التي لا ينبغي أن تعرى الذات وتجرد عنها كما أن العبد لو تجرد عن اللباس لحصل له من النقص والعيب بحسب حاله ما يوجب أن يحصل له لباسًا وأيضًا فاللباس يحجب الغير عن المشاهدة لبواطن اللابس وملامستها وكبرياء الله وعظمته تمنع العباد من إدراك البصر له ونحو ذلك كما في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جنات الفردوس أربع(6/275)
ثنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وثنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاَّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فهذا الرداء الحاجب الذي قد يكشفه لهم فينظرون إليه سماه(6/276)
رداء الكبرياء فكيف ما يمنع من إدراكه وإحاطته أليس هو أحق بأن يكون من صفة الكبرياء(6/277)
فصل قال الرازي العاشر قال صلى الله عليه وسلم لأبي ابن كعب يا أبا المنذر أية آية في كتاب الله تعالى أعظم قال فتردد فيه مرتين ثم قال في الثالثة آية الكرسي فضرب بيده صلى الله عليه وسلم على صدره قال أصبت والذي نفسي بيده إن لها لسانًا يقدس الله عند العرش ولابد فيه من التأويل قال فثبت بكل ما ذكرناه أن المصير إلى التأويل أمر(6/278)
لابد منه لكل عاقل وعند هذا قال المتكلمون لما ثبت بالدليل أن الله منزه عن الجهة والجسمية وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحًا لئلا يكون ذلك سببًا للطعن فيها فهذا تمام القول في المقدمة وبالله التوفيق والكلام على هذا من وجوه أحدها أن لفظ الحديث الذي ذكر عن أبي رضي الله عنه على ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن رباح عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله أعظم قال قلت اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قال فضرب في صدري وقال ليهنك العلم(6/279)
يا أبا المنذر وهكذا رواه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده زاد أبو مسعود الدمشقي صاحب أطراف البخاري ومسلم والذي نفسي بيده إن لهذه الآية لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش لكن هذه الزيادة ليست موجودة فيما بأيدي الناس من صحيح مسلم(6/280)
لكن رواها الإمام أحمد عن أبي بكر بن أبي شيبة ورواها ابن أبي شيبة في مصنفه ذكر هذا عبد الحق في الجمع بين الصحيحين(6/281)
والقول في ذلك كالقول فيما تقدم من مجيء القرآن والأعمال الصالحة كما تقدم بيانه ونظير ذلك ما ورد من أن للكلم الطيب حول العرش دويًّا كما ورد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إن لها دويًّا حول العرش تذكر بصاحبها وما يشبه هذا ما روي عن عبد الله بن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد(6/282)
أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال الترمذي حديث حسن فمعلوم أنه ليس المعنى الظاهر من هذا الباب أن نفس العمل أو القول الذي يقوم بالقائل والقائل هو نفس شجر الجنة ولكن يظهر منه أن هذا الكلام يصير منه شجر في الجنة فيغرسه الله غراسًا في الجنة كلما تكلم العبد بهذه الكلمات غرس له غراس هذا هو المعنى الذي يظهر منه سواء كان الله تعالى يصور نفس هذا العمل ذلك الغراس كما يصور(6/283)
من الحب ونوى شجرًا ومن المني حيوانًا أو كان بذلك العمل يخلق شجرًا وإن لم يكن من نفسه الوجه الثاني قوله فثبت بكل ما ذكرنا أن المصير إلى التأويل أمر لابد منه لكل عاقل يقال قد ذكر تسعة عشر وجهًا على عدد خزنة جهنم وليس فيها ما يوجب التأويل الذي يدعي نظيره وهو وجوب صرف الخطاب عن معناه الذي يظهر للمستمعين إلى ما ينافي ذلك الوجه الثالث أن التأويل الذي هو صرف الخطاب عن ظاهره الذي يظهر للمخاطبين إلى خلاف ظاهره لدليل شرعي يبين ذلك قد لا ينازعونه فيه فإن كلام الله وكلام رسوله(6/284)
يبين بعضه بعضًا وإنما ينازعونه في وجوب هذا الصرف لما يعتقد الإنسان من معقوله وهذا لم يذكر له حجة وما يعرف معناه ببديهة العقل والحس أن المتكلم لم يقصده ليس هو من هذا الباب في أحد القولين كما تقدم وهذا المؤسس قد قرر ضد ذلك فإنه قرر كما سيأتي حكايته وجوب صرف الكتاب والسنة لما سماه أدلة عقلية وقرر أنه لا يجب صرف ذلك لدليل من الكتاب والسنة فكان الذي قرره نقيض ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها وهو مخالف أيضًا لما عليه أكثر المتكلمين وأكثر الجهمية فإنهم يوجبون التأويل لمعارضة الدليل الشرعي الواضح أيضًا وسنتكلم إن شاء الله على ما قاله الوجه الرابع أن يقال سلَّمنا أنه يجب التأويل عند مخالفة الحس والعقليات الضرورية كما يخص العموم بذلك عند من يسمي ذلك تخصيصًا في مثل قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل 23] وتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف 25] ونحو(6/285)
ذلك فلٍمَ قلت إنه يجوز أو يجب التأويل عند مخالفة النظريات العقلية والفرق بينهما من وجوه أحدها أن ما يعلم بالحس والبديهة يكون علمه حاصلاً عند المستمعين وبيانه مقارنًا لخطاب المتكلم أو سابقًا عليه أو لاحقًا له قريبًا ومعلوم أن الخطاب لا يكون إلاَّ لمن معه من العلم ما يدله على معنى الخطاب بحيث يكون عالمًا بالمتكلم ولغته وغير ذلك وإذا كان كذلك كان وجود العلوم الضرورية والحسية عند المخاطبين مما لابد منه في صحة كونهم مخاطبين فيكون ذلك من أسباب معرفتهم بمعنى الخطاب ويكون الخطاب على هذا الوجه هدى وبيانًا وشفاء ولا يكون إضلالاً ولا تلبيسًا أما النظريات التي لا تعرف إلا بدقيق النظر وطويله ويقع فيها النزاع فإذا خوطبوا بما ظاهره الكفر والضلال ولم يتبين لهم المعنى المراد ولا يعرفونه إلا بمثل هذه الوجوه إن عرفوه كان هذا إضلالاً وتلبيسًا بل كان عدم الخطاب أنفع وأهدى لهم إذ كانوا بدون الخطاب يعرفون الحق بهذه النظريات من غير معارض وإذا خوطبوا بما يعارض هذه العلوم(6/286)
كان قد أظهر لهم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والأمر باعتقاد الباطل من غير بيان الوجه الثاني أن العلوم الحسية والبديهية تكون مقارنة للخطاب فتمنع عن فهم الباطل ابتداء بخلاف هذه النظريات الوجه الثالث أن مثل هذه العلوم لا يقع فيها نزاع واختلاف فلا يفضي ذلك إلى ما نهوا عنه من التفرق والاختلاف بخلاف النظريات الدقيقة المشتبهة الوجه الخامس أن يقال لا خلاف بين المسلمين بل بين العقلاء أن التأويل حيث ساغ سواء كان في كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام غير الله ورسوله إنما فائدته الاستدلال على مراد المتكلم ومقصوده ليس التأويل السائغ أن ينشئ الإنسان معاني لذلك اللفظ أو يحمله على معاني سائغة(6/287)
لم يقصدها المتكلم بل هذا من أبطل الباطل وأعظمه امتناعًا وقبحًا باتفاق العقلاء وهو الذي يقع فيه هؤلاء المتأولون المحرفون كثيرًا وبذلك أشعر لفظه حيث قال فعند ذلك قال المتكلمون لما ثبت بالدليل أنه تعالى منزه عن الجهة والجسمية وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحًا فإن قوله نضع ظاهره أنهم يضعون لها ما يمكن من المعاني الصحيحة من غير نظر منهم في أن المتكلم قصد تلك المعاني أو لم يقصدها وعلى هذا فيكون التأويل كذبًا وافتراء على المتكلم إذا قيل معنى هذا الكلام هذا فإن معنى التأويل أنه قصد وأراد به كذا وليس عند المتأول إلا أن هذا المعنى يصلح في الجملة أن يراد بهذا الكلام ولكن قد يصلح أن يريد غيره ولا يصلح أن يريد هو فمن فسر كلام الفقهاء كالشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة(6/288)
بدقائق الأطباء التي يقصدها بقراط وجالينوس أو فسر كلام الأطباء بما يختص بدين المسلمين من معاني الحج والصلاة وغير ذلك لكون ذلك المعنى يصلح لذلك اللفظ في الجملة كان مع كونه من أكذب الناس وأعظمهم افتراء من أبعد الناس عن العقل والدين وأشدهم إفسادًا للعلوم والمخاطبات فهكذا من نظر إلى ما يحتمله اللفظ من المعاني مما يصلح(6/289)
أن يريده من ينشئ الخطاب بذلك اللفظ ففسر كلام الله وكلام رسوله به كان في إفكه وضلاله بل في كفره ونفاقه أعظم من أولئك لأن الفرق بين كلام الله ورسوله وما يقصده الله ورسوله بالخطاب من معاني أسمائه وصفاته وبين الأعراب ونحوهم وما يقصدونه في خطابهم من وصف الإبل والشاء والمنازل والمياه والقبائل أعظم من الفرق بين كلام الفقهاء وكلام الأطباء وبهذا تبين أن ما يذكره طائفة من الناس مثل هذا المؤسس وأمثاله في أصول الفقه أن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين كان لمن بعدهم إحداث تأويل آخر بخلاف الأحكام قول باطل فإن تأويل الأمة للقرآن والحديث هو إخبارهم بأن هذا هو مراد الله تعالى منه قطعاً أو ظاهرًا فاتفاقهم في ذلك على قول أو قولين هو كاتفاقهم في الأحكام على قول أو قولين ولو قدر أنه أريد بالتأويل تجويز الإرادة مثل أن تقول طائفة يجوز أن يكون هذا هو المراد وتقول طائفة أخرى يجوز أن يكون هذا هو المراد كانوا متفقين على(6/290)
أنهم لم يعلموا لله مرادًا غير ذينك الوجهين فلا يجوز أن يكون من بعدهم هو العالم بمراد الله تعالى دونهم ولهذا كانت هذه المعاني التي يفسرون بها كملام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويتأولونها عليها يعلم في كثير منها أو أكثرها بالضرورة أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يريدا تلك المعاني أكثر مما يعلم بالضرورة انتفاء ما ذكره من خلاف بعض الظواهر وحينئذ فينقلب ما ذكره من الدليل عليه أعظم انقلاب بأن يقال في الوجه السادس أنه لا خلاف بين جميع الطوائف أن كثيرًا من هذه التأويلات أو أكثرها باطل بل كثير من التأويلات يعلم فسادها بضرورة العقل وذلك أنه ما من طائفة من الطوائف الذين يحرفون الكلام عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته ويسمون ذلك تأويلاً من أصناف المتجهمة ونحوهم إلاَّ وهي ترد كثيرًا من تأويلات الطائفة الأخرى وتقول إنها باطلة كما أن المؤسس وأمثاله يردون تأويلات المعتزلة للآيات والأخبار التي فيها وصف الله تعالى بأن له علماً وقدرة وحياة(6/291)
وسمعًا وبصرًا وأن له كلامًا قائمًا بنفسه وأنه يرى ونحو ذلك ويردون تأويل الجهمية من المعتزلة وغيرهم لعذاب القبر والصراط والميزان وغير ذلك وهم والمعتزلة يردون تأويلات الفلاسفة الصابئين للجنة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب والفلاسفة العقلاء مع سائر المتكلمين يردون تأويل القرامطة والباطنية للصلاة والزكاة والحج وغير ذلك والباطنية ترد كل طائفة منهم تأويل الآخرين فإن بينهم نزاعًا طويلاً والمعتزلة أيضًا ترد تأويل الأشعرية ونحوهم للآيات التي فيها تنزيه الله نفسه عن الظلم وفيها إثبات فعل العباد لأفعالهم فيها وإخراج الأعمال الصالحة من الإيمان ونحو ذلك(6/292)
وهذا المؤسس قد اعترف بذلك في هذا الكتاب وغيره فقال في الفصل الثالث من القسم الثالث من هذا الكتاب في الطريق الذي يعرف كون الآية محكمة أو متشابهة ثم قال اعلم أن هذا موضع عظيم وذلك لأن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات الموافقة لمذهب خصمه متشابهة فالمعتزلي يقول إن قوله تعالى فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 29] محكم وقوله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان 30] متشابه والسني يقلب القضية في هذا الباب والأمثلة كثيرة فلابد ههنا من قانون أصلي يرجع إليه في هذا الباب وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما ذكره من القانون وإذا كان العقلاء من جميع الطوائف مقرين بأنه لابد من إبطال جنس التأويل وأن فيه ما هو باطل محرم فمعلوم أن هذا ليس هو مثل ما ذكره من اتفاق الطوائف على الإقرار بأنه لابد من(6/293)
التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار فإنه لم يذكر نقلاً للإجماع في شيء مما ذكره وأما هذا فهو منقول بالاتفاق لا ينكره أحد بل ما من أحد إلا وهو ينكر كثيرًا من تأويل ظواهر القرآن والأخبار التي قد يتأولها بعض الناس ويقول إنها باطلة إما بالضرورة وإما بالنظر وكل من هؤلاء المختلفين يقول إن العقل يوجب عليه التأويل الذي يزعم الآخر أنه تأويل باطل وعند هذا فيقول نفاة هذه التحريفات الحق الذي هو أحسن تفسيرًا من قول أولئك المتكلمين يقولون إذا ثبت أن هذه التأويلات منها باطل كثير باتفاق الطوائف وثبت أن الحق الذي يدعيه مدع فيها لم يتفق على أنه حق بل النزاع واقع فيه هل هو حق أو باطل وهم يقولون لا يفصل بينهم إلا العقل وكل منهم يدعي أن العقل معه وليس العقل متكلمًا ظاهرًا يفصل بينهم كان الفصل بينهم متعذرًا وكذلك النزاع بينهم واقعًا لازمًا ضرورة عدم الفصل بينهم وكان معهم باطل قطعًا ولم يعلم أن معهم حقًّا أو الحق الذي معه لا يمكن تمييزه كانت مذاهبهم من جنس مذاهب اليهود والنصارى بعد التبديل بل أولئك أجود مما يقوله هؤلاء من التأويلات وإن لم(6/294)
يكونوا أجود في الجملة مما هو عليه كل طائفة من طوائف المسلمين إذ مع كل طائفة من المسلمين الذين هم مسلمون حقيقة من الحق الذي لا ريب فيه أعظم مما مع اليهود والنصارى لكن الكلام هنا في تأويلاتهم التي ينازعهم فيها أهل الإثبات فإن أهل الكتابين معهم حق مأثور عن الأنبياء بلا ريب ومعهم باطل ابتدعوه وباطل حرفوه كما مع هؤلاء الجهمية ونحوهم من المتكلمين ومع هذا فلا نزاع بين المسلمين أنه لا يجوز اتباعهم في علومهم وأنهم ضلال وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه(6/295)
كان هؤلاء المتكلمون بهذه التأويلات أولى أن ترد عليهم كلها ولا يقبل منها شيء إذ لم يعلم أن فيها ما هو حق فإذا كان الكلام الذي علم أن فيه حقًّا وباطلاً قد أمرنا أن لا نقبله فمثل هذا الكلام أولى أن لا نقبله وهذا بينٌ ظاهر لمن قصده إسكات هؤلاء عن التأويلات ومنعهم من التكلم بها ومنع قبولها وأما من يقصد إبطالها وبيان فسادها فإنه يقول في الوجه السابع قد أجمعت هذه الطوائف وسائر المسلمين وسائر أهل الأرض على أن في التأويلات ما هو باطل ولم يتفقوا على أن ما فيها ما هو حق كما تقدم وأن الحق الذي اتفقوا عليه قليل معروف وكل منهم يدعي أن العقل يوجب تأويله يدعي الآخر أنه باطل وأن العقل الذي يدعي أنه أوجب باطل يعلم بطلانه بالعقل أيضًا كانوا مختلفين فيما يقولون إنه العقل الذي يجب اتباعه وحينئذ فلابد من عقل يميز بين العقل الصحيح والعقل الفاسد لكن هذا العقل هو من جنس عقولهم فيكون معرفة صحيح ذلك من باطله(6/296)
بما يسمونه العقل متعذرًا وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يمكن معرفة الصحيح من الفاسد فيما يسمونه عقليات مما يسمونه عقلاً وإذا لم يمكن معرفة ذلك امتنع اعتقاد موجبه أو القول به وإذا كان كذلك وهذا هو مستندهم الذي أوجبوا به تأويل النصوص فيكون هذا برهانًا قاطعًا على أن مستندهم الموجب للتأويل باطل وإذا بطل مستند التأويل بطل التأويل لأنه لولا معارضة المعقول لهذه النصوص لما كان تأويلها باطلاً بالاتفاق فثبت أن تأويلها باطل وهذا يدل على شيئين يدل على أن التأويل محرم إذ هو قول بلا علم ويدل على أنه باطل بمعنى أنه غير مطابق للحق لأن المتكلم الذي تكلم بكلام له ظاهر وله باطن يخالف الظاهر(6/297)
يمتنع أن يريد به إفهام المخاطبين خلاف الظاهر بلا دليل فإذا ثبت أنه لا دليل يعلم به ما يخالف الظاهر وهذا بشرط أن يكون المتكلم مقصوده البيان والإفهام وهو حكيم فأما إن كان مقصوده التدليس والتلبيس أو كان جاهلاً فلا يمتنع أن يخاطب الناس بما يفهمون منه خلاف مقصوده أو أن يدلهم بغير دليل لكن هذا متفق على انتفائه في حق الله ورسوله الوجه الثامن إذا ثبت أن ما تسمونه معقولاً يمتنع أن يفصل بينهم النزاع أو يبين لهم الحق من الباطل من هذه التأويلات والله سبحانه قد أقام الحجة على عباده وبين أنه ما كان ليضلهم حتى يبين لهم ما يتقون علم أنه لابد أن يكون ما يفصل النزاع ويبين الحق من الباطل غير هذه المستندات التي يسمونها المعقولات ولا يجوز أن يكون ذلك هو التخيلات التي يدعي بعض الناس الاختصاص بها ويسميها مكاشفات أو اتباع الأهواء التي يسمونها الذوقيات(6/298)
كما يذكره طائفة من المتصوفة لأن الاختلاف والنزاع في ذلك عظيم كثير والضلال به أعظم وأكثر فتعين أن يكون الفاصل بين النزاع والحاكم بين الناس الهادي لهم إلى الرشاد هو كتاب الله كما أخبر بذلك في كتابه حيث قال كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة 213] وقال فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] وقال كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) [إبراهيم 1] وقال إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء 9] وقال وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الشورى 52-53] وقال تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [الزمر 1-2] وقال تعالى وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) [الأنعام 155] وذلك كثير في كتاب الله تعالى فإذا ثبت أنه لا هادي للعباد ولا فاصل بينهم في موارد(6/299)
النزاع والعناد إلا كتاب الله امتنع حينئذ أن يكون له معارض يعارضه يتقدم عليه لأنه حينئذ يكون ذلك المعارض حاكمًا عليه وهاديًا دونه عند التعارض وذلك خلاف ما ثبت باتفاق العباد كما بيناه وإذا امتنع المعارض الذي يقدم عليه ثبت بطلان جميع التأويلات لأنه لبد فيها من أن يقال عارض هذه النصوص معارض يجب تقديمه عليها كما يقرره هذا المؤسس ونحوه ممن يلحد في أسماء الله وآياته ويحرف الكلم عن مواضعه وهذا الكلام له شعب ودعائم كثيرة يطول تعريفها في هذا الموضع وهو حجة قاطعة عليهم كما قال تعالى لنبيه وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) [الفرقان 33] فإن هؤلاء جاؤوا بأمثال وهي مقاييسهم العقلية التي يعارضون بها كتاب الله وقد تكفل الله أنه يأتي بالحق وأحسن تفسيرًا وهو فيما ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعله ميزانًا لأهل العلم والإيمان إلى يوم القيامة وما زال السلف والأئمة ينبهون على هذا الأصل وهو اضطراب الناس فيما يختلفون فيه ويدعي كل فريق أنه قال ذلك بالمعقول(6/300)
كما قال عثمان بن سعيد الدارمي في رده على الجهمية قال في مسألة الرؤية وقال بعضهم إنا لا نقبل هذه الآثار ولا نحتج بها قلت أجل ولا كتاب الله تقبلون أرأيتم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فهم يتوارثونها عن أعلام الناس وثقاتهم قرنًا بعد قرن قالوا نعم قلنا فحسينا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة تداولتها العلماء والفقهاء فهاتوا عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها فلا يقدرون أن يأتوا فيها بخبر ولا أثر وقد علمتم إن شاء الله أنه لا تدرك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا بهذه الآثار(6/301)
والأسانيد على ما فيها من الاختلاف هي السبب إلى ذلك والمنهج الذي درج عليه المسلمون وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله منها يقتبسون العلم وبها يقضون وبها يفتون وعليها يعتمدون وبها يتزينون يورثها الأول منهم الآخر ويبلغها الشاهد منهم للغائب احتجاجًا واحتسابًا في أدائها إلى من لم يسمعها يسمونها السنن والآثار والفقه والعلم ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها يحلون بها حلال الله ويحرمون بها حرامه ويميزون بها بين الحق والباطل والسنن والبدع ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه وليتأول كتاب الله برأيه خلاف ما عنى الله به فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من آثارهم واقتبسوا الهدي من سبيلهم(6/302)
وارضوا بهذه الآثار إمامًا كما رضي القوم بها لأنفسهم إمامًا فلعمري ما أنتم بأعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم بل أضل وأجهل ولا يمكن الاقتداء بهم إلاَّ باتباع هذه الآثار على ما تروى فمن لم يقبلها فإنما يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين قال تعالى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) [النساء 115] فإن قال قائل منهم لا بل نقول بالمعقول قلنا ها هنا ضللتم سواء السبيل ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه لأن المعقول ليس بشيء واحد موصوف محدود عند جميع الناس فيقتصر عليه ولو كان كذلك لكان راحة للناس ولقلنا به ولم نعد ولكن الله تعالى قال كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) [المؤمنون 53] فوجدنا المعقول عند كل حزب ما هم عليه(6/303)
والمجهول عندهم ما خالفهم فوجدنا فرقكم معشر الجهمية في المعقول مختلفة كل فرقة منكم تدعي أن المعقول عندها ما تدعوا إليه والمجهول ما خالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بين في كل شيء رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن ترد المعقولات كلها إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المعقول عند أصحابه المستفيض بين أظهرهم لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء الحائدة عن الطريق فالمعقول عندنا ما وافق هديهم والمجهول ما خالفهم ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقهم إلا بهذه الآثار وقد انسلختم منها وانتفيتم عنها بزعمكم فأنَّى تهدون وقال الإمام أحمد رحمه الله الحمد لله الذي جعل في(6/304)
كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين الوجه التاسع أن يقال هب أنهم لم يتفقوا على اشتمال(6/305)
التأويلات على أصناف الضلالات فذلك معلوم بالضرورة العقلية فيما ذكره هذا المؤسس وأمثاله من التأويلات وهذا مما يتعذر عده وإحصاؤه فإنه ما زال أهل العقل والعلم إذا سمعوا كثيرًا من هذه التأويلات ورأوها في المصنفات يعلمون أنها من أظهر الأمور فسادًا في البديهي من المعقولات ولا ينقضي تعجبهم من قوم يذهبون إلى تلك التأويلات ممن له في العلم صيت مشهور وقد رأيت وسمعت من ذلك بعجائب ولكن ننبه ببعض ما ذكره هذا المؤسس وذلك بأمثلة أحدها قوله في تأويل قوله تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] الوجه الثاني إن الرب هو المربي فلعل ملكًا عظيمًا هو أعظم الملائكة كان مربيًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وكان هو المراد من قوله وَجَاءَ رَبُّكَ فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل إيمان أنه من المعلوم بالاضطرار في دين الإسلام أن هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى رسوله وعلى كلامه وأن الله لم يجعل لمحمد(6/306)
قط ربًّا غير الله وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام 164] وقد قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام 112-115] وأيضًا فقال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام 158] وقال وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] والملك اسم جنس ففصل بين ربه وبين الملائكة والملائكة تعم جميع الملائكة كما قال في الآية التالية هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة 210] ففصل بين اسم الله وبين الملائكة وهناك سمى نفسه الله وهنا سمى نفسه ربك فإذا جعل الجاعل رب محمد بعض الملائكة فهذا مع أنه من أعظم الإلحاد في أسماء الله وآياته أليس يعلم كل مسلم بل كل عاقل أنه معلوم الفساد بالضرورة وأن الله ورسوله لم يرد(6/307)
بهذا الخطاب ذلك وهل هذا التأويل إلاَّ من جنس تأويل غلاة القرامطة في قوله وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) أنه علي ابن أبي طالب بل ذلك التأويل أقرب لأن غايته أن يجعل علي بن أبي طالب من جنس المسيح ابن مريم وهذا مذهب مع كونه من أعظم الكفر والضلال فعليه أمة عظيمة من بني آدم وهم النصارى ومن اتبعهم على الحلول والاتحاد ودلالة لفظ العلي على علي بن أبي طالب أظهر من دلالة قوله وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] على أن ربه ملك من الملائكة وإذا جاز تسمية بعض الملائكة رب محمد لأنه رباه مع العلم بأن أحدًا من الملائكة لم يرب محمدًا فتسمية علي العلي العظيم لماله من علو القدر والعظمة أقرب المثال الثاني قوله في تأويل قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ(6/308)
يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) [البقرة 210] الوجه الخامس وهو أقوى من كل ما سبق أنا ذكرنا في التفسير الكبير قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة 208] إنما نزل في حق اليهود وعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة 209] خطاباً مع اليهود فيكون قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] حكاية عنهم والمعنى أنهم لا يقبلون دينكم إلا لأنهم(6/309)
ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ومما يدل على أن المراد ذلك أنهم فعلوا ذلك مع موسى عليه السلام فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 55] وإذا ثبت أن هذه الآية حكاية عن حال اليهود وعن اعتقادهم لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها وذلك لأن اليهود كانوا على دين التشبيه وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله تعالى وكانوا يقولون إنه تعالى تجلى لموسى على الطور في ظلل من الغمام فظنوا مثل ذلاك في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن مذهبهم ليس بحجة وبالجملة فإنه يدل على أن قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله وليس في الآية دلالة على أن أولئك الأقوام محقون أو مبطلون وعلى هذا التقدير زال الإشكال وهذا هو الجواب المعتمد عن تمسكهم بالآية المذكورة في سورة الأنعام فإن قيل هذا التأويل كيف يتعلق(6/310)
بهذه الآية لأنه قال في آخرها وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) [البقرة 210] هذا لفظه فمن تدبر هذا الكلام أليس يعلم بالضرورة أن هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى كتابه حيث جعل خطابه مع المؤمنين خطاباً مع اليهود مع أن الله سبحانه دائماً في كتابه يفصل بين الخطابين فيقول لأولئك يا بني إسرائيل أو يا أهل الكتاب ويقول لهؤلاء يا أيها الذين آمنوا والخطاب لبني إسرائيل للمؤمنين فيه اعتبار لأن القرآن كله هدى للمؤمنين فإذا جعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط أليس هذا من أعظم تبديل القرآن وقد قال بعد هذه الآية سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة 211] فلم سماهم بني إسرائيل وإنما أمر المؤمنين بالدخول في السلم كافة أي في جميع الإسلام لا في بعضه دون بعض وأن(6/311)
يدخلوا كلهم لا يدخله بعض دون بعض ولهذا قال لهم فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) [البقرة 209] ولا يقال لهم إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال والزلل كاليهود ثم جعل قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] هو من اعتقاد اليهود الفاسد لا من كلام الله الذي توعد به عباده وجعل هذا هو الجواب المعتمد أليس يعلم ببديهة العقل والدين كل من قرأ القرآن من المؤمنين أن هذا من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين وأن رد هذا لا يحتاج إلى دليل وهو كذب على اليهود أيضاً فإن القوم لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ليخاطبهم وقد ذكر أهل التفسير والسير والحديث والمغازي مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز ومع كثرة ما نزل بسببهم من القرآن ومع هذا فما نقل هذا أحد وكذلك ما نقله عنهم من أنهم كانوا يقولون إنه تجلى لموسى على الطور في ظلل من الغمام أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه فإن كان هذا حقًّا عنهم وكانوا(6/312)
ينتظرون مثل ذلك فيكونون قد جوزوا أن يكون الله تجلى لرسول آخر في الغمام كما تجلى لموسى ومعلوم أن اليهود لا تقول ذلك وما ذكر الله تعالى عنهم في طلبهم رؤية الله جهرةً فهذا حق لكن أخبر أنهم طلبوا الرؤية لم يخبر أنهم انتظروها والمتطلب للشيء معتقد لأنه يكون لا طالب من غيره أن يكونه وهذا كما قال تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة 108] وأما قوله إن اليهود كانوا على دين الشبيه وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله فيقال إنه لا ريب أن التوراة مشتملة على صفات الله تعالى التي يسميها الجهمية تشبيهاً وهي إلى الآن كذلك مثل ما ذكره فلا يخلو إما أن يكون ذلك من التوراة المنزلة أو مما بدلوه فإن كان الأول كان ما سماه تشبيهاً هم الحق المنزل من عند الله تعالى وإن كان الثاني كان إنكاره ذلك عليهم وذمهم عليه أولى(6/313)
بالإنكار والذم على أمور دون ذلك كأخذ الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ومعلوم أن الكتاب والسنة لم تنكر على اليهود قط ما عندهم من هذه الصفات ولا ما يقولونه من ذلك وإنما ذمهم على وصفهم الله بالعجز والكلال والفقر والبخل كما ذكر في قوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) [آل عمران 181] وفي قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وفي قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) [ق 38] وهو سبحانه وتعالى قد ذكر ذنوبهم في مثل قوله قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) [المائدة 60] وفي قوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء 160-161] وفي قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) [آل عمران 112] ونحو ذلك(6/314)
ولم يعبهم قط بإثبات الصفات التي يسميها الجهمية تشبيهاً ولا ذكر ذلك من ذنوبهم وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) [مريم 64] وهذا دليل قاطع على أن هذه الصفات في الجملة منزلة من عند الله وأنها حق ليست مما افتراه اليهود وابتدعوه بل ذمهم على كتمان ذلك وغيره وعلى تحريف الكلم عن مواضعه فإن كثيرًا منهم يحرفون ذلك ويكتمونه أكثر من تحريف الجهمية المنتسبين إلى الإسلام وأكثر من كتمانهم وقد روي أن الجهم بن صفوان أخذ هذا المذهب الذي يتأول فيه الصفات عن الجعد بن درهم والجعد أخذه عن(6/315)
بيان بن سمعان وأخذه بيان من طالوت بن أخت لبيد بن أعصم وأخذه طالوت من لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وهون من أعظم من نزل فيه قوله تعالى وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ(6/316)
كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ الآية [البقرة 101-102] وهذا مذكور في غير هذا الموضع فيكون قول المؤسس ونحوه من الجهمية هو قول المبدلين من اليهود الذين ذمهم الله عليه وأنكره عليهم وهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر وحيث حرفوا كتاب الله بالتأويل الذي يحرفون فيه الكلم عن مواضعه وللمؤسس وأمثاله من ذلك أعظم شبه باليهود حيث صنف كتب السحر وعبادة الأوثان وأمر باتباع ذلك وتعظيمه وحرف كتاب الله تعالى فهذا من أحوال اليهود التي ذمها الله تعالى في القرآن يبين ذلك أن الله ذم اليهود على كتمان ما عندهم من الكتاب وأخبر أن الرسول بين لهم بعض ما كتموه وعفا عن بعضه فقال قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(6/317)
[المائدة 15] وقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة 140] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران 187] فهذا النبذ وراء ظهورهم هو ضد بيان ما فيه وهو الحال التي وصفهم الله في قوله نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة 101-102] فلو كان ما عندهم من الصفات وهي كثيرة جدًّا في التوراة باطلاً وكفراً وضلالاً لم يكونوا مذمومين على نبذ ذلك وراء ظهورهم وعلى كتمانه بل كان الواجب ذمهم على وجود ذلك في كتابهم وإقرار ذلك بينهم كما ذم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله وأيضاً فإن قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة 208] إذا كان خطاباً لليهود وهم المنتظرون للأمر الممتنع فوجه الكلام أن يخاطبوا بما يوبخهم ويقرعهم فيقول ما تنظرون بصيغة المخاطبة لا بصيغة الغيبة كما في نظائر ذلك من القرآن حيث يقول إذا خاطبهم فعلتم وفعلتم(6/318)
فأما الانتقال في مثل هذا من المخاطبة إلى الغيبة ففيه تعظيم للمخاطب كما في قوله وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) [الحجرات 7] وفي قوله حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا [يونس 22] فإن قوله كنتم يتناول المؤمن والكافر فعدل إلى صيغة الغيبة التي تتناول من فعل ذلك الفعل المذموم خاصة وأيضاً فالفرق ظاهر بينٌ معلوم بالاضطرار من اللغة بين الاستفهام الذي يقصد به نفي وجود ما يظنه الإنسان وينتظره ويرجوه ويخبر به وبين ما لا يقصد به ذلك بل يقصد به تهديده وتخويفه من الأمور الكائنة الموجودة وتحذيره منها فالأول كقوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) [القيامة 36] أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون 55-56] أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) [الطور 30-33] وقوله أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) [المعارج 38] فنظيره أن يقال أينتظرون أن يأتيهم الله أو أيطمعون أن يأتيهم الله في ظل من الغمام ونحو ذلك(6/319)
وأما الثاني فكقوله وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) [ص 15] وقوله قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة 52] فمن المعلوم أن هذا الاستفهام يتضمن معنى النفي كالأول وأن ذلك تهديد لهم وتخويف مما ينتظرونه ويتربصونه فقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة 210] صيغة مثل هذه الصيغ فإن هل متضمنة معنى النفي بلا نزاع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم هل ينظر أحدكم إلا غنى مطغياً أو فقراً منسياً أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر(6/320)
وأيضاً فقوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ [البقرة 210] وإخبار بأن الله تعالى يقضي الأمر كما في قوله تعالى وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) [هود 44] وفي قوله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) [الزمر 69] وأيضاً فإنه في سورة الأنعام إنما ذكر قبل هذه المشركين قال تعالى أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) [الأنعام 156-158] فقوله وهذا هو الجواب المعتمد عن تمسكهم بالآية المذكورة في سورة الأنعام من أظهر الأمور فساداً بالضرورة عند أدنى تدبر للقرآن فإن اليهود لم يجر لهم ذكر بل جرى(6/321)
ذكر المشركين المكذبين بهذا كله وهو أشبه بالجهمية الذين يقولون إن الله لا يأتي ولهذا قال انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) [الأنعام 158] فهو يهددهم ويتوعدهم بمجيء هذا الأمر الذي يكذبون به كما في قوله تعالى وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) [ص 15] وأيضاً فالانتظار إما أن يقصده المرء كما زعمه هذا المؤسس أن اليهود قصدوا انتظار إتيان الله في ظلل من الغمام في الدنيا أو لا يقصده كما لم يقصد المشركون انتظار ما وعد الله به يوم القيامة وإتيان الله والملائكة وغير ذلك فإن كان الأول كانت صيغة الإنكار بلفظ ينتظر هذا أو كيف ينتظر هذا أو نظن وجود هذا لا يكون بصيغة الحصر الذي مضمونها ما ينتظر إلا هذا لأن ذلك يقصد أشياء كثيرة ينتظرها غير هذا فلا يصلح أن يقال ما ينتظر إلا هذا وهو ينتظر أشياء غيره وإن كان الثاني حسن خطابه بصيغة الحصر لأنه ينتظر أشياء لا حقيقة لها مثل الذي قيل فيه ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا [المدثر 15-16] والذي قال أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)(6/322)
[مريم 77-78] فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم أشياء كثيرة كما قال يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) [النساء 120] فيقال لمثل هذا ما ينتظر إلا العذاب لا النعيم أو ما ينتظر إلا الحق والعدل أو ما ينتظر إلا الجزاء على الأعمال ونحو ذلك والآية جاءت بصيغة النوع الثاني دون الأول ودلائل هذا كثيرة المثال الثالث قوله تأويل أحاديث الضحك واعلم أن حقيقة الضحك على الله عز وجل محال ويدل على ذلك وجوه الأول قوله تعالى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) [النجم 43] فبين أن اللائق به أن يضحك ويبكي فأما الضحك والبكاء فلا يليقان به وقال لو جاز الضحك عليه لجاز البكاء عليه ونقد(6/323)
التزمه بعض الحمقى قال والضحك إنما يتولد من التعجب والتعجب حالة تحصل للإنسان عند الجهل بالسبب وذلك في حق عالم الغيب والشهادة محال إلى أن قال إذا ثبت هذا فنقول وجه التأويل فيه من وجوه أحدها أن المصدر كما يحسن إضافته إلى المفعول فكذلك يحسن إضافته إلى الفاعل فقوله ضحكت من ضحك الرب أي من الضحك الحاصل في ذاتي بسبب أن الرب خلق ذلك الضحك الثاني أن يكون المراد أنه تعالى لو كان ممن يضحك كالملوك كان هذا القول مضحكاً له ذكر هذا التأويل بعد أن ذكر لفظ الحديث الذي في(6/324)
الصحيح وعزاه إلى شرح السنة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة من أخرجه الله تعالى بفضله من النار قال فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول أي رب أدخلنيها فيقول الله تعالى يا ابن آدم أيرضيك أن أعطيك الدنيا قال فيقول أي رب أتهزأ بي وأنت رب العالمين فضحك ابن مسعود وقال ألا تسألوني مما أضحك فقالوا لم تضحك فقال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ولم تضحك يا رسول الله قال من ضحك رب العالمين حين قال أتهزأ(6/325)
بي وأنت رب العالمين فيقول الله تعالى إني لا أستهزئ بك وأنا على ما أشاء قدير وذكر من شرح السنة حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم وه طويل قال فيه ثم قال يا رب أدخلني الجنة فيقول الله تعالى أَوَلَست قد زعمت أن لا تسألني غيره ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فلا يزال يدعو حتى ضحك فإذا ضحك الله منه أذن له بدخول الجنة(6/326)
وفي الضحك أحاديث أخر صحيحة لم يذكرها مثل ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقتل أحدهما في سبيل الله ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد في سبيل الله(6/327)
والمقصود أن هذا التأويل الذي ذكره مما يعلم بالضرورة من له أدنى عقل وعلم باللغة أنه باطل فإن قول المصدر كما تحسن إضافته إلى المفعول فكذلك تحسن إضافته إلى الفاعل إنما يصح في مصدر الفعل المتعدي مثل ضرب وقتل وأكل وأضحك وأبكى وأمات وأحيا فإنه يقال أكل زيد فأعجبني أكل الطعام كما تقول أعجبني إبكاء هذا الفاجر وأعجبني إضحاك هذا المؤمن أو إضحاك الله فأما ضحك ففعل لازم لا يتصور أن يضاف مصدره إلى مفعول فضحك مثل فرح وعجب وحزن وطرب فإذا قيل أعجبني ضحك زيد أو بكاؤه أو فرحه أو حزنه أو طربه أو عجبه لم يتصور أن يكون في هذا الكلام مفعول هو المضحَك المبكى والمفرَح والمحزَن وهذا واضح لا خفاء به ثم إن هذا التأويل مع ظهور فساده بالضرورة فهو متناقض في نفسه تناقضاً معلوماً بالضرورة أيضاً(6/328)
وفيه إثبات ما يعلم بطلانه بالحس فإنه قال فقوله ضحكت من ضحك الرب أي من الضحك الحاصل في ذاتي بسبب أن الرب تعالى خلق ذلك الضحك فالكلام يقتضي ضحكين ضحكه والضحك الذي ضحك منه وجعل نفسه ضاحكاً من ضحك نفسه حيث قال ضحكت من الضحك الحاصل في ذاتي فجعل في ذاته ضحكين أحدهما ضحك والثاني مضحوك منه وهذا خلاف المحسوس ثم لو كان كذلك فمن أي وجه يكون أحدهما مضحوكاً منه دون الآخر وكلاهما خلق الله تعالى ولكن من استدل على أن الله لا يضحك بأنه أضحك وأبكى كانت تلك الحجة في رد معنى النص من جنس هذا التأويل للنص فإن طرد هذا الدليل الذي ذكره أنه إذا علم غيره وجهله لم يكن عالماً وإذا أنطق غيره وأسكته لم يكن ناطقاً وإذا أسمع غيره وأصمه لم يكن سميعاً وإذا أرى غيره وأعماه لم يكن بصيراً وإذا أحيا غيره وأماته لم يكن حيًّا وإذا أرضى غيره وأسخطه لم يكن(6/329)
راضياً ونظائر كثيرة وكذلك نظير هذه الحجة احتجاجه بأنه إذا جاز عليه الضحك جاز عليه البكاء حيث جعل صفات الكمال مستلزمة لثبوت نقائضها من صفات النقص فيلزم إذا جاز وصفه بالعلم أن يجوز وصفه بالجهل وإذا جاز وصفه بالقدرة والسمع والبصر أن يجوز وصفه بالعجز والعمى والصمم وإذا جاز وصفه بالفرح أن يجوز وصفه بالغم والحزن وإذا جاز وصفه بالحياة أن يجوز وصفه بالموت إلى نظائر ذلك وكذلك من جنس هذا التأويل قوله لو كان ممن يضحك لكان هذا القول مضحكاً فهل يسوغ في عقل عاقل أن يكون الرسول قد أخبر غير مرة أن الله يضحك مما ذكره ويقول ضحكت من ضحك رب العالمين ومع هذا لا يكون لهذا الضحك وجود إنما هو معدوم متعذر فإن جاز أن يخبر الرسول بوجود شيء ويكون معدوماً زال الإيمان من عامة أخباره وهذا اللفظ لا يحتمل هذا بوجه من الوجوه(6/330)
ثم إنه استدل على بطلان اتصافه بالضحك أن الضحك يستلزم التعجب والتعجب يستلزم الجهل بالسبب وقد ذكر عقب هذا وصفه بالفرح وأوله بالرضا قال ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم عجب ربكم من شاب ليست له صبوة وفي حديث آخر عجب ربكم من ثلاثة وذكرهم قال وقرئ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) [الصافات 12](6/331)
بضم التاء قال وذلك يدل على ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى قال واعلم أن التأويل هو أن العجب حالة تحصل عند استعظام الأمر فإذا عظم الله أمراً أو فعلاً إما في كثرة ثوابه أو في كثرة عقابه جاز إطلاق لفظ التعجب عليه فقوله في هذا الموضع التعجب حالة تحصل عند استعظام الأمر ينافي قوله قبل هذا بوجه التعجب حالة تحصل للإنسان عند الجهل بالسبب وذلك في حق عالم الغيب والشهادة محال فهل يوجد من يصف الله بالعجب ويبين أنه لا يستلزم الجهل ويمنع من وصفه بصفة(6/332)
أخرى قال لأنها تستلزم العجب وهو ممتنع لاستلزام الجهل المثال الرابع في الحجاب قال تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] وذكر أخباراً منها ما رواه صاحب شرح السنة في باب الرد على الجهمية عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشقه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه(6/333)
قال وروي في تفسير قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] أنه تعالى يرفع الحجاب فينظرون إلى وجهه قلت وهذا الحديث في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض الله وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة(6/334)
ومما لم يذكر من الأحاديث ما في الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن ثم قال وحقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى محال لأنه عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين بل هذا محمول عندنا على أن لا يخلق الله في العين رؤية متعلقة به وعند منكر الرؤية على أنه تعالى يمنع وصول آثار إحسانه وفضله إلى الإنسان قلت ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر النصوص فساد هذين التأويلين فإن عدم خلق الرؤية أمر عدمي محض فقوله حجابه(6/335)
النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه كيف يتصور أن يكون هذا العدم المحض نوراً وأن ذلك النور لو كُشِفَ لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه البصر وكيف يتصور أن يقال فيكشف الحجاب فينظرون إليه والأمر العدمي المحض هل يكشف وكيف يتصور أن يقال وما بين القوم وبين لأن ينظروا إلى ربهم إلا أمر عدمي على وجهه في جنة عدن ثم في أي لغة يوجد تسمية العدم المحض حجاباً ومعلوم أن نقيض الحجاب لا حجاب والعدم يصح وصفه بأنه ليس بحجاب فلو كان الحجاب عدميًّا لكان عدمه وجوديًّا فكلن الموجود صفة للمعدوم وهذا ممتنع بالضرورة ومما ينبغي أن يعلم أن هذا المؤسس وأمثاله كثيراً ما يدخلون في جنس التأويل الذي يدخل فيها الفلاسفة من القرامطة الباطنية ونحوهم الذين هم أعظم الناس جهلاً ونفاقاً وكانت هذه مشهورة عند غالية الرافضة ولهذا يتصل(6/336)
هؤلاء بهم لما بين هؤلاء من الجهل والنفاق ومحادة الله ورسوله ومشاقة الله ورسوله وهم من أعظم الناس كذباً وتصديقاً للكذب فإنهم يروون من المكذوبات على الرسل وغيرهم وما الله به عليم ويتأولونها بما لا يخفى على أدنى عاقل أنه معلوم الفساد بالضرورة مثل ما صنع هذا المؤسس في كتاب صنفه في تفسير المعراج(6/337)
النبوي فرواه بسياق عجيب لا يوجد في شيء من كتب(6/338)
الأحاديث والتفسير والسير ثم فسره تفسير المشركين والصابئين من المتفلسفة ونحوهم كما صنع ذلك ابن سينا وعين القضاة الهمذاني ونحو هؤلاء(6/339)
فجعل أنبياء الله مثل آدم وعيسى ويحيى ويوسف وإدريس وموسى وإبراهيم هم الكواكب التي هي القمر والزهرة وعطارد والشمس والمريخ والمشترى وزحل إلى أمثال ذلك مما يعلم كل مسلم أن الرسول لم يقصد ذلك ولم يرده وأنه من أعظم الافتراء على الله ورسوله وهذا من جنس تأويلات الرافضة للؤلؤ والمرجان الذي في البحر بالحسن والحسين والإمام المبين والنبأ(6/340)
العظيم بعلي بن أبي طالب والشجرة الملعونة في القرآن ببني أمية وأمثال هذه الخرافات التي هي من أقبح الكذب والافتراء وأفحش القول ومن هذا تأويل الملاحدة الزنادقة المنافقين من المشركين والصابئين والمتفلسفة ونحوهم ولما أخبر الله به من أمر اليوم الآخر فلا يجعلون لذلك حقيقة غير موت الإنسان كما يقولون في قوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) [التكوير 1] المراد شمسه التي هي قلبه إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) [الانفطار 1] سماؤه التي هي / رأسه وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) [التكوير 2] هي حواسه وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) [التكوير 4] رجليه وإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) [الزلزلة 1] يديه وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) [التكوير 5] قواه لاسيما العصبية ودكت الجبال هي عظامه ونحو ذلك وهذا كثير في كلام هذه الملاحدة من الباطنية والقرامطة وطائفة من الاتحادية وأصحاب رسائل إخوان(6/341)
الصفا وأصحاب السهروردي الحلبي المقتول على الزندقة ونحو هؤلاء وإن كان كثيراً مما يثبتونه أو أكثره حق فإنه كما(6/342)
روي عن المغيرة بن شعبة أنه من مات فقد قامت قيامته والقيامة يراد بها انخرام القرن وما يثبتونه من معاد النفوس حق وما يثبتونه من حيث(6/343)
الجملة من النعيم والعذاب الروحاني حق وما يثبتونه مما يدخل فيما أمرت به الرسل من الأخلاق الفاضلة والسياسات العادلة ونحو ذلك حق فما من أمة إلا ومعها حق ومعلوم أن الحق الذي بأيدي اليهود والنصارى أكثر من الحق الذي مع هؤلاء فإن جنس أهل الكتاب خير من جنس الصابئين كما أن جنس الصابئين خير من جنس المشركين لكن المقصود أنهم فيما كذبوا أو ارتابوا فيه من الحق الذي أخبرت به الرسل يسلكون مثل هذه التأويلات التي يعلم بالاضطرار أن الرسل لم ترد ذلك فقد سلك الرازي هذا المسلك في مناظرتهم في المعاد وقال إنا نعلم بالاضطرار أن إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات المعاد البدني فوجب القطع بوجود هذا المعاد وبهذا أجاب من أخذ يورد على إثبات ذلك بظواهر الآيات والأحاديث وأظنه اتبع في ذلك أبا الحسين البصري هذا مع(6/344)
قوله في السؤال المتشابهات من القرآن الدالة على التشبيه والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد البدني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لا تجوزون أيضاً تأويل الآيات الواردة هنا وهذا الذي قاله في ذلك يقوله أهل الإثبات في نصوص الصفات فإن من علم ما جاء به من ذلك في الكتاب والسنة وتدبر ذلك علم بالاضطرار وبطلان التأويل وأن الرسل وصفت الرب بما ينافي بمذهب النفاة وقد قال هو في جواب الفلاسفة لما قالوا له إن في كتاب الله تعالى آيات كثيرة دالة على التشبيه والقدر وقد تأولتموها فقال إنا لم نتمسك بظواهر الآيات والأخبار حتى يلزمنا الجواب عن هذه المعارضة بل بالأمر المعلوم بالضرورة من دين الأنبياء لم يقل أحد أنه علم دينهم(6/345)
بظواهر التشبيه والقدر فظهر الفرق وليس الأمر كما نفاه بل عامة أهل الحديث والسنة بل والعامة يعلمون من دينهم بالضرورة إثبات الصفات والقدر أيضلً وإذا كان من هذه التأويلات مما يعلم فساده بالضرورة ما لا يحصيه إلا الله وهي أضعاف مضاعفة لما يدعي المدعي أنه لابد من تأويله فعند هذا يقول ذوو التأويل ومبطلوه قد ثبت بالدليل أن الله أنزل كتابه شفاء وهدى للناس وقال فيه هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) [آل عمران 138] وقال إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [يوسف 2] وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين كما أمر به فإن الله أخبر أن عليه البلاغ المبين وقال عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ [الجن 26-28] وقال يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 67] قالت عائشة من زعم أن محمداً كتم الوحي فقد(6/346)
كذب وثبت أن رسولنا كان أعلم الناس بالله وبما يخبر به عن الله تعالى وكان أنصح الناس لأمته وكان أفصح الناس وأكملهم بياناً وإيضاحاً وإذا كان كذلك فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا كان بهذه الحال لم يكن الكلام الذي أنزله الله إليه فيما يخبر به عن نفسه وعن خلقه والكلام الذي يخبر به الرسول عن ربه وعن خلقه مما ظاهر باطل وضلال وإفك ولم يكن ذلك الكلام معارضاً لما هو معلوم بالمعقول ولم يكن ذلك الكلام مسلوب الدلالة والبيان ولم يكن غير مستحق لإبلاغ العباد وإفهام المراد ولا يكون المتبع لمعناه المتمسك بفحواه في(6/347)
ضلال وفساد ولا في كذب على الرسول في المراد ولا يجوز أن يكون الرسول قد أحال المخاطبين في معرفة ما جاء به من الكتاب المبين على ما يحدثه بعض المظاهرين لمتابعته بعد انقراض الخلفاء الراشدين وذهاب خير القرون الوجه العاشر قوله قال المتكلمون لما ثبت بالدليل أن الله تعالى منزه عن الجهة والجسمية وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحاً يقال له ليس هذا قول جميع المتكلمين بل المتكلمون من أعظم الناس نزاعاً في كونه موصوفاً بالجهة والجسمية أم لا وأكثرهم من أهل الإثبات وطوائف من متقدميهم ومتأخريهم يصرحون بلفظ الجسم والجهة وغير ذلك وجمهورهم يثبتون أنه فوق العرش ومنهم طوائف يصرحون بنفى ذلك وكتب المقالات تتضمن من هذا وهذا شيئاً كثيراً مع أن أكثرها إنما صنفها نفاة الجسم ومع هذا فقد حكوا فيها من مقالات المثبتين شيئاً كثيراً فكيف يكون ما صنفه المثبتون وما زال في كل عصر من أعصار المسلمين التي يكون فيها من ينفي هذه الأشياء أن يكون فيها من يقابله من أهل الإثبات(6/348)
وإن كان من كلام هؤلاء وهؤلاء من أهل البدع والضلال ما أنكر سلف الأمة وأئمة السنة ولكن المقصود هنا أن الطرق التي سلكوها وسموها العقليات وما يسمونه علم الكلام يتضمن من كلام المثبتة أعظم مما يتضمن من كلام النفاة وقد ذكرنا ما ذكره هذا المؤسس من جهة موافقيه مع استيعابه لذلك من جميع الجهات وما ذكره لمخالفيه مع تقصيره في ذلك ومع هذا فقد ظهر رجحان جانب منازعيه ظهوراً لا يرتاب فيه لبيب فكيف لو ذكر ما يقولونه هم بأنفسهم بغير توسط نقل خصومهم الوجه الحادي عشر أن هذه التأويلات كما اتفق على إنكارها سلف الأمة وأئمة السنة فما زال في الإسلام من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف من ينكرها ويبطلها ويقرر ضدها والكتب المصنفة في ذم التأويل وإبطاله كثيرة(6/349)
موجودة الوجه الثاني عشر أن يقال له بأي دليل ثبت ما ادعاه هؤلاء من النفي ومعلوم أنك قد استوعبت أدلتهم وقد تقدم من التنبيه على فسادها ما يوجب العلم اليقيني بإبطالها لكل من تدبر ذلك ونظر فيه الوجه الثالث عشر، يقال أي المتكلمين سلم له في هذا الباب قانون واحد لم يتناقض فيه وأيهم الذي ما قيل عنه أو ثبت عنه أنه متناقض في النفي والإثبات أعني إثبات الجسم أو بعض ملازمه ومن المعلوم أن إثبات الملزوم بدون اللازم أو نفي اللازم بدون الملزوم متناقض ممتنع وما من(6/350)
هؤلاء إلا من يلزم بهذا التناقض فهؤلاء أوسط المتكلمين وهم المتكلمة الصفاتية الموافقون لأهل السنة والجماعة في الأصول الكبار من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن دخل في شيء(6/351)
من ذلك من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث والصوفية يقول عنهم نظراؤهم وأشكالهم أنهم متناقضون كما يقول ذلك مخالفوهم من المعتزلة والرافضة والجهمية المحضة وغيرهم وأما تناقض هؤلاء وتهافتهم فأضعاف ذلك دع تناقض المتفلسفة وتهافتهم فإن ذلك لا يحصيه إلا الله فمتأخرو الأشعرية يقولون إن قدماءهم متناقضون في قولهم إن الله تعالى فوق العرش مع نفي كونه جسماً ويقولون إنهم متناقضون في إثبات الصفات الخبرية مع نفي الجسم أيضاً ومتقدموهم مع سائر الطوائف من النفاة يقولون إن ما يقوله متأخروهم إن من أقر بالرؤية ونفى أن يكون فوق(6/352)
العرش فهم متناقض ويقول عامة الناس إن الإقرار برؤية مرئي لا يواجه البصر متناقض ويقول طوائف من المثبتة والنفاة إن الإقرار بوجود جسم فوق العالم ليس بممتد في الجهات كما يقوله من يقوله من الكرامية وموافقيهم متناقض ويقول طوائف من النفاة والمثبتة إن الإقرار بذي علم وقدرة وسمع وبصر وإرادة لا يكون بقائم بنفسه متميزاً عن غيره بالجهة متناقض معلوم الفساد بالضرورة ويقول طوائف من النفاة والمثبتة بل جمهور الخلق إن الإقرار بمن هو عالم سميع بصير قدير لا يكون قائماً بنفسه متميزاً بالجهة عن غيره متناقض ممتنع ويقول هؤلاء وأكثر منهم إن الإقرار بموجود قائم بنفسه مباين له وليس في جهة متناقض ممتنع ويقول جماهير بني آدم إن الإقرار بحي عالم قادر سميع بصير لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر متناقض متهافت(6/353)
ويقول عامة بني آدم إن الإقرار بموجود واجب بنفسه موجود في الخارج يكون موجوداً مطلقاً محضاً مجرداً عن المعينات والمخصصات من أظهر الأمور فساداً في بديهة العقل لمن فهم ذلك وأمثال هذا كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى(6/354)
فصل قال الرازي الفصل الأول في إثبات الصورة اعلم أن هذه اللفظة ما وردت في القرآن لكنها واردة في الأخبار فالخبر الأول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله خلق آدم على صورته(6/355)
وروى ابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقولن أحدكم لعبده قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته والجواب اعلم أن الهاء في قوله صلى الله عليه وسلم على صورته يحتمل أن تكون عائدة على شيء غير صورة آدم وير الله تعالى ويحتمل أن يكون عائدًا إلى آدم عليه السلام(6/357)
ويحتمل أن يكون عائدًا إلى الله تعالى فهذه طرق ثلاثة الطريق الأول أن يكون هذا الضمير عائداً إلى غير آدم وإلى غير الله تعالى وعلى هذا التقدير ففي تأويل الخبر وجهان الأول هو أن من قال للإنسان قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فهذا يكون شتماً لآدم عليه السلام فإنه لما كان صورة الإنسان مساوية لصورة آدم كان قوله قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك شتماً لآدم عليه السلام ولجميع الأنبياء عليهم السلام وذلك غير جائز فلا جرم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وإنما خص آدم بالذكر لأنه عليه السلام هو الذي ابتدئت خلقته على هذه الصورة الثاني أن المراد منه إبطال قول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى مثل ما يقال إنه كان عظيم الجثة طويل القامة بحيث يكون رأسه قريباً من السماء فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى(6/358)
إنسان معين وقال إن الله تعالى خلق آدم على صورته أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت ألبتة فأبطل بهذا البيان وَهْمَ من توَّهم أن آدم عليه السلام كان على صورة أخرى غير هذه الصورة الطريق الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى آدم عليه السلام وهذا أولى الوجوه الثلاثة لأن عود الضمير إلى أقرب مذكور واجب وفي هذا الحديث أقرب الأشياء المذكورة هو آدم عليه السلام فكان عود الضمير إليه أولى ثم على هذا الطريق ففي تأويل الخبر وجوه الأول أنه تعالى لما عظم أمر آدم فجعله مسجود الملائكة ثم إنه أتى بتلك الزلة فالله تعالى لم يعاقبه(6/359)
بمثل ما عاقب به غيره فإنه نقل أن الله تعالى أخرجه من الجنة وأخرج معه الحية والطاووس وغيَّر تعالى خلقهما مع، هـ لم يغير خلقة آدم عليه السلام بل تركه على الخلقة الأولى إكراماً له وصوناً له من عذاب المسخ فقوله صلى الله عليه وسلم عن الله خلق آدم على صورته معناه خلق آدم على هذه الصورة التي هي الآن باقية من غير وقوع التبديل فيها والفرق بين هذا الجواب وبين الذي قبله أن المقصود من هذا بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان مصوناً عن المسخ والجواب الأول ليس فيه إلا بيان أن هذه الصورة الموجودة ليس هي إلا التي كانت موجودة قبل من غير تعرض لبيان أنه(6/360)
جعله مصوناً عن المسخ بسبب زلته من أن غيره صار ممسوخاً الثاني أن المراد منه إبطال قول الدهرية الذين يقولون إن الإنسان لا يتولد إلا بواسطة النطفة ودم الطمث فقال صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته ابتداء من غير تقدم نطفة وعلقة ومضغة الثالث أن الإنسان لا يكون إلا في مدة طويلة وزمان مديد وبواسطة الأفلاك والعناصر فقال صلى الله عليه وسلم إن الله خلق(6/361)
آدم على صورته أي من غير هذه الوسائط والمقصود منه الرد على الفلاسفة الرابع المقصود منه بيان أن هذه الصورة الإنسانية إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده لا بتخليق القوة المصورة والمولدة على ما يذكره الأطباء والفلاسفة ولهذا قال الله تعالى هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر 24] فهو الخالق أي هو العالم بأحوال الممكنات والمحدثات والبارئ هو المحدث للأجسام والذوات يعد عدمها والمصور أي هو الذي ركَّب تلك الذوات على صورها المخصوصة وتركيباتها المخصوصة الخامس قد تذكر الصورة ويراد بها الصفة يقال شرحت له صورة هذه الواقعة وذكرت له صورة هذه المسألة والمراد من الصورة في كل هذه المواضع الصفة فقوله إن الله خلق آدم على صورته أي على جملة صفاته وأحواله و ... ذلك لأن الإنسان حين يحدث يكون في غاية الجهل والعجز ثم لا يزال(6/362)
يزداد علمه وقدرته إلى أن يصل إلى حد الكمال فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم خلق من أول الأمر كاملاً تامًّا في علمه وقدرته وقوله خلق الله آدم على صورته معناه أنه خلقه في أول الأمر على صفته التي كانت حاصلة له في آخر الأمر وأيضاً فلا يبعد أن يدخل في لفظ الصورة كونه سعيداً أو شقيًّا كما قال صلى الله عليه وسلم السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه فقوله صلى الله عليه وسلم(6/363)
إن الله خلق آدم على صورته أي على جميع صفاته من كونه سعيداً أو عارفاً أو تائباً أو مقبولاً من عند الله تعالى الطريق الثالث أن يكون ذلك الضمير عائداً إلى الله تعالى وفيه وجوه الأول المراد من الصورة الصفة كما بيناه فيكون المعنى أنه آدم عليه السلام امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات قادراً على استنباط الحرف والصناعات وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله تعالى من بعض الوجوه فصح قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته بناء على هذا التأويل فإن قيل المشاركة في صفات الكمال تقتضي المشاركة في الإلهية قلنا المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المساواة في الإلهية ولهذا المعنى قال الله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم 27] وقال صلى الله عليه وسلم تخلقوا بأخلاق الله(6/364)
الثاني أنه كما يصح إضافة الصفة إلى الموصوف فقد يصح إضافتها إلى الخالق والموجد فيكون الغرض من هذه الإضافة الدلالة على أن هذه الصورة ممتازة عن سائر الصور بمزيد من الكرامة والجلالة الثالث قال الشيخ الغزالي ليس الإنسان عبارة عن هذه البنية بل هو موجود ليس بجسم ولا جسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير والتصرف(6/365)
فقوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته أي نسبة ذات آدم عليه السلام إلى هذا البدن كنسبة الباري تعالى إلى العالم من حيث أن كل واحد منهما غير حال هذا الجسم وإن كان مؤثراً فيه بالتصرف والتدبير قال الخبر الثاني ما رواه ابن خزيمة في كتابه الذي سماه التوحيد بإسناده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(6/366)
لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن(6/367)
قال واعلم أن ابن خزيمة ضعَّف هذه الرواية ويقول إن صحت هذه الراوية فلها تأويلان الأول أن يكون المراد من الصورة الصفة على ما بيناه الثاني أن يكون المراد من هذه الإضافة بيانُ شرف هذه الصورة كما في قوله بيت الله وناقة الله قلت هذا الحديث أخرجوه في الصحيحين من وجوه ففي الصحيحين عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً ثم قال اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاسمع ما يحيون كبه فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة(6/368)
على صورة آدم قال في رواية يحيى بن جعفر ومحمد ابن رافع على صورته(6/369)
وروى البخاري من حديث أبي سعيد المقبري وهمام أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه ورواه مسلم من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن(6/370)
الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه ومن حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بهذا الإسناد وقال إذا ضرب أحدكم ومن حديث سهيل بن أبي صالح عن(6/371)
أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه ومن حديث أبي أيوب يحيى بن مالك المراغي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمن الوجه وفي رواية محمد بن حاتم فيه قال إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله(6/372)
خلق آدم على صورته وليس ليحيى بن مالك عن أبي هريرة في الصحيحين غيره والكلام على ذلك أن يقال هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين من الكتب(6/373)
كالتوراة وغيرها ولكن كان من العلماء في القرن الثالث من يكره روايته ويروي بعضه كما يكره رواية لعض الأحاديث لمن يخاف أن نفسه ويفسد عقله أو دينه كما قال عبد الله بن مسعود ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وفي البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وإن كان مع ذلك لا يرون كتمان ما جاء به الرسول مطلقاً بل لابد أن يبلغوه حيث يصلح ذلك ولهذا اتفقت(6/374)
الأمة على تبليغه وتصديقه وإنما دخلت الشبهة في الحديث لتفريق ألفاظه فإن من ألفاظه المشهورة إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وهذا فيه حكم عملي يحتاج إليه الفقهاء وفيه الجملة الثانية الخبرية المتعلقة بلا وكثير من الفقهاء روى الجملة الأولى فقط وهي قوله فإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه ولم يذكر الثانية وعامة أهل الأصول والكلام إنما يروون الجملة الثانية وهي قوله خلق الله آدم على صورته ولا يذكرون الجملة الطلبية(6/375)
فصار الحديث متواتراً بين الطائفتين وصاروا متفقين على تصديقه لكن مع تفريق بعضه عن بعض وإن كان محفوظاً عند آخرين من علماء الحديث وغيرهم وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء في إخباره بخلق آدم في ضمن حديث طويل إذا ذكر على وجهه زال كثير من الأمور المحتملة ولكن ظهر لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم كأبي ثور(6/376)
وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم ولذلك لأنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة وذلك مثل ما ذكره أبو بكر بن خزيمة في كتاب التوحيد فإنه ذكر الاحتمالات الثلاثة ذكر عود الضمير إلى المضروب وذكر عوده إلى آدم وتأول عوده إلى الله على إضافة الخلق فقال باب ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم تأولها بعض من لم يتبحر العلم على غير تأويلها ففتن عالماً من أهل الجهل والعناد حملهم الجهل بمعنى الخبر على القول بالتشبيه جل وعز عن أن يكون وجه خلق من خلقه مثل(6/377)
وجهه الذي وصفه بالجلال والإكرام ونفى الهلاك عنه حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال حدثنا شعيب يعني ابن الليث حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن(6/378)
سعيد بن لأبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقولن أحدكم لأحد قبح الله وجهك ووجهاً أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن(6/379)
سعيد عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وحدثنا بندار حدثنا يحيى بن سعيد حدثني ابن عجلان قال حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك بمثل حديث أبي(6/380)
موسى حدثنا أبو موسى قال حدثنا يحيى عن أبي عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه قال أبو بكر بن خزيمة ليس في خبر ابن عجلان أكثر من هذا ومعنى هذا أن يحيى بن سعيد القطان الإمام رواه عن ابن عجلان عن المقبري كما رواه الليث وغيره ورواه أيضاً عنه عن أبيه عن أبي هريرة لكن يذكر إحدى الجملتين فقط وكان عند ابن عجلان الحديث عن المقبري وعن أبيه وقد رواه البخاري في صحيحه من طريق(6/381)
مالك عنه مختصراً فقال البخاري باب إذا ضرب العبد فليتجنب الوجه حدثنا محمد بن عبيد الله قال حدثنا ابن وهب حدثني مالك بن أنس قال وأخبرني ابن فلان عن(6/382)
سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البخاري وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه(6/383)
وقد روى البخاري ومسلم الحديث في خلق آدم بطوله ثم قال ابن خزيمة توهم بعض من لم يتبحر العلم أن قوله على صورته يريد صورة الرحمن عز وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر بل معنى قوله خلق آدم على صورته الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم أراد أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب والذي قبح وجهه فزجر صلى الله عليه وسلم أن يقول ووجه من أشبه وجهك لأن وجه آدم شبيه وجوه بنيه فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك كان مقيحاً وجه آدم صلوات الله عليه الذي وجوه بنية شبيهة بوجه أبيهم فتفهموا رحمكم الله معنى الخبر لا تغلطوا ولا تغالطوا فتضلوا عن سواء السبيل وتحملوا على القول بالتشبيه(6/384)
الذي هو ضلال قال وقد رويت في نحو هذا لفظة أغمض من اللفظة التي ذكرناها في خبر أبي هريرة وهو ما حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن الأعمش عن(6/385)
حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن قال وروى الثوري هذا الخبر مرسلاً غير مسند حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى(6/386)
قال حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبح الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن قال أبو بكر وقد افتتن بهذه اللفظة التي في خبر عطاء عالم ممن لم يتبحر العلم وتوهموا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر من إضافة صفات الذات فغلطوا في ذلك غلطاً بيناً وقالوا مقالة شنيعة مضاهية لقول المشبهة أعاذنا الله وكل المسلمين من قولهم قال والذي عندي في تأويل هذا الخبر إن صح من(6/387)
جهة النقل موصولاً فإن للخبر عللاً ثلاثاً إحداهن أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسل الثوري ولم يقل عن ابن عمر والثانية أن الأعمش مدلس لم يذكر أنه سمعه من حبيب ابن أبي ثابت والثالثة أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس لم يعلم أنه سمعه من عطاء سمعت إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد يقول حدثنا أبو بكر بن عياش عن(6/388)
الأعمش قال قال حبيب بن أبي ثابت لو حدثني رجل عنك بحديث لم أبال أن أرويه عنك يريد لم أبال أن أدلسه قال أبو بكر ومثل هذا الخبر لا يكاد يحتج به علماؤنا من أهل الأثر لاسيما إذا كان الخبر في مثل هذا الجنس فيما يوجب العلم لو ثبت لا فيما يوجب العمل لما قد يستدل على صحته وثبوته بدلائل من نظر وتشبيه وتمثيل معين من سنن(6/389)
النبي صلى الله عليه وسلم قال فإن صح هذا الخبر مسنداً بأن يكون الأعمش قد سمعه من حبيب بن أبي ثابت قد سمعه من عطاء بن أبي رباح وصح أنه عن ابن عمر على ما رواه الأعمش فمعنى هذا الخبر عندنا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر إنما هو من إضافة الخلق إليه لأن الخلق يضاف إلى الرحمن إذ الله خلقه وكذلك الصورة تضاف إلى الرحمن لأن الله صورها ألم تسمع قوله عز وجل هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان 11] فأضاف الله الخلق إلى نفسه إذ الله تولى خلقه وكذلك قوله تعالى هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فأضاف الله الناقة إلى نفسه وقال تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وقال أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً(6/390)
فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء 97] وقال إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف 128] فأضاف الأرض إلى نفسه إذ الله تولى خلقها وبسطها وقال فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم 30] فما أضاف الله على نفسه على معنيين أحدهما إضافة الذات والآخر إضافة الخلق فتفهموا هذين المعنيين لا تغالطوا قال فمعنى الخبر إن صح من طريق النقل مسنداً فإن ابن آدم خلق على الصورة التي خلقها الرحمن حين صور آدم ثم نفخ فيه الروح قال الله جل وعلا وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف 11] والدليل على صحة هذا التأويل أن أبا موسى محمد بن المثنى حدثنا قال حدثنا أبو عامر عبد الملك بن(6/391)
عمرو قال حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن(6/392)
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما أنبأنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث كثيرة وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال له اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك(6/393)
فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن قال أبو بكر فصورة آدم هي ستون ذراعاً التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم خلق عليها لا على ما توهم بعض من لم يتبحر العلم فظن أن قوله على صورته على صورة الرحمن صفة من صفات ذاته عز وجل عن أن يوصف بالذرعان والأشبار قد نزه الله(6/394)
نفسه وتقدس عن صفات المخلوقين وقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى 11] وهو كما وصف نفسه في كتابه على لسان نبيه لا كصفات المخلوقين من الحيوان ولا من الموتان كما شبه الجهمية معبودهم بالموتان لا ولا كما شبه الغالية من الرافضة معبودهم ببني آدم قبح الله هذين القولين وقائلهما حدثنا أحمد بن منيع(6/395)
ومحمود بن خداش قالا حدثنا أبو سعد الصاغاني قال حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن(6/396)
أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 1-4] قال ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء وقال ابن خداش في حديثه فالصمد الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد(6/397)
إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث وأن الله لا يموت ولا يورث والباقي مثل لفظ ابن منيع هذا مجموع ما ذكره ابن خزيمة قال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول عن(6/398)
الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول ذكر فيه الأئمة الاثنى عشر المتبوعين في العلم وهم الشافعي ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل والبخاري وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والأوزاعي والليث بن(6/399)
سعد وإسحاق بن راهوية وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان(6/400)
وقد ذكر في ترجمة سفيان بن سعيد الثوري أنه سئل عن قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] قال علمه ثم ذكر في أثناء الترجمة فإن قيل فقد منعتم من التأويل وعددتموه من الأباطيل فما قولكم في تأويل السلف وما وجهه نحو ما يروى عن ابن عباس في معنى اسْتَوَى أي استقر وما رويتم عن سفيان في قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ قال علمه الجواب قلنا لعلتين لا ثالث لهما على أن الجواب عن السؤال أن يقال إن كان السلف صحابيًّا فتأويله مقبول(6/401)
متبع لأنه شاهد الوحي والتنزيل وعرف التفسير والتأويل وابن عباس من علماء الصحابة وكانوا يرجعون إليه في علم التأويل وكان يقول أنا من الراسخين في العلم إذ كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ظهراني الأئمة الأربعة وسائر المشايخ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يدأب ليلاً ونهاراً في البحث والتسآل عن النساء والرجال الذين عرفوا تأويل ما لم يعرفه في صغره وشاهدوا تنزيل ما لم يشاهده في حاله من كبره وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعرفة التأويل وكان رديفاً له فقال اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين(6/402)
وكان لعمر مجلسان في كل يوم مجلس لكبار الصحابة ومشايخهم ومجلس لشبانهم وكان يأمر ابن عباس أن يحضر مع كبار الصحابة مجلسه فكانت إذا ألقيت عليهم مسألة يجيبون فيها قال لابن عباس غص يا غواص دس يا دواس إذا أجاب ابن عباس بجواب صوبه وقرره وإذا تقرر أن تأويل الصحابة مقبول فتأويل ابن عباس أولى بالاتباع والقبول فإنه البحر العباب وبالتأويل أعلم الأصحاب فإذا صح عنه تأويل الاستواء بالاستقرار وضعنا له الحد بالإيمان والتصديق وعرفنا من الاستقرار ما عرفناه من الاستواء وقلنا إنه ليس باستقرار يتعقب تعباً واضطراباً بل هو كيف شاء وكما يشاء والكيف فيه مجهول والإيمان به(6/403)
واجب كما نقول في الاستواء سواء فأما إذا لم يكن السلف صحابيًّا نظرنا في تأويله فإن تابعه عليه الأئمة المشهورون من نقله الحديث والسنة ووافقه الثقاة الأثبات تابعناه وقبلناه ووافقناه فإنه وإن لم يكن إجماعاً حقيقة إلا أن فيه مشابهة الإجماع إذ هو سبيل المؤمنين وتوافق المتفقين الذين لا يجتمعون على الضلالة ولأن الأئمة لو لم يعلموا أن ذلك عن الرسول والصحابة لم يتابعوه عليه فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول وإن صدر ذلك التأويل عن إمام معروف غير مجهول نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن خزيمة تأويل الحديث خلق الله آدم على صورته فإنه يفسر ذلك بذلك التأويل ولم يتابعه عليه من قبله من أهل الحديث لما روينا عن أحمد رحمه الله تعالى ولم يتابعه أيضاً من بعده حتى رأيت في كتاب الفقهاء(6/404)
للعبادي الفقيه أنه ذكر الفقهاء وذكر عن كل واحد منهم مسألة تفرد بها فذكر الإمام ابن خزيمة وأنه تفرد بتأويل هذا الحديث خلق الله آدم على صورته على أني سمعت عدة من المشايخ رووا أن ذلك التأويل مزور مربوط على ابن خزيمة وإفك افتُرى عليه فهذا وأمثال ذلك من التأويل لا نقيله ولا يُلتفت إليه بل نوافق ونتابع ما اتفق الجمهور عليه(6/405)
وكذلك في تأويل الشيخ أبي أحمد محمد بن علي الفقيه الكرجي الإمام المعروف بالقصاب للآيات والأخبار الواردة في إحساس الميت بالعذاب وإطنابه في كتابه المعروف بـ نكت القرآن وذهابه إلى أن الميت بعد السؤال لا يحس طول لبثه في البرزخ ولا بالعذاب فنقول هذا تأويل تفرد به ولم يتابعه الأئمة عليه والقول ما ذهب إليه الجمهور وتفرده بالمسائل لا يؤثر ولا يقدح في درجاتهم وعذر كل من تفرد بمسألة من أئمتنا من عصر الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا أن يقال لكل عالم هفوة ولكل صارم نبوة ولكل جواد كبوة وكذلك عذر كل إمام ينفرد بمسألة على ممر الأعصار والدهور غير أن المشهور ما ذهب إليه الجمهور(6/406)
وأما قول سفيان في قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] وقوله إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] أنه علمه وكذلك قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] أنه علمه فاعلم أن هذا في الحقيقة ليس بتأويل بل هو المفهوم من خطاب الأعلى مع الأدنى فإن في وضع اللغة إذا صدر مثل هذه اللفظة من السادة مع العبيد لا يفهم إلا التقريب والهداية والإعانة والرعاية كما قال تعالى لموسى وهارون اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) [طه 43-44] فقال موسى لهارون رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) [طه 45] فقال لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] ومعلوم أن هذا الخطاب لا يفهم منه إلا الإعانة والرعاية والهداية كما قال صلى الله عليه وسلم لسعد إرم وأنا معك(6/407)
نعم إذا صدر الخطاب من الأدنى مع الأعلى نحو العبد إذا قال لسيده إني معك يُفهم الصحبة والخدمة ولا يفهم الإعانة والرعاية قال ثم إن قلنا إن قول سفيان في الآية تأويل فهو تأويل يروى عن ابن عباس وتأويل الصحابة مقبول لما ذكرناه وإن كان تأويل سفيان إلا أنه تابعه عليه الأئمة على ما رويناه عن مالك وسفيان بن عيينة وكذلك عن الشافعي وأحمد وغيرهم فإن قولهم إن الله على عرشه بائن من(6/408)
خلقه وعلمه محيط بكل مكان موافقة منهم لما قاله سفيان وقد ذكرنا أن التأويل إذا تابع عليه الأئمة فهو مقبول فإن قيل فهلا جوزتم التأويل على الإطلاق اعتباراً بتأويل السلف قلنا معاذ الله أن يجوز ذلك إذ ليس الأصول تتلقى من الرأي حتى يقاس عليه ويقال لما جاز للسلف التأويل جاز للخلف فإنا قد بينا أن تأويل السلف إن صدر من الصحابة فهو مقبول لأنهم سمعوه من الرسول وإن صدر من غيرهم وتابعهم عليه الأئمة قبلناه وإن تفرد نبذناه وأعرضنا عنه إعراضنا عن تأويل الخلف قلت فقد ذكر الحافظ أبو موسى المديني فيما جمعه من مناقب الإمام الملقب بقوام السنة أبي القاسم إسماعيل(6/409)
ابن محمد التيمي صاحب كتاب الترغيب والترهيب قال سمعته يقول أخطأ محمد بن خزيمة في حديث(6/410)
الصورة ولا يطعن عليه بذلك بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب قال أبو موسى أشار بذلك أنه قل من إمام وإلا وله زلة فإذا تثرك ذلك الإمام لأجل زلته ترك كثير من الأئمة وهذا لا ينبغي أن يفعل قال وقد كان في شدة تمسكه بالسنة وتعظيمه للحديث وتحرزه من العدول عنه ما تكلم فيه من حديث نعيم بن حماد الذي رواه بإسناده في النزول(6/411)
بالذات وكان من اعتقاد الإمام إسماعيل أن نزول الله بالذات وهو مشهور من مذهبه قد كتبه في فتاوى عدة وأملى فيه أمالي جمة إلا أنه كان يقول هذا الإسناد الذي رواه نعيم إسناد مدخول وفيه مقال وعلى بعض رواته مطعن لا تقوم به الحجة ولا يجوز نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كنا نعتقد ذلك إلا بعد أن يرد بإسناد صحيح(6/412)
قال وسألت الإمام أبا القاسم إسماعيل بن محمد يوماً وقلت له أليس قد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله اسْتَوَى قعد قال نعم قلت له يقول إسحاق بن راهوية إنما يوصف بالقعود من يمثل القيام فقال لا أدري أيش يقول إسحاق قال وهذا من تمسكه بالسنة وتركه الالتفات مع ثبوت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة إلى غير ذلك وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة ما ذكره إسحاق بن منصور الكوسج في مسائله(6/413)
المشهورة عن أحمد وإسحاق أنه قال لأحمد لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته أليس تقول بهذه الأحاديث قال أحمد صحيح وقال إسحاق صحيح ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي وذكر أيضاً عن يعقوب ابن بختان أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته فقال لا تفسره ما لنا أن نفسره كما جاء الحديث(6/414)
قال الخلال وأخبرنا أبو بكر المروذي قال قلت لأبي عبد الله كيف تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته قال الأعمش يقول عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر قال وقد رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم على صورته فنقول كما جاء في الحديث قال وسمعت أبا عبد الله يقول لقد سمعت الحميدي يحضره سفيان بن(6/415)
عيينة فذكر هذا الحديث خلق الله آدم على صورته فقال من لا يقول بهذا فهو كذا وكذا يعني من الشتم وسفيان ساكت لا يرد عليه شيئاً قال المروذي أظن، ي ذكرت لأبي عبد الله عن بعض المحدثين بالبصرة أنه قال قول النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته قال صورة الطين قال هذا جهمي وقال نسلم الخبر كما جاء وروى الخلال عن أبي طالب من وجهين قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل أن(6/416)
يخلقه قال الخلال وأخبرنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له أي شيء أنكر على بشر بن السري وأي شيء كانت قصته بمكة قال تكلم بشيء من كلام الجهمية فقال إن قوماً يجدون قيل له التشبيه فأومأ برأسه نعم فقال فقام به مؤمل حتى جلس فتكلم ابن(6/417)
عيينة في أمره حتى أخرج وأراه كان صاحب كلام وقال الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني قال سمعت إسحاق بن راهوية يقول قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق آدم على صورة الرحمن إنما عليه أن ينطق بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نطق به(6/418)
قال إسحاق حدثنا جرير عن الأعمش عن حبيب ابن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن فقد صحح إسحاق حديث ابن عمر مسنداً خلاف ما ذكره ابن خزيمة قال الخلال أنا يعقوب بن سفيان الفارسي قال حدثنا محمد بن حميد حدثنا الفرات(6/419)
ابن خالد عن سفيان الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق آدم على صورته وقال الخلال أن علي بن حرب الطائي حدثنا زيد ابن أبي الزرقاء عن ابن(6/420)
لهيعة عن أبي يونس والأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن عز وجل(6/421)
وما كان من العلم الموروث عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلنا أن نستشهد عليه بما عند أهل الكتاب كما قال تعالى قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) [الرعد 43] وقال تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) [يونس 94-95] وقال تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف 10] وقال تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) [الشعراء 196-197] وقال تعالى أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) [الأنعام 114] وقال تعالى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) [الأنعام 20] وقال تعالى وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ [الرعد 36] وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره تميم(6/422)
بخبر الدجال والجساسة فرح بذلك وقال حدثني حديثاً يوافق ما كنت حدثتكموه إذا عرف ذلك فيقال أما عود الضمير إلى غير الله فهذا باطل من وجوه أحدها أن في الصحيحين ابتداء إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً وفي أحاديث أخر إن الله خلق آدم على صورته ولم يتقدم ذكر أحد يعود الضمير إليه(6/423)
وما ذكر بعضهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يضرب رجلاً ويقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فقال خلق الله آدم على صورته أي على صورة هذا المضروب فهذا شيء لا أصل له ولا يعرف في شيء من كتب الحديث الثاني أن الحديث الآخر لفظه إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته وليس في هذا ذكر أحد يعود الضمير إليه الثالث أن اللفظ الذي ذكره ابن خزيمة وتأويله وهو قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجهًا أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته ليس فيه ذكر أحد يصلح عود الضمير إليه وقوله في التأويل أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب والذي(6/424)
قبح وجهه فزجر صلى الله عليه وسلم أن يقول ووجه من أسبه وجهك يقال له لم يتقدم ذكر مضروب فيما رويته عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في لفظه ذكر ذلك بل قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ولم يقل إذا قاتل أحدكم أحدًا وإذا ضرب أحدًا والحديث الآخر ذكرته من رواية الليث بن سعد ولفظه ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجهًا أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وليس في هذا ذكر مر حتى يصلح عود الضمير إليه فإن قيل قد يعود الضمير إلى ما دل عليه الكلام وإن لم يكن مذكورًا كما في قوله تعالى وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران 180] أي البخل لأن لفظ يبخلون يدل على المصدر الذي هو البخل ومنه قول الشاعر(6/425)
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف أي إلى السفه قيل هذا إنما يكون فيما لا لبس فيه حيث لم يتقدم ما يصلح لعود الضمير إليه إلاَّ ما دل عليه الخطاب فيكون العلم بأنه لابد للظاهر من مضمر يدل على ذلك أما إذا تقدم اسم صريح قريب إلى الضمير فلا يصلح أن يترك عوده إليه ويعود إلى شيء متقدم لا ذكر له في الخطاب وهذا مما يعلم بالضرورة فساده في اللغات الرابع أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر بأن الله خلق آدم على صورته في غاية البعد لاسيما وقوله وإذا قاتل أحدكم وإذا ضرب أحدكم عام في كل مضروب والله خلق آدم على صورهم جميعهم فلا معنى لإفراد الضمير وكذلك قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك عام في كل مخاطب والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم(6/426)
الخامس أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم لم يخلق آدم على صورهم فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم وجوده لا يقال إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود كما يقال خلق الخلق على غير مثال أو نسج هذا على مثال هذا ونحو ذلك فإنه في جميع هذا إنما يكون المصنوع المقيس متأخرًا في الذكر عن المقيس عليه وإذا قيل خلق الولد على صورة أبيه أو على خلق أبيه كان كلامًا سديدًا وإذا قيل خلق الوالد على صورة ولده أو على خلقه كان كلامًا فاسدًا بخلاف ما إذا ذكر التشبيه بغير لفظ الخلق وما يقوم مقامه مثل أن يقال الوالد يشبه ولده فإن هذا سائغ لأن قوله خلق(6/427)
إخبار عن تكوينه وإبداعه على مثال غيره ومن الممتنع أن الأول كون على مثال ما لم يكن بعد وإنما يكون على مثال ما قد كان السادس أنه إذا كان المقصود أن هذا المضروب والمشتوم يشبه آدم فمن المعلوم أن هذا من الأمور الظاهرة المعلومة للخاص والعام فلو أريد التعليل بذلك لقيل فإن هذا يدخل فيه الأنبياء أو فإن هذا يدخل فيه آدم ونحو ذلك من العبارات التي تبين قبح كلامه وهو اشتمال لفظه على ما يعلم هو وجوده أما مجرد إخباره بما يعلم وجوده كل أحد فلا يستعمل في مثل هذا الخطاب السابع أنه إذا أريد جرد المشابهة لآدم وذريته لم يحتج إلى لفظ خلق على كذا فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما فعل على مثال غيره بل يقال فإن وجهه يشبه وجه آدم أو فإن صورته تشبه صورة آدم الثامن أن يقال هب أن هذه العلة تصلح لقوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فكيف(6/428)
يصلح لقوله إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه ومعلوم أن كون صورته تشبه صورة آدم لا توجب سقوط العقوبة عنه فإن الإنسان لو كان يشبه نبيًّا من الأنبياء أعظم من مشابهة الذرية لأبيهم في مطلق الصورة والوجه ثم وجبت على ذلك الشبيه بالنبي عقوبة لم تسقط عقوبته بهذا الشبه باتفاق المسلمين فكيف يجوز تعليل تحريم العقوبة بمجرد المشابهة المطلقة لآدم التاسع أن في ذرية آدم من هو أفضل من آدم وتناول الفظ لجميعهم واحد فلو كان المقصود بالخطاب ليس ما يختص به آدم من ابتداء خلقه على صورة بل المفصود مجرد مشابهة المضروب المشتوم له لكان ذكر سائر الأنبياء والمرسلين بالعموم هو الوجه وكان تخصيص غير آدم بالذكر أولى كإبراهيم وموسى وعيسى وإن كان آدم أبوهم فليس هذا المقام مقاماً له به اختصاص على زعم هؤلاء العاشر وهو قاطع أيضاً أن يقال كون الوجه يشبه وجه(6/429)
آدم هو مثل كون سائر الأعضاء تشبه أعضاء آدم فإن رأس الإنسان يشبه رأس آدم ويده تشبه يده ورجله تشبه رجله وبطنه وظهره وفخذه وساقه يشبه بطن آدم وظهره وفخذه وساقه فليس للوجه بمشابهة آدم اختصاص بل جميع أعضاء البدن بمنزلته في ذلك فلو صلح أن يكون هذا علة لمنع الضرب لوجب أن لا يجوز ضرب شيء من أعضاء بني آدم لأن ذلك جميعه على صورة أبيهم آدم وفي إجماع المسلمين على وجوب ضرب هذه الأعضاء في الجهاد للكفار والمنافقين وإقامة الحدود مع كونها مشابهة لأعضاء آدم وسائر النبيين دليلٌ على أنه لا يجوز المنع من ضرب الوجه ولا غيره لأجل هذه المشابهة الوجه الحادي عشر أنه لو كان علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه أنه يشبه وجه آدم لنهي أيضلً عن الشتم والتقبيح لسائر الأعضاء لا يقولن أحدكم قطع الله يدك ويد من أشبه يدك الوجه الثاني عشر أن ما ذكره من تأويل ذلك فإنه إبطال لقول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى مثل ما يقال إنه(6/430)
كان عظيم الجثة طويل القامة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى إنسان معين وقال إن الله خلق آدم على صورته أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت البتة يقال لهم الحديث المتفق عليه في الصحيحين مناقض لهذا التأويل مصرح فيه بأن خلق آدم أعظم من صور بنيه بشيء كثير و، هـ لم يكن على شكل أحد من أبناء الزمان كما في الصحيحين عن همام بن منيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق اله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً ثم قال اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاسمه ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالو السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم قال فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن قال في رواية يحيى بن جعفر ومحمد بن رافع على صورته فهذا الحديث الذي هو أشهر الأحاديث التي فيها أن الله خلق(6/431)
آدم على صورته ذكر فيه أن طوله ستين ذراعاً وأن الخلق لم يزل ينقص حتى الآن وأن أهل الجنة يدخلون على صورة آدم ولم يقل إن آدم على صورتهم بل قال هم على صورة آدم وقد روي أن عرض أحدهم سبعة أذرع فهل في تبديل كلام الله ورسوله أبلغ من هذا أن يجعل ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به وأوجب التصديق به قد نفاه وأبطله وأوجب تكذيبه وإبطاله الوجه الثالث عشر أنه قد روي من غير وجه على صورة الرحمن(6/432)
فصل وأما قول من قال الضمير عائد إلى آدم كما ذكر ذلك للإمام أحمد عن بعض محدثي البصرة ويذكر ذلك عن أبي ثور فهو كما قال الإمام أحمد هذا تأويل الجهمية وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه وقد زعم المؤسس أنه أولى الوجوه الثلاثة وليس كما ذكره بل هو أفسد الوجوه الثلاثة ولهذا لم يعدل إليه ابن خزيمة إلا عند الضرورة لرواية من روى على صورة(6/433)
الرحمن ولقوله ابتداء إن الله خلق آدم على صورته فأما حيث ظن أن التأويل الأول ممكن فلم يقل هذا وبيان فساده من وجوه أحدها أنه إذا قيل إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورة آدم أو لا تقبحوا الوجه ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورة آدم كان هذا من أفسد الكلام فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلاً فإن كون آدم مخلوقاً على صورة آدم فأي تفسير فسر ليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنيه ولا عن تقبيحها وتقبيح ما يشبهها وإنما دخل التلبيس بهذا التأويل حيث فرق الحديث فروي قوله إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه مفرداً وروي قوله(6/434)
الله خلق آدم على صورته مفرداً أما مع أداء الحديث على وجهه فإن عود الضمير إلى آدم يمتنع فيه وذلك أن خلق آدم على صورة آدم سواء كان فيه تشريف لآدم أو كان فيه إخبار مجرد بالواقع فلا يناسب هذا الحكم الوجه الثاني أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم بأي وجه فسر ذلك فلا فرق بين الوجه وسائر الأعضاء في هذا الحكم فلو كان خلق آدم على صورة آدم مانعاً من ضرب الوجه أو تقبيحه لوجب أن يكون مانعاً من ضرب سائر الأعضاء وتقبيح سائر الصور وهذا معلوم الفساد في العقل والدين وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة من أقبح الكلام وإضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا صدر إلا عن جهل عظيم أو نفاق شديد إذ لا خلاف في علمه وحكمته وحسن كلامه وبيانه كما يذكر أن بعض الزنادقة سمع قارئاً يقرأ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل 112] فقال وهل يذاق(6/435)
اللباس فقالت له امرأة هبك تشك في بداية العقول أو يعلل حكم المحل بعلة لا تعلق لها به فإن هذا مثل أن يقال لا تضربوه وجوه بني آدم فإن أباهم له صفات يختص هو بها دونهم مثل كونه خلق من عير أبوين أو يقال لا تضربوا وجوه بني آدم فإن أباهم خلق من غير أبوين الوجه الثالث أن هذا تعليل للحكم بنا يوجب نفيه وهذا من أعظم التناقض وذلك أنهم تأولوا الحديث على أن آدم لم يخلق من نطفة وعلقة ومضغة وعلى أنه لم يتكون في مدة طويلة بواسطة العناصر وبنوه قد خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وخلقوا في مدة من عناصر الأرض فإن كانت العلة المانعة من ضرب الوجه وتقبيحه كونه خلق على ذلك الوجه وهذه العلة منتفية في بنيه فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بنيه وتقبيحها لانتفاء العلة فيها فإن آدم(6/436)
هو الذي خلق على صورته دونهم إذ هم لم يخلقوا كما خلق آدم على صورهم التي هم عليها بل نقلوا من نطفة إلى علقة إلى مضغة الوجه الرابع ما أبطل به الإمام أحمد هذا التأويل حيث قال من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه وهذا الوجه الذي ذكره الإمام أحمد يعم الأحاديث يعم قوله ابتداء إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً ويعم قوله لا تقبحوا الوجه وإذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته وذلك أن قوله خلق الله آدم على صورته يقتضي أنه كان له صورة قبل الخلق خلقه عليه فإن هذه العبارة لا تستعمل إلا في مثل ذلك وبمثل هذا أبطلنا من يقول إن الضمير عائد إلى المضروب فإن المضروب متأخر عن آدم ولا يجوز في مثل هذا الكلام أن(6/437)
تكون الصورة التي خلق عليها آدم متأخرة عن حين خلقه سواء كانت هي صورته أو صورة غيره فإذا قيل عملت هذا على صورة هذا أو على مثال هذا أو لم يعمل هذا على صورة غيره أو لم يعمل على مثال أو لم ينسج على منوال غيره كما يقال في تمجيد الله تعالى خلق الله العالم على غير مثال والإبداع خلق الشيء على غير مثال ونحو ذلك من العبارات كان معناها المعلوم بالاضطرار من اللغة عند العامة والخاصة أن ذلك على صورة ومثال متقدم عليه أو لم يعمل على صورة ومثال متقدم عليه وذلك أن هذا اللفظ تضمن معنى القياس فقوله خلق أو عمل أو صنع على صورة كذا أو مثاله أو منواله تضمن معنى قيس عليه وقدر عليه وإذا كان كذلك فجميع ما يذكر من التأويلات مضمونه أو صورته تأخرت عنه فتكون باطلة(6/438)
وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أنه لم تكن لآدم صورة خلق عليها قبل صورته التي خلقها الله تعالى الوجه الخامس أن جميع ما يذكر من التأويل كقول القائل خلق آدم على صورة آدم موجود نظيره في جميع المخلوقات فإنه إن أريد بذلك على صورتها الثابتة في القدر في علم الله وكتابه أي على صفتها التي هي عليها أو غير ذلك فهذا موجود نظيره في سائر المخلوقات من السموات والأرض وما بينهما ومن الملائكة والجن والبهائم بل وذرية آدم كذلك فإنهم خلقوا على صورهم كما يذكرونه في معنى قولهم خلق الله آدم على صورة آدم فإن كون آدم على صورته يعني شبحاً موجود في صور(6/439)
هذه الأمور وأما كونه خلق على هذه الصورة ابتداء أو فيغير مدة فإنه لم يخلق إلا من حال إلى حال من التراب ثم من الطين ثم من الصلصال كما خلق بنوه من النطفة ثم العلقة ثم المضغة فلا منافاة في الحقيقة بين الأمرين فإذا جاز أن يقال في أحدهما إنه خلق على صورته رغم تنقله في هذه الأطوار جاز أن يقال في الآخر خلق على صورته مع تنقله في هذه الأطوار وإذا كان كذلك فمن المعلوم بالاتفاق أن قوله خلق آدم على صورته هي من خصائص آدم وإن كان بنوه تبعاً له في ذلك كما خلقه الله تعالى بيديه وأسجد له ملائكته علم بطلان ما يوجب الاشتراك ويزيل الاختصاص الوجه السادس أن المعنى الذي تدل عليه هذه العبارة التي ذكروها هو من الأمور المعلوم ببديهة العقل التي لا يحسن بيانها والخطاب بها لتعريفها بل لأمر آخر فإن قول القائل إن الشيء الفلاني خلق على صورة نفسه لا يدل لفظه على غير ما هو معلوم بالعقل أن كل مخلوق فإنه خلق على(6/440)
الصورة التي خلق عليها وهذا المعنى مثل أن يقال أوجد الله الشيء كما أوجده وخلق الله الأشياء على ما هي عليه وعلى الصورة التي هي عليها ونحو ذلك مما هو معلوم ببديهة العقل ومعلوم أن بيان هذا وإيضاحه قبيح جدًّا الوجه السابع أن دلالة قول القائل خلق آدم على صورة آدم على ما يدعونه من معان أخر مثل كونه غير مخلوق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة أو كونه لم يخلق في مدة ومن مادة أو لم يخلق بواسطة القوى والعناصر مما لا جليل عليه بحال فإن هذا اللفظ لا يفهم منه هذه المعاني بوجه من الوجوه فلابد أن يبين وجه دلالة اللفظ على المعنى من جهة اللغة ويذكر له نظير في الاستعمال الوجه الثامن أن رواية الحديث من وجوه فسائر الألفاظ تبطل عود الضمير إلى آدم مثل قوله لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن وقوله في الطريق الآخر من حديث أبي هريرة إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن وقول ابن عباس فيما يذكره عن الله تعالى تعمد إلى خلق من خلقي(6/441)
خلقتهم على صورتي فتقول لهم اشربوا يا حمير فأما قوله إن حديث ابن عمر قد ضعفه ابن خزيمة فإن الثوري أرسله فخالف فيه الأعمش وأن الأعمش وحبيباً(6/442)
مدلسان فيقال قد صححه إسحاق بن راهوية وأحمد ابن حنبل وهما أجل من ابن خزيمة باتفاق الناس وأيضاً فمن المعلوم أن عطاء ابن أبي رباح إذا أرسل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلابد أن يكون قد سمعه من أحد وإذا كان في إحدى الطريقين قد بين أنه أخذه عن ابن عمر كان هذا بياناً وتفسيراً لما تركه وحذفه من الطريق الأخرى ولم يكن هذا اختلافاً أصلاً وأيضاً فلو قدر لأن عطاء لم يذكره إلا مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم أن عطاء من أجلِّ التابعين قدراً فإنه هو وسعيد بن المسيب(6/443)
وإبراهيم النخعي والحسن البصري أئمة التابعين في زمانهم وقد ذكر المصنف لهذا الحديث كابن خزيمة أن الأخبار في مثل هذا الجنس الذي توجب العلم هي أعظم من الأخبار التي توجب العمل ومعلوم أن مثل عطاء لو أفتى في مسألة فقه بموجب خبر أرسله لكان ذلك يقتضي ثبوته عنده ولهذا يجعل الفقهاء احتجاج المرسل بالخبر الذي أرسله دليلاً على ثبوته عنده فإذا كان عطاء قد جزم بهذا الخبر العلي عن(6/444)
النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الباب العظيم أيستجيز ذلك من غير أن يكون ثابتاً عنده أن يكون قد سمعه من مجهول لا يعرف أو كذاب أو سيئ الحفظ وأيضاً فاتفاق السلف على رواية هذا الخبر ونحوه مثل عطاء بن أبي رباح وحبيب بن أبي ثابت والأعمش والثوري وأصحابهم من غير نكير سمع من أحد لمثل ذلك في ذلك العصر مع أن هذه الروايات المتنوعة في مظنة الاشتهار دليل على أن علماء الأمة لم تنكر إطلاق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن بل كانوا متفقين على إطلاق مثل هذا وكراهة بعضهم لرواية ذلك في بعض الأوقات له نظائر فإن الشيء قد يمنع سماعه لبعض الجهال وإن كان متفقاً عليه بين علماء المسلمين وأيضاً فإن الله قد وصف هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجت للناس وأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فمن الممتنع(6/445)
أن يكون في عصر التابعين يتكلم أئمة ذلك العصر بما هو كفر وضلال ولا ينكر عليهم أحد فلو كان قوله خلق آدم على صورة الرحمن باطلاً لكانوا كذلك وأيضاً فقد روي بهذا اللفظ من طريق أبي هريرة والحديث المروي من طريقين مختلفين لم يتواطأ رواتهما يؤيد أحدهما الآخر ويستشهد له ويعتبر به بل قد يفيد ذلك العلم إذ الخوف في الرواية من تعمد الكذب أو من سوء الحفظ فإذا كان الرواة ممن يعلم أنهم لا يتعمدون الكذب أو كان الحديث ممن لا يتواطأ في العادة على اتفاق الكذب على لفظه لم يبق إلا سوء الحفظ فإذا كان قد حفظ كل منهما مثل ما حفظ الآخر كان ذلك دليلاً على أنه محفوظ لاسيما إذا كان ممن جرب بأنه لا ينسى لما فيه من تحرِّيه اللفظ والمعنى ولهذا يحتج من منع المرسل به إذا روي من وجه(6/446)
آخر ولهذا يجعل الترمذي وغيره الحديث الحسن ما روي من وجهين ولم يكن في طريقه متهم بالكذب ولا كان مخالفاً للأخبار المشهورة(6/447)
وأدنى أحوال هذا اللفظ أن يكون بهذه المنزلة وأيضاً فقد ثبت عن الصحابة أنهم تكلموا بمعناه كما في قول ابن عباس تعمد إلى خلق من خلقي على صورتي والمرسل إذا اعتضد به قول الصاحب احتج به من لا يحتج بالمرسل كالشافعي وغيره وأيضاً ثبت بقول الصحابة ذلك ورواية التابعين كذلك عنهم أن هذا كان مطلقاً بين الأئمة ولم يكن منكوراً بينهم وأيضاً فعلم ذلك لا يؤخذ بالرأي وإنما يقال توقيفاً ولا يجوز أن يكون مستند ابن عباس أخبار أهل الكتاب الذي هو أحد الناهين لنا عن سؤالهم ومع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تصديقهم أو تكذيبهم فعلم أن ابن عباس إنما قاله توقيفاً من النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح(6/448)
البخاري عن ابن شهاب عن عبيد الله عن عبد الله أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسولكم أحدث الكتب عهداً بالرحمن تقرؤونه محضاً لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم الكتب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم فلا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم(6/449)
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم الآية فمعلوم مع هذا أن ابن عباس لا يكون مستنداً فيما يذكره من صفات الرب أنه يأخذ ذلك عن أهل الكتاب فلم يبق إلا أن يكون أخذ من الصحابة الذين أخذوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الوجوه كلها مع أنها مبطلة لقول من يعيد الضمير في قوله على آدم فهي أدلة مستقلة في الإخبار بأن الله تعالى خلق آدم على صورة نفسه وبهذا حصل الجواب عما يذكر من كون الأعمش مدلساً حيث يقدم على رواية مثل هذا الحديث ويتلقاه عنه العلماء ويوافقه الثوري والعلماء على روايته عن ذلك الشيخ بعينه(6/450)
وكذلك قوله حبيب مدلس فقد أخذه عنه هؤلاء الأئمة وأيضاً فهذا المعنى عند أهل الكتاب من الكتب المأثورة عن الأنبياء كالتوراة فإن في السفر الأول منها سنخلق بشراً على صورتنا يشبهها وقد قدمنا أنه يجوز الاستشهاد بما عند أهل الكتاب إذا وافق ما يؤثر عن نبينا بخلاف ما لم نعلمه إلا من جهتهم فإن هذا لا نصدقهم فيه ولا نكذبهم ثم إن هذا مما لا غرض لأهل الكتاب في افترائه على الأنبياء بل المعروف من حالهم كراهة وجود ذلك في كتبهم وكتمانه وتأويله كما قد رأيت ذلك مما شاء الله من علمائهم ومع هذا الحال يمتنع أن يكذبوا كلاماً يثبتونه في ضمن التوراة(6/451)
وغيرها وهم يكرهون وجوده عندهم وإن قيل الكاره لذلك غير الكاتب له فيقال هو موجود في جميع النسخ الموجودة في الزمان القديم في جميع الأعصار والأمصار من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً فمن المعلوم أن هذه النسخ الموجودة اليوم بالتوراة ونحوها قد كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان ما فيها من الصفات كذباً وافتراءً ووصفاً لله بما يجب تنزيهه عنه كالشركاء والأولاد لكان إنكار ذلك عليهم موجوداً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين كما أنكروا عليهم مادون ذلك وقد عابهم الله في القرآن بما دون ذلك مما هو دون ذلك فلو كان هذا عيباً لكان عيب الله لهم أعظم وذمهم عليه أشد(6/452)
الوجه التاسع إبطال أعيان التأويلات التي ذكرها فأما قوله في الوجه الأول أنه لم يغير خلقة آدم ولم يمسخها كما مسخ غيره كالحية والطاووس قيل خلق آدم على صورة آدم فيقال له العبارة المعروفة عن هذا المعنى أن يقال أبقى آدم على صورته أو تركه على صورته أو لم يغير صورة آدم لا يقال خلقه على صورة نفسه فإن هذا اللفظ لا يستعمل في مثل ذلك المعنى ألا ترى أن الله لما مسخ بعض بني إسرائيل كالذين قال لهم كونوا قردة خاسئين كما قال وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [المائدة 60] وأنجى الذين كانوا ينهون عن المنكر فإنه(6/453)
لا يقال خلق هؤلاء على صورهم بل يقال أبقاهم على صورهم أو أبقى صورهم أو لم يمسخهم وهذا لما تقدم من أن هذا اللفظ لا يقال إلا فيما تقدمت الصورة على خلقه لا فيما تأخرت وأيضاً فهذا من الأمر المعروف الظاهر لكل أحد أن مضمونه أن صورة آدم كانت كهذه الصور لم تمسخ وما من الناس إلا من يعرف هذا كما يعرف آدم فقول القائل لهذا كقوله إن آدم كان له وجه وعينان وأذنان ويدان وساقان وهذا من الكلام السمج وأيضاً فالإخبار بما ذكره من مسخ غير آدم غير معلوم ولا مذكور(6/454)
وأيضاً فإن الله تعالى قد أخبر أنه تاب على آدم واجتباه وهو في الجنة قبل إهباطه إلى الأرض فزال عنه العقاب قبل هبوطه وأما التأويل الثاني وقوله إن فيه إبطال قول الدهرية الذين يقولون إن الإنسان لا يتولد إلا من نطفة ودم الطمث فيقال له قد أخبر الله في كتابه أنه خلق آدم من الماء والتراب ومن الطين ومن الحمأ المسنون وهذه نصوص ظاهرات متواترات بسمعها العام والخاص تبين أنه لم يخلق من نطفة ودم طمث وتبطل هذا القول إبطالاً بيناً معلوماً بالاضطرار فأما قول القائل إن آدم خلق على صورة آدم فليس في هذا القول دلالة على نفي كونه مخلوقاً من غيره أصلاً(6/455)
وقوله خلق آدم على صورته ابتداء من غير تقدم نطفة ثم علقة ومضغة يقال له خلق بعد تقدم تراب وطين وصلصال ودلالة اللفظ على نفي هذا المتقدم كدلالته على نفي ذلك المتقدم فإن كان قوله خلق آدم على صورة آدم يقتضي خلقه ابتداء من غير تنقل أحوال فهو ينفي الأمرين وإلا فهو ينفي لا هذا ولا هذا وهذا التخليط إنما وقع لكون الصورة التي خلق عليها جعلوها متأخرة عن الخلق وهو خلاف مدلول اللفظ وأما التأويل الثالث وقوله إن الإنسان لا يتكون في مدة أطول من مدد بنيه وبواسطة الأفلاك والعناصر فقوله خلق آدم على صورة آدم أي من غير هذه الوسائط والمقصود منه الرد على الفلاسفة فيقال هذا أظهر بطلاناً من الأول فإن آدم عليه السلام لم يتكون إلا في مدة أطول من مدد بنيه ومن مادة أعظم من مواد بنيه فإن الله خلقه من التراب والماء وجعله صلصالاً وهذه(6/456)
هي العناصر وأيضاً فإنه أبقي أربعين عاماً قبل نفخ الروح فيه وولده إنما يبقون أربعة أشهر قال تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) [الإنسان 1] وأيضاً فاللفظ لا يدل على نفي ذلك بوجه من الوجوه لا حقيقة ولا مجازاً بل هذه الدلالة من جنس ما تدعيه غالية الرافضة ونحوهم من جهال الزنادقة أن قول إِمَامٍ مُبِينٍ هو علي بن أبي طالب بل ربما هذا أقوى فإن لفظ الإمام فيه(6/457)
اشتراك وإلا فكون الشيء خلق على صورة نفسه المتقدمة أو المتأخرة أي شيء فيه مما ينفي كونه في مدة وخلق من مادة ثم إن هذا المؤسس مع كونه يحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على رفع تأثير الأفلاك والعناصر ردًّا على الفلاسفة يقرر في كتب له أخرى دلالة القرآن على تأثير الأفلاك والكواكب تارة عملاً بما يأمر به المنجمون من الأخبار وتارة أمراً بما يأمر به السحرة المشركون من عبادتهم فقد جعل كلام الله ورسوله متناقضاً حيث أثبت ذلك ونفاه ثم إنه في جانب الإثبات يغلو حتى يأمر بما هو محرم بل كفر بإجماع المسلمين وفي جانب النفي يغلو حتى يمنع كونها أسباباً كسائر الأسباب وهذا من أعظم التناقض في ما جاء به الرسول ومن جهة المعقول وأما التأويل الرابع فقوله المقصود منه بيان أن هذه الصورة الإنسانية إنما حصلت بتخليق الله لا بتأثير القوة المصورة يقال له إن كان اللفظ دالاًّ على ذلك(6/458)
فإنما يدل عليه قوله خلق الله آدم كما ذكر ذلك في القرآن في غير موضع إذ قوله على صورته لا يتعرض لذلك وإن لم يكن دالاًّ عليه فهو باطل وعلى التقديرين فدعوى أن قوله على صورته بغير القوى الطبيعية دعوى باطلة ويقال له ثانياً إخبار الله تعالى بأنه خلق آدم وهو الخالق أظهر وأشهر في القرآن وعند العامة والخاصة من أن يكون المستفاد منه يحتاج إلى قوله على صورته ويقال له ثالثاً أي شيء في قوله على صورته ما يمنع هذه القوى ويقال له رابعاً ومن الذي يمنع وجود هذه القوى والطبائع وأن الله هو خلقها وخلق بها كما أخبر في غير موضع من كتابه أنه يحدث الأشياء بعضها ببعض كما في قوله تعالى فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف 57] ومن أعظم الضلال جحود ما يوجد في المخلوقات(6/459)
وما أخبر الله به في كتابه وجعل ذلك تأويل الأحاديث مع دعوى المدعي أنه يرد بذلك على الدهرية والفلاسفة والأطباء والمشبهة وهو قد أضحك العقلاء على عقله بما جحده من الحسيات والمعقولات وألحد في آيات الله بما افتراه من التأويلات وأخبر عن الرسول أنه أخبر بجحد الموجودات مع أن لفظه صلى الله عليه وسلم من أبعد شيء عن هذه الترهات وأما التأويل الخامس فقوله إن الصورة تذكر ويراد بها الصفة يقال شرحت له صورة هذه الواقعة وذكرت له صورة هذه المسألة والمراد أن الله تعالى خلق آدم من أول الأمر كاملاً تامًّا في علمه وقدرته أو كونه سعيداً عارفاً تائباً فيقال له الصورة هي الصورة الموجودة في الخارج(6/460)
ولفظ ص ور يدل على ذلك وما من موجود م الموجودات إلا له صورة في الخارج وما يكون من الوقائع يشتمل على أمور كثيرة لها صورة موجودة وكذلك المسؤول عنه من الحوادث وغيرها له صورة موجودة في الخارج ثم تكون الصورة الموجودة ترتسم في النفس وقد تسمى صورة ذهنية فقوله شرحت له صورة الواقعة وأخبرني بصورة المسألة إما أن يكون المراد به الصورة الخارجية أو الصورة الذهنية وأما الصفة فهي في الأصل مصدر وصفت الشيء أصفه وصفاً وصفة ثم يسمون المفعول باسم المصدر سنة جارية لهم فيقولون لما يوصف به من المعاني صفة ثم قد يغلب أحد اللفظين في بعض الاصطلاحات كما اصطلح طائفة من الناس على أن جعلوا الوصف اسماً للقول والصفة اسماً للمعنى كما أن طائفة أخرى جعلوا الجميع اسماً للقول والتحقيق أن كلا منهما يدل على هذا والواصف للشيء لا يصفه حتى يعلمه فيرتسم مثاله في نفسه ومن هنا يقام(6/461)
الدليل مقام الصفة كما قد قيل في قوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد 35] قال بعضهم أي صفة الجنة التي وعد المتقون وإذا كان ما في النفس من العلم بالشيء يسمى مثلاً له وصفة فالصورة الذهنية هي المثل الذي يسمى أيضاً صفة ومثلاً ولهذا يقال تصورت الشيء وتمثلت الشيء وتخيلته إذا صار في نفسك صورته ومثاله وخياله كما يسمى مثاله الخارج صورة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله المصورين وقال من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ وقال لا تدخل الملائكة بيتاً فيه(6/462)
صورة كما يسمى ذلك تمثالاً في مثل قول علي بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني ألا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً(6/463)
مشرفاً إلا سويته وقال العلماء كابن عباس وعكرمة واحمد وغيرهم الصورة هي الرأس فإذا قطع الرأس لم تبق صورة ولهذا قال ابن عباس لمن استفتاه إن كنت مصوراً فصور الشجر وما لا روح فيه(6/464)
وسيأتي في الصحيحين من حديث القيامة قال فيه ويحرم الله صورهم على النار هذا في حديث أبي سعيد وفي حديث أبي هريرة حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود وقال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ(6/465)
اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراق 11] وقال تعالى اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر 64] وقال يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) [الانفطار 6-8] وقوله إن لفظ الصورة يذكر ويراد به الصفة إن أراد له أن الصورة توصف بالقول وأن لفظ الصورة يراد به ما يوصف بالقول من الصورة الخارجية أو ما يطابقه من الصور الذهنية فهذا قريب ولكن هذا يوجب أن لفظ الصورة لابد له من صورة خارجية وإن طابقها الصورة الذهنية وإن أراد به أن لفظ الصفة قد لا يراد به إلا ما يقوم بالأعيان من المعاني كالعلم والقدرة فهذا باطل لا يوجد في الكلام أن قول القائل صورة فلان يراد بها مجرد الصفات القائمة به من العلم والقدرة ونحو ذلك بل هذا من(6/466)
البهتان على اللغة وأهلها وأيضاً فقول القائل خلق آدم على صورة آدم بمعنى على صفة آدم لا يدل على أنه خلق على صفات الكمال ابتداء ولو أريد بالصورة ما يتأخر عن وجوده فإن المخلوق على صفة من الصفات يخلق عليها في مدة وفي غير مدة يبين ذلك أنه جعل أحد المحملين كونه خلق عارفاً تائباً مقبولاً عند الله ومعلوم أن هذه الصفة تأخر وجودها عن ابتداء خلقه فإن التوبة كانت بعد الذنب فإذا كان لا ينافي كونه مخلوقاً عليها فكذلك لا ينافي كونه مخلوقاً على صفة العلم والقدرة وإن تأخر ذلك عن وجوده وإذا كان كذلك فلا فرق بينه وبين غيره أيضاً فهذا الذي ذكره من معنى الخبر باطل فإن آدم لم يُجعل ابتداء على صفة الكمال بل بعد أن خلقه الله تعالى علَّمه الأسماء التي لم يكن بها عالماً كما علم بنيه البيان بعد أن خلقهم(6/467)
فهذه التأويلات التي هي ذكر دلالة اللفظ على معنى من المعاني تارة يكون المعنى باطلاً وتارة يكون اللفظ غير دال عليه وتارة يكون اللفظ دالاًّ على نقيضه وضده وتارة يجتمع من ذلك ما يجتمع وهذا شأن أهل التحريف والإلحاد نعوذ بالله من الغي والزيغ ونسأله الهدى والسداد وهذه التأويلات وإن كان المؤسس مسبوقاً بها وهو إن كان قد نقل منها ما نقله من كتاب أبي بكر بن فورك ونحوه وهم أيضاً مسبوقون بأمثالها فقد كان من هو أقدم منهم يذكر من التأويلات ما هو أمثل من ذلك إذ كل ما تقدم الزمان كان الناس أقرب إلى السداد في الثبوتات والقياسات الشرعيات والعقليات وكان قدماء الجهمية أعلم بما جاء به الرسول وأحسن تأويلاً من هؤلاء كما تقدم فيما ذكره عن المروذي عن أحمد أنه ذكر له عن بعض المحدثين بالبصرة أنه(6/468)
قال قول النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته قال صورة الطين قال هذا جهمي وقال نسلم الخبر كما جاء فأخبر أحمد أن هذا جهمي كما أن من قال على صورة الأرحام فهو جهمي لأن الجهمية هم الذين ينكرون الصفات ويتأولون ما ورد في ذلك من الأخبار والآيات وهذا التأويل أجود مما تقدم فإن قوله على صورة آدم يقتضي أن يكون لآدم صورة خلق عليها وتلك هي صورة الطين فإن الله صور آدم طيناً حتى يبس فصار صلصالاً ثم نفخ فيه الروح ومراد هؤلاء أنه خلقه على تلك الصورة المصنوعة من الطين لكن هذا أيضاً فاسد فإن قول القائل خلق على تلك الصورة يقتضي أن تكون له صورة أخرى خلقت على تلك الصورة وآدم هو بعينه تلك الصورة التي خلق فيها الروح بل تصويره هو خلقه من تراب ثم من طين كما قال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف 11] فقدم الخلق على التصوير فكيف تكون الصورة التي لآدم(6/469)
سابقة على الخلق حتى يقال خلق آدم على تلك الصورة وأيضاً لو أريد أنه خلق من صورة الطين بعينها لا من أبوين ولا يجوز ذلك لقيل كما قال الله تعالى مِنْ تُرَابٍ وقال إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) [ص 71] وقال إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) [الحجر 28] وكذلك إذا تأوله متأول على الصورة المقدرة له وهي ما سبق له في علم الله وكلامه وكتابه أي خلق آدم على الصورة التي قدرها له فإن الله وإن كان خلق كل شيء على ما سبق من تقديره فلا يصح تأويل الحديث على هذا لأن جميع الأشياء خلقها الله تعالى على ما قدره فلا اختصاص لآدم بذلك وأيضاً فإنه لا يصلح أن يقول لا تقبحوا الوجه ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على ما قدره فإن الوجه وسائر الأعضاء بل وسائر المخلوقات خلقها على ذلك فينبغي أن لا يصلح تقبيح شيء من الأشياء ألبتة لعموم العلة وأيضاً فإن قوله ووجه من أشبه وجهك يمنع أن(6/470)
يكون المراد التقدير وأيضاً فإن هذه العلة لا تصلح أن تكون مانعة من التقبيح وأيضاً فإن قوله إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته يمنع أن يكون المراد به التقدير فإن ذلك لا يختص بالوجه ولا بآدم ولا يصلح أن يعلل به منع ضرب الوجه ولو علل به وجب أن لا يضرب شيء من الأشياء وأيضاً فقوله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً إلى قوله فكل من يدخل الجنة يدخلها على صورة آدم صريح في أنه أراد صورة آدم المخلوقة لا المقدرة وأيضاً فتسمية ما قدر صورة ليس له أصل في كلام الله وكلام رسوله فليس في هذا الخطاب أن صور الأشياء ثابتة في علم الله أو تقديره وإن كان من المتأخرين من يقول لفلان عند فلان صورة عظيمة وهذا الأمر مصور في نفسي لكن مثل هذا الخطاب لا يجوز أن يحمل عليه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون ذلك من لغته التي خاطب بها أمته(6/471)
فصل وأما التأويلات الثلاثة التي ذكرها في الطريق الثالث فالكلام في إبطالها فقط إذ لفظ الحديث مع سائر الأحاديث موافقة لهذه الطريق كما جاء على صورته وعلى صورة الرحمن وعلى صورتي أما التأويل الأول وهو وقوله المراد من الصورة الصفة كما بيناه فيكون المعنى أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص(6/472)
والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات قادراً على استنباط الحرف والصناعات وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله تعالى من بعض الوجوه فصح قوله إن الله خلق آدم على صورته على هذا التأويل فالكلام عليه من وجوه أحدها أنه تقدم أن لفظ الصفة سواء عني به القول الذي يوصف به الشيء وما يدخل في ذلك من المثال العلمي الذهني أو أريد به المعاني القائمة بالموصوف فإن لفظ الصورة لا يجوز أن يقتصر به على ذلك بل لا يكون لفظ الصورة إلا لصورة موجودة في الخارج أو لما يطابقها من العلم والقول وذلك المطابق يسمى صفة ويسمى صورة وأما الحقيقة الخارجية فلا تسمى صفة كما أن المعاني القائمة بالموصوف لا تسمى وحدها صورة وإذا كان كذلك فقوله على صورته لابد أن يدل على الصورة الموجودة في(6/473)
الخارج والقائمة بنفسها التي ليست مجرد المعاني القائمة بها من العلم والقدرة وإن كان لتلك صورة وصفة ذهنية إذ وجود هذه الصور الذهنية مستلزمة لوجود تلك وإلا كان جهلاً لا علماً فسواء عنى بالصورة الصورة الخارجة أو العلمية لا يجوز أن يراد به مجرد المعنى القائم بالذات والمثال العلمي المطابق لذلك الوجه الثاني أن قوله إن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بالعلم والقدرة إن أراد به امتياز عن بنيه فليس كذلك وإن أراد به امتيازه عن الملائكة والجن فهو لم يتميز بنفس العلم والقدرة فإن الملائكة قد تعلم ما لا يعلمه آدم كما أنها تقدر على ما لا يقدر عليه وإن كان هو أيضاً علمه الله ما لم تكن الملائكة تعلمه لاسيما عند جمهور الجهمية من المعتزلة والمتفلسفة ونحوهم الذين يزعمون أن الملائكة أفضل من الأنبياء ونهو أحد أقوال هذا المؤسس وسواء كان الأنبياء أفضل أو الملائكة فلا ريب(6/474)
أنه لم يتميز أحدهمَا عن الآخر بجنس العلم والقدرة لكن بعلم خاص وقدرة خاصة وأيضاً فأهل السنة الذين يقولون الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة لا يقولون إنهم خلقوا على صفة الكمال التي هم بها أفضل من الملائكة بل يقولون إن الله ينقلهم من حال إلى حال حتى يكونوا في نهايتهم أفضل من الملائكة في نهايتهم فقد ثبت باتفاق الطوائف أن آدم لم يخلق على صفة من العلم والقدرة امتاز بها عن سائر الأشخاص والأجسام بل في الأشخاص والأجسام من كان امتيازه عن آدم بالعلم والقدرة أكثر الوجه الثالث أن يقال المشاركة في بعض الصفات واللوازم البعيدة إما أن تصحح قول القائل إن الله خلق ذلك الموصوف على صورة الله أو لا تصحح ذلك فإن لم تصحح ذلك بطل قولك إن خلق آدم على هذه الصفات التي جعلتها بعض اللوازم يصحح قوله إن الله خلق آدم على(6/475)
صورة الرحمن وإن كانت تلك المشاركة تصحح هذا الإطلاق صح أن يقال إن الله خلق كل ملك من الملائكة على صورته بل خلق كل حي على صورته بل ما من شيء من الأشياء إلا وهو يشاركه في بعض اللوازم البعيدة ولو أنه القيام بالنفس وحمل الصفات فيصح أن يقال في كل جسم وجوهر إن الله خلقه على صورته على هذا التقدير الوجه الرابع أن لفظ الحديث إذا قاتل أحدكم أو ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن ضرب الوجه لأن الله خلق آدم على صورته فلو كان المراد مجرد خلقه عالماً قادراً ونحو ذلك لم يكن للوجه بذلك اختصاص بل لابد أن يريد الصورة التي يدخل فيها الوجه الوجه الخامس الحديث الآخر لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن تقبيح الوجه المشبه لوجه آدم لأن الله خلق آدم على صورته وهذا يقتضي أنه نهى عن ذلك لتناوله لله وأن أدخل وجه ابن آدم فيما خلقه الله على صورته فإن قيل هذا تصريح بأن وجه الله يشبه وجه الإنسان كما(6/476)
ورد صورة الإنسان على صورة الرحمن فالجواب أن هذا أيضاً لازم للمنازع ولهذا أورده وأجاب عنه فقال فإن قيل المشاركة في صفات الكمال تقتضي المشاركة في الإلهية قلنا المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المشاركة في الإلهية قال ولهذا المعنى قال الله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم 27] وقال صلى الله عليه وسلم تخلقوا بأخلاق الله ومن المعلوم أن المشابهة هي المشاركة في صفات الكمال التي هي العلم والقدرة أعظم من المشابهة والمشاركة في مجرد مسمى الوجه وأيضاً فهذا المؤسس قد ذكر في أجلِّ كتبه الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول في مسألة تكفير المخالفين(6/477)
من أهل القبلة في حجة من كفر المشبهة قال ورابعها أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم المشبه لا يخلو إما أن يكون هو الذي يذهب إلى كون الله مشبهاً بخلقه من الوجوه أو ليس كذلك والأول باطل لأن أحداً من العقلاء لم يذهب إلى ذلك ولا يجوز أن يجمعوا على تكفير من لا وجود له بل المشبه هو الذي يثبت الإله تعالى على صفة يشبهه معها بخلقه والمجسم كذلك لأنه إذا أثبته جسماً مخصوصاً لحيز معين فإنه يشبهه بالأجسام المحدثة فثبت أن المجسم مشبه وكل مشبه كافر بالإجماع(6/478)
فالمجسم كافر ثم قال في الجواب عن ذلك لأنه نصر عدم تكفير أهل القبلة قوله المجسم مشبه والمشبه كافر قلنا إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلاً بكون الله شبيهاً بخلقه من كل الوجوه فلا شك في كفره لكن المجسمة لا يقولون بذلك فلا يلزم قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولا يلزم من اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق وإن عنيتم بالمشبهة من يقول بكون الله شبيهاً بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أنه موجود شيء وعالم وقادر والحيوانات أيضاً كذلك وذلك لا يوجب الكفر وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان فلا نسلم انعقاد الإجماع(6/479)
على تكفير من يقول بذلك بل هو دعوى للإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه وهذا تصريح منه بأن القول بكون الله شبيهاً بخلقه من بعض الوجوه داخل في قول كل المسلمين ور ريب أن كل موجودين فلابد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه وإن كان أحدهما أكمل فيه وأولى به من الآخر وإلا فإذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلاً ولا يشتركان فيه لم يكونا موجودين وهذا معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فيها العقلاء الذين يفهمونها وهذا الكلام قد نبهنا عليه غير مرة في هذا وفي الأجوبة المصرية وفي جواب المسألة الصرخدية وغير ذلك في بيان شبهة التركيب والتجسيم وشبهة التشبيه والاتفاق والاشتراك بين الموجودين يكون في مراتب الوجود الأربعة(6/480)
الحقيقي الخارجي العيني إذا كان هذا موجوداً ثابتاً وهذا موجود ثابت وهذا قائم بنفسه وهذا موصوف بالصفات وهذا موصوف بالصفات وهذا متميز من غيره باين منه وهذا متميز عن غيره باين منه وهذا حي وهذا حي وهذا عليم وهذا عليم وهذا قدير وهذا قدير وهذا سميع وهذا سميع وهذا بصير وهذا بصير وهذا رؤوف رحيم وهذا رؤوف رحيم وهذا عظيم كبير وهذا عظيم كبير وهذا صمد وهذا صمد وهذا واحد وهذا واحد وبينا أن الموجودين في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في نفسه ووجوده وماهيته بل كل منهما مختص بذلك بائن بذاته لكن يشبه أحدهما الآخر شبهاً قليلاً أو كثيراً صغيراً أو كبيراً بعيداً أو قريباً وإنما يشتبهان في شيء وذلك الشيء الذي(6/481)
يشتبهان فيه هو الذي يشتركان فيه وهو المعنى الكلي وهو بعينه لا يوجد في الخارج مجرداً عنهما وإنما يوجد في هذا حصة منه وفي هذا حصة منه فهو بوصف العموم لا يوجد في الخارج وبوصف الخصوص يوجد في الخارج أما بوصف الإطلاق المقابل للتقييد فلا يوجد في الخارج فليس في الخارج مطلق غير مقيد وأما بوصف الإطلاق حتى عن التقييد وهو المطلق الذي يمنع كونه مقيداً فقد يقال في ذلك إنه موجود في الخارج لكن هو موجود مع كونه مقيداً لا موجوداً مطلقاً غير مقيد وكذلك في الحي والحي والعالم والعالم لابد من نوع اشتباه هو الاشتراك في المرتبة الثانية وهي المرتبة العلمية يقوم في نفس العالم معنى عام كلي يعم هذا وهذا كما يقوم في نفسه المعنى المطلق والمعنى الخاص فذلك المعنى العام يقال له المعنى المشترك وهو الذي اشتبها(6/482)
فيه ثم في المرتبة الثالثة والرابعة يكون اللفظ بالاسم والخط مطابقاً لهذا المعنى العلمي فيقال في الاسم العام الذي يجب الاشتراك فيه الموجود ينقسم إلى واجب وممكن والحي ينقسم إلى واجب وممكن ونحو ذلك إذ مورد التقسيم مشترك بين الأقسام ويقال في المطلق الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يوجب الاشتراك الموجود قد يكون واجباً وقد يكون ممكناً والموجود يقال للواجب والممكن وكذلك الحي والعليم والقدير ويقال في الخاص هذا الموجود وهذا الحي وأسماء الله كلها خاصة به ولكن إذا جردت عن أداة التخصيص لفظاً أو قصداً أمكن في بعضها أن تجعل مطلقة وعامة كالعليم والسميع والبصير والحي ونحو ذلك ولم يكن ذلك في بعضها ولهذا جعلها الفقهاء في باب الأيمان ثلاثة أقسام قسماً مختصًّا بالله لا يجوز أن يسمى به غيره كاسم الله ورب العالمين فهذا نص وقسماً هو ظاهر في حق الله لكن يجوز أن يسمى به غيره مع القرينة فهذا أيضاً يمين عند الإطلاق وبالنية(6/483)
وقد لا يكون يميناً كالحي والصمد وقسماً ليس هو ظاهراً في حق الله بل هو مجمل مشترك ويقال له وللمخلوق مثل اسم الموجود ونحوه فهذا القسم لا يكون يميناً عند الإطلاق وإن قصد به الله فهل يكون يميناً على قولين مشهورين أحدهما يكون يميناً وهو ظاهر مذهب أحمد فتنعقد اليمين عندهم بالصريح والكناية والثاني لا يكون يميناً وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول في مذهب أحمد لأن اليمين لا تنعقد عند هؤلاء بالكناية وإذا كان الأمر كذلك علم أن نفي التشبيه من كل وجه هو التعطيل والجحود لرب العالمين كما عليه المسلمون متفقون كما أن إثباته مطلقاً هو جعل الأنداد لرب العالمين لكن من الناس من لا يفهم هذا ولا يعتقد أن لفظ التشبيه يدل على التمثيل المنفي عن الله إذ لفظ التشبيه فيه عموم وخصوص كما سنبينه ومن هنا ضل فيه أكثر الناس إذ ليس له حد محدود وما هو منتفٍ بالاتفاق بين المسلمين بل بين أهلل الملل كلهم بل بين جميع العقلاء المقرين بالله معلوم بالضرورة(6/484)
العقل ومنه ما هو ثابت بالاتفاق بين المسلمين بل بين أهل الملل كلهم بل بين جميع العقلاء للتقرير بالصانع فلما كان لفظ التشبيه يقال على ما يجب انتفاؤه وعلى ما يجب إثباته لم يرد الكتاب والسنة به مطلقاً لا في نفي ولا إثبات ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ المثل والكفو والند والسمي وجاء لفظ الشبه في الإثبات مقيداً في كلام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم كما روى عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو الهلال الراسبي أن عبيد الله بن رواحة قال(6/485)
للحسن هل تصف ربك قال نعم بغير مثال قال وحدثنا سلمان بن سليمان قال حدثنا(6/486)
شعبة عن أبي جمرة عن ابن عباس قال ليس لله مثل وقد بسطنا الكلام على هذا في الأجوبة المصرية وبينا أن الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه فيجب أن ينفى عنه المثل مطلقاً ومقيداً وكذلك الند والكفو والشريك ونحو ذلك من الأسماء التي جاء القرآن بنفيها وذكرنا من أدلة ذلك أن الله تعالى لما نفى المثل عن نفسه بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ(6/487)
شَيْءٌ [الشورى 11] والسمي بقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) [مريم 65] والند بقوله فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [البقرة 22] والكفو بقوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 4] والشريك والعديل والمساوي بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) [يونس 18] ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) [الأنعام 1] إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) [الشعراء 97-98] فلا يخلو إما أن يكون النفي من ذلك مختصًّا بالمماثل له من كل وجه وهو المكافئ له من كل وجه فقط والمساوي والمعادل له والمكافئ له من كل وجه أو يكون النفي عاماً في المماثل ولو من بعض الوجوه والمكافئ ولو من بعض الوجوه ولا يجوز أن يكون النفي مختصًّا بالقسم الأول لأن هذا لم يعتقده أحد من البشر وهو سبحانه ذم ونهى عما هو موجود في البشر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندًّا بل ما شاء الله(6/488)
وحده فثبت أن هذه الأسماء المنفية تعم المثل والكفو والند والشريك والعديل ولو من بعض الوجوه وهذا هو الحق وذلك لأن المخلوقات وإن كان فيها شبه من بعض الوجوه في مثل معنى الموجود والحي والعليم والقدير فليس مماثلة بوجه من الوجوه ولا مكافأة له بل هو سبحانه له المثل الأعلى في كل ما يثبت له ولغيره ولما ينفى عنه وعن غيره لا يماثله غيره في إثبات شيء ولا في نفيه بل المثبت له من الصفات الوجودية المختصة بالله التي تعجز عقول البشر عن معرفتها وألسنتهم عن صفتها ما لا يعلمه إلا الله مما لا نسبة إلى(6/489)
ما علموه من المر المشتبه المشترك إليه والمنفي عنه لابد أن يستلزم وصفاً ثبوتيًّا كما قررنا هذا في غير هذا الموضع ومنافاته لذلك المنفي وبعده عنه ومنافاة صفاته الوجودية له فيه من الاختصاص الذي لا يشركه فيه أحد ما لا يعلمه أيضاً إلا هو بخلاف لفظ التشبيه فإنه يقال على ما يشبه غيره ولو من بعض الوجوه البعيدة وهذا مما يجب القول به شرعاً وعقلاً بالاتفاق ولهذا لما عرف الأئمة ذلك وعرفوا حقيقة قول الجهمية وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع ووجوده كانوا يبينون ما في كلامهم من النفاق(6/490)
والتعطيل ويمنعون عن إطلاق لفظهم العليل لما فهموه من مقصودهم وإن لم يفهمه أهل الجهل والتضليل مثل ما ذكره الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية وقد ذكرناه فيما تقدم قال فيه في وصف قول الجهم ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] ولَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافراً وكان من المشبهة(6/491)
وأضل بشراً كثيراً وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سأله الناس عن قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] ما تفسيره يقول ليس كمثله شيء من الأشياء هو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا ينظر إليه أحد في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل(6/492)
ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون فيه شيئان مختلفان ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو خفيف ولا ثقيل ولا له لون ولا له جسم وليس هو معلوماً وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة(6/493)
بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم فمن تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئاً إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون وقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا لم يكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله تعالى ولا يعلم أنهم إنما يقودون قومهم إلى الضلالة والكفر(6/494)
وقد نقل أهل المقالات عن جهم أنه كان يقول إن الله شيء وهذا معنى ما ذكره أحمد فإنهم وإن أطلقوا أنه شيء لا كالأشياء فلم يريدوا أنه ليس بمثل لها فإن ذلك حق ولهذا لم ينكر أحمد قولهم ليس كمثله شيء من الأشياء لكن أرادوا نفي الشبه من كل وجه ومعناه شيء لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه ولهذا قال الإمام أحمد فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً فبين الإمام أحمد أنه يعلم بالمعقول الصريح الذي يشترك فيه العقلاء أن ما لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه لا شيء كما نقل الناس أن جهماً يقوله ولهذا قال فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً أي لجميع العقلاء فإن هذا لا يختص أهل السمع والكتاب بل يشترك فيه العقلاء كلهم فهذا سؤال عن كونه موجوداً ثم سألهم عن كونه معبوداً فإن هذا يختص به من يوجب عبادة الله وهم المسلمون قديماً وحديثاً(6/495)
قال فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئاً إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فهنا جعل الكلام مع المسلمين الذين يعبدون الله تعالى والعبادة متضمنة لقصد المعبود وإرادته والقصد والإرادة مستلزم لمعرفته والعلم به فلما قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق ثم قالوا هو مجهول لا يعرف بصفة فحينئذ تبين للمسلمين الذين يعبدون الله أنهم لا يثبتون شيئاً يعبدونه وإنما هم منافقون في ذلك لأن ما لا يعرف بصفة يمتنع أن يقصد فيعبد فعرف المسلمون بطلان قولهم أنهم يعبدون الله ويثبتونه كما عرف أهل العقل بطلان كونهم يقرون بوجوده ويثبتونه وهم الذين أنكروا أن يعرف بصفة فأنكروا صفاته مطلقاً وأنكروا أنه يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فأنكروا بذلك وجوده(6/496)
وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه لكن أرسل ذلك والله أعلم بحقيقته أنه لما قرئ على علماء بعداد من المحنة كتاب المأمون الذي دعا الناس فيه إلى التجهم فيه لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه أقر بذلك من أقر ب هواما أحمد فقال لا أقول لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه وهذا يبين كمال علمه ومعرفته بالأقوال المنافية لدين الإسلام واحترازه منها مع أن كثيراً من الناس يطلق هذه العبارة ويريد بذلك نفي المماثلة ومقصوده صحيح وقد يريد به مل يجمع الحق والباطل أو يريد تنزيهاً مطلقاً لا يحصل معناه وهؤلاء لا يريدون حقيقة قول الجهمية ومما يبين ذلك أنه(6/497)
ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين ولا الأكابر من أتباع التابعين ذم المشبهة وذم التشبيه أو نفي مذهب التشبيه ونحو ذلك وإنما اشتهر ذم هذا من جهة الجهمية كما ذكره الإمام أحمد ثم قابلهم قوم من أهل الإثبات والرافضة وغلاة أهل الحديث فزادوا في الإثبات حتى دخلوا في التمثيل المنفي في الكتاب والسنة وذلك تشبيه مذموم فذم بقايا تابعي التابعين ومن بعدهم من أئمة السنة هذا التشبيه وذموا المشبهة بهذا التفسير فصار لفظ المشبهة مذموماً في كلام هؤلاء كما هو مذموم في كلام الجهمية لكن بين المعنيين فرق عظيم ولهذا كانوا يفسرون مرادهم ويقولون من أغرق في نفي التشبيه وذم المشبهة كان جهميًّا كما ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم وأبو القاسم اللالكائي عن عبد الرحمن بن عمر(6/498)
الأصبهاني قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول لفتى من ولد جعفر بن سليمان مكانك فقعد حتى تفرق الناس ثم قال يا بني تعرف في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف وكل ذلك يجري مني على بال وحتى(6/499)
لا أمرك وما بلغني فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصر إليكم يعني السلطان فإذا صار إليكم جل وعظم قال يا أبا سعيد وما ذاك قال بلغني أنك تتكلم في الرب تعالى وتصف وتشبه فقال الغلام نعم فأخذ ليتكلم في الصفة فقال رويدك يا بني حتى نتكلم أول شيء في المخلوق فإن عجزنا عن المخلوق فنحن عن الخالق أعجز وأعجز أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة عن البناني قال سمعت زرًّا قال قال عبد الله في قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) قال رأى جبريل له ستمائة جناح قال نعم فعرف الحديث فقال عبد الرحمن صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح فبقي الغلام ينظر إليه فقال عبد الرحمن(6/500)
يا بني فإني أهوِّن عليك المسألة وأضع عنك خمسمائة وسبعاً وتسعين صف لي خلق ثلاثة أجنحة ركب الجناح الثلث منه موضعاً غير الموضعين اللذين ركبهما حتى أعلم فقال يا أبا سعيد نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق ونحن عن صفة الخالق أعجز وأعجز فأشهدك أني قد رجعت عن ذلك وأستغفر الله وذكر أيضاً عبد الرحمن بن أبي حاتم قال حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث قال حدثنا سويد بن سعيد(6/501)
قال حدثنا علي بن عاصم قال تكلم داود الجواربي فضل في التشبيه فاجتمع فقهاء واسط منهم محمد بن زيد وخالد الطحان(6/502)
وهشيم وغيرهم فأتوا الأمير وأخبروه بمقالته فأجمعوا على سفك دمه فمات في أيامه فلم يصلِّ عليه علماء واسط وذكر عبد الرحمن قال حدثنا أحمد بن سنان قال(6/503)
سمعت شاذ بن يحيى الواسطي يقول كنت قاعداً عند يزيد بن هارون فجاء رجل فقال يا أبا خالد ما تقول في الجهمية قال يُستتابون لأن الجهمية غلت فتفرعت في غلوها إلى أن نفت والمشبهة غلت فتفرعت في غلوها حتى مثلت فالجهمية يستتابون والمشبهة كذا رماهم بأمر عظيم وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة حدثني أبو بكر ابن صدقة قال سمعت أبا بكر بن أبي(6/504)
عون يقول سمعت يزيد بن هارون يقول الجواربي والمريسي كافران وسمعت يزيد بن هارون وقد ذكر الجواربي فضربه مثلاً فقال أما داود الجواربي عبر جسر واسط يريد العيد فانقطع الجسر فغرق من كان عليه فخرج شيطان فقال أنا داود الجواربي وذكر عبد الرحمن حدثنا يوسف بن إسحاق حدثنا أحمد بن الوليد عن محمد بن عمرو بن بكيت قال سمعت وكيعاً(6/505)
يقول وصف داود الجواربي الرب فكفر في صفته فرد عليه المريسي فكفر في رده عليه إذ قال هو في كل شيء وقال عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الصدائى قال قال نعيم بن حماد من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن انك ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه قال عبد الرحمن حدثنا أحمد بن سلمة قال سمعت إسحاق بن إبراهيم بن(6/506)
راهوية يقول من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلقه فهو كافر بالله العظيم لأنه وصف لصفاته إنما هو استسلام لأمر الله ولما سن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وسمعت إسحاق يقول علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل الجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة بل هم المعطلة ولو جاز أن يقال هم المشبهة لاحتمل ذلك وذلك أنهم يقولون إن الرب تبارك وتعالى في كل مكان بكماله في أسفل الأرضين وأعلى السموات على معنى واحد وكذبوا في ذلك ولزمهم الكفر قال عبد الرحمن سمعت أبي يقول علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة وعلامة القدرية(6/507)
تسميتهم أهل السنة مجبرة وعلامة المعتزلة تسميتهم أهل السنة حشوية وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة(6/508)
ناصبة وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة أخبرني يوسف ابن موسى أن أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل قيل له ولا يشبه ربنا تبارك وتعالى شيئاً من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال نعم وليس كمثله شيء(6/509)
قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثه قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله يرى وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئاً ونعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق إذا كانت بأسانيد(6/510)
صحاحا ولا يرد على الله تعالى قوله ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية وليس كمثله شيء(6/511)
وقال حنبل في موضع آخر قال ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فعبد الله يصف الله غير محدود ولا معلوم إلا بما وصف به نفسه قال الله تبارك وتعالى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] وقال حنبل في موضع آخر فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفاته منه له ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله(6/512)
بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلماً عالماً غفوراً عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك الله ولا يعلم كيف ذلك إلاّ بتصديق الرسول عليه السلام وتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة وقال لي أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ(6/513)
الكتاب بالمحنة تقول ليس كمثله شيء فقلت لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] قال ما أردت بهذا قلت القرآن صفة من صفات الله تعالى وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له والمشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي قال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله تعالى بخلقه وهذا يحد وهو كلام سوء وهو محدود(6/514)
والكلام في هذا لا أحبه قال عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر 7] فقد أمر الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عما نهى وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير قال وزاد أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا الكلام(6/515)
وقال تبارك وتعالى اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى والذي جاء به الشرع في هذا النص من قوله خلق آدم على صورته ونحوه فإنه أخص مما يعلم بمجرد العقل من ثبوت القدر المشترك بينه وبين كل موجود أو كل حي فإن هذا المدلول عليه بالنص لا يعلم بالعقل والقياس وإنما يعلم أصل ذلك مجملاً وهذا كما ذكر في مسألة العلو أن العقول يعرف بها أن الله تعالى فوق خلقه وأما استواؤه على العرش بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام فهذا إنما يعلم بالسمع هذا مما(6/516)
اتفق عليه أئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أن العلم بكونه فوق العالم فطري عقلي وأما العلم باستوائه على العرش فسمعي شرعي وكذلك أئمة متكلمة الصفاتية مثل أبي محمد بن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وغيرهما وكلام الأشعري الذي رأيناه يدل على ذلك أيضاً وإن كان ابن فورك جعل ذلك خلافاً بينه وبين ابن كلاب فقد بينا غلطه في ذلك والمقصود أن العلو عقلي والاستواء سمعي فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه أخبر الله على ألسنتهم بما تقصر العقول عن دركه وإن كان ذلك من المعروف الذي يعرف(6/517)
بالمعقول أصله ويعرف على سبيل الإجمال كما أن ما أمروا به كذلك هو معروف في العقول في الجملة لكن تفاصيل المأمور به لا تعرف إلا بالشرع المسموع ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة من ثبوت هذا الشبه من بعض الوجوه والله هو الذي خلق آدم على صورته هو خير مما ذكره المؤسس واستشهد عليه بما ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وهو قوله تخلقوا بأخلاق الله فإن هذا من جنس ما يقوله المتفلسفة الصابئون ومن سلك مسلكهم من الإسلاميين من قولهم إن الفلسفة هي التشبه بحسب الطاقة فيثبتون أن العبد يصير شبيهاً بالله تعالى بفعل نفسه ويحتج من اتبعهم على ذلك كأبي حامد وغيره بقوله تخلقوا بأخلاق الله وهذا اللفظ لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب الحديث ولا هو معروف عن أحد من أهل العلم بل هو(6/518)
من باب الموضوعات عندهم وإن كان قد يفسر بمعنى صحيح يوافق الكتاب والسنة فإن الشارع قد ذكر أنه يحب اتصاف العبد بمعاني أسماء الله تعالى كقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال إنه وتر يحب الوتر إنه طيب لا يقبل إلا طيباً(6/519)
الراحمون يرحمهم الرحمن إنك عفو تحب العفو فاعف عني إن الله نظيف يحب النظافة لكن المقصود أن هؤلاء مع كونهم أظهر الناس تبرُّءاً من التشبيه يزعمون أن كمال الفلسفة عندهم أن يفعل الإنسان ما يصير به مشابهاً لله في الجملة وقد وافقهم عليه بعض المتكلمين وإن كان كثير من المتكلمين يخالفونهم في ذلك(6/520)
ويقول أخبرهم كالمأزري ليس لله خلق يتخلق به العبد فلأن يكون الله هو القادر على أن يخلق ما يشبهه من بعض الوجوه أولى وأحرى فيكون هذا ثابتاً بخلق الله تعالى وأما الأخلاق والأفعال المناسبة المشابهة لمعاني أسمائه التي يحبها فهي مما أمر به وهو سبحانه له الخلق والأمر الوجه السادس أن يقال المحذور الذي فروا منه لتأويل الحديث على أن الصورة بمعنى الصفة أو الصورة المعنوية أو الروحانية ونحو ذلك يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه وإن كان مثل هذا لازماً على التقديرين لم يجز ترك مقتضى الحديث ومفهومه لأجله ولم يكن أيضاً(6/521)
محذوراً بالاتفاق وذلك أن كون الإنسان على صورة الله التي هي صفته أو صورته المعنوية أو الروحانية فيه نوع من المشابهة كما أنه إذا أُقِرَّ الحديث كما جاء فيه نوع من المشابهة غايته أن يقال المشابهة هنا أكثر لكن مسمى نوع من التشبيه لازم على التقديرين والتشبيه المنفي بالنص والإجماع والأدلة العقلية الصحيحة مُنتفٍ على التقديرين وإذا ادعى المنازع أن هذا فيه نوع من التجسيم المقتضي للتركيب فقد تقدم أن ما يسمونه تركيباً لازم على القول بثبوت الصفات بل على القول بنفس الوجود بل هو لازم لمطلق الوجود وقد تقدم بيان ذلك وبينا أن جميع ما يدعى من الأدلة العقلية المانعة من ذلك فإنه فاسد متناقض ومعنى فساده ظاهر ومعنى تناقضه أن ما يدعيه يلزمه من الإثبات نظير ما نفاه فيكون جامعاً بين النفي وإثباته أو إثبات نظيره الوجه السابع أن يقال إذا كان مخلوقاً على صورة الله تعالى المعنوية فلا يخلو إما أن يكون ذلك مقتضياً لكون(6/522)
صفات العبد المعنوية من جنس صفات الله بحيث تكون حقيقتها من جنس حقيقتها أو لا يقتضي ذلك بل يقتضي المشابهة فيها مع تباين الحقيقتين فإن كان مقتضى الحديث الأول فهو تصريح بأن الله له مثل وهذا باطل وأيضاً فإنه ممتنع في العقل فإن المتماثلين في الحقيقة يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه والمخلوق يجب أن يكون معدوماً محدثاً مفتقراً ممكناً والخالق يجب أن يكون قديماً واجب الوجود غنيًّا فيجب أن يكون الشيء الواحد واجباً ممكناً غنيًّا فقيراً موجوداً معدوماً وهذا جمع بين النقيضين فثبت أن الحديث لا يجوز حمله على هذا(6/523)
وأيضاً فإنه على هذا التقدير لا يكون في جمله على الصورة الظاهرة محذور وإن لم يكن ذلك مقتضياً لكون صفات العبد من جنس صفات الرب بحيث تكون الحقيقة من جنس الحقيقة مع كون هذا عالماً وهذا عالماً وهذا حيًّا وهذا حيًّا وهذا قادرًا وهذا قادرًا وهذا سميعًا بصيرًا وهذا سميعًا بصيرًا بل هذا موجود وهذا موجود مع كون الحقيقتين والعلم والقدرة متشابهات وكذلك لا يجب إذا كان لهذا وجه وصورة ولهذا وجه وصورة أن تكون الحقيقة من جنس الحقيقة مع تشابه الحقيقتين يوضح ذلك أنه على التقديرين لابد أن يكون بين الذات والذات مشابهة إذا كان على(6/524)
الصفة المعنوية فإن كون هذا عالماً قادراً وهذا موجوداً وهذا موجوداً وهذا ذاتاً وهذا ذاتاً لها صفات وهذا ذاتاً لها صفات لابد أن يثبت التشابه كما تقدم الوجه الثامن أن الأدلة الشرعية والعقلية التي تثبت بها تلك الصفات تثبت بنظيرها هذه الصورة فإن وجود ذات ليس لها صفات ممتنع في العقل وثبوت الصفات الكمالية معلوم بالشرع والعقل كذلك ثبوت ذات لا تشبه الموجودات بوجه من الوجوه ممتنع في العقل وثبوت المشابهة من بعض الوجوه في الأمور الكمالية معلوم بالشرع والعقل وكما أنه لابد لكل موجود من صفات تقوم به فلابد لكل موجود قائم بنفسه من صورة يكون عليها ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يقوم عليها(6/525)
الوجه التاسع أن هذا المعنى الذي ذكروه وإن كان ثابتاً في نفسه ويمكن أن يكون الحديث دالاًّ عليه باللزوم والتضمن لكن قصر الحديث عليه باطل قطعاً كما تقدم الوجه العاشر ثبوت الوجه والصورة لله قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة المتواترة واتفق على ذلك سلف الأمة وسيأتي إن شاء الله تعالى طائفة من النصوص التي فيها إثبات صورة الله تعالى كقوله فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ونحو ذلك مما هو من الأحاديث التي اتفق العلماء على صحتها وثبوتها فأما لفظ الوجه فلا يمكن استقصاء النصوص المثبتة له فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة(6/526)
فسلم عليهم واسمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال وكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن وهذا الحديث إذا حمل على صورة الله تعالى كان ظاهره أن الله طوله ستون ذراعاً والله تعالى كما قال ابن خزيمة جل أن يوصف بالذرعان والأشبار ومعلوم أن هذا التقدير في حق الله باطل على قول من يثبت له حدًّا ومقداراً من أهل الإثبات وعلى قول نفاة ذلك أما النفاة فظاهر وأما المثبتة فعندهم قدر الله تعالى أعظم وحده لا يعلمه إلا هو وكرسيه قد وسع السموات والأرض والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة(6/527)
والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى وقد قال الله تعالى وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 67] وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر(6/528)
وابن مسعود وابن عباس أن الله يقبض السموات والأرض بيديه قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما وما فيهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم وإذا كان الأمر كذلك كان أكبر(6/529)
وأعظم من أن يقدر بهذا القدر وهذا من المعلوم بالضرورة من العقل والدين قيل ليس هذا ظاهر الحديث ومن زعم أن الله طوله ستون ذراعاً وزعم أن هذا ظاهره أو حمله عليه فهو مفترٍ كذاب ملحد فإن فساد هذا معلوم بالضرورة من العقل والدين كما تقدم ومعلوم أيضاً عدم ظهوره من الحديث فإن الضمير في قوله طوله عائد إلى آدم الذي قيل فيه خلق آدم على صورته ثم قال طول آدم ستون ذراعاً فلما خلقه قال له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فهذه الضمائر كلها عائدة إلى آدم وهذا منها أيضاً فلفظ الطول وقدره ليس داخلاً في مسمى الصورة حتى يقال إذا قيل خلق الله آدم على صورته وجب أن يكون على قدره وطوله بل من المعلوم أن الشيئين المخلوقين قد يكون(6/530)
أحدهما على صورة الآخر مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما وقدر ذواتهما وقد تظهر السموات والقمر في صورة ماء أو مرآة في غاية الصغر ويقال هذه صورتها مع العلم بأن حقيقة السموات والأرض أعظم منذ لك بما لا نسبة لأحدهما إلى الآخر وكذلك المصور الذي يصور السموات والكواكب والشمس والقمر والجبال والبحار يصور ذلك مع أن الذي يصوره وإن شابه ذلك فإنه أبعد شيء عن حقيقته وعن قدره والإضافة تتنوع دلالتها بحسب المضاف إليه فلما قال في آخر الحديث فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً هذا يقتضي المشابهة في الجنس والقدر لأن صورة المضاف من جنس صورة المضاف إليه وحقيقتهما واحدة وأما قوله خلق آدم على صورته فإنها تقتضي(6/531)
نوعاً من المشابهة فقط لا تقتضي تماثلاً لا في حقيقة ولا قدر وأما الذين ظنوا أن الضمير في قوله طوله ستون ذراعاً لما كان عائداً إلى آدم فكذلك الضمير في صورته وان المعنى خلق أدم على صورة آدم فقد تقدم الكلام عليهم وأن آدم لم يكن له صورة قبل ذلك يخلق عليها وذكرنا الوجوه المتعددة الدالة على فساد ذلك ولهذا كان بعض المحدثين الذين يريدون أن لا يحدثوا بعض الناس بهذا المعنى يقولون خلق آدم طوله ستون ذراعاً فإذا كان هذا في بيان مقدار صورة آدم التي خلقه عليها لا يقال في مثل ذلك خلق آدم على صورة آدم بل قد يقال خلق على هذه الصورة وعلى هذه الصفة فإن هذا اللفظ ليس فيه إضافة تقتضي تقدم الصورة التي خلق عليها بل فيه تخصيص وبيان للصورة التي كان عليها بعد الخلق مع أن(6/532)
هذا لا يصلح أن يقال في هذا اللفظ لن قول القائل خلق آدم على صورة آدم أو على الصورة التي كانت لآدم إذا أراد به التقدير وهو كونها ستين ذراعاً فإنه يقتضي كون المخاطبين يعرفون ذلك من تأويل هذا الخطاب فإن الخطاب المعرف بالإضافة أو اللام يقتضي تقدم معرفة المخاطبين بذلك المعرَّف ومعلوم أن المخاطبين لم يكونوا يعلمون طول آدم وهكذا لا يصلح أن يقال في القدر ما ذكر في صورة آدم من كونه لم يمسخ أو كونه خلق ابتداء ونحو ذلك إذ هذا معلوم بخلاف القدر فعلم أن الحديث أخبر فيه بجملتين أنه خلق آدم على صورته وأن طوله ستون ذراعاً ليس هذا التقدير هو تقدير الصورة التي خلق عليها حتى يقال هي صورة آدم(6/533)
وأما التأويل الثاني وهو تأويل ابن خزيمة أنه إضافة خلق كما في ناقة الله وبيت الله وأرض الله وفطرة الله فالكلام عليه من وجوه أحدها انه لم يكن قبل خلق آدم صورة مخلوقة خلق آدم عليها فقول القائل على صورة مخلوقة لله وليس هناك إلا صورة آدم بمنزلة قوله على صورة آدم وقد تقدم إبطال هذا من وجوه كثيرة الثاني أن إضافة المخلوق جاءت في الأعيان القائمة بنفسها كالناقة والبيت والأرض والفطرة التي هي المفطورة فأما الصفات القائمة بغيرها مثل العلم والقدرة والكلام والمشيئة إذا أضيفت كانت إضافة صفة(6/534)
إلى موصوف وهذا هو الفرق بين الأمرين وإلا التبست الإضافة التي هي إضافة صفة إلى موصوف والتي هي إضافة مملوك ومخلوق إلى المالك والخالق وذلك هو ظاهر الخطاب في الموضعين لأن الأعيان القائمة بنفسها قد علم المخاطبون أنها لا تكون قائمة بذات الله فيعلمون أنها ليست إضافة صفة وأما الصفات القائمة بغيرها فيعلمون أنه لابد له من موصوف تقوم به وتضاف إليه فإذا أضيفت علم أنها أضيفت إلى الموصوف التي هي قائمة به وإذا كان كذلك فالصورة قائمة بالشيء المصور فصورة الله كوجه الله ويد الله وعلم الله وقدرة الله ومشيئة الله وكلام الله يمتنع أن تقوم بغيره الوجه الثالث أن العيان المضافة إلى الله لا تضاف إليه لعموم كونها مخلوقة ومملوكة له إذ ذلك يوجب إضافة جميع الأعيان إلى الله تعالى لاشتراكها في الخلق والملك فلو(6/535)
كان قوله في ناقة صالح نَاقَةَ اللَّهِ بمعنى أن الله خلقها وهي ملكه لوجب أن تضاف سائر النوق إلى الله تعالى بهذا المعنى فلا يكون حينئذ لها اختصاص بالإضافة وكذلك قوله وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج 26] لو كان المراد به أنه خلقي وملكي لوجب إضافة سائر البيوت إلى الله لمشاركتها في هذا المعنى فلابد أن يكون في العين المضافة معنى يختص بها يستحق بها الإضافة فبيت الله هو البيت الذي اتخذ لذكر الله تعالى وعبادته وهذه إضافة من جهة كونه معبوداً فيه فهو إضافة إلى إلهيته لا إلى عموم ربوبيته وخلقه كما في لفظ العبد فإن قوله لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن 19] وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان 63] هو إضافة إليهم لأنهم عبدوه لا لعموم كونه عبَّدهم بخلقه لهم فإن هذا يشركهم فيه جميع الناس وهو قد خصهم بقوله إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وقوله عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ(6/536)
[الإنسان 6] ونحو ذلك كذلك الناقة فيها اختصاص بكون الله جعلها آية ففيها معنى الإضافة إلى إلهيته وأما قوله يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) [العنكبوت 56] وقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء 97] ففي الإضافة تخصيص للأرض التي هي باقية على ما خلقها الله تعالى فلم يستول عليها الكفار والفجار من عباده ومنعوا باستيلائهم عليها من عبادة الله عليها ولهذا لم تدخل أرض الحرب في هذا العموم وقد يقال الإضافة لعموم الخلق لأن الأرض واحدة لم تتعدد كما تعددت النوق والبيوت والعبيد وقوله فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم 30] تضاف إلى الله من الوجهين من جهة انه خلقها فتكون إضافة إلى جهة ربوبيته ومن جهة أنه فطرها على الإسلام الذي هو عبادة الله فيكون في الإضافة معنى الإضافة إلى ألوهيته وإذا كان كذلك فالصورة المخلوقة هي مشاركة لجميع الصور في كون الله خلقها من جميع الوجوه فما الموجب لتخصيصها بالإضافة إلى الله وأيضاً فسائر الأعضاء مشاركة للصورة التي هي الوجه في كون الله خلق ذلك جميعه فينبغي أن يضاف سائر الأعضاء إلى الله بهذا الاعتبار حتى(6/537)
يقال يد الله ووجه الله وقدمه ونحو ذلك لكون أن الله خلقه الوجه الرابع أن قوله إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته لو كانت الإضافة إضافة خلق وملك لوجب ألا يضرب شيء من الأعضاء لأن إضافته إلى خلق الله وملكه كإضافة الوجه سواء الوجه الخامس أن هذا الوجه المضروب هو في كونه مخلوقاً مملوكاً لله بمنزلة الصورة المملوكة لله فلو كان قد نهى عن ضرب هذا لكونه ذلك لكان هذا التشبيه من باب العبث لأن العلة في المشبه به مثل من يقول لأحد ابنيه إنما أكرمتك لأنك مثل ابني الآخر في معنى البنوة أو يقول لعبده إنما أعطيتك لأنك مثل عبدي الآخر في معنى العبودية وهما مشتركان في هذا الوجه السادس أنه من المعلوم أن جميع ما يضرب من الموجودات ويشتم هو من مخلوق الله مملوك وهذا يوجب ألا يضرب مخلوق ولا يشتم مخلوق(6/538)
الوجه السابع أن قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته يدل على أن المانع هو مشابهة وجهه لصورة الله فلو أريد صورة يخلقها الله لكان كونه هو في نفسه مخلوقاً لله أبلغ من كونه مشبهاً لما خلقه الله فيكون عدولاً عن التعليل بالعلة الكاملة إلى ما يشبهها الوجه الثامن أنه لو قال لا تضرب وجه هذا فإن الله خلقه على صورته لكان قد يقال فإن الله خلق هذا على صورة مشرفة مكرمة بل قال إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ولا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته فخلق المخلوق على صورته وهذا من بنيه فمعلوم أن صورته كصورة آدم فذكر ثلاثة أشياء(6/539)
الصورة المضروبة المشتومة المنهي عن ضربها وشتمها وهي وجوه الآدميين وآدم الذي خلقه الله والصورة التي خلق عليها آدم فلابد من إثبات هذه الثلاثة ولو أريد الصورة المخلوقة لم يكن إلا صورة فقط فيقال خلق هؤلاء أو هذا أو الذرية على صورته الوجه التاسع أن العلم بأن الله خلق آدم هو من أظهر العلوم عند الخاصة والعامة فإذا لم يكن في قوله على صورته معنى إلا أنها الصورة التي خلقها وهي ملكه لكان قوله خلق آدم كافياً إذ خلق آدم وخلق آدم على صورته سواء على هذا التقدير وإن ادعى أن في الإضافة بمعنى الخلق تخصيص فكذلك يكون في لفظ خلق لا فرق بين قول القائل هذا مخلوق الله وبين قوله إن الله هو الذي خلق هذا ومعلوم أن حمل الحديث على هذا يوجب سقوط فائدته كما لو صرح بذلك فقال خلق آدم على الصورة التي خلقها الله أو خلق آدم على الصورة التي خلقها الرحمن ومثل هذا الكلام لا يضاف إلى أدنى الناس فضلاً عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم(6/540)
الوجه العاشر أن قوله خلق آدم على صورته أو على صورة الرحمن يقتضي أنه براه وصوره على تلك الصورة فلو أريد الصورة المخلوقة المملوكة التي هي صورة آدم المضافة إليه تشريفاً لكان قال صورة آدم صورة الله أو صورة الإنسان صورة الله ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الإضافة المجردة وإن كان في ذلك ما فيه أما إذا قيل خلقه على صورته ولم يرد إلا أن صورته المخلوقة هي الصورة المضافة إلى الله لكونها مخلوقة له فهذا تناقض ظاهر لا يحتمله اللفظ أما التأويل الثالث المذكور عن الغزالي من أن معنى قوله خلق آدم على صورته أن الإنسان ليس بجسم ولا جسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير(6/541)
والتصرف ونسبة ذات آدم إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم من حيث أن كلاًّ منهما غير حال في هذا الجسم وإن كان مؤثراً فيه بالتصرف والتدبير فهذا يشبه ما ذكره الإمام أحمد عن الجهم في مناظرته للمشركين السُّمَنية قال وكان الجهم وشيعته كذلك دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً وكان مما بلغنا من أمر الجهم أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في(6/542)
الله تبارك وتعالى فلقي أناساً من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتنا عليك دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلهاً قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك فقال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قالا لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا(6/543)
فوجدت له محسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون، الروح التي في عيسى صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا هي من روح الله ومن ذات الله فإذا أراد الله أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمنى ألست تزعم أن فيك روحاً فقال نعه فقال هل رأيت روحك قال لا قال(6/544)
فسمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسًّا أو محسًّا قال لا قال فكذلك الله تعالى لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه كما تقدم ذلك فقد شبه الجهم الله بالروح التي في الإنسان من جهة أن كلاهما لا يشبه بشيء من الحواس الخمس مع تدبيره لذلك الجسم وهذا يشبه قول الصابئة المتفلسفة الذين اتبعهم أبو حامد(6/545)
حيث ادعوا أن الروح هي كذلك ليست جسماً ولا يشار إليها ولا تختص بمكان دون مكان ولكنها مدبرة للجسد كما أن الرب مدبر للعالم مع أن في كلام أبي حامد من التناقض في هذه الأمور ما ليس هذا موضع استقصائه وبهذا يتبين ما نبهنا عليه في غير موضع أن مذهب الجهمية هو من جنس دين الصابئة المبدلين وذكر أن أستاذه الجهد بن درهم كان من أتباعهم وعلماء هؤلاء هم المتفلسفة ولهذا لما دخلت المعتزلة في دين الجهمية واتبعوا هؤلاء الصابئة الفلاسفة في مواضع كثيرة كما قيل المعتزلة مخانيث الفلاسفة وقد ذكر ذلك غير واحد من المطلعين على المقالات ولما كان هؤلاء المتفلسفة الصابئون لا يجمعهم قول في باب العلوم الإلهية بل بينهم فيها من التفرق الاضطراب(6/546)
ما لا يحصيه إلا رب الأرباب كان للجهمية من المعتزلة ونحوهم من ميراث هؤلاء أوفر حظ ونصيب ور ريب أنهم لابد أن يخالفوا أهل النفي العظيم والتعطيل المطلق منهم فيكون بينهم منازعات ومجادلات عظيمة وأيضاً كذلك هم مع المجوس في باب القدر والأفعال فإنهم شركوا المجوس في تشبيه أفعال الله تعالى بأفعال الواحد من الآدميين ووضعوا له شريعة بالقياس على أنفسهم فيوجبون عليه ويحرمون عليه من جنس ما يوجب عليهم ويحرم وهم مع هذا يخالفونه المجوس في الأصلين النور والظلمة ويردون عليهم لكن هم مع مخالفتهم المجوس(6/547)
والصابئين في كثير من الأصول فقد شركوهم في كثير من الأصول وخرجوا من دين الإسلام بقدر ما شركوا فيه هؤلاء من الضلال ومعهم من دين الإسلام بقدر ما شركوا فيه المسلمين من الحق وإن كان بعضه مع هؤلاء وبعضه هو من الحق الذي خالفوا فيه هؤلاء والمعتزلة الذين جمعوا التجهم والقدر كان مبدأ انتشارهم وظهورهم في أثناء المائة الثانية وإن كان ابتداع مذهب القدرية حدث في أثناء المائة الأولى ثم بعد ذلك تغلظ ذلك وظهر في كثير من الناس من مذهب الصابئة والمجوس ما(6/548)
هو من أعظم الكفر وازداد ذلك حتى ظهرت حقائقه في القرامطة والباطنية ونحوهم من الملاحدة وحتى ظهر الشرك الصريح بعبادة غير الله تعالى وصار بعض هذه البدع المضلة يَتَلَوَّنُ بها كثير من المنتسبين في أكثر أحوالهم إلى ما عليه أهل السنة والجماعة لظهور أصحابها وانتشارها لأنهم وفيها من نصر ذلك بالحجج والجدال والسيف والقتال كما وقع في الإسلام من ذلك وقائع كثيرة يعلم بعضها من له اطلاع على ما ورخ من الحوادث في أيام الإسلام والإمام أحمد ذكر أن الجهم فر إلى نظير قول زنادقة النصارى فإن أولئك يقولون بالحلول الخاص في المسيح والجهمية يقولون بالحلول العام المطلق وهو أنه في كل(6/549)
مكان لا يستقرون على قدم في ذلك فتارة يقولون هو في كل مكان وتارة يقولون ليس في مكان أصلاً ولا هو داخل العالم ولا خارجه وقد يطلقون الأول لفظاً ويريدون الثاني من جهة المعنى لنفور القلوب عن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن فساد هذا معلوم في بداية العقول فيطلقون للعامة انه بكل مكان لأن هذا إقرار بشيء من الجملة ولكن مقصود نظارهم هو النفي العام والجهم وأئمتهم كانوا يأتون بألفاظ مجملة ومقصوده بالجميع انه ليس على العرش كقوله هو على العرش كما تحت الثرى لا يختص بمكان دون مكان فإن هذا يقال لمن هو موجود في هذه الأمكنة كلها ويقال لمن ليس في شيء منها وكثير منهم من الاتحادية وغيرهم يصرحون بنقيض النفي حقيقة ويقولون إن ذاته موجودة في كل مكان بل يقولون(6/550)
من يقول منهم إنه عين الموجودات وأن وجودها نفس وجوده وقد يقولون إنه روح العالم والعالم صورته فإنهم في الحلول العام بمنزلة النصارى في الحلول الخاص وقد بسطنا الكلام علة أقوال هؤلاء الاتحادية منهم في غير هذا الموضع والكلام على هذا التأويل من وجوه أحدها أن من ألفاظ الحديث إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن ضرب الوجه لكون آدم مخلوقاً لأم الله خلق آدم على صورة الرحمن فلو كان المراد إبداع روحه مدبراً لجسده من غير حلول فيه(6/551)
كما أن الله تعالى مدبر للعالم من غير حلول فيه لم يكن هذا متناولاً للوجه فإن الوجه من الجسد الذي تدبره الروح فيكون مشابهاً لبعض العالم الذي يدبره الله تعالى ولا يكون داخلاً في الروح التي خلقها الله تعالى على صورته وإذا كان كذلك لم يصلح أن يعلل النهي عن ضربه بعلة لا تتناوله الوجه الثاني أنه لو أريد هذا لقيل لا تغموا الآدمي أو لا تحزنوه أو لا تضيقوا صدره فإن الله خلقه على صورته فيكون النهي عن تعذيب الروح المشابهة للرب من الوجه الذي ذكره إن كان ما قاله حقًّا الوجه الثالث أن كون حقيقة الآدمي هي الروح وأنها مخلوقة على صورة الله أمر لا يختص الوجه بل يشترك فيه سائر البدن فإن الروح مدبرة لجميع البدن فتخصيص الوجه بالنهي عن ضربه وشتمه لأجل ذلك لا وجه له بل يقال إما أن يكون كون الروح مخلوقة على صورة الله موجباً للنهي عن الضرب والتقبيح لما هي مدبرة له أو لا يكون فإن كان ذلك وجب أن ينهى عن ضرب جميع أجزاء بدن الإنسان(6/552)
حتى لا يجوز الضرب والتقبيح لشيء من بدن الآدمي مطلقاً وإن كان كافراً أو فاسقاً ومعلوم أن هذا في نهاية الفساد المعلوم بالاضطرار من العقل والدين وإن لم يكن ذلك موجباً للنهي لم ينه عن ضرب الوجه وهو خلاف النص والإجماع الوجه الرابع أن الحديث لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته نهى عن تقبيح الوجه وتقبيح ما يشبهه لأن الله خلق آدم على صورته فلو كلن المخلوق على الصورة إنما هو الروح لم يصح هذا التشبيه فإن الله لا يشبه وجه الإنسان وإنما يشبه روحه الوجه الخامس أن هذا التقبيح المنهي عنه لا يصلح أن يكون للوجه لعدم تناول العلة له الوجه السادس أنه لو أريد ذلك لقيل لا تقبحوا الروح أو لا تسبوها ونحو ذلك الوجه السابع أنه لا اختصاص للوجه بالنهي عن تقبيحه على هذا التقدير بل كان الواجب أن ينهى عن تقبيح جميع(6/553)
أعضاء البدن أو لا ينهى عن تقبيح شيء منها لأن تعلق الروح بذلك تعلق واحد الوجه الثامن أن قوله في الحديث الآخر المتفق عليه إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً صريح في أن المخلوق على صورته طوله ستون ذراعاً وهذا نص في البدن فكيف يجوز أن يقال إن البدن ليس داخلاً في الحديث وإنما المراد الروح فقط الوجه التاسع أن اسم آدم يتناول البدن كتناوبه الروح وهذا معلوم بالاضطرار من كلام الله وكلام رسوله والعلماء كما في قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وقوله وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة 35] وقوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة 37] وقوله يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف 27] وأمثال ذلك فمن زعم أن اسم آدم لا يتناول إلا الروح فقط في مثل خلق آدم ونحوه من الكلام فإن بطلان قوله معلوم بالاضطرار المنزل بين العباد وإنما يقال هذا في مثل قوله في حديث(6/554)
المعراج أنه رأى في السماء آدم وإبراهيم وموسى ونحوهم فإنه في مثله يقال المذكور هي الأرواح للعلم بأن أجسادهم في قبورهم الوجه العاشر أنه لو قال قائل لفظ خلق آدم إنما يتناول البدن وأن الروح نفخت فيه بعد ذلك لكان أقرب من هذا التبديل فإنه سبحانه وتعالى قال إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ(6/555)
طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) [ص 71-72] وقال إبليس لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) [الحجر 33] وقال خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) [الرحمن 14-15] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر تلك القبضة فيهم الأسود والأبيض وبين ذلك والخبيث والطيب وبين ذلك والسهل والحَزْن وبين ذلك(6/556)
وهذه النصوص وأمثالها مصرحة بأنه خلق آدم من التراب ومن الطين ومعلوم أن البدن هو المخلوق من ذلك فكيف يدعي المدعي أن قوله خلق آدم إنما يتناول الروح فقط الوجه الحادي عشر أن أبا حامد يدعي في مواضع أن لفظ الخلق إنما يتناول بالروح مسألة التقدير والمساحة وهو عندهم عالم الجسام التي يسميها عالم الملك فأما الأرواح المفارقة أو المدبرة التي يسميها عالم الجبروت(6/557)
والملكوت فتلك عنده عالم الأمر ليست من عالم الخلق فإذا ادعى مع ذلك أن لفظ الخلق إنما يتناول ما هو من عالم الأمر دون عالم الخلق كان هذا من أعظم التناقض ودل ذلك على فساد كلامه في هذا الباب الوجه الثاني عشر أن هذا غايته أن يكون خلقه على بعض صفاته وهي صفة التدبير للخلق من غير حلول فيه وهذا دون قول من يقول على صفة الحياة والعلم والقدرة وقد تقدم بطلان قول من حمل لفظ الصورة على هذه الصفات بما فيه كفاية وذلك كله دليل على بطلان هذا بطريق الأولى وهذه الوجوه المذكورة في الصفة كلها الوجه الثالث عشر أن إطلاق لفظ صورة الله على مجرد(6/558)
كونه مدبراً للعالم من غير حلول فيه أمر لا يدل عليه اللفظ بوجه من الوجوه بل هو من جنس دعاوي القرامطة الباطنية ولا ريب أن كلام المتفلسفة في الروح مما تميل إليه القرامطة الباطنية الوجه الرابع عشر أن عند أبي حامد ومتبعيه من المتفلسفة أن الملائكة بهذه المثابة وهي التي يسمونها(6/559)
العقول والنفوس فإنها عندهم مدبرة لعالم الأفلاك من غير حلول فيها فلا اختصاص لآدم بكونه مخلوقاً على صورة الله تعالى على هذا التقدير بل جميع الملائكة وما يسمونه العقول والنفوس مخلوق على صورة الله تعالى(6/560)
على هذا التقدير ومن أثبت من هؤلاء ووافق على أن لهم معاداً فإنه يقول فيهم كذلك فيكون إبليس أيضاً مخلوقاً على صورة الله تعالى عندهم وينبغي أن ينهى عن تقبيح الجن والشياطين لأنهم مخلوقون على صورة الله تعالى الوجه الخامس عشر أن هذا الكلام خرج مخرج المدح والتعظيم لآدم والمدح إنما يكون بالصفات الثبوتية وبالسلبية التي تتضمن صفات ثبوتية وليس فيما ذكروه إلا مجرد كونه مدبراً للبدن وكونه غير حال فيه وهذه الصفة الثانية صفة سلبية ومجرد التدبير مشترك بين جميع الحيوانات الوجه السادس عشر أن يقال إن تشبيه الرب بالعبد إما أن يكون سائغاً أو لا يكون فإن لم يكن سائغاً بطل تشبيه الله بالروح المدبرة للبدن وإن كان سائغاً فلا حاجة إلى تحريف الحديث والمقصود أنهم في تأويلهم مثبتون لنظير ما فروا منه فإنهم فروا من التشبيه ولم يتأولوه إلا على التشبيه وإن قالوا بثبوت التشبيه من وجه دون وجه كان كلام منازعيهم في النفي والإثبات أقوى من كلامهم كما تقدم لاسيما على هذا القول(6/561)
الوجه السابع عشر هذا التشبيه تشبيه باطل فإن الروح محتاجة إلى البدن في تحصيل كمالاتها كما أن البدن محتاج إليها كل منهما محتاج إلى الآخر وباتفاقهما كانت الأعمال كما رواه الحافظ أبو عبد الله بن منده في كتاب النفس والروح وغيره عن ابن عباس قال لا تزال الخصومة يوم القيامة حتى يختصم الروح والبدن فتقول الروح أنا لم أعمل شيئاً وإنما أنت عملت فأنت المستحق للعذاب ويقول البدن أنا لم أتحرك من تلقاء نفسي ولكن أنت حركتني وأمرتني فيبعث الله ملكاً يحكم بينهما فيقول مثلكما مثل مقعد وأعمى دخلا بستاناً فرأى المقعد فيه ثمراً معلقاً فقال للأعمى إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع المشي إليه(6/562)
فقال الأعمى أنا أستطيع المشي لكني لا أراه فقال تعال فاحملني فحمل الأعمى المقعد وجعل يقول له تعال إلى هنا تعال إلى هنا فيأمر المقعد العمى فيفعل فعلى من يكون العقاب فقال على الاثنين فقال الملك فهذه حالكما أو نحو هذا المعنى وهذا أمر محسوس متفق عليه بين العقلاء وهؤلاء الذين يسمونها النفس الناطقة متفقون على أنها تعلقت بالبدن(6/563)
لتحصيل كمالاتها وإذا كان كذلك فيلزم من هذا التشبيه أن يكون الله محتاجاً إلى العالم كما أن العالم محتاج إليه وهذا من أقبح الكفر والتمثيل فإن التشبيه إذا ساغ إنما يسوغ في صفات الكمال وهذا تشبيه لله بخلقه في صفات النقص وأيضاً فإن الروح تفارق البدن ما شاء الله من الزمان وعلى زعم المتفلسفة مفارقتها له أكثر من مقارنتها فإنها عندهم لا تقارنه بعد المفارقة أبداً فيلزم أن يكون تخلى الله عن تدبير العالم أعظم من تدبير العالم أضعاف أضعاف تدبيره له على تقدير صحة هذا التشبيه الوجه الثامن عشر أن الله رب العالم كله خالقه وبارِئُه(6/564)
ومصوره وأما الروح والبدن فبمنزلة المتشاركين المتعاونين فكيف يجوز أن يقال نسبة ذات آدم التي هي روحه إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم مع أن هذا من ابعد الأمور عن المشابهة فإن كون أحدهما غير حال مع كونه مؤثراً فيه بالتدبير والتصرف ينعكس في جانب الإنسان فإن البدن على رأيهم ليس بمحل للروح وهو أيضاً مؤثر في الروح إذ كل منهما يؤثر في الآخر فما يحسه البدن ويباشره ببدنه يؤثر في الروح كنا يذكره أبو حامد في غير موضع وهو محسوس فهل العالم يؤثر في الله كتأثير البدن في الروح الوجه التاسع عشر أن كون الإنسان ليس بجسم ولا جسماني أمر ليس من المعارف الظاهرة ولا أخبر به الرسول أمته حتى يصير معروفاً عندهم بل كون الله ليس بجسم هو أيضاَ كذلك ليس من المعارف الظاهرة ولا أخبر به الرسول أمته فقوله خلق آدم على صورته إذا أراد به أن كلاًّ(6/565)
منهما ليس بجسم ولا جسماني بل كل منهما غير حال فيما يدبره مع تأثيره فيه أمر لا يدل عليه اللفظ في اللغة التي خوطب بها ولا كان عند المخاطبين من المعارف ما يفهم ذلك فيكون بيان هذا المعنى بهذا اللفظ خارجاً عن قانون الخطاب ليس بحقيقة عندهم ولا مجاز إذ من شرط المجاز ظهور القرائن المثبتة للمراد وليس عند المخاطبين قرينة تبين ذلك الوجه العشرون أن هذا المعنى الذي ادعوه من كون الروح ليس بجسم ولا جسماني وأنها ليست في البدن وأن تعلقها بالبدن إنما هو تعلق التدبير فقط وأن الباري أيضاً ليس بجسم وأن تعلقه بالعالم تعلق التدبير فيقال لا يفهم إلا بعبارات مبسوطة أما أن يكون مجرد قوله خلق آدم على صورته مفهماً لهذه المعاني مبيناً لها من الرسول الذي عليه البلاغ المبين معلوم الفساد بالاضطرار الوجه الحادي والعشرون أن دعواهم أن الروح ليست في البدن خلاف ما نطقت به نصوص الكتاب والسنة وهو خلاف المحسوس الذي يحسه بنو آدم لاسيما حين الموت إذا(6/566)
أحسوا بنزع الروح من جسد أحدهم وأنها تخرج من كل عضو من أعضائه وكذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط يعني الذي جاء مع الملائكة من الجنة إلى آخر الحديث كما تقدم لفظه وقال في الكافر يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه فتتفرق في أعضاءه كلها فينزعها نزع السفود من الصوف المبلول فتتقطع بها العروق والعصب وتمام الحديث قد تقدم كلما فيه وهو صريح بدخول الروح وخروجها وصعودها وهبوطها وقبضها(6/567)
وإرسالها وما يشبه ذلك من الصفات التي هي عندهم لا تكون إلا لما يسمونه في اصطلاحهم جسماً فقول القائل ليست بجسم وليست في البدن مضادة لقول الرسول فكيف يجوز أن يحمل عليه ألفاظ الرسول حتى يجعل متشابه كلامه مناقضاً لمنصوصه ومحكمه الوجه الثاني والعشرون أن الله قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) في موضعين من القرآن وقال وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ [السجدة 7-9] فأخبر أنه نفخ فيه من روحه فكيف يجوز أن يقال إن الروح ليست فيه فإن قيل إنما قال ذلك لأنها مدبرة له كما يقال إن الله في السماء فيقال فينبغي على قياس ذلك أن يقال إن الله في السماء والأرض وكل مكان لأنه مدبر لذلك لا يخص الإطلاق بأنه في السماء ومعلوم انه ليس في الكتاب والسنة(6/568)
إطلاق القول بأن الله تعالى في العالم أو في الخلق أو في كل مكان كما فيهما إطلاق أن الروح في البدن فتمثيل أحدهما بالآخر من أعظم الفرية والكذب على الله وعلى رسوله وهي فرية جهم وأمثاله وأيضاً فأبو حامد مع متبوعيه من هؤلاء المتفلسفة الصابئين عندهم أن الله تعالى ليس في شيء من العالم أصلاً كما أنه قول أهل السنة كما أنه عند المتفلسفة وعندهم أيضاً أنه ليس فوق العالم فيمتنع عندهم أن يكون الروح في الجسد أو فوق الجسد وحينئذ فلا يصح إطلاق القول بأنها في الجسد لأن ذلك إما أن يراد به أنه حال فيه أو أنه عليه كما في قوله تعالى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه 71] الوجه الثالث والعشرون أن الله تعالى قال يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 27-30] فأمرها بالرجوع إلى ربها الله وفي ذلك إثبات حركتها وإثبات الانتهاء إلى الله وكلاهما(6/569)
خلاف ما يزعمه هؤلاء فيها وكذلك قوله فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 29-30] أمرها بالدخول في عباده ودخول الجنة وهذا يناقض قولهم إن النفس لا داخلة العالم ولا خارجه ولا تكون في مكان كما يزعمون ذلك في الباري تعالى وقال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر 42] فأخبر أنه يتوفاها وهو قبضها وأخذها واستيفاؤها وأخبر أن ذلك التوفي يكون حال الموت ويكون في المنام وأن المتوفاة في المنام منها ما يمسك وهي التي يقضى عليها بالموت في المنام ومنها ما يرسل فالإمساك لها والإرسال لها وتوفيها كل ذلك يتضمن نقيض ما يذكرونه من عدم اتصافها بجنس هذه الصفات الوجه الرابع والعشرون أن من جعل نسبة الروح وهو آدم عنده إلى البدن كنسبة الباري إلى العالم لزمه أن يجعل الباري(6/570)
روح العالم كما قال بعضهم عن الحق تعالى أنا روح الأشياء إن تحل مني اتخذوها كدارسات الرسوم وهذا وإن كان قد يقوله يعض الحلولية والاتحادية القائلين بأنه في كل مكان فهؤلاء المتفلسفة وأبو حامد ونحوه لا يقولون هذا بل عندهم قائل هذا من أكفر الناس وهو في ذلك مصيب موافق لجماعة المسلمين وإن كان هذا القول هو شبيه بما ذكر عن الجهمية أولاً حيث قالوا إنه في كل مكان كما تقدم ذكر ذلك عن أحمد فإن فساد هذا القول من أظهر الأمور وقد قدمنا من فساده ما فيه كفاية وذلك يقتضي أن بكون الرب نفسه هو الروح التي في الجن والشياطين وفي جهنم وغيرها التي في البدن وأن يكون الرب متنعماً متعذبًا راضياً ساخطاً فرحاً مغتمًّا مسروراً حزيناً بكل ما يوجد من ذلك في أجسام العالم كما أن الروح يكون فيها(6/571)
كذلك بكل ما يوجد في جسدها والاتحادية الذين يقولون هو الوجود يصفونه بذلك كله ويقولون هو موصوف بكل مدح وكل ذم وكل نعيم وكل عذاب كما قد ذكرنا افتراءهم في غير هذا الموضع ومعلوم ما في هذا القول من الكفر والضلال والسب لله والجحود له(6/572)
فصل وللناس تأويلات أخر وكلها باطلة مثل تأويل ابن عقيل ومن وافقه أن المراد صورة الملك والتدبير بل ومن الاستيلاء على جنس الحيوان حتى طائره وسابحه ما يشبه به استيلاء الرب على العالم بالتدبير والتصريف بل وعلى سائر الأجسام الجامدة وهذا وإن كان ابن عقيل يذكره في موضع فإنه في موضع آخر يتأوله على الصورة المخلوقة كما تقدم ذلك فإن هؤلاء لا يثبت أحدهم على مقام بل هم كثيرو الاضطراب وما من شيء يقوله المؤسس وأمثاله إلا وقد يقوله ابن عقيل ونحوه في بعض الأوقات والمصنفات وإن كان قد يرجع عن ذلك كما يرجع عن غيره(6/573)
قال في كفايته فصل في إضافة الصورة إليه تجوزاً وأنه مصور لكل صورة فأما ذاتاً فلا يطلق عليه إلا وتحتها معنى هو عين التخطيط والأشكال ولعله يقتضيها الحال مثل قولهم حدثني صورة أمرك يريد به حالك والذي ينفي حقيقة الصورة عنه هو الذي نفاه المشبهة عنه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خلق الله آدم على صورته ورأيت ربي في أحسن صورة لا ينطبق على المثال والشكل لنص(6/574)
الكتاب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] فمتى جاء خبر واحد وتواتر يثبت له صورة تعارض الكتاب والسنة وتناقض الدين والله قد حماه عن المناقضة وحرسه عن التقابل والتعارض والاختلاف فلابد من الجمع بين قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته فيكون نفي المثال نافياً للصورة التي هي التخطيط والشكل وإضافة الصورة إلى الله نفى شكل آدم إلى الله على سبيل الملك كما قال وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ولم يرد به الروح الذات وكانت الفائدة في ذلك تشريفها بالإضافة إليه كتشريف بنية الكعبة بتسميته بيتاً له وإن كان لا يسكنه كذلك تشريف صورة آدم(6/575)
بالإضافة إليه وإن كانت لا تشبهه قال وقوله رأيت ربي في أحسن صورة يحتمل أن يكون رآه في أحسن صورة ويحتمل أن يكون في أحسن حال من الإكرام والتبجيل قال إنما دعانا إلى ذلك لأن إطلاق الصورة عليه سبحانه تصريح بتكذيب القرآن وكفى بذلك محوجاً إلى التأويل وليس هذا مما يمكنا أن نقول فيه صورة لا كالصور لأنه عزاها إلى صورة محسوسة هي صورة آدم فلو كان على صورة الله في نفسه لكان كل آدمي على صورة الله والله سبحانه وتعالى على صورته وقد أكذب الله من قال ذلك وأطلقه عليه بقوله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وآدم شيء فلا يكون مثلاً لله تعالى وهذا لفظ ابن عقيل وهو مثل كلام المؤسس ونحوهم من الجهمية وقد تقدم الكلام على هذا(6/576)
وإنما المقصود هنا الكلام على تأويله بصورة الملك والتدبير وزاد على هذا طائفة من الاتحادية وغيرهم فقالوا هو خليفة الله استخلفه بأن جعل فيه من أسمائه وصفاته ما ضاهى به الحضرة الإلهية وهؤلاء طائفتان طائفة تثبت الرب وراء العالم وتجعل الإنسان خليفة لله وطائفة أخرى لا تثبت للرب وجوداً غير العالم بل يجعلونه هو وجود العالم ويجعلون الإنسان نسخة ذلك الوجود ومختصره فهو الخليفة الجامع فيه وهم في هذا يوافقون من يقول من الفلاسفة وغيرهم أن الإنسان هو العالم الصغير كما أن العالم هو الإنسان الكبير إذ الإنسان قد اجتمع فيه ما تفرق وهذه المعاني لا يقصد النزاع فيها ولكن المردود من ذلك قول أحدهم أن قوله خلق آدم على صورته أي على صورة العالم فإن الإنسان على صورة العالم وهي صورة الله إما الصورة المخلوقة المملوكة كما يقوله من يقر بالرب المتميز(6/577)
عن العالم وإما أن يجعلوا نفس العالم هو صورة الله ووجوده لا حقيقة له وراء ذلك كما يزعمه الاتحادية مثل صاحب الفصوص ومتبعيه فهذه ثلاثة تأويلات(6/578)
أحدها أن يكون مدبراً مالكاً لجنسه وغير جنسه كما أن الرب مدبر للعالم فهو على صورة الملائكة الثاني أن يكون على صورة العالم لأنه نسخته ومختصره والعالم هو صورة الله المخلوقة أو المملوكة أو هو صورته الذاتية النفسية وقد قدمنا في تأويل من حمل ذلك على الصفة والصورة المعنوية أننا لا ننازع في ثبوت المعاني الصحيحة مثل كون الإنسان له من الأسماء والصفات والأفعال ما قد حملوا الحديث عليه وجعلوه بذلك فيه شبه لأسماء الحق وصفاته وأفعاله ولا لنا حاجة بالمنازعة في دلالة الحديث على ذلك إما بطريق التضمن وإما بطريق الاستلزام(6/579)
بحيث يقال إنه إذا ثبت أنه على الصورة الذاتية فهو على الصورة الوصفية والاسمية والفعلية أولى وأحرى أو يقال غير ذلك وإنما المقصود هنا إبطال كل تأويل فيه تحريف الكلم عن مواضعه وإلحاد فيه ورد لما قصد بالنص فيرد ما كذبوا به من الحق لا ما قصدوا به من الحق فإن هذا شأن المحرفين لنصوص الصفات إذا حملوا الحديث على ما هو ثابت في نفس الأمر لم ننازع في ذلك المعنى الصحيح ولا في دلالة الحديث عليه إذا احتمل ذلك وقد لا نكون في هذا المقام ناظرين في دلالة الحديث عليه نفياً وإثباتاً ولكن ننازعهم في(6/580)
تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته وهو ما أبطلوه وعطلوه وكذبوا به من الحق فإن خطأ النظار فيما كذبوا به ونفوه أكثر من خطئهم فيما صدقوا به وعلموه أما التأويل الأول وهو قولهم على صورة الملك فهو وإن كان فيه نوع شبهة من هذا الوجه فالكلام عليه من وجوه أحدها أن قوله إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته لو أريد أنه جعل ملكاً مطاعاً مدبراً كما أن الله ملك مطاع مدبر لم يناسب هذا الأمر باجتناب الوجه إذ لا اختصاص له ولأن صفة الملك لا تنافي استحقاق العقوبة الوجه الثاني قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجهاً أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته ذكر خلق آدم على صورته لقوله وجهاً أشبه وجهك وليس في كونه ملكاً ما يقتضي ذلك كما قال فإن الله خلق آدم ملكاً من الملوك(6/581)
الوجه الثالث أنه لو أريد ذلك لم يكن فرق بين الوجه وسائر الأعضاء في النهي عن الضرب والنهي عن التقبيح إذ كون آدم مخلوقاً على صفة الملك التي يتميز بها لا يخص عضواً دون عضو الوجه الرابع أن كونه ملكاً لا يوجب رفع العقوبة عنه إذا أذنب إذ لو جاز ذلك لكان ملوك بني آدم ترفه عنهم عقوبة السيئات الوجه الخامس أن كونه مخلوقاً على صورة الملك ليس هذا عامًّا في جميع بني آدم إذ منهم من يصلح للملك ومن لا يصلح أن لا يكون إلا مملوكاً بل منهم من هو أضل من البهائم كما قال تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) [الأعراف 179] وإذا كان كذلك مع أن النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه عام في جميع الآدميين وصفة الملك والسؤدد ليست عامة علم أنها ليست هي المراد بقوله على صورته الوجه السادس أن الملك ليس مختصًّا بالآدميين بل في أصناف البهائم الرئيس والمطاع والمرؤوس المطيع فما من(6/582)
طائفة من البهائم والطير تجتمع كالنحل وغيرها إلا وفيها الرؤساء المطاعون وأيضاً فالملائكة كذلك كما قال تعالى في جبريل إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) [التكوير 19-21] وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لآدم اختصاص بالرئاسة والملك وإن كان لبني آدم من الاختصاص ما ليس لغيرهم فالملائكة أيضاً ليست كبني آدم وأهل السنة وإن قالوا إن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة فلا يقولون إن جنس الآدميين مطلقاً أفضل من جنس الملائكة بل في بني آدم من هو شر من البهائم الوجه السابع أن الملك صفة من صفات الله وهو يعود إلى القدرة أو القدرة والعلم والحكمة فيكون ذلك داخلاً في تأويل من تأوله على الصورة المعنوية وهي صفة العلم والقدرة وقد تقدمت الوجوه المتعددة في إبطال حمله على ذلك وتلك الوجوه كلها تبطل هذا بطريق الأولى(6/583)
الوجه الثامن أن تسمية ملك الله صورة الله أو تسمية تدبيره وقدرته صورته مما لا يعرف في اللغة أصلاً فحمل الحديث عليه تحريف وتبديل محض الوجه التاسع أن قوله خلق آدم على صورته يقتضي أنه كان مخلوقاً على صورته ومعلوم انه لم يخلق حينئذ ملكاً وإنما الملك حادث بعد ذلك الوجه العاشر أن آدم نفسه لم يكن بعد أن خلق ملكاً ولا مطاعاً وبعد أن حدثت له الذرية الوجه الحادي عشر قوله إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً إلى قوله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم صريح في أنه أراد صورة نفسه لا قدرته وملكه وأما قول القائل على صورته التي هي العالم فإن الإنسان مختصر العالم فلا حاجة على المنازعة في كون(6/584)
الإنسان مختصر العالم ونسخة للعالم ولا في كون هذا المعنى قد يكون من لوازم خلقه على صورة الرحمن كما لا ينازع في كونه عالماً وقادراً وحيًّا وعالماً لكن هذا لا يجوز أن يكون هو مقصود الحديث لوجوه أحدها أن قوله إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته يقتضي أن خلقه على صورة الرحمن هي المانع من ضربه وكونه على صورة العالم لا يمنع ضربه وقتاله فإن العالم نفس مشتمل على النعيم والعذاب وعلى ما يُنعم ويُعذَّب وعلى البر والفاجر الثاني أن قوله لا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته يقتضي أن شبه الوجه بالصورة هو المانع من تقبيح من أشبه الوجه ومعلوم أن العالم نفسه ليس فيه ما يشبه وجه الآدمي مخصوصاً يمنع ذمه وهو وجه يشبه وجهه الثالث أن خلقه على نسخة العالم ليس له اختصاص(6/585)
بالوجه بل هو شامل لروحه كما يبين ذلك من يقوله وحينئذ فينبغي أن يكون النهي عن الضرب لسائر أعضائه ونفسه أو لا ينهى عن الضرب لشيء وكلاهما باطل الرابع أنه على هذا التقدير كان النهي عن التقبيح يقتضي أن يكون شاملاً لجميع الأعضاء والنفس الخامس أن تسمية العالم صورة الله أمر باطل لا أصل له في اللغة بل العالم مخلوق الله ومملوكه السادس أن هذا الوجه يتضمن أن إضافة الصورة إليه إضافة خلق وملك لا إضافة ذاتية وقد تقدمت الوجوه المبطلة لهذا فهي تبطل هذا التأويل السابع أن كون الإنسان مشابهاً للعالم ليس بأعظم من مشابهة بعض الناس لبعض كمشابهة الرجل لأبيه ومعلوم أن مشابهة بعض الآدميين لبعض ليس مقتضياً لذم ولا مدح ولا مانعاً من العقوبات بل هو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي الثامن أن كون الإنسان مختصرًا من العالم أن فيه المحمود(6/586)
والمذموم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر تلك القبضة منهم الخبيث والطيب وبين ذلك والسهل والحزن وبين ذلك والأسود والأبيض وبين ذلك وإذا كان كذلك فكونه مختصراً من العالم ومشبهاً له لا يوجب منع تقبيح شيء منه ولا منع ضرب شيء منه التاسع أنه من المعلوم أن أرواح بني آدم أشرف من أجسادهم ثم إن هذه الأرواح التي يسمونها النفوس الناطقة تنقسم إلى محمود ومذموم كما يقول الملك للنفس المؤمنة اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي راضية مرضية فإذا خرجت صلى عليها كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض وكل ملك بين السماء والأرض ويقول للكافرة اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك(6/587)
وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فإذا خرجت لعنها كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض وكل ملك بين السماء والأرض وإذا كانت الروح قد تقبح وتشتم وتلعن وتوصف بالخبيث فالجسد أحق بذلك فلو كان مشابهة أشرف(6/588)
ما في العالم يمنع التقبيح لوجب ألا تقبح النفس الناطقة قط فلما جاز تقبيحها ومنع الشارع من تقبيح الوجه لأن الله خلق آدم على صورته ولا فرق في ذلك بين وجه البر والفاجر علم أن المانع ليس مشابهة العالم العاشر أن قوله صورة الإنسان على صورة الرحمن يخص الصورة كما خص الوجه في تلك الأحاديث وهذا يمنع أن يكون المراد جميع أعضاء الإنسان وروحه وأما قول طائفة من هؤلاء وغيرهم أن الآدمي خليفة الله استخلفه عن نفسه فجعله يخلفه في تدبير المملكة فهو على صورته من هذا الوجه فهذا يدخل فيه معنى الملك ومعنى كونه نسخة العالم لكن فيه من الباطل ما يخصه وهو زعمهم أن الإنسان خليفة عن الله تعالى فإن هذا باطل والله تعالى لا يخلفه شيء أصلاً وإنما معنى كون آدم وداود والآدميين خلائف أنهم(6/589)
يخلفون غيرهم من المخلوقات لا أنهم يخلفون الخالق كما قال تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور 55] وقال تعالى وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ [يونس 13-14] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام 165] وقال تعالى في قصة نوح فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ [يونس 73] وقال تعالى وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) [الأنعام 133] وقال تعالى في خطاب هود لقومه وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف 69] وفي خطاب صالح لقومه وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ [الأعراف 74] وقال في خطاب موسى لقومه عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) [الأعراف 129] وقال النبي صلى الله عليه وسلم من جهز غازياً فقد غزا ومن خلفه في(6/590)
أهله بخير فقد غزا وقال أو كلما نفرنا في سبيل الله خلف أحدهم وقال تعالى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا(6/591)
الْكِتَابَ [الأعراف 169] وقال تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) [فاطر 39] وقال تعالى إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة 93] وقال فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة 83] ولهذا قيل للصديق يا خليفة الله فقال لست بخليفة الله ولكن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسبي ذلك ولكن الله سبحانه يوصف بأنه خليفة وبأنه خلف من غيره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل اللهم اصحبنا في(6/592)
سفرنا هذا خيراً واخلفنا في أهلنا ويقال في الوداع خليفتي عليك الله وفي التعزية الذي ذكر الشافعي في مسنده أن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا صوت معز عزاهم بها يا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت(6/593)
وذلك لأن الخليفة لا يكون إلا مع تغيب المستخلف لا مع شهوده والله شهيد على عباده لا يغيب عنه شيء مدبر للجميع فلا يستخلف من يقوم مقامه في ذلك كما يستخلف المخلوق للمخلوق بل هو الخالق لكل شيء المدبر لكل شيء فالآدميون يموتون ويغيبون فيكون من يخلفهم والله حي قيوم لا يغيب فلا يكون له من يخلفه بل هو سبحانه يخلف من يغيب أو يموت كما يكون خليفة المؤمن في أهله إذا سافر ويكون خليفة له إذا مات فيكون أولئك الذين كان المؤمن يكفيهم في هدايتهم ورزقهم ونصرهم(6/594)
يبين ذلك أن الإنسان إذا آتاه الله ملكًا أو لم يؤته إما أن يكون عند الله عاملاً بطاعته وطاعة رسوله أو لا يكون فإن كان من القسم الأول كان من عباد الله كالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وقال إبليس فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) [ص 82-83] ونحو ذلك والعبد العامل بأمر الله هو عابد لربه متوكل عليه لم يخالف ربه في أمر من الأمور كما أن الملائكة الذين لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ليس خالفين لله في أمر من الأمور وإن كانوا عاملين بأمره عابدين له مطيعين وهم المدبرات أمراً والمقسمات أمراً وإن كان الإنسان غير عامل بطاعة الله ورسوله بل هو عاصٍ لله ورسوله فهذا أبعد أن يكون عمله ذلك خلافة عن ربه وهو يعمل ما يبغضه الله ويكرهه وينهى عنه(6/595)
فقد ظهر أنه لا وجه أن يجعل واحد من هذين خليفة عن الله لا من يعبده ولا من يطيعه ولا من يشرك به ويعصيه هذا من جهة القضاء والقدر والأمر الكوني فإن الله خالق كل شيء فهو خالق كل حي من الملائكة والإنس والجن والبهائم وخالق قدرهم وإراداتهم وأفعالهم كما أنه خالق غير الأحياء وهو وإن كان يخلق الأشياء بعضها ببعض كما يخلق النبات بالمطر ويخلق المطر بالسحاب فليس شيء من ذلك خليفته إذ هو الخالق له ولما يخلقه به فهو رب كل شيء ومليكه ولو جاز ذلك لكان كل مخلوق خليفة عن الله بل جميع ذلك مسخر بأمره مصروف بمشيئته مدبر بقدرته منظوم بحكمته والله غني عن جميع ذلك وكل ذلك فقير إليه وليس الصغير أفقر إليه من(6/596)
الكبير ولا المسبب بأفقر إليه من السبب بل الجميع فقراء إليه وهو رب الجميع ومليكه وهو سبحانه ليس كمثله شيء في شيء من تدبيره كما قال سبحانه أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 9-11] يبين ذلك أن كل من خلف غيره في شيء فإنه يكون معيناً له فيما يعجز عنه المخلوف إما لعدم علمه به وإما لعدم قدرته فالخالف شريك للمخلوف ولقوله كالأمير الذي يستخلف في الأمصار خلفاء عنه فهم كلهم فاعلون ما لا يقدر هو وحده أن يفعله وهم مشاركون له مكافئون له وهو وهم متعاونون على جملة التدبير وكل منهم ينتفع بما يعاونه الآخر عليه والله تعالى ليس كذلك بل هو الغني(6/597)
مطلقاً بنفسه عن الخلق وهو الخالق لكل شيء ثم إن من رحمته أنه يأمر العبيد بما يصلحهم وينهاهم عما يفسدهم وهو الذي يعينهم على فعل المأمور وترك المحظور ولا يقدرون على فعل ذلك إلا بإعانته بل يخلق ذلك كله قال تعالى قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ 22-23] وقال تعالى وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) [الإسراء 111] وإنما يتخيل أنه خليفة عن الله ونائب عنه بمنزلة ما يعهد عن الخلفاء والنواب عن المخلوقين منهم من يكون جباراً منازعاً لله في كبريائه وعظمته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته فيكون مختالاً يتخيل في نفسه أنه عظيم كبير وأن أمره ونهيه وفعله بالنسبة إلى الله تعالى من جنس أمر الخليفة النائب عن غيره ومن جنس نهيه(6/598)
وفعله وهذا شرك وكذب وضلال وكبرياء واختيال وذلك أن الخليفة عن غيره يأمر وينهى ويفعل أموراً لم يدر بها المستخلف ولم يقدر عليها ولا يكون أمر بها ونهى بل يكون أمر هذا من جنس الأمر الأول كالوكيل مع موكله وكالوصي مع الموصي وهؤلاء بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر ولهذا جاءت الشريعة بذلك فجعل الفقهاء الشركة في التصرف مبنية على الوكالة وأن الشريك يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة والنيابة وأما الوصي فهو ابلغ من هذا لأنه يتصرف بعد انقطاع أمر الموصي بالموت فهذا يكون له من الاستقلال ما ليس للوكيل والشريك حتى تنازع الفقهاء في جواز توصيته فأجاز ذلك من منع توكيل الوكيل وحتى أجازوا له من التصرفات(6/599)
ما لا يجوز للوكيل وهكذا خلفاء ولاة الأمور مثل خليفة الإمام الكبير ذي الإمامة الكبرى وخليفة الحاكم وخليفة إمام الصلاة وغير ذلك كل من هؤلاء يفعل من جنس ما يفعله مستخلفه وكل هذا في حق الله ممتنع واعتقاد ذلك في حق أحد هو من أعظم الشرك ومن باب اتخاذ البشر أرباباً قال تعالى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) [النوبة 31] وقال تعالى مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) [آل عمران 79-80] يبين ذلك أن أعظم الخلق منزلة عند الله هم رسله والرسل إنما هم مبلغون أمره ونهيه لا يأمرون إلا بما أمر ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله(6/600)
فطاعتهم طاعة الله كما قال تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء 80] لأنهم بلغوا أمر الله إلى عباده فالمطيع لهم مطيع لأمر الله لأنه فاعل ما أمره الله به وأين الرسول المبلغ أمر غيره من النائب له الخليفة عنه الذي يتصرف كما يتصرف المستخلف بينهم فرقان عظيم قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فأما من يتصرف في عباد الله بمشيئته وهواه فيعطي من أحب ويمنع من أحب ويوالي من أحب ويعادي من أحب(6/601)
بغير أمر الله ولا إذنه فهذا عدو لله جبار مختال من جنس فرعون الذي علا في الأرض واتخذ1 أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين فهل يكون هؤلاء نواباً عن الله أو خلفاء عنه وهم أعداؤه وعصاته كإبليس وإن كان الله هو الخالق لكل شيء فليس كل ما خلقه الله من الأعيان والأفعال يكون محبًّا له راضياً به وإن كان بمشيئته فإنه سبحانه خالق إبليس وذويه وهو يبغضهم ويلعنهم ويعاقبهم ومن قال عن نفسه أو غيره إني نائب الله أو خليفة عن الله ولم يكن أمر بما أمر الله به على ألسن رسله فقد كذب على الله واستكبر في الأرض بغير الحق كما يذكر ذلك عن طائفة من الملوك الجاهلين الظالمين بل المنافقين المشركين وإن كان إنما أمر بما أمر الله به فهو مصيب في إيجاب(6/602)
طاعته إذا أمر بما أمر الله به ومصيب في معاقبة من عصى الله وإكرام من أطاعه وقوله نائب إن كان بمعنى المبلغ والرسول والمنفذ فصحيح وإن كان بمعنى أني أنوب عنه في ما لا يفعله هو ولا يقدر عليه فهذا كذب وهذا قد يقوله القدري الذي يظن أنه مستقل بفعله وأن الله لم يخلق فعله وهو مبطل في ذلك نغم لو قال نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خليفة رسول الله لكان هذا صحيحاً ولهذا لما قالوا للصديق يا خليفة الله قال لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله وحسبي ذلك فلا يطلق على أحد أنه نائب عن الله ولا خليفة عنه أصلاً بخلاف الرسول فإنه قد روي في وصف خلفاء الرسل أنهم الذين يحيون سنتهم ويعلمونها للناس ولهذا تجب طاعتهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله(6/603)
ومن عصى أميري فقد عصاني وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما أمر الله به فالمطيع له مطيع لله وكذلك أميره الذي استخلفه على بعض أمته كأمراء السرايا الذي أوجب طاعته إنما أوجبها إذا كان يأمر بما أمر الرسول به كما قال صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وكما(6/604)
قال لا طاعة في معصية الله فقوله من أطاع أميري قد بين أن معناه إطاعته في الطاعة وهو ما كان من الفعال التي يأمر الله ورسوله بها فيكون هذا الأمير منفذاً لذلك الأمر كما كان عمر ابن عبد العزيز يقول يا أيها الناس لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم كتابكم آخر الكتب ونبيكم آخر الأنبياء(6/605)
وإنما أنا متبع ولست بمبتدع وإنما أنا منفذ ولست بقاض فقد تبين أن هذه الدعاوي في الخلافة عن الله ونحو ذلك إنما هي من دعاوي المتكبرين الجبارين المشركين الذين يريدون العلو في الأرض كفرعون وهؤلاء الاتحادية والموافقين لفرعون المدعين أنهم مضاهون لله تعالى وأنه يحتاج إلى عباده كما يحتاج عباده إليه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً يبين هذا أن إيتاء الله للعبد الملكَ والسلطان والمال لا يقتضي أن ذلك إكرام منه له ومحبة بل هو ابتلاء وفتنة له وامتحان قال تعالى فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ(6/606)
رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) [الفجر 15-17] وقال تعالى وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) [يونس 13-14] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) [الأنعام 165] فبين أنه جعلهم خلائف ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما يرقع درجة ذي الملك والسلطان ليبلوهم فيما آتاهم وإذا كان كذلك فمن كان منهم عاملاً بطاعة الله غير عامل بمعصيته كان من أولياء الله وعباده الصالحين ومن كان منهم عاملاً بمعصية الله مريداً للعلو في الأرض والفساد متخيلاً متكبراً جباراً كان من أعداء الله وممن سخط الله عليه ولعنه قال بعض السلف أظنه مجاهداً في قوله تعالى وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) [الشعراء 130] قال هو السوط والسيف والعصا في غير طاعة الله فمن كان يضرب(6/607)
ويقتل لغير طاعة الله ورسوله فإنما هو جبار من الجبارين فإن لم يتب وإلا جاءه بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً فكيف يستجيز مسلم أن يقول في مثل هذا أنه خليفة عن الله ونائب عنه وهذا يقتضي أن فرعون والنمرود ونحوهما كانوا خلفاء عن الله نواباً عنه ثم إن هؤلاء يجعلون هذا المعنى ثابتاً لكل إنسان أنه خليفة عن الله لأنه من الجنس المسلطين على غيرهم من أجناس الحيوان وعلى أنواع من التدبير ولا يفرقون بين من أطاع الله ومن عصاه بل يجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويجعلون المتقين كالفجار وهذا كله(6/608)
من الإشراك والجمع لما فرق الله بينه ولهذا شرع الاتحادية كل شرك في العالم ونظير هذا الإشراك الذي يجعل فيه العباد خلفاء عن الله ونواباً عنه تشبيهاً لذلك بالخلافة والنيابة عن الملوك ما يوجد في كثير من الناس المشركين من تشبيههم لمسألة الله ودعائه وعبادته بمسألة الملوك فيقول الناس لأ حدهم إذا أردت أن تأتي السلطان وتسأله فابدأ بالوسائط التي بينك وبينه كالحجاب والنواب والأعوان فإن قصدك السلطان من الباب قِلَّةِ مَعْرُوفِه وقلة تعظيم وإكرام وذلك لا يصلح لك فيأمرونه بالتواضع والإشراك بالمخلوقين وهذا من الأسباب الذي به عبدت الكواكب والملائكة والأنبياء والصالحون وقبورهم وهذا كله(6/609)
من أعظم الشرك والضلال والقياس الفاسد فإن الله بكل شيء عليم وهو سميع بصير بكل شيء ليس بمنزلة الملك الذي لا يعلم إلا ما أنهي إليه ولا يسمع ولا يبصر أكثر أمور رعيته وأيضاً فإن الله على كل شيء قدير لا يحتاج أن يستعين بالأعوان على إجابة الداعي كما يحتاج الملك وأيضاً فإن الله قريب إلى عباده كما قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة 186] وهو رحيم بعباده رؤوف بهم مع أنه هو الجبار المتكبر المتعالي بالحق ليس كالملوك الجبارين المتكبرين بالباطل على بني جنسهم ومن هو مثلهم حتى لا يسمعوا كلامه ولا يرحموه وحتى يزدروا الضعيف والفقير فهذا الإشراك في ربوبية الله وإلهيته والاستكبار والاختيال الموجود في العباد كله منافٍ لدين الإسلام الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه وكلا النوعين يتضمن من تعظيم الخلق وجعلهم أنداداً لله ومن التفريط في جنب الله وتضييع حقوقه ما هو من أعظم الجهل والظلم(6/610)
وأصل هذه المقالات توجد في مقالات المشركين ومن دخل في الشرك من الصابئين وأهل الكتاب وهو في الغالية من هذه الأمة كغالية الرافضة وغالية المتصوفة ونحو هؤلاء وأما الدقيق منه فهو كثير كما قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) [يوسف 106] لاسيما شرك العمل والحال وإن لم يكن العبد مشركاً في مقاله وما يقترن بذلك من الخيلاء والكبر وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وأما قول من يقول إن العالم نفسه هو وجود الله وأن الإنسان هو مظهر ذات الله الأكمل ففيما تقدم كفاية في بطلان قول من حمل الحديث على مجرد كون الإنسان(6/611)
مخلوقاً على صورة الله التي هي العالم وبطلان كونه خليفة عن الله وأما ما يختص به هؤلاء من الرد عليهم وبيان كفرهم وضلالهم فهو مذكور في غير هذا الموضع بل على أصلهم يمتنع أن يكون آدم مخلوقاً على صورة الله إذ على أصلهم ليس في الوجود شيئان أحدهما خالق والآخر مخلوق بل الخالق هو المخلوق عندهم وأيضاً فإنه قال لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن تقبيح الوجه لكون آدم مخلوقاً على صورة الله وعندهم أن وجود كل موجود هو عين وجود الرب وكل تقبيح ولعن وشتم وذم في العالم فهو واقع على الرب عندهم كما يقع عليه كل مدح ودعاء وهو عندهم الداعي والمدعو له واللاعن والملعون والشاتم والمشتوم والقاتل والمقتول والناكح والمنكوح فلا يتصور عندهم أن يختص شيء بعينه بالنهي عن التقبيح لكونه على صورة الله إذ ليس في الوجود مقبح وغير مقبح إلا ما هو من صورة الله عندهم وكذلك قوله لا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من(6/612)
أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته جعل مجرد المشابهة لوجه الله مانعاً من الضرب وعندهم أن كل ضرب في العالم أو قتل واقع على نفس الرب وهو ضارب لنفسه بنفسه وأن العالم كله هو صورة الله الذاتية لا يعنون بها الصورة المخلوقة المملوكة بل عين وجود العالم هو عين وجود الحق ثم إن صاحب الفصوص وهو مع كونه إمامهم فهو أبعدهم عن محض الإلحاد لما يوجد في كلامه من لبس الحق بالباطل يفرق بين الوجود والثبوت فيقول إن الأشياء ثابتة بأعيانها في القدم ونفس الوجود الفائض عليها هو(6/613)
وجود الحق فيوافق من يقول إن المعدوم شيء في الخارج لكن يجعل وجود الكائنات عين وجود الحق ولا يجعل وجوداً متميزاً عن المخلوقين ولهذا يضطرب فيجعله هو هو من وجه وهو غيره من وجه لأن الفرق بين الوجود والثبوت فرق باطل فجاء بعده من أتباعه مثل القُونوي ونحوه من لم يسلك هذا المسلك بل فرق بين الوجود المطلق والمعين فجعل الحق الوجود المطلق الساري في(6/614)
الموجودات وأما المعين فهو الخلق ومن المعلوم أنه ليس في الخارج وجود مطلق سوى الموجود المعين فهو أراد أن يفرق بين الحق والخلق فلم يفرق في الحقيقة بل اضطرب كما اضطرب أستاذه فجاء بعد هذا من أصحابه وغير أصحابه كابن سبعين وخادمهم التلمساني فعلموا فساد الفرق بين الرب والعبد فصرحوا بأنه هو الموجودات وليس ثم غير ولا سوى بوجه من(6/615)
الوجوه كما قد بسطنا قولهم في غير هذا الموضع وحقيقة قولهم هو قول فرعون الجاحد لرب العالمين كما يقوله من يقوله من طواغيتهم إن قولنا هو قول فرعون لكن فرعون كان ينكر وجود الحق بالكلية وهؤلاء أقروا به قالوا هو الوجود الذي اعترف به فرعون وهو وجود المخلوقات فخالفوا فرعون في اعتقادهم وقصدهم حيث اعتقدوا أنهم مقرون بالله عابدون له من بعض الوجوه وإن كان العابد والمعبود والمقر بالله هو الله عندهم لا غيره والمقصود هنا ما يتعلق يقولهم في صورة الله كما قال صاحب الفصوص ابن عربي في فص حكمة أحدية في(6/616)
كلمة هودية فهو محدود بحد كل محدود فيما يحد شيء إلا وهو حد للحق فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود فهو عين الوجود فهو على كل شيء حفيظ بذاته ولا يؤوده حفظ شيء فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته ولا يصح إلا هذا فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير فهو الكون كله وهو الواحد الذي قام كوني بكونه ولذا قلت يغتذي فوجودي غذاؤه وبه نحن نحتذي فيه منه إن نظر ت بوجه تعوذي(6/617)
وقال أيضاً في التوجيه فإن للحق في كل نطق ظهوراً فهو الظاهر في كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم إلا فهم من قال إن العالم صورته وهو منه وهو الاسم الظاهر كما أنه بالمعنى روح ما ظهر فهو الباطن فنسبته لما ظهر من صورة العالم نسبة الروح المدبر للصورة فيوجد في حد الإنسان مثلاً باطنه وظاهره وكذلك كل محدود فالحق محدود بكل حد وصورة العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صوره فلذلك(6/618)
يجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة وهذا محال حصوله فحد الحق محال وقال ابن عربي أيضاً في فصوصه في فص حكمة علوية في كلمة موسوية كذلك تدبير الحق العالم ما دبره إلا به أو بصورته فما دبره إلا به كتوقف الولد على إيجاد الوالد والمسببات على أسبابها والمشروطات على شروطها والمعلولات على عللها والمدلولات على أدلتها والمحققات على حقائقها وكل ذلك من العالم وهو تدبير الحق فيه فما دبره إلا به وأما قولنا أو بصورته أعني صورة العالم فأعني به الأسماء الحسنى والصفات العلا التي تسمى الحق بها واتصف بها فما وصل إلينا من اسم تسمى به إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في(6/619)
العالم فما دبر العالم أيضاً إلا بصورة العالم ولذلك قال في خلق آدم الذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال إن الله خلق آدم(6/620)
على صورته وليست صورته سوى الحضرة الإلهية فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل وجعله روحاً للعالم فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة فكما أنه ليس شيء من العالم إلا وهو يسبح بحمده وكذلك ليس شيء من العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته فقال تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية 13] فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك من علمه وهو الإنسان الكامل وجهل ذلك من جهله وهو الإنسان الحيوان(6/621)
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء السابع
الصورة - الرؤية - الساق - رؤية النبي صلى الله عليه وسلم - النفس
اليد - الشخص - الغيرة - الصمد
حققه
د. محمد البريدي(7/1)
فصل قال الرازي الخبر الثالث ما روى صاحب شرح السنة في كتابه في باب آخر من يخرج من النار عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه(7/3)
قال فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإن بيننا وبينه علامة فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ثم قال واعلم أن الكلام على هذا الحديث من وجهين الأول أن تكون في بمعنى الباء والتقدير فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي عرفوه بها في الدنيا وذلك بأن يريهم ملكًا من الملائكة ونظيره قول ابن عباس رضي الله عنهما(7/4)
في قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] أي بظلل من الغمام ثم إن تلك الصورة تقول أنا ربكم وكانَّ ذلك آخر محنة تقع للمكلفين في دار الآخرة وتكون الفائدة فيه تثبيت المؤمن على القول الصالح وإنما يقال الدنيا دار محنة والآخرة دار الجزاء على الأعم والأغلب وإن كان يقع في كل واحدة منهما ما يقع في الأخرى نادرًا أما قوله صلى الله عليه وسلم إنهم يقولون إذا جاء ربنا عرفناه فيُحمَل على أن يكون المراد إذا جاء إحسان ربنا عرفناه وقوله فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها فمعناه يأتيهم بالصورة التي يعرفون أنها أمارات الإحسان وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيقولون بيننا وبينه علامة فيحتمل أن تكون تلك العلامة كونه تعالى في حقيقته مخالفًا للجواهر(7/5)
والأعراض فإذا رأوا تلك الحقيقة عرفوا أنه هو الله تعالى التأويل الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة والمعنى أن يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه مالم يألفوه ولم يعتادوه من معاملة الله تعالى معهم ثم يأتيهم بعد ذلك أنواع الرحمة والكرامة على الوجه الذي اعتادوه وألفوه والكلام على ذلك أن يُقال أما هذا الخبر في الجملة فهو متواتر عند أهل اعلم بالحديث ورواته من التابعين وأتباعهم من أجلِّ الأمة قدرًا في العلم والدين وهو معروف عن عدد من الصحابة فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد مجتمعين ومن حديث أبي سعيد مفردًا وهو أيضًا في صحيح مسلم من حديث جابر وهو في المسانيد من حديث ابن(7/6)
مسعود وأبي موسى وفد جمع الحافظ أبو الحسن الدارقطني(7/7)
كثيرًا من طرقه في كتاب الرؤية له وهو حديث طويل في وصف ما يكون في القيامة من تجلِّي الله لعباده وخطابه لهم ومرورهم على الصراط وخروج أهل التوحيد من النار وهو مشتمل على جمل من أصول أهل السنة التي يُكذِّبُ بها طوائف من أهل الأهواء والخوارج والمعتزلة(7/8)
والجهمية والقرامطة(7/9)
والباطنية مثل الإتيان والرؤية والصراط وخروج أهل الكبائر من النار وغير ذلك مما يدخل في باب الإيمان بالله واليوم الآخر مما يكذب به الجهمية والخوارج ومن اتبع الطائفتين من المعتزلة ونحوهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ به مرارًا وكذلك أصحابه من بعده كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث ابن مسعود على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وبذلك تتبين فوائد جليلة وجواب على إشكالات كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى روى البخارىُّ(7/10)
ومسلم في الصحيحين من حديث أبي اليمان عن شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن(7/11)
يزيد الليثي أن أبي هريرة أخبرهما ومن حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن النَّاس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تُضَارُّونَ في القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال(7/12)
هل تُضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئًا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله عز وجل في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويُضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من(7/13)
يجيزها ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهمَّ سَلِّم سَلِّم وفي جهنم كلاليبُ مثل شوك السَّعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السَّعدان غير أنه لا يعلم قدر عِظَمِهَا إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموثوق بعمله(7/14)
ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه لم يتحد لفظ البخاري في رواية إبراهيم بن سعد ولفظ مسلم مطلقًا ومنهم المجازى حتى يُنَجَّى حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكةَ أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود وفي لفظ تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد(7/15)
امتحشوا فيُصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حَميل السَّيل ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبلٌ بوجهه على النار وهو آخر أهل النار دخولاً الجنَّةَ فيقول أي ربِّ اصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعو الله ما شاء(7/16)
أن يدعوه ثم يقول الله تعالى هل عَسَيْتَ إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره فيقول لا وعزَّتك لا أسألك غيره ويعُطي ربَّه من عهود ومواثيق ما شاء الله فيصرف الله وجهه عن النار فإذا أقبل على الجنَّة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي ربِّ قَدِّمْني إلى باب الجنَّة فيقول الله له ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك ألاَّ تسألني غير الذي أعطيت أبدًا ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول ربِّ ويدعو الله حتى يقول هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره فيقول لا وعزتك لا أسألك غيره ويُعطي ربَّه ما شاء من عهود ومواثيق فيقدِّمه إلى باب الجنة فإذا قام على باب الجنَّة انْفَهقَتْ له الجنة فرأى ما فيها(7/17)
من الحَبَرة والسرور فيسكت ما شاء أن يسكت ثم يقول أي رَبِّ أدخلني الجنة فيقول الله ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك ألاَّ تسأل غير ما أعطيت ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رَبِّ لا أكون أشقى خلقك فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تعالى منه فإذا ضحك منه قال له ادخل الجنَّة فإذا دخلها قال الله له تَمَنَّه فيسأل ربِّهُ ويتمنى حتى إنَّ الله ليُذكِّره من كذا وكذا حتى إذا انقطعت به الأمانيُّ قال الله ذلك لك ومثله معه قال عطاء بن يزيد الليثي وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يَرد عليه من حديثه شيئاً حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله تبارك وتعالى قال ذلك لك ومثله معه قال أبو سعيد الخدريُّ وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه قال أبو سعيد الخدري أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله(7/18)
ذلك لك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة فذلك الرجل آخر أهل الجنَّة دخولاً الجنَّة وهذا الحديث من أجلّ حديث كان عند ابن شهاب الزهري أعلم الأمة بالسنة في زمانه وأحفظهم للعلم وأتقنهم له وكان قد سمعه من سعيد بن المسيب أعلم الأمة وأجلها في زمان كبار التابعين وسمعه أيضًا من عطاء بن يزيد الليثي أحد أجلاء(7/19)
التابعين عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضًا فكان يحدث به ابن شهاب الزهري عن أحدهما تارة وتارة عنهما جميعًا كما جرت عادة الزهري فإنه لسعة علمه يكون الحديث عنده عن عدد من كبار التابعين فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا وهذا معروف للزهري في مواضع كثيرة من الصحيح والبخاري رواه في الصحيح مرات لكنه رواه تارة في صفة القيامة من حديث شعيب ومن حديث معمر تامًّا لأنه موضع سياقه تامًّا ولفظ الصورة كما تقدم وكما رواه مسلم من حديث شعيب وإبراهيم بن سعد ورواه البخاري في فضل السجود من حديث شعيب أيضاً فلم يذكر ذلك لأن مقصوده في ذلك الموضع يحصل(7/20)
بدون ذلك فلم يحتج إلى ذكر الألفاظ التي تروى تارة وتكتم تارة عن بعض الناس وذكره في رواية إبراهيم بن سعد قال فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربُّنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون وأخرجاه أيضًا من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فهل تُضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس فيها سحاب قالوا لا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب قالوا لا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تُضارُّون في رؤية الله تبارك وتعالى(7/21)
يوم القيامة إلاّ كما تُضارُّون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذِّنُ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلاَّ من كان يعبد الله من بر وفاجر وغُبَّرات أهل الكتاب فُيدعى اليهودُ فيُقال ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيراً ابن الله فيقال كذبتم(7/22)
ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيُشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا فيتساقطون في النار ثم يدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما تخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كلن يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم الله تعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فما تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا(7/23)
يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يـ سجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوّل في صورته التي رأوه فيها أول مرة(7/24)
فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يُضرب الجِسْرُ على جهنم وفي رواية أخرى وهي في البخاريّ ينادي مناد ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم حتى يبقى من كان يعبد الله من بَر وفاجر وغبَّرات من أهل الكتاب ثم يُؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب فيُقال لليهود ما كنتم تعبدون قالوا كنَّا نعبد عزيراً ابن الله فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يُقال للنصارى ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله(7/25)
فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم حتى يبقى من كان يعبد الله من بَر أو فاجر فيقال ما يحبسكم قد ذهب النَّاس فـ ـيقولون فارقناهم ونحن أحوج منَّا إليه اليوم وإنَّما سمعنا مناديًا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنَّما ننتظر ربَّنا فيأتيهم الجبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه فيقولون السًَّاق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعةً فيذهب كما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا ثم يُؤتى بالجسر فيُجعل بين ظهري ْ جهنّم قلنا يا رسول الله وما الجسر قال مَدْحضةٌ مَزلّةٌ عليه(7/26)
خطاطيف وكلاليب وحَسَكَة مُفَلْطَحَة لها شويكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السَّعدان المؤمن عليها كالطرْف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب فناج مُسَلَّم وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يُسْحَب سحبًا فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبيَّن لكم من المؤمنين يومئذٍ للجبَّار وإذا رأوا أنهم قد نَجَوا في إخوانهم يقولون ربَّنا إخواننا الذين كانوا يُصلّون معنا(7/27)
ويصومون معنا ويعملون معنا ويعملون معنا فيقول الله تعالى اذهبوا همن وَجَدتُم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه ويُحرِّم اللهُ صورهم على النّار فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النَّار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه فيخرِجُون من عرفوا ثم يعودون فيقول اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من إيمان فأخرجوه فيُخْرِجُونَ من عرفوا ثم يعودون فيقول اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرَّة من إيمان فأخرجوه فيُخْرِجُونَ من عرفوا قال أبو سعيد فإن لم تُصَدِّقُوني فاقرأوا إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) [النساء 40] وفي الرواية الأولى ثُمَّ يُضربُ الجِسرُ على جهنّم وتحلُّ الشَّفاعة ويقولون اللهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ قيل يا رسول الله وما الجِسْرُ قال دَحْضٌ مَزِلَّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يُقال لها السَّعدان فيَمُرُّ(7/28)
المؤمنون كطرْف العين وكالبرق وكالرّيح وكالطير وكأجاويد الخيل والرّكاب فناجٍ مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنَّم حتى إذا خَلَص المؤمنون من النَّار فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشدَّ مناشدة لله في استِقْصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويُصلُّون ويَحُجُّون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتُحرَّم صورهم على النَّار فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربَّنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير أخرجوه فيُخرجُون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربَّنا لم نذر فيها أحدًا ممن أمرتنا ثُمَّ يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال بصف دينار من خير فأخرجوه(7/29)
فيُخرجُونَ خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدًا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن لقيتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرًا وكان أبو سعيد الخدري يقول إنْ لم تصدّقُوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئْتُم إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) [النساء 40] فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيُخرجُ منها أقوامًا من النار لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حُممًا فيلقيهم في نهر في أفواه الجنَّة يقُال له نهر(7/30)
الحياة فيخرجون كما تخرجُ الحِبَّةُ في حَميل السَّيل ألا ترونها تكون في الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشَّمس أصَيْفِر وأخَيْضِر وما يكون منها إلى الظِّل يكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنَّة يقولون هؤلاء عتقاءُ الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدَّمُوه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدًا(7/31)
ولفظ الرواية الأخرى قال أبو سعيد فإن لم تُصدِّقُوني فاقرأوا إن شئتم إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) [النساء 40] فيشفع النَّبِيُّون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبَّار بَقِيَتْ شفاعتي فيقبضُ قبضة من النَّار فـ يخرج أقوامًا قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنَّة يُقال له ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحِبَّةُ في حَميل السَّيل قد رأيتموها إلى جانب الصَّخْرة وإلى جانب الشَّجَرة فما كان إلى الشمس منها كان أخضر وما كان إلى الظل كان أبيض فيخرجون كأنهم اللؤلؤ فيُجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون الجنَّة فيقول أهل الجنَّة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهُم الجنَّة بغير عمل عملوه ولا خير قدَّموُه فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه قال أبو سعيد الخدري بلغني أن الجسر أدقُّ من الشَّعرة وأحدُّ من السَّيف فقد ذكر في حديث أبي سعيد أربعة أصناف(7/32)
الصنف الأول المشركون فهم يتَّبِعُون ما كانوا يعبدون من آلهة الصنف الثاني غُبَّرات أهل الكتاب الذين أصل دينهم عبادة الله وحده لكنهم ابتدعوا الشرك فعبدوا العُزَيْر والمسيح ولهذا يجعل الله هؤلاء في كتابه صنفًا غير المشركين كقوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) [البينة 1] وهو مع ذلك يصفهم بما ابتدعوه من الشرك كما في قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) [التوبة الآيتان 30-31] والصنف الثالث المنافقون الذين كانوا يعبدون الله رياءً وسمعةً الصنف الرابع المؤمنون الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له وذكر أنه بعد أن يذهب المشركون مع آلهتهم وكفار أهل الكتاب إلى النار ولم يبق إلاَّ من كان يعبد الله من بر وفاجر(7/33)
أتاهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة وفي رواية أخرى في الصحيح أتاهم الجبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرَّة وفي لفظ في الصحيح أتاهم رب العالمين في أدني صورة من التي رأوه فيها أول مرة وفي رواية أخرى في الصحيح أتاهم الجَبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وأنه يمتحنهم فيقول أنا ربكُم وانه لا يكلمه إلا الأنبياء وأنَّه حينئذ يَكشِف عن ساق فيسجد له المؤمنون دون المنافقين ثُمَّ يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة والثانية التي امتحنهم فيها فأنكروه وهي أدنى من التي رأوه فيها أول مرة والمرة التي كشف لهم عن ساقٍ حتى سجدوا له والرابعة حين يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرَّة وهذا تفسير ما في حديث أبي هريرة المتقدم مع أبي سعيد حيث قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي(7/34)
يعرفون وأنَّ التي يعرفون هي التي يُكشف فيها عن ساقٍ فيسجدون له ثُمَّ يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل في صورته التي رأوه فيها أوَّل مرة فيتَّبِعُونَه حِينَئِذٍ وفي صحيح مسلم عن ابن جريج عن أبي الزبير أنَّه سَمِعَ جابرًا يُسأل عن الوُرود فقال نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر أي واحد ذلك فوق الناس قال(7/35)
فتُدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأوَّل فالأوّل ثُمَّ يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول من تنظرون فيقولون ننظر ربَّنَا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلَّى لهم يضحك قال فينطلق بهم ويتَّبِعُونَه ويُعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورًا ثم يتَّبِعُونَه وعلى جسر جهنَّم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ثُمَّ يُطْفَأ نور المنافقين ثُمَّ ينجو المؤمنون فتنجو أوَّلُ زمرةٍ وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفًا لا يُحاسبون ثُمَّ الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ثُمَّ كذلك ثُمَّ تَحُلُّ الشَّفّاعة ويشفعون حتى يخرج من النَّار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بِفنَاء الجنَّة ويجعل أهل الجنَّة يَرُشُّون عليهم الماء(7/36)
حتى يَنْبُتُوا نبات الشَّيء في السَّيل ويذهب حُرَاقُهُ ثُمَّ يسأل حتى تُجعلَ له الدنيا وعشرة أمثالها معها ورَوَى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عيينة ثنا سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قالوا يا رسول الله هل نرى ربَّنَا يوم القيامة قال ها تُضارُّونَ في رؤية الشَّمسِ في الظَّهيرة ليست في سحابة قالوا لا قال فهل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا قال فو الذي نفسي بيده لا تُضارُّون في رؤية ربِّكم إلاَّ كما تُضارُّون في رؤية أحدهما(7/37)
قال فيَلْقَى العبدَ فيقول أي فُلْ ألمْ أكْرِمْك وأُسَوِّدْكَ وأُزَوِّجْك وأُسَخِّر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب قال فيقول أفظننت أنك مُلاقِيَّ قال فيقول فإنِّي أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثَّاني فيقول أي قُلْ ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول له أفظننت انَّك مُلاقِيَّ فيقول لا(7/38)
فيقول فإنِّي أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثَّالث فيقول له مثل ذلك فيقول أي رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصلَّيتُ وصُمتُ وتصَدَّقت ويُثني بخير ما استطاع فيقول ههنا إذًا قال ثم يقال له الآن نبعثُ شاهدنا عليك ويتفكَّرُ في نفسه من ذا الذي يشهدُ عليَّ فيختم على فيه ويُقال لِفَخذِه ولحمه وعظامه انْطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك لِيُعْذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يَسْخَط اللهُ عليه وروى أبوداود في سننه بعض هذا الحديث وهو(7/39)
الإخبار بالرؤية في الرد على الجهمية وهذا الحديث محفوظ من حديث سفيان بن عيينة عن سهيل وليس في الصحيح لابن عيينة عن سهيل غير هذا الحديث ولكنَّ مسلمًا روى منه الطرف الذي احتاج إليه وهو أوَّله وترك رواية باقيه لأنَّها في الطرق المقدمة التي هي أشرف من هذه الطَّريق من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد ومن حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد ولأن رواية أولئك لتلك الطرق أتم وتمام الحديث قد رواه النسائي كما رواه أحمد وابن(7/40)
خزيمة قال ثُمَّ يُنادي منادٍ ألا تتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع الشيطان والصليب وأولياؤهم على جهنَّم وبقينا أيها المؤمنون فيأتينا ربنا فيقول على ما هؤلاء فنقول نحن عباد الله المؤمنون آمنَّا بربنا ولم نشرك به شيئًا وهو ربنا تبارك وتعالى وهو يأتينا وهو يثبتنا وهذا مقامنا حتى يأتينا ربنا فيقول أنا ربكم فانطلقوا فننطلق حتى نأتي الجسر وعليه كلاليب من نار تخطف عند ذلك تحلُّ الشَّفاعة أي اللهم سَلِّم اللهم سَلِّم فإذا جاوزوا الجسر فكل من انفق زوجًا من المال في سبيل الله مما يملك فتكلمه خزنة الجنَّة تقول يا عبد الله يا مسلم هذا خير فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إنَّ هذا عبد(7/41)
لاتوى عليه يدع بابًا ويلج آخر فضرب كتفه وقال إنِّي لأرجو أن تكون منهم قال ابن خزيمة حدثنا محمّد بن منصور الجوَّاز قال ثنا سفيان قال ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه وحفظته أنا وروح بن القاسم وردده علينا مرتين أو ثلاثة وذكر الحديث قال ابن خزيمة حدثنا محمّد بن ميمون المكّي قال ثنا(7/42)
سفيان فذكر الحديث بطوله وقال سمعت محمّد بن ميمون يقول سُئِل سفيان عن تفسير حديث سهيل بن أبي صالح ترأس وتربع فقال كان الرَّجل إذا كلن رأس القوم كان له المرباع وهو الرّبع وقال قال النبي لعديّ بن حاتم حين قال يا رسول الله إني على دين قال أنا أعلم بدينك منك إنَّك تَسْتَحِل المرباع ولا يَحِلُّ لك وهذا الحديث صريح في لقاء الكفَّار والمنافقين لله وخطابه لهم كما ذكر القرآن في غير موضع وكما جاء هذا(7/43)
في عِدَّة أحاديث صحيحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد وعديّ ين حاتم رضي الله عنهم وغيرهم وفيه أن هذا يكون قبل أن يُنادي ذلك المنادي لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فإن هذا هو محاسبة العباد فإذا حُوسِبوا أمروا بأن يتبعوا آلهتهم ويتجلّى الرَّب لعباده المؤمنين ويتبعونه ويُنصَبُ الجسر على ظهر جهنّم فيعبر عليه المتقون ويذر الظالمين فيها جثيًّا ومعلوم أن المؤمنين لَقوهُ في تلك الحال قبل مناداة المنادي باتّباع كل أمّة ما كانت تعبُد وهذا هو والله أعلم الرُّؤية المذكورة في حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما حيث قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرَّة وفي صورته التي يعرفون وهي تلك الصورة التي رأوه فيها لمَّا لَقوه وخاطبهم قبل المناداة(7/44)
وذلك كان عامًّا للعباد كما يدلُّ عليه سائر الأحاديث وبعد هذا حُجِب الكفَّار كما دلَّ عليه القرآن وقد جاء ذلك مبيَّنًا في حديث أبي رزين وابن مسعود كالحديث المحفوظ عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه ابن خزيمة وغيره عن عبد الله بن عُكَيْم قال سمعت عبد الله بن مسعود بدأ باليمين قبل الحديث فقال والله إنْ منكم من أحدٍ إلاّ سيخلو الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر أو قال ليلته يقول يا ابن آدم ما غرّك ابن آدم ما غرّك ابن آدم ما عَمِلت فيما عَلِمْت ابن آدم ماذا أجبت المرسلين وأمَّا حديث أبي رزين فهو مشهور في السنن والمسانيد لكنَّ أهل السنن يختّصِرُون من الحديث ما يناسب السُّنن على(7/45)
عادتهم فروى أبوداود وابن ماجه عن أبي رزين العقيليّ قال قلت يا رسول الله أكلُّنا يرى ربَّه مخليًّا به يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به قلت بلى قال فإنَّما هو خلق من خلق الله تعالى فالله أعظم وقد رُوِي مبسوطًا من وجه آخر كما رواه أبوبكر بن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنَّه لا يحتج إلاّ بما ثبت من الأحاديث ورواه(7/46)
من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن قال ثنا عبد الرحمن بن عياش الأنصاري ثُمَّ السَّمعيّ عن دلهم بن الأسود بن عبد الله عن أبيه عن عمّه لَقِيط بن(7/47)
عامر وهو أبورزين العقيلي أنَّه خرج وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق قال فقدمنا المدينة لانسلاخ رجب فصلّينا معه صلاة الغداة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبًا فقال أيها الناس إنِّي قد خبّأت لكم صوتي مذ أربعة أيام إلاّ لأسمعكم هل من امرئ بعثه قومه فقالوا اعْلمْ لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلّه أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو تلهيه الضلالة ألا إني مسئول هل بلّغت ألا اسمعوا تعيشوا ألا اسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ألا اجلسوا فجلس النّاس وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصرُه قلت يا رسول الله إنّي سائلك عن حاجتي فلا تعجلنّ عليّ فقال سل عمّا شئت قلت يا رسول الله(7/48)
هل عندك من علم الغيب فضحك لعمر الله وهز رأسه وعلم أنّي ابتغي سقطه فقال ضنَّ ربُّك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمُهنُّ إلاّ الله وأشار بيده ما هن يا رسول الله قال علم المَنيَّة قد علم متى منيَّةُ أحدكم ولا تعلمونه وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزْلين مشفقين فيظلُّ يضحك قد علم أنَّ غوثكم قريب قال لقيط فقلت يا رسول الله لن نعدم من رب يضحك خيرًا وعلم ما في غدٍ قد علم ما أنت طاعم غدًا ولا تعلمه وعلم يوم السَّاعة قال وأحسبه ذكر ما في الأرحام قال قلت يا رسول الله علِّمنا مما تُعلِّم الناس وما تَعلم فإنَّا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحد من مَذْجح التي تدنو غلينا وخثعم التي توالينا(7/49)
وعشيرتنا التي نحن منها قال تلبثون ما لبثتم ثُمَّ يتوفى نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم تلبثون ما لبثتم ثُمَّ تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئًا إلا مات والملائكة الذين مع ربك فخلت الأرض فأرسل السَّماء تَهْضبُ من تحت العرش فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلاّ شقَّت القبر عنه حتى يخلفه من قِبَل رأسه فيستوي جالسًا يقول ربك مَهْيَم يقول يا ريِّ أمْسِ اليوم لعهده بالحياة يحسبه حديثًا بأهله قلت يا رسول الله كيف يجمعنا بعدما تُمَزِّقُنا الرّياح والبلى(7/50)
والسِّباع قال أنَبّئُكَ بمثل ذلك في آلاء الله الأرض أشرفت عليها مَدَرَة بالية فقلت لاتحيا أبدًا فأرسل ربك عليها السَّماء فلم تلبث إلاّ أيَّمًا حتى أشرفت عليها فإذا هي شربة واحدة ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم قال قلت يا رسول الله كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض ننظر إليه وينظر إلينا قال أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله والشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما في ساعة واحدة ويريانكم ولا تُضامون في رؤيتهما ولعمر(7/51)
إلهك لهو على أن يراكم وترونه أقدر منهما على أن يريانكم وترونهما قلت يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه قال تُعرضون عليه بادية له صفحاتكم ولا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفةً من الماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما تُخطئ وجه واحد منكم منها قطرة فأما المؤمن فتدع وجهه مثل الرَّيْطَة البيضاء وأمَّا الكافر فَتَخْطِمُه بمثل الحمم الأسود ألا ثُمَّ ينصرف نبيُّكم صلى الله عليه وسلم فيمُرُّ على أثره الصالحون أو قال ينصرف على(7/52)
أثره الصالحون قال فيسلكون جِسْرًا من النَّار يطأ أحدكم الجمرة فيقول حس فيقول ربك أو أنه قال فتطلعون على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أظمأ ناهلة والله رأيتها قط فلعمر إلهك ما يبسط يده أو قال يسقط واحد منكم إلاّ وقع عليها قدح يطهّره من الطوف والبول والأذى وتخلص الشمس والقمر أو قال تحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدًا فقلت يا رسول الله فبم نبصر يومئذٍ قال مثل بصرك ساعتك هذه وذلك في يوم أشرقت الأرض وواجهت الجبال قال قلت يا رسول الله فبم نجازى من سيئاتنا وحسناتنا قال صلى الله عليه وسلم الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها(7/53)
أو يغفر قلت يا رسول الله فما الجنَّة وما النَّار قال لعمر إلهك إنَّ للجنة لثمانية أبواب ما منهنَّ بابان إلاَّ وبينهما مسيرة الراكب سبعين عامًا وإنَّ للنَّار سبعة أبواب ما منهنَّ بابان إلاَّ بينهما مسيرة الراكب سبعين عامًا فلت يا رسول الله ما يطلع من الجنَّة قال أنهار من عسلٍ مصفَّى أنهار من لبن لم يتغير طعمه وانهار كأس مالها صداع ولا ندامة وماء غير آسن وبفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه وأزواج مطهَّرة قلت يا رسول الله أوَ لَنَا فيهنَّ أزواج مُصْلَحَات قال صالحات للصالحين تلذُّون بهنَّ مثل لذّاتكم في الدنيا ويلذذن بكم غير أن لا توالد(7/54)
قلت يا رسول الله هذا أقصى ما نحن بالغون ومنهون إليه فلم يجبهُ النبي صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله علام أبايعك قال فبسط النبيُّ صلى الله عليه وسلم يده فقال على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشركين وأنَّ الله لا تُشرك به إلهًا غيره فقلت وإنَّ لنا ما بين المشرق والمغرب فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وبسط أصابعه وظنَّ أنِّي مشترط شيئًا لا يعطينيه فقلت نحل منها حيث شئنا ولا يَجْنِ امرؤ إلاّ على نفسه قال ذلك لك حل منها حيث شئت ولا تجن إلاّ على نفسك فبايعناه ثم انصرفنا فقال ها إنَّ ذَين ها إنَّ ذَيْن(7/55)
ثلاثًا لمن يقرئني حديثًا لأنهم من أتقى النَّاس لله في الأولى والآخرة فقال كعب بن الخُداريّة أحد بني أبي بكر بن كلاب من هم يا رسول الله قال بنو المنتفق أهل ذلك منهم قال فأقبلت عليه فقلت يا رسول الله هل لأحد ممن مضى منَّا في جاهليته من خير فقال رجلٌ من عرض قريش والله إن أباك المنتفق في النَّار فكأنه وقع حرٌّ بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله ثُمَّ نظرت فإذا الأخرى أجمل فقلت وأهلك يا رسول الله قال وأهلي لعمر الله حيث ما أتيت عليه من قبر قرشيّ أو عامريّ مشرك فقل أرسلني إليك محمد فأبشر بما يسوؤك تُجرُّ على وجهك وبطنك في النار قلت فما فعل(7/56)
ذلك بهم يا رسول الله وكانوا على عمل لا يحسنون إلاّ إياه وكانوا يحسبونهم مُصلحين قال ذلك بأنَّ الله بعث في آخر كل سبع أمم نبيًّا فمن أطاع بنيه كان من المهتدين ومن عصى نبيه كان من الضالين(7/57)
فهذا الحديث ونحوه يدلُّ على أنَّ جميع القيام من قبورهم يرون ربهم في أوّل الأمر كلهم يراه مخليًّا به فيسأله ويخاطبه كما تقدَّم ثُمَّ بعد ذلك ينادي المنادي فيراه المسلمون بمن معهم من المنافقين ثم بعد ذلك يتميَّزُ المؤمنون وهم الذين يرونه رؤية تنعُّم ويحجب عنه الكافرون بعد ذلك إذ الرؤية في عرصات القيامة ليست من النَّعيم والثَّواب وذهب ابن خزيمة وطائفة إلى أنَّه لا يراه إلاَّ المؤمنون والمنافقون وذهبت طائفة أخرى إلى أنَّ الكفَّار لا يرونه بحال وقد تكلمنا على هذه المسألة في غير هذا الموضع والمقصود هنا بيان ما في الأحاديث المشهورة من قوله صلى الله عليه وسلم فيرونه في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول وأن تلك هي هذه المرَّة التي تجلَّى فيها لفصل القضاء بين عباده فخاطبهم وحاسبهم ثم بعد ذلك جزاهم فأمر أن يتبع كل قوم معبودهم وروى ابن خزيمة أيضًا في التوحيد من حديث الداروردي(7/58)
حدثني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الله النَّاس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع إليهم ربٌّ العالمين فيقول ألا لينبع كل أناس ما كانوا يعبدون فيمثَّل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصوير تصويره ولصاحب النَّار ناره فيتَّبعون ما كانوا ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون فيطَّلع عليهم ربُّ العالمين فيقول ألا تتبعون النَّاس فيقولون نعوذ بالله منك الله ربُّنَا وهذا مكاننا حتى نرى ربَّنَا وهو يأمرهم ويثبتهم ثم يتوارى ثم يطلع فيقول ألا تتبعون الناس ألا تتبعون الناس فيقولون نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم قالوا وهل نراه يا رسول الله قال وهل تتمارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم لا تتمارون في رؤيته تلك الساعة ثمَّ يتوارى ثم يطّلع عليهم فيعرفهم بنفسه(7/59)
ثم يقول أنا ربّكُم فاتَّبعون فيقوم المسلمون ويضع الصراط فهم على مثل جياد الخيل والرّكاب وقولهم عليه سلّم سلّم وذكر باقي الحديث وأمَّا حديث ابن مسعود فذكر الخلال في كتاب السُّنة قال أنا أبوبكر المروذي قال ذكرت لأبي عبد الله حديث(7/60)
محمد بن سلمة الحرّانيّ عن أبي عبد الرحيم خالد بن أبي يزيد قال حدثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال عن أبي عبيدة عن مسروق قال حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله(7/61)
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ينزل الله في ظُلل من الغمام من العرش إلى الكرسيّ فقال أبو عبد الله هذا حديث غريب لم يقع إلينا عن محمد بن سلمة قال المروذي واستحسنه قال الخلال وأخبرنا أبوبكر المروذي حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحرَّاني حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم خالد بن أبي يزيد حدثني ابن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله عن مسروق بن الأجدع قال حدثنا عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجمع الله عز وجل الأوّلين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء قال وينزل الله تبارك وتعالى في ظُلل من الغمام من العرش إلى الكرسي ثم ينادي مناد ياأيها الناس ألن ترضوا من ربِّكم(7/62)
الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولاتشركوا به شيئًا أن يولّى كل إنسان منكم ما كان يتولاّه ويعبده في الدنيا أليس ذلك عدلاً من ربكم قالوا بلى قال فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا قال فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون فمنهم من ينطلق إلى الشمس ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ذلك مما كانوا يعبدون قال ويُمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ويُمثل لمن كان يعبد عزيرًا شيطان عزير ويبقى مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وأمَّته قال فيتمثل الرَّبُّ جل وعز فيأتيهم فيقول لهم ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس فيقولون إنَّ لنا إلهًا ما رأيناه بعد فيقول وهل تعرفونه إن رأيتموه فيقولون نعم بيننا وبينه علامة إذا رأيناه عرفناه قال فيقول ما هي قال فيقولون يكشف عن ساقه قال فعند(7/63)
ذلك يكشف عن ساقه قال فيخرُّ من كان بظهره طبق ويبقى قوم ظهورهم كأنَّها صياصي البقر يريدون السُّجود فلا يستطيعون وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ثم يقول ارفعوا رؤوسكم قال فيرفعون رؤوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه ومنهم من يُعطى نوره أصغر من ذلك ومنهم من يُعطى نوره مثل النخلة بيمينه ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك حتى يكون آخرهم رجلاً يُعطى نوره على إبهام قدمه فيُضيء مرة ويطفئ أخرى فإذا أضاء قدر قدمه مشى وإذا أطفئ قام قال والرَّبُّ تبارك وتعالى أمامهم حتى يمر في النَّار يبقى أثره كحدِّ السيف دحض مزلة ويقول مُرُّوا فيمرُّون على قدر نورهم منهم من يمرُّ كطرف العين(7/64)
ومنهم من يمرُّ كالبرق ومنهم من يمرُّ كالسَّحاب ومنهم من يمرُّ كانقضاض الكوكب ومنهم من يمرُّ كشدِّ الفرس ومنهم من يمرُّ كشدِّ الرجل حتى يمر الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على يديه ووجهه ورجليه تخرُّ يدٌ وتعلق يدٌ وتخرُّ رجل وتعلق رجل وتصيب جوانبه النَّار قال فلا يزال كذلك حتى يخلص فإذا خلص وقف عليها ثم قال الحمد لله لقد أعطاني الله عز وجل ما لم يعط أحدًا إذ نجَّانِي منها بعد إذ رأيتها قال فينطلق به إلى غدير عند باب الجنَّة فيغتسل قال فيعود إليه ريح أهل الجنَّة وألوانهم قال ورأى ما في الجنَّة من خلال الباب قال فيقول رب أدخلني الجنة قال فيقول الله عز وجل أتسأل الجنَّة وقد نجيتك من النار قال فيقول ربِّ اجعل بيني وبينها حجابًا لا أسمع حسيسها قال فيدخل الجنَّة قال(7/65)
فيرى أو يرفع له منزلاً أما ذلك كأنَّ ما هو فيه إليه حلم قال فيقول رب أعطني ذلك المنزل قال فيقول اللهُ عز وجل لعلك إن أعطيته تسأل غيره فيقول لا وعزَّتك لا أسألك غيره وأي منزل يكون أحسن منه قال فيعطيه قال فينزله قال ورأى أمام ذلك منزلاً آخر كأنَّ ما هو فيه إليه حلم قال فيقول ربِّ أعطني ذلك المنزل فيقول اللهُ عز وجل فلعلَّك إن أعطيته تسأل غيره فيقول لا وعزتك لا أسألك غيره وأيّ منزل أحسن من هذا قال فيعطاه فينزله قال فيرى أو يرفع له أمام ذلك المنزل منزلاً آخر كأنَّ ما هو فيه إليه حلم قال فيقول رب أعطني ذلك المنزل فيقول الله عز وجل فاعلَّك إن أعطيته لا تسأل غيره فيقول لا وعزَّتك وأيّ منزل أحسن منه قال فيعطاه فينزله قال ثم(7/66)
يسكت قال فيقول الله عز وجل مالك لا تسأل قال فيقول رب لقد سألت حتى استحييت وأقسمت لك حتى استحييت فيقول اللهُ عز وجل له ألن ترضى إن أعطيتك مثل الدنيا منذ يوم خلقتها إلى أن أفنيتها وعشرة أضعافها قال فيقول أتستهزئ بي وأنت رب العالمين قال فيضحك الرَّبُّ تبارك وتعالى من قوله قال فرأيت عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه9 حين بلغ هذا المكان من الحديث ضحك قال فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن قد سمعتك تحدث بهذا الحديث مرارًا كلما بلغت هذا المكان من الحديث ضحكت فقال إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّثُ هذا الحديث مرارًا كلما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى يبدو آخر أضراسه قال فيقول الرب تبارك وتعالى لا ولكني على ذلك قادر سل فيقول ربِّ(7/67)
ألحقني بالنَّاس فيقول الحق بالنَّاس فينطلقُ يرفل في الجنَّة حتى إذا دانا من النَّاس رفع له قصر من درة فيخرُّ ساجدًا فيقال له ارفع رأسك قال فيقول رأيت ربِّي أو تراءى لي ربِّي عز وجل قال فيقال إنما هو منزل من منازلك قال فيلقى رجلاً فيتهيأ للسجود فيقال له مه مالك فيقول أنت ملك من الملائكة فيقول إنما أنا خازن من خزَّانك عبد من عبيدك تحت يديَّ ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه قال فينطلق أماه حتى يفتح له القصر قال وهو درَّةٌ مجوَّفة سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها فتستقبله جوهرة خضراء مبطَّنة بحمراء فيها سبعون بابًا كل باب يفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى(7/68)
في كل جوهرة سُرر وأزواج ووصائف وأدناهنَّ حوراء عيناء عليها سبعون حلَّة يُرى مخ ساقها من وراء جلدها كبدها مرآته وإذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفًا عمَّا كانت عليه من قبل وإذا أعرضت عنه إعراضة ازداد في عينها سبعين ضعفًا عمَّا كان عليه من قبل فيقول لها والله لقد ازددتِ في عيني سبعين ضعفًا وتقول له وأنت والله لقد ازددت في عيني سبعين ضعفًا قال فيقال له أشرف فيشرف قال فيقال له ولك ملك مسير مائة عام ينفذه بصرك فقال عمر رضي الله عنه ألا تسمع إلى ما يحدثنا به ابن(7/69)
أم عبد يا كعب عن أدنى أهل الجنَّة منزلاً فكيف أعلاهم قال كعب يا أمير المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إن الله تعالى كان خلق لنفسه دارًا وجعل ما شاء فيها من الأزواج والثمرات والأشربة ثم أطبقها فلم يرها أحد من لا جبريل ولا غيره من الملائكة ثم قرأ كعب فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة 17] قال وخلق دون ذلك جنتين فزينهما بما شاء وأراهما من شاء من خلقه ثم قال من كان كتابه في عليين نزل تلك الدار التي لم يرها أحد حتى إن الرجل من أهل عليين ليَخْرج يسير في ملكه فما تبقى خيمة من خيام الجنَّة إلاَّ دخلها ضوء من ضوء وجهه ويستبشرون بريحه ويقولون واها لهذه الرِّيح الطَّيبة هذا رجل من أهل عليين قد خرج يسير في ملكه فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويحك(7/70)
يا كعب إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها فقال كعب والذي نفسي بيده إن لجهنَّم يوم القيامة لزفرة ما من ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا يخر لركبتيه حتى عن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام يقول رب نفسي نفسي حتى لو كان لك عمل سبعين نبيًّا إلى عملك لظننت أنك لن تنجو(7/71)
وقد روى ابن خزيمة هذا الحديث في كتاب ذكر نعيم الآخرة وأحال عليه في كتاب التوحيد وهذا الحديث المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه قد روى أهل الصحاح كثيرًا منه عن ابن مسعود من وجوه أخرى ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال آخر من يدخل الجنَّة رجل يمشي مرَّة ويكبو مرَّة وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها(7/72)
التفت إليها فقال تبارك الذي نجَّاني منك لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول يا رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول الله عز وجل يا ابن آدم لعلِّي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول لا يا رب ويعاهده ألاَّ يسأله غيرها قال وربه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فيستظلُّ ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة هي لأحسن من الأولى فيقول أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها فيقول ياابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها فيقول لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها فيعاهده أن لا يسأل غيرها وربه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لاصبر له عليه فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة أخرى عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين فيقول أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها فيقول ياابن آدم ألم تعاهدني ألاَّ تسألني غيرها قال بلى ياربّ هذه لا أسألك(7/73)
غيرها وربُّه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لاصبر له عليه فيدنيه منها فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنَّة فيقول أي رب أدخلنيها فيقول ياابن آدم ما يصريني منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها قال يارب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين فضحك ابن مسعود فقال ألا تسألوني مما أضحك قالوا مما تضحك قال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا مما تضحك يا رسول الله قال من ضحك رب العالمين حين قال أتستهزئ مني وأنت رب العالمين فيقول إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر وفي الصحيحين من حديث إبراهيم النَّخعي عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني(7/74)
لأعلم آخر أهل النَّار دخولاً الجنَّة رجل يخرج من النار حبوًا فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يارب وجدتها ملأى فيقول الله عز وجل اذهب فادخل الجنَّة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا فيقول أتسخر بي أو تضحك بي وأنت الملك قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه وكان يقول ذلك أدنى أهل الجنة منزلة والكلام على ماذكره من وجوه أحدها أن من تأمل سياق هذه الأحاديث وما اتفقت عليه من المعاني وسياقها وما فيها من الإخبار بأن الله يأمر كل من عبد غيره أن يتبع معبوده فيمثله له أنه إذا تميَّز الموحدون من غيرهم امتحنهم هل يعبدون غير الإله الذي رأوه أولاً فلما(7/75)
تثبَّتهم بالقول الثابت تجلَّى لهم في الصورة التي يعرفون فيسجدون له ولما رفعوا رؤوسهم من السجود وجدوه قد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة ثم إنهم يتبعونه بعد ذلك حتى يمروا على الصراط علم بالاضطرار أن الذي يأتيهم في هذه الصورة هو رب العالمين نفسه لا ملك من الملائكة ولا مجرد بعض آياته ومن صرف مثل هذه الأحاديث وهذه الألفاظ الصريحة المنصوصة إلى مَلك من الملائكة أو مجيء شيء من عذاب الله أو إحسان الله فإنه مع جحده لما يعلم بالاضطرار من هذه الألفاظ قد فتح من باب القرمطة وتحريف الكلم عن مواضعه ما لا يمكن سدُّه إذ لايمكن بيان المخبر عنه بأعظم من هذا البيان التَّام فمن جعل هذا محتملاً لم يمكن قط أن يخبر أحدٌ أحدًا بشيء من الألفاظ المبينة لمراده قطعًا وهذا كله من أعظم السفسطة وجحد(7/76)
الحسيَّات والضروريات التي لا يستحقُّ جاحدها مناظرة ولهذا كان السلف ينهون عن مجادلة أمثال هؤلاء(7/77)
السوفسطائية القرامطة الوجه الثاني أن قوله تكون في بمعنى الباء والتقدير فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي عرفوها في الدنيا وذلك بأن يريهم ملكًا من الملائكة ونظيره قول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] يُقال أولاً هذا تبديل للُّغة وقلب لها فإن الباء في مثل قولك جئت بهذا تكون لتعدية الفعل ولهذا يقول النُّحاة إن أسباب التعدية ثلاثة الهمزة والتضعيف والباء تقول أتاه مال ثم تعديه فتقول آتاه مالاً وتقول أتاه به وتقول جاء به وتقول أجاءه إلى كذا وتقول علم هذا وعلمته هذا ومن المعلوم أن فعل أتى وجاء تستعمل تارة لازمًا وتارة متعدِّيًا فالأول كقوله تعالى وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ [يوسف 58] ونحوه والثاني كقوله تعالى وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [يونس 22] وقوله أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ [الشعراء 165] وقوله(7/78)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد 23] على قراءة القصر وعلى قراءة المدِّ فيكون متعدِّيًا إلى مفعولين والعائد محذوف على هذه القراءة وقوله وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم 34] وقوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود 3] ونحوه وقوله آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف 96] وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة 43] فهذا الفعل المتعدي إذا عدي بالهمزة كان المعنى بمنزلة أعطى والتقدير أن الأول جعل الثاني آتيًا فإذا قيل ويؤت كل ذي فضل فضله آتوني زبر الحديد كان التقدير أن يجعل الفضل آتيا وزبر الحديد آتية كما في قوله أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء 80] فإذا دخل وخرج يتعدى إلى الظرف والمصدر فإذا دخلته الهمزة صار الفاعل مفعولاً به والمعنى داخلاً مدخل صدق واجعلني خارجًا مخرج صدق وإذا عدي هذا المتعدي بالباء اقتضى أن الإتيان ألصق بذلك المجرور فإذا قيل أتاهم بهذا أي جعل إتيانهم لاصقًا بذلك المأتي(7/79)
به فيكون قد أتاهم ضرورة وأما كون نفس الفاعل هنا جاء بنفسه أو لا يجب أنه جاء كما في قوله فَأَتَاهُمُ اللَّهُ [الحشر 2] فهذا فيه تفصيل فإن من الناس من يسوي بين أخرجه وأخرج به والصواب الفرق والمقصود هنا أن المجرور بالباء في مثل هذا يدل اللفظ دلالة صريحة على انه ألصق به الإتيان والمجيء كالذي جعله غيره آتيًا وجائيًا كما في قوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف 83] إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ [هود 33] فأتاهم الله بعذاب وقوله فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل 37] وليس في مثل هذا النَّظم إشعار بأنَّ المأتي به ظرف للفعل إلى الفاعل ولا أن الفاعل فوقه أو في جوفه أو غير ذلك من المعاني التي يدل عليها لفظ الباء فأما لفظ فيه فله خاصة يدلُّ عليها لا تحصل بحرف الباء فَجَعْلُهُ بمعنى الباء تحريف لكلم عن مواضعه وتبديل للغة إذا جاء في صورة حسنة أو حال حسن أو ثياب حسنة أو طائفة(7/80)
من الناس أو مركب من المراكب ونحو ذلك فلابد وأن يكون المأتي فيه مما يصلح أن يُسمى في اصطلاح النُّحاة ظرفًا لا يكتفي في ذلك بمجرد أن يكون مأتيًّا به والذي يبين هذا أن المواضع التي جاءت بحرف الإلصاق في القرآن والحديث لا يصلح أن تستعمل بحرف الظرف إلا حيث يكون الظرف مقصودًا فلا يصلح أن يُقال عسى الله أن يأتيني فيهم جميعًا إنما يأتيكم فيه الله أن يصيبكم الله في عذاب من عنده أما قوله فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ [النمل 37] وإذا قيل لنأتينَّهم في جنود فإنه يصلح إن كان هو الذاهب في الجنود فإن الجنود تكون محدقة به ومثل هذا المعنى يعبر عنه بـ في أما إذا أرسل الجنود ولم يذهب بنفسه فلا يصلح أن يُقال فلنأتينهم في جنود وإنما يُقال لنأتينَّهم بجنود وهذا من مشهور اللغة التي يعرفها عامة العلماء بها وإذا كان كذلك فهذا التأويل فيه مع تحريف الحديث تحريف القرآن فإن قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] لا يصلح أن يراد أنَّه هو يرسل ذلك ولا يأتي كما تقدم(7/81)
وأما نقلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أتى بظلل من الغمام بمعنى أنه يرسلها ولا يجيء هو فهذا كذب على ابن عباس ولم يذكروا له إسنادًا وقد روي عن ابن عباس من وجوه أنَّ الله نفسه يجيء كما رواه عثمان بن سعيد قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حمَّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن(7/82)
مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) [الفرقان 25] قال ينزل أهل السماء الدُّنيا وهم أكثر من أهل الأرض ومن الجن والإنس فيقول أهل الأرض أفيكم ربنا فيقولون لا وسيأتي ثم تشقق السماء الثانية وساقه إلى السماء السابعة قال فيقولون أفيكم ربنا فيقولون لا وسيأتي ثم يأتي الرب تبارك وتعالى في الكروبيين وهم أكثر من أهل السموات والأرض(7/83)
قال وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن عوف عن أبي المنهال عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم فإذا كان ذلك قبضت هذه السماء الدنيا على أهلها فنشروا على وجه الأرض فإذا أهل السماء الدنيا أكثر من جميع أهل الأرض فإذا رآهم أهل الأرض فزعوا وقالوا أفيكم(7/84)
ربنا فيقولون ليس فينا وهو آت قال ثم يقبض أهل السماء الثانية وساق إلى السماء السابعة قال فلأهل السماء السابعة وحدهم أكثر من أهل ست سموات ومن جميع أهل الأرض بالضِّعف قال ويجيء الله تعالى فيهم والأمم جثيًّا صفوف قال فينادي منادٍ ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم وسيأتي إن شاء الله تعالى تقرير ذلك في تفسير إتيان الله تعالى إذ ليس هذا موضعه الوجه الثالث أن قوله فيأتي الله في صورته التي يعرفون وقوله فيأتيهم الله في صورة غير صورته وقوله أتاهم ربُّ العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة وفي صورة غير صورته التي رأوه فيها أول(7/85)
مرة ونحو ذلك لو احتمل أن يكون بمعنى فيأتيهم بصورة فقد تقدم أن لفظ الصورة المضاف إلى شيء هو من باب الإضافة النفسية لا الخلقية كما تقدم بيانه لأن الإضافة الخلقية تكون قيما هو قائم بنفسه كما في قوله ناقة الله بيت الله أرض الله ونحو ذلك مما فيه دلالة على أنه منفصل عن المضاف إليه ولكن هو يحسن به وأما الصفات مثل العلم والقدرة ونحو ذلك فإذا أضيف كانت إضافته إضافة نفسية إذا لم يتبين خلاف ذلك إذ لم يُعلم أن هذه الأمور تقوم بنفسها والصورة هي قائمة بذي الصورة فليست من الأعيان المنفصلة عن المضاف إليه حتى تجعل بمعنى الملك فلا يمكن أن تكون صورة الله التي يأتي فيها مخلوقًا منفصلاً عنه يبعثه وهو لا يأتي الوجه الرابع أنه قد قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا وفي لفظ أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم ومعلوم أن أحدًا من الملائكة لا يقول للخلق أنا ربكم بل لا يدَّعي هذه الدعوى إلا كافر بالله(7/86)
تعالى كفرعون والدجال والشيطان بل الملائكة عباد مطيعون للَّه تعالى لا يدعون الربوبية ولا الألوهية كما قال تعالى وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) [الأنبياء 29] ولا يأمر الله أحدًا من الخلق أن يقول لجميع العباد أنا ربكم فإنه تعالى لا يأمر بالشرك ومن زعم أن الله يأمر بهذا فهو مفتر على الله وإن كان الملك يقوله امتحانًا فهذا لا يصلح كما لا يصلح أن يقول أحد من الأنبياء والمرسلين للناس أنا ربكم على سبيل الامتحان وأمَّا ما ذكره من امتحان النَّاس في عرصات القيامة فلا ننكره فإنَّ المحنة إنَّما تنقطع بدخول دار الجزاء الجنة أو النار فأمَّا عَرَصَات القيامة فإنَّ المحنة في هذا وفي أمره لهم بالسجود وفيما ورد من تكليف من لم يكلَّف في الدنيا من الأطفال والمجانين كما أنَّهم يُمتَحَنُونَ في قبورهم بمسألة منكر(7/87)
ونكير لكن المحنة من الملَك أن يقول للعبد من ربُّكَ ومن نبيُّكَ الوجه الخامس أنَّه لو كان الممتحن لهم في الآخرة ملكاً من الملائكة لقال لهم من ربُّكم وما تعبدون ولقال لهم هلا تذهبون مع ربِّكم إذ من الممكن أن يُظهر لهم صورة ويقول لهم ملَكٌ هلاَّ تذهبون مع هذه الصُّورة كما أنَّه في أوَّل الحديث قال فأذَّن مؤذّنٌ ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلو كان(7/88)
المخاطب لهم عن الله لقال لهم ما يصلح له كما في نظائر ذلك ولكن من شأن الجهميَّة أنَّهم يجعلون المخاطب للعباد بدعوى الربوبيَّة غير الله كما قالوا إنَّ الخطاب الذي سمعه موسى بقوله إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه 12] كان قائما بمخلوق كالشجرة وكما قال في قوله من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له إنه يقول هذا ملك من الملائكة وكما زعم هذا المؤَسسُ في قوله تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] إن ربه ملك من الملائكة وهذا كُلُّه من الكفر والإلحاد الوجه السادس أنه قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وهذا نص في أنهم رأوا الله قبل هذا الخطاب في صورة غير هذه الصورة فلو كان المخاطب لهم ملكا لكان المرئي قبل ذلك هو الملك لا الله والحديث نص في أنهم رأوا الله قبل هذه المرة(7/89)
الوجه السابع أنه قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه وفي الحديث الآخر حتى إذا لم يبق إلاَّ من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها وفي رواية إنا سمعنا مناديًا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وفي رواية أتلهم الله رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها فيقال ماذا تنتظرون فيقولون فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد فيقول أنا ربكم فيقولون لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه(7/90)
إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كُلَّما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا وهذا صريح بأن الذي أتاهم وقال أنا ربكم هو الذي أراهم العلامة حتى عرفوه فسجدوا له بعد ذلك وعرفوا أنه رب العالمين ولو كان القائل أنا ربكم ملكًا لكان الملك هو الذي اعترفوا آخرًا أنه رب العالمين وهو الذي سجدوا له وهذا من أعظم الكفر والضلال الوجه الثامن أن قوله فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم في الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا وأنه يبدي العلامة التي ذكرها فيسجدون له صريح بأن الذي يسجدون له قد جاء في الصورة التي يعرفون ويتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة وذلك صريح بأن الله هو الآتي في الصورة التي عرفوه فيها وسجدوا له لما عرفوه الوجه التاسع قوله يحتمل أن يكون المراد إذا جاء إحسان ربنا عرفناه وقوله فيأتيهم الله في الصورة التي(7/91)
يعرفون معناه فيأتيهم الله بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الإحسان فيقال له هذا أولاً باطل فإن المراد إذا كان المعرفة بآياته فهو يظهر آيات العقاب تارة وآيات الإحسان تارة وهو الخالق لكل شيء وقد قال تعالى لما ذكر ما ذكره في صورة النجم فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) [النجم 55] وكذلك لما ذكر آياته في سورة الرحمن وقال تعالى إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا [النمل الآيات 91-93] وقال تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت 53] وإذا كانت معرفة الله بالآيات ليست موقوفة على الإحسان بطل هذا الوجه العاشر أن يُقال فلم لم يظهر لهم بعد ذلك شيئًا من الإحسان غير تجلِّيه هو فلو كان المراد إحسانه لوجب أن لا يعرفوه حتى يخلق شيئًا من نعمه في العرصَة قبل معرفتهم له وسجودهم له ولما عرفوه وسجدوا له قبل أن يخلق شيئًا من ذلك عُلِمَ أنَّه ليس المراد فإذا جاء إحسان ربنا عرفناه(7/92)
الوجه الحادي عشر أن يُقال حَملُ قوله فيأتيهم في صورته التي يعرفون على إحداثه بعض المخلوقات باطل من الوجوه المتقدمة في قوله فيأتيهم الله في صورة أي بصورة هي ملك من الملائكة الوجه الثاني عشر أنَّه قد تقدم انه إذا قال أولا أنا ربكم فيقولون لا نشرك بالله شيئا أو نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربُّنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود إلى آخره فقد صرح بأن الآية التي عرفوه بها وهم قد ذكروا في تأويل ذلك أن المراد به إظهار الشدَّة يوم القيامة فيكون تأويلهم لذلك بأن الآية التي يعرفونه بها حتى يسجدوا له هي الإحسان كلامًا متناقضًا متهافتًا حيث جعلوا ما يتوقف معرفته به هو الإحسان وجعلوه هناك الشدَّة والعذاب الوجه الثالث عشر أنه قد أخبر أن هذه العلامة هي الكشف عن ساقه وسيأتي الكلام على هذا في موضعه وذلك يبطل أن يكون المراد فإذا جاء إحسان ربنا أو فيأتيهم بما يعرفون أنه إحسان(7/93)
الوجه الرابع عشر أن في حديث جابر الذي في الصحيح ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك فيقولون من تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقلون حتَّى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال فينطلق بهم ويتبعونه وهذا صريح في أن الذي أتاهم والذي تجلى لهم هو ربهم وأنهم عرفوه لما تجلى لهم يضحك وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على تمام ذلك الوجه الخامس عشر أن جميع ألفاظ الحديث صريحة في أن الذي جاء وأتى وقال أنا ربكم هو الذي رأوه فسجدوا له فاقتضى ذلك أن يكون المتجلي المسجود له هو الآتي الجائي فلو كان الذي أتى إنما هو ملك أو بعض النعم المخلوقة لم يصح ذلك ولهذا كان الإمام أحمد يحتج بإثبات المجيء والإتيان في مسألة الرؤية فذكر الخلال في كتابه السنة عن أبي طالب قال وقول الله عز وجل هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة 210] وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] فمن قال إن الله لا يرى فقد كفر فبين أن هذه(7/94)
الآيات تدل على أنه يأتي ويجيء وذلك يقتضي الرؤية كما صرحت به الأحاديث المفسرة لكتاب الله عز وجل الوجه السادس عشر أنه في حديث ابن مسعود فرَّق بين إتيان الرب نفسه وإتيان سائر المعبودات وذلك يفسِّر ما ورد في بقية الأحاديث حيث قال ثم ينادي مناد يا أيها النَّاس ألن ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولاه ويعبده في الدنيا أليس ذلك عدلاً من ربكم قالوا بلى قال فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا قال فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون فمنهم من ينطلق إلى الشمس ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون قال ويتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ويتمثل لمن كان يعبد عزيرًا شيطان عزير قال فيتمثل لهم الرَّبُّ فيأتيهم فيقول ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس فيقولون إن لنا إلهًا ما رأيناه بعد فيقول وهل تعرفونه إن رأيتموه فيقولون نعم بيننا وبينه علامة إذا رأيناها عرفناه قال فيقول ما هي فيقولون يكشف عن ساقه قال فعند ذلك يكشف عن ساقه قال فيخر من كان(7/95)
بظهره طبق ويبقى قوم ظهروهم كأنهم صياصي البقر قلما ذكر أولئك المعبودات ذكر أنه يمثل أشباهها وأن المعبود من الأنبياء تأتي شياطينهم مع أنهم قد اتبعوها وذكر أن الرب لما امتحن العباد هو الذي يمثل لهم وهو الذي أظهر لهم العلامة التي عرفوه بها حتى سجدوا فلو كان الآتي هو ملك من ملائكة الله أو شيء من مخلوقاته لكان بيان هذا أولى من بيان أولئك إنما جاءت أشباههم إذ في هذا من المحذور ما ليس في ذلك بل هذا التفريق بين هذا وهذا دليل واضح أن الذي أتاهم هو رب العالمين الذي تمثل لهم في الصورة والذي اتبعه أولئك هو أشباه المعبودات وشياطين الأنبياء وذلك لأن الأنبياء لم يأمر بعبادتهم إلا الشياطين والجمادات لم تقصد أن تعبد فلا فرق عند عابديها بينها وبين أشباهها والله سبحانه هو الذي أمر الخلق بعبادته وهو نفسه هو الذي عَبَدهُ المؤمنون فلا يصلح أن يأتيهم غير من يتبعونه غيره الوجه السابع عشر أنه قد أخبر أنه بعد إتيانه إياهم في الصورة التي يعرفون وإظهار الآية التي عرفوه بها وسجود(7/96)
المؤمنين له دون المنافقين اتبعوه حتى مروا على الصراط كما بين ذلك في حديث أبي هريرة وجابر وابن مسعود فلو كان الذي جاء في هذه المرة الثانية هو بعض النعم لكانوا قد اتبعوا تلك النعمة المخلوقة فلا يكونون اتبعوا الرب الذي عبدوه وهو خلاف نصوص الأحاديث وخلاف العدل الذي أخبر به في الحديث وذلك لأن العبادة مستلزمة كمال المحبة للمعبود وكمال التعظيم له فإن المعبود هو الذي يقصد وَيُحَبُّ لذاته والمرء مع من أحب وهذه حقيقة العدل أن يكون الإنسان مع المحبوب الذي يحبه محبة كاملة بحيث يحبه لذاته وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون المؤمنون متبعون لغير الله والذي جاءهم هو الذي اتبعوه فهو الله وهو الذي جاءهم في الصورة التي عرفوه فيها ولا ريب أن عند الجهمية يمتنع أن يكونوا متبعين لله كما يمتنع أن يكون هو الآتي وكما يمتنع أن يكون قد أتاهم في صورة وكما يمتنع أن يتجلى لهم ضاحكًا وكما يمتنع أن يكشف عن ساقه فأحد الأمرين لازم إما أن يكون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق أو ما يقوله هؤلاء الجهمية إذ هما متناقضان غاية التناقض ومن عرف ماجاء به(7/97)
الرسول صلى الله عليه وسلم ثم وافقهم فلا ريب أنه منافق الوجه الثامن عشر قوله في العلامة يحتمل أن تكون العلامة كونه تعالى في حقيقته مخالفًا للجواهر والأعراض يُقال له قد صرح في حديث جابر فيتجلى لهم ضاحكًا ومع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة التي أخبر بها بذلك يمتنع أن يكون هو ماذكره هؤلاء الوجه التاسع عشر أن كونه مخالفًا للجواهر الأعراض ما ينافي إتيانه في الصورة أولاً وآخرًا فلو كان ذلك هو العلامة لامتنع أن ينكروه ثم يعرفوه لاسيما وهو قد قال إن الصورة التي أتاهم فيها ثانية وهو ما يحدثه من إحسانه وذلك أمر لا يتعرض بحقيقة بل تلم المخلوقات مع قوله أنا ربكم مثل الملك مع قوله أنا ربكم لكن الملك حيٌّ وتلك النِّعم ليست حية ولكن يجوز إنطاق الجامدات الوجه العشرون أن عرصة القيامة لاسيما قبل جواز الصراط ليس هو محل الجزاء بالإنعام والإحسان وإنما هو مقام الامتحان فتفسير إتيان الله في الصورة التي يعرفون بالإحسان(7/98)
مناقض لذلك الوجه الحادي والعشرون أنه قال فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيسجدون له فإن كانت تلك العلامة كونه مخالفًا للجواهر والأجسام لزم أن يكون في نفسه على صورة يخالف الجواهر والأجسام ويدل على ذلك دليلاً مستقلاً أنَّه قال في حديث أبي هريرة فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا وقال في حديث أبي سعيد فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساقه إلى آخره فجعل الصُّورة التي يعرفون هي الصورة التي ظهرت بالعلامة وهي التي يسجدون لها الوجه الثاني والعشرون أن هذه المعرفة حصلت برؤيتهم ومعلوم أنَّ كون الشيء مخالفًا لغيره إذا عرف بالرؤية إنما يفيد أنَّه مخالف لما رؤي فأما مالم ير فقد تشترك أشياء في كونها مخالفة لما رؤي فيجوز أن يكون المتجلِّي لهم أشياء ليست مثل ما رأوه من الجواهر والأجسام وإن كانت مخلوقات أيضًا فإن قيل المراد أنَّه ليس بجوهر ولا جسم قيل هذا أمر(7/99)
عدمي والأمور العدمية لا في العقل ولا في الحس فظهر أنَّ هذا فاسد وأما التأويل الثاني وهو أن يكون المراد من الصورة الصفة والمعنى أن يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه ما لم يألفوه ولم يعتادوه من معاملة الله تعالى ثم يأتيهم بعد ذلك أنواع الرحمة والكرامة على الوجه الذي اعتادوه وألفوه فهذا أفسد من الذي قبله وأكثر الوجوه التي أبطل بها ذلك يبطل بها هذا ولهذا خصائص ويظهر ذلك بوجوه أحدها أن تفسير الصُّورة بمجرد الصفة فاسد كما قدمناه وبينا أنَّه حيث دل لفظ الصُّورة على صفة قائمة بالموصوف أو على صفة قائمة بالذهن واللسان فلابد مع ذلك أن يدل على الصورة الخارجية وإن دلَّ على الصورة الذهنيَّة(7/100)
الوجه الثاني أن إظهار الشدة في تسمية ذلك صفة كإظهار النعمة وكإظهار الملك إذ جميع ذلك عبارة عن خلق شيء من الأجسام وإظهاره فتسمية هذا صفة هون ما تقدم من الملك والإحسان تحكُّم باطل الوجه الثالث أن الناس ما زالوا يألفون أنَّ الله تعالى يبتليهم بالسراء والضراء فدعوى أن أحدهما مألوف دون الآخر باطل الوجه الرابع أن الله إذا أظهر عذابه وشدته لم يجز الامتناع من السجود له في هذه الحال ولا يجوز إنكار ربوبيته حتى يقول الأنبياء والمؤمنون نعوذ بالله منك وينكرون أن يكون هو ربهم الوجه الخامس أن السجود في حال إظهار الشدة أولى من السجود في حال إظهار النعمة ولهذا كانت الصلاة عند إظهار الآيات مثل الكسوف والخسوف مشروعـ ـة باتفاق المسلمين وهي أطول الصلوات وأكثرها قدرًا وصفة(7/101)
وأما النعمة ففي سجود الشكر نزاع وأيضًا فإن الجنة لا سجود فيها وهي دار النعيم فكيف يُقال إنهم امتنعوا عن السجود له عند الشدة ولم يسجدوا له إلا عند النعمة الوجه السادس أن هذه الحال قبل مرورهم على الصراط وقبل ظهور المؤمن من المنافق وإنما يكون النَّعيم والعذاب والشدة والكرامة بعد ذلك إذا مروا على الصراط وتميز السعداء من الأشقياء الوجه السابع أنَّه قد أخبر في الحديث أنَّ المشركين الذين عبدوا مع الله إلهًا آخر ومن أشرك بالله من أهل الكتاب قد صاروا إلى العذاب وبعد ذلك يأتي المسلمين ربُّهم في غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها فلم يظهر الشدة والبطش والعذاب(7/102)
إلاَّ للكفار من المشركين وأهل الكتاب دون المسلمين الوجه الثامن أن في نفس الأحاديث أنه إذا سجد له المسلمون لم يتمكن من السجود إلا المؤمنون الذين كانوا يسجدون في الدنيا من تلقاء أنفسهم وأما المنافقون فلا يستطيعون السجود وفي أحاديث أخر أنهم بعد هذا يعطون الأنوار على قدر أعمالهم المنافقون والمؤمنون وإن كانت أنوار المنافقين تطفأ بعد ذلك ثم يمرون على الصراط فناج مسلَّم وهو الذي ينجو بلا أذى وناج مخدوش وهو الذي يصيبه من لفحها ومكدوش في نار جهنم وهم المعذبون فلم يكن العذاب والشدة إلا بعد هذا كله حين المرور على الصراط فكيف يقال إنّ إتيانه أولاً في غير صورته التي يعرفون هو إتيان عذابه وبأسه ولم يأت منه شيء الوجه التاسع أن هؤلاء يتأولون كشفه عن ساقه بأنه إظهار الشدة وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفون يكشف لهم عن ساقه فيسجدون له فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته كان هذا من(7/103)
التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة الوجه العاشر أنه ليس فيما ذكروه إلا أنه يجيء بعض مخلوقاته إما التي تسر وإما التي تضر ومن المعلوم أن الله لا يوصف بنفس المخلوقات بل بكونها ليست صفات له أظهر من كونها ليسـ ـت صورة له فقول القائل يأتيهم الله في صورته التي يعرفون أو التي لا يعرفون أي صفته التي يعرفون أو التي لا يعرفون ثم تأويل ذلك بمجيء بعض ما يخلقه من الضراء والسراء من أفسد الكلام فإن النعم والنقم ليست من صفات الله التي يوصف بها وإنما يوصف بأنه يخلقها ويحدثها ويفعلها فلا يصح أن يكون مجيئها مجيء الله في صفته الوجه الحادي عشر أن الناس تنازعوا في نفس الخلق والإحداث والتكوين هل هو من صفات الله تعالى أم لا وهذا المؤسس وأصحابه مع المعتزلة يقولون إن الخلق هو المخلوق ليس ذلك صفة لله بحال فإذا كان نفس التكوين ليس من صفاته عندهم فكيف يكون المخلوق المكون من(7/104)
صفاته وأما جمهور الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام فيقولون إن الفعل نفسه والخلق من صفاته ولكن المخلوق ليس من صفاته فإذا قيل إن الله تعالى يأتي في صفته امتنع على قول أولئك أن يراد الأفعال وأما على قول هؤلاء فيكون الله في نفس ما يقوم به من الفعل لا إتيان المفعول المجرد وذلك لأن الصفة إما أن يراد بها القول لفظه ومعناه وإما أن يراد بها المعاني القائمة بالموصوف وعلى التقديرين فالمخلوقات ليست داخلة في صفات الله تعالى الوجه الثاني عشر أنه لو كان اللفظ فيأتيهم الله في صورة عظيمة أو في صفة عظيمة كما يقال جاء الملك في صورة عظيمة ودخل المدينة على صفة عظيمة ونحو ذلك وادعوا مع ذلك أن الصورة والصفة هي المخلوق لم يكن في الإحالة كما ادعوه في ألفاظ النصوص لأن قوله في صورة وفي صفة نكرة مثبتة لم يعين صاحبها فأما إذا قيل في صورته التي يعرفون وصورته لا يعرفون وفي صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وقيل عن الصورة بمعنى(7/105)
الصفة كان ذلك صفة له فيمتنع أن يكون عائدًا إلى غيره كما أنهم لما تأولوا في قوله خلق آدم على صورته أي على صفته كانت الصفة لله ما يوصف به من كونه عليمًا قديرًا أو مدبِّرًا أو مَلِكًا أو نحو ذلك لم يكن مجرد صفة المخلوق بهذا الحديث قيل خلق الله آدم على صورته الوجه الثالث عشر أنه لو قيل ذلك منكَّرًا لقيل فيأتيهم في صورةٍ أو صفة لوجب أن يكون هو الآتي وأن يكون موصوفًا بما يعود إليه من حكم ذلك كما في قولهم جاء المَلِكُ في صورة عظيمة أو صفة عظيمة فإن هذا اللفظ لا يقتضي أن الجائي مجرد مفعوله بل لابد أن يكون هو الجائي في صورة أو صفة عظيمة فكيف إذا كان النص فيأتيهم الله في صورته التي رأوه فيها أول مرة مع ما تقدم من الألفاظ الوجه الرابع عشر أن هذه الألفاظ كلها مصرِّحةٌ بأن الله تعالى هو الآتي وهي في ذلك موافقة لدلالة القُرآن مفسرة له حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأحاديث بأنهم يرون ربَّهم كما(7/106)
يرون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب وكما يرون القمر صحوًا ليس دونه سحاب جوابًا لهم لمَّا سألوه هل نرى ريَّنا يوم القيامة وخبر مبتدأ فإنه كان يُحدّثُهم بهذا الحديث مرَّات متعددة ثم وصف هذه الرؤية فأخبر أنه إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد وأخبر باتباع المشركين لما كانوا يعبدونه ثم قال وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربُّنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعم أنت ربُّنا فيتبعونه وفي الحديث الآخر يقال لهم هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعةً فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل في الصورة التي رأوه فيها أول مرة وفي الحديث الآخر ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك فيقول من تنتظرون فيقولون ننتظر ربَّنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلَّى لهم يضحك قال فينطلق بهم و(7/107)
يتَّبعونه وفي الآخر قال يجمع الله الأوَّلين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء قال وينزل اللهُ في ظُلَلٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي ثم ينادي منادٍ وإذا كانت الأحاديث مصرِّحةً بمجيء الربِّ نفسه تصريحًا يعلمه الخاص والعام ويزيل كل شبهة علم أن هذه التحريفات تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم لا تصدرُ إلاّ من جاهل بما أخبر ب هاو منافق ليس بمؤمن فاما من آمن به وعلم ما جاء به فلا يكون إلاّ مصدِّقًا بمضمونها الوجه الخامس عشر أنَّ مضمون أقاويل الجهمية أنه يُعبد غير الله في الدنيا والآخرة وهذا من جملة شركهم فإنهم دخلوا في الشرك من وجوه منها إثباتهم خصائص الربوبية لغير الله حتى جعلوه يدعي الربوبية ويحاسب العباد ويسجدون له ومن الناس من يذكر لهذا الخبر تأويلاً فمن أعظمها كفرًا وضلالاً تأويل الاتحادية والحلولية الذين يقولون إنَّ الله تعالى هو الوجود أو يقولون إنَّه حال في الوجود أو ظاهر فيه ويزعمون أن المخلوقات كلها مظاهر الرب ومتجلياته بمعنى(7/108)
أن ذاته هي الظاهرة في المخلوقات ويحتجُّون على ذلك بهذا الحديث فهم مع تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته يجعلون الخاص عامًّا في مثل هذا الحديث وفي مثل قوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ومثل قوله لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله(7/109)
وذلك كقول صاحب الفصوص في تمام الكلام الذي(7/110)
ذكرناه عنه في الفصّ الهودي بعد قوله فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبِّر له فهو الإنسان الكبير فهو الكون كله وهو الواحد الذي قام كوني بكونه ولذا قلت يتغذي فوجودي غذاؤه وبه نحن نحتذي فبه منه عن نظرت بوجه تعوّذي ثم قال ولهذا الكرب تنفس فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صورة العالم التي قلنا هي ظاهر الحقّ إذ هو الظاهر وهو باطنها إذ هو الباطن وهو الأول إذ كان ولا هي وهو الآخر إذ كان عينها عند ظهروها فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول وهو بكل شيء عليم لأنه بنفسه عليم فلمَّا أوجد الصُّور في النفس وظهر سلطان النَّسب المعبَّر عنها بالأسماء صحّ(7/111)
النّسب الإلهي للعالم فانتسبوا إليه تعالى فقال اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وأردُّكم إلى انتسابكم إليَّ أين المتقون أين الذين اتخذوا اللهَ وقاية فكان الحقُّ ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع وقد يكون المتَّقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هويَّة الحقّ قوى العبد فجعل مسمَّى العبد وقاية لمسمَّى الحق على الشهود حتى يتميَّز العالِمُ من غير العالِم هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر أية 9] وهم النّاظرون في لبّ الشّيء الذي هو المطلوب من الشيء فما سبق مقصِّرٌ مجدًّا كذلك لا يماثل له أجير عبدًا وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه والعبد وقاية للحق بوجه فقل في الكون ما شئت إن شئت قلت هو الخلق وإن شئت قلت هو الحق وإن شئت قلت هو الحق الخلق وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك(7/112)
المراتب ولولا التحديد ما أخبرت به الرسل بتحوُّل الحق في الصُّور ولا وصفـ ـته بخلع الصُّور عن نفسه فلا تنظر العين إلاَّ إليه ولا يقع الحكم إلاَّ عليه فنحن له وبه في يديه وفي كل حال فإنَّا لديه لهذا ينكَّر ويعرَّف وينزَّه ويوصف فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف ومن لم ير الحقَّ منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل وبالجملة فلابد لكل شخص من عقيدة في ربِّه يرجع بها إليه ويطلبه فيها فإذا تجلَّى له الحق فيها عرفه وأقرَّ به وإن تجلَّى له في غيرها أنكره وتعوَّذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر وهو عند نفسه أنَّه قد تأدَّب معه فلا يعتقد معتقد إلهًا إلاَّ بما جعل من نفسه فالإله في الاعتقادات بالجعل فما رأوا إلاَّ نفوسهم وما جعلوا فيها فانظر مراتب الناس في العلم بالله تعالى هو عين(7/113)
مراتبهم في الرؤية يوم القيامة وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك فإيَّاك أن تتقيَّد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه فكن في نفسك هيولياً لصور المعتقدات كلها فإنَّ الله تعالى أوسع وأعظم أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وماذكر أينًا من أين وذكر أنَّ ثَمَّ وجه الله ووجه الشيء حقيقته فنبَّه بهذا قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا فإنه لايدري العبد في أيّ نفس يقبض فقد يقبض في وقت غفلة فلا يستوي مع من قبض على حضور ثم إنَّ العبد مع علمه بهذا يلزم في الصُّور الظاهرة والحال المقيدة التوجّه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله تعالى فيقبلته حال صلاته وهو بعض مراتب وجه الحق من فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فشطر المسجد الحرام منها ففيه وجه الله ولكن لاتقل هو هنا فقط(7/114)
بل قف عندما أدركت والزم الأدب في استقبال شطر المسجد الحرام وألزم الأدب عدم حصر الوجه في تلك الأينيَّة الخاصة بل هي من جملة أينيَّات ما تولى متول إليها فقد بان لك عن الله أنه في أينيَّة كل وجهة وما ثم إلا الاعتقادات فالكل مصيب وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضيٌّ عنه وإن شقي زمانًا ما في الدَّار الآخرة فقد مرض وتألَّم أهل العناية مع علمنا بأنَّهم سعداء أهل حق في الحياة الدنيا فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمَّى جهنَّم ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عند وجدان ذلك الألم أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان(7/115)
فهذا بعض كلامهم في باب الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وهو اقرب شيء إلى كلام القرامطة الباطنية لكنَّ هؤلاء دخلوا من باب التصوُّف والتحقيق والكشوف وأولئك دخلوا من التشيُّع وموالاة أهل البيت ومالهم من علوم الأسرار وكلاهما من اكفر خلق الله وأعظمهم نفاقًا وزندقة(7/116)
وتبديلاً لدين الإسلام وتحريفًا للكلم عن مواضعه وليس المقصود هنا وصف أنواع كفرهم ولكن المقصود الإخبار بأنهم جعلوا ما أخبرت به الرُّسل من أنَّ الله يجيء يوم القيامة في صورة أصلاً في أنَّ كل صورة في العالم فاللهُ هو الآتي فيها وانَّه الظَّاهر في صورة الموجودات بل هو عينها وقال ابن عربي أيضًا في حكمة إيناسية في كلمة إلياسية بعد أن ادَّعى أن المؤثِّر وإن كان الحق والمؤثر فيه هو العالم فالمؤثر فيه واحد من جهة الحقيقة ثم قال ومن ذلك قوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قال الله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ الآية [البقرة 186] إذ لا يكون مجيبًا إلاّ إذا كان من يدعوه وإن كان عين الداعي عين المجيب فلا خلاف في اختلاف الصُّور فهما صورتان بلا شك وتلك الصُّور كلها كالأعضاء لزيد فمعلوم أنَّ ويدًا حقيقة واحدة شخصيَّة وأنَّ يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه فهو الكثير(7/117)
الواحد الكثير بالصُّور الواحد بالعين وكالإنسان واحد بالعين بلا شكّ ولا شك أنَّ عَمْرًا ماهو زيد ولا خالد ولا جعفر وأنَّ أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودًا فهو وإن كان واحدًا بالعين فهو كثير بالصُّور والأشخاص وقد علمت قطعًا إن كنت مؤمنًا أنَّ الحقَّ عينه يتجلَّى يوم القيامة في صورة فيعرف ثم يتحوَّل في صورة فينكر ثم يتحوَّل عنها في صورة فيعرف وهو هو المتجلّي ليس غيره في كل صورة ومعلوم أنَّ هذه الصُّورة ما هي تلك الصورة الأخرى فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله عَرَفَه فأقرَّ به وإذا اتفق أن يرى فيها نعتقد غيره أنكره كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصُّور(7/118)
كثيرة في عين الرائي وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة مع كون المرآة لها أثر في الصُّورة بوجه وما لها أثر بوجه وكلامهم وإن اشتمل على أنواع عظيمة من الشرك الأكبر والكفر الأعظم فهم في هذا الحديث ضلوا من وجوه أحدها أنهم جعلوا إتيان الله يوم القيامة عباده في الصُّور غير الصُّور التي يعرفونها ثم في الصُّور التي يعرفونها هو من جنس جميع الصور الموجودة في الدنيا والآخرة حيث اعتقدوا أنه الظَّاهر في كل صورة حتَّى صور الكلاب والخنازير كما حدَّثني من كلن مع رجلين من طواغيتهم مرَّا بكلب ميت أجرب فقال أحدهما للآخر وهذا أيضًا ذاتي فقال وهل ثم شيء يخرج منها(7/119)
وكمل سمعت وأنا صغير رجلاً كان من شياطينهم ولم يكن إذ ذلك أنه منهم ولا يعرف مذهبهم بل كان يتكلَّم في أمور وكان له ذكاء وكان من كلامه أنَّه حكى عن شيخ عظَّمَهُ أنه قال لرجل يقول يا حي يا قيُّوم ويكرر ذلك ويلهج به كما يحصل لمن غلبه الذكر والدعاء لمن غلب عليه ذلك فقال له لافرق بين قولك يا حي أو يا حجر فإن الحاء في الاسمين وكلاهما يوجب حركة النفس وقوَّتها وكلامًا من هذا النوع بَعُدَ عهدي عنه لكن علمت فيما بعد أنَّ مقصوده أنه ما ثَمَّ سوى الوجود فالحجر وغير الحجر سواء والمقصود بهذا الذكر أنَّ النفس يحصل لها بذلك حركة وتقوى بذلك كما يقوى البدن بمعالجة الأعمال لا أنَّ هناك ما يدعوه هو الحي القيُّوم غير هذا العالم الثاني أنَّه في حديث القيامة قد أخبر أنَّه يأتي المسلمين بعد ذهاب الكفّار من المشركين وأهل الكتاب مع آلهتهم وعلى قول هؤلاء يأتي في تلك الآلهة التي عبدها المشركون وهم الكفار من المشركين وأهل الكتاب العابدون لها وهو عندهم(7/120)
العجل الذي عبد أصحاب العجل كما قال إمامهم إمام الضلالة صاحب الفصوص في الفص النُّوحي ومكروا مكرًا كبَّارًا لأن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية أدعو إلى الله فهذا عين المكر على بصيرة فنبّه أنَّ الأمر له كلُّه فأجابوه مكرًا كما دعاهم فجاء المحمَّدي وعلم أن الدعوة إلى الله ماهي من حيث هويَّته وإنَّما هي حيث أسماؤه فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) [مريم 85] فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم فعرفنا أنَّ العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين فقالوا في مكرهم وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) [نوح 23] فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ماتركوا من هؤلاء فإنَّ للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله من المحمَّديين وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 23] أي حكم العالم فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأنَّ(7/121)
التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقُوى المعنوية في الصُّورة الروحانيَّة فما عُبد غير الله في كل معبود فالأدنى من تخيَّل فيه الألوهيَّة فلولا هذا التخيُّل ما عبد الحجر ولا غيره ولهذا قال قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد 33] فلو سمّوهم لسموهم حجارة وشجرًا وكوكبًا ولو قيل لهم من عبدتم لقالوا إلهًا ما كانوا يقولون الله ولا الإله الأعلى ما تخيل بل قال هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يُقتصر فالأدنى صاحب التخيل يقول مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3] والأعلى العالم يقول فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج 34] حيث ظهر وبشَّر المخبتين الذين خبت نارُ طبيعتهم فقالوا إلهًا ولم يقولوا طبيعة وقال في الفص الهاروني وقد ذكر قِصَّة العجل قال فكان موسى عليه السَّلام أعلم بالأمر من هارون لأنَّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه أنَّ الله قد قضى(7/122)
ألاَّ يُعْبَدَ إلاّ إيَّاه وما حكم الله بشيء إلاّ وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لمَّا وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء فكان موسى يربِّي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن ولذا لما قال له هارون ما قال رجع إلى السَّامري فقال له قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) [طه 95] يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص إلى أن قال فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سُلِّط موسى عليه السلام حكمةً من الله ظاهرة في الوجود ليُعْبَدَ في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلاَّ بعد ما تلبَّست عند(7/123)
عابدها بالألوهية ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد إمَّا عبادة تألُّه وإمَّا عبادة تسخير فلابد من ذلك لمن عقل وما عبد شيء من العالم إلاَّ بعد التلبُّس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه ولذلك تَسَمَّى الحقّ لنا برفيع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة فكثَّر الدرجات في عين واحد فإنه قضى ألاَّ يعبد إلاَّ إيَّاه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيًّا عُبِدَ فيها وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى كما قال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية 23] وهو أعظم معبود فإنَّه لا يعبد شيء إلاَّ به ولا يعبد هو إلا بذاته وفيه أقول وحقّ الهوى إن الهوى سبب الهوى ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله كيف تمم في حق من عبد هواه واتخذه إلهاً فقال وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية 23](7/124)
والضلالة الحيرة وذلك أنه لما رأى هذا العابد ما عبد إلاَّ هواه بانقياده لطاعته فيما يأمـ ـره به من عبادة من عبده الأشخاص حتَّى إن عبادته لله كانت عن هوى أيضًا لأنه لو لم يقع له في ذلك الجانب المقدس هوى وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله ولا آثره على غيره وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم واتخذها إلها ما اتخذها إلاَّ بالهوى والعابد لا يزال تحت سلطان هواه ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين وكل عابد من امرئ ما يكفّر من يعبد سواه والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى بل لأحدية الهوى فإنه عين واحدة في كل عابد فأضله الله أي حيَّره على علم بأن كل عابد ماعبد إلا هواه(7/125)
ولا استعبده إلا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف قال والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يُعبد فيه ولذلك سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك الوجه الثالث أنه قد أخبر أنه إذا تجلَّى لهم يوم القيامة في الصُّورة التي يعرفون سجد له المؤمنون كلهم وتبقى ظهور المنافقين الذين كانوا يسجدون له في الدنيا رياء وسمعة كالطبق وعلى زعم هؤلاء المشركين الملحدين المنافقين الذين كانوا يسجدون له في الدنيا المسجود له والمؤمنون والمنافقون وجميع تلك الصُّور صورة له لا فرق أصلاً الوجه الرابع أنه قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنَّه قال لن تروا ربكم حتى تموتوا وفي الأحاديث المتقدمة أن(7/126)
المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا كما روى الخلال عن حنبل قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول إن الله لا يرى في الدنيا والآخرة مُثْبَتٌ في القرآن وفي السنة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وعلى زعم هؤلاء فهو دائما يُرى في الدنيا ولا يمكن أن(7/127)
يُرى في الآخرة إلاَّ كما رئي في الدنيا لا يُرى إلاَّ في صورة الموجودات كما قال صاحب الفصوص في الفص الشّيِثي فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدًا إلا عن تجلٍّ إلهي والتجلي من الذات لا يكون أبدًا إلا بصورة استعداد المتجلَّى له غير ذلك لا يكون فإذًا المُتَجلَّى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وما رأى الحقَّ ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصورة فيها لا تراها مع علمك انك ما رأيت الصُّور أي صورتك إلا فيها فأبرز الله ذلك مثالاً نصبه لتجليه الذاتي ليعلم المتجلّى له أنه مارآه وماثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلّي من هذا واجهد في نفسك عندما ترى الصُّورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدًا البتة حتى عن بعض من أدرك مثل هذا في صورة المرآة ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة وهذا أعظم ما قَدَر عليه من العلم والأمر كما قلناه وذهبنا إليه وقد بينا هذا في(7/128)
الفتوحات المكية وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تُتعب نفسك في أن ترقى في أعلى من هذا الدرج فما هو ثم أصلاً وما بعده إلاَّ العدم المحض ومثل هذا كثير في كلامه يصرح بأنه لا يمكن أن يُرى ألاَّ كما يُرى في الدنيا وقد صرَّح بأنه ما بعد وجود المخلوقات إلا العدم المحض فصرح بعدم الخالق الذي خلق المخلوقات وإذا كان هذا قولهم فمن المعلوم أن الأحاديث المتقدمة في تجليه في الصورة وغيرها من أحاديث الرؤية كلها تبين أنهم يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر وتلك الرؤية تكون خاصة في أمكنة وأوقات خاصة إذا تجلى لهم وقد صرحت النصوص النبوية أنهم لا يرونه في الدنيا وهذا(7/129)
كله من أبين الأشياء في أن احتجاجهم بحديث الصورة ونحوه من أعظم الاستهزاء بآيات الله لما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم من المناقضة والمعاداة كيف وهو عندهم هو كل راء وكل مرئي فكيف يكون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم موافقًا لهم الوجه الخامس أن الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف وعند هؤلاء هو كل آت في الدنيا والآخرة وأما أهل الاتحاد والحلول الخاص كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو عليّ أو بعض المشائخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع فقد يتأولون أيضًا هذا الحديث كما تأوَّله(7/130)
أهل الاتحاد والحلول المطلق لكونه قال فيأتيهم الله في صورة لكن يُقال لهم لفظ الصورة في هذا الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يُسمَّى المخلوق بها على وجه التقييد وإذا أطلقت على الله مختصة به مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير ومثل خلقه بيديه واستوائه على العرش ونحو ذلك فهل يجوز لأحد أن يزعم أن الله يحل أو يتحد ببعض الأشخاص كما يزعمه من يتأول هذه الأسماء والصفات له أم يُعلم أنَّ ذلك من أفسد الأمور المعلومة بالضرورة وموضع الكلام على هذا هو الكلام على حديث الدجال فإن الدجال أعظم فتنة تكون وهو يدعي الإلهية ويظهر على يديه الخوارق وقد قال صلى الله عليه وسلم فيه إنه(7/131)
أعور إن ربكم ليس بأعور وقال واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذا المؤسس طعن في هذا الحديث قال لأنه لا يحتاج إلى نفي الإلهية عن الدجال إلى هذا الدليل ولو علم هذا ما في الأرض من الضلال عند أهل الاتحاد المطلق والمعين لم يقل مثل هذا فليت يرى المؤمن العالم كيف صار الحق الذي جاءت به الرسل تارة تقابله طائفة بالتكذيب وتارة يقابلونه بتمثيل غيره به والتسوية بينهما كما أن المشركين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل والمرتدون صدَّقُوا برسالة مسيلمة ونحوه من(7/132)
الكذابين وجعلوهم مثل رسل الله كذلك الكفار تارة يجحدون الصانع وما يستحقه من أسمائه وصفاته وتارة يجعلونه له أندادًا وأمثالاً وأكفاءً ويعدلون بربهم فهؤلاء في جحود المستكبرين وهؤلاء في لبس المشركين وكل من الاستكبار والشرك ضد الإسلام وإن كانا متلازمين كما قد بينا هذا كله في غير هذا الموضع(7/133)
فصل وأقرب ما يكون عليه إتيان الله في صورة بعد صورة وإن كان تأويلاً باطلاً أيضًا ما ذكره بعض أهل الحديث مثل أبي عاصم النبيل وعثمان بن سعيد الدارمي فإنه يروى عن أبي عاصم النبيل أنه كان يقول ذلك تغير يقع في عيون الرائين كنحو ما يُخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء على الحقيقة وقال عثمان بن سعيد في نقضه على المريسي(7/134)
وأما إنكارك أيها المريسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يتراءى لعباده المؤمنين يوم القيامة في غير صورته فيقولون نعوذ بالله منك ثم يتراءى في صورته التي يعرفونها فيعرفونه فيتبعونه فزعمت أيها المريسي أن من أقر بهذا فهو مشرك يقال لهم أليس قد عرفتم ربكم في الدنيا فكيف جهلتموه عند العيان وشككتم فيه قال عثمان بن سعيد فيقال لك أيها المريسي قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية الزهري حدثنا نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن(7/135)
النبي صلى الله عليه وسلم كأنك تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولـ ـهمن جودة إسناده فاحذر ألا يكون قذفك بالشرك أن يقع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذنبنا إن كان الله سلب عقلك حتى جهلت معناه ويحك إن هذا ليس بشك ولا ارتياب منهم ولو أن الله تجلى لهم أول مرة في صورته التي عرَّفهم صفاتها في الدنيا لاعترفوا بما عرفوا ولم ينفروا ولكنه يُرِي نفسه في أعينهم لقدرته ولطف ربوبيته في صورة غير ما عرفهم الله صفاتها في الدنيا ليمتحن بذلك إيمانهم ثانية في الآخرة كما امتحن في الدنيا ليثبتهم أنهم لا يعترفون بالعبودية في الدنيا والآخرة إلا للمعبود الذي عرفوه في الدنيا بصفاته التي أخبرهم بها في كتابه واستشعرتها قلوبهم حتى ماتوا على ذلك فإذا مثل في أعينهم غيرُ ما عرفوا من الصفة نفروا وأنكروا إيمانًا منهم بصفة ربوبيته التي امتحن قلوبهم في الدنيا فلما رأى أنهم لا يعرفون إلا التي امتحن الله قلوبهم تجلى لهم في الصورة التي عرفهم في(7/136)
الدنيا فآمنوا به وصدقوا وماتوا ونشروا عليه من غير أن يتحول الله من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم بقدرته ليس هذا أيها المريسي بشك منهم في معبودهم بل هو زيادة يقين وإيمان به مرتين كما قال ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لهم يوم القيامة أتعرفون ربكم فيقولون نعم إنه إذا تعرف إلينا عرفناه يقولون لانُقر بالربوبية إلى لمن استشعرته قلوبنا بصفاته التي أنبأنا بها في الدنيا فحينئذ يتجلى لهم في صورته المعروفة عندهم فيزدادون به عند رؤيته إيمانًا ويقينًا بربوبيته اغتباطًا وطمأنينة وليس هذا من باب الشك على ما ذهبت إليه بل هو يقين بعد يقين وإيمان بعد إيمان ولكن الشك والريبة كلها ما ادعيت أيها المريسي في تفسير الرؤية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ترون ربكم يوم القيامة لا تُضامُّون في رؤيته فادعيت(7/137)
أن رؤيتهم تلك أنَّهم يعلمون يومئذ أن لهم ربا لايعتريهم في ذلك شك كأنهم في دعواك أيها المريسي لم يعلموا في الدنيا أنَّه ربهم حتى يستيقنوا به في الآخرة فهذا التفسير إلى الشك أقرب مما ادعيت في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشك والشرك لا بل هو الكفر لأن الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم يعلمون يومئذ أن الله ربهم ألا ترى أنه يقول أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) [السجدة 12] فالشك في الله هذا الذي تأولته أنت في الرؤية لا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك إن الله لا تتغير صورته ولا تتبدل ولكن يمثل في أعينهم يومئذ أولم تقرأ كتاب الله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال 44] وهو الفعال لما يشاء كما مثل جبريل عليه السلام مع عظم صورته وجلالة خلقه في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وكما مثله لمريم بشرًا(7/138)
سويًّا وهو ملك كريم في صورة الملائكة وكما شبه في أعين اليهود أن قالوا إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ [النساء 157] فقال وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 157] وما عملك أيها المريسي بهذا وما أشبهه غير أنه وردت عليك آثار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بحلقك ونقضت عليك مذهبك فالتمست الراحة منها بهذه المغاليط والأضاليل التي لا يعرفها أحد من أهل العلم والبصر بالعربية وأنت منها في شغل كلما غالطت بشيء أخذ بحلقك شيء آخر يخنقك حتى تلتمس له أغلوطة أخرى ولئن جزعت من هذه الآثار فدفعتها بالمغاليط مالك راحة فيما يصدقها من كتاب الله عز وجل الذي لاتقدر على دفعه وكيف تقدر على دفع هذه الآثار وقد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظها بلسان عربي مبين ناقضة لمذهبك وتفاسيرك وقد تداولتها أيدي(7/139)
المؤمنين وتناسخوها يؤديها الأول إلى الآخر والشاهد إلى الغائب إلى أن تقوم الساعة ليقرعوا بها رؤوس الجهمية ويهشموا بها أنوفهم وينبذ تأويلك في حش أبيك ويكسر في حلقك كما كسر في حلوق من كان فوقك من الولاة والقضاة الذين كانوا من فوقك مثل ابن أبي دؤاد وعبد الرحمن وشعيب(7/140)
بعده وغسان وابن أبي رباح المفتري على القرآن فإن كنت تدفع هذه الآثار بجهلك فما تصنع في القُرآن وكيف تحتال له وهو من أوله إلى آخره ناقض لمذهبك ومكذب لدعواك حتى بلغني عنك من غير رواية لمعارض أنك قلت ماشيء أنقض لدعوانا من القُرآن غير أنه لا سبيل لدفعه إلاَّ مكابرة بالتأويل وهذا أيضًا باطل من وجوه أحدها أن في حديث أبي سعيد المتفق عليه فيأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وفي لفظ في أدنى صورة من التي رأوه فيها وهذا يفسر قوله في حديث(7/141)
أبي هريرة فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون ويبين أن تلك المعرفة كانت لرؤية منهم متقدمة في صورة غير الصورة التي أنكروه فيها وفي هذا التفسير قد جعل صورته التي يعرفون هي التي عرَّفهم صفاتها في الدنيا وليس الأمر كذلك لأنه أخبر أنها الصورة التي رأوه فيها أول مرة لا أنهم عرفوها بالنعت في الدنيا ولفظ الرؤية صريح في ذلك وقد بينا أنه في غير حديث مما يبين أنهم رأوه قبل هذه المرة الوجه الثاني أنهم لا يعرفون في الدنيا لله صورة ولم يروه في الدنيا في صورة فإن ما وصف الله تعالى به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب لهم صورة يعرفونها ولهذا جاء في حديث آخر أنه ليس كمثله شيء فلو كانوا أرادوا الصفات المخبر بها في الدنيا لذكروا ذلك فعلم أنهم لم يطيقوا وصف الصورة التي رأوه فيها أول مرة وقد قال النبي في سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن(7/142)
ينعتها من حسنها فالله أعظم من أن يستطيع أحد أن ينعت صورته وهو سبحانه وصف نفسه لعباده بقدر ما تحتمله أفهامهم ومعلوم أن قدرتهم على معرفة الجنة بالصفات أيسر ومع هذا فقد قال أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالخالق أولى أن يكونوا لا يطيقون معرفة صفاته كلها الوجه الثالث أن في حديث أبي سعيد فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقوله لا يتحول من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم(7/143)
مخالفة لهذا النص الوجه الرابع أن في حديث ابن مسعود وأبي هريرة من طريق العلاء أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون وفي لفظ أشباه ما كانوا يعبدون ثم قال يبقى محمد وأمته فيتمثل لهم الرَّب تبارك وتعالى فيأتيهم فيقول مالكم لا تنطلقون كما انطلق الناس فيقولون إن لنا إلهًا ما رأيناه بعد فقد أخبر أن الله تعالى هو الذي تمثل لهم ولم يقل مُثِّل لهم كما قال في معبودات المشركين وأهل الكتاب الوجه الخامس أن في عدة أحاديث كحديث أبي سعيد وابن مسعود قال هل بينكم وبينه علامة فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فيسجدون له وهذا يبين أنهم لم يعرفوه بالصفة التي وصف لهم في الدنيا بل بآية وعلامة عرفوها في الموقف وكذلك في حديث(7/144)
جابر قال فيتجلى لنا يضحك ومعلوم أنه وإن وصف في الدنيا بالضحك فذاك لا يعرف صورته بغير المعاينة الوجه السادس أن تمثيله ذلك بقوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال 44] وبقوله شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 157] لا يناسب تشبيهه بمجيء جبريل في صورة دحية والبشر وذلك أن اليهود غلطوا في الذي رأوه فلم يكن هو المسيح ولكن ألقى شبهه عليه والذي رأته مريم ومحمد صلى الله عليه وسلم هو جبريل نفسه ولكن في صورة آدمي فكيف يقاس ما رئي هو نفسه في صورة على ما لم يره هو وإنما ألقي شبهه على غيره وأما التقليل والتكثير في أعينهم بالمقدار ليس هو في نفس المرئي ولكن هو صفة المرئي(7/145)
الوجه السابع أن هذا المعنى إذا قصد كان مقيدًا بالرائي لا بالمرئي مثل قوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال 44] فقيد ذلك بأعين الرائين يقال كان هذا في عين فلان رجلاً فظهر امرأة وكان كبيرًا فظهر صغيرًا ونحو ذلك لا يقال جاء فلان في صورة كذا ثم تحول في صورة كذا ويكون التصوير في عين الرائي فقط هذا لا يُقال في مثل هذا أصلا فإن قيل فما الفرق بين ماجاء في الحديث وبين القول الذي نقله الأشعري وغيره في مقالات أهل الكلام عن البكرية وأتباع بكر لن أخت عبد الواحد لما ذكر اختلافهم في الرؤية(7/146)
فقال وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يُرى فيها ويكلم خلقه منها قيل هؤلاء عندهم أن الله نفسه لايُرى ولا يكلم عباده ولكن يخلق صورة فيُرى فيها ويكلم خلقه فيها ومعلوم أن هذا ليس هو معنى الحديث وذلك أن هؤلاء لما رأوا بقياس عقولهم أنه لا يرى ورأوا النصوص قد جاءت برؤيته اختلفوا في ذلك على أقوال قال الأشعري وقال قائلون منهم ضرار بن عمرو وحفص الفرد إن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا هذا فندركه بها وندرك ما هو بتلك الحاسة(7/147)
قلت وهذا في رؤيته نظير ما يقوله طائفة من الكلابية والأشعرية أن كلامه لا يسمع بهذه الحاسة ولكن يخلق في العبد لطيفة أو يقولون حاسة أخرى يسمع بها كلامه وهذا قول من يجوز منهم سماع كلامه وآخرون منهم لا يُجوِّزون سماع كلامه كما أن في أولئك من لا يُجوِّز رؤيته بحال(7/148)
قال الأشعري وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يُرى فيها ويُكلِّم خلقه فيها وقال الحسين النجار إنه يجوز أن الله تعالى يحول العين إلى القلب ويجعل لنا قوة العلم فيعلم بها ويكون العلم رؤية له أي علمًا له وقد ذهب إلى نحو هذه التأويلات طائفة من الصِّفاتيَّة من الأشعرية المتأخرين ونحوهم كما يُذكر في موضعه(7/149)
فصل قال الرازي في تأسيسه الخبر الرابع ماروي عنه عليه السلام أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة قال واعلم أن قوله عليه السلام في أحسن صورة يحتمل أن يكون من صفات الرائي كما يقال دخلت على الأمير على أحسن هيئة أي وأنا كنت على أحسن هيئة ويحتمل أن يكون ذلك من صفات المرئي فإن كان ذلك من صفات الرائي كان قوله على أحسن صورة عائدًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وجهان الأول أن يكون المراد من الصورة نفس الصورة فيكون المعنى أن الله تعالى زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه وذلك يكون سببًا لمزيد من الإكرام في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة ويكون المعنى الإخبار عن حسن حاله عند الله وأنه أنعم عليه بوجوه عظيمة من الإنعام كما كان وذلك لأن الرائي قد يكون بحيث يتلقاه المرئي بالإكرام والتعظيم وقد يكون بخلافه فعرَّفنا(7/150)
الرسول صلى الله عليه وسلم أن حالته كانت من القسم الأول وإما إن كان عائدًا إلى المرئي ففيه وجوه الأول أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المنام في صورة مخصوصة وذلك جائز لأن الرؤيا من تصرفات الخيال فلا ينفك ذلك عن صورة متخيلة الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة وذلك أنه تعالى لما خصه بمزيد الإكرام والإنعام في الوقت الذي رآه صح أن يُقال في العرف المعتاد إني رأيته على أحسن صورة كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة الثالث لعله عليه السلام لما رآه اطلع على نوع من صفات الجلال والعزة والعظمة ماكان مطلعًا عليه من قبل الخبر الخامس ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما بين السماء والأرض ثم قال يامحمد قلت لبيك وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت يارب(7/151)
لا أدرى فقال في أداء الكفارات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء على الكراهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال واعلم أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة قد تقدم تأويله وأما قوله وضع يده بين كتفي ففيه وجهان الأول المراد به المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها الثاني أن يكون المراد من اليد النعمة يقال لفلان يد بيضاء ويقال إن أيادي فلان كثيرة وأما قوله بين كتفي فإن صح فالمراد منه أنه أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة وقد روى بين كنفي والمراد ما يقال أنا في كنف فلان وفي ظل إنعامه وأما قوله فوجدت بردها فيحتمل أن المعنى برد النعمة(7/152)
وروحها وراحتها من قولهم عيش بارد إذا كان رغدًا والذي يدل على أنَّ المراد كمال المعارف قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فعلمت ما بين المشرق والمغرب وما ذلك إلا لأن الله تعالى أنار قلبه وشرح صدره بالمعارف وفي بعض الروايات فوجدت برد أنامله وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى والكلام على ذلك أن يقال هذان الحديثان لم يذكر لهما إسنادًا أعني الإسناد الذي يليق بكتابه وهو أن يعزو الحديث إلى كتاب من كتب الحديث ليعرف أصله وكأنه نقلها من كتاب تأويل الأخبار لأبي بكر بن فورك فإنه هو الذي يعتمده في كثير مما يذكره من أخبار الصفات وتأويلها وأبوبكر بن فورك جمع في كتابه من تأويلات(7/153)
بشر المريسي ومن بعده ما يناسب كتابه لكنه لم يكن من الجهمية المماثلين لبشر بل هو يثبت من الصفات ما لا يثبته بشر وكان قد سبقه أبوالحسن بن مهدي الطبري إلى كتاب لطيف في التأويل وطريقته أجود من طريقة أبي بكر بن فورك وأول مكن بلغنا أنه توسع في هذه التأويلات هو بشر المريسي وإن كان قبله وفي ومنه له شركاء في بعضها وتلقى(7/154)
ذلك عنهم طائفة من الجهمية المعتزلة وغيرهم وأما كثير من أئمة الجهمية المعتزلة وغيرهم فيكذب بهذه الأحاديث كأحاديث الرؤية المتقدمة ونحوها ويرون أن التصديق بها مع التأويل لها من باب التلاعب وجحد الضرورة ولا ريب أن هؤلاء في إبطالهم لتأويلها مع ما هي عليه من الألفاظ الصريحة أقرب من المتأولين لها ولكن هؤلاء في التصديق بها وترك التكذيب بها أقرب من أولئك وهم دائمًا يتقاسمون البدعة فيكون هؤلاء من وجه دون هؤلاء وهؤلاء من وجه دون هؤلاء ولذلك نظائر في مسألة القرآن والرؤية والصفات وغير ذلك كما نبهنا على بعضه في هذا الكتاب وسنتكلم إن شاء الله تعالى على تثبيتهما حيث تكلم الرازي على الأخبار فإن الرازي هو في الحقيقة يجمع البدعتين فلا يتبع الحق لا في إسنادها ولا في دلائلها بل(7/155)
لا يفعل ذلك في دلالة القرآن ولهذا كانت طريقته صدًّا عن سبيل الله ومنعًا للناس من اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يثبت إلا بالنقل وبدلالة الألفاظ وهو دائمًا يطعن في الطريقتين وقد تكلمنا على كلامه في دلالة الألفاظ في غير هذا الموضع أيضًا ونحن نذكر إن شاء الله هذين الحديثين وإسنادهما ولفظهما لكن هذان الخبران متعلقان برؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه لتضمنهما ذلك وهذا قد جاءت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحاديث يستدل بها على الإثبات والنفي ولهذا تنازع السلف في هذه المسألة ولم يتنازعوا في رؤية الله تعالى في الآخرة كما سيأتي ذلك في كلام الإمام أحمد رحمه الله قال الإمام أبوبكر بن خزيمة باب ذكر أخبار رويت عن عائشة في إنكارها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول المنية بالنبي صلى الله عليه وسلم(7/156)
إذ أهل قبلتنا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى من شاهدنا من العلماء من أهل عصرنا لم يختلفوا ولم يرتابوا ولم يشكوا أن جميع المؤمنين يرون خالفهم يوم القيامة عيانًا وإنما اختلف العلماء هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم خالقه عز وجل قبل نزول المنية بالنبي صلى الله عليه وسلم لا أنهم قد اختلفوا في رؤية المؤمنين خالقهم يوم القيامة فتفهموا المسألتين لا تغالطوا فاصدوا عن سواء السبيل ونحن نذكر من ذلك ما يسره الله تعالى والذي عليه أكثر أهل السنة والحديث إثبات رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه لكن اختلفوا هل يقال رآه بعين رأسه أو يقال رآه بقلبه أو يقال رآه ولا يقال بعينه ولا بقلبه على ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن أحمد على ما ذكر ذلك القاضي أبويعلى وغيره ولهذا جمع طائفة بين أقوال السلف في ذلك(7/157)
فالرواية الواحدة عن أحمد وهي قول طائفة أنه يقال رآه ولايقال بعينه ولابقلبه كما في مسائل الأثرم قال سمعت أبا عبد الله قال له رجل عن حسن الأشيب قال لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى قال فأنكره إنسان عليه فقال لم لا تقول رآه ولا تقول بعينه ولا بقلبه كما جاء في الحديث أنه رآه قال رجل فاستحسن ذلك الأشيب قال أبو عبد الله هذا حسن قال وسمعت أبا عبد الله قال فأما من قال إنه لا يرى في الآخرة فهو جهمي(7/158)
وأما من تكلم في رؤية الدنيا فقال عكرمة رآه وقال الحسن رآه وقال سعيد بن جبير لا أقول رآه ولا لم يره وقالت عائشة من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد كذب قال الأثرم قلت لأبي عبد الله إلى أي شيء تذهب من هذا فقال قال العمش عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه(7/159)
مرتين وحديث الأثرم حدثنا محمد بن الصباح حدثنا هشيم ثنا منصور عن الحكم عن يزيد بن شريك عن(7/160)
أبي ذر قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه وروى الخلال حدثنا محمد بن الهيثم حدثنا عمرو بن عون أنا هشيم عن منصور عن الحكم عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] قال رآه بقلبه(7/161)
ولم يره بعينه وقال ابن خزيمة حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا هشيم أنا منصور عن الحكم عن يزيد بن شريك عن أبي ذر قال رآه بقلبه ولم يره بعينه فجواب الإمام أحمد يقتضي أنه استحسن كلام من أطلق القول بأنه رآه ولم يقيده بعينه ولابقلبه ولكن لايقتضي أنه منع من التقييد بأحدهما بدليل أن الأثرم لما سأله إلى أي شيء تذهب في هذا ذكر الرواية المقيدة بالقلب ولكن من أصحاب أحمد من جعل هذا رواية عنه أنه يطلق الرؤية ولا يقيد بأحدهما لكن فرق بين السكوت والتقييد وبين المنع من التقييد فإن كان أحد يظن أن أحمد منع من التقييد فليس كذلك وإن قال إنه استحسن الإطلاق فهذا حسن وحينئذ فلا يكون روايتين بل رواية واحدة تضمنت جواز الإطلاق والتقييد(7/162)
بالقلب لكن لم ير إطلاق نفي الرؤية لأن نفيها يشعر بنفي الأمرين جميعًا وإن كان من النفاة من لا ينفي إلا رؤية العين وهذا الذي أجاب به أحمد من حديث ابن عباس الذي رواه مسلم في صحيحه عن زياد بن الحصين عن أبي العالية البرَّاء عن ابن عباس مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 11 , 13] قال رآه بفؤاده مرتين وروى مسلم في صحيحه أيضًا عن عبد الملك عن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال رآه(7/163)
بقلبه يعني قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] وأما حديث أبي ذر فقد رواه مسلم في صحيحه عن قتادة عن عبد الله بن شقيق العقيلي عن أبي ذر قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نور أنَّى أراه وأما ما يرويه بعض العامة انابا بكر سأله فقال رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره فهو كذب باتفاق أهل العلم ولم يكن عند عائشة في هذا حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما(7/164)
تكلمت في ذلك بالرأي والتأويل لا بحديث كان عندها وسيأتي أن أبا عبد الله رد قول عائشة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي وسنبين إن شاء الله اتفاق المرفوع في ذلك فإن كان أبو ذر عنى هذا ومع هذا فقد رووا عنه بذلك الإسناد الآخر الجيد عن يزيد بن شريك عن أبي ذر قال رأى محمد ربه بقلبه دل ذلك على أن ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينف رؤية القلب التي أثبتها بل إما أن يكون دل عليها أو لم يدل على عدمها وأبو ذر أحق من رجع إليه في هذه المسألة لأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها وهو من أجلّ الصحابة رضي الله عنهم فلهذا اعتمد الإمام أحمد على ما رواه عنه وعن ابن عباس والأثرم من أعلم أصحاب أبي عبد الله وأذكاهم وأعرفهم بالحديث والفقه وحديث أبي ذر المرفوع قد تنازعوا فيه هل مقتضاه إثبات الرؤية أو نفيها فلذلك لم يحتج به أحمد قال أبو بكر بن خزيمة وقد روي عن أبي ذر خبر قد اختلف علماؤنا في تأويله لأنه روي بلفظ يحتمل النفي(7/165)
والإثبات جميعًا وذكر الحديث ثم قال وقوله نور أنَّى أراه يحتمل معنيين أحدهما أي كيف أراه وهو نور والمعنى الثاني رأيته وإني رأيته وهو نور فهو نور لا تدركه الأبصار إدراك ماتدرك الأبصار من المخلوقين كما قال عكرمة يعني عن ابن عباس إن الله إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء قال والدليل على صحة هذا التأويل الثاني أن إمام أهل زمانه في العلم والأخبار محمد بن بشار بندار حدثنا بهذا الخبر قال حدثنا معاذ بن هشام حدثني(7/166)
أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته فقال عن أي شيء كنت تسأله فقال كنت أسأله هل رأيت ربك فقال أبو ذر قد سألته فقال رأيت نورًا وهذه الطريق التي ذكرناها هي من رواية هشام الدستوائي عن قتادة واللفظ الأول هو من طريق يزيد بن إبراهيم التستري عن قتادة وبعضهم يقول نور بالرفع(7/167)
ورواه ابن خزيمة من غير وجه بالنصب قال ابن خزيمة ويجوز أن يكون معنى خبر أبي ذر رأيت نورًا فلو كان معنى قول أبي ذر من رواية يزيد بن إبراهيم التستري أنّي أراه على نفي معنى الرؤية فمعنى الخبر أنه نفى رؤية الرب لأن أبا ذر قد ثبت عنه أنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه بقلبه حدثنا أحمد بن منيع غير مرة قال ثنا هشيم أنا منصور وهو ابن زاذان عن الحكم ين يزيد الرشك عن أبي ذر في قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] قال رآه بقلبه يعني النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا أبو هاشم(7/168)
زيادة بن أيوب قال حدثنا هشيم فذكر بإسناده عن أبي ذر قال رآه بقلبه ولم يره بعينه وكذلك نقل حنبل عن الإمام أحمد كما رواه عنه الخلال قال قلت لأبي عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه قال رؤيا حلم رآه بقلبه وكان أبو عبد الله تارة يحكي تنازع السلف في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا كما روى الخلال عن جعفر بن محمد حدثني أبو عبد الله قال قرأت على أبي قرة الزبيدي عن أبي جريج(7/169)
أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه مرتين قلت يا أبا عبد الله عائشة تقول لم يره وأظن أني قلت له وأبو ذر قال قد اختلفوا في رؤية الدنيا ولم يختلف في رؤية الآخرة إلا هؤلاء الجهمية قلت تعيب على من يكفرهم قال لا قلت فيكفرون قال نعم وذكر الخلال هذه المسألة والجواب عنها في موضع آخر من السنة وقال فذكر مثل مسألة حبيش سواء وقد ذكر قبل ذلك مسألة حبيش(7/170)
وهذه الرواية يحتمل أنه إنما حكى الاختلاف في رؤية العين لأنها هي التي تتظاهر الجهمية بإنكارها وهو ظاهر حديث عائشة وأبي ذر المرفوع ويحتمل أنه حكى الخلاف في رؤية القلب أيضًا لأن حديث ابن عباس الذي عارضه السائل بقول عائشة إنما فيه رؤية القلب ويحتمل أنه حكى الخلاف مطلقًا لتقابل الروايات بالإثبات والنفي يؤيد ذلك أن الخلال جعل الجواب هنا كالجواب في مسألة حبيش بن سندي فروى الخلال عن حبيش بن سندي أن أبا عبد الله سئل عن حديث ابن عباس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقال بعضهم يقول بقلبه فقيل له أيما أثبت عندك فقال في رؤية الدنيا قد اختلفوا فيها وأما في رؤية الآخرة فلم يختلف فيها إلا هؤلاء الجهمية قيل له تعيب على من يكفرهم قال لا قيل فيكفرون قال نعم ففي هذا الجواب أنهم سألوه عما يروى عن ابن عباس من إطلاق الرؤية فقال بعض الرواة يقيدها بالقلب ولما سئل أيما أثبت عندك لم يجزم بأحد الطرفين لكن ذكر أن السلف تنازعوا في ذلك ولم يتنازعوا في رؤية الآخرة فيحتمل(7/171)
أنهم تنازعوا هل رآه بقلبه أم لا ويحتمل أنهم تنازعوا في إثبات الرؤية مطلقًا ومقيدًا وفي إطلاق نفيها ولكن استقر أمره على إثبات ماورد في ذلك من الأحاديث الثابتة والرد على من نفى موجبها قال الخلال أنا أبو بكر المروذي قال قرأت على أبي عبد الله وأبنا عبد الله بن أحمد قال قرأت على أبي قرة الزبيدي عن ابن جريح قال أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين زاد عبد الله بن أحمد ثنا نصر بن علي قال حدثنا أشعث بن عبد الله حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن(7/172)
الحارث عن كعب قال إن الله تعالى قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهنا وسلم فرآه محمد مرتين وكلمه موسى مرتين أخبرنا المروذي عن أبي عبد الله عن وكي عثنا عباد الناجي سمعت عكرمة يقول نعم رأى محمد صلى الله عليه وسلم(7/173)
ربه حتى انقطع نفسه وأخبرنا المروذي عن أبي عبد الله عن يزيد بن عباد قال سألت الحسن وعكرمة عن قول الله تعالى وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) [النجم 1] قالا إذا غاب فذكر الحديث ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) [النجم 8] قال الحسن هو ربي فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) [النجم 9] فقلت ياأبا سعيد هل شاهده قال نعم فقرأها حتى بلغ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] فتلكأ الحسن وقال رأى عظمة ربه ورأى أشياء فقال عكرمة ما تريد قال أريد أن تبين لي فقال قد رآه ثم رآه(7/174)
قال القاضي أبو يعلى وقد اختلفت الروايات عن أحمد في إثبات رؤيته في ليلة المعراج قروى أبوبكر المروذي وذكر ما تقدم من قوله فبأي شيء يدفع قول عائشة إلى قوله ما اعتراضه في هذا الموضع يُسلَّم الخبر ثم قال وظاهر هذا من كلامه إثبات الرؤية في ليلة المعراج قال وهذه الرواية اختيار أبي بكر النجاد وذكر أنه حكى القاضي أبو علي عن أبي بكر بن سليمان النجاد أنه قال رأى محمد ربه إحدى عشرة مرة منها بالسنَّة تسع مرات ليلة المعراج حين كان يتردد بين موسى وبين ربه عز وجل يسأل أن يخفف عن(7/175)
أمته الصلاة فنقض خمسًا وأربعين صلاة في تسع مقامات ومرتين بالكتاب قال القاضي ونقل حنبل قال قلت لأبي عبد الله رأى ربه قال رؤيا حلم رآه بقلبه قال القاضي وهذا يقتضي نفي الرؤية في تلك الليلة قال ونقل الأثرم عن أحمد أنه حكى له قول رجل يقول رآه ولا أقول بعينه ولا بقلبه فقال أبو عبد الله هذا حسن قال وظاهر هذا إطلاق الرؤية من غير تفسير بعين أو قلب قال القاضي والرواية الأولى أصح قلت ليس كلام أحمد مختلفاً فإن رواية الأثرم قد ذكرنا لفظها وأنه استحسن الإطلاق فإنه قد(7/176)
ذهب إلى أنه رآه بقلبه وهذا موافق لنقل حنبل والمروذي نقل الرواية مطلقًا وفي الأحاديث التي رواها التقييد برؤية القلب ورؤية المنام ولم أجد في كلام أحمد تصريحًا برؤية عين ولا نفي الرؤية مطلقًا وأيضًا فاعتقاد أن نفي رؤية العين يقتضي إطلاق نفي الرؤية كما ذكر القاضي ليس هو مقتضى ما ذكره أحمد وغيره من العلماء وهذا الذي قالـ ـه الإمام أحمد من إثبات رؤية القلب هو الذي ثبت عن الصحابة كأبي ذر وابن عباس وقد روي ذلك بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً كما رواه أبوالقاسم الطبراني في كتاب السنة حدثنا الحسين بن إسحاق(7/177)
التستري حدثنا الحماني حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك عز وجل قال رأيته بفؤادي ولم أره بعيني وهذا وإن كان مرسلاً فهو معضود لما ثبت عن الصحابة من الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤيته ربه كأبي ذر ومن الذين نقلوا عنه أنه قال رأيت ربي كابن عباس(7/178)
وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفصيل وقد صرح أبوذر بمثل هذا فقال رآه بقلبه ولم يره بعينه بهذا يمكن الجمع بين قول ابن عباس وعائشة كما سنذكره إن شاء الله تعالى وقد قال أبوذر رآه بقلبه ولم يره بعينه قال الخلال أخبرنا أبوبكر المروذي قال قلت لأبي عبد الله إنهم يقولون إن عائشة قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية فبأي شيء يدفع قول عائشة قال بقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي وقول النبي صلى الله عليه وسلم(7/179)
أكبر من قولها وقال قلت لأبي عبد الله إن رجلاً قال أنا أقول إن الله يُرى في الآخرة ولا أقول إن محمدًا رأى ربه في الدنيا وقد أنكر عليه قوم واعتزلوا أن يصلوا خلفه وهو غمام فغضب وقال أهل أن يجفى ما اعتراضه في هذا الموضع يسلم الخبر كما جاء قال الخلال أخبرنا أبوبكر المروذي قال قرأت على أبي عبد الله إبراهيم بن الحكم حدثني أبي عن عكرمة قال سألت ابن عباس عل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه قال نعم رآه دون ستر من لؤلؤ قال المروذي قرأته عليه بطوله فصححه وقد روى أبوبكر بن أبي داود في كتاب السنة من(7/180)
جملة كتاب السنن هذا الخبر عن عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قال كيف رآه قال في صورة فقلت أنا لابن عباس أليس هو يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وقد روى أبوبكر بن خزيمة الرؤية عن ابن عباس من هذا الوجه فقال حدثنا محمد بن يحيى حدثنا يزيد بن أبي حكيم العدني حدثنا الحكم بن أبان سمعت عكرمة يقول سمعت ابن عباس وسئل هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه قال نعم قال فقلت لابن عباس أليس الله يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره(7/181)
إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء قال محمد بن يحيى امتنع عليّ إبراهيم بن الحكم في هذا الحديث فخار الله لي أحلى منه يعني أن يزيد بن أبي حكيم أحلى من إبراهيم بن الحكم أي أنه أوثق منه قال محمد بن يحيى قال لي ابنه يعني ابن إبراهيم بن الحكم تعال حتى نحدثك قلم أذهب فحدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم قال ثنا موسى بن عبد العزيز القنباري حدثني الحكم يعني ابن أبان قال حدثني عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قلت أنا لابن عباس أليس يقول الرب عز وجل لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ(7/182)
الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فقال لا أم لك وكانت كلمته لي ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء فهذا التفسير من ابن عباس يقتضي أنه رآه بالبصيرة فإنما يرى إذا ما لم يَتَجَلَّ بنوره الذي هو نوره هذا مشروح في غير هذا الموضع ولـ ـهذا فقد قال إنه تفسير لحديث أبي ذر وأن المنفي فيه قولان كالمنفي في قول ابن عباس هذا وأنه كما قيل في قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أنك ترى السماء ولا تدركها فلذلك قيل وإذا حدقت فيها عشي بصرك وإنما أنكر أحمد على من نفى أحاديث رؤيته في الدنيا مطلقًا لأن من الجهمية طوائف يقولون إن الله لايجوز أن يرى بالأبصار ولا بالقلوب أصلاً وطوائف يقولون إنه لايجوز أن يرى في المنام أيضًا وهؤلاء يجحدون كل ما فيه إثبات أن(7/183)
محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ره عز وجل سواء كان بفؤاده أو في منامه أو غير ذلك وهؤلاء الجهمية ضلال باتفاق أهل السنة ولهذا كان أحمد ينكر على هؤلاء ردهم ما في ذلك من الأخبار التي تلقاها العلماء بالقبول كما سنذكره إن شاء الله تعالى وإذا كانوا يمنعون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده أو في منامه قهم لرؤية غيره أجحد وأجحد وقد ذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم ذلك عن طوائف من الجهمية حتى إن من المعتزلة من يقول يجوز أن يرى بالقلوب بمعنى العلم ومنهم من ينكر ذلك كما نقل ذلك الأشعري في المقالات فقال أجمعت المعتزلة على أن الله لايرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب فقال أبوالهذيل وأكثر المعتزلة نرى الله بقلوبنا بمعنى أنَّا نعلمه بقلوبنا وأنكر هشام الفوطي وعماد بن سليمان(7/184)
ذلك وهؤلاء النفاة يسمون مثبتة الرؤية مجسمة ويجمعون في نقل مقالات المثبتة بين الحق والباطل كما نقل الأشعري عنهم ما نقله من كتب المعتزلة فقال واختلفوا في رؤية الله بالأبصار فقال قائلون يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات وأجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول وإذا رأوا إنسانًا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك حكي ذلك عن بعض أصحاب معتمر وكهمس(7/185)
وحكى عن أصحاب عبد الواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون إن الله سبحانه يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن وقال قائلون إنا نرى الله في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا وروي عن رَقَية بن مصقلة أنه قال رأيت رب العزة في النوم فقال لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء الآخرة أربعين سنة وامتنع كثير من القول أنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا إنه يرى في الآخرة فقد حكي هذا القول بإطلاق النفي في الدنيا معارضًا لتلك(7/186)
الأقوال المشتملة على الباطل مثل كونه يرى بالأبصار في الطرقات وعلى الحق مثل كونه يرى في المنام ولهذا جمع طائفة بين قول عائشة وابن عباس كما ذكره رزين بن معاوية في تفسيره فقال وأما ما روي عن عائشة وابن عباس من الاختلاف في أمر الرؤية فإنما دخل الأمر في ذلك على بعض الروايتين من حيث إطلاقهما اللفظ فظنوا بهما الاختلاف ولم يكونا ليختلفا في مثل هذا الأصل الجليل من أصول الدين وقد روى غير أولئك الرواة عنهما لفظهما مقيدًا فزال الإشكال والمقيد يبين المجمل فروي عن ابن عباس في بعض الروايات رأى ربه بفؤاده وهو تفسير قوله رآه مطلقًا قال وقد روي عن عائشة أنها قالت يا أهل العراق إنكم تقولون أقوالاً يخالفها كتاب الله عز وجل وتزعمون أن محمدًا(7/187)
رأى ربه ببصره وقد قال لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وإنما رآه بفؤاده وذلك قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] وإنما رأى ببصره الحجاب واستدلت على ذلك بقوله تعالى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 17-18] قال فاتفق عنهما الروايتان قول ابن عباس وقول عائشة وثبت من قوليهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى ربه بفؤاده وقال وهذا مما لانكير فيه ولا شبهة قلت وأما الأخبار المطلقة عن ابن عباس وأنس وغيرهما من الصحابة والتابعين فكثيرة أيضًا كما رواه ابن خزيمة حدثنا عبد الوهاب بن الحكم الوراق الشيخ الصالح حدثنا هاشم بن القاسم عن قيس بن(7/188)
الربيع عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة واصطفى موسى بالكلام ومحمدًا بالرؤية حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن عاصم عن الشعبي عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه حدثنا إبراهيم بن عبد العزيز المقوم(7/189)
قال حدثنا أبوبحر البكراوي عن شعبة عن قتادة عن أنس ابن مالك قال رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه حدثني عمي إسماعيل بن خزيمة حدثنا عبد الرزاق أنبأنا المعتمر بن سليمان عن(7/190)
المبارك بن فضالة قال كان الحسن يحلف بالله لقد رأى محمد ربه وقال أبوبكر الخلال أنا محمد بن علي الوراق قال ثنا إبراهيم بن هانئ ثنا احمد بن عيسى وقال له أحمد بن حنبل حدثهم به في منزل عمه ثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي(7/191)
هلال أن مروان بن عثمان حدثه عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في المنام في صورة شاب موفَّر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب قال(7/192)
الخلال أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا عبد الله بن وهب فذكره بإسناده عن أم الطفيل أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في المنام في أحسن صورة شابًّا موفرًا رجلاه من خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب ورواه أبوبكر عبد العزيز حدثنا محمد بن سليمان قال حدثنا(7/193)
أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب حدثنا عمي عبد الله بن وهب فذكره بإسناده عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنصاف ساقيه في رجليه نعلان من ذهب وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام وهذه الألفاظ نظير الألفاظ التي في حديث ابن عباس قال الخلال أبوبكر المروذي قال قرئ على أبي عبد الله شاذان حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه فذكر الحديث قلت(7/194)
إنهم يطعنون في شاذان يقولون ما رواه غير شاذان قال بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حماد عن سلمة عن قتادة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي وقال المروذي في موضع آخر قلت لأبي عبد الله فشاذان كيف هو قال ثقة وجعل يثبته وقال في هذا يشنع به علينا قلت أفليس العلماء تلقته بالقبول قال بلى قلت إنهم يقولون إن قتادة لم يسمع من عكرمة قال هذا لايدري الذي قال وغضب وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث بما سمع قتادة من عكرمة فإذا ستة أحاديث سمعت عكرمة حدثنا بهذا المروذي عن أبي عبد الله قال أبو عبد الله قد ذهب من يحسن هذا وعجب من قول من قال لم يسمع وقال سبحان الله هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق وقال يزيد بن حازم رواه حماد بن(7/195)
زيد أن عكرمة سأل عن شيء من التفسير فأجابه قتادة أبنا المروذي حدثني عبد الصمد بن يحيى الدهقان سمعت شاذان يقول أرسلت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل أستأذنه في أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال رأيت ربي قال حدث به فقد حدث به العلماء قال الخلال أبنا الحسن بن ناصح قال حدثنا الأسود بن عامر شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه جعدًا قططا أمرد في حلة حمراء والصواب حلة خضراء(7/196)
ورواه أبو الحافظ أبوالحسن الدارقطني فقال حدثنا عبد الله بن جعفر بن خشيش حدثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا أسود ابن عامر قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه عز وجل شابًّا أمرد جعدًا قططا في حلة خضراء ورواه القطيعي والطبراني قالا حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا الأسود بن عامر قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله(7/197)
صلى اله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء وأما الحديث الذي فيه اختصام الملأ الأعلى فيما رواه الخلال وابن خزيمة وغيرهما من وجوه مشهورة عن الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت أنت أعلم يارب قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت(7/198)
لا أدري يارب قال فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماء والأرض قال وقرأ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) [الأنعام 75] قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت في الكفارات يارب قال قلت وما هن قلت المشي إلى الجماعات وإسباغ الوضوء على المكاره قال فقال لي من يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه ومن الدرجات طيب الكلام وأن تقوم بالليل والناس نيام وقال قل اللهم إني أسألك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب عليَّ وتغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني إليك غير مفتون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن فوالذي نفسي بيده إنهن لحق(7/199)
وقال أبوبكر بن خزيمة روى الوليد حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثنا خالد بن اللجلاج حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت أي ربي مرتين فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات والأرض ثم تلا وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) [الأنعام 75] قال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت في الكفارات يارب قال وما هن قلت المشي إلى(7/201)
الجماعات والجلوس في المساجد وانتظار الصلوات وإسباغ الوضوء على المكاره فقال من فعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه ومن الدرجات إطعام الطعام وطيب الكلام وأن تقوم بالليل والناس نيام وقال اللهم إني أسألك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب علي وتغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن فوالذي نفسي بيده إنهن لحق قال ابن خزيمة حدثنا أبو قدامة وعبد الله ابن محمد الزهري ومحمد بن ميمون المكي قالوا حدثنا الوليد بن مسلم قال الإمام أبو بكر بن خزيمة قوله في هذا الخبر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمٌ لأن عبد الرحمن بن(7/202)
عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة وإنما رواه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحسبه أيضًا سمعه من الصحابي لأن يحيى بن أبي كثير رواه عن زيد بن سلام عن عبد الرحمن الحضرمي عن مالك بن يخامر عن معاذ وقال قال يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم(7/203)
كذلك ثنا أبو موسى محمد بن المثني حدثني أبو عامر عبد الملك بن عمرو حدثنا زهير وهو ابن محمد عن يزيد قال أبو موسى وهو يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله قال ابن خزيمة وجاء قتادة بلون آخر فروى معاذ بن هاشم حدثني أبي عن(7/204)
قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حدثناه بندار وأبو موسى قالا حدثنا معاذ حدثني أبي عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت يا رب لا أدري قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردهما بين ثديي فعلمت ما بين المشرق والمغرب فقال يا محمد قلت لبيك رب وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت يارب في الكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء في المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فمن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه هذا حديث أبي موسى وقال بندار قال أتاني ربي في أحسن صورة وقال قلت في الدرجات والكفارات وقال انتظار الصلاة بعد(7/205)
الصلاة لم يقل الصلوات قال ورواه معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه من طريق معمر ثم قال أبو بكر رواية يزيد وعبد الرحمن ابن يزيد بن جابر أسبه بالصواب حين قالا عن عبد الرحمن بن عائش من رواية من قال عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فإنه قد روى عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام أنه حدثه عبد الرحمن الحضرمي وهو ابن عائش إن شاء الله تعالى حدثنا مالك بن يخامر السكسكي أن معاذ بن جبل قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته فلما صلى دعا بصوته على مصافكم(7/206)
كما أنتم ثم انفتل إلينا فقال إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في مصلاي حتى استثقلت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال يامحمد فقلت لبيك يارب قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا أدري قالها ثلاثًا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال يامحمد فقلت لبيك قال يامحمد قلت لبيك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت في الكفارات قال وما هن قلت مشي على الأقدام إلى الجماعات وجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حين الكريهات قال ثم فيم قال قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة بالليل والناس نيام قال سل فقلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وان تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب مَن(7/207)
أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها حق فتعلموها وادرسوها حدثنا أبوموسى قال حدثنا معاذ بن هانئ حدثنا جهضم بن عبد الله القيسى قال حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاّم أنه حدثه عبد الرحمن الحضرمي قال أبوموسى وهو ابن عائش الحديث على ما أمليته قلت هذه الطريق أتم الطرق إسنادًا ومتنًا وفيها بيان أصل الحديث فإن غيره رواه عن ابن عائش عن(7/208)
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حق فإن الرجل معاذ لكن لم يذكروا الواسطة بينهما وهو مالك بن يخامر وهو من أكابر أصحاب معاذ والأخصاء به ورواه الآخر عن ابن عائش مرسلاً لكن غلطه في ذكر لفظ السماع وهذه رواية أهل الشام بهذا الحديث وهم به أعرف لأن نخرجه من عندهم وأخذه أبوقلابة وكان قد قدم الشام من هذا الشيخ خالد بن اللجلاج لكن وقع تصحيف في اسم ابن عائش بابن عباس فحدَّث به البصريين أسنده عنه تارة وأرساه أخرى ولم يتجاوز به ذلك لأن خالد بن اللجلاج لم يكن يستوفي إسناده بل تارة يذكره عن ابن عياش عن النبي صلى الله عليه وسلم وتارة عنه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن زيد بن سلاّم لما رواه عن ابن عائش أسنده واستوفاه لأنه كان مكتوبًا عنده فهذه الروايات يصدق بعضه بعضًا إذ قد رواه عن كل(7/209)
شخص أكثر من واحد لكن بمجموع الطرق انكشف ما وقع في بعضها من غلط في بعض طريقه قال أبوبكر بن خزيمة وروى معاوية بن صالح عن أبي يحيى وهو عندي سليم بن عامر عن أبي يزيد عن أبي سلام الحبشي أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن(7/210)
النبي صلى الله عليه وسلم أخّر صلاة الصبح حتى أسفر فقال إنما تأخرت عنكم أن ربي قال يامحمد هل تدري فيما يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري يارب فرددها مرتين أو ثلاثًا ثم حسست بالكف بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي ثم تجلى لي كل شيء وعرفت قال قلت نعم يارب يختصمون في الكفارات والدرجات والكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء في الكريهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة والدرجات إطعام الطعام وبذل السلام والقيام بالليل والناس نيام ثم قال يا محمد اشفع تشفع وسل تعط قال فقلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني وأنا غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحبًّا يبلغني حبك حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال ثنا(7/211)
عمي قال حدثنا معاوية قال أبوبكر لست أعرف أبا يزيد هذا بعدالة ولا جرح قال وروى شيخ من الكوفيين يقال له سعيد بن سويد القرشي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن عدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل هذه القصة بطولها فيشبَّه بخبر يحيى بن أبي كثير ثنا محمد بن أبي سعيد بن سويد القرشي كوفي(7/212)
قال حدثني أبي قال أبوبكر بن خزيمة وهذا الشيخ سعيد بن سويد لست أعرفه بعدالة ولا جرح وعبد الرحمن بن إسحاق هذا هو أبوشيبة الكوفي ضعيف الحديث الذي روى عن النعمان بن سعد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم أخبارًا منكرة وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ بن جبل مات معاذ في أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشام قال ابن خزيمة فليس يثبت من هذه الأخبار شيء م عند ذكر عبد الرحمن بن عائش بالعلل التي ذكرناها لهذه الأسانيد ولعل من لم يتبحر العلم يحسب أن خبر بن يحيى بن(7/213)
أبي كثير عن زيد بن سلام ثابت لأنه قيل في الخبر عن زيد أنه حدثه عبد الرحمن الحضرمي ويحيى بن أبي كثير أحد المدلسين لم يخبر أنه سمع هذا من زيد بن سلام قد سمعت الدارمي أحمد بن سعيد يقول حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي عن حسين المعلم قال لما قدم علينا عبد الله بن بريدة بعث إليَّ مطر(7/214)
الوراق احمل الصحيفة والدواة وتعال فحملت الصحيفة والدواة فأتيناه فأخرج إلينا كتاب أبي سلام فقلنا سمعتَ هذا من أبي سلام قال لا قلنا فمن رجل سمعه من أبي سلام قال لا فقلنا له تُحدث بأحاديث مثل هذه لم تسمعها من الرجل ولا من رجل سمعها منه فقال أترى رجلاً جاء بصحيفة ودواة كتب أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه كذبًا هذا معنى الحكاية قال أبوبكر كتب عني مسلم بن الحجاج هذه الحكاية قلت هذا الاختلاف قد ذكره قبل ذلك الإمام أحمد أيضًا فذكر أبوبكر الأثرم في كتاب العلل قال سألت(7/215)
أحمد عن حديث فيه عبد الرحمن بن عائش الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة فقال يضطرب في إسناده لأن معمرًا رواه عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه معاذ بن هاشم عن أبيه عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يوسف بن عطية عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم(7/216)
ورواه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يزيد بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يحيى بن أبي كثير فقال عن ابن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصل الحديث واحد وقد اضطربوا فيه فمن الناس من جعل عن أحمد في تثبيت هذه الأحاديث روايتين كما يذكر التنازع في ثبوتها عن غيره من العلماء قال القاضي أبويعلى في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وظاهر هذا الكلام من أحمد التوقف في طريقه لأجل الاختلاف فيه ولكن ليس هذا مما يوجب تضعيف الحديث على طريقة الفقهاء قال ورأيت في مسائل مُهنَّا بن يحيى(7/217)
الشامي قال سألته يعني أحمد عن حديث رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال أن مروان بن عثمان حدثه عن عمارة عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربَّه في المنام في صورة شاب موفَّر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب فحول وجهه عني وقال هذا حديث منكر وقال ولايعرف هذا رجل مجهول يعني مروان بن عثمان قال القاضي أبويعلى فظاهر هذا التضعيف من أحمد لحديث أم الطفيل قال رأيت بخط أبي بكر الكبشي قال(7/218)
عبد العزيز سمعت الخلال يقول إنما يروى هذا الحديث وإن كان في إسناده شيء تصحيحًا لغيره ولأن الجهمية تنكره قال ورأيت بخط ابن حبيب جوابات مسائل لأبي بكر عبد العزيز قال حديث أم الطفيل فيه وهاءٌ ونحن قائلون به قال القاضي وظاهر رواية إبراهيم بن هانئ يدل على صحته لأن أحمد قال لأحمد بن عيسى في منزل عمه حدِّثهم به ولا يجوز أن يأمره أن يحدثهم بحديث يعتقد ضعفه لاسيما فيما يتعلق بالصفات قال وقد صححه أبوزرعة الدمشقي فيما(7/219)
سمعه من أبي محمد الخلال وأبي طالب العشاري وأبي بكر بن بشر عن علي بن عمر الحافظ وهو الدارقطني فيما خرجه في آخر كتاب الرؤية قال حدثنا محمد بن إسماعيل الفارسي حدثنا أبوزرعة الدمشقي حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث بن سعيد ابن أبي هلال أن مروان بن عثمان أخبره عن عمارة بن عامر(7/220)
عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة قدماه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب قال أبوزرعة كل هؤلاء الرجال معروفون لهم أنساب قوية بالمدينة فأما مروان فهو مروان بن عثمان ابن أبي سعيد بن المعلى الأنصاري وأما عمارة فهو ابن عامر بن عمرو بن حزم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بن الحارث وسعيد ابن أبي هلال فلا يُشك فيهما وحسبك بعبد الله بن وهب محدثًّا في دينه وفضله قال القاضي فظاهر الكلام من أبي زرعة إثباتًا لرجال حديث أم الطفيل وتعريفًا لهم وبيانًا عن عدالتهم قال وهو ظاهر ما عليه أصحابنا لأن أبا بكر الخلال ذكر حديث أم الطفيل في سننه ولم يتعرض للطعن عليه وأخرج إليَّ أبوإسحاق البرمكي جزءًا فيه حكايات عن(7/221)
أبي الحسن بن بشار رواية ابنه أبي حفص عن أبيه أحمد بن إبراهيم قال سألت الشيخ يعني أبا الحسن بن بشار عن حديث أم الطفيل وحديث لبن عباس في الرؤية فقال صحيح فعارض رجل وقال هذه الأحاديث لاتذكر في مثل هذا الوقت فقال له الشيخ فَيَدْرُسُ الإسلام فسكت فقد حكم بصحة الحديث قال وقد يجوز أنه لم يقع لأحمد معرفة مروان بن عثمان في حال ما سأله مهنَّا ثم وقع(7/222)
له معرفة نسبه فيما بعد قال وكتب إليَّ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني بجزء فيه حديث لبن عباس في الرؤية من طرق وكلام أصحاب الحديث عليه فقال أخبرنا الحسين بن على بن سلمة الهمداني ومحمد بن على بن معدي وغيرهم قالوا حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك وحدثنا احمد بن محمد بن عبد الله ابن إسحاق واللفظ له قال حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن الإمام أحمد حدثني أبي(7/223)
قال حدثنا الأسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء قال وأبلغت أن الطبراني قال حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في الرؤية صحيح وقال من زعم أني رجعت عن هذا الحديث بعدما حدثت به فقد كذب وقال هذا حديث رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من التابعين عن ابن عباس وجماعة من تابعي التابعين عن عكرمة وجماعة من الثقات عن حماد بن سلمة قال وقال أبي رحمه الله روى هذا الحديث جماعة من الأئمة الثقات عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس(7/224)
عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أسماءهم بطولها وأخبرنا محمد بن عبيد الله الأنصاري سمعت أبا الحسن عبيد الله بن محمد بن معدان يقول سمعت سليمان بن أحمد يقول سمعت ابن صدقة الحافظ يقول من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق وأخبرنا محمد بن سليمان قال سمعت بندار بن أبي إسحاق يقول سمعت علي بن محمد بن أبان يقول سمعت البراذعي يقول سمعت أبا زرعة الرازي يقول(7/225)
من أنكر حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عيه وسلم رأيت ربي عز وجل فهو معتزلي وسمعت علي بن أحمد بن مهران المديني قال حضرت أبا عبد الله بن مهدي وحضر عندنا جماعة فتذاكروا حديث عكرمة وأنكره بعضهم وكنت قد حفظته فحدثت به بطوله فقام إلى أبو عبد الله وقبل رأسي ودعا لي قال وحدثنا محمد بن محمد بن الحسن قال حدثنا أحمد بن محمد اللخمي سمت محمد بن علي ابن جعفر البغدادي قال سمعت أحمد بن محمد بن(7/226)
هانئ الأثرم يقول سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي الحديث فقال أحمد بن حنبل هذا الحديث رواه الكبر عن الكبر عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن شك في شيء أو في شيء منه فهو جهمي لاتقبل شهادته ولا يسلم عليه ولا يعاد في مرضه قلت في هذه الرواية عن أحمد نظر وأنبأنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن إسحاق حدثنا محمد ابن يعقوب حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال رأيت أبي يصحح هذه الأحاديث ويذهب إليها وجمعها وحدثناها وروى بإسناده عن(7/227)
عبد الوهاب الوراق قال سمعت أسود بن سالم يقول في هذه الأحاديث التي جاءت في الرؤية قال نحلف عليها بالطلاق والعتاق أنها حق قلت قد جعل أحمد حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس الذي فيه في صورة شاب أمرد له وفرة هو الحديث المشهور عن ابن عائش الذي أرسله وأسنده الذي فيه وضع الكف بين كتفيه عن معاذ وفيه التصريح بأنه كان في المنام بالمدينة فإن معاذًا لم يصل خلف النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالمدينة وحديث أم الطفيل المتقدم أيضًا يصرح بأنه كان في المنام وحديث ثوبان مثل حديث معاذ فيه أنه تأخر عن صلاة الصبح وثوبان لم يصل خلفه إلا بالمدينة مع أن السياقين سواء وهذه الأحاديث كلها ترجع إلى هذه الأحاديث الأربعة حديث أم الطفيل وحديث ابن عائش عن معاذ وحديث(7/228)
ثوبان وحديث ابن عباس وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أن أصلها حديث واحد وإن كان لم يذكر حديث ثوبان إما أنه لم يبلغه أو بلغه وذلك حديث قائم بنفسه وكلها فيها ما يُبَيِّن أن ذلك كان في المنام وأنه كان بالمدينة إلا حديث عكرمة عن ابن عباس وقد جعل أحمد أصلهما واحدًا وكذلك قال العلماء قال القاضي أبو يعلى بعد أن ذكر حديث ابن عباس بطرقه وألفاظه مفتتحًا له بحديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة وذكر حديث الحكم بن أبان عن عكرمة وذكر حديث أم الطفيل ثم قال واعلم أنها رؤيا منام لأن أم الطفيل قد صرحت بذلك في خبرها وحديث ابن عباس أكثر ألفاظه مطلقة قال وقد نقل في بعضها صريح بذكر المنام فيما حدثنا أبو القاسم عبد العزيز قال أخبرني أبو بكر أحمد بن جعفر بن مالك في الإجازة(7/229)
قال وقرأته على أبي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني ربي الليلة في أحسن صورة يعني في المنام فقال لي يامحمد أتدري فيم يختصم الملأ العلى قال قلت لا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي وقد قال القاضي في آخر كتابه في فصل جمل الصفات التي ذكرها وما روي في حديث أم الطفيل وابن عباس من الصفات التي رآه عليها في ليلة الإسراء فقوله هنا ليلة الإسراء تناقض منه فإنه قد نص أن الإسراء كان يقظة وأن الرؤية التي كانت في ليلة الإسراء غير هذه الرؤية التي في المنام وأيضًا فهذا الحديث الذي احتج به هو في الحقيقة(7/230)
حديث معاذ كما تقدم من كلام ابن خزيمة وإنما وهم فيه أبو قلابة فقال ابن عباس وإنما هو ابن عائش وليس هذا هو حديث قتادة عن عكرمة فإن ذلك ليس فيه هذا لكن أحمد قد جعل الجميع حديثًا واحدًا في الأصل ولا ريب أن قتادة كان عنده هذا عن عكرمة يطابق لفظهما لفظ حديث أم الطفيل وإن كان فيه زيادات وهو حديث الحكم بن أبان عن عكرمة رواه ابن خزيمة محتجًّا به فقال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق(7/231)
ورواه أبو بكر الخلال في السنة حدثنا يزيد بن جمهور حدثنا الحسن ابن يحيى بن كثير العنبري حدثني أبي حدثنا هارون بن محمد عن محمد بن إسحاق ورواه ابن بطة في الإبانة(7/232)
قال حدثنا أحمد بن محمد الباغندي حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد الله بن أبي(7/233)
سلمة أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعث إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنهما فسأله هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه فأرسل إليه عبد الله بن عباس أن نعم فرد عليه عبد الله بن عمر رسوله أن كيف رآه فأرسل إليه أنه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب يحمله أربعة من الملائكة ملك في صورة رجل وملك في صورة ثور وملك في صورة نسر وملك في صورة أسد زاد ابن بطة بالإسناد عن ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة(7/234)
عن عكرمة عن ابن عباس قال أُنشِد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أمية ابن أبي الصلت رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق وهذا أيضًا رواه ابن(7/235)
خزيمة محتجا به من غير وجه في مسألة العرش وحملته وروى الدارقطني هذه الألفاظ من طرق فقوله في روضة خضراء دونه فراش من ذهب مثل قوله في حديث أم إلى الطفيل قدماه في الخضر على وجهه فراش من ذهب وقوله في لفظ حديث أم الطفيل في صورة شاب ذي وفرة وهذا يناسب قوله في حديث ابن عباس شابا جعدا قططا لكن في هذا زيادة الأمرد والحلة الخضراء وفي حديث أم الطفيل زيادة في رجليه نعلان من ذهب وفي حديث ابن عباس الآخر على كرسي من ذهب وأما ذكر الحملة الأربعة فهؤلاء في أحاديث أخر في اليقظة فهذا مما يحتج به لما ذكره أحمد من أن حديث عكرمة عن ابن عباس أصله أصل حديث أم الطفيل والله أعلم بحقيقة ذلك فإن أحاديث ابن عباس المشهورة عنه في أنه رآه بفؤاده مرتين إنما كان ذلك بمكة فإنه ذكره في تفسير صورة النجم وهي مكية باتفاق العلماء وما روته أم الطفيل ومعاذ إنما هو(7/236)
بالمدينة فحديث عكرمة عن ابن عباس يشبه ألفاظ حديث أم الطفيل يؤيد ذلك أن الأسانيد المتواترة عن ابن عباس إنما فيها إخبار أنه رآه بفؤاده وأنه قال ذلك في تفسير القرآن فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بلفظه عن رؤية ليلة المعراج لم نحتج إلى ذلك ولكان هذا هو الذي يعتمد عليه دون ما تأوله من القرآن ولهذا لم يثبت الإمام أحمد رحمه الله إلا ما ثبت عن ابن عباس مهن رؤيته بفؤاده ومن رواية هذه الأحاديث التي جاءت على الوجه التي جاءت عليها وذلك يدفع قول من أطلق نفي الرؤية ولا يدفع قول من نفى رؤية البصر كما جمع بينهما وقد يقال إن حديث عكرمة عن ابن عباس هو تفسيره للرؤية التي بفؤاده التي كانت بمكة لكن هذه الزيادات التي في حديث عكرمة لا تؤخذ بمجرد تأويل القرآن بل يحتاج إلى توقيف وكذلك الزيادة التي في حديث مسألة ابن عمر لابن عباس(7/237)
وقد تبين بما ذكرناه أن الحديث الذي فيه أتاني ربي في أحسن صورة ووضع يده بين كتفي إنما كان في المنام بالمدينة ولم يكن ذلك ليلة المعراج كما يظنه كثير من الناس وكنت مرة بمجلس فيه طوائف من أصناف العلماء في مجلس ابتداء تدريس لشيخ الحنفية وجرى ذلك هذا الحديث فظنوا أنه كان ليلة المعراج فقلت هذا لم يكن ليلة المعراج فإن هذا كان بالمدينة كما جاء مصرحًا به والمعراج إنما كان بمكة كما قال تعالى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء 1] وهذا مما تواترت به الأحاديث واتفق عليه أهل العلم أن المعراج الذي ذكره الله تعالى في القرآن والذي فيه فرض الصلوات الخمس إنما كان بمكة ولم يكن بعد الهجرة ونفس ما في الحديث بين ذلك فإنه ذكر فيه اختصام الملأ الأعلى في المشي على الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وهذا إنما شرع في المدينة إذ لم تشرع الجمعة بمكة وهذا مما لم يَرْتَبْ فيه العلماء وإنما وقع ذلك في أحاديث ابن عباس الثابتة عنه كحديث عكرمة ونحوه لأن ابن عباس قد ثبت عنه أنه كان يثبت في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربع بفؤاده في مكة كما ذكر ذلك(7/238)
في تفسير صورة النجم وهي مكية باتفاق العلماء قال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب النقض على المريسي ومتبعيه قال وروى المعارض عن شاذان عن حماد بن سلمة بن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال دخلت على ربي في جنة عدن شابًّا جعداً في ثوبين أخضرين قال وليس هذا من الحديث الذي يجب على العلماء نشره وإذاعته في أيدي الصبيان فإن كان منكرًا عند المعارض فكيف يستنكره مرة ثم يثبته أخرى فيفسره تفسيرًا أنكر من الحديث والله أعلم بهذا الحديث وبعلّته غير أني أستنكره جدًّا لأنه يعارضه حديث أبي ذر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أني أراه ويعارضه قول عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وتلت لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ(7/239)
الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فهذا هو الوجه عندنا فيه والتأويل والله أعلم لا ما ادعيت أيها المعارض أن تفسيره إني دخلت على ربي في جنة عدن كقول الناس أتيناك ربنا شعثًا غبرًا من كل فج عميق لتغفر لنا ذنوبنا هذا تفسير محال لا يشبه ما شبهت لأن في روايتك أنه قال رأيته شابًّا جعدًا في ثوبين أخضرين ويقول أولئك أتيناك ربنا شعثًا غبرًا أي قصدنا إليك نرجو عفوك ومغفرتك ولم يقولوا أتيناك فرأيناك شابًّا جعدًا في ثوبين أخضرين لتغفر لنا هؤلاء قصدوا الثواب والمغفرة ولم يصفوا الذي قصدوا إليه بما في حديثك من الحلية والكسوة والمعاينة فلفظ هذا الحديث بخلاف ما فسرت وتفسيرك أنكر من نفس الحديث فافهم واقصر عن شبه هذا الحديث فإن الخطأ كفر وأرى الصواب فيه مصروفًا عنك ومن الأحاديث أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم قالها العلماء ورووها ولم يفسروها ومن فسرها برأيه اتهموه فقد كتب إلى(7/240)
علي بن خشرم أن وكيعًا سئل عن حديث عبد الله بن عمرو الجنة مطوية معلقة بقرون الشمس فقال وكيع(7/241)
هذا حديث مشهور وقد روى فيه يروي فإن سألوا عن تفسيره لم يفسر لهم ويتهم من ينكره وينازعه فيه والجهمية تنكره فلو اقتديت أيها المعارض في مثل هذه الأحاديث الصعبة المشكلة المعاني بوكيع كان أسلم لك من أن تنكره مرة ثم تثبته أخرى ثم تفسره تفسيرًا لاينقاس في أثر ولا قياس عن حزب المريسي والثلجي ونظرائهم ثم لا حاجة لمن بين ظهريك من الناس إلى مثل هذه الأحاديث ثم فسرته تفسيرًا أوحش من الأول فقلت يحتمل أن يكون هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دخلت على ربي في جنة عدن شابًّا جعدًا وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شابًّا في الجنة من أولياء الله وافاه رسوله في جنة عدن فقال دخلت على ربي فقد ادعى المعارض على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرًا عظيمًا أنه دخل الجنة فرأى شابًّا من أولياء الله(7/242)
فقال رأيت ربي ثم قال بعدما فسر هذه التفاسير المقلوبة قال ويحتمل أن يكون هذا من الأحاديث التي وضعتها الزنادقة فدسوها في كتب المحدثين فيقال لهذا المعارض الأحمق الذي تتلعب به الشياطين وأي زنديق استمكن من كتب المحدثين مثل حماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان وشعبة ومالك ووكيع ونظرائهم فيدسوا مناكير الحديث في كتبهم وقد كان أكثر هؤلاء أصحاب حفظ ومن كان منهم من أصحاب الكتب كانوا لا يكادون يُطلعون على كتبهم أهل الثقة عندهم فكيف(7/243)
الزنادقة وأي زنديق كان يجترئ أن يتراءى لأمثالهم ويزاحمهم في مجالسهم فكيف يفتعلون عليهم الأحاديث ويدسونها في كتبهم أرأيتك أيها الجاهل إن كان الحديث من وضع الزنادقة فلم تلتمس له الوجوه والمخارج من التأويل والتفسير كأنك تصوبه وتثبته أفلا قلت أولاً إن هذا من وضع الزنادقة فتستريح وتريح من العناء والاشتغال بتفسيره ولاتدعي في تفسيره على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل الجنة فرأى شابًّا من أولياء الله تعالى فقال هذا ربي غير أنك خلطت على نفسك فوقعت في تشويش وتخليط لاتجد لنفسك مفزعا إلا بهذه التخاليط ولن تجدي عنك شيئًا عند أهل العلم والمعرفة وكلمات لأكثرت من هذا وشبهه وازددت به فضيحة لأن أحسن حجج الباطل تركه والرجوع عنه قال وروى المعارض أيضًا عن عبد الله بن صالح عن(7/244)
معاوية بن صالح عن أبي يحيى عن أبي يزيد عن أبي سلام عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني ربي في أحسن صورة فقال يامحمد فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت لا علم لي يارب فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري فتجلى لي ما بين السماء والأرض فادعى المعارض أن هذا يحتمل أن يأتي ربي من خلقه بأحسن صورة فأتتني تلك الصورة وهي غير الله والله فيها مدبر فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري يعني تلك الصورة التي هي من خلقه والأنامل لتلك الصورة منسوبة إلى الله على معنى أن الخلق كله لله(7/245)
فيقال لهذا المعارض كم تدحض في بولك وترتطم فيما ليس لك به علم أرأيتك إذا ادعيت أن هذه كانت صورة من خلق الله سوى الله أتته فقال هل تدري يامحمد فيما يختصم الملأ الأعلى أفتتاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاب صورة غير الله فقال لها يارب لا أدري فدعاها ربًّا دون الله أم أتته صورة مخلوقة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أتأني ربي إن هذا لكفر عظيم ادعيته على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت صورة تضع أناملها وكفها في كتف النبي صلى الله عليه وسلم فيتجلى له بذلك ما بين السماء والأرض غير الله ففي دعواك ادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقر بالربوبية لصورة مخلوقة غير الله لأن في روايتك أن الصورة قالت له هل تدري يامحمد فقال لها لا يارب وهل يمكن أن تكون صورة مخلوقة قالت له هل تدري يامحمد فقال لها لا يارب وهل ممكن أن تكون صورة مخلوقة تضع أناملها في كتف(7/246)
نبي مثل محمد صلى الله عليه وسلم فيتجلى له بذلك ما بين السماء والأرض أمور لم يكن يعرفها قبل أن تضع تلك الصورة كفها بين كتفيه ويحك لا يمكن هذا جبريل ولا ميكائيل ولا إسرافيل ولا يمكن هذا غير الله فكم تجلب على نفسك من الجهل والخطأ وتتقلد من تفاسير الأحاديث الصعبة ما لم يرزقك الله معرفتها ولا تأمن من أن يجرك ذلك إلى الكفر كالذي تأولت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صورة مخلوقة كلمته فأجابها محمد صلى الله عليه وسلم يارب أم لله صورة لم يعرفها فقال أتاني ربي لما أن الله في تلك الصورة مدبر ففي دعواك يجوز لك كلما رأيت كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا قلت هذا ربي لما أن الله مدبر في صورهم في دعواك وجاز لفرعون أن يقول فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) [النازعات 24] لما أن الله مدبر في صورته بزعمك وهذا أبطل باطل لا ينجع إلا في أجهل جاهل(7/247)
ويلك إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبت إليه لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر إنه لم ير ربه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تروا ربكم حتى تموتوا وقالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وأجمع المسلمون على ذلك مع قول الله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] ويعنون أبصار أهل الدنيا وإنما هذه الرؤيا كانت في المنام وفي المنام يمكن رؤية الله تعالى على كل حال وفي كل صورة وكذلك روى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صليت ماشاء الله من الليل ثم وضعت جنبي فأتاني ربي في أحسن صورة فحين وجد هذا لمعاذ كذلك صرفت الروايات التي فيها إلى معاذ فهذا تأويل هذا الحديث عند أهل العلم لا ما ذهبت إليه(7/248)
من الجنون والخرافات فزعمت أن الله بعث إلى النبي صورة في اليقظة كلمته فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يارب غير أني أظنك لو دريت أنه يخرجك تأويلك إلى مثل هذه الضلالات لأمسكت عن كثير منها غير أنك تكلمت على حد الحوار أمناً من الجواب غارًا أن ينتقد عليك فعثمان بن سعيد قد ذكر ما ذكر عن العلماء أن هذا كان في المنام بالمدينة لم يكن يقظة مع تثبيته لهذه الأحاديث ولم يجعل ذلك الحديث في مكة لأنه كان بالمدينة في المنام إذ قد ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول رآه بفؤاده مرتين ويذكر ذلك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] وهذا إنما كان بمكة فحديث عكرمة ومسألة ابن عمر إما أن يكون من جنس حديث معاذ أم الطفيل كما تدل(7/249)
عليه رواية الأثرم عن أحمد وإما أن يكون من غير هذا الجنس مثل الرؤية التي أخبر ابن عباس أنها كانت بمكة وهذا قول طوائف من العلماء أيضًا وهذا لا يقوله من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه وإنما يقوله من يقول إنه إنما رآه بفؤاده والروايات الثابتة عن ابن عباس في رؤية محمد ربه إما مقيدة بالفؤاد وبالقلب كما روى ذلك مسلم في صحيحه وذهب إليه أحمد في رواية الأثرم وإما مطلقة ولم أجد في أحاديث عن ابن عباس أنه كان يقول رآه بعينه إلا من طريق شاذة من رواية ضعيف لا يحتج بها منفردًا يناقضها من ذلك الوجه ما هو أثبت منها فكيف إذا خالف الروايات المشهورة كما رواه الخلال أنبأنا محمد بن عبد الله بن سليمان(7/250)
الحضرمي حدثنا جمهور بن منصور حدثنا إسماعيل بن مجالد حدثنا مجالد عن الشعبي أن عبد الله بن عباس كان يقول إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده قوله مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) [النجم 17] مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] فسمع كعب الحبر قول ابن عباس فقال أشهد أن في التوراة إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فرآه محمد مرتين ولم يكلمه وكلمه موسى مرتين ولم يره وكان ابن عباس يقول التي في إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) [التكوير 1] إنما عنى بها جبريل إن محمدًا رآه كما رآه في صورته عند الله قد سد الأفق وبه عن(7/251)
مجالد عن الشعبي عن علي أنه كان يقول كما قال ابن عباس فهذه الروايات لو كانت محفوظة عن مجالد لم تكن وحدها حجة فكيف وليست محفوظة عنه وقد خولف قال ابن خزيمة حدثني عمي قال حدثنا عبد الرزاق أبنا ابن عيينة عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث قال اجتمع ابن عباس وكعب فقال ابن عباس إنا بنوهاشم نزعم أو نقول إن محمدًا رأى ربه مرتين قال فكبر كعب حتى جاوبته الجبال فقال إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم فرآه محمد صلى الله عليه وسلم بقلبه وكلمه موسى قال مجالد قال الشعبي فأخبرني مسروق أنه قال لعائشة أي أمتاه هل رأى محمد ربه قط قالت إنك لتقول قولاً إنه ليقف منه(7/252)
شعري قال قلت رويدًا قال فقرأت عليها وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) إلى قوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) [النجم 1-9] فقالت أين يذهب بك إنما رأى جبريل في صورته من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب ومن حدثك أنه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى آخر السورة [لقمان 34] قال عبد الرزاق فذكرت هذا الحديث لمعمر فقال ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس قال أبو بكر بن خزيمة لو كنت ممن استحل الاحتجاج بخلاف أصلي واحتججت بمثل مجالد لاحتججت أن بني هاشم قاطبة قد خالفوا عائشة رضي الله عنها في هذه المسألة وأنهم جميعًا كانوا يثبتون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه مرتين فاتفاق بني هاشم عند من يجيز الاحتجاج بمثل مجالد أولى من انفراد عائشة بقول لم يتابعها عليه أحد من أصحاب(7/253)
محمد يُعلم ولا امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا المبايعات قلت هذه الرواية الثابتة عن مجالد من رواية ابن عيينة عنه ليس فيها إلا أنه رآه مرتين كرواية غير مجالد وقول كعب في هذه الرواية إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فرآه محمد صلى الله عليه وسلم بقلبه وكلمه موسى وذكر ذلك تصديقًا لقول ابن عباس دليل على أن هذه هي رؤية الفؤاد كما جاء مصرحًا به يبين ذلك أن الذي حضر كلام ابن عباس وكلام كعب ورواه لمجالد وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل أحد رجال بني هاشم وأعيانهم كان يقول ذلك كما رواه الخلال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل(7/254)
قال حدثنا حماد عن سالم أبي عبد الله عن عبد الله بن الحارث بن نوفل في قوله تعالى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم تره عيناه وهذه الرواية من رواية ابن عيينة الإمام عن مجالد وقد بين فيها أيضًا أن الشعبي سمع ذلك من عبد الله بن الحارث فتبين أن الرواية الأولى مع ضعف رواتها مرسلة وأن هذه الرواية عن كعب كما رواه ابن خزيمة حدثنا هارون ين إسحاق حدثنا(7/255)
عبده عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن كعب قال إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فرآه محمد مرتين وكلمه موسى مرتين وكذلك ما رواه أبو حفص بن شاهين وذكره القاضي أبو يعلى عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال رأى محمد ربه بعينيه مرتين فهذا لم يذكر إسناده ولم يذكره(7/256)
المعتمدون كابن خزيمة والخلال ونحوهما ممن جمع الآثار في هذا الباب بل قد روى الخلال حديثين من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال رآه بفؤاده دون عينيه وذلك يعارض هذا يبين ذلك أن الروايات المحفوظة عن عكرمة والشعبي إما مقيدة بالفؤاد وإما مطلقة كما روى ابن خزيمة قال حدثنا الحسن ابن محمد الزعفراني قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا إسماعيل بن زكريا عن عاصم عن الشعبي عن(7/257)
عكرمة جميعًا عن ابن عباس قال رأى محمد ربه ورواه بعضهم عن الشعبي وعكرمة جميعًا عن ابن عباس قال ابن خزيمة حدثنا عمي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] قال رآه بقلبه وقال الخلال حدثنا إبراهيم(7/258)
التيمي حدثنا آدم قال حدثنا المبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) رأى محمد ربه بفؤاده وبه حدثنا المبارك عن الحسن مثله فإن قيل فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا(7/259)
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس والشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم وفي رواية عنه ليس برؤيا منام قيل ليس في هذا الخبر أنه رأى بعينه إلا ما أراه الله إياه والقرآن قد صرح بأنه أراه من آياته ما أراه لقوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء 1] وقال في النجم لَقَدْ(7/260)
رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] يدل على ذلك أن الله أخبر أنه ما جعل هذه الرؤيا إلا فتنة للناس وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بها كان ذلك محنة لهم منهم من صدقه ومنهم من كذبه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم أنه رأى ربه بعينه تلك الليلة وقد قال الإمام أبو بكر بن خزيمة بعد أن أثبت رؤية محمد ربع بقول ابن عباس وأبي ذر وأنس قال وقد اختلف عن ابن عباس في تأويل قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] فروى بعضهم عنه أنه كان يقول رآه بفؤاده وذكر إسناده ثم قال احتج بعض أصحابنا بهذا الخبر أن ابن عباس وأبا ذر كانا يتأولان هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده لقوله تعالى بعد ذكر ما بينا فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 10-11] وتأول(7/261)
قوله تعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) إلى قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 8-10] أن النبي صلى الله عليه وسلم دنا من خالقه قاب قوسين أو أدنى وأن الله أوحى إلى النبي ما أوحى وأن فؤاد النبي لم يكذب ما رآى يَعنون رؤيته خالقه جل وهلا قال أبوبكر وليس هذا التأويل الذي تأولوه لهذه الآية بالبين وفيه نظر لأن الله تعالى إنما أخبر في هذه الآية أنه رأى من آيات ربه الكبرى ولم يُعلم الله في هذه الآية أنه رأى ربه عز وجل وآيات ربنا ليس هو ربنا قال واحتج آخرون من أصحابنا في الرؤية بحديث ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به(7/262)
قال وليس الخبر أيضًا بالبين إن ابن عباس أراد بقوله رؤيا عين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه فأما خبر قتادة والحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس وخبر عبد الله بن أبي سلمة عن ابن عباس فبين واضح أن ابن عباس كان يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه يعني حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والتكليم لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم(7/263)
وقد احتج أبو إسماعيل الأنصاري الهروي شيخ الإسلام في كتاب الأربعين فقال باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج بعينيه رؤية يقظة واحتج بحديث ابن عباس هذا مع أنه رواه بأسانيد أكثرها من كتاب ابن خزيمة ولا حجة فيه على ذلك كما تقدم والقاضي أبو يعلى ذكر ما تقدم نقله عنه أنه قال اختلفت الرواية عن أحمد في رؤية محمد ربه هل رآه بعينه أو بفؤاده أو يقال رآه ولا يُقيد على ثلاث روايات قلت وقد ذكرنا ألفاظ أحمد التي ذكرها وسقناها بتمامها وتبين بذلك أن كلام أحمد ليس بمختلف بل كلام(7/264)
أحمد نظير كلام ابن عباس رضي الله عنهما تارة يُقيد الرؤية بالقلب وتارة يطلقها ثم قال القاضي والرواية الأولى أصح وأنه رآه في تلك الليلة بعينيه وهذه مسألة وقعت في عصر الصحابة فكان ابن عباس وأنس وغيرهما يثبتون رؤيته في ليلة المعراج وكانت عائشة تنكر رؤيته بعينه في تلك الليلة قال والدلالة على إثبات رؤيته تعالى قوله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] فوجه الدلالة أنه تعالى قسَّم تكليمه لخلقه على ثلاثة أوجه أحدها بإنفاذ الرسل وهو كلامع لسائر الأنبياء والمكلفين والثاني من وراء حجاب وهو تكليمه لموسى وهذا الكلام بلا واسطة لأنه لو كان بواسطة دخل تحت القسم الأول الذي ذكرنا وهو إنفاذ الرسل والثالث من غير رسول ولا حجاب وهو كلامه لنبينا في ليلة الإسراء إذ لو كان من وراء حجاب أو كان رسولاً دخل تحت القسمين ولم يكن للتقسيم فائدة فثبت أنه كان كلامه له عن رؤية(7/265)
قلت هذه الحجة أخذها القاضي أبو يعلى من أبي الحسن الأشعري ونحوه فإنهم احتجوا بها على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهذه حجة داحضة فإن هذا خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون في تفسير الآية الكريمة وأيضًا فإن الله أخبر بأنه ما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ على هذه الوجوه الثلاثة فلو كان المراد بذلك أنه يكلم تارة مع المعاينة وتارة مع الاحتجاب وتارة بالمراسلة لم يكن لهذا الحصر معنى ولم يكن فرق بين الله تعالى وبين غيره في ذلك ولم يكن نفى بهذا الحصر شيئًا فإن المكلم من البشر إمَّا أن يعاينه المخاطب أو لا يعاينه وإذا لم يعاينه فإما أن يخاطبه بنفسه أو رسوله فلو كان المراد ما ذكر لزم هذه المحاذير وأيضًا فإن وقوله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى 51] دليل على أن القسم الأول هو الوحي الذي يحيه إلى قلوب الأنبياء بخلاف التكليم من وراء حجاب فإنه يكون بصوت مسموع كما خاطب موسى عليه السلام فمن سوّى بين تكليم الوحي وتكليمه من وراء حجاب فجعل الجميع(7/266)
بصوت حتى جعل الأول تقترن به الرؤية فهو بمنزلة من سوّى بينهما حتى جعل الجميع بلا صوت وأيضًا فإن تكليمه وحيًا دون تكليمه لموسى عليه السلام من وراء حجاب كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فلو كان ذلك معاينة لكان أرفع منه وهذا لم يقله أحد من السلف ومن زعم ذلك من أهل الإثبات فهو نظير من زعم ذلك من الجهمية الاتحادية وغيرهم ممن يزعم أن الله تعالى يخاطبهم وحيًا في قلوبهم أعظم مما خاطب موسى بن عمران من وراء حجاب الحروف والأصوات والشجرة ونحو ذلك وكل هذا باطل وتحريف وعائشة احتجت بهذه الآية على منع رؤية محمد ربه ولم يقل(7/267)
لها أحد إن الآية تثبت رؤية محمد بل احتاجوا إلى الجواب ثم قال القاضي ويدل عليه قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 10] أي كلمه بما كلمه بلا واسطة ولا ترجمان مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] فالظاهر يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الله تعالى بعيني رأسه ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لم يكذب فؤاده ما رآه بعيني رأسه وهذا قد احتج به غير القاضي لكن يقال قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] لم يذكر المرئي وقد قال بعده لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] وحديث ابن مسعود وعائشة في الصحيحين يخبرُ فيه برؤية جبريل قال القاضي ويدل عليه ما حدثناه أبو القاسم عبد العزيز(7/268)
حدثنا على بن عمر بن على أبو الحسن التمار حدثنا أبو بكر عمر بن أحمد بن أبي نعمر الصفّار حدثنا يوسف بن أحمد ابن حرب بن الحكم الأشعري البصري حدثنا روح بن عبادة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) قال رأيت ربي عز وجل مشافهة لاشك فيه وفي قوله عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) قال رأيته عند سدرة المنتهى حتى تبين له نور وجهه قلت هذا الحديث كذب موضع على رسول الله(7/269)
صلى الله عليه وسلم بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والقاضي لم يعلم أنه موضوع ورواه له أبو القاسم الأزجي فيما خرجه في الصفات وأبو القاسم ثقة لكن الكذب فيه ممن فوقه ولم يحدث بهذا روح بن عبادة ولا أبو الزبير أصلاً وأهل الحديث يعلمون ذلك ولا يصلح أن يكون هذا اللفظ من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المشافهة إنما تُقال في المخاطبة لا في الرؤية فيقال يخاطبه مشافهة كما قال من قال من السلف كلم موسى تكليمًا أي مشافهة لايقال في الرؤية مشافهة فإن المشافهة في الأصل مفاعلة من الشفة التي هي فينا محل الكلام وأما الرؤية فيقال فيها مواجهة ومعاينة فيشتق لها من الوجه والعين الذي تكون به الرؤية وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود في تفسير هذه الآية غير هذا ففي صحيح مسلم عن مسروق قال كنت متكئًا عند عائشة(7/270)
رضي الله عنها فقالت ياأبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت ماهن قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال وكنت متكئًا فجلست فقلت يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] فقالت أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو جبريل لم يره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رآه منهبطًا من السماء عظم خلقه ما بين السماء والأرض الحديث وفي الصحيحين عن عبد الله ابن مسعود في قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح(7/271)
ثم قال القاضي وروى أبو بكر الخلال عن عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال وهي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وهذا الحديث صحيح رواه البخاري وغيره كما تقدم لكنه لا يدل على رؤية الرّب تعالى ولهذا لم يذكره الخلال في أحاديث رؤية محمد ربَّه إنما ذكره قبل ذلك في أحاديث الإسراء فإنَّه قال تفريع ما ردّت الجهمية الضُّلال من فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من فضائل ذكر الإسراء والرؤية وغير ذلك ثم قال ذكر الإسراء أخبرنا المرّوذي قال قلت لأبي عبد الله فحكى عن موسى عن عقبة أنه قال إنَّ أحاديث الإسراء منام فقال أبوعبد الله هذا كلام الجهمية وجمع أحاديث(7/272)
الإسراء وأعطانيها وقال منام الأنبياء وحي وقرأ عليه سفيان قال عمرو سمعت عبيد بن عمير يقول رؤيا الأنبياء وحي قال وأخبرني حمدويه الهمداني حدثنا محمد بن أبي عبد الله الهمداني حدثنا أبوبكر بن موسى عن يعقوب بن يختان قال سألت يعني أبا عبد الله عن(7/273)
المعراج فقال رؤيا الأنبياء وحي قال وأخبرني عليّ بن عيسى أنَّ حنبلاً حدثهم قال سمعت أبا عبد الله وسألته فقال الجنَّة والنَّار قد خلقتا وفي هذا حجة أن رؤيا الأنبياء في الأحلام رأي العين وليس حلمهم كسائر الأحلام قال الخلال أخبرنا الحسن بن أحمد الكرماني حدثنا أبوبكر قال حدثنا أبوأسامة عن(7/274)
سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [يوسف 4] قال كانت الرؤيا فيهم وحيًا حدثنا الحسن بن سلام حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن سماك عن سعيد عن ابن عباس في قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا قال كانت رؤيا وحياً أخبرنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن(7/275)
عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وذِكرُ الخلاّل لهذا مع هذه الأحاديث قد يقال إنما ذكره لقول أحمد رؤيا الأنبياء في الأحلام رأي عين وليس حلمهم كسائر الأحلام وإن قوله رأي عين لاينفي أن يكون في المنام لأنَّ في الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه ولهذا كان لا يتوضأ إذا نام(7/276)
وكذلك فعل أبوبكر بن أبي عاصم في كتاب السنة له فإنه قال باب ما ذكر في رؤية نبينا ربه تبارك وتعالى في منامه ثم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي أنها عنده رؤية عين وأنها في المنام ثمَّ روى حديث سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت رؤيا الأنبياء وحيًا وروى عن مصعب بن سعد عن(7/277)
معاذ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في نومه وفي يقظته فهو حق قال الخلال حدثنا المرّوذي قال قُرئ على أبي عبد الله عبد الله بن الوليد حدثنا سفيان في قوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء 1] قال أسري به من شِعب أبي طالب ثم روى الخلال من(7/278)
غير وجه عن سعيد عن قتادة عن أنس قال لمّا أُتيَ النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق استصعب عليه فقال له جبريل ما ركبك آدميّ أكرم على الله تعالى منه فارفضّ عرقًا وأقرّ ثم روى الخلال حديث أبي عمرو وعن أبي سعيد قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة فقلنا حدثنا بليلة أسري بك فقال أُتِيتُ بدابَّةٍ هي أشبه الدوابّ بالبغل غير(7/279)
أنها مضطربة الأذنين يقال لها البراق وهو الذي يُحمَلُ عليه الأنبياء وهو يضع حافره حيث يبلغ طرفه وحُملتُ عليه من مسجد الحرام متوجهًا إلى المسجد الأقصى قال الخلال وذكر الحديث فهذا جملة ما ذكره الخلال ومقصوده به تثبيت الإسراء وأنَّه حق وأنَّه من صغّر أمره بقوله هو منام وجعله بذلك من جنس منامات الناس فهو جهميٌّ ضالٌّ ثم قال الخلال بعد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم رأيتُ ربي فذكر أحاديث الرؤية ولم يذكر فيها حديث ابن عباس المتقدم في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ فدل الخلال بذلك على أنَّ حديث ابن عباس هذا لم يقصد به نفس رؤية محمد ربه وإنما هو ما رآه ليلة المعراج مطلقًا فالمطلق يحتمل رؤية محمدٍ ربه لكن فرق بين ما يحتمله اللفظ وبين ما يدلّ عليه(7/280)
وقول الإمام أحمد هذا قول الجهمية لأنّ أحاديث المعراج تدلُّ على أنَّ الله فوق وغير ذلك مما تنكره الجهمية ويدفعون ذلك بأنَّ أحاديث المعراج منام فقال أحمد منام الأنبياء وحي وذلك يفيد أن ماذكر فيه منها أنه في المنام كحديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس وكذلك لو قدر أن جميعها منام فإن ذلك لا يوجب أن يُشبه برؤيا غير النبي صلى الله عليه وسلم لأن رؤياه وحي وهو تنام عينه ولاينام قلبه كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث شريك فإن لفظه الذي في الصحيح عن أنس قال ليلة أسري برسول الله(7/281)
صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم أيهم هو فقال أوسطهم هو خيرهم فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولاينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولاتنام قلوبهم وإذا كان كذلك كان هذا بمنزلة المغمض العين إذا تجلى لقلبه حقائق الأسباب وعرج بروحه إلى السماء وعاينت الأمور فهذا ليس من جنس منامات الناس وهو يقظة لا منام قال القاضي وروى أبوالقاسم عبيد الله بن أحمد بن(7/282)
عثمان فيما خرجه من أحاديث الصفات بإسناده عن ابن عباس قال كانت الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين قلت وهذا صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدم قال وروى أبو حفص بن شاهين في سننه بإسناده عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بفؤاده مرتين وهو الذي اتبعه أحمد واحتج به عن ابن عباس كما تقدم(7/283)
وأما هذا التقييد فمن وضع بعض المتأخرين قال القاضي وروى أبو حفص بإسناده عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بفؤاده مرتين وروى أيضًا بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه بقلبه قال القاضي وهذا الاختلاف عنه ليس براجع إلى ليلة المعراج وإنما هو راجع إلى رؤيته في المنام في غير تلك الليلة رآه بقلبه على ما نبينه فيما بعد قلت هذه الألفاظ المتأخرة ثابتة في الصحيح عن ابن عباس وهو ذكرها في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] ولم يقل ابن عباس إن الرؤية بفؤاده كانت في المنام بل تكون في اليقظة(7/284)
ثم قال القاضي وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة لأن قول ابن عباس يطابق قول النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته تلك الليلة ولأنه مثبت والمثبت أولى من النافي ولا يجوز أن يثبت ابن عباس ذلك إلاّ عن توقيف إذ لا مجال للقياس في ذلك قلت أما ترجيحه قول ابن عباس بأنه مثبت وبأن ذلك لا يقال إلاّ عن توقيف فهو من الترجيح القديم الذي يحتج به مثبت رؤية محمد صلى الله عليه وسلم من الأئمة وسائر أهل الحديث ولا ريب أن المثبت أولى من النافي فـ يـ ما كان من باب الرواية كما قدم الناس رواية بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت على قول أسامة(7/285)
إنه لم يصل وقد قالوا هذا لا يقال بالقياس وإنما يقال بالتوقيف فيكون من باب الرواية لكن قد يقال ونفي ذلك أيضًا لايؤخذ بالقياس وإنما يقال بالتوقيف فإن كون رؤية محمد ربه وقعت أو لم تقع هو من الأخبار التي لا تُعلم بمجرد القياس وعائشة رضي الله عنها لما نفت ذلك لم تستند مع استعظام ذلك أن تكون في الدنيا إلاّ إلى ما تأولت من الآيتين وابن عباس ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] فكلامه أيضًا كان في تأويل القرآن وأما الأحاديث التي رواها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي فقد ذكر القاضي ذلك لما ذكر تلك الأحاديث وأما ما احتج به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته تلك الليلة فإنه لم يعتمد في ذلك إلاّ على الحديث الذي ذكر هذا كله في الكلام عليه وهو(7/286)
الحديث الذي سنذكره إن شاء الله مما رواه الخلال عن أبي ثعلبة عن أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قال فوضه يده حتى وجدت فذكر كلمة ذهبت عني قال ثم قال فيم يختصم الملأ العلى وذكر الخبر قال القاضي أعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصول أحدها في إثبات ليلة الإسراء وصحتها والثاني في إثبات رؤيته لله تعالى تلك الليلة والثالث في وضع الكف بين كتفيه الرابع في إطلاق تسمية الصورة عليه والخامس قوله لا أدري لما سأله فيم يختصم الملأ الأعلى ثم تكلم على ذلك قلت الإسراء وإن كان حقًّا ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم قد جاءت بها آثار ثابتة وهذا الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه بالمدينة(7/287)
في المنام لكن هذا الحديث بهذا اللفظ المذكور في ليلة الإسراء من الموضوعات المكذوبات كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وإنما ذكر أن ربه أتاه في المنام وقال له هذا ووضع يده بين كتفيه بالمدينة في منامه ولهذا لم يحتج أحد من علماء الحديث بهذا بل رووه للاحتجاج ولم يثبتـ ـه أحد في الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث كما بيناه فتبين أن القاضي ليس معه ما اعتمد عليه في رواية اليقظة إلاّ قول ابن عباس وآية النجم وقول ابن عباس قد جمعنا ألفاظه فأبلغ مايقال لمن يثبت رؤية العين أن ابن عباس أراد بالمطلق رؤية العين لوجوه أحدها أن يقال هذا المفهوم من مطلق الرؤية والثاني لأن عائشة قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه(7/288)
فد أعظم على الله الفرية وتأولت قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقوله وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا [الشورى 51] وذلك إنما ينفي رؤية العين فعلم أنها فهمت من قول من قال إن محمدًا رأى ربه رؤية العين الثالث أن في حديث عكرمة أليس يقول الرب تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فقال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لايدركه شيء ومعلوم أن هذه الآية إنما يعارض بها من يثبت رؤية العين ولأن الجواب بقول ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء يقتضي أن الإدراك يحصل في غير هذه الحال وان ما أخبر به من رؤيته هو من هذا الإدراك الذي هو رؤية البصر وأن البصر أدركه لكن لم يدركه في نوره الذي هو نوره الذي إذا تجلى فيه لم يدركه شيء وفي هذا الخبر من رواية ابن أبي داود أنه سُئل ابن(7/289)
عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قال وكيف رآه قال في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ كأن قدميه في خضرة فقلت أنا لابن عباس أليس في قوله لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وهذا يدل على أنه رآه وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم فيقتضي أنها رؤية عين كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء الوجه الرابع أن في حديث عبد الله بن أبي سلمة أن عبد الله بن عمر أرسل إلى عبد الله بن عباس يسأله هل رأى محمد ربه فأرسل إليه عبد الله بن عباس أي نعم فرد عليه(7/290)
عبد الله بن عمر رسوله أن كيف رآه فأرسل إليه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب تحمله أربعة من الملائكة كما تقدم وكون حملة العرش على هذه الصورة أربعة هو كذلك الوجه الخامس أنه ذكر أن الله اصطفى محمدًا بالرؤية كما اصطفى موسى بالتكليم ومن المعلوم أن رؤية القلب مشتركة لا تختص بـ محمد كما أن الإيحاء لا يختص بـ موسى ولا بد أن يثبت لمحمد من الرؤية على حديث ابن عباس مالم يثبت لغيره كما ثبت لموسى من التكليم كذلك وعلى الروايات الثلاث اعتمد ابن خزيمة في تثبيت الرؤية حيث قال(7/291)
باب ذكر الأخبار المأثورة في إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خالقه العزيز العليم المحتجب عن أبصار بريته قبل اليوم الذي يجزي الله كل نفس ما كسبت وذكر اختصاص الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرؤية كما خص إبراهيم عليه السلام بالخُلَّة من بين جميع الرسل والأنبياء جميعًا وكما خص نبيه موسى بالكلام خصوصية خصه الله بها من بين جميع الرسل وخص الله كل واحد منهم بفضيلة وبدرجة سنية كرمًا منه وجودًا كما أخبرنا عز وجل في محكم تنزيله في قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة 253] ثم اشتمل حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم(7/292)
والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين وذكر حديث الحكم عن عكرمة الذي فيه صورة شاب وذكر احتجاج بعض أصحابه بما روي عن أبي ذر وابن عباس في تفسير قوله في سورة النجم واحتجاج بعضهم بقول ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] أنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال وليس الخبر بالبين أيضًا إن ابن عباس أراد بقوله رؤيا عين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربع بعينه لست أستحل أن أحتج(7/293)
بالتمويه ولا أستجيز أن أموه على مقتبسي العلم فأما خبر قتادة والحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس وخبر عبد الله بن أبي سلمة عن ابن عباس فبين واضح أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهذا من كلامه يقتضي أنه اعتمد هذه الطرق وأنها تفيد رؤية العين لله التي ينزل عليها قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] ويدل على ذلك حديث حماد ابن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي وحديث الحكم عن عكرمة في حكم المرفوع أيضًا لأنه ذكر خبر الرؤية على وجه لا يعلم بالرأي ولا بتأويل القرآن وكذلك حديث ابن أبي سلمة عن ابن عباس أخبر فيه بأمور لاتُعلم من تفسير القرآن وعلى هذا فيكون خبر عكرمة عن ابن عباس ونحوه روية عين كما يذهب إلى ذلك طوائف من أهل الحديث ومع هذا فقد روي بهذا الإسناد بعينه عن عكرمة ما يبين أن(7/294)
رؤية الآخرة على وجه آخر وقال في هذه الرواية ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء وروى عبد الرحمن حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة في قوله عزوجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) [القيامة 22-23] قال مسرورة فرحة إلى ربها ناظرة قال عكرمة انظر ماذا أعطى الله عبده من النور(7/295)
في عينيه أن لو جعل الله جميع من خلق الله من الإنس والجن والدواب والطير وكل شيء من خلق الله فجعل نور أعينهم في عين عبد من عباده ثم كشف عن الشمس سترًا واحدًا ودونها سبعون سترًا ما قدر أن ينظر إلى الشمس والشمس جزء من سبعين جزءًا من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءًا من نور العرش والعرش جزءًا من سبعين جزءًا من نور الستر فانظر ماذا أعطى الله تعالى عبده من النور في عينيه أن النظر إلى وجه ربه الكريم عيانًا لكن قال الحافظ أبو عبد الله بن منده الوجه الرابع ما رواه الإمام أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة حدثنا فضل بن(7/296)
سهل حدثنا عمرو بن طلحة القناد حدثنا أسباط عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) قال إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل فقال له رجل أليس قد قال لاتدكه الأبصار وهو يدرك الأبصار فقال له عكرمة أليس ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى وهذا مروي من وجوه أخرى فلهذا ترجم أبو بكر بن أبي عاصم باب ما ذكر في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه(7/297)
فروى حديث شعبة عن قتادة عن عكرمة عن أنس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه تبارك وتعالى وروى حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس هذا وروي حديث عاصم عن الشعبي وعكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه وروى حديث عكرمة عن ابن عباس أن الله اصطفى إبراهيم بالخلة واصطفى(7/298)
موسى بالكلام واصطفى محمدًا بالرؤية وروى حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس الذي فيه ذلك إذا تجلى بنوره واختصره وقال فيه كلام يعني كلامًا لم يذكره وروى من حديث عن جابر بن زيد عن عطاء بن أبي رباح عن عكرمة عن ابن عباس في قوله ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(7/299)
قال هو محمد دنا فتدلى إلى ربه عز وجل وروى حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة وروى حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن شيء قال عن أي شيء كنت تسأله قال كنت أسأله هل رأيت ربك فقال سألته فقال نور أني أراه وحديث هشام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية(7/300)
لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم إنه ذكر رؤية الله في الآخرة ثم ذكر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المنام فعلم أن أحاديث ابن عباس عنده في اليقظة لكن لم يقل بعينيه فاحتجاج المحتج بهذه الآية وجوابه بقوله ألست ترى السماء قال بلى قال فكلها ترى دليل على أنه أثبت رؤية العين وقد يقال بل أثبت رؤية القلب ورؤية النبي بقلبه كرؤية العين كما تقدم ذكر هذا من كلام الإمام أحمد وغيره فلم يكن كلام ابن عباس مختلفًا وتكون هي رؤية يقظة بقلبه والذي يدل على الجزم بهذا الوجه أن هذه من رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس وقد روى ابن خزيمة والطبراني وغيرهما م حديث إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11](7/301)
قال رآه بقلبه قال ابن خزيمة حدثنا عمي حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل وقال الطبراني حدثنا يوسف القاضي حدثنا محمد بن كثير حدثنا إسرائيل فذكره يبين ذلك ما رواه الترمذي في جامعه في تفسير سورة والنجم فروى حديث ابن عيينة عن مجالد عن الشعبي قال لقي ابن عباس كعبًا فعرفه فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال فقال ابن عباس إنا بني هاشم(7/302)
نزعم أنَّ محمدًا رأى ربه فقال كعب إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين قال مسروق فدخلت على عائشة فقلت هل رأى محمد ربه فقالت لقد قفَّ شعري مما قلت قلت رويدًا ثم قرأت لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) قالت أين يُذهب بك إنما هو جبريل من أخبرك أنَّ محمدًا رأى ربه تعالى أو كتم شيئًا مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ الآية [لقمان 34] فقد أعظم على الله الفرية ولكنه رأى جبريل لم يره على صورته إلاّ مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سدّ الأفق(7/303)
قال أبو عيسى وقد روى داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا الحديث وحديث داود أنص من حديث مجالد وروى الترمذي مثل ذلك عن الشيباني قال وسألت زرّ بن حبيش عن قوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فـ ـقال أخبرني ابن مسعود أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب(7/304)
صحيح ثُمَّ روى الترمذي فقال حدثنا محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان البصري حدثنا يحي بن كثير العنبري حدثنا سلم بن جعفر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه قلت أليس الله يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال ويحك ذاك نوره إذا تجلى بنوره الذي هو نوره وقد رأى محمد ربه مرتين قال أبوعيسى هذا حديث حسن(7/305)
غريب من هذا الوجه قلت وقد روى أبوبكر بن أبي عاصم هذا الحديث في كتاب السنة عن هذا الشيخ كما رواه الترمذي عنه إلى آخره قال وقد رأى محمد ربه مرتين وفيه كلام أراد ابن أبي عاصم أنَّ الحديث فيه كلام آخر وهذا هو الكلام الذي تقدمت الإشارة إليه أنه قال رآه دونه ستر من لؤلؤ كما ذكرنا فإن هذه الزيادة كانوا يروونها وتارة يتركونها كما تركها ابن خزيمة والترمذي وابن أبي عاصم وهكذا قال ابن أبي عاصم لما روى حديث شاذان فقال حدثنا(7/306)
أحمد بن محمد المروذي حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي عز وجل قال ثمَّ ذكر كلامًا وقد تقدم ذكر هذا الكلام من رواية غيره وروى هذا الحديث من الوجه الآخر الذي ذكره أحمد فقال حدثنا فضل بن سهل حدثنا عفان قال حدثنا عبد الصمد بن كيسان عن(7/307)
حماد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي عز وجل لم يزد ابن أبي عاصم على هذا والحديث معروف بطوله والمقصود هنا أن قول ابن عباس رآه مرتين أجاب فيه بقوله ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء لما سئل عن قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وهذا يقتضي أنَّ المرتين رؤية عين مع أنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه رآه بفؤاده مرتين ذكره أيضًا في تفسير الآية وهذا يقوي أن تكون رؤية الفؤاد عنده رؤية العين للأنبياء خصوصًا لا لغيرهم وحين عورض بهذه الآية أجاب عنها وعلى هذا فتتفق أقوال ابن عباس وهو أشبه ثم روى الترمذي حديث محمد بن عمرو عن أبي(7/308)
سلمة عن ابن عباس في قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) [النجم 13-15] فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 9-10] قال ابن عباس قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال أبوعيسى هذا حديث حسن ثم روى حديث يزيد بن إبراهيم التستري عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذرّ لو أدركت النبي صلى الله عليه وسلم سألته فقال عما كنت تسأله قال كنت أسأله هل رأى محمد ربه فقال قد سألته فقال نُورٌ أنَّى أرَاهُ قال أبو عيسى هذا حديث حسن ثُمَّ روى من حديث(7/309)
إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض قال أبوعيسى هذا حديث حسن صحيح قلت فأمَّا إثباته الرؤية بسورة والنجم فقد نوزع فيه(7/310)
أيضًا وأما أبوذر فقد تقدم قوله رآه بفؤاده ولم يره بعينه وأمَّا أنس بن مالك فقد روى من حديث شعبة عن قتادة عن أنس قال رأى محمد ربه ورواه ابن خزيمة فقال حدثنا إبراهيم بن عبد العزيز المقوم حدثنا أبو بحر البكراوي عبد الرحمن بن عثمان عن شعبة وكذلك رواه ابن أبي عاصم حدثنا عمرو بن عيسى الضبعي حدثنا أبوبحر البكراوي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن محمدًا قد رأى ربه تبارك وتعالى وكذلك رواه الطبراني فقال حدثنا زكريا السَّاجي حدثنا عمرو بن عيسى(7/311)
الضبعي حدثنا أبوبحر البكراوي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال رأى محمد ربه فمداره على أبي بحر عن شعبة وفي مفرده نظر يحتمل أن يكون اشتبه عليه ذلك ببعض أحاديث قتادة في هذا الباب فإنه روى عن عكرمة وغيره ذكر الرؤية وإلاَّ فانفراده من بين أصحاب شعبة ريبة تُوجبُ نظرًا وقد روى الطبراني في السنة في باب رؤية محمد ربه في قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 10] حدثنا محمد بن علي الصائغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا(7/312)
الحارث بن عبيد أبوقدامة الإيادي عن أبي عمران الجَوني عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت النور الأعظم ولط دوني الحجاب رفرفة الدُّر والياقوت فأوحى الله إليَّ ما شاء أن يوحي قال حدثنا يوسف القاضي حدثنا المقدمي حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس وأبي ذر في(7/313)
قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 10] قالا عبده محمد صلى الله عليه وسلم فإن قيل فقد روى الخلال حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا أبو داود المباركي حدثنا حماد بن دليل عن سفيان بن سعيد عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب(7/314)
أو عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما كنت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا أدري قال فوضع يده حتى وجدت فذكر كلمة ذهبت عني قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت في الكفارات والدرجات قال وما الكفارات قلت إسباغ الوضوء في المسرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال وما الدرجات قلت إطعام الطعام وإفشاء السلام وصلاة بالليل والناس نيام قال(7/315)
قل قلت وما أقول قال قل اللهم إني أسألك عملاً بالحسنات وترك المنكرات وإذا أردت في قوم فتنة وأنا فيهم فاقبضني إليك غير مفتون وقد ذكر القاضي أبو يعلى هذا الحديث في كتاب إبطال التأويل أو ل ما ذكر من أحاديث هذا الجنس الذي فيه رؤيته في أحسن صورة وأثبت ذلك يقظة وتكلم عليه كما تكلم على غيره من الأخبار فأبطل التأويل إذ المتأولون كالمريسي وذويه وابن فورك ونحوه يجعلون هذا في اليقظة ويتأولونه كما(7/316)
فعله المؤسس قيل هذا الحديث كذب موضوع على هذا الوجه بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث ولهذا لم يذكره الإمام أحمد فيما ذكره من أخبار هذا الباب ولا أحد من أصحابه الذين أخذوا عنه لا فيما يصححون ولا فيما عللوه وكذلك ابن خزيمة لم يذكره لا فيما صححه ولا فيما علله ولا رووه الأئمة الذين جمعوا في كتب السنة أحاديث الباب كابن أبي عاصم والطبراني وابن منده وغيرهم لأنه من الموضوعات التي لا يجوز ذكرها لمن علم بها إلاّ أن يبين أنها موضوعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وهذا الحديث من أبطل الباطل عن سفيان الثوري(7/317)
والحسن بن صالح بن حي لم يأت به عنهما أحد من أصحابهما مع كثرتهم واشتهارهم وأيضًا فأحاديث المعراج قد رواها أهل الصحيح من حديث مالك بن صعصعة وأبي ذر وأنس وابن عباس وأبي حبة الأنصاري ورواه أهل السنن والمسانيد من وجوه(7/318)
أخرى وليس في شيء منها هذا مع توفر الهمم والدواعي على ضبط ذلك لو كان له أصل وهذا التأويل يوجب العلم ببطلان هذا وأيضًا فقوله فيه نقل الأقدام إلى الجمعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة والمعراج كان بمكة وتلك الليلة فرضت الصلوات الخمس ولم تكن جمعة فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن أول جمعة كانت في الإسلام بعد جمعة بالمدينة جمعت بالبحرين بجواثاء قرية من قرى البحرين وهذا من العلم المتواتر الذي لا يتنازع فيه أهل العلم وأما ما يوجد في كتب(7/319)
أخرى ويوجد عند كثير من الشيوخ والعامة من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في بعض سكك المدينة أو خارج مكة أو أنه ينزل عشية عرفة فيعانق المشاة ويصافح الركبان ونحو هذه الأحاديث التي فيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربع في اليقظة في الأرض فكلها من أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم فليعلم ذلك والخلال روى هذا الحديث من هذا الوجه ورواه من وجه آخر هو الصواب لأنه جمع الطرق فقال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله(7/320)
ابن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك ربي وسعديك فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وذكر الحديث قال الخلال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا حماد بن دليل حدثنا سفيان الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ففي هذه الرواية من رواية مؤمل عن حماد بن دليل عن الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم جعله مرسلاً وجعله مثل(7/321)
حديث أبي هريرة وحديث أبي هريرة يوافق سائر الأحاديث أن ذلك كان في المنام كما ذكره في هذه الراوية ولكن إنما اعتقد صحة هذا من لم يكن له بالحديث وألفاظه وروايته خيرة تامة من جنس الفقهاء وأهل الكلام والصوفية ونحوهم فلهذا ذكروه من بين متأول ومن بين راد للتأويل ثم المثبتة تزيد في الأحاديث لفظًا ومعنى فيثبتون بعض الأحاديث الموضوعة صفات ويجعلون بعض الظواهر صفات ولا يكون كذلك والنافية تنقض الأحاديث لفظًا ومعنًى فيكذبون بالحق ويحرفون الكلم عن مواضعه ومن هذا ما رواه الخلال حدثنا عمرو بن إسحق حدثنا أبو مسلم الحضرمي حدثنا أبو معاوية وهب بن عمرو الأحموسي عن أبي عبد الرحمن عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أسري بي إلى السماء فرأيت الرحمن(7/322)
الأعلى بقلبي في خلق شاب أمرد نور يتلألأ وقد نهيت عن صفته لكم فسألت إلهي أن يكرمني برؤيته فإذا هو كأنه عروس حين كُشفت عن حجلته مستويًا على عرشه في وقاره وعزه ومجده وعُلوِّه ولم يؤذن لي في غير ذلك من صفته لكم سبحانه في جلاله وكريم فعاله في مكانه العلي نوره المتعالي وهذه الألفاظ ينكر أهل المعرفة بالحديث أن تكون من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا الحديث يبين أن حديث عكرمة المشهور كان بفؤاده كما في هذا ويشبه هذا ما رواه الخلال أيضًا قال حدثنا يزيد بن جمهور حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العبدي حدثنا أبي حدثنا سفيان عن جويبر عن(7/323)
الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به قال انتهيت على نهر من نور لهب النار قال فجعلت أهال قال وجعل جبريل يقول يامحمد ادع الله بالتثبيت والتأييد قال فجعلت أدعو بالتثبيت والتأييد فذكر أنها دون العرش حتى انتهيت إلى العرش وأمسك جبريل عني قال فلما انتهينا إلى الله ألقيت على الوسنة قال وعاينت بقلبي جلاله قال فكان ابن عباس يقول رآه بفؤاده ولم تر هـ عيناه ولكن قد يكون أصل الحديث أنهما حدثا عن ابن عباس محفوظًا وزيد فيه زيادات كما جرت به عادة كثير من هؤلاء(7/324)
المصنفين فيكون هذا موافقا لأن حديث قتادة والحكم عن عكرمة وحديث سلمة بن عمرو أنه كان ليلة المعراج وأما رواية الترمذي للأحاديث المتقدمة فالصواب أنها ثابتة كما عليه أئمة الحديث ولذلك احتج بها أحمد وقال يقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي فأنكر على من رد موجبها وقد ثبت حديث عكرمة عن ابن عباس وهو أسدُّها وذكر أن العلماء تلقته بالقبول وقال حدث به فقد حَدَّثَ به العلماء فأما قوله في رواية الأثرم يُضطربُ في إسناده وأصل الحديث واحد وقد اضطربوا فيه فهذا كلام صحيح فإنهم اضطربوا في إسناده بلا ريب لكن بم يقل إن هذا يوجب ضعف متنه ولا قال إن متنه غير ثابت بل مثل هذا الاضطراب يوجد في أحاديث كثيرة وهي ثابتة وهذه الطرق مع ما فيها من الاضطراب لمن يتدبر الحديث ويحسن معرفته يدل دلالة واضحة على أن الحديث محفوظ(7/325)
صحيح الأصل لاريب في ذلك بل قد يوجب له القطع بذلك كما نبهنا عليه أولاً فإنه قد ثبت أنه حدث به عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وأخبره يزيد بن يزيد وأبو قلابة والأوزاعي عن خالد بن اللجلاج وكل هؤلاء ممن الثقات المشاهير وهذا يثبت رواية خالد له لكن أحدهم قال عن ابن عباس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن ابن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يقتضي ثبوت إحدى الروايتين دون الأخرى إذ لم يختلفا في متنه وإنما اختلفا في صفة الإسناد فقد يقال الثانية أصح لأن ابن عائش ليس ممن اتفق على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن إحدى الروايتين فيها زيادة والزيادة من الثقة مقبولة وقد يقال الأولى أصح لأن رواتها عن خالد أكثر وقد(7/326)
رواه كذلك الأوزاعي وغيره كما سيأتي إن شاء الله والأشبه أن الاضطراب في هذه الرواية وقع من خالد نفسه وأنه كان لا يذكر في أكثر الروايات إلاّ ابن عائش ولهذا لم يذكر أبو قلابة عنه إلاَّ ما يشتبه بابن عائش وبالجملة فأيّ الروايتين كانت هي المحفوظة صحَّ الحديث إذ تعارضهما إمَّا أن يوجب صحَّة إحداهما أو يوجب الجمع بينهما وعلى كل تقدير فالحديث محفوظ فأمَّا طرحهما جميعًا فإنَّما يكون إذا تعارض متنان متناقضان وكذلك قول أبي قلابة عن ابن عباس إمّا أن يكون محفوظًا أو مُصَحَّفًا وعلى التقديرين لا يقدح في متن الحديث بل يؤيده ويثبته سواء كان محفوظًا أو مُصحَّفًا ورواية يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاّم عن ابن عائش لاتخالف رواية خالد بن اللجلاج عنه بل توافقه وتعضده لأنّ رواية خالد تدلُّ على أنه كان لا يستوفي إسناده بل تارة يرسله وتارة يذكر الصاحب فهذه الرواية ذكرت ما ذكروه واستوفت الإسناد والمتن وأمّا ما ذكره ابن خزيمة(7/327)
من كون يحيى مُدلِّسًا لم يذكر السَّماع فهذا لا يضرُّ هنا لأنّ غاية ما فيه أن يكون أخذه من كتاب زيد بن سلاَّم كما حُكي عنه أنَّه كان يُحدّث من كتاب أبي سلاّم إما لمعرفته بخطّه وإمَّا لأن الذي أعطاه قال له هذا خطه وهذا ممّا يزيد الحديث قوة حيث كان مكتوبًا ولهذا كان إسناده ومتنه تامًّا في هذه الطريق بحمله دون الأخرى والاحتجاج بالكتاب في مثل هذا جائز كالاحتجاج بصحيفة عمرو بن حزم وصحيفة عبد الله بن عمرو التي رواها عمرو بن شعيب كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم(7/328)
يكتب كتبه إلى النواحي فتقوم الحجة بذلك وإن لم يكن هذا حجة فمن المعلوم أن هذا الطريق يبيِّن أن الحديث عن ابن عائش إذ مثل هذه الطريق إذا ضُمت إلى طريق خالد بن اللجلاج كان أقل أحوال الحديث أن يكون حسنًا إذ رُوي من طريقين مختلفين ليس فيهما متهم بالكذب بل هذا يُوجب العلم عند كثير من الناس ولهذا كان الأئمة يكتبون الشواهد والاعتبارات ما لايُحتج به منفردًا والذي ذكر ابن خزيمة من أنه لم يثبت طريق معين من هذه الطرق هذا فيه نزاع بين أهل الحديث لكن إذا ضُمت بعضها إلى بعض صدَّق بعضها بعضًا فهذا مـ ـما لا يتنازعون فيه لكن ابن خزيمة جرى على عادته أنه لا يحتج إلا ب إسنادٍ يكون وحده ثابتًا فإنَّه كثيرًا ما يُدخل في الباب الذي يحتجُّ له من الشواهد والاعتبارات أشياء فلا يحتج بها فما قاله لا ينافي ما اتفق عليه أهل العلم فثبت(7/329)
صحَّة الاحتجاج به من طريقين أحدهما من جمع الطرق لكن ابن خزيمة لم يسلك هذا والثاني من جهة ثبوت الاحتجاج بالكتاب لكن ابن خزيمة لم يذهب إلى هذا ومما يؤيد هذا أنَّ المتن نفسه قد رُوي من وجوه أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ثوبان الذي تقدم ذكره وقد رواه الخلال أيضًا وروي من حديث ابن عمر قال الخلال حدثنا محمَّد بن عوف حدثنا أبواليمان حدثنا أبومهدي عن أبي الزهراية عن(7/330)
أبي شجرة عن ابن عمر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تلبَّث عن أصحابه في صلاة الصبح حتى تراءى له قرن الشمس أن يطلع ثم خرج عليهم فصلى صلاة الصبح فلمَّا فرغ قال اثبتوا على مقاعدكم ثم أقبل عليهم يقول لهم هل تدرون ما حبسني عنكم قالوا الله ورسوله أعلم قال إني صليت في مصلاي ما كتب الله لي فضُرب على أذني وأتاني ربي في أحسن صورة وقال الخلال أخبرنا محمَّد بن إسماعيل حدثنا(7/331)
وكيع عن عبيد الله بن أبي حُميد عن أبي المُليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني آتٍ في أحسن صورة فقال يا محمَّد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى يوم القيامة قلت لا فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بَردها بين ثدييّ قال فعرفت كل شيء سألني عنه قال نعم يختصمون في الدرجات والكفارات قال وما الدرجات قلت إسباغ الوضوء في السبرات والمشي على الأقدام إلى الجمعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط والكفارات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام(7/332)
وقد انقلب في هذا المتن الكفارات بالدرجات فإن الصواب أنَّ تلك الأعمال هي الكفارات وهذه الثانية هي الدرجات كما سبق في الروايات وقوله أتاني آت في أحسن صورة يفسره ما رواه الخلال أيضًا حدثنا أحمد بن محمَّد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله بن أبي حُميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منام في أحسن صورة فقال يا محمَّد قلت لبيك وسعديك فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وقال مؤمل حدثنا حمَّاد بن دليل حدثنا سفيان الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال قُرئ على محمَّد بن إبراهيم الصدري وأنا(7/333)
أسمع حديثكم مؤمل حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن صورة فالأشبه أن لفظ أتاني آتٍ هو من رواية بعض الرواة بالمعنى كأنّه عَدَلَ عن لفظ ربي إمَّا خوفًا على نفسه أو على المستمع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لاريب أنَّه قال ذلك اللفظ كما تواترت به الطرق وقد روى الحافظ أبوعبد الله بن منده هذا الحديث فيما أخرجه وانتقاه من أحاديث الصفات التي لم يُضمنها الضّعاف وذكر استفاضة طرقه واتفاق علماء الشرق والغرب على تبليغه رواه من حديث أبي هريرة وثوبان وأحاديث ابن عائش فقال أخبرنا أبو خيثمة حدثنا محمَّد بن إبراهيم بن(7/334)
كثير حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله لن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي عز وجل في منامي في أحسن صورة فقال لي يا محمَّد قلت لبيك وسعديك قال هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا يارب فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدتُّ بردها بين ثدييّ وذكره أخبرنا عبيد الله بن جعفر البغدادي بمصر حدثنا هارون بن كامل حدّثنا أبوصالح قال حدّثنا معاوية بن صالح عن أبي يحيى وهو سليم عن أبي يزيد عن أبي سلاّم الحبشي أنه سمع ثوبان قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال إن ربي عز وجل(7/335)
أتاني الليلة في أحسن صورة فقال يا محمَّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا علم لي يارب فوضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله في صدري فتخيّل لي ما بين السماء والأرض وذكر الحديث أخبرنا الحسن بن يوسف الطرائفي بمصر حدثنا إبراهيم ابن مرزوق حدثنا أبوعامر العقدي حدثنا زهير بن محمَّد عن يزيد بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب(7/336)
النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة وهو طيب النفس مشرق اللّون فقلنا له فقال مالي وأتاني ربّي الليلة في أحسن صورة الحديث قال الحافظ أبوعبد الله بن منده هكذا رواه زهير عن يزيد بن يزيد وزاد في الإسناد رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الأوزاعي وعبد الرحمن بن جابر وغيرهما وعن خالد بن اللجلاج ولم يذكروا الرجل في الإسناد ثنا محمّد بن جعفر بن يوسف وخيثمة بن سليمان قلا حدثنا العبّاس بن الوليد بن مزيد(7/337)
أخبرني أبي حدثنا ابن جابر والأوزاعي قالا حدثنا خالد بن اللجلاج سمعت عبد الرحمن بن عائش قال صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث بمثله وقال فيه فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثدييّ فعلمت ما بين السماء والأرض ثم قرأ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام 75] قال الحافظ أبو عبد الله بن منده ورواه أبوسلاّم عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال ورُوي هذا الحديث عن عشرة من الصحابة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونقلها عنهم(7/338)
أئمة البلدان من أهل الشرق والغرب وكنت حين كتبت ما كتبته بمكان لا يصل إليّ فيه الكتب وكنت أعلم أن هذا الحديث في جامع الترمذيّ لكن لم يكن حاضرًا عندي فلمَّا حضر إليّ بعد ذلك وجدته قد تكلم عليه نحوًا ممَّا تكلمت وبيَّن أنه حديث صحيح وذكر عن البخاري أنه حديث صحيح وأنَّ الصواب هو حديث معاذ فروى الترمذي في التفسير في سورة ص أولاً حديث معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني الليلة ربّي في أحسن صورة قال أحسبه في المنام قال كذا في الحديث فقال يا محمَّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا قال فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثدييّ أو قال في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض قال يامحمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي(7/339)
على الأقدام إلى الجمعات والجماعات وإسباغ الوضوء في المكاره ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمّه قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه قال وفي الباب عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي هذا الحديث عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله وقال إني نعست فاستثقلت نومًا فرأبت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى ثم قال حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هانئ اليشكري حدثنا جهضم بن عبد الله(7/340)
عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعًا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوَّز في صلاته فلما سلم دعا بصوته قال لنا على مصافكم كم أنتم ثم لنفتل إلينا ثم قال أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة أني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قُدِّر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن(7/341)
صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قالها ثلاثًا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثدييّ فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال يا محمد قلت لبيك ري قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الكفارات قال ما هن قلت مشي الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حين الكريهات قال ثم فيم قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام قال سَلْ قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرِّب إلى حبك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(7/342)
إنها حق فادرسوها ثم تعلموها قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقال هذا أصح من حديث الوليد بن الحضرمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وهذا غير محفوظ هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن ابن عائش قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى بشر ابن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا(7/343)
الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأيت أبا بكر بن أبي عاصم روى هذا الحديث في كتاب السنة من طرق أخرى بعد أن قال باب ما ذكر من رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم ربه في منامه وأسند قول ابن عباس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم وأسند قول ابن عباس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ عن عبد الملك بن ميسرة عن مصعب بن سعد عن معاذ(7/344)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في نومه وفي يقظته فهو حق ثم قال باب فقال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثنا سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تجلى لي في أحسن صورة فسألني فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت رب لا علم لي قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو وضعها بين(7/345)
ثديي حتى وجدت بردها بين كتفي فما سألني عن شيء إلا علمته قال وحدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن ليث عن أبي سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تراءى لي ربي في أحسن صورة ثم ذكر(7/346)
الحديث حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم وصدقة بن خالد فالا حدثنا ابن جابر قال مر بنا خالد بن اللجلاج فدعاه مكحول فقال له يا أبا إبراهيم حَدِّثنا حديث عبد الرحمن بن عائش قال سمعت عبد الرحمن بن عائش يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة حدثنا يحيى بن عثمان بن كثير حدثنا(7/347)
زيد بن يحيى حدثنا ابن ثوبان حدثنا أبي عن مكحول وابن أبي زائدة عن ابن عائش الحضرمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة وذكر حديث أبي قلابة عن خالد عن ابن عباس وحديث(7/348)
ثوبان قال وفي هذه الأخبار وضع يده بين كتفي والحافظ أبو القاسم الطبراني ذكر في كتاب السنة في باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه أحاديث ابن عباس ونحوها ثم ذكر الحديث وقدم فيه طريق معاذ الذي هو أصحها وأكملها ورواه من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير فقال حدثنا محمد بن محمد التمار البصري قال حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي(7/349)
حدثنا موسى بن خلف العمي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاَّم عن جده ممطور عن عبد الرحمن السكسكي عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع فلما صلى بنا الغداة قال إني صليت الليلة ما قُضي لي ووضعت جنبي في المسجد فأتاني ربي عز وجل في أحسن صورة فقال يامحمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا يارب قالها ثلاثًا قلت لا يارب قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها في صدري فتجلى لي كل شيء وعرفته فقلت في الكفارات قال فما الدرجات قلت إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام فقال صدقت فما الكفارات قلت إسباغ الوضوء في(7/350)
السبرات وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الأقدام إلى الجمعات قال صدقت سل يا محمد قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بين عبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق ثم ذكر حديث معاوية ابن أبي صالح عن أبي يحيى عن أبي يزيد عن أبي سلام الأسود عن ثوبان قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عد صلاة الصبح فقال إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة وذكر الحديث قال أبو القاسم أظنه الذي(7/351)
روى عنه معاوية بن صالح هذا الحديث هو سليم بن عامر وأبو زيد هو زيد بن سلاَّم ثم ذكر حديث جابر بن سمرة كما ذكره ابن أبي عاصم فقال حدثنا عبيد الله بن همام قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وساقها باللفظ المتقدم إلاَّ أنه قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها على ثديي فما سألني عن شيء إلاَّ علمته ولم يشك ثم ذكر حديث قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس وحديث معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ثم ذكر طريقًا ثالثًا لحديث أبي قلابة وسماه عبد الله بن عائش فقال حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا معاوية بن عمران الجرمي(7/352)
حدثنا أنيس بن سوار الجرمي عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج أن عبد الله بن عائش حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا مستبشرًا على أصحابه يعرفون السرور في وجهه فقال لهم أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك رب وسعديك قال هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت نعم يارب في الكفارات والكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإبلاغ الوضوء أماكنه على المكروهات قال صدقت يامحمد فمن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته مثل يوم ولدته أمه وإذا صليت يامحمد فقل اللهم إني أسألك فعل الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب على وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني وأنا غير مفتون والدرجات الصوم وطيب الكلام والصلاة بالليل والناس نيام فتسميته في هذه الرواية عبد الله بن عائش دليل على(7/353)
الاضطراب ثم ذكر حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد من رواية الأوزاعي والوليد بن مسلم كلاهما عنه ثم ذكر حديث أبي أمامة فقال حدثنا محمد بن إسحاق بن راهوية حدثنا أبي حدثنا جرير عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ثم ذكر حديث يوسف بن عطية الصفار عن قتادة عن(7/354)
أنس وهو وهم فإن يوسف ضعيف والثقات عن قتادة ذكروه عن أبي قلابة ثم ذكر حديث أبي هريرة الذي رواه الخلال فقال حدثنا محمد بن غيلان حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن(7/355)
صورة ثم ذكر مثله وأما حديث أم الطفيل فإنكار أحمد له لكونه لم يعرف بعض رواته لا يمنع أن يكون عرفه بعد ذلك ومع هذا فأمره بتحديثه به لكون معناه موافقًا لسائر الأحاديث كحديث معاذ وابن عباس وغيرهما وهذا معنى قول الخلال إنما يروى هذا الحديث وإن كان في إسناده شيء تصحيحًا لغيره ولأن الجهمية تنكر ألفاظه التي قد رويت في غيره ثابتة فروي ليبين أن الذي أنكروه تظاهرت به الأخبار واستفاضت وكذلك قول أبي بكر عبد العزيز فيه وهاء ونحن قائلون به أي لأجل ما ثبت من موافقته لغيره الذي هو ثابت لا أنه يقال بالواهي من غير حجة فإن ضعف إسناد الحديث لا يمنع أن يكون متنه ومعناه حقًّا ولا يمنع أيضًا أن يكون له من الشواهد والمتابعات ما يبين صحته ومعنى الضعيف عندهم أنا لم نعلم أن رواية عدل أو لم نعلم أنه ضابط فعدم علمنا بأحد(7/356)
هذين يمنع الحكم بصحته لا يعنون بضعفه أنا نعلم أنه باطل فإن هذا هو الموضوع وهو الذي يعلمون أنه كذب مختلق فإذا كان الضعيف في اصطلاحهم عائدًا إلى عدم العلم فإنه يطلب له اليقين والتثبيت فإذا جاء من الشواهد بالأخبار الأخر ى وغيرها ما يوافقه صار ذلك موجبًا للعلم بأن روايه صدق فيه وحفظه والله تعالى أعلم فصل إذا عرف أن الحديث الذي فيه رأيت ربي وأتاني ربي في أحسن صورة وقال فيم يختصم الملأ الأعلى وفيه فوضع يده بين كتفي إنما كان في المدينة وكان في المنام وهو حديث ثابت ظهر خطأ طائفتين طائفة تعتقد أنه كان في اليقظة ليلة المعراج وتجعله من الصفات التي تقررها أو تحرفها فنتكلم على ما ذكره المؤسس(7/357)
قوله يحتمل أن يكون ذلك من صفات الرائي كما يقال دخلت على الأمير في أحسن هيئة أي وأنا كنت على أحسن هيئة فهذا باطل لوجوه احدها أن لفظه في أتم طرقه إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في مصلاي حتى استثقلت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى فقوله فإذا أنا بربي في أحسن صورة صريح في أن الذي كان في أحسن صورة هو ربه الوجه الثاني أن في اللفظ الآخر أتاني ربي الليلة في أحسن صورة الوجه الثالث أن النائم إذا أخبر بأنه رأى غيره في أحسن صورة لم يكن مقصوده الإخبار بصورة نفسه الرابع أن قول القائل رأيت فلانًا في أحسن صورة إنما يتعلق الطرف فيه بالمرئي لا بالرائي كما لو قال رأيت فلانًا(7/358)
راكبًا أو قاعدًا أو في حال حسنة ونحو ذلك أو في أحسن صورة لأن من لغتهم أن ما يصلح للفاعل والمفعول لا يجوز فيه ترك الترتيب إلاَّ إذا أمن اللبس فلا يقولون ضرب موسى عيسى إلاَّ إذا كان الأول هو الضارب ويقول أكل الكمثرى موسى يقدمون المفعول لظهور المعنى بالرتبة فقول القائل في أحسن صورة وفي حال حسنة ونحو ذلك لا يجوز تعليقه إلا بما هو الأقرب إليه فإذا كان المفعول هو المتأخر وهو الأقرب إليه تعلق به وإذا أريد تعليقه بالفاعل أخر أو أعيد ذكره مثل أن يقال جئته وأنا في أحسن صورة أو لم يأت الأمير إلاَّ وأنا في أحسن صورة ونحو ذلك وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول القائل دخلت على الأمير في أحسن هيئة فإن دخوله على الأمير يُشعر بأنه كان هو المتحول المتنقل والأمير يتجمل للقائه ألا ترى أنه لو قال رأيت الأمير في أحسن هيئة أو في أحسن صورة لم يكن المفهوم منه إلاَّ أن الأمير هم الذي في أحسن هيئة وأحسن صورة فيُعطى كل لفظ تركيبه وحقه لا يقاس هذا بهذا مع اختلاف تعيينها الخامس أن قوله في الوجه الأول يكون المعنى أن الله زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه(7/359)
يقال له مما عده العلماء من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه عُرج به إلى السماء ثم رجع وأصبح كبائت لم يتغير كما حصل لموسى عليه والسلام حين كلَّمه الله فإنه كان يتبرقع وكذلك لما خرج عليهم إلى صلاة الفجر بالمدينة وأخبرهم بما رأى لم ينقل أحد أنه تغيرت صورته حتى صارت أحسن الصور أكثر ما في بعض الطرق أنه خرج وهو طيب النفس مشرق اللون ومعلوم أن هذا ليس بأحسن الصور السادس أن تلك الزيادة في صورته إن قيل بقيت عليه فهذا كذب ظاهر فإن صورته لم تخالف اختلافًا خارجًا عن العادة وإن قيل كانت حين الرؤية وزالت بزوالها فمن المعلوم أن الذي يزاد إكرامه بتزيين صورته إن لم يره العباد في الصورة الحسنة المجمَّلة وإلا فهو في نفسه لا يحصل له(7/360)
انتفاع بمجرد جمال صورته الذي لا يراه أحد فأي إكرام في هذا الوجه السابع أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة لو عاد إلى الرائي لوجب أن يكون حين الرؤية كان في أحسن صورة والحديث يدل على أنه لفرحه وسروره بالرؤية أشرق لونه وطابت نفسه فيكون ذلك بعد الرؤية فامتنع أن يكون قوله هذا حجة فبطل قولهم الوجه الثامن أن لفظه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وهو طيب النفس مشرق اللون فقلنا ماله فقال مالي وأتاني ربي الليلة في أحسن صورة فهذا صريح بأن إتيان ربه له في أحسن صورة ليس هو طيب نفسه وإشراق لونه الوجه التاسع قوله في الوجه الثاني أن المراد من الصورة الصفة ويكون المراد الإخبار عن حسن حاله عند الله وأنه أنعم عليه بوجوه كثيرة عظيمة من الإنعام باطل من وجوه(7/361)
أحدها أن النعم المخلوقة للعبد المنفصلة عنه لا تكون صفة له بحال فإن الموصوف لا يوصف إلاَّ بما قام به من الصفات لا بشيء لا يقوم به بحال وقد تقدم تقرير هذا ولو جاز هذا لجاز وصف الله بجميع الموجودات وأن يكون جميعها صفات لله ولجاز وصف العبد بكل ما يملكه الله تعالى إياه الثاني أن لفظ الصورة لا يقال إلاَّ على ما هو قائم بذي الصورة فأما الأمور المنفصلة عنه التي لا تقوم به فلا تكون صورة له كما تقدم الثالث أنه لو أريد بالصورة الصفة لكان جمال صورته وحسنها أولى بأن يكون معنى هذا الوجه دون أن يكون هذا المعنى هو معنى لفظ الصورة وتكون النعم المنفصلة معنى لفظ الصورة الرابع قوله وذلك لأن الرائي قد يكون بحيث(7/362)
يتلقاه المرئي بالإكرام والتعظيم وقد يكون بخلافه فعرفنا الرسول أن حاله كان من القسم الأول يقال له الإكرام والتعظيم هو من فعل الله تعالى فهو بأن يكون صفة له أولى من أن يكون صفة للكريم المعظم فإما أن يكون صفة لهما أو للمُكْرَم أما جعله صفة للمُكْرَم فقط فباطل وذلك لأن الإكرام إن كان أمرًا قائمًا بذات المكرم فهو الوجه الأول وإن كان منفصلاً عنه فمن المعلوم أن كونه صفة لله أولى لأن الله فعله والله يوصف بنفس الفعل الذي هو الخلق والتكوين عند عامة أهل الإثبات وإن خالف في ذلك الجهمية من المعتزلة ومن تبعهم من متكلمة الصفاتية ونحوهم وكذلك التلقي بالإكرام هو فعل المرئي فهو أحق بالوصف به من الرائي فتبين بطلان أن يكون قوله في أحسن صورة(7/363)
إلى المرئي فقط فإن قيل يجوز أن يكون قوله في أحسن صورة عائدًا إلى الرؤية نفسها فيكون متعلقًا بالمصدر لا بالفاعل ولا بالمفعول والتقدير رأيته رؤية هي في أحسن صورة أي صفة قيل هذا لو صح لكان هو معنى الوجه الأول لأن الرؤية صفة للرائي فصفتها صفته فيكون المعنى رأيت ربي وأنا في أحسن صورة وأيضًا فالصورة إنما يوصف بها ما قام بنفسه فأمَّا الرؤية ونحوها فيحتاج وصفها بالصورة إلى نقل ذلك من لغة العرب بل لا يوصف بها في لغتهم إلاَّ بعض الأمور القائمة بنفسها كما تقدم م قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما أن الصورة لا تكون إلاَّ إذا كان له وجه فـ قوله صلى الله عليه وسلم من صور صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ(7/364)
لا يتناول إلاَّ ذلك الخامس أن حديث أم الطفيل نص في أن الصورة كانت للمرئي حيث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في صورة شاب موفر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب السادس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل رأيت ربي في أحسن صورة وسكت بل لم يقل ذلك إلاَّ موصولاً بما يبين صفة الرؤية كما تقدمت ألفاظ الحديث بذلك فهذا الذي ذكره المؤسس ومن نقل كتبه كابن فورك مـ ـمن جعله حديثًا مفردًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي في أحسن(7/365)
صورة ثم يتأولون ذلك أمر لا أصل له أما قول الرازي إن كان عائدًا إلى المرئي ففيه وجوه الأول أن يكون رأى ربه في المنام في صورة مخصوصة وذلك جائز لأن الرؤيا من تصرفات الخيال فلا ينفك ذلك عن صورة متخيلة فيقال له قد بينا أن ألفاظ الحديث صريحة في أن هذه الرؤية كانت في المنام فيكون هذا الوجه هو المقطوع به وما سواه باطل ولكن لا يكون ذلك من باب التأويل بل الحديث على ظاهره فيكون ظاهر أنه رآه في المنام وهذا حق لا يحتاج إلى تأويل وهذا مقصودنا فإنهم يدعون احتياج هذه الأحاديث إلى تأويل يخالف ظاهرها لأن ظاهرها عندهم ضلال وكفر وهو غالطون تارة فيما يدعون أنه ظاهرها وليس كذلك كما يدعون أن ظاهر هذا الحديث أنه رآه في اليقظة كذلك دعواهم أن ظاهرها الذي هو ظاهرها الحق يحتاج إلى تأويل وهذا الذي أثبته الرازي من جواز رؤية الله في المنام(7/366)
هو الحق الذي عليه عامة أهل الإثبات وإن نازع فيه من نازع من الجهمية لكن في هذا الباب للنفاة وأهل الإثبات غلط كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى مثل جعل بعض النفاة للرؤية عقائد غير مطابقة وتخيلات باطلة فهي كالرؤية بالعين المحققة الموجودة في الخارج قوله في الوجه الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة وذلك لأنه تعالى لما خصه بمزيد الإكرام والإنعام في الوقت الذي رآه صح أن يقال في العرف المعتاد إني رأيته في أحسن صورة كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة فيقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه تقدم في ألفاظ الحديث أنه رأى ربه في المنام في أحسن صورة شابًّا موفرًا(7/367)
الثاني أن ما يخلقه الله من الإكرام والإنعام ليس صفة له فأن لا يكون صورة له أولى ومن المعلوم أن نعمة الله على عباده لا تحصى ولا يوصف بها وإن وصف بأنه خلقها وأنعم بها وأحسن بها الثالث أنه لو أريد بذلك النعم كان من المعلوم أن ما ينعمه الله به عليه بعد ذلك أحسن صورة وقد قال رأيته في أحسن صورة الرابع قوله كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة يقال له هذا إن كان كلامًا عربيًّا فالصورة قائمة بالمتصور ليست قائمة بغيره فليس ذلك نظير قوله رأيته في أحسن صورة إذا جعلت الصورة للمرئي وجعلتها نعمًا مخلوقة منفصلة عنه الخامس أنه إذا جعل قوله أحسن صورة للمرئي(7/368)
وجعله من مفعولاته كان المعنى أن ما أنعم الله به على محمد تلك الساعة هو أحسن صورة لله وهذا باطل قطعًا السادس أن هذا التأويل من جنس التأويل الذي رده الدارمي على متبع المريسي حيث قال يحتمل أن تكون هذه صورة مخلوقة أتى الله فيها لا مدبر لها فكلاهما مشتركان في الفساد من جهة جعل الصورة مخلوقة مملوكة ولكل من التأويل وجوه تختص به تدل على فساده وقول الرازي الوجه الثالث لعله صلى الله عليه وسلم اطلع على نوع من صفات الجلال والعزة والعظمة ما كلن مطلعًا عليه قبل ذلك يقال له هذا عليه وجوه أحدها أن هذه ليست أمورًا ثبوتية عندك قائمة بالله فإن الجلال والعزة تعيده إلى الصفات السلبية وهي أمور(7/369)
عدمية لا ترى والعظمة تعيده إلى ما يخلقه من المخلوقات العظيمة ورؤية المخلوقات ليست رؤيته الثاني أنه قال رأيته في أحسن صورة وجعلت ذلك من صفات الله أي على أحسن صفة لزم أن يُرى على غير أحسن صفة ولزم أن تكون له في ذاته حالات حال يكون فيها على أحسن صفة وحال لا يكون فيها كذلك وهذا كله عندك ممتنع لأن ذلك يستلزم قيام الحوادث بذاته وتحوله الثالث أنه لو كان المراد به صفته لزم أن يكون قد رأى أحسن صفاته ومن المعلوم أن رؤيته له في الدار الآخرة أكمل لو كان قد رآها في الدنيا أحسن صفاته الرابع أن هذا يستلزم أنه عَلِمَ حقيقة الرب المختصة بل يكون قد رآها ورؤيتها أبلغ من علمها والمؤسس دائما يقرر خلاف ذلك هو وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك وغير ذلك(7/370)
وأما قول الرازي في الخبر الذي رواه عن ابن عباس قوله رأيت ربي في أحسن صورة إلى آخره وقد تقدم أن رواية هذا عن ابن عباس غلط وإنما هو حديث ابن عائش وغيره وأحاديث ابن عباس المحفوظة عنه لها ألفاظ أخر وهذا هو حديث أبي قلابة رواه عنه معمر عن أيوب وقتادة فقوله واعلم أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة قد تقدم تأويله يقال له ليس فيما تقدم ما يقرب من الحق إلا قوله يحتمل أن يكون عائدًا إلى المرئي وتكون رؤيا منام فهذا الاحتمال قريب إلى الحق لأن الحق أنه كان رؤيا منام لكن هو جوز ذلك ولم يجزم به وتسميته هذا تأويلاً غلط لأنه تفسير مبين في الحديث وإن كان قد لا يُروى في لفظ حديث ابن عباس الذي ذكره فهو مفسر في ألفاظ جمهور الرواة للحديث ومن المعلوم أن الحديث الواحد إذا رواه أحد بلفظ مختصر ورواه جماعات فزادوا فيه ألفاظًا تفسِّر ذلك الغلط وتبينه كان ما رووه مفسرًا ومبينًا لما رواه هذا لو كانت رواية ابن عباس(7/371)
محفوظة فكيف وقد وقع فيها ما وقع قال الرازي وأما قوله وضع يده بين كتفي ففيه وجهان أحدهما المراد منه المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها يقال له هذا معلوم الفساد بالضرورة الواضحة من وجوه أحدها أنه إذا قال فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري فعلمت ما في السموات والأرض كان هذا اللفظ نصًّا صريحًا في معناه فكيف يمكن إحالته الثاني أن التعبير عن الاهتمام والاعتناء بمثل هذا اللفظ معلوم البطلان في اللغة حقيقة أو مجازًا وأين قولهم لفلان يد بهذه الصنعة من قول القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي أو على صدري الثالث أن من قال إنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها نعم يعبر باليد عن القدرة فيقال(7/372)
لفلان في هذا يد وأنا صاحب يد في هذا أي قادر عليه أما أنه كامل القدرة فلابد له من لفظ يدل عليه ويقولون ما لفلا نبها يد أي ماله به طاقة لا قبل كما قيل جعلت لعراف اليمامة حُكْمَهُ وَعراف حجر إن هما شفياني فما تركا من رقية يعلمانها ولا سلوة إلاَّ وقد سقياني وقالا شفاك الله والله مالنا بما شملت منك الضلوع يدان(7/373)
الرابع هب أنـ[ـه] له يد بهذا أو فيه بمعنى أنه كامل فيه أو يراد هو قادر عليه فأي دلالة في هذا على أن قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري إنما يدل على الاعتناء والاهتمام بحاله؟
الخامس أنه لو كان المقول فوضع يده فقط وقال إن هذا من جنس قولهم يدي معكم أو يدي في هذا الأمر ونحو ذلك مما يدل على أنه قائم فيه فاعل له لم يظهر فساده كما يظهر الفساد في تأويل قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي.
الوجه السادس أن هؤلاء يعمدون إلى ألفاظ الحديث يقطعونها ويفرقون بينها ثم يتأولون كل قطعة بما يمكن وما لا يكمن.
ومن المعلوم أن الكلام المتصل بعضه ببعض يفسر بعضه بعضًا ويدل آخره على معنى أوله وأوله لا يتم معناه إلا بآخره كما يقال الكلام بآخره وهذا كثيرًا ما يفعله هذا المؤسس وأمثاله وهم في مثل ذلك كما يحكى عن بعض متأخرة الزنادقة(7/374)
المنافقين أنه قيل له ألا تصلي فقال إن الله يقول {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فقيل له ألا تتمها {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) } [الماعون 5] فقال العاقل يكتفي بكلمة.
وأنشد بعض هؤلاء:
ما قال ربك ويل للألى شربوا ... بل قال ربك ويل للمصلينا
قوله الوجه الثاني أن يكون المراد من اليد النعمة يقال لفلان يد بيضاء ويقال إن أيادي فلان لكثيرة.
الوجه الأول فيقال له هذا من نمط الذي قبله فإن قوله القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري أو بين ثديي صريح في وضع اليد التي هي اليد لا تحتمل النعمة بوجه من الوجوه.
الثاني أن التعبير عن النعمة بمثل هذا اللفظ معلوم الفساد(7/375)
بالضرورة من اللغة حقيقة ومجازًا.
الثالث أن اليد إذا عُبِّر بها عن النعمة كان معها من القرائن ما يبين ذلك كسائر ألفاظ المجاز كما أنه إذا قال أياديك علينا كثيرة مع كون هذا في سياق المدح وأن ليس في كون ذات يده فوقه شيء من المدح وأنه ليس له أياد كثيرة وغير ذلك مما يبين أن المخاطبين قصدوا أن نعمتك وإحسانك قد استولى علينا واستعلى علينا ولهذا كان هذا المعنى ظاهرًا في مثل هذا الخطاب وإن سمِّي مجازًا فأين هذا من قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي؟!
الرابع أنه لو قيل فأسبغ على أياديه ونحو ذلك لكان لقوله وجه أما حتى وجدت برد أنامله بين كتفي فهل هذا يحتمل أن يكون المراد مجرد إنعامه؟
الخامس أن النعمة التي أنعم بها عليه إما أن تكون جوهرًا(7/376)
قائمًا بنفسه أو عرضًا أما الجوهر فوضعه على كتفيه تثقيل له والله قد أنعم عليه بوضع الوزر عنه فكيف يضع عليه ما يثقله؟
وإن كان عرضًا فلا بد أن يكسب ذلك المحل صفة لأن العرض إذا قام بمحل عاد حكمه إليه فيقتضي اتصاف كتفيه [بوصف] لا يوجد لبقية الأعضاء.
هذا إن قيل إن الموضوع على جسمه الذي بين كتفيه فإن قيل إنه بينهما فوق فيقال أي شيء من النعم قام بالهواء الذي فوق ظهره [فـ]ـكان بعده عنه أعظم من بعد المتصل به وحمل اللفظ على مثل هذا المعنى من التلاعب بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السادس أي شيء هذا الذي هو [من] الجواهر(7/377)
والأعراض المخلوقة إذا وضع بين كتفيه ملاصقًا أو غير ملاصق كان من نعم الله العظيمة السابع أن لفظ وضع يده لا يعرف استعمالها في مجرد النعمة مفردًا فكيف مع هذا التركيب قال الرازي وأما قوله بين كتفي فإن صح فالمراد ما أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة فالكلام عليه من وجوه أحدها أن هذا كسائر ألفاظ الحديث فلا معنى لتخصيصه بالتعليق دون سائر ألفاظ الحديث وإن قال لفظ اليد ثابت في القرآن والأحاديث المتواترة يقال له لكن ليس في ذلك لفظ وضع يده بهذا اللفظ في هذا الحديث الوجه الثاني أنه قد تقدم أن هذا اللفظ ثابت في هذا الحديث وأن ذلك كان في المنام الثالث قوله فالمراد ما أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة يقال له لا ريب أن في ذلك الحديث(7/378)
فتجلى لي ما بين السماء والأرض ولا ريب أن هذا من آثار هذا الوضع فإنه من الموجود في الشاهد أن الإنسان يضع صدره أو يده على صدر الإنسان أو على ظهره فيجد في قلبه من الآثار بحسب ما يناسب حاله وحال الواضع كما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب قال كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا فقلت إن هذا قرأ قراءة أنكرتُها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسن قراءتهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقًا فكأني أنظر إلى الله فرقًا(7/379)
فقال إني أرسل إلي لأن لأقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوِّن على أمتي فرد إليَّ أقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رَدَدتُّكَهَا مسألة تسألنيها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي فهنا كان الضرب بيده على صدره لزجره وإخراج ما في قلبه من الشك وقد كانت يده المباركة يضعها في الماء فيفور الماء من بين أصابعه(7/380)
وفي الصحيحين في حديث بدء الوحي لما جاءه جبريل فقال اقرأ قال قلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني والغط شبيه الخنق وهو مماسة له فرؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في المنام وأنه قال له فيم يختصم الملأ الأعلى أي(7/381)
يختصمون فقال لا أدري ثم وضع يده بين كتفيه حتى وجد برد أنامله على صدره ليُعلمه هو ما لم يعلم ولهذا قال تجلى لي عقيبها ما بين السماء والأرض فالتجلي والعلم أثر وضع يده بين كتفيه لا أنه هو نفس ما بين الكتفين ولا أنه نفس وضع اليد الرابع أن تسمية ما بين الكتفين باللطف والرحمة لا يدل عليه اللفظ لا حقيقة ولا مجازًا الخامس أنه إما أن يقول إن وصول اللطف والرحمة إلى قلبه هو معنى قوله بين كتفي أو معنى قوله فوضع يده بين كتفي فإن كان الأول فاللفظ المفرد المجرد كيف يدلّ على معنى الجملة وما وجه ذلك وإن كان الثاني فيكون هذا تأويل قوله فوضع يده بين كتفي ويكون ما تقدم من الوجهين في تأويل فوضع يده باطلين لأن هذا يكون هو معنى الجملة وأما قوله وقد روي بين كنفي فعليه وجوه أحدها أن هذا تصحيف وهو كذب محض إما عمدًا(7/382)
وإما خطأ فإن أهل العلم بالحديث متفقون على رواية بين كتفي بالتاء وللجهمية من هذا الجنس أمثال يحرفون فيها ألفاظ النصوص تارة ومعانيها أخرى كقول بعضهم وكلَّمَ اللهَ موسى وكرواية بعضهم يُنزَّل ربنا وأمثال ذلك الثاني قوله والمراد ما يقال وأنا في كنف فلان وفي ظل إنعامه فيقال له فالرسول هو في إنعام الله أم الله في إنعامه وليس الحديث أنه قال فجعلني في كنفه بل قال هو وضع يده بين كتفي فيكون المعنى على تفسيرك وضع يده من نعمي أو في ظل إنعامي ومعلوم أن هذا قلب لـ ـلحقيقة فإن العبد في نعمة ربه ليس الرب في نعمة عبده الثالث أنه قد فسر اليد بالنعمة فإذا جعل(7/383)
كنفي العبد إنعامه فإن المعنى أنه وضع نعمة الله في إنعام العبد وهذا من أظهر الباطل الرابع إن الكنف يقال مفردًا وهذا ليس بمفرد وإذا روي بالتثنية كنفي كان خلاف اللغة فإن الكنف يُفرد ولا يُثنى في مثل ذلك وإن روي كنفي مفردًا يقال به فلفظ بين لا يضاف إلا إلى ما فيه معنى العدد وهو لم يقل بين كنفي بل قال بين كتفي الخامس أنه قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري أو بين ثديي وهذا صريح في المقصود فقول القائل في كنفي حتى وجدت برد أنامله في صدري من أظهر التناقض السادس أنه يقال فلان في كنف فلان لكن لا يقال هو بين كنفه أو كنفيه وأما قوله فوجدت بردها فيحتمل أن المعنى برد النعمة(7/384)
وروحها وراحتها من قولهم عيش بارد إذا كان رغدًا يقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه إذا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي وفي لفظ في صدري ومعلوم أن الضمير إنما يعود إلى مذكور ولم يتقدم إلاَّ اليد فعلم أن الضمير عائد إليها الثاني أن تأويل اليد بالنعمة قد تقدم إبطاله فلا يصح عود الضمير إليها الثالث أنه لو كان المراد النعمة فالنعمة شاملة لظاهره وباطنه كما قال تعالى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان 20] فتكون موضوعة في ظهره وصدره ويكون أثرها كذلك أما تخصيص النعمة بظهره وتخصيص بردها بصدره أو بين ثدييه فظاهر البطلان(7/385)
الرابع أن في أخبار أخر حتى وجدت برد أنامله على صدري وهذا تصريح في أن الذي وجد برده هو اليد الموضوعة على ظهره وأما قوله في بعض الروايات فوجدت برد أنامله وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإنه قال فيما بعد الفصل الثالث والعشرون في الأنملة هذه اللفظة غير واردة في القرآن ولكنّها واردة في الخبر وهو ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وضع يده على كتفيّ فوجدت برد أنامله فعلمت ما كان وما يكون وقال التأويل أن يقال للملك الكبير ضع يدك على رأس فلان والمراد اصرف عنايتك إليه فقوله وضع يده على كتفيّ معناه صرف العناية إليّ وقوله فوجدت برد أنامله معناه وجدت أثر تلك العناية فإنّ العرب تعبِّر عن وجدان الراحة واللّذة بوجدان البرد وإذا أرادوا الدعاء قالوا برّد الله(7/386)
تلك الديار فيقال أمّا ما ذكره من تأويل وضع اليد بصرف العناية فقد تقدّم بيان فساده وما استشهد به من أنه يقال للملك الكبير ضع يدك على رأس فلان أي اصرف عنايتك إليه فهذا كلام باطل لم يقل بمثل هذا المعنى أحدٌ يُحتج به في اللغة بل هذا من باب الافتراء المحض على اللغة العربية ويمكن أن يتكلّم بمثل ذلك بعض المولدين والأعاجم لكن مثل كلام هؤلاء لا يجوز أن يُحمل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يُحمل كلامه على اللغة التي كانت يُخاطب بها وليس في تلك اللغة أن يقال ضع يدك على رأسه بمعنى اصرف عنايتك إليه وأيضًا فالعناية هي مشيئة الله وتلك صفة قائمة به فإذا كانت تلك الصفة قديمة لازمة للموصوف كيف تصرف إلى شيء بل إذا كانت تصرف على هذا التقدير فالمراد بها بعض المخلوقات وقد تقدم الكلام على هذا(7/387)
وأيضًا فقوله وجدت برد أنامله معناه وجدت أثر تلك العناية يقال له أثر تلك العناية كان حاصلاً على ظهره وفي فؤاده وصدره فتخصيص أثر العناية بالصدر لا يجوز إذ عنده لم يوضع بين الكتفين شيء قط وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه فكان يجب أن يبين أن أثر تلك العناية متعلق بما يعمُّ أو بأشرف الأعضاء وما بين الثديين كذلك بخلاف ما إذا أقر الحديث على وجهه فإنه إذا وضعت الكف على ظهره نَفَذَ بردها إلى الناحية الأخرى وهو الصدر ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس وأيضًا فقول القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي نص لا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد الاعتناء أمر يُعلم بطلانه بالضرورة من اللغة وهو من غث كلام القرامطة والسوفسطائية(7/388)
وقوله والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فَعَلِمت ما بين المشرق والمغرب وما ذلك إلاَّ لأ ن الله تعالى أنار قلبه وشرح صدره بالمعارف يقال له الحديث يدل على أن هذه المعرفة كانت من آثار الوضع المذكور وهذا حق لكن لا يدل على أن الوضع ليس له معنى إلاَّ مجرد هذا التعريف وهذا ظاهر معروف بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أشياء حيث قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها وفي رواية برد أنامله على صدري فعلمت ما بين المشرق والمغرب فذكر وضع يده بين كتفيه وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين ثدييه وهذا معنى ثان وهو وجود هذا البرد عن شيء مخصوص في محل مخصوص وعقب ذلك(7/389)
بأثر الوضع الموجود وكل هذا يبين أن أحد هذه المعاني ليس هو الآخر فصل إذا تبين أن هذا كان في المنام فرؤية الله تعالى في المنام جائزة بلا نزاع بين أهل الإثبات وإنما أنكرها طائفة من الجهمية وكأنهم جعلوا ذلك باطلاً وإلاَّ فما يمكنهم إنكار وقوع ذلك(7/390)
فصل قال الرازي الفصل الثاني في لفظ الشخص هذا اللفظ ما ورد في القرآن لكنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا شخص أحب إليه الغيرة من الله وفي هذا الخبر لفظان يجب تأويلهما الأول الشخص والمراد منه الذات المعينة والحقيقة والمخصوصة لأن الجسم الذي له شخص وحجمية يلزم أن يكون واحدًا فإطلاق اسم الشخصية على الوحدة إطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر والثاني لفظ الغيرة ومعناه الزجر لأن الغيرة حالة نفسانية مقتضية للزجر والمنع فكنى بالسبب عن المسبب ها هنا(7/391)
أما هذا اللفظ فقد جاء في الصحيح في بعض طرق حديث المغيرة بن شعبة وترجم البخاري عليه في كتاب التوحيد وترجم بعده على قوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام 19] فسمى الله تعالى نفسه شيئًا فقال باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شخص أغير من الله حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عبد الملك بن(7/392)
عمير عن ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة قال قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف وهو غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني(7/393)
ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنة قال البخاري وقال عبيد بن عمرو عن عبد الملك(7/394)
لا شخص أغير من الله وقد جاء لفظ الشخص في حديث آخر أصح من هذا وهو حديث أبي رزين العقيلي الذي قدمناه في أحاديث إتيانه يوم القيامة سبحانه وتعالى قال فيه لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء من مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم قال قلت يا رسول الله كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض ننظر إليه وينظر إلينا قال أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونها في ساعة واحدة ويريانكم ولا تضامون في رؤيتهما ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه منهما على أن يريانكم وترونهما قال قلت يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه قال تعرضون عليه بادية له صفحاتكم وذكر الحديث وقد تنازع أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم في إطلاق اسم الشخص عليه قال القاضي أبو يعلى فغير ممتنع إطلاقها عليه لأنه ليس في ذلك ما يمثل صفاته(7/395)
ولا يخرجها عما يستحقه لأن الغيرة هي الكراهة للشيء وذلك جائز في صفاته قال تعالى وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة 46] قال وأما لفظ الشخص فرأيت بعض أصحاب الحديث يذهب إلى جواز إطلاقه ووجهه أن قوله لا شخص نفي من إثبات وذلك يقتضي الجنس كقوله لا رجل أكرم من زيد يقتضي أن زيدًا يقع اسم رجل كذلك قوله لا شخص أغير من الله يقتضي أنه يقع عليه هذا الاسم قال وقد ذكر أبو الحسن الدارقطني في كتاب الرؤية ما يشهد لهذا القول وذكر حديث لقيط بن عامر المتقدم وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله قال وقد ذكر أحمد هذا الحديث في الجزء الأول من مسند الكوفيين فقال عبد الله(7/396)
يعني ابن أحمد رحمه الله قال عبيد الله القواريري ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث قوله لا شخص أحب إليه المدحة من الله قال القاضي ويحتمل أن يمنع من إطلاق ذلك عليه لأن لفظ الخبر ليس بصريح فيه لأن معناه لا أحد أغير من الله لأنه قد روي ذلك في لفظ آخر فاستعمل لفظ الشخص في موضع أحد ويكون هذا استثناء من غير جنسه ونوعه كقوله تعالى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء 157] وليس الظن من نوع العلم وأما تأويل الشخص إذا ثبت إطلاقه بالذات المعينة(7/397)
والحقيقة المخصوصة فهذا باطل في لغة العرب التي خاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته إنما يوجد مثل هذا في عرف المنطقيين ونحوهم إذا قالوا هذا ينحصر نوعه في شخصه أو لا ينحصر نوعه في شخصه وقالوا الجنس ينقسم إلى أنواعه والنوع ينقسم إلى أشخاصه ونحو ذلك مما هو لفظ الشخص فيه بإزاء لفظ الواحد بالعين وأصل ذلك والله أعلم أن التقسيم لما كان واردًا على ما ظهر وهو الإنسان وكل واحد من الأناسي يسمى شخصًا نقلوا هذا بالعرف الخاص إلى ما هو(7/398)
من مسماه اللغوي فقالوا لكل واحد من أفراد أي نوع كان شخصًا حتى يسمون السواد المعين والبياض المعين شخصًا من أشخاص نوعه ويقولون واجب الوجود انحصر نوعه في شخصه كما يقولون مثل ذلك في الشمس وكل ما ليس له مثل وهذا مثل نقلهم ونقل المتكلمين للفظ الجوهر إلى أعم من مسماه اللغوي وكذلك لفظ الجسم وغيره لكن معرفة اللغات والعرف الذي يخاطب بها كل مخاطب من أهم ما ينبغي(7/399)
الاعتناء به في فهم كلام المتكلمين وتفسيره وتأويله ومعرفة المراد به فإن اللغة الواحدة تشتمل على لغة أصلية وعلى أنواع من الاصطلاحات الطارئة الخاصة والعامة فمن اعتاد المخاطبة ببعض تلك الاصطلاحات يعتقد أن ذلك الاصطلاح هو اصطلاح أهل اللغة نفسها فيحمل عليه كلام أهلها فيقع في هذا غلط عظيم وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء فعلينا أن نعرف لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخاطب بها خصوصًا فإنها هي الطريق إلى معرفة كلامه ومعناه حتى أن بين لغة قريش وغيرهم فروقًا من لم يعرفها فقد يغلط في ذلك وإذا كان كذلك فلا يعرف في لغة النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا غيرها من لغات العرب أنهم يسمون كل ذات حقيقة معينة شخصًا كما هو العرف الخاص لبعض الناس كما تقدم بل هذا معلوم الفساد بالضرورة من لغتهم إذ هذا يقتضي أن يسموا كل معين بحكم شخصًا حتى يسموا كل عرض معين من الطعوم والألوان والأراييح خصًا وهذا باطل قطعًا(7/400)
وأما توجيه ذلك بأن الجسم الذي له شخص وحجمية يلزم أن يكون واحدًا فإطلاق اسم الشخص على الوحدة إطلاق أحد المتلازمين على الآخر فهذا باطل من وجوه أحدها أن الشخص الذي له حجمية ليس واحدًا عندهم بل مركب إذ كل جسم مركب وقد قال هذا المؤسس في أول هذا الكتاب قوله أحد يدل على نفي الجسمية لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحدٌ مبالغة في الواحدية فكان قوله أحدٌ منافيًا للجسمانية وهذا المعنى تقدم غير مرة فإذا كان الشخص والحجمية يستلزم نفي الوحدة عندهم كيف يصح(7/401)
أن يقال هو يلزم أن يكون واحدًا الوجه الثاني هب أنه لا يستلزم الوحدة بناء على أن لغة العرب تسمي الواحد من الأجسام واحدًا وهذا هو الصواب لكن من أين يلزم أن يكون قولهم شخص وحجم يلزم لأن يكون واحدًا فأحسن أحواله أنه لا يستلزم ثبوت الوحدة ولا نفيها بل قد يقال هذا الشخص للشخص المرئي مع ما عليه من الثياب وما له من الأعضاء الوجه الثالث أن لفظ شخص مفرد جمعه أشخاص وشخوص وهذا يراد به الواحد بالعين ويراد به الجنس كسائر نظائره ومثل لفظ إنسان وفرس ونحو ذلك وإرادة الجنس بهذا أظهر من إرادة الواحد بالعين بدليل أنه إذا دخل عليه حرف النفي مثل ما في قولك ما عندي شخص وما عندي إنسان كان الظاهر من معناه أنه نافٍ للجنس ويجوز أن يراد به نفي الواحد فيقول ما عندي شخص بل شخصان إلاَّ أن يدخل عليه ما يختص بالجنس مثل لا النافية للجنس ومثل من في قولك لا شخص عندي أو ما عندي من شخص فهنا يجب إرادة الجنس وإذا كان كذلك فقول القائل(7/402)
إن الجسم الذي له شخص يلزم أن يكون واحدًا كلام باطل الوجه الرابع أن يقال كونه واحدًا بالعين ليس داخلاً في مسماه في أصل اللغة فاللفظ لا يوجب العدد ولا ينفيه لكن ما زاد على الواحد منفي بالأصل وقد ينفي بالقرينة اللفظية والحالية كقولهم شخص واحد وقولهم جاءني شخص فقال لي كذا وكذا كما تقول ركبت فرسًا والفرس يتناول عنانه فيكون التركيب دليلاً على الوحدة العينية لا مسمى اللفظ وعلى هذا قولهم ما جاءني رجل بل رجلان فإن قوله بل رجلان قرينة لفظية دليل على دخول الوحدة العينية في مسمى رجل الوجه الخامس أن دلالة هذا اللفظ على الوحدة سواء دل بالوضع أو بالقرينة كدلالة سائر الألفاظ التي تشبهه مثل لفظ إنسان وحيوان وفرس وثور وحمار وقائم وقاعد ونحو ذلك فإن كان دلالة هذه الألفاظ على الوحدة تسوغ إطلاق الاسم على الوحدة لزم جواز إطلاق جميع هذه الأسماء(7/403)
وما أشبهها على كل حقيقة وذات معيَّنة فيسمى كل شيء وكل جوهر أو عرض بكل واحد من هذه الأسماء كما يسميه المنطقيون شخصًا وعلى هذا فيجوز تسمية الله بكل واحد من هذه الأسماء ولا يكون المراد إلا الذات المعينة والحقيقة المخصوصة حتى يقال لا إنسان أو لا فرس أو لا ثور أو لا كذا أغير من كذا يعني الله هذا لازم قولهم وفساد هذا يُغني عن الإطناب وأيضًا فكان هذا التأويل لو كان صحيحًا كان استعماله في لفظ الصورة حتى يقال كل حقيقة عينة تسمى صورة من هذا الجنس وحينئذ فيلزمهم تسمية كل شيء باسم كل شيء إذ كل شيء له وحدة ويلزم ذاته فإذا جاز لجل ذلك أن يجعل اسمه اسمًا لمطلق الواحد حتى يقال لكل ذات معينة وحقيقة مخصوصة ولا يكفي في اللزوم أنهم هم يستعملون ذلك بل يلزم أنه يجوز لكل من سمع كلام غيره أن يحمل ما فيه من الأسماء على هذا كل شيء إذا قام عنده دليل على نفي إرادة المسمى وهذا كله أقبح السفسطة والقرمطة وهو يجمع من الإشراك بالله في جواز تسميته بكل اسم للخلق وجعل(7/404)
كل شيء له شبيهًا ونظيرًا من الإلحاد في أسمائه وآياته ما لا يحصيه إلاَّ الله إذ هذا من أفسد قياس يكون في اللغة فإنهم كما أفسدوا القياس في المعاني المعقولة حتى قاسوا الله بكل موجود وبكل معدوم كما تقدم بيانه كذلك أفسدوا القياس في الألفاظ المسموعة حتى لزمهم أن يجعلوا كل اسم لمسمى يصلح أن يكون لغيره وأن يسمى الله تعالى بكل اسم من أسماء المخلوقات الوجه السادس أن يقال هب أن لفظ الشخص يلزمه أن يكون واحدًا فهل إطلاق الملزوم على لازمه أمر مطرد أم هو سائغ في بعض الأشياء فإن جعل ذلك مطردًا لزمه من المحال ما يضيق عنه هذا المجال حتى يلزمه أن يسمي كل صفة لازمة للإنسان والفرس والشجرة والسماء والأرض باسم الموصوف بل ويلزمه ذلك من صفات الله تعالى وأسمائه الوجه السابع هب أنه يطلق الملزوم على لازمه فاللازم هو الوحدة كما قلت فإطلاق اسم الشخصية على(7/405)
الوحدة إطلاق أحد المتلازمين على الآخر وأنت تجعل المسمى هنا الذات المخصوصة والحقيقة المعينة وتلك ليست هي الوحدة بل هي شيء قائم بنفسه متميز عن غيره فإن قيل فقد ذكرتم أن من اصطلاح بعض الناس تسمية كل فرد من أفراد النوع شخصًا قيل نحن ذكرنا وجه ذلك بالاستعمال لما كان لفظ الشخص مقولاً على الإنسان وما يشبهه وقالوا الإنسان نوع تحته أشخاص أي أعيان هي أشخاص ولم يكن مقصودهم نفس الشخصية بل مطلق كونه واحدًا نقلوا ذلك إلى أعم منه كما في نظائره لم يجعل وجهه التلازم المذكور الوجه الثامن أنه يقال هب أن لفظ الشخص في لغة العرب يطلق على كل ذات معينة وحقيقة مخصوصة وهو كل ما كان واحدًا لكن لم قلت إن الحديث محمول عليه مع أنه خلاف الظاهر فإن قلت لأن لفظ الحقيقة أن يكون جسمًا وذلك منتف فعنه جوابان أحدهما أن هذا وارد عليك في كل ما يسمى به الله من السماء والصفات فإن مسماه في اللغة لا يكون إلا جسمًا(7/406)
أو عرضًا فعليك إذًا أن تتأول جميع الأسماء والصفات وأنت لا تقول بذلك ولا يمكن القول به كما تقدم فإن المتأول لابد أن يفر من شيء إلى شيء فإذا كان المحذور في الثاني كالمحذور في الأول امتنع ذلك فتبين أن التأويل باطل قطعًا الثاني أنا قد قدمنا أن جميع ما يذكر من هذه الأدلة التي تنفي الجسم على اصطلاحهم فإنها أدلة باطلة لا تصلح لمعارضة دليل ظني ولا قطعي الوجه التاسع أن إراد ة المعنى المجازي باللفظ لا يسوغ إلاَّ مع القرينة الصارفة عن معنى اللفظ الحقيقي إلى المجازي ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بهذا وخاطب أبو رزين بهذا ولم يُظهر أحدهما قرينة تنفي ذلك بل سياق الأحاديث يؤيد المعنى الحقيقي الوجه العاشر أن في حديث أبي رزين كيف يا رسول الله(7/407)
وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض فوصفه بأنه واحد بعد قوله وهو شخص فلو كان لفظ الشخص لم يرد به إلاَّ مجرد كونه واحدًا كما زعم المتأول لكان هذا تكريرًا فصل وأما تأويله للفظ الغيرة فنقول هذا مما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف ربه به ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أحد أغير من الله تعالى من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك(7/408)
مدح نفسه وفي رواية لمسلم وليس أحد أحب إليه المعذرة من الله ولذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك وعدنا بالجنة(7/409)
وفي الصحيح عن أسماء أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا شيء أغير من الله عز وجل وفي الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته فلم يصفه صلى الله عليه وسلم بمطلق الغيرة بل بين أنه لا أحد أغير منه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير من المؤمنين وقد قدمنا غير مرة أن الله لا يُساوى في شيء من صفاته وأسمائه بل ما كان من صفات الكمال فهو أكمل فيه وما كان من سلب النقائص فهو أنزه منه إذ لهُ المثل الأعلى سبحانه وتعالى فوصفه بأنه أغير من العباد وأنه لا أغير منه(7/410)
كوصفه بأنه أرحم الراحمين وأنه أرحم بعبده من الوالدة بولدها وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود والله لله عليك أقدر منك على هذا وكذلك العلم كقوله تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم 32] وكذلك الكلام كقوله تعالى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ(7/411)
حَدِيثًا (87) [المساء 87] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر 23] وقول النبي صلى الله عليه وسلم أصدق الكلام كلام الله ووصفه في حديث ابن مسعود والمغيرة بأنه لا أحد أحب إليه المدح من الله وكذلك قوله لا أحد أحب إليه العذر من الله فإن الغيرة هي من باب البغض والغضب وبإزاء ذلك المحبة والرضا فأخبر بغاية كماله في الطرفين حيث وصفه بأنه لا يبغض أحدٌ المحارم كبغضه ولا يحب أحدٌ الممادح كحبه والممادح لا تكون إلا على ما هو حسن يستحق صاحبه الحمد وهو ضد القبيح الذي يغار منه(7/412)
وكذلك جاء حمده والثناء عليه الذي لا يحبه أحد كحبه إياه في الصلوات التي هي أفضل الأعمال وكان ما يغار منه هو ما حرمه كالفواحش فهذا محبته للمأمورات وهذا بغضه للمحذورات وأحدهما ينافي الآخر كما قال تعالى إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت 45] وقال في ذم من بدل هذا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم 59] والعذر أن يُعذر المعذور فلا يذم ولا يلام على ما فعل قال من أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين فأحب أن يكون معذورًا على عقوبة من عصاه لأنه أقام حجته عليهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل كما أحب أن يكون محمودًا ممدوحًا على ما أحسن به وأولاه من وعدهم إياهم بالجنة وكما حمد نفسه فالأول عدله وهذا فضله فهذان متعلقان بأفعاله كلها ذكرا في مقابلة ما يبغضه ويغار منه فانتظم الحديث في الطرفين كليهما وأما قوله في تأويل الغيرة معناه الزجر لأن الغيرة(7/413)
حالة نفسانية مقتضية للزجر والمنع فكني بالسبب عن المسبب ههنا فالكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال لا ريب أن الغيرة تستلزم المنع والزجر مما يغار منه وكذلك الغضب والبغض ونحو ذلك من الصفات كما أن الحب والرضا يتضمن اقتضاء المحبوب المرضي وطلبه والأمر به لكن كون الصفة تستلزم فعلاً من الأفعال أو كون اللفظ يتضمن ذلك لا يقتضي أن يكون الثابت مجرد اللازم دون الملزوم الوجه الثاني أن هذه الصفات كلها والأحوال كالغيرة والغضب والبغض والمقت والسخط والحب والرضا والإرادة وغير ذلك هي مستلزمة لأمور أخرى من أقوال وأفعال فهل تحتمل على تلك اللوازم ويبقى الملازم أم يثبتان جميعًا أم يفرق بين البعض والبعض فإن قيل بالأول لزم ثبوت المراد بالإرادة وأن تكون إرادة الله هي المخلوقات ولزم أيضًا(7/414)
وجود محبوب مرضي بلا محبة ولا رضا بل يلزم وجود مخلوق بلا خلق وهذا كله مما يقوله الجهمية من المعتزلة ونحوهم فإنهم لا يثبتون خلقًا ولا حبًّا ولا رضًا ولا سخطًا ولا غير ذلك سوى المفعولات التي هي من لوازم هذه الأمور في الشاهد ولهم في الإرادة نزاع كله باطل فإن منهم من نفاها كما نفى سائر هذه الأمور ومنهم من جعلها صفة حادثة بلا إرادة قائمة في غير محل وكلا هذين القولين معلوم الفساد بالضرورة ثم الكلابية والأشعرية ونحوهم من الصفاتية قد يوافقون هؤلاء في بعض الأمور كقولهم الخلق هو المخلوقات وكرد من رد منهم هذه الصفات إلى الإرادة فإن هؤلاء يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما لزمهم فيما ردوه وطرد هذه المقالات التي يثبتون فيها الأثر بدون مؤثره هو ثبوت الوجود بدون الخالق له وذلك(7/415)
تعطيل الصانع وهذا هو في الحقيقة قول جهم وإن كان متناقضًا في ذلك يجمع في مقالاته بين ما يقتضي ثبوته وما يقتضي عدمه فالمقصود هنا مقالته السالبة التي خالف فيها أهل الإسلام فإن مضمونها تعطيل الصانع تعالى ولهذا تجد كل شيء من فروع هذه المقالة متى قسته وطردته استلزم عدم الصانع أو التناقض بالجمع بين الإثبات والنفي في الشيء الواحد أو نفي الإيجاب والامتناع في المتماثلين وإلاَّ فما من شيء يقرون به إلاَّ لزمهم فيه نظير ما أنكروه فيما نفوه الوجه الثالث قوله الغيرة حالة نفسانية قيل له وجميع الصفات هي لنا أحوال نفسانية كالحب والبغض والرضا والغضب وكالإرادة فإنها أيضًا حالة نفسانية وهي مقتضية للزجر تارة وللطلب أخرى لا فرق أصلاً بين بينهما في الشاهد الوجه الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتعجبون من غيرة سعد(7/416)
والله لأنا أغير منه والله أغير مني وهذا ترتيب للغيرة ثلاث مراتب وجعل كل غيرة أقوى من الأخرى فلو كان قوله والله أغير منى ليس المراد منه الغيرة بل مجرد المنع وقوله أنا أغير منه يراد به العزة لكان هذا شاذًّا في الكلام وهو أيضًا تلبيس على المخاطب بلا قرينة تبين المراد الوجه الخامس أن تأويله ذلك بالزجر والمنع يقال له الزجر والمنع إما أن تفسره بالكلام أو بغير ذلك من نحوه وعلى كل حال فيقال لك زجر الله ومنعه الذي هو كلامه مثلاً هو من جنس زجرنا ومنعنا وكلامنا أم ليس كذلك فبأي شيء قال في ذلك لزمه مثله في الغيرة فإنه إذا ثبت له زجرًا ومنعًا ولنا زجر ومنع ولم يكن ذلك ممتنعًا فهلا أثبت له غيرة ولنا غيرة ولا يكون ذلك ممتنعًا مع أنه مقتضى النص وكل ما ذكره من ذلك من مشابهة ومخالفة يقال في الآخر مثله لا فرق بينهما أصلاً الوجه السادس أن الزجر والمنع الذي هو الكلام إما أن تفسره بمجرد اللفظ أو بمجرد المعنى أو بمجموعهما(7/417)
وإذا فسرته بمجرد اللفظ فلابد من إثبات معنى يكون معنى الفظ وإلاَّ فاللفظ بلا معنى هذيان وإن كان هناك معنى هو مدلول لفظ الزجر والمنع فذاك المعنى لابد أن يكون من جنس البغض والكراهة ونحو ذلك فإن لفظ الزجر إن لم يتضمن ذلك لم يعقل منه النهي بحال وإذا كان كذلك فهذا الذي هو مدلول لفظ الزجر مستلزم لمعنى الغيرة الذي هو البغض والمقت والكراهة لما يغار منه فيكون المسبب الذي أوَّل به لفظ الغيرة مستلزمًا للسبب بحيث يمتنع وجوده بدونه وإذا لزم من نفي الغيرة إثباتها علم أن نفيها محال الوجه السابع أنه قال لا أحد أغير من الله وقال الله أغير مني وصيغة أفعل التفضيل توجب الاشتراك في معنى اللفظ مع رجحان المفضل أو اختصاص المفضل بمعنى اللفظ ولا يجوز اختصاص المفضول بمعنى اللفظ وهذا يوجب أن يكون الله موصوفًا بالغيرة على كل تقدير ثم يقال التفضيل بصيغة أفعل ليس في مجرد اللفظ ولا يجوز أن يكون للفظ معنيان واللفظ يقال عليهما بالاشتراك اللفظي(7/418)
أو بالحقيقة والمجاز بل يجب أن يكون اللفظ دالاًّ عليهما بالتواطؤ أو التشكيك الذي هو نوع من المتواطئ فلا يقال هذا أجسم من هذا ويكون المراد بهما كثافة أحدهما وكبر قدر الآخر بل يكون اللفظ دالاًّ على المعنيين بالتواطؤ الوجه الثامن أنه قال لا أحد أغير من الله كما قال لا أحد أحب إليه المدح من الله ولا أحد أحب إليه العذر من(7/419)
الله فلفظ أغير كلفظ أحب كلاهما في هذه الأحاديث وما يقال في الغيرة يقال في المحبة ما هو مثله أو أعظم منه فإن المحبة المشهودة في الآدميين كالعشق ونحوه أعظم من كثير من الغيرة فلا يجوز والحال هذه تأويل الغيرة دون المحبة والمحبة ثابتة بالقرآن في غير موضع وبالأحاديث المتواترة وسنتكلم إن شاء الله على تأويلها الوجه التاسع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة الصحيح إن الله تعالى يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه فأخبر بذلك خبرًا مبتدأ مجردًا ولم يقيد ذلك بما يخالف إطلاقه فلو كان المراد بذلك خلاف مدلوله لم يجز وكذلك قوله لا أحد أغير من الله الوجه العاشر أنه لو كان المراد بقوله إن الله يغار أن الله يزجر ويمنع لم يكن في التعبير عن هذا المعنى بهذا اللفظ والإخبار به فائدة ل كان إلى التلبيس أقرب منه إلى البيان لأن كل مسلم يعلم أن الله ينهى ويزجر ويحرم فلو لم يكن لقوله إن الله يغار معنى إلا أنه ينهى ويزجر كان قد عرفهم(7/420)
بالأمر الواضح الجلي الذي يعلمونه بلفظ مشكل فيه تلبيس عليهم وهذا لا يفعله إلاَّ من يكون من اجهل الناس وأظلمهم ولا ينسب هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ منافق زنديق أو من يكون عظيم الجهل لا يدري لوازم قوله الوجه الحادي عشر أنه قال ما أحد أغير من الله من أجل ذلك حرن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وفي اللفظ الآخر من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وهذا نص صريح في إثبات السبب الذي هو الغيرة والمسبب الذي هو المنع والزجر وأنه من أجل غيرته التي هي السبب كان هذا المسبب الذي هو التحريم فجعل معنى الغيرة هو معنى التحريم الذي هو المنع والزجر تكذيب صريح للرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الحقيقة قول الجهمية لكن منهم من يعلم بذلك فيكون منافقًا ومنهم جُهال لا يعلمون أنهم مكذبون له الوجه الثاني عشر أنه قال لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ومن اجل ذلك وعد الله بالجنة ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين(7/421)
والمبشرين كما قال ولا أحد أغير من الله ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فجعل محبته للعذر سببًا لإرسال النذر ومحبته للمدح سببًا لمدح نفسه ولوعده عباده بالجنة وهذا يقرر أن المحبة والغيرة هي السبب في الأقوال المذكورة ليست هي نفس الأقوال التي هي الوعد والإرسال والمدح والنهي(7/422)
فصل قال الرازي الفصل الثالث في لفظة النفس احتجوا على إطلاق هذا اللفظ بالقرآن والأخبار أما القرآن فقوله تعالى في حق موسى عليه السلام وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] وقال حاكيًا عن عيسى عليه السلام تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] وقال تعالى في صفة أهل الثواب كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقال تعالى في تخويف العصاة وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28-30] وأما الأخبار فكثيرة الخبر الأول ما روى أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه(7/423)
والخبر الثاني قوله صلى الله عليه وسلم سبحان الله بحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه الخبر الثالث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو عنده إن رحمتي سبقت غضبي قال واعلم أن النفس جاء في اللغة على وجوه أحدها البدن قال الله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] ويقول القائل كيف أنت في نفسك أي كيف أنت في بدنك وثانيها الدم يقال هذا حيوان له نفس سائلة أي دم سائل ويقال للمرأة عند الولادة إنها نفست بخروج الدم منها عقيب الولادة وثالثها الروح قال الله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ(7/424)
مَوْتِهَا [الزمر 42] ورابعها العقل قال الله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام 60] وذلك لأن الأحوال بأسرها باقية حالة النوم إلا العقل فإنه هو الذي يختلف الحال فيه عند النوم واليقظة وخامسها ذات الشيء وعينه وقد قال تعالى يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) [البقرة 9] فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة 54] وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود 101] إذا عرفت هذا فنقول لفظ النفس في حق الله تعالى ليس إلاَّ الذات والحقيقة فقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي كالتأكيد الدال على مزيد المبالغة فإن الإنسان إذا قال جعلت هذه الدار لنفسي وعمرتها لنفسي فهم منه المبالغة وقوله تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة 116](7/425)
المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وكذلك القول في بقية الآيات وأما قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن رب العزة فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فالمراد أنه إن ذكرني بحيث لا يطلع عليه أحد غيره ذكرته بإنعامي وإحساني من غير أن يطلع عليه أحد من عبيدي لأن الذكر في النفس عبارة عن الكلام الخفي والذكر الكامن في النفس وذلك على الله تعالى محال وأما قوله سبحان الله زنة عرشه ورضاء نفسه فالمراد ما يرتضيه الله لنفسه ولذاته أي تسبيحًا يليق به وأما قوله صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا على نفسه فالمراد به كتب كتابًا وأوجب العمل به والمراد من قوله على نفسه التأكيد والمبالغة في الوجوب واللزوم فثبت أن المراد بالنفس في هذه المواضع هو الذات وأن الغرض من ذكر هذا اللفظ المبالغة والتأكيد(7/426)
فيقال اعلم أن كلامه في هذا الفصل وإن كان فيه من لبس الحق بالباطل ما فيه فهو أقرب ما ذكره وذلك أنه جعل المراد بالنفس هو الذات وهذا هو الصواب فإن طائفة من متأخري أهل الإثبات جعلوا النفس في هذه النصوص صفة لله زائدة على ذاته لما سمعوا إدخال المتقدمين لها في ذكر الصفات ولم يكن مقصود المتقدمين ذلك وإنما قصدهم الرد على من ينكر ذلك من الجهمية وزعموا أن ذلك هو ظاهر النصوص وليس الأمر كذلك وقد صرح أئمة السنة بأن المراد بالنفس هو الذات وكلامهم كله على ذلك كما في كلام الإمام احمد فيما خرجه من الرد على الجهمية قال ثم إن الجهمي ادعى أمرًا آخر فقال أخبرونا عن القرآن هو شيء قلنا نعم هو شيء قال إن الله خالق كل شيء فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة وقد أقررتم انه شيء فلعمري لقد ادعى أمرًا أمكنه فيه الدعوى ولبس على(7/427)
الناس بما ادعى فقلنا إن الله تبارك وتعالى لم يُسم كلامه في القرآن شيئا إنما سمى شيئا الذي كان بقوله ألم تسمع إلى قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل 40] فالشيء ليس هو قوله إنما الشيء الذي كان بقوله وقال في آية أخرى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس 82] فالشيء هو أمره إنما الشيء الذي كان بأمره قال ومن الأعلام والدلالات أنه لا يعني بكلامه مع الأشياء المخلوقة قول الله جل ثناؤه للريح التي أرسلها على عاد تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف 25] وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها منازلهم ومساكنهم(7/428)
والجبال التي كانت بحضرتهم قد أتت عليها تلك الريح ولم تدمرها وقد قال تعالى إنها تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف الآية 25] فكذلك إذا قال اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة وقال تعالى لملكة سبأ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل 23] وقد ملك سليمان شيء لم تؤته فكذلك إذا قال خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا يعني به كلامه مع الأشياء المخلوقة(7/429)
وقال الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] وقال وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28-30] وقال تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقال عيسى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] وقال كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] فقد عرف من عقل عن الله تعالى أنه لا يعني نفسه مع الأنفس التي تذوق الموت وقد ذكر الله كل نفس فكذلك إذا قال خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة ففي هذا دلالة وبيان لمن عقل عن الله عز وجل وهذا من كلامه يبين أن مسمى لفظ النفس عنده هي ذات الله تعالى أخبر أنها لا تدخل في عموم قوله تعالى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كما لم يدخل في عموم قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ(7/430)
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [سورة آل عمران 185] مع إخبار أن له نفسًا كما تلاه من الآيات ومعلوم أن قوله كُلُّ نَفْسٍ ليس المراد به صفة من صفات الإنسان بل المراد به هو نفسه فعلم أن قوله تعالى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ونظائر ذلك ليس هو صفة للرب بل هو الرب نفسه وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل في أثناء كلامه بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلمًا إذا شاء ولا نقول إنه قد كان ولا يتكلم حتى خلق كلامًا ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علمًا فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورًا ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله من هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين(7/431)
زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر وهذه ألفاظ صريحة في أن مسمى النفس هو ما يقوم به الصفات وهو مسمى الله وليس مسمى النفس صفة من الصفات وكذلك قال ويقال للجهمي إذا قال إن الله معنا بعظمة نفسه إلى أن قال وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس الله كان ولا شيء فيقول نعم فقل له حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل لابد له من واحد منها إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه(7/432)
فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء وإن قال خالقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة وكذلك قال زعمت الجهمية أن الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق فقلنا قبل أن يخلق هذا الاسم ما كان اسمه قالوا لم يكن له اسم فقلنا وكذلك قبل أن يخلق العلم كان جاهلاً لا يعلم حتى خلق لنفسه علمًا وكان لا نور له حتى خلق لنفسه نورًا وكان لا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة فعلم الخبيث أن الله قد فضحه وأبدى عورته حين زعم أن الله جل(7/433)
ثناؤه في القرآن إنما هو اسم مخلوق وقال عثمان بن سعيد الدارمي ثم عاد المعارض إلى أسماء الله تعالى ثانية فادعى أنها محدثة كلها لأن السماء هي الألفاظ ولا يكون لفظ إلا من لافظ إلاَّ أن في معانيها ما هي قديمة ومنها حديثة وقد فسرنا للمعارض تفسير أسماء الله تعالى في صدر كتابنا هذا واحتججنا عليه بما تقوم به الحُجة من الكتاب والسنة فلم نُحب إعادتها ها هنا ليطول به الكتاب غير أن قوله هي لفظ اللافظ يعني أنه من ابتداع المخلوقين وألفاظهم ل أن الله تعالى لا يلفظ بشيء في دعواهم ولكن وصفه بها المخلوقون وكلما حدث لله تعالى فعل في دعواه أعاره العباد اسم ذلك الفعل يعني أنه لما خلق سمَّوه خالقًا وحين رزق سمَّوه رازقًا وحين خلق الخلق(7/434)
فملكهم سمَّوه مالكًا وحين فعل الشيء سمَّوه فاعلاً وكذلك قال منها حديثة ومنها قديمة فأما قبل الخلق فبزعمهم لم يكن لله اسم وكان كالشيء المجهول الذي لا يُعرف ولا يُدرى ما هو حتى خلق فأحدثوا أسماءه ولم يعرفُ الله في دعواهم لنفسه أسماء حتى خلق الخلق فأعاروه هذه الأسماء من غير أن يتكلم الله بشيء منها فيقول أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص 30] وأنا الرحمن الرحيم وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) [البقرة 160] فنفوا كل ذلك عن الله تعالى مع نفي الكلام عنه حتى ادعى جهم أن راس محنته نفي الكلام عن الله فقال متى نفينا عنه الكلام فقد نفينا عنه جميع الصفات من النفس واليدين والوجه والسمع والبصر لأن الكلام لا يكون إلاَّ لذي نفس ووجه ويد وسمع وبصر ولا يثبت كلام لمتكلم إلاَّ من قد اجتمعت فيه هذه الصفات وكذب جهم وأتباعه فيما نفوا عنه من الكلام وصدقوا فيما ادعوا أنه لا يثبت الكلام(7/435)
إلاَّ لمن اجتمعت فيه هذه الصفات فقد اجتمعت في الله على رغم أعداء الله وإن جزعوا منه بلا تكييف ولا تمثيل وهو الذي أخبر عنه بأسمائه في محكم كتابه المنزل على رسوله ووصف بها نفسه وقوله ووصفه غير مخلوق على رغم الجهمية غير أن الوصف من الله على لونين أما ما وصف به نفسه فالوصف والموصوف غير مخلوق وأما ما وصف به خلقه من السموات والأرض والجبال والشجر والجن والإنس والأنعام وسائر الخلائق فالوصف منه غير مخلوق والموصوفات مخلوقات(7/436)
كلها قال وادعى المعارض أيضًا أن الله تعالى لا يوصف بالضمير والضمير منفي عن الله وليس هذا من كلام المعارض وهي كلمة خبيثة قديمة من كلام جهم عارض جهم بها قول الله تعالى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] يدفع بذلك أن يكون الله سبق له علم في نفسه بشيء من الخلق وأعمالهم قبل أن يخلقهم فتلطف بذكر الضمير ليكون أستر له عند الجهال فرد على جهم بعض العلماء قوله هذا وقال له كفرت بها يا عدو الله من ثلاثة أوجه أنك نفيت عن الله العلم السابق في نفسه قبل حدوث الخلق وأعمالهم والوجه الثاني أنك استجهلت المسيح صلى الله عليه وسلم أنه وصف ربه بما لا يوصف به بأن له خفايا علم في نفسه إذ يقول له وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116](7/437)
والوجه الثالث أنك طعنت به على محمد صلى الله عليه وسلم إذ جاء به مصدقًا بعيسى فأفحم جهمًا قال وقول جهم لا يوصف الله بالضمير يقول لم يعلم الله في نفسه شيئًا من الخلق قبل حدوثهم وحدوث أعمالهم وهذا أصل كبير في تعطيل النفس والعلم السابق والناقض عليه بذلك قول الله تعالى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] فذكر المسيح أن لله علمًا سابقًا في نفسه يعلمه الله ولا يعلمه هو وقال الله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28-30] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله الخلق كتب في كتابه بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي(7/438)
وأسند حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه(7/439)
قال فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يخفي ذكر العبد في نفسه إذا أخفى ذكره ويعلنه إذا أعلن هو ذكره ففرق بين علم الظاهر والباطن والجهر والخفي فإذا اجتمع قول الله وقول الرسولين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم فمن يكترث لقول جهم والمريسي وأصحابهما فنفس الله هو الله والنفس تجمع الصفات كلها فإذا نُفيت النفس نُفيت الصفات وإذا نُفيت الصفات كان لا شيء قال وحدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن زيد بن جبير سمعت أبا البختري قال لا يقولن(7/440)
أحدكم اللهم أدخلني مستقر رحمتك فإن مستقر رحمته نفسه قال فقد أخبر أبو البختري أن رحمة الله في نفسه وكذلك قال الله تعالى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه 15] فحدثنا ابن نمير حدثنا محمد بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح الحنفي أكاد أخفيها(7/441)
قال من نفسي فأي مسلم سمع بما أخبر الله به عن نفسه في كتابه وما أخبر عنه الرسول ثم يلتفت إلى أقاويلهم إلاَّ كل شقيٍّ غويٍّ إلى أن قال ونحن قد عرفنا بحمد الله تعالى من لغات العرب هذه المجازات التي اتخذتموها دلسة وأغلوطة على الجهال تنفون بها عن الله حقائق الصفات بعلل المجازات غير أنا نقول لا نحكم للأغرب من كلام العرب على الأغلب لكن تُصرف معانيها إلى الأغلب من كلام العرب حتى يأتوا ببرهان أنّه عُني بها الأغرب وهذا هو(7/442)
المذهب الذي هو الإنصاف والعدل أقرب لا أن تُعترض صفات الله المعروفة المقبولة عند أهل البصر فتصرف معانيها بعلة المجازات إلى ما هو أنكر ويرد على الله بداحض الحجج وبالتي هي أعوج وكذلك ظاهر القرآن وجميع ألفاظ الروايات تصرف معانيها إلى العموم حتى يأتي متأول ببرهان يبين أنها أريد بها الخصوص لأن الله تعالى قال وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) [النحل 103] فأثبته عند العلماء أعمه وأشد استفاضة عند العرب فمن ادخل منها الخاص على العام كان من الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهو يريد أن يتبع فيها غير سبيل المؤمنين فمراد جهم من قوله لا يوصف الله تعالى بالضمير يقول لا يوصف بسابق علم في نفسه والله تعالى يكذبه بذلك ثم رسوله إذ يقول سبق علم الله في خلقه فهم صائرون على ذلك ثم أسند حديثًا عن العلاء بن(7/443)
عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وعن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جف القلم على علم الله(7/444)
وأسند عن القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء يكون قل فهل جرى القلم إلاَّ بسابق علم الله في نفسه قبل حدوث(7/445)
الخلق وأعمالهم والله ما درى القلم بماذا يجري حتى أجراه الله بعلمه وعلمه ما يكتب مما يكون قبل أن يكون وقال النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله مقادير أهل السموات والأرض قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة فهل كتب ذلك إلاَّ بما علم فما موضع كتابه هذا عن لم يكن علمه في دعواهم وأسند الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي عبد الرحمن الحُبليّ عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال والأحاديث عن(7/446)
النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان بسابق علم الله كثيرة تطول عن ذكرناها وفيما ذكرنا من ذلك ما يبطل دعوى جهم في أغلوطته التي توهم على الله تعالى في الضمير قلت فهذا الكلام عن عثمان بن سعيد يبين أن مُسمى النفس عند السلف وهو الذات كما قال فنفس الله هو الله والنفس تجمع الصفات كلها فإذا نفيت النفس نفيت الصفات وكذلك قوله فأخبر أبو البختري أن رحمة الله في نفسه لأن الصفة قائمة بالموصوف فهذا ونحوه يبين مرادهم وأنهم قصدوا رد ما أنكرته الجهمية من ذكر إثبات مسمى النفس لله وقيام العلم بها كما يذكر عن ثمامة بن أشرس أنه قال ثلاثة من(7/447)
الأنبياء مشبهة موسى حيث قال إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الأعراف 155] وعيسى حيث قال تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] ومحمد حيث قال ينزل ربنا كل ليلة وبذلك يتبين ما ذكره عثمان بن سعيد حيث قال حتى ادعى جهم أن رأس محنته نفي الكلام فقال متى نفينا عنه الكلام فقد نفينا عنه جميع الصفات من النفس واليدين والوجه والسمع والبصر لأن الكلام لا يثبت إلاَّ لذي نفس ووجه ويد وسمع وبصر وقال عثمان كذبوا فيما نفوا عن الله من الكلام وصدقوا فيما ادعوا أنه لا يثبت الكلام إلاَّ لمن اجتمعت فيه هذه الصفات وقد اجتمعت في الله عز وجل على رغم أنفسهم فإدخاله النفس هنا في الصفات وقوله إن الكلام(7/448)
لا يثبت إلاَّ لذي نفس ووجه ويد وسمع وبصر قد يشعر ظاهره أن مسمى النفس صفة لصاحبها لأنه أضافها إليه وقرنها بالوجه واليد وليس كذلك فإن إضافتها إليه كإضافتها في قوله تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] وفي قوله رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقد قال بعد هذا فنفس الله هي نفس الله والنفس تجمع جميع الصفات كلها فإذا نفيت النفس نفيت الصفات فهذا يبين أنه أراد الذات التي تقوم بها الصفات كالعلم القديم كما ذكره فينبغي أن يكون لله نفس ويكون فيها علم كما قال تعالى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [المائدة 116] فقوله إن الكلام لا يثبت إلا لذي نفس يشبه قوله إلاَّ لذي حقيقة وماهية ونحو ذلك لكن لفظ النفس والله أعلم يقتضي(7/449)
حياة المسمى بها وقيامه بنفسه بخلاف لفظ حقيقته وماهيته وذاته فمسمى لفظ النفس أخص وهي التي جاء بها الكتاب والسنة ولم يجئ فيهما ذكر لفظ حقيقته ونحو ذلك في أسماء الله ولا لفظ ذات في الأحاديث الثابتة وكذلك قال أبو بكر بن خزيمة باب ذكر البيان من خبر النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات النفس لله عز وجل على مثل موافقة التنزيل وذكر قوله فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وقوله سبحان الله رضا نفسه وقوله كتب في كتابه(7/450)
على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي وفي رواية أخرى لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي قال أبو بكر فالله أثبت في كتابه أن له نفسًا وكذلك قد بين على لسان نبيه أن له نفسًا كما أثبت في كتابه قال وكفرت الجهمية بهذه الآي وهذه السنن وزعم بعض جهلتهم أن الله إنما أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه وزعم أن نفسه غيره كما خلقه غيره قال وهذا لا يتوهمه ذو لُبٍّ وعلم فضلاً عن أن يتكلم به قد أحكم الله في مجمل تنزيله أنه كتب على نفسه الرحمة أفيتوهم مسلم أن الله كتب على غيره الرحمة وحذر الله العباد(7/451)
نفسه أفيحل لمسلم أن يقول إن الله حذر العباد غيره أو يتأول قوله لكليمه وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] فيقول معناه واصطنعتك لغيري من المخلوقين أو يقول أراد روح الله بقوله وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] أراد ولا أعلم ما في غيرك هذا لا يتوهمه مسلم ولا يقوله إلاَّ معطل كافر فهذا أيضًا يبيّن أنهم قصدوا الرد على الجهميَّة حيث منعوا ثبوت النفس لله حتى جعلوا مسامها غيره حتى ذكر القاضي أبويعلى في بعض تأويلاتهم قول بعضهم في قوله تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك أنَّ نفسك ترجع إلى نفس عيسى وأضاف نفسه إلى الله من طريق الملك والخلق فيكون معناه لا أعلم ما في ملكك مما خلقته إلاَّ ما أعلمتني وهذا لأنَّ مسمّى النفس أخصّ من مسمّى الذات والعين والحقيقة والماهيَّة ونحو ذلك فإنَّها لا تقال إلاَّ لما هو(7/452)
حيّ كما في مثل قوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] لو كان معنى كل ذات وكل حقيقة لدخل في ذلك الجمادات وكذلك يستلزم أن يكون لها قول وعمل وأن تكون قائمة بذاتها قائمة بها الصّفات فلمّا كان اسم النفس مستلزمًا لإثبات ما تنكره الجهميّة من الصفات أنكروه فردّ عليهم السلف والأئمة ذلك ولم يقصدوا بالرد أنَّ نفس الله صفة ليست هي ذاته كما ذهب إليه طائفة من المتأخرين فهذا القول ضعيف وإن كان قول الجهمية أضعف منه قال القاضي أبويعلى في كتاب إبطال التأويل في هذا الخبر من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي اعلم بأنَّ الله يوصف بأنَّ له نفسًا وقد أومأ إليه أحمد فيما خرّجه من الرد على الجهمية فقال إذا أردت أن تعلم أن الجهميّ كاذب على الله تعالى حين زعم أنَّه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس كان الله ولا شيء فيقول(7/453)
نعم فقل له حين خلق الشيء أخلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه فإنّه يصير إلى ثلاثة أقاويل لابد له من واحد منها إن زعم أنَّ الله خلق الخلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنَّه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنَّه دخل في كل مكانٍ وحشٍ قذر رديء وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السُّنَّة قال وهذا من كلام أحمد يدلُّ على إثبات النفس لأنَّه جعل ذلك حجة عليهم ولو لم يعتقد ذلك لم يحتج به وقد أخبر الله تعالى بذلك في آي من كتابه مثل قوله تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقوله تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] وقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] ولأنَّه ليس في(7/454)
إثبات النفس ما يحيل صفاته ولا يخرجها عمّا تستحقه لأنّا لا نثبت نفسًا منفوسة مجسَّمة مركّبة ذات روح ولا نثبت نفسًا بمعنى الدّم على ما تقوله العرب له نفس سائلة وليست له نفس سائلة ويريدون بذلك الدم لأنَّه سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك بل نثبت نفسًا هي صفة زائدة على الذات كما أثبتنا له حياة وبقاءً فقلنا هو حيّ بحياة وباق ببقاء وإن لم تكن حياته وبقاؤه عرضين كحياتنا وبقائنا كذلك في النفس قال فإن قيل فأثبتوا له روحًا لأنَّه قد وصف روحه بذلك فقال تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر 29] قيل لا نثبت له ذلك لأنَّ السمع لم يرد بذلك على وجه الصفة للذات وقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص 72] المراد به أمره لقيام الدليل على أنَّ صفات ذاته لا تحلُّ المحدثات ويفارق هذا إثبات الـ ـنفس لأنَّه ليس في إثباتها ما يحيل صفاتها ولا يخرجهـ ـا عما يستحقه وقال بعد ذلك(7/455)
ولا يجوز إثبات روح وقد قال أحمد فيما خرّجه في الردّ على الزنادقة في قوله تعالى وَرُوحٌ مِنْهُ فقال تفسير روح الله إنّما معناها أنَّه روح بكلمة الله تعالى خلقها الله كما يقال عبد الله وسماء الله وأرض الله قلت أمَّا ما ذكره من كلام أحمد فإنَّه موافق لألفاظ النصوص وقد قدمنا هذا وغيره من كلام أحمد وكله يدلُّ على أنَّ نفس الله هو الله وذاته لا صفة قائمة به وهكذا اللفظ الذي استشهد به على ذلك فإنَّ أحمد قال فقل له خلق الخلق في نفسه أو خارجًا من نفسه ثم بيَّن أنَّه إن قال خلقهم في نفسه كفر لأنّه جعل الأشياء الخبيثة كالشياطين في نفس الله وإن قال خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم كفر حيث جعله قد دخل في الأمكنة الخبيثة التي يعلم بالفطرة الضرورية تنزيه الله تعالى عنها وإن قال خلقهم خارجًا من(7/456)
نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهذا صريح في أنَّ نفسه هي هو وهي ذاته لا صفة لذاته لأنّه لو كان المراد خلقهم في صفته أو خارجًا عن صفته لم تكن القسمة حاصرة إذ قد يخلقهم في المحل الذي هو فيه وأيضًا إن قال خلقهم في نفسه كفر وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء فهذا يبين أنَّ الخالق هو نفسه الذي قدر أنه خلقهم خارجًا عنه ثم دخل هو فيهم ولو أريد خلقهم خارجًا عن صفة من صفاته لكان المقدّر دخول تلك الصفة فيهم بعد ذلك لا دخوله هو وكذلك قوله وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة أي أن العالم مباين لذات الله تعالى وقد مر تقرير كلام أحمد في موضعه وأن حجته هذه النظرية من أحسن الحجج المعلومة ببديهة العقل(7/457)
ولا يستقيم هذا الكلام إلا إذا كان معنى نفسه هو ذاته وهو ظاهر الكلام بل نصه لا يفهم منه غير ذلك وحينئذ فنتكلم مع الطائفتين أمَّا قوله من جعلها صفة فالنزاع معه لفظي فإنا لا ننازعه أنَّ هذا الاسم يستلزم ثبوت صفة زائدة على مسمّى الذات كالحياة والفعل ولكن المسمّى هو الذات الموصوفة بذلك لا نفس الصّفة فأمَّا جعل لفظ النفس اسمًا لنفس الصّفة فيقال هذا قول بلا دليل أصلاً لأنّه ليس ظاهر الخطاب فضلاً عن أن يكون نصه مقتضيًا أنها صفة ليست هي الله ومن زعم أنَّ هذا ظاهر النصوص فهو مبطل في ذلك كما أنَّ من زعم أنَّ ظاهرها يجب تأويله فهو مبطل في ذلك وقد قدمنا أنَّ كثيرًا من الناس يغلطون في دعواهم على النصوص أنَّ ظاهرها(7/458)
كذا سواء أقرّوه أو صرفوه فإنّه لا يكون ذلك ظاهر النص وكل من سمع هذا الخطاب ابتداء فإنَّه يفهم منه ابتداءً أنَّه هو نفسه لا أنَّها صفة له الوجه الثاني أنه قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] فكما أنَّه لا يكتبها على غيره فلا يكتبها على صفة من صفاته إنما يكتبها على نفسه الوجع الثالث أنَّه قال سبحان الله رضاء نفسه وصفات الله لا يكون لها رضا إنَّما الرضا له نفسه هو الذي يرضى ويسخط الوجه الرابع قوله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28] فكما أنَّه لا يحذر بعض مخلوقاته لا يحذر صفاته كالحياة ونحوها بل هو نفسه هو الذي يخاف ويرجى ويُتَّقى ويُعبَد وهم لا يمكنهم أن يقولوا نفسه هي صفة الغضب ونحو ذلك دو ن غيرها بل يجهلونـ ـها نظير الحياة والبقاء(7/459)
كما ذكروه وهذه الصفة تتعلّق بالرضا والغضب ومعلوم أنَّ الله لا يحذّر عباده حياته وبقاءه ونحو ذلك ولا بنفي ذلك الوجه الخامس قوله لموسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] إنَّما اصطنعه لذاته لا لصفة له كالحياة والبقاء كما لم يصطنعه لشيء من خلقه الوجه السادس قول المسيح عليه السلام تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] فقد وصف النفس بأنَّ فيها علمًا والعلم وسائر الصفات إنَّما تقوم بالله نفسه لا تقوم بصفة كالحياة ونحوها الوجه السابع قوله ما في نفسي فإنَّ المراد به هو نفسه ليس المراد به صفة من صفاته إذ علمه لا يقوم إلاّ به نفسه وذاته وعينه لا تقوم بصفة من صفاته ولا أعلم ما في نفسك فإنَّ لفظهما سواء وقد خرج على وجه المقابلة(7/460)
الوجه الثامن قوله إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فإنَّ الذكر قول وكلام وسواء أريد الذكر الكامن أو اللفظ فإنَّه على التقديرين لا يقوم إلاَّ بالذاكر نفسه وعينه لا يقوم بصفة من صفاته فعلم أنَّ ذكر الله في الله نفسه وذكر العبد لله في نفسه الوجه التاسع قوله إن ذكرني في نفسه إذا كان المراد به هو نفسه وذاته فكذلك الآخر الوجه العاشر قوله في الحديث الصحيح لمَّا قضى الله الخلق كتب بيده على نفسه إنَّ رحمتي تغلب غضبي فهو لا يكتب على صفة له كالحياة والبقاء وإنَّما يكتب على نفسه فإن قالوا إن جاز حمل النفس على الذات جاز حمل الحياة والبقاء على الذات فيقال ذات حيَّة ذات باقية وقد أجمعنا ومُثبتو الصفات على انَّه حيّ بحياة باقٍ ببقاء كذلك جاز أن يكون ذات بنفس والجواب أنَّ مسمّى الحياة والبقاء وهو الصِّفة وأمَّا(7/461)
مسمّى النفس هو الموصوف نفسه وليس في كتاب الله ولا سنّة رسوله لفظ النفس يراد به صفة موصوف لا في ذكر الخالق ولا في ذكر المخلوق كما قال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر 42] وقال كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] وقال إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف 53] وقال وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) [القيامة 2] وقال يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) [الفجر 27] وقال فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة 54] وقال لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [النور 12] وأضعاف ذلك في الحديث ليس المراد به أنَّ نفس الشيء صفة له فمن حمل قوله على نفسه أنَّه صفة من صفاته فقد حمل على غير لغة العرب التي أنزل الله بها كتابه وهذا خلاف نص القرآن وظاهره فضلاً عن أن يقال هو ظاهره وأيضاً فإنَّهم يؤكِّدون بها فيقولون رأيت زيدًا عينه نعم يوجد في كلام بعض المولَّدين(7/462)
ما يشبه أن يكون لفظ النفس صفة كما يقولون فلان له نفس وفلانٌ ليس له نفس واترك نفسك وتعال ونفسك وحجابك ونحو ذلك فإنَّ مقصودهم الصفات المذمومة كالأهواء المتّبعة من الشهوة والغضب ونحو ذلك وهذا ليس من اللّغة التي يجوز حَمل كلام الله ورسوله عليها إذ مثل هذا لا يوجد إلا في كلام المتأخرين وذلك والله أعلم أنَّ هذا مثل قولهم فلان له يد وله لسان أي يد باطشة ولسان ناطق فيطلقون اسم الذات ويريدون به الصّفة المشهورة فيها فقول القائل اترك نفسك أو له نفس ونحو ذلك يريد به الذات على الصّفة المخصوصة وهي الصفة المذمومة كما يقال أمسك لسانك واكفف يدك أو له لسان وله يد وهذا يستعملونه في النفي كما يستعملونه في الإثبات فينفون الشيء لانتفاء الصفة المشهورة فيه كما يقال فلان ليس له(7/463)
لسان أي لا يحسن أن يتكلم ولا يد له في هذا أو هو عاجز عن عمل هذا كما يقولون فلان ليس بإنسان لانتفاء الصّفات المعروفة في الإنسان عنه وهكذا لفظ النفس قد يقولون لا نفس له لانتفاء الهوى والغضب وقد يجعلون ذلك حمدًا إذا انتفى المذموم منه وقد يذمونه بذلك إذا انتفى فيه الجهة المحمودة فيقال ليس له نفس بهذا الاعتبار وإذا كان كذلك فمعلوم أنَّ مثل هذا في الإثبات إنَّما يراد به إثبات الذات الموصوفة بصفات النّفس لا يراد به مجرّد صفة فعلم أنَّ اسم النَّفس إنَّما هو اسم لذات الشيء الموصوفة قالوا قوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] المراد به الله الذي له النَّفس فكذلك قولكم وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28, 30] المراد به الله الذي له النَّفس فيقال لهم هذا لو كان صحيحًا لكان تأويلاً وهو من أضعف التأويلات فكيف تبطلون التأويل بمثل هذا التأويل وأيضًا فإنَّ اللفظ لا يحتمل ذلك في لغة العرب بوجه من الوجوه وأيضًا فإنَّ ذلك عدول عن مدلول اللفظ ومقتضاه بغير موجب(7/464)
أصلاً وذلك من تحريف الكلم عن مواضعه وأمَّا لفظ الحياة والبقاء فلا يجوز أن يراد بها الذات الحيَّة لأنَّ ذلك صفة والذات هي الموصوف فمن اعتقد أنَّ مسمّى النَّفس في الخالق والمخلوق صفة وعرض لا موصوف وجوهر وجعل مسمّى لفظها من جنس مسمّى لفظ الحياة والبقاء فقد غلط على اللغة وغلط على القرآن والحديث قالوا وهذا يؤدّي إلى جواز القول بأنَّ الله نفس وأنَّه يجوز أن يدعى فيقال يا نفس اغفر لنا وقد أجمعت الأمّة على منع ذلك والجواب من وجوه أحدها أنَّ هذا منقوض عليهم بلفظ ذات وموصوف وقائم بنفسه وحقيقة وبائن من خلقه ونحو ذلك فإنَّه إن جاز أن يقال يا ذات يا موصوف يا قائمًا بنفسه يا حقيقة يا بائنًا من خلقه اغفر لنا جاز أن يقال يا نفس وإلاَّ فلا الثاني أنَّ الله إنَّما يُدعى بأسمائه الحسنى وهي الأسماء التي تدل عليه نفسه وتبين من أوصافه ما فيه حمد وثناء عليه فأمَّا الألفاظ التي لا تدل إلاَّ على مطلق الوجود ونحوه فلا يُدعى بها كما انَّه سبحانه لا يُدعى بالأسماء الدالة على خلقه للضرر(7/465)
إلاَّ مقرونًا بالأسماء التي تدلُّ على خلقه للنفع فلا يقال يا ضارُّ ولا يا مانع إلاّ مقرونًا بيا نافع ويا هادي ويا معطي فإنَّ الاقتران يقتضي عموم القدرة والخلق والحكمة وهذا من أسمائه الحسني بخلاف إفراد أحدهما الثالث أنَّ هذا يرد عليهم فيما ادّعوه فإنّهم جعلوا له نفسًا هي صفة فينبغي أن يقال ياذا نفس اغفر لنا فإن قيل الإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه فلا يكون هو نفسه المضافة إليه قيل لا نزاع بين أهل اللغة أنه يقال رأيت زيدًا نفسه وعينه وهذا هو زيد نفسه وعينه ونحو ذلك والمغايرة في مثل هذا هو أنَّ مسمى لفظ النفس والعين اعمّ من المضاف إليه فإنَّ النَّفس والعين لغيره أيضًا فإذا أُضيف ذلك إليه خصصه بالإضافة والمغايرة تارة تكون في الذات وتارة في الصِّفات في باب العطف كقوله تعالى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) [الأعلى 2-4] فكذا في باب الإضافة ومن هذا الباب قولهم ثوب خز وخاتم فضة(7/466)
ونحو ذلك وإن كان المضاف هو خز أو هو فضَّة لكان مسمّى كل منهما أعمّ من مسمّى الآخر وإنّما اختصا بالإضافة فكذلك قول القائل نفسي فيه اسمان مظهر وهو هذه النفس ومضمر وهو الياء ومن المعلوم أنّ الأسماء المضمرة لا تدلُّ على شيء من صفات المسمّى إلاّ كونه متكلمًا أو مخاطبًا أو غائبًا ونحو ذلك فالياء تدلُّ على أنه هو المتكلم كما أنَّ الهاء في قوله بعته تدل على أنَّه الغائب وهذا المعنى مغاير لمسمى النّفس وأمَّا لفظ النفس فهو يقتضي من الصِّفات كالحياة والفعل ونحو ذلك ما ليس في الأسماء المضمرة لكن لا يختص بذلك مضاف إليه دون آخر وإذا أُضيف ذلك إلى مضمر كان في لفظه من عموم المعاني ما ليس في المظهر والمضمر إذ المُضمر يدل على ذلك باللزوم وفي المضمر من خصوص كونه متكلمًا وغائبًا ما ليس في المظهر وبالإضافة اختص المضاف بالمضاف إليه فامتنع أن يكون المسمّى نفسًا غير نفسه وأيضًا فذكر لفظ النَّفس يدلُّ على ثبوت الحكم للمسمى نفسه لا لأحد منسوب إليه فإذا قيل كلمه الآمر نفسه منع أن يكون الكلام بواسطة ترجمان أو رسول وإذا قيل أنا(7/467)
بنفسي جئت إليك منع أن يكون أرسل إليه رسولاً فقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] فيه ما ليس في قوله اصطنعتك إليّ إذ الأشياء تضاف إلى الله تعالى على وجوه متنوعة فقوله لنفسي يوجب أنَّه جعله خاصًّا له ومن المواضع ما لا يصلح فيها إلاّ هذا اللفظ كما في قوله ذكرته في نفسي فإنَّه لو قال ذكرته فيّ لم يكن من الكلام المعروف بخلاف ذكرته في نفسي وأيضًا ففي هذا من الدلالة على عدم الجهر ما ليس في غيره وأمّا من نفى خاصيّتها ولم يثبت إلاّ عموم مسمّى الذات فقد تقدّم أنَّ لفظ النَّفس لا يقال إلاَّ لحيّ ذي مقال وفعال لا يقال لمن ليس كذلك فكان في هذا اللفظ من المعاني ما ليس في غيره فلا يجوز نفي ذلك وهذه المادة ن ف س في لغة العرب تعطي الفعل والحياة وَسَمَّوا الدم نفسًا لأنّه مادة حياة الأجسام الحيوانيَّة وهو حامل البخار الذي هو الروح الحيواني ففيه الحياة والحركة ولهذا أمر بسفحه من الحيوان وحرم(7/468)
أكله لأنّه يولّد على آكله البغي والاعتداء في القوة النفسانية وكذلك الهواء الداخل والخارج سمّوه نفسًا لما فيه من الحياة والحركة وكذلك المتفلسفة يفرّقون بين العقل والنفس بأنَّ العقل مجرّد عن المادة وعلائقها والنَّفس تتعلّق بالجسم تَعَلُّق التدبير والتصريف وأما قول المؤسس إن النَّفس في اللغة يراد بها مجرّد البدن فهذا لا أصل له وقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] لم يُرد به كل بدن فإن البدن الخالي عن الروح لا يذوق الموت بل النفس هنا يراد بها الروح كقوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر 42] وأما قوله يراد بها العقل كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 60] وأحوال النائم باقية إلا العقل فهذا سهو منه فإنَّ قوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 60] ليس فيه(7/469)
لفظ النّفس وإنَّما لفظ النفس في الآية الأولى وهي قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر 42] فالآية التي احتج بها على أنَّ مسمّى النّفس هي مُسمّى الروح هي الآية التي ذكر فيها توفّي الأنفس وذلك يقتضي أنَّ المتوفّى بالموت والنوم هو النّفس التي هي الروح وأنَّ النّائم تُتوفى روحه لكن توفِّيًا دون الموت بحيث تمسك وترسل وأمَّا التعبير بلفظ النّفس عن العقل فهذا ليس من لغة العرب أصلاّ وأما قوله يراد بها ذات الشيء وعينه كقوله تعالى وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة 9] وقوله فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة 54] وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود 101] فلا يراد بها ذات كل شيء وعين كل شيء اللَّهم إلاّ أن يكون في التوكيد فإذا قالوا الأنفس والنفوس لم يفهم منه ما لا حياة له ولا فعل كالجمادات ولهذا قال النّبي صلى الله عليه وسلم ما من نفس منفوسة إلاّ وقد كتب الله مكانها من الجنّة والنّار(7/470)
وأما قوله تعالى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فهو نظير قوله لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [النور 12] وقوله ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة 85] وقوله وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات 11] أي يقتل بعضكم يعضًا وسمّى الجميع نفسًا أي لا يقتل إلاّ من هو منكم لا يكون من غيركم لأن المتفقين في مقصود الحياة والفعل يكونـ ـون كالشيء الواحد قوله لفظ النّفس في حق الله تعالى ليس إلاّ الذات والحقيقة(7/471)
يقال له أتريد أنّ معنى اللفظ مطلق ذات ما وحقيقة ما أم ذات وحقيقة قائمة بنفسها مستلزمة للحياة والفعل ونحو ذلك أمَّا الأول فممنوع والثاني فمسلَّم وبهذا يتبيّن أنَّ أهل الوسط يثبتون ما أثبته الطائفتان من الحق ويجمعون بين قوليهما فإنَّ هؤلاء أثبتوا من مُسمّى اللفظ مطلق الذات وأولئك أثبتوا الصّفة الخاصة وأهل الوسط أثبتوا الأمرين فإنَّ اللفظ دالّ على الذات وعلى خصوص الصفة قوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] كالتأكيد الدال على مزيد المبالغة فإن الإنسان إذا قال جعلت هذه الدار لنفسي فُهم منه المبالغة يقال له التأكيد يقتضي ثبوت المعنى المؤكّد فما المعنى المؤكّد الذي أكّد بهذا الكلام هذا لم يثبته ولم يبين هل التوكيد بذكر لفظ النّفس أم بالإضافة إلى الله تعالى وقد قال غيره(7/472)
كابن فورك اصطنعتك لنفسي لذاتي أو لرسالتي والآية تقتضي أنّه اصطنع موسى لنفسه واصطنع افتعل من صنع أي صنعه لنفسه فيكون خالصًا له مخلصًا له الدين كما قال تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) [مريم 51] ويشبهه قول أم مريم إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران 35] لكن هناك الله هو الذي اصطنعه لنفسه فإنَّ من كان في عمله وسعيه شيء لغير الله يكون كالذي فيه شركاء متشاكسون بخلاف الذي يكون كله لله وقد تضمّن ذلك أنَّه يحبّه كما قال قبل هذه الكلمة وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه 39-40] إلى قوله ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 40-41] وجاء في حديث أبي هريرة الذي فيه تحاج آدم وموسى قال آدم لموسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته واصطنعك لنفسه وأنزل عليك التّوراة قال نعم ومعلوم أنَّ الأنبياء وسائر عباد الله هم درجات(7/473)
عند الله في عبوديتهم لله وإخلاصهم له ومحلته لهم وقربهم منه فاصطناع الله موسى لنفسه له من الخصوص ما لا يشركه فيه من موسى أفضل منه وإن كان الجميع عباد الله المخلصين له الدين وقد قال القاضي تأويل قوله تعالى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] معناه لذاتي ورسالتي لا يصحّ لأنّه لا فائدة للتخصيص بموسى لأن غيره من الأنبياء اصطنعه لذاته ورسالته فوجب أن يكون لتخصيص النفس هنا فائدة فيقول له منازعوه وكذلك لو كانت النفس صفة لم يكن(7/475)
موسى مخصوصًا بالاصطناع لها فإن الاصطناع لله أعظم من الاصطناع لصفة من صفاته وأيضًا فالعباد لا يصطنعهم الله لصفة من الصفات وإنَّما يصطنعهم الله له نفسه وأما قول المؤسس تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك فلا ريب أنَّ هذا المعنى داخل في الآية لكن تفسيرها بمجرد هذه العبارة ليس بسديد فإنَّ معلوم الله ومعلوم عيسى ليس واحدًا منهما في النفس وإنَّما الذي في النفس العلم المطابق للمعلوم وأيضًا فسواء كان الذي في النّفس العلم أو المعلوم فـ ـكون المراد تعلم ما أعلم أو علمي ولا أعلم ما تعلم أو علمك لا ينافي أن يكون لله نفسًا كما نطقت به الآية كما أنَّ لعيسى عليه السلام نفسًا فإنَّ الآية صريحة في ذلك وهي دالة على ذلك المعنى ودلالة اللفظ على بعض المعاني لا يمنع دلالته على غيره(7/476)
وكذلك ما ذكره آخرون كابن فورك أنَّ المعنى تعلم ما في نفسي أي في غيبي ولا أعلم ما في نفسك أي في غيبك يقال لهم إن جُعل لفظ النفس بمعنى الغيب فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله وأسمائه وأن أُريد أنّك تعلم ما أغيبه في نفسي ولا اعلم ما تُغيبه(7/477)
في نفسك فهذا صحيح لكنّه تطويل بلا فائدة والآية أوضح من هذا وأيضًا فـ ـقول القائل تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك لفظ مجمل فإنَّ غيب الشخص ما غاب عن غيره وإن كان بعض الناس قد شهده فإنّا نؤمن بالغيب الذي هو غيب عنَّا وإن كان من ذلك ما هو مشهود لغيرنا وأمَّا ما في نفسي فلا يعلمه غيره وأيضًا لفظ الغيب هو في الأصل مصدر ولكن يُراد به الغائب فالغيب الغائب فإذا قيل غيبي وغيبك أي غائبي وغائبك فينبغي أن يقال تعلم غائبي ولا أعلم غائبك أي حاجة إلى أن يقال تعلم ما في غائبي ولا اعلم ما في غائبك كيف يصح أن يقول عيسى لربّه تعلم ما في غيبي أو غائبي وأيُّ شيء يغيّبه عيسى عن الله وهو على كل شيء شهيد ولفظ الغيب إذا خوطب به مخاطب لابد أن يكون غائبًا عنه وأيضًا فغيب الله الذي غيّبه عن عباده الذي لا يعلمه العباد(7/478)
هو المعلوم نفسه فأيّ شيء هو الذي في الغائب غيره وهذا من قديم تأويل الجهمية ذكره عبد العزيز الكناني في الرد على الزنادقة والجهمية قال في باب ما يسأل عنه الجهمية يقال له تقول إنَّ لله وجهًا وله نفس وله يد فيقول نعم ولكن معنى قولي وجه الله أي هو الله ومعنى قولي نفس الله أريد به غيب الله ومعنى يد الله(7/479)
نعمة الله وتكلّم على ما ذكروه في الوجه قال وأمّا قوله في نفس الله هي غيبه فكأنّه لم يقرأ القرآن ولم يسمع الله عز وجل يقول وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 30] وقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقوله تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] يليق أن يكون هذا ويحذّركم الله غيبه أو كتب ربّكم على غيبه الرحمة وقوله لموسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] أي لغيبي وأما قول المؤسس وكذلك القول في بقيَّة الآيات فلم يفصله لكن قال من تأوّل ذلك كابن فورك في قوله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 30](7/480)
وقالوا تأويل عقوبته فيقال لهم تحذير العباد نفسه كأمره لهم بخوفه فإن قال القائل إنّ تحذير الله نفسه يتضمّن تحذير عقوبته فهذا حقٌّ وإن قال لا معنى لذلك إلاّ تحذير عقوبته من غير أن يحذر نفسه فهذا تحريف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك(7/481)
فلمّا استعاذ بصفاته ذكر الرضا والسخط والمعافاة والعقوبة ثم ذكر النفس فقال وأعوذ بك منك فالاستعاذة من عقوبته هي معنى من ثلاث معان فكيف يقال لا محذور ولا مستعاذ منه إلاّ العقوبة وقد قال تعالى لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) [آل عمران 28] وفي الجملة فتحذير الله نفسه بمنزلة الأمر بالخوف منه والأمر بتقواه ومن المعلوم أنَّ الله تعالى نفسه هو الذي يُخاف وعقوبته مما يخاف منه وهو الذي يُتقى وعقابه يُتّقى بتقواه وهو الذي يحذر عقابه فنفي تعلق التحذير(7/482)
بها باطل يُذكر إن شاء الله تعالى بطرق في موضعه وأما قول المؤسس وحكايته عن ربّ العزّة قوله فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فالمراد به إن ذكرني بحيث لا يطّلع عليه غيره ذكرته بإنعامي وإحساني من غير أن يطّلع عليه أحدٌ من عبيدي لأنّ الذّكر في النفس عبارة عن الكلام الخفيّ والذكر الكامن وذلك على الله تعالى محال يقال له لا نُسلّم أنّ هذا على الله تعالى محال ولم تذكر على ذلك حجة وهذا والله أعلم هو معنى ما ذكره الأئمة عن الجهم أنه قال لا يوصف الله بالضمير والضمير عن الله منفيّ فإنَّ الضمير ما يُضمر فيه الشيء أي يخفى أي لا يُوصف بما فيه شيء خفيّ لكن الجهم أوسع إنكارًا من هذا المؤسس وذويه وإنّما أنكر الجهمية هذا لأن الله عندهم لا يتكلم ولا يَذكر ولا يقوم به ذكر وإنما الكلام المضاف إليه عندهم ما يخلقه في الهواء وهذا إنّما يصلح إذا خلقه(7/483)
لمن سمعه من الملائكة والبشر فإذا كان الذكر في نفسه لم يسمعه وهذا الحديث نصٌ صريح في إبطال مذهبهم وأمَّا الكلابية والأشعرية فإنّهم لا ينكرون أن يقوم بذاته ذكر هو الكلام النفساني لكن لا يجوز عندهم التفريق بين الإعلان والإسرار فإنَّ المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سر وعلانية ولا يكون منه شيء في نفس الربّ وشيء من الملائكة عندهم أكثر ما يقوله بعضهم أنَّه قد يسمع الملائكة ما يسمعهم إيّاه فيكون التخصيص في خلق الإدراك للملائكة والحديث نصٌ في الفرق بين ذكره في نفسه وبين ذكره في الملأ بفرق يرجع إلى نفسه لا إلى خلق إدراك الملائكة فالحديث نص في إبطال قول هؤلاء أيضًا والحديث مستفيض في الصحيح وله طرق منها في الصحيح حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول(7/484)
الله صلى الله عليه وسلم يقول الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منهم وإن تقرّب إليّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا وإن تقرّب إليّ ذراعًا تقرّبت إليه باعًا وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً وذكر العبد ربه في نفسه نوعان أحدهما في نفسه من غير حروف يسمعها هو الثاني ذكر بلفظ خفي يسمعه هو دون غيره قال تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف 205] وذكر العبد في نفسه يتناول القسمين جميعًا ولهذا قال المؤسس إن الذكر في نفسه عبارة عن الكلام الخفيّ والذكر الكامن في النفس وذلك على الله محال(7/485)
فصل قال المؤسس الفصل الرابع في لفظ الصمد قال الله تعالى اللَّهُ الصَّمَدُ [سورة الإخلاص آية 2] وذكر بعضهم في تفسير الصمد أنه الجسم الذي لا جوف له ومنه قول من يقول لسدادة القارورة الصِّماد وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة قال ابن قتيبة وعلى هذا التفسير الدال مبدلة من التاء وقال بعضهم الصمد هو الأملس من الحجر الذي(7/486)
لا يقبل الغبار ولا يدخل فيه شيء ور يخرج منه شيء قال واحتج قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في إثبات أنه تعالى جسم وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحدًا ينافي كونه جسمًا فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام الغليظة وتعالى الله عن ذلك قال والجواب عنه من وجهين الأول أن الصمد فعل بمعنى مفعول من صمد إليه أي قصد والمعنى أنه المصمود إليه في الحوائج قال الشاعر ألا بكر الناعي بخيري بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد(7/487)
والذي يدل على صحة هذا الوجه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية قالوا ما الصمد فـ ـفال النبي صلى الله عليه وسلم السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج قال أبو الليث يقال صمدت صمد هذا الأمر أي قصدت قصده الوجه الثاني من الجواب أنا سلمنا أن الصمد في(7/488)
أصل اللغة المصمت الذي لا يدخل فيه شيء ولا ينفصل عنه شيء إلاّ أنا نقول قد دللنا على أنه لا يمكن ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى فوجب حمل هذا اللفظ على مجازه وذلك لأن الجسم الذي يكون هذا شانه مبرأ عن الانفصال والتباين والتأثر عن الغير وهو سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان فكان المراد من الصمد في حقه تعالى هو هذا المعنى وبالله التوفيق والكلام على هذا من وجوه الأول أنه قد ذكر في القسم الأول من هذا الكتاب وهو الأدلة الدالة على نفي الجسم والحيز لما ادعى أن هذه السورة حجة له على نفي الجسمية والجهة أن هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى(7/489)
جعلها جوابًا عن سؤال السائل وأنزلها عند الحاجة يعني لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماهية ربه ونعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فانزل الله تعالى هذه السورة قال وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذا ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلاً ثم إنه في القسم الثاني الذي جعله في تأويل المتشابهات من الآي والأخبار ذكرها من المتشابه الذي قد تأوله وذلك يقتضي أنه لا يجوز الاستدلال بها في باب صفات الله تعالى لن الاستدلال لا يجوز بالمتشابه بل يجب عنده إما تأويله وإما(7/490)
تفويضه وهذا تناقض بين فيقال له لا يخلو إما أن تكون السورة محكمة أو متشابهة فإن كان الأول بطل ما ذكرته من التأويل هنا وبطل دعواك أنها من المتشابه وإن كان الثاني بطل ما ذكرته هناك من الاستدلال بها على مذهبك والتحقيق أن ما ذكره لنفسه في الموضعين باطل وما ذكره عليه حق فإن السورة محكمة لا ريب فيها كما ذكره أولاً وهي دالة على نقيض مذهبه ولا ريب في ذلك كما ذكروه ولكن يعلم أن هؤلاء القوم كما قال الله تعالى لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) [الذاريات 8-9] مختلفون في الكتاب ويحتجون به إذا ظنوا أنه لهم ويردونه إذا كان عليهم قد جعلوا(7/491)
القرآن عضين يقول بعضهم لبعض اذهبوا إلى القرآن والحديث إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا , يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) [النساء 60-61] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) [النور 47] وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) [النور 48] وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) [النور 49] يستمسكون بالمتشابه من القول ويدعون المحكم يتركون النصوص المحكمة من الكتاب والسنة التي لا ريب في معناها ويدعون اتباع القرآن والحديث بما يدعونه من الافتراء على معانيه وهذا من أعظم اتباع المتشابه فإن قيل إنما ذكرها في المتشابه لأجل أحد القولين وهو تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له وهو لا يختار إلاَّ التفسير الأخير وهو أنه السيد المصمود إليه في الحوائج فيقال إن كان القولان متعارضين وأحدهما هو الصحيح(7/492)
فكان الواجب ذكر القول الآخر من باب المعارضة ثم الجواب عنه لا تكون السورة بذلك محكمة ومتشابهة جميعًا حتى تذكر في القسمين الوجه الثاني أن هذا التفسير ثابت عن الصحابة والتابعين وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أثبت مما ذكره قال الإمام أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة باب نسبة الرب تبارك اسمه حدثنا أبو كامل الفضيل بن حسين حدثنا أبو سعد الخراساني حدثنا أبو جعفر الرازي عن(7/493)
الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن أبي كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 1-4] قال فالصمد الذي لم يلد ولم يولد ولا يولد له لأنه ليس شيء يلد إلاَّ يولد ولا يولد إلاَّ سيموت وليس شيء يموت إلاَّ يورث وإن الله لا يموت ولا يورث ولم يكن له كفوًا أحد قال ليس له شبيه ولا مثل ولا عديل(7/494)
حدثنا محمد بن مُصفى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه أن عبد الله بن سلام قال لأحبار يهود إني أريد أن(7/495)
أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عهدًا قال فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنت عبد الله بن سلام قال قلت نعم قال قلت فانعت لنا ربك قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 1-4] قال وقرأ بها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت ابن سلام لم ير النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يره إلاَّ بالمدينة وقال لما رأيته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب(7/496)
قال ابن أبي عاصم حدثنا أبو الربيع حدثنا هشيم حدثنا أبو إسحاق الكوفي عن مجاهد عن ابن عباس قال الصمد الذي لا جوف له(7/497)
حدثنا ابن حساب حدثنا ابن ثور عن معمر عن عكرمة قال الذي لا جوف له حدثنا نصر بن علي حدثنا أبي عن شعبة عن أبي رجاء عن عكرمة مثله(7/498)
حدثنا نصر بن علي حدثنا يزيد بن زريع عن أبي رجاء عن عكرمة مثله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غُندر عن شعبة عن أبي رجاء عن عكرمة قال الذي لا يخرج منه شيء حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن عُلية عن أبي رجاء عن عكرمة قال الذي لا يخرج منه شيء(7/499)
حدثنا أبو بكر حدثنا وكيع عن سفيان وحدثنا أبو موسى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال الصمد الذي لا جوف له وبالإسناد عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد(7/500)
قال الصمد الذي لا جوف له وحدثنا أبو بكر حدثنا ابن أخي إدريس عن أبيه عن عطية وعن ليث عن مجاهد قالا الصمد الذي ليس له جوف وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أحمد وحدثنا المقدمي حدثنا ابن أبي الوزير عن محمد بن(7/501)
مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن جبير قال الصمد الذي لا جوف له وحدثنا نصر بن علي حدثنا أبي حدثنا محمد بن مسلم عن سعيد بن جبير مثله حدثنا ابن أبي عمر حدثنا مروان هو ابن معاوية(7/502)
عن صالح بن مسعود عن الضحاك بن مزاحم في قوله الصمد الذي لا جوف له حدثنا أبو موسى حدثنا عبد الله بن داود عن مستقيم بن عبد الملك عن سعيد بن المسيب قال الصمد الذي ليس له حشو ة حدثنا أبو موسى حدثنا إسحاق بن منصور عن(7/503)
عبد السلام عن عطاء عن ميسرة قال الصمد المصمت حدثنا أبو موسى حدثنا يحيى بن سعيد وابن مهدي حدثنا المقدمي حدثنا بشر بن المفضل وابن مهدي عن الربيع بن مسلم عن الحسن قال الصمد الذي ليس له(7/504)
بأجوف وحدثنا نصر بن علي حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن الحسن قال الصمد الباقي بعد فناء خلقه وهو قول قتادة وحدثنا ابن حساب حدثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن قال الصمد الدائم وقال عبد الرزاق في تفسيره أخبرنا معمر عن قتادة(7/505)
أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك فلم يدر ما يرد عليهم فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) أخبرنا معمر عن الحسن في قوله الصمد قال الدائم قال معمر وقال عكرمة هو الذي لا جوف له قال عبد الرزاق أخبرنا قيس بن ربيع عن مجاهد عن عاصم(7/506)
عن شقيق بن سلمة وقال ابن أبي عاصم حدثنا أبو بكر أخبرنا يحيى بن سعيد وعيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال الصمد الذي لا يأكل الطعام حدثنا أبو موسى حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن الشعبي مثله أخبرنا أبو الربيع حدثنا هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال أخبرت أن الصمد الذي لا يأكل الطعام(7/507)
ولا يشرب الشراب حدثنا المقدمي حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح قال الذي ليس له أمعاء حدثنا أبو بكر ثنا وكيع عن أبي معشر عن(7/508)
محمد بن كعب القرظي قال الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وقال حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق حدثنا أبي حدثنا الحسين بن واقد حدثنا عاصم بن بهدلة عن شقيق عن عبد الله بن مسعود قال الصمد السيد الذي قد انتهى سؤدده إلا أن هذا محفوظ عن شقيق(7/509)
وهو أبو وائل من قوله هكذا رواه عامة الناس ويمكن أنه قد سمعه من ابن مسعود عن كان الحسين سمع هذا من عاصم قبل اختلاطه فإن هذا فيه نظر حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل قال الصمد الذي قد انتهى(7/510)
سؤدده حدثنا محمد بن ثعلبة ثنا ابن سواء عن سعيد عن أبي معشر عن إبراهيم قال الصمد الذي يصمد الناس إليه في حوائجهم وروى الإمام الحافظ أبو القاسم الطبراني صاحب المعاجم في كتاب السنة له وقد رواه بعد أن ذكر الآثار في الرؤية(7/511)
وفي الاستواء على العرش ثم أخذ في الصفات فافتتح بتفسير هذه السورة فقال باب من صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا محمد بن ميسر أبو سعيد الصاغاني حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال جاء المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) قال الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد لأنه ليس شيء يولد إلاَّ سيموت وليس أحد يموت إلاَّ يورث والله تعالى لا يموت ولا يورث ولم يكن له كفوًا أحد لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء قلت هذا الحديث قد تقدم أيضًا في كتاب السنة لابن أبي عاصم وهو مشهور عن أبي سعد هذا ورواه عنه الناس(7/512)
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده ورواه الترمذي في جامعه قال حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو سعد هو الصاغاني عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ قال الصمد الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلاَّ وسيموت ولا شيء يموت إلا سيورث وإن الله لا يموت ولا يورث ولم يكن له كفوًا أحد قال لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء قال الترمذي حدثنا عبد الرحمن بن حُميد حدثنا(7/513)
عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا انسب لنا ربك قال فأتاه جبريل عليه السلام بهذه السورة قل هو الله أحد فذكر نحوه ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب وهذا أصح من حديث أبي سعد وأبو سعد اسمه محمد بن ميسر وأبو جعفر الرازي اسمه عيسى وأبو العالية اسمه رفيع وكان مولى أعتقته امرأة سائبة ثم قال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي(7/514)
حدثنا سُريج بن يونس حدثنا إسماعيل بن مجالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال قالوا يا رسول الله انسب لنا ربك فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) وقال الطبراني حدثنا عبد الله بن أبي مريم حدثنا الفريابي(7/515)
حدثنا قيس بن الربيع عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق بن سلمة قال قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ إلى آخرها قال الطبراني لم يجاوز به الفريابي وغيره شقيق بن سلمة ووصله عبيد بن إسحاق العطار عن قيس عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله حدثنا الهيثم بن خلف الدوري حدثنا أبو أسامة عبيد الله(7/516)
ابن أسامة حدثنا عبيد بن إسحاق العطار حدثنا قيس بن الربيع عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله حدثنا الحزامي حدثنا عبد الرحمن بن عثمان الطرائفي حدثنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل شيء نسبة ونسبة الله قل هو الله أحد الله الصمد والصمد ليس بأجوف وهذا في إسناده الوازع بن نافع قال الطبراني حدثنا حفص عن عمر الرقي حدثنا(7/517)
محمد بن عمر الرومي حدثنا عبيد الله بن سعيد أبو مسلم قائد الأعمش عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه رفعه قال الصمد الذي لا جوف له حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا(7/518)
أبو نعيم حدثنا سلمة بن سابور عن عطية عن ابن عباس قال الصمد الذي لا جوف له حدثنا عبد الله بن أحمد حدثني أبو الربيع الزهراني حدثنا هشيم حدثنا أبو إسحاق الكوفي عن مجاهد عن ابن عباس مثله وأبو إسحاق الكوفي قد وثقه الطبراني كما سيجيء حدثنا عبد الله بن أبي مريم حدثنا الفريابي حدثنا(7/519)
سفيان عن منصور عن مجاهد قال الصمد المصمت الذي لا جوف له حدثنا علي بن المبارك الصنعاني حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج عن مجاهد الله الصمد قال مُصمت لا جوف له حدثنا الحسين بن إسحاق حدثنا الحماني قال حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد الصمد(7/520)
المصمت الذي لا جوف له حدثنا عبد الرحمن بن مسلم الرازي حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الله بن إدريس عن ليث عن مجاهد في قوله الصمد قال الذي ليس له جوف حدثنا أبو خليفة حدثنا ابن حساب وحدثنا(7/521)
عبد الرحمن بن مسلم حدثنا سهل قال حدثنا محبوب قال الصمد الذي لا جوف له حدثنا عبد الرحمن بن مسلم حدثنا سهل حدثنا محبوب عن طلحة بن عمرو قال سمعت عطاء بن أبي رباح قال الصمد المُصمت الذي لا جوف له حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا أبو نعيم عن سلمة بن نبيط حدثنا الضحاك بن مزاحم قال الصمد(7/522)
الذي ليس بأجوف حدثنا عبد الرحمن حدثنا سهل حدثنا أبو مالك الجنبي وعلي بن غراب قالا حدثنا جويبر عن الضحاك الله الصمد قال الذي لا جوف له حدثنا الحسين بن إسحاق حدثنا الحماني حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال قالت اليهود(7/523)
يا محمد صف لنا ربك فأنزل الله تعالى قل هو الله أحد قالوا أما الأحد فقد عرفناه فما الصمد قال الذي لا جوف له حدثنا الحسين بن إسحاق حدثنا الحماني حدثنا محمد ابن ربيعة الكلابي حدثنا مستقيم بن عبد الملك عن سعيد ابن المسيب قال الصمد الذي لا حشوة له حدثنا عبد الرحمن حدثنا سهل حدثنا الحكم بن ظهير عن يحيى بن المختار عن الحسن الصمد قال الذي ليس له جوف(7/524)
حدثنا الحضرمي حدثنا عثمان ابن أبي شيبة حدثنا يحيى ابن آدم عن مندل بن علي عن أبي روق عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عبد الله الصمد الذي ليس له أحشاء حدثنا الحضرمي حدثنا طاهر بن أبي أحمد الزبيري(7/525)
حدثنا أبي حدثنا بن مسلم الطائفي عن إبراهيم ابن ميسرة قال أرسلت إلى سعيد بن جبير أسأله عن الصمد قال الذي لا جوف له حدثنا الحضرمي حدثنا ابن نُمير حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن السدي الصمد الذي لا جوف له(7/526)
حدثنا الحسين بن واقد عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود قال الصمد الذي قد انتهى سؤدده حدثنا الحسين حدثنا الحماني حدثنا هشيم عن أبي إسحاق الكوفي عن عكرمة قال الصمد الذي ليس فوقه أحد وأنشدني في ذلك شعرًا قال أبو القاسم الطبراني أبو إسحاق الكوفي هذا ليس بالسبيعي واسمه هارون وهو ثقة روى عنه حماد بن زيد وهشيم حدثنا ابن أبي مريم حدثنا الفريابي قال(7/527)
حدثنا سفيان حدثنا الحضرمي حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس ووكيع وأبو أسامة حدثنا الحسين حدثنا الحماني حدثنا حفص بن غياث وأبو معاوية وحدثنا عبد الرحمن بن سلمة حدثنا سهل حدثنا علي بن مسهر ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة كلهم عن(7/528)
الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة في قوله الصمد قال السيد الذي قد انتهى سؤدده حدثنا عبد الله بن أحمد حدثني إبراهيم بن الحجاج حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل السيد الذي لا شيء أسود منه حدثنا محمد بن عثمان حدثنا عمي أبو بكر وحدثنا الحضرمي حدثنا عثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا عبد الله ابن إدريس عن شعبة عن أبي رجاء عن عكرمة الصمد(7/529)
الذي لا يخرج منه شيء حدثنا الحضرمي حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة وحدثنا عبد الرحمن حدثنا سهل حدثنا ابن أبي زائدة كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي الصمد الذي لا يأكل الطعام حدثنا داود بن محمد بن صالح المروزي حدثنا العباس بن الوليد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن(7/530)
أبي عروبة قال كان الحسن وقتادة يقولان الصمد الباقي بعد فناء خلقه حدثنا الحضرمي حدثنا الحسين بن يزيد الطحان حدثنا إسحاق بن منصور السلولي عن يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال الصمد الباقي بعد خلقه حدثنا أبو خليفة حدثنا ابن حساب أخبرنا محمد بن ثور عن معمر عن الحسن قال الصمد الدائم(7/531)
حدثنا عبد الرحمن حدثنا سهل حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن الحسن قال الصمد الذي لم يلد ولم يولد حدثنا الحضرمي حدثنا محمد بن بكار بن الريان حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب في قوله الصمد قال لو سكت عنها لتمحض فيها رجال قالوا ما صمد فأخبرهم أن الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد حدثنا زكريا الساجي حدثنا أحمد بن إسحاق(7/532)
الأهوازي حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا الحكم بن ظهير عن معمر عن الحسن عن أبي بن كعب قال الصمد الذي لم يخرج منه شيء ولم يخرج من شيء الذي لم يلد ولم يولد وحدثنا بكر بن سهل حدثنا عبد الغني بن موسى عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وعن(7/533)
مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال الصمد الذي يُصمد إليه في الحوائج قلت هذا تفسير عن ابن عباس بهذا الإسناد يرويه الطبراني بهذا الإسناد وهو عن هذا الشيخ وهو ضيف ولكن يستأنس به قال الطبراني وهذه الصفات كلها صفات ربنا جل جلاله ليس يُخالف شيء منها هو المصمت الذي لا جوف له وهو الذي يصمد إليه في الحوائج وهو السيد الذي قد انتهى سؤدده وهو الذي لا يأكل الطعام وهو الباقي بعد خلقه وقال حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا(7/534)
منجاب حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن عطية ابن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال لو أن الخلائق منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفًّا واحدًا ما أحاطوا بالله عز وجل أبدًا قلت ويدل على ما ذكره الطبراني من جمع الصمد لهذه المعاني أن من سلف الأمة من قال هذا وهذا ومثل هذا كثيرًا ما يجيء في تفسير معاني أسمائه كالرحمن والجبار والإله وغير ذلك وقد قررنا في غير هذا الموضع أن عامة تفاسير السلف ليست متباينة بل تارة يصفون الشيء الواحد بصفات متنوعة وتارة يذكر كل منهم من المفسر نوعًا أو شخصًا(7/535)
على سبيل المثال لتعريف السائل بمنزلة الترجمان الذي يقال له ما الخبز فيشير إلى شيء معين على سبيل التمثيل وقال أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات في تفسير اسمه الصمد قال الحليمي ومعناه المصمود إليه بالحوائج أي المقصود بها وقد يقال ذلك على(7/536)
معنى أنَّه المستحق لأن يقصد بها ثم لا يبطل هذا الاستحقاق ولا تزول هذه الصفة بذهاب من يذهب عن الحق ويُصد عن السبيل لأنه إذا كان هو الخالق والمدبر لما خلق لا خالق غيره ولا مدبر سواه فالذهاب عن قصده بالحاجة وهي في الحقيقة واقعة إليه ولا قاضي لها غيره جهل وحمق والجهل بالله تعالى جَده كفر ثم روى البيهقي من التفسير المسند عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس(7/537)
وقد ذكر هذا عنه كثير من المفسرين وغيرهم كمحمد بن جرير الطبري في قوله الصمد قال السيد الذي كَمُل في سؤدده والشريف الذي كمل في شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته والحليم الذي قد كمل في حلمه والغني الذي قد كمل في غناه والجبار الذي قد كمل في جبروته والعالم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله عز وجل هذه صفته لا تنبغي إلاَّ له ليس له كفو وليس كمثله شيء فسبحان الله الواحد القهار(7/538)
ثم روى البيهقي حديث الأعمش عن شقيق في قوله عز وجل الصمد قال هو السيد الذي انتهى سؤدده وروى عن الحاكم عن الأصم عن الصغاني حدثنا أبو نعيم حدثنا سلمة بن سابور عن عطية عن ابن عباس قال الصمد الذي لا جوف له قال وروينا هذا القول عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي والضحاك وغيرهم وروي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه يشك راويه في رفعه(7/539)
قلت قد تقدم رواية الطبراني له مرفوعًا من غير شك من طريق آخر وروي أيضًا بالإسناد قال محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا محمد بن بكار حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب في قول الله عز وجل الله الصمد قال لو سكت لتبخص لها رجال فقالوا ما صمد فأخبرهم أن الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد قال وروينا عن عكرمة في تفسير الصمد قريبًا من هذا ثم روى من حديث شعبة عن أبي رجاء أن(7/540)
الحسن قال الصمد الذي لا يخرج منه شيء ومن حديث هشيم أنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال أخبرت انه الذي لا يأكل ولا يشرب ومن حديث سعيد عن قتادة عن الحسن قال الصمد الباقي بعد خلقه قال وقال أبو سليمان يعني الخطابي فيما أخبرت عنه الصمد السيد الذي يُصمد إليه في الأمور(7/541)
ويقصد في الحوائج والنوازل وأصل الصَّمْد القصد يقال للرجل اصمد صمد فلان أي اقصد قصده قلت المقصود الآن ذكر أقوال السّلف في معنى الصّمد وأمّا ما يدَّعيه طائفة من المتأخرين من أنّ الاشتقاق إنّما يشهد لقول من قال إنّه السّيد فسنبين أنّ هذا من أفسد الأقوال بل شهادة اللّغة والاشتقاق لذلك القول الذي قاله جمهور الصحابة والتابعين أقوى وإن كان ذلك كله حقًّا والاسم يتناول ذلك كله واللّغة والاشتقاق يشهد له الوجه الثالث أنّ هذا التفسير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يتبين بوجهين أحدهما من نقل الخاصة عنه كما تقدّم الثاني أنّه من المعلوم أنّ هذه السورة كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرُ للمسلمين فضلها وأنَّها تعدل ثلث القرآن حتّى أمرهم أن(7/542)
يجتمعوا وقال اجتمعوا لأقرأ عليكم ثلث القرآن قلمّا اجتمعوا قرأها عليهم وهي سورة يتعلمها الصغير والكبير والحرّ والعبد والرجل والمرأة وقد سنّ لهم أن تقرأ في ركعتي الفجر والطواف وكان بعض أصحابه يقرأ بها دائمًا في الصّلاة مع السورة فقال سَلوه لِمَ يفعل ذلك فقال إنّي أحبّها لأنّها صفة الرحمن فقال أخبروه أنَّ الله يحبّه(7/543)
وهذا كله ممّا يوجب توفّر الهمم والدواعي على معرفة معنى الصّمد وهذا أمر يجده النّاس من نفوسهم فإنَّه إذا قرأها الإنسان مرّة بعد مرة اشتاق إلى معرفة معنى ما يقول والنفس تتألم بأن تتكلم بشيء لا تفهمه فالمقتضى لمعرفة هذا الاسم كان فيهم موجودًا قويًّا عامًّا متكررًا والمانع من ذلك منتفٍ وأنَّه لا مانع لهم من المسألة عن هذا الاسم ويتوكّد هذا بشيئين أحدهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا علّم أصحابه القرآن علمهم ما فيه من العلم والعمل كما قال أبو عبد الرحمن السُّلمي حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنَّهم كانوا إذا تعلّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتّى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل قالوا(7/544)
فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا الثاني أنّه قد روي من غير وجه أن المشركين وأهل الكتاب سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن نعت ربه فأنزل الله هذه السورة وقال إنّها نسب الرحمن وصفته فلابد أن يكون في الجواب بيان معنى هذا الاسم للكفّار من المشركين وأهل الكتاب فإنّه لا يحصل الجواب لهم بذلك إلا بلفظ يعرف معناه فكيف يكون علم المؤمنين بذلك وهذا كله يدل دلالة قطعيَّة يقينيَّة أنَّ معنى هذا الاسم كان معروفًا عند الصحابة وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بيّن لهم من ذلك ما يشكل عليهم وأفادهم ما يحتاجون إليه من معرفة معنى هذا الاسم كيف وهذا كله من بيان القرآن الذي(7/545)
يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه يجب عليه بيان لفظه ومعناه وإذا كان كذلك وقد حصل عندهم معرفة معناه من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم فحكم التابعين مع الصحابة كذلك فإنّ الهمم والدواعي من علماء التابعين متوفرة على مسألة الصحابة عن معنى هذا الاسم هذا معلوم بالعادة المطّردة فإذا كان قد تواتر عن أئمة التابعين مع ما نقل عن الصحابة وعن النّبي صلى الله عليه وسلم وإنّما اشتهر عندنا نقل ذلك بالإسناد عمّن نقله العلماء عنه لأنّ العلم كان يقلُّ في المتأخرين وكان أحدهم يسأل من يتّفق له من التابعين فصاروا ينقلون ذلك نقلاً خاصًّا كما ورد مثل ذلك فيما كان معلومًا عند الصحابة كلهم كمغازي النَّبي صلى الله عليه وسلم وصفة صلاته الظاهرة وحجه ونحو ذلك حتّى تنازع بعض الناس في مثل جهره بالبسملة وقنوته ومن المعلوم أنَّ هذا كان يمتنع فيه النّزاع على عهد أبي بكر وعمر لأنَّ الصحابة الذين عاينوا ذلك كانوا موجودين ولهذا يستدل بفعل أبي بكر وعمر على أنَّ ذلك هو كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم للعلم بأنَّ الصحابة لم يتّفقوا على تغيير سنَّته الوجه الرابع أنّ تفسير الصمد بأنّه الذي لا جوف له مع كونه هو أشهر التفاسير في هذا الاسم الحسن العظيم عن(7/546)
الصحابة والتابعين وقد روي تفسيره مرفوعًا وإن كان لا منافاة بين هذا المعنى وبين سائر المعاني التي ذكرها الصحابة والتابعون في معنى هذا الاسم فإنّ الاسم ينتظم ذلك كله فاللفظ يدل عليه دلالة ظاهرة باللّغة العربيّة الفصيحة التي نزل بها القرآن ومن المشهور من كلامهم المقابلة بين الأجوف والصّمد كما يقابلون بين الأجوف والمصمت مثل قول يحيى بن أبي كثير الآدميّون جُوف والملائكة صُمد ولا يحتاج إلى تقرير هذا في اللغة أنْ تجعل الدال مُنقلبة عن التّاء وإن كان المعنى على القلب مناسبًا بل الدّال والتاء حرفان متقاربان في المخرج فيتقارب معناهما كذلك وهذا من باب الاشتقاق الكبير وهو اشتراك الكلمتين في أكثر الحروف وتقاربهما في باقيه(7/547)
كما يقال في مثل خرر وغرر وأزر حيث اشتركت في حروف الحلق وكذلك الدال والتاء من حروف اللسان متقاربان في المخرج ولهذا يُدغم أحدهما في الآخر بعد قلبه إليه إذا سكن أحدهما كما في مثل قوله ولا أنا عابد ما عبدتم فإنّ لفظهما عبتم وكذلك لفظ عبدتّه ووجدتّه ومجدتّه ونظائره كثيرة وهذا اللفظ في جميع تصاريفه يقتضي معنى الجمع والضّم المنافي للتفرّق كما يقال صِمْدة المال وصِماد القارورة ودلالة اللّغة العربيّة على هذا المعنى المشهور عن أكثر الصحابة والتابعين أظهر من دلالتها على غيره بخلاف ما إذا ادعى غير ذلك طائفة من المتأخرين حتى الذين فسّروه بأنه السّيد ذكروا هذا المعنى قال القرطبي شارح أسماء الله(7/548)
الحسنى صاحب التفسير معناه المصمود إليه بالحوائج أي المقصود بها يقال صَمَدَه يصمده صمدًا أي قَصَدَه والصّمد السيد لأنّه يصمد إليه في الحوائج وأصله الاجتماع من قولهم تصمد الشيءُ إذا اجتمع قال طرفة وإن يلتق الحيّ الجميع تلاقني إلى ذروة البيت الرفيع المصمَّد(7/549)
وبيت مصمّد بالتشديد أي مقصود والصمد بإسكان الميم المكان المرتفع الغليظ قال أبو النّجم يغادر الصّمد كظهر الأجزل وبناء مصمد أي معلَّى والمصمد لغة في المصمت الذي لا جوف له قاله الجوهريّ ومنه قول الشاعر شهاب حروب لا تزال جياده عوابس يعلكن الشكيم المصمدا(7/550)
ومن هذا تسمية الرجل صمدًا كما قال أوس بن حجر ألا بَكَّر الناعي بخيريْ بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد(7/551)
وقال آخر سيروا جميعًا بنصف اللّيل واعتمدوا ولا رهينة إلاّ سيدٌ صمد وقال آخر علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيف فأنت الواحد الصمد(7/552)
الوجه الخامس قوله إنّ الصمد فعل بمعنى مفعول من صمد إليه أي قصده يقال له صيغه فعل في الصّفات قد لا تكون بمعنى المفعول بل تكوون بمعنى الفاعل كقولهم أحدٌ وبطل فَلِم قلت إنّ فعل هنا بمعنى مفعول وهلاّ تكون بمعنى الفاعل وهو الصامد المتصمّد في نفسه وإن كان ذلك يستلزم أن يكون مقصودًا لغيره وهذا أرجح لوجوه أحدها أنّه قرين لاسم الواحد فإنّه قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) [الإخلاص 1-2] ومن المعلوم أنَّ الأحد بمعنى الواحد المتوحّد فكون الصّمد بمعنى الصّامد المتصّمد أظهر في المناسبة والعدل والقياس والاعتبار الثاني أنَّ الفاعل هو الأصل فإنّه لابد لكل فعل وصفة من فاعل فكل صفة تستلزم فاعلاً في الجملة وأمَّا المفعول فقد يكون وقد لا يكون وإذا كان كذلك علم أنَّ هذه الصّفة لها فاعل ولم يعلم أن لها مفعولاً فيجب إثبات المتيقّن وحذف المشكوك(7/553)
فيه حتّى يدلّ عليه دليل الثالث أن المشركين وأهل الكتاب سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّه وماهيَّته وجنسه فقالوا ممّ هو ومن أيّ جنس هو أمن ذهب أم من نحاس هو أممن صفر أم من حديد أم من فضة وهل يأكل ويشرب وممن ورث الدنيا ولمن يورثها فأنزل الله هذه السورة وهي نسبة الله خاصّة ومعلوم أنّ كونه بمعنى أنَّه مقصود إنما يدل على كونه بحيث يسأل ويُدعى وذلك يقتضي ثبوت ربوبيّته وإلهيته وليس فيه جواب عن مسألتهم التي هي سؤال عن صفته في نفسه فأما إذا قيل إنّه الصّمد الذي لا جوف له كان فيذلك جواب عن أنَّه في نفسه صمد لا يخرج من شيء ولا يخرج منه(7/554)
شيء ولا يتفرّق وهو مع ذلك أحد لا نظير له فكان في ذلك دلالة على صفـ ـتـ ـه الثبوتيّة وهي الصّمدية وعلى عدم النظير المانع أن يكون له والد أو ولد كما أنَّ الأحد يمنع أن يكون هـ ما يماثله من اصل أو فرع أو نظير فكان هذا المعنى جوابًا لمسألتهم أنَّه ليس هو من شيء ولا يخرج منه شيء ولا هو من جنس شيء الوجه السادس أنّ كون الصّمد يصمد إليه في الحوائج هو حق أيضًا وهو مقرر للتفسير الأوّل ودالٌّ عليه فلا ينافي أن يكون هو في نفسه مجتمعًا لا جوف له بل كونه في نفسه كذلك هو الموجب لاحتياج الناس إليه فإنّ الحاجة إلي الشيء فرع اتصافه في نفسه بما يوجب قضاءه للحوائج فلا يكون الأثر منافيًا للمؤثّر ولا يكون الملزوم منافيًا للاَّزم بل الأثر اللازم(7/555)
دليل على المؤثّر الملزوم للأثر والصّمد أكمل من أن يطلق على السيد ولهذا قال ابن عباس هو السّيد الكامل في سؤدده ألا ترى أنَّ الشاعر قال فأنت السّيد الصمد وقال بالسّيد الصّمد فلو كان مرادفًا له لكان تكريرًا وأمَّا الحديث الذي رواه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قلم يذكر إسناده وهو باطل لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن رُوي عن ابن عباس ولفظ السّيد أيضًا يدلّ على الجمع كما يدلّ عليه لفظ الصّمد يقال السّواد اللّون الجامع للبصر والبياض اللّون المفرِّق له والحليم سُمّي سيدًا لأنَّه مجتمع(7/556)
النّفس لا يجزع فيتفرق عند الغضب وذلك ضعف وخور ولهذا يروى فلما رآه أجوف علم أنّه خَلق لا يتمالك ويقال لم أتمالك أن فعلت كذا أي ما ملكت نفسي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الشديد بالصرعة إنَّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب والجوف متفرّق لا يتمالك فلا يثبت ولا يستقرّ في نفسه فضلاً عن أن يكون مقصودًا لغيره يصمدون صمده كما قيل في اسم القيّوم إنّه القائم بنفسه المقيم لغيره فكون المسمّى بالصمد صمدًا لغيره فرع كونه صمدًا في نفسه ويدلّ على ذلك أنّهم يُسمّون بالصّمد الحليم المجتمع(7/557)
وإن لم يجتمع إليه النّاس كما قال طرفة يزعون الجهل في مجلسهم وهمو أيضًا ذوو الحلم الصّمد الوجه السابع أن يقال سلمنا أنّ الصّمد هو ما يصمد إليه العباد في أنفسهم أي يقصدون إليه كما يقال اصمد صمد هذا الأمر أي اقصد قصده فالقصد هو الدعاء والمسألة والطّلب وذلك إنّما يكون بقلوب النّاس وبواطنهم وبأيديهم ووجوههم وغير ذلك من أعضائهم الظاهرة وذلك يمتنع إلاَّ فيمن يكون بجهة منهم فمن لا يعرفون أين هو ولا يعرفونه في جهة يمتنع على قلوبهم وجوارحهم المختلفة قصده فيمتنع كونه صمدًا ولهذا كان الدّاعون والقاصدون لله من الأمم المختلفة يجدون في قلوبهم علمًا ضروريًّا بتوجههم إلى العلو كما تقدّم تقرير هذا وإذا كان(7/558)
كذلك فهو قدّر أنّه لا يمكن أن يكون في العلو إلاّ ما هو جسم وذكر أنّ ذلك معلوم بالضرورة فيكون هذا التفسير يدلّ على أنّ الله تعالى هو الذي يسمّونه جسمًا بهذين العلمين الضروريين أحدهما العلم الضروري بأنّ العباد إذا قصدوا الله ودَعوه وتوجّهوا بقلوبهم وظاهرهم إلى العلوّ ويمتنع أن يقصدوا ما لا يكون في العلو ولا في غيره ولا يكون داخل العالم ولا خارجه الثاني العلم الضروري بأنّ ما كان فوق العالم فإنّه يكون ذاهبًا في الجهة ويكون بائنًا عن العالم ويكون قائمًا بنفسه وهذا هو المعنى الذي يسمّونه جسمًا وهذا تقرير ليس للمنازع فيه حيلة وهو مبنيّ على مقدمتين ضروريتين أحدهما لا ينازع هو فيها وإن نازع فيها كثير من(7/559)
الصفاتيّة والثانية وهو ينازع فيها لكن لا ينازع فيها جماهير البريّة والنزاع في الضروريات غير مقبول الوجه الثامن أنّه أجاب بوجهين أحدهما منع تفسير الصّمد بأنّه الذي لا جوف له بل هو السّيد المصمود إليه ودعوى وجوب حمل الآية على المجاز وقد بينا أنَّ ذلك التفسير لا يمكن النّزاع فيه وأنّ التفسير الآخر يدلّ على صحة التفسير الأول ويدل على مذهب المنازع أيضًا وأمّا حمل الآية على المجاز فيقال له هذا لا يجوز لأنّ الآية نزلت جوابًا عن مسألة المشركين وأهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم عن صفة ربه فيجب ألا يجعلها من صنف المتشابه(7/560)
الوجه التاسع أن يقال له ليس للمتكلم أن يريد باللفظ ما ليس هو حقيقة اللفظ ومسمّاه بل هو مجاز إلاّ بقرينة تبيّن المراد وإلاَّ فالتكلم بالمجاز بدون القرينة ممتنع باتّفاق النّاس وهو بمنزلة أن يراد باللفظ ما لم يوضع له في اللّغة كما لو أراد بلفظ السّماء الأرض وبلفظ الشمس البحر ونحو ذلك ومن المعلوم أنّ الله ورسوله لم يقرن بهذا الخطاب قط قرينة لا متّصلة ولا منفصلة تصرف النّاس عن اعتقاد مدلول هذه السورة ولا قال أحدٌ من سلف الأمّة وأئمتها أنَّ اسم الصّمد في حق الله ليس على ظاهره ولا أنكم لا تعتقدون من اسم الصمد وظاهره بل تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم لهذه السورة وقوله إنها تعدل ثلث القرآن وغير ذلك يقرر مضمونها ويثبت معناها ومدلولها الوجه العاشر أنّ ما ذكره من الأدلة العقلية الّتي تجعلها قرينة صارفة لظاهر اسم الصّمد إمّا أن تكون حقًّا أو باطلاً(7/561)
فإن كانت باطلاً لم يصحّ أن يصرف اسم الله عز وجل عن مقتضاه ومعناه وإن كانت حقًّا فلا ريب أنها خفيّة وأنّها مشتبهة وأنّ فيها نزاعًا بين الآدمييّن وأنّها لا تُعلم إلاَّ بنظر طويل وبحث كثير ومن المعلوم أنَّ المتكلم بالكلام الذي له معنى ظاهر لا يجوز أن يُريد خلاف ظاهره لمثل هذه الدلالة لاسيّما في حق الرسول الذي بلّغ البلاغ المبين الوجه الحادي عشر أنّه لا ريب أنّ الله قد أمر بتلاوة هذه السورة لجميع العباد ورغَّبهم في تكـ ـر ير تلاوتها في الصّلاة وخارج الصلاة حتّى إن تلاوتها وقراءتها من أعظم شعائر الإسلام وأظهرها عند الخاص والعام فإن كان معناها الظاهر باطلاً وضلالاً كيف يجوز الإمساك عن بيان مثل ذلك وترك العباد في هذه المهالك وقد قال الله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة 115](7/562)
الوجه الثاني عشر أنّه مع الأمر بقراءتها وتكرير ذلك في الصلاة وخارج الصلاة ومع تعظيم فضيلتها واشتهار ذلك في العامة والخاصّة هل يجوز أن يكون ظاهرها ضلالاً ومحالاً وكفرًا ولا يتكلم بذلك أحدٌ من سلف الأمّة في التوحيد وصفات الربّ المعبود سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا الوجه الثالث عشر أن ما ذكره من الدلالة العقلية لم تظهر في الأمة إلاَّ بعد انقراض عصر الصّحابة وأكاب التابعين بل وأئمتهم أي من زمن بشر المريسي ولمّا أظهر مقالته كفّره أئمة الإسلام كفّره سفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وعباد بن العوّام وعليّ بن عاصم ويحيى بن(7/563)
سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وأبو النّضر هاشم بن القاسم وشبابة بن سوار والأسود بن عامر ويزيد بن هارون وبشر بن الوليد ومحمد بن(7/564)
يوسف بن الطّباع وسليمان بن حسّان الشّامي ومحمّد ويعلى ابنا عبيد الطنافسيان وعبد الرزاق بن همّام وأبو قتادة الحرّاني وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون(7/565)
ومحمد بن يوسف الفريابي وأبو نعيم الفضل بن دُكين وعبد الله بن مسلمة القعنبيّ وبشر بن الحارث ومحمّد بن مصعب وأبو البختري وهب بن وهب قاضي بغداد ويحيى بن يحيى النيسابوري وعبد الله بن الزبير(7/566)
الحميديّ وعليّ بن المديني وعبد السّلام بن صالح الهرويّ والحسن بن عليّ الحلواني وغير هؤلاء فكيف يجوز أن يكون الصارف لكلام الله عن ظاهره ما لم يظهر في الإسلام إلاّ من جهة من أحدث ذلك فكفّره أئمة الإسلام(7/567)
الوجه الرابع عشر قوله سلّمنا أنَّ الصّمد في أصل اللغة المصمت الذي لا يدخل فيه شيء غيره ولا ينفصل عنه شيء إلاّ أنّا نقول قد دللنا على أنَّه لا يمكن ثبوت هذا المعنى في حق الله يقال له قد تقدّم الكلام على جميع ما ذكرته وتبيّن لكل عاقل فهم ما ذكرناه أنّ الذي ذكرته من الباطل الذي يُعلم بطلانه بالعقل الصريح وبيّنا أنَّ العقل يدلُّ على خلاف قوله وقد أحال على ما تقدّم فأحلنا على ما ذكرنا هناك الوجه الخامس عشر أن يقال كل ما هو قائم بنفسه مباين لغيره فإما أن يكون أجوف أو يكون صمدًا مصمتًا كما أنه إما أن يكون عالمًا وإما أن يكون جاهلاً وإمّا أن يكون سميعًا بصيرًا وإمّا أن يكون أصمّ أعمى وهذا قد تقدم تقريره والعقل الصريح يعلم أنّه لا يمكن خلو الموجود القائم بنفسه عن هذين الوصفين الوجه السادس عشر أنّ الشيء القائم بنفسه إمّا أن يكون بحيث يقبل التفريق والتفكيك أو يكون بحيث لا يقبل ذلك فإن كان الثَّاني فهو الصّمد الحقيقي وإن كان الأول فليس هو صمدًا حقيقيًّا وإن قيل له صمد باعتبار أنَّه غير متفرق ولا يمكن(7/568)
تفريقه إلاَّ بكلفة ولهذا قال سبحانه الله الصمد بصيغة الحصر أي هو الصّمد في الحقيقة وغيره وإن سمّي صمدًا فليس ذلك الوصف كاملاً فيه وقال الله أحد ولم يقل الأحد ومعلوم أنّ وصفه بالاسم المعرفة أبلغ من الاسم النكرة فكيف يجوز أن يقال الصمديّة له مجازًا والأحدية له حقيقة الوجه السابع عشر أنّ الله تعالى ذكر في هذه السورة التي تعدل ثلث القرآن فنفى بهما عنه التركيب الذي هو التجسيم المنتفي عنه ونفى عنه التمثيل الذي هو التشبيه المنفي عنه فكانت هذه السّورة أحسن البيان فيما يجب نفيه عن الله تعالى من التشبيه والتجسيم وقد قدّمنا غير مرة أنّ لفظ التشبيه فيه إجمال كثير وأنّه ما من طائفة إلاّ وتجعل من أثبت شيئًا مُشَبِّهًا وذلك أنّ كل موجودين فلابد أن يكون بينهما نوع مشابهة ولو من بعض الوجوه البعيدة ورفع ذلك من كل وجه رفع للوجود ولهذا ذكر هذا المؤسس إجماع المسلمين إجماع المسلمين على ثبوت مثل(7/569)
هذا التشبيه وبينَّا الفرق بين لفظ الكفؤ والمثل ولفظ الشَّبه فهو سبحانه أخبر أنَّه أحد وأنَّه لم يكن له كفوًا أحد فكان هذا أيضًا محكمًا في تنزيهه عن المثيل بعبارة تامّة حيث لم يكن شيء من الموجودات مكافئًا له بوجه من الوجوه كما بيناه فيما مضى وأنَّه يجب نفي المثل والكفؤ عنه من كل وجه وأنَّ هذا هو معنى الأحد إذ لو أريد بالأحد ما لا يماثله من جميع الوجوه لكان عامّة المخلوقات تسمّى أحدًا ولم يكن في هذا فائدة لأنّ أحدًا لا يعتقد أنّ لله مثلاً من جميع الوجوه بل الأحد الذي لا كفؤ له من جميع الوجوه ولا يلزم نفي المشابهة من بعض الوجوه كالوجود والعلم والقدرة والحياة وغير ذلك وكذلك التركيب والتجسيم يجب تنزيهه(7/570)
عن أن يكون مركبًا مجسمًا ركَّبه مركِّب أو أن يكون بحيث يقبل التفريق والتفصيل واسمه الصّمد ينفي هذا عنه وأمَّا ما يسميه بعضهم تركيبًا وهو ثبوت المعاني المتميّزة في أنفسها فهذا أمرٌ لابد منه لكل موجود فنفيه نفي للوجود ولواجب الوجود فكان اسمه الصّمد مستلزمًا ثبوت هذا المعنى الذي هو الاجتماع نافيًا ذلك المعنى الذي هو التركيب والتجسيم المنفيّ عنه فكان صحّة معنى هذه السورة معلومًا بالعقل الصريح ولولا أنا قدّمنا أصل هذا الكلام في الحجج العقليّة لبسطناه هنا وقد بسطناه أيضًا في جواب المعارضات المصرية الوجه الثامن عشر قوله فوجب حمل هذا اللفظ على مجازه وذلك لأنّ الجسم الذي يكون هذا شأنه مبرأ عن الانفصال والتباين عن الغير وهو سبحانه وتعالى واجب(7/571)
الوجود لذاته وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان فكان المراد من الصّمد في حقه تعالى هو هذا المعنى يقال له مجاز الذي حملته عليه إمَّا أن يكون هو معنى واجب الوجود أو يكون مقتضاه الذي ذكرته من أنَّه غير قابل للزيادة والنقصان فإن كان معنى الصّمد هو معنى واجب الوجود كان هذا التفسير مخالفًا لإجماع المسلمين وإجماع أهل اللّغة وأهل التفسير فإنّ اسم الصّمد وإن استلزم وجوب وجوده بنفسه لكن ليس معناه مجرّد وجوده بنفسه ولا هذا معنى مما كان يجهله السائلون من المشركين وأهل الكتاب ولا هو ممّا فيه نزاع بين أهل الأرض ف‘نَّ الخلائق متفقون على ثبوت وجود وإن الوجود لا يمكن أن يكون كله مفتقرًا إلى غيره بل لابد من وجود غير مفتقر إلى غيره ولكن قد يقول المبطلون هو أصول للعالم ونحو ذلك كما يقوله الجاحدون المعطّلون الذين يُظهرون جحود(7/572)
رب العالمين كفرعون وذويه وغالية القرامطة الباطنية وبالجملة فمعنى ربّ العالمين أبلغ من معنى واجب الوجود فإنّ كونه رب العالمين يقتضي ربوبيته للعالمين ويستلزم قيامه بنفسه وإن قال بل معنى الصمد هو الذي لا يقبل الزيادة والنقصان وهذا هو الذي يدل عليه كلامه وهو الذي أراده والله أعلم قيل له الزيادة والنقصان من عوارض الكم فقولك هو غير قابل للزيادة والنقصان يحتمل شيئين أحدهما أن تكون ذاته بحيث لا يعقل زيادتها ونقصانها الثاني أن تكون زيادتها ونقصانها ممتنعًا عليها وأي المعنيين قُصد به أمكن أن يقال في كونه لا جوف له أو لا يقبل التفرق والانفصال مثل ذلك إذا هذا يحتمل معنيين(7/573)
أحدهما أن تكون ذاته لا يعقل أن يكون لها جوف ولا يعقل وصفها بالتفرق والاجتماع والاتصال والانفصال والثاني أن يقال التفرق والانفصال ممتنع عليها فإذا كان الذي جعلته مجازًا في هذا الاسم الشريف يلزمك فيه ما لزمك في مسماه الحقيقي الذي فسره به الصحابة والتابعون وهو حقيقة في اللغة كان عُدولك عن هذا إلى هذا الذي ركبت فيه أنواعًا من المحاذير لغير فائدة قط بمنزلة الذي يركب البحار والمفاوز والقفار لقصد التجارة ثم ذهب فباع ذهبه بمثله في الزنة والوصف أو بما هو دونه أو بمنزلة المستجير من الرمضاء بالنار ومعلوم أن هذا ليس من فعل أهل العقل والدين مع ما فيه من الكذب والافتراء على رب العالمين يوضح هذا الوجه التاسع عشر وهو أنه لا فرق بين قول القائل الصمد الذي لا يدخل فيه غيره ولا يخرج منه غيره وبين قوله(7/574)
الذي لا يزيد ولا ينقص فإنه إن اعتبر بمجرد السلب أمكنه ذلك في الموضعين وإن اعتبر بامتناع المسلوب بأن يقول هو الذي لا يمكن أن يدخل فيه غيره أو يخرج منه غيره كان بمنزلة أن يقول لا يقبل الزيادة والنقصان سواء فسر عدم الإمكان بعدم إمكان تصور ذلك في الموصوف أو بامتناع ذلك في الموصوف كقول منازعيهم الوجه العشرون أنه قد يقال دخول الشيء في غيره زيادة فيه وخروج بعضه منه نقص منه فهذا نوع من الزيادة والنقصان فإذا وصفه بأنه غير قابل للزيادة والنقصان كان قد دخل في ذلك غير قابل لهذه الزيادة ولهذا النقصان فإذا قيل المصمت الذي لا يدخل أو لا يمكن أن يدخل فيه شيء غيره ولا ينفصل عنه شيء وقيل إنه لا يمكن ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى كان هذا تناقضًا ظاهرًا لأن امتناع الجنس عليه يستلزم سلب أنواعه فكيف يقال إنه موصوف بعدم قبول الزيادة والنقصان أو بعدم الزيادة والنقصان ولا يكون موصوفًا بعدم قبول هذه الزيادة وهذا النقص أو بعدم ذلك(7/575)
الوجه الحادي والعشرون أنه قد يقال دخول شيء فيه وخروج شيء منه هو نفس الزيادة والنقصان إذ الدخول أعم من أن يكون دخولاً في جوفه أو جوانبه فالزائد دخل فيه شيء من غيره والناقص خرج منه بعضه فإذا كان أحدهما هو الآخر فوصفه بالسلب أو الامتناع لأحدهما دون الآخر تناقض ظاهر فإن كان هذا حقيقة للصمد كان الآخر حقيقته وإن كان هذا مجازه كان الآخر مجازه يقال دخل في أرض هؤلاء من أرض هؤلاء وقد دخلوا في حد جيرانهم وقد أدخلوا في حد أرضهم بعض أرض جيرانهم ونحو ذلك مما فيه وصف الزيادة من الجوانب بلفظ الدخول الوجه الثاني والعشرون إن الذي قاله السلف إن الصمد هو الذي لا جوف له هذا أخص من كونه لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء فإن الشيء قد يكون مصمتًا ومع هذا يمكن أن يدخل فيه شيء غيره ويخرج منه شيء من جوانبه(7/576)
أو من الصفات القائمة به فإن الأجسام الصُّمد المصمتة كالحجارة يمكن أن تزاد بصفات تقوم بها ويمكن أن تنقص صفاتها وإن لم يكن لها جوف الوجه الثالث والعشرون قوله وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان إما أن يعني به أن ذاته لا تقبل أن يزاد فيها وينقص منها أو يعني به أنها لا توصف بنفي الزيادة والنقصان عنها كما لا يوصف بثبوتها وهذان المعنيان هما اللذان ذكرهما في الوصف بعدم النهاية لما قال له المنازع ألستم تقولون إنه غير متناهٍ في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتمونا أو رده عليه في حجته في أنه لو كان فوق العرش لكان متناهيًا من جميع(7/577)
الجوانب أو بعضها أو غير متناهٍ وكل ذلك محال فقال قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناهٍ على وجهين أحدهما أنه غير مختص بحيز وجهة ومتى كان كذلك امتنع أن يكون لها طرف أو نهاية وحدٌّ والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد وقال فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الأول وقد تقدم الكلام على ما ذكره وبينا أن ما قاله لا يوصف به إلاَّ المعدوم والمقصود هنا أن قوله يقتضي كونه غير قابل للزيادة والنقصان يفسر بهذين الوجهين فإما أن يعني أن ذاته لا تقبل أن(7/578)
يُزاد فيها ويُنقص منها وأما أن يعني به أن ذاته لا توصف بنفي الزيادة والنقص ولا بثبوت ذلك وتوجيه ذلك أن يقال إما أن تكون ذاته لها قدر وحد وإذا امتنع ذلك امتنع أن يوصف بنفي الزيادة والنقص كما يمتنع أن يوصف ثبوت ذلك إذ الوصف بثبوت ذلك ونفيه إنما يكون عما له قدر فإن أراد به لا تزيد ولا تنقص وهذا هو قول منازعيه الذين يسميهم المجسمة بعينه وإن أراد أن ذاته لا توصف بنفي ذلك كما لا توصف بثبوته فيقال له قولك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان إنما يدل على المعنى الأول فإنك لم تقل هو موصوف بالمقدار والحد الذي يلزمه أحد النقيضين بثبوت الزيادة والنقص وبعدم ذلك أو بإمكان ذلك واستحالته بل قلت يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان فنفيت عنه قبول ثبوت هذين الأمرين ولم تنف عنه إمكان النقيضين من ثبوت ذلك ونفيه بخلاف ما ذكرته في(7/579)
نفي النهاية فإنك نفيت ما يستلزم الوصف بالنهاية وعدمها وإذا كان كذلك كان ظاهر القول أن معنى هذا اللفظ أن له قدرًا خاصًّا لكنه لا يقبل الزيادة والنقصان وهذا تصريح قول منازعيه الذين سماهم مجسمة وذلك مع دلالته على التناقض فإنه يقتضي أن يكون هذا المعنى لازمًا لهذا الاسم بطريق المجاز كما هو لازم له بطريق الحقيقة وأنه لا يمكن رفع دلالة هذا الاسم على هذا المعنى الوجه الرابع والعشرون أن كونه غير قابل للزيادة والنقصان إن لم يكن ظاهره إثبات القدر مع نفي الزيادة والنقصان فأحسن أحواله أن يكون مجملا محتملا لهذا ولنفي القدر المستلزم عدم اتصافه بالنقيضين وإذا كان ما فسر به الاسم مجملا يحتمل قوله وقول منازعيه وقد ذكر أنه المجاز الذي يمكن حمل هذا الاسم عليه عُلم أن الاسم لا ينفي قول منازعيه على تقدير حمله على المجاز بل يحتمله مع أن حقيقته ظاهرة فيه وإذا كان قول منازعيه هو حقيقة اللفظ ومجاز اللفظ يحتملـ ـه كما يحتمل قول المدعي كان دلالة الاسم على قول منازعيه هو الذي يجب حمله عليه(7/580)
الوجه الخامس والعشرون أن يقال هب أنك صرحت بأن مجاز الاسم هو كونه لا قدر له وإذا لم يكن له قدر فلا يجوز وصفه بالزيادة والنقص ولا يجوز وصفه بعدم الزيادة والنقص فإن كون الشيء يزيد وينقص أو لا يزيد ولا ينقص فرع كونه ذا قدر فما لا قدر له لا يقبل الوصف بالزيادة والنقصان ولا الوصف بأنه لا يزيد ولا ينقص كالمعدوم لا يقال فيه إنه يزيد وينقص ولا يقال فيه إنه لا يزيد ولا ينقص وقد بسطنا هذا في الوصف بالنهاية وعدمها وإذا كان كذلك فعدم قبول الوصف بثبوت ذلك ونفيه لا يكون صفة إلاَّ للمعدوم لا يكون صفة للموجود كما بينا هذا فيما تقدم فإن المعدوم لا يقبل الاتصاف بالصفات المتقابلة فلا يقال فيه عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا يزيد ولا ينقص ولا لا يزيد ولا لا ينقص(7/581)
فأما كون الشيء غير موصوف بالزيادة والنقصان ولا بعدم ذلك وهو موجود وليس بذي قدر فهذا لا يعقل ومما يوضح هذا أنه ينبغي الفرق بين قولنا هذا لا يوصف بأنه يزيد وينقص ولا بأنه لا يزيد ولا ينقص فأمَّا الأول فلا يقال إلاَّ فيما له قدر يُعقل أن يزيد وأن ينقص فأما ما لا قدر له فلا تعقل فيه الزيادة والنقص حتى يُنفى ذلك عنه يبين هذا أن الحكم على الشيء فرع تصوره فكما لا يمكن نفيه حتى يُتصور فإذا قيل هذا يقبل الزيادة والنقص أو لا يقبل ذلك أو هذا يزيد وينقص أو لا يزيد ولا ينقص كان الحكم بالثبوت أو النفي فرع تصور الزيادة والنقص فيه فيمتنع نفي ذلك عنه أو نفي قبول ذلك له إلاَّ بمعنى أن حقيقته يعقل بثبوت هذا الوصف لها نفيًا أو إثباتًا وكون حقيقته بحيث لا يعقل ثبوت الوصف لها إثباتا(7/582)
أو نفيًا إنما ينطبق على المعدوم الوجه السادس والعشرون أن ما ذكره مضمونه أن معنى الصمد هو الذي لا يقبل الزيادة والنقصان وهذا تفسير ما علمنا أن أحدًا فسر به الصمد الوجه السابع والعشرون قوله وذلك لأن الجسم الذي يكون هذا شأنه مبرأ عن الانفصال والتباين عن الغير وهو سبحانه واجب الوجود لذاته وذلك يقتضي أن يكون غير قابل للزيادة والنقصان يقال له نفي الزيادة والنقص عنه ليس بأعظم من نفي الانفصال والتباين عن الغير إذ كل ما يُقال في هذا يقال في هذا الوجه الثامن والعشرون قوله وهو سبحانه واجب الوجود لذاته وذلك يقتضي أن يكون غير قابل للزيادة والنقصان يقال له اقتضاؤه لهذا كاقتضائه لعدم الانفصال ولعدم الدخول والخروج ولا فرق(7/583)
الوجه التاسع والعشرون انه لم يذكر دليلاً على أن وجوب الوجود ينافي قبول الزيادة والنقصان بل أبدله شاهدًا من حججه العقلية الوجه الثلاثون قوله واحتج قوم من المشبهة بهذه الآية في إثبات أنه تعالى جسم وهذا باطل لأنا قد بينا أن كون أحدًا ينافي كونه جسمًا فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ولأن الصمد بهذا التفسير صفة للأجسام الغليظة وتعالى الله عن ذلك يقال له هذا من باب المعارضة لم تنف دلالتهم ولكن ادعيت أن ذلك معارض بما في السورة من نفي ذلك ولم تبين أن هذه الصمدية منتفية عنه والشيء لا يجوز نفي دلالته لمجرد دعوى المعارضة إلاَّ إذا تبين أن دلالة المعارضة أقوى وأنت لم تبين هذا(7/584)
الوجه الحادي والثلاثون أن يقال قد تقدم أن الاسم الأحد أو الصمد لا يدل على ما ادعاه بوجه من الوجوه حتى ظهر بطلان ما قاله بطريق الضرورة المعلومة من لغة العرب وتفسير القرآن فبطلت المعارضة الوجه الثاني والثلاثون هب أن ما ذكرته دال على ما ذكروه دال فينبغي النظر في الدلالتين إذ هو يقولون السورة دلت على ثبوت قولنا فينتفي قولك وأنت تعكس ذلك فإذا صحت الدلالتان فإنه ينبغي الترجيح ومن المعلوم أن تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له هو مما تواتر نقله عن الصحابة والتابعين وشهدت له اللغة وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما كون الجسم لا يوصف بأنه أحد أو واحد فأمر لم يقله أحد يُعتمد عليه بل نص القرآن ينفيه كما ذكرناه فيما تقدم مثل قوله تعالى وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة 266](7/585)
وقوله وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل 76] وإذا كان كذلك كان دلالة المنازع ثابتة بتفسير السلف ودلالة اللغة وبهذين الطريقين يثبت التفسير وتفسيره لم يقله أحد من المفسرين ولا من أهل اللغة بل لغة القرآن وغيره صريحة في نفي تلك الدلالة الوجع الثالث والثلاثون قوله لأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام الغليظة يقال له الوصف بكون الشيء صمدًا ومصمتًا لا يوجب غلظه ولا رقته فإن من الأشياء الرقيقة ما يكون مصمتًا مثل بعض الزجاج والبلور وغير ذلك الوجه الرابع والثلاثون أن كون اللفظ يدل على الغلظ في اللغة لا يمنع دخوله في أسماء الله تعالى فإنه قال تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) [الذاريات 58] فسمى نفسه المتين والمتين في دلالته على الغلظ أقوى من الصمد الوجه الخامس والثلاثون قوله وتعالى الله عن(7/586)
ذلك فلا ريب أنه يتعالى عن أن يكون مثلاً للأجسام الغليظة كما أنه يتعالى عن مماثلة الأجسام الرقيقة فتخصيص أحدهما بتعالي الله عنه يقتضي أنه غير متعالٍ عن الآخر وأن له في ذلك اختصاصًا وهذا باطل الوجه السادس والثلاثون إن الأجسام الغليظة أقوى وأصلب من الأجسام الرقيقة وهي أقرب إلى صفة الكمال فتنزيه الرب عن الأكمل دون الأنقص قلب للحق الوجه السابع والثلاثون أن وصفه بأنه متين وأنه صمد وإن تضمن معنى الغلظ والقوة فإنه يثبت لله تعالى على الوجه الذي يليق به لا يثبت له ما يختص بالمخلوق في سائر أسمائه وصفاته مثل الرحيم والصبور والقدير وسائر أسمائه وصفاته إذ هو في جميع أسمائه لا يتصف بما يختص بالمخلوق بل كل كمال في المخلوق فإنه يثبت له ما هو أكمل منه وكل نقص فإنه أحق بالتنزيه منه من كل مخلوق(7/587)
وهذا الذي ذكره المؤسس في احتجاج المشبهة باسمه الصمد بأنه الذي لا جوف له على قولهم بأنه جسم هو من الحجج المشهورة في كلام المتقدمين والمتأخرين ونفاة الجسم ومثبتته كانوا يجعلون ذلك من حجج المثبتة كما ذكره المؤسس ثم منهم من ينفي هذا التفسير ولا يذكر في تفسير الصمد إلاَّ أنه السيد فقط كما فعل أبو حامد في شرحه(7/588)
للأسماء الحسنى ومنهم من يذكر القولين ويرجح تفسيره بأنه السيد إما لاعتقاده أن ذلك هو الموافق للغة أو لنفي ذلك المعنى كما رجح الخطابي أن الصمد الذي يُصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوائج والنوازل وأصل الصمد القصد يقال للرجل اصمد صمد فلان أي اقصد قصده قال الخطابي وأصح ما قيل فيه ما يشهد له الاشتقاق وذكر أبو بكر ابن الأنباريّ في كتاب الزاهر أنّ هذا قول أهل اللّغة أجمعين وقال القشيريّ في شرح الأسماء هو(7/589)
الصحيح قلت دعوى المدّعي أنّ هذا التفسير هو الموافق للّغة والاشتقاق دون الأوّل قالوه بمبلغ علمهم لمّا سمعوا الأبيات المنشدة والذي قالوه باطل قطعًا بل تفسير الصّمد يقتضي الاجتماع وعدم التَّفرُّق في ذاته وكونه لا جوف له أو لى باللغة والاشتقاق من كونه صمدًا في صفاته أي حليمًا أو معطيًا بحيث يُعطي النّاس حتّى يصمدوا إليه لأنّ أصل الصّمد الاجتماع كما تقدم فثبوت هذا المعنى في ذات المسمّى أولى من ثبوته في صفاته وأيضًا فإنّ كل ما يذكر من ثبوت معنى الصّمد في صفاته أو أفعاله وأفعال الخلق معه فهو مستلزم ثبوت المعنى في ذاته أيضًا وإن كان ثبوت المعنى في ذاته يستلزم ثبوت صفاته فالتلازم ثابت من الطرفين لكن جهة الذّات مُقدَّمة على غيرها ثم كيف يقال عكس غيره وهذا هو التفسير الثابت عن أئمة الصحابة والتابعين بالنقل المتواتر الذي نقله أئمة الأمّة(7/590)
وهذا وإن كان قد قالوه فقد قالوه على قلة ليس قولهم في الكثرة قوّة مثل هذا فكيف يكون ما تواتر عن العالِمين بتفسير القرآن وأسماء الله تعالى العالِمين بلغة العرب أبعد في لغة العرب من ذاك هذا لا يقوله من يُقدِّر قدر السَّلف ثم كيف إذا كان هذا التفسير هو المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّا احتجاج المشبهة للجسم به فمن المشهور عند المتكلمين حتّى ذكره أبو الحسن الأشعري في مقالات مثبتة الجسم وهذا ما نقله الأشعري في كتاب المقالات فقال وقال داود الجواربيّ ومقاتل بن سليمان إنَّ الله جسم وإنّه جثَّة على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع(7/591)
ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره قال وحكي عن داود الجواربي أنّه كان يقول عن الباري إنّه أجوف من فيه إلى صدره ومُصمت ما سوى ذلك قال الشعري وكثير من النّاس يقولون هو مصمت ويتأولون قول الله الصمد المصمت الّذي ليس بأجوف وأمَّا الأئمة كالفُضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما كانوا إذا ذُكر لفظ الجسم وما يشبه ذلك قرأوا هذه الآية كما قال الإمام أحمد لمّا ذكر له أبو عيسى برغوث أمر الجسم فلم يجبهم أحمد على إثباته ولا إلى نفيه ثم قال اعلم أنّه أحد صمد لم يلد ولم يولد(7/592)
ولم يكن له كفوًا أحد وما علمت من متقدمي أهل الكلام ولا من غيرهم من جعل تفسير الصّمد بذلك يستدل به على نفي الجسم لكن من المتأخّرين طائفة ذكرت ذلك حتّى صار تفسيره بذلك مشترك الدلالة قال الزجاجي لمّا ذكر التفسير بأنّه الذي لا جوف له قال فكأنّه ذهب إلى نفي التجسيم والتحديد عنه جل وعزّ فتكون الدال على هذا التقدير مبدلة من تاء في تقدير العربيَّة وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ الصّمد(7/593)
المصمد الذي هو شيء واحد لقرب صمد من صمت فإنّ الصّمد القصد ويقال نبّه على صمات ذلك أيْ على قصده لأنّ التاء والدّال حرفا بدل يبدل كل واحد منهما من الآخر وقال ابن الحصّار الصّمد الذي لا يتبعّض وكنّى عنه المفسّرون وأهل اللّغة الّذي لا جوف له وإنّما هو معنى نفي التركيب وعدم التبعيض مطلقًا وقد تقدم أنَّ التركيب يكون باجتماع الجواهر وقد يكون باعتبار اجتماع(7/594)
الجوهر والعرض فإنّه مركّب يلحقه العدد ليتميّز كل واحد منهما عن الآخر بخاصّة أو زمان والتركيب أيضًا يعتبر في الأنواع والأجناس والصمدية مُشعرة بنفي ذلك كله قلت أمّا استدلال المجسِّمة الذين يقولون إنَّ الله لحم ودم وعظم ونحو ذلك أو الذين يجعلون البارئ من جنس شيء من الأجسام المخلوقة بهذا الاسم فباطل لوجوه أحدها أنّ اللفظ لا يدل على ذلك بشيء من تفاسيره فإن كونه لا جوف له أو كونه مصمتًا أو غير ذلك لا يقتضي أن يكون من جنس شيء من المخلوقات أصلاً فضلاً عن أن يقال إنه لحم ودم وعظم كالحيوان الثاني أن الملائكة موصوفة بأنها صمد والجسام المصمتة موصوفة بأنها صُمد وليست لحمًا ودمًا فكيف يقال إن البارئ إذا وصف بأنه صمد لا جوف له يقتضي ذلك(7/595)
الثالث أن سبب نزول هذه الآية سؤال من سأل عن الرب تعالى أهو من ذهب أو فضة أو من كذا فأنزل الله تعالى هذه الآية بين فيها أنه ليس من جنس شيء من المخلوقات الرابع أنه أخبر في هذه السورة بأنه أحد وأنه ليس له كفوا أحد وهذا يمنع أن يكون من جنس شيء من المخلوقات الخامس أنه أخبر في السورة بأنه الصمد ولم يقل إنه صمد إذ كل ما سواه يجوز عليه التفرق والتبعيض وهو الصمد الذي لا يجوز عليه أن يتبعض ويتفرق بوجه من الوجوه وأما استدلال هؤلاء المتأخرين بذلك على نفي الجسم والحد فباطل أيضًا بل هو قلب لـ ـلدلالة فإن كون الموصوف مصمتًا لا يمنع أن يكون جسمًا أو محدودًا كسائر ما وصف بأنه صمد فإن الملائكة توصف بأنها صمد وكذلك الأجسام المصمتة فكيف يقال إن كونه صمدًا أو مصمتًا ولا جوف له ينافي أن يكون جسمًا محدودًا هذا قلب اللغة وتبديلها(7/596)
وأما قول القائل إن الصمد المصمت الذي هو شيء واحد فهذا يقوله المثبت ويقوله النافي فإن كونه لا يتبعض مُجمل يراد به أنه لا ينفصل منه شيء وهو التفسير المأثور عن السلف ويراد به الذي لا يُعلم منه شيء دون شيء وهو مراد نفاة الجسم وكذلك نفي التركيب مجمل يقوله المثبت والنافي فإن التركيب يراد به التركيب المعروف في اللغة وهو أن يكون قد ركب الشيء والشيء كما قال الله تعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) [الانفطار 8] والله عز وجل مقدس عن أن يكون ركَّبه مركِّب أو أن تكون ذاته كانت أجزاء متفرقة فاجتمعت وتركبت ويراد بالتركيب أنه لا يُعلم منه شيء دون شيء فنفاة الصفات من الفلاسفة والمعتزلة يقولون ثبوت الوجه واليدين تركيب وهؤلاء يقولون ثبوت الوجه واليدين تركيب وعدد ومعلوم أن هذا الاسم لا ينفي هذا المعنى وإنما ينفي(7/597)
الأول لأن الصمد يتضمن معنى الاجتماع وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه هو الصمد بصيغة الحصر ليبين أنه الكامل في الصمدية المستحق لها على الحقيقة والكمال دون غيره إذ كل ما سواه يقبل التفريق والتبعيض وهو سبحانه الصمد الذي يجب له ذلك ويمتنع عليه ضد ذلك من الافتراق وأما كون الصمد يتضمن معنى الاجتماع وأنه مصمت ونحو ذلك يقتضي تعدد الصفات إذ الاجتماع لا يكون إلاَّ فيما له عدد فلو لم يكن منه وله صفات تقتضي التعدد لامتنع أن يقال له صمد أو مصمت أو يكون التصمد يقتضي معنى الاجتماع فاسم الصمد بأي شيء فُسر يوجب وجود صفات واجتماعها له والدليل على ذلك أن غاية ما يفسرونه به من نفي الصفات أنه هو المصمود إليه كما قال القرطبي الخلق كلهم متوجهون إلى الله ومجتمعون بجملتهم في قضاء حوائجهم وطلبها من الله فهو الصمد على الإطلاق والقائم بسد مفاقر الخلق(7/598)
فيقال كون الخلق يقصدونه ويسألونه هذا أمر حسي إذ القصد والسؤال قائم بهم فهو لا يستحق الاسم بمجرد فعل غيره بحيث لو قدر أنهم لم يسألوه لم يكن صمدًا بل لابد أن يقال هو المستحق لذلك في نفسه كما تقدم عن الحليمي وغيره وأيضًا فإن كونهم يقصدونه ويحتاجون إليه يقتضي أمرًا ثبوتيًّا في ذاته لأن الأمور العدمية تمتنع أن تكون مقصودة أو قاضية للحوائج فعلم أن كونه صمدًا بمعنى مقصود مصمود إليه يقتضي ثبوت أمور وجودية بها يستحق أن يكون صمدًا وبها أمكن أن يكون مقصودًا معطيًا وليس ذلك لـ ـمجرد موجود وإلاَّ لوجب أن يكون كل موجود هو الصمد ولا لمجرد أمر يتصف به المخلوق لأنه لو كان هو الصمد لمعنى يقوم بالمخلوق لكان المخلوق هو الصمد أيضًا وقد بينا أن قوله هو الصمد يبين أنه المستحق لهذا الاسم على الكمال والحقيقة وأيضًا فلو فرض أنه صمد وغيره(7/599)
صمد فغيره لم يكن صمدًا إلاَّ بأمور وجودية أيضًا فهو أحق بأن لا يكون صمدًا إلاَّ بأمور وجودية لا عدمية إذ هو أحق بالكمال من كل موجود فعلم أن الصمدية توجب أمورًا وجودية على غاية الكمال ولهذا فسر الصمد بأنه الكامل في كل شيء كما قيل العظيم الذي كمل في عظمته والحليم الذي كمل في حلمه والغني الذي كمل في غناه والجبار الذي كمل في جبروته والعالم الذي كمل في علمه والحكيم الذي كمل في حكمته وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله تعالى هذه صفته التي لا تنبغي إلاَّ له وقد تقدم ذكر ذلك في تفسير الوالبي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ومعلوم أن هذه صفات متعددة ونفاة الصفات يسمون ذلك تركيبًا وأجزاء ويقولون إن البارئ منزه عن التركيب والأجزاء ونحو ذلك فعلم أن الاسم يدل على ثبوت ما ينفونه وكذلك من قال إنه لا يُرى بعضه دون بعض أو لا يحجب العباد عنه حُجُب ونحو ذلك لأن ذلك عنده تجسيم وتركيب(7/600)
وتبعيض فهذا الاسم لا يدل على قوله بل ينفي قوله لأن قوله الصمد المصمت يقتضي الاجتماع الذي ينفيه هذا السالب وينفي جواز التفرق عليه وهذا السالب يقول لا يوصف باجتماع ولا افتراق والغير إن نفى الافتراق لم ينف الاجتماع الواجب له قال الرازي الفصل الخامس في لفظ اللقاء قال الله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [البقرة 46](7/601)
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء الثامن
اللقاء - النور - الحجاب - القرب - المجيء
التأويل - المحكم والمتشابه
حققه
د. راشد بن حمد الطيار(8/1)
فصل قال الرازي الفصل الخامس في لفظ اللقاء قال الله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [البقرة 46] وقال فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ [الكهف 110] وقال بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة 10] وأما الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قالوا واللقاء من(8/3)
صفات الأجسام يقال التقى الجيشان إذا قرب أحدهما من الآخر في المكان قال واعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه تعالى ليس بجسم وجب حمل هذا اللفظ على أحد الوجهين أحدهما أن من لقي إنساناً أدركه وأبصره فكان المراد(8/4)
من اللقاء هو الرؤية إطلاقا لاسم السبب على المسبب والثاني أن الرجل إذا حضر عند ملك ولقيه دخل هناك تحت حكمه وقهره دخولاً لا حيلة له في دفعه فكان ذلك اللقاء سبباً لظهور قدرة الملك عليه على هذا الوجه قلما ظهرت قدرته وقوته وقهره وشدة بأسه في ذلك اليوم عبَّر عن تلك الحالة باللقاء والذي يدل على صحة قولنا إن أحداً لا يقول بأن الخلائق تلاقي ذواتهم ذات الخالق على سبيل المجاورة ولما بطل حمل اللقاء على المماسة والمجاورة لم يبق إلا ما ذكرناه والله أعلم والكلام على هذا أن يقال لفظ اللقاء من أسماء الأفعال المقتضية للحركة والقرب إلى الله تعالى وفي الكتاب والسنة من هذا أنواع عديدة كلفظ المجيء في قوله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام 94] وقوله لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [الكهف 48] وقوله حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف 38](8/5)
وفيها قراءتان مشهورتان وقوله إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) [الصافات 84] ولفظ الذهاب وهو قول إبراهيم إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) [الصافات 99] ولفظ الإتيان كما في قوله تعالى وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) [النمل 87] وقوله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) [مريم 93] ولفظ الرجوع كقوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة 281] وقال قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) [البقرة 156] لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) [المائدة 105] وقال كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) [الأنعام 108] وقال فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [المائدة 48] وقوله إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)(8/6)
[العلق 8] وقوله يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 27-30] ولفظ الحشر كقوله تعالى ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام 38] وقوله وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ [الأنعام 51] ونحو ذلك مما في كتاب الله يكاد يبلغ مئين وقوله مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) [الجاثية 15] وقوله فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) [يس 83] وقوله وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [لقمان 23] ولفظ الإياب(8/7)
كقوله إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) [الغاشية 25-26] ولفظ المصير كقوله وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) [التغابن 3] وقوله رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) [الممتحنة 4] وقوله اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) [الشورى 15] وهذا أيضاً كثير ولفظ الكدح وهو قوله يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) [الانشقاق 6] ولفظ الانقلاب لقوله عن السحرة لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) [الشعراء 50] وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) [العنكبوت 21] ولفظ الاستقرار وهو قوله يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ(8/8)
الْمُسْتَقَرُّ (12) [القيامة 10-12] ولفظ السوق كقوله تعالى وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) [القيامة 29-30] ونحوه وقوله وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) [ق 21] لكن هنا لم يذكر اللفظ الذي يبين إلى من يساق ونحن لم نذكر من ألفاظ القرآن إلا ما صرح فيه بما هو ذهاب إلى الله ولفظ التبتل وهو قوله وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) [المزمل 8] ولفظ العروج لقوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] ولفظ الرد كقوله تعالى قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الجمعة 8] وقوله عن المؤمن وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ [غافر 43] وقوله وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا(8/9)
مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) [الكهف 36] وقوله ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) [الأنعام 60-62] ولفظ الانتهاء كقوله وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) [النجم 42] ولفظ الفرار كقوله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات 50] ولفظ الإنابة كقوله تعالى وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر 54] وقال ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) [الشورى 10] وقوله وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان 15] ولفظ التوبة كقوله تعالى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) [النور 31] وقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم 8] وقال وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف 15] وقوله فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) [الفرقان 71] وقوله قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) [الرعد 30] ولفظ الأوب كقوله إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) [الرعد 36](8/10)
ولفظ الاستقامة كقوله تعالى فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت 6] ولفظ الهجرة قال وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) [العنكبوت 26] ولفظ الصعود كقوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] ولفظ الملجأ كقوله تعالى وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة 118] إلى أمثال ذلك كما هو في كتاب الله كافٍ مبلّغ مبين وأما ذكر لقاء الله فقد ذكره الله في القرآن في مواضع كثيرة كقوله نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) [البقرة 223] وقوله فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) [البقرة 249] وقوله قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) الآية [الأنعام 31] وقوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا(8/11)
بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) [يونس 45] وقوله ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) [الأنعام 154] وقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) [التوبة 75-77] وقوله إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) [يونس 7] وقوله وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس 15] وقوله فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف 110] وقوله قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ(8/12)
[الكهف 103-105] وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت 23] وقوله وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) [الأعراف 147] وقوله مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت 5] وقوله وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) [الروم 8] وقوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب 44] وقوله أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) [فصلت 54] إذا عرف أن الإخبار بلقاء العباد لربهم مذكور في كتاب الله في قريب من عشرين موضعاً وأن ما يشبه هذا مذكور في مواضع يدخل في الناس فقد ذكر الله هذا اللفظ في حق غير الله في مواضع كقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) [الأنفال 15](8/13)
وقوله إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الأنفال 45] وقوله قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ [آل عمران 13] وقوله إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال 41] وقوله لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ [غافر 15-16] من هذا الباب على أكثر الأقوال وقد أخبر الله بلقاء يوم القيامة في قوله فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) [الطور 45] وقوله فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) [الزخرف 83] [المعارج 42] وإذا كان كذلك فالكلام على ما ذكره من وجوه أحدها أن الذي ذكره المؤسس عن منازعيه أنهم قالوا اللقاء من صفات الأجسام يقال التقى الجيشان إذا قرب أحدهما من الآخر في المكان لم يذكر عنه جواباً فإن قوله اعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه تعالى ليس بجسم وجب حمل اللفظ على أحد وجهين تسليم لهم أن(8/14)
اللفظ يدل على التجسيم وأن هذه النصوص المذكورة في القرآن تدل على أن الله جسم وإذا سلّم لهم هذه الدلالة فلم يذكر ما يعارضها لأن ما ذكره هو وغيره من الأدلة قد تقدم بيان حالها بحيث يظهر كل من فهمها أنها ليست بأدلة ألبتة وأن الحجج العقلية التي حكوها عن منازعيهم في الإثبات أقوى من حججهم المذكورة على النفي وحينئذ فيكون ما سلّمه من دلالة القرآن على قول منازعيه سليماً عن المعارض الوجه الثاني أن يقال تأويل هذه النصوص لكون ظاهرها التجسيم لا يجوز فإن قول القائل هذا من صفات الأجسام وارد في كل اسم وصفة لله تعالى مثل كونه موجوداً وقائماً بنفسه وموصوفاً ومبايناً لغيره ومثل كونه حيًّا عالماً قديراً سميعاً وبصيراً ورؤوفاً ورحيماً فإن هذا جميعه لا يعترف الناس انه يسمى ويوصف به إلا الجسم فإن كان مثل هذا موجباً لصرف الأسماء والصفات عن ظاهرها وجب أن يُصرف الجميع ومن المعلوم أنه إذا صرف شيء منها فلابد أن يصرف إلى معنى آخر يعبر عنه بلفظ آخر وذلك اللفظ الثاني يردُ عليه مثل ما ورد على الأول فإنه لا يعرف إطلاقه إلا على(8/15)
الجسم وإذا كان كذلك علم أن جميع هذه التأويلات باطلة لأنه يلزم من رفعها إثباتها وما استلزم عدمه وجوده كان عدمه ممتنعاً وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وكل دين أن هذا باطل وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة العقلية أن هذا باطل فإن كل من أقر بموجود لابد أن يعلم منه معنىً يعبر عنه بلفظ وقد قدمنا أن الغالية من الملاحدة الذين لا يسمونه باسم لابد(8/16)
أن يعثروا بما يلزمهم فيه أعظم مما فروا منه فإن نفس الإقرار بالوجود الواجب يستلزم وهذا لازم في نفس الوجود وبهذا يظهر أن الحق هو ترك هذه التأويلات مطلقاً وأن الإقرار ببعضها دون بعض تحكم وتناقض الوجه الثالث أن يقال إذا كانت هذه الأمور جميعها لا يعرف أنه يسمى ويوصف بها إلا الجسم فأحد الأمرين لازم وإما أن يكون ثبوت ما يسمونه جسماً هو الحق في نفس الأمر وإن كان السلف والأئمة لم ينطقوا بلفظ الجسم لكن نطقوا بالألفاظ التي هي صريحة في المعنى الذي يسميه هؤلاء جسماً وإما أن يكون جميع هذه الأسماء والصفات وإن كانت لا تقال إلا على جسم فإنها تقال لله عز وجل وليس بجسم وبهذا نجيب كل من أثبت شيئاً من هذه الصفات لمن نفاها فنقول إذا اتفقنا على أنه حي عليم قدير وليس(8/17)
بجسم فكذلك يكون عالماً بعلم وقادراً بقدرة ولا يكون جسماً وقد قدمنا أن لفظ الجسم لفظ مجمل وان كل واحد من إطلاق القول بإثباته أو نفيه عنه بدعة لا يؤثر عن أحد من السلف والأئمة ولا لذلك أصل في الكتاب وأن الواجب أحد أمرين إما ترك إطلاق هذا الاسم نفياً وإثباتاً وإما التفصيل وهو أن يقال إن أريد بالجسم كذا وكذا فهذا المعنى حق وإن كنا لا نسميه بهذا الاسم لما فيه من الإجمال والاشتراك والإبهام والإيهام والبدعة وإن أريد بالجسم كذا وكذا فهذا المعنى باطل ولا يحتاج أن ينفى مثل هذا اللفظ المجمل بل ينفى بالألفاظ الناصة كما دل على ذلك الكتاب والسنة الوجه الرابع أنه مازال الصفاتية نفاة الجسم ومثبتوه(8/18)
يستدلون بهذه الآيات ونحوها على أن الله تعالى فوق العرش ليس هو في الخلق بحيث يصح أن يؤتى إليه ويوقف عنده كما استدل بذلك أبو الحسن الأشعري في مسألة(8/19)
العرش فقال وقال الله تعالى ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وقال وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال سبحانه وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام 94] كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه مستو على عرشه جل وعز وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً جل عما يقوله الذين لم يثبتوا له في وصفه حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم(8/20)
على النفي في التأويل ويريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل فاحتجاجه بهذه الآيات على أن الله عز وجل فوق العرش صريح في أن الله نفسه هو الذي رُدُّوا إليه وهو الذي جاءوا إليه فرادى ووقفوا عليه ونكسوا رءوسهم عنده كما دل القرآن على ذلك فلو كان الله بنفسه لا يجوز أن يلقى ولا يؤتى ولا يوقف عليه لم تصح هذه الدلالة بالنصوص المشتملة على ذكر إتيان الله عز وجل ومجيئه ونزوله وكذلك استدلال الأشعري على أنه على العرش قال ومما يذكر لكم أن الله عز وجل مستو على عرشه دون(8/21)
الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله(8/22)
ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له حتى يطلع الفجر رواه نافع عن جبير ابن مطعم عن أبيه(8/23)
وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي ثلث الليل نزل الله إلى السماء الدنيا فيقول من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه من ذا الذي يسترزقني أرزقه حتى ينفجر الصبح(8/24)
قال وروى رفاعة الجهني قال قفلنا مع رسول الله(8/25)
صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد أو قال بقديد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إذا مضى ثلث الليل أو ثلثا الليل نزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيقول من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يستغفرني فأغفر له من ذا الذي يسألني فأعطيه حتى ينفجر الفجر(8/26)
قال وقد قال عز وجل يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل 50] وقال سبحانه تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان 59] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة 4] وكل هذا يدل على أنه في السماء مستو على عرشه والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه وهذا(8/27)
الاستدلال قال الأشعري قال الله سبحانه تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وقال عز وجل هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [القرة 210] وقال سبحانه وتعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 8-10] واستدلاله بهذه الآيات على أن الله فوق العرش يقتضي أن الله عنده هو الذي يأتي ويجيء إذ لولا ذلك لم يصح الدليل كما تقدم قال وقال سبحانه وتعالى يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقال سبحانه وتعالى وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] قال وأجمعت الأمة على أن الله تعالى رفع عيسى إلى السماء فهذه دلالة الأشعري وهو من أكبر أئمة المتكلمين الصفاتية تصرح بأنه كان يثبت أن الله نفسه تأتيه عباده ويأتي عباده مع قوله بأنه ليس بجسم وكذلك أبو محمد عبد الله(8/28)
لبن سعيد بن كلاب قبله وغيرهما فإذا كان هؤلاء يقررون هذا التقرير فكيف بمن لا ينفي الجسم ولا يثبته أو بمن يثبته وهذا الاستدلال منه ومن غيره من علماء الأمة وسلفها بهذه الأحاديث على أن الله فوق يبين أن نزول الرب عندهم ليس مجرد نزول شيء من مخلوقاته مثل ملائكته أو نعمته أو رحمته ونحو ذلك إذ لو كان المراد بهذا الحديث عندهم هو نزول بعض المخلوقات لم يصح الاحتجاج به على أنه فوق العرش فإن ذلك يكون كإنزال المطر وخلق الحيوان وذلك منا لا يستدل به على مسألة العرش كما يستدل بقوله ينزل ربنا فلما استدلوا بقوله ينزل ربنا علم أنهم كانوا(8/29)
يقولون إن الله هو الذي ينزل لتستقيم الدلالة ولهذا كل من أنكر أن الله فوق العرش لا يمنع أن الله ينزل ذلك الوقت بعض المخلوقات الوجه الخامس أن يقال إن هذه الآيات المذكورة في اللقاء من قرأها علم بالاضطرار أن مضمونها إخبار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن العبد يلقى الله اللقاء الذي هو اللقاء كما أن سائر النصوص تخبر بما هو من جنس ذلك وإذا كان هذا معلوماً بالاضطرار من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم فيقال إن كان ذلك مستلزماً لأن الملقي جسم كان ذلك حجة قاطعة في إثبات جسم وليس في نفي ذلك حجة تعارض هذا لا سمعية ولا عقلية أما الحجج الشرعية فظاهرة لم يدّع أحد من العقلاء أن الكتاب والسنة دلالتهما على نفي الجسم أظهر من دلالتهما على ثبوته بل عامة الفضلاء المنصفين يعلمون أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن الله تعالى ليس بجسم وجميع الطوائف من نفاة الجسم ومثبتته متفقون على أن ظواهر الكتاب والسنة تدل على إثبات الجسم وإنما ينازعون(8/30)
في كون الدلالة محتملة التأويل أم لا فعلم اتفاق الطوائف على أن الأدلة الشرعية الثبوتية لا تدل على قول نفاة الجسم بل إنما تدل على قول المثبتين سواء قيل إن تلك الدلالة مقررة أو مصروفة وإنما يدعي النفاة دلالة الأدلة العقلية على النفي وقد تقدم ما ذكره النفاة من حجتهم وحجة منازعيهم أظهر لكل ذي فهم أنهم اقرب إلى المعقول وأن حجتهم أثبت في النظر والقياس العقلي وإذا كان كذلك فإذا قيل إن مدلول هذه النصوص مستلزمة للجسم فلازم الحق حق وكان الواجب حينئذ إثبات الملزوم ولازمه لا نفي اللازم ثم نفي(8/31)
ملزومه كما يفعله من يجعل أقيسته النافية هي الأصل مع ما يبين منازعوه من فسادها واضطرابها وردها بـ ما علم بالاضطرار وبالأقيسة العقلية ويجعل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة وأئمتها تبعاً لها فلا يقبل حكمه ولا شهادته فيما يخالفها وهؤلاء أسوأ حالا من هذا الوجه ممن ادعى أن مسيلمة مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من جنسه فإن أولئك لا يظهرون أنهم يتركون أوامر محمد صلى الله عليه وسلم لأمر مسيلمة وإن كان كذلك لازمًا لهم وهؤلاء يصرحون بهذا وقد بينا أنهم أن أقيستهم من باب الإشراك وجعل الأنداد لله عز وجل والعدل به(8/32)
فصار أصل قولهم شركاً وردة ظاهرة ونفاقا أعني من الجهة التي يخالفون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كانوا من جهة أخرى مؤمنين به مقرين بما جاء به ولكنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض ومنهم من يعلم ذلك فيكون منافقاً محضاً ومنهم جهال اشتبه الأمر عليهم وإن كانوا فضلاء فهؤلاء فيهم إيمان وقد يغفر للمخطئ سيئة المجتهد وفي متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال عبد الله بن المبارك ولا أقول بقول الجهم إن له قولاً يضارع قول الشرك أحياناً وقال إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن(8/33)
نحكي كلام الجهمية الوجه السادس قوله والذي يدل على صحة قولنا إن أحداً لا يقول إن الخلائق تلاقي ذواتهم ذات الله على سبيل المجاورة ولما بطل حمل اللقاء على المماسة والمجاورة ولم يبق إلا ما ذكرناه(8/34)
يقال له إما أن تعني بذلك المماسة والاتصال أو تعني به المواجهة أو المقاربة فإن عنيت الثاني فلا نزاع بين القائلين إن الله تعالى على العرش وأن ذوات العباد تقرب من ذات الله عز وجل تارة وتبعد أخرى ومن المعلوم أن إحدى الذاتين إذا قربت من الأخرى صارت الأخرى منها قريبة وإنما نازع بعضهم في أن ذات الله عز وجل نفسها هل تدنو من العباد مع أن جمهورهم يثبتون ذلك وهذه الأقوال المحفوظة عن سلف الأمة وأئمتها وهي مذهب جماهير أهل الحديث وأئمة الفقهاء والصوفية وطائفة من أهل الكلام وإن عنيت بالملاقاة على سبيل المجاورة ومماسة إحدى الذاتين للأخرى ففيه جوابان أحدهما أن هذا لا يشترط في معنى لفظ اللقاء قال تعالى إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) [الأنفال 15] ومعلوم أن هذا يكون بدون تباين الذوات وقال تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال 45] وقال تعالى قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [آل عمران 13](8/35)
ومن المعلوم أن أكثر الفئتين لم تمس أحدهما أحداً من الأخرى وإن كان قد تقع المماسة بين بعضهم ومثله قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال 41] وقوله تعالى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال 44] وقد سماهما ملتقيين حين الترائي قبل التواصل ومن هذا قول متى ما تلقني فردين ترجف روانف أليتيك وتسطتارا(8/36)
فإنه لا يعني به إلا المواجهة والمقاربة وقد قال تعالى وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا [الفرقان 75] وليس التحية والسلام مما تمس الإنسان وإن كان كذلك وهؤلاء متفقون على صحة هذا المعنى بين العبد وربه بطل ما ذكره من اتفاق الخلائق الجواب الثاني أنه لو قدر أن المراد بالملاقاة في اللغة المماسة فليس هذا المعنى مما اتفق على نفيه بل أكثر الصفاتية يجوزون أن الله يمس المخلوقات وتمسه كما يجوزون أن يراها وتراه بل هذا مذهب أئمة الأشعرية أيضاً وقد ذكره هو عنهم في مسألة الإدراكات الخمسة وقد تقدم ذكر ذلك(8/37)
قال في مسألة الرؤية قوله يعني المعترضين هذا الدليل يقتضي صحة تعلق إدراك اللمس بالله قلنا إن إخواننا التزموا ذلك ولا طريق إلا ذلك وقال أيضًا في حجة المخالف الرابعة شبهة الأجناس وهي أن المرئيات في الشاهد أجناس مخصوصة وهي الجواهر والألوان والحركات والسكنات والافتراق والاجتماع ولا يخرج من هذه الأجناس ما هو منها ولا يدخل فيها ما ليس منها فلا يصح أن ترى إلا ما كان من جنسها كما أن المسموعات لما كانت في الشاهد جنساً واحداً مخصوصاً وهو الصوت وكما لا يجوز أن يسمع ما ليس(8/38)
بصوت فكذا لا يجوز أن يرى ما ليس من هذه الأجناس قال وربما قالوا ابتداء لو جاز تعلق الرؤية بالباري تعالى فَلِمَ لا يجوز أن تتعلق به سائر الإدراكات حتى يكون مسموعاً مشموماً مذوقاً ملموساً ولما بطل ذلك بضرورة العقل فكذلك ها هنا ثم قال في الجواب وأما التزام اللمس والشم والذوق والسمع فقد التزمه أصحابنا وفي نسخة بعض أصحابنا وذلك بالحقيقة لازم على م اعتمد في هذه المسألة على الوجوه العقلية فأما من اعتمد على الوجوه السمعية فله أن يقول لما دلت الدلالة السمعية على كونه مرئيًّا قلت به ولم تقم الدلالة علو كونه مذوقاً(8/39)
ملموساً مشموماً فلا يلزمني أن أقول به وقال أيضا في مسألة إثبات أن الله عز وجل سميع بصير بعد أن ذكر الطريقة العقلية وذكر الأسئلة عليها قال فيها ثم لئن سلمنا أن هذا الكلام يدل على كون الباري سميعاً بصيراً لكنه يقتضي اتصافه بإدراك الشم والذوق واللمس قال وللأصحاب اضطراب فيه وقياس قولهم يوجب القول بإثباته على ما هو مذهب القاضي وإمام الحرمين وغيرهما(8/40)
ثم قال الفصل الخامس عشر في أنه تعالى هل هو موصوف بإدراك الشم واللمس والذوق أثبت القاضي والإمام هذه الإدراكات الثلاثة لله تعالى وزعموا أن لله عز وجل خمس إدراكات وزعمت المعتزلة البصرية أن كون الله تعالى حيّا يقتضي إدراك هذه الأمور بشرط حضورها فأما أبو القاسم بن سهلوية فإنه نفى كونه تعالى مدركا للألم واللذة وأما الأستاذ أبو إسحاق(8/41)
منا فإنه نفى عن الله تعالى هذه الإدراكات والأول مذهب القاضي والإمام والدليل على ذلك ما ذكرناه في باب السمع والبصر فإذا كان هو وأئمة مشايخه يقولون إن الله تعالى يدرك الأجسام باللمس لم يصح أن ينفي مماسته للأجسام وهذا هو المفهوم من اللقاء على سبيل المجاورة ولكن دعواه اتفاق الخلائق على عدم قول ذلك مثل قول المعتزلة الذين ناظرهم في ذلك معلوم بالضرورة ثم إنه لم يقبل ذلك منهم وأثبته والحكم بينهم له موضع غير هذا وإنما الغرض نفي ما ادعاه حتى لمذهبه بل إذا كان قد ذكر عن المعتزلة البصريين أن كون الله عز وجل حيًّا يقتضي إدراك هذه الأمور بشرط حضورها يعنون إدراك اللمس وما معه فكيف بغيرهم والمعتزلة(8/42)
البصرية أقرب إلى الإثبات من البغداديين والأشعري كان في أول أمره منهم من أصحاب أبي علي الجبائي شيخهم في وقته ولعل هذا البحث القياسي إنما أخذه الأشعري عنهم فإذا كان هؤلاء يثبتون بالقياس إدراك اللمس والشم والذوق فكيف بأصحاب الحديث والآثار فإنهم أكثر إثباتاً وإن كان النزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في ثبوت ذلك كما تنازعوا في كونه على العرش هل هو بمماسة أو بغير مماسة وملاصقة أو لا يثبت ذلك ولا ينتفي على ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد وغيرهم من الطوائف(8/43)
وكذلك خلق آدم بيديه وإمساكه السموات والأرض ونحو ذلك هل يتضمن المماسة والملاصقة على هذه الأقوال الثلاثة وأما السلف وأئمة السنة المشاهير فلم أعلمهم تنازعوا في ذلك بل يقرون ذلك كما جاءت به النصوص ولكن يذكر هذا في موضعه وهذا كقول الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي قال ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها(8/44)
وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله وعلى رسوله فيها حرفاً بعد حرف وشيئاً بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فاغتنمنا ذلك منه إذ صرح باسمه وسلّم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عمة الفقهاء في كفره وهتك ستره وافتضاحه في مصره وفي سائر الأمصار الذين سمعوا بذكره فروى المعارض عن بشر المريسي قراءة منه بزعمه وبزعم أن بشراً قال له اِرْوِهِ عني أنه قال في قوله الله تعالى لإبليس مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فادعى أن بشراً قال يعني(8/45)
الله عز وجل بذلك أني وليت خلقه وقوله بيديّ تأكيد للخلق لا أنه خلقه بيده قال فيقال لهذا المريسي الجاهل بالله بآياته فهل علمت شيئاً مما خلق الله ولي خلق ذلك غره حتى خص آدم من بينهم أنه ولي خلقه من غير مسيس(8/46)
بيده فَسَمِّهِ وإلا فمن ادعى أن الله تعالى لم يل خلق آدم بيده مسيساً لم يخلق ذا روح بيديه فلذلك خصَّه به وفضَّله وشرَّف بذلك ذكره لولا ذلك ما كانت له فضيلة في ذلك على شيء من خلقه إذ كلهم بغير مسيس في دعواك وأما قولك تأكيد للخلق فلعمري إنه لتأكيد جهلت معناه فقلبته إنما هو تأكيد اليدين وتحقيقهما وتفسيرهما حتى يعلم العباد أنها تأكيد مسيس بيد لما أن الله عز وجل قد خلق كثيراً في السموات والأرض أكبر من آدم وأصغر وخلق الأنبياء والسل فكيف لم يؤكد في خلق شيء منها ما أكد في آدم إذ كان أمر المخلوقين في معنى يد الله تعالى كمعنى آدم عند المريسي فإن يك صادقاً في دعواه(8/47)
فَلْيُسَم شيئاً نعرفه وإلا فإنه الجاحد لآيات الله المعطل ليدي الله قال وادعى الجاهل المريسي أيضا في تفسير التأكيد من المحال ما لا نعلم أحداً ادعاه من أهل الضلالة فقال هذا تأكيد للخلق لا لليد لقول الله تعالى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة 196] فيقال لهذا التائه الذي سلب الله عقله وأكثر جهله نعم هو تأكيد لليدين كما قلنا لا تأكيد للخلق كما أن قوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ تأكيد العدد لا تأكيد الصيام لأن العدد غير الصيام ويد الله غير آدم فأكد الله تعالى لآدم الفضيلة التي كرَّمه وشرَّفه بها وآثره على جميع عباده إذ كل عباده خلقهم بغير مسيس بيد وخلق آدم بمسيس فهذه عليك لا(8/48)
لك وبسط الكلام في ذلك بسطاً ليس هذا موضعه وذكر فيما ذكره حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن عطاء بن السائب عن(8/49)
ميسرة قال إن الله لم يمس من خلقه غير ثلاث خلق آدم(8/50)
بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع فإن ذلك متعلق بعدة نصوص وإنما الغرض هنا بيان ما ذكره من الاتفاق الوجه السابع قوله أنه لما ثبت بالدليل أنه ليس بجسم وجب حمل هذا اللفظ على أحد وجهين أحدهما أن من لقي إنساناً أدركه وأبصره فكان المراد من اللقاء هو الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب(8/51)
قلت لا ريب أن من السلف والأئمة من جعل اللقاء يتضمن الرؤية واستدلوا بآيات لقاء الله عز وجل على رؤيته ومن الناس من نازع في دلالة اللقاء على الرؤية وقد تكلمنا على ذلك في غير هذا الموضع وذكرنا دلالة الأحاديث النبوية على ذلك أيضاً لكن الذين جعلوا اللقاء يدل على الرؤية لم ينفوا معنى اللقاء ويثبتون الرؤية كما يفعله طائفة من متأخري أصحاب الأشعري مثل المؤسس وغيره فإن هذا عندهم ممتنع معلوم الامتناع بضرورة العقل كما يوافقهم على ذلك سائر العقلاء وهو أيضاً خلاف ما تواتر من السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو إثبات الرؤية بغير معاينة ومواجهة وأيضاً فلفظ اللقاء نص في المواجهة والمقاربة وإنما يقال إنه يتضمن الرؤية أو يستلزمها فهي جزء المسمى أو لازمه فكيف يصح إثبات ذلك مع نفي ما اللفظ عليه أدل وهو الأظهر من معناه(8/52)
فهذا القول لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا من أهل اللغة والتفسير الوجه الثامن أن القرآن والأحاديث تصرح بأن الكفار يلاقون الله عز وجل وبأن من أنكر ذلك فهو كافر كقوله تعالى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ [الأنعام 31] وقوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) [يونس 45] وقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ [التوبة 75-77] وقوله أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الكهف 105] وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت 23] وقوله وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) [الروم 8] وقوله أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) [فصلت 54] وغير ذلك كما تقدم وإذا كان كذلك فمذهبه ومذهب(8/53)
أصحابه وغيرهم أن الكفار لا يرون الله عز وجل فكيف يفسر لقاؤهم لله عز وجل بأنهم يرونه وأيضاً من أنكر أنهم يرون الله عز وجل لا يكفره بل من أنكر رؤية الله تعالى لا يكفره والقرآن قد كفر من أنكر لقاء الله عز وجل فإذا فسر اللقاء بمجرد الرؤية وجب أن يجعل القرآن مخبراً بكفر من أنكر الرؤية في هذه الآيات وهو لا يقول بذلك الوجه التاسع أن تفسير اللقاء بأنه رؤية ليس فيها مواجهة ولا مقاربة تفسير للفظ ما لا يعرف في شيء من لغات العرب أصلاً ومن المعلوم أن التأويل لا يمكن إلا إذا كان اللفظ دالاً على المعنى في اللغة وهذا اللفظ لا يدل على هذا المعنى في اللغة أصلاً بل هذا المعنى إما أن يكون ممتنعاً في نفسه أو يكون بصورة كذا لا يفهمه إلا قليل من الناس ومن الأصول التي يقررها هو أن اللفظ الذي يتناوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعاً لمعنى لا يفهمه إلا آحاد الناس وإذا لم يكن(8/54)
هذا اللفظ دالاً على هذا المعنى في لغتهم التي بها يتخاطبون لا حقيقة ولا مجازاً امتنع حمل اللفظ عليه الوجه العاشر أن تفسيره لذلك في الوجه الثاني بأن اللقاء هو ظهور قدرته وقهره وشدة بأسه في ذلك اليوم يقال له تفسير اللقاء بظهور قدرة الملاقي على الملاقى هو تفسير للفظ بما لا أصل له في لغة العرب أصلاً بل يعلم بالاضطرار من لغتهم أن هذا ليس معنى اللقاء في لغتهم وإن كان هذا قد يقع في بعض صور اللقاء كما قد يقع الإكرام تارة والعقوبة أخرى لكن ليس لفظ اللقاء دالاً على مجرد هذه المعاني التي يقترن وجودها بوجود المعنى المعروف من لفظ اللقاء وقد لا يقترن كما أن الرؤية قد يقترن بها المجالسة والمواكلة والإكرام أو العقوبة أو غير ذلك ثم إن لفظ الرؤية ليس معناه هذه الأمور التي قد يحصل مع مسمى الرؤية في بعض الصور الوجه الحادي عشر أنه قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)(8/55)
[الأحزاب 41-44] فهنا لقاء المؤمنين ربهم اقترن به الإكرام والتحية بالسلام فامتنع أن يكون معنى الفظ ظهور القدرة والقهر والبأس لأن المؤمنين لم يظهر في لقائهم إياه إلا الرحمة والخير دون البأس والشدة ومثل هذا قوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ [البقرة 223] فإن المؤمنين لا يجب عليهم أن يعلموا أن الله يظهر لهم رحمته وكرامته الوجه الثاني عشر قوله تعالى فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف 110] فإن الرجاء لا يتعلق بالمكروه المحض فلو كان المراد باللقاء ظهور القهر والبأس لم يكن ذلك مما يرجى بل مما يخاف فكان ينبغي أن يقال فمن كان يخاف لقاء ربه ونحوه قوله إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا [يونس 7] وقوله وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [يونس 15] وقوله تعالى مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت 5](8/56)
وأما ما قاله من أن الرجاء يكون بمعنى الخوف كما في قول الشاعر إذا لسعه النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل(8/57)
أي لم يخف ولم يبال فأكثر اللغويين والمفسرين على خلاف هذا قالوا ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف وكان الرجاء كذلك كقوله عز وجل لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية 14] هذه للذين لا يخافون أيام الله(8/58)
وكذلك قوله تعالى لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) [نوح 13] قالوا ولا تقول رجوتك في معنى خفتك إذ لا جحد فلا يمكن حمل الرجاء فيما ذكر فهذا لا يصح في هذا الموضع الوجه الثالث عشر إن ظهور قدرة الله وقهره وبأسه كثيراً ما يظهر في الدنيا بحيث يتيقن العبد أن لا ملجأ إلا إليه ولا يكشف شدته إلا هو ولا يغني عنه دون الله شيء كما في حال ركوب البحر وهيجانه وغير ذلك من الشدائد العظيمة ومع ذلك فلا يسمى هذا قط لقاء الله تعالى فلو كان اللقاء يراد به قدرته وقهره وبأسه لكان سمى هذا لقاء الله حقيقة أو مجازاً وليس الأمر كذلك قال تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) [الشورى 32-35] الوجه الرابع عشر قوله إن الرجل إذا حضر عند ملك ولقيه دخل هناك تحت قهره وحكمه دخولاً لا حيلة له في(8/59)
دفعه فكان اللقاء سبباً لظهور قدرة الملك عليه على هذا الوجه يقال له من المعلوم أن من عادة الملوك إذا أرادوا تعذيب إنسان وشدة عقوبته فإنهم يبعدونه عن حضوره عندهم أكثر مما يحضرون من يكون كذلك وأن الذين يريدون الإحسان إليهم يقربونهم إلى حضرتهم أكثر مما يبعدونهم هذا أمر معلوم باستقراء العادات وأن اقتران الكرامة بالتقريب إلى الحضرة أكثر من اقتراب الناس فكيف يجعل لفظ اللقاء دالاً على قهر الملوك دون إحسانهم الذي يقترن بلقائهم الوجه الخامس عشر إن الناس لا يسمون بأس الملوك وعذابهم لقاء لهم لا حقيقة ولا مجازاً ولكن لفظ اللقاء يدل على اللقاء المعروف وإذا كان معه عذاب سموه باسم آخر لم يجعلوه مسمىً باللقاء فما ذكره من المقال ليس شاهداً له بل عليه الوجه السادس عشر أن الملوك إذا أظهروا قدرتهم وقهرهم وبأسهم لمن لم يكن بحضرتهم لم يسم ذلك لقاءً لا حقيقة ولا مجازاً ولا يقول الملك لمن أمر بعقابه وهو(8/60)
غائب عنه قد لقيني فلان ولا لقيته فعلم أن الذي ذكره افتراء على اللغة كما هو افتراء على الرحمن والقرآن الوجه السابع عشر أن المشركين ما كانوا يكذبون بأن الله يقدر عليهم قدرة ولا يمكنهم دفع ذلك عن أنفسهم والله عز وجل قد أخبر أنهم يكذّبون بلقاء الله عز وجل وجعل ذلك بعد الموت فلو كان المراد به ظهور مقدوره وبأسه لم يكونوا مكذبين بلقاء الله عز وجل(8/61)
فصل قال الرازي الفصل السادس في لفظ النور قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور 35] وروى ابن خزيمة في كتابه عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن قال واعلم أنه لا يصح(8/62)
القول بأنه هو هذا النور المحسوس بالبصر ويدل على ذلك وجوه الأول أنه تعالى لم يقل إنه نور بل قال إنه نور السموات والأرض بمعنى الضوء المحسوس ولو كان نوراً في ذاته لم يكن لهذه الإضافة فائدة الثاني أنه لو كان كونه تعالى نور السموات والأرض بمعنى الضوء المحسوس لوجب أن لا يكون في شيء من السموات والأرض ظلمة ألبتة لأنه تعالى دائم لا يزال ولا يزول الثالث لو كان تعالى نوراً بمعنى الضوء وجب أن يكون ذلك الضوء مغنياً عن ضوء الشمس والقمر والنار والحِسُّ دال على خلاف ذلك(8/64)
الرابع أنه تعالى أزال هذه الشبهة بقوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ [النور 35] أضاف النور إلى نفسه ولو كان تعالى نفس النور وذاته نور لامتنعت هذه الإضافة لأن إضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة وكذلك قوله تعالى يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور 35] الخامس أنه تعالى قال وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام 1] فتبين بهذا أنه تعالى خالق الأنوار السادس أن النور يزول بالظلمة ولو كان تعالى عين هذا النور المحسوس لكان قابلاً للعدم وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود السابع أن الأجسام كلها متماثلة على ما سبق تقريره ثم إنها بعد تساويها في الماهية تراها مختلفة في الضوء والظلمة فوجب أن يكون الضوء عرضاً قائما بالأجسام والعرض يمتنع أن يكون إلهاً فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل النور على ما ذكروه بل معناه أنه هادي السموات والأرض أو معناه منور(8/65)
السموات والأرض على الوجه الأكمل كما يقال فلان نور هذه البلدة إذا كان سبباً لصلاحها وقد قرأ بعضهم الله نَوَّر السموات والأرض فيقال قد تقدم الكلام على هذه الآية في أول كلامه وذكر أن الذي عليه جماهير الخلائق أن الله عز وجل نفسه نور حتى نفاة الصفات الجهمية كانوا يقولون إنه نور وأما(8/66)
القول بأن الله عز وجل نفسه هو نور الشمس والقمر والنار فهذا لا يقوله مسلم ولكن قد ورد عن ابن مسعود أنه قال نور السموات من نور وجهه وهذا يتكلم عليه في موضعه ويتوهم بعض الناس أن هذه الأنوار قديمة لزعمهم أنها من نور الله عز وجل بل يقولون أن هذه النوار هي الله وهو نصب الخلاف مع من يقول ذلك ولكن يبقى كونه نوراً مطلقاً فلم يذكر إلا قولين إما أن يكون هو هذا النور المحسوس وإما ألا يكون نوراً بحال وكلا القولين باطل(8/67)
بل هو نور وله نور وحجابه نور وإن لم يكن ذلك محسوساً لنا ولا حاجة في نفي كونه هذا النور المحسوس إلى ما ذكره من الأدلة ولكن ضمَّنها نفي كونه نوراً مطلقاً وذلك باطل فنتكلم على ما ذكره من الوجوه قوله في الوجه الأول لو كان نوراً في ذاته لم يكن لهذه الإضافة فائدة يقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه قيوم في نفسه ومع هذا ففي الحديث أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن الثاني أنه قد سمى القمر نوراً بقوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس 5] ومع هذا يقال للقمر نور الأرض الثالث أن كل ما كان موصوفاً بصفة في نفسه ولها تعلق بالغير أنه يذكر اسمه بإضافة وبغير إضافة كما يقال عالمٌ ويقال عالمُ الدنيا قوله في الوجه الثاني لو كان كونه نور السموات والأرض يعني هذا الضوء المحسوس لوجب ألا يكون في شيء من السموات والأرض ظلمة ألبتة لأنه تعالى دائم لا يزول(8/68)
يقال على هذا وجوه أحدها أن هذا بعينه يرد في تفسيرك حيث قلت منور السموات والأرض بمعنى المصلح وهادي السموات والأرض فإن ذلك يستلزم على قياس قولك ألا يكون فيهما شيء من الضلالة أو الظلم والفساد فما قلته في هذا يقال في ذلك الثاني أن كونه نوراً أو له نور لا يوجب ظهور ذلك لكل أحد فإنه يحتجب عن العباد كما سنذكره في لفظ الحجاب الثالث أن في تمام الحديث ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ومعلوم أن كونه ملكاً لا ينافي أن يكون من عباده من جعلهم ملوكاً ويكون ملكهم من ملكه لا بمعنى انه بعضه لكن بمعنى أنه بقدرته وملكه حصل ملك العبد وكذلك الرب والقيوم وكذلك إذا كان هو نور السموات والأرض لم يمنع أن يكون غيره من المخلوقات نوراً وله نور إذا كان ذلك من نوره بمعنى أنه بنوره حصل ذلك وحينئذ فهو نور السموات والأرض ولا يجب أن يزول(8/69)
كل ظلمة لأنه نفسه لم يحل في المخلوقات وإنما يلزم هذا الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان كما ذكر ذلك عنهم الأئمة كالإمام أحمد وغيره فأما أهل السنة الذين يقولون إنه فوق العرش فلا يلزمهم ذلك قوله في الوجه الثالث لو كان نوراً بمعنى الضوء لوجب أن يكون ذلك الضوء مغنيا عن ضوء الشمس والقمر يقال هذا إنما يلزم أن لو كان هو أو نوره الذي هو نوره ظاهر المخلوقات فكان يغني عن هذه الأنوار أما إذا كانت هذه الأنوار حادثة عن نوره المحتجب عن العباد لم يلزم ذلك قوله الرابع أنه تعالى أزال هذه الشبهة بقوله مَثَلُ نُورِهِ [النور 35] أضاف النور إلى نفسه وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة يقال هو نور وله نور فإن اسم النور يقال للشيء القائم بنفسه كما سمى القمر نوراً ويقال للصفة القائمة بغيرها كما يقال نور الشمس والقمر وقد دل الكتاب والسنة على أنه نور وله نور وحجابه(8/70)
النور فالمضاف ليس هو المضاف إليه وأيضا فإن هذا يلزمهم مثله فإنه إذا فسر نور السموات والأرض بأنه هادي أو مصلح أو منور لزم أن يقال مثل هاديه أو مصلحه أو منوره ومعلوم أن هذا باطل بل يقال مثل هدايته أو إصلاحه أو تنويره فيكون مسمى النور المضاف ليس هو مسمى النور المضاف إليه على كل تقدير فعلم أن هذا لا يصلح أن يكون دليلا على صرف الآية عن ظاهرها ولا على صحة التأويل(8/71)
وأيضاً فهذا مثل اسمه السلام فقد ثبت في صحيح مسلم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً ثم قال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام فأخبر أنه هو في نفسه السلام وأن منه السلام وقوله الخامس أنه تعالى قال وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ(8/72)
[الأنعام 1] فبين أنه خالق الأنوار يقال له وجوه أحدها أنه إذا أخبر أنه جاعل الظلمات والنور علم أن النور المجعول هو الذي تعاقبه الظلمات فيكون هذا موضع هذا وهذا موضع هذا كما في نور النهار وظلمة الليل أما هو نفسه ونوره فذاك لا يعاقبه ظلمة تكون في محله فلا يدخل في هذا العموم الثاني أن هذا يرد عليه أيضاً فإنه فسر النور بالهادي والمصلح والمنور فإن كان قوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام 1] يعم هذا النور المذكور في قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور 35] لزم أن يكون قد جعل نفسه وإن لم يعم نفسه لم يلزم أن يكون خالق النور المذكور في هذه الآية الثالث أنه من المعلوم أن الله عز وجل لما قال إنه خالق كل شيء وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 30] وقال كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] لم يدخل هو فيما خلق من الأشياء ولا فيما جعل من الماء من الأحياء ولا من الأنفس الذائقة للموت مع أنه قد سمي(8/73)
حيا ونفساً فكذلك لا يدخل في النور المجعول وإن كان هو سبحانه وتعالى نوراً قوله السادس إن النور يزول بالظلمة ولو كان تعالى هو عين هذا النور المحسوس لكان قابلاً للعدم يقال له لا يقول مسلم إنه عين هذا النور المحسوس وليس هذا ظاهر الآية كما قد بينا وقوله في الوجه السابع إن الأجسام متماثلة وهي مختلفة في الضوء والظلمة فيكون الضوء عرضاً قائماً بالأجسام يقال له لا نزاع في أن الضوء الذي هو عرض قائم بالأجسام يسمى نوراً مثل شعاع الشمس المنبسط على الأرض وكذلك ضوء القمر المنبسط على الأرض وكذلك نور النار كالسراج القائم بالجدران لكن النور يقال للعرض ويقال للجسم أيضاً فإن نفس النار تسمى نوراً فإنه إذا سُمِّي ضوء النار الذي يكون على الأرض والحيطان نوراً فالنار الخارجة من الفتيلة وهو جسم قائم بنفسه أولى أن يكون نوراً قال الله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس 5] فَسُمِّي هذا ضياء(8/74)
وهذا نوراً مع العلم بأنه يقال ضياء الشمس ويقال نور القمر فعلم أن الاسم يتناول الجسم ويتناول العرض فعلم أن اسم النور في حق الخالق وحق المخلوق يقال للموصوف القائم بنفسه ويقال للصفة القائمة به ويقال لما يحصل لغيره من نوره كالأشعة المنعكسة وقوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور 35] يتناول الأقسام الثلاثة فإنه أخبر أنه نور وأخبر أن له نورا وأخبر أنه كمشكاة فيها مصباح ومعلوم أن المصباح الذي في المشكاة له نور يقوم به ونور(8/75)
منبسط على ما يصل إليه من الأرض والجدران فصل قال الرازي الفصل السابع في الحجاب قال الله تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] قالوا والحجاب لا يعقل إلا في الأجسام وتمسكوا أيضا بأخبار كثيرة الخبر الأول ما روى صاحب شرح السنة في باب الرد على الجهمية عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ولكنه يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل(8/76)
النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه قال المصنف هذا حديث أخرجه الشيخان وقوله(8/77)
يخفض القسط ويرفعه أراد به أنه يراعي العدل في أعمال العباد كما قال تعالى وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) [الحجر 21] الخبر الثاني ما يروى في الكتب المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره(8/78)
الخبر الثالث روي في تفسير قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] أنه تعالى يرفع الحجاب فينظرون إلى وجهه تعالى واعلم أن الكلام في الآية هو أن أصحابنا قالوا إنه لا يجوز أن يقال إنه تعالى محتجب عن الخلق ولا يجوز أن يقال إنه محجوب عنهم لأن لفظ الاحتجاب مشعر بالقوة والقدرة والحجب(8/79)
يشعر بالعجز والذلة يقال احتجب السلطان عن عبيده ويقال فلان حجب عن الدخول على السلطان وحقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى محالٌ لأنه عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين بل هذا محمول عندنا على أن الله تعالى لا يمنع وصول آثار إحسانه وفضله إلى الإنسان وأما الخبر الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم حجابه النور فاعلم أن كل شيء يفرض مؤثراً في شيء آخر فكل كمال يحصل للأثر فهو مستفاد من المؤثر لا شك أن ثبوت ذلك الكمال لذلك المؤثر أولى من ثبوته في ذلك الأثر وأقوى وأكمل ولا شك بأن معطي الكمالات بأسرها هو الحق تعالى فكان كل كمال الممكنات بالنسبة إلى كمال الله تعالى كالعدم ولا شك أن جملة الممكنات ليست إلا عالم الأجسام وعالم الأرواح ولا شك أن جملة كمالات عالم(8/80)
العناصر بالنسبة إلى كمال عالم الأفلاك كالعدم ثم كمال عالم الروح بالنسبة إلى كمال كل العناصر كالعدم ثم كمال الشخص المعين بالنسبة إلى كمال هذا الروح كالعدم فيظهر هذا أن كمال الإنسان المعين(8/81)
بالنسبة إلى كمال الله تعالى أولى من أن يقال إنه كالعدم ولا شك أن روح الإنسان وحده لا تطيق قبول ذلك الكمال ولا يمكنه مطالعته بل الأرواح البشرية تضمحل في أدنى مرتبة من مراتب تلك الكمالات فهذا هو المراد بقوله لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره من خلقه والكلام على هذا أن يقال أما ذكر الحجاب في الكتاب والسنة فأضعاف ما ذكره فإنه لام يذكر من القرآن إلا قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] وقد قال تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وأيضاً فذكره لتجليه للجبل يدل على أنه كان محتجباً فتجلى وأما الأحاديث فمنها حديث أبي موسى الذي ذكره(8/82)
وليس هو مما أخرجه الشيخان كما ادعاه وإنما هو من أفراد مسلم خرَّجه عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات قال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه نور في رواية النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وذكر ابن خزيمة رواية أبي معاوية عن(8/83)
الأعمش عن عمرو بهذا اللفظ قال حجابه نور ورواه من طريق الثوري عن عمرو قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات وقال حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره(8/84)
وكذلك رواه المسعودي عن عمرو بمثله وزاد فيه ثم قرأ أبو عبيدة أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) [النمل 8] ورواه من طريق جرير عن الأعمش وذكر أنه مثل رواية الثوري ورواه عثمان بن سعيد من طريق جرير عن الأعمش ولفظه قام فينا رسول(8/85)
الله صلى الله عليه وسلم بأربع وقال حجابه النور ولو كشفها ورواه أيضا من طريق الثوري عن حكيم بن الديلم عن أبي بردة عن أبي موسى مثل لفظ الثوري عن عمرو بن مرة(8/86)
وفي الصحيحين عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم في جنة عدن إلا رداء الكبرياء على وجهه وفي رواية ما بين أن ينظروا إلى ربهم في جنة عدن إلا رداء الكبرياء على وجهه رواه(8/87)
ابن خزيمة وفي صحيح مسلم هن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال قال(8/88)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً لم ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيّض وجوهنا ويثّقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب عن وجهه فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة وقد رواه حماد بن زيد وسليمان بن(8/89)
المغيرة ومعمر عن ثابت لكن رواية حماد بن سلمة أتم إسناداً ومتناً وذلك معروف في أحاديثه عن ثابت البناني لأنه كان بينهما من الصلة ما لم يكن بينه وبين غيره وكان ثابت يقول ولا أن يصنعوا بي كما صنعوا بأبي سعيد يعني الحسن البصري لحدثتهم أحاديث موثقة فلهذا كان يختصر لبعض(8/90)
الناس ويختصر عنه حماد بن سلمة أشياء لاختصاصه به ورواه ابن خزيمة وغيره عن حماد بن زيد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه تلا هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] أعطوا فيها ما شاءوا وما سألوا قال يقال إنه قد بقي من حقكم شيء لم تعطوه قال فيتجلى لهم تبارك وتعالى قال وتلا هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] الجنة وزيادة النظر إلى ربهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة بعد نظرهم إلى ربهم(8/91)
ولفظ سليمان عن ثابت عن ابن أبي ليلى أنه سئل عن قول الله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ قال إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة أعطوا فيها من النعيم والكرامة ينادون يا أهل الجنة إن الله قد وعدكم الزيادة قال فيكشف الحجاب فيتجلى لهم تبارك وتعالى فما ظنك بهم حيث ثقلت موازينهم وحين طارت صحفهم في أيمانهم وحين جازوا جسرهم فقطعوه وحين دخلوا الجنة فأعطوا فيها من النعيم والكرامة قال فكأن هذا لم يكن شيئاً فيما أعطوه ورواية معمر عن ثابت عن ابن أبي ليلى قال الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم(8/92)
وعن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمرو بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن موسى عليه السلام قال يارب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه الله آدم فقال أنت أبونا فقال له آدم نعم قال الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها وأمر الملائكة فسجدوا لك قال نعم قال فما حملك على أن أخرجتنا من الجنة قال له آدم من أنت قال أنا موسى قال أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه قال نعم قال أفما وجدت أن ذلك في كتاب الله قبل أن أخلق قال نعم قال فيما تلومني في شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم(8/93)
موسى رواه أبو داود في سننه وابن خزيمة في توحيده الذي اشترط فيه الصحة وأبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي(8/94)
في صحيحه وغيرهم وهو على شرط الصحيح من هذا الوجه وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة بمعناه وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكن من احد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه تُرجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم(8/95)
أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة وفي رواية أبي أسامة ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان(8/96)
وكذلك رواه ابن خزيمة بإسناد مشهور من رجال الصحيحين عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان قال عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا يحيى الحماني حدثنا عبد العزيز يعني الدراوردي عن يزيد بن الهاد عن(8/97)
عبد الله بن يونس سمع المقبري يحدث قال حدثني أبو هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول أيما والد جحد ولده احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين(8/98)
قال أبو سعيد ففي هذا الحديث دليل أنه إذا احتجب من بعضهم لم يحتجب من بعض وأما الخبر الثاني الذي ذكر أنه مروي في الكتب المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره فهذا الحديث لا يوجد في شيء من دواوين الإسلام فضلاً عن أن يكون في الكتب المشهورة وقد روي في الحُجب أحاديث وآثار وإن لم تكن في(8/99)
الكتب المشهورة لكنها مما رواه العلماء أهل الحديث فأما هذا الحديث فلا أصل له والأحاديث المأثورة في هذا فمثل ما رواه الخلال في كتاب السنة حدثنا يزيد بن جمهور حدثنا الحسن بن يحيى(8/100)
ابن كثير العنبري حدثنا أبي عن إبراهيم بن المبارك عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل عليه السلام وإذا في كفه كأصفأ المرايا(8/101)
وأحسنها وإذا في وسطها نكتة سوداء قال فقلت يا جبريل ما هذه قال هذه الدنيا صفاؤها وحسنها قال قلت وما هذه اللمعة في وسطها قال هذه الجمعة قال قلت وما الجمعة قال يوم من أيام ربك عظيم وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الآخرة أما شرفه وفضله في الدنيا فإن الله تعالى جمع فيه أمر الخلق وأما ما يرجى فيه فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله تعالى فيها خيراً إلا أعطاهما إياه وأما شرفه وفضله واسمه في الآخرة فإن الله تعالى إذا صيَّر أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وجرت عليهم أيامهما وساعاتهما ليس بها ليل ولا نهار إلا قد علم الله مقدار ذلك وساعته فإذا كان يوم الجمعة في الحين الذي يبرز أو يخرج فيه أهل الجنة إلى جمعتهم نادى مناد يا أهل الجنة اخرجوا إلى يوم المزيد لا يعلم سعته وطوله وعرضه إلا الله في كثبان المسك قال فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور ويخرج غلمان المؤمنين بكراسٍ من ياقوت قال فإذا وضعت لهم وأخذ القوم مجالسهم بعث الله عليهم ريحاً تدعى المثيرة تثير عليهم أثابير المسك الأبيض تدخل من تحت ثيابهم وتخرج من وجوههم وأشعارهم فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من امرأة أحدكم لو دفع إليها(8/102)
كل طيب على وجه الأرض لكانت تلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من تلك المرأة لو دفع إليها ذك الطيب بإذن الله قال ثم يوحي الله تعالى إلى حملة العرش فيوضع بين ظهراني الجنة وما فيها أسفل منه بينهم وبينه الحُجب فيكون أول ما يسمعون منه أن يقول أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني وصدقوا رسلي واتبعوا أمري فسلوني فهذا يوم المزيد قال فيجتمعون على كلمة واحدة رب رضينا عنك فارض عنا قال فيرجع الله تعالى في قوله يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي فهذا يوم المزيد فسلوني قال فيجتمعون على كلمة واحدة رب وجهك وجهك أرنا ننظر إليك قال فيكشف الله عز وجل تلك الحجب قال ويتجلى لهم قال فيغشاهم من نوره شيء لولا أنه قضى عليهم أن لا يحترقوا لاحترقوا مما غشيهم من نوره قال ثم يقال ارجعوا إلى منازلكم قال فيرجعون إلى منازلهم وقد خفوا على أزواجهم وخفين عليهم مما غشيهم من نوره فإذا صاروا إلى منازلهم يزداد النور وأمكن حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها قال فيقول لهم أزواجهم لقد خرجتم من عندنا في صورة ورجعتم على(8/103)
غيرها قال فيقولن ذلك بأن الله عز وجل تجلى لنا فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم قال فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه وذلك قول الله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة 17](8/104)
وأصل هذا الحديث في تقدير يوم الجمعة في الآخرة مشهور من طرق من حديث أبي هريرة وحديث سوق الجنة(8/105)
وحديث أنس وحديث ابن مسعود موقوفاً وقال الخلال حدثنا عبد الواحد بن شعيب حدثنا عبد العزيز بن موسى البهراني حدثنا مسند بن محمد عن عبد الله التميمي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجب الله عن خلقه بسبعين ألف حجاب هواء وريح وماء وظلمة ونور ثم قرأ قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام 103] حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري(8/106)
حدثنا مؤمل قال حدثنا سفيان عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال احتجب الله تبارك وتعالى عن خلقه بأربعة نار وماء ونور وظلمة(8/107)
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا زيد بن الحباب العكلي عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه في قوله تعالى فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قال طوله خمسمائة سنة فإذا أراد الله أمراً في الأرض من وحي أو شيء دُلي بين عنق إسرافيل فنظر فيه فيوحي إلى جبريل عليه السلام وبينه وبينه حجب وبين الله وبين خلقه سبعون حجاباً نور وظلمة وماء(8/108)
ونار وبرق يلمع وإسرافيل لا يرفع طرفه حدثنا الحسن بن حميد البلخي حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثني أبي حدثني ابن أبي(8/109)
ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل يناجيه إذا انشق فأقبل جبريل يدنو من الأرض ويدنو بعضه من بعض ويتماثل فإذا ملك فقلت أردت عن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن(8/110)
المسألة فمن هذا يا جبريل قال هذا إسرافيل خلقه الله عز وجل يوم خلقه بين يديه صافاً قدميه لا يرفع طرفه بينه وبين الرب تبارك وتعالى سبعون نوراً ما منها نور كاد يدنو منه إلا احترق وبين يديه لوح فإذا أذن الله في شيء في السماء أو في الأرض ارتفع ذلك اللوح حتى يضرب جبينه فينظر فيه فإذا كان من عملي أخبرني به وإن كان من عمل ميكائيل أخبره به وإن كان من عمل ملك الموت أمره به قال قلت يا جبريل على أي شيء أنت قال أنا على الريح والجنود قلت على أي شيء ميكائيل قال على النبات والقطر قلت وعلى أي شيء ملك الموت قال على قبض الأنفس وما هبط إلى الأرض منذ خلقه الله عز وجل إلى يومه هذا وما ظننت أنه هبط إلا لقيام الساعة وما الذي رأيت مني إلا خوفاً من قيام الساعة(8/111)
فمثل هذه الأحاديث وإن كان لا يحتج بآحادها أئمة الحديث فهي ونحوها المأثور دون ما ذكره وروى الخلال وغيره وهو مشهور عن سفيان الثوري عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال احتجب الله تبارك وتعالى عن خلقه بأربعة نار وماء ونور وظلمة ورواه عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على(8/112)
الجهمية حدثنا محبوب بن الحسن الأنطاكي حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن سفيان عن عبيد المكتب عن(8/113)
مجاهد عن ابن عمر قال احتجب الله من خلقه بأربعة بنار وظلمة ونور وماء وروى أبو بكر النجاد في سننه بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال والذي نفسي بيده إن دون الله يوم القيامة سبعون ألف حجاب إن منها حجاباً من ظلمة ما ينفذها شيء وإن منها حجاباً من نور ما يستطيعه شيء وإن منها حجاباً لا يسمعه شيء لا يربط الله(8/114)
على قلبه إلا انخلع فؤاده(8/115)
وقال عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة حدثنا حماد وهو ابن سلمة أنا أبو عمران الجوني عن زرارة بن أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل هل رأيت ربك فانتفض جبريل وقال يا محمد إن بيني وبينه سبعين حجاباً من نور لو دنوت من أدناها حجاباً لاحترقت(8/116)
إذا عرفت النصوص فالكلام على ما ذكره من وجوه الأول قوله واعلم أن الكلام في الآية هو أن أصحابنا قالوا يجوز أن يقال إنه محتجب عن الخلق ولا يجوز أن يقال إنه محجوب عنهم الوجه الأول يقال له الآية التي ذكرتها ليس فيها ذكر أن الله محتجب ولا محجوب وإنما فيها أن الكفار محجوبون عن الله وإن أردت الآية التي في الشورى وَرَاءِ حِجَابٍ فتلك لم تذكرها ولم تذكر أن كونهم محجوبين يقتضي أنه تعالى محتجب حتى يتم الكلام وإن كان فيه ما فيه الوجه الثاني أن هذا قول طائفة من أصحابه وإلا فآخرون منهم كأبي بكر بن فورك وغيره يقولون لا يجوز أن يكون الله محتجباً ولا محجوباً بحجاب وقالوا الحجاب(8/117)
راجع إلى الخلق لأنهم هم المحجوبون عنه بحجاب يخلقه فيهم وهو عدم الإدراك في أبصارهم قالوا لأن ما ستر بالحجاب فالحجاب أكبر منه ويكون متناهياً محاذياً جائزاً عليه المماسة ومنه قوله تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] فجعل الكفار محجوبين عن رؤيته لما خلق فيهم من الحجاب والحجاب الذي خلقه فيهم هم عدم الإدراك في أبصارهم قالوا ومن هذا أنه لم يضف الحجاب إلى الله بل أطلق ذكر الحجاب ويبين صحة هذا ما روي عن علي أنه أمر بقصاب وهو يقول لا والذي احتجب(8/118)
بسبعة أطباق فقال علي ويحك يا قصاب إن الله لا يحتجب عن خلقه وفي لفظ إن الله لا يحتجب عن خلقه بشيء ولكن حجب خلقه عنه ومن حجة هؤلاء أنه إذا جاز أن يقال هو محتجب جاز أن يقال هو محجوب أي هو حجب نفسه لم يحجبه غيره وقوله الحجب يشعر بالعجز والذل إنما ذاك إذا حجبه غيره كما في المثال الذي ذكره من قولهم فلان حجب عن الدخول على السلطان أما لو قيل إن السلطان قد حجب نفسه(8/119)
أو وكّل من يحجبه أو جعل حاجباً يحجبه لم يكن ذلك مشعراً بالذلة والعجز بل بالقوة ولهذا يسمون الذي يحجبهم من الناس حاجباً ويقولون إنه يحجب الأمير وسُمي حاجب العين حاجباً لأنه يحجب العين وأما الشعري نفسه فذكر ما يوافق أهل الإثبات أنه سبحانه وتعالى محتجب بالعرش والسموات فقال في مسألة العرش ومن دعاء المسلمين جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل أنهم يقولون يا ساكن العرش ومن حلفهم لا والذي احتجب بالعرش وسبع سماوات الوجه الثالث قوله الحجاب محمول عندنا على أن(8/120)
يخلق الله تعالى في العين رؤية متعلقة به وهذا تفسير أصحابه الذين يقولون بإثبات الرؤية وينفون الحجاب والمقابلة ونحو ذلك وهذا باطل بالضرورة فإن كون الله تعالى لا يخلق في العين رؤية أمرُ عدمي لا يحتاج إلى إحداث فعل بل هو مثل أن الله تعالى لا يخلق للجسم طعماً أو لوناً أو ريحاً أو حركة أو حياة أو غير ذلك من الأمور العدمية فقول القائل فهم محجوبون عنه بحجاب يخلقه فيهم وهو عدمُ الإدراك في أبصارهم كلام باطل لأن العدم لا يخلق الوجه الرابع أنه قال في الحديث الصحيح حجابه النور وفي الرواية الأخرى النار ومعلوم أن عدم الرؤية لا يسمى نوراً ولا ناراً لا حقيقة ولا مجازاً بل إذا سُمّي ظلمة كان فيه مناسبة الوجه الخامس أنه قال في الحديث فيكشف الحجاب فينظرون إليه وكشف الشيء إزالته أو رفعه وهذا لا يوصف به المعدوم فإن المعدوم لا يُزال ولا يرفع وإنما يزال ويرفع الموجود ومنه وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام 17] وقوله وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل 62] وقوله فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ [الأنعام 41](8/121)
الوجه السادس أنه قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فجعل النظر متعقباً لكشف الحجاب وعندهم أن الحجاب هو عدم خلق الرؤية أو ضده خلق الرؤية فيكون زوال ذلك العدم هو عين الرؤية لا يكون شيئاً يتعقب الحجاب الوجه السابع أنه قال حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه ولو كان الحجاب عدم خلق الرؤية لم يكن كَشفُ ذلك وهو خلق الرؤية في العبد يحرق شيئاً من الأشياء فإن المؤمنين إذا رأوا ربّهم في عرصات القيامة ثم رأوه في الجنة مرة بعد مرة لا يُحْرَقُ شيء الوجه الثامن أن في الصحيحين وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فأثبت رداء الكبرياء على وجهه وعلى قول هؤلاء ما بينهم وبين أن(8/122)
ينظروا إليه إلا زوال ذلك العدم بخلق الرؤية في أعينهم ومعلوم أن عدم خلق الرؤية فيهم ليس هو رداء الكبرياء ولا هو على وجه الله عز وجل ولا هو في جنة عدن ولا هو شيء أصلا حتى يوصف بشيء من صفات الموجود الوجه التاسع أن تسمية مجرد عدم الرؤية مع صحة الحاسة وزوال المانع حجاباً أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازاً ولهذا لا يقال إن الإنسان محجوب عن رؤية ما يعجز عنه مع صحة حاسته وزوال المانع وكالأشياء البعيدة ولكن يقال في الأعمى هو محجوبُ البصر لأن في عينه ما يحجب النور أن يظهر في العين ولكن هؤلاء قوم وافقوا المؤمنين على أن رؤية الله عز وجل جائزة ووافقوا الكفار أعداء الرسل من المشركين والصابئين على ما يوجب أن الله عز وجل لا يرى كما وافقهم الجهمية كالمعتزلة ونحوهم ثم أثبتوا رؤيةً يُعلم بضرورة العقل بطلانها وجحدوا حقيقة ما جاء به السمع فصاروا منافقين مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل صاروا جاحدين لصريح المعقول باتفاق الطوائف جاحدين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم والإيمان(8/123)
الوجه العاشر قوله حقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى محال لأنه عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين يقال له هذا بعينه وارد في كل ما يضاف إلى الله عز وجل من أسمائه وصفاته فإن تلك الأسماء والصفات لا تعرف إلا للأجسام وصفات الأجسام كما تقدم التنبيه على ذلك الوجه الحادى عشر أن الرؤية أيضا لا تعقل إلا لجسم ولا يعقل إثبات الرؤية إلا لجسم فإثبات كون الرب مرئيّا ورائياً مع نفي الجسم ليس بأولى من إثبات كونه محجوباً ومحتجباً مع نفي الجسم فإن كان الجمع بين هذا الإثبات والنفي حقّا هو حق في الموضعين وإن كان باطلاً في الموضعين ومن قال إني أعقل الرؤية بغير جسم ولا أعقل(8/124)
الحجاب إلا لجسم فهو جاحد لما يعلمه العقلاء بالاضطرار الوجه الثاني عشر أن الحجاب مانع من الرؤية بلا نزاع ومعلوم أن المانع من الشيء لا يكون عين عدمه فإن مجرد عدم الشيء ليس مانعاً من وجوده إذ المانع لا يعقل مانعاً إلا عند وجود المقتضي لوجود الشيء والعدم ليس بشيء أصلاً حتى يكون مانعاً ولو كان عدم الشيء مانعاً من وجوده لما وجد شيء من المحدثات لأن عدمها سابق على وجودها فعلم أنه لابد أن يكون الحجاب المانع من الرؤية شيئاً غير عدم خلق الرؤية فإن كان ذلك محالاً لم يكن للرؤية مانع أصلاً فكان يجب رؤية الله عز وجل عند صحة البصر وسلامته لأن المقتضي موجود والمانع مفقود كما في رؤية سائر الأشياء الوجه الثالث عشر أنّا إذا عرضنا على العقل أن الإنسان يرى شيئاً لا يقابله بوجه من الوجوه وأنه لا مانع من رؤيته قط إلا مجرد عدم القوة في العين وعرضنا على العقل أن ذلك لا يبعد أن يكون محجوباً لم يحكم العقل بذلك لأن ما أثبت رؤيته أبعد من المعقول من نفي الحجاب عنه والعقل لا يثبت الأخفى(8/125)
البعيد دون القريب من ذلك أن الناس تنازعوا في عدم الإدراك الذي هو الرؤية والسمع هل هو مستلزم لوجود ضدّ له أم يكفي عدم وجوده فهل يجب أن يقال إن الأعمى والأصم قام بهما ضد وجودِ السمع والبصر أو لم يقم بهما السمع والبصر أم معناهما عدم السمع والبصر فإن لم يكن الواجب إلا مجرد عدم الإدراك فالعدم لا يكون حجاباً وإن قيل بل هما أمران وجوديان معتادان للإدراك كما يقوله من أهل الإثبات فمعلوم أن الضدين لا يجتمعان لكن ليس تسمية البصر والرؤية حجاباً لامتناع مجامعته الصمم والعمى بأولى من تسمية الصمم والعمى حجاباً لامتناع مجامعته للرؤية والسمع وكذلك لا يقال إن أحدهما هو المانع من الآخر بل يمتنع اجتماعهما نعم إذا كان أحدهما قائماً بالمحل فهل يقال إنه يمتنع الضد الطارئ أن يزيله أو يزول بنفسه حتى يحدث الطارئ هذا فيه نزاع أيضاً من القائلين ببقاء الأعراض ونفاة ذلك والمقصود أنه مع التقدير لا يسمى ذلك حجاباً(8/126)
الوجه الرابع عشر أنه لو كان الحجاب لغير جسم بطل ما ذكروه وإن كان لا يكون لجسم فقد تقدم أنه ليس في العقل ولا في الشرع ما ينفي الجسم وأن إطلاق القول بأن الله عز وجل ليس بجسم ولا جوهر بدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها بل ذلك أعظم ابتداعاً من القول بأنه جسم وجوهر وإذا كان هذا النفي بدعةً باطلةً لم يكن ذلك معارضاً لما ثبت بالكتاب والسنة وهذه الكلمة هي قول الجهمية المُعَطلِة لما جاء به الكتاب والسنة ولما عُلم بضرورة العقل والنظر المُعَطلِة في الحقيقة للرب المعبود ومعرفته وعبادته هي أساس الشر والردة والنفاق وإن كانت قد نفقت على طوائف من أهل الإيمان لم يعلموا ما قصدوا بها الذين(8/127)
ابتدعوها أفسدوا بها فطرة الله عز وجل التي فطر العباد عليها وكتابه الذي أنزل على رسوله وصدوا بها عن سبيل الله عز وجل وهي لهؤلاء كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لأولئك وهي من السماء التي سموها هم وآباؤهم وما أنزل الله بها من سلطان فإن الله تعالى لم ينزل في شيء من كتبه ولا قال أحد من رسله ولا من ورثتهم أن الله عز وجل ليس بجسم ولا جوهر وإنما الكلام مأخوذ عن المشركين ومن وافقهم من مبدّلة الصابئة وأهل الكتاب ثم إنه اشتبه على من ضل به من أهل الملل الوجه الخامس عشر أن من تأمل نصوص الكتاب وما ورد في ذلك من الآثار عن الصحابة والتابعين علم بالضرورة علماً يقيناً لا يستريبُ فيه أن لله عز وجل حجاباً وحجبا منفصلة عن العبد يكشفها إذا شاء فيتجلى وإذا شاء لم يكشفها وإذا كان الحجاب هو الجسم المتوسط بين جسمين فلازم الحق حق لا يمكن أن يُدفع ما علم بالاضطرار من دين المرسلين بمثل نفي هذا الكلام الذي قد تبين أن نفيه من فاسد الكلام وأن الحجة لمثبتيه أقوى منها لنافيه في الفطرة والشرعة والنظر والخِصَام(8/128)
الوجه السادس عشر أن الله تعالى قد قال وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى 51] ومعلوم أن هذا التكليم هو مثل تكليمه لموسى كما جاء في الحديث المتقدم أنت موسى الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه وهذا التكليم أرفع درجة من تكليمه بالوحي أو إرسال رسول باتفاق المسلمين كما دل عليه الكتاب والسنة فإن كان الحجاب هو عدم خلق الرؤية كان المعنى أن الله عز وجل كلمه مع عدم رؤيته ومعلوم أن عدم الرؤية قدر مشترك في جميع هذه الأنواع وأن ذلك ليس مما يفضل به موسى وإذا لم(8/129)
يكن التكليم من وراء حجاب لا يفيد إلا هذا المعنى كان ما ثبت لموسى دون ما ثبت لغيره من الرسل وهذا معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام لاسيما إذا قرن بذلك في أن تكليمه هو خلق إدراك المعنى القائم فيه فيكون لموسى من التكليم ما لا يحصيه إلا رب السماء ولهذا يدّعي طوائف من الجهمية أنه يحصل لهم من التكليم مثل ما حصل لموسى ومنهم من يدّعي أنه يحصل لهم أرفع من ذلك الوجه السابع عشر أنه قال أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى 51] أي من خلف حجاب والعدم المحض ليس له خلف لا أمام فعلم أنه حجاب موجود يكون له وراء الوجه الثامن عشر أنه لو صرح بالمعنى الذي ذكروه فقال أو من وراء عدم خلق الرؤية لكان هذا من الكلام الذي يُعلم جنون صاحبه أو هو كلام لا حقيقة له ولا يَحمل كلام الله عز وجل على ذلك إلا زنديق منافق متلاعب بالقرآن والإسلام أو جاهل فيحكم عليه بالجهل بما يخرج منه من الكلام(8/130)
الوجه التاسع عشر أنه عز وجل قال في حق الكفار كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] فخص الحجاب بأنه يومئذٍ فلو كان هو عدم خلق الرؤية لكانوا ما داموا محجوبين الوجه العشرون أنه تعالى خصّهم بذلك دون المؤمنين وجعل ذلك مما يعذبهم به فلو كان هو عدم خلق الرؤية لكان المؤمنون في الدنيا محجوبين معذبين بهذا الحجاب الذي حجب به الكفار في الآخرة فعلم أن ذلك حجاب خاص يحجب الله عز وجل به الكفار حين يتجلى للأبرار الوجه الحادي والعشرون أن الله عز وجل قال في قصة موسى وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف 143] فأخبر سبحانه أنه تجلى للجبل وأنه لما تجلى له جعله دكًّا فتجليه له إما أن يكون مجرد خلق الرؤية فيه كما يقولون إن ذلك هو تجليه لسائر من يراه أو يكون تجليه هو رفع الحجاب حتى ظهر للجبل فإن كان التجلي هو خلق الرؤية كان قد أخبر أن الجبل أطاق رؤيته وأن الجبل رأى الله وإذا كان كذلك لم(8/131)
يجب أن يصير دكًّا إذا ورد عليه ما يعجز عن مقاومته فإذا كان التجلي ليس هو إلا أن جعل رائياً فمعلوم أنه يكون قادراً على ما جُعل فاعلاً له فلا يكون دكًّا ولو كان كذلك لكان العبارة المناسبة أن يقال فلما رأى الجبلُ ربَّه جعله دكًّا فلما دلّ القرآن مع ما ورد به الحديث في تفسير هذه الآية أن التجلي هو ظهوره وأنه مع ذلك قد لا يطيق المتجلي له رؤيته لعجزه وأن التجلي ليس هو خلق الرؤية فيه عُلم أنه قد يتجلى لمن يراه ولمن لا يراه وأن التجلي ليس هو خلق الرؤية فيه عند الاحتجاب فعلم أن هناك حجاباً خارجاً عن الإنسان وأن التجلي يكون برفع كل الحجاب الوجه الثاني والعشرون قوله والحجاب عند من ينكر الرؤية محمول على أنه منع وصول آثار إحسانه إليهم فيقال لو كان الحجاب منع الإحسان لكان من كلمه الله من وراء حجاب كما كلم موسى وهو التكليم الذي فضله الله به على سائر العباد منعاً من الإحسان فيكون الذي ناداه الله وقربه نجيا أو اصطفاه على الناس برسالاته وكلامه ممنوعاً من الإحسان إليه وهذا من أفسد ما يكون في بداهة(8/132)
العقول وهو من أبلغ التحريف وقلب الحقائق والإلحاد في آيات الخالق ومعلوم أن هذا ما قالوه إلا في قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] لم يقولوا في هذه الآية لكن الحجاب مذكور في الآيتين(8/133)
الوجه الثالث والعشرون أن هذا حمل للفظ على ما لا تحتمله اللغة بوجه من الوجوه وهو تبديل اللغة كما أنه تبديل للقرآن وتحريف له الوجه الرابع والعشرون أن ألفاظ الحديث صريحة في الحجاب المانع من الرؤية كقوله صلى الله عليه وسلم فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة وفي رواية فيتجلى لهم ولا يجوز تفسير النظر هنا بالإحسان لقوله فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولأن اقتران كشف الحجاب بالنظر صريح في الرؤية وكذلك قول وما بين قوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن هذا صريح في أنه حجاب مانع من النظر لا من الإحسان الوجه الخامس والعشرون قوله حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه والنور والنار لا تختص بمنع الإحسان وذلك الحجاب(8/134)
لو كشف لم يحرق سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه بل عندهم إذا كشفه حصلت الرحمة والإحسان إلى المحجوبين الذين كانوا محجوبين أي ممنوعين من الإحسان الوجه السادس والعشرون أن إحسان الله عز وجل إلى عباده لا يمنعه شيء أصلاً كما قال تعالى مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر 2] وقال تعالى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس 107] وذلك أنه إن أحسن إلى العبد امتنع أن يكون الإحسان ممنوعاً وإن لم يحسن فليس هناك شيء يكون ممنوعاً فأحد الأمرين لازم إما وجود إحسانه ونعمته فلا مانع له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت وإما عدم وجوده فذلك يكون لأنه لم يشأه لا يكون لوجود مانع الوجه السابع والعشرون أنه عز وجل قال كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ(8/135)
رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) [المطففين 15-16] فجعل الحجب قبل دخول النار وذلك لا يكون إلا في عرصة القيامة أو ما قبل ذلك ومعلوم أن الله عز وجل لم يخلق في عَرصة القيامة إحساناً موجوداً حجب الكفار عنه فإن العرصة ليست محل ثواب ولا عقاب وإذا لم يكن هناك نعيم موجود يصح منعهم عنه عُلم أن الحجب عن نفسه الوجه الثامن والعشرون أن ما ذكره من الخبر الثاني الذي قال إنه مروي في الكتب المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره ثم إنه فسره بذلك التفسير العجيب الذي لم يدل عليه اللفظ لا حقيقة ولا مجازاً هو من جنس ما فعله في كتابه الكبير الذي سماه المطالب العالية وجمع فيه من مباحث الفلاسفة والمتكلمين وذكر فيه كتاباً مفرداً في تفسير المعراج فرواه بسياق لا يعرف في شيء من كتب الحديث وفسره بتفسير الصابئين(8/136)
والمنجمين وهذه الأمور تلقاها من زنادقة الفلاسفة الجهال بالمعقول والمنقول وهي عندهم من أسرار الحقائق كما يدعي ذلك القرامطة ونحوهم من الداخلين في هؤلاء وذلك أن(8/137)
هذا الحديث في أن لله عز وجل سبعين حجاباً من نور(8/138)
وكون الفاعل أكمل من المفعول والأعلى أكمل من الأدنى ليس في ذلك ما يدل عليه لفظ سبعين حجاباً من نور الوجه التاسع والعشرون أن هذه المخلوقات لا تسمى عنده حجاباً فإن الأجسام لا تحجب الله بل هي آيات ودلالات على الرب الوجه الثلاثون أم كشف الحجاب زواله ورفعه فيكون المعنى لو كُشفت هذه المخلوقات أي رفعت وزالت ومعلوم أن رفعه لا يحصل به فائدة عنده فإن الله عز وجل لا يُرى إذا رفعت ولا يزداد العلم به بل تنقص آياته فيكون العلم به بوجودها أكمل وأتم الوجه الحادي والثلاثون قوله كمال الأدنى بالنسبة إلى الأعلى كالعدم أمر لا حقيقة له إذ كون الشيء دون غيره ولو كان بأي مرتبة كان لا يوجب أن يكون مثل المعدوم بل له حظه من الوجود ومعلوم أن الله عز وجا قد كرّم بني آدم بأنواع الكرامات التي تمنعهم عن مشابهة المعدومات الوجه الثاني والثلاثون أن الذي يقال إن الإنسان عاجز عن إدراك ربه والإحاطة به غاية العجز وهذا حق لكن قوله لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره لا يدل(8/139)
على هذا المعنى أصلاً فتفسير هذا بهذا من باب التحكم بل تفسير جهال الرافضة للإمام المبين بأنه علي بن أبي طالب(8/140)
أشبه من هذا لأن عليًّا يسمى إماماً وكذلك تفسيرهم لللؤلؤ والمرجان بالحسن والحسين فيه من المناسبة أكثر من هذا حيث قتل هذا وسم(8/141)
هذا الوجه الثالث والثلاثون أن كشف هذه الحجب إما أن يعني به وجودها فهي موجودة ولم يحصل هذا أو يراد به عدمها فإذا عدمت لم تكن معرفة الله بذاتها إلا دون معرفة الله عز وجَل مع وجودها وكذلك رؤيته على أصله إذ ليس للرؤية تعلق بوجود هذه ولا عدمها عنده وإذا كان كذلك علم أن تفسير قوله لو كشف هذه الحجب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه لا يصح على التقديرين الوجه الرابع والثلاثون أنه قال لأحرقت كل شيء أدركه بصره لم يخص بذلك الإنسان العاجز عن مطالعة تلك الكمالات الوجه الخامس والثلاثون أن قوله في الحديث الصحيح حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه قد بينوا السبحات في لغة العرب قال(8/142)
الخلال في كتاب السنة سألت ثعلباً عنها وقد رواه ابن بطة في كتاب(8/143)
الإبانة عن أبي بكر عنه قال سألت ثعلباً عن قول(8/144)
النبي صلى الله عليه وسلم لأحرقت سبحات وجهه فقال السُبحات يعني من ابن آدم الموضع الذي يسجد عليه وهذا الذي قال ثعلب معروف يقول أحدهم أما ترى إلى سبحات وجهه يعني إلى نور هذا الموضع وكأنه والله أعلم سمى ذلك سبحات لأن الصلاة تسمى تسبيحاً ويسمون صلاة التطوع سُبْحة لغة مشهورة لأن العبد يجمع فيه بين كمال القول والفعل وهو حال السجود الذي يكون العبد فيه أقرب ما يكون من ربه إذ أفضل أقوال الصلاة القراءة لكن نهي عنها في الركوع والسجود وأفضل أفعالها السجود وذكره التسبيح والسُّبْحة ما يسبح به كما يسمى النظام الذي فيه خرز يسبح به سبحة وسبحات وجهه ما يُسبح به وقال القاضي أبو يعلى فأما قوله كل شيء أدركه بصره من(8/145)
خلقه معناه أن نور وجهه يحرق ما يدركه من خلقه وذكر قول ثعلب وهذا يطابق معنى الحديث حيث أخبر أن حجابه النار أو النور وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه الذي حجابها النور أو النار ما أدركه بصره من خلقه قال نور سبحاته تحرق ما أدركه بصره من خلقه وقد تقدم أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود كان إذا روى هذا الحديث عن أبي موسى يقرأ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) [النمل 8] الوجه السادس والثلاثون أنه قد تقدم من حديث عدي بن حاتم قوله مامنكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له وهذا يقتضي أنه يمكن أن يكون له حجاب يحجبه كما يمكن أن يكون له ترجمان يترجم له وقد صرح القرآن بأن التكليم يكون من وراء حجاب وعلى رأي المؤسس وذويه لا يمكن أن يكون بينه وبين عباده حاجب ولا ترجمان إذ(8/146)
تكليمه هو خلقٌ لإدراك المعنى القائم بنفسه وهذا لا يتصور أن يكون فيه ترجمان ورؤيته هي خلق الرؤية في العين وذلك لا يتصور أن يكون له حجاب وأيضا فنفيه للحاجب والترجمان في تكليمه ذلك اليوم دليل على أن المر في الدنيا ليس كذلك وعند المؤسس لا فرق بين الدنيا والآخرة بل إذا فهم أحدهما المعنى القائم بذاته يُعَدُّ كلمه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان الوجه السابع والثلاثون أن قول القائل إن الله لا يُحجب أو لا يحتجب لفظ مجمل كقوله إن الله لا يغيب فإن هذا يراد به أن لا يحتجب أن يشهد خلقه ويراهم كما أنه لا يغيب عن أن يشهدهم ويراهم وهذا حق فإن الله لا يحجبه شيء عن علمه وبصره ولا يتوراى منه شيء الوجه الثامن والثلاثون ما احتج به الأشعري في مسألة العرش حيث قال ومن دعاء المسلمين جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون(8/147)
يا ساكن العرش ومن حلفهم لا والذي احتجب بالعرش وسبع سموات قال قال عز وجل وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم ممن ليس من جنس البشر لكان أبعد من الشبهة وأدخل في الشك على من سمع الآية أن يقول ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيرفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً وترك(8/148)
أجناساً لم يعمهم بالآية فيدل ما ذكرناه على أنه خصَّ البشر دون غيرهم فهذا الأشعري أثبت بذلك أن الحجاب قد يكون خاصًّا لبعض المخلوقات دون بعض وذلك يدل على ثبوت الحجاب المنفصل عن المخلوقات إذ الحجاب الذي هو عدم خلق الرؤية لا يختص بنوع دون نوع واستدل بذلك على أن الله بائن من خلقه فوق العرش إذ لا يمكن أن يكون بعض المخلوقين محجوبين عنه إلا على هذا القول دون من ينكر ذلك ويقول إنه بذاته في كل مكان أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن نسبة جميع الخلق إليه واحدة في ثبوت هذا الحجاب ونفيه وقوله لو كشفها عن وجهه معناه لو كشف رحمته عن النار لأحرقت سُبحات وجهه أي أحرقت محاسنَ(8/149)
وجه المحجوب عنه بالنار فالهاء عائدة على المحجوب لا إلى الله عز وجل ومثل هذا يقال في الخبر الذي رواه أُبيّ لأحرقت سبحات وجه العبد كل ما أدركه بصره فتكون السبحات محرقة لما أدركه العبد فيقال هذا من أبطل الباطل من وجوه أحدها أن هذا تحريف للفظ الحديث وهو أبلغ من تحريف معناه فإن لفظ الحديث حجابه النار أو النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره وهذا التحريف نظير قراءة من قرأ من الجهمية وكلم الله موسى تكليما وجعل موسى هو المُكلّم الذي كلم الله عز وجل الوجه الثاني أنه قال حجابه النور أو النار لو كشفها لم يقل لو كشف عنها وكشف الشيء إزالته ورفعه والكشف عنه إظهاره كما قال في الحديث الآخر فيكشف الحجاب فينظرون إليه ولو أراد ذلك المعنى بها لقال لكشف عنها الوجه الثالث أنه قال حجابه نور والضمير عائد إلى الله(8/150)
لا إلى العبد لأن العبد لم يجر له ذكر فإنه قال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعملُ النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وعلى ما ذكره لا يكون الضمير إلا إلى العبد كما صرحوا بذلك الوجه الرابع أنه لا يصح عود الضمير إلى العبد عندهم لأنه لا يحجبه لا نور ولا نار أصلاً وإنما الحجاب عدم خلق الرؤية أو ما يمنع الإحسان الوجه الخامس أنه لو فرض أن هناك نور أو نار أو ما مثل بذلك وأنه يحرق العبد لأحرقه كله لم يكن الإحراق مختصًّا بسبحات وجهه الوجه السادس انه قال لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره من خلقه فلو كانت السبحات مُحَرقة وكانت منصوبة وكانت النار هي المُحرِقةُ لكان قوله بعد ذلك كل ما أدركه كلامٌ باطلٌ ولو كان المُحرِق كل ما أدركه بصره لم تكن النار محرقة فيمتنع أن يكون الفاعل النار وكل ما أدركه بصره وجعل المُحْرقِ أحدَهما يمنع أن يكون الآخر فاعلاً لفظاً ومعنى(8/151)
وعلى قول الرازي جعل المُحرِق هو كل ما أدركه بصره من خلقه وعلى قول ابن فورك جعل المُحرِق هو النار والحديث نصٌّ في إبطال الاثنين جميعاً الوجه السابع أن كل ما أدركه بصر العبد يمتنع أن يحرق سبحات وجهه فإنه لا يزال يدرك أشياء وهي لا تحرقه ولو أريد احتراق قلبه وفناؤه عن المشاهدة لم يكن المذكور هو الوجه بل قال لأحرق قلبه ونحو ذلك قالوا لا يجوز أن يكون الله محتجباً ولا محجوباً بالحجاب لأن ما ستر بالحجاب فالحجاب أكبر منه ويكون متناهياً محاذياً جائزاً عليه المماسة فقال القاضي اعلم أنه ممتنع إطلاق حجاب هو نور من دون الله على وجه الإحاطة والحد والمحاذاة كما أجزنا رؤيته لا على وجه الإحاطة والجهة(8/152)
والمقابلة وإن كنا لا نجد في الشاهد ذلك وكما قال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] فأثبت الوقوف عليه قال وما ذكروه غلطٌ لأنا لما بينا أنا نثبت حجاباً لا يفضي إلى التناهي والمحاذاة والمماسة كما أثبتنا رؤيته لا على وجه التناهي والمحاذاة وهذا الذي قاله القاضي من نفي التناهي والمماسة والمحاذاة فيه نزاع مشهور وقد رجع هو إلى إثبات الحد كما تقدم حكاية قوله والتحقيق أن قولهم ما ستره الحجاب فالحجاب أكبرُ منه ليس بسديد سواء كان الحجاب يحجب الشيء عن أن يراه غيره أو يحجب أن يرى غيره والحجاب في حق الله(8/153)
لا يصح إلا بالمعنى الثاني فإن الله عز وجل لا يحجبه شيء عن أن يرى عباده ويشهدهم وإنما يحجب العباد عن أن يروه وأن يحرق سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه والعبد يصح في حقه الحجاب بالمعنيين ومع هذا فلا يشترط أن يكون الحجاب أكبر فإن الشيء الصغير إذا وضع قريباً من عينه حجبه أن يرى شيئاً من الأشياء والشيء الكبير إذا كان بعيداً من الرائي حجبه ما هو أصغر منه بكثير كما يحجب الشمس سحابةٌ وإن كانت الشمس بقدرها مرات لا يعلمها إلا الله تعالى والإنسان يكون محجوباً عن رؤية السماء بسقف بيته بحيث إذا زال عاين السماء وهي بقدر السقف أضعافاً مضاعفة وذلك أن الحجاب كلما قرب إلى الرائي كان أصغر من البعيد عنه لأنه على قدره يكون لا على قدر ما يحجب العبد عن رؤيته فحجب الرب الذي يحجب العباد عن مشاهدته أو أن يحرق سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه من أين يجب أن يكون أكبر منه قالوا لا يصح أن يكون المحدث ولا القديم محجوباً بشيء من سواتر الأجسام المغطية الكثيفة المحيطة وإنما(8/154)
يقال لهذه الأجسام الساترة أنها حجاب عن رؤية المحدث لما رآه من أجل أن المنع من الرؤية يحدث عنده وعلى هذا ما يقوله من أن الباري لا نراه في الدنيا لأنَّا في حجاب على طريق المجاز وإنما المانع من رؤيته ما يحدثه من المنع وإنما كان كذلك لأن المانع من معرفة الشيء أو رؤيته ومعاينة ما يمنع من وجود معرفته ومعاينته وما يمنع من ذلك فهو الذي يضاد وجوده وذلك لا يصح إلا في العرضين المتضادين المتعاقبين ولا يصح أن يكون الجسم منعاً ولا مانعاً من عرض أصلا لأنه لا يصح أن يكون بين العرض والجسم تنافٍ وقد أجاب القاضي عن هذا بأن هذا لا يمنع من إطلاق اسم الحجاب على القديم سبحانه كما لا يمنع من إطلاقه على غيره وإن كان هذا المعنى الذي ذكره موجوداً فيه والتحقيق أن هذا الكلام من أغاليط هؤلاء المتكلمين(8/155)
وذلك أن تسمية الأجسام الساترة حجباً أمرٌ معلومٌ بالاضطرار من اللغة مُتفق عليه بين أهلها ومنه تسمية حاجب الأمير حاجباً وحاجب العين حاجباً فمنع كون الجسم حاجباً ومحجوباً جحد لما يُعلم بالضرورة من اللغة وأيضا فلفظ الحَجْب والسِّتْر متقاربان فقوله إنما يقال لهذه الأجسام الساترة إنها حجاب لِكَذا إثبات لكونها ساترة فكيف يثبت أنها ساترة ويمنع أنها حاجبة وأيضا فالعلم أن الأجسام تحجب الإنسان أن يرى ما وراءها هو من العلوم الحسية فإن الحجاب الحائل بين العبد وبين المرئي يمنع رؤيته وأما قوله المانع من رؤية الشيء ما يحدث من المنع خلاف ما تقدم من أن الحجاب عنده عَدمُ خَلْق الرؤية وهذا أمر عدمي لا يحتاج فيه إلى وجود ضد وجودي منع الرؤية وهذا ظاهر فإن السمع والبصر أمران وجوديان عنده ثم يقال وإذا قام بالعين مانع من الرؤية فذلك لا يمنع أن يكون الجسم مانعاً وأن يكون ذلك الجسم المانع الحاجب سبباً لهذا العرض المانع بل ذلك لا يمنع أن يكون باسم(8/156)
الحجب والمنع أحق لأنه حدث عنه والحجب المانع ليس هذا المنع والحجب وقوله إنما المانع من رؤيته ما يحدثه من المنع ليس هذا الحصر صحيحاً بل الأجسام الساترة مانعة وإن قدّر أن تكون العين قد حصل فيها مانع كالعمى ألا ترى أن الجفن نفسه جسمٌ فإذا أطبقه العبد منع العين أن ترى وإن قام بالعين مانع فالمانع ليس سبباً للمنع وقوله المانع من الرؤية ما يمنع وجودها وما يمنع ذلك فهو الذي يضاد وجودها فيقال له لفظ التضاد في اللغة أعم من لفظ التضاد في اصطلاح المتكلمين وبهذه اللغة جاء القرآن قال الله تعالى وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) [مريم 81-82] وقال النبي صلى الله عليه وسلم من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضادَّ الله في أمره(8/157)
وأما تخصيص الضدين بأنهما العرضان اللذان لا يجتمعان في محل واحد فهذا عرف اصطلاحي للمتكلمين وإذا كان التضاد في اللغة أعم من ذلك بحيث قد يكون الجسم يضاد الجسم ويضاد العرض لم يجز حمل كلام الله ورسوله(8/158)
على اصطلاحهم الحادث هذا لو كان الشارع نطق بلفظ الضد وإنما جاء بلفظ الحجاب والحجاب يتضمن المعنى لكان هذا الذي فعلوه مغلطة نشأت من جهة اشتراك اللفظ وذلك أنهم قالوا الحجاب مانع والمانع من الشيء ما يضاده وهذا كله صحيح باللغة العربية وهو مسلَّم على هذه اللغة ثم قالوا والتضاد لا يصح إلا في العرضين المتعاقبين ولا يصح أن يكون الجسم منعاً ولا مانعاً من عرضٍ أصلاً لأنه لا يصح أن يكون بين العرض والجسم تناف وتضاد وهذه مغلطة فإنه يقال التضاد والمنع والتنافي الذي(8/159)
لا يصح إلا بين عرضين لا يكون بين جسم وعرض وهو المنع من اجتماعهما في محل واحد أو هو المنع من اجتماعهما في الوجود وإن كان في محلين فإن قال الأول فذاك التضاد والمنع والتنافي الخاص الاصطلاحي ولم يدع أحد أن لفظ الحجاب في اللغة موضوع بإزاء هذا المعنى الخاص فإنه من المعلوم أن الجسم يقبل الأعراض لا يمتنع لعموم كونه جسماً أن تقوم به الأعراض وإن كان قد يمتنع لخصوص ذاته من قيام بعض الأعراض به وإن قال بل مطلق المنع والتضاد ولو في محلين لا يصح أن يكون بين جسم وعرض قيل هذا غير مسلَّم ولا هو صحيح فإن منع كثير من الأجسام لكثير من الأعراض كالشمّ والذوق واللمس أمرٌ محسوس غاية ما يقال إن مطلق الجسم لا ينافي مطلق العرض فإنه يمكن قيامه به لكن فَرْق بين عموم النفي ونفي العموم ففرق بين نفي الإمكان والصحة من جهة خاصة وبين نفي ذلك مطلقاً(8/160)
فقول القائل لا يصح أن يكون بين العرض والجسم تنافٍ وتضاد إن أراد به أن لا يصح فهذا خلاف للمحسوس بل أظهر ما للإنسان لباسه الذي يقيه الحر والبرد وهما عرضان قال تعالى وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النحل 81] وقاية الحر منعه ودفعه وإن أراد أن الجسم من جهة كونه جسماً لا يمنع وجود العرض فهذا حق لكن نفي المنع من جهة كونه جسماً لا يقتضي انتفاء المنع من جهة كونه جسماً لاسيما وقد بينَّا أن الأجسام ليست متماثلة(8/161)
وأن مسمى الجسم إنما هو القائم بنفسه أو المقدر أو صفة المقدر فيكون المعنى أن الأمور القائمة بأنفسها لا تمنع من جهة المقدار قيام الصفات بها إذ لا منافاة بين المقدار والصفة وهذا حق لكن قد تكون المنافاة من جهة خصوص ذات القدر كما أن العرض من حيث هو عرض لا يمنع مجامعة العرض كاجتماع اللون والطعم والرائحة في محل واحد وإنما تقع المنافاة في بعض الأعراض كاللونين والطعمين فلا فرق في الحقيقة بين تنافي الأجسام وتنافي الجسم والعرض إذ المنافاة والمضادة تختص ببعض هذه الأقسام الثلاثة دون بعض بحسب خصوص ذات المتضادين وفي الجملة فلفظ المانع والتنافي والتضاد ونحو ذلك لها في اللغة التي يتخاطب بها الناس معنى أعم مما لها في اصطلاح هؤلاء وأيضا فإنهم كثيراً ما يَغْلَطون في أحكام الأجسام(8/162)
والأعراض كاعتقاد بعضهم تماثلها أو امتناع بقاء الأعراض وغير ذلك مما ليس هذا مَوضعَه فإذا سمع هذه الكلمات من لا يكون عارفاً حقيقة معانيها يحسب أنها من القضايا المقبولات بمنزلة الأخبار الصحيحة والأحكام المجمع عليها بين المسلمين ولا يعلم أن النزاع بين الناس فيها عظيم وغلط هؤلاء فيها جسيم وأنه عند الاستفصال ينكشف الحال(8/163)
فصل قال الرازي الفصل الثامن في القرب قال سبحانه وتعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وروى الأستاذ ابن فورك رحمه الله في كتابه(8/164)
المتشابهات عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يدنو المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع الجبار كنفه عليه فيقر بذنوبه فيقول أعرف ثلاث مرات فيقول تعالى إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ [هود 18] قال واعلم أن المراد من قربه ودنوه قرب رحمته(8/165)
ودنوها من العبد وأما قوله فيضع الجبار كنفه عليه فهو أيضا مستفاد من قرب الرحمة يقال أنا في كنف فلان أي في إنعامه وأما ما رواه بعضهم فيضع الجبار كتفه فاتفقوا على أنه تصحيف والرواة ضبطوها بالنون ثم إن صحت الرواية فهي محمولة على التقريب بالرحمة والغفران والله أعلم والكلام على هذا أن يقال أما الخبر الأول فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما الثاني فهو أيضاً من أشهر الأحاديث الصحاح أخرجه في الصحيحين عن صفوان بن محرز المازني قال بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل فقال يا أبا(8/166)
عبد الرحمن أو يا ابن عمر كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا فيقول أعرف ربي أعرف ربي مرتين فيقول سترتها في الدنيا وأغفرها لك اليوم ثم يعطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ [هود 18] وفي لفظ إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا وتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره ورأى في نفسه أنه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) [هود 18] ولفظ الحديث بالنون وأما ما ذكره في رواية بعضهم كتفه فهذا تصحيف باتفاق أهل العلم كما ذكره ومثل هذا لا يحتاج إلى تفسير فأما إذا علم أن اللفظ كذب(8/167)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم من حدّث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين(8/168)
ولا يجوز تفسير ما علم أنه كذب بتقدير ثبوته ولاسيما في مثل هذا الباب فإنه جعل للكذب معنىً صحيحاً وهذا التقدير منتف فيكون المعلق عليه منتفياً وهو إثبات معنى صحيح له وقد بينا فيما تقدم أن التأويل بيان مراد المتكلم ليس هو بيان ما يحتمله اللفظ في اللغة وإذا كان كذلك فمن الممتنع أن يقال أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ كذا مع العلم بأنه لم يقل ذلك اللفظ فإن إثبات إرادته مع العلم بانتفائها جمع بين النقيضين وسواء احتمل ذلك في اللغة أو لم يحتمله فإن هذا لا يوجب إرادة النبي صلى الله عليه وسلم للمعنى بلفظ قد علمنا أنه لم يقله ولكن العلم بالموضوع المختلق وبالصحيح الثابت هو من بيان أهل العلم بالحديث والسنة وأما هذا المؤسس وأمثاله فلا يميزون بين هذين حتى قد يكذّبوا بالأحاديث التي يعلم أهلُ العلم أنها صدق ويصدّقوا أو يجوزوا صدق الأحاديث التي يُعلم أنها كذب إذا عرف هذا فهذان الحديثان مع الآية تضمنا شيئين(8/169)
أحدهما تقرب العبد إلى ربه ودنوه إليه والثاني تقرب الرب إلى عبده وتقرب الرب إلى عبده نوعان أحدهما هو من لوازم تقرب العبد إليه فإنه من المعلوم أن الشيئين إذا تقرب أحدهما إلى الآخر كان من لوازم هذا قرب الآخر إليه إذ القرب من الأمور الإضافية من الجانبين فيمتنع أن يقرب أحدهما من الآخر إلا والآخر قد قرب إليه لكن لا يستلزم هذا أن يكون المُتقَرب إليه قد وجد منه فعل بنفسه يقرب منه بل يكون قربه هو القرب الذي حصل بفعل المقترب كالشيء المتحرك المتقرب إلى الشيء الساكن فإنه كلما تقرب إليه قرب الساكن إليه من غير حركة منه فهذا النوع من قرب الرب إلى عبده هو تبع لقرب العبد إلى الله فمن أثبت قرب ذات الله إلى العبد بهذا الاعتبار وإلا فلا وأما النوع الثاني من تقرب الرب إلى العبد فهو تقربه بفعلٍ يقوم بنفسه كما ورد لفظ المجيء والإتيان والنزول وغير ذلك فالكلام على هذا التقرب يؤخر إلى حيث يذكر ذلك وتكلم هنا في القرب الأول فكل من قال إن الله فوق العرش قال إنه يمكن التقرب إليه وأما من قال إنه ليس فوق(8/170)
العرش قال إنه في كل مكان بذاته أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه فعلى قولهم يمتنع التقرب إليه وهؤلاء منهم من يقول إنه جسم ومنهم من يقول ليس بجسم كما تقدم ذكر ذلك عنهم وقد اعترف بالتقرب إليه نفسه من أقرّ بأنه فوق السموات ممن قال إنه ليس بجسم وممن قال إنه جسم وممن لم يقل واحداً من القولين لا أثبَتَ الجسم ولا نفاه فتبين أن إثبات التقرب إليه ونفيه ليس من لوازم القول بالجسم بل المثبت له والنافي منهم من يقول يتقرب إليه نفسه ومنهم من يقول لا يُتقرب إليه نفسه ومن يقول لا يتقرب إليه نفسه والتقرب إليه اسم جنس وتحته أنواع من أثبت نوعاً من تلك الأنواع فقد أثبت التقرب إليه بشيء وكذلك من أثبت أنه يصعد إليه نفسه بشيء أو يرتفع إليه بشيء وكذلك من ذهب إلى أنه تذهب إليه نفسه بشيء أو تأتيه نفسه بشيء أو تقف عليه نفسه ونحو ذلك فقد أثبت أنه يتقرب إليه بشيء وأما من(8/171)
أثبت أنه هو يجيء ويأتي ويتقرب فإنه يثبت التقرب إليه بطريق الأولى وكل من استدل على أنه فوق العرش بالنصوص المتضمنة لذكر العلو إليه مثل قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] وقوله إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقوله تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وغير ذلك فإنه يقول إنه يتقرب إليه وكذلك من أثبت أنه يقف عليه شيء أو يجيئه شيء أو أن عبده يلقاه أو يكون بينه وبين خلقه حجاب ونحو ذلك فإنه يقول إنه يتقرب إليه وفي القرآن مما فيه وصف ذهاب بعض الأشياء إليه نفسه أو صعودها إليه أو نزولها من عنده وما يشبه ذلك نحو خمسمائة آية أو أكثر وكل ذلك يدل على جواز التقرب إليه قال تعالى وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة 281] وقال تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ(8/172)
[البقرة 223] وقد تقدم كثير من الآيات التي فيها ذكر لقاء العبد ربه وكل ذلك يستلزم التقرب إليه ومن نفى أحدهما نفى الآخر ومن أثبت أحدهما أثبت الآخر وهذا يتأولهما النافي على لقاء مخلوق التقرب من مخلوق وقد قال تعالى الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) [البقرة 156] وقال تعالى فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة 54] وقال تعالى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ [الأنعام 164] وقال تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) [آل عمران 28] وقال تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) [المائدة 96] وقال تعالى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) [الأنعام 164] وقال تعالى إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزمر 7] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) [الأنعام 60] وقال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 94] وقال(8/173)
كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) [الأنعام 108] وقال تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 61-62] وقال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام 30] وقال تعالى وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 51] وقال تعالى عن السحرة قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) [الأعراف 125] وقال تعالى وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة 118] وقال شعيب عليه السلام وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) [هود 88] وقال تعالى وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 123] وقال تعالى وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) [يونس 46] وقال تعالى إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) [يونس 23] وقال تعالى قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) [يوسف 108] وقال تعالى وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف 6] وقال تعالى وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ(8/174)
مُسْتَقِيمٍ (87) [الأنعام 87] وقال تعالى وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) [الرعد 30] وقال تعالى وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) [الكهف 48] وقال تعالى وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت 50] وقال تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) [مريم 93 إلى 95] وقال تعالى وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) [مريم 58] وقال تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) [مريم 85] وقال وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) [المؤمنون 79] وقال تعالى وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) [المؤمنون 60] وقال تعالى وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور 39] وقال تعالى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) [النور 31] وقال تعالى فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) [الفرقان 71] وقال تعالى قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) [الفرقان 57](8/175)
وقال تعالى عن السحرة قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) [الشعراء 50] وقال تعالى وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) [النمل 87] وقال تعالى وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) [القصص 38-39] وقال تعالى وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) إلى قوله كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) [القصص 87-88] وقال تعالى فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [لقمان 15] وقال تعالى فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) [العنكبوت 17] وقال تعالى مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) [الروم 31] وقال تعالى دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم 33] وقال تعالى وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [لقمان 15] وقال تعالى وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ(8/176)
الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [لقمان 22-23] وقال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ [سبأ 31] وقال المؤمن وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) [يس 22] وقال تعالى وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) [يس 32] وقال تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) [يس 51] وقال تعالى عن إبراهيم إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) [الصافات 84] وقال(8/177)
تعالى وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) [الصافات 99] وقال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت 33] وقال تعالى فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) [فصلت 6] وقال تعالى وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) [الزخرف 36] إلى قوله حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) [الزخرف 38] وقال تعالى مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) [الجاثية 15] وقال تعالى وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) [الأحقاف 15] وقال تعالى لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق 28] وقال تعالى مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق 33] وقال تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات 50] وقال تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) [النجم 42] وقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [النازعات 40] وقال تعالى رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) [الممتحنة 4] وقال المسيح عليه السلام مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [الصف 14] وقال تعالى قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ(8/178)
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) [الجمعة 8] وقال تعالى تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم 8] وقال تعالى تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) [المزمل 8] وقال تعالى فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) [المزمل 19] وقال تعالى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) [النازعات 18-19] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) [الانشقاق 6] وقال تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) [الغاشية 25-26] وقال تعالى يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 27-30] ومثل هذا في كتاب الله كثير لا يستقصى إلا بكلفة شديدة وأما لفظ القرب إلى الله تعالى فقد قال تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) [النساء 172] وقال تعالى فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) [الواقعة 88-89] وقال تعالى كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) [المطففين 18-21] وقال تعالى(8/179)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) [المائدة 35] وقال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء 57] وقال تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] وقال تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3] وقال تعالى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) [ص 25] في قصة داود وسليمان عليهما السلام وقال هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران163] وأما في الأحاديث النبوية فكثير وكلام السلف والأئمة وجميع المسلمين من ذكر القرب إلى الله تعالى وما يقرّب إلى الله ونحو ذلك هذا لا يحصيه إلا الله تعالى إذا عرف هذا فقوله في هذا الحديث يدنو المؤمن من ربه أو أن الله يدني المؤمن أو يؤتي بالمؤمن يوم القيامة فيدنيه الله منه ليس فيه إلا تقريبه وإدناؤه إلى الله تعالى وهذا له نظائر لا يحصيها إلا الله وقد تقدم ذكر بعضها وبعضها يحُصّل العلم الضروري بدلالة النصوص على الدنو إلى الله –تعالى والقرب إليه والنصوص الدالة على ذلك أضعاف(8/180)
النصوص الدالة على الصعود إلى الله تعالى فإن الصعود إلى الله تعالى نوع من القرب وكما أن دلالات النصوص على ذلك من أعظم المتواترات فالعلم بها أيضاً مستقرٌ في فطرِ المسلمين عامتهم وخاصتهم كما استقر في فطرهم أن الله فوق كلهم مقرون بأن العبد قد يتقرب إلى الله وأن العباد منهم المقرب وهو الذي يقربه الله عز وجل إليه ومنهم الملعون الذي يبعده الله عز وجل عنه وكلهم يسمون الطاعات قربات ويقولون إنا نتقرب بها إلى الله وليس فيهم من ينكر بفطرته التقرب إلى الله إلا من غُيرت فطرته بنوع من التجهم والتعطيل كما أنه ليس منهم من ينكر رفع يديه إلى الله تعالى إلا من غيرت فطرته بنوع من التجهم والتعطيل وكل واحد من هذين الأصلين يستلزم الآخر فإنه إذا كان فوق العرش أمكن القرب وكان علوه دليلاً على إمكان القرب منه وإذا ثبت أنه يمكن القرب منه ثبت أنه حيث يمكن القرب منه(8/181)
ولهذا يحتجون بكل من الأصلين فإن أبا محمد عبد الله بن كلاب وأصحابه وأبا الحسن الأشعري وأئمة أصحابه لا ينازعون في أن الله تعالى فوق العرش وفي أنه يمكن التقرب إليه نفسه وهم يستدلون بأحدهما على الآخر وإن قالوا مع ذلك إنه ليس بجسم وإن كان بينهم وبين غيرهم نزاع في أن قولهم متناقض أو غير متناقض ولهذا كان كثير من متأخري أصحابه ينكرون أنه فوق العرش ويوافقون المعتزلة في نفي ذلك أن ثبوته يستلزم التجسيم قال أبو الحسن الأشعري في مسألة العرش ومما يؤكد لكم أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية من قوله ينزل ربنا كل ليلة وقد تقدم ذكر(8/182)
لفظه إلى أن قال وقد قال سبحانه وتعالى تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال سبحانه يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل 50] وقال سبحانه وتعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [فصلت 11] وقال تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) [الفرقان 59] وقال تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة 4] قال وكل هذا يدل على أنه في السماء مستو على عرشه والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه جل وعلا منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه وقال سبحانه وتعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] وقال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وقال سبحانه ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ(8/183)
الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) إلى قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 8-18] إلى أن قال وقال سبحانه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقال سبحانه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء 157] وقال سبحانه وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] قال وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى صلى الله عليه وسلم إلى السماء وهذا كله تصريح بأن الرفع والصعود إلى الله نفسه وقال أيضاً وقال الله تعالى ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ(8/184)
الْحَقِّ [الأنعام 162] وقال وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال تعالى وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48] قال وكل هذا يدل على أنه ليس في خلقِِهِ ولا خَلْقُهُ فيه وأنه سبحانه مستو على عرشه جل وعز وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيراً جلَّ عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل ويريدون بذلك(8/185)
زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل قال وروت العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي رب العالمين حتى يسأله عن ثلاث وروت العلماء أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله قالت في السماء وأومأت بيدها إلى فوق فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك أعتقها فإنها مؤمنة قال وهذا يدل على أن(8/186)
الله على عرشه فوق السماء وقد أثبت أبو الحسن الأشعري ما هو أبلغ من ذلك من قرب الله تعالى إلى خلقه وحكاه عن أهل السنة والجماعة فقال في كتاب المقالات في حكاية قول جملة أصحاب(8/187)
الحديث وأهل السنة قال جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة وذكر ما نقلناه عنه قبل هذا وفيه ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال(8/188)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] ثم قال وبكل ما ذكرناه من قولهم نقول قال في الإبانة وجملة قولنا أنَّا نقر بالله تبارك وتعالى وذكر نحواً مما ذكره في المقالات إلى أن قال ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف يشاء كما قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وكما قال ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) [النجم 8-9] وله كلام غير هذا وهو صريح في أن قربه إلى خلقه عنده من الصفات الفعلية حيث قال كيف يشاء والقرب بالعلم والقدرة لا يجوز تعليقه بالمشيئة لأن علمه وقدرته من لوازم ذاته فهذا من اتفاق عامة الصفاتية(8/189)
على إثبات قرب الخلق إلى الله عز وجل وقربهم إليهم وهذا الذي قاله الأشعري وحكاه عن أهل السنة تلقاه عن زكريا بن يحيى الساجي وغيره من أئمة البصريين وهذا اللفظ الذي ذكره في القرب محفوظ عن حماد بن زيد إمام أهل السنة في عصر مالك(8/190)
والثوري والأوزاعي قال الخلال في كتاب السنة أنا جعفر بن محمد الفريابي حدثنا أحمد بن محمد المقري حدثنا سليمان بن(8/191)
حرب قال سأل بشر بن السرى حماد بن زيد فقال يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء ينزل الله إلى السماء يتجول من مكان إلى مكان فسكت حماد ثم قال هو في مكان يقرب من خلقه كيف يشاء وهذا يذكر في موضعه وأما حديث إدنائه إليه ووضع كنفه عليه فهو أظهر من هذا ولم ينازع أحد من الصفاتية المتقدمين أصلاً كما لم ينازعوا(8/192)
في أن الله تعالى فوق العرش وقد نص الأئمة على إقراره قال الخلال في كتاب السنة باب يضع كنفه على عبده تبارك وتعالى أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم قال قلت لأبي عبد الله ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم إن الله يدني العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه قال هكذا يقول يدنيه ويضع كنفه عليه كما قال ويقول له أتعرف ذنب كذا قال الخلال أنبأنا إبراهيم الحربي قال قوله فيضع عليه(8/193)
كنفه يقول ناحيته قال إبراهيم أخبرني أبو نصر عن الأصمعي يقال أنا في كنف بني فلان أي في ناحيتهم وأنا في ظلك أي قربك قال إبراهيم وأنبأنا عمرو عن أبيه قال كنف جانب وأنشدنا وأرحب له كنفا قال(8/194)
وأنشدني أبو عبد الله النحوي بأكناف الحجاز هوى دفين يؤرقني إذا هدت العيون والكلام على ما ذكره من التأويل فمن وجوه أحدها أنه قال واعلم أن المراد من قربه ودنوه قرب رحمته ودنوها من العبد فيقال له هذا التأويل لا يصح في قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] ومعلوم أن هذا يتناول المؤمن والكافر لا يقرب من رحمته وإنما قد يتأول هذا على العلم كما قد يذكر في موضعه الثاني أن هذا التأويل إنما يجيء في قرب الرب من العبد كقوله تعالى من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً فأما تقرب العبد فيقال فيه قرب العبد من الرحمة لا يقال قرب رحمته ودنوها من العبد ولكن خلط أحدهما بالآخر وهذا لا يستقيم(8/195)
الثالث يقال قوله من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً إما أن يراد بكل واحد من القربين قرب رحمته ودنوها من العبد أو يراد بأحدهما غير ذلك والأول ممتنع لأن أحد التقربين لو كان هو الآخر لكان جزاء العمل هو العمل وهذا باطل فلابد أن يكون أحدهما غير المعنى الذي ذكره ولأنه قال من تقرب إليَّ شبرا تقربت منه ذراعاً فجعل الثاني ضعف الأول فيمتنع أن يكون إياه الرابع أن قرب الرحمة ودنوها من العبد ليس من فعله ومقدوره وإنما هو من فعل الله فلا يصح أن يفسر به تقرب العبد بل الذي يفسر به القرب إنما يفسر به قرب الله تعالى الخامس أنه قال في أول هذا القسم في أدلة المتأولين الخامس قوله وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] فإن هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية فقد فسر قرب العبد بطاعته وعبوديته فعلم أن تفسيره بخلاف ذلك متناقض(8/196)
السادس أنه قال يدنو المؤمن من ربه تعالى يوم القيامة فيضع عليه كنفه وهو لم يذكر إلا قوله اعلم أن المراد من قربه ودنوه قرب رحمته ودنوها وهذا ليس بتفسير لهذا الحديث لأنه جعل القربين شيئاً واحداً وهذا تخليط كما تقدم لكن هو لم يستوف التأويل المعروف عن الجهمية قالوا نحمل على أنه يقربه من رحمته وإثابته وتعطفه ولطفه وهذا سائغ في اللغة والمراد به المنزلة وعلو الدرجة فهذا التأويل الذي ذكروه وإن كان باطلاً لكنه هو الذي يمكن المتأول أن يقوله في هذا الحديث بخلاف ما ذكره ونحن نبين بطلانه فنقول الوجه السابع أن ما يدني إليه العبد من الرحمة والإيمان وغير ذلك إما أن تكون أعيانا قائمة بأنفسها أو صفات قائمة بغيرها فإن كانت صفات فمعلوم أن القرب إلى الصفة لا يكون إلا بالقرب إلى الموصوف نفسه فلا يمكن أن يقرب العبد إلى ما يقوم بالله من رحمة وإيمان إلا إذا قرب من نفسه فأما قربه من صفته القائمة به دون قربه من نفسه فظاهر البطلان والفساد ولهذا لم يقله أحد من العباد بل الذي يحيل القرب إلى نفسه(8/197)
هو القرب إلى صفاته ابتداء حاله إن كان يثبت له صفة وإن أراد بما يتقرب العبد إليه عيناً قائمة بنفسها غير الله عز وجل فذلك خلق من خلق الله تعالى ومن المعلوم أن قوله يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا يقول أعرف رب وقوله إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه كل ذلك ألفاظ صريحة يعلم من سمعها بالاضطرار أن الذي يدنيه منه ويضع عليه ويقرره بذنوبه ويغفرها له الله عز وجل لا أحد من خلقه فكيف يجوز أن يقال لا يدنو العبد من ربه وإنما يدنو من بعض مخلوقاته وهل ذلك إلا بمثابة أن يقال إن الذي يقرره بذنوبه هو بعض مخلوقاته كما تقول الجهمية القائلون بأن الله عز وجل لا يقوم به كلام وإنما الكلام يقوم ببعض مخلوقاته فهذا مثل هذا وكلاهما بمنزلة أن يقال إن الله عز وجل لا يغفر له وإنما يغفر له بعض مخلوقاته وهذا يؤول إلى ما يقوله من يقوله من الصابئة المتفلسفة وغيرهم إن العباد لا يرجعون إلى الله عز وجل وإنما منتهاهم هو العقل الفعال ونحو ذلك مما يدعون لها الملائكة فيجعلون ذلك هو رب العباد الذي إليه يرجعون كما يزعمون أنه هو ربهم المدبر لهذا العالم(8/198)
وهذا كله مما يعلم بالاضطرار أنه خلاف ما أخبرت به الرسل وأنه شرك صريح في اتخاذ غير الله إلهاً وربًّا وأقوال الجهمية تستلزم هذا ولهذا قال من قال من أئمة السلف من قال إن قوله لموسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه 12] مخلوق كافر لأنه جعل هذا الكلام قائما بمخلوق يلزم أن يكون هو الرب وكذلك سائر تأويلاتهم من هذا الجنس(8/199)
الوجه الثامن أن يقال هذا الدنو ووضع الكنف والمخاطبة يكون وقت السؤال والعبد خائف غير آمن ولا ظهر له أنه يغفر له ويرحمه كما في لفظ الحديث الصحيح إن الله يدني المؤمن فيضع كنفه عليه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فإذا كان العبد حين هذا الدنو من الله والمخاطبة والتقرير بذنوبه يرى أنه قد هلك قبل أن يذكر له الرب أنه غفر له امتنع أن يكون ما ذكره من دنوه من الله هو الدنو من رحمته وأمانه وتعطفه الوجه التاسع أن الرحمة والعطف والأمان إن كانت صفات لله تعالى كان القرب إليها قرباً إلى الموصوف كما تقدم وإن كانت أعياناً قائمة بنفسها مخلوقة لله تعالى فمن المعلوم أنه حين الحساب في عرصات القيامة لا يكون هناك أجسام مخلوقة يرحم بها العباد فإن ذلك إنما يكون في الجنة وإذا لم يكن في عرصة الحساب أجسام مخلوقة من الرحمة أعدها الله(8/200)
عز وجل لعباده ولكن هو يحكم بالعفو والمغفرة ثم ينقلبون إلى دار الرحمة امتنع أن يكون أحد حال المحاسبة مقرباً إلى أجسام هي رحمة قبل أن يؤذن لهم في دخول الجنة الوجه العاشر أن يقال من المعلوم أن الله عز وجل أخبر في كتابه بأصناف ما ينعم به على عباده من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمساكن وقد أجمل ما لم يفصله في قوله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ(8/201)
[السجدة 17] وهذه الأمور يباشرها المؤمن مباشرة لا يكون جزاؤه مجرد قربه منها دون مباشرتها بل ذلك يكون حسرة وعذابا فدعوى الإكرام بمجرد التقريب من هذه الأمور دون مباشرتها كلام باطل لا حقيقة له الوجه الحادي عسر أن المؤمن مازال في رحمة الله في الدنيا والآخرة فكيف يجوز تخصيص حال السؤال بقربه من رحمته دون ما قبل ذلك وما بعده الوجه الثاني عشر أن يقال هو مازال مباشراً لما يرحمه الله به قبل وبعد فأي فائدة في أن يوصف بالقرب من شيء مازال مباشراً له لا ينفصل عنه الوجه الثالث عشر أنه في العرصة يظهر له من الأهوال والشدة ما يكون أعظم عليه وأشد لرعبه وألمه من كل ما كان قبل ذلك وبعده فكيف يجوز تخصيص أشد الأحوال عليه بأنه تقرب فيه مما يرحم به مع أن ما قبلها وما بعدها كان ما يرحمه به إليه أقرب وهو له أعظم مباشرة ونيلا الوجه الرابع عشر أن هذا الذي ذكره لا ريب أنه من(8/202)
باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه حيث قال قوله فيدنيه منه أي من رحمته وأمانه وتعطفه ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أن هذا لا يجوز عندهم إلا إذا كان قد اقترن بالكلام ما يبين المضاف والمحذوف إذ لا يقولون جاء زيد يعنون ابنه أو غلامه أو رسوله إلا بقرينة ومن المعلوم أن الحديث نص في أن الله تعالى هو الذي يدنيه من نفسه فضلاً عن أن يقال إن هناك قرينة تبين أنه إنما أدناه ن بعض الأمور المضافة إلى الله تعالى ولهذا لا يسمع أحد هذا الكلام فيفهم أن الله تعالى يدنيه من شيء آخر ولا يخطر هذا ببال المستمع فكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد هذا الوجه الخامس عشر أن قوله فيدنيه منه فيضع عليه كنفه ثم يقرره بذنوبه جمع بين الإدناء ووضع الكنف عليه قرينة في أنه هو الذي يدنيه إليه ويضع كنفه عليه ويستره من الناس كما جاء ذلك في ألفاظ الحديث الوجه السادس عشر أنه من المعلوم أن هذا الحديث هو من جنس مادل عليه القرآن من وقوف العباد على ربهم وخطابه لهم ومن المعلوم بالاضطرار من رسالات الرسل ودين الإسلام أن هذا إنما يكون يوم القيامة وأن أحوال العباد مع الله عز وجل يوم القيامة بخلاف أحوالهم في الدنيا(8/203)
وعلى رأي المنازعين الجهمية وفروعهم لا فرق بين الدنيا والآخرة فإن اله نفسه لا يقربون إليه لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا يقفون عليه ولا يرجعون إليه وإنما ذلك كلهم مصيرهم إلى بعض مخلوقاته ومقدوراته وهذا ثابت في الدنيا والآخرة وكذلك خطابهم لهم معناه عند الجهمية المحضة أنه يخلق كلاماً في بعض مخلوقاته يكلمهم وعند فروعهم يخلق في العباد إدراكاً يفهمون به المعنى القائم بالذات لا أنه يخاطبهم بكلام يسمعونه إذ ذاك ومعلوم أن خلق الفهم والإدراك لا فرق فيه بين الدنيا والآخرة وحينئذ فهذا الذي أخبر به في هذا الحديث وغيره يكون عندهم في الدنيا كما يكون في الآخرة فيدنو العبد المؤمن من الله تعالى في الدنيا ويضع عليه كنفه ويقرره بذنوبه ويقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم وذاك عندهم إما سماع صوت في بعض المخلوقات أو إلهام يقع في النفس وكل من تدبر القرآن والحديث علم بالاضطرار أن هذا الذي يقولونه ليس هو الذي(8/204)
أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأن قولهم فيه هو من التكذيب ببعض الإيمان بالله واليوم الآخر وهذا أمر عظيم ضاهوا به ما يقولونه الصابئة الفلاسفة والقرامطة الباطنية ونحوهم من لا يشك مؤمن في أنهم يكذبون بآيات الله ولقائه وأنهم ممن قيل فيه فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) [الأنعام 150] وهذا قد صرح به من أئمة الجهمية طوائف كالاتحادية وغيرهم ولهذا ينكرون المسير إلى الله عز وجل(8/205)
والدعوة إليه أو يتأولونه بالطريق المستقيم إليه وذلك يظهر بالوجه السابع عشر وهو أن ابن عربي صاحب(8/206)
الفصوص قال في الكلمة النوحية وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) [نوح 22] لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية ادعو الله فهذا عين المكر على بصيرة فنبه أن الأمر كله له فأجابوه مكراً كما دعاهم مكراً فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسماؤه فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) [مريم 85] فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين فقالوا في مكرهم لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) [نوح 23] فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله من المحمديين وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 23] أي حكم فالعالم يعلم من عبد وفي أي(8/207)
صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود فالأدنى من تخيل فيه الألوهية فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره ولهذا قال قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد 33] فلو سموهم لسموهم حجراً وشجراً وكوكباً ولو قيل لهم من عبدتم لقالوا إلهاً ما كانوا يقولون الله ولا الإله والأعلى ما تخيل بل قالوا هذا مجلى إلا هي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر والأدنى صاحب التخيل يقول مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3] والأعلى العالم يقول فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج 34] الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا إلها ولم يقولوا طبيعة وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح 24] أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ(8/208)
[نوح 24] لأنفسهم المصطفين الذين أورثوا الكتاب فهم أول الثلاثة فقدم على المقتصد والسابق إِلَّا ضَلَالًا (24) [نوح 24] إلا حيرة المحمديين زدني فيك تحيرا كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة 20] فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه وصاحب الحركة الدورية لابد له فيلزمه من ولا غاية فيحكم عليه إلى قلة الوجود الأتم وهو المؤتى وجوامع الكلم والحكم مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة فَأُدْخِلُوا نَارًا في عين الماء في المحمديين وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) [التكوير 6] سجرت التنور إذا أوقدته فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) [نوح 25] فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد فلو أخرجهم إلى السيف سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة وإن كان الكل لله(8/209)
وبالله بل هو الله فيقال لهم هذه الأمور التي تضمنها هذا الكلام وهو لازم الجهمية الذين يقولون إن الله عز وجل ليس فوق العرش بل هو في كل مكان من أن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو لأنه في النهاية كما هو في البداية من أن صاحب السلوك إلى الله بالطريق المستقيم مائل خارج عن المقصود صاحب خيال إليه غايته فله من وإلى يسير من شيء إلى شيء والحائر الذي يدور ولا يبرح ولا يذهب إلى شيء غير ما هو فيه فله الوجود الأتم وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم وأن الدعوة إلى الله ليست إلى هويته بل إلى نسب وإضافات إليه هي التي جعلها هذا أسماء فإن هؤلاء الاتحادية وإن كانوا جهمية فلهم فروع أقوال انفردوا بها عن غيرهم من الجهمية ولكن نذكر ما يلزم غيرهم(8/210)
من الجهمية فهذه المقالات ونحوها لا تخلو إما أن يقال هي حق وهي معنى القرآن كما ذكره هذا أو لا أما الأول فإنه من أظهر الأمور كفراً وضلالاً وتحريفاً واتحاداً وتعطيلاً فكل من فيه أدنى إيمان وعَلِمَ وفَهِمَ مقصودهم يعلم علماً ضروريًّا أن الذي قالوه هو من أعظم الأقوال منافاة لما جاءت به الرسل وان الله أمر أن يسأل أن يهدينا الصراط المستقيم ومدح الصراط المستقيم في غير موضع وذم الحائر كما في قوله تعالى قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ [الأنعام 71] وأن الله بعث الرسل بالدعوة إليه نفسه وأن ذلك ليس بمكر بالعباد بل هدى لهم وأنه ليس المدعو في ابتداء إجابة الرسل كما يكون إذا انتهى إلى ربه أو لاقاه وأن من عبد الأصنام أو شيئا م المخلوقات فهو كافر مشرك باتفاق الرسل كما قال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) [الزخرف 45] وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [الأنبياء 25] وقال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 36](8/211)
وعلى قول الاتحادية ما ثم طاغوت إذ كل معبود فعابده إنما عبد الله عندهم ومن المعلوم بأعظم الضرورات أن عُبّاد يغوث ويعوق ونسرا وسائر الأوثان لم يكونوا عابدين لله وكانوا مشركين أعداءً لله لم يكونوا من أولياء الله وهذا وأمثاله كثير وليس هذا موضع بسطه فهؤلاء الجهمية النفاة إما أن يوافقوا هؤلاء أو ى فإن وافقوهم كان كفرهم أظهر من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب وكان جحدهم للمعارف الكثيرة الضرورية أعظم من جحد السوفسطائية(8/212)
وإن خالفوهم وهو قولهم قيل لهم إذا قلتم إن الله لا يتقرب إليه نفسه أحد ولا يدعى إليه نفسه أحد وليس بين العبد وبينه نفسه طريق مستقيم ولا مستدير وأنه لا يذهب إليه نفسه أحد وإنما ذلك كله عندكم يعود إلى بعض مقدوراته ومخلوقاته مثل ما يخلقه مما يرحم به العباد فإليها يذهب وإليها يسير فإذا قلتم هذا لم يكن لكم طريق إلى إفساد قول أولئك الاتحادية إذ قولكم من جنس قولهم إلا أنهم توسعوا في ذلك فجعلوا كل من دعا إلى شيء أو وصل إليه أو سلك إليه فإنما دعا إلى الله ووصل إليه وسلك إليه وأنتم تخصون ذلك ببعض المخلوقات دون بعض فالفرق بينكم وبينهم فرق ما بين العموم إلى الخصوص ومشابهتكم لهم أقرب من مشابهة النصارى لهم ولهذا كان يقول صاحب الفصوص إن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا إذ عنده أن جميع(8/213)
الموجودات هي بمنزلة ما يقوله النصارى في المسيح عليه السلام(8/214)
فصل قالوا أبو عبد الله الرازي القسم الثالث في تقرير مذهب السلف وفيه فصول الفصل الأول في أنه هل يجوز أن يحصل في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا إلى العلم به اعلم أن كثيراً من الفقهاء والمحدثين والصوفية يجوّزون ذلك والمتكلمون ينكرونه قلت قول القائل ما لا سبيل لنا إلى العلم به كلامٌ مجملٌ قد يراد به ما لا سبيل لبعض الناس إلى معرفته أو يراد به ما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ثم قد يراد به أنه لا سبيل لأحد إلى فهم معناه ومعرفة شيء من المراد به بل قد يكون مثل الأعجمي الذي حفظ حروف القرآن ولا يدري(8/215)
ما هو وإذا خاطبته بعربية القرآن لم يفهم عنك ولم يخاطبك إلا بلسانه وقد يراد به أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة الخبر الواقع في الخارج كيف هو ومتى يقع أو كم مقداره فإن لفظ التأويل له عدة معان كما سنذكره إن شاء الله تعالى والذين جوّزوا ذلك عمدتهم قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] وسنبين أنه ليس المراد بهذا أنه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله بل هذا القول خطأ وما ذكره من حجج المتكلمين يبطل هذا القول لكن لا يدل على أن التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح والتأويلات التي لا يعلم بها مرادُ المتكلم هو التأويل المذكور في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران 7] على القراءة الأخرى بل إن هؤلاء المتكلمين لا يعلمون تأويله الذي هو تفسيره ومعرفة المراد به فإن الراسخين في العلم الذين(8/216)
يعلمون هذا التأويل قد عرفوه بعينه لم يترددوا ويقولوا يجوز كذا ويجوز كذا فمن قال إن القرآن يجوز أن يشتمل على ما لا سبيل لبعض الناس إلى العلم به فقد أصاب وذلك لعجزه لا عن نقص في دلالة القرآن فكثير من الناس لا سبيل له إلى أن يعلم كثيراً من العلوم كالطب والنجوم والتفسير والحديث وإن كان غيره يعلم ذلك وإن أراد أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة تفسيره فقد غلط وإن قال لا سبيل لأحد إلى معرفة حقيقته وكيفيته وهيئته ونحو ذلك فقد أصاب وما ذكر من حجج المتكلمين يدل على أنه ليس فيه ما يمتنع معرفة تفسيره ومعناه والمراد به الذي هو الصواب وعلى هذا عامة السلف فإنهم لا يقولون إن في القرآن ما لا يعلم الرسول معناه وتفسيره وما عنى الله تعالى به ولا جبريل الذي جاء به ولا أحد من المؤمنين بل فيه ما لا يعلم عاقبته وما يؤول إليه إلا الله تعالى وبسط هذا له موضع(8/217)
آخر فصل قال الرازي احتجوا بالآيات والأخبار والمعقول أما الآيات فكثيرة وقد ذكر منها أربع عشرة آية أحدها قوله تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) [محمد 24] أمر الناس بالتدبر في القرآن ولو كان القرآن غير مفهوم فكيف يأمرنا بالتدبر فيه الثاني قوله تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء 82] فكيف يأمرنا بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض والاختلاف مع(8/218)
أنه غير مفهوم للخلق الثالث قوله تعالى وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء 192-195] ولو لم يكن مفهوماً فكيف يمكن أن يكون الرسول منذراً به وأيضاً قوله بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء 195] يدل على أنه نازل بلغة العرب وإذا كان كذلك وجب أن يكون معلوماً الرابع قوله تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء 83] والاستنباط منه لا يكون إلا بعد الإحاطة بمعناه قلت هذا الـ مذكور في قوله تعالى وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء 83] ليس المراد به القرآن(8/219)
الخامس قوله تعالى تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل 89] ونظيرهما وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف 111] وأما قوله تعالى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 38] فهو بعد قوله تعالى وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) [الأنعام 38] ولهذا قال أكثر العلماء إن الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ وهذا الكلام يقتضي أنه بين لا يقتضي أن كل ما فيه مفهوم فقد يقال إن فيه هذا وفيه هذا لكل يقال لما قصد به بيان كل شيء فبيانه نفسه وفهم معناه مقدم على غيره(8/221)
قال السادس قوله تعالى هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة 2] وما لا يكون معلوماً لا يكون هديّ السابع قوله تعالى حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ [القمر 5] وقوله تعالى وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) [يونس 57] وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم الثامن قوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) [المائدة 15] ولا يكون مبينا إلا أن يكون معلوماً التاسع قوله تعالى أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) [العنكبوت 51] فكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم العاشر قوله تعالى هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم 52] فكيف يكون بلاغاً وكيف يقع الإنذار به وهو غير معلوم وقوله في آخر الآية وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)(8/222)
[إبراهيم 52] وإنما يكون كذلك أن لو كان معلوماً الحادي عشر قوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) [النساء 174] فكيف يكون برهاناً ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم الثاني عشر قوله تعالى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) [طه 123-124] فكيف يمكن اتباعه تارة والإعراض عنه أخرى مع أنه غير معلوم الثالث عشر قوله تعالى إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) [الإسراء 9] فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم للبشر الرابع عشر قوله تعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة 285] والطاعة لا تكون إلا بعد العلم فوجب كون القرآن مفهوماً قلت وفي القرآن مواضع أخرى تدل على هذا المعنى(8/223)
الأول مثل قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل 44] فإنه يدل على أنه يبين للناس جميع ما نُزّل إليهم فيكون جميع المنزل مبيناً عنه يمكن معرفته وفهمه وقوله تعالى وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل 44] يدل على ذلك فإن التفكر طريق إلى العلم ما لا يمكن العلم به لايؤمر بالتفكير فيه الثاني قوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق 10-11] وما لا يفهم ولا يعلم معناه لا يخرج أحداً من ظلمة إلى نور ومثله قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) [الحديد 9] الثالث قوله تعالى الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) [إبراهيم 1] فأخبر أنه أنزل إليه الكتاب لهذا الإخراج(8/224)
والإخراج من الظلمات إلى النور لا يكون إلا بما يفهم ويعلم معناه وما لا يفهم لا يحصل به خروج من الظلمة إلى النور الرابع قوله تعالى يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون 68] وإنما يمكن تدبر القول إذا أمكن معرفته وفهمه الخامس قوله تعالى الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [يوسف 1-2] وإنما يكون مبيناً سواء أريد مبيناً في نفسه أو أنه مبين لغيره إذا كان مما يمكن معرفته وفهمه ومعرفة معناه السادس قوله تعالى وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) [الأعراف 203] السابع قوله تعالى هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) [الأعراف 203] وقوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام 104] والبصائر جمع بصيرة بمعنى الحجج(8/225)
والبرهان والبيان واحدتها بصيرة وقال الزجاج معنى البصائر ظهور الشيء وبيانه وقال الجوهري البصيرة الحجة والاستبصار في الشيء قوله تعالى بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) [القيامة 14] ولا حجة ولا برهان ولا بيان ولا ظاهر إلا إذا أمكن فهم معرفته وما لا يمكن أحداً من الخلق فهمه يمتنع أن يكون كذلك الثامن قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) [يونس 42] وقوله تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة 171] وقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) [محمد 16] وقوله تعالى وَلَا تَكُونُوا(8/226)
كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) [الأنفال 21] وهذا كله ذم لمن سمع الكلام ولم يفهم معناه ولم يفهمه وإنما يستحق الذم إذا كان الكلام مما يمكن فهمه وفقهه وما لا يكون كذلك لم يستحق به الذم التاسع قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر 23] وقوله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف 3] وإنما يكون أحسن الحديث وأحسن القصص إذا كان مما يفقه ويعقل وما كان يمتنع فهم معناه كان ما يفهم ويعلم أحسن وأنفع منه العاشر قوله تعالى وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) [القمر 17] في غير موضع قال بعض السلف هل من طالب علم فيعان عليه(8/227)
وإنما يكون متيسراً للذكر إذا أمكن فهمه ليذكر معناه ويذكّر الناس بما ذُكّر به وما لا يفقه من الكلام ولا يمكن فقهه لا يمكن أن يتذكر به أحد وليس مذكراً فضلاً عن أن يكون متيسراً للذكر الحادي عشر قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم 4] فجعل الرسول بلسان قومه ليبين لهم ما أرسل به ومعلوم أنه لو خاطبهم بلسان آخر وترجمه لهم لحصل المقصود فـ ـكان ذلك أتم في النعمة فكيف يخاطبهم بكلام لا هو يفهم معناه ولا هم يفهمونه ولا يمكن أحداً فهمه وهل الإرسال بمثل هذا إلا من أعظم المعائب التي يجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً عنها فإنها لا تليق بآحاد الناس سبحانه وتعالى الثاني عشر قوله تعالى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) [النحل 35] وقوله تعالى وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا(8/228)
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) [النور 54] ومعلوم أن البلاغ المبين لا يحصل بكلام لا يمكن أحداً فهمه بل لا يمكن فهمه للرسول ولا للمرسل إليه تعالى الله عن مثل ذلك الثالث عشر قوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ [البقرة 213] ومعلوم أن حكم الله بالكتاب أو حكم الكتاب بين المختلفين لا يمكن إلا إذا عرفوا ما حكم به من الكتاب وما تضمنه الكتاب من الحكم وذلك إنما يمكن إذا كان مما يمكن فهم معناه وتصور المراد به دون ما يمتنع ذلك منه الرابع عشر قوله تعالى تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل 63-64] وبيان ذلك بالكتاب إنما يكون إذا كان فهم الكتاب ممكناً فأما إذا تعذر فهمه فيمتنع أن يحصل به بيان ما اختلف فيه الناس الخامس عشر قوله تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) [آل عمران 101] ومعلوم أن تلاوة آيات الله إنما(8/229)
تكون مانعة من الكفر إذا تبين بها الإيمان من الكفر والحق من الباطل وهذا إنما يكون بالكلام إذا كان مما يمكن فهمه ومعرفته دون ما يتعذر ذلك فيه السادس عشر قوله تعالى المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف 1-3] وقوله تعالى اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام 106] ومعلوم أن اتباع ما أمرهم الله تعالى من الكتاب والحكمة إنما يمكن بعد فهمه وتصور معناه وما كان من الكلام لا يمكن أحداً فهمه لم يمكن اتباعه بل كان الذي يسمعه كالذي لا يسمع إلا دعاء ونداء وإنما الاتباع لمعاني الكلام السابع عشر قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت 44] قال المفسرون لو جعله قرآنا أعجميًّا لأنكروا ذلك وقالوا هلا بينت آياته بلغة العرب لنفهمه أقرآن عجمي ورسول عربي فقد بيّن سبحانه وتعالى أنه لو جعله أعجميًّا لأنكروه فجعله عربيًّا ليفهم معناه وليندفع مثل هذا القول ومعلوم أنه لو كان أعجميًّا لأمكنهم التوصل إلى فهمه بأن يترجم لهم مترجم إما أن يسمعه من الرسول ويترجمه أو يحفظوه هم أعجميًّا ثم يترجمه لهم كما أن من العجم من يحفظ القرآن عربيًّا ولا يفهم ويترجم له وأما إذا كان عربيًّا لا يمكن أحداً أن يفهمهم إلا الرسول(8/230)
ولا المرسل إليهم فإنكار هذا أعظم من إنكار كونه أعجميًّا وإذا كان الله تعالى قد بين أنه لا يفعل الأول فهم أن لا يفعل هذا أولى وأحرى الثامن عشر قوله تعالى كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) [ص 29] ومعلوم أن تدبر آياته وتذكر أولي الألباب إنما يكون مع إمكان فهمه ومعرفة معناه وأما بدون ذلك فهو متعذر التاسع عشر أن القرآن آيات والآية هي العلامة والدلالة وإنما تكون علامة ودلالة إذا دلت على شيء وأعلمت به وما كان دليلاً ومعلماً وعلامة فإنه يمكن أن يستدل به ويستعلم به ما دل عليه وما لم يمكن ذلك فليس بدلالة ولا كلام فما لا يمكن أن يفهم منه معنى ولا يستدل به عليه فليس في آيات الله ولا يكون في كلامه الذي أنزله العشرون قوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي(8/231)
بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ [المائدة 15-16] وإنما يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام إذا فهموه وما لم يفهم من الكلام لا يهدى به إلى شيء لاسيما إذا كان لا يفهمه أحد الحادي والعشرون قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى 52-53] ومعلوم أن الروح الذي أوحاه من الكتاب والإيمان ما يهتدي به من يهتدي من عباده إلا إذا علموا ذلك فإذا كان الكتاب لا يفهم لم يهتد أحد بكلام ولا يفهمه أحد وكذلك قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى 52] فإن هدايته إلى ذلك بالكلام الذي سمع منه فإذا كان ما يبلغه هو من الكتاب والسنة لا يفهمه لا هو ولا غيره ولا سبيل لأحد إلى فهمه لم يمكن أن يهدي به أحداً إلى صراط مستقيم الثاني والعشرون قوله تعالى أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ(8/232)
لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود 1] وما لا يمكن فهمه لم يحكم ولم يفصل الثالث والعشرون قوله تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) [يونس 1] وقال تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) [النمل 1] وقال تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) [الحجر 1] وقال تعالى الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) [لقمان 1-2] وقال تعالى ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) [آل عمران 58] والحكيم فعيل سواء كان بمعنى الفاعل وهو الحاكم أو بمعنى المفعول وهو المحكم فلا يكون حاكما ولا محكماً إلا إذا كان له معنى يمكن فهمه ومعرفته وإلا فاللفظ الذي لا يمكن أحداً فهم معناه ليس بمحكم ولا حاكم ولا محكّم الرابع والعشرون قوله تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران 61] والذي جاءه هو القرآن وإنما يكون علماً إذا كان متضمناً للعلم فيعلم به ما بين فيه واللفظ الذي لا يمكن أحداً فهم معناه ليس بعلم ولا يدل على علم(8/233)
وليس من العلم بسبيل وإذا كان لا يعلم معناه إلا أنه كامن من علمه الذي استأثر به لم يكن علماً لغيره ولم يكن قد جاء غيره علماً ولا علم أحد به علما الخامس والعشرون قوله تعالى لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] بين أنه أنزل القرآن بعلمه أي متضمناً لعلم فيه يراد فيه علم ليس المراد بذلك وهو يعلم فإن كل الموجودات يعلمها والمقصود مدح القرآن وبيان اشتماله على علم الله تعالى وإذا كان كذلك دل على أن ما فيه من العلم لم يستأثر الله تعالى به بل أنزله إلى عباده وعلمهم إياه وهو من علمه الذي قال فيه وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة 255] وهذا لا يكون إلا إذا أمكن فهم معناه وإلا فاللفظ الذي لا يمكن فهم معناه لا علم فيه لأحد ومثل هذا قوله تعالى فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [هود 14] السادس والعشرون قوله تعالى وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) [طه 133] أي بيان ما في الصحف الأولى وإنما يكون بياناً لما في الصحف إذ بين ذلك ودلّ عليه وعرّف به وهذا إنما يكون بالكلام الذي(8/234)
يمكن فهمه ومعرفته ومعرفة معناه وما كان ذلك ممتنعاً فيه لم تكن فيه بينة ولا بيان ولا للصحف ولا لغيرها ومثل هذه الأدلة في القرآن كثيرة يطول تتبعها وهذه أربعون وجهاً منها وعند التأمل هي أكثر من ذلك والوجه الواحد يتضمن وجهاً أو وجوهاً والآيات المتماثلة جعلت وجها وكل منها دليل مستقل فتكون الدلائل المذكورة أكثر من مائة دليل وما لم يذكر كثيراً أيضاً(8/235)
فصل قال الرازي أما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي وكيف يمكن(8/236)
التمسك به وهو غير معلوم(8/237)
قلت لفظ الحديث في صحيح مسلم عن جابر أنه قال في خطبة يوم عرفة وإني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله لم يذكر فيه لا عترتي ولا سنتي وكذلك في صحيح البخاري عن ابن أبي أوفى قيل له هل وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا فقيل له كيف لم يوص وقد كتب على الناس الوصية قال وصى بكتاب الله وكذلك في صحيح البخاري أن عمر خطب الناس من الغد من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به وبه هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم فاعتصموا به تهتدوا بما(8/238)
هدى الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأما السنة فالقرآن قد أوصى باتباعها في غير موضع يذكر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في نحو من أربعين موضعاً وذكر إنزال الحكمة في القرآن في خمسة مواضع والذي نزل مع القرآن(8/239)
هو السنة وأما لفظ العترة ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدي يدعى خمًّا بين مكة والمدينة وقال إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله وحض عليه وقال عترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ففيه أنه أمر باتباع القرآن وأنه وصى الأمة بأهل بيته وأما قوله ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب الله وعترتي فقد رواه الترمذي وضعفه أحمد(8/240)
وغيره وقوله كتاب الله وروي في حديث ضعيف قال وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله تعالى ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن دعا إليه بعدي دعا إلى هدى وإلى صراط مستقيم(8/241)
قلت وهذا الحديث رواه الترمذي وغيره ورواه أبو نعيم من طرق وفيه ولا تلتبس به الألسن وليس في رواية الترمذي ومن خاصم به فلج(8/242)
فصل قال وأما المعقول فمن وجوه الأول أنه لو ورد في القرآن ما لا سبيل لنا إلى العلم به لكانت المخاطبة تجري مجرى مخاطبة العربي بالزنجية وهو غير جائز قلت بل هو أقبح من ذلك لأن العربي أو غيره إذا خوطب بغير لسانه أمكن أن يترجم له ذلك الخطاب بلسانه فيتوصل إلى فهم معناه وأما إذا خوطب بلسانه بكلام لا سبيل لأحد إلى فهم معناه فهذا أقبح من مخاطبة العربي بالعجمية قال الوجه الثاني أن المقصود من الكلام للإفهام ولو لم يكن مفهوماً لكان عبثاً قلت بل هذا أقبح من العبث فإن الإنسان قد يعبث بأفعال يستريح بها ويلهو بها وأما خطاب الناس بكلام لا سبيل لأحد إلى معرفة معناه فهذا لا يفعله أحد من العقلاء ألبتة بل هو مثل(8/243)
مستقبح باتفاق العقلاء والله تعالى وراء تنزيهه عن مثل ذلك ولكن هذا الوجه والذي قبله لا يصح من مثل هذا الرازي الاحتجاج بمثلها فإنه وأصحابه ينصرون قول الجهمية المجبرة الذين لا ينزهون الرب عن فعل ممكن بل يجوزون عليه فعل كل مقدور ومن المقدور أن يخلق أصواتا مؤلفة من جنس الكلام ولا يكون لها معنى أو يكون لها معنى لا يعلمه غيره والرازي ذكر في محصوله مسألة الأحكام أن يتكلم الله بشيء ولا يعني به شيئا خلافاً للحشوية ثم احتج بأن ذلك عبث والله تعالى منزه عن ذلك وهذا النقل والاستدلال ضعيفان فإنا لا نعلم أحداً من الطوائف قال إن الله تعالى يجوز أن يتكلم بكلام لا يعني به شيئاً وإنما قال من قال إنه(8/244)
لا يفهم الناس معناه وإن كان قد عنى به هو معنى فهذا القول الذي حكاه عن الحشوية لا يعرف به قائل معين يحكى عنه وسواء عرف أو لم يعرف فالحجة التي ذكرها ضعيفة على أصله فإن النزاع إنما هو في الكلام المؤلف من الحروف وهذا عنده مخلوق وهو يجوز أن يخلق كل شيء لا لحكمة وإن كان هذا مما يعده العقلاء عبثاً فعنده لا ينزه مثل ذلك فكانت الحجة ضعيفة على أصله ولكن العبث على الله ممتنع وأصله المنفي لذلك باطل كما قد بسط في موضعه(8/245)
فصل قال الرازي الوجه الثالث أن التحدي وقع بالقرآن وما لم يكن معلوماً لا يجوز التحدي به قال فهذا مجموع كلام المتكلمين وبالله التوفيق فيقال هذه الحجج كما أنها دالة على فساد قول من قال إن في القرآن ما لا سبيل لأحد إلى فهمه بل معرفة معناه ممتنع فهي أيضاً دالة على فساد قول هؤلاء المتكلمين نفاة الصفات أو بعضها فهي حجة على فساد قول الطائفتين وذلك أن هؤلاء النفاة يقولون إن التوحيد الحق الذي يستحقه الله تعالى ويجب أن يعرف به ويمتنع وصفه بنقيضه ليس هو في القرآن ولم يدل عليه القرآن ودلالة الخطاب المعروفة لا تفيد اليقين وهو كون الرب ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يحجب(8/246)
العباد عنه شيء ولا عنده شيء دون شيء بل جميع الأشياء سواء ولا يحتجب عنهم بشيء وأنواع ذلك فمن المعلوم أن القرآن لم يدل على شيء من ذلك ولا بينه بل إنما دل على نقيضه وهو إثبات الصفات وأنها تدل على أنه يقرب من غيره ويدنو إليهم ويقرب العبد منه ويدنو إليه وعلى أنه عال على جميع الأشياء فوقها وأنه ينزل منه كلامه وتنزل الملائكة من عنده وتعرج إليه وأمثال ذلك وهم متفقون على أن ظاهر القرآن إنما يدل على الإثبات الذي هو عندهم تجسيم باطل بل كفر وغيرهم يقول بل دلالة القرآن على ذلك نصوص صريحة بل ذلك معلوم بالاضطرار من القرآن والرسول وسيأتي كلامهم في حكمة إنزال هذه الآيات وقد ذكر فيها خمسة وجوه الأول تضعيف الوصول إلى الحق ليعظم الأجر ومعلوم(8/247)
أن هذا يناقض كونه بياناً وشفاءً وهدى وكونه قد جعله عربيًّا ليعقل ويسره للذكر وغير ذلك مما وصف به في كونه سهلاً لمعرفة الحق وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ونحو ذلك والثالث أنه إذا لم يمكن بيان المقصود افتقر الناس إلى(8/248)
الأدلة العقلية فيعرف الحق بالعقل ومعلوم أن هذا يناقض ما وصف به ثم إنه على هذا التقدير الذي يدعيه هؤلاء كان أن لا ينزل القرآن ولا يرسل الرسول أصلح للخلق فإن الهدى إنما حصل لهم بعقل لم يحتاجوا فيه إلى الكتاب والرسول لكن الكتاب والرسول عندهم عارض هذا العقل ولهذا قالوا يقدم العقل وما جاء به الرسول إما أن يعرض عنه وإما أن يوضع له محامل يحمل عليها وعلى التقدير فالكتاب والرسول ما حصل بهما بيان وهدى وعلم بل كان عندهم سبباً لضد ذلك وإنما حصل العلم بأصول الدين والتوحيد عندهم معقول يخالف ما جاء به الرسول لم يدل الرسول عليه ولا أرشد إليه وهذا في غاية المناقضة لما احتجوا به من هذه الآيات وكذلك الوجه الرابع وهو أن التأويل يفتقر إلى تحصيل علوم كثيرة والهدى ما حصل بالقرآن لكن بهذه العلوم وضعت له محامل لئلا يضل به الناس وهؤلاء لا يقصدون بتأويل الكلام المتكلم معرفة مراده بل يقصدون بيان ما يحمله اللفظ كيف أمكن ليحمل عليه وإن(8/249)
لم يعلم ولا يظن أنه أراده بل قد يعلم قطعاً أنه لم يرده ولهذا قالوا إذا اختلف الصحابة على قولين جاز لمن بعدهم إحداث تأويل ثالث بخلاف الأحكام فإنهم لا يجوزون إذا اختلفوا على قولين إحداث ثالث لأن اتفاق الأمة على قولين إجماع على فساد ما عداهما وهذا بعينه وارد في التأويل فإنه إذا قالت طائفة معنى الآية المراد كذا وقالت طائفة معناها كذا فمن قال معناها ليس واحدا منهما بل أمر ثالث فقد خالف إجماعهم وقال إن الطائفتين مخطئون فإن قيل هؤلاء لا يقولون أريد بل يقولون يجوز أن يكون المراد قيل كلام الصحابة لم يكن بالاحتمال والتجويز وبتقدير أن يكون كذلك فالاحتمالات إن كان أحدهما مراداً فلم يجمع على ضلال وإن كان المراد هو الاحتمال الثالث المحدث بعدهم فلم يكن فيهما من عرف مراد الله تعالى بل الطائفتان جوزت أن تريد غير ما أراد الله تعالى وما أراده لم يجوزه وهذا من أعظم الضلال وأما الخامس الذي جعل السبب الأقوى وهو(8/250)
مخاطبتهم بالتخيل فهو قول الملاحدة كما قد بسط في مواضع إذ المقصود هنا أن ما احتج به المتكلمون النفاة على أن القرآن قد بين الحق وهدى الخلق وأنه ليس فيه ما لا يفهم وهو حجة عليهم فإنه على قولهم لا بين الحق ولا هدى الخلق ولا سيما تأويلاتهم لم تدل عليه ألبتة بل دل على نقيضها كما قد بين وبتقدير أن يقال دل عليها بطريق التأويل فالحق إنما عرف بالمعقول الذي ذكره لا معقول دل عليه القرآن وهذا هو الذي أوجب صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى خلافه عندهم فلم يكن في القرآن دلالة على هذا المعنى بل دل على نقيض الحق عندهم لكن قدمت دلالة العقل على دلالته وأولئك الذين قالوا إن فيه ما لا سبيل لأحد إلى فهمه بل هم أيضا منعوا دلالته على الحق وهدايته للخلق وزعموا أن الرسول لم يكن يعرف ما يقرؤه ويبلغه وعلى قولهم فأحاديث الصفات التي قالها كان يقولها وهو لا يدري(8/251)
معنى ما يقول فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وعلى الوجه الخامس الأقوى كان يقول ذلك ليفهم منه معنى وهو يعلم أن ذلك المعنى باطل فقصد بالخلق أن يفهموا الباطل الذي هو نقيض الحق وأخبر بالحقائق على خلاف ما هي عليه وحقيقة ذلك أنه كذب كذباً يعلم أنه كذب ليعتقد الناس ذلك الكذب والاعتقاد الباطل فينتفعوا به وعلى قول المجهلة الذين يقولون لم يكن يعرف معنى ما يقول ويذكره من آيات الصفات وأحاديثها فكلامه عندهم يجب أن لا خير من خطابهم بذلك لأنه على التقديرين لم يفهمهم حقًّا ولا خاطبهم بما يعلم به حق ولكن إذا كان الكلام أعجميًّا لا يترجم لهم لم يضلوا به كما لم يهتدوا به وأما إذا كان عربيًّا وظاهره الباطل على زعم هؤلاء فإن الناس يفهمون ظاهره فيضلون به فلم يكتفوا به فهو على زعمهم من كونه هو لم يكن يفهم معناه فبخطاب الناس به فهموا منه ما هو كفر وضلال لاسيما ولم ينقل أحد عنه أنه نهى الناس عن اعتقاد(8/252)
ظاهره وما دل عليه ولا نبههم على دليل عقلي يعرفون به الحق فعلى زعمهم لم يبين الحق لا بديل سمعي ولا بدليل عقلي ولوازم أقوال هؤلاء التي تبين بطلان قولهم كثيرة وكما أن قولهم يستلزم الكفر بالكتاب والرسول وما دل عليه من الأدلة العقلية وما أخبر به من الأدلة السمعية فهو أيضاً في غاية الفساد والبطلان من جهة العقل وهم أنفسهم معترفون في غير موضع بفساد أقوالهم النافية وتناقضها وقد ذكرنا من أقوال الرازي وغيره من ذلك ما تبين به ذلك فهم يشهدون أن عقلياتهم التي عارضوا بها الرسول باطلة والسلف والخلف يشهدون بأن الكلام الذي عارضوا به الكتاب والسنة باطل وأن هؤلاء لم يعرفوا الله وهي عند التأمل والنظر التام فيها تبيين بطلانها وأن القوم ليس عندهم على ما قالوه من النفي لا دليل عقلي ولا سمعي بل هم من جنس أعداء الرسل الذين قالوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) [الملك 10] ومن جنس الذين قال فيهم أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [الحج 46](8/253)
ومن جنس من قيل فيه أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) [الفرقان 44] وبسط هذا له موضع آخر ولكن المقصود هنا التنبيه على أن هذه الأدلة التي احتج بها المتكلمون أدلة صحيحة ولا ريب في صحتها وهي تدل على فساد قولهم وقل الآخرين من وجوه كثيرة(8/254)
فصل قال الرازي واحتج مخالفوهم بالآية والخبر والمعقول أما الآية فمن وجهين الأول قوله تعالى في صفة المتشابهات وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] والوقف ههنا لازم وسيأتي دليله إن شاء الله تعالى والثاني الحروف المقطعة المذكورة في أوائل السور وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله(8/255)
وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان منها ما نعرف وجه الحكمة فيه على الجملة بعقولنا كالصلاة والزكاة والصيام فإن الصلاة تواضع وتضرع للخالق والزكاة إحسان إلى المحتاجين والصوم قهر النفس ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كأفعال الحج فإنا لا نعرف وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الحكيم تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن بالنوع الثاني(8/256)
لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرفه بعقله من وجه المصلحة فيه وأما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم فإنه لما لم يعرف فيه وجه المصلحة ألبتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم فإذا كان الأمر كذلك كان في الأفعال فلم لا يجوز أن الأمر كذلك في الأقوال وهو أن القرآن الذي أنزله الله تعالى علينا وأمرنا به وبتعظيمه وقراءته ينقسم إلى قسمين منه ما يعرف معناه(8/257)
ونحيط بفحواه ومنه ما لا نعرف معناه ألبتة ويكون المقصود من إنزاله والتكليف بقراءته وتعظيمه ظهور كمال العبودية والانقياد لأوامر الله تعالى بل هاهنا فائدة أخرى وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط له سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود مع جزمه بأن المتكلم بذلك الكلام أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتاً إليه أبداً ومتفكراً فيه أبداً ولباب التكليف اشتغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه فلا يبعد أن يقال إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له فيتعبد الله تعالى بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة قال فهذا ما عندي من كلام الفريقين في هذا الباب(8/258)
وبالله التوفيق قلت ذكر القولين ولم يرجح أحدهما ولم يذكر جواب أحدهما عن حجة الآخرين فبقيت المسألة على الوقف والحيرة والشك وكذلك لما ذكر بعد هذا تقرير قول من جزم بالتأويل فإنه هنا ذكر الخلاف في جواز ورود ما أمكن فهم معناه وهناك ذكر قول من أوجب وقوع ذلك وجزم بالتأويل وقد ذكر حجة كل قوم ولم يذكر لهم جواباً عن حجة الآخرين فبقيت المسألة مما تكافأت فيها الأدلة عنده وأما في تفسيره فرجح المعنى في التأويل كما رجح أبو المعالي في آخر قوليه وكما رجحه أبو حامد في آخر أقواله قال في تفسيره فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح هو المراد أبداً لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون ترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل(8/259)
على تأويل وذلك الترجيح لا يكون إلا بالدلالة اللفظية وأنها ظنية كما بينا لاسيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر ومثل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال قال فلهذا التحقيق ذهبنا إلى أن بعد إقامة الدلالة العقلية على أن حمل اللفظ على ظاهره محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل قال فهذا منتهى ما جعلنا في هذا الباب قلت وسبب هذه الحيرة والتوقف أن كلا القولين اللذين حكاهما عن المتكلمين والذي حكاه عن السلف(8/260)
قول باطل والقول الذي حكاه عن السلف ليس قولهم ولا قول أحد منهم ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين كما سيأتي الكلام عليه وأما هنا فإنما ذكر النزاع في جواز اشتمال القرآن على ما لا يمكن علمه وقد بينا أن هذا يراد به اشتماله على لفظ لا يمكن أحداً معرفة معناه بل يكون كاللفظ العجمي عند العرب والصواب أن هذا لا يجوز ولا يعرف عن أحد من السلف تجويز هذا وإنما قال كثير منهم إن الوقف على قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] ولكن لم يريدوا هذا المعنى كما سنذكره إن شاء الله تعالى ويراد به أنه لا يمكن بعض الناس فهمه وهذا موجود فما كل أحد يمكنه العلم بكل ما يمكن غيره العلم به لا من معاني القرآن ولا من الحديث ولا من الفقه ولا من العربية ولا الطب ولا الحساب ولا سائر علوم بني آدم ويراد به أن لبعضه تأويلاً يؤول إليه لا يعرف الحقيقة ذلك التأويل إلا الله عز وجل والصواب أنه كذلك ولم ينازع أحد من السلف في مثل ذلك أيضاً كما سنبينه في لفظ التأويل(8/261)
وإذا كان كذلك فما ذكره من الوجوه تدل على المعنى الأول وأنه لابد لكل ما أنزل الله تعالى من معنى يمكن فهمه ولكن أصحاب التأويلات الفاسدة والتفسيرات المحرفة يدّعون أن ذلك المعنى هو معنى الآية وهم في ذلك مخطئون وإذا كان كذلك فالجواب عما ذكره من حجتين من حجج من جوز ذلاك أن يقال أما قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] فهذه الآية فيها قراءتان وقولان مشهوران ونحن نسلم قراءة من قرأ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] لكن من أين لهم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو المعنى الذي عنى به المتكلم وهو مدلول اللفظ الذي قصد المخاطِب إفهام المخاطَب إياه وهو سبحانه وتعالى لم يقل وما يعلم معناه إلا الله ولا قال وما يعلم تفسيره إلا الله ولا قال وما يعلم مدلوله ومفهومه إلا الله ولا ما دل عليه إلا الله بل قال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] ولفظ التأويل له في القرآن معنى وفي عرف كثير من السلف وأهل(8/262)
التفسير معنى وفي اصطلاح كثير من المتأخرين له معنى وبسبب تعدد الاصطلاحات والأوضاع فيه حصل اشتراكٌ غلط بسببه كثير من الناس في فهم القرآن وغيره وهذه المعاني الثلاثة الموجودة في كلام الناس وقد يذكر بعضهم فيها معنيين ومنهم من يذكر الثلاثة مفرقة بل كثير من أهل التفسير يذكرون في أول تفسيرهم المعنيين ثم يذكرون المعنى الثالث في موضع آخر كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره(8/263)
فقال فصل اختلف العلماء هل التفسير والتأويل بمعنى أم يختلفان فذهب قوم يميلون إلى العربية أنهما بمعنى قال(8/264)
وهذا قول جمهور المفسرين من المتقدمين وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما فقالوا التفسير إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التجلي والتأويل نقل الكلام عن وضعه إلى ما لا يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ فهو مأخوذ من قولك آل الشيء إلى كذا أي صار إليه ثم قال في آية آل عمران قال وفي التأويل وجهان أحدهما أنه التفسير والثاني أنه العاقبة المنتظرة والراسخ الثابت فهل يعلم الراسخون تأويله أم لا فيه قولان أحدهما أنهم لا يعلمونه وأنهم آمنوا به وقد روى طاوس عن ابن عباس أنه قرأ ويقول الراسخون في العلم آمنا به وإلى(8/265)
هذا المعنى ذهب ابن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس وعروة بن الزبير وقتادة وعمر بن عبد العزيز(8/266)
والفراء وأبو عبيد وثعلب وابن الأنباري والجمهور قال ابن الأنباري في قراءة عبد الله إن تأويله إلا عند الله وفي قراءة أبيّ وابن عباس ويقول الراسخون قال وقد أنزل الله في كتابه أشياء استأثر بعلمها كقوله تعالى قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي [الأعراف 187] وقوله تعالى(8/267)
وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) [الفرقان 38] فنزل الله المجمل ليؤمن به المؤمن فيسعد به ويكفر به الكافر ليشقى قال الثاني أنهم يعلمون فهم داخلون في الاستثناء وقد روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أنا ممن يعلم تأويله وهذا قول مجاهد والربيع واختاره ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي(8/268)
قلت هذان القولان مرتبان على القولين في معنى التفسير فمن قال تأويله هو تفسيره فالراسخون يعلمون تفسيره ومن قال تأويله عاقبته المنتظرة فهذا لا يعلمه إلا الله ولم يذكر أبو الفرج في الآية القول الذي ذكره في أول كتابه وهو أن التأويل نقل الكلام عن موضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ قد أحسن حيث لم يذكر هذا المعنى في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فإن أحداً من السلف لم يذكر هذا المعنى في هذه الآية وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين ولكن السلف لهم قراءتان وقولان منهم من قال التأويل لا يعلمه إلا الله وهؤلاء لم يريدوا بذلك تفسيره بل فسروا القرآن كله كابن الأنباري والفراء وغيرهما وتكلموا على مشكله بل أرادوا ما استأثر الله بعلمه بما يؤول إليه والعلماء يعلمون تأويله وهو التفسير ولا منافاة بين القراءتين والقولين ولم يقل أحد من السلف إن المتشابه كله مصروف عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره وان ذلك المصروف إليه لا يعلمه إلا الله بل هذا باطل من وجوه كثيرة كما بسط في موضعه(8/269)
وكذلك كثير من المفسرين غير ابن الجوزي يذكرون في أول كتبهم الفرق بين التأويل والتفسير ثم يذكرون في الآية التأويل بمعنى لا يعلمه إلا الله كما ذكر ذلك الثعلبي والبغوي وغيرهما قالوا واللفظ للبغوي قال قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك في حق من قال من قبل نفسه شيئاً من غير علم فأما التأويل وهو صرف الآية إلى معنى محتمل موافق لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب من طريق الاستنباط فقد رخص فيه لأهل العلم وأما التفسير وهو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها(8/270)
فلا يجوز إلا بالسماع بعد ثبوته من طريق النقل واصل التفسير من التفسرة وهي الدليل من الماء الذي ينظر فيه الطبيب فيكشف عن علة المريض كذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصتها واشتقاق التأويل من الأول وهو الرجوع يقال أولته أي صرفته فانصرف وذكر من طريق إسحاق بن راهوية حدثنا جرير بن عبد الحميد(8/271)
عن المغيرة عن واصل بن حبان عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع(8/272)
وروي لكل حرف حد ولكل حد مطلع قال واختلفوا في تأويله قيل الظهر لفظ القرآن والبطن تأويله وقيل الظهر ما حدث عن أقوام أنهم(8/274)
عصوا فعوقبوا فهو في الظاهر خبر وفي الباطن عظة وتحذير أن يفعل أحد مثل ما فعلوا فيحل به ما حل بهم وقيل معنى الظهر والبطن التلاوة والفهم يقول لكل آية ظاهر وهو أن يقرأها كما أنزلت قال الله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) [المزمل 4] وباطن وهو التدبر والتفكر قال الله تعالى كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص 29] ثم التلاوة تكون بالعلم والحفظ والدرس والفهم يكون بصدق النية وتعظيم الحرمة وطيب الطعمة وقوله صلى الله عليه وسلم لكل حرف حد أراد حدت في التلاوة والتفسير لا يجاوز ففي التلاوة لا يجاوز المصحف(8/275)
وفي التفسير لا يجاوز المسموع وقوله صلى الله عليه وسلم لكل حد مطلع أي مصعد يصعد إليه من معرفة علمه ويقال المطلع الفهم وقد يفتح الله على المتدبر والمتفكر في التأويل والمعاني ما لا يفتحه على غيره وفوق كل ذي علم عليم فقد جعل هؤلاء الفرق بين التفسير والتأويل أن التفسير يُعْلَمُ بالنقل والسماع والتأويل ما يفهم من الآية بالاستنباط منها بحيث يكون ذلك المعنى موافقاً لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب والسنة وما كان كذلك يجب أن يكون كظاهرها وهذا قول رابع في معنى التأويل وفي قول الله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] قالوا واللفظ للبغوي وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ تفسيره وعلمه دليله سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) [الكهف 78] وقيل ابتغاء عاقبته وطلب أخذ اجل هذه(8/276)
الأمة من حساب الجمل دليل قوله تعالى ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبته قلت هذان القولان هما القولان اللذان ذكرهما ابن الجوزي فالتأويل بمعنى صرف الآية إلى خلاف ظاهرها لم يذكر أحد من هؤلاء المفسرين أنه مراد من قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وهو كما قالوا لم ينقل عن أحد من السلف وإنما فهمه بعض المتأخرين لأنه كان في اصطلاحهم لفظ التأويل يراد به هذا فظنوا أن هذا هو التأويل في لغة القرآن وهؤلاء يلزمهم أن لا يكون شيء من المتشابه أريد به ما هو(8/277)
نص أو ظاهر فيه بل كله أريد به خلاف مادل عليه لفظه وهذا القول كما لم يذكره هؤلاء المفسرون ولا جمهور المفسرين فما رأيته منقولاً عن أحد من السلف الذين فسروا الآية بما نقل عن السلف لم يذكر هذا القول لأنه غير مأثور عنهم ولا هو موافق للغة القرآن ولا للغة العرب مطلقا ولا هو صحيح من جهة المعنى كما قد بسط في موضعه وأما ما ذكروه من أن التفسير مأخوذ من التفسرة وهو الماء الذي ينظر فيه الطبيب ليستدل به فمثل هذا قد يقوله بعض الناس يجعلون اللفظ المشهور من لفظ أخفى منه وهذا إذا أريد به التناسب فهو قريب وأما إذا أريد به أن ذلك هو الأصل لهذا فهو غلط بل الأمر بالعكس فإن لفظ الفسر والتفسير مشهور من كلامهم وهو البيان والإيضاح قال أهل اللغة واللفظ للجوهري الفسر البيان وقد فسرت الشيء أفسره بالكسر فسرا والتفسير مثله واستفسرته كذا أي سألته أن يفسره لي قال والفسر نظر الطبيب إلى الماء وكذلك التفسرة قال وأظنه(8/278)
مولداً قلت وهذا اللفظ الذي جاء في القرآن في قوله تعالى وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) [الفرقان 33] قالوا أحسن بيانا وتفصيلا والتفسير البيان والكشف وهو تفعيل من الفسر وهو كشف ما غطي قوله تعالى وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) [الفرقان 33] فإن المطلوب من الكلام شيئان أن يكون حقًّا لا باطلاً فإن الباطل يمقت وإن زخرف وأن يكون الكلام مبرهناً مبيناً قد قام دليله وهو التفسير الذي يوضحه تصوراً وتصديقاً فبيّن المراد بالكلام وبين الدليل على صحته حتى تبين أنه حق ولا يحسن أن يقال هنا وأحسن تأويلا لأن هذا دل عليه قوله تعالى بالحق والتأويل يتعلق بالمعنى المدلول عليه وأما التفسير فإنه يتعلق بما يدل على المراد والذين نظروا في الاشتقاق الأوسط قالوا ومنه السفْر والأسفار وأسْفَرتِ المرأةُ عن وجهها وأسفروا بالفجر والسفر أيضا بياض النهار والسفرة الكتبة والسافر الكاتب والسِّفْر الكتاب لأنه يبين ويوضح ما فيه من الكلام ويدل عليه ومنه قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) [عبس 38-39] قالوا نيرة بادٍ ضوؤها وسرورها يعلو وَوُجُوهٌ(8/279)
يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) [عبس 40] قيل غبار وقيل سواد قيل هو من العبوس والهم كما ترى على وجه المهموم والميت والمريض شبه الغبار والقترة قيل هو السواد قال الزجاج يعلوها سواد كالدخان وقيل القترة هي غبارٌ والغبرة الأولى هي العبوس وهذا قول أبي عبيدة قال القترة هي الغبار ومنه قوله تعالى تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) [عبس 41] ومنه قترة الجيش وعلى قول الزجاج وغيره أنه مأخوذ من الغبار وهو الدخان والقتار ريح الشواء وقد قتر اللحم إذا ارتفع قَتاره والقتار أيضا دخان العود وقترة الجيش شبيهة بهذا وهذا أصحُّ فإن القترة أبلغ من الغبرة قال تعالى وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ [يونس 26] قال الزجاج القترة الغبرة التي معها سواد وقال أبو عبيدة هو الغبار(8/280)
والأول قول المفسرين فعن ابن عباس سواد الوجوه من الكآبة وعن عطاء دخان جهنم وعن مجاهد والمعنى الثاني للتأويل هو الذي جاء به القرآن في غير موضع كقوله تعالى وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف 52-53] فهذا تأويل منتظر يجيء وله وقت مستقبل لم يجئ بعد ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه قوله تعالى أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام 65] فقال إنها كائنة ولم يأت(8/281)
تأويلها بعد ورواه غير واحد وهو في جزء ابن عرفة المشهور رواه عنه ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا(8/282)
إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ(8/283)
أَرْجُلِكُمْ [الأنعام 65] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنها كائنة ولم تأت بعد وعن العوفي عن ابن عباس تأويله تصديق ما وعدوا به في القرآن وعن السدي تأويله عواقبه مثل وقعة بدر وما وعد فيه من موعد وقال الربيع بن أنس لا يزال يجيء يوم الحساب(8/284)
وقال قتادة هل ينظرون إلا تأويله أي عاقبته وعنه أيضاً تأويله ثوابه وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه عن أصبغ ابن الفرج يوم يأتي تأويله قال تحقيقه وقرأ قوله تعالى هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف 100] قال هذا تحقيقها وقرأ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7](8/285)
وقال معاوية بن قرة تأويله الجزاء في الآخرة رواه ابن أبي حاتم وغيره ومنه قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 38-39] فلا عرفوا الخبر ولا المخبر به وإحاطتهم بعلمه هو معرفة معناه وتأويله هو ما أخبر بوقوعه من الوعد والوعيد في الدنيا والآخرة هذا أصح القولين وقيل لمَّا يأتهم علم تأويله قال أبو الفرج بن الجوزي في قوله تعالى وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 39] قولان أحدهما تصديق ما وعدوا به من الوعيد والثاني لم يكن معهم علم بتأويله قاله(8/286)
الزجاج قلت وكذلك قال طائفة منهم البغوي وهذا لفظه قال تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] يعني القرآن كذبوا به ولم يحيطوا بعلمه وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي عاقبة ما وعدهم الله تعالى أنه يؤول إليه أمرهم من العقوبة يريد أنهم لم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم قلت الصواب هو القول الأول وهو أنه لم يأتهم نفس تأويله أي لم يأت بعد تأويله الذي أخبر به فيه لم يُرِد أنهم لم يعلموا تأويله فإن هذا المعنى هو الذي نفاه بما لم يحيطوا بعلمه ويدل على أنه قال وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ وقال هناك لم يحيطوا ولمَّا يُنْفَى بها ما ينتظر وقوعه ويقرب وقوعه فدل على أن تأويله سيأتيهم كقوله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 1] ولهذا قال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) [يونس 39] لأن عاقبة هؤلاء إذا أتاهم تأويله مثل عاقبة أولئك ومنه قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ(8/287)
[فصلت 53] وقوله تعالى بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] أي لم يحيطوا بعلم القرآن أي بما فيه من العلم ولا بالعالم وقيل ولم يحيطوا بعلم التكذيب به لأنهم كانوا في شك وهو ضعيف وقال تعالى في موضع أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا [النمل 84] أي لم يحط علمكم بها فإنما يجعل العلم محيطاً بالمعلوم وتارة يجعل العالم محيطاً بالعلم كقوله تعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة 255] والعلم يضاف إلى العالم تارة وإلى المعلوم أخرى وهذا يؤيد أن قوله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] أي لم يحيطوا بمعرفته فعلمهم لم يحط به والعلم الذي فيه هو من ذلك فلم يحيطوا بشيء من هذا العلم وهذه الآية توجب أن الإنسان لا يكذب إلا بخبر يعلم ويعرف أنه كذب والخبر المجهول يسكت عنه كقولهِ تعالى إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) [الحجرات 6] فلا يكذب به ولا يقفوه ويتبعه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما حدثنا أهل الكتاب(8/288)
وقد قال تعالى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) [النساء 59] وقال يعقوب ليوسف وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف 6] وقال الفَتَيَان ليوسف نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) [يوسف 36] قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [يوسف 37] وقال الملأ للملك أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) [يوسف 44] وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) [يوسف 45] وقال يوسف يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف 100] إلى قوله رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف 101](8/290)
فلفظ التأويل في جميع موارده ما يؤول إليه الشيء وهو عاقبته وتأويل الكلام ما يؤول إليه والكلام إما أمر وإما نهي وإما خبر فتأويل الخبر هو نفيس الشيء المخبر به وتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به والإنسان قد يعلم تفسير الكلام ومعناه ولا يعلم تأويله فإن التأويل يفتقر إلى معرفة ماهيته الموجودة في الخارج والتمييز بينها وبين غيرها وليس كمن فَهِمَ الكلامَ وتفسيرَه عَلِمَ ذلك كالذي يعرف أسماء أمكنة الحج وأفعاله وقد قرأ القرآن والحديث وكلام العلماء في ذلك لكنه لم يعرف عين البيت وعين الصفا والمروة وعين عرفة والمشعر الحرام ونحو ذلك مما لا يعرفه الإنسان إلا بالمشاهدة ولكن قد يعرف بالعلم ولهذا قال أبو عبيدة لما ذكر تنازع الفقهاء وبعض أهل اللغة في اشتمال الصماء قال والفقهاء أعلم بالتأويل(8/291)
وهذا هو التفسير الذي يعلمه العلماء وهو أخص من التفسير الذي تعرفه العرب من كلامها وذلك أن أهل العلم بتأويل الأمر والنهي والحلال والحرام مثل الذي يعرف عين المأمور به والمنهي عنه والمحرم ولهذا يفتون ويحكمون في الأمور المعينة مثل الذي يعرف أن هذه الجهة جهة الكعبة وأن هذا اللباس مما يجوز أو لا يجوز لبسه وأن هذا المكان هو الميقات الذي يحرم منه كما يعرف الطبيب أعيان الأمراض والأدوية وبمنزلة الأرض المحدودة والشخص المسمى ونحوهما فالشهود قد يشهدون على قول المقر وعلى شاهد آخر وهم إنما يشهدون بما يعلمون ولكن لا يعرفون عين المسمى الموصوف والذين يعرفون مسميات تلك الحدود يعرفون نفس الأرض المحدودة ونفس الشخص الذي اسمه فلان بن فلان والشاهد إذا عاين المشهود عليه وشخصه فهذا بمنزلة التأويل بخلاف ما إذا شهد على مسمى موصوف ولم يعينه فإنه وإن كان كلامه مفهوماً لكن لم يدل على العين ويجوز أن يسمي غير المشهود عليه بذلك الاسم ولهذا أكثر الناس يعرف من تفسير القرآن ما يعرف ويعرف معنى الإيلاء والظهار والمتعة والخلع ونحو ذلك بل ويعرف أقوال العلماء فيها ولا يقدم على التعيين خوف الغلط(8/292)
بالمعرفة بمطابقة ما في الخارج كذلك الكلام هو معرفة بالتأويل وهو أخص من التفسير وكثير من الفقهاء يعرف تأويل الآية والحديث غير المراد وإن لم يمكنه بيان دلالة اللفظ ولا يعرف عين المراد ومثل هذا موجود في الطب وغيره من العلوم وإذا تبين هذا فالقرآن وكل كلام إما خبر وإما إنشاء كالطلب فما أخبر به فتأويله نفس المخبر به والله تعالى قد أخبر عن نفسه بما ذكر من أسمائه وصفاته فتأويل ذلك هو الرب نفسه تعالى وتقدس بصفاته وهو سبحانه لا يعلم ما هو إلا هو لهذا كان السلف كربيعة ومالك وابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهم يذكرون أنه مصروف(8/293)
معاني الأسماء والصفات وإن لم يعلم كيفيته كقول ربيعة ومالك الاستواء معلوم والكيف مجهول وفي كلام بعضهم يا من لا يعلم كيف هو إلا هو ونحو ذلك وهذا مذهب السلف والجمهور أن للرب سبحانه وتعالى حقيقة لا يعلمها البشر وفد يسمونها ماهية ومائية(8/294)
وكيفية ولهذا قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ولا يتفكرون في ماهية ذاته وقال الشيخ أبو علي بن أبي موسى والشيخ أبو الفرج الشيرازي المقدسي وغيرهما لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال وطائفة من المتكلمين يدعون أنهم عرفوه حق المعرفة وليس له حقيقة وراء ما عرفوه كما يقول ذلك كثير من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم وهؤلاء يقولون ليس له حقيقة ولا ماهية ولا كيفية وراء ما عرفوه وهذا قد بسط الكلام عليه في مواضع وذكر النزاع بين ضرار بن عمرو وغيره وما قال(8/295)
في ذلك القاضي أبو بكر وغيره والمقصود هنا معرفة مسمى التأويل في القرآن واللغة التي نزل بها القرآن وإذا عرف ذلك فإذا قيل التأويل لا يعلمه إلا الله بمعنى أن ما وعد به من الثواب والعقاب لا يعلم قدره ولا صفته إلا هو ولا يعلم وقته إلا هو فهذا حق قال تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 17] وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر(8/296)
وإذا قال عن صفات الرب كالاستواء وغيره كما قال ربيعة ومالك وغيرهما إن الاستواء معلوم والكيف مجهول لنا غير مجهول له وهو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله بخلاف معنى الاستواء فإن هذا معلوم وهو من تفسير اللفظ والسلف تكلموا في معنى الاستواء الذي قال ربيعة ومالك وغيرهما أنه معلوم وقد ذكرت ألفاظهم في غير هذا الموضع وقد قال بعضهم مذهب السلف أو إجماعهم منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية كما ذكر أبو الفرج الجوزي في تفسيره فقال قال الخليل بن(8/297)
أحمد العرش السرير وكل سرير للملك يسمى عرشاً قال واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام قال أمية بن أبي الصلت مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق النا س وسوَّى فوق السماء سريرا شرجعاً ما يناله بصر العيـ ـن يرى دونه الملائك صورا(8/298)
وقال كعب إن السموات في العرش كقنديل معلق بين السماء والأرض قال وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية وقد شذّ قوم فقالوا العرش بمعنى المُلْك وهذا عدول عن الحقيقة إلى التجوز مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود 7] أتراه كان الملك على الماء وقال بعضهم استوى بمعنى استولى واستدل بقول الشاعر قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق(8/299)
قال وهذا منكر عند أهل اللغة قال ابن الأعرابي لا نعلم استوى بمعنى استولى ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية قال وإنما يقول استولى فلان على كذا إذا كان بعيداً منه غير متمكن منه ثم تمكن والله عز وجل لم يزل مستوليا على الأشياء وهذا البيت لا يعرف قائله كذا قال(8/300)
ابن فارس اللغوي ولو صح فلا حجة فيه لما بينا مِن استيلاء من لم يكن مستوليا فنعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة وقائل هذا القول إن إجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية إن أراد به أنهم لا ينفون ما دلت عليه وما ذكر فيها بتأويلات النفاة مثل قولهم العرش والملك أو استوى بمعنى استولى ونحو ذلك فهم ينكرونه فهذا صحيح وإن أراد أن السلف لم يكونوا يعلمون معنى الاستواء ولا فسروه فهذا باطل خلاف المنقول المتواتر عنهم مثل قول ربيعة ومالك لما قيل لهم الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)(8/301)
[طه 5] كيف استوى فقال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة وذكر البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد لما ذكر الاستواء قال أبو العالية استوى إلى السماء ارتفع فسوى خلقهن وقال مجاهد استوى على العرش علا على العرش وهذا مما رواه أهل التفسير فروى ابن أبي حاتم وغيره بالإسناد المعروف عن أبي العالية في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة 29] قال ارتفع قال(8/302)
وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله وفي قوله تعالى فَسَوَّاهُنَّ [البقرة 29] قال سوى خلقهن وأعاد ذلك في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وروي عن قتادة أنه قال استوى على العرش في اليوم السابع قال وروي عن محمد بن إسحاق مثل ذلك قلت وكذلك رواه الشافعي في مسنده في فضل يوم(8/303)
الجمعة أنه اليوم الذي استوى الله فيه على العرش وقال البغوي في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة 29] قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف ثم ارتفع إلى السماء وقال البغوي أيضاً في قوله تعالى
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] قال الكلبي ومقاتل استقر وقال أبو عبيدة صعد(8/304)
وذكر غيره عن الخليل بن أحمد مثل قول أبي عبيدة أنه بمعنى صعد وارتفع وذكر شاهده من كلام العرب وذكروا عن ابن عباس أنه قال استوى استقر وكذلك قال ابن قتيبة وغيره وقد زعم بعضهم أن معنى قولهم الاستواء معلوم أن مجيء لفظ الاستواء في القرآن معلوم وهذا باطل فإن كونه في القرآن أمر ظاهر يعرفه جميع الناس لا يسأل عنه ولكن السائل لما قال كيف استوى سأل عن الكيفية فبينوا له أن الكيفية لا نعلمها نحن ولكن نعلم معنى الاستواء فدل على ثبوت كيفية في نفس الأمر غير معلومة لنا وكذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما ولو قدّر أن الكيفية منتفية فلا تنُفى الكيفية عن معدوم فلو لم يكن أن ثمّ استواء ثابت في نفس الأمر لم يجز نفي الكيفية عنه ولو كان المراد الاستيلاء ونحوه لم يحتج أن يقال في ذلك والكيف مجهول أو معلوم وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا بيان لفظ التأويل وأن معناه في القرآن وكلام من يتكلم بلغة القرآن غير معناه عند الذين اصطلحوا على(8/305)
أن جعلوه اسما للمعنى المرجوح في اللفظ ولم يجعلوا معناه المنصوص الظاهر داخلاً في مسمى التأويل فقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ هو تأويل ما أخبر به هذا التأويل لا يخالف ظاهر اللفظ ولا نصه بل تأويل مطابق لظاهر اللفظ الذي أخبر الله تعالى به فخبر الله عز وجل عما وعد به وأوعد به دل ظاهره على معنى وتأويل الكلام ذلك المعنى الموجود في الخارج وإذا قيل الراسخون في العلم يعلمون تأويله فمعناه أنهم يفهمون ما أخبر به عن التأويل ويتصورون معنى الكلام وهو معرفة تفسيره فهم يفهمون الخبر عن التأويل ويعلمون حقيقة التأويل وإن لم يعلموا كيفيته وكميته ووقته وقد يعلمون بعض ذلك دون بعض كما تعلم الملائكة من حيث الجملة ثم نقول وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر 31] فهو معلوم من وجه دون وجه فإذا قيل يعلمون التأويل فهم يعلمون ما دلهم عليه الخطاب وما أفهمهم إياه كما قال مالك الاستواء معلوم وأما ما وراء ذلك فهو من التأويل الذي لا يعلمونه كمثل كيفية الاستواء التي قال فيها والكيف مجهول ومما يبين معنى التأويل في كلام الصحابة الذين يتكلمون(8/306)
بلغة القرآن حديث ابن مسعود رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة 105] قال كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس حتى ثار كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر فقال آخر إلى جنبه عليك نفسك فإن الله تعالى(8/307)
يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة 105] قال فسمعها ابن مسعود فقال مه لم يحن تأويل هذه الآية بعد إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه ما وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من أمر الساعة ومنه آي يقع تأويلهن عند الحساب على ما ذكر من أمر الحساب والجنة والنار فما رأيت قلوبكم واحدة وأهواءكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية وروي من حديث عبد الله بن مغفل عن(8/308)
مكحول أن رجلاً سأله عن قول الله تعالى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال إن تأويل هذه الآية لم يجئ بعد إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ فعليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت وعن كعب قال إذا هديت فأدى ذلك للغضب فحينئذ تأويل هذه الآية وهذه الآية من آيات الأمر والنهي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم(8/309)
يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فقوله تعالى لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة 105] فمن الاهتداء القيام بما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا قال الصدّيق أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها وإنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده(8/310)
فالصديق أنكر على من ظن أنها تسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن ذلك واجب بحسب الاستطاعة قال أبو عبيد خاف الصديق رضي الله عنه أن يتأول الناس الآية على غير تأويلها فتدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأعلمهم أنها ليست كذلك وابن مسعود وأولئك بينوا أن في زمانهم يمكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان لاجتماع القلوب ووجود الأعوان على ذلك وأنه عند التفرق والاختلاف وعجز الإنسان عن الإنكار باليد واللسان والمقصود أنهم سموا نفس المراد بالآية تأويلاً لها بل الإمساك عما يعجز عنه من الإنكار فإنه من تأويل قوله صلى الله عليه وسلم عليك نفسك ولا يضرك من ضل إذا اهتديت وأما تفسيرها وفهم معناها فقد كان موجوداً في زمانهم وهذا التأويل لا يعجز(8/311)
عنه أحد ولا يسقط عن أحد ويتبعه الإنكار بالقلب وهو أضعف الإيمان بخلاف ذلك وما قاله ابن مسعود قد جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الخشني قال أما والله لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنياً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمراً لابد منه فعليك نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أيام الصبر فمن صبر فيهن فهو كقبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وروي خمسين منكم أي مثل ذلك العمل إذا عمل به في زمان(8/312)
الصحابة لأن العمال كثيرة وكان متيسراً فإذا عمل به في ذلك الزمان ضوعف أجر عمله(8/313)
وأما مجموع عمل السابقين فلا يقدر أحد على فعله كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو أنفق لأحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه وإذا عرف معنى لفظ التأويل ظهر فساد احتجاج هؤلاء بقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] فإن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ليس هو أن لا يفهم أحد شيئاً من اللفظ بل يفهمونه وإن كان تأويله لا يعلمه إلا الله وعامة السلف الذين كانوا يَفْصِلون الآية ويقفون عند قوله تعالى إِلَّا اللَّهُ فسروا التأويل بغير ما يفهم من لفظ(8/314)
الآية ومنهم غير واحد يقول إنهم يعلمون تأويله بمعنى آخر كما تقدم عن مجاهد والضحاك وقال السدي وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ عواقبه يجيء الناسخ منه فينسخ المنسوخ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ قال تحقيقه وعن عباد بن منصور سألت الحسن عن قوله(8/315)
تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] فقال تأويله القضاء به يوم القيامة وقد تقدمت رواية الوالبي عن ابن عباس في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله(8/316)
وعن محمد بن إسحاق مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فيهن حجة الرب تعالى وعصمة العباد ودفع الخصومة والباطل ليس بهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قال لم يفصّل فيهن القول كما فصله في المحكمات يتشابه في عقول الرجال ويتخالها التأويل فابتلاء الله تعالى فيها العباد كابتلائهم في الحلال والحرام وفي رواية عنه قال متشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران 7] أي ما تحرف منه ومتصرف ابتغاء الفتنة إلى اللبس وابتغاء تأويله وما تأولوا وزينوا من الضلالة ليجيء لهم الذي في أيديهم من البدعة ليكون لهم به حجة على من(8/317)
خالفهم للتصريف والتحريف الذي ابتلوا به بمثل الأهواء وزيغ القلوب والتنكيب عن الحق الذي أحدثوا من البدعة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أي ما يعلم ما صرفوا وتأولوا إلا الله الذي يعلم سرائر العباد وأعمالهم وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قال لم يكن معرفتهم إياه أن يفقهوه على الشك ولكنهم خلصت الأعمال منهم ونفذ علمهم أن عرفوا الله بعدله لم يكن ليختلف شيء مما جاء به فردوا المتشابه على المحكم وقالوا كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فكيف يكون فيه اختلاف وإنما جاء يصدق بعضه بعضا وفي الرواية الأخرى قال ثم ردوا تأويل المتشابه(8/318)
على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويلا واحدا فاتسق بقولهم الكتاب وصدّق بعضه بعضاً فنفذت به الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر يقول الله تعالى وَمَا يَذَّكَّرُ أي في مثل هذا إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ فهو في رواية ابن إدريس عنه لما قال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ(8/319)
إِلَّا اللَّهُ فسر التأويل مما تأولوه من الباطل فيه وفي رواية سلمة عنه جعل الراسخين في العلم يعلمون من تأويل المتشابه وأنهم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكم الذي لا تأويل لأحد فيه إلا تأويلاً واحدا فابن إسحاق ذكر مثل قول ابن عباس والضحاك وغيرهم الذين يقولون بالقراءتين يقولون له تأويل لا يعلمه إلا الله وتأويل يعلمه الراسخون وكذلك عامة أهل العربية الذين قالوا وما يعلم تأويله إلا الله كالفراء وأبي عبيد وثعلب وابن(8/320)
الأنباري هم يتكلمون في متشابه القرآن كله وفي تفسير معناه ليس في القرآن آية قالوا لا يعلم أحد تفسيرها ومعناها فيجب أن يكون التأويل الذي اختص الله به عندهم غير ما تكلموا فيه من تفسير الآيات المتشابهة وقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] قد يقال فيه إن المنفي هو عموم السلب لا سلب العموم أي ما يعلم جميع التأويل إلا الله وأما بعضه فيعلمه الراسخون كما قال ابن عباس وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب فقول الجمهور هو القراءة الصحيحة وهو أنه لا يعلم غير الله جميع التأويل كقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر 31] أي مجموعهم وإلا فكثير من الناس يعلم بعض جمود ربنا(8/321)
وبكل حال تفسير معناه ليس داخلاً في التأويل الذي اختص الله به سواء سُمّي تأويلاً أو لم يسم وأما احتجاجهم بالحروف المقطعة فعنه أجوبة أحدها أن هذه ليست كلاماً منظوماً فلا يدخل في مسمى الآيات وعامة الناس أهل مكة والمدينة والبصرة لا يعدون ذلك آية ولكنِ الكوفيون يعدونها آية وبكل حال فهي أسماء حروف يُنْطقُ بها غير معربة مثل ما ينطق بألف با تا وبأسماء العدد واحد اثنان ثلاثة والذي يتبين به المعنى بعد العقد والتركيب بتقدير أن لا يكون لهذه معنى يفهم ولا يلزم أن لا يكون للكلام المؤلف المنظوم الذي هو جملة اسمية أو فعلية معنى يفهم ولكن على هذا التقدير يكون قد أنزلت هذه الحروف بحكم آخر غير الخطاب الجواب الثاني أن السلف قد تكلموا في معانيها وكلامهم في ذلك كثير مشهور عن ابن عباس وغيره وبسطه هنا فتارة يقولون كل حرف يدل على اسم من أسماء الله تعالى(8/322)
وتارة يجعلون كل حرف من لفظ والمجموع جملة كما روى أبو الضحى عن ابن عباس الم إني أنا الله أعلم وتارة يجعلون اسم الله من عدة حروف كقول من قال الر وحم ون هو اسم الرحمن ومنهم من قال تدل على أسمائه وصفاته مثل آلائه ونعمائه ومنهم من قال هي أسماء القرآن(8/323)
ومنهم من قال فواتح يُفْتَتحُ بها القرآن ومنهم من يجعلها تدل على ذلك كله كما رواه الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال هذه الحروف الثلاثة من التسعة والعشرين أحرف دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم وقال عيسى ابن مريم وعجب فقال وأعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به فالألف مفتاح اسم الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله فالألف ستة واللام ثلاثون والميم أربعون(8/324)
وعن مقاتل بن حيان في قوله تعالى وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قال يعني فيما بلغنا الم والمص والمر والر فهؤلاء الأربع المتشابهات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود يتبعون ما تشابه منه ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ قال ابتغاء ما يكون وكم يكون قال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كم يكون إِلَّا اللَّهُ الجواب الثالث أن يقال نحن نسلم أن كثيراً من الناس(8/325)
أو أكثرهم لا يعرفون معنى كثير من القرآن فإذا قيل إن أكثر الناس لا يعرفون معنى حروف الهجاء التي في أوائل السور فهذا صحيح لا نزاع فيه وإن قيل إن أحداً من الناس لا يعرف ذلك وأن الرسول نفسه لم يكن يعرف ذلك فمن أين لهم هذا فهذا النفي لابد به من دليل(8/326)
فصل وأما الحديث الذي احتجوا به وهو قوله صلى الله عليه وسلم إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل العلم بالله فإذا أمكروا لم ينكره إلا أهل الغرة بالله فهذا حجة عليهم إن كان صحيحاً فإن هذا ليس له إسناد تقوم به الحجة بل قد رواه أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه الفاروق بإسناد فيه من(8/327)
لا يعرف وأبو إسماعيل هو وشيخه يحيى بن عمار وغيرهم يحملون ذلك على أحاديث الصفات الدالة على إثبات الصفات(8/328)
لله تعالى وأبو حامد يحمل ذلك على ما يذكره في الكتب المضنون بها ونحو ذلك من أقوال الباطنية الملاحدة لكنه رجع عن ذلك في آخر عمره فهذا الحديث إن لم يكن صحيحاً فلا حجة فيه وإن كان صحيحا بتقدير صحته ففيه أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله فهذا يدل على أن من الناس من يعلم هذا العلم ليس مما استأثر الله به ولكن بعض الناس ينكره فإن كان تأويل المتشابه من هذا كما ادعوه فقد ثبت أن العلماء بالله يعلمون تأويل المتشابه وبطل قولهم وإن لم يكن منه بطلت حجتهم فعللا التقديرين بطل استدلالهم بهذا الحديث ولا ريب أن من العلم ما لا تقبله عقول كثيرة كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله(8/329)
وقد ذكره البخاري في صحيحه وترجمه باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا وذكر حديث معاذ بن جبل لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله ألا أخبر الناس قال إذاً يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً وأما ما ذكره من قياس الأقوال على الأفعال وأن فيها ما هو بعيد(8/330)
لا يعقل معناه فجوابه من وجوه أحدها أن الأعمال المأمور بها ينتفع بها العامل ويحصل بها المقصود وإن لم يعرف حكمها وأما الأقوال التي يخاطب بها الناس فإن لم يكن معرفة معناها لم ينتفع بها الناس الثاني أنه يجوز أمر الناس بأعمال ينتفعون بها وإن لم يعرفوا حكمتها كما يأمر المؤدب والوالد والطبيب وأما مخاطبة الناس بكلام لا سبيل لهم إلى فهمه فهذا لا يفعله أحد من العقلاء وقوله إن الطاعة فيما لم تعرف حكمته أتم ممنوع بل ما عرفت حكمته التي يحبها الله تعالى لأجل تلك الحكمة التي يحبها الله تعالى فهذا أتم لأن الذي ذكروه متوجه فيما إذا كانت الحكمة غرضا دنيويًّا مثل حفظ الأموال(8/331)
والأنفس وقهر العدو ونحو ذلك فهنا قد لا يفعله إلا لذلك الغرض الدنيوي وهذا مذموم ولكن الحكمة المتعلقة بالخالق وأنه يحب الفعل ويرضاه يعرفها أهل العلم والإيمان وأما القدرية المجبرة والنافية فلا يعرفونها كما قد بسط في موضعه ومعلوم أنه إذا صلى وسجد لما في السجود من الخضوع لله والتقرب إليه لم يكن رمي الجمار أفضل من هذا وكذلك إذا تصدق ليحسن إلى الخلق ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يريد منهم جزاء ولا شكورا وأما قوله إن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب فهذا ممنوع ولكن هذا يختلف باختلاف المعاني فإن كان ذلك المعنى مما لا يعظمه القلب سقط وقعه عن القلب وإن كان المعنى مما يعظمه القلب كان تعظيمه للكلام إذا فهم معناه بحسب عظم ذلك المعنى ولهذا كل من كان للقرآن أفهم(8/332)
ولمعانيه أعرف كان أشد تعظيماً له من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني بل كتاب سيبويه في النحو إذا فهمه الإنسان كان لسيبويه في قلبه من الحرمة ما لم يكن قبل ذلك والله تعالى قد أمر العباد بتدبر القرآن والتفكير فيه وتفهمه فكيف يقال إنهم إذا فعلوا ذلك سقط وقعه عن قلوبهم مع أن الأمر بخلاف ذلك وكلما تصور العبد ما في القرآن من الخبر عن الله تعالى وملائكته وأنبيائه وأعدائه وثوابه وعقابه حصل لهم من التعظيم والمحبة والخشية ما لا يعلمه إلا الله قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال 2] أفترى الإيمان يزداد بمجرد لفظ لا يفقه معناه وإذا فقه معناه لا يزداد الإيمان بذلك وقال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت 44] فلو كان الهدى والشفاء يحصل بمجرد اللفظ الذي لا يفقه معناه لحصل به إذا كان أعجميا بطريق الأولى بل الهدى(8/333)
والشفاء إذا فهم معناه أتم وأكمل بلا ريب وقد قال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) [محمد 16] فذم الذين لا يعلمون ما قال ووصف الآخرين بأنهم أوتوا العلم وقد قال تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر 9] وأما قوله إنه إذا لم يقف على المقصود مع معرفته بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتاً إليه أبدا ومتفكرا فيه أبدا يقال هذا صحيح إذا كان يرجو فهمه وكان فهمه ممكنا عنده أما إذا جزم بأن أحداً من الخلق لا يفهمه صار ذلك مأيوسا منه فر يلتفت قلبه إلى ما يطمع فيه ولا يتفكر فيه بل تبقى همته مصروفة إلى لفظ دون معناه واللفظ تابع(8/334)
للمعنى فإذا لم يكن ثم معنى يطلب يبقى مجرد لفظ فأفضى به إلى ما يفسد القلب من التشدق والتفيهق وقسوة القلب وغفلته عن الله قوله ولباب التكليف اشتغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه فلا يبعد أن يقال إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة كبيرة عظيمة له فيقال هذا إنما يكون فيما إذا كان فهمه ممكناً أما إذا جزم العبد بأنه لا سبيل لأحد إلى فهمه فلا يلتفت ذهنه إلى