المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين وإله المرسلين وقيوم السماوات والأرضين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين أنزله لنقرأه تدبرا ونتأمله تبصرا ونسعد به تذكرا ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره ورياحين الحكم من بين رياضه وأزهاره فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته وطريقه الموصلة لسالكها إليه ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب وبابه الأعظم الذي منه الدخول فلا يغلق إذا غلقت الأبواب وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء لا تفنى عجائبه ولا تقلع سحائبه ولا تنقضي آياته ولا تختلف دلالاته كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا زادها هداية وتبصيرا وكلما بجّست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا فهو نور البصائر من عماها وشفاء الصدور من أدوائها وجواها وحياة القلوب ولذة النفوس ورياض القلوب وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح والمنادي بالمساء والصباح يا أهل الفلاح حي على الفلاح نادى منادى الإيمان على رأس الصراط المستقيم (46:31 {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
أسمع والله لو صادف آذانا واعية وبصر لو صادف قلوبا من الفساد(1/3)
خالية لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل
واعجبا لها كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الإغتذاء بكلام رب العالمين ونصوص حديث نبيه المرفوع أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب وخفى عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب؟.
واعجبا! كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها ومقبولها ومردودها وراجحها ومرجوحها وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقى الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان وكلام من أوتي جوامع الكلم واستولى كلامه على الأقصى من البيان.
كلا بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها وحيرت العقول عن طرائق قصدها يربى فيها الصغير ويهرم فيها الكبير.
وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون والنهاية التي تنافس فيها المنافسون وتزاحموا عليها وهيهات أين السّهى من شمس الضحى وأين الثرى من كواكب الجوزاء وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم وأين الأقوال التي أعلا درجاتها أن تكون سائغة الإتباع من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها(1/4)
ويتبصر؟ وأين المذاهب التي إذا مات أربها فهي من جملة الأموات من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض والسماوات؟.
سبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا.
درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها وأفلت كواكبه النيرة من آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها.
خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز وقالوا مالك عندنا من عبور وإن كان ولا بد فعلى سبيل الاجتياز أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان له السكة والخطبة وماله حكم نافذ ولا سلطان المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول وأهل الكتاب والسنة المقدمون لنصوصها على غيرها جهال لديهم منقوصون (2:13 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}.
حرموا والله الوصول بعدولهم عن منهج الوحي وتضييعهم الأصول
ر(1/5)
وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه 39:48 {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه.
فيا شدّة الحسرة عند ما يعاين المبطل سعيه وكده هباءا منثورا ويا عظم المصيبة عند ما يتبين بواراق أمانيه خلبا وآماله كاذبة غرورا فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر؟ وما عذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر؟.
أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالإشارات والشطحات وأنواع الخيال؟.
هيهات والله لقد ظن أكذب الظن ومنته نفسه أبين المحال وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره وتزود التقوى وائتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم.
وبعد فلما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق وبتكميله لغيره في هذين الأمرين كما قال تعالى {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان وقوته العملية بالعمل الصالح وكمل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه فالحق هو الإيمان والعمل ولا يتمان إلا بالصبر عليهما والتواصي بهما كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية ويخلص به من الخسران المبين وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره(1/6)
واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه وصرف العناية إليه والعكوف بالهمة عليه فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد والموصل لهم إلى سبيل الرشاد فالحقيقة والطريقة والأذواق والمواجيد الصحيحة كلها لا تقتبس إلا من مشكاته ولا تستثمر إلا من شجراته.
ونحن بعون الله ننبه على هذا بالكلام على فاتحة الكتاب وأم القرآن وعلى بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه المطالب وما تضمنته من الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال وما تضمنته من منازل السائرين ومقامات العارفين والفرق بين وسائلها وغاياتها ومواهبها وكسبياتها وبيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها ولا يسد مسدها ولذلك لم ينزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها.
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن.
فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها ومدارها عليها وهي "الله والرب الرحمن" وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة ف {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مبنى على الإلهية {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على الربوبية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة والحمد يتضمن الأمور الثلاثة فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته والثناء والمجد كمالان لجده.
وتضمنت إثبات المعاد وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها وتفرد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق وكون حكمه بالعدل وكل هذا تحت قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }.
وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة(1/7)
بين نقطتين وكلما تعوج طال وبعد واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته وإضافته إلى المنعم عليهم ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقا.
و"الصراط" تارة يضاف إلى الله إذ هو الذي شرعه ونصبه كقوله تعالى 6:153 {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} وقوله42:153 {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} وتارة يضاف إلى العباد كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه وهو المنسوب لهم وهم المارون عليه.
الموضع الثامن: من ذكر المنعم عليهم وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال.
فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق أو جاهلا به والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها ألبتة فالعالم بالحق العامل به هو المنعم عليه وهو الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح 91:9 {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه والجاهل بالحق هو الضال والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل فكل منهما ضال مغضوب عليه ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به ومن ههنا كان اليهود أحق به وهو متغلظ في حقهم كقوله تعالى في حقهم 2:90 {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وقال تعالى 5:60 { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} والجاهل بالحق أحق باسم الضلال ومن هنا وصفت النصارى به في قوله تعالى 5:77 {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ،(1/8)
وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} فالأولى: في سياق الخطاب مع اليهود والثانية في سياقه مع النصارى وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون".
ففي ذكر المنعم عليهم وهم من عرف الحق واتبعه والمغضوب عيهم وهم من عرفه واتبع هواه والضالين وهم من جهله ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة.
وأضاف النعمة إليه وحذف فاعل الغضب لوجوه.
منها: أن النعمة هي الخير والفضل والغضب من باب الانتقام والعدل والرحمة تغلب الغضب فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين وأسبقهما وأقواهما وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه وحذف الفاعل في مقابلتهما كقول مؤمني الجن 72:10 {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ومنه قول الخضر في شأن الجدار واليتيمين 18:82 {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} وقال في خرق السفينة 18:79 {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ثم قال بعد ذلك {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وتأمل قوله تعالى 2:187 {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وقوله 5:3 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وقوله 4:23 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ثم قال 4:24 {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}.
وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر فكل الخلق في نعمه وهذا فصل النزاع في مسألة هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟.
فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان ومطلق النعمة تكون للمؤمن والكافر(1/9)
كما قال تعالى 14:34 {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
والنعمة من جنس الإحسان بل هي الإحسان والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر والمؤمن والكافر.
وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم 16:53 {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه} فأضيف إليه ما هو منفرد به وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومجرى للنعمة وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به تعالى بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه فكان في لفظة {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بموافقة أوليائه له من الدلالة على تفرده بالإنعام وأن النعمة المطلقة منه وحده هو المنفرد بها ما ليس في لفظة (المنعم عليهم).
الوجه الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره ورفع قدره ما ليس في حذفه فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه ورفع قدره فقلت هذا الذي أكرمه السلطان وخلع عليه وأعطاه ما تمناه كان أبلغ في الثناء والتعظيم من قولك هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطى.
وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح وهي الهدى ودين الحق ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء فهذا تمام النعمة ولفظ {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يتضمن الأمرين.
وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضا أمرين الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه(1/10)
أحدها: كونه رب العالمين فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما فهذا هضم للربوبية ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به وما قدره حق قدره من نسبه إليه.
الثاني: أخذها من اسم "الله" وهو المألوه المعبود ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.
الموضع الثالث: من اسمه "الرحمن" فإن رحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كما لهم فمن أعطى اسم "الرحمن" حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب أعظم من تضمنه إنزال الغيث وإنبات الكلأ وإخراج الحب فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك(1/11)
الموضع الرابع: من ذكر {يَوْمِ الدِّينِ} فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم فيثيبهم على الخيرات ويعاقبهم على المعاصي والسيئات وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه والحجة إنما قامت برسله وكتبه وبهم استحق الثواب والعقاب وبهم قام سوق يوم الدين وسيق الأبرار إلى النعيم والفجار إلى الجحيم.
الموضع الخامس: من قوله {إِيَّاكَ نَعْبُد} فإن ما يعبد به الرب تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه وعبادته وهي شكره وحبه وخشيته فطرى ومعقول للعقول السليمة لكن طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانهم وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول يستحيل تعطيل العالم عنه كما يستحيل تعطيله عن الصانع فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل ولم يؤمن به ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرا به.
الموضع السادس: من قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام وهو بعد البيان والدلالة ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إليه وتزيينه في القلب وجعله مؤثرا له راضيا به راغبا فيه.
وهما هدايتان مستقلتان لا يحصل الفلاح إلا بهما وهما متضمنتان تعريف مالم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا وإلهامنا له وجعلنا مريدين لإتباعه ظاهرا وباطنا ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.
ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة وبطلان قول من يقول إذا كنا مهتدين فكيف نسأل الهداية فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده(1/12)
أو أكثر منه أو دونه وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر ونحن محتاجون إلى الهداية التامة فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.
وللهداية مرتبة أخرى وهي آخر مراتبها وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة وهو الصرط الموصل إليها فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه هدى هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كشد الركاب ومنهم من يسعى سعيا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يحبوا حبوا ومنهم المخدوش المسلم ومنهم المكردس في النار فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا حذو القذة بالقذة جزاء وفاقا {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر.
الموضع السابع: من معرفة نفس المسئول وهو الصراط المستقيم ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور الاستقامة والإيصال إلى المقصود والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.
فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل(1/13)
فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله وغضب الله عليه.
فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام واقتضاه أكمل اقتضاء في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة مع ذكر الفاعل في أهل السعادة وحذفة في أهل الغضب وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال.
وتأمل المقابلة بين الهداية والنعمة والغضب والضلال فذكر {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} و {الضَّالِّينَ} في مقابلة المهتدين المنعم عليهم وهذا كثير في القرآن يقرن بين الضلال والشقاء وبين الهدى والفلاح فالثاني كقوله 2:4 {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} والأول كقوله تعالى 54:47 {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} وقوله 2:7 {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله 20:123 { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} فهذا الهدى والسعادة ثم قال 20:124 {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} فذكر الضلال والشقاء.
فالهدى والسعادة متلازمان والضلال والشقاء متلازمان.
فصل
وذكر {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مفردا معرفا تعريفين: تعريفا باللام وتعريفا بالإضافة وذلك يفيد تعينه واختصاصه وأنه صراط واحد وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله 6:153 {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فوحد لفظ(1/14)
...
{الصِّرَاطَ} و {سَبِيلِهِ} وجمع {السُّبُل} المخالفة له وقال ابن مسعود: "خط لنا رسول الله خطا وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}" وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب فالطرق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله قال الله تعالى 15:41 {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قال الحسن: "معناه صراط إلي مستقيم" وهذا يحتمل أمرين أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض فقامت أداة (على) مقام (إلى) والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى وهو الأشبه بطريق السلف أي صراط موصل إلي وقال مجاهد الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء وهذا مثل قول الحسن وأبين منه وهو من أصح ما قيل في الآية وقيل (عليّ) فيه للوجوب أي علي بيانه وتعريفه والدلالة عليه والقولان نظير القولين في آية النحل وهي 16:9 {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر أن السبيل القاصد وهو المستقيم المعتدل يرجع إلى الله ويوصل إليه قال طفيل الغنوي:
مضوا سلفا قصد السبيل عليهم ... وصرف المنايا بالرجال تشقلب
أي ممرنا عليهم وإليهم وصولنا وقال الآخر:
فهن المنايا أي واد سلكته ... ها طريقي أو عليّ طريقها
فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة (إلى) التي هي للانتهاء لا أداة (على) التي هي للوجوب ألا ترى أنه لما أراد الوصول قال:(1/15)
88 :22، 23 {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} وقال: 30:23 {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} وقال: 6:108 {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ} وقال: لما أراد الوجوب 88:26 {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} وقال: 75:17 {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وقال: 6:38 {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ونظائر ذلك؟.
قيل: في أداة (على) سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى وهو حق كما قال في حق المؤمنين 2:4 {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} وقال لرسوله: 27:79 {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} والله عز وجل هو الحق وصراطه حق ودينه حق فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى فكان في أداة (على) على هذا المعنى ما ليس في أداة (إلى) فتأمله فإنه سر بديع.
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر (على) في ذلك أيضا وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق وعلى الهدى؟.
قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه فكان في الإتيان بأداة (على) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته.وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة (في) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى 9:45 {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وقوله 6:39 (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَات) وقوله 23:24 {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} وقوله 42:14 {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}.
وتأمل قوله تعالى 34:24 {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٌ} فإن طريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير وطريق الضلال تأخذ سفلا هاوية بسالكها في أسفل سافلين.
وفي قوله تعالى 15:41 { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قول ثالث وهو قول الكسائي: إنه على التهديد والوعيد نظير قوله 89:14 {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} كما يقال: طريقك على وممرك على لمن تريد إعلامه بأنه(1/16)
غير فائت لك ولا معجز والسياق يأبى هذا ولا يناسبه لمن تأمله فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال: 15:39 {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم ولا طريق لي عليهم.
فقرر الله عز وجل ذلك أتم التقرير وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط لأنه صراط علي ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ولا الحوم حول ساحته فإنه محروس محفوظ بالله فلا يصل عدو الله إلى أهله.
فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين القولين الآخرين أيهما أليق بالآيتين وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف؟.
وأما تشبيه الكسائي له بقوله {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فلا يخفى الفرق بينهما سياقا ودلالة فتأمله ولا يقال في التهديد: هذا طريق مستقيم عليّ لمن لا يسلكه وليست سبيل المهدد مستقيمة فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله فلا يستقيم هذا القول ألبتة.
وأما من فسره بالوجوب أي علي بيان استقامته والدلالة عليه فالمعنى صحيح لكن في كونه هو المراد بالآية نظر لأنه حذف في غير موضع الدلالة ولم يؤلف الحذف المذكور ليكون مدلولا عليه إذا حذف بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنه حذف مألوف معروف حتى إنه لا يذكر ألبتة فإذا قلت له درهم على كان الحذف معروفا مألوفا فلو أردت علي نقده أو علي وزنه وحفظه ونحو ذلك وحذفت لم يسغ وهو نظير علي بيانه المقدر في الآية مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق وأجل المعنيين وأكبرهما.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه يقول وهما نظير قوله تعالى 92:12،13 {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} قال: فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى.(1/17)
قلت: وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إلا معنى الوجوب أي علينا بيان الهدى من الضلال ومنهم من لم يذكر في (سورة النحل) إلا هذا المعنى كالبغوي وذكر في (الحجر) الأقوال الثلاثة وذكر الواحدي في بسيطه المعنيين في (سورة النحل) واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث.
فصل
والصراط المستقيم: هو صراط الله وهو يخبر أن الصراط عليه سبحانه كما ذكرنا ويخبر أنه سبحانه على الصراط المستقيم وهذا في موضعين من القرآن في هود والنحل قال في هود 11:56 {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال في النحل 16:76 {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل وهي كل على عابدها يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه فكيف يسوونه في العادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد؟ وهو قادر متكلم غنى وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله فقوله صدق ورشد ونصح وهدى وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة هذا أصح الأقوال في الآية وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره ومن ذكر غيره قدمه على الأقوال ثم حكاها بعده كما فعل البغوي فإنه جزم به وجعله تفسير الآية ثم قال: وقال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم.
قلت: ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط(1/18)
المستقيم فإن دلالته بفعله وقوله وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله فلا يناقض قول من قال إنه سبحانه على الصراط المستقيم.
قال: وقيل: هو رسول الله يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
قلت: وهذا حق لا يناقض القول الأول فالله على الصراط المستقيم ورسوله عليه فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه وعلى هذا يكون المثل مضروبا لإمام الكفار وهاديهم وهو الصنم الذي هو أبكم لا يقدر على هدى ولا خير والإمام الأبرار وهو رسول الله الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.(1/19)
وعلى القول الأول: يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار والقولان متلازمان فبعضهم ذكر هذا وبعضهم ذكر هذا وكلاهما مراد من الآية قال: وقيل كلاهما للمؤمن والكافر يرويه عطية عن ابن عباس وقال عطاء الأبكم أبيّ بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون.
قلت: والآية تحتمله ولا يناقض القولين قبله فإن الله على صراط مستقيم ورسوله وأتباع رسوله وضد ذلك معبود الكفار وهاديهم والكافر التابع والمتبوع والمعبود فيكون بعض السلف ذكر أعلى الأنواع وبعضهم ذكر الهادي وبعضهم ذكر المستجيب القابل وتكون الآية متناولة لذلك كله ولذلك نظائر كثيرة في القرآن.
وأما آية هود: فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة 6:115 {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} وأفعاله كلها مصالح وحكم ورحمة وعدل وخير فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله ألبتة لخروج الشر عن الصراط المستقيم فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله؟ وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله.
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام "لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك" ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله: والشر لا يتقرب به(1/20)
إليك أو لا يصعد إليك فإن المعنى أجل من ذلك وأكبر وأعظم قدرا فإن من أسماؤه كلها حسنى وأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها حكم وأقواله كلها صدق وعدل يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه أو أفعاله أو أقواله فطابق بين هذا المعنى وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله 11:56 {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي هو ربي فلا يسلمني ولا يضيعني وهو ربكم فلا يسلطكم علي ولا يمكنكم مني فإن نواصيكم بيده لا تفعلون شيئا بدون مشيئته فإن ناصية كل دابة بيده لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه فهو المتصرف فيها ومع هذا فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ونفوذ قضائه وقدره فيها على صراط مستقيم لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك ماله الحمد عليه لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا بغير حكمة.
فهكذا تكون المعرفة بالله لا معرفة القدرية المجوسية والقدرية الجبرية نفاة الحكم والمصالح والتعليل والله الموفق سبحانه.
فصل
ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق وأنهم هم الذين {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له وهم الذين أنهم الله عليهم ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم فلا يكترث بمخالفة
ر(1/21)
الناكبين عنه له فإنهم هم الأقلون قدرا وإن كانوا الأكثرين عددا كما قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين" وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.
وقد ضربت لذلك مثلين فليكونا منك على بال.
المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس فألقى عليه كلاما يؤذيه فوقف ورد عليه وتماسكا فربما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول وكمال إدراك الجماعة فإن التفت إليه أطمعه في نفسه وربما فترت عزيمته فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده وخاف فوت الصلاة أو الوقت لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق ما يزيل وحشة التفرد ويحث على السير والتشمير للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت "اللهم اهدني فيمن هديت" أي أدخلني في هذه الزمرة واجعلني رفيقا لهم ومعهم.
والفائدة الثانية: أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية(1/22)
أي قد أنعمت بالهداية على من هديت وكان ذلك نعمة منك فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم فهو توسل إلى الله بإحسانه.
والفائدة الثالثة: كما يقول السائل للكريم: تصدق علي في جملة من تصدقت عليهم وعلمني في جملة من علمته وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك.
فصل
ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب ونيله أشرف المواهب علم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل إليه بعبوديته وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد والترمذي.
أحدهما: حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى" قال الترمذي: حديث صحيح فهذا توسل إلى الله بتوحيده وشهادة الداعي له بالواحدانية وثبوت صفاته المدلول عليها باسم {الصَّمَدُ} وهو كما قال ابن عباس: "العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته" وفي رواية عنه "هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد" وقال أبو وائل: "هو السيد الذي انتهى سؤدده" وقال سعيد بن جبير: "هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله"(1/23)
وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة والتوسل بالإيمان بذلك والشهادة به هو الاسم الأعظم.
والثاني: حديث أنس "أن رسول الله سمع رجلا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنّان بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام ياحي يا قيوم فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم" فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة.
ونظير هذا: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت" فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له ثم سأله المغفرة.(1/24)
فصل في اشتمال الفاتحة على أنواع التوحيد الثلاثة
...
فصل في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
التوحيد نوعان : نوع في العلم والاعتقاد ونوع في الإرادة والقصد ويسمى(1/24)
الأول: التوحيد العلمي والثاني: التوحيد القصدي الإرادي لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة والثاني بالقصد والإرادة وهذا الثاني أيضا نوعان: توحيد في الربوبية وتوحيد في الإلهية فهذه ثلاثة أنواع.
فأما توحيد العلم: فمداره إلى إثبات صفات الكمال وعلى نفي التشبيه والمثال والتنزيه عن العيوب والنقائص وقد دل على هذا شيئان: مجمل ومفصل.
أما المجمل: فإثبات الحمد له سبحانه وأما المفصل فذكر صفة الإلهية والربوبية والرحمة والملك وعلى هذه الأربع مدار الأسماء والصفات.
فأما تضمن الحمد لذلك. فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله مع محبته والرضا عنه والخضوع له فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود ولا من أعرض عن محبته والخضوع له وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها ولهذا كان الحمد لله حمدا لا يحصيه سواه لكمال صفاته وكثرتها ولأجل هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه لما له من صفات الكمال ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تهدي ولا تنفع ولا تضر وهذه صفة إله الجهمية التي عاب بها الأصنام نسبوها إليه تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا فقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجته لأبيه 19:42 {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} فلو كان إله إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له آزر: وأنت إلهك بهذه المثابة فكيف تنكر عليّ؟ لكن كان مع شركه أعرف بالله من الجهمية وكذلك كفار قريش كانوا مع شركهم مقرين بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه وقال تعالى 7:148 {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً(1/25)
جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم واستدلال على بطلان الإلهية بذلك.
فإن قيل: فالله تعالى لا يكلم عباده.
قيل: بلى قد كلمهم فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب منه إليه بلا واسطة كموسى ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي وهم الأنبياء وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته رسله عنه وقالوا لهم هذا كلام الله الذي تكلم به وأمرنا بتبليغه إليكم ومن ههنا قال السلف من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم لأن حقيقتها تبليغ كلامه الذي تكلم به إلى عباده فإذا انتفى كلامه انتفت الرسالة وقال تعالى في سورة طه عن السامري 20:88 {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ، أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} ورجع القول: هو التكلم والتكليم وقال تعالى 16:76 { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فجعل نفي صفة الكلام موجبا لبطلان الإلهية وهذا أمر معلوم بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية: أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها ولا مدبرا ولا ربا بل هو مذموم معيب ناقص ليس له الحمد لا في الأولى ولا في الآخرة وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال ونعوت الجلال التي لأجلها استحق الحمد ولهذا سمى السلف كتبهم التي صنفوها في السنة وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه وكلامه وتكليمه توحيدا لأن نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع وجحد له وإنما توحيده إثبات صفات كماله وتنزيهه عن التشبيه والنقائص فجعل المعطلة جحد الصفات وتعطيل الصانع عنها(1/26)
توحيدا وجعلوا إثباتها لله تشبيها وتجسيما وتركيبا فسموا الباطل باسم الحق ترغييا فيه وزخرفا ينفقونه به وسموا الحق باسم الباطل تنفيرا عنه والناس أكثرهم مع ظاهر السكة ليس لهم نقد النقاد 18:17 {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت ألبتة إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ولا مدح ولا كمال.
وكذلك حمده لنفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه وتعبيد كل شيء له فاتخاذ الولد ينافي ذلك كما قال تعالى: 10:67 {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض}. وحمد نفسه على عدم الشريك المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره فيكون شريكا له فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه لأن الموجود أكمل من المعدوم ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذا كان متضمنا لثبوت كمال كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم لتضمن ذلك كمال قيوميته وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر لكمال علمه وإحاطته وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحدا لكمال عدله وإحسانه وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار لكمال عظمته يرى ولا يدرك كما أنه يعلم ولا يحاط به علما فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال لأن العدم لا يرى فليس في كون الشيء لا يرى كمال ألبتة وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكا لعظمته في نفسه وتعاليه عن إدراك المخلوق له وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان لكمال علمه.
فكل سلب في القرآن حمد الله به نفسه فلمضادته لثبوت ضده ولتضمنه كمال ثبوت ضده.(1/27)
فعلمت أن حقيقة الحمد تابعة لثبوت أوصاف الكمال وأن نفيها نفي لحمده ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده.
فصل
فهذه دلالة على توحيد الأسماء والصفات.
وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها وهي (الله والرب والرحمن والرحيم والملك) فمبنى على أصلين:
أحدهما: أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله فهي مشتقة من الصفات فهي أسماء وهي أوصاف وبذلك كانت حسنى إذ لو كانت ألفاظا لا معانى فيها لم تكن حسنى ولا كانت دالة على مدح ولا كمال ولساغ وقوع أسماء الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان وبالعكس فيقال: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم واللهم أعطني فإنك أنت الضار المانع ونحو ذلك.
ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى 7:170 {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله كقوله تعالى 51:58 {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} فعلم أن (القويّ) من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة وكذلك قوله 35:10 {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} فالعزيز من له العزة فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قويا ولا عزيزا وكذلك قوله 4:166 {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه} 11:14 {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} 2:255 {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِه}.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل(1/28)
الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه (البصير).
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات".
وفي الصحيح حديث الاستخارة "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك" فهو قادر بقدرة.
وقال تعالى لموسى: 7:144 {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} فهو متكلم بكلام.
وهو العظيم الذي له العظمة كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى : العظمة إزاري والكبرياء ردائي" وهو الحكيم الذي له الحكم 40:12 {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة الله أو سمعه أو بصره أو قوته أو عزته أو عظمته انعقدت يمينه وكانت مكفرة لأن هذه صفات كماله التي اشتقت منها أسماؤه.
وأيضا: لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها فلا يقال يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها فإذا انتقى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها.
وأيضا فلو لم تسكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قام به فكانت كلها سواء ولم يكن فرق بين مدلولاتها وهذا مكابرة صريحة وبهت بين فإن من جعل معنى اسم (القدير) هو معنى اسم (السميع، البصير) ومعنى اسم (التواب) هو معنى اسم (المنتقم) ومعنى اسم (المعطي) هو معنى اسم (المانع) فقد كابر العقل واللغة والفطرة.
فنفي معاني أسمائه من أعظم الإلحاد فيها والإلحاد فيها أنواع هذا أحدها(1/29)
الثاني: تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة وقال ابن عباس ومجاهد: "عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا فاشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان" وروي عن ابن عباس {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} "يكذبون عليه" وهذا تفسير بالمعنى.
وحقيقة الإلحاد فيها: العدول بها عن الصواب فيها وإدخال ما ليس من معانيها فيها وإخراج حقائق معانيها عنها هذا حقيقة الإلحاد ومن فعل ذلك فقد كذب على الله ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب أو هو غاية الملحد في أسمائه تعالى فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها وخرج بها عن حقائقها أو بعضها فقد عدل بها عن الصواب والحق وهو حقيقة الإلحاد.
فالإلحاد: إما بجحدها وإنكارها وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات المصنوعات كإلحاد أهل الإتحاد فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها حتى قال زعيمهم: "وهو المسمى بكل اسم ممدوح عقلا وشرعا وعرفا وبكل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا" تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا.
فصل
الأصل الثاني: أن الاسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة فإنه يدل عليه دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن وكذلك على الذات المجردة عن الصفة ويدل على الصفة الأخرى باللزوم فإن اسم (السميع) يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن ويدل على اسم (الحي) وصفة الحياة بالالتزام وكذلك سائر أسمائه وصفاته ولكن يتفاوت الناس(1/30)
في معرفة اللزوم وعدمه ومن ههنا يقع اختلافهم في كثير من الأسماء والصفات والأحكام فإن من علم أن الفعل الاختياري لازم للحياة وأن السمع والبصر لازم للحياة الكاملة وأن سائر الكمال من لوازم الحياة الكاملة أثبت من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ما ينكره من لم يعرف لزوم ذلك ولا عرف حقيقة الحياة ولوازمها وكذلك سائر صفاته.
فإن اسم (العظيم) له لوازم ينكرها من لم يعرف عظمة الله ولوازمها.
وكذلك اسم (العلي) واسم (الحكيم) وسائر أسمائه فإن من لوازم اسم (العلي) العلو المطلق بكل اعتبار فله العلو المطلق من جميع الوجوه: علو القدر وعلو القهر وعلو الذات فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه (العلي).
وكذلك اسمه (الظاهر) من لوازمه: أن لا يكون فوقه شيء كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء" بل هو سبحانه فوق كل شيء فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه (الظاهر) ولا يصح أن يكون (الظاهر) هو من له فوقية القدر فقط كما يقال: الذهب فوق الفضة والجوهر فوق الزجاج لأن هذه الفوقية تتعلق بالظهور بل قد يكون المفوق أظهر من الفائق فيها ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة لمقابلة الاسم (الباطن) وهو الذي ليس دونه شيء كما قابل (الأول) الذي ليس قبله شيء (الآخر) الذي ليس بعده شيء.
وكذلك اسم (الحكيم) من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ووضعه الأشياء في مواضعها وإيقاعها على أحسن الوجوه فإنكار ذلك إنكار لهذا الاسم ولوازمه وكذلك سائر أسمائه الحسنى.(1/31)
فصل
إذا تقرر هذان الأصلان فاسم (الله) دال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا بالدلالات الثلاث فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له مع نفي أضدادها عنه.
وصفات الإلهية: هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال وعن العيوب والنقائص ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم كقوله تعالى 7:180 {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ويقال (الرحمن والرحيم، والقدوس والسلام، والعزيز، والحكيم) من أسماء الله ولا يقال: (الله) من أسماء (الرحمن) ولا من أسماء (العزيز) ونحو ذلك.
فعلم أن اسمه (الله) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها بالإجمال والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم (الله) واسم (الله) دال على كونه مألوها معبودا تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا(1/32)
إليه في الحوائج والنوائب وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته المتضمنين لكمال الملك والحمد وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم ولا فعال لما يريد ولا حكيم في أفعاله.
وصفات الجلال والجمال أخص باسم (الله).
وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم (الرب).
وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم (الرحمن) وكرر إيذانا بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته.
فالرحمن: الذي الرحمة وصفه والرحيم: الراحم لعباده ولهذا يقول تعالى 33:43 {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 9:117 {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ولم يجيء رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين مع ما في اسم (الرحمن) الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به.
ألا ترى أنهم يقولون: غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملىء بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا كقوله تعالى 20:5 { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 26:59 {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى 7:156 {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إن رحمتي تغلب غضبي" وفي لفظ "فهو عنده على العرش".(1/33)
فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ووضعه عنده على العرش وطابق بين ذلك وبين قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله 25:156 {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم.
وصفات العدل والقبض والبسط والخفض والرفع والعطاء والمنع والإعزاز والإذلال والقهر والحكم ونحوها أخص باسم (الملك) وخصه بيوم الدين وهو الجزاء بالعدل لتفرده بالحكم فيه وحده ولأنه اليوم الحق وما قبله كساعة ولأنه الغاية وأيام الدنيا مراحل إليه
فصل
وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة وهي (الله والرب، والرحمن) كيف نشأ عنها الخلق والأمر والثواب والعقاب؟ وكيف جمعت الخلق وفرقتهم؟ فلها الجمع ولها الفرق.
فاسم (الرب) له الجمع الجامع لجميع المخلوقات فهو رب كل شيء وخالقه والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته وكل من في السماوات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره فاجتمعوا بصفة الربوبية وافترقوا بصفة الإلهية فألهه وحده السعداء وأقروا له طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي لا تنبغي العبادة والتوكل والرجاء والخوف والحب والإنابة والإخبات والخشية والتذلل والخضوع إلا له.
وهنا افترق الناس وصاروا فريقين فريقا مشركين في السعير وفريقا موحدين في الجنة.
فالإلهية هي التي فرقتهم كما أن الربوبية هي التي جمعتهم.
فالدين والشرع والأمر والنهي مظهره وقيامه من صفة الإلهية والخلق(1/34)
والإيجاد والتدبير والفعل: من صفة الربوبية والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار من صفة الملك وهو ملك يوم الدين فأمرهم بإلهيته وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى.
وأما الرحمة: فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده فالتأليه منهم له والربوبية منه لهم والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده بها أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبها هداهم وبها أسكنهم دار ثوابه وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم فبينهم وبينه سبب العبودية وبينه وبينهم سبب الرحمة.
واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته ف {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} مطابق لقوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها فوسع كل شيء برحمته وربوبيته مع أن في كونه ربا للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء كما يأتي بيانه إن شاء الله.
فصل
في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها ما يدل على أنه محمود في إلهيته محمود في ربوبيته محمود في رحمانيته محمود في ملكه وأنه إله محمود ورب محمود ورحمان محمود وملك محمود فله بذلك جميع أقسام الكمال كمال من هذا الاسم بمفرده وكمال من الآخر بمفرده وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
مثال ذلك: قوله تعالى {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فالغنى صفة كمال والحمد صفة كمال واقتران غناه بحمده كمال(1/35)
أيضا وعلمه كمال وحكمته كمال واقتران العلم بالحكمة كمال أيضا وقدرته كمال ومعفرته كمال واقتران القدرة بالمغفرة كمال وكذلك العفو بعد القدرة 4:14 {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} واقتران العلم بالحلم 4:11 {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
وحملة العرش أربعة: اثنان يقولان: "سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك" واثنان يقولان: "سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك" فما كل من قدر عفا ولا كل من عفا يعفو عن قدرة ولا كل من علم يكون حليما ولا كل حليم عالم فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة ومن ملك إلى حمد ومن عزة إلى رحمة 26:9 { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ومن ههنا كان قول المسيح عليه السلام 5:121 {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أحسن من أن يقول وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة وهي كمال القدرةوعن حكمة وهي كمال العلم فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني [لا يكون قادرا حكيما عليما بل لا يكون ذلك إلا عجزا] فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة وعلم تام وحكمة تضع بهاالأشياء مواضعها فهذا أحسن من ذكر {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} في هذا الموضع الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها وقد فاتت فإنه لو قال وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم كان في هذا من الاستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها ما ينره عنه منصب المسيح عليه السلام لا سيما والموقف موقف عظمة وجلال وموقف انتقام ممن جعل لله ولدا واتخذه إلها من دونه فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام 14:35و36 { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ولم يقل:(1/36)
فإنك عزيز حكيم لأن المقام استعطاف وتعريض بالدعاء أي إن تغفر لهم وترحمهم بأن توفقهم للرجوع من الشرك إلى التوحيد ومن المعصية إلى الطاعة كما في الحديث "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه واقترن به من فعله وأمره والله الموفق للصواب.
فصل: في مراتب الهداية الخاصة والعامة وهي عشر مراتب.
المرتبة الأولى: مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة بل منه إليه وهذه أعلى مراتبها كما كلم موسى بن عمران صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قال الله تعالى 4:163 {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخصمن مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر (كلم) هو (التكليم) رفعا لما يتوهمه المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام أو إشارة أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز قال الفراء العرب تسمى ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ولكن لا تحققه بالمصدر فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام كالإرادة يقال فلان أراد إرادة يريدون حقيقة الإرادة ويقال أراد الجدار ولا يقال إرادة لأنه مجاز غير حقيقة هذا كلامه وقال تعالى 7:142 { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك} وهذا التكليم غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون وفي هذا التكليم(1/37)
فصل: في مراتب الهداية الخاصة والعامة وهي عشر مراتب.
المرتبة الأولى: مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة بل منه إليه وهذه أعلى مراتبها كما كلم موسى بن عمران صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قال الله تعالى 4:163 {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخصمن مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر (كلم) هو (التكليم) رفعا لما يتوهمه المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام أو إشارة أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز قال الفراء العرب تسمى ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ولكن لا تحققه بالمصدر فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام كالإرادة يقال فلان أراد إرادة يريدون حقيقة الإرادة ويقال أراد الجدار ولا يقال إرادة لأنه مجاز غير حقيقة هذا كلامه وقال تعالى 7:142 {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك} وهذا التكليم غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون وفي هذا التكليم(1/37)
الثاني سأل النظر لا في الأول وفيه أعطى الألواح وكان عن مواعدة من الله له والتكليم الأول لم يكن عن مواعدة وفيه قال الله له 7:143 {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} أي بتكليمي لك بإجماع السلف.
وقد أخبر سبحانه في كتابه أنه ناداه وناجاه فالنداء من بعد والنجاء من قرب تقول العرب: إذا كبرت الحلقة فهو نداء أو نجاء وقال له أبوه آدم في محاجته "أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده؟" وكذلك يقوله له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشفاعة إلى ربه وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السماء السادسة أو السابعة على اختلاف الرواية قال: "وذلك بتفضيله بكلام الله" ولو كان التكليم الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن لهذا التخصيص به في هذه الأحاديث معنى ولا كان يسمى (كليم الرحمن) وقال تعالى 42:51 {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُول} فيوحي بإذنه ما يشاء ففرق بين تكليم الوحي والتكليم بإرسال الرسول والتكليم من وراء حجاب.
فصل
المرتبة الثانية: مرتبة الوحي المختص بالأنبياء قال الله تعالى 4:126 {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه} وقال: 42:51 {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب} الآية فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم وجعله في آية النساء قسيما للتكليم وذلك باعتبارين فإنه قسيم التكليم الخاص الذي هو بلا واسطة وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة.(1/38)
والوحي في اللغة: هو الإعلام السريع الخفي ويقال في فعله: وَحَى وأوحى قال رؤية وَحَى لها القرار فاستقرت وهو أقسام كما سنذكره.
فصل
المرتبة الثالثة: إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري فيوحى إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه.
فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء لا تكون لغيرهم.
ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشرى رجلا يراه عيانا ويخاطبه وقد يراه على صورته التي خلق عليها وقد يدخل فيه الملك ويوحى إليه ما يوحيه ثم يفصم عنه أي يقلع والثلاثة حصلت لنبينا صلى الله عليه وسلم.
فصل
المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث وهذه دون مرتبة الوحي الخاص وتكون دون مرتبة الصديقين كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب".
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول: جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا وعلق وجودهم في هذه الأمة ب (إن) الشرطية مع أنها أفضل الأمم لاحتياج الأمم قبلنا إليهم واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته فلم يحوج الله الأمة بعده إلى محدث ولا ملهم ولا صاحب كشف ولا منام فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها.
والمحدّث: هو الذي يحدث في سره وقلبه بالشيء فيكون كما يحدث به.
قال شيخنا: والصديق أكمل من المحدث لأنه استغنى بكمال صديقيته(1/39)
ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف فإنه قد سلم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول فاستغنى به عما منه.
قال: وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول فإن وافقه قبله وإلا رده فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث.
قال: وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات "حدثني قلبي عن ربي" فصحيح أن قلبه حدثه ولكن عمّن؟ عن شيطانه أو عن ربه؟ فإذا قال: "حدثني قلبي عن ربي" كان مسندا الحديث إلى من لم يعلم أنه حدثه به وذلك كذب قال: "ومحدث الأمة لم يكن يقول ذلك ولا تفوه به يوما من الدهر وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك بل كتب كاتبه يوما هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال لا امحه واكتب هذا ما رأى عمر بن الخطاب فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر والله ورسوله منه برىء" وقال في الكلالة: "أقول فيها برأيى فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان" فهذا قول المحدث بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت ترى الاتحادي والحلولي والإباحي الشطاح والسماعي: مجاهر بالقحة والفرية يقول: "حدثني قلبي عن ربي".
فانظر إلى ما بين القائلين والمرتبتين والقولين والحالين وأعط كل ذي حق حقه ولا تجعل الزغل والخالص شيئا واحدا.(1/40)
فصل
المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام قال الله تعالى 79،78:21 {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فذكر هذين النبيين الكريمين وأثنى عليهما بالعلم والحكم وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة وقال على ابن أبي طالب وقد سئل: "هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس؟" فقال: "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وهو الديات وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر" وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما "والفهم الفهم فيما أدلى إليك" فالفهم نعمة من الله على عبده ونور يقذفه الله في قلبه يعرف به ويدرك مالا يدركه غيره ولا يعرفه فيفهم من النص مالا يفهمه غيره مع استوائهما في حفظه وفهم أصل معناه.
فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية ومنشور الولاية النبوية وفيه تفاوتت مراتب العلماء حتى عد ألف بواحد فانظر إلى فهم ابن عباس وقد سأله عمر ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وما خص به ابن عباس من فهمه منها "أنها نعيُ الله سبحانه نبيه إلى نفسه" وإعلامه بحضور أجله وموافقة عمر له على ذلك وخفائه عن غيرهما من الصحابة وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله لولا الفهم الخاص؟ ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس فيحتاج مع النص إلى غيره ولا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه وأما في حق صاحب الفهم: فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها.(1/41)
فصل
المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه بحيث يصير مشهودا للقلب كشهود العين للمرئيات.
وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا ولا يضله إلا بعد وصوله إليها قال الله تعالى 9:115 { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} فهذا الإضلال عقوبة منه لهم حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا به فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا بعد هذا البيان.
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده والقرآن يصرح بهذا في غير موضع كقوله 61:5 {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} 4:155 {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فالأول: كفر عناد والثاني: كفر طبع وقوله 6:110 {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه موضع عظيم.
وقال تعالى 41:17 {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فهذا هدى بعد البيان والدلالة وهو شرط لا موجب فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده لم يحصل به كمال الاهتداء وهو هدى التوفيق والإلهام.
وهذا البيان نوعان: بيان بالآيات المسموعة المتلوة وبيان بالآيات المشهودة المرئية وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله وصدق ما أخبرت به رسله عنه ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكير في آياته المشهودة(1/42)
ويحضهم على التفكر في هذه وهذه وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم وبعد ذلك يضل الله من يشاء قال الله تعالى 64:4 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فالرسل تبين والله هو الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته.
فصل
المرتبة السابعة: البيان الخاص وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والاجتباء وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه الهداية ألبتة قال تعالى في هذه المرتبة 16:37 {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ} وقال: 38:56{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فالبيان الأول شرط وهذا موجب.
فصل
المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع قال الله تعالى 23:8 {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وقد قال تعالى 35:22 {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ فإن ذلك حاصل لهم وبه قامت الحجة عليهم لكن ذاك إسماع الآذان وهذا إسماع القلوب فإن الكلام له لفظ ومعنى وله نسبة إلى الآذان والقلب وتعلق بهما فسماع لفظه حظ الأذن وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن(1/43)
في قوله 21:2 {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه أو تمكنه منها.
وأما مقصود السماع وثمرته والمطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب وغفلته وإعراضه بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه 16:47 {مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}.
والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام: أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن ومرتبة الإفهام أعم فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه ومرتبة الفهم أخص من وجه آخر وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه ومتعلقاته وإشاراته ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب ويترتب على هذا السماع سماع القبول.
فهو إذن ثلاث مراتب: سماع الأذن وسماع القلب وسماع القبول والإجابة.
فصل
المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام قال تعالى 8،7:91 {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لحصير بن منذر الخزاعي لما أسلم " قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي".
وقد جعل صاحب المنازل (الإلهام) هو مقام المحدثين قال وهو فوق مقام الفراسة لأن الفراسة ربما وقعت نادرة واستصعبت على صاحبها وقتا أو استعصت عليه والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد.
قلت: التحديث أخص من الإلهام فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان فأما التحديث: فالنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر" يعني من المحدثين فالتحديث إلهام خاص وهو الوحي إلى غير الأنبياء(1/44)
إما من المكلفين كقوله تعالى 28:7 {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} وقوله 5:111 {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} وإما من غير المكلفين كقوله تعالى 16:29 {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} فهذا كله وحي إلهام.
وأما جعله فوق مقام الفراسة: فقد احتج عليه بأن الفراسة ربما وقعت نادرة كما تقدم والنادر لا حكم له وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد يعني في مقام القرب والحضور.
والتحقيق في هذا: أن كل واحد من (الفراسة) و(الإلهام) ينقسم إلى عام وخاص وخاص كل واحد منهما فوق عام الآخر وعام كل واحد قد يقع كثيرا وخاصة قد يقع نادرا ولكن الفرق الصحيح أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل وأما الإلهام فموهبة مجردة لا تنال بكسب ألبتة.
فصل
قال: وهو على ثلاث درجات.
الدرجة الأولى: نبأ يقع وحيا قاطعا مقرونا بسماع إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن فليس كل خبر نبأ وهو نبأ خبر عن غيب معظم.
ويريد بالوحي والإلهام: الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه إما بواسطة سمع أو هو الإعلام بلا واسطة.
قلت: أما حصوله بواسطة سمع فليس ذلك إلهاما بل هو من قبيل الخطاب وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء وهو الذي خص به موسى إذ كان المخاطب هو الحق عز وجل.
وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع: فهو من أحد وجوه ثلاثة لا رابع لها أعلاها أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا فإن هذا يقع لغير الأنبياء فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام فلما اكتوى تركت خطابه فلما ترك الكي عاد إليه خطاب ملكي وهو نوعان.(1/45)
أحدها: خطاب يسمعه بأذنه وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين.
والثاني: خطاب يلقى في قلبه يخاطب به الملك روحه كما في الحديث المشهور "إن للملك لمّة بقلب ابن آدم وللشيطان لمة فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد" ثم قرأ 2:268 {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} وقال تعالى 8:12 {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} قيل في تفسيرها: قوّوا قلوبهم وبشروهم بالنصر وقيل: احضروا معهم القتال والقولان حق فإنهم حضروا معهم القتال وثبتوا قلوبهم.
ومن هذا الخطاب: واعظ الله عز وجل في قلوب عباده المؤمنين كما في جامع الترمذي ومسند أحمد من حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى ضرب مثلا: صراطا مستقيما وعلى كنفتي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوق الصراط فالصراط المستقيم الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن " فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة.
وأما وقوعه بغير واسطة فمما لم يتبين بعد والجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل والله أعلم.
فصل
النوع الثاني من الخطاب المسموع: خطاب الهواتف من الجان وقد يكون المخاطب جنيا مؤمنا صالحا وقد يكون شيطانا وهذا أيضا نوعان.
أحدهما: أن يخاطبه خطابا يسمعه بأذنه.(1/46)
والثاني: أن يلقى في قلبه عند ما يلمّ به ومنه وعده وتمنيته حين يعد الإنسى ويمنّيه ويأمره وينهاه كما قال تعالى 4:120 {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} وقال {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} وللقلب من هذا الخطاب نصيب وللأذن أيضا منه نصيب والعصمة منتفية إلا عن الرسل ومجموع الأمة.
فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني أو ملكي؟ بأي برهان؟ أو بأي دليل؟ والشيطان يقذف في النفس وحيه ويلقى في السمع خطابه فيقول المغرور المخدوع "قيل لي وخوطبت" صدقت لكن الشأن في القائل لك والمخاطب وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغيلان بن سلمة وهو من الصحابة لما طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه "إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك" فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟.
فصل
النوع الثالث: خطاب حالي تكون بدايته من النفس وعوده إليها فيتوهمه من خارج وإنما هو من نفسه منها بدا وإليها يعود. وهذا كثيرا ما يعرض للسالك فيغلط فيه ويعتقد أنه خطاب من الله كلمه به منه إليه وسبب غلطه: أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة وانقطعت علقها عن الشواغل الكثيفة: صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن ومصير الحكم لهما فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما وتشتد عناية الروح بها وتصير في محل(1/47)
تلك العلائق والشواغل فتملأ القلب فتصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة ويتفق تجرد الروح فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية فيرى صورها ويسمع الخطاب وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء ويحلف أنه رأى وسمع وصدق لكن رأى وسمع في الخارج أو في نفسه؟ ويتفق ضعف التمييز وقلة العلم واستيلاء تلك المعاني على الروح وتجردها عن الشواغل.
فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب ومن سمع نفسه غيرها فإنما هو غرور وخدع وتلبيس وهذا الموضع مقطع القول وهو من أجل المواضع لمن حققه وفهمه والله الموفق للصواب.
فصل
قال "الدرجة الثانية: إلهام يقع عيانا وعلامة صحته أنه لا يخرق سترا ولا يجاوز حدا ولا يخطىء أبدا".
الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى أن ذلك علم شبيه بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب وهذا معاينة ومكاشفة فهو فوقه في الدرجة وأتم منه ظهورا ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين وذكر له ثلاث علامات.
إحداها "أنه لا يخرق سترا" أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره ويكشفه خيرا كان أو شرا أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس بل يستر نفسه ويستر من كوشف بحاله.
الثانية "أنه لا يجاوز حدا" يحتمل وجهين.
أحدهما: أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي وتجاوز حدود الله مثل الكهان وأصحاب الكشف الشيطاني.
الثاني: أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية مثل أن يتجسس به على(1/48)
العورات التي نهى الله عن التجسس عليها وتتبعها فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف فهو شيطاني لا رحماني.
الثالثة: أنه لا يخطىء أبدا بخلاف الشيطاني فإن خطأه كثير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صائد "ما ترى؟ قال: أرى صادقا وكاذبا فقال: لبّس عليك" فالكشف الشيطاني لا بد أن يكذب ولا يستمر صدقه ألبتة.
فصل
قال "الدرجة الثالثة: إلهام يجلو عين التحقيق صرفا وينطق عن عين الأزل محضا والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها".
عين التحقيق عنده: هي الفناء في شهود الحقيقة بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود وتعود الرسوم أعداما محضة فالإلهام في هذه الدرجة يجلو هذا العين للملهم صرفا بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول ولا الحواس فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة والناطق عن هذا الكشف عندهم: لا يفهم عنه إلا من هو معه ومشارك له وعند أرباب هذا الكشف: أن كل الخلق عنه في حجاب وعندهم: أن العلم والعقل والحال حجب عليه وأن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب وأنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب فلذلك تمتنع الإشارة إليه والعبارة عنه فإن الإشارة والعبارة إنما يتعلقان بالمحسوس والمعقول وهذا أمر وراء الحس والعقل.
وحاصل هذا الإلهام: أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم لكن في الشهود لا في الوجود وأما الاتحادية القائلون بوحدة الوجود: فإنهم يجعلون ذلك(1/49)
اضمحلالا وعدما في الوجود ويجعلون صاحب المنازل منهم وهو برىء منهم عقلا ودينا وحالا ومعرفة والله أعلم.
فصل
المرتبة العاشرة من مراتب الهداية: الرؤيا الصادقة وهي من أجزاء النبوة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
وقد قيل في سبب هذا التخصيص المذكور: إن أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة وذلك نصف سنة ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة من حين بعث إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك جزء من ستة وأربعين جزءا وهذا حسن لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة "إنها جزء من سبعين جزءا".
وقد قيل في الجمع بينهما إن ذلك بحسب حال الرائي فإن رؤيا الصديقين من ستة وأربعين ورؤيا عموم المؤمنين الصادقة من سبعين والله أعلم.
والرؤيا: مبدأ الوحي وصدقها بحسب صدق الرائي وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطىء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها فيتعوض المؤمنون بالرؤيا وأما في زمن قوة نور النبوة ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا.
ونظير هذا الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصحابة ولم تظهر عليهم لاستغنائهم عنها بقوة إيمانهم واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم وقد(1/50)
نص أحمد على هذا المعنى وقال عبادة بن الصامت: "رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام" وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "لم يبق من النبوة إلا المبشرات قيل: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له" وإذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما أروا ليلة القدر في العشر الأواخر قال: "أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر فمن كان منكم متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان".
والرؤيا كالكشف منها رحماني ومنها نفساني ومنها شيطاني وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام".
والذي هو من أسباب الهداية هو الرؤيا التي من الله خاصة.
ورؤيا الأنبياء وحي فإنها معصومة من الشيطان وهذا باتفاق الأمة ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا.
وأما رؤيا غيرهم: فتعرض على الوحي الصريح فإن وافقته وإلا لم يعمل بها فإن قيل فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة أو تواطأت؟.
قلنا: متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي بل لا تكون إلا مطابقة له منبهة عليه أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه لم يعرف الرائي اندراجها فيه فيتنبه بالرؤيا على ذلك ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق(1/51)
وأكل الحلال والمحافظة على الأمر والنهي ولينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة ويذكر الله حتى تغلبه عيناه فإن رؤياه لا تكاد تكذب ألبتة.
وأصدق الرؤيا: رؤيا الأسحار فإنه وقت النزول الإلهي واقتراب الرحمة والمغفرة وسكون الشياطين وعكسه رؤيا العتمة عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه "رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام".
وللرؤيا ملك موكل بها يريها العبد في أمثال تناسبه وتشاكله فيضربها لكل أحد بحسبه وقال مالك: "الرؤيا من الوحي وحى" وزجر عن تفسيرها بلا علم وقال: "أتتلاعب بوحي الله؟".
ولذكر الرؤيا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظان مخصوصة بها يخرجنا ذكرها عن المقصود والله أعلم.
فصل: في بيان اشتماله الفاتحة على الشفاءين: شفاء القلوب وشفاء الأبدان
فأما اشتمالها على شفاء القلوب: فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم وفساد القصد.
ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب فالضلال نتيجة فساد العلم والغضب نتيجة فساد القصد وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه.
والتحقيق ب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علما ومعرفة وعملا وحالا: يتضمن(1/52)
الشفاء من مرض فساد القلب والقصد فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين ومتبعي الشهوات الذين لا غاية لهم رواءها وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل فإذا جاء الحق معارضا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق وحادوا عنه إلى طريق أخرى وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا به وجالوا وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق بل لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به 24:48 50 {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
والمقصود: أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها واضمحلت وفنيت حصلوا على أعظم الخسران والحسرات وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا إذا حق الحق وبطل الباطل وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة وهذا يظهر كثيرا في الدنيا ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ وينكشف كل الإنكشاف يوم اللقاء إذا حقت الحقائق وفاز المحقون وخسر المبطلون وعلموا أنهم كانوا(1/53)
كاذبين وكانوا مخدوعين مغرورين فياله هناك من علم لا ينفع عالمه ويقين لا ينجني مستيقنه.
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه وهي من أعظم القواطع عنه فحاله أيضا كحال هذا وكلاهما فاسد القصد ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء عبودية الله لا غيره بأمره وشرعه لا بالهوى ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم بالإستعانة على عبوديته به لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإذا ركبها الطبيب اللطيف العالم بالمرض واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر.
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد وهما الرياء والكبر فدواء الرياء ب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ودواء الكبر ب{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرياء {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء.
فإذا عوفى من مرض الرياء ب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض الكبرياء والعجب ب {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومن مرض الضلال والجهل ب {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} عوفى من أمراضه وأسقامه ورفل في أثواب العافية وتمت عليه النعمة وكان من المنعم عليهم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه {وَلا الضَّالِّينَ} وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحقّ لسورة تشتمل على هذين الشفاءين: أن يستشفى بها من كل مرض(1/54)
ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين كان حصدك الشفاء الأدنى بها أولى كما سنبينه فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله وكلامه وفهمت عنه فهما خاصا اختصها به من معاني هذه السورة.
وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق.
فصل
وأما تضمنها لشفاء للأبدان: فنذكر منه ما جاءت به السنة وما شهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة.
فأما ما دلت عليه السنة: ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري "أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحي من العرب فلم يقروهم ولم يضيفوهم فلدغ سيد الحي فأتوهم فقالوا هل عندكم من رقية أو هل فيكم من راق فقالوا نعم ولكنكم لم تقرونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم على ذلك قطيعا من الغنم فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب فقام كأن لم يكن به قلبة فقلنا لا تعجلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه فذكرنا له ذلك فقال ما يدريك أنها رقية؟ كلوا واضربوا لي معكم بسهم".
فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء وربما بلغت من شفائه مالم يبلغه الدواء.
هذا مع كون المحل غير قابل إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين أو أهل بخل ولؤم فكيف إذا كان المحل قابلا.(1/55)
فصل
وأما شهادة قواعد الطب بذلك: فاعلم أن اللدغة تكون من ذوات الحمات والسموم وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيف بكيفية غضبية تثير فيها سمية نارية يحصل بها اللدغ وهي متفاوتة بحسب تفاوت خبث تلك النفوس وقوتها وكيفيتها فإذا تكيفت أنفسها الخبيثة بتلك الكيفية الغضبية أحدث لها ذلك طبيعة سمية تجد راحة ولذة في إلقائها إلى المحل القابل كما يجد الشرير من الناس راحة ولذة في إيصال شره إلى من يوصله إليه وكثير من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحدا من بني جنسه ويجد في نفسه تأذيا بحمل تلك السمية والشر الذي فيه حتى يفرغه في غيره فيبرد عند ذلك أنينه وتسكن نفسه ويصيبه في ذلك نظير ما يصيب من اشتدت شهوته إلى الجماع فيسوء خلقه وتثقل نفسه حتى يقضي وطره هذا في قوة الشهوة وذاك في قوة الغضب.
وقد أقام الله تعالى بحكمته السلطان وازعا لهذه النفوس الغضبية فلولا هو لفسدت الأرض وخرجت 2 :251 {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وأباح الله بلطفه ورحمته لهذه النفوس من الأزواج وملك اليمين ما يكسر حدتها.
والمقصود: أن هذه النفوس الغضبية إذا اتصلت بالمحل القابل أثرت فيه ومنها ما يؤثر في المحل بمجرد مقابلته له وإن لم يمسه فمنها ما يطمس البصر ويسقط الحبل.
ومن هذا نظر العائن فإنه إذا وقع بصره على المعين حدثت في نفسه كيفية سمية أثرت في المعين بحسب عدم استعداده وكونه أعزل من السلاح وبحسب قوة تلك النفس وكثير من هذه النفوس يؤثر في المعين إذا وصف له فتتكيف نفسه وتقابله على البعد فيتأثر به ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم إلا بالصورة(1/56)
والشكل فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق هذه النفوس الخبيثة السمية وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها وما تضمنته من التوحيد والتوكل والثناء على الله وذكر أصول أسمائه الحسنى وذكر اسمه الذي ما ذكر على شر إلا أزاله ومحقه ولا على خير إلا نماه وزاده دفعت هذه النفس بما تكيفت به من ذلك أثر تلك النفس الخبيثة الشيطانية فحصل البرء فإن مبنى الشفاء والبرء على دفع الضد بضده وحفظ الشيء بمثله فالصحة تحفظ بالمثل والمرض يدفع بالضد أسباب ربطها بمسبباتها الحكيم العليم خلقا وأمرا ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة وقبول من الطبيعة المنفعلة فلو لم تنفعل نفس الملدوغ لقبول الرقية ولم تقو نفس الراقي على التأثير لم يحصل البرء.
فهنا أمور ثلاثة: موافقة الدواء للداء وبذل الطبيب له وقبول طبيعة العليل فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولا بد بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومن عرف هذا كما ينبغي تبين له أسرار الرقي وميز بين النافع منها وغيره ورقى الداء بما يناسبه من الرقي وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل كما أن السيف بضاربه مع قبول المحل للقطع وهذه إشارة مطلعة على ما وراءها لمن دق نظره وحسن تأمله والله أعلم.
وأما شهادة التجارب بذلك: فهي أكثر من أن تذكر وذلك في كل زمان وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة ولا سيما مدة(1/57)
المقام بمكة فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني وذلك في أثناء الطواف وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط جربت ذلك مرارا عديدة وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين والله المستعان.(1/58)
فصل في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين
...
فصل في اشتماله الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة.
وهذا يعلم بطريقين مجمل ومفصل:
أما المجمل: فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق وإيثاره وتقديمه على غيره ومحبته والإنقياد له والدعوة إليه وجهاد أعدائه بحسب الإمكان.
والحق: هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى وكل ذلك مسلم إلى رسول الله دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم.
فكل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته وعليه السكة المحمدية بحيث يكون من ضرب المدينة فهو من الصراط المستقيم وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال فما ثم خروج عن هذه الطرق الثلاث: طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وطريق أهل(1/58)
الغضب وهي طريق من عرف الحق وعانده وطريق أهل الضلال وهي طريق من أضله الله عنه ولهذا قال عبدالله ابن عباس وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم: "الصراط المستقيم: هو الإسلام" وقال عبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: "هو القرآن" وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره وقال سهل بن عبدالله: "طريق السنة والجماعة" وقال بكر بن عبدالله المزني: "طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه وإيثاره على غيره فهو الصراط المستقيم.
وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له.
فبهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل وهو من صراط الأمتين الأمة الغضبية وأمة أهل الضلال.
فصل
وأما المفصل: فبمعرفة المذاهب الباطلة واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها فنقول:
الناس قسمان: مقر بالحق تعالى وجاحد له فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى والرد على من جحده بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين.
وتأمل حال العالم كله علويه وسفليه بجميع أجزائه: تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده لا فرق بينهما بل دلالة الخالق على المخلوق والفعال على الفعل والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية والفطر الصحيحة أظهر من العكس.
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه إذا استدل الناس(1/59)
بصنعه وأفعاله عليه ولا ريب أنهما طريقان صحيحان كل منهما حق والقرآن مشتمل عليهما.
فأما الإستدلال بالصنعة فكثير وأما الإستدلال بالصانع فله شأن وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم 14:10 {أَفِي اللَّهِ شَكّ} أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض}.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روح يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها.
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله وهو حقيقة وجود هذا العالم فليس عند القوم رب وعبد ولا مالك ومملوك ولا راحم ومرحوم ولا عابد ومعبود ولا مستعين ومستعان به ولا هاد ولا مهدي ولا منعم ولا منعم عليه ولا غضبان ومغضوب عليه بل الرب هو نفس العبد وحقيقته والمالك هو عين المملوك والراحم هو عين المرحوم والعابد هو نفس المعبود وإنما التغاير أمر اعتباري(1/60)
بحسب مظاهر الذات وتجلياتها فتظهر تارة في صورة معبود كما ظهرت في صورة فرعون وفي صورة عبد كما ظهرت في صورة العبيد وفي صورة هاد كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء والكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة فحقيقة العابد ووجوده أو إنيته هي حقيقة المعبود ووجوده وإنيته.
والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم.
فصل
والمقرون بالرب سبحانه وتعالى: أنه صانع العالم نوعان:
نوع ينفي مباينته لخلقه ويقولون: لا مباين ولا محايث ولا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه ولا فيه ولا بائن عنه.
فتضمنت الفاتحة الرد على هؤلاء من وجهين:
أحدهما: إثبات ربوبيته تعالى للعالم فإن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات كما باينهم بالربوبية وبالصفات والأفعال فمن لم يثبت ربا مباينا للعالم فما أثبت ربا فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين لزوما لا انفكاك له عنه ألبتة إما أن يكون هو نفس هذا العالم وحينئذ يصح قوله فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه ومن ههنا دخل أهل الوحدة وكانوا معطلة أولا واتحادية ثانيا.
وإما أن يقول: ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا ولا داخلا ولا خارجا كما قالته الدهرية المعطلة للصانع.
وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين: إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم وإثبات خالق قائم بنفسه لا في العالم ولا خارج العالم ولا فوق العالم ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا يمنته ولا يسرته: فقول له(1/61)
خبىء والعقول لا تتصوره حتى تصدق به فإذا استحال في العقل تصوره فاستحالة التصديق به أظهر وأظهر وهو منطبق على العدم المحض والنفي الصرف وصدقه عليه أظهر عند العقول والفطر من صدقه على رب العالمين.
فضع هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على العدم المستحيل ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها التي لم تحل في العالم ولا حل العالم فيها ثم انظر أي المعلومين أولى به؟
واستيقظ لنفسك وقم لله قومة مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر متجرد عن المقالات وأربابها وعن الهوى والحمية والعصبية صادقا في طلب الهداية من الله فالله أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه مباين لخلقه بل هذا نفس ترجمتها.
فصل
ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان:
أهل توحيد وأهل إشراك وأهل الإشراك نوعان:
أحدهما: أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية فإنهم يثبتون مع الله خالقا آخر وإن لم يقولوا إنه مكافىء له والقدرية المجوسيه تثبت مع الله خالقين للأفعال ليس أفعالهم مقدورة لله ولا مخلوقة لهم وهي صادرة بغير مشيئته ولا قدرة له عليها ولا هو الذي جعل أربابها فاعلين لها بل هم الذين جعلوا أنفسهم شائين مريدين فاعلين.
فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال.
وحقيقة قول القدرية المجوسية: أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ولا تناولتها ربوبيته وكيف تتناول مالا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه؟ مع أن في عموم حمده ما يقتضي حمده على طاعات خلقه إذ هو المعين عليها والموفق لها وهو(1/62)
الذي شاءها منهم كما قال في غير موضع من كتابه 76:30 {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فهو محمود على أن شاءها لهم وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته فهو المحمود عليها في الحقيقة وعندهم أنهم هم المحمودون عليها ولهم الحمد على فعلها وليس لله حمد على نفس فاعليتها عندهم ولا على ثوابه وجزائه عليها.
أما الأول: فلأن فاعليتها بهم لا به وأما الثاني: فلأن الجزاء مستحق عليه استحقاق الأجرة على المستأجر فهو محض حقهم الذي عاوضوه عليه.
وفي قوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} رد ظاهر عليهم إذ استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده إن شاء أوجده وإن شاء لم يوجده بمن ليس ذلك الفعل بيده ولا هو داخل تحت قدرته ولا مشيئته؟.
وفي قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أيضا رد عليهم فإن الهداية المطلقة التامة هي المستلزمة لحصول الإهتداء ولولا أنها بيده تعالى دونهم لما سألوه إياها وهي المتضمنة للإرشاد والبيان والتوفيق والإقدار وجعلهم مهتدين وليس مطلوبهم مجرد البيان والدلالة كما ظنته القدرية لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى ولا ينجي من الردى وهو حاصل لغيرهم من الكفار الذين استحبوا العمى على الهدى واشتروا الضلالة بالهدى.
فصل
النوع الثاني: أهل الإشراك به في إلهيته وهم المقرون بأنه وحده رب كل شيء ومليكه وخالقه وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين ورب السماوات السبع ورب العرش العظيم وهم مع هذا يعبدون غيره ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم وهم الذين اتخذوا من دون الله أندادا فهؤلاء لم يوفوا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حقه وإن كان لهم نصيب من (نعبدك) لكن ليس لهم نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} المتضمن معنى: لا نعبد إلا إياك حبا وخوفا ورجاء(1/63)
وطاعة وتعظيما ف {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تحقيق لهذا التوحيد وإبطال للشرك في الإلهية كما أن {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تحقيق لتوحيد الربوبية وإبطال للشرك به فيها وكذلك قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فإنهم أهل التوحيد وهم أهل تحقيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وأهل الإشراك: هم أهل الغضب والضلال.
فصل: في تضمنها الرد على الجهمية معطلة الصفات
وذلك من وجوه:
أحدها: من قوله { الْحَمْدُ لِلَّهِ} فإن إثبات الحمد الكامل له يقتضي ثبوت كل ما يحمد عليه من صفات كماله ونعوت جلاله إذ من عدم صفات الكمال فليس بمحمود على الإطلاق وغايته أنه محمود من وجه دون وجه ولا يكون محمودا بكل وجه وبكل اعتبار بجميع أنواع الحمد إلا من استولى على صفات الكمال جميعها فلو عدم منها صفة واحدة لنقص من حمده بحسبها.
وكذلك في إثبات صفة الرحمة له: ما يتضمن إثبات الصفات التي تستلزمها: من الحياة والإرادة والقدرة والسمع والبصر وغيرها.
وكذلك صفة الربوبية: تستلزم جميع صفات الفعل وصفة الإلهية تسلتزم جميع أوصاف الكمال: ذاتا وأفعالا كما تقدم بيانه.
فكونه محمودا إلها ربا رحمانا رحيما ملكا معبودا مستعانا هاديا منعما يرضى ويغضب مع نفي قيام الصفات به جمع بين النقيضين وهو من أمحل المحال.
وهذه الطريق تتضمن إثبات الصفات الخبرية من وجهين:
أحدهما: أنها من لوازم كماله المطلق فإن استواءه على عرشه من لوازم علوه ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا في نصف الليل الثاني من لوازم رحمته وربوبيته وهكذا سائر الصفات الخبرية.(1/64)
الوجه الثاني: أن السمع ورد بها ثناء على الله ومدحا له وتعرفا منه إلى عباده بها فجحدها وتحريفها عما دلت عليه وعما أريد بها مناقض لما جاءت به فلك أن تستدل بطريق السمع على أنها كمال وأن تستدل بالعقل كما تقدم.
فصل: في تضمنها للرد على الجبرية
وذلك من وجوه:
أحدها: من إثبات عموم حمده سبحانه فإنه يقتضي أن لا يعاقب عبيده على مالا قدرة لهم عليه ولا هو من فعلهم بل هو بمنزلة ألوانهم وطولهم وقصرهم بل هو يعاقبهم على نفس فعله بهم فهو الفاعل لقبائحهم في الحقيقة وهو المعاقب لهم عليها فحمده عليها يأبى ذلك أشد الإباء وينفيه أعظم النفي فتعالى من له الحمد كله عن ذلك علوا كبيرا بل إنما يعاقبهم على نفس أفعالهم التي فعلوها حقيقة فهي أفعالهم لا أفعاله وإنما أفعاله العدل والإحسان والخيرات.
الوجه الثاني: إثبات رحمته ورحمانيته ينفي ذلك إذ لا يمكن اجتماع هذين الأمرين قط أن يكون رحمانا رحيما ويعاقب العبد على مالا قدرة له عليه ولا هو من فعله بل يكلفه ما لا يطيقه ولا له عليه قدرة ألبتة ثم يعاقبه عليه وهل هذا إلا ضد الرحمة ونقض لها وإبطال؟ وهل يصح في معقول أحد اجتماع ذلك والرحمة التامة الكاملة في ذات واحدة؟.
الوجه الثالث: إثبات العبادة والإستعانة لهم ونسبتها إليهم بقولهم: "نعبد ونستعين" وهي نسبة حقيقية لا مجازية والله لا يصح وصفه بالعبادة والإستعانة التي هي من أفعال عبيده بل العبد حقيقة هو العابد المستعين والله هو المعبود المستعان به.(1/65)
فصل: في بيان تضمنها للرد على القائلين بالموجب بالذات دون الإختيار والمشيئة وبيان أنه سبحانه فاعل مختار وذلك من وجوه:
أحدها: من إثبات حمده إذ كيف يحمد على ما ليس مختارا لوجوده ولا هو بمشيئته وفعله؟ وهل يصح حمد الماء على آثاره وموجباته أو النار والحديد وغيرها في عقل أو فطرة؟ وإنما يحمد الفاعل المختار بقدرته ومشيئته على أفعاله الحميدة هذا الذي ليس يصح في العقول والفطر سواه فخلافه خارج عن الفطرة والعقل وهو لا ينكر خروجه عن الشرائع والنبوات بل يتبجح بذلك ويعده فخرا.
الثاني: إثبات ربوبيته تعالى: يقتضي فعله بمشيئته واختياره وتدبيره وقدرته وليس يصح في عقل ولا فطرة ربوبية الشمس لضوئها والماء لتبريده وللنبات الحاصل به ولا ربوبية شيء أبدا لما لا قدرة له عليه ألبتة وهل هذا إلا تصريح بجحد الربوبية؟.
فالقوم كنوا للأغمار وصرحوا لأولي الأفهام.
الثالث: إثبات ملكه وحصول ملك لمن لا اختيار له ولا فعل ولا مشيئة غير معقول بل كل مملوك له مشيئة واختيار وفعل أتم من هذا الملك وأكمل 16:17 {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}.
الرابع: من كونه مستعانا فإن الإستعانة بمن لا اختيار له ولا مشيئة ولا قدرة محال.
الخامس: من كونه مسئولا أن يهدي عباده فسؤال من لا اختيار له محال وكذلك من كونه منعما.(1/66)
فصل: في بيان تضمنها للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات وذلك من وجوه:
أحدها: كمال حمده وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئا من العالم وأحواله وتفاصيله ولا عدد الأفلاك ولا عدد النجوم ولا من يطيعه ممن يعصيه ولا من يدعوه ممن لا يدعوه؟.
الثاني: أن هذا مستحيل أن يكون إلها وأن يكون ربا فلا بد للإله المعبود والرب المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله.
الثالث: من إثبات رحمته فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.
الرابع: إثبات ملكه فإن ملكا لا يعرف أحدا من رعيته ألبتة ولا شيئا من أحوال مملكته ألبتة ليس بملك بوجه من الوجوه.
الخامس: كونه مستعانا.
السادس: كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه.
السابع: كونه هاديا.
الثامن: كونه منعما.
التاسع: كونه غضبانا على من خالفه.
العاشر: كونه مجازيا يدين الناس بأعمالهم يوم الدين.
فنفي علمه بالجزيئات مبطل لذلك كله.(1/67)
فصل : في بيان تضمنها للرد على منكري النبوات وذلك من وجوه:
أحدها: إثبات حمده التام فإنه يقتضي كمال حكمته وأن لا يخلق خلقه عبثا ولا يتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون ولذلك نزه الله نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه وأخبر أن من أنكر الرسالة والنبوة وأن يكون ما أنزل على بشر من شيء فإنه ما عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه ولا قدره حق قدره بل نسبه إلى ما لا يليق به ويأباه حمده ومجده.
فمن أعطى الحمد حقه علما ومعرفة وبصيرة استنبط منه "أشهد أن محمدا رسول الله" كما يستنبط منه "أشهد أن لا إله إلا الله" وعلم قطعا أن تعطيل النبوات في منافاته للحمد كتعطيل صفات الكمال وكإثبات الشركاء والأنداد.
الثاني: إلهيته وكونه إلها فإن ذلك مستلزم لكونه معبودا مطاعا ولا سبيل إلى معرفة ما يعبد به ويطاع إلا من جهة رسله.
الثالث: كونه ربا فإن الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم وجزاء محسنهم بإحسانه ومسيئهم بإساءته هذا حقيقة الربوبية وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة.
الرابع: كونه رحمانا رحيما فإن من كمال رحمته: أن يعرف عباده نفسه وصفاته ويدلهم على ما يقربهم إليه ويباعدهم منه ويثيبهم على طاعته ويجزيهم بالحسنى وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة فكانت رحمته مقتضية لها.
الخامس: ملكه فإن الملك يقتضي التصرف بالقول كما أن الملك يقضي التصرف بالفعل فالملك هو المتصرف بأمره وقوله فتنفذ أوامره ومراسيمه حيث شاء والمالك هو المتصرف في ملكه بفعله والله له الملك وله الملك فهو المتصرف في خلقه بالقول والفعل.(1/68)
وتصرفه بقوله نوعان: تصرف بكلماته الكونية وتصرف بكلماته الدينية وكمال الملك بهما.
فإرسال الرسل: موجب كمال ملكه وسلطانه وهذا هو الملك المعقول في فطر الناس وعقولهم فكل ملك لا تكون له رسل يبثهم في أقطار مملكته فليس بملك.
وبهذه الطريق يعلم وجود ملائكته وأن الإيمان بهم من لوازم الإيمان بملكه فإنهم رسل الله في خلقه وأمره.
السادس: ثبوت {يَوْمِ الدِّينِ} وهو يوم الجزاء الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرا وشرا وهذا لايكون إلا بعد ثبوت الرسالة والنبوة وقيام الحجة التي بسببها يدان المطيع والعاصي.
السابع: كونه معبودا فإنه لا يعبد إلا بما يحبه ويرضاه ولا سبيل للخلق إلى معرفة ما يحبه ويرضاه إلا من جهة رسله فإنكار رسله إنكار لكونه معبودا.
الثامن: كونه هاديا إلى الصراط المستقيم وهو معرفة الحق والعمل به وهو أقرب الطرق الموصلة إلى المطلوب فإن الخط المستقيم هو أقرب خط موصل بين نقطتين وذلك لا يعلم إلا من جهة الرسل فتوقفه على الرسل ضروري أعظم من توقف الطريق الحسى على سلامة الحواس.
التاسع: كونه منعما على أهل الهداية إلى الصراط المستقيم فإن إنعامه عليهم إنما تم بإرسال الرسل إليهم وجعلهم قابلين الرسالة مستجيبين لدعوته وبذلك ذكرهم منته عليهم وإنعامه في كتابه.
العاشر: انقسام خلقه إلى منعم عليهم ومغضوب عليهم وضالين فإن هذا الإنقسام ضروري بحسب إنقسامهم في معرفة الحق والعمل به إلى عالم به(1/69)
عامل بموجبه وهم أهل النعمة وعالم به معاند له وهم أهل الغضب وجاهل به وهم الضالون هذا الإنقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون الرسالة وهذا الإنقسام ضروري بحسب الواقع فالرسالة ضرورية.
وقد تبين لك بهذه الطريق والتي قبلها: بيان تضمنها للرد على من أنكر المعاد الجسماني وقيامة الأبدان وعرفت اقتضاءها ضرورة لثبوت الثواب والعقاب والأمر والنهي وهو الحق الذي خلقت به وله السماوات والأرض والدنيا والآخرة وهو مقتضى الخلق والأمر ونفيه نفي لهما.
فصل: إذا ثبتت النبوات والرسالة ثبتت صفة التكلم والتكليم
فإن حقيقة الرسالة: تبليغ كلام المرسل فإذا لم يكن ثم كلام فماذا يبلغ الرسول صلى الله عليه و سلم بل كيف يعقل كونه رسولا؟ ولهذا قال غير واحد من السلف: من أنكر أن يكون الله متكلما أو يكون القرآن كلامه فقد أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بل ورسالة جميع الرسل التي حقيقتها: تبليغ كلام الله تبارك وتعالى ولهذا قال منكرو رسالته عن القرآن 74:24 25 {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} وإنما عنوا القرآن المسموع الذي بلغوه وأنذروا به.
فمن قال: إن الله لم يتكلم به فقد ضاهأ قوله قولهم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.(1/70)
فصل: في بيان تضمنها للرد على من قال بقدم العالم وذلك من وجوه:
أحدها: إثبات حمده فإنه يقتضي ثبوت أفعاله لا سيما وعامة مواد الحمد في القرآن أو كلها إنما هي على الأفعال وكذلك هو ههنا فإنه حمد نفسه على ربوبيته المتضمنة لأفعاله الإختيارية ومن المستحيل مقارنة الفعل لفاعله هذا ممتنع في كل عقل سليم وفطرة مستقيمة فالفعل متأخر عن فاعله بالضرورة.
وأيضا فإنه متعلق الإرادة والتأثير والقدرة ولا يكون متعلقها قديما ألبتة.
الثاني: إثبات ربوبيته للعالمين وتقريرما ذكرناه والعالم كل ما سواه فثبت أن كل ما سواه مربوب والمربوب مخلوق بالضرورة وكل مخلوق حادث بعد أن لم يكن فإذا ربوبيته تعالى لكل ماسواه تستلزم تقدمه عليه وحدوث المربوب ولا يتصور أن يكون العالم قديما وهو مربوب أبدا فإن القديم مستغن بأزليته عن فاعل له وكل مربوب فهو فقير بالذات فلا شيء من المربوب بغنى ولا قديم.
الثالث: إثبات توحيده فإنه يقتضي عدم مشاركة شيء من العالم له في خصائص الربوبية والقدرة من خصائص الربوبية فالتوحيد ينفى ثبوته لغيره ضرورة كما ينفى ثبوت الربوبية والإلهية لغيره.(1/71)
فصل: في بيان تضمنها للرد على الرافضة
وذلك من قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها.
ووجه تضمنه إبطال قولهم: أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام (منعم عليهم) وهم أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعوه (ومغضوب عليهم) وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه و (ضالون) وهم الذين جهلوه فأخطأوه فكل من كان أعرف للحق وأتبع له: كان أولى بالصراط المستقيم.
ولا ريب أن أصحاب رسول صلى الله عليه و سلم ورضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول صلى الله عليه و سلم ورضي الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض أو رفضوه وتمسك به الروافض.
ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما فرأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا بلاد الكفر وقلبوها بلاد إسلام وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام وكم جروا على الإسلام وأهله من بلية وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام من عسكر هولاكو وذويه من التتار إلا من تحت رءوسهم؟ وهل عطلت المساجد وحرقت المصاحف وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن جرائهم؟ ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة وآثارهم في الدين معلومة.
فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم؟ وأيهم أحق بالغضب والضلال إن كنتم تعلمون؟.
ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب(1/72)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم وهو كما فسروه فإنه صراطهم الذي كانوا عليه وهو عين صراط نبيهم وهم الذين أنعم الله عليهم وغضب على أعدائهم وحكم لأعدائهم بالضلال وقال أبو العالية رفيع الرياحي والحسن البصري: وهما من أجل التابعين "الصراط المستقيم: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه" وقال أبو العالية أيضا: في قوله "صراط الذين أنعمت عليهم: هم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر" وهذا حق فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة ولا خلاف بينهم وموالاة بعضهم بعضا وثناؤهم عليهما ومحاربة من حاربا ومسالمة من سالما معلومة عند الأمة خاصها وعامها وقال زيد بن أسلم: "الذين أنعم الله عليهم: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر".
ولا ريب أن المنعم عليهم: هم أتباعه والمغضوب عليهم هم الخارجون عن أتباعه وأتبع الأمة له وأطوعهم: أصحابه وأهل بيته وأتبع الصحابة له: السمع والبصر أبو بكر وعمر وأشد الأمة مخالفة له هم الرافضة فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة ولهذا يبغضون السنة وأهلها ويعادونها ويعادون أهلها فهم أعداء سنته وأهل بيته وأتباعه من بنيهم أكمل ميراثا؟ بل هم ورثته حقا.(1/73)
فقد تبين أن الصراط المستقيم: طريق أصحابه وأتباعه وطريق أهل الغضب والضلال طريق الرافضة.
وبهذه الطريق بعينها يرد على الخوارج فإن معاداتهم الصحابة معروفة.
فصل
وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين وعليهما مدار العبودية والتوحيد حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن وجمع معاني القرآن في المفصل وجمع معاني المفصل في الفاتحة ومعاني الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين فنصفهما له تعالى وهو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصفهما لعبده وهو {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه.
و"العبادة" تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع والعرب تقول: طريق معبد أي مذلل والتعبد: التذلل والخضوع فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا ومن ههنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية والمنكرون لكونه محبوبا لهم بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم منكرين لكونه إلها وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم فهذا غاية توحيدهم وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به مشركو العرب ولم يخرجوا به عن الشرك كما قال تعالى 43:87 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وقال تعالى 39:38 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ(1/74)
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 22:84 89 {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} إلى قوله {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه.
و"الإستعانة" تجمع أصلين: الثقة بالله والإعتماد عليه فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به لإستغنائه عنه وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به.
و"التوكل" معنى يلتئم من أصلين: من الثقة والإعتماد وهو حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهذان الأصلان وهما التوكل والعبادة قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع قرن بينهما فيها هذا أحدها.
الثاني: قول شعيب 11:88 {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
الثالث: قوله تعالى 10:123 { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}.
الرابع: قوله تعالى حكاية عن المؤمنين 60:4 {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
الخامس: قوله تعالى 73:8 9 {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}.
السادس: قوله تعالى 43:10 {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}.
فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين وهما {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وتقديم (العبادة) على (الإستعانة) في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها (والإستعانة) وسيلة إليها(1/75)
ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} متعلق بألوهيته واسمه (الله) {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} متعلق بربوبيته واسمه (الرب) فقدم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كما قدم اسم (الله) على (الرب) في أول السورة ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قسم الرب فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قسم العبد فكان من الشطر الذي له وهو { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخر السورة.
ولأن "العبادة" المطلقة: تتضمن "الإستعانة" من غير عكس فكل عابد لله عبودية تامة: مستعين به ولا ينعكس لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته فكانت العبادة أكمل وأتم ولهذا كانت قسم الرب.
ولأن "الإستعانة" جزء من "العبادة" من غير عكس ولأن "الإستعانة" طلب منه والعبادة طلب له.
ولأن "العبادة" لا تكون إلا من مخلص و"الإستعانة" تكون من مخلص ومن غير مخلص.
ولأن "العبادة" حقه الذي أوجبه عليك و"الإستعانة" طلب العون على العبادة وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك وأداء حقه: أهم من التعرض لصدقته.
ولأن "العبادة" شكر نعمته عليك والله يحب أن يشكر و"الإعانة" فعله بك وتوفيقه لك فإذا التزمت عبوديته ودخلت تحت رقها أعانك عليها فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم.
و"العبودية" محفوفة بإعانتين إعانة قبلها على التزامها والقيام بها وإعانة بعدها على عبودية أخرى وهكذا أبدا حتى يقضي العبد نحببه.
ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} له {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} به وماله مقدم على ما به(1/76)
لأن ماله متعلق بمحبته ورضاه وما به متعلق بمشيئته وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته فإن الكون كله متعلق بمشيئته والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم فالكفار أهل مشيئته والمؤمنون أهل محبته ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ففيه أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم وفيه الإهتمام وشدة العناية به وفيه الإيذان بالإختصاص المسمى بالحصر فهو في قوة لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما وسيبويه نص على الإهتمام ولم ينف غيره.
ولأنه يقبح من القائل: أن يعتق عشرة أعبد مثلا ثم يقول لأحدهم: إياك أعتقت ومن سمعه أنكر ذلك عليه وقال وغيره أيضا أعتقت ولولا فهم الإختصاص لما قبح هذا الكلام ولا حسن إنكاره.
وتأمل قوله تعالى 2:40 {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2:41 {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} كيف تجده في قوة: لا ترهبوا غيري لا تتقوا سواي؟ وكذلك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هو في قوة: لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الإختصاص من علة السياق.
ولا عبرة بجدل من قل فهمه وفتح عليه باب الشك والتشكيك فهؤلاء هم آفة العلوم وبلية الأذهان والفهوم مع أن في ضمير إياك من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل ففي إياك قصدت وأحببت من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ما ليس في قولك قصدتك وأحببتك وإياك أعني فيه معنى نفسك وذاتك وحقيقتك أعني.(1/77)
ومن ههنا قال من قال من النحاة: إن (إياّ) اسم ظاهر مضاف إلى الضمير المتصل ولم يرد عليه برد شاف.
ولولا أنّا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة وذكرنا مذاهب النحاة فيها ونصرنا الراجح ولعلنا أن نعطف على ذلك بعون الله.
وفي إعادة {إِيَّاك} مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين ففي إعادة الضمير من قوة الإقتضاء لذلك ما ليس في حذفه فإذا قلت لملك مثلا إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والإهتمام بذكره ما ليس في قولك إياك أحب وأخاف.(1/78)
فصل انقسام الناس على أصلي العبادة والاستعانة على أربعة أقسام
...
فصل إذا عرفت هذا فالناس في هذين الأصلين وهما العبادة والإستعانة أربعة أقسام.
أجلها وأفضلها: أهل العبادة والإستعانة بالله عليها فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها ولهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: "يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
فأنفع الدعاء: طلب العون على مرضاته وأفضل المواهب: إسعافه بهذا المطلوب وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا وعلى دفع ما يضاده وعلى تكميله وتيسير أسبابه فتأملها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: "تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.(1/78)
ومقابل هؤلاء: القسم الثاني وهم المعرضون عن عبادته والإستعانة به فلا عبادة ولا إستعانة بل إن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته لا على مرضاة ربه وحقوقه فإنه سبحانه يسأله من في السماوات والأرض يسأله أولياؤه وأعداؤه ويمد هؤلاء وهؤلاء وأبغض خلقه عدوه إبليس ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها ومتعه بها ولكن لما لم تكن عونا له على مرضاته كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه ولم يكن عونا على طاعته كان مبعدا له عن مرضاته قاطعا له عنه ولا بد.
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له فيمنعه حماية وصيانة وحفظا لا بخلا وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته ويعامله بلطفه فيظن بجهله أن الله لا يحبه ولا يكرمه ويراه يقضي حوائج غيره فيسيء ظنه بربه وهذا حشو قلبه ولا يشعر به والمعصوم من عصمه الله والإنسان على نفسه بصيرة وعلامة هذا حمله على الأقدار وعتابه الباطن لها كما قيل:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
فوالله لو كشف عن حاصله وسره لرأي هناك معاتبة القدر وإتهامه وأنه قد كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ولكن ما حيلتي والأمر ليس إلي والعاقل خصم نفسه والجاهل خصم أقدار ربه.
فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئا معينا خيرته وعاقبته مغيبة عنك وإذا لم تجد من سؤاله بدا فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيرة وقدم بين يدي سؤالك الإستخارة ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة بل استخارة من لا علم له بمصالحه ولا قدرة له عليها ولا اهتداء له إلى تفاصيلها ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بل إن وكل إلى نفسه هلك كل الهلاك وانفرط عليه أمره.(1/79)
وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال: تسأله أن يجعله عونا لك على طاعته وبلاغا إلى مرضاته ولا يجعله قاطعا لك عنه ولا مبعدا عن مرضاته ولا تظن أن عطاءه كل ما أعطى لكرامة عبده عليه ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه ولكن عطاؤه ومنعه ابتلاء وامتحان يمتحن بهما عباده قال الله تعالى 89: 25 و16 { فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلاَّ} أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته وما ذاك لكرامته علي ولكنه ابتلاء علي وامتحان له: أيشكرني فأعطيه فوق ذلك أم يكفرني فأسلبه إياه وأخول فيه غيره وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه علي ولكنه ابتلاء وامتحان مني له أيصبر؟ فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق أم يتسخط؟ فيكون حظه السخط.
فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي ولم أبتله بالفقر لهوانه علي فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لإهانته إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته فله الحمد على هذا وعلى هذا وهو الغني الحميد.
فعادت سعادة الدنيا والآخرة إلى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.(1/80)
فصل
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة وهؤلاء نوعان.
أحدهما: القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسل وتمكينه من الفعل فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر من غير أن يكون الله سبحانه وفق هؤلاء بتوفيق زائد أوجب لهم الإيمان وخذل هؤلاء بأمر آخر أوجب لهم الكفر فهولاء لهم نصيب منقوص من العبادة لا استعانة معه فهم موكولون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الإستعانة والتوحيد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبه توحيده".
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والإستعانة لم تتسع قلوبهم لإرتباط الأسباب بالقدر وتلاشيها في ضمنه وقيامها به وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له بل كالعدم الذي لا وجود له وأن القدر كالروح المحرك لها والمعول على المحرك الأول.
فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك ومن السبب إلى المسبب ومن الآلة إلى الفاعل فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم فقل نصيبهم من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والإستعانة وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف.
فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأمورا بإزالته لأزاله(1/81)
فإن قلت: فما معنى التوكل والإستعانة؟.
قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع والعطاء والمنع وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس فيوجب له هذا اعتمادا عليه وتفويضا إليه وطمأنينة به وثقة به ويقينا بكفايته لما توكل عليه فيه وأنه ملي به ولا يكون إلا بمشيئته شاءه الناس أم أبوه.
فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينويه من رغبة ورهبة هما مليان بهما فانظر في تجرد قلبه عن الإلتفات إلى غير أبويه وحبس همه على إنزال ما ينويه بهما فهذه حال المتوكل ومن كان هكذا مع الله فالله كافيه ولا بد قال الله تعالى 65:3 {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه و(الحسب) الكافي فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة وإن لم يكن من أهل التقوى فهو.
القسم الرابع: وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه وطلبها منه وأنزلها به فقضيت له وأسعف بها سواء كانت أموالا أو رياسة أو جاها عند الخلق أو أحوالا من كشف وتأثير وقوة وتمكين ولكن لا عاقبة له فإنها من جنس الملك الظاهر والأموال لا تستلزم الإسلام فضلا عن الولاية والقرب من الله فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر والمؤمن والكافر فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ورضاه عنه وأنه من أوليائه المقربين فهو من أجهل الجاهلين وأبعدهم عن معرفة الله ومعرفة دينه والتمييز بين ما يحبه ويرضاه ويكرهه ويسخطه فالحال من الدنيا فهو كالملك والمال إن أعان صاحبه على طاعة الله ومرضاته وتنفيذ أوامره ألحقه بالملوك العادلين البررة وإلا فهو وبال على صاحبه ومبعد له عن الله وملحق له بالملوك الظلمة والأغنياء الفجرة.(1/82)
فصل لا يكون العبد متحققا ب{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلا بأصلين عظيمين
...
فصل إذا عرف هذا: فلا يكون العبد متحققا ب{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلا بأصلين عظيمين
أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والثاني: الإخلاص للمعبود فهذا تحقيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة وهم أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حقيقة.فأعمالهم كلها لله وأقوالهم لله وعطاؤهم لله ومنعهم لله وحبهم لله وبغضهم لله فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا ولا ابتغاء الجاه عندهم ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هربا من ذمهم بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بهم ألبتة بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم.
وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله ولما يحبه ويرضاه وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه وهو الذي بلا عباده بالموت والحياة لأجله قال الله تعالى 67:2 {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا قال الفضيل بن عياض: "العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه" قالوا: "يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا: لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا: لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص: ما كان لله(1/83)
والصواب: ما كان على السنة وهذا هو المذكور في قوله تعالى 18:110 {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وفي قوله 4:125 {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه على متابعة أمره وما عدا ذلك فهو مردود على عامله يرد عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورا وفي الصحيح من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء.
فصل
الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة فليس عمله موافقا لشرع وليس هو خالصا للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل ولهم أوفر نصيب من قوله 3:188 {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص.
وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال.(1/84)
فصل
الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر كجهال العباد والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر وكل من عبد الله بغير أمره واعتقد عبادته هذه قربة إلى الله فهذا حاله كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة وأمثال ذلك.
فصل
الضرب الرابع:من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة ويحج ليقال ويقرأ القرآن ليقال فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها لكنها غير صالحة فلا تقبل 98:5 {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر والإخلاص له في العبادة وهم أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فصل
ثم أهل مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق فهم في ذلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها.
قالوا: لأنه أبعد الأشياء عن هواها وهو حقيقة التعبد.
قالوا: والأجر على قدر المشقة ورووا حديثا لا أصل له "أفضل الأعمال أحمرها" أي أصعبها وأشقها.
وهؤلاء: هم أهل المجاهدات والجور على النفوس.(1/85)
قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك إذ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الأرض فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.
الصنف الثاني قالوا: أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان واطراح الإهتمام بها وعدم الإكتراث بكل ما هو منها.
ثم هؤلاء قسمان:
فعوامهم: ظنوا أن هذا غاية فشمروا إليه وعملوا عليه ودعوا الناس إليه وقالوا هو أفضل من درجة العلم والعبادة فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها.
وخواصهم: رأوا هذا مقصودا لغيره وأن المقصود به عكوف القلب على الله وجمع الهمة عليه وتفريغ القلب لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والإشتغال بمرضاته فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله ودوام ذكره بالقلب واللسان والإشتغال بمراقبته دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له.
ثم هؤلاء قسمان فالعارفون المتبعون منهم: إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم والمنحرفون منهم يقولون المقصود من العبادة جمعية القلب على الله فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه وربما يقول قائلهم:
يطالب بالأوراد من كان غافلا فكيف بقلب كل أوقاته ورد؟
ثم هولاء أيضا قسمان منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته ومنهم من يقوم بها ويترك السنن والنوافل وتعلم العلم النافع لجمعيته.
وسأل بعض هؤلاء شيخا عارفا فقال إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله فإن قمت وخرجت تفرقت وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي فما الأفضل في حقي؟.(1/86)
فقال: إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم وأجب داعي الله ثم عد إلى موضعك وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب وإجابة الداعي حق الرب ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ }.
الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها: ما كان فيه نفع متعد فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر فرأوا خدمة الفقراء والإشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله" رواه أبو يعلى.
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه وعمل النفاع متعد إلى الغير وأين أحدهما من الآخر؟.
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا: وقد قال رسول الله لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي واحتجوا بقوله: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء" واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير" وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها".
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذي نسب إليه.(1/87)
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعم في معاشهم ومعادهم لم يبعثوا بالخلوات والإنقطاع عن الناس والترهب ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين هموا بالإنقطاع للتعبد وترك مخالطة الناس ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله ونفع عباده والإحسان إليهم أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك.
الصنف الرابع قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والإشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر الإشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والإستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والإشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده والإشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال: الإشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على(1/88)
تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الإجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والإعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والإشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والإشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبدالله على وجه واحد وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة(1/89)
عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره فإن رأيت العلماء رأيته معهم وإن رأيت العباد رأيته معهم وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقق ب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حقا القائم بهما صدقا ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أني توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله قد صحب الله بلا خلق وصحب الناس بلا نفس بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين وتخلى عنهم وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها فواها له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه والله المستعان وعيه التكلان.(1/90)
لا
ثم للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة وهم في ذلك أربعة أصناف.
الصنف الأول: نفاة الحكم والتعليل الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة وصرف الإرادة فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن تكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد ولا سببا لنجاة وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة كما قالوا في الخلق: "إنه لم يخلق ما خلقه لعلة ولا لغاية هي المقصودة به ولا لحكمة تعود إليه منه وليس في المخلوقات أسباب مقتضيات لمسبباتها ولا فيها قوى ولا طبائع فليست النار سببا للإحراق ولا الماء سببا للإرواء والتبريد وإخراج النبات ولا فيه قوة ولا طبيعة تقتضي ذلك وحصول الإحراق والري ليس بهما لكن بإجراء العادة الإقترانية على حصول هذا عند هذا لا بسبب ولا بقوة قامت به" وهكذا الأمر عندهم في أمره الشرعي سواء لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا من غير أن يقوم بالمأمور به صفة اقتضت حسنه ولا المنهي عنه صفة اقتضت قبحه.
ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى (مفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة) وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجها وهو كتاب بديع في معناه وذكرناه أيضا في كتابنا المسمى (سفر الهجرتين وطريق السعادتين).
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ولا يتنعمون بها وليست الصلاة قرة أعينهم وليست الأوامر سرور قلوبهم وغذاء أرواحهم وحياتهم ولهذا يسمونها (تكاليف) أي قد كلفوا بها ولو سمى مدع لمحبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفا وقال إني إنما أفعله بكلفة لم يعده أحد محبا له ولهذا(1/91)
أنكر هؤلاء أو كثير منهم محبة العبد لربه وقالوا إنما يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم الذي يتمتع به لا أنه يحب ذاته فجعلوا المحبة لمخلوقه دونه وحقيقة العبودية هي كمال المحبة فأنكروا حقيقة العبودية ولبها وحقيقة الإلهية كونه مألوها محبوبا بغاية الحب المقرون بغاية الذل والخضوع والإجلال والتعظيم فأنكروا كونه محبوبا وذلك إنكار لإلهيته وشيخ هؤلاء هو الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبدالله القسري في يوم أضحى وقال إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا وإنما كان إنكاره لكونه تعالى محبوبا محبا لم ينكر حاجة إبراهيم إليه التي هي الخلة عند الجهمية التي يشترك فيها جميع الخلائق فكلهم أخلاء لله عندهم.
وقد بينا فساد قولهم هذا وإنكارهم محبة الله من أكثر من ثمانين وجها في كتابنا المسمى (قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين) وذكرنا فيه وجوب تعلق المحبة بالحبيب الأول من جميع طرق الأدلة النقلية والعقلية والذوقية والفطرية وأنه لا كمال للإنسان بدون ذلك ألبتة كما أنه لا كمال لجسمه إلا بالروح والحياة ولا لعينه إلا بالنور الباصر ولا لأذنه إلا بالسمع وأن الأمر فوق ذلك وأعظم
فصل
الصنف الثاني: القدرية النفاة الذين يثبتون نوعا من الحكمة والتعليل ولكن لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه بل يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته.
فعندهم: أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم وأنها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير.
قالوا ولهذا يجعلها الله تعالى عوضا كقوله: 7:43 {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله فيما يحكى عن ربه(1/92)
عز وجل: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها" وقوله تعالى 39:10 {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
قالوا: وقد سماه الله سبحانه جزاء وأجرا وثوابا لأنه يثوب إلى العامل من عمله أي يرجع إليه منه.
قالوا: ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاءا ولا أجرا ولا ثوابا معنى.
قالوا: ويدل عليه الوزن فلولا تعلق الثواب والعقاب بالأعمال واقتضائها لها وكونها كالأثمان لها لم يكن للوزن معنى وقد قال تعالى 7:8 9 {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ}.
وهاتان الطائفتان متقابلتان أشد التقابل وبينهما أعظم التباين.
فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء ألبتة وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته وينعم من أفنى عمره في معصيته وكلاهما بالنسبة إليه سواء وجوزت أن يرفع صاحب العمل القليل على من هو أعظم منه عملا وأكثر وأفضل درجات والكل عندهم راجع إلى محض المشيئة من غير تعليل ولا سبب ولا حكمة تقتضي تخصيص هذا بالثواب وهذا بالعقاب.
والقدرية أوجبت على الله سبحانه رعاية الأصلح وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنا لها وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنغيص بإحتمال منة الصدقة عليه بلا ثمن.(1/93)
فقاتلهم الله ما أجهلهم بالله وأغرهم به جعلوا تفضله وإحسانه إلى عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد حتى قالوا إن إعطاءه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد وأطيب له من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل.
فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء ألبتة.
والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده وجاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنه وصدقته على عبده إن أعانه عليها ووفقه لها وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها وحببها إليه وزينها في قلبه وكره إليه أضداها ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ولا هي على قدره بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه فلو طالبه بحقه لبقى عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها فلذلك لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بالعمل كما قال لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله وفي لفظ لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله وفي لفظ لن ينجى أحدا منكم عمله قالوا: "ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل كما في قوله 16:32 {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولا تنافي بينها إذا توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها ردا على القدرية المجوسية التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكرير المنة. وهذه الطائفة من أجهل الخلق بالله وأغلظهم عنه حجابا وحق لهم(1/94)
أن يكونوا مجوس هذه الأمة ويكفي في جهلهم بالله: أنهم لم يعلموا أن أهل سمواته وأرضه في منته وأن من تمام الفرح والسرور والغبطة واللذة: اغتباطهم بمنة سيدهم ومولاهم الحق وأنهم إنما طاب لهم عيشهم بهذه المنة وأعظمهم منه منزلة وأقربهم إليه: أعرفهم بهذه المنة وأعظمهم إقرارا بها وذكرا لها وشكرا عليها ومحبة له لأجلها فهل يتقلب أحد قط إلا في منته 49:17 {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
واحتمال منة المخلوق: إنما كانت نقصا لأنه نظيره فإذا من عليه استعلى عليه ورأى الممنون عليه نفسه دونه هذا مع أنه ليس في كل مخلوق فلرسول الله صلى الله عليه وسلم المنة على أمته وكان أصحابه يقولون: "الله ورسوله أمنّ" ولا نقص في منة الوالد على ولده ولا عار عليه في احتمالها وكذلك السيد على عبده فكيف برب العالمين الذي إنما يتقلب الخلائق في بحر منته عليهم ومحض صدقته عليهم بلا عوض منهم ألبتة؟ وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده فهو المنان عليهم بأن وفقهم لتلك الأسباب وهداهم لها وأعانهم عليها وكملها لهم وقبلها منهم على ما فيها؟ وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
فهذه باء السببية ردا على القدرية والجبرية الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال والجزاء ولا هي أسباب له وإنما غايتها أن تكون أمارات.
قالوا: وليست أيضا مطردة لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة.
فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء كما هي مبطلة لقول أولئك وأدلة المعقول والفطرة أيضا تبطل قول الفريقين وتبين لمن له قلب ولب: مقدار قول أهل السنة وهم الفرقة الوسط المثبتون لعموم مشيئة الله وقدرته وخلقه العباد(1/95)
وأعمالهم ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها وانعقادها بها شرعا وقدرا وترتيبها عليها عاجلا وآجلا.
وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق وارتكبت لأجله نوعا من الباطل بل أنواعا وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه 2:213 {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
فصل
الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النفوس واستعدادها لفيض العلوم عليها وخروج قواها عن قوى النفوس السبعية والبهيمية فلو عطلت عن العبادات لكانت من جنس نفوس السباع والبهائم والعبادات تخرجها عن مألوفاتها وعوائدها وتنقلها إلى مشابهة العقول المجردة فتصير عالمة قابلة لانتقاش صور العلوم والمعارف فيها وهذا يقوله طائفتان.
إحداهما: من يقرب إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم إنشقاق الأفلاك وعدم الفاعل المختار.
الطائفة الثانية: من تفلسفت من صوفية الإسلام وتقرب إلى الفلاسفة فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لإستعداد النفوس وتجردها ومفارقتها العالم الحسى ونزول الواردات والمعارف عليها.
ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادات إلا لهذا المعنى فإذا حصل لها بقي مخيرا في حفظه أورده أو الإشتغال بالوارد عنها ومنهم من يوجب القيام بالأوراد والوظائف وعدم الإخلال بها وهم صنفان أيضا.(1/96)
أحدهما: من يوجبونه حفظا للقانون وضبطا للنفوس.
والآخرون: الذين يوجبونه حفظا للوارد وخوفا من تدرج النفس بمفارقتها له إلى حالتها الأولى من البهيمية.
فهذه نهاية أقدام المتكلمين على طريق السلوك وغاية معرفتهم بحكم العبادة وما شرعت لأجله ولا تكاد تجد في كتب القوم غير هذه الطرق الثلاثة على سبيل الجمع أو على سبيل البدل.
فصل
وأما الصنف الرابع: فهم الطائفة المحمدية الإبراهيمية أتباع الخليلين العارفون بالله وحكمته في أمره وشرعه وخلقه وأهل البصائر في عبادته ومراده بها.
فالطوائف الثلاث محجوبون عنهم بما عندهم من الشبه الباطلة والقواعد الفاسدة ما عندهم وراء ذلك شيء قد فرحوا بما عندهم من المحال وقنعوا بما ألفوه من الخيال ولو علموا أن وراءه ما هو أجل منه وأعظم لما ارتضوا بدونه ولكن عقولهم قصرت عنه ولم يهتدوا إليه بنور النبوة ولم يشعروا به ليجتهدوا في طلبه ورأوا أن ما معهم خير من الجهل ورأوا تناقض ما مع غيرهم وفساده.
فتركب من هذه الأمور إيثار ما عندهم على ما سواه وهذه بلية الطوائف والمعافى من عافاه الله.
فصل
فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل ولم يعطلها وعرف معنى الإلهية وحقيقتها ومعنى كونه إلها بل هو الإله الحق وكل إله سواه فباطل بل أبطل الباطل وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها وارتباطها بها كإرتباط متعلق الصفات بالصفات وكإرتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة والأصوات بالسمع والإحسان بالرحمة والعطاء بالجود.(1/97)
فمن أنكر حقيقة الإلهية ولم يعرفها كيف يستقيم له معرفة حكمة العبادات وغاياتها ومقاصدها وما شرعت لأجله؟ وكيف يستقيم له العلم بأنها هي الغاية المقصودة بالخلق والتي لها خلقوا ولها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ولأجلها خلقت الجنة والنار؟ وأن فرض تعطيل الخليقة عنها نسبة لله إلى مالا يليق به ويتعالى عنه من خلق السماوات والأرض بالحق ولم يخلقهما باطلا ولم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه سدى مهملا قال تعالى 23:115 {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} أي لغير شيء ولا حكمة ولا لعبادتي ومجازاتي لكم وقد صرح تعالى بهذا في قوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فالعبادة: هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها قال الله تعالى 75:36 {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي مهملا قال الشافعي: لا يؤمر ولا ينهى وقال غيره لا يثاب ولا يعاقب والصحيح الأمران فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنهي والأمر والنهي طلب العبادة وإرادتها وحقيقة العبادة امتثالهما وقال تعالى 3:191 {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقال: 15:85 {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَق} وقال 45:22 {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}.
فأخبر أنه خلق السماوات والأرض بالحق المتضمن أمره ونهيه وثوابه وعقابه.
فإذا كانت السماوات والأرض وما بينهما خلقت لهذا وهو غاية الخلق فكيف يقال: إنه لا علة له ولا حكمة مقصودة هي غايته؟ أو إن ذلك لمجرد استئجار العباد حتى لا ينكد عليهم الثواب بالمنة أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها بمخالفة العوائد؟.
فليتأمل اللبيب الفرقان بين هذه الأقوال وبين ما دل عليه صريح الوحي يجد أن أصحاب هذه الأقوال ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته(1/98)
فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له والإنقياد لأمره.
فأصل العبادة: محبة الله بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه كما يجب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه فمحبتنا لهم من تمام محبته وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.
وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها وشاهدا لمن ادعاها فقال تعالى 3:31 {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله وشرطا لمحبة الله لهم ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله وانتفاء المتابعة ملزوم لإنتفاء محبة الله لهم فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.
ودل على أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله وطاعة أمره ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله قال الله تعالى 9:24 {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد(1/99)
منهم على قول الله ورسوله أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه أو معاملة أحدهم على معاملة الله: فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإن قاله بلسانه فهو كذب منه وإخبار بخلاف ما هو عليه وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه أو طاعته أو مرضاته ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول فيطيعه ويحاكم إليه ويتلقى أقواله كذلك فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا أو في بعض الأمور ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به فهذا الذي يخاف عليه وهو داخل تحت الوعيد فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ولم يوافقه على اتباع شيخه فهو من الظلمة المعتدين وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
فصل
وبنى {إِيَّاكَ نَعْبُد} على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب وعمل القلب الجوارح.
فالعبودية: اسم جامع لهذه المراتب الأربع فأصحاب {إِيَّاكَ نَعْبُد} حقا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله.(1/100)
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له والقيام بذكره وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضى به وعنه والموالاة فيه والمعاداة فيه والذل له والخضوع والإخبات إليه والطمأنينة به وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك.
ف {إِيَّاكَ نَعْبُد} التزام لأحكام هذه الأربعة وإقرار بها و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} طلب للإعانة عليها والتوفيق لها و { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل وإلهام القيام بهما وسلوك طريق السالكين إلى الله بها.
فصل
وجميع الرسل إنما دعوا إلى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم فقال نوح لقومه: 7:59 {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وكذلك قال هود وصالح وشعيب 7:65 ،73 ،85 وإبراهيم. قال الله تعالى 16:36 {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال 21:25 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى 23:51 52 {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.(1/101)
فصل
والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه فقال:4:172 {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} وقال: 7:206 {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} وهذا يبين أن الوقف التام في قوله في سورة الأنبياء 21:19 {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ههنا ثم يبتدىء {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} فهما جملتان تامتان مستقلتان أي إن له من في السماوات ومن في الأرض عبيدا وملكا ثم استأنف جملة أخرى فقال: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} يعني أن الملائكة الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته يعني لا يأنفون عنها ولا يتعاظمون ولا يستحسرون فيعيون وينقطعون يقال: حسر واستحسر إذا تعب وأعيا بل عبادتهم وتسبيحهم كالنفس لبني آدم فالأول: وصف لعبيد ربوبيته والثاني: وصف لعبيد إلهيته وقال تعالى 25:63 77 {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} إلى آخر السورة وقال: 76:6 {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} وقال: 38:17 {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد} وقال: 38:41 {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوب} وقال: 38:45 {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وقال عن سليمان: 38:30 {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وقال عن المسيح: 43:59 {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} فجعل غايته العبودية لا الإلهية كما يقول أعداؤه النصارى ووصف أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته فقال تعالى 2:25 { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وقال تبارك وتعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَاب} فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه وفي مقام التحدي بأن يأتوا بمثله وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ(1/102)
كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه وقال: 17:1 {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} فذكره بالعبودية في مقام الإسراء وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله" وفي الحديث "أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد" وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو قال: "قرأت في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر".
وجعل الله سبحانه البشارة المطلقة لعباده فقال تعالى: 39:18 {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وجعل الأمن المطلق لهم فقال تعالى {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} وعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به فقال: 15:42 {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وقال: 16:99، 100 {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}.
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم إحسان العبودية أعلى مراتب الدين وهو الإحسان فقال في حديث جبريل وقد سأله عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
فصل: في لزوم {إِيَّاكَ نَعْبُد} لكل عبد إلى الموت
قال الله تعالى لرسوله: 15:99 {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وقال أهل النار: 74:46، 47 {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} واليقين ههنا: هو الموت بإجماع أهل التفسير وفي الصحيح في قصة موت عثمان بن مظعون(1/103)
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه" أي الموت وما فيه فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان "من كان يعبد؟ وما يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" ويلتمسان منه الجواب وعليه عبودية أخرى يوم القيامة يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود فيسجد المؤمنون ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا.
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد فهو زنديق كافر بالله وبرسوله وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والإنسلاخ من دينه بل كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه ولهذا كان الواجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم والواجب على أولى العزم: أعظم من الواجب على من دونهم والواجب على أولى العلم أعظم من الواجب على من دونهم وكل أحد بحسب مرتبته.(1/104)
فصل: في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة
العبودية نوعان: عامة، وخاصة.
فالعبودية العامة: عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فهذه عبودية القهر والملك قال تعالى: 19:88، 93 { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وقال تعالى 25:17 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء} فسماهم عباده مع ضلالهم لكن تسمية مقيدة بالإشارة وأما المطلقة فلم تجيء إلا لأهل النوع الثاني كما سيأتي بيانه إن شاء الله.وقال تعالى: 39:46 {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وقال: 40:31 {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} وقال: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر قال تعالى: 43:68 {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} وقال: 39:18 {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وقال: 25:63، 64 {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} وقال تعالى: عن إبليس 15:40 {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فقال تعالى عنهم: 15:41 {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.فالخلق كلهم عبيد ربوبيته وأهل طاعته وولايته: هم عبيد إلهيته.(1/105)
ولا يجىء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء.
وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية: فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه: إما منكرّا كقوله {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} والثاني: معرفا باللام كقوله 40:31 {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} 40:48 {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}.
الثالث: مقيدا بالإشارة أو نحوها كقوله {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء}.
الرابع: أن يذكروا في عموم عباده فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر كقوله 39:46 {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله 39:53 {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
وقد يقال: إنما سماهم (عباده) إذ لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة.
وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة لأن أصل معنى اللفظة: الذل والخضوع يقال (طريق معبّد) إذا كان مذللا بوطء الأقدام و"فلان عبده الحب إذا ذلله لكن أولياؤه خضعوا له وذلوا طوعا واختيارا وانقيادا لأمره ونهيه وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما.
ونظير انقسام العبودية إلى خاصة وعامة: انقسام (القنوت) إلى خاص وعام و(السجود) كذلك قال تعالى في القنوت الخاص 39:9 {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} وقال في حق مريم 66:12 {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} وهو كثير في القرآن.
وقال في القنوت العام: 2:176 {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي خاضعون أذلاء.
وقال في السجود الخاص: 7:206 {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ(1/106)
عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} وقال: 19:58 {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} وهو كثير في القرآن.
وقال في السجود العام: 13:15 {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}.
ولهذا كان هذا السجود الكره غير السجود المذكور في قوله 22:18 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاس} فخص بالسجود هنا كثيرا من الناس وعمهم بالسجود في سورة النحل { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ} وهو سجود الذل والقهر والخضوع فكل أحد خاضع لربوبيته ذليل لعزته مقهور تحت سلطانه تعالى.
فصل: في مراتب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} علما وعملا
للعبودية مراتب بحسب العلم والعمل فأما مراتبها العلمية فمرتبتان:
إحداهما: العلم بالله والثانية: العلم بدينه.
فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب: العلم بذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه وتنزيهه عما لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان إحداهما: دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.
والثانية: دينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه وقد دخل في هذا العلم العلم بملائكته وكتبه ورسله.
وأما مراتبها العلمية فمرتبتان: مرتبة لأصحاب اليمين ومرتبة للسابقين المقربين فأما مرتبة أصحاب اليمين: فأداء الواجبات وترك المحرمات مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات وترك بعض المستحبات.(1/107)
وأما مرتبة المقربين: فالقيام بالواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم متورعين عما يخافون ضرره.
وخاصتهم: قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية(1/108)
فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين بل كل أعمالهم راجحة ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات وهؤلاء يأتونها طاعات وقربات ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله.
فصل
ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية.
وبيانها: أن العبودية منقسمة على القلب اللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه.
والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.(1/109)
فواجب القلب: منه متفق على وجوبه ومختلف فيه.
فالمتفق على وجوبه: كالإخلاص والتوكل والمحبة والصبر والإنابة والخوف والرجاء والتصديق الجازم والنية في العبادة وهذه قدر زائد على الإخلاص فإن الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره.
ونية العبادة لها مرتبتان.
إحداهما: تمييز العبادة عن العادة.
والثانية:تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض.
والأقسام الثلاثة واجبة.
وكذلك الصدق والفرق بينه وبين الإخلاص: أن للعبد مطلوبا وطلبا فالإخلاص: توحيد مطلوبه والصدق: توحيد طلبه.
فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسما والصدق: أن لا يكون الطلب منقسما فالصدق بذل الجهل والإخلاص إفراد المطلوب.
واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة.
وكذلك النصح في العبودية ومدار الدين عليه وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي له وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقربين.
وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان واجب مستحق.وهو مرتبة أصحاب اليمين وكمال مستحب وهو مرتبة المقربين.
وكذلك الصبر واجب بإتفاق الأمة قال الإمام أحمد: "ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن أو بضعا وتسعين وله طرفان أيضا: واجب مستحق وكمال مستحب".
وأما المختلف فيه فكالرضا فإن في وجوبه قولين للفقهاء والصوفية(1/110)
والقولان لأصحاب أحمد فمن أوجبه قال: "السخط حرام ولا خلاص عنه إلا بالرضا ومالا خلاص عن الحرام إلا به فهو واجب".
واحتجوا بأثر "من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سواي".
ومن قال هو مستحب قال: "لم يجىء الأمر به في القرآن ولا في السنة بخلاف الصبر فإن الله أمر به في مواضع كثيرة من كتابه وكذلك التوكل قال 10:84 {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وأمر بالإنابة فقال 39:54 {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} وأمر بالإخلاص كقوله {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وكذلك الخوف كقوله {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وقوله {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وكذلك الصدق قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وكذلك المحبة وهي أفرض الواجبات إذ هي قلب العبادة المأمور بها ومخها وروحها".
وأما الرضا: فإنما جاء في القرآن مدح أهله والثناء عليهم لا الأمر به.
قالوا: وأما الأثر المذكور فإسرائيلي لا يحتج به.
قالوا: وفي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن استطعت أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا" وهو في بعض السنن.
قالوا: وأما قولكم "لا خلاص عن السخط إلا به" فليس بلازم فإن مراتب الناس في المقدور ثلاثة الرضا وهو أعلاها والسخط وهو أسفلها والصبر عليه بدون الرضا به وهو أوسطها فالأولى للمقربين السابقين والثالثة للمقتصدين والثانية للظالمين وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط وهو غير راض به فالرضا أمر آخر.(1/111)
وقد أشكل على بعض الناس اجتماع الرضا مع التألم وظن أنهما متباينان وليس كما ظنه فالمريض الشارب للدواء الكريه متألم به راض به والصائم في شهر رمضان في شدةالحر متألم بصومه راض به والبخيل متألم بإخراج زكاة ماله راض بها فالتألم كما لا ينافي الصبر لا ينافي الرضا به.
وهذا الخلاف بينهم إنما هو في الرضا بقضائه الكوني وأما الرضا به ربا وإلها والرضا بأمره الديني فمتفق على فرضيته بل لا يصير العبد مسلما إلا بهذا الرضا: أن يرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.
ومن هذا أيضا اختلافهم في الخشوع في الصلاة وفيه قولان للفقهاء وهما في مذهب أحمد وغيره.
وعلى القولين اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد وأبو حامد الغزالي في إحيائه ولم يوجبها أكثر الفقهاء.
واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من سها في صلاته بسجدتي السهو ولم يأمره بالإعادة مع قوله: "إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى" ولكن لا نزاع أن هذه الصلاة لا يثاب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها ثلثها ربعها حتى بلغ عشرها" وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها" فليست صحيحة باعتبار ترتب كمال مقصودها عليها وإن سميت صحيحه باعتبار أنا لا نأمره بالإعادة(1/112)
ولا ينبغي أن يعلق لفظ الصحة عليها فيقال: "صلاة صحيحة" مع أنه لا يثاب عليها فاعلها.
والقصد: أن هذه الأعمال واجبها ومستحبها هي عبودية القلب فمن عطلها فقد عطل عبودية الملك وإن قام بعبودية رعيته من الجوارح.
والمقصود: أن يكون ملك الأعضاء وهو القلب قائما بعبوديته لله سبحانه هو ورعيته.
وأما المحرمات التي عليه: فالكبر والرياء والعجب والحسد والغفلة والنفاق وهي نوعان: كفر ومعصية.
فالكفر: كالشك والنفاق والشرك وتوابعها.
والمعصية نوعان: كبائر وصغائر.
فالكبائر: كالرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله والفرح والسرور بأذى المسلمين والشماتة بمصيبتهم ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله وتمنى زوال ذلك عنهم وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها وإلا فهو قلب فاسد وإذا فسد القلب فسد البدن.
وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب وترك القيام بها.
فوظيفة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على القلب قبل الجوارح فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولا بد وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها.(1/113)
وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها.
ومن الصغائر أيضا: شهوة المحرمات وتمنيها وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر بحسب تفاوت درجات المشتهي فشهوة الكفر والشرك: كفر وشهوة البدعة: فسق وشهوة الكبائر: معصية فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب وإن تركها عجزا بعد بذله مقدوره في تحصيلها: استحق عقوبة الفاعل لتنزيله منزلته في أحكام الثواب والعقاب وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: هذا القاتل يا رسول الله فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه" فنزله منزلة القاتل لحرصه على قتل صاحبه في الإثم دون الحكم وله نظائر كثيرة في الثواب والعقاب.
وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه.
فصل
وأما عبوديات اللسان الخمس فواجبها: النطق بالشهادتين وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن وهو ما تتوقف صحة صلاته عليه وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها ورسوله كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود وأمر بقول: "ربنا ولك الحمد" بعد الاعتدال وأمر بالتشهد وأمر بالتكبير.
ومن واجبه: رد السلام وفي ابتدائه قولان.(1/114)
ومن واجبه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل وإرشاد الضال وأداء الشهادة المتعينة وصدق الحديث.
وأما مستحبه: فتلاوة القرآن ودوام ذكر الله والمذاكرة في العلم النافع وتوابع ذلك.
وأما محرمه: فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله والدعاء إليها وتحسينها وتقويتها وكالقذف وسب المسلم وأذاه بكل قول والكذب وشهادة الزور والقول على الله بلا علم وهو أشدها تحريما.
ومكروهه: التكلم بما تركه خير من الكلام به مع عدم العقوبة عليه.
وقد اختلف السلف: هل في حقه كلام مباح متساوي الطرفين؟ على قولين ذكرهما ابن المنذر وغيره أحدهما: أنه لا يخلو كل ما يتكلم به: إما أن يكون له أو عليه وليس في حقه شيء لا له ولا عليه.
واحتجوا بالحديث المشهور وهو "كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من ذكر الله وما والاه".
واحتجوا بأنه يكتب كلامه كله ولا يكتب إلا الخير والشر.
وقالت طائفة: "بل هذا الكلام مباح لا له ولا عليه كما في حركات الجوارح".
قالوا: "لأن كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي وهذا شأن المباح".
والتحقيق: أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين بل إما راجحة وإما مرجوحة لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: "اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا" وأكثر ما يكب الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضى الله ورسوله أولا فإن كان كذلك فهو الراجح وإن لم يكن كذلك فهو(1/115)
المرجوح وهذا بخلاف سائر الجوارح فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوى الطرفين لما له في ذلك من الراحة والمنفعة فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ولا مضرة عليه فيه في الآخرة وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة فتأمله.
فإن قيل: فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل.
قيل: حركته بها عند الحاجة إليها راجحة وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده فتكون عليه لا له.
فإن قيل: فإذا كان الفعل متساوي الطرفين كانت حركة اللسان التي هي الوسيلة إليه كذلك إذ الوسائل تابعة للمقصود في الحكم.
قيل: لا يلزم ذلك فقد يكون الشيء مباحا بل واجبا ووسيلته مكروهة كالوفاء بالطاعة المنذورة هو واجب مع أن وسيلته وهو النذر مكروه منهى عنه وكذلك الحلف المكروه مرجوح مع وجوب الوفاء به أو الكفارة وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه ويباح له الإنتفاع بما أخرجته له المسألة وهذا كثير جدا فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه.
فصل
وأما العبوديات الخمس على الجوارح: فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا.إذ الحواس خمسة وعلى كل حاسة خمس عبوديات.
فعلى السمع: وجوب الإنصات والإستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه من(1/116)
استماع الإسلام والإيمان وفروضهما وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام واستماع الخطبة للجمعة في أصح قولي العلماء.
ويحرم عليه استماع الكفر والبدع إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة من رده أو الشهادة على قائله أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك وكإستماع أسرار من يهرب عنك بسره ولا يحب أن يطلعك عليه ما لم يكن متضمنا لحق لله يجب القيام به أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه.
وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن إذا لم تدع إليه حاجة: من شهادة أو معاملة أو استفتاء أو محاكمة أو مداواة ونحوها.
وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو كالعود والطنبور واليراع ونحوها ولا يجب عليه سد أذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات فحينئذ يجب لتجنب سماعها وجوب سد الذرائع.
ونظير هذا: المحرم لا يجوز له تعمد شم الطيب وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامه لم يجب عليه سد أنفه.
ونظير هذا: نظرة الفجاءة لا تحرم على الناظر وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها.
وأما السمع المستحب: فكاستماع المستحب من العلم وقراءة القرآن وذكر الله واستماع كل ما يحبه الله وليس بفرض.
والمكروه: عكسه وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه.
والمباح ظاهر.
وأما النظر الواجب: فالنظر في المصحف وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الإعيان التي يأكلها أو ينفقها أو يستمتع بها والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها ونحو ذلك.(1/117)
والنظر الحرام: النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا وبغيرها إلا لحاجة كنظر الخاطب والمستام والمعامل والشاهد والحاكم والطبيب وذي المحرم.
والمستحب: النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلما والنظر في المصحف ووجوه العلماء الصالحين والوالدين والنظر في آيات الله المشهودة ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته.
والمكروه: فضول النظر الذي لا مصلحة فيه فإن له فضولا كما للسان فضولا وكم قاد فضولها إلى فضول عز التلخص منها وأعيى دواؤها وقال بعض السلف: كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام.
والمباح: النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ولا منفعة.
ومن النظر الحرام: النظر إلى العورات وهي قسمان.
عورة وراء الثياب وعورة وراء الأبواب.
ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ففقأ عينه لم يكن عليه شيء وذهبت هدرا بنص رسول في الحديث المتفق على صحته وإن ضعفه بعض الفقهاء لكونه لم يبلغه النص أو تأوله.(1/118)
وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله كعورة له هناك ينظرها أو ريبة هو مأمور أو مأذون له في الإطلاع عليها.
وأما الذوق الواجب: فتناول الطعام والشراب عند الإضطرار إليه وخوف الموت فإن تركه حتى مات مات عاصيا قاتلا لنفسه قال الإمام أحمد وطاووس: "من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار".
ومن هذا: تناول الدواء إذا تيقن النجاة له من الهلاك على أصح القولين وإن ظن الشفاء به فهل هو مستحب مباح أو الأفضل تركه؟ فيه نزاع معروف بين السلف والخلف.
والذوق الحرام: كذوق الخمر والسموم القاتلة والذوق الممنوع منه للصوم الواجب.
وأما المكروه: فكذوق المشتبهات والأكل فوق الحاجة وذوق الطعام الفجاءة وهو الطعام الذي تفجأ آكله ولم يرد أن يدعوك إليه وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها وفي السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن طعام المتبارين" وذوق طعام من يطعمك حياء منك لا بطيبة نفس.
والذوق المستحب: أكل ما يعينك على طاعة الله عز وجل مما أذن الله فيه والأكل مع الضيف ليطيب له الأكل فينال منه غرضه والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب.
وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها للأمر به عن الشارع.
والذوق المباح: ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان.
وأما تعلق العبوديات الخمس بحاسة الشم فالشم الواجب: كل شم تعين طريقا للتمييز بين الحلال والحرام كالشم الذي تعلم به هذه العين هل هي خبيثة(1/119)
أو طيبة؟ وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه؟ أو يميز به بين ما يملك؟ الإنتفاع به وما لا يملك ومن هذا شم المقوم ورب الخبرة عند الحكم بالتقويم وشم [العبيد] ونحو ذلك.
وأما الشم الحرام: فالتعمد لشم الطيب في الإحرام وشم الطيب المغصوب والمسروق وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الإفتتان بما وراءه.
وأما الشم المستحب: فشم ما يعينك على طاعة الله ويقوي الحواس ويبسط النفس للعلم والعمل ومن هذا هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل".
والمكروه: كشم طيب الظلمة وأصحاب الشبهات ونحو ذلك.
والمباح: مالا منع فيه من الله ولا تبعة ولا فيه مصلحة دينية ولا تعلق له بالشرع.
وأما تعلق هذه الخمسة بحاسة اللمس فاللمس الواجب: كلمس الزوجة حين يجب جماعها والأمة الواجب إعفافها.
والحرام: لمس ما لا يحل من الأجنبيات.
والمستحب: إذا كان فيه غض بصره وكف نفسه عن الحرام وإعفاف أهله.
والمكروه: لمس الزوجة في الإحرام للذة وكذلك في الإعتكاف وفي الصيام إذا لم يأمن على نفسه.
ومن هذا لمس بدن الميت لغير غاسله لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له ولهذا يستحب ستره عن العيون وتغسيله في قميصه في أحد القولين ولمس فخذ الرجل إذا قلنا: هي عورة.
والمباح: مالم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية.(1/120)
وهذه المراتب أيضا مرتبة على البطش باليد والمشي بالرجل وأمثلتها لا تخفى.
فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله واجب وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف والصحيح: وجوبه ليمكنه من أداء دينه ولا يجب لإخراج الزكاة وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر والأقوى في الدليل: وجوبه لدخوله في الإستطاعة وتمكنه بذلك من أداء النسك والمشهور عدم وجوبه.
ومن البطش الواجب: إعانة المضطر ورمي الجمار ومباشرة الوضوء والتيمم.
والحرام: كقتل النفس التي حرم الله قتلها ونهب المال المعصوم وضرب من لا يحل ضربه ونحو ذلك وكأنواع اللعب المحرم بالنص كالنرد أو ما هو أشد تحريما منه عند أهل المدينة كالشطرنج أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره أو دونه عند بعضهم ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا إلا مقرونا بردها ونقضها وكتابة الزور والظلم والحكم الجائر والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم ولا سيما أن كسبت عليه مالا 2:79 {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} وكذلك كتابة المفتى على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله إلا أن يكون مجتهدا مخطئا فالإثم موضوع عنه.
وأما المكروه: فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام وكتابة مالا فائدة في كتابته ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة.
والمستحب: كتابة كل ما فيه منفعة في الدين أو مصلحة لمسلم والإحسان بيده بأن يعين صانعا أو يصنع لأخرق أو يفرغ من دلوه في دلو المستسقى أو يحمل له على دابته أو يمسكها حتى يحمل عليها أو يعاونه بيده فيما يحتاج له ونحو ذلك ومنه: لمس الركن بيده في الطواف وفي تقبيلها بعد اللمس قولان.
والمباح: مالا مضرة فيه ولا ثواب.
وأما المشي الواجب: فالمشي إلى الجمعات والجماعات في أصح القولين لبضعة(1/121)
وعشرين دليلا مذكورة في غير هذا الموضع والمشي حول البيت للطواف الواجب والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه والمشي إلى صلة رحمه وبر والديه والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر.
والحرام: المشي إلىمعصية الله وهو من رجل الشيطان قال تعالى {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قال مقاتل استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس.
وكذلك تتعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضا.
فواجبه: في الركوب في الغزو والجهاد الحج الواجب.
ومستحبه في الركوب المستحب من ذلك ولطلب العلم وصلة الرحم وبر الوالدين وفي الوقوف بعرفة نزاع هل الركوب فيه أفضل أم على الأرض؟ والتحقيق أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة: من تعليم للمناسك واقتداء به وكان أعون على الدعاء ولم يك فيه ضرر على الدابة.
وحرامه: الركوب في معصية الله عز وجل.
ومكروهه: الركوب للهو واللعب وكل ما تركه خير من فعله.
ومباحه: الركوب لما لم يتضمن فوت أجر ولا تحصيل وزر.
فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء: القلب واللسان والسمع والبصر والأنف والفم واليد والرجل والفرج والإستواء على ظهر الدابة.(1/122)
فصل في منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التي ينتقل فيها القلب منزلة منزلة في حال سيره إلى الله.
منزلة (التذكر) وهو قرين الإنابة
...
فصل منزلة التذكر
ثم ينزل القلب منزل (التذكر) وهو قرين الإنابة قال الله تعالى 40 :13 {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ} و قال: 50 :8 { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ(1/440)
منزلة الاعتصام
...
فصل منزل الاعتصام.
ثم ينزل القلب منزل الاعتصام.
وهو نوعان: اعتصام بالله واعتصام بحبل الله قال الله تعالى: 3 :103 {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقال: 22 :78 {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
و(الاعتصام) افتعال من العصمة وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف فالعصمة: الحمية والاعتصام: الاحتماء ومنه سميت القلاع: العواصم لمنعها وحمايتها.
ومدار السعادة الدنيوية والأخروية: على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة والاعتصام به: يعصم من الهلكة فإن السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.(1/460)
فالاعتصام بحبل الله: يوجب له الهداية واتباع الدليل والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يستلئم بها في طريقه ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى.
فقال ابن عباس: "تمسكوا بدين الله".
وقال ابن مسعود: "هو الجماعة" وقال: "عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة".
وقال مجاهد وعطاء: "بعهد الله" وقال قتادة والسدي وكثير من أهل التفسير: "هو القرآن".
قال ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه" وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن: "هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تختلف به الألسن ولا يخلق على كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء".
وقال مقاتل: "بأمر الله وطاعته ولا تفرقوا كما تفرقت اليهود والنصارى".
وفي الموطأ من حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال " رواه مسلم في الصحيح.
قال صاحب المنازل:
"الاعتصام بحبل الله: هو المحافظة على طاعته مراقبا لأمره".(1/461)
ويريد بمراقبة الأمر: القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأحبها لا لمجرد العادة أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر كما قال طلق بن حبيب رضي الله عنه في التقوى: "هي العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
وهذا هو الإيمان والاحتساب المشار إليه في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله من صام رمضان إيمانا واحتسابا ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له فالصيام والقيام: هو الطاعة و (الإيمان) مراقبة الأمر وإخلاص الباعث: هو أن يكون الإيمان الآمر لا شيء سواه و الاحتساب رجاء ثواب الله.
فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل والله أعلم.
فصل
وأما الاعتصام به: فهو التوكل عليه والامتناع به والاحتماء به وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه ويعصمه ويدفع عنه فإن ثمرة الاعتصام به: هو الدفع عن العبد والله يدافع عن الذين آمنوا فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب ويحميه منه فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن وشر نفسه ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه فتفقد في حقه أسباب العطب فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها ويدفع عنه قدره بقدره وإرادته بإرادته ويعيذه به منه.
فصل
وأما صاحب المنازل فقال:
"الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم".
(الموهوم) عنده ما سوى الله تعالى و (الترقي عنه) الصعود من شهود(1/462)
نفعه وضره وعطائه ومنعه وتأثيره إلى الله تعالى وهذه إشارة إلى الفناء ومراده: الصعود عن شهود ما سوى الله إلى الله والكمال في ذلك: الصعود عن إرادة ما سوى الله إلى إرادته.
والاتحادي يفسره بالصعود عن وجود ما سواه إلى وجوده بحيث لا يرى لغيره وجودا ألبتة ويرى وجود كل موجود هو وجوده فلا وجود لغيره إلا في الوهم الكاذب عنده.
قال: "وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر استسلاما وإذعانا بتصديق الوعد والوعيد وتعظيم الأمر والنهي وتأسيس المعاملة على اليقين والانصاف".
يعني أن العامة اعتصموا بالخبر الوارد عن الله استسلاما من غير منازعة بل إيمانا واستسلاما وانقادوا إلى تعظيم الأمر والنهي والإذعان لهما والتصديق بالوعد والوعيد وأسسوا معاملتهم على اليقين لا على الشك والتردد وسلوك طريقة الاحتياط كما قال القائل:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
هذه طريق أهل الريب والشك يقومون بالأمر والنهي احتياطا وهذه الطريق لا تنجي من عذاب الله ولا تحصل لصاحبها السعادة ولا توصله إلى المأمن.
وأما الإنصاف الذي أسسوا معاملتهم عليه: فهو الإنصاف في معاملتهم لله ولخلقه.
فأما الإنصاف في معاملة الله: فأن يعطى العبودية حقها وأن لا ينازع ربه صفات إلهيته التي لا تليق بالعبد ولا تنبغي له: من العظمة والكبرياء والجبروت.
ومن إنصافه لربه: أن لا يشكر سواه على نعمه وينساه ولا يستعين بها(1/463)
على معاصيه ولا يحمد على رزقه غيره ولا يعبد سواه كما في الأثر الإلهي "إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي" وفي أثر آخر: "ابن آدم: ما أنصفتني خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد أتحبب إليك بالنعم وأنا عنك غني وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح" وفي أثر آخر: "يا ابن آدم ما من يوم جديد إلا يأتيك من عندي رزق جديد وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح تأكل رزقي وتعصيني وتدعوني فأستجيب لك وتسألني فأعطيك وأنا أدعوك إلى جنتي فتأبى ذلك وما هذا من الإنصاف".
وأما الإنصاف في حق العبيد: فأن يعاملهم مثل ما يحب أن يعاملوه به.
ولعمر الله هذا الذي ذكر أنه اعتصام العامة: هو اعتصام خاصة الخاصة في الحقيقة ولكن الشيخ ممن رفع له علم الفناء فشمر إليه فلا تأخذه فيه لومة لائم ولا يرى مقاما أجل منه.
فصل
قال: "واعتصام الخاصة: بالانقطاع وهو صون الإرادة قبضا وإسبال الخلق عن الخلق بسطا ورفض العلائق عزما وهو التمسك بالعروة الوثقى".
يريد انقطاع النفس عن أغراضها من هذه الوجوه الثلاثة فيصون إرادته ويقبضها عما سوى الله سبحانه وهذا شبيه بحال أبي يزيد رحمه الله فيما أخبر به عن نفسه لما قيل له: ما تريد فقال: أريد أن لا أريد.
الثاني: إسبال الخلق على الخلق بسطا وهذا حقيقة التصوف فإنه كما(1/464)
قال أبو بكر الكتانى: التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف.
فإن حسن الخلق وتزكية النفس بمكارم الأخلاق: يدل على سعة قلب صاحبه وكرم نفسه وسجيته وفي هذا الوصف: يكف الأذى ويحمل الأذى ويوجد الراحة ويدير خده الأيسر لمن لطم الأيمن ويعطي رداءه لمن سلبه قميصه ويمشى ميلين مع من سخره ميلا وهذا علامة انقطاعه عن حظوظ نفسه وأغراضها.
وأما رفض العلائق عزما: فهو العزم التام على رفض العلائق وتركها في ظاهره وباطنه.
والأصل هو قطع علائق الباطن فمتى قطعها لم تضره علائق الظاهر فمتى كان المال في يدك وليس في قلبك لم يضرك ولو كثر ومتى كان في قلبك ضرك ولو لم يكن في يدك منه شيء.
قيل للإمام أحمد: الرجل زاهدا ومعه ألف دينار؟ قال: "نعم على شريطة ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت ولهذا كان الصحابة أزهد الأمة مع ما بأيديهم من الأموال".(1/465)
وقيل لسفيان الثوري: أيكون ذو المال زاهدا قال: "نعم إن كان إذا زيد في ماله شكر وإن نقص شكر وصبر".
وإنما يحمد قطع العلائق الظاهرة في موضعين: حيث يخاف منها ضررا في دينه أو حيث لا يكون فيها مصلحة راجحة والكمال من ذلك: قطع العلائق التي تصير كلاليب على الصراط تمنعه من العبور وهي كلاليب الشهوات والشبهات ولا يضره ما تعلق به بعدها.
فصل
قال: "واعتصام خاصة الخاصة: بالاتصال وهو شهود الحق تفريدا بعد الاستحذاء له تعظيما والاشتغال به قربا".
لما كان ذلك الانقطاع موصلا إلى هذا الاتصال: كان ذلك للمتوسطين وهذا عنده لأهل الوصول.
ويعني بشهود الحق تفريدا: أن يشهد الحق سبحانه وحده منفردا ولا شيء معه وذلك لفناء الشاهد في الشهود والحوالة في ذلك عند القوم: على الكشف.
وقد تقدم أن هذا ليس بكمال وأن الكمال: أن يفنى بمراده عن مراد نفسه وأما فناؤه بشهوده عن شهود ما سواه: فدون هذا الفناء في الرتبة كما تقدم.
وأما قوله: "بعد الاستحذاء له تعظيما" فالشيخ لكثرة لهجه بالاستعارات عبر عن معنى لطيف عظيم بلفظة الاستحذاء التي هي استفعال من المحاذاة وهي المقابلة التي لا يبقى فيها جزء من المحاذي خارجا عما حاذاه بل قد واجهه وقابله بكليته وجميع أجزائه ومراده بذلك: القرب وارتفاع الوسائط المانعة(1/466)
منه ولا ريب أن العبد يقرب من ربه والرب يقرب من عبده فأما قرب العبد: فكقوله تعالى: 96 :19 {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وقوله في الأثر الإلهي: "من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا" وكقوله: "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" وفي الحديث الصحيح: "أقرب ما يكون الرب من عبده: في جوف الليل الأخير" وفي الحديث أيضا: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وفي الحديث الصحيح لما ارتفعت أصواتهم بالتكبير مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: " يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
فعبر الشيخ رحمه الله عن طلب القرب منه ورفض الوسائط الحائلة بينه وبين القرب المطلوب الذي لا تقر عيون عابديه وأوليائه إلا به: بالاستحذاء وحقيقته: موافاة العبد إلى حضرته وقدامه وبين يديه عكس حال من نبذه وراءه ظهريا وأعرض عنه ونأى بجانبه بمنزلة من ولى المطاع ظهره ومال بشقه.
عنه وهذا الأمر لا يدرك معناه إلا بوجوده وذوقه وأحسن ما يعبر عنه: بالعبارة النبوية المحمدية وأقرب عبارات القوم: أنه التقريب برفع الوسائط التي بارتفاعها يحصل للعبد حقيقة التعظيم فلذلك قال: "الاستحذاء له تعظيما".
ومن أراد فهم هذا كما ينبغي فعليه بفهم اسمه تعالى (الباطن) وفهم(1/467)
اسمه (القريب) مع امتلاء القلب بحبه ولهج اللسان بذكره ومن ههنا يؤخذ العبد إلى الفناء الذي كان مشمرا إليه عاملا عليه.
فإن كان مشمرا إلى الفناء المتوسط وهو الفناء عن شهود السوى لم يبق في قلبه شهود لغيره ألبتة بل تضمحل الرسوم وتفنى الإشارات ويفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل وفى هذا المقام يجيب داعي الفناء طوعا ورغبة لا كرها لأن هذا المقام امتزج فيه الحب بالتعظيم مع القرب وهو منتهى سفر الطالبين لمقام الفناء.
وإن كان العبد مشمرا للفناء العالي وهو الفناء عن إرادة السوى: لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني بل يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب هو مراد العبد وهذا حقيقة المحبة الخالصة وفيها يكون الاتحاد الصحيح وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة.
فتدبر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه أفهام الواجدين.
وفي هذا المقام حقيقة يفنى من لم يكن إرادة وإيثارا ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وتوكلا ويبقى من لم يزل وفيه ترتفع الوسائط بين الرب والعبد حقيقة ويحصل له الاستحذاء المذكور مقرونا بغاية الحب وغاية التعظيم.
وفي هذا المقام: يجيب داعي الفناء في المحبة طوعا واختيارا لا كرها بل ينجذب إليه انجذاب قلب المحب وروحه الذي قد ملأت المحبة قلبه بحيث لم يبق فيه جزء فارغ منها إلى محبوبه الذي هو أكمل محبوب وأجله وأحقه بالحب.
وهذا الفناء أوجبه الحب الكامل الممتزج بالتعظيم والإجلال والقرب ومحو ما سوى مراد المحبوب من القلب بحيث لم يبق في القلب إلا المحبوب ومراده وهذا حقيقة الاعتصام به وبحبله والله المستعان.(1/468)
وأما قوله: "والاشتغال به قربا" أي يشغله قرب الحق عن كل ما سواه وهذا حقيقة القرب ألا ترى أن القريب من السلطان جدا المقبل عليه المكلم له: لا يشتغل بشيء سواه ألبتة؟ فعلى قدر القرب من الله يكون اشتغال العبد به والله أعلم.(1/469)
فصل "منزلة الفرار".
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} "منزلة الفرار".
قال الله تعالى: 51 :50 {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه} وحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى شيء وهو نوعان: فرار السعداء وفرار الأشقياء.
ففرار السعداء: الفرار إلى الله عز وجل وفرار الأشقياء: الفرار منه لا إليه.
وأما الفرار منه إليه: ففرار أوليائه قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} فروا منه إليه واعملوا بطاعته وقال سهل بن عبد الله: "فروا مما سوى الله إلى الله" وقال آخرون: "اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة".
وقال صاحب المنازل:
"هو الهرب مما لم يكن إلى من لم يزل وهو على ثلاث درجات: فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا ومن الكسل إلى التشمير جدا وعزما ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء".
يريد بما لم يكن (الخلق) وبما لم يزل (الحق).
وقوله: "فرار العامة: من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا".
(الجهل) نوعان: عدم العلم بالحق النافع وعدم العمل بموجبه ومقتضاه فكلاهما جهل لغة وعرفا وشرعا وحقيقة قال موسى: 2 :67 {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} لما قال له قومه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} أى من المستهزئين وقال يوسف الصديق: 12 :33 {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي من مرتكبي ما حرمت عليهم وقال تعالى: 4 :17 {إِنَّمَا التَّوْبَةُ(1/469)
عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قال قتادة: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما عصى الله به فهو جهالة" وقال غيره: "أجمع الصحابة رضي الله عنه أن كل من عصى الله فهو جاهل" وقال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وسمى عدم مراعاة العلم جهلا إما لأنه لم ينتفع به فنزل منزلة الجاهل وإما لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله.
فالفرار المذكور: هو الفرار من الجهلين: من الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقادا ومعرفة وبصيرة ومن جهل العمل إلى السعي النافع والعمل الصالح قصدا وسعيا.
قوله: "ومن الكسل إلى التشمير جدا وعزما"ز
أي: يفر من إجابة داعي الكسل إلى داعي العمل والتشمير بالجد والاجتهاد.
و(الجد) ههنا هو صدق العمل وإخلاصه من شوائب الفتور ووعود التسويف والتهاون وهو تحت السين وسوف وعسى ولعل فهى أضر شيء على العبد وهي شجرة ثمرها الخسران والندامات.
والفرق بين الجد والعزم: أن (العزم) صدق الإرادة واستجماعها و (الجد) صدق العمل وبذل الجهد فيه وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتلقى أوامره بالعزم والجد فقال: 2 :63 {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} وقال: 7 :145 {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} وقال: 19 :12 {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أي بجد واجتهاد وعزم لا كمن يأخذ ما أمر به بتردد وفتور.
وقوله: "ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء".
يريد هروب العبد من ضيق صدره بالهموم والغموم والأحزان والمخاوف التي تعتريه في هذه الدار من جهة نفسه وما هو خارج عن نفسه مما يتعلق بأسباب مصالحه ومصالح من يتعلق به وما يتعلق بماله وبدنه وأهله وعدوه يهرب من(1/470)
ضيق صدره بذلك كله إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى وصدق التوكل عليه وحسن الرجاء لجميل صنعه به وتوقع المرجو من لطفه وبره ومن أحسن كلام العامة قولهم: لا هم مع الله قال الله تعالى: 65 :2، 3 {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب} قال الربيع بن خثيم: "يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس" وقال أبو العالية: "مخرجا من كل شدة وهذا جامع لشدائد الدنيا والآخرة ومضايق الدنيا والآخرة فإن الله يجعل للمتقي من كل ما ضاق على الناس واشتد عليهم في الدنيا والآخرة مخرجا" وقال الحسن: "مخرجا مما نهاه عنه" 65 :3 { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافي من يثق به في نوائبه ومهماته يكفيه كل ما أهمه و(الحسب) الكافي 9 :59 {حَسْبُنَا اللَّهُ} كافينا الله.
وكلما كان العبد حسن الظن بالله حسن الرجاء له صادق التوكل عليه: فإن الله لا يخيب أمله فيه ألبتة فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل ولا يضيع عمل عامل وعبر عن الثقة وحسن الظن بالسعة فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله ورجائه له وحسن ظنه به.
فصل
قال: "وفرار الخاصة من الخبر: إلى الشهود ومن الرسوم: إلى الأصول ومن الحظوظ: إلى التجريد".
يعني أنهم لا يرضون أن يكون إيمانهم عن مجرد خبر حتى يترقوا منه إلى مشاهدة المخبر عنه فيطلبون الترقى من علم اليقين بالخبر إلى عين اليقين بالشهود كما طلب إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه ذلك من ربه إذ قال: 2 :260 {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فطلب إبراهيم أن يكون اليقين عيانا والمعلوم مشاهدا وهذا هو المعنى الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالشك في قوله "نحن أحق بالشك من إبراهيم" حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} وهو صلى الله عليه وسلم لم يشك(1/471)
ولا إبراهيم حاشاهما من ذلك وإنما عبر عن هذا المعنى بهذه العبارة.
هذا أحد الأقوال في الحديث.
وفيه قول ثان: أنه على وجه النفي أي لم يشك إبراهيم حيث قال ما قال ولم نشك نحن وهذا القول صحيح أيضا أي لو كان ما طلبه للشك لكنا نحن أحق به منه لكن لم يطلب ما طلب شكا وإنما طلب ما طلبه طمأنينة.
فالمراتب ثلاث علم يقين يحصل عن الخبر ثم تتجلى حقيقة المخبر عنه للقلب أو البصر حتى يصير العلم به عين يقين ثم يباشره ويلابسه فيصير حق يقين فعلمنا بالجنة والنار الآن علم يقين فإذا أزلفت الجنة للمتقين في الموقف وبرزت الجحيم للغاوين وشاهدوهما عيانا كان ذلك عين يقين كما قال تعالى: 102 :6، 7 {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فذلك حق اليقين وسنزيد ذلك إيضاحا إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إليه.
وأما قوله: "ومن الرسوم إلى الأصول".
فإنه يريد بالرسوم: ظواهر العلم والعمل وبالأصول: حقائق الإيمان ومعاملات القلوب وأذواق الإيمان ووارداته فيفر من إحكام العلم والعمل إلى خشوع السر للعرفان فإن أرباب العزائم في السير لا يقنعون برسوم الأعمال وظواهرها ولا يعتدون إلا بأرواحها وحقائقها وما يثبته لهم التعرف الإلهي وهو نصيبهم من الأمر.
والتعرف الإلهي لا يقتضي مفارقة الأمر كما يظن قطاع الطريق وزنادقة الصوفية بل يستخرج منهم حقائق الأمر وأسرار العبودية وروح المعاملة فحظهم من الأمر: حظ العالم بمراد المتكلم من كلامه تصريحا وإيماء وتنبيها وإشارة وحظ غيرهم منه: حظ التالي له حفظا بلا فهم ولا معرفة لمراده وهؤلاء أحوج شيء إلى الأمر لأنهم لم يصلوا إلى تلك التعرفات والحقائق إلا به فالمحافظة عليه لهم علما ومعرفة وعملا وحالا ضرورية لا عوض لهم عنه ألبتة.(1/472)
وهذا القدر هو الذي فات الزنادقة وقطاع الطريق من المنتسبين إلى طريقة القوم.
فإنهم لما علموا أن حقائق هذه الأوامر هي المطلوبة وأرواحها لا صورها وأشباحها ورسومها قالوا: نجمع هممنا على مقاصدها وحقائقها ولا حاجة لنا إلى رسومها وظواهرها بل الاشتغال برسومها اشتغال عن الغاية بالوسيلة وعن المطلوب لذاته بالمطلوب لغيره وغرهم ما رأوا فيه الواقفين مع رسوم الأعمال وظواهرها دون مراعاة حقائقها ومقاصدها وأرواحها فرأوا نفوسهم أشرف من نفوس أولئك وهممهم أعلى وأنهم المشتغلون باللب وأولئك بالقشر فتركب من تقصير هؤلاء وعدوان هؤلاء تعطيل.
وجملة الأمر: أن هؤلاء عطلوا سره ومقصوده وحقيقته وهؤلاء عطلوا رسمه وصورته فظنوا أنهم يصلون إلى حقيقته من غير رسمه وظاهره فلم يصلوا إلا إلى الكفر والزندقة وجحدوا ما علم بالضرورة مجيء الرسل به فهؤلاء كفار زنادقة منافقون وأولئك مقصرون غير كاملين والقائمون بهذا وهذا هم الذين يرون أن الأمر متوجه إلى قلوبهم قبل جوارحهم وأن على القلب عبودية في الأمر كما على الجوارح وأن تعطيل عبودية القلب بمنزلة تعطيل عبودية الجوراح وأن كمال العبودية قيام كل من الملك وجنوده بعبوديته: فهؤلاء خواص أهل الإيمان وأهل العلم والعرفان.
فصل
قوله "ومن الحظوظ إلى التجريد".
يريد الفرار من حظوظ النفوس على اختلاف مراتبها فإنه لا يعرفها إلا المعتنون بمعرفة الله ومراده وحقه على عبده ومعرفة نفوسهم وأعمالهم وآفاتهما(1/473)
ورب مطالب عالية لقوم من العباد هي حظوظ لقوم آخرين يستغفرون الله منها ويفرون إليه منها يرونها حائلة بينهم وبين مطلوبهم.
وبالجملة فالحظ: ما سوى مراد الله الدينى منك كائنا ما كان وهو ما يبرح حظ محرم إلى مكروه إلى مباح إلى مستحب غيره أحب إلى الله منه ولا يتميز هذا إلا في مقام الرسوخ في العلم بالله وأمره وبالنفس وصفاتها وأحوالها.
فهناك تتبين له الحظوظ من الحقوق ويفر من الحظ إلى التجريد وأكثر الناس لا يصلح لهم هذا لأنهم إنما يعبدون الله على الحظوظ وعلى مرادهم منه وأما تجريد عبادته على مراده من عبده:
فتلك منزلة لم يعطها أحد ... سوى نبي وصديق من البشر
والزهد زهدك فيها ليس زهدك في ... ما قد أبيح لنا في محكم السور
والصدق صدقك في تجريدها وكذا ... الإخلاص تخليصها إن كنت ذا بصر
كذا توكل أرباب البصائر في ... تجريد أعمالهم من ذلك الكدر
كذاك توبتهم منها فهم أبدا ... في توبة أو يصيروا داخل الحفر
وبالجملة فصاحب هذا التجريد: لا يقنع من الله بأمر يسكن إليه دون الله ولا يفرح بما حصل له دون الله ولا يأسى على ما فاته سوى الله ولا يستغني برتبة شريفة وإن عظمت عنده أو عند الناس فلا يستغني إلا بالله ولا يفتقر إلا إلى الله ولا يفرح إلا بموافقته لمرضاة الله ولا يحزن إلا على ما فاته من الله ولا يخاف إلا من سقوطه من عين الله واحتجاب الله عنه فكله بالله وكله لله وكله مع الله وسيره دائما إلى الله قد رفع له علمه فشمر إليه وتجرد له مطلوبه فعمل عليه تناديه الحظوظ: إلي وهو يقول: إنما أريد من إذا حصل لي حصل لي كل شيء وإذا فاتني فاتني كل شيء فهو مع الله مجرد عن خلقه ومع خلقه مجرد عن نفسه ومع الأمر مجرد عن حظه أعني الحظ المزاحم للأمر وأما الحظ المعين على الأمر: فإنه لا يحطه تناوله عن مرتبته ولا يسقطه من عين ربه(1/474)
وهذا أيضا موضع غلط فيه من غلط من الشيوخ فظنوا أن إرادة الحظ نقص في الإرادة.
والتحقيق فيه: أن الحظ نوعان حظ يزاحم الأمر وحظ يؤازر الأمر فينفذه فالأول هو المذموم والثاني ممدوح وتناوله من تمام العبودية فهذا لون وهذا لون.
فصل
قال: "وفرار خاصة الخاصة: مما دون الحق إلى الحق ثم من شهود الفرار إلى الحق ثم الفرار من شهود الفرار".
هذا على قاعدته في جعل الفناء عن الشهود غاية السالكين فيفر أولا من الخلق إلى الحق ويشهد بهذا الفرار انفراد مشهوده الذي فر إليه لكن بقيت عليه بقية وهي شهود فراره فيعدله إحساسا بالخلق فيفر ثانيا من شهود فراره فتنقطع النسب كلها بينه وبين الخلق بهذا الفرار الثاني فلا يبقى فيه بقية إلا ملاحظة فراره من شهود فراره فيفر من شهود الفرار فتنقطع حينئذ النسب كلها.
وقد تقدم الكلام على هذا وأنه ليس أعلى المقامات والرتب ولا هو غاية الكمال وأن فوقه ما هو أعلى منه مقاما وأشرف منزلا وهو أن يشهد فراره وأنه بالله من الله إلى الله فيشهد أنه فر به منه إليه ويعطي كل مشهد حقه من العبودية وهذا حال الكمل والله المستعان.(1/475)
فصل "منزلة الرياضة".
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: "منزلة الرياضة".
هي تمرين النفس على الصدق والإخلاص.
قال صاحب المنازل: "هي تمرين النفس على قبول الصدق".
وهذا يراد به أمران: تمرينها على قبول الصدق إذا عرضه عليها في أقواله وأفعاله وإرادته فإذا عرض عليها الصدق قبلته وانقادت له وأذعنت له.(1/475)
والثاني: قبول الحق ممن عرضه عليه قال الله تعالى: 39 :33 {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فلا يكفي صدقك بل لا بد من صدقك وتصديقك للصادقين فكثير من الناس يصدق ولكن يمنعه من التصديق كبر أو حسد أو غير ذلك.
قال: "وهي على ثلاث درجات: رياضة العامة وهي تهذيب الأخلاق بالعلم وتصفية الأعمال بالإخلاص وتوفير الحقوق في المعاملة".
أما تهذيب الأخلاق بالعلم: فالمراد به إصلاحها وتصفيتها بموجب العلم فلا يتحرك بحركة ظاهرة أو باطنة إلا بمقتضى العلم فتكون حركات ظاهرة وباطنة موزونة بميزان الشرع.
وأما تصفية الأعمال بالإخلاص: فهو تجريدها عن أن يشوبها باعث لغير الله وهي عبارة عن توحيد المراد وتجريد الباعث إليه.
وأما توفير الحقوق في المعاملة: فهو أن تعطي ما أمرت به من حق الله وحقوق العباد كاملا موفرا قد نصحت فيه صاحب الحق غاية النصح وأرضيته كل الرضى ففزت بحمده لك وشكره.
ولما كانت هذه الثلاثة شاقة على النفس جدا: كان تكلفها رياضة فإذا اعتادها صارت خلقا.
قال: "ورياضة الخاصة: حسم التفرق وقطع الالتفات إلى المقام الذي جاوزه وإبقاء العلم يجري مجراه".
يريد بحسم التفرق: قطع ما يفرق قلبك عن الله بالجمعية عليه والإقبال بكليتك إليه حاضرا معه بقلبك كله لا تلتفت إلى غيره.
وأما قطع الالتفات إلى المقام الذي جاوزه: فهو أن لا يشتغل باستحسان علوم ذلك المقام ولذته واستحسانه بل يلهى عنه معرضا مقبلا على الله طالبا للزيادة خائفا أن يكون ذلك المقام له حجابا يقف عنده عن السير فهمته حفظه ليس له(1/476)
قوة ولا همة أن ينهض إلى ما فوقه ومن لم تكن همته التقدم فهو في تأخر ولا يشعر فإنه لا وقوف في الطبيعة ولا في السير بل إما إلى قدام وإما إلى وراء فالسالك الصادق لا ينظر إلى ورائه ولا يسمع النداء إلا من أمامه لا من ورائه.
وأما إبقاء العلم يجرى مجراه: فالذهاب مع داعي العلم أين ذهب به والجري معه في تياره أين جرى.
وحقيقة ذلك: الاستسلام للعلم وأن لا تعارضه بجمعية ولا ذوق ولا حال بل امض معه حيث ذهب فالواجب تسليط العلم على الحال وتحكيمه عليه وأن لا يعارض به.
وهذا صعب جدا إلا على الصادقين من أرباب العزائم فلذلك كان من أنواع الرياضة.
ومتى تمرنت النفس عليه وتعودته صار خلقا وكثير من السالكين إذا لاحت له بارقة أو غلبه حال أو ذوق: خلى العلم وراء ظهره ونبذه وراءه ظهريا وحكم عليه الحال هذا حال أكثر السالكين وهي حال أهل الانحراف الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ولهذا عظمت وصية أهل الاستقامة من الشيوخ بالعلم والتمسك به.
فصل
قال: "ورياضة خاصة الخاصة: تجريد الشهود والصعود إلى الجمع ورفض لمعارضات وقطع المعاوضات".
أما تجريد الشهود فنوعان أحدهما: تجريده عن الالتفات إلى غيره والثاني: تجريده عن رؤيته وشهوده.
وأما الصعود إلى الجمع: فيعني به الصعود عن معاني التفرقة إلى الجمع الذاتي وهذا يحتمل أمرين.(1/477)
أحدهما: أن يصعد عن تفرقة الأفعال إلى وحدة مصدرها.
والثاني: أن يصعد عن علائق الأسماء والصفات إلى الذات فإن شهود الذات بدون علائق الأسماء والصفات عندهم هو حضرة الجمع وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام لا بد من تحقيقه فنقول:
التفرقة تفرقتان: تفرقة في المفعولات وتفرقة في معاني الأسماء والصفات والجمع جمعان: جمع في الحكم الكوني وجمع ذاتي.
فالجمع في الحكم الكوني: اجتماع المفعولات كلها في القضاء والقدر والحكم والجمع الذاتي: اجتماع الأسماء والصفات في الذات.
فالذات واحدة جامعة للأسماء والصفات.
والقدر: جامع لجميع المقضيات والمقدروات والشهود مترتب على هذا وهذا.
فشهود اجتماع الكائنات في قضائه وقدره وإن كان حقا فهو لا يعطى إيمانا فضلا عن أن يكون أعلى مقامات الإحسان والفناء في هذا الشهود: غايته فناء في توحيد الربوبية الذي لا ينفع وحده ولا بد منه.
وشهود اجتماع الأسماء والصفات في وحدة الذات: شهود صحيح وهو شهود مطابق للحق في نفسه.
وأما الصعود عن شهود تفرقة الأسماء والصفات وعلائقها إلى وحدة الذات المجردة: فغايته أن يكون صاحبه معذورا لضيق قلبه وأما أن يكون محمودا في شهوده ذاتا مجردة عن كل اسم وصفة وعن علائقها فكلا ولما.
وأي إيمان يعطي ذلك؟ وأي معرفة؟ وإنما هو سلب ونفي في الشهود كالسلب والنفي في العلم والاعتقاد فنسبته إلى الشهود كنسبة نفي الجهمية وسلبهم(1/478)
إلى الأخبار لكن الفرق بينهما: أن ذلك السلب في العلم والاعتقاد مخالف للحق الثابت في نفس الأمر وكذب على الله ونفي لما يستحقه من صفات كماله ونعوت جلاله ومعاني أسمائه الحسنى.
وأما هذا السلب: ففي الشعور به للصعود منه إلى الجمع الذاتي مع الإيمان به والاعتراف بثبوته فهذا لون وذاك لون.
والكمال شهود الأمر على ما هو عليه ويشهد الذات موصوفة بصفات الجلال منعوتة بنعوت الكمال وكلما كثر شهوده لمعاني الأسماء والصفات كان أكمل.
نعم قد يعذر في الفناء في الذات المجردة لقوة الوارد وضعف المحل عن شهود معاني الأسماء والصفات.
فتأمل هذا الموضوع وأعطه حقه ولا يصدنك عن تحقيق ذلك ما يحيل عليه أرباب الفناء من الكشف والذوق فإنا لا ننكره بل نقر به ولكن الشأن في مرتبته وبالله التوفيق.
وأما رفض المعارضات: فيحتمل أمرين.
أحدهما: ما يعارض شهوده الجمعي من التفرقات وهو مراده.
والثانى: ما يعارض إرادته من الإرادات وما يعارض مراد الله من المرادات وهذا أكمل من الأول وأعلى منه.
وأما قطع المعاوضات: فهو تجريد المعاملة عن إرادة المعاوضة بل يجردها لذاته وأنه أهل أن يعبد ولو لم يحصل لعابده عوض منه فإنه يستحق أن يعبد لذاته لا لعلة ولا لعوض ولا لمطلوب وهذا أيضا موضع لابد من تجريده.(1/479)
فيقال: ملاحظة المعاوضة ضرورية للعامل وإنما الشأن في ملاحظة الأعواض وتباينها فالمحب الصادق الذي قد تجرد عن ملاحظة عوض قد لاحظ أعظم الأعواض وشمر إليها وهي قربه من الله ووصوله إليه واشتغاله به عما سواه والتنعم بحبه ولذة الشوق إلى لقائه فهذه أعواض لا بد للخاصة منها وهي من أجل مقاصدهم وأغراضهم ولا تقدح في مقاماتهم وتجريد عبودياتهم بل أكملهم عبودية أشدهم التفاتا إلى هذه الأعواض.
نعم طلب الأعواض المنفصلة المخلوقة من الجاه والمال والرياسة والملك أو طلب الحور العين والقصور والولدان ونحو ذلك بالنسبة إلى تلك الأعواض التي تطلبها الخاصة معلولة وهذا لا شك فيه إذا تجرد طلبهم لها.
أما إذا كان مطلوبهم الأعظم الذاتي: هو قربه والوصول إليه والتنعم بحبه والشوق إلى لقائه وانضاف إلى هذا طلبهم لثوابه المخلوق المنفصل: فلا علة في هذه العبودية بوجه ما ولا نقص وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " حولها ندندن" يعنى الجنة وقال: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة".
ومعلوم أن هذا مسكن خاصة الخاصة وسادات العارفين فسؤالهم إياه ليس علة في عبوديتهم ولا قدحا فيها.(1/480)
وقد استوفينا ذكر هذا الموضع في (كتاب سفر الهجرتين) عند الكلام على علل المقامات.
ويحتمل أن يريد الشيخ بقطع المعاوضات: أن تشهد أن الله ما أعطاك شيئا معاوضة بل إنما أعطاكتفضلا وإحسانا لا لعوض يرجوه منك كما يكون عطاء العبد للعبد وإنما نتكلم فيما من العبد مما يؤمر بالتجرد عنه كتجرده عن التفرقة والمعاوضةفهذا أليق المعنيين بكلامه والله أعلم.(1/481)
فصل منزلة (السماع).
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة (السماع).
وهو اسم مصدر كالنبات وقد أمر الله به في كتابه وأثنى على أهله وأخبر أن البشرى لهم فقال تعالى 5 :108 {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} وقال 64 :16 {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} وقال 4 :46 {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ} وقال 39 :17، 18 {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} وقال: 7 :204 {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وقال: 5 :83 {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ}.
وجعل الإسماع منه والسماع منهم دليلا على علم الخير فيهم وعدم ذلك دليلا على عدم الخير فيهم فقال: 8 :23 {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
وأخبر عن أعدائه: أنهم هجروا السماع ونهوا عنه فقال: 41 :22 {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
فالسماع رسول الإيمان إلى القلب وداعيه ومعلمه وكم في القرآن من قوله: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} وقال: 22 : 46 {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} الآية.(1/481)
فالسماع أصل العقل وأساس الإيمان الذي انبنى عليه وهو رائده وجليسه ووزيره ولكن الشأن كل الشأن في المسموع وفيه وقع خبط الناس واختلافهم وغلط منهم من غلط.
وحقيقة (السماع) تنبيه القلب على معاني المسموع وتحريكه عنها: طلبا وهربا وحبا وبغضا فهو حاد يحدو بكل أحد إلى وطنه ومألفه.
وأصحاب السماع منهم: من يسمع بطبعه ونفسه وهواه فهذا حظه من مسموعه: ما وافق طبعه.
ومنهم: من يسمع بحاله وإيمانه ومعرفته وعقله فهذا يفتح له من المسموع بحسب استعداده وقوته ومادته.
ومنهم: من يسمع بالله لا يسمع بغيره كما في الحديث الإلهي الصحيح: "فبي يسمع وبي يبصر" وهذا أعلى سماعا وأصح من كل أحد.
والكلام في (السماع) مدحا وذما يحتاج فيه إلى معرفة صورة المسموع وحقيقته وسببه والباعث عليه وثمرته وغايته فبهذه الفصول الثلاثة يتحرر أمر (السماع) ويتميز النافع منه والضار والحق والباطل والممدوح والمذموم.
فأما (المسموع) فعلى ثلاثة أضرب.
أحدها: مسموع يحبه الله ويرضاه وأمر به عباده وأثنى على أهله ورضي عنهم به.
الثاني: مسموع يبغضه ويكرهه ونهى عنه ومدح المعرضين عنه.
الثالث: مسموع مباح مأذون فيه لا يحبه ولا يبغضه ولا مدح صاحبه ولا ذمه فحكمه حكم سائر المباحات: من المناظر والمشام والمطعومات والملبوسات المباحة فمن حرم هذا النوع الثالث فقد قال على الله ما لا يعلم وحرم ما أحل الله ومن جعله دينا وقربة يتقرب به إلى الله فقد كذب على الله وشرع دينا لم يأذن به الله وضاهأ بذلك المشركين.(1/482)
فصل
فأما النوع الأول: فهو السماع الذي مدحه الله في كتابه وأمر به وأثنى على أصحابه وذم المعرضين عنه ولعنهم وجعلهم أضل من الأنعام سبيلا وهم القائلون في النار: 67 :10 {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وهو سماع آياته المتلوة التي أنزلها على رسوله فهذا السماع أساس الإيمان الذي يقوم عليه بناؤه وهو على ثلاثة أنواع سماع إدراك: بحاسة الأذن وسماع فهم وعقل وسماع منهم إجابة وقبول والثلاثة في القرآن.
فأما سماع الإدراك: ففي قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن قولهم: 72 :1 {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِه} وقولهم: 46 :30 {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآية فهذا سماع إدراك اتصل به الإيمان والإجابة وأما سماع الفهم: فهو المنفي عن أهل الإعراض والغفلة بقوله تعالى: 30 :52 { فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وقوله: 35 :22 {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}.
فالتخصيص ههنا لإسماع الفهم والعقل وإلا فالسمع العام الذي قامت به الحجة: لا تخصيص فيه ومنه قوله تعالى: 8 :23 {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } أى لو علم الله في هؤلاء الكفار قبولا وانقيادا(1/483)
لأفهمهم وإلا فهم قد سمعوا سمع الإدراك {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي ولو أفهمهم لما انقادوا ولا انتفعوا بما فهموا لأن في قلبهم من داعي التولي والإعراض ما يمنعهم عن الانتفاع بما سمعوه.
وأما سماع القبول والإجابة: ففي قوله تعالى حكاية عن عباده المؤمنين: أنهم قالوا: 24 :51 {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فإن هذا سماع قبول وإجابة مثمر للطاعة.
والتحقيق: أنه متضمن للأنواع الثلاثة وأنهم أخبروا بأنهم أدركوا المسوع وفهموه واستجابوا له.
ومن سمع القبول: 9 :47 {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أى قابلون منهم مستجيبون لهم هذا أصح القولين في الآية.
وأما قول من قال: عيون لهم وجواسيس فضعيف فإنه سبحانه أخبر عن حكمته في تثبيطهم عن الخروج: بأن خروجهم يوجب الخبال والفساد والسعي بين العسكر بالفتنة وفي العسكر من يقبل منهم ويستجيب لهم فكان في إقعادهم عنهم لطفا بهم ورحمة حتى لا يقعوا في عنت القبول منهم.
أما اشتمال العسكر على جواسيس وعيون لهم: فلا تعلق له بحكمة التثبيط والإقعاد ومعلوم أن جواسيسهم وعيونهم منهم وهو سبحانه قد أخبر أنه أقعدهم لئلا يسعوا بالفساد في العسكر ولئلا يبغوهم الفتنة وهذه الفتنة إنما تندفع بإقعادهم وإقعاد جواسيسهم وعيونهم.
وأيضا فإن الجواسيس إنما تسمى (عيونا) هذا المعروف في الاستعمال لا تسمى سماعين.
وأيضا فإن هذا نظير قوله تعالى في إخوانهم اليهود: 5 :42 {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي قابلون له.
والمقصود: أن سماع خاصة الخاصة المقربين: هو سماع القرآن بالاعتبارات(1/484)
الثلاثة: إدراكا وفهما وتدبرا وإجابة وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم وأمر به أولياءه: فهو هذا السماع.
وهو سماع الآيات لا سماع الأبيات وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان وسماع كلام رب الأرض والسماء لا سماع قصائد الشعراء وسماع المراشد لا سماع القصائد وسماع الأنبياء والمرسلين لا سماع المغنين والمطربين.
فهذا السماع حاد يحدو القلوب إلى جوار علام الغيوب وسائق يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح ومحرك يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات ومناد ينادي للإيمان ودليل يسير بالركب في طريق الجنان وداع يدعو القلوب بالمساء والصباح من قبل فالق الإصباح "حي على الفلاح حي على الفلاح".
فلم يعدم من اختار هذا السماع إرشادا لحجة وتبصرة لعبرة وتذكرة لمعرفة وفكرة في آية ودلالة على رشد وردا على ضلالة وإرشادا من غي وبصيرة من عمى وأمرا بمصلحة ونهيا عن مضرة ومفسدة وهداية إلى نور وإخراجا من ظلمة وزجرا عن هوى وحثا على تقى وجلاء لبصيرة وحياة لقلب وغذاء ودواء وشفاء وعصمة ونجاة وكشف شبهة وإيضاح برهان وتحقيق حق وإبطال باطل.
ونحن نرضى بحكم أهل الذوق في سماع الأبيات والقصائد ونناشدهم بالذي أنزل القرآن هدى وشفاء ونورا وحياة: هل وجدوا ذلك أو شيئا منه في الدف والمزمار ونغمة الشادن ومطربات الألحان والغناء المشتمل على تهييج الحب المطلق الذي يشترك فيه محب الرحمن ومحب الأوطان ومحب الإخوان ومحب العلم والعرفان ومحب الأموال والأثمان ومحب النسوان والمردان ومحب الصلبان فهو يثير من قلب كل مشتاق ومحب لشيء ساكنه ويزعج قاطنه فيثور وجده ويبدو شوقه فيتحرك على حسب ما في قلبه من الحب والشوق(1/485)
والوجد بذلك المحبوب كائنا ما كان ولهذا تجد لهؤلاء كلهم ذوقا في السماع وحالا ووجدا وبكاء.
ويالله العجب! أي إيمان ونور وبصيرة وهدى ومعرفة تحصل باستماع أبيات بألحان وتوقيعات لعل أكثرها قيلت فيما هو محرم من يبغضه الله ورسوله ويعاقب عليه: من غزل وتشبيب بمن لا يحل له من ذكر أو أنثى فإن غالب التغزل والتشبيب: إنما هو في الصور المحرمة ومن أندر النادر تغزل الشاعر وتشبيبه في امرأته وأمته وأم ولده مع أن هذا واقع لكنه كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود فكيف يقع لمن له أدنى بصيرة وحياة قلب: أن يتقرب إلى الله ويزداد إيمانا وقربا منه وكرامة عليه بالتذاذه بما هو بغيض إليه مقيت عنده يمقت قائله والراضي به وتترقى به الحال حتى يزعم أن ذلك أنفع لقلبه من سماع القرآن والعلم النافع وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟!.
يالله ! إن هذا القلب مخسوف به ممكور به منكوس لم يصلح لحقائق القرآن وأذواق معانيه ومطالعة أسراره فبلاه بقرآن الشيطان كما في معجم الطبراني وغيره مرفوعا وموقوفا: "إن الشيطان قال: يارب اجعل لي قرآنا قال: قرآنك الشعر قال: اجعل لي كتابا قال: كتابك الوشم قال: اجعل لي مؤذنا قال: مؤذنك المزمار قال: اجعل لى بيتا قال: بيتك الحمام قال: اجعل لي مصائد قال: مصائدك النساء قال: اجعل لي طعاما قال: طعامك ما لم يذكر عليه اسمي" والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل : القسم الثاني من السماع.
ما يبغضه الله ويكرهه ويمدح المعرض عنه وهو سماع كل ما يضر العبد في قلبه ودينه كسماع الباطل كله إلا إذا تضمن رده وإبطاله والاعتبار به وقصد أن يعلم به حسن ضده فإن الضد يظهر حسنه الضد كما قيل:(1/486)
وإذا سمعت إلى حديثك زادني ... حبا له: سمعي حديث سواكا
وكسماع اللغو الذي مدح التاركين لسماعه والمعرضين عنه بقوله: 28 :55 {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} وقوله: 25 :72 {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} قال محمد بن الحنفية: "هو الغناء وقال الحسن أو غيره: أكرموا نفوسهم عن سماعه".
قال ابن مسعود: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" وهذا كلام عارف بأثر الغناء وثمرته فإنه ما اعتاده أحد إلا نافق قلبه وهو لا يشعر ولو عرف حقيقة النفاق وغايته لأبصره في قلبه فإنه ما اجتمع في قلب عبد قط محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه وتبرمهم به وصياحهم بالقارىء إذا طول عليهم وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرأه فلا تتحرك ولا تطرب ولا تهيج منها بواعث الطلب فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله كيف تخشع منهم الأصوات وتهدأ الحركات وتسكن القلوب وتطمئن ويقع البكاء والوجد والحركة الظاهرة والباطنة والسماحة بالأثمان والثياب وطيب السهر وتمني طول الليل فإن لم يكن هذا نفاقا فهو آخية النفاق وأساسه.
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا ... والله ما رقصوا من أجل الله
دف ومزمار ونغمة شاهد ... فمتى شهدت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي
وعليهم خف الغنا لما رأوا ... إطلاقه في اللهو دون مناهي
يا فرقة ما ضر دين محمد ... وجنى عليه ومله إلا هي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ويحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه(1/487)
أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النشوان عند تلاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
فاحكم بأي الخمرتين أحق بال ... تحريم والتأثيم عند الله
وكيف يكون السماع الذي يسمعه العبد بطبعه وهواه أنفع له من الذي يسمعه بالله ولله وعن الله فإن زعموا أنهم يسمعون هذا السماع الغنائي الشعري كذلك فهذا غاية اللبس على القوم فإنه إنما يسمع بالله ولله وعن الله ما يحبه الله ويرضاه ولهذا قلنا: إنه لا يتحرر الكلام في هذه المسألة إلا بعد معرفة صورة المسموع وحقيقته ومرتبته فقد جعل الله لكل شيء قدرا ولن يجعل الله من شربه ونصيبه وذوقه ووجده من سماع الآيات البينات كمن نصيبه وشربه وذوقه ووجده من سماع الغناء والأبيات.
ومن أعجب العجائب: استدلال من استدل على أن هذا السماع من طريق لقوم وأنه مباح: بكونه مستلذا طبعا تلذه النفوس وتستروح إليه وأن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب والجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عليه بالحداء وبأن الصوت الطيب نعمة من الله على صاحبه وزيادة في خلقه وبأن الله ذم الصوت الفظيع فقال: 31 : 19 {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} وبأن الله وصف نعيم أهل الجنة فقال فيه: 30 :15 {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} وأن ذلك هو السماع الطيب فكيف يكون حراما وهو في الجنة وبأن الله تعالى ما أذن لشيء كأذنه أي كاستماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن وبأن أبا موسى الأشعري استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى صوته وأثنى عليه بحسن الصوت وقال: "لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود" فقال له أبو موسى: "لو علمت أنك استمعت لحبرته لك تحبيرا" أي زينته لك وحسنته وبقوله صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم"(1/488)
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" والصحيح: أنه من التغني بمعنى تحسين الصوت وبذلك فسره الإمام أحمد رحمه الله فقال: "يحسنه بصوته ما استطاع".
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة على غناء القينتين يوم العيد وقال لأبي بكر: "دعهما فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام".
وبأنه صلى الله عليه وسلم أذن في العرس في الغناء وسماه لهوا وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحداء وأذن فيه وكان يسمع أنسا والصحابة وهم يرتجزون بين يديه في حفر الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
ودخل مكة والمرتجز يرتجز بين يديه بشعر عبد الله بن رواحة وحدا به الحادي في منصرفه من خيبر فجعل يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن إن صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا... ... ...
فدعا لقائله.
وسمع قصيدة كعب بن زهير وأجازه ببردة.
واستنشد الأسود بن سريع قصائد حمد بها ربه.
واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت مائة قافية.
وأنشده الأعشى شيئا من شعره فسمعه.
وصدق لبيدا في قوله "ألا كل شيءما خلا الله باطل".
ودعا لحسان "أن يؤيده الله بروح القدس مادام ينافح عنه" وكان يعجبه شعره وقال له: "اهجهم وروح القدس معك".(1/489)
وأنشدته عائشة قول أبي كبير الهذلي:
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
وقالت: "أنت أحق بهذا البيت" فسر بقولها.
وبأن ابن عمر رضي الله عنهما رخص فيه وعبد الله بن جعفر وأهل المدينة وبأن كذا وكذا وليا لله حضروه وسمعوه فمن حرمه فقد قدح في هؤلاء السادة القدوة الأعلام.
وبأن الإجماع منعقد على إباحة أصوات الطيور المطربة الشجية فلذة سماع صوت الآدمي أولى بالإباحة أو مساوية.
وبأن السماع يحدو روح السامع وقلبه إلى نحو محبوبه فإن كان محبوبه حراما كان السماع معينا له على الحرام وإن كان مباحا كان السماع في حقه مباحا وإن كانت محبته رحمانية كان السماع في حقه قربة وطاعة لأنه يحرك المحبة الرحمانية ويقويها ويهيجها.
وبأن التذاذ الأذن بالصوت الطيب كالتذاذ العين بالمنظر الحسن والشم بالروائح الطيبة والفم بالطعوم الطيبة فإن كان هذا حراما كانت جميع هذه اللذات والإدراكات محرمة.
فالجواب: أن هذه حيدة عن المقصود وروغان عن محل النزاع وتعلق بما(1/490)
لا متعلق به فإن جهة كون الشىء مستلذا للحاسة ملائما لها لا يدل على إباحته ولا تحريمه ولا كراهته ولا استحبابه فإن هذه اللذة تكون فيما فيه الأحكام الخمسة: تكون في الحرام والواجب والمكروه والمستحب والمباح فكيف يستدل بها على الإباحة من يعرف شروط الدليل ومواقع الاستدلال؟.
وهل هذا إلا بمنزلة من استدل على إباحة الزنا بما يجده فاعله من اللذة وأن لذته لا ينكرها من له طبع سليم: وهل يستدل بوجود اللذة والملاءمة على حل اللذيذ الملائم أحد؟ وهل خلت غالب المحرمات من اللذات؟ وهل أصوات المعازف التي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها وأن في أمته من سيستحلها بأصح إسناد وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها وقال جمهورهم: بتحريم جملتها إلا لذيذة تلذ السمع؟ وهل في التذاذ الجمل والطفل بالصوت الطيب دليل على حكمه: من إباحة أو تحريم؟.
وأعجب من هذا: الاستدلال على الإباحة بأن الله خلق الصوت الطيب وهو زيادة نعمة منه لصاحبه.
فيقال: والصورة الحسنة الجميلة أليست زيادة في النعمة والله خالقها ومعطي حسنها أفيدل ذلك على إباحة التمتع بها والالتذاذ على الإطلاق بها؟.
وهل هذا إلا مذهب أهل الإباحة الجارين مع رسوم الطبيعة؟
وهل في ذم الله لصوت الحمار ما يدل على إباحة الأصوات المطربات بالنغمات الموزونات والألحان اللذيذات من الصور المستحسنات بأنواع القصائد المنغمات بالدفوف والشبابات؟!.
وأعجب من هذا: الاستدلال بسماع أهل الجنة وما أجدر صاحبه أن يستدل على إباحة الخمر بأن في الجنة خمرا و على حل لباس الحرير بأن لباس أهلها حرير وعلى حل أواني الذهب والفضة والتحلي بهما للرجال: بكون ذلك ثابتا وجود النعيم به في الجنة.(1/491)
فإن قال: قد قام الدليل على تحريم هذا ولم يقم على تحريم السماع.
قيل: هذا استدلال آخر غير الاستدلال بإباحته لأهل الجنة فعلم أن استدلالكم بإباحته لأهل الجنة استدلال باطل لا يرضى به محصل.
وأما قولكم "لم يقم دليل على تحريم السماع".
فيقال لك: أي السماعات تعني؟ وأي المسموعات تريد؟ فالسماعات والمسموعات: منها المحرم والمكروه والمباح والواجب والمستحب فعين نوعا يقع الكلام فيه نفيا وإثباتا.
فإن قلت: سماع القصائد قيل لك: أي القصائد تعني؟ ما مدح به الله ورسوله ودينه وكتابه وهجي به أعداؤه؟.
فهذه لم يزل المسلمون يروونها ويسمعونها ويتدارسونها وهي التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأثاب عليها وحرض حسانا عليها وهي التي غرت أصحاب السماع الشيطاني فقالوا: تلك قصائد وسماعنا قصائد فنعم إذن والسنة كلام والبدعة كلام والتسبيح كلام والغيبة كلام والدعاء كلام والقذف كلام ولكن هل سمع رسول الله وأصحابه سماعكم هذا الشيطاني المشتمل على أكثر من مفسدة مذكورة في غير هذا الموضع وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعضها؟.
ونظير هذا: ما غرهم من استحسانه الصوت الحسن بالقرآن وأذنه له وإذنه فيه ومحبة الله له.
فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النسوان والمردان وغيرهم بالغناء المقرون بالمعازف والشاهد وذكر القد والنهد والخصر ووصف العيون وفعلها والشعر الأسود ومحاسن الشباب وتوريد الخدود وذكر الوصل والصد والتجني(1/492)
والهجران والعتاب والاستعطاف والاشتياق والقلق والفراق وما جرى هذا المجرى مما هو أفسد للقلب من شرب الخمر بما لا نسبة بينهما وأي نسبة لمفسدة سكر يوم ونحوه إلى سكرة العشق التي لايستفيق الدهر صاحبها إلا في عسكر الهالكين سليبا حريبا وأسيرا قتيلا؟.
وهل تقاس سكرة الشراب بسكرة الأرواح بالسماع وهل يظن بحكيم أن يحرم سكرا لمفسدة فيه معلومة ويبيح سكرا مفسدته أضعاف أضعاف مفسدة الشراب حاشا أحكم الحاكمين.
فإن نازعوا في سكر السماع وتأثيره في العقول والأرواح: خرجوا عن الذوق والحس وظهرت مكابرة القوم فكيف يحمي الطبيب المريض عما يشوش عليه صحته ويبيح له مافيه أعظم السقم والمنصف يعلم أنه لا نسبة بين سقم الأرواح بسكر الشراب وسقمها بسكر السماع وكلامنا مع واجد لا فاقد فهو المقصود بالخطاب.
وأعجب من هذا: استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنيتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم فأين هذا من هذا؟.
والعجب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك: مزمورا من مزامير الشيطان وأقره رسول الله على هذه التسمية ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولا إستماعهما أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى؟ فيا سبحان الله ! كيف ضلت العقول والأفهام؟.
وأعجب من هذا كله: الاستدلال على إباحته بما سمعه رسول الله صلى الله(1/493)
عليه وسلم من الحداء المشتمل على الحق والتوحيد ! وهل حرم أحد مطلق الشعر وقوله واستماعه فكم في هذا التعلق ببيوت العنكبوت؟.
وأعجب من هذا: الاستدلال على إباحته بإباحة أصوات الطيور اللذيذة وهل هذا إلا من جنس قياس الذين قالوا: 2 :275 {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وأين أصوات الطيور إلى نغمات الغيد الحسان والأوتار والعيدان وأصوات أشباه النساء من المردان والغناء بما يحدو الأرواح والقلوب إلى مواصلة كل محبوبة ومحبوب وأين الفتنة بهذا إلى الفتنة بصوت القمرى والبلبل والهزار ونحوها؟.
بل نقول: لو كانا سواء لكان اتخاذ هذا السماع قربة وطاعة تستنزل به المعارف والأذواق والمواجيد وتحرك به الأحوال بمنزلة التقرب إلى الله بأصوات الطيور ومعاذ الله أن يكونا سواء.
والذي يفصل النزاع في حكم هذه المسألة: ثلاث قواعد من أهم قواعد الإيمان والسلوك فمن لم يبن عليها فبناؤه على شفا جرف هار.
القاعدة الأولى:
أن الذوق والحال والوجد: هل هو حاكم أو محكوم عليه فيحكم عليه بحاكم آخر أو ويتحاكم إليه؟.
فهذا منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة حيث جعلوه حاكما فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع وفيما هو صحيح وفاسد وجعلوه محكا للحق والباطل فنبذوا لذلك موجب العلم والنصوص وحكموا فيها الأذواق(1/494)
والأحوال والمواجيد فعظم الأمر وتفاقم الفساد والشر وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم وانعكس السير وكان إلى الله فصيروه إلى النفوس فالناس المحجوبون عن أذواقهم يعبدون الله وهؤلاء يعبدون نفوسهم.
ومن العجب: أنهم دخلوا في أنواع الرياضات والمجاهدات والزهد ليتجردوا عن شهوات النفوس وحظوظها فانتقلوا من شهوات إلى شهوات أكبر منها ومن حظوظ إلى حظوظ أحط منها وكان حالهم شهوات نفوسهم في الشهوات التي انتقلوا عنها أكمل وحال أربابها خير من حال هؤلاء لأنهم لم يعارضوا بها العلم ولا قدموها على النصوص ولا جعلوها دينا وقربة ولا ازدروا من أجلها العلم وأهله والشهوات التي انتقلوا إليها جعلوها أعلى ما يشمرون إليها فهي قبلة قلوبهم فهم حولها عاكفون واقفون مع حظوظهم من الله فانون بها عن مراد الله منهم الناس يعبدون الله وهم يعبدون أنفسهم عائبون على أهل الحظوظ والشهوات ومزدرون لهم وهم أعظم الناس حظوظا وإنما زهدوا في حظ إلى حظ أعلى منه وإنما تركوا شهوة لشهوة أحط.
فليتدبر اللبيب هذا الموضع في نفسه وفي غيره فكل ما خالف مراد الله الديني من العبد فهو حظه وشهوته مالا كان أو رياسة أو صورة أو حالا أو ذوقا أو وجدا.
ثم من قدمه على مراد الله فهو أسوأ حالا ممن عرف أنه نقص ومحنة وأن مراد الله أولى بالتقديم منه فهو يتوب منه كل وقت إلى الله.
ثم إنه وقع من تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلا الله فإن الأذواق مختلفة في أنفسها كثيرة الألوان متباينة أعظم التباين فكل طائفة لهم أذواق وأحوال ومواجيد بحسب معتقداتهم وسلوكهم.
فالقائلون بوحدة الوجود لهم ذوق وحال ووجد في معتقدهم بحسبه والنصارى لهم ذوق في النصرانية بحسب رياضتهم وعقائدهم وكل من اعتقد شيئا أو سلك(1/495)
سلوكا حقا كان أو باطلا فإنه إذا ارتاض وتجرد: لزمه وتمكن من قلبه وبقي له فيه حال وذوق ووجد فنذوق من توزن الحقائق إذن ويعرف الحق من الباطل.
وهذا سيد أهل الأذواق والمواجيد والكشوف والأحوال من هذه الأمة المحدث المكاشف عمر رضى الله عنه لا يلتفت إلى ذوقه ووجده ومخاطباته في شيء من أمور الدين حتى ينشد عنه الرجال والنساء والأعراب فإذا أخبروه عن رسول الله بشيء لم يلتفت إلى ذوقه ولا إلى وجده وخطابه بل يقول: لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره ويقول: أيها الناس رجل أخطأ وامرأة أصابت فهذا فعل الناصح لنفسه وللأمة رضي الله عنه ليس كفعل من غش نفسه والدين والأمة.
القاعدة الثانية:
أنه إذا وقع النزاع في حكم فعل من الأفعال أو حال من الأحوال أو ذوق من الأذواق هل هو صحيح أو فاسد؟ وحق أو باطل؟ وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين وهي وحيه الذي تتلقى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه وتعرض عليه وتوزن به فما زكاه منها وقبله ورجحه وصححه فهو المقبول وما أبطله ورده فهو الباطل المردود ومن لم يبن على هذا الأصل علمه وسلوكه وعمله: فليس على شيء من الدين وإن وإن وإنما معه خدع وغرور24 :39 {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
القاعدة الثالثة:
إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء: هل هو الإباحة أو التحريم؟ فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي(1/496)
ولا سيما إذا كان طريقا مفضيا إلى ما يغضب الله ورسوله موصلا إليه عن قرب وهو رقية له ورائد وبريد فهذا لا يشك في تحريمه أولو البصائر فكيف يظن بالحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر لأنه يسوق النفس إلى السكر الذي يسوقها إلى المحرمات ثم يبيح ما هو أعظم منه سوقا للنفوس إلى الحرام بكثير؟ فإن الغناء كما قال ابن مسعود رضي الله عنه هو: (رقية الزنا) وقد شاهد الناس: أنه ما عاناه صبي إلا وفسد ولا امرأة إلا وبغت ولا شاب إلا وإلا ولا شيخ إلا وإلا والعيان من ذلك يغني عن البرهان ولا سيما إذا جمع هيئة تحدو النفوس أعظم حدو إلى المعصية والفجور بأن يكون على الوجه الذي ينبغي لأهله من المكان والإمكان والعشراء والإخوان وآلات المعازف: من اليراع والدف والأوتار والعيدان وكان القوال شادنا شجي الصوت لطيف الشمائل من المردان أو النسوان وكان القول في العشق والوصال والصد والهجران.
ودارت كؤوس الهوى بينهم ... فلست ترى فيهم صاحيا
فكل على قدر مشروبه ... وكل أجاب الهوى الداعيا
فمالوا سكارى ولا سكر من ... تناول أم الهوى خاليا
وجار على القوم ساقيهم ... ولم يؤثروا غيره ساقيا
فمزق منهم قلوبا غدت ... لباسا عليه يرى ضافيا
فلم يستفيقوا إلى أن أتى ... إليهم منادي اللقا داعيا
أجيبوا فكل امرىء منكم ... على حاله ربه لاقيا
هنالك تعلم من حمأة ... شربت مع القوم أم صافيا
وبالله لا بد قبل اللقا ... سنعلم ذا إن تك واعيا
لا بد تصحو فإما هنا ... وإما هناك فكن راضيا(1/497)
فصل
وإذا لم يكن بد من المحاكمة إلى الذوق فهلم نحاكمك إلى ذوق لا ننكره نحن ولا أنت غير هذه الأذواق التي ذكرناها.
فالقلب يعرض له حالتان: حالة حزن وأسف على مفقود وحالة فرح ورضى بموجود وله بمقتضى هاتين الحالتين عبوديتان.
وله بمقتضى الحالة الأولى: عبودية الرضاء وهي للسابقين والصبر وهي لأصحاب اليمين.
وله بمقتضى الحالة الثانية: عبودية الشكر والشاكرون فيها أيضا نوعان: سابقون وأصحاب يمين فاقتطعته النفس والشيطان عن هاتين العبوديتين بصوتين أحمقين فاجرين هما للشيطان لا للرحمن: صوت الندب والنياحة عند الحزن وفوات المحبوب وصوت اللهو والمزمار والغناء عند الفرح وحصول المطلوب فعوضه الشيطان بهذين الصوتين عن تينك العبوديتين.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه في حديث أنس رضي الله عنه: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت ويل عند مصيبة وصوت مزمار عند نعمة".
ووافق ذلك راحة من النفس وشهوة ولذة وسرت فيها تلك الرقائق حتى تعبد بها من قل نصيبه من النور النبوي وقل مشربه من العين المحمدية وانضاف ذلك إلى صدق وطلب وإرادة مضادة لشهوات أهل الغي وأهل البطالة ورأوا قساوة قلوب المنكرين لطريقتهم وكثافة حجبهم وغلظة طباعهم وثقل أرواحهم وصادف ذلك تحريكا لسواكنهم وانقيادا للواعج الحب وإزعاجا للنفوس إلى أوطانها الأولى ومعاهدها التي سبيت منها والنفوس(1/498)
الطالبة المرتاضة السائرة لا بد لها من محرك يحركها وحاد يحدوها وليس لها من حادي القرآن عوض عن حادي السماع.
فتركب من هذه الأمور: إيثار منهم للسماع ومحبة صادقة له تزول الجبال عن أماكنها ولا تفارق قلوبهم إذ هو مثير عزماتهم ومحرك سواكنهم ومزعج بواطنهم.
فدواء صاحب مثل هذا الحال: أن ينقل بالتدريج إلى سماع القرآن بالأصوات الطيبة مع الإمعان في تفهم معانيه وتدبر خطابه قليلا قليلا إلى أن فيخلع قلبه محبة سماع الأبيات ويلبس محبة سماع الآيات ويصير ذوقه وشربه وحاله ووجده فيه فحينئذ يعلم هو من نفسه: أنه لم يكن على شيء ويتمثل حينئذ بقول القائل:
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى ... إلى غاية ما فوقها لي مطلب
فلما تلاقينا وعاينت حسنها ... تيقنت أني إنما كنت ألعب
ومنافاة النوح للصبر والغناء للشكر: أمر معلوم بالضرورة من الدين لا يمتري فيه إلا أبعد الناس من العلم والإيمان فإن الشكر إنما هو الاشتغال بطاعة الله(1/499)
لا بالصوت الأحمق الفاجر الذي هو للشيطان وكذلك النوح ضد الصبر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النائحة وقد ضربها حتى بدا شعرها وقال: "لا حرمة لها إنها تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه وتنهى عن الصبر وقد أمر الله به وتفتن الحي وتؤذي الميت وتبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها".
ومعلوم عند الخاصة والعامة: أن فتنة سماع الغناء والمعازف أعظم من فتنة النوح بكثير والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب: أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو وبلوا بالقحط والجدب وولاة السوء والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر والله المستعان.
ولا تستطل كلامنا في هذه المنزلة فإن لها عند القوم شأنا عظيما.
وأما قولهم: "من أنكر على أهله فقد أنكر على كذا وكذا ولي لله" فحجة عامية نعم إذا أنكر أولياء الله على أولياء الله كان ماذا فقد أنكر عليهم من أولياء الله من هو أكثر منهم عددا وأعظم عند الله وعند المؤمنين منهم قدرا وأقرب بالقرون المفضلة عهدا وليس من شرط ولي الله العصمة وقد تقاتل أولياء الله في صفين بالسيوف ولما سار بعضهم إلى بعض كان يقال: سار أهل الجنة إلى أهل الجنة وكون ولي الله يرتكب المحظور والمكروه متأولا أو عاصيا(1/500)
لا يمنع ذلك من الإنكار عليه ولا يخرجه عن أصل ولاية الله وهيهات هيهات أن يكون أحد من أولياء الله المتقدمين حضر هذا السماع المحدث المبتدع المشتمل على هذه الهيئة التي تفتن القلوب أعظم من فتنة المشروب وحاشا أولياء الله من ذلك وإنما السماع الذي اختلف فيه مشايخ القوم: اجتماعهم في مكان خال من الاغيار يذكرون الله ويتلون شيئا من القرآن ثم يقوم بينهم قوال ينشدهم شيئا من الأشعار المزهدة في الدنيا المرغبة في لقاء الله ومحبته وخوفه ورجائه والدار الآخرة وينبههم على بعض أحوالهم من يقظة أو غفلة أو بعد أو انقطاع أو تأسف على فائت أو تدارك لفارط أو وفاء بعهد أو تصديق بوعد أو ذكر قلق وشوق أو خوف فرقة أو صد وما جرى هذا المجرى.
فهذا السماع الذي اختلف فيه القوم لا سماع المكاء والتصدية والمعازف والخمريات وعشق الصور من المردان والنسوان وذكر محاسنها ووصالها وهجرانها فهذا لو سئل عنه من سئل من أولي العقول لقضى بتحريمه وعلم أن الشرع لا يأتي بإباحته وأنه ليس على الناس أضر منه ولا أفسد لعقولهم وقلوبهم وأديانهم وأموالهم وأولادهم وحريمهم منه والله أعلم.
فصل
قال صاحب المنازل:
"السماع على ثلاث درجات: سماع العامة وهو ثلاثة أشياء: إجابة زجر الوعيد رغبة وإجابة دعوة الوعد جهدا وبلوغ مشاهدة المنة استبصارا".(1/501)
الوعيد: يكون على ترك المأمور وفعل المحظور وإجابة داعيه: هو العمل بالطاعة.
وقوله: (رغبة) يعني امتثالا لكون الله تعالى أمر ونهى وأوعد.
وحقيقة الرجاء: الخوف والرجاء فيفعل ما أمر به على نور الإيمان راجيا للثواب ويترك ما نهى عنه على نور الإيمان خائفا من العقاب.
وفي الرغبة فائدة أخرى وهي أن فعله يكون فعل راغب مختار لا فعل كاره كأنما يساق إلى الموت وهو ينظر.
وأما إجابة الوعد جهدا: فهو امتثال الأمر طلبا للوصول إلى الموعود به باذلا جهده في ذلك مستفرغا فيه قواه.
وأما بلوغ مشاهدة المنة استبصارا: فهو تنبه السامع في سماعه إلى أن جميع ما وصله من خير فمن منة الله عليه وبفضله عليه من غير استحقاق منه ولا بذل عوض استوجب به ذلك كما قال تعالى: 49 : 17 {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وكذلك يشهد أن ما زوي عنه من الدنيا أو ما لحقه منها من ضرر وأذى فهو منة أيضا من الله عليه من وجوه كثيرة ويستخرجها الفكر الصحيح كما قال بعض السلف: "يا ابن آدم لا تدري أي النعمتين عليك أفضل: نعمته فيما أعطاك أو نعمته فيما زوى عنك؟" وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه "لا أبالي على أي حال أصبحت أو أمسيت إن كان الغنى إن فيه للشكر وإن كان الفقر إن فيه للصبر" وقال بعض السلف: "نعمته فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما بسط لي منها إني رأيته أعطاها قوما فاغتروا".
إذا عم بالسراء أعقب شكرها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر
فإن قلت: فهل يشهد منته فيما لحقه من المعصية والذنب؟.(1/502)
قلت: نعم إذا اقترن بها التوبة النصوح والحسنات الماحية كانت من أعظم المنن عليه كما تقدم تقريره.
فصل
قال: "وسماع الخاصة: ثلاثة أشياء شهود المقصود في كل رمز والوقوف على الغاية في كل حين والخلاص من التلذذ بالتفرق".
والمقصود في كل رمز: هو فإن المسموع كله يعرف به وبصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه ووعده ووعيده وأمره ونهيه وعدله وفضله وهذا الشهود ينال بالسماع بالله ولله وفي الله ومن الله.
أما السماع به: فأن لا يسمع وفيه بقية من نفسه فإن كانت فيه بقية قطعها كمال تعلقه بالمسموع فيكون سماعه بقيوميته مجردا من التفاته إلى نفسه.
وأما السماع له: فأن يجرد النفس في السماع من كل إرادة تزاحم مراد الله منه وتجمع قوى سمعه على تحصيل مراد الله من المسموع.
وأما السماع فيه: فشأن آخر وهو تجريد ما لا يليق نسبته إلى الحق من وصف أو سمة أو نعت أو فعل مما هو لائق بكماله فيثبت له ما يليق بكماله من المسموع وينزهه عما لا يليق به.
وهذا الموضع لم يتخلص فيه إلا الراسخون في العلم والمعرفة بالله وأضل الله عنه أهل التحريف والتعطيل والتشبيه والتمثيل 2 :213 {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وأما السماع منه: فإنما يتصور بواسطة فهو سماع مقيد وأما المطلق: فلا مطمع فيه في عالم الفناء إلا لمن اختصه الله برسالاته وبكلامه ولكن السماع لكلامه كالسماع منه فإنه كلامه الذي تكلم به حقا فمن سمعه فليقدر نفسه كأنه يسمعه من الله.
هذا هو السماع من الله لا سماع أرباب الخيال ودعوى المحال القائل(1/503)
أحدهم: ناداني في سري وخاطبني وقال لي يا ليت شعري من المنادي لك ومن المخاطب يا مخدوع يا مغرور؟ فما يدريك: أنداء شيطاني أم رحماني؟ وما البرهان على أن المخاطب لك هو الرحمن؟.
نعم نحن لا ننكر النداء والخطاب والحديث وإنما الشأن في المنادي المخاطب المحدث فههنا تسكب العبرات.
وبالجملة فمن قرىء عليه القرآن فليقدر نفسه كأنما يسمعه من الله يخاطبه به فإذا حصل له مع ذلك السماع به وله وفيه ازدحمت معانى المسموع ولطائفه وعجائبه على قلبه وازدلفت إليه بأيهما يبدأ فما شئت من علم وحكم وتعرف وبصيرة وهداية وغيرة.
وأما الوقوف على الغاية في كل حين: فهو التطلب والسفر إلى الغاية المقصودة بالمسموع الذي جعل وسيلة إليها وهو الحق سبحانه فإنه غاية كل طلب 53 :42 {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} وليس وراء الله مرمى ولا دونه مستقر ولا تقر العين بغيره ألبتة وكل مطلوب سواه فظل زائل وخيال مفارق مائل وإن تمتع به صاحبه فمتاع الغرور.
وأما الخلاص من التلذذ بالتفرق: فالتفرق في معاني المسموع وتنقل القلب في منازلها يوجب له لذة كما هو المألوف في الانتقال فليتخلص من لذة تفرقه التي هي حظه إلى الجمعية على المسموع به وله ومنه.
ولم يقل الشيخ (من التفرق) فإن المسموع إنما يدرك معناه ويفهم بالتفرق لتنوعه ولكن ليتخلص من لذته لا منه لئلا يكون مع حظه وهذا من لطف أحوال السامعين المخلصين.
فصل
قال: "وسماع خاصة الخاصة: سماع ينفي العلل عن الكشف ويصل الأبد إلى الأزل ويرد النهايات إلى الأول".(1/504)
فالكشف: هو مكافحة القلب لحقيقة المسموع وعلله أمران.
أحدهما: الشبه التي تنتفي بهذه المكافحة فلا تبقى معها شبهة فهذا هو عين اليقين.
والثاني: نفي الوسائط بين السامع والمسموع فيغيب بمسموعه عنها ويفنى عن شهودها ويفنى عن شهود فنائه عنها بحيث يشهده هو المسمع لا الواسطة وهو الهادي فمنه الإسماع ومنه الهداية ومنه الابتداء وإليه الانتهاء.
وأما وصله الأبد إلى الأزل: فهذا إن أخذ على ظاهره: فهو محال لأن الأبد والأزل متقابلان تقابل التناقض فإيصال أحدهما إلى الآخر عين المحال وإنما مراده: أن ما يكون في الأبد موجودا مشهودا فقد كان في الأزل معلوما مقدرا فعاد حكم الأبد إلى الأزل علما وحقيقة وصار الأزلي أبديا كما كان الأبدى أزليا في العلم والحكم.
وإيضاح ذلك: أن الأبد ظهر فيه ما كان كامنا في الأزل خافيا فانتهى الأمر كله إلى علمه وحكمه وحكمته وذلك أزلي وهذا رد النهايات إلى الأول فتصير الخاتمة هي عين السابقة والله تعالى هو الأول والآخر وكل ما كان ويكون آخرا فمردود إلى سابق علمه وحكمه فرجع الأبد إلى الأزل والنهايات إلى الأول والله أعلم.(1/505)
فصل منزلة (الحزن).
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة (الحزن).
وليست من المنازل المطلوبة ولا المأمور بنزولها وإن كان لا بد للسالك من نزولها ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيا عنه أو منفيا.
فالمنهي عنه: كقوله تعالى: 3 :139 {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} وقوله: 16 :127 {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} في غير موضع وقوله: 9 :40 {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} والمنفي كقوله: 2 :38 {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.(1/505)
وسر ذلك: أن (الحزن) موقف غير مسير ولا مصلحة فيه للقلب وأحب شيء إلى الشيطان: أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره ويوقفه عن سلوكه قال الله تعالى: 58 :10 {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} ونهى النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة "أن يتناجى اثنان منهم دون الثالث لأن ذلك يحزنه".
فالحزن ليس بمطلوب ولا مقصود ولا فيه فائدة وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" فهو قرين الهم والفرق بينهما: أن المكروه الذي يرد على القلب إن كان لما يستقبل: أورثه الهم وإن كان لما مضى: أورثه الحزن وكلاهما مضعف للقلب عن السير مقتر للعزم.
ولكن نزول منزلته ضروري بحسب الواقع ولهذا يقول أهل الجنة إذا دخلوها: 35 :34 {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} فهذا يدل على أنهم كان يصيبهم في الدنيا الحزن كما يصيبهم سائر المصائب التي تجري عليهم بغير اختيارهم.
وأما قوله تعالى: 9 :92 { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} فلم يمدحوا على نفس الحزن وإنما مدحوا على ما دل عليه الحزن من قوة إيمانهم حيث تخلفوا عن رسول الله لعجزهم عن النفقة ففيه تعريض بالمنافقين الذين لم يحزنوا على تخلفهم بل غبطوا نفوسهم به.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا حزن إلا كفر الله به من خطاياه" فهذا يدل على أنه مصيبة من الله يصيب بها العبد يكفر بها من سيئاته لا يدل على أنه مقام ينبغي طلبه واستيطانه.
وأما حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه كان(1/506)
متواصل الأحزان" فحديث لا يثبت وفي إسناده من لا يعرف.
وكيف يكون متواصل الأحزان وقد صانه الله عن الحزن على الدنيا وأسبابها ونهاه عن الحزن على الكفار وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فمن أين يأتيه الحزن؟.
بل كان دائم البشر ضحوك السن كما في صفته: "الضحوك القتال" صلوات الله وسلامه عليه.
وأما الخبر المروي: "إن الله يحب كل قلب حزين" فلا يعرف إسناده ولا من رواه ولا تعلم صحته.
وعلى تقدير صحته: فالحزن مصيبة من المصائب التي يبتلي الله بها عبده فإذا ابتلى به العبد فصبر عليه أحب صبره على بلائه.
وأما الأثر الآخر "إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة وإذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا" فأثر إسرائيلي قيل: إنه في التوراة وله معنى صحيح فإن المؤمن حزين على ذنوبه والفاجر لاه لاعب مترنم فرح.
وأما قوله تعالى عن نبيه إسرائيل: 12 :84 {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } فهو إخبار عن حاله بمصابه بفقد ولده وحبيبه وأنه ابتلاه بذلك كما ابتلاه بالتفريق بينه وبينه.
وأجمع أرباب السلوك: على أن حزن الدنيا غير محمود إلا أبا عثمان الحيري فإنه قال: الحزن بكل وجه فضيلة وزيادة للمؤمن ما لم يكن بسبب معصية قال: لأنه إن لم يوجب تخصيصا فإنه يوجب تمحيصا.
فيقال: لا ريب أنه محنة وبلاء من الله بمنزلة المرض والهم والغم وأما أنه من منازل الطريق: فلا والله سبحانه أعلم.(1/507)
فصل
قال صاحب المنازل:
"الحزن: توجع لفائت وتأسف على ممتنع".
يريد: أن ما يفوت الإنسان قد يكون مقدورا له وقد لا يكون فإن كان مقدورا توجع لفوته وإن كان غير مقدور تأسف لامتناعه.
قال: "وله ثلاث درجات الأولى: حزن العامة وهو حزن على التفريط في الخدمة وعلى التورط في الجفاء وعلى ضياع الأيام".
التفريط في الخدمة عندهم: فوق التفريط في العمل وتضييعه بل هذا الحزن يكون مع القيام والعمل فإن الخدمة عندهم من باب الأخلاق والآداب لا من باب الأفعال وهي حق العبودية وأدبها وواجبها وصاحب هذا الحزن بالأولى: أن يحزن لتضييع العمل.
وأما التورط في الجفاء: فهو أيضا أخصى من المعصية بارتكاب المحظور لأنه قد يكون لفقد أنس سابق مع الله فإذا توارى عنه تورط في الجفوة فإن الشيخ ذكر الحزن في قسم الأبواب وهو عنده من قسم البدايات.
وأما تضييع الأيام: فنوعان أيضا تضييعها بخلوها عن الطاعات وتضييعها بخلوها عن مواجيد الإيمان وذوق حلاوته والأنس بالله وحسن الصحبة معه.
فكل واحد من الثلاثة نوعان لأهل البداية وللسالكين المتوسطين وكلامه يعم النوعين وإن كان بالثاني أخص.
قال: "الدرجة الثانية: حزن أهل الإرادة وهو حزن على تعلق القلب بالتفرقة وعلى اشتغال النفس عن الشهود وعلى التسلي عن الحزن".
تعلق القلب بالتفرقة: هو عدم الجمعية في الحضور مع الله وتشتيت الخواطر في أودية المرادات.(1/508)
وأما اشتغال النفس عن الشهود: فهو نوعان اشتغالها عن الذكر الذي يوجب الشهود ويثمره بغيره.
والثاني: اشتغالها عن الشهود لضعف الذكر أو لضعف القلب عن الشهود أو لمانع آخر ولكن إذا قهر الشهود النفس لم تتمكن من التشاغل عنه إلا بقاهر يقهرها عنه.
وأما التسلي عن الحزن: فيعني أن وجود الحزن في القلب دليل على الإرادة والطلب ففقده والتسلي عنه نقص فيحزن على فقد الحزن كما يبكي على فقد البكاء ويخاف من عدم الخوف وهذا فيه نظر وإنما يحمد الحزن على فقد الحزن أما إذا اشتغل عن الحزن بفرح محمود وهو الفرح بفضل الله ورحمته فلا معنى للحزن على فوات الحزن.
قال: صاحب المنازل:
"وليست الخاصة من مقام الحزن في شيء لأن الحزن فقد والخاصة أهل وجدان".
وهذا إن أراد به: أنه لا ينبغي لهم تعمد الحزن: فصحيح وإن أراد به: لا يعرض لهم حزن: فليس كذلك والحزن من لوازم الطبيعة ولكن ليس هو بمقام.
قال: "الدرجة الثالثة من الحزن: التحزن للمعارضات دون الخواطر ومعارضات القصود واعتراضات الأحكام".
هذه ثلاثة أمور بحسب الشهود والإرادة.
الأول: حزن المعارضات فإن القلب يعترضه وارد الرجاء مثلا فلم ينشب أن يعارضه وارد الخوف وبالعكس ويعترضه وارد البسط فلم ينشب أن يعترضه وارد القبض ويرد عليه وارد الأنس فيعترضه وارد الهيبة فيوجب له اختلاف هذه المعارضات عليه حزنا لا محالة.(1/509)
وليست هذه المعارضات من قبيل الخواطر بل هي من قبيل الواردات الإلهية فلذلك قال: "دون الخواطر" فإن معارضات الخواطر غير هذا.
وعند القوم: هذا من آثار الأسماء والصفات واتصال أشعة أنوارها بالقلب وهو المسمى عندهم بالتجلي.
وأما معارضات القصود: فهى أصعب ما على القوم وفيه يظهر اضطرارهم إلى العلم فوق كل ضرورة فإن الصادق يتحرى في سلوكه كله أحب الطرق إلى الله فإنه سالك به وإليه فيعترضه طريقان لا يدري أيهما أرضى لله وأحب إليه فمنهم: من يحكم العلم بجهده استدلالا فإن عجز فتقليدا فإن عجز عنهما سكن ينتظر ما يحكم له به القدر ويخلى باطنه من المقاصد جملة.
ومنهم: من يلقي الكل على شيخه إن كان له شيخ.
ومنهم: من يلجأ إلى الاستخارة والدعاء ثم ينتظر ما يجري به القدر.
وأصحاب العزائم يبذلون وسعهم في طلب الأرضى علما ومعرفة فإن أعجزهم قنعوا بالظن الغالب فإن تساوى عندهم الأمران قدموا أرجحهما مصلحة.
ولترجيح المصالح رتب متفاوتة فتارة تترجح بعموم النفع وتارة تترجح بزيادة الإيمان وتارة تترجح بمخالفة النفس وتارة تترجح باستجلاب مصلحة أخرى لا تحصل من غيرها وتارة تترجح بأمنها من الخوف من مفسدة لا تؤمن في غيرها.
فهذه خمس جهات من الترجيح قل أن يعدم واحدة منها.
فإن أعوزه ذلك كله تخلى عن الخواطر جملة وانتظر ما يحركه به محرك القدر وافتقر إلى ربه افتقار مستنزل ما يرضيه ويحبه فإذا جاءته الحركة استخار الله وافتقر إليه افتقارا ثانيا خشية أن تكون تلك الحركه نفسية أو شيطانية لعدم العصمة في حقه واستمرار المحنة بعدوه ما دام في عالم الابتلاء والامتحان ثم أقدم على الفعل.(1/510)
فهذا نهاية ما في مقدور الصادقين.
ولأهل الجهاد في هذا من الهداية والكشف ما ليس لأهل المجاهدة ولهذا قال الأوزاعي وابن المبارك: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر يعني أهل الجهاد فإن الله تعالى يقول: 29 :69 {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
وأما اعتراضات الأحكام: فيجوز أن يريد بالأحكام الأحكام الكونية وهو أظهر وأن يريد بها الأحكام الدينية فإن أرباب الأحوال يقع منهم اعترضات على الأحكام الجارية عليهم بخلاف ما يريدونه فيحزنون عند إدراكهم لتلك الاعتراضات على ما صدر منهم من سوء الأدب وتلك الاعتراضات هي إرادتهم خلاف ما جرى لهم به القدر فيحزنون على عدم الموافقة وإرادة خلاف ما أريد بهم.
وإن كان المراد به: الأحكام الدينية: فإنهم تعرض لهم أحوال لا يمكنهم الجمع بينها وبين أحكام الأمر كما تقدم فلا يجدون بدا من القيام بأحكام الأمر ولا بد أن يعرض لهم اعتراض خفي أو جلي بحسب انقطاعهم عن الحال بالأمر فيحزنون لوجود هذه المعارضة فإذا قاموا بأحكام الأمر ورأوا أن المصلحة في حقهم ذلك وحمدوا عاقبته: حزنوا على تسرعهم على المعارضة فالتسليم لداعي العلم واجب ومعارضة الحال من قبيل الإرادات والعلل فيحزن على نفيهما فيه والله أعلم.(1/511)
فصل منزلة (الخوف).
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة (الخوف).
وهى من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب وهي فرض على كل أحد.
قال الله تعالى 3 :175 {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال تعالى 2 :40 {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال 5 :44 {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن } ومدح(1/511)
أهله في كتابه وأثنى عليهم فقال 23 :57، 61 {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إلى ـ قوله ـ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت "يا رسول الله قول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق قال: لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه" قال الحسن: "عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم إن المؤمن جمع إحسانا وخشية والمنافق جمع إساءة وأمنا".
و(الوجل) و(الخوف) و(الخشية) و(الرهبة) ألفاظ متقاربة غير مترادفة قال أبو القاسم الجنيد: "الخوف توقع العقوبة على مجارى الانفاس".
وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف.
وقيل: الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام وهذا سبب الخوف لا أنه نفسه.
وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره.
و(الخشية) أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله قال الله تعالى: 35 :28 {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} فهي خوف مقرون بمعرفة وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية".
فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك: له حالتان.
إحداهما: حركة للهرب منه وهي حالة الخوف.
والثانية: سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه وهي الخشية ومنه: انخشى الشيء والمضاعف والمعتل أخوان كتقضي البازي وتقضض.
وأما (الرهبة) فهي الإمعان في الهرب من المكروه وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه.(1/512)
وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى يجمعهما الاشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى جامع.
وأما (الوجل) فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته.
وأما (الهيبة): فخوف مقارن للتعظيم والإجلال وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة والإجلال: تعظيم مقرون بالحب.
فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء العارفين والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" و فى رواية (خوفا) وقال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى".
فصاحب الخوف: يلتجىء إلى الهرب والإمساك وصاحب الخشية: يلتجىء إلى الاعتصام بالعلم ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق فالأول يلتجىء إلى الحمية والهرب والطبيب يلتجىء إلى معرفته بالأدوية والأدواء.
قال أبو حفص: "الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه وقال: الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل فإنك إذ خفته هربت إليه".
فالخائف هارب من ربه إلى ربه.
قال أبو سليمان: "ما فارق الخوف قلبا إلا خرب" وقال إبراهيم بن سفيان: "إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها" وقال ذو النون: "الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق" وقال حاتم الأصم: "لا تغتر بمكان صالح فلا مكان أصلح من(1/513)
الجنة ولقي فيها آدم ما لقي ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول العبادة لقي ما لقي ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام بن باعورا لقي ما لقي وكان يعرف الاسم الأعظم ولا تغتر بلقاء الصالحين ورؤيتهم فلا شخص أصلح من النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينتفع بلقائه أعداؤه والمنافقون".
والخوف ليس مقصودا لذاته بل هو مقصود لغيره قصد الوسائل ولهذا يزول بزوال المخوف فإن أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والخوف يتعلق بالأفعال والمحبة تتعلق بالذات والصفات ولهذا تتضاعف محبة المؤمنين لربهم إذا دخلوا دار النعيم ولا يلحقهم فيها خوف ولهذا كانت منزلة المحبة ومقامها أعلى وأرفع من منزلة الخوف ومقامه".
والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
قال أبو عثمان: "صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهرا وباطنا".
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "الخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله".
وقال صاحب المنازل:
"الخوف: هو الانخلاع من طمأنينة الأمن بمطالعة الخبر".
يعني الخروج عن سكون الأمن باستحضار ما أخبر الله به من الوعد والوعيد.
قال: "وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة وهو(1/514)
الخوف الذي يصح به الإيمان وهو خوف العامة وهو يتولد من تصديق الوعيد وذكر الجناية ومراقبة العاقبة".
الخوف مسبوق بالشعور والعلم فمحال خوف الإنسان مما لا شعور له به.
وله متعلقان أحدهما: نفس المكروه المحذور وقوعه والثاني: السبب والطريق المفضي إليه فعلى قدر شعوره بإفضاء السبب إلى المخوف وبقدر المخوف: يكون خوفه وما نقص من شعوره بأحد هذين نقص من خوفه بحسبه.
فمن لم يعتقد أن سبب كذا يفضي إلى محذور كذا: لم يخف من ذلك السبب ومن اعتقد أنه يفضي إلى مكروه ما ولم يعرف قدره: لم يخف منه ذلك الخوف فإذا عرف قدر المخوف وتيقن إفضاء السبب إليه: حصل له الخوف.
هذا معنى تولده من تصديق الوعيد وذكر الجناية ومراقبة العاقبة.
وفي مراقبة العاقبة: زيادة استحضار المخوف وجعله نصب عينه بحيث لا ينساه فإنه وإن كان عالما به لكن نسيانه وعدم مراقبته يحول بين القلب وبين الخوف فلذلك كان الخوف علامة صحة الإيمان وترحله من القلب علامة ترحل الإيمان منه والله أعلم.
فصل
قال: "الدرجة الثانية: خوف المكر في جريان الأنفاس المستغرقة في اليقظة المشوبة بالحلاوة".
يريد: أن من حصلت له اليقظة بلا غفلة واستغرقت أنفاسه فيها: استحلى ذلك فإنه لا أحلى من الحضور في اليقظة فإنه ينبغي أن يخاف المكر وأن يسلب هذا الحضور واليقظة والحلاوة فكم من مغبوط بحاله انعكس عليه الحال ورجع من حسن المعاملة إلى قبيح الأعمال فأصبح يقلب كفيه ويضرب باليمين على الشمال بينما بدر أحواله مستنيرا في ليالى التمام إذ أصابه الكسوف فدخل(1/515)
في الظلام فبدل بالأنس وحشة وبالحضور غيبة وبالإقبال إعراضا وبالتقريب إبعادا وبالجمع تفرقة كما قيل:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
قال: "الدرجة الثالثة [درجة الخاصة] وليس في مقام أهل الخصوص وحشة الخوف إلا هيبة الجلال وهي أقصى درجة يشار إليها في غاية الخوف".
يعني أن وحشة الخوف إنما تكون مع الانقطاع والإساءة وأهل الخصوص أهل وصول إلى الله وقرب منه فليس خوفهم خوف وحشة كخوف المسيئين المنقطعين لأن الله عز وجل معهم بصفة الإقبال عليهم والمحبة لهم وهذا بخلاف هيبة الجلال فإنها متعلقة بذاته وصفاته وكلما كان عبده به أعرف وإليه أقرب كانت هيبته وإجلاله في قلبه أعظم وهي أعلى من درجة خوف العامة.
قال: "وهي هيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة وتصون المسامر أحيان المسامرة وتفصم المعاين بصدمة العزة".
يعنى أن أكثر ما تكون (الهيبة) أوقات المناجاة وهو وقت تملق العبد لربه وتضرعه بين يديه واستعطافه والثناء عليه بآلائه وأسمائه وأوصافه أو مناجاته بكلامه هذا هو مراد القوم بالمناجاة.
وهذه المناجاة: توجب كشف الغطاء بين القلب وبين الرب ورفع الحجاب المانع من مكافحة القلب لأنوار أسمائه وصفاته وتجليها عليه فتعارضه الهيبة في خلال هذه الأوقات فيفيض من عنان مناجاته بحسب قوة واردها.(1/516)
وأما صون المسامر أحيان المسامرة: فالمسامرة عندهم: أخص من المناجاة وهي مخاطبة القلب للرب خطاب المحب لمحبوبه فإن لم يقارنها هيبة جلاله أخذت به في الانبساط والإدلال فتجيء الهيبة صائنة للمسامر في مسامرته عن انخلاعه من أدب العبودية.
وأما فصمها المعاين بصدمة العزة: فإن الفصم هو القطع أي تكاد تقتله وتمحقه بصدمة عزة الربوبية بمعانيها الثلاثة وهي عزة الامتناع وعزة القوة والشدة وعزة السلطان والقهر فإذا صدمت المعاين كادت تفصمه وتمحق أثره إذ لا يقوم لعزة الربوبية شيء والله أعلم.
فصل
القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف
والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران ومتى قطع الرأس مات الطائر ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناج الخوف هذه طريقة أبي سليمان وغيره.
قال: ينبغي للقلب أن تكون الغالب عليه الخوف فإن غلب عليه الرجاء فسد.
وقال غيره: أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف وغلبة الحب فالمحبة هي المركب والرجاء حاد والخوف سائق والله الموصل بمنه وكرمه.(1/517)
فصل منزلة (الإشفاق).
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة (الإشفاق).
قال الله تعالى: 21 :49 {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}(1/517)
وقال تعالى: 52 :25، 27 {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}.
(الإشفاق) رقة الخوف وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه فنسبته إلى الخوف نسبة الرأفة إلى الرحمة فإنها ألطف الرحمة وأرقها ولهذا قال صاحب المنازل:
"الإشفاق: دوام الحزن مقرونا بالترحم وهو على ثلاث درجات الأولى: إشفاق على النفس أن تجمح إلى العناد".
أي تسرع وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان ومعاندة العبودية.
"وإشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع".
أي يخاف على عمله أن يكون من الأعمال التي قال الله تعالى فيها: 25 :23 {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وهي الأعمال التي كانت لغير الله وعلى غير أمره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويخاف أيضا أن يضيع عمله في المستقبل إما بتركه وإما بمعاصى تفرقه وتحبطه فيذهب ضائعا ويكون حال صاحبه كالحال التي قال الله تعالى عن أصحابها 2 :265 {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للصحابة رضي الله عنهم: "فيمن ترون هذه الآية نزلت؟ فقالوا: الله أعلم فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين قال: يا ابن أخي قل ولا تحقرن نفسك قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس لعمل قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله فبعث الله إليه الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق جميع أعماله".
قال: "وإشفاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها".
هذا قد يوهم نوع تناقض فإنه كيف يشفق مع معرفة العذر؟ وليس بمتناقض.(1/518)
فإن الإشفاق كما تقدم خوف مقرون برحمة فيشفق عليهم من جهة مخالفة الأمر والنهي مع نوع رحمة بملاحظة جريان القدر عليهم.
قال "الدرجة الثانية: إشفاق على الوقت: أن يشوبه تفرق".
أى يحذر على وقته: أن يخالطه ما يفرقه عن الحضور مع الله عز وجل.
قال: "وعلى القلب: أن يزاحمه عارض".
والعارض المزاحم: إما فترة وإما شبهة وإما شهوة كل سبب يعوق السالك.
قال "وعلى اليقين: أن يداخله سبب".
هو الطمأنينة إلى من بيده الأسباب كلها فمتى داخل يقينه ركون إلى سبب وتعلق به واطمأن إليه: قدح ذلك في يقينه وليس المراد: قطع الأسباب عن أن تكون أسبابا والإعراض عنها فإن هذا زندقة وكفر ومحال فإن الرسول سبب في حصول الهداية والإيمان والأعمال الصالحة سبب لحصول النجاة ودخول الجنة والكفر سبب لدخول النار والأسباب المشاهدة أسباب لمسبباتها ولكن الذي يريد أن يحذر منه: إضافة يقينه إلى سبب غير الله ولا يتعلق بالأسباب بل يفنى بالمسبب عنها.
والشيخ ممن يبالغ في إنكار الأسباب ولا يرى وراء الفناء في توحيد الربوبية غاية وكلامه في الدرجة الثالثة في معظم الأبواب: يرجع إلى هذين الأصلين وقد عرفت ما فيهما وأن الصواب خلافهما وهو إثبات الأسباب والقوى وأن الفناء في توحيد الربوبية ليس هو غاية الطريق بل فوقه ما هو أجل منه وأعلى وأشرف.(1/519)
ومن هاتين القاعدتين عرض في كتابه من الأمور التي أنكرت عليه ما عرض قال: "الدرجة الثالثة: إشفاق يصون سعيه عن العجب ويكف صاحبه عن مخاصمة الخلق ويحمل المريد على حفظ الجدِّ".
الأول: يتعلق بالعمل والثاني: بالخلق والثالث: بالإرادة وكل منها له ما يفسده.
فالعجب: يفسد العمل كما يفسده الرياء فيشفق على سعيه من هذا المفسد شفقة تصونه عنه.
والمخاصمة للخلق: مفسدة للخلق فيشفق على خلقه من هذا المفسد شفقة تصونه عنه.
والإرادة: يفسدها عدم الجد وهو الهزل واللعب فيشفق على إرادته مما يفسدها.
فإذا صح له عمله وخلقه وإرادته: استقام سلوكه وقلبه وحاله والله المستعان.(1/520)
فصل منزلة (الخشوع).
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة (الخشوع).
قال الله تعالى: 57 :16 {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين" وقال ابن عباس: "إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن" وقال تعالى: 23 :1، 2 { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.
و(الخشوع) في أصل اللغة: الانخفاض والذل والسكون قال تعالى: 20 :108 {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} أي سكنت وذلت وخضعت ومنه وصف الأرض بالخشوع وهو يبسها وانخفاضها وعدم ارتفاعها بالري والنبات قال تعالى: 41 :39 {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}.(1/520)
و(الخشوع) قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل والجمعية عليه.
وقيل (الخشوع) الانقياد للحق وهذا من موجبات الخشوع.
فمن علاماته: أن العبد إذا خولف ورد عليه بالحق استقبل ذلك بالقبول والانقياد.
وقيل (الخشوع) خمود نيران الشهوة وسكون دخان الصدور وإشراق نور التعظيم في القلب.
وقال الجنيد "الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب".
وأجمع العارفون على أن (الخشوع) محله القلب وثمرته على الجوارح وهي تظهره و"رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هدا لخشعت جوارحه" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "التقوى ههنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات" وقال بعض العارفين: حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال: يا فلان الخشوع ههنا وأشار إلى صدره لا ههنا وأشار إلى منكبيه.
وكان بعض الصحابة رضى الله عنهم وهو حذيفة يقول: "إياكم وخشوع النفاق فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع" ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا طأطأ رقبته في الصلاة فقال: "يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب" ورأت عائشة رضى الله عنها "شبابا يمشون ويتماوتون في مشيتهم فقالت لأصحابها: من هؤلاء؟ فقالوا: نساك فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع وإذا قال: أسمع وإذا ضرب: أوجع وإذا أطعم: أشبع وكان هو الناسك حقا" وقال الفضيل بن عياض: "كان يكره أن يرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه" وقال حذيفة رضي الله عنه: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ورب مصل لا خير فيه ويوشك(1/521)
أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا" وقال سهل: "من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان".
فصل
قال صاحب المنازل:
"الخشوع: خمود النفس وهمود الطباع لمتعاظم أو مفزع".
يعنى: انقباض النفس والطبع وهو خمود قوى النفس عن الانبساط لمن له في القلوب عظمة ومهابة أو لما يفزع منه القلب.
والحق: أن (الخشوع) معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار قال: "وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: التذلل للأمر: والاستسلام للحكم والاتضاع لنظر الحق".التذلل للأمر والاستسلام للحكم والاتضاع لنظر الحق".
التذلل للأمر: تلقيه بذلة القبول والانقياد والامتثال ومواطأة الظاهر الباطن مع إظهار الضعف والافتقار إلى الهداية للأمر قبل الفعل والإعانة عليه حال الفعل وقبوله بعد الفعل.
وأما الاستسلام للحكم: فيجوز أن يريد به: الحكم الديني الشرعي فيكون معناه: عدم معارضته برأي أو شهوة ويجوز أن يريد به: الاستسلام للحكم القدري وهو عدم تلقيه بالتسخط والكراهة والاعتراض.
والحق: أن (الخشوع) هو الاستسلام للحكمين وهو الانقياد بالمسكنة والذل لأمر الله وقضائه.
وأما الاتضاع لنظر الحق: فهو اتضاع القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها واطلاعه على تفاصيل ما في القلب والجوارح وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى: 55 :46 {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وقوله: 79 :40 {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } وهو مقام الرب على عبده بالاطلاع والقدرة والربوبية.(1/522)
فخوفه من هذا المقام: يوجب له خشوع القلب لا محالة وكلما كان أشد استحضارا له كان أشد خشوعا وإنما يفارق القلب إذا غفل عن اطلاع الله عليه ونظره إليه.
والتأويل الثاني: أنه مقام العبد بين يدي ربه عند لقائه.
فعلى الأول: يكون من باب إضافة المصدر إلى الفاعل.
وعلى الثاني: وهو أليق بالآية يكون من باب إضافة المصدر إلى المخوف والله أعلم.
فصل
قال: "الدرجة الثانية: ترقب آفات النفس والعمل ورؤية فضل كل ذي فضل عليك وتنسم نسيم الفناء".
يريد: انتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبهما من فإنه يجعل القلب خاشعا لا محالة لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما: من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق وقلة اليقين وتشتت النية وعدم تجرد الباعث من الهوى نفساني وعدم إيقاع العمل على الوجه الذي ترضاه لربك وغير ذلك من عيوب النفس ومفسدات الأعمال.
وأما رؤية فضل كل ذي فضل عليك: فهو أن تراعي حقوق الناس فتؤديها ولا ترى أن ما فعلوه من حقوقك عليهم فلا تعاوضهم عليها فإن هذا من رعونات النفس وحماقاتها ولا تطالبهم بحقوق نفسك وتعترف بفضل ذي الفضل منهم وتنسى فضل نفسك.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "العارف لا يرى له على أحد حقا ولا يشهد له على غيره فضلا ولذلك لا يعاتب ولا يطالب ولا يضارب".
وأما تنسم نسيم الفناء: فلما كان الفناء عنده غاية جعل هذه الدرجة كالنسيم(1/523)
لرقته وعبر عنها بالنسيم للطف موقعه من الروح وشدة تشبثها به ولا ريب أن الخشوع سبب موصل إلى الفناء فاضله ومفضوله.
فصل
قال "الدرجة الثالثة: حفظ الحرمة عند المكاشفة وتصفية الوقت من مراءاة الخلق وتجريد رؤية الفضل".
أما حفظ الحرمة عند المكاشفة: فهو ضبط النفس بالذل والانكسار عن البسط والإدلال الذي تقتضيه المكاشفة فإن المكاشفة توجب بسطا ويخاف منه شطح إن لم يصحبه خشوع يحفظ الحرمة.
وأما تصفية الوقت من مراءاة الخلق: فلا يريد به أنه يصفي وقته عن الرياء فإن أصحاب هذه الدرجة أجل قدرا وأعلى من ذلك.
وإنما المراد: أنه يخفي أحواله عن الخلق جهده كخشوعه وذله وانكساره لئلا يراها الناس فيعجبه اطلاعهم عليها ورؤيتهم لها فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله وكم قد اقتطع في هذه المفازة من سالك والمعصوم من عصمه الله فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل وأنه لا شيء وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه.
ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره وكان يقول كثيرا: ما لي شيء ولا مني شيء ولا في شيء وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المكدى وابن المكدى ... وهكذا كان أبي وجدي
وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت وما أسلمت بعد إسلاما جيدا.
وبعث إلي في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:(1/524)
أنا الفقير إلى رب البريات ... أنا المسيكين في مجموع حالاتى
أنا الظلوم لنفسى وهي ظالمتي ... والخير إن يأتنا من عنده يأتى
لا أستطيع لنفسى جلب منفعة ... ولا عن النفس لى دفع المضرات
وليس لي دونه مولى يدبرني ... ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتى
إلا بإذن من الرحمن خالقنا ... إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات
ولست أملك شيئا دونه أبدا ... ولا شريك أنا في بعض ذرات
ولا ظهير له كي يستعين به ... كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لى وصف ذات لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمهم ... وكلهم عنده عبد له آتى
فمن بغى مطلبا من غير خالقه ... فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون أجمعه ... ما كان منه وما من بعد قد ياتى
أما تجريد رؤية الفضل: فهو أن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله فهو المان به بلا سبب منك ولا شفيع لك تقدم إليه بالشفاعة ولا وسيلة سبقت منك توسلت بها إلى إحسانه.
والتجريد: هو تخليص شهود الفضل لوليه حتى لا ينسبه إلى غيره وإلا فهو في نفسه مجرد عن النسبة إلى سواه وإنما الشأن في تجريده في الشهود ليطابق الشهود الحق في نفس الأمر والله أعلم.
فصل
فإن قيل: مما تقولون في صلاة من عدم الخشوع في صلاته: هل يعتد بها أم لا؟.
قيل: أما الاعتداد بها في الثواب: فلا يعتد له فيها إلا بما عقل فيه منها وخشع فيه لربه.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: "ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها".(1/525)
وفى المسند مرفوعا: "إن العبد ليصلي الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها أو ثلثها أو ربعها حتى بلغ عشرها".
وقد علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح ولو اعتد له بها ثوابا لكان من المفلحين.
وأما الاعتداد بها في أحكام الدنيا وسقوط القضاء: فإن غلب عليها الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعا وكانت السنن والأذكار عقيبها جوابر ومكملات لنقصها.
وإن غلب عليه عدم الخشوع فيها وعدم تعقلها فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها فأوجبها أبو عبد الله بن حامد من أصحاب أحمد وأبو حامد الغزالي في إحيائه لا في وسيطه و بسيطه.
واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عليها ولم يضمن له فيها الفلاح فلم تبرأ ذمته منها ويسقط القضاء عنه كصلاة المرائى.
قالوا: ولأن الخشوع والعقل: روح الصلاة ومقصودها ولبها فكيف يعتد بصلاة فقدت روحها ولبها وبقيت صورتها وظاهرها؟.
قالوا: ولو ترك العبد واجبا من واجباتها عمدا لأبطلها تركه وغايته أن يكون بعضا من أبعاضها بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة فكيف إذا عدمت روحها ولبها ومقصودها وصارت بمنزلة العبد الميت إذا لم يعتد بالعبد المقطوع اليد يعتقه تقربا إلى الله تعالى في كفارة واجبة فكيف يعتد بالعبد الميت.
وقال بعض السلف: الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك فما الظن بمن يهدي إليه جارية شلاء أو عوراء أو عمياء أو مقطوعة اليد والرجل أو مريضة أو دميمة أو قبيحة حتى يهدى إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة فكيف بالصلاة التي يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى؟ والله(1/526)
طيب لا يقبل إلا طيبا وليس من العمل الطيب: صلاة لا روح فيها كما أنه ليس من العتق الطيب عتق عبد لا روح فيه.
قالوا: وتعطيل القلب عن عبودية الحضور والخشوع: تعطيل لملك الأعضاء عن عبوديته وعزل له عنها فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها وقد عزل ملكها وتعطل؟.
قالوا: والأعضاء تابعة للقلب تصلح بصلاحه وتفسد بفساده فإذا لم يكن قائما بعبوديته فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها وإذا فسدت عبوديته بالغفلة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه وعن أمره يصدرون وبه يأتمرون؟.
قالوا: وفي الترمذى وغيره مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل" وهذا إما خاص بدعاء العبادة وإما عام له ولدعاء المسألة وإما خاص بدعاء المسألة الذي هو أبعد فهو تنبيه على أنه لا يقبل دعاء العبادة الذي هو خاص حقه من قلب غافل.
قالوا: ولأن عبودية من غلبت عليه الغفلة والسهو في الغالب لا تكون مصاحبة للإخلاص فإن الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبد والغافل لا قصد له فلا عبودية له.
قالوا: وقد قال الله تعالى: 17 :4، 5 {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} وليس السهو عنها تركها وإلا لم يكونوا مصلين وإنما هو السهو عن واجبها: إما عن الوقت كما قال ابن مسعود وغيره وإما عن الحضور والخشوع والصواب: أنه يعم النوعين فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة ووصفهم بالسهو عنها فهو السهو عن وقتها الواجب أو عن إخلاصها وحضورها الواجب ولذلك وصفهم بالرياء ولو كان السهو سهو ترك لما كان هناك رياء.(1/527)
قالوا: ولو قدرنا أنه السهو عن واجب فقط فهو تنبيه على التوعد بالويل على سهو الإخلاص والحضور بطريق الأولى لوجوه.
أحدها: أن الوقت يسقط في حال العذر وينتقل إلى بدله والإخلاص والحضور لا يسقط بحال ولا بدل له.
الثاني: أن واجب الوقت يسقط لتكميل مصلحة الحضور فيجوز الجمع بين الصلاتين للشغل المانع من فعل إحداهما في وقتها بلا قلب ولا حضور كالمسافر والمريض وذي الشغل الذي يحتاج معه إلى الجمع كما نص عليه أحمد وغيره.
فبالجملة: مصلحة الإخلاص والحضور وجمعية القلب على الله في الصلاة: أرجح في نظر الشارع من مصلحة سائر واجباتها فكيف يظن به أنه يبطلها بترك تكبيرة واحدة أو اعتدال في ركن أو ترك حرف أو شدة من القرآن أو ترك تسبيحه أو قول: "سمع الله لمن حمده" أو قول: "ربنا ولك الحمد" أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه ثم يصححها مع فوات بها ومقصودها الأعظم وروحها وسرها.
فهذا ما احتجت به هذه الطائفة وهي حجج كما تراها قوة وظهورا.
قال أصحاب القول الآخر: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: "إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وبين نفسه فيذكره ما لم يكن يذكر يقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس".
قالوا: فأمره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة التي قد أغفله الشيطان(1/528)
فيها حتى لم يدركم صلى: بأن يسجد سجدتي السهو ولم يأمره بإعادتها ولو كانت باطلة كما زعمتم لأمره بإعادتها.
قالوا: وهذا هو السر في سجدتي السهو ترغيما للشيطان في وسوسته للعبد وكونه حال بينه وبين الحضور في الصلاة ولهذا سماها النبي صلى الله عليه وسلم المرغمتين وأمر من سها بهما ولم يفصل في سهوه الذي صدر عنه موجب السجود بين القليل والكثير والغالب والمغلوب وقال: "لكل سهو سجدتان" ولم يستثن من ذلك السهو الغالب مع أنه الغالب.
قالوا: ولأن شرائع الإسلام على الأفعال الظاهرة وأما حقائق الإيمان الباطنة: فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب فلله تعالى حكمان: حكم في الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح وحكم في الأخرة على الظواهر والبواطن ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانية المنافقين ويكل أسرارهم إلى الله تعالى فيناكحون ويرثون ويورثون ويعتد بصلاتهم في أحكام الدنيا فلا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة وأحكام الثواب والعقاب ليست إلى البشر بل إلى الله والله يتولاه في الدار الآخرة.
قالوا: فنحن في حكم شرائع الإسلام نحكم بصحة صلاة المنافق والمرائى مع أنه لا يسقط عنه العقاب ولا يحصل له الثواب في الآخرة فصلاة المسلم الغافل المبتلى بالوسواس وغفلة القلب عن كمال حضوره أولى بالصحة.
نعم: لا يحصل مقصود هذه الصلاة من ثواب الله عاجلا ولا آجلا فإن للصلاة مزيد ثواب عاجل في القلب من قوة إيمانه واستنارته وانشراحه وانفساحه ووجود حلاوة العبادة والفرح والسرور واللذة التي تحصل لمن اجتمع همه وقلبه على الله وحضر قلبه بين يديه كما يحصل لمن قربه السلطان منه وخصه بمناجاته والإقبال عليه والله أعلى وأجل.
وكذلك ما يحصل هذا من الدرجات العلى في الآخرة ومرافقة المقربين(1/529)
كل هذا يفوته بفوات الحضور والخضوع وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض وليس كلامنا في هذا كله فإن أردتم وجوب الإعادة: لتحصل هذه الثمرات والفوائد: فذاك إليه إن شاء أن يحصلها وإن شاء أن يفوتها على نفسه وإن أردتم بوجوبها أنا نلزمه بها ونعاقبه على تركها ونرتب عليه أحكام تارك الصلاة فلا.
وهذا القول الثاني أرجح القولين والله أعلم.(1/530)
فصل في منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التي ينتقل فيها القلب منزلة منزلة في حال سيره إلى الله.
وقد أكثر الناس في صفة المنازل وعددها من جعلها ألفا ومنهم من جعلها مائة ومنهم من زاد ونقص فكل وصفها بحسب سيره وسلوكه. وسأذكر فيها أمرا مختصرا جامعا نافعا إن شاء الله تعالى.(1/122)
أول منازل العبودية اليقظة، العزم، الفكرة
...
فأول منازل العبودية (اليقظة) وهي انزعاج القلب لروعة الإنتباه من رقدة الغافلين ولله ما أنفع هذه الروعة وما أعظم قدرها وخطرها وما أشد إعانتها على السلوك! فمن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح وإلا فهو في سكرات الغفلة فإذا انتبه شمر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى وأوطانه التي سبى منها.
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
فأخذ في أهبة السفر فانتقل إلى منزلة (العزم) وهو العقد الجازم على المسير ومفارقة كل قاطع ومعوق ومرافقة كل معين وموصل وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه وبحسب قوة عزمه يكون استعداده.
فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة (الفكرة) وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعد له مجملا ولما يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه.
فإذا صحت فكرته أوجبت له (البصيرة) فهي نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه عن كثب وكثر العطاش وقل الوارد ونصب الجسر للعبور ولز الناس إليه وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه والنار يحطم بعضها بعضا تحته والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين.
فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها.(1/123)
ف(البصيرة) نور يقذفه الله في القلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأى عين فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم وهذا معنى قول بعض العارفين: "البصيرة تحقق الإنتفاع بالشيء والتضرر به" وقال بعضهم: "البصيرة ما خلصك من الحيرة إما بإيمان وإما بعيان".
و(البصيرة) على ثلاث درجات من استكملها فقد استكمل البصيرة: بصيرة في الأسماء والصفات وبصيرة في الأمر والنهي وبصيرة في الوعد والوعيد.
فالبصيرة في الأسماء والصفات: أن لا يتأثر إيمانك بشبهة تعارض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله بل تكون الشبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشبه والشكوك في وجود الله فكلاهما سواء في البلاء عند أهل البصائر.
وعقد هذا: أن يشهد قلبك الرب تبارك وتعالى مستويا على عرشه متكلما بأمره ونهيه بصيرا بحركات العالم علويه وسفليه وأشخاصه وذواته سميعا لأصواتهم رقيبا على ضمائرهم وأسرارهم وأمر الممالك تحت تدبيره نازل من عنده وصاعد إليه وأملاكه بين يديه تنفذ أوامره في أقطار الممالك موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال منزها عن العيوب والنقائص والمثال هو كما وصف نفسه في كتابه وفوق ما يصفه به خلقه حي لا يموت قيوم لا ينام عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض بصير يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء سميع يسمع ضجيج الأصوات بإختلاف اللغات على تفنن الحاجات تمت كلماته صدقا وعدلا وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبها ومثلا وتعالت ذاته أن تشبه شيئا من الذوات أصلا ووسعت الخليقة أفعاله عدلا وحكمة ورحمة وإحسانا وفضلا له الخلق والأمر وله النعمة والفضل وله الملك والحمد وله الثناء والمجد أول
v(1/124)
ليس قبله شيء وآخر ليس بعده شيء ظاهر ليس فوقه شيء باطن ليس دونه شيء أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد ولذلك كانت حسنى وصفاته كلها صفات كمال ونعوته كلها نعوت جلال وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل كل شيء من مخلوقاته دال عليه ومرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ولا ترك الإنسان سدى عاطلا بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته وأسبغ عليهم نعمه يتوسلوا بشكرها إلى زيادة كرامته تعرف إلى عباده بأنواع التعرفات وصرف لهم الآيات ونوع لهم الدلالات ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب ومد بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب فأتم عليهم نعمه السابغة وأقام عليهم حجته البالغة أفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته تغلب غضبه.
وتفاوت الناس في هذه البصيرة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها والعلم بفساد الشبه المخالفة لحقائقها.
وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم الذي ذمه السلف لجهلهم بالنصوص ومعانيها وتمكن الشبه الباطلة من قلوبهم وإذا تأملت حال العامة الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم رأيتهم أتم بصيرة منهم وأقوى إيمانا وأعظم تسليما للوحي وانقيادا للحق.
فصل : المرتبة الثانية من البصيرة.
البصيرة في الأمر والنهي وهي تجريده عن المعارضة بتأويل أو تقليد أو هوى فلا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله والأخذ به ولا تقليد يريحه عن بذل الجهد في تلقى الأحكام من مشكاة النصوص.(1/125)
وقد علمت بهذا أهل البصائر من العلماء من غيرهم.
فصل : المرتبةالثالثة: البصيرة في الوعد والوعيد.
وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر عاجلا وآجلا في دار العمل ودار الجزاء وأن ذلك هو موجب إلهيته وربوبيته وعدله وحكمته فإن الشك في ذلك شك في إلهيته وربوبيته بل شك في وجوده فإنه يستحيل عليه خلاف ذلك ولا يليق أن ينسب إليه تعطيل الخليقة وإرسالها هملا وتركها سدى تعالى الله عن هذا الحسبان علوا كبيرا.
فشهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية ولهذا كان الصحيح: أن المعاد معلوم بالعقل وإنما اهتدى إلى تفاصيله بالوحي ولهذا يجعل الله سبحانه إنكار المعاد كفرا به سبحانه لأنه إنكار لقدرته ولإلهيته وكلاهما مستلزم للكفر به قال تعالى 13:5 {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وفي الآية قولان:
أحدهما: إن تعجب من قولهم: "أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد" فعجب قولهم! كيف ينكرون هذا وقد خلقوا من تراب ولم يكونوا شيئا.
والثاني: إن تعجب من شركهم مع الله غيره وعدم انقيادهم لتوحيده وعبادته وحده لا شريك له فإنكارهم للبعث وقولهم: "أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد" أعجب.
وعلى التقديرين: فإنكار المعاد عجب من الإنسان وهو محض إنكار الرب والكفر به والجحد لإلهيته وقدرته وحكمته وعدله وسلطانه.(1/126)
ولصاحب المنازل في (البصيرة) طريقة أخرى قال:
"البصيرة ما يخلصك من الحيرة وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى أن تعلم أن الخبر القائم بتمهيد الشريعة يصدر عن عين لا يخاف عواقبها فترى من حقه أن تؤديه يقينا وتغضب له غيرة".
ومعنى كلامه: أن ما أخبر به الرسول صادر عن حقيقة صادقة لا يخاف متبعها فيما بعد مكروها بل يكون آمنا من عاقبة اتباعها إذ هي حق ومتبع الحق لا خوف عليه ومن حق ذلك الخبر عليك أن تؤدي ما أمرت به منه من غير شك ولا شكوى والأحوط بك والذي لا تبرأ ذمتك إلا به تناول الأمر بإمتثال صادر عن تصديق محقق لا يصحبه شك وأن تغضب على من خالف ذلك غيرة عليه أن يضيع حقه ويهمل جانبه.
وإنما كانت الغيرة عند شيخ الإسلام من تمام (البصيرة) لأنه على قدر المعرفةبالحق ومستحقه ومحبته وإجلاله: تكون الغيرة عليه أن يضيع والغضب على من أضاعه فإن ذلك دليل على محبة صاحب الحق وإجلاله وتعظيمه وذلك عين البصيرة فكما أن الشك القادح في كمال الإمتثال معم لعين البصيرة فكذلك عدم الغضب والغيرة على حقوق الله إذا ضيعت ومحارمه إذا انتهكت معم لعين البصيرة.
قال: "الدرجة الثانية: أن تشهد في هداية الحق وإضلاله إصابة العدل وفي تلوين أقسامه: رعاية البر وتعاين في جذبه حبل الوصل".
يريد رحمه الله بشهود العدل في هدايته من هداه وفي إضلاله من أضله: أمرين.
أحدهما: تفرده بالخلق والهدى والضلال.
والثاني: وقوع ذلك منه على وجه الحكمة والعدل لا بالإتفاق ولا بمحض المشيئة المجردة عن وضع الأشياء مواضعها وتنزيلها منازلها بل بحكمة اقتضت(1/127)
هدى من علم أنه يزكو على الهدى ويقبله ويشكره عليه ويثمر عنده فالله أعلم حيث يجعل رسالاته أصلا وميراثا قال تعالى 6:53 {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وهم الذين يعرفون قدر نعمته بالهدى ويشكرونه عليها ويحبونه ويحمدونه على أن جعلهم من أهله فهو سبحانه ما عدل عن موجب العدل والإحسان في هداية من هدى وإضلال من أضل ولم يطرد عن بابه ولم يبعد عن جنابه من يليق به التقريب والهدى والإكرام بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد وحكمته وحمده تأبى تقريبه وإكرامه وجعله من أهله وخاصته وأوليائه.
ولا يبقى إلا أن يقال: فلم خلق من هو بهذه المثابة؟.
فهذا سؤال جاهل ظالم ضال مفرط في الجهل والظلم والضلال لأن خلق الأضداد والمتقابلات هو من كمال الربوبية كالليل والنهار والحر والبرد واللذة والألم والخير والشر والنعيم والجحيم.
قوله: "وفي تلوين أقسامه رعاية البر".
يريد بتلوين الأقسام: اختلافها في الجنس والقدر والصفة من أقسام الأموال والقوى والعلوم والأعمال والصنائع وغيرها قسمها على وجه البر والمصلحة فأعطى كلا منهم ما يصلحه وما هو ألأنفع له برا وإحسانا.
وقوله: "وتعاين في جذبه حبل الوصال".
يريد تعاين في توفيقه لك للطاعة وجذبه إياك من نفسك: أنه يريد تقريبك منه فاستعار للتوفيق الخاص الجذب وللتقريب الوصال وأراد بالحبل السبب الموصل لك إليه.
فأشار بهذا إلى أنك تستدل بتوفيقه لك وجذبك نفسك وجعلك متمسكا بحبله الذي هو عهده ووصيته إلى عباده على تقريبه لك تشاهد ذلك ليكون(1/128)
أقوى في المحبة والشكر وبذل النصيحة في العبودية وهذا كله من تمام البصيرة فمن لا بصيرة له فهو بمعزل عن هذا.
قال: "الدرجة الثالثة بصيرة تفجر المعرفة وتثبت الإشارة وتنبت الفراسة".
يريد بالبصيرة في الكشف والعيان: أن تتفجر بها ينابيع المعارف من القلب ولم يقل: "تفجِّر العلم" لأن المعرفة أخص من العلم عند القوم ونسبتها إلى العلم نسبة الروح إلى الجسد فهي روح العلم ولبّه.
وصدق رحمه الله فإن بهذه البصيرة تتفجر من قلب صاحبها ينابيع من المعارف التي لا تنال بكسب ولا دراسة إن هو إلا فهم يؤتيه الله عبدا في كتابه ودينه على قدر بصيرة قلبه.
وقوله: "وتثبت الإشارة".
يريد بالإشارة: ما يشير إليه القوم من الأحوال والمنازلات والأذواق التي ينكرها الأجنبي من السلوك ويثبتها أهل البصائر وكثير من هذه الأمور ترد على السالك فإن كان له بصيرة ثبتت بصيرته ذلك له وحققته عنده وعرفته تفاصيله وإن لم يكن له بصيرة بل كان جاهلا لم يعرف تفصيل ما يرد عليه ولم يهتد لتثبيته.
قوله: "وتنبت الفراسة".
يعني أن البصيرة تنبت في أرض القلب الفراسة الصادقة وهي نور يقذفه الله في القلب يفرق به بين الحق والباطل والصادق والكاذب قال الله تعالى 15:75 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال مجاهد: "للمتفرسين" وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل" ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.(1/129)
و(التوسُّم) تفعل من السيما وهي العلامة فسمى المتفرس متوسما لأنه يستدل بما يشهد على ما غاب فيستدل بالعيان على الإيمان ولهذا خص الله تعالى بالآيات والإنتفاع بها هؤلاء لأنهم يستدلون بما يشاهدون منها على حقيقة ما أخبرت به الرسل من الأمر والنهي والثواب والعقاب وقد ألهم الله ذلك لآدم وعلمه إياه حين علمه أسماء كل شيء وبنوه هم نسخته وخلفاؤه فكل قلب فهو قابل لذلك وهو فيه بالقوة وبه تقوم الحجة وتحصل العبرة وتصح الدلالة وبعث الله رسله مذكرين ومنبهين ومكملين لهذا الإستعداد بنور الوحي والإيمان فينضاف ذلك إلى نور الفراسة والإستعداد فيصير نورا على نور فتقوى البصيرة ويعظم النور ويدوم بزيادة مادته ودوامها ولا يزال في تزايد حتى يرى على الوجه والجوارح والكلام والأعمال ومن لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأسا دخل قلبه في الغلاف والأكنة فأظلم وعمى عن البصيرة فحجبت عنه حقائق الإيمان فيرى الحق باطلا والباطل حقا والرشد غيا والغي رشدا قال تعالى 83:14 {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} و(الرين) و(الران) هو الحجاب الكثيف المانع للقلب من رؤية الحق والإنقياد له. وعلى حسب قوة البصيرة وضعفها تكون الفراسة وهي نوعان:
فراسة علوية شريفة مختصة بأهل الإيمان وفراسة سفلية دنيئة مشتركة بين المؤمن والكافر وهي فراسة أهل الرياضة والجوع والسهر والخلوة وتجريد البواطن من أنواع الشواغل فهؤلاء لهم فراسة كشف الصور والإخبار ببعض المغيبات السفلية التي لا يتضمن كشفها والإخبار بها كما لا للنفس ولا زكاة ولا(1/130)
ثاني منازل العبودية القصد
...
إيمانا ولا معرفة وهؤلاء لا تتعدى فراستهم هذه السفليات لأنهم محجوبون عن الحق تعالى فلا تصعد فراستهم إلى التمييز بين أوليائه وأعدائه وطريق هؤلاء وهؤلاء.
وأما فراسة الصادقين العارفين بالله وأمره فإن همتهم لما تعلقت بمحبة الله ومعرفته وعبوديته ودعوة الخلق إليه على بصيرة كانت فراستهم متصلة بالله متعلقة بنور الوحي مع نور الإيمان فميزت بين ما يحبه الله وما يبغضه من الأعيان والأقوال والأعمال وميزت بين الخبيث والطيب والمحق والمبطل والصادق والكاذب وعرفت مقادير استعداد السالكين إلى الله فحملت كل إنسان على قدر استعداده علما وإرادة وعملا.
ففراسة هؤلاء دائما حائمة حول كشف طرق الرسول وتعرفها وتخليصها من بين سائر الطرق وبين كشف عيوب النفس وآفات الأعمال العائقة عن سلوك طريق المرسلين فهذا أشرف أنواع البصيرة والفراسة وأنفعها للعبد في معاشه ومعاده.
فصل فإذا انتبه وأبصر أخذ في (القصد) :وصدق الإرادة وأجمع القصد والنية على سفر الهجرة إلى الله وعلم وتيقن أنه لابد له منه فأخذ في أهبة السفر وتعبئة الزاد ليوم المعاد والتجرد عن عوائق السفر وقطع العلائق التي تمنعه من الخروج.
وقد قسم صاحب المنازل (القصد) إلى ثلاثة درجات فقال:
"الدرجة الأولى: قصد يبعث على الإرتياض ويخلص من التردد ويدعو إلى مجانبة الأغراض".
فذكر له ثلاث فوائد: أنه يبعث على السلوك بلا توقف ولا تردد ولا علة غير العبودية من رياء أو سمعة أو طلب محمدة أو جاه ومنزلة عند الخلق(1/131)
قال: "الدرجة الثانية: قصد لا يلقى سببا إلا قطعه ولا حائلا إلا منعه ولا تحاملا إلا سهله".
يعني أنه لا يلق سببا يعوق عن المقصود إلا قطعه ولا حائلا دونه إلا منعه ولا صعوبة إلا سهلها.
قال: "الدرجة الثالثة: قصد الإستسلام لتهذيب العلم وقصد إجابة داعي الحكم وقصد اقتحام بحر الفناء".
يريد أنه ينقاد إلى العلم ليتهذب به ويصلح ويقصد إجابة داعي الحكم الديني الأمري كلما دعاه فإن للحكم في كل مسألة من مسائل العلم مناديا ينادي للإيمان بها علما وعملا فيقصد إجابة داعيها ولكن مراده بداعي الحكم: الأسرار والحكم الداعية إلى شرع الحكم فإجابتها قدر زائد على مجرد الإمتثال فإنها تدعو إلى المحبة والإجلال والمعرفة والحمد فالأمر يدعو إلى الإمتثال وما تضمنه من الحكم والغايات تدعو إلى المعرفة والمحبة.
وقوله: "وقصد اقتحام بحر الفناء".
هذا هو الغاية المطلوبة عند القوم وهو عند بعضهم لازم من لوازم الطريق وليس بغاية وعند آخرين عارض من عوارض الطريق وليس بغاية ولا هو لازم لكل سالك وأهل القوة والعزم لا يعرض لهم وحال البقاء أكمل منه ولهذا كان البقاء حال نبينا ليلة الإسراء وقد رأى ما رأى وحال موسى الفناء ولهذا خر صعقا عند تجلي الله للجبل وامرأة العزيز كانت أكمل حبا ليوسف من النسوة ولم يعرض لها ما عرض لهن عند رؤية يوسف لفنائهن وبقائها وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام فيه.
فصل
فإذا استحكم قصده صار (عزما) جازما مستلزما للشروع في السفر مقرونا بالتوكل على الله قال تعالى 3:159 {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.(1/132)
و(العزم) هو القصد الجازم المتصل بالفعل ولذلك قيل: "إنه أول الشروع في الحركة لطلب المقصود" وأن التحقيق: أن الشروع في الحركة ناشىء عن العزم لا أنه هو نفسه ولكن لما اتصل به من غير فصل ظن أنه هو.
وحقيقته: هو استجماع قوى الإرادة على الفعل.
و(العزم) نوعان أحدهما: عزم المريد على الدخول في الطريق وهو من البدايات والثاني: عزم في حال السير معه وهو أخص من هذا وهو من المقامات وسنذكره في موضعه إن شاء الله.
وفي هذه المنزلة يحتاج السالك إلى تمييز ما له مما عليه ليستصحب ما له ويؤدى ما عليه وهو (المحاسبة) وهي قبل (التوبة) في المرتبة فإنه إذا عرف ما له وما عليه أخذ في أداء ما عليه والخروج منه وهو (التوبة).
وصاحب المنازل قدم التوبة على المحاسبة ووجه هذا: أنه رأى (التوبة) أول منازل السائر بعد يقظته ولا تتم التوبة إلا بالمحاسبة فالمحاسبة تكميل مقام التوبة فالمراد بالمحاسبة الإستمرار على حفظ التوبة حتى لا يخرج عنها وكأنه وفاء بعقد التوبة.
واعلم أن ترتيب هذه المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل إلى الثاني كمنازل السير الحسي هذا محال ألا ترى أن (اليقظة) معه في كل مقام لا تفارقه وكذلك (البصيرة) و(الإرادة) و(العزم) وكذلك (التوبة) فإنها كما أنها من أول المقامات فهي آخرها أيضا بل هي في كل مقام مستصحبة ولهذا جعلها الله تعالى آخر مقامات خاصته فقال تعالى في غزوة تبوك وهي آخر الغزوات التي قطعوا فيها الأودية والبدايات والأحوال والنهايات 9:117 {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ(1/133)
رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فجعل التوبة أول أمرهم وآخره وقال في سورة أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي آخر سورة أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله ما صلى صلاة بعد إذ أنزلت عليه هذه السورة إلا قال في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن" فالتوبة هي نهاية كل سالك وكل ولي لله وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله وعبوديته وما ينبغي له قال تعالى 33:72، 73 { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} فجعل سبحانه التوبة غاية كل مؤمن ومؤمنة.
وكذلك (الصبر) فإنه لا ينفك عنه في مقام من المقامات.
وإنما هذا الترتيب ترتيب المشروط المتوقف على شرطه المصاحب له.
ومثال ذلك: أن (الرضا) مترتب على (الصبر) لتوقف الرضا عليه.واستحالة ثبوته بدونه فإذا قيل: إن مقام (الرضا) أو حاله علىالخلاف بينهم: هل هو مقام أو حال؟ بعد مقام (الصبر) لا يعني به أنه يفارق الصبر وينتقل إلى الرضا وإنما يعني أنه لا يحصل له مقام الرضا حتى يتقدم له قبله مقام الصبر فافهم هذا الترتيب في مقامات العبودية.
وإذا كان كذلك علمت أن (القصد) و(العزم) متقدم على سائر المنازل فلا وجه لتأخيره وعلمت بذلك أن (المحاسبة) متقدمة على (التوبة) بالرتبة أيضا فإنه إذا حاسب العبد نفسه خرج مما عليه وهي حقيقة التوبة وأن منزلة (التوكل) قبل منزلة (الإنابة) لأنه يتوكل في حصولها فالتوكل وسيلة والإنابة غاية وأن مقام التوحيد أولى المقامات أن يبدأ به كما أنه أول دعوة(1/134)
الرسل كلهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وفي رواية "إلى أن يعرفوا الله" ولأنه لا يصح مقام من المقامات ولا حال من الأحوال إلا به فلا وجه لجعله آخر المقامات وهو مفتاح دعوة الرسل وأول فرض فرضه الله على العباد وما عدا هذا من الأقوال فخطأ كقول من يقول: "أول الفروض النظر أو القصد إلى النظر أو المعرفة أو الشك الذي يوجب النظر".
وكل هذه الأقوال خطأ بل أول الواجبات: مفتاح دعوة المرسلين كلهم.وهو أول ما دعا إليه فاتحهم نوح فقال: 7:59 {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وهو أول ما دعا إليه خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ولأرباب السلوك اختلاف كثير في عدد المقامات وترتيبها كل يصف منازل سيره وحال سلوكه ولهم اختلاف في بعض منازل السير هل هي من قسم الأحوال؟ والفرق بينهما: أن المقامات كسبية والأحوال وهيبة ومنهم من يقول الأحوال من نتائج المقامات والمقامات نتائح الأعمال فكل من كان أصلح عملا كان أعلى مقاما وكل من كان أعلى مقاما كان أعظم حالا.
فمما اختلفوا فيه (الرضا) هل هو حال أو مقام؟ فيه خلاف بين الخراسانيين والعراقيين.
وحكم بينهم بعض الشيوخ فقال: إن حصل بكسب فهو مقام وإلا فهو حال.
والصحيح في هذا: أن الواردات والمنازلات لها أسماء باعتبار أحوالها فتكون لوامع وبوارق ولوائح عند أول ظهورها وبدوها كما يلمع البارق ويلوح عن بعد فإذا نازلته وباشرها فهي أحوال فإذا تمكنت منه وثبتت له من غير انتقال فهي مقامات وهي لوامع ولوائح في أولها وأحوال في أوسطها ومقامات في(1/135)
نهاياتها فالذي كان بارقا هو بعينه الحال والذي كان حالا هو بعينه المقام وهذه الأسماء له باعتبار تعلقه بالقلب وظهوره له وثباته فيه.
وقد ينسلخ السالك من مقامه كما ينسلخ من الثوب وينزل إلى ما دونه ثم قد يعود إليه وقد لا يعود.
ومن المقامات: ما يكون جامعا لمقامين.
ومنها ما يكون جامعا لأكثر من ذلك.
ومنها ما يندرج فيه جميع المقامات فلا يستحق صاحبه اسمه إلا عند استجماع جميع المقامات فيه.
فالتوبة جامعة لمقام المحاسبة ومقام الخوف لا يتصور وجودها بدونهما.
و(التوكل) جامع لمقام التفويض والإستعانة والرضى لا يتصور وجوده بدونها.
و(الرجاء) جامع لمقام الخوف والإرادة.
و(الخوف) جامع لمقام الرجاء والإرادة.
و(الإنابة) جامعة لمقام المحبة والخشية لا يكون العبد منيبا إلا باجتماعهما.
و(الإخبات) له جامع لمقام المحبة والذل والخضوع لا يكمل أحدها بدون الآخر إخباتا.
و(الزهد) جامع لمقام الرغبة والرهبة لا يكون زاهدا من لم يرغب فيما يرجو نفعه ويرهب مما يخاف ضرره.
ومقام (المحبة) جامع لمقام المعرفة والخوف والرجاء والإرادة فالمحبة معنى يلتئم من هذه الأربعة وبها تحققها.
ومقام (الخشية) جامع لمقام المعرفة بالله والمعرفة بحق عبوديته فمتى عرف الله وعرف حقه اشتدت خشيته له كما قال تعالى 35:28 { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ(1/136)
عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} فالعلماء به وبأمره هم أهل خشيته قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية".
ومقام (الهيبة) جامع لمقام المحبة والإجلال والتعظيم.
ومقام (الشكر) جامع لجميع مقامات الإيمان ولذلك كان أرفعها وأعلاها وهو فوق (الرضا) وهو يتضمن (الصبر) من غير عكس ويتضمن (التوكل) و(الإنابة) و(الحب) و(الإخبات) و(الخشوع) و(الرجاء) فجميع المقامات مندرجة فيه لا يستحق صاحبه اسمه على الإطلاق إلا باستجماع المقامات له ولهذا كان الإيمان نصفين: نصف صبر ونصف شكر والصبر داخل في الشكر فرجع الإيمان كله شكرا والشاكرون هم أقل العباد كما قال تعالى: 34:13 {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
ومقام (الحياء) جامع لمقام المعرفة والمراقبة.
ومقام (الأنس) جامع لمقام الحب مع القرب فلو كان المحب بعيدا من محبوبة لم يأنس به ولو كان قريبا من رجل ولم يحبه لم يأنس به حتى يجتمع له حبه مع القرب منه.
ومقام (الصدق) جامع للإخلاص والعزم فباجتماعهما يصح له مقام الصدق.
ومقام (المراقبة) جامع للمعرفة مع الخشية فبحسبهما يصح مقام المراقبة.
ومقام (الطمأنينة) جامع للإنابة والتوكل والتفويض والرضى والتسليم فهو معنى ملتئم من هذه الأمور إذا اجتمعت صار صاحبها صاحب طمأنينة وما نقص منها نقص من الطمأنينة.
وكذلك (الرغبة) و(الرهبة) كل منهما ملتئم من (الرجاء) و(الخوف) والرجاء على الرغبة أغلب والخوف على الرهبة أغلب.
وكل مقام من هذه المقامات فالسالكون بالنسبة إليه نوعان: أبرار(1/137)
ومقربون فالأبرار في أذياله والمقربون في ذروة سنامه وهكذا مراتب الإيمان جميعها وكل من النوعين لا يحصى تفاوتهم وتفاضل درجاتهم إلا الله.
وتقسيمهم ثلاثة أقسام عام وخاص وخاص خاص إنما نشأ من جعل الفناء غاية الطريق وعلم القوم الذي شمروا إليه وسنذكر ما في ذلك وأقسام الفناء محموده ومذمومه فاضله ومفضوله فإن إشارة القوم إليه إن شاء الله ومدارهم عليه.
على أن الترتيب الذي يشير إليه كل مرتب للمنازل لا يخلو عن تحكم ودعوى من غير مطابقة فإن العبد إذا التزم عقد الإسلام ودخل فيه كله فقد التزم لوازمه الظاهرة والباطنة ومقاماته وأحواله وله في كل عقد من عقوده وواجب من واجباته أحوال ومقامات لايكون موفيا لذلك العقد والواجب إلا بها وكلما وفى واجبا أشرف على واجب آخر بعده وكلما قطع منزلة استقبل أخرى.
وقد يعرض له أعلى المقامات والأحوال في أول بداية سيره فينفتح عليه من حال المحبة والرضا والأنس والطمأنينة ما لم يحصل بعد لسالك في نهايته ويحتاج هذا السالك في نهايته إلى أمور من البصيرة والتوبة والمحاسبة أعظم من حاجة صاحب البداية إليها فليس في ذلك ترتيب كلى لازم للسلوك.
وقد ذكرنا أن التوبة التي جعلوها من أول المقامات هي غاية العارفين ونهاية أولياء الله المقربين ولا ريب أن حاجتهم إلى المحاسبة في نهايتهم فوق حاجتهم إليها في بدايتهم.
فالأولى الكلام في هذه المقامات على طريقة المتقدمين من أئمة القوم كلاما مطلقا في كل مقام مقام ببيان حقيقته وموجبه وآفته المانعة من حصوله والقاطع عنه وذكر عامه وخاصه.
فكلام أئمة الطريق هو على هذا المنهاج فمن تأمله كسهل بن عبدالله التستري وأبي طالب المكي والجنيد بن محمد وأبي عثمان النيسابوري(1/138)
ويحيى بن معاذ الرازي وأرفع من هؤلاء طبقة مثل أبي سليمان الداراني وعون ابن عبدالله الذي كان يقال له حكيم الأمة وأضرابهما فإنهم تكلموا على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلاما مفصلا جامعا مبينا مطلقا من غير ترتيب ولا حصر للمقامات بعدد معلوم فإنهم كانوا أجل من هذا وهمهم أعلى وأشرف إنما هم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة وطهارة القلوب وزكاة النفوس وتصحيح المعاملة ولهذا كلامهم قليل فيه البركة وكلام المتأخرين كثير طويل قليل البركة.
ولكن لا بد من مخاطبة أهل الزمان باصطلاحهم إذ لا قوة لهم للتشمير إلى تلقي السلوك عن السلف الأول وكلماتهم وهديهم ولو برز لهم هديهم وحالهم لأنكروه ولعدوه سلوكا عاميا وللخاصة سلوك آخر كما يقال ضلال المتكلمين وجهلتهم "إن القوم كانوا أسلم وإن طريقنا أعلم" كما يقول من لم يقدر قدرهم من المنتسبين إلى الفقه "إنهم لم يتفرغوا لإستنباطه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالا منهم بغيره والمتأخرون تفرغوا لذلك فهم أفقه".
فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف وعن عمق علومهم وقلة تكلفهم وكمال بصائرهم وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والإشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها وضبط قواعدها وشد معاقدها وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.(1/139)
فالأولى بنا أن نذكر منازل (العبودية) الواردة في القرآن والسنة ونشير إلى معرفة حدودها ومراتبها إذ معرفة ذلك من تمام معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله وقد وصف الله تعالى من لم يعرفها بالجهل والنفاق فقال تعالى: 9:97 {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} فبمعرفة حدودها دراية والقيام بها رعاية: يستكمل العبد الإيمان ويكون من أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
ونذكر لها ترتيبا غير مستحق بل مستحسن بحسب ترتيب السيرالحسي ليكون ذلك أقرب إلى تنزيل المعقول منزلة المشهود بالحس فيكون التصديق أتم ومعرفته أكمل وضبطه أسهل.
فهذه فائدة ضرب الأمثال وهي خاصة العقل ولبه ولهذا أكثر الله تعالى منها في القرآن ونفى عقلها عن غير العلماء فقال تعالى: 39:43 {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}.
فاعلم أن العبد قبل وصول الداعي إليه في نوم الغفلة قلبه نائم وطرفه يقظان فصاح به الناصح وأسمعه داعي النجاح وأذن به مؤذن الرحمن: حيّ على الفلاح.
فأول مراتب هذا النائم: اليقظة والإنتباه من النوم وقد ذكرنا: أنها إنزعاج القلب لروعة الإنتباه.
وصاحب المنازل يقول: "هي القومة لله المذكورة في قوله 34:46 {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى}".(1/140)
قال: "القومة لله هي اليقظة من سنة الغفلة والنهوض عن ورطة الفترة وهي أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه وهي على ثلاثة أشياء: لحظ القلب إلى النعمة على اليأس من عدها والوقوف على حدها والتفرغ إلى معرفة المنة بها والعلم بالتقصير في حقها".
وهذا الذي ذكره: هو موجب اليقطة وأثرها فإنه إذا نهض من ورطة الغفلة لإستنارة قلبه برؤية نور التنبيه أوجب له ملاحظة نعم الله الباطنة والظاهرة وكلما حدق قلبه وطرفه فيها شاهد عظمتها وكثرتها فيئس من عدها والوقوف على حدها وفرغ قلبه لمشاهدة منة الله عليه بها من غير استحقاق ولا استجلاب لها بثمن فتيقن حينئذ تقصيره في واجبها وهو القيام بشكرها.
فأوجب له شهود تلك المنة والتقصير نوعين جليلين من العبودية: محبة المنعم واللهج بذكره وتذكر الله وخضوعه له وإزراءه على نفسه حيث عجز عن شكر نعمه فصار متحققا ب"أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" وعلم حينئذ أن هذا الإستغفار حقيق بأن يكون سيد الإستغفار وعلم حينئذ أن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم وعلم أن العبد دائما سائر إلى الله بين مطالعة المنة ومشاهدة التقصير.
قال: "الثاني مطالعة الجناية والوقوف على الخطر فيها والتشمير لتداركها والتخلص من رقها وطلب النجاة بتمحيصها".
فينظر إلى ما سلف منه من الإساءة ويعلم أنه على خطر عظيم فيها وأنه مشرف على الهلاك بمؤاخذة صاحب الحق بموجب حقه وقد ذم الله تعالى في كتابه من نسي ما تقدم يداه فقال: 18:57 {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} فإذا طالع جنايته شمر لإستدراك الفارط بالعلم والعمل وتخلص من رق الجناية بالإستغفار والندم وطلب التمحيص وهو(1/141)
تخليص إيمانه ومعرفته من خبث الجناية كتمحيص الذهب والفضة وهو تخليصهما من خبثهما ولا يمكن دخوله الجنة إلا بعد هذا التمحيص فإنها طيبة لا يدخلها إلا طيب ولهذا تقول لهم الملائكة 39:73 {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} وقال تعالى 16:32 {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} فليس في الجنة ذرة خبث.
وهذا التمحيص يكون في دار الدنيا بأربعة أشياء: بالتوبة والإستغفار وعمل الحسنات الماحية والمصائب المكفرة فإن محصته هذه الأربعة وخلصته: كان من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يبشرونهم بالجنة وكان من الذين 41:30، 32 {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} عند الموت {أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}.
وإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه وتخليصه فلم تكن التوبة نصوحا وهي العامة الشاملة الصادقة ولم يكن الإستغفار كاملا تاما وهو المصحوب بمفارقة الذنب والندم عليه وهذا هو الإستغفار النافع لا استغفار من في يده قدح السكر وهو يقول أستغفر الله ثم يرفعه إلى فيه ولم تكن الحسنات في كميتها وكيفيتها وافية بالتكفير ولا المصائب وهذا إما لعظم الجناية وإما لضعف الممحص وإما لهما محص في البرزخ بثلاثة أشياء.
أحدها: صلاة أهل الإيمان الجنازة عليه واستغفارهم له وشفاعتهم فيه.
الثاني: تمحيصه بفتنة القبر وروعة الفتان والعصرة والإنتهار وتوابع ذلك.
الثالث: ما يهدي إخوانه المسلمون إليه من هدايا الأعمال من الصدقة عنه والحج والصيام عنه وقراءة القرآن عنه والصلاة وجعل ثواب ذلك له(1/142)
وقد أجمع الناس على وصول الصدقة والدعاء قال الإمام أحمد: "لا يختلفون في ذلك وما عداهما فيه إختلاف والأكثرون يقولون بوصول الحج" وأبو حنيفة يقول: "إنما يصل إليه ثواب الإنفاق" وأحمد ومن وافقه: مذهبهم في ذلك أوسع المذاهب يقولون: يصل إليه ثواب جميع القرب بدنيها وماليها والجامع للأمرين واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله: "يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد مماتهما؟ قال: نعم فذكر الحديث" وقد قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
فإن لم تف هذه بالتمحيص محص بين يدي ربه في الموقف بأربعة أشياء: أهوال القيامة وشدة الموقف وشفاعة الشفعاء وعفو الله عز وجل.
فإن لم تف هذه الثلاثة بتمحيصه فلا بد له من دخول الكير رحمة في حقه ليتخلص ويتمحص ويتطهر في النار فتكون النار طهرة له وتمحيصا لخبثه ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته وشدته وضعفه وتراكمه فإذا خرج خبثه وصفى ذهبه وصار خالصا طيبا أخرج من النار وأدخل الجنة.
قال (الثالث) يعني من مراتب اليقظة (الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان من الأيام والتنصل من تضييعها والنظر إلى الظن بها لتدارك فائتها وتعمير باقيها".(1/143)
يعني أنه يعرف ما معه من الزيادة والنقصان فيتدارك ما فاته في بقية عمره التي لا ثمن لها ويبخل بساعاته بل بأنفاسه عن ذهابها ضياعا في غير ما يقر به إلى الله فهذا هو حقيقة الخسران المشترك بين الناس مع تفاوتهم في قدره قلة وكثرة فكل نفس يخرج في غير ما يقرب إلى الله فهو حسرة على العبد في معاده ووقفة له في طريق سيره أو نكسه إن استمر أو حجاب إن انقطع به.
قال "فأما معرفة النعمة: فإنها تصفو بثلاثة أشياء: بنور العقل وشيم بروق المنة والإعتبار بأهل البلاء".
يعني أن حقيقة مشاهدة النعمة: يصفو بهذه الثلاثة فهي النور الذي أوجب اليقظة فاستنار القلب به لرؤية التنبه وعلى حسبه قوة وضعفا تصفو له مشاهدة النعمة فإن من لم ير نعمة الله عليه إلا في مأكله وملبسه وعافية بدنه وقيام وجهه بين الناس فليس له نصيب من هذا النور ألبتة فنعمة الله بالإسلام والإيمان وجذب عبده إلى الإقبال عليه والتنعم بذكره والتلذذ بطاعته: هو أعظم النعم وهذا إنما يدرك بنور العقل وهداية التوفيق.
وكذلك شيمه بروق منن الله عليه وهو النظر إليها ومطالعتها من خلال سحب الطبع وظلمات النفس والنظر إلى أهل البلاء وهم أهل الغفلة عن الله والإبتداع في دين الله فهذان الصنفان هم أهل البلاء حقا فإذا رآهم وعلم ما هم عليه عظمت نعمة الله عليه في قلبه وصفت له وعرف قدرها.
فالضد يظهر حسنه الضد ... وبضدها تتميز الأشياء
حتى إن من تمام نعيم أهل الجنة: رؤية أهل النار وما هم فيه من العذاب.
قال: "وأما مطالعة الجناية: فإنها تصح بثلاثة أشياء: بتعظيم الحق ومعرفة النفس وتصديق الوعيد".
يعني أن من كملت عظمة الحق تعالى في قلبه عظمت عنده مخالفته لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة من هو دونه ومن عرف قدر نفسه وحقيقتها وفقرها(1/144)
الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونفس وشدة حاجتها إليه عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة ونفس.
وأيضا فإذا عرف حقارتها مع عظم قدر من خالفه عظمت الجناية عنده فشمر في التخلص منها وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به.
ومدار السعادة وقطب رحاها: على التصديق بالوعيد فإذا تعطل من قلبه التصديق بالوعيد خرب خرابا لا يرجى معه فلاح ألبتة والله تعالى أخبر أنه إنما تنفع الآيات والنذر لمن صدق بالوعيد وخاف عذاب الآخرة فهؤلاء هم المقصودون بالإنذار والمنتفعون بالآيات دون من عداهم قال الله تعالى: 11:103 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} وقال 47:45 {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وقال 50:45 {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وأخبر تعالى أن أهل النجاة في الدنيا والآخرة هم المصدقون بالوعيد الخائفون منه فقال تعالى 13:14 {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}.
قال: "وأما معرفة الزيادة والنقصان من الأيام: فإنها تستقيم بثلاثة أشياء: سماع العلم وإجابة داعي الحرمة وصحبة الصالحين وملاك ذلك كله خلع العادات".
يعني أن السالك: على حسب علمه بمراتب الأعمال ونفائس الكسب تكون معرفته بالزيادة والنقصان في حاله وإيمانه وكذلك تفقد إجابة داعي تعظيم حرمات الله من قلبه هل هو سريع الإجابة لها أم هو بطىء عنها فبحسب إجابة الداعي سرعة وإبطاء تكون زيادته ونقصانه.
وكذلك صحبة أرباب العزائم المشمرين إلى اللحاق بالملأ الأعلى يعرف به ما معه من الزيادة والنقصان.(1/145)
والذي يملك به ذلك كله خروجه عن العادات والمألوفات وتوطين النفس على مفارقتها والغربة بين أهل الغفلة والإعراض وما على العبد أضر من ملك العادات له وما عارض الكفار الرسل إلا بالعادات المستقرة الموروثة لهم عن الأسلاف الماضين فمن لم يوطن نفسه على مفارقتها والخروج عنها والإستعداد للمطلوب منه فهو مقطوع وعن فلاحه وفوزه ممنوع 9:46 {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}.
فصل
فإذا استحكمت يقظته أوجبت له الفكرة وهي كما تقدم تحديق القلب
إلى جهة المطلوب التماسا له.
وصاحب المنازل جعلها بعد (البصيرة) وقال في حدها (هي تلمس البصيرة لإستدراك البغية) أي التماس العقل المطلوب بالتفتيش عليه.
قال: "وهي ثلاثة أنواع: فكرة في عين التوحيد وفكرة في لطائف الصنعة وفكرة في معاني الأعمال والأحوال".
قلت: الفكرة فكرتان: فكرة تتعلق بالعلم والمعرفة وفكرة تتعلق بالطلب والإرادة.
فالتي تتعلق بالعلم والمعرفة: فكرة التمييز بين الحق والباطل والثابت والمنفي والتي تتعلق بالطلب والإرادة هي الفكرة التي تميز بين النافع والضار.
ثم يترتب عليها فكرة أخرى في الطريق إلى حصول ما ينفع فيسلكها والطريق إلى ما يضر فيتركها.
فهذه ستة أقسام لا سابع لها هي مجال أفكار العقلاء.
فالفكرة في التوحيد: استحضار أدلته وشواهد الدلالة على بطلان الشرك واستحالته وأن الإلهية يستحيل ثبوتها لاثنين كما يستحيل ثبوت الربوبية لاثنين فكذلك من أبطل الباطل عبادة اثنين والتوكل على اثنين بل لا تصح العبادة إلا للإله الحق والرب الحق وهو الله الواحد القهار.(1/146)
وقد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع وجاء بما يرغب عنه الكمل من سادات السالكين والواصلين إلى الله.
فقال الفكرة في عين التوحيد اقتحام بحر الجحود
وهذا بناء على أصله الذي أصله وانتهى إليه كتابه في أمر الفناء فإنه لما رأى أن الفكرة في عين التوحيد تبعد العبد من التوحيد الصحيح عنده: لأن التوحيد الصحيح عنده لا يكون إلا بعد فناء الفكرة والتفكر والفكرة تدل على بقاء رسم لاستلزامها مفكرا وفعلا قائما به والتوحيد التام: عنده لا يكون مع بقاء رسم أصلا كانت الفكرة عنده علامة الجحود واقتحاما لبحره وقد صرح بهذا في أبياته في آخر الكتاب:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لأحد
ومعنى أبياته: ما وحد الله عز وجل أحد حق توحيده الخاص الذي تفنى فيه الرسوم ويضمحل فيه كل حادث ويتلاشى فيه كل مكون فإنه لا يتصور منه التوحيد إلا ببقاء الرسم وهو الموحد وتوحيده القائم به فإذا وحده شهد فعله الحادث ورسمه الحادث وذلك جحود لحقيقة التوحيد الذي تفنى فيه الرسوم وتتلاشى فيه الأكوان فلذلك قال: "إذ كل من وحده جاحد" هذا أحسن ما يحمل عليه كلامه وقد فسره أهل الوحدة بصريح كلامهم في مذهبهم.
قالوا: معنى "كل من وحده جاحد" أي كل من وحده فقد وصف الموحد بصفة تتضمن جحد حقه الذي هو عدم انحصاره تحت الأوصاف فمن وصفه فقد جحد إطلاقه عن قيود الصفات.
وقوله: "توحيد من ينطق عن نعته" أي توحيد المحدث له الناطق عن نعته عارية مستردة فإنه الموحد قبل توحيد هذا الناطق وبعد فنائه فتوحيده له عارية أبطلها الواحد الحق بإفنائه كل ما سواه.(1/147)
والإتحادي يقول: معناه أن الموحد واحد من جميع الوجوه فأبطل ببساطة ذاته تركيب نطق واصفه وأبطل بإطلاقه تقييد نعت موحده.
وقوله: "توحيده إياه توحيده" يعني أن توحيده الحقيقي هو توحيده لنفسه حيث لا هناك رسم ولا مكون فما وحد الله حقيقة إلا الله.
والإتحادي يقول: ما ثم غير يوحده بل هو الموحد لنفسه بنفسه إذ ليس ثم سوى في الحقيقة.
قوله: "ونعت من ينعته لأحد" أي نعت الناعت له ميل وخروج عن التوحيد الحقيقي والإلحاد أصله الميل لأنه بنعته له قائم بالرسوم وبقاء الرسوم ينافي توحيده الحقيقي.
والإتحادي يقول: نعت الناعت له شرك لأنه أسند إلى المطلق ما لا يليق به إسناده من التقييد وذلك شرك وإلحاد.
فرحمة الله على أبي إسماعيل فتح للزنادقة باب الكفر والإلحاد فدخلوا منه وأقسموا بالله جهد أيمانهم إنه لمنهم وما هو منهم وغره سراب الفناء فظن أنه لجة بحر المعرفة وغاية العارفين وبالغ في تحقيقه وإثباته فقاده قسرا إلى ما ترى.
و(الفناء) الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه أن تذهب المحدثات في شهود العبد وتغيب في أفق العدم كما كانت قبل أن توجد ويبقى الحق تعالى كما لم يزل ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا فلا يبقى له صورة ولا رسم ثم يغيب شهوده أيضا فلا يبقى له شهود ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات وحقيقته أن يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل.
قال صاحب المنازل: "هو اضمحلال ما دون الحق علما ثم جحدا ثم حقا وهو على ثلاث درجات".(1/148)
الدرجة الأولى: فناء المعرفة في المعروف وهو الفناء علما وفناء العيان في المعاين وهو الفناء جحدا وفناء الطلب في الوجود وهو الفناء حقا.
الدرجة الثانية: فناء شهود الطلب لإسقاطه وفناء شهود المعرفة لإسقاطها وفناء شهود العيان لإسقاطه.
الدرجة الثالثة: الفناء عن شهود الفناء وهو الفناء حقا شائما برق العين راكبا بحر الجمع سالكا سبيل البقاء".
فنذكر ما في هذا الكلام من حق وباطل ثم نتبعه ذكر أقسام الفناء والفرق بين الفناء المحمود الذي هو فناء خاصة أولياء الله المقربين والفناء المذموم الذي هو فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود وفناء المتوسطين الناقصين عن درجة الكمال بعون الله وحوله وتأييده.
فقوله: "الفناء اضمحلال ما دون الحق جحدا" لا يريد به أنه يعدم من الوجود بالكلية وإنما يريد اضمحلاله في العلم فيعلم أن ما دونه باطل وأن وجوده بين عدمين وأنه ليس له من ذاته إلا العدم فعدمه بالذات ووجوده بإيجاد الحق له فيفنى في علمه كما كان فانيا في حال عدمه فإذا فنى في علمه ارتقى إلى درجة أخرى فوق ذلك وهي جحد السوى وإنكاره وهذه أبلغ من الأولى لأنها غيبته عن السوى فقد يغيب عنه وهو غير جاحد له وهذه الثانية جحده وإنكاره.
ومن هاهنا دخل الإتحادي وقال: المراد جحد السوى بالكلية وأنه ما ثم غير بوجه ما.
وحاشا شيخ الإسلام من إلحاد أهل الإتحاد وإن كانت عبارته موهمة بل مفهمة ذلك وإنما أراد بالجحد: في الشهود لا في الوجود أي يجحده أن يكون مشهودا فيجحد وجوده الشهودي العلمي لا وجوده العيني الخارجي فهو أولا يغيب عن وجوده الشهودي العلمي ثم ينكر ثانيا وجوده في علمه وهو اضمحلاله جحدا ثم يرتقي من هذه الدرجة إلى درجة أخرى أبلغ منها وهي(1/149)
اضمحلاله في الحقيقة وأنه لا وجود له ألبته وإنما وجوده قائم بوجود الحق فلولا وجود الحق لم يكن هو موجودا ففي الحقيقة: الموجود إنما هو الحق وحده والكائنات من أثر وجوده هذا معنى قولهم: "إنها لا وجود لها ولا أثر لها وإنها معدومة وفانية ومضمحلة".
والإتحادي يقول: "إن السالك في أول سلوكه يرى أنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله" فهذا توحيد العلم ولا يقدر في طوره الأول على أكثر من ذلك ثم ينتقل عن هذا إلى الدرجة الثانية وهي شهود عود الأفعال إلى الصفات والصفات إلى الذات فعاد الأمر كله إلى الذات فيجحد وجود السوي بالكلية فهذا هو الإضمحلال جحدا ثم يرتقي عن هذه الدرجة إلى ركوب البحر الذي تغرق فيه الأفعال والأسماء والصفات ولا يبقى إلا أمر مطلق لا يتقيد باسم ولا فعل ولا صفة قد اضمحل فيه كل معنى وقيد وصفة ورسم وهذا عندهم غاية السفر الأول فحينئذ يأخذ في السفر الثاني وهو البقاء.
قوله: "الدرجة الأولى: فناء المعرفة في المعروف".
يريد اضمحلال معرفته وتلاشيها في معروفه وأن يغيب بمعروفه عن معرفته كما يغيب بمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمحبوبه عن حبه وبمخوفه عن خوفه وهذا لا ريب في إمكانه ووقوعه فإن القلب إذا امتلأ بشيء لم يبق فيه متسع لغيره وأنت ترى الرجل يشاهد محبوبه الذي قد استغرق في حبه بحيث تخلل حبه جميع أجزاء قلبه أو يشاهد المخوف الذي امتلأ قلبه بخوفه فتراه دهشا عن شعوره بحبه أو خوفه لإستيلاء سلطان المحبوب أو المخوف على قلبه وعدم اتساعه لشهود غيره ألبتة لكن هذا لنقصه لا لكماله والكمال وراء ذلك فلا أحد أعظم محبة لله عز وجل من الخليلين عليهما الصلاة والسلام وكانت حالهما أكمل من هذه الحال وشهود العبودية أكمل وأتم وأبلغ من الغيبة عنها بشهود المعبود فشهود العبودية والمعبود درجة الكمل والغيبة بأحدهما(1/150)
عن الآخر للناقصين فكما أن الغيبة بالعبادة عن المعبود نقص فكذلك الغيبة بالمعبود عن عبادته نقص حتى إن من العارفين من لا يعتد بهذه العبادة ويرى وجودها عدما هي بمنزلة عبودية النائم وزائل العقل لا يعتد بها ولم يبعد هذا القائل.
فالحق تعالى مراده من عبده: استحضار عبوديته لا الغيبة عنها والعامل على الغيبة عنها عامل على مراده من الله وعلى حظه والتنعم بالفناء في شهوده لا على مراد الله منه وبينهما ما بينهما.
فكيف يكون قائما بحقيقة العبودية من يقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ولا شعور له بعبوديته ألبتة؟ بل حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} علما ومعرفة وقصدا وإرادة وعملا وهذا مستحيل في وادي الفناء ومن له ذوق يعرف هذا وهذا.
قوله: "وفناء العيان في المعاين وهو الفناء جحدا".
لما كان ما قبل هذا فناء العلم في المعلوم والمعرفة في المعروف والعيان فوق العلم والمعرفة إذنسبته إلى العلم كنسبة المرئي إليه كان الفناء في هذه المرتبة فناء عيانه في معاينه ومحو أثره واضمحلال رسمه.
قوله: "وفناء الطلب في الموجود وهو الفناء حقا".
يريد: أنه لا يبقى لصاحب هذا العيان طلب لأنه قد ظفر بموجوده ومطلوبه وطلب الموجود محال لأنه إنما يطلب المفقود عن العيان لا الموجود فإذا استقرت في عيانه وشهوده فنى الطلب حقا.
قوله: "الدرجة الثانية: فناء شهود الطلب لإسقاطه وفناء شهود المعرفة لإسقاطها وفناء شهود العيان لإسقاطه".
يريد أن الطلب يسقط فيشهد العبد عدمه فهاهنا أمور ثلاثة مترتبة أحدها فناء الطلب وسقوطه ثم شهود سقوطه ثم سقوط شهوده.
فهذا هو فناء شهود الطلب لإسقاطه.(1/151)
وأما فناء شهود المعرفة لإسقاطها فيريد به: أن المعرفة تسقطه في شهود العيان إذ هو فوقها وهي تفنى فيه فيشهد سقوطها في العيان ثم يسقط شهود سقوطها.
وصاحب المنازل يرى أن المعرفة قد يصحبها شيء من حجاب العلم ولا يرتفع ذلك الحجاب إلا بالعيان فحينئذ تفنى في حقه المعارف فيشهد فناءها وسقوطها ولكن عليه بعد بقية لا تزول عنه حتى يسقط شهود فنائها وسقوطها منه فالعارف يخالطه بقية من العلم لا تزول إلا بالمعاينة والمعاين قد يخالطه بقية من المعرفة لا تزول إلا بشهود سقوطها ثم سقوط شهود هذا السقوط.
وأما "فناء شهود العيان لإسقاطه" فيعني أن العيان أيضا يسقط فيشهد العبد ساقطا فلا يبقى إلا المعاين وحده.
قال الإتحادي: "هذا دليل على أن الشيخ يرى مذهب أهل الوحدة لأن العيان إنما يسقط في مبادى حضرة الجمع لأنه يقتضي ثلاثة أمور: معاين ومعاين ومعاينة وحضرة الجمع تنفى التعداد".
وهذا كذب على شيخ الإسلام وإنما مراده: فناء شهود العيان فيفنى عن مشاهدة المعاينة ويغيب بمعاينه عن معاينته لأن مراده: انتفاء التعدد والتغاير بين المعاين والمعاين وإنما مراده انتفاء الحاجب عن درجة الشهود لا عن حقيقة الوجود ولكنه باب لإلحاد هؤلاء الملاحدة منه يدخلون.
وفرق بين إسقاطه الشيء عن درجة الوجود العلمي الشهودي وإسقاطه عن رتبة الوجود الخارجي العيني فشيخ الإسلام بل مشايخ القوم المتكلمين بلسان الفناء هذا مرادهم.
وأما أهل الوحدة فمرادهم: أن حضرة الجمع والوحدة تنفى التعدد والتقييد في الشهود والوجود بحيث يبقى المعروف والمعرفة والعارف من عين واحدة لا بل ذلك هو نفس العين الواحدة وإنما العلم والعقل والمعرفة حجب بعضها أغلظ من(1/152)
بعض ولا يصير السالك عندهم محققا حتى يخرق حجاب العلم والمعرفة والعقل فحينئذ يفضي إلى ما وراء الحجاب من شهود الوحدة المطلقة التي لا تتقيد بقيد ولا تختص بوصف.
قوله: "الدرجة الثالثة: الفناء عن شهود الفناء:.
أي يشهد فناء كل ما سوى الحق تعالى في وجود الحق ثم يشهد الفناء قد فنى أيضا ثم يفنى عن شهود الفناء فذلك هو الفناء حقا.
وقوله: "شائما برق العين".
يعني ناظرا إلى عين الجمع فإذا شام برقه من بعد انتقل من ذلك إلى ركوب لجة بحر الجمع وركوبه إياها هو فناؤه في جمعه.
ويعني بالجمع: الحقيقة الكونية القدرية التي يجتمع فيها جميع المتفرقات وتشمير القوم إلى شهودها والإستغراق والفناء فيها هو غاية السلوك والمعرفة عندهم.
وسنذكر إن شاء الله تعالى أن العبد لا يدخل بهذا الفناء والشهود في الإسلام فضلا أن يكون به من المؤمنين فضلا أن يكون به من خاصة أولياء الله المقربين فإن هذا شهود مشترك لأمر أقر به عباد الأصنام وسائر أهل الملل: أنه لا خالق إلا الله قال الله تعالى 39:38 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 43:87 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فالإستغراق والفناء في شهود هذا القدر غاية التحقيق لتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون ولم يدخلوا به في الإسلام وإنما الشأن في توحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل وأنزلت به الكتب وتميز به أولياء الله من أعدائه وهو أن لا يعبد إلا الله ولا يحب سواه ولا يتوكل على غيره.
والفناء في هذا التوحيد: هو فناء خاصة المقربين كما سيأتي إن شاء الله.
فصل
إذا عرفت مراد القوم بالفناء فنذكر أقسامه ومراتبه وممدوحه ومذمومه ومتوسطه.(1/153)
فاعلم أن (الفناء) مصدر فَنِيَ فَنَاءً إِذَا اضْمَحَلَّ وتَلاَشَى وعُدِم وقد يطلق على ما تلاشت قواه وأوصافه مع بقاء عينه كا قال الفقهاء لا يقتل في المعركة شيخ فان وقال تعالى 55:26 {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي هالك ذاهب ولكن القوم اصطلحوا على وضع هذه اللفظة لتجريد شهود الحقيقة الكونية والغيبة عن شهود الكائنات.
وهذا الاسم يطلق على ثلاثة معان الفناء عن وجود السوى والفناء عن شهود السوى والفناء عن إرادة السوى.
فأما الفناء عن وجود السوى: فهو فناء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود وأنه ماثم غير وأن غاية العارفين والسالكين الفناء في الوحدة المطلقة ونفى التكثر والتعدد عن الوجود بكل اعتبار فلا يشهد غيرا أصلا بل يشهد وجود العبد عين وجود الرب بل ليس عندهم في الحقيقة رب وعبد.
وفناء هذه الطائفة في شهود الوجود كله واحد وهو الواجب بنفسه ماثم وجودان ممكن وواجب ولا يفرقون بين كون وجود المخلوقات بالله وبين كون وجودها هو عين وجوده وليس عندهم فرقان بين (العالمين) و(رب العالمين) ويجعلون الأمر والنهي للمحجوبين عن شهودهم وفنائهم والأمر والنهي تلبيس عندهم والمحجوب عندهم يشهد أفعاله طاعات أو معاص ما دام في مقام الفرق فإذا ارتفعت درجته شهد أفعاله كلها طاعات لا معصية فيها لشهوده الحقيقة الكونية الشاملة لكل موجود فإذا ارتفعت درجته عندهم فلا طاعة ولا معصية بل ارتفعت الطاعات والمعاصي لأنها تستلزم اثنينية وتعددا وتستلزم مطيعا ومطاعا وعاصيا ومعصيا وهذا عندهم محض الشرك والتوحيد المحض يأباه فهذا فناء هذه الطائفة.
وأما الفناء عن شهود السوى: فهو الفناء الذي يشير إليه أكثر الصوفية(1/154)
المتأخرين ويعدونه غاية وهو الذي بنى عليه أبو إسماعيل الأنصاري كتابه: وجعله الدرجة الثالثة في كل باب من أبوابه.
وليس مرادهم فناء وجود ما سوى الله في الخارج بل فناؤه عن شهودهم وحسهم فحقيقته غيبة أحدهم عن سوى مشهوده بل غيبته أيضا عن شهوده ونفسه لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبموجوده عن وجوده وبمحبوبه عن حبه وبمشهوده عن شهوده.
وقد يسمى حال مثل هذا سكرا واصطلاحا ومحوا وجمعا وقد يفرقون بين معاني هذا الأسماء وقد يغلب شهود القلب بمحبوبه ومذكوره حتى يغيب به ويفنى به فيظن أنه اتحد به وامتزح بل يظن أنه هو نفسه كما يحكى أن رجلا ألقى محبوبه نفسه في الماء فألقى المحب نفسه وراءه فقال له مال الذي أوقعك في الماء؟ فقال: "غبت بك عني فظننت أنك أني".
وهذا إذا عاد إليه عقله يعلم أنه كان غالطا في ذلك وأن الحقائق متميزة في ذاتها فالرب رب والعبد عبد والخالق بائن عن المخلوقات ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ولكن في حال السكر والمحو والإصطلام والفناء: قد يغيب عن هذا التمييز وفي هذه الحال قد يقول صاحبها ما يحكى عن أبي يزيد أنه قال: "سبحاني" أو "ما في الجبة إلا الله" ونحو ذلك من الكلمات التي لو صدرت عن قائلها وعقله معه لكان كافرا ولكن مع سقوط التمييز والشعور قد يرتفع عنه قلم المؤاخذة.
وهذا الفناء يحمد منه شيء ويذم منه شيء ويعفى منه عن شيء.
فيحمد منه: فناؤه عن حب ما سوى الله وعن خوفه ورجائه والتوكل(1/155)
صاحب الفناء الثالث أكمل منهما فزوال العقل والتمييز والغيبة عن شهود نفسه وأفعالها لا يحمد فضلا عن أن يكون في أعلى مراتب الكمال بل يذم إذا تسبب إليه وباشر أسبابه وأعرض عن الأسباب التي توجب له التمييز والعقل ويعذر إذا ورد عليه ذلك بلا استدعاء بأن كان مغلوبا عليه كما يعذر النائم والمغمى عليه والمجنون والسكران الذي لا يذم على سكره كالموجر والجاهل بكون الشراب مسكرا ونحوهما.
وليس أيضا هذه الحال بلازمة لجميع السالكين بل هي عارضة لبعضهم منهم من يبتلى بها كأبي يزيد وأمثاله ومنهم من لا يبتلى بها وهم أكمل وأقوى فإن الصحابة رضي الله عنهم وهم سادات العارفين وأئمة الواصلين المقربين وقدوة السالكين لم يكن منهم من ابتلى بذلك مع قوة إرادتهم وكثرة منازلاتهم ومعاينة مالم يعاينه غيرهم ولا شم له رائحة ولم يخطر على قلبه فلو كان هذا الفناء كمالا لكانوا هم أحق به وأهله وكان لهم منه ما لم يكن لغيرهم.
ولا كان هذا أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ولا حالا من أحواله صلى الله عليه وسلم ولهذا في ليلة المعراج لما أسرى به وعاين ما عاين مما أراه الله إياه من آياته الكبرى لم تعرض له هذه الحال بل كان كما وصفه الله عز وجل بقوله 53:17، 18 {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وقال {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} وقال ابن عباس:(1/157)
"هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به" ومع هذا فأصبح بينهم لم يتغير عليه حاله ولم يعرض له صعق ولا غشى يخبرهم عن تفصيل ما رأى غير فان عن نفسه ولا عن شهوده ولهذا كانت حاله أكمل من حال موسى ابن عمران لما خر صعقا حين تجلى ربه للجبل وجعله دكا.
فصل
وهذا الفناء له سببان.
أحدهما: قوة الوارد وضعف المورود وهذا لا يذم صاحبه
الثاني: نقصان العلم والتمييز وهذا يذم صاحبه لاسيما إذا أعرض عن العلم الذي يحول بينه وبين هذا الفناء وذمه وذم أهله ورأى ذلك عائقا من عوائق الطريق فهذا هو المذموم المخوف عليه.
ولهذا عظمت وصية القوم بالعلم وحذروا من السلوك بلا علم وأمروا بهجر من هجر العلم وأعرض عنه وعدم القبول منه لمعرفتهم بمآل أمره وسوء عاقبته في سيره وعامة من تزندق من السالكين فلإعراضه عن دواعي العلم وسيره على جادة الذوق والوجد ذاهبة به الطريق كل مذهب فهذا فتنته والفتنة به شديدة وبالله التوفيق.
فصل
وأصل هذا الفناء: الإستغراق في توحيد الربوبية وهو رؤية تفرد الله بخلق الأشياء وملكها واختراعها وأنه ليس في الوجود قط إلا ما شاءه وكونه فيشهد ما اشتركت فيه المخلوقات من خلق الله إياها ومشيئته لها وقدرته عليها وشمول قيوميته وربوبيته لها ولا يشهد ما افترقت فيه من محبة الله لهذا وبغضه لهذا وأمره بما أمر به ونهيه عما نهى عنه وموالاته لقوم ومعاداته لآخرين.(1/158)
فلا يشهد التفرقة في الجمع وهي تفرقة الخلق والأمر في جمع الربوبية تفرقة موجب الإلهية في جمع الربوبية تفرقة الإرادة الدينية في جمع الإرادة الكونية تفرقة ما يحبه ويرضاه في جمع ما قدره وقضاه ولا يشهد الكثرة في الوجود وهي كثرة معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى واقتضاؤها لآثارها في وحدة الذات الموصوفة بها.
فلا يشهد كثرة دلالات أسماء الرب تعالى وصفاته على وحدة ذاته.
فهو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر وكل اسم له صفة وللصفة حكم فهو سبحانه واحد الذات كثير الأسماء والصفات فهذه كثرة في وحدة.
والفرق بين مأموره ومنهيه ومحبوبه ومبغوضه ووليه وعدوه: تفرقة في جمع فمن لم يتسع شهوده لهذه الأمور الأربعة فليس من خاصة أولياء الله العارفين بل إن انصرف شهوده عنها مع اعترافه بها فهو مؤمن ناقص وإن جحدها أو شيئا منها فكفر صريح أو بتأويل مثل أن يجحد تفرقة الأمر والنهي أو جمع القضاء والقدر أو كثرة معاني الأسماء والصفات ووحدة الذات.
فليتدبر اللبيب السالك هذا الموضع حق التدبر وليعرف قدره فإنه مجامع طرق العالمين وأصل تفرقتهم قد ضبطت لك معاقده وأحكمت لك قواعده وبالله التوفيق.
وإنما يعرف قدر هذا من اجتاز القفار واقتحم البحار وعرض له ما يعرض لسالك القفر وراكب البحر ومن لم يسافر ولم يخرج عن وطن طبعه ومرباه وما ألف عليه أصحابه وأهل زمانه فهو بمعزل عن هذا فإن عرف قدره وكفى الناس شره فهذا يرجى له السلامة وإن عدا طوره وأنكر ما لم يعرفه وكذب بما لم يحط به علما ثم تجاوز إلى تكفير من خالفه ولم يقلد شيوخه ويرضى بما رضى هو به لنفسه فذلك الظالم الجاهل الذي ما ضر إلا نفسه ولا أضاع إلا حظه.(1/159)
فصل
ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب ومهالك لا ينجيه منها إلا بصيرة العلم التي إن صحبته في سيره وإلا فبسبيل من هلك.
منها: أنه إذا اقتحم عقبة الفناء ظن أن صاحبها قد سقط عنه الأمر والنهي لتشويشه على الفناء ونقضه له والفناء عنده غاية العارفين ونهاية التوحيد فيرى ترك كل ما أبطله وأزاله من أمر ونهي أو غيرهما ويصرح بعضهم بأنه إنما يسقط الأمر والنهي عمن شهد الإرادة وأما من لم يشهدها فالأمر والنهي لازمان له ولم يعلم هذا المغرور أن غاية ما معه الفناء في توحيد أهل الشرك الذي أقروا به ولم يكونوا به مسلمين ألبتة كما قال تعالى 39:38 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال: 23:83، 89 {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وقال تعالى 12:106 {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال ابن عباس: "تسألهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم يعبدون غيره".
ومن كان هذا التوحيد والفناء غاية توحيده: انسلخ من دين الله ومن جميع رسله وكتبه إذ لم يتميز عنده ما أمر الله به مما نهى عنه ولم يفرق بين أولياء الله وأعدائه ولا بين محبوبه ومبغوضه ولا بين المعروف والمنكر وسوى بين المتقين والفجار والطاعة والمعصية بل ليس عنده في الحقيقة إلا طاعة لإستواء الكل في الحقيقة التي هي المشيئة العامة الشاملة.
ثم صاحب هذا المقام: يظن أنه صاحب الجمع والتوحيد وأنه وصل إلى عين الحقيقة وإنما وصل المسكين إلى الحقيقة الشاملة التي يدخل فيها إبليس وجنوده(1/160)
أجمعون وكل كافر ومشرك وفاجر فإن هؤلاء كلهم تحت الحقيقة الكونية القدرية فغاية صاحب هذا المشهد وصوله إلى أن يشهد استواء هؤلاء والمؤمنين الأبرار وأولياء الله وخاصة عباده في هذه الحقيقة ومع هذا فلا بد له من الفرق والموالاة والمعاداة ضرورة فينسلخ عن الفرق الشرعي ويعود إلى الفرق الطبعي النفسي بهواه وطبعه إذ لا بد أن يفرق بين ما ينفعه فيميل إليه وما يضره فيهرب منه فبينا هو منكر على أهل الفرق الشرعي ناكبا عن طريقتهم إلى عين الجمع إذ انتكس وارتكس وعاد إلى الفرق الطبعي النفسي فيوالي ويعادي ويحب ويبغض بحسب هواه وإرادته.
فإن الفرق أمر ضروري للإنسان فمن لم يكن فرقه قرآنيا محمديا فلا بد له من قانون يفرق به إما سياسة سائس فوقه أو ذوق منه أو من غيره أو رأى منه أو من غيره أو يفرق فرقا بهيميا حيوانيا بحسب مجرد شهوته وغرضه أين توجهت به فلا بد من التفريق بأحد هذه الوجوه.
فلينظر العبد من الحاكم عليه في الفرق وليزن به إيمانه قبل أن يوزن وليحاسب نفسه قبل أن يحاسب وليستبدل الذهب بالخزف والدر بالبعر والماء الزلال بالسراب الذي 24:39 {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قبل أن يسأل الرجعة إلى دار الصرف فيقال هيهات! اليوم يوم الوفاء وما مضى فقد فات أحصي المستخرج والمصروف وستعلم الآن ما معك من النقد الصحيح والزيوف.
وأصحاب هذه الحقيقة: أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق إذا تناهوا في حقيقتهم أضافوا الجميع إلى الله إضافة المحبة والرضى وجعلوها عين المشيئة والخلق ضاهؤا الذين قال الله تعالى فيهم 16:35 {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وقولهم عن آلهتهم 43.:20(1/161)
{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} وقوله {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فاحتجوا بإقرار الله لهم قدرا وكونا على رضاه ومحبته وأمره وأنه لو كره ذلك منهم لحال بينهم وبينه ولما أقرهم عليه فجعلوا قضاءه وقدره عين محبته ورضاه وورثهم من سوى بين المخلوقات ولم يفرق بالفرق النبوي القرآني.
وطائفة من المشركين ذكرت ذلك معارضين لأمر الله ونهيه وما بعث به رسله بقضائه وقدره فعارضوا الحقيقة الدينية الشرعية بالحقيقة الكونية القدرية وورثهم من يحتج بالقضاء والقدر في مخالفة الأمر والنهي وكلا الطائفتين أبطلت أمره ونهيه بقضائه وقدره.
وظنت طائفة ثالثة أن إثبات القضاء والقدر يبطل الشرائع والنبوات وأن المشركين احتجوا على بطلانها بإثباته فجعلت التكذيب به من أصول الإيمان بل أعظم أصوله فردت قضاء الله وقدره الشامل العام بأمره ونهيه.
فانظر إلى اقتسام الطوائف هذا الموضع وافتراقهم في مفرق هذا الطريق علما وخبرا وسلوكا وحقيقة وتأمل أحوال الخلق في هذا المقام تنكشف لك أسرار العالمين وتعلم أين أنت وأين مقامك وتعرف ما جنى هذا الجمع وهذا الفناء على الإيمان وما خرب من القواعد والأركان وتتحقق حينئذ أن الدين كله فرقان في القرآن فرق في جمع وكثرة في وحدة كما تقدم بيانه وأن أولى الناس بالله وكتبه ورسله ودينه أصحاب الفرق في الجمع فيقومون بالفرق بين ما يحبه الله ويبغضه ويأمر به وينهى عنه ويواليه ويعاديه علما وشهودا وإرادة وعملا مع شهودهم الجمع لذلك كله في قضائه وقدره ومشيئته الشاملة العامة فيؤمنون بالحقيقة الدينية والكونية ويعطون كل حقيقة حظها من العبادة.
فحظ الحقيقة الدينية: القيام بأمره ونهيه ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه وموالاة من والاه ومعادات من عاداه وأصل ذلك الحب فيه والبغض فيه.
وحظ الحقيقة الكونية: إفراده بالإفتقار إليه والإستعانة به والتوكل عليه(1/162)
والإلتجاء إليه وإفراده بالسؤال والطلب والتذلل والخضوع والتحقق بأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يملك أحد سواه لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وأنه مقلب القلوب فقلوبهم ونواصيهم بيده وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه.
فلهذه الحقيقة عبودية ولهذه الحقيقة عبودية ولا تبطل إحداهما الأخرى بل لا تتم إلا بها ولا تتم العبودية إلا بمجموعها وهذا حقيقة قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بخلاف من أبطل حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بحقيقة {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقال: "إنها جمع و {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فرق وقد يغلو في هذا المشهد فلا يستحسن حسنة ولا يستقبح قبيحة ويصرح بذلك ويقول العارف لا يستحسن حسنة ولا يستقبح قبيحة لإستبصاره بسر القدر.
ومنهم من يقول: حقيقة هذا المشهد: أن يشهد الوجود كله حسنا لا قبيح فيه وأفعالهم كلها طاعات لا معصية فيها لأنهم وإن عصوا الأمر فهم مطيعون المشيئة ويقولون:
أصبحت منفعلا لما تختاره ... منى ففعلى كله طاعات
ويقول قائلهم: "من شهد الحقيقة سقط عنه الأمر" ويحتجون بقوله تعالى 15:99 {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ويفسرون اليقين بشهود الحكم الكوني وهي الحقيقة عندهم.(1/163)
ولا ريب أن العامة خير من هؤلاء وأصح إيمانا فإن هذا زندقة ونفاق وكذب منهم على أنفسهم ونبيهم وإلههم.
أما كذبهم على أنفسهم: فإنهم لا بد أن يفرقوا قطعا فرغبوا عن الفرق النبوي والقرآني ووقعوا في الفرق النفسي الطبعي مثل حال إبليس تكبر عن السجود لآدم ورضى لنفسه بالقيادة لفساق ذريته ومثل المشركين تكبروا عن عبادة الله الحي القيوم ورضوا لأنفسهم بعبادة الأحجار والأشجار والموتى والأوثان ومثل أهل البدع تكبروا عن تقليد النصوص وتلقى الهدى من مشكاتها ورضوا لأنفسهم بتقليد أقوال مخالفة للفطرة والعقل والشرع وظنوها قواطع عقليه وقدموها على نصوص الأنبياء وهي في الحقيقة شبهات مخالفة للسمع والعقل.
ومثل الجهمية نزهوا الرب عن عرشه وجعلوه في أجواف البيوت والحوانيت والحمامات وقالوا هو في كل مكان بذاته ونزهوه عن صفات كماله ونعوت جلاله حذرا بزعمهم من التشبيه فشبهوه بالجامدات الناقصة الخسيسة التي لا تتكلم ولا سمع لها ولا بصر ولا علم ولا حياة بل شبهوه بالمعدومات الممتنع وجودها.
ومثل المعطلة الذين قالوا: "ما فوق العرش إلا العدم وليس فوق العرش رب يعبد ولا إله يصلى له ويسجد ولا ترتفع الأيدي إليه ولا رفع المسيح إليه ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولا دنى منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يراه أهل الجنة من فوقهم يوم القيامة واستواؤه على(1/164)
عرشه لا حقيقة له بل على المجاز الذي يصح نفيه وعلوه فوق خلقه بالرتبة والشرف لا بالذات وكذلك فوقيته فوقية قهر لا فوقية ذات" فنزهوه عن كمال علوه وفوقيته ووصفوه بما ساووا به بينه وبين العدم والمستحيل فقالوا: "لا هو داخل العلم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا محايث له ولا مباين له ولا هو فينا ولا خارج عنا.
ومعلوم أنه لو قيل لأحدهم: "صف لنا العدم لوصفه بهذا بعينه".
وانطباق هذا السلب على العدم المحض أقرب إلى العقول والفطر من انطباقه على رب العالمين الذي ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته بل هو بائن من خلقه مستو على عرشه عال على كل شيء وفوق كل شيء.
والقصد: أن كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده وقع في باطل مقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده ولا بد حتى في الأعمال من رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق فرغب عن العمل لمن ضره ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده فابتلى بالعمل لمن لا يملك له شيئا من ذلك.
وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم.
وكذلك من رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب في خدمه الخلق ولا بد.
وكذلك من رغب عن الهدى بالوحي ابتلي بكناسة الآراء وزبالة الأذهان ووسخ الأفكار.
فليتأمل من يريد نصح نفسه وسعادتها وفلاحها هذا الموضع في نفسه وفي غيره.
ولا ريب أن العامة مع غفلتهم وشهواتهم أصح إيمانا من هؤلاء إذا لم يعطلوا الأمر والنهي فإن إيمانا مع تفرقة وغفلة خير من شهود وجمعية يصحبها فساد الإيمان والإنسلاخ منه.
وأما كذبهم على نبيهم: فاعتقادهم أنه إنما كان قيامه بالأوراد والعبادات(1/165)
لأجل التشريع لا لأنها فرض عليه إذ قد سقط ذلك عنه بشهود الحقيقة وكمال اليقين فإن الله عز وجل أمره وأمر سائر رسله بعبادته إلى حين انقضاء آجالهم فقال 15:99 {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وهو الموت بالإجماع كما قال في الآية الأخرى عن الكفار 74:46، 47 {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وقال صلى الله عليه وسلم: "أما عثمان بن مظعون فقد جاءه اليقين من ربه" قاله لما مات عثمان وقال المسيح 19:39، 31 {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} فهذه وصية الله للمسيح وكذلك لجميع أنبيائه ورسله وأتباعهم قال الحسن: "لم يجعل الله لعبده المؤمن أجلا دون الموت".
وإذا جمع هؤلاء التجهم في الأسماء والصفات إلى شهود الحقيقة والوقوف عندهم فأعاذك الله من تعطيل الرب وشرعه بالكلية فلا رب يعبد ولا شرع يتبع بالكلية.
ومن أراد الوقوف على حقيقة ما ذكرنا فليسير طرفه بين تلك المعالم وليقف على تلك المعاهد وليسأل الأحوال والرسوم والشواهد فإن لم تجبه حوارا أجابته حالا واعتبارا وإنما يصدق بهذا من رافق السالكين وفارق القاعدين وتبوأ الإيمان وفارق عوائد أهل الزمان ولم يرض بقول القائل:
دع المعالي لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فصل
الدرجة الثالثة من درجات الفناء:
فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين وهو الفناء عن إرادة السوي شائما(1/166)
برق الفناء عن إرادة ما سواه سالكا سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه فانيا بمراد محبوبه منه على مراده هو من محبوبه فضلا عن إرادة غيره قد اتحد مراده بمراد محبوبه أعني المراد الديني الأمري لا المراد الكوني القدري فصار المرادان واحدا.
وليس في العقل اتحاد صحيح إلا هذا والإتحاد في العلم والخبر فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحدا مع تباين الإرادتين والعلمين والخبرين فغاية المحبة: إتحاد مراد المحب بمراد المحبوب وفناء إرادة المحب في مراد المحبوب.
فهذا الإتحاد والفناء: هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم فنوا بعبادة محبوبهم عن عبادة ما سواه وبحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإستعانة به والطلب منه عن حب ما سواه وخوفه ورجائه والتوكل عليه.
ومن تحقيق هذا الفناء: أن لا يحب إلا في الله ولا يبغض إلا فيه ولا يوالي إلا فيه ولا يعادي إلا فيه ولا يعطي إلا له ولا يمنع إلا له ولا يرجو إلا إياه ولا يستعين إلا به فيكون دينه كله ظاهرا وباطنا لله ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فلا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إليه بل:
يعادي الذي عادى الناس كلهم ... جميعا ولو كان الحبيب المصافيا
وحقيقة ذلك: فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضى ربه وحقوقه.
والجامع لهذا كله: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله علما ومعرفة وعملا وحالا وقصدا.
وحقيقة هذا النفي والإثبات الذي تضمنته هذه الشهادة: هو الفناء والبقاء فيفنى عن تأليه ما سواه علما وإقرارا وتعبدا ويبقى بتألهيه وحده.(1/167)
فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحد الذي عليه المرسلون وأنزلت به الكتب وخلقت لأجله الخليقة وشرعت له الشرائع وقام عليه سوق الجنة وأسس عليه الخلق والأمر.
وحقيقته أيضا: البراء والولاء البراء من عبادة غير الله والولاء لله كما قال تعالى 60:4 {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وقال 43:26، 27 {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وقال أيضا 6:78، 79 {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخرها وهذه براءة منهم ومن معبودهم وسماها براءة من الشرك.
وهي حقيقة المحو والإثبات فيمحو محبة ما سوى الله عز وجل من قلبه علما وقصدا وعبادة كما هي ممحوة من الوجود ويثبت فيه إلهيته سبحانه وحده.
وهي حقيقة الجمع والفرق فيفرق بين الإله الحق وبين من ادعيت له الإلهية بالباطل ويجمع تأليهه وعبادته وحبه وخوفه ورجاءه وتوكله واستعانته على إلهه الحق الذي لا إله سواه.
وهي حقيقة التجريد والتفريد فيتجرد عن عبادة ما سواه ويفرده وحده بالعبادة فالتجريد نفي والتفريد إثبات ومجموعهما هو التوحيد.
فهذا الفناء والبقاء والولاء والبراء والمحو والإثبات والجمع والتجريد(1/168)
والتفريد المتعلق بتوحيد الإلهية: هو النافع المثمر المنجى الذي به تنال السعادة والفلاح.
وأما تعلقه بتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون عباد الأصنام فغايته فناء في تحقيق توحيد مشترك بين المؤمنين والكفار وأولياء الله وأعدائه لا يصير به وحده الرجل مسلما فضلا عن كونه عارفا محققا.
وهذا الموضع مما غلط فيه كثير من أكابر الشيوخ وأصحاب الإرادة ممن غلظ حجابه والمعصوم من عصمه الله وبالله المستعان والتوفيق والعصمة.(1/169)
الرجوع إلى ذكر منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
...
فصل
فلنرجع إلى ذكر منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التي لا يكون العبد من أهلها حتى ينزل منازلها.
فذكرنا منها (اليقظة) و(البصيرة) و(الفكرة) و(العزم).
وهذه المنازل الأربعة لسائر المنازل كالأساس للبنيان وعليها مدار منازل السفر إلى الله ولا يتصور السفر إليه بدون نزولها ألبتة وهي على ترتيب السير الحسي فإن المقيم في وطنه لا يتأتى منه السفر حتى يستيقظ من غفلته عن السفر ثم يتبصر في أمر سفره وخطره وما فيه من المنفعة له والمصلحة ثم يفكر في أهبة السفر والتزود وإعداد عدته ثم يعزم عليه فإذا عزم عليه وأجمع قصده انتقل إلى منزلة المحاسبة وهي التمييز بين ماله وعليه فيستصحب ماله ويؤدي ما عليه لأنه مسافر سفر من لا يعود.
ومن منزلة (المحاسبة) يصح له نزول منزلة (التوبة) لأنه إذا حاسب نفسه عرف ما عليه من الحق فخرج منه وتنصل منه إلى صاحبه وهي حقيقة التوبة فكان تقديم (المحاسبة) عليها لذلك أولى.
ولتأخيرها عنها وجه أيضا وهو أن (المحاسبة) لا تكون إلا بعد تصحيح التوبة.(1/169)
والتحقيق: أن التوبة بين محاسبتين محاسبة قبلها تقتضي وجوبها ومحاسبة بعدها تقتضي حفظها فالتوبة محفوفة بمحاسبتين وقد دل على المحاسبة قوله تعالى 59:18 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} فأمر سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟.
والمقصود من هذا النظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الإستعداد ليوم المعاد وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ويبيض وجهه عند الله وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أو قال: "على من لا تخفى عليه أعمالكم".
قال صاحب المنازل "المحاسبة لها ثلاثة أركان :
أحدها : أن تقايس بين نعمته وجنايتك".
يعني تقايس بين ما من الله وما منك فحينئذ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب.
وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وأنت قبل هذه المقايسة جاهل بحقيقة نفسك وبربوبية فاطرها وخالقها فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر وأساس كل نقص وأن حدها الجاهلة الظالمة وأنه لولا فضل الله ورحمته لتزكيته لها ما زكت أبدا ولولا هداه ما اهتدت ولولا إرشاده وتوقفه لما كان لها وصول إلى خير ألبتة وأن حصول ذلك لها من بارئها وفاطرها وتوقفه عليه كتوقف وجودها على إيجاده فكما أنها ليس لها(1/170)
من ذاتها كمال الوجود فليس لها من ذاتها إلا العدم عدم الذات وعدم الكمال فهناك تقول حقا "أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي".
ثم تقايس بين الحسنات والسيئات فتعلم بهذه المقايسة أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة.
وهذه المقايسة الثانية مقايسة بين أفعالك وما منك خاصة.
قال: "وهذه المقايسة تشق على من ليس له ثلاثة أشياء نور الحكمة وسوء الظن بالنفس وتمييز النعمة من الفتنة".
يعني أن هذه المقايسة والمحاسبة تتوقف على نور الحكمة وهو النور الذي نور الله به قلوب أتباع الرسل وهو نور الحكمة فبقدره ترى التفاوت وتتمكن من المحاسبة.
ونور الحكمة ههنا: هو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل والهدى والضلال والضار والنافع والكامل والناقص والخير والشر ويبصر به مراتب الأعمال راجحها ومرجوحها ومقبولها ومردودها وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم.
وأما سوء الظن بالنفس: فإنما احتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبس عليه فيرى المساوىء محاسن والعيوب كمالا فإن المحب يرى مساوىء محبوبه وعيوبه كذلك.
فعين الرضى عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.
وأما تمييز النعمة من الفتنة فليفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية وبين النعمة التي يرى بها الإستدراج فكم(1/171)
من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح ذلك مبلغهم من العلم.
فإذا كملت هذه الثلاثة فيه عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه بجمعه على الله فهو نعمة حقيقة وما فرقه عنه وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة والمحنة في صورة المنحة فليحذر فإنما هو مستدرج ويميز بذلك أيضا بين المنة والحجة فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى!.
فإن العبد بين منة من الله عليه وحجة منه عليه ولا ينفك عنهما فالحكم الديني متضمن لمنته وحجته قال الله تعالى 3:164 {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وقال 49:17 {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} وقال 6:149 {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}.
والحكم الكوني أيضا متضمن لمنته وحجته فإذا حكم له كونا حكما مصحوبا بإتصال الحكم الديني به فهو منة عليه وإن لم يصحبه الديني فهو حجة منه عليه.
وكذلك حكمه الديني إذا اتصل به حكمه الكوني فتوفيقه للقيام به منة منه عليه وإن تجرد عن حكمه الكوني صار حجة منه عليه فالمنة: باقتران أحد الحكمين بصاحبه والحجة في تجرد أحدهما عن الآخر فكل علم صحبه عمل يرضى الله سبحانه فهو منة وإلا فهو حجة.
وكل قوة ظاهرة وباطنة صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي منة وإلا فهي حجة.
وكل حال صحبه تأثير في نصرة دينه والدعوة إليه فهو منة منه وإلا فهو حجة.
وكل مال اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته لا لطلب الجزاء ولا الشكور فهو منة من الله عليه وإلا فهو حجة.(1/172)
وكل فراغ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منة عليه وإلا فهو حجة.
وكل قبول في الناس وتعظيم ومحبة له اتصل به خضوع للرب وذل وانكسار ومعرفة بعيب النفس والعمل وبذل النصيحة للخلق فهو منة وإلا فهو حجة.
وكل بصيرة وموعظة وتذكير وتعريف من تعريفات الحق سبحانه إلى العبد اتصل به عبرة ومزيد في العقل ومعرفة في الإيمان فهي منة وإلا فهي حجة.
وكل حال مع الله تعالى أو مقام اتصل به السير إلى الله وإيثار مراده على مراد العبد فهو منة من الله وإن صحبه الوقوف عنده والرضى به وإيثار مقتضاه من لذة النفس به وطمأنيتها إليه وركونها إليه فهو حجة من الله عليه.
فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطر ويميز بين مواقع المنن والمحن والحجج والنعم فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك 2:213 {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
فصل
الركن الثاني من أركان المحاسبة.
وهي أن تميز ما للحق عليك من وجوب العبودية والتزام الطاعة واجتناب المعصية وبين ما لك وما عليك فالذي لك: هو المباح الشرعي فعليك حق ولك حق فأد ما عليك يؤتك ما لك.
ولا بد من التمييز بين ما لك وما عليك وإعطاء كل ذي حق حقه.
وكثير من الناس يجعله كثيرا مما عليه من الحق من قسم ماله فيتحير بين فعله وتركه وإن فعله رأى أنه فضل قام به لاحق أداه.
وبإزاء هؤلاء من يرى كثيرا مما له فعله وتركه من قسم ما عليه فعله أو تركه(1/173)
فيتعبد بترك ما له فعله كترك كثير من المباحات ويظن ذلك حقا عليه أو يتعبد بفعل ما له تركه ويظن ذلك حقا عليه.
مثال الأول: من يتعبد بترك النكاح أو ترك أكل اللحم أو الفاكهة مثلا أو الطيبات من المطاعم والملابس ويرى لجهله أن ذلك مما عليه فيوجب على نفسه تركه أو يرى تركه من أفضل القرب وأجل الطاعات وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من زعم ذلك ففي الصحيح "أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا عن عبادته في السر؟ فكأنهم تقالوها فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر أما أنا فلا أنام على فراش فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم فخطب وقال: ما بال أقوام يقول أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم ويقول الآخر أما أنا فلا أتزوج ويقول الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش؟ لكني أتزوج النساء وآكل اللحم وأنام وأقوم وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني" فتبرأ ممن رغب عن سنته وتعبد لله بترك ما أباحه لعباده من الطيبات رغبة عنه واعتقادا أن الرغبة عنه وهجره عبادة فهذا لم يميز بين ما عليه وما له.
ومثال الثاني: من يتعبد بالعبادات البدعية التي يظنها جالبة للحال والكشف والتصرف ولهذه الأمور لوازم لا تحصل بدونها ألبتة فيتعبد بإلتزام تلك اللوازم فعلا وتركا ويراها حقا عليه وهي حق له وله تركها كفعل الرياضات والأوضاع التي رسمها كثير من السالكين بأذواقهم ومواجيدهم واصطلاحاتهم من غير تمييز بين ما فيها من حظ العبد والحق الذي عليه فهذا لون وهذا لون.(1/174)
ومن أركان المحاسبة: ما ذكره صاحب المنازل فقال:
"الثالث أن تعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي عليك وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك".
رضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه وجهله بحقوق العبودية وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به.
وحاصل ذلك: أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولد من ذلك: من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها.
فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها.
وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده.
وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال 2:198، 199 {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى 3:17 {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} قال الحسن: "مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل" وفي الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" وأمره الله تعالى بالإستغفار بعد أداء الرسالة والقيام بما عليه من أعبائها وقضاء فرض الحج واقتراب أجله فقال في آخر سورة أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.(1/175)
ومن ههنا فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك ولم يبق عليك شيء فاجعل خاتمته الإستغفار كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل وخاتمة الوضوء أيضا أن يقول بعد فراغه "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين".
فهذا شأن من عرف ما ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبودية وشرائطها لا جهل أصحاب الدعاوى وشطحاتهم.
وقال بعض العارفين: متى رضيت نفسك وعملك لله فاعلم أنه غير راض به ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر وعمله عرضة لكل آفة ونقص كيف يرضى لله نفسه وعمله؟.
ولله در الشيخ أبي مدين حيث يقول: "من تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى وأقواله بعين الإفتراء وكلما عظم المطلوب في قلبك صغرت نفسك عندك وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيله وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية وعرفت الله وعرفت النفس وتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق ولاو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله ويثيبك عليه أيضا بكرمه وجوده وتفضله".
فصل
وقوله: "وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك".
يحتمل أن يريد.به: أنها صائرة إليك ولا بد أن تعملها وهذا مأخوذ من الحديث الذي رواه الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم "من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله " قال الإمام أحمد في تفسير هذا الحديث: "من ذنب قد تاب منه".(1/176)
وأيضا: ففي التعيير ضرب خفى من الشماتة بالمعير وفي الترمذي أيضا مرفوعا "لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك".
ويحتمل أن يريد: أن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته لما فيه من صولة الطاعة وتزكية النفس وشكرها والمناداة عليها بالبراءة من الذنب وأن أخاك باء به ولعل كسرته بذنبه وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب أنفع له وخير من صولة طاعتك وتكثرك بها والإعتداد بها والمنة على الله وخلقه بها فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله وما أقرب هذا المدل من مقت الله فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تدل بها عليه وإنك أن تبيت نائما وتصبح نادما خير من أن تبيت قائما وتصبح معجبا فإن المعجب لا يصعد له عمل وإنك أن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلين ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلا هو فيك ولا تشعر.
فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو ولا يطالعها إلا أهل البصائر فيعرفون منها بقدر ما تناله معارف البشر ووراء ذلك مالا يطلع عليه الكرام الكاتبون وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد ولا يُثَّرِبْ" أي لا يعير من قول يوسف عليه السلام لإخوته 12:92 {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} فإن الميزان بيد الله والحكم لله فالسوط الذي ضرب به هذا العاصي بيد مقلب القلوب والقصد إقامة الحد لا التعيير والتثريب ولا يأمن كرات القدر وسطوته إلا أهل الجهل بالله وقد قال الله تعالى لأعلم الخلق به وأقربهم إليه وسيلة 12:33 {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} وقال يوسف الصديق: 12:33 {وَإِلاَّ تَصْرِفْ(1/177)
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وكانت عامة يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا وَمُقَلِّبِ القُلُوب" وقال: " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه" ثم قال: "اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".(1/178)
منزلة مقام (التوبة)
...
فصل مقام (التوبة )
فإذا صح هذا المقام ونزل العبد في هذه المنزلة أشرف منها على (مقام التوبة) لأنه بالمحاسبة قد تميز عنده ماله مما عليه فليجمع همته وعزمه على النزول فيه والتشمير إليه إلى الممات.
ومنزل (التوبة) أول المنازل وأوسطها وآخرها فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به فالتوبة هي بداية العبد ونهايته وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها في البداية كذلك وقد قال الله تعالى 24:31 {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه وأتى بأداة (لعلّ) المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم.
قال تعالى 49:11 {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قسم العباد إلى تائب وظالم وما ثم قسم ثالث ألبتة وأوقع اسم (الظالم) على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم "رب(1/178)
اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة" وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها إلا قال فيها: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله وحقوقه وعظمته وما يستحقه جلاله من العبودية وأعرفهم بالعبودية وحقوقها وأقومهم بها.
فصل
ولما كانت (التوبة) هي رجوع العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين وذلك لا يحصل إلا بهداية الله إلى الصراط المستقيم ولا تحصل هدايته إلا بإعانته وتوحيده فقد انتظمتها سورة الفاتحة أحسن انتظام وتضمنتها أبلغ تضمن فمن أعطى الفاتحة حقها علما وشهودا وحالا معرفة علم أنه لا تصح له قراءتها على العبودية إلا بالتوبة النصوح فإن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب ولا مع الإصرار عليها فإن الأول جهل ينافي معرفة الهدى والثاني غي ينافي قصده وإرادته فلذلك لا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب والإعتراف به وطلب التخلص من سوء عواقبه أولا وآخرا.
قال في المنازل: "وهي أن تنظر في الذنب إلى ثلاثة أشياء: إلى انخلاعك من العصمة حين إتيانه وفرحك عند الظفر به وقعودك على الإصرار عن تداركه مع تيقنك نظر الحق إليك".
يحتمل أن يريد بالإنخلاع عن العصمة: انخلاعه عن اعتصامه بالله فإنه لو اعتصم بالله لما خرج عن هداية الطاعة قال الله تعالى 3:101 {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فلو كملت عصمته بالله لم يخذله أبدا قال الله تعالى(1/179)
22:78 {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان وهما العدوان اللذان لا يفارقان العبد وعداوتهما أضر من عداوة العدو الخارج فالنصر على هذا العدو أهم والعبد إليه أحوج وكمال النصرة على العدو بحسب كمال الإعتصام بالله.
وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى بعد هذا في حقيقة الإعتصام وأن الإيمان لا يقوم إلا به.
ويحتمل أن يريد الإنخلاع من عصمة الله له وأنك إنما ارتكبت الذنب بعد إنخلاعك من توبة عصمته لك فمتى عرف هذا الإنخلاع وعظم خطره عنده واشتدت عليه مفارقته وعلم أن الهلك كل الهلك بعده وهو حقيقة الخذلان فما خلى الله بينك وبين الذنب إلا بعد أن خذلك وخلى بينك وبين نفسك ولو عصمك ووفقك لما وجد الذنب إليك سبيلا.
فقد أجمع العارفون بالله على أن الخذلان: أن يكلك الله إلى نفسك ويخلى بينك وبينها والتوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك وله سبحانه في هذه التخلية بينك وبين الذنب وخذلانك حتى واقعته حكم وأسرار سنذكر بعضها.
وعلى الإحتمالين فترجع (التوبة) إلى اعتصامك به وعصمته لك.
قوله: "وفرحك عند الظفر به".
الفرح بالمعصية دليل على شدة الرغبة فيها والجهل بقدر من عصاه والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها ففرحه بها غطى عليه ذلك كله وفرحه بها أشد ضررا عليه من مواقعتها والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدا ولا يكمل بها فرحه بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به ومتى خلي قلبه من هذا الحزن واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه وليبك على موت قلبه فإنه لو كان حيا لأحزنه ارتكابه للذنب وغاظه وصعب عليه ولا يحس القلب بذلك فحيث لم يحس به فما لجرح بميت إيلام.(1/180)
وهذه النكتة في الذنب قل من يهتدي إليها أو ينتبه لها وهي موضع مخوف جدا مترام إلى هلاك إن لم يتدارك بثلاثة أشياء خوف من الموافاة عليه قبل التوبة وندم على ما فاته من الله بمخالفة أمره وتشمير للجد في استدراكه.
قوله: "وقعودك على الإصرار عن تداركه".
الإصرار: هو الإستقرار على المخالفة والعزم على المعاودة وذلك ذنب آخر لعله أعظم من الذنب الأول بكثير وهذا من عقوبة الذنب: أنه يوجب ذنبا أكبر منه ثم الثاني كذلك ثم الثالث كذلك حتى يستحكم الهلاك.
فالإصرار على المعصية معصية أخرى والقعود عن تدراك الفارط من المعصية إصرار ورضا بها وطمأنينة إليها وذلك علامة الهلاك وأشد من هذا كله: المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه فإن آمن بنظره إليه وأقدم على المجاهرة فعظيم وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكفر وانسلاخ من الإسلام بالكلية فهو دائر بين الأمرين: بين قلة الحياء ومجاهرة نظر الله إليه وبين الكفر والإنسلاخ من الدين فلذلك يشترط في صحة التوبة تيقنه أن الله كان ناظرا ولا يزال إليه مطلعا عليه يراه جهرة عند مواقعة الذنب لأن التوبة لا تصح إلا من سلم إلا أن يكون كافرا بنظر الله إليه جاحدا له فتوبته دخوله في الإسلام وإقراره بصفات الرب جل جلاله.(1/181)
قال: "وشرائط التوبة ثلاثة: الندم والإقلاع والإعتذار".
فحقيقة التوبة: هي الندم على ما سلف منه في الماضي والإقلاع عنه في الحال والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل.
والثلاثة تجتمع في الوقت الذي تقع فيه التوبة فإنه في ذلك الوقت يندم ويقلع ويعزم.
فحينئذ يرجع إلى العبودية التي خلق لها وهذا الرجوع هو حقيقة التوبة.
ولما كان متوقفا على تلك الثلاثة جعلت شرائط له.
فأما الندم: فإنه لا تتحقق التوبة إلا به إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به وإصراره عليه وفي المسند: "الندم توبة".
وأما الإقلاع: فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب.
وأما الإعتذار: ففيه إشكال فإن من الناس من يقول من تمام التوبة ترك الإعتذار فإن الإعتذار محاجة عن الجناية وترك الإعتذار اعتراف بها ولا تصح التوبة إلا بعد الإعتراف وفي ذلك يقول بعض الشعراء لرئيسه وقد عتب عليه في شيء:
وما قابلت عتبك بإعتذار ... ولكني أقول كما تقول
وأطرق باب عفوك بإنكسار ... ويحكم بيننا الخلق الجميل
فلما سمع الرئيس مقالته قام وركب إليه من فوره وأزال عتبه عيه فتمام الإعتراف ترك الإعتذار بأن يكون في قلبه ولسانه اللهم لا براءة لي من ذنب فأعتذر ولا قوة لي فأنتصر ولكني مذنب مستغفر اللهم لاعذر لي وإنما هو محض حقك ومحض جنايتي فإن عفوت وإلا فالحق لك.
والذي ظهر لي من كلام صاحب المنازل: أنه أراد بالإعتذار إظهار الضعف والمسكنة وغلبة العدو وقوة سلطان النفس وأنه لم يكن مني ما كان عن استهانة بحقك ولا جهلا به ولا إنكارا لإطلاعك ولا استهانة بوعيدك وإنما كان(1/182)
من غلبة الهوى وضعف القوة عن مقاومة مرض الشهوة وطمعا في مغفرتك واتكالا على عفوك وحسن ظن بك ورجاء لكرمك وطمعا في سعة حلمك ورحمتك وغرني بك الغرور والنفس الأمارة بالسوء وسترك المرخي علي وأعانني جهلي ولا سبيل إلى الإعتصام لي إلا بك ولا معونة على طاعتك إلا بتوفيقك ونحو هذا من الكلام المتضمن للإستعطاف والتذلل والإفتقار والإعتراف بالعجز والإقرار بالعبودية.
فهذا من تمام التوبة وإنما يسلكه الأكياس المتملقون لربهم عز وجل والله يحب من عبده أن يتملق له.
وفي الحديث: "تملقوا لله" وفي الصحيح: "لا أحد أحب إليه العذر من الله" وإن كان معنى ذلك الإعذار كما قال في آخر الحديث: "من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين" وقال تعالى 77:5، 6 { فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً} فإنه من تمام عدله وإحسانه أن أعذر إلى عباده وأن لا يؤاخذ ظالمهم إلا بعد كمال الأعذار وإقامة الحجة عليه فهو أيضا يحب من عبده أن يعتذر إليه ويتنصل إليه من ذنبه وفي الحديث: "من اعتذر إلى الله قبل الله عذره" فهذا هو الإعتذار المحمود النافع.
وأما الإعتذار بالقدر: فهو مخاصمة لله واحتجاج من العبد على الرب وحمل لذنبه على الأقدار وهذا فعل خصماء الله كما قال بعض شيوخهم في قوله تعالى 3:14 {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} قال أتدرون ما المراد بهذه الآية؟ قالوا: ما المراد بها؟ قال: إقامة أعذار الخليفة.
وكذب هذا الجاهل بالله وكلامه وإنما المراد بها التزهيد في هذا الفاني الذاهب والترغيب في الباقي الدائم والإزراء بمن آثر هذا المزين واتبعه بمنزلة الصبي الذي يزين له ما يلعب به فيهش إليه ويتحرك له مع أنه لم يذكر فاعل(1/183)
التزيين فلم يقل (زينا للناس) والله تعالى يضيف تزيين الدنيا والمعاصي إلى الشياطين كما قال تعالى 6:43 {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} وفي الحديث: "بعثت هاديا وداعيا وليس إلي من الهداية شيء وبعث إبليس مغويا ومزينا وليس إليه من الضلالة شيء" ولا يناقض هذا قوله تعالى 6:108 {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } فإن إضافة التزيين إليه قضاء وقدرا وإلى الشيطان تسببا مع أن تزيينه تعالى عقوبة لهم على ركونهم إلى ما زينه الشيطان لهم فمن عقوبة السيئة السيئة بعدها ومن ثواب الحسنة: الحسنة بعدها.
والمقصود: أن الإحتجاج بالقدر مناف للتوبة وليس هو من الإعتذار في شيء وفي بعض الآثار: "إن العبد إذا أذنب فقال: يا رب هذا قضاؤك وأنت قدرت عليّ وأنت حكمت عليّ وأنت كتبت عليّ يقول الله عز وجل وأنت عملت وأنت كسبت وأنت أردت واجتهدت وأنا أعاقبك عليه وإذا قال: يا رب أنا ظلمت وأنا أخطأت وأنا اعتديت وأنا فعلت يقول الله عز وجل وأنا قدرت عليك وقضيت وكتبت وأنا أغفر لك وإذا عمل حسنة فقال: يا رب أنا عملتها وأنا تصدقت وأنا صليت وأنا أطعمت يقول الله عز وجل وأنا اعنتك وأنا وفقتك وإذا قال يا رب أنت أعنتني ووفقتني وأنت مننت علي يقول الله وأنت عملتها وأنت أردتها وأنت كسبتها".
فالإعتذار اعتذاران: اعتذار ينافي الإعتراف فذلك مناف للتوبة واعتذار يقرر الإعتراف فذلك من تمام التوبة.
قال صاحب المنازل: "وحقائق التوبة ثلاثة أشياء: تعظيم الجناية واتهام التوبة وطلب أعذار الخليقة".
يريد بالحقائق: ما يتحقق به الشيء وتتبين به صحته وثبوته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحارثة "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟".(1/184)
فأما تعظيم الجناية: فإنه إذا استهان بها لم يندم عليها وعلى قدر تعظيمها يكون ندمه على ارتكابها فإن من استهان فإضاعة فلس مثلا لم يندم على إضاعته فإذا علم أنه دينار اشتد ندمه وعظمت إضاعته عنده.
وتعظيم الجناية يصدر عن ثلاثة أشياء: تعظيم الآمر وتعظيم الأعمر والتصديق بالجزاء.
وأما اتهام التوبة: فلأنها حق عليه لا يتيقن أنه أدى هذا الحق على الوجه المطلوب منه الذي ينبغي له أن يؤديه عليه فيخاف أنه ما وفاها حقها وأنها لم تقبل منه وأنه لم يبذل جهده في صحتها وأنها توبة علة وهو لا يشعر بها كتوبة أرباب الحوائج والإفلاس والمحافظين على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس أو أنه تاب محافظة على حاله فتاب للحال لا خوفا من ذي الجلال أو أنه تاب طلبا للراحة من الكد في تحصيل الذنب أو اتقاء ما يخافه على عرضه وماله ومنصبه أو لضعف داعي المعصية في قلبه وخمود نار شهوته أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرزق ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفا من الله وتعظيما له ولحرماته وإجلالا له وخشية من سقوط المنزلة عنده وعن البعد والطرد عنه والحجاب عن رؤية وجهه في الدار الآخرة فهذه التوبة لون وتوبة أصحاب العلل لون.
ومن اتهام التوبة أيضا: ضعف العزيمة والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة وتذكر حلاوة مواقعته فربما تنفس وربما هاج هائجه.
ومن اتهام التوبة: طمأنينته ووثوقه من نفسه بأنه قد تاب حتى كأنه قد أعطي منشورا بالأمان فهذا من علامات التهمة.
ومن علاماتها: جمود العين واستمرار الغفلة وأن لا يستحدث بعد التوبة أعمالا صالحة لم تكن له قبل الخطيئة.
فالتوبة المقبولة الصحيحة لها علامات.(1/185)
منها: أن يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبلها.
ومنها: أنه لايزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه 41:30 {أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فهناك يزول الخوف.
ومنها: انخلاع قلبه وتقطعه ندما وخوفا وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى 9:110 {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُم} قال: "تقطعها بالتوبة" ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه وهذا هو تقطعه وهذا حقيقة التوبة لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه وخوفا من سوء عاقبته فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفا تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة.
ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضا: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ولا تكون لغير المذنب لا تحصل بجوع ولا رياضة ولا حب مجرد وإنما هي أمر وراء هذا كله تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة قد أحاطت به من جميع جهاته وألقته بين يدي ربه طريحا ذليلا خاشعا كحال عبد جان آبق من سيده فأخذ فأحضر بين يديه ولم يجد من ينجيه من سطوته ولم يجد منه بدا ولا عنه غناء ولا منه مهربا وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته هذا مع حبه لسيده وشدة حاجته إليه وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده وذله وعز سيده.
فيجتمع من هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع ما أنفعها للعبد وما أجدى عائدتها عليه وما أعظم جبره بها وما أقر به بها من سيده فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والإنطراح بين(1/186)
يديه والإستسلام له فلله ما أحلى قوله في هذه الحال: "أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذل لك قلبه".
يامن ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره
فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة وما أسهلها باللسان والدعوى وما عالج الصادق بشيء أشق عليه من التوبة الخالصة الصادقة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذروات: في الكبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها فعندهم من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم وصولة طاعاتهم ومنتهم على الخلق بلسان الحال واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم اقتضاء لا يخفى على أحد غيرهم وتوابع ذلك ما هو أبغض إلى الله وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك فإن تدارك الله أحدهم بقاذورة أو كبيرة يوقعه فيها ليكسر بها نفسه ويعرفه قدره ويذله بها ويخرج بها صولة الطاعة من قلبه فهي رحمة في حقه كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح وإقبال بقلوبهم إليه فهو رحمة في حقهم وإلا فكلاهما على خطر.(1/187)
فصل
وأما طلب أعذار الخليقة فهذا له وجهان وجه محمود ووجه مذموم حرام فالمذموم أن تطلب أعذارهم نظرا إلى الحكم القدري وجريانه عليهم شاءوا أم أبوا فتعذرهم بالقدر.
وهذا القدر ينتهي إليه كثير من السالكين الناظرين إلى القدر الفانين في شهوده وهو كما تقدم درب خطر جدا قليل المنفعة لا ينجي وحده.
وأظن هذا مراد صاحب المنازل لأنه قال بعد ذلك:
"مشاهدة العبد الحكم لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم".
وهذا الشهود شهود ناقص مذموم إن طرده صاحبه فعذر أعداء الله وأهل مخالفته ومخالفة رسله وطلب أعذارهم كان مضادا لله في أمره عاذرا من لم يعذره الله طالبا عذر من لامه الله وأمر بلومه وليست هذه موافقة لله بل موافقته لوم هذا واعتقاد أنه لا عذر له عند الله ولا في نفس الأمر فالله عز وجل قد أعذر إليه وأزال عذره بالكلية ولو كان معذورا في نفس الأمر عند الله لما عاقبه ألبتة فإن الله عز وجل أرحم وأغنى وأعدل من أن يعاقب صاحب غدر فلا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب إزالة لأعذار خلقه لئلا يكون لهم عليه حجة.
ومعلوم أن طالب عذرهم ومصححه مقيم لحجة قد أبطلها الله من جميع الوجوه فلله الحجة البالغة ومن له عذر من خلقه كالطفل الذي لا يميز والمعتوه ومن لم تبلغه الدعوة والأصم الأعمى الذي لا يبصر ولا يسمع فإن الله لا يعذب هؤلاء بلا ذنب ألبتة وله فيهم حكم آخر في المعاد يمتحنهم بأن يرسل إليهم رسولا يأمرهم وينهاهم فمن أطاع الرسول منهم أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار حكى ذلك أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والحديث في مقالاته وفيه عدة أحاديث(1/188)
بعضها في مسند أحمد كحديث الأسود بن سريع وحديث أبي هريرة.
ومن طعن في هذه الأحاديث بأن الآخرة دار جزاء لادار تكليف: فهذه الأحاديث مخالفة للعقل فهو جاهل فإن التكليف إنما ينقطع بدخول دار القرار الجنة أو النار وإلا فالتكليف واقع في البرزخ وفي العرصات ولهذا يدعوهم إلى السجود له في الموقف فيسجد المؤمنون له طوعا واختيارا ويحال بين الكفار والمنافقين وبين السجود.
والمقصود: أنه لا عذر لأحد ألبتة في معصية الله ومخالفة أمره مع علمه بذلك وتمكنه من الفعل والترك ولو كان له عذرا لما استحق العقوبة واللوم لا في الدينا ولا في العقبى.
فإن قيل: هذا كلام بلسان الحال بالشرع ولو نطقت بلسان الحقيقة لعذرت الخليقة إذ هم صائرون إلى مشيئة الله فيهم وما قضاه وقدره عليهم ولا بد فهم مجار لأقداره وسهامها نافذة فيهم وهم أغراض لسهام الأقدار لا تخطئهم ألبتة ولكن من غلب عليه مشاهدة الحكم الشرعي لم يمكنه طلب العذر لهم ومن غلب عليه مشاهدة الحكم الكوني عذرهم فأنت معذور في الإنكار علينا بحقيقة الشرع ونحن معذورون في طلب العذر بحقيقة الحكم وكلانا مصيب.
فالجواب من وجوه.
أحدها: أن يقال: العذر إن لم يكن مقبولا لم يكن نافعا والإعتذار بالقدر غير مقبول ولا يعذر أحد به ولو اعتذر فهو كلام باطل لا يفيد شيئا ألبتة بل يزيد في ذنب الجاني ويغضب الرب عليه وما هذا شأنه لا يشتغل به عاقل.
الثاني: أن الإعتذار بالقدر يتضمن تنزيه الجاني نفسه وتنزيه ساحته وهو الظالم الجاهل والجهل على القدر نسبة الذنب إليه وتظليمه بلسان الحال(1/189)
والقال بتحسين العبارة وتلطيفها وربما غلبه الحال فصرح بالوجد كما قال بعض خصماء الله.
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
وقال خصم آخر
وضعوا اللحم للبزا ... ة على ذروتي عدن
ثم لاموا البزاة أن ... خلعوا عنهم الرسن
لو أرادوا صيانتي ... ستروا وجهك الحسن
وقال خصم آخر.
أصبحت منفعلا لما تختاره ... منى ففعلي كله طاعات
وقال خصم آخر شاكيا متظلما
إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب
وقال خصم آخر معتذرا عن إبليس لما عصى من كان إبليسه؟.
ولخصماء الله ههنا تظلمات وشكايات ولو فتشوا زوايا قلوبهم لوجدوا هناك خصما متظلما شاكيا عاتبا يقول لا أقدر أن أقول شيئا وإني مظلوم في صورة ظالم ويقول بحرقة ويتنفس الصعداء مسكين ابن آدم لا قادر ولا معذور.
وقال الآخر: ابن آدم كرة تحت صولجانات الأقدار يضر بها واحد ويردها الآخر وهل تستطيع الكرة الإنتصاف من الصولجان؟.
ويتمثل خصم آخر بقول الشاعر:
بأبي أنت وإن أس ... رفت في هجري وظلمي
فجعله هاجرا بلا ذنب ظالما بل مسرفا قد تجاوز الحد في ظلمه ويقول آخر:(1/190)
أظلت علينا منك يوما سحابة ... أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها
فلا غيمها يجلو فييئس طالب ... ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها
ويقول آخر:
يدنو إليك ونقص الحظ يبعده ... ويستقيم وداعي البين يلويه
ويقول خصم آخر:
واقف في الماء ظمآ ... ن ولكن ليس يسقى
ومن له أدنى فهم وبصيرة يعلم أن هذا كله تظلم وشكاية وعتب ويكاد أحدهم يقول يا ظالمي لولا ولو فتش نفسه كما ينبغي لوجد ذلك فيها وهذا مالا غاية بعده من الجهل والظلم والإنسان كما قال الله تعالى 33:72 {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} 35:15 {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
ولو علم هذا الظالم الجاهل أن بلاءه من نفسه ومصابه منها وأنها أولى بكل ذم وظلم وأنها مأوى كل سوء و 100:6 {إِنَّ الأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: "كفور جحود لنعم الله" وقال الحسن: "هو الذي يعد المصائب وينسى النعم" وقال أبو عبيدة: "هو قليل الخير" والأرض "الكنود" التي لا نبت بها وقيل: التي لا تنبت شيئا من المنافع وقال الفضل ابن عباس: "الكنود: الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان".
ولو علم هذا الظالم الجاهل: أنه هو القاعد على طريق مصالحه يقطعها عن الوصول إليه فهو الحجر في طريق الماء الذي به حياته وهو السكر الذي قد سد مجرى الماء إلى بستان قلبه ويستغيث مع ذلك العطش العطش وقد وقف في طريق الماء ومنع وصوله إليه فهو حجاب قلبه عن سر غيبه وهو الغيم المانع لإشراق شمس الهدى على القلب فما عليه أضر منه ولا له أعداء أبلغ في نكايته وعداوته منه.(1/191)
ما تبلغ الأعداء من جاهلما يبلغ الجاهل من نفسه
فتبا له ظالما في صورة مظلوم وشاكيا والجناية منه قد جد في الإعراض وهو ينادي طردوني وأبعدوني ظهره الباب بل أغلقه على نفسه وأضاع مفاتيحه وكسرها ويقول:
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى ... دخولي سبيل بينوا لي قصتي
يأخذ الشفيق بحجزته عن النار وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحمها ويستغيث ما حيلتي وقد قدموني إلى الحفيرة وقذفوني فيها والله كم صاح به الناصح الحذر الحذر إياك إياك وكم أمسك بثوبه وكم أراه مصارع المقتحمين وهو يأبى إلا الإقتحام:
وكم سقت في آثارها من نصيحة ... وقد يستفيد الظنة المتنصح
يا ويله ظهيرا للشيطان على ربه خصما لله مع نفسه جبري المعاصي قدري الطاعات عاجز الرأي مضياع لفرصته قاعد عن مصالحه معاتب لأقدار ربه يحتج على ربه بما لا يقبله من عبده وامرأته وأمته إذا احتجوا به عليه في التهاون في بعض أمره فلو أمر أحدهم بأمر ففرط فيه أو نهاه عن شيء فارتكبه وقال: "القدر ساقني إلى ذلك" لما قبل منه هذه الحجة ولبادر إلى عقوبته.
فإن كان القدر حجة لك أيها الظالم الجاهل في ترك حق ربك فهلا كان حجة لعبدك وأمتك في ترك بعض حقك بل إذا أساء إليك مسيء وجنى عليك جان واحتج بالقدر لا شتد غضبك عليه وتضاعف جرمه عندك ورأيت حجته داحضة ثم تحتج على ربك به وتراه عذرا لنفسك فمن أولى بالظلم والجهل ممن هذه حاله؟.
هذا مع تواتر إحسان الله إليك على مدى الأنفاس: أزاح عللك ومكنك من التزود إلى جنته وبعث إليك الدليل وأعطاك مؤنة السفر وما تتزود به وما تحارب به قطاع الطريق عليك فأعطاك السمع والبصر والفؤاد وعرفك الخير(1/192)
والشر والنافع والضار وأرسل إليك رسوله وأنزل إليك كتابه ويسره للذكر والفهم والعمل وأعانك بمدد من جنده الكرام يثبتونك ويحرسونك ويحاربون عدوك ويطردونه عنك ويريدون منك أن لا تميل إليه ولا تصالحه وهم يكفونك مؤنته وأنت تأبى إلا مظاهرته عليهم وموالاته دونهم بل تظاهره وتواليه دون وليك الحق الذي هو أولى بك قال الله تعالى 18:50 {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} طرد إبليس عن سمائه وأخرجه من جنته وأبعده من قربه إذ لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك آدم لكرامتك عليه فعاداه وأبعده ثم واليت عدوه وملت إليه وصالحته وتتظلم مع ذلك وتشتكي الطرد والإبعاد وتقول:
عودوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالصد والصد صعب
نعم وكيف لا يطرد من هذه معاملته؟ وكيف لا يبعد عنه من كان هذا وصفه؟ وكيف يجعل من خاصته وأهل قربه من حاله معه هكذا؟ قد أفسد ما بينه وبين الله وكدره.
أمره الله بشكره لا لحاجته إليه ولكن لينال به المزيد من فضله فجعل كفر نعمه والإستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب صرفها عنه.
وأمره بذكره ليذكره بإحسانه فجعل نسيانه سببا لنسيان الله له 59:19 {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُم} 9:67 {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} أمره بسؤاله ليعطيه فلم يسأله بل أعطاه أجل العطايا بلا سؤال فلم يقبل يشكو من يرحمه إلى من لا يرحمه ويتظلم ممن لا يظلمه ويدع من يعاديه ويظلمه إن أنعم عليه بالصحة(1/193)
والعافية والمال والجاه استعان بنعمه على معاصيه وإن سلبه ذلك ظل متسخطا على ربه وهو شاكيه لا يصلح له على عافية ولا على ابتلاء العافية تلقيه إلى مساخطه والبلاء يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته وشكايته إلى خلقه.
دعاه إلى بابه فما وقف عليه ولا طرقه ثم فتحه له فما عرج عليه ولا ولجه أرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته فعصى الرسول وقال: لا أبيع ناجزا بغائب ونقدا بنسيئة ولا أترك ما أراه لشيء سمعت به ويقول:
خذ ما رأيت ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
فإن وافق حظه طاعة الرسول أطاعه لنيل حظه لا لرضى مرسله لم يزل يتمقت إليه بمعاصيه حتى أعرض عنه وأغلق الباب في وجهه.
ومع هذا فلم يؤيسه من رحمته بل قال: "متى جئتني قبلتك إن أتيتني ليلا قبلتك وإن أتيتني نهارا قبلتك وإن تقربت مني شبرا تقربت منك ذراعا وإن تقربت مني ذراعا تقربت منك باعا وإن مشيت إلى هرولت إليك ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ومن أعظم مني جودا وكرما".
عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم على فرشهم إني والجن والإنس في نبإ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي خيري إلى العباد نازل وشرهم إلى صاعد أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ.
من أقبل إلي تلقيته من بعيد ومن أعرض عني ناديته من قريب ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ومن أراد رضاي أردت ما يريد ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.
أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل(1/194)
كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إلي فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب.
ومن آثرني على سواي آثرته على سواه الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والسيئة عندي بواحدة فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له.
أشكر اليسير من العمل وأغفر الكثير من الزلل رحمتي سبقت غضبي وحلمي سبق مؤاخذتي وعفوي سبق عقوبتي أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها "لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض مهلكة دوية عليها طعامه وشرابه فطلبها حتى إذا أيس من حصولها نام في أصل شجرة ينتظر الموت فاستيقظ فإذا هي على رأسه قد تعلق خطامها بالشجرة فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته".
وهذه فرحة إحسان وبر ولطف لا فرحة محتاج إلى توبة عبده منتفع بها وكذلك موالاته لعبده إحسانا إليه ومحبة له وبرا به لا يتكثر به من قلة ولا يتعزز به من ذلة ولا ينتصر به من غلبة ولا يعده لنائبة ولا يستعين به في أمر 17:111 {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} فنفى أن يكون له ولي من الذل والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه.
فهذا شأن الرب وشأن العبد وهم يقيمون أعذار أنفسهم ويحملون ذنوبهم على أقداره.
استأثر الله بالمحامد والمجد ... وولي الملامة الرجلا
وما أحسن قول القائل:
تطوي المراحل عن حبيبك دائبا ... وتظل تبكيه بدمع ساجم
كذبتك نفسك لست من أحبابه ... تشكو البعاد وأنت عين الظالم(1/195)
فصل
فهذا أحد المعنيين في قوله: "إن من حقائق التوبة: طلب أعذار الخليقة" وقد ظهر لك بهذا: أن طلب أعذارهم في الجناية عائد على التوبة بالنقض والإبطال.
المعنى الثاني: أن يكون مراده إقامة أعذارهم في إساءتهم إليك وجنايتهم عليك والنظر في ذلك إلى الأقدار وأن أفعالهم بمنزلة حركات الأشجار فتعذرهم بالقدر في حقك لا في حق ربك فهذا حق وهو من شأن سادات العارفين وخواص أولياء الله الكمل لفني أحدهم عن حقه ويستوفي حق ربه ينظر في التفريط في حقه وفي الجناية عليه إلى القدر وينظر في حق الله إلى الأمر فيطلب لهم العذر في حقه ويمحو عنهم العدر ويطلبه في حق الله.
وهذه كانت حال نبينا كما قالت عائشة رضي الله عنها: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله".
وقالت عائشة رضي الله عنها أيضا: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله".
وقال أنس رضي الله عنه: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي شيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء لم أصنعه: لم لم تصنعه؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله يقول: دعوه فلو قضي شيء لكان".
فانظر إلى نظره إلى القدر عند حقه وقيامه بالأمر وقطع يد المرأة عند حق الله ولم يقل هناك: القدر حكم عليها.
وكذلك عزمه على تحريق المتخلفين عن الصلاة معه في الجماعة ولم يقل: لو قضى لهم الصلاة لكانت.(1/196)
وكذلك جمة المرأة والرجل لما زنيا ولم يحتج في ذلك لهما بالقدر.
وكذلك فعله في العرنيين الذين قتلوا راعيه واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم ولم يقل قدر عليهم بل أمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمرت أعينهم وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا عطشا إلى غير ذلك مما يطول بسطه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف بالله وبحقه من أن يحتج بالقدر على ترك أمره ويقبل الإحتجاج به من أحد ومع هذا فعذر أنسا بالقدر في حقه وقال: "لو قضى شيء لكان" فصلوات الله وسلامه عليه.
فهذا المعنى الثاني وإن كان حقا لكن ليس هو من شرائط التوبة ولا من أركانها ولا له تعلق بها فإنه لو لم يقم أعذارهم في إساءتهم إليه لما نقص ذلك شيئا من توبته فما أراد إلا المعنى الأول وقد عرفت ما فيه.
ولا ريب أن صاحب المنازل إنما أراد أن يعذرهم بالقدر ويقيم عليهم حكم الأمر فينظر بعين القدر ويعذرهم بها وينظر بعين الأمر ويحملهم عليها بموجبها فلا يحجبه مطالعة الأمر عن القدر ولا ملاحظة القدر عن الأمر.
فهذا وإن كان حقا لا بد منه فلا وجه لعذرهم وليس عذرهم من التوبة في شيء ألبتة ولو كان صحيحا فضلا عن كونه باطلا فلا هم معذورون ولا طلب عذرهم من حقائق التوبة بل التحقيق: أن الغيرة لله والغضب له من حقائق التوبة فتعطيل عذر الخليقة في مخالفة الأمر والنهي وشدة الغضب: هو من علامات تعظيم الحرمة وذلك بأن يكون من حقائق التوبة أولى من عذر مخالفة الأمر والنهي.
ولا سيما أنه يدخل في هذا: عذر عباد الأصنام والأوثان وقتلة الأنبياء وفرعون وهامان ونمروذ بن كنعان وأبو جهل وأصحابه وإبليس وجنوده(1/197)
وكل كافر وظالم ومتعد حدود الله ومنتهك محارم الله فإنهم كلهم تحت القدر وهم من الخليقة أفيكون عذر هؤلاء من حقيقة التوبة؟.
فهذا مما أوجبه السير في طريق الفناء في توحيد الربوبية وجعله الغاية التي يشمر إليها السالكون.
ثم أي موافقة للمحبوب في عذر من لا يعذره هو؟ بل قد اشتد غضبه عليه وأبعده عن قربه وطرده عن بابه ومقته أشد المقت؟ فإذا عذرته فهل يكون عذره إلا تعرضا لسخط المحبوب وسقوطا من عينه؟.
ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه وإساءة الظن به فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه والكامل من عد خطؤه ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك والمعترك الصعب الذي زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وافترقت بالسالكين فيه الطرقات وأشرفوا إلا أقلهم على أودية الهلكات.
وكيف لا؟ وهو البحر الذي تجري سفينة راكبه في موج كالجبال والمعترك الذي تضاءلت لشهوده شجاعة الأبطال وتحيرت فيه عقول ألباء الرجال ووصلت الخليقة إلى ساحله يبغون ركوبه.
فمنهم: من وقف مطرقا دهشا لا يستطيع أن يملأ منه عينه ولا ينقل عن موقفه قدمه قد امتلأ قلبه بعظمة ما شاهد منه فقال: "الوقوف على الساحل أسلم وليس بلبيب من خاطر بنفسه".
ومنهم: من رجع على عقبيه لما سمع هديره وصوت أمواجه ولم يطق نظرا إليه.
ومنهم: من رمى بنفسه في لججه تخفضه موجة وترفعه أخرى.
فهؤلاء الثلاثة على خطر إذ الواقف على الساحل عرضة لوصول الماء(1/198)
تحت قدميه والهارب ولو جد في الهرب فماله مصير إلا إليه والمخاطر ناظر إلى الغرق كل ساعة بعينيه وما نجا من الخلق إلا الصنف الرابع وهم الذين انتظروا موافاة سفينة الأمر فلما قربت منهم ناداهم الربان 11:41 {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} فهي سفينة نوح حقا وسفينة من بعده من الرسل من ركبها نجا ومن تخلف عنها الغرقى فركبوا سفينة الأمر بالقدر تجري بهم في تصاريف أمواجه على حكم التسليم لمن بيده التصرف في البحار فلم يك إلا غفوة حتى قيل لأرض الدنيا وسمائها: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على وجودي دار القرار.
والمتخلفون عن السفينة كقوم نوح أغرقوا ثم أحرقوا ونودي عليهم على رؤوس العالمين 11:44 {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 11:102 {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ثم نودي بلسان الشرع والقدر تحقيقا لتوحيده وإثباتا لحجته وهو أعدل العادلين 6:149 {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
فصل
وراكب هذا البحر في سفينة الأمر وظيفته مصادمة أمواج القدر ومعارضتها بعضها ببعض وإلا هلك فيرد القدر بالقدر وهذا سير أرباب العزائم من العارفين وهو معنى قول الشيخ العارف القدوة عبد القادر الكيلاني: "الناس إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا إلاأنا فانفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق والرجل من يكون منازعا للقدر لا من يكون مستسلما مع القدر" ولا تتم مصالح العباد في معاشهم إلا بدفع الأقدار بعضها ببعض فكيف في معادهم؟.
والله تعالى أمر أن تدفع السيئة وهي من قدره بالحسنة وهي من قدره وكذلك الجوع من قدره وأمر بدفعه بالأكل الذي هو من قدره ولو اسئ(1/199)
العبد لقدر الجوع مع قدرته على دفعه بقدر الأكل حتى مات مات عاصيا وكذلك البرد والحر والعطش كلها من أقداره وأمر بدفعها بأقدار تضادها والدافع والمدفوع والدفع من قدره.
وقد أفصح النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى كل الإفصاح إذ قالوا: "يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقى نتقى بها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله".
وفي الحديث الآخر: "إن الدعاء والبلاء ليعتلجان بين السماء والأرض".
وإذا طرق العدو من الكفار بلد الإسلام طرقوه بقدر الله أفيحل للمسلمين الإستسلام للقدر وترك دفعه بقدر مثله وهو الجهاد الذي يدفعون به قدر الله بقدره.
وكذلك المعصية إذا قدرت عليك وفعلتها بالقدر فادفع موجبها بالتوبة النصوح وهي من القدر.
فصل
ودفع القدر بالقدر نوعان:
أحدهما: دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه ولما يقع بأسباب أخرى من القدر تقابله فيمتنع وقوعه كدفع العدو بقتاله ودفع الحر والبرد ونحوه.
الثاني: دفع القدر الذي وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله كذفع قدر المرض بقدر التداوي ودفع قدر الذنب بقدر التوبة ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان.
فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار لا الإستسلام لها وترك الحركة والحيلة فإنه عجز والله تعالى يلوم على العجز فإذا غلب العبد وضاقت به الحيل ولم يبق له مجال فهنالك الإستسلام للقدر والأنطراح كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء وهنا ينفع الفناء في القدر علما وحالا وشهودا وأما في حال(1/200)
القدرة وحصول الأسباب فالفناء النافع أن يفنى عن الخلق بحكم الله وعن هواه بأمر الله وعن إرادته ومحبته بإرادة الله ومحبته وعن حوله وقوته بحول الله وقوته وإعانته فهذا الذي قام بحقيقة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علما وحالا وبالله المستعان.
فصل
قال صاحب المنازل: "وسرائر حقيقة التوبة ثلاثة أشياء: تمييز التقية من العزة ونسيان الجناية والتوبة من التوبة لأن التائب داخل في (الجميع) من قوله تعالى 24:31 {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فأمر التائب بالتوبة".
تمييز التقية من العزة: أن يكون المقصود من التوبة تقوي الله وهو خوفه وخشيته والقيام بأمره واجتناب نهيه فيعمل بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله ويترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله لا يريد بذلك عز الطاعة فإن للطاعة وللتوبة عزا وظاهرا وباطنا فلا يكون مقصوده العزة وإن علم أنها تحصل له بالطاعة والتوبة فمن تاب لأجل العزة فتوبته مدخولة وفي بعض الآثار "أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة وأما انقطاعك إلي فقد اكتسبت به العزة ولكن ما عملت فيما لي عليك؟ قال: يا رب وما لك علي بعد هذا؟ قال: هل واليت في وليا أو عاديت في عدوا؟".
يعني أن الراحة والعز حظك وقد نلتهما بالزهد والعبادة ولكن أين القيام بحقي وهو الموالاة في والمعاداة فيّ؟.
فالشأن في التفريق في الأوامر بين حظك وحق ربك علما وحالا.
وكثير من الصادقين قد يلتبس عليهم حال نفوسهم في ذلك ولا يميزه إلا أولو البصائر منهم وهم في الصادقين كالصادقين في الناس.(1/201)
وأما نسيان الجناية: فهذا موضع تفصيل فقد اختلف فيه أرباب الطريق.
فمنهم: من رأى الإشتغال عن ذكر الذنب والإعراض عنه صفحا فصفاء الوقت مع الله تعالى أولى بالتائب وأنفع له ولهذا قيل: ذكر الجفا في وقت الصفا جفا.
ومنهم: من رأى أن الأولى أن لا ينسى ذنبه بل لا يزال جاعلا له نصب عينيه يلاحظه كل وقت فيحدث له ذلك انكسارا وذلا وخضوعا أنفع له من جمعيته وصفاء وقته.
قالوا: ولهذا نقش داود الخطيئة في كفه وكان ينظر إليها ويبكي.
قالوا: ومتى تهت عن الطريق فارجع إلى ذنبك تجد الطريق.
ومعنى ذلك: أنك إذا رجعت إلى ذنبك انكسرت وذللت وأطرقت بين يدي الله عز وجل خاشعا ذليلا خائفا وهذه طريق العبودية.
والصواب: التفصيل في هذه المسألة وهو أن يقال: إذا أحس العبد من نفسه حال الصفاء غيما من الدعوى ورقيقة من العجب ونسيان المنةوخطفته نفسه عن حقيقة فقره ونقصه فذكر الذنب أنفع له وإن كان في حال مشاهدته منة الله عليه وكمال افتقاره إليه وفنائه به وعدم استغنائه عنه في ذرة من ذراته وقد خالط قلبه حال المحبة والفرح بالله والأنس به والشوق إلى لقائه وشهود سعة رحمته وحلمه وعفوه وقد أشرقت على قلبه أنوار الأسماء والصفات فنسيان الجناية والإعراض عن الذنب: أولى به وأنفع فإنه متى رجع إلى ذكر الجناية توارى عنه ذلك ونزل من علو إلى أسفل ومن حال إلى حال بينهما من التفاوت أبعد مما بين السماء والأرض وهذا من حسد الشيطان له أراد أن يحطه عن مقامه وسير قلبه في ميادين المعرفة والمحبة والشوق إلى وحشة الإساءة وحصر الجناية.
والأول يكون شهوده لجنايته منة من الله من بها عليه ليؤمنه بها من مقت(1/202)
الدعوى وحجاب الكبر الخفي الذي لا يشعر به فهذا لون وهذا لون.
وهذا المحل فيه أمر وراء العبارة وبالله التوفيق وهو المستعان.
فصل
وأما التوبة من التوبة: فهي من المجملات التي يراد بها حق وباطل ويكون مراد المتكلم بها حقا فيطلقه من غير تمييز.
فإن التوبة من أعظم الحسنات والتوبة من الحسنات من أعظم السيئات وأقبح الجنايات بل هي كفر إن أخذت على ظاهرها ولا فرق بين التوبة من التوبة والتوبة من الإسلام والإيمان فهل يسوغ أن يقال بالتوبة من الإيمان؟.
ولكن مرادهم: أن يتوب من رؤية التوبة فإنها إنما حصلت له بمنة الله ومشيئته ولو خلي ونفسه لم تسمح بها ألبتة فإذا رآها وشهد صدورها منه ووقوعها به وغفل عن منه الله عليه تاب من هذه الرؤية والغفلة ولكن هذه الرؤية والغفلة ليست هي التوبة ولا جزءا منها ولا شرطا لها بل هي جناية أخرى عرضت له بعد التوبة فيتوب من هذه الجناية كما تاب من الجناية الأولى فما تاب إلا من ذنب أولا وأخرا فكيف يقال: يتوب من التوبة؟.
هذا كلام غير معقول ولا هو توبة صحيح في نفسه بل قد يكون في التوبة علة ونقص وآفة تمنع كما لها وقد يشعر صاحبها بذلك وقد لا يشعر به فيتوب من نقصان التوبة وعدم توفيتها حقها.
وهذا أيضا ليس من التوبة وإنما هو من عدم التوبة فإن القدر الموجود منها طاعة لا يتاب منها والقدر المفقود هو الذي يحتاج أن يتوب منه(1/203)
فالتوبة من التوبة إنما تعقل على أحد هذين الوجهين.
نعم ههنا وجه ثالث لطيف جدا وهو أن من حصل له مقام أنس بالله وصفا وقته مع الله بحيث يكون إقباله على الله واشتغاله بذكر آلائه وأسمائه وصفاته أنفع شيء له حتى نزل عن هذه الحالة واشتغل بالتوبة من جناية سالفة قد تاب منها وطالع الجنابة واشتغل بها عن الله فهذا نقص ينبغي له أن يتوب إلى الله منه وهو توبة من هذه التوبة لأنه نزول من الصفاء إلى الجفاء والله أعلم.
فصل
قال صاحب المنازل:
"ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء أولها: أن ينظر الجناية والقضية فيعرف مراد الله فيها إذ خلاك وإتيانها فإن الله عز وجل إنما خلى العبد والذنب لأجل معنيين.
أحدهما: أن يعرف عزته في قضائه وبره في ستره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته.
الثاني: أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته".
اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى خمسة أمور.
أحدها: أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الإعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب.
الثاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفا وخشية تحمله على التوبة.
الثالث: أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها وتقديرها عليه وأنه لو شاء لعصمه منها فيحدث له ذلك أنواعا من المعروفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ومغفرته وعفوه وحلمه وكرمه وتوجب له هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها ألبتة ويعلم ارتباط الخلق(1/204)
والأمر والجزاء والوعد والوعيد بأسمائه وصفاته وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود وأن كل اسم وصفة مقتض لأثره وموجبه متعلق به لا بد منه.
وهذا المشهد يطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم.
فمن بعضها: ما ذكره الشيخ: "أن يعرف العبد عزته في قضائه" وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضي بماء يشاء وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال بين العبد وقلبه وجعله مريدا شائيا لما شاء منه العزيز الحكيم وهذا من كمال العزة إذ لا يقدر على ذلك إلا الله وغاية المخلوق: أن يتصرف في بدنك وظاهرك وأما جعلك مريدا شائبا لما يشاؤه منك ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة.
فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه وتمكن شهوده منه كان الإشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له لأنه يصير مع الله لا مع نفسه.
ومن معرفة عزته في قضائه: أن يعرف أنه مدبر مقهور ناصيته بيد غيره لا عصمة له إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد.
ومن شهود عزته أيضا في قضائه: أن يشهد أن الكمال والحمد والغناء التام والعزة كلها لله وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوده لعزة الله وكماله وحمده وغناه وكذلك بالعكس فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة.
ومنها: أن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية فإذا شهد جريان الحكم وجعله فاعلا لما هو غير مختار له مريد بإرادته ومشيئته واختياره فكأنه مختار غير مختار مريد غير مريد شاءغير شاء فهذا يشهد عزة الله وعظمته وكمال قدرته.(1/205)
ومنها: أن يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه وهذا من كمال بره ومن أسمائه (البر) وهذا البر من سيده كان عن به كمال غناه عنه وكمال فقر العبد إليه فيشتغل بمطالعة هذه المنة ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم فيذهل عن ذكر الخطيئة فيبقى مع الله سبحانه وذلك أنفع له من الإشتغال بجنايته وشهود ذل معصيته فإن الإشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى.
ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقا بل في هذه الحال فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة وذكر الجناية ولكل وقت ومقام عبودية تليق به.
ومنها: شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة ولكنه الحليم الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفة ربه سبحانه باسمه (الحليم) ومشاهدة صفة (الحلم) والتعبد بهذا الاسم والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله وأصلح للعبد وأنفع من فوتها ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم من الإعتذار لا بالقدر فإنه مخاصمة ومحاجة كما تقدم فيقبل عذره بكرمه وجوده فيوجب له ذلك اشتغالا بذكره وشكره ومحبة أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك فإن محبتك لمن شكرك على إحسانك وجازاك به ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها: أضعاف محبتك على شكر الإحسان وحده والواقع شاهد بذلك فعبودية التوبة بعد الذنب لون وهذا لون آخر.
ومنها: أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله وإلا فلو أخذك بمحض حقه كان عادلا محمودا وإنما عفوه بفضله لا بإستحقاقك فيوجب لك ذلك أيضا شكرا له ومحبة وإنابه إليه وفرحا وابتهاجا به ومعرفة له باسمه الغفار ومشاهدة لهذه الصفة وتعبدا بمقتضاها وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة.(1/206)
ومنها: أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والإنكسار بين يديه والإفتقار إليه فإن النفس فيها مضاهات للربوبية ولو قدرت لقالت كقول فرعون ولكنه قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية وهو أربع مراتب.
المرتبة الأولى: مشتركة بين الخلق وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله فأهل السماوات والأرض جميعا محتاجون إليه فقراء إليه وهو وحده الغني عنهم وكل أهل السماوات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحدا.
المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية وهو ذل الإختيار وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية.
المرتبة الثالثة: ذل المحبة فإن المحب ذليل بالذات وعلى قدر محبته له يكون ذله فالمحبة أسست على الذلة للمحبوب كما قيل:
حكم الهوى أنف يشال ويعقد ... اخضع وذل لمن تحب فليس في
وقال آخر:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر
المرتبة الرابعة: ذل المعصية والجناية.
فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع: كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم إذ يذل له خوفا وخشية ومحبة وإنابة وطاعة وفقرا وفاقة.
وحقيقة ذلك: هو الفقر الذي يشير إليه القوم وهذا المعنى أجل من أن يسمى بالفقر بل هو لب العبودية وسرها وحصوله أنفع شيء للعبد وأحب شيء إلى الله.(1/207)
فلا بد من تقدير لوازمه: من أسباب الضعف والحاجة وأسباب العبودية والطاعة وأسباب المحبة والإنابة وأسباب المعصية والمخالفة إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع والغاية من تقدير عدم هذا الملزوم ولازمه مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ومفسدة فوته أكبر من مفسدة وجوده والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين بإحتمال أدناهما وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وقد فتح لك الباب فإن كنت من أهل المعرفة فادخل وإلا فرد الباب وارجع بسلام.
ومنها: أن أسماءه الحسنى تقتصي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها فاسم (السميع البصير) يقتضي مسموعا ومبصرا واسم (الرزاق) يقتضي مرزوقا واسم (الرحيم) يقتضي مرحوما وكذلك أسماء الغفور والعفو والتواب والحليم يقتضي من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ويحلم ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ونعوت جلال وأفعال حكمة وإحسان وجود فلا بد من ظهور آثارها في العالم وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم".
وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدوما فمن يرزق الرزاق سبحانه؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم فلمن يغفر؟ وعمن يعفو؟ وعلى من يتوب ويحلم؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سدت والعبيد أغنياء معافون فأين السؤال والتضرع والإبتهال؟ والإجابة وشهود الفضل والمنة والتخصيص بالإنعام والإكرام؟.
فسبحان من تعرف إلى خلقه بجميع أنواع التعرفات ودلهم عليه بأنواع الدلالات وفتح لهم إليه جميع الطرقات ثم نصب إليه الصراط المستقيم وعرفهم(1/208)
به ودلهم عليه 8:42 {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
فصل
ومنها: السر الأعظم الذي لا تقتحمه العبارة ولا تجسر عليه الإشارة ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رءوس الأشهاد بل شهدته قلوب خواص العباد فازدادت به معرفة لربها ومحبة له وطمأنينة به وشوقا إليه ولهجا بذكره وشهودا لبره ولطفه وكرمه وإحسانه ومطالعة لسر العبودية وإشرافا على حقيقة الإلهية وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان عليه راحلة بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح" هذا لفظ مسلم.
وفي الحديث من قواعد العلم: أن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد أو غيظ شديد ونحوه لا يؤاخذ به ولهذا لم يكن هذا كافرا بقوله "أنت عبدي وأنا ربك".
ومعلوم أن تأثير الغضب في عدم القصد يصل إلى هذه الحال أو أعظم منها فلا ينبغي مؤاخذة الغضبان بما صدر منه في حال شدة غضبه من نحو هذا الكلام ولا يقع طلاقه بذلك ولا ردته وقد نص الإمام أحمد على تفسير الإغلاق في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق" بأنه الغضب وفسره به غير واحد من الأئمة وفسروه بالإكراه والجنون.
قال شيخنا: وهو يعم هذا كله وهو من الغلق لإنغلاق قصد المتلكم عليه فكأنه لم ينفتح قلبه لمعنى ما قاله.(1/209)
والقصد: أن هذا الفرح له شأن ينبغي للعبد أهماله والإعراض عنه ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله.
وقد كان الأولى بنا طي الكلام فيه إلى ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم ونهاية أقدامهم من المعرفة وضعف عقولهم عن احتماله.
غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها ومن هو عارف بقدرها وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفا بها فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه وخلقه لنفسه وخلق كل شيء له وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم له وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته وأنزل إليه وعليه كتبه وأرسله وأرسل إليه وخاطبه وكلمه منه إليه واتخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والخواص والأحبار وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع حبه وخلق لهم الجنة والنار فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني فإنه خلاصة الخلق وهو المقصود بالأمر والنهي وعليه الثواب والعقاب.
فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات وقد خلق أباه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة فمن دونهم من جميع المخلوقات وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين واتخذه عدوا له.
فالمؤمن من نوع الإنسان: خير البرية على الإطلاق وخيرة الله من العالمين فإنه خلقه ليتم نعمته عليه وليتواتر إحسانه إليه وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ولم يخطر على باله ولم يشعر به ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة(1/210)
والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تنال إلا بمحبته ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه فاتخذه محبوبا له وأعد له أفضل ما يعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قدم عليه وعهد إليه عهدا تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ويزيده محبة له وكرامة عليه وما يبعده منه ويسخطه عليه ويسقطه من عينه.
وللمحبوب عدو هو أبغض خلقه إليه قد جاهره بالعداوة وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق واستقطع عباده واتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم وكانوا أعداء له مع هذا العدو يدعون إلى سخطه ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه ويفتنون أولياءه ويؤذونهم بأنواع الأذى ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدولة لهم ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم ومالهم وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم والكون معهم.
وأخبره في عهده: أنه أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وأنه سبقت رحمته غضبه وحلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته وأنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة وأنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر وأن الفضل كله بيده والخير كله منه والجود كله له وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلا ويغمرهم إحسانا وجودا ويتم عليهم نعمته ويضاعف لديهم منته ويتعرف إليهم بأوصافه وأسمائه ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.
فهو الجواد لذاته وجود كل جواد خلقه الله ويخلقه أبدا: أقل من ذرة بالقياس إلى جوده فليس الجواد على الإطلاق إلا هو وجود كل جواد فمن جوده ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والإفضال: فوق ما يخطر(1/211)
ببال الخلق أو يدور في أوهامهم وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه ويأخذه أحوج ما هو إليه أعظم ما كان قدرا فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما يأخذه ولله المثل الأعلى إذ هذا شأن الجواد من الخلق فإنه يحصل له من الفرح والسرور والإبتهاج واللذة بعطائه وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطي وابتهاجه وسروره هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه وعدم وثوقه بإستخلاف مثله وخوف الحاجة إليه عند ذهابه والتعرض لذل الإستعانة بنظيره ومن هو دونه ونفسه قد طبعت على الحرص والشح.
فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة.
وهو الجواد لذاته كما أنه الحي لذاته العليم لذاته السميع البصير لذاته فجوده العالي من لوازم ذاته والعفو أحب إليه من الانتقام والرحمة أحب إليه من العقوبة والفضل أحب إليه من العدل والعطاء أحب إليه من المنع.
فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته وفضله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتابه وأرسل إليه رسوله واعتنى بأمره ولم يهمله ولم يتركه سدى فتعرض لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه ووالى عدوه وظاهره عليه وتحيز إليه وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه وفتح طريق العقوبة والغضب والإنتقام: فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطائه فاستدعى بمعصيته من أفعاله(1/212)
ما سواه أحب إليه منه وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان.
فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذا انقلب آبقا شاردا رادا لكرامته مائلا عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيا لسيده منهمكا في موافقة عدوه قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه وعلم أنه لا بد له من وأن مصيره إليه وعرضه عليه وأنه إن لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه على أسوأ الأحوال ففر إلى سيده من بلد عدوه وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه فوضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللا متضرعا خاشعا باكيا آسفا يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه قد ألقى بيده إليه واستسلم له وأعطاه قياده وألقى إليه زمامه فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ومكان الشدة عليه رحمة به وأبدله بالعقوبة عفوا وبالمنع عطاء وبالمؤاخذة حلما فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا فكيف يكون فرح سيده به وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعا واختيارا وراجع ما يحبه سيده منه برضاه وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة؟.
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين: "أنه حصل له شرود وإباق من سيده فرأى في بعض السكك بابا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكرا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤيه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينا فوجد الباب مرتجا فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال(1/213)
لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين تذهب عني؟ ومن يؤيك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت".
فتأمل قول الأم "لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة".
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها" وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟.
فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به.
فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها.
ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة وتدق عن إدراكه الأذهان.
وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل فإن كلا منهما منزل ذميم ومرتع على علاته وخيم ولا يحل لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم كما هو مفسد لحاسة الذوق فلا يذوق طعم الإيمان ولا يجد ريحه والمحروم كل المحروم من عرض عليه الغني والخير فلم يقبله فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع والفضل بيد الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فصل
هذا إذا نظرت إلى تعلق الفرح الإلهي بالإحسان والجود والبر.
وأما إن لاحظت تعلقه بإلهيته وكونه معبودا فذاك مشهد أجل من هذا وأعظم منه وإنما يشهده خواص المحبين.(1/214)
فإن الله سبحانه إنما خلق لعبادته الجامعة لمحبته والخضوع له وطاعته وهذا هو الحق الذي خلقت به السماوات والأرض وهو غاية الخلق والأمر ونفيه كما يقول أعداؤه هو الباطل والعبث الذي نزه الله نفسه عنه وهو السدى الذي نزه نفسه عنه: أن يترك الإنسان عليه وهو سبحانه يحب أن يعبد ويطاع ولا يعبأ بخلقه شيئا لولا محبتهم له وطاعتهم له ودعاؤهم له.
وقد أنكر على من زعم أنه خلقهم لغير ذلك وأنهم لو خلقوا لغير عبادته وتوحيده وطاعته لكان خلقهم عبثا وباطلا وسدى وذلك مما يتعالى عنه أحكم الحاكمين والإله الحق فإذا خرج العبد عما خلق له من الطاعة والعبودية فقد خرج عن أحب الأشياء إليه وعن الغاية التي لأجلها خلقت الخليقة وصار كأنه خلق عبثا لغير شيء إذ لم تخرج أرضه البذر الذي وضع فيها بل قلبته شوكا ودغلا فإذا راجع ما خلق له وأوجد لأجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل فاشتدت محبة الرب له فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فأوجبت هذه المحبة فرحا كأعظم ما يقدر من الفرح ولو كان في الفرح المشهود في هذا العالم نوع أعظم من هذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لذكره ولكن لا فرحة أعظم من فرحة هذا الواجد الفاقد لمادة حياته وبلاغه في سفره بعد إياسه من أسباب الحياة بفقده وهذا كشدة محبته لتوبة التائب المحب إذا اشتدت محبته للشيء وغاب عنه ثم وجده وصار طوع يده فلا فرحة أعظم من فرحته به.
فما الظن بمحبوب لك تحبه حبا شديدا أسره عدوك وحال بينك وبينه وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ويعرضه لأنواع الهلاك وأنت أولى به منه وهو غرسك وتربيتك ثم إنه انفلت من عدوه ووافاك على غير ميعاد فلم يفجأك إلا وهو على بابك يتملقك ويترضاك ويستعينك ويمرغ خديه على(1/215)
فإن الله سبحانه إنما خلق لعبادته الجامعة لمحبته والخضوع له وطاعته وهذا هو الحق الذي خلقت به السماوات والأرض وهو غاية الخلق والأمر ونفيه كما يقول أعداؤه هو الباطل والعبث الذي نزه الله نفسه عنه وهو السدى الذي نزه نفسه عنه: أن يترك الإنسان عليه وهو سبحانه يحب أن يعبد ويطاع ولا يعبأ بخلقه شيئا لولا محبتهم له وطاعتهم له ودعاؤهم له.
وقد أنكر على من زعم أنه خلقهم لغير ذلك وأنهم لو خلقوا لغير عبادته وتوحيده وطاعته لكان خلقهم عبثا وباطلا وسدى وذلك مما يتعالى عنه أحكم الحاكمين والإله الحق فإذا خرج العبد عما خلق له من الطاعة والعبودية فقد خرج عن أحب الأشياء إليه وعن الغاية التي لأجلها خلقت الخليقة وصار كأنه خلق عبثا لغير شيء إذ لم تخرج أرضه البذر الذي وضع فيها بل قلبته شوكا ودغلا فإذا راجع ما خلق له وأوجد لأجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل فاشتدت محبة الرب له فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فأوجبت هذه المحبة فرحا كأعظم ما يقدر من الفرح ولو كان في الفرح المشهود في هذا العالم نوع أعظم من هذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لذكره ولكن لا فرحة أعظم من فرحة هذا الواجد الفاقد لمادة حياته وبلاغه في سفره بعد إياسه من أسباب الحياة بفقده وهذا كشدة محبته لتوبة التائب المحب إذا اشتدت محبته للشيء وغاب عنه ثم وجده وصار طوع يده فلا فرحة أعظم من فرحته به.
فما الظن بمحبوب لك تحبه حبا شديدا أسره عدوك وحال بينك وبينه وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ويعرضه لأنواع الهلاك وأنت أولى به منه وهو غرسك وتربيتك ثم إنه انفلت من عدوه ووافاك على غير ميعاد فلم يفجأك إلا وهو على بابك يتملقك ويترضاك ويستعينك ويمرغ خديه على(1/216)
وليس ما يلزم به المعطل المثبت إلا ظلم محض وتناقض وتلاعب فإن هذا لو كان لازما للزم رحمته وإرادته ومشيئته وسمعه وبصره وعلمه وسائر صفاته فكيف جاء هذا اللزوم لهذه الصفة دون الأخرى وهل يجد ذو عقل إلى الفرق سبيلا فما ثم إلا التعطيل المحض المطلق أو الإثبات المطلق لكل ما ورد به النص والتناقض لا يرضاه المحصلون.
فصل
قوله الثاني: "أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته".
اعتراف العبد بقيام حجة الله عليه من لوازم الإيمان أطاع أم عصى فإن حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسول وإنزال الكتاب وبلوغ ذلك إليه وتمكنه من العلم به سواء علم أو جهل فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه فقصر عنه ولم يعرفه فقد قامت عليه الحجة والله سبحانه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه فإذا عاقبه على ذنبه عاقبه بحجته على ظلمه قال الله تعالى 17:15 { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال 67:8، 9 {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} وقال 11:117 {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
وفي الآية قولان أحدهما: ما كان ليهلكها بظلم منهم الثاني: ما كان ليهلكها بظلم منه.
والمعنى على القول الأول: ما كان ليهلكها بظلمهم المتقدم وهم مصلحون الآن أي إنهم بعد أن أصلحوا وتابوا لم يكن ليهلكهم بما سلف منهم من الظلم.
وعلى القول الثاني: إنه لم يكن ظالما لهم في إهلاكهم فإنه لم يهلكهم وهم مصلحون وإنما أهلكهم وهم ظالمون فهم الظالمون لمخالفتهم وهو العادل(1/217)
في إهلاكهم والقولان في آية الأنعام أيضا 6:131 {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}.
قيل: لم يكن مهلكهم يظلمهم وشركهم وهم غافلون لم ينذروا ولم يأتهم رسول.
وقيل: لم يهلكهم قبل التذكير بإرسال الرسول فيكون قد ظلمهم فإنه سبحانه لا يأخذ أحدا ولا يعاقبه إلا بذنبه وإنما يكون مذنبا إذا خالف أمره ونهيه وذلك إنما يعلم بالرسل.
فإذا شاهد العبد القدر السابق بالذنب علم أن الله سبحانه قدره سببا متقضيا لأثره من العقوبة كما قدر الطاعة سببا مقتضيا للثواب وكذلك تقدير سائر أسباب الخير والشر كجعل السم سببا للموت والنار سببا للإحراق والماء سببا للإغراق.
فإذا أقدم العبد على سبب الهلاك وقد عرف أنه سبب الهلاك فهلك فالحجة مركبة عليه والمؤاخذة لازمة له كالحريق مثلا والذنب كالنار وإتيانه له كتقديمه نفسه للنار وملاحظة لحكم فيما لا يجدي عليه شيئا فإنما الذي يشهده عند قيام الحجة عليه: ملاحظة الأمر لا ملاحظة القدر.
فجعل صاحب المنازل هذه اللطيفة من ملاحظة الجناية والقضية ليس بالبين بل هو من ملاحظة الجناية والأمر لكن مراده: أن سر التقدير: أنه قد علم أن هذا العبد لا يصلح إلا للوقود كالشوك الذي لا يصلح إلا للنار والشجرة تشتمل على الثمر والشوك فاقتضى عدله سبحانه أن يسوق هذا العبد إلى ما لا يصلح إلا له وأن يقيم عليه حجة عدله فإن قدر عليه الذنب فواقعه فاستحق ما خلق له قال الله تعالى 36:169، 170 {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
فأخبر سبحانه أن الناس قسمان حي قابل للإنتفاع يقبل الإنذار(1/218)
وينتفع به وميت لا يقبل الإنذار ولا ينتفع به لأن أرضه غير زاكية ولا قابلة لخير ألبتة فيحق عليه القول بالعذاب وتكون عقوبته بعد قيام الحجة عليه لا بمجرد كونه غير قابل للهدى والإيمان بل لأنه غير قابل ولا فاعل وإنما يتبين كونه غير قابل بعد قيام الحجة عليه بالرسول إذ لو عذبه بكونه غير قابل لقال لو جاءني رسول منك لامتثلت أمرك فأرسل إليه رسوله فامره ونهاه فعصى الرسول بكونه غير قابل للهدى فعوقب بكونه غير فاعل فحق عليه القول أنه لا يؤمن ولو جاءه الرسول كما قال تعالى 10:33 {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وحق عليه العذاب كقوله تعالى 40:6 {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.
فالكلمة التي حقت كلمتان: كلمة الإضلال وكلمة العذاب كما قال تعالى 39:71 { وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وكلمته سبحانه إنما حقت عليهم بالعذاب بسبب كفرهم فحقت عليه كلمة حجته وكلمة عدله بعقوبته.
وحاصل هذا كله: أن الله سبحانه أمر العباد أن يكونوا مع مراده الديني منهم لا مع مراد أنفسهم فأهل طاعته آثروا الله ومراده على مرادهم فاستحقوا كرامته وأهل معصيته آثروا مرادهم على مراده وعلم سبحانه منهم أنه لا يؤثرون مراده ألبتة وإنما يؤثرون أهوائهم ومرادهم فأمرهم ونهاهم فظهر بأمره ونهيه من القدرالذي قدر عليهم من إيثارهم هوى أنفسهم ومرادهم على مرضاة ربهم ومراده فقامت عليهم بالمعصية حجة عدله فعاقبهم بظلمهم.
فصل
قد ذكرنا أن العبد في الذنب له نظر إلى أربعة أمور: نظر إلى الأمر والنهي.
ونظر إلى الحكم والقضاء وذكرنا ما يتعلق بهذين النظرين.
النظر الثالث: النظر إلى محل الجناية ومصدرها وهو النفس الأمارة بالسوء ويفيده نظره إليها أمورا.(1/219)
منها: أن يعرف أنها جاهلة ظالمة وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول عمل قبيح ومن وصفه الجهل والظلم لا مطمع في استقامته واعتداله ألبتة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يخرجها به عن وصف الظلم ومع هذا فجهلها أكثر من علمها وظلمها أعظم من عدلها.
فحقيق بمن هذا شأنه أن يرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيها شرها وأن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها فإنه ربها ومولاها وأن لا يكله إليها طرفة عين فإنه إن وكله إليها هلك فما هلك من هلك إلا حيث وكل إلى نفسه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر: "قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي" وفي خطبة الحاجة "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" وقد قال تعالى 64:17 {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وقال 12:53 {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}.
فمن عرف حقيقة نفسه وما طبعت عليه: علم أنها منبع كل شر ومأوى كل سوء وأن كل خير فيها ففضل من الله من به عليها لم يكن منها كما قال تعالى 24:21 { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} وقال تعالى 49:8 {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} فهذا الحب وهذه الكراهة لم يكونا في النفس ولا بها ولكن هو الله الذي من بهما فجعل العبد بسببهما من الراشدين {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (عليم) بمن يصلح لهذا الفضل ويزكوا عليه وبه ويثمر عنده (حكيم) فلا يضعه عند غير أهله فيضيعه بوضعه في غير موضعه.
ومنها: ما ذكره صاحب المنازل فقال:(1/220)
"اللطيفة الثانية: أن يعلم أن نظر البصير الصادق في سيئته لم يبق له حسنة بحال لأنه يسير بين مشاهدة المنة وتطلب عيب النفس والعمل".
يريد: أن من له بصيرة بنفسه وبصيرة بحقوق الله وهو صادق في طلبه لم يبق له نظره في سيئاته حسنة ألبتة فلا يلقى الله إلا بالإفلاس المحض والفقر الصرف لأنه إذا فتش عن عيوب نفسه وعيوب عمله علم أنها لا تصلح لله وأن تلك البضاعة لا تشتري بها النجاة من عذاب الله فضلا عن الفوز بعظيم ثواب الله فإن خلص له عمل وحال مع الله وصفا له معه وقت شاهد منة الله عليه به ومجرد فضله وأنه ليس من نفسه ولا هي أهل لذاك فهو دائما مشاهد لمنة الله عليه ولعيوب نفسه وعمله لأنه متى تطلبها رآها.
وهذا من أجل أنواع المعارف وأنفعها للعبد ولذلك كان سيد الإستغفار "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
فتضمن هذا الإستغفار: الإعتراف من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده والإعتراف بأنه خالقه العالم به إذ أنشأه نشأة تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصير فيه والإعتراف بأنه عبده الذي ناصيته بيده وفي قبضته لا مهرب له منه ولا ولي له سواه ثم التزام الدخول تحت عهده وهو أمره ونهيه الذي عهده إليه على لسان رسوله وأن ذلك بحسب استطاعتي لا بحسب أداء حقك فإنه غير مقدور للبشر وإنما هو جهد المقل وقدر الطاقة ومع ذلك فأنا مصدق بوعدك الذي وعدته لأهل طاعتك بالثواب ولأهل معصيتك بالعقاب فأنا مقيم على عهدك مصدق بوعدك ثم أفزع إلى الإستعاذة والإعتصام بك من شر ما فرطت فيه من أمرك ونهيك فإنك إن لم تعذني من شره وإلا أحاطت بي الهلكة فإن إضاعة حقك سبب الهلاك وأنا أقر لك وألتزم بنعمتك علي(1/221)
وأقر وألتزم وأبخع بذنبي فمنك النعمة والإحسان والفضل ومني الذنب والإساءة فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي وأن تعفيني من شره إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
فلهذا كان هذا الدعاء سيد الإستغفار وهو متضمن لمحض العبودية فأي حسنة تبقى للبصير الصادق مع مشاهدته عيوب نفسه وعمله ومنة الله عليه فهذا الذي يعطيه نظره إلى نفسه ونقصه.
فصل
النظر الرابع: نظره إلى الآمر له بالمعصية المزين له فعلها الحاض له عليها وهو شيطانه الموكل به.
فيفيده النظر إليه وملاحظته: اتخاذه عدوا وكمال الإحتراز منه والتحفظ واليقظة والإنتباه لما يريد منه عدوه وهو لا يشعر فإنه يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات بعضها أصعب من بعض لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها.
العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنه فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية وسلم معه نور الإيمان طلبه على:
العقبة الثانية: وهي عقبة البدعة إما بإعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله: من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئا والبدعتان في الغالب متلازمتان قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى كما قال بعضهم تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال فاشتغل الزوجان بالعرس فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيثون في بلاد الإسلام تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى.(1/222)
وقال شيخنا: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة فتولد بينهما خسران الدنيا والآخرة.
فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السنة واعتصم منها بحقيقة المتابعة وما مضى عليه السلف الأخيار من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وهيهات أن تسمح الأعصار المتأخرة بواحد من هذا الضرب فإن سمحت به نصب له أهل البدع الحبائل وبغوه الغوائل وقالوا مبتدع محدث.
فإذا وفقه الله لقطع هذه العقبة طلبه على:
العقبة الثالثة: وهي عقبة الكبائر فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوف به وفتح له باب الإرجاء وقال له الإيمان هو نفس التصديق فلا تقدح فيه الأعمال وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق وهي قوله: "لا يضر مع التوحيد ذنب كما لا ينفع مع الشرك حسنة" والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه لمناقضتها الدين ودفعها لما بعث الله به رسوله وصاحبها لا يتوب منها ولا يرجع عنها بل يدعو الخلق إليها ولتضمنها القول على الله بلا علم ومعاداة صريح السنة ومعاداة أهلها والإجتهاد على إطفاء نور السنة وتولية من عزله الله ورسوله وعزل من ولاه الله ورسوله واعتبار مارده الله ورسوله ورد ما اعتبره وموالاة من عاداه ومعاداة من والاه وإثبات ما نفاه ونفي ما أثبته وتكذيب الصادق وتصديق الكاذب ومعارضة الحق بالباطل وقلب الحقائق بجعل الحق باطلا والباطل حقا والإلحاد في دين الله وتعمية الحق على القلوب وطلب العوج لصراط الله المستقيم وفتح باب تبديل الدين جملة.(1/223)
فإن البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين فمفاسد البدع لا يقف عليها إلا أرباب البصائر والعميان ضالون في ظلمة العمى 24:40 {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
فإن قطع هذه العقبة بعصمة من الله أو بتوبة نصوح تنجيه منها طلبه على:
العقبة الرابعة: وهي عقبة الصغائر فكال له منها بالقفزان وقال: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللمم أو ما علمت بأنها تكفر باجتناب الكبائرر وبالحسنات ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالا منه فالإصرار على الذنب أقبح منه ولا كبيرة مع التوبة والإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وقد قال صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحقرات الذنوب ثم ضرب لذلك مثلا بقوم نزلوا بفلاة من الأرض فأعوزهم الحطب فجعل هذا يجيء بعود وهذا بعود حتى جمعوا حطبا كثيرا فأوقدوا نارا وأنضجوا خبزتهم فكذلك فإن محقرات الذنوب تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه".
فإن نجا من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ ودوام التوبة والإستغفار وأتبع السيئة الحسنة طلبه على:
العقبة الخامسة: وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها فشغله بها عن الإستكثار من الطاعات وعن الإجتهاد في التزود لمعاده ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات وأقل ما ينال منه: تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية ولو عرف السعر لما فوت على نفسه شيئا من القربات ولكنه جاهل بالسعر.(1/224)
فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونور هاد ومعرفة بقدر الطاعات والإستكثار منها وقلة المقام على الميناء وخطر التجارة وكرم المشتري وقدر ما يعوض به التجار فبخل بأوقاته وضن بأنفاسه أن تذهب في غير ربح طلبه العدو على:
العقبة السادسة: وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات فأمره بها وحسنها في عينه وزينها له وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسبا وربحا لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله ودرجاته العالية فشغله بالمفضول عن الفاضل وبالمرجوح عن الراجح وبالمحبوب لله عن الأحب إليه وبالمرضي عن الأرضى له.
ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول.
فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله ومنازلها في الفضل ومعرفة مقاديرها والتمييز بين عاليها وسافلها ومفضولها وفاضلها ورئيسها ومرؤسها وسيدها ومسودها فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا ورئيسا ومرؤسا وذروة وما دونها كما في الحديث الصحيح "سيد الإستغفار: أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت الحديث" وفي الحديث الآخر "الجهاد ذروة سنام الأمر" وفي الأثر الآخر إن الأعمال تفاخرت فذكر كل عمل منها مرتبته وفضله وكان للصدقة مزية في الفخر عليهن" ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولى العلم السائرين على جادة التوفيق قد أنزلوا الأعمال منازلها وأعطوا كل ذي حق حقه.
فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها.
ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه وهي عقبة(1/225)
تسليط جنده عليه بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله وظاهر عليه بجنده وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها فإنه كلما جد في الإستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره جد العدو في إغراء السفهاء به فهو في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب وأخذ في محاربة العدو لله وبالله فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين وهي تسمى عبودية المراغمة ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه.
أحدها: قوله 4:100 {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغما يراغم به عدو الله وعدوه والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما قال تعالى 9:120 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه 48:29 {وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له فموافقته فيها من كمال العبودية وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين وقال : "إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان" وفي رواية "ترغيما للشيطان" وسماها "المرغمتين".
فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين والخيلاء والتبختر عند صدقة السر(1/226)
حيث لا يراه إلا الله لما في ذلك من إرغام العدو وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز وجل.
وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول.
وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصاحب هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان ولاحظه في الذنب راغمه بالتوبة النصوح فأحدثت له هذه المراغمة عبودية أخرى.
فهذه نبذة من بعض لطائف أسرار التوبة لا تستهزىء بها فلعلك لا تظفر بها في مصنف آخر البتة ولله الحمد والمنة وبه التوفيق.
فصل
قال صاحب المنازل "اللطيفة الثالثة: أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم".
هذا الكلام إن أخذ على ظاهره فهو من أبطل الباطل الذي لولا إحسان الظن بصاحبه وقائله ومعرفة قدره من الإمامة والعلم والدين لنسب إلى لازم هذا الكلام ولكن من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ومن ذا الذي لم تزل به القدم ولم يكب به الجواد؟.
ومعنى هذا: أن العبد ما دام في مقام التفرقة فإنه يستحسن بعض الأفعال ويستقبح بعضها نظرا إلى ذواتها وما افترقت فيه فإذا تجاوزها نظر إلى مصدرها الأول وصدورها عن عين الحكم واجتماعها كلها في تلك العين وانسحاب ذيل المشيئة عليها ووحدة المصدر وهو المشيئة الشاملة العامة الموجبة فهي بالنسبة إلى مصدر الحكم وعين المشيئة لا توصف بحسن ولا قبح إذ الحسن والقبح إنما عرضا لها عند قيامها بالكون وجريانها عليه فهي بمنزلة نور الشمس واحد في نفسه غير متلون ولا يوصف بحمرة ولا صفرة ولا خضرة فإذا اتصل(1/227)
بالمحال المتلونة وصف حينئذ بحسب تلك المحال لإضافته إليها واتصاله بها فيرى أحمر وأصفر وأخضر وهو بريء من ذلك كله إذا صعد من تلك المحال إلى مصدره الأول المجرد عن القوابل فهذا أحسن ما يحمل عليه كلامه.
وعلى أن له محملا آخر مبنيا على أصول فاسدة وهي أن إرادة الرب تعالى هي عين محبته ورضاه فكل ما شاءه فقد أحبه ورضيه وكل ما لم يشأه فهو مسخوط له مبغوض فالمبغوض المسخوط هو ما لم يشأه والمحبوب المرضي هو ما شاءه.
هذا أصل عقيدة القدرية الجبرية المنكرين للحكم والتعليل والأسباب وتحسين العقل وتقبيحه وأن الأفعال كلها سواء لا يختص بعضها بما صار حسنا لأجله وبعضها بما صار قبيحا لأجله ويجوز في العقل أن يأمر بما نهى عنه وينهى عما أمر به ولا يكون ذلك مناقضا للحكمة.
إذ الحكمة ترجع عندهم إلى مطابقة العلم الأزلي لمعلومه والإرادة الأزلية لمرادها والقدرة لمقدورها فإذا الأفعال بالنسبة إلى المشيئة والإرادة مستوية لا توصف بحسن ولا قبح فإذا تعلق بها الأمر والنهي صارت حينئذ حسنة وقبيحة وليس حسنها وقبحها أمرا زائدا على كونها مأمورا بها ومنهيا عنها فعلى هذا إذا صعد العبد من تفرقة الأمر والنهي إلى جمع المشيئة والحكم لم يستحسن حسنة ولم يستقبح قبيحة فإذا نزل فرق الأمر صح له الإستحسان والإستقباح.
فهذا محمل ثان لكلامه.
وله محمل ثالث هو أبعد الناس منه ولكن قد حمل عليه وهو أن السالك ما دام محجوبا عن شهود الحقيقة بشهود الطاعة والمعصية رأى الأفعال بعين الحسن والقبح فرأى منها الطاعة والمعصية فإذا ترقى إلى شهود الحقيقة الأولى وهي الحقيقة الكونية ورأى شمول الحكم الكوني للكائنات وإحاطته بها وعدم خروج ذرة منها عنه زال عنه استقباح شيء من الأفعال وشهدها(1/228)
كلها طاعات للأقدار والمشيئة وفي مثل هذا الحال يقول: إن كنت عصيت الأمر فقد أطعت الإرادة ويقول:
أصبحت منفعلا لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات
فإذا ترقى مرتبة أخرى وزال عنه الفرق بين الرب والعبد كما زال عنه في المرتبة الثانية الفرق بين المحبوب والمسخوط والمأمور والمحظور قال ما ثم طاعة ولا معصية إذ الطاعة والمعصية إنما يكونان بين اثنين ضرورة والمطيع عين المطاع فما ههنا غير فالوحدة المطلقة تنفي الطاعة والمعصية فالصعود من وحدة الفعل إلى وحدة الوجود يزيل عنه بزعمه توهم الإنقسام إلى طاعة ومعصية كما كان الصعود من تفرقة الأمر إلى وحدة الحكم يزيل عنه ثبوت المعصية.
وهذا عند القوم من الأسرار التي لا يستجيزون كشفها إلا لخواصهم وأهل الوصول منهم.
ولكن صاحب المنازل بريء من هؤلاء وطريقتهم وهو مكفر لهم بل مخرج لهم من جملة الأديان ولكن ذكرنا ذلك لأنهم يحملون كلامه عليه ويظنونه منهم.(1/229)
فاعلم أن هذا مقام عظيم زلت فيه أقدام طائفتين من الناس طائفة من أهل الكلام والنظر وطائفة من أهل السلوك والإرادة.
فنفى لأجله كثير من النظار التحسين والتقبيح العقليين وجعلوا الأفعال كلها سواء في نفس الأمر وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح ولا يميز القبيح بصفة اقتضت قبحه بحيث يكون منشأ القبح وكذلك الحسن فليس للفعل عندهم منشأ حسن ولا قبح ولا مصلحة ولا مفسدة ولا فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمن في نفس الأمر ولا بين الصدق والكذب ولا بين السفاح والنكاح إلا أن الشارع حرم هذا وأوجب هذا فمعنى حسنه كونه مأمورا به لا أنه منشأ مصلحة ومعنى قبحه كونه منهيا عنه لا أنه منشأ مفسدة ولا فيه صفة اقتضت قبحه ومعنى حسنه: أن الشارع أمر به لا أنه منشأ مصلحة ولا فيه صفة اقتضت حسنه.
وقد بينا بطلان هذا المذهب من ستين وجها في كتابنا المسمى "تحفة النازلين بجوار رب العالمين" وأشبعنا الكلام في هذه المسألة هناك وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب وبينا بطلانه.
فإن هذا المذهب بعد تصوره وتصور لوازمه يجزم العقل ببطلانه وقد دل القرآن على فساده في غير موضع والفطرة أيضا وصريح العقل.
فإن الله سبحانه فطر عباده على استحسان الصدق والعدل والعفة والإحسان ومقابلة النعم بالشكر وفطرهم على استقباح أضدادها ونسبة هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم وكنسبة رائحة المسك ورائحة النتن إلى مشامهم وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة فيفرقون بين طيبه وخبيثه ونافعه وضاره.
وقد زعم بعض نفاة التحسين والتقبيح أن هذا متفق عليه وهو راجع إلى(1/230)
الملائمة والمنافرة بحسب اقتضاء الطباع وقبولها للشيء وانتفاعها به ونفرتها من ضده.
قالوا: وهذا ليس الكلام فيه وإنما الكلام في كون الفعل متعلقا للذم والمدح عاجلا والثواب والعقاب آجلا فهذا الذي نفيناه وقلنا إنه لا يعلم إلا بالشرع وقال خصومنا: إنه معلوم بالعقل والعقل متقض له.
فيقال: هذا فرار من الزحف إذ ههنا أمران متغيران لا تلازم بينهما.
أحدهما: هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه بحيث ينشأ الحسن والقبح منه فيكون منشأ لهما أم لا؟.
والثاني: أن الثواب المرتب على حسن الفعل والعقاب المرتب على قبحه ثابت بل واقع بالعقل أم لا يقع إلا بالشرع؟.
ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تلازم الأصلين استطلتم عليهم وتمكنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم ولما نفيتم أنتم الأصلين جميعا استطالوا عليكم وأبدوا من فضائحكم وخلافكم لصريح العقل والفطرة ما أبدوه وهم غلطوا في تلازم الأصلين وأنتم غلطتم في نفي الأصلين.
والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل: أنه لا تلازم بينهما وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة كما أنها نافعة وضاره والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه في نفسه بل هو في غاية القبح والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل فالسجود للشيطان والأوثان والكذب والزنا والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها والعقاب عليها مشروط بالشرع.
فالنفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحة وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ بالشرع والمعتزلة تقول قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل.(1/231)
وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل والعقاب متوقف على ورود الشرع وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من الشافعية وأبو الخطاب من الحنابلة وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصا لكن المعتزلة منهم يصرحون بأن العقاب ثابت بالعقل.
وقد دل القرآن أنه لا تلازم بين الأمرين وأنه لا يعاقب إلا بإرسال الرسل وأن الفعل نفسه حسن وقبيح ونحن نبين دلالته على الأمرين.
أما الأول: ففي قوله تعالى 17:15 {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وفي قوله 4:165 {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وفي قوله 67:8، 9 {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل بل للنذر وبذلك دخلوا النار وقال تعالى 6:130 {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} وفي الزمر 39:71 {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ثم قال في الأنعام بعدها {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وعلى أحد القولين وهو أن يكون المعنى: لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل فتكون الآية دالة على الأصلين: أن أفعالهم وشركهم ظلم قبيح قبل البعثة وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد الإرسال وتكون هذه الآية في دلالتها على الأمرين نظير الآية التي في القصص 38:47 {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فهذا يدل على أن ما قدمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم ولولا قبحه لم يكن سببا لكن امتنع إصابة المصيبة لإنتفاء شرطها وهو عدم مجيء الرسول إليهم فمذ جاء الرسول(1/232)
انعقد السبب ووجد الشرط فأصابهم سيئات ما عملوا وعوقبوا بالأول والآخر.
فصل
وأما الأصل الثاني وهو دلالته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح
فكثير جدا كقوله تعالى 7:28، 29 {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فأخبر سبحانه أن فعلهم فاحشة قبل نهيه عنه وأمر بإجتنابه بأخذ الزينة و(الفاحشة) ههنا هي طوافهم بالبيت عراة الرجال والنساء غير قريش ثم قال تعالى(1/233)
{إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} أي لا يأمر بما هو فاحشة في العقول والفطر ولو كان إنما علم وإنه لا معنى لكونه فاحشة إلا تعلق النهي به لصار معنى الكلام: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه وهذا يصان عن التكلم به آحاد العقلاء فضلا عن كلام العزيز الحكيم وأي فائدة في قوله: "إن الله لا يأمر بما ينهى عنه"؟ فإنه ليس لمعنى كونه (فاحشة) عندهم إلا أنه منهي عنه لا أن العقول تستفحشه.
ثم قال تعالى {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} والقسط عندهم: هو المأمور به لا أنه قسط في نفسه فحقيقة الكلام: قل أمر ربي بما أمر به.
ثم قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق} دل على أنه طيب قبل التحريم وأن وصف الطيب فيه مانع من تحريمه مناف للحكمة.
ثم قال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ولو كان كونها فواحش إنما هو لتعلق التحريم بها وليست فواحش قبل ذلك لكان حاصل الكلام قل إنما حرم ربي ما حرم وكذلك تحريم الإثم والبغي فكون ذلك فاحشة وإثما وبغيا بمنزلة كون الشرك شركا فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده.
فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والآثام إنما صارت كذلك بعد النهي فهو بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شركا بعد النهي وليس شركا قبل ذلك.
ومعلوم أن هذا وهذا مكابره صريحة للعقل والفطرة فالظلم ظلم في نفسه قبل النهي وبعده والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده والفاحشة كذلك وكذلك الشرك لا أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك.(1/234)
نعم الشارع كساها بنهيه عنها قبحا إلى قبحها فكان قبحها من ذاتها وازدادت قبحا عند العقل بنهي الرب تعالى عنها وذمه لها وإخباره ببغضها وبغض فاعلها كما أن العدل والصدق والتوحيد ومقابلة نعم المنعم بالثناء والشكر حسن في نفسه وازداد حسنا إلى حسنه بأمر الرب به وثنائه على فاعله وإخباره بمحبته ذلك ومحبة فاعله.
بل من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: أنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.
فلو كان كونه معروفا ومنكرا وخبيثا وطيبا إنما هو لتعلق الأمر والنهي والحل والتحريم به لكأن بمنزلة أن يقال يأمرهم بما يأمرهم به وينهاهم عما ينهاهم عنه ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم وأي فائدة في هذا وأي علم يبقى فيه لنبوته؟ وكلام الله يصان عن ذلك وأن يظن به ذلك وإنما المدح والثناء والعلم الدال على نبوته: أن ما يأمر به تشهد العقول الصحيحة حسنه وكونه معروفا وما ينهى عنه تشهد قبحه وكونه منكرا وما يحله تشهد كونه طيبا وما يحرمه تشهد كونه خبيثا وهذه دعوة جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وهي بخلاف دعوة المتغلبين المبطلين والكذابين والسحرة فإنهم يدعون إلى ما يوافق أهواءهم وأغراضهم من كل قبيح ومنكر وبغي وإثم وظلم.
ولهذا قيل لبعض الأعراب وقد أسلم لما عرف دعوته صلى الله عليه وسلم عن أي شيء وما رأيت منه مما دلك على أنه رسول الله؟ قال: "ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به ولا أحل شيئا فقال العقل: ليته حرمه ولا حرم شيئا فقال العقل: ليته أباحه" فانظر إلى هذا الأعرابي وصحة عقله وفطرته وقوة إيمانه واستدلاله على صحة دعوته بمطابقة أمره لكل ما حسن في العقل وكذلك مطابقة تحليلة وتحريمه ولو كان جهة الحسن والقبح والطيب والخبث مجرد تعلق الأمر والنهي والإباحة(1/235)
والتحريم به: لم يحسن منه هذا الجواب ولكان بمنزلة أن يقول وجدته يأمر وينهى ويبيح ويحرم وأي دليل في هذا؟.
كذلك قوله تعالى 16:90 {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي}.
وهؤلاء يزعمون: أن الظلم في حق عباده هو المحرم والمنهي عنه لا أن هناك في نفس الأمر ظلما نهى عنه وكذلك الظلم الذي نزه نفسه عنه هو الممتنع المستحيل لا أن هناك أمرا ممكنا مقدورا لو فعله لكان ظلما فليس في نفس الأمر عندهم ظلم منهي عنه ولا منزه عنه إنما هو المحرم في حقه والمستحيل في حقه فالظلم المنزه عنه عندهم هو الجمع بين النقيضين وجعل الجسم الواحد في مكانين في آن واحد ونحو ذلك.
والقرآن صريح في إبطال هذا المذهب أيضا قال الله تعالى 50:27، 29 {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ، قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} أي لا أؤاخذ عبدا بغير ذنب ولا أمنعه من أجر ما عمله من صالح ولهذا قال قبله {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} المتضمن لإقامة الحجة وبلوغ الأمر والنهي وإذا آخذتكم بعد التقدم فلست بظالم بخلاف من يؤاخذ العبد قبل التقدم إليه بأمره ونهيه فذلك الظلم الذي تنزه الله سبحانه وتعالى عنه.
وقال تعالى 20:112 {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} يعني لا يحمل عليه من سيئات ما لم يعمله ولا ينقص من حسنات ما عمل ولو كان الظلم هو المستحيل الذي لا يمكن وجوده لم يكن لعدم الخوف منه معنى ولا للأمن من وقوعه فائدة.
وقال تعالى 41:46 {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي لا يحمل المسيء عقاب ما لم يعمله ولا يمنع المحسن من ثواب عمله(1/236)
وقال تعالى 11:167 {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فدل على أنه لو أهلكهم مع إصلاحهم لكان ظالما وعندهم يجوز ذلك وليس بظلم لو فعل ويؤولون الآية على أنه سبحانه أخبر أنه لا يهلكهم مع إصلاحهم وعلم أنه لا يفعل ذلك وخلاف خبره ومعلومه مستحيل وذلك حقيقة الظلم ومعلوم أن الآية لم يقصد بها هذا قطعا ولا أريد بها ولا تحتمله بوجه إذ يؤول معناها إلى أنه ما كان ليهلك القرى بظلم بسبب اجتماع لنقيضين وهم مصلحون وكلامه تعالى يتنزه عن هذا ويتعالى عنه.
وكذلك عند هؤلاء أيضا: العبث والسدى والباطل كلها هي المستحيلات الممتنعة التي لا تدخل تحت المقدور والله سبحانه قد نزه نفسه عنها إذ نسبه إليها أعداؤه المكذبون بوعده ووعيده المنكرون لأمره ونهيه فأخبر أن ذلك يستلزم كون الخلق عبثا وباطلا وحكمته وعزته تأبى ذلك قال تعالى 23:115 {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} أي لغير شيء لا تؤمرون ولا تنهون ولا تثابون ولا تعاقبون والعبث قبيح فدل على أن قبح هذا مستقر في الفطر والعقول ولذلك أنكره عليهم إنكار منبه لهم على الرجوع إلى عقولهم وفطرهم وأنهم لو فكروا وأبصروا لعلموا أنه لا يليق به ولا يحسن منه أن يخلق خلقه عبثا لا لأمر ولا لنهي ولا لثواب ولا لعقاب وهذا يدل على أن حسن الأمر والنهي والجزاء مستقر في العقول والفطر وأن من جوز على الله الإخلال به فقد نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما تأباه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا.
وكذلك قوله تعالى 75:36 {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قال الشافعي: مهملا لا يؤمر ولا ينهى وقال غيره لا يثاب ولا يعاقب وهما متلازمان فأنكر على من يحسب ذلك فدل على أنه قبيح تأباه حكمته وعزته وأنه لا يليق به ولهذا استدل على أنه لا يترك سدى لقوله 75:37، 38 {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} إلى آخر السورة ولو كان قبحه(1/237)
إنما علم بالسمع لكان يستدل عليه بأنه خلاف السمع وخلاف ما أعلمناه وأخبرنا به ولم يكن إنكاره لكونه قبيحا في نفسه بل لكونه خلاف ما أخبر به ومعلوم أن هذا ليس وجه الكلام.
وكذلك قوله 38:27 {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} والباطل الذي ظنوه ليس هو الجمع بين النقيضين بل الذي ظنوه أنه لا شرع ولا جزاء ولا أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب فأخبر أن خلقها لغير ذلك هو الباطل الذي تنزه عنه وذلك هو الحق الذي خلقت به وهو التوحيد وحقه وجزاؤه وجزاء من جحده وأشرك بربه.
وقال تعالى 45:21 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} فأنكر سبحانه هذا الحسبان إنكار منبه للعقل على قبحه وأنه حكم سيء والحاكم به مسيء ظالم ولو كان قبحه لكونه خلاف ما أخبر به لم يكن الإنكار لما اشتمل عليه من القبح اللازم من التسوية بين المحسن والمسيء المستقر قبحه في فطر العالمين كلهم ولا كان هنا حكم سيء في نفسه ينكر على من حكم به.
وكذلك قوله 38:28 { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وهذا استفهام إنكار فدل على أن هذا قبيح في نفسه منكر تنكره العقول والفطر أفتظنون أن ذلك يليق بنا أو يحسن منا فعله فأنكر سبحانه إنكار منبه للعقل والفطرة على قبحه وأنه لا يليق بالله نسبته إليه.
وكذلك إنكاره سبحانه قبح الشرك به في إلهيته وعبادة غيره معه بما ضر به لهم من الأمثال وأقام على بطلانه من الأدلة العقلية ولو كان إنما قبح بالشرع لم يكن لتلك الأدلة والأمثال معنى.(1/238)
وعند نفاة التحسين والتقبيح يجوز في العقل أن يأمر بالإشراك به وبعبادة غيره وإنما علم قبحه بمجرد النهي عنه!.
فياعجبا! أي فائدة تبقى في تلك الأمثال والحجج والبراهين الدالة على قبحه في صريح العقول والفطر وأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم؟ وأي شيء يصح في العقل إذا لم يكن فيه علم بقبح الشرك الذاتي وأن العلم بقبحه بديهي معلوم بضرورة العقل وأن الرسل نبهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم من قبحه وأن أصحابه ليست لهم عقول ولا ألباب ولا أفئدة بل نفى عنهم السمع والبصر والمراد سمع القلب وبصره فأخبر أنهم صم بكم عميوذلك وصف قلوبهم أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق وشبههم بالأنعام التي لا عقول لها تميز بها بين الحسن والقبيح والحق والباطل ولذلك اعترفوا في النار بأنهم لم يكونوا من أهل السمع والعقل وأنهم لو رجعوا إلى أسماعهم وعقولهم لعلموا حسن ما جاءت به الرسل وقبح مخالفتهم.
قال الله تعالى حاكيا عنهم 67:110 {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وكم يقول لهم في كتابه {أَفَلا تَعْقِلُونَ} {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فينبههم على ما في عقولهم وفطرهم من الحسن والقبيح ويحتج عليهم بها ويخبر(1/239)
أنه أعطاهموها لينتفعوا بها ويميزوا بها بين الحسن والقبيح والحق والباطل.
وكم في القرآن من مثل عقلي وحسي ينبه به العقول على حسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال للعقول معنى ولكان إثبات ذلك بمجرد الأمر والنهي دون ضرب الأمثال وتبيين جهة القبح المشهودة بالحسن والعقل.
والقرآن مملوء لهذا لمن تدبره كقوله تعالى 30:28 {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يحتج سبحانه عليهم لما في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكا له فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكه ولا يرضى بذلك فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي؟ وهذا يبين أن قبح عبادة غير الله تعالى مستقر في العقول والفطر والسمع نبه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك.
وكذلك قوله تعالى 39:29 { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} احتج سبحانه على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك يملكه أرباب متعاسرون سيئو الملكة وحال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له فهل يصح في العقول استواء حال العبدين؟ فكذلك حال المشرك والموحد الذي قد سلمت عبوديته لإلهه الحق؟ لا يستويان.
وكذلك قوله تعالى 2:264 ممثلا لقبح الرياء المبطل للعمل والمن والأذى المبطل للصدقات ب(صفوان) وهو الحجر الأملس (عليه تراب) غبار قد لصق به (فأصابه مطر) شديد فأزال ما عليه من التراب (فتركه صلدا) أملس لا شيء عليه وهذا المثل في غاية المطابقة لمن فهمه ف(الصفوان) وهو الحجر كقلب(1/240)
المرائي والمان والمؤذي و(التراب) الذي لصق به ما تعلق به من أثر عمله وصدقته و(الوابل) المطر الذي به حياة الأرض فإذا صادفها لينة قابلة: نبت فيها الكلأ وإذا صادف الصخور والحجارة الصم لم ينبت فيها شيئا فجاء هذا الوابل إلى التراب الذي على الحجر فصادفه رقيقا فأزاله فأفضى إلى حجر غير قابل للنبات.
وهذا يدل على أن قبح "المن والأذى والرياء" مستقر في العقول فلذلك نبهها على شبهه ومثاله.
وعكس ذلك قوله تعالى 2:265 { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فإن كانت هذه الجنة التي بموضع عال حيث لا تحجب عنها الشمس والرياح وقد أصابها مطر شديد فأخرجت ثمرتها ضعفي ما يخرج غيرها إن كانت مستحسنة في العقل والحس فكذلك نفقة من أنفق ماله لوجه الله لا لجزاء من الخلق ولا لشكور بل بثبات من نفسه وقوة على الإنفاق لا يخرج النفقة وقلبه يرجف على خروجها ويداه ترتعشان ويضعف قلبه ويخور عند الإنفاق بخلاف نفقة صاحب التثبيت والقوة.
ولما كان الناس في الإنفاق على هذين القسمين: كان مثل نفقة صاحب الإخلاص والقوة والتثبيت كمثل الوابل ومثل نفقة الآخر كمثل الطل وهو المطر الضعيف فهذا بحسب كثرة الإنفاق وقلته وكمال الإخلاص والقوة واليقين فيه وضعفه أفلا تراه سبحانه نبه العقول على ما فيها من استحسان هذا واستقباح فعل الأول؟.
وكذلك قوله 2:266 {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(1/241)
فنبه سبحانه العقول على ما فيها من قبح الأعمال السيئة التي تحبط ثواب الحسنات وشبهها بحال شيخ كبير له ذرية ضعفاء بحيث يخشى عليهم الضيعة وعلى نفسه وله بستان هو مادة عيشه وعيش ذريته فيه النخيل والأعناب ومن كل الثمرات فأرجى وأفقر ما هو له وأسر ما كان به إذ أصابه نار شديدة فأحرقته فنبه العقول على أن قبح المعاصي التي تغرق الطاعات كقبح هذه الحال وبهذا فسرها عمر وابن عباس رضي الله عنهم: "لرجل غني عمل بطاعة الله زمانا فبعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله" ذكره البخاري في صحيحه.
أفلا تراه نبه العقول على قبح المعصية بعد الطاعة وضرب لقبحها هذا المثل؟ ونقاة التعليل والأسباب والحكم وحسن الأفعال وقبحها يقولون: ما ثم إلا محض المشيئة لا أن بعض الأعمال يبطل بعضا وليس فيها ما هو قبيح لعينه حتى يشبه بقبيح آخر وليس فيها ما هو منشأ لمفسدة أو مصلحة تكون سببا لها ولا لها علل غائية هي مفضية إليها وإنما هي متعلق المشيئة والإرادة والأمر والنهي فقط.
والفقهاء لا يمكنهم البناء على هذه الطريقة ألبتة فكلهم مجمعون إذا تكلموا بلسان الفقه على بطلانها إذ يتكلمون في العلل والمناسبات الداعية لشرع الحكم ويفرقون بين المصالح الخالصة والراجحة والمرجوحة والمفاسد التي هي كذلك ويقدمون أرجح المصلحتين على مرجوحهما ويدفعون أقوى المفسدتين بإحتمال أدناهما ولا يتم لهم ذلك إلا بإستخراج الحكم والعلل ومعرفة المصالح والمفاسد الناشئة من الأفعال ومعرفة ربها.
وكذلك الأطباء لا يصلح لهم علم الطب وعمله إلا بمعرفة قوى الأدوية والأمزجة والأغذية وطبائعها ونسبة بعضها إلى بعض ومقدار تأثير بعضها في بعض وانفعال بعضها عن بعض والموازنة بين قوة الدواء وقوة المرض وقوة المريض ودفع الضد بضده وحفظ ما يريدون حفظه بمثله ومناسبه فصناعة الطب(1/242)
وعمله مبني على معرفة الأسباب والعلل والقوى والطبائع والخواص فلو نفوا ذلك وأبطلوه وأحالوا على محض المشيئة وصرف الإرادة المجردة عن الأسباب والعلل وجعلوا حقيقة النار مساوية لحقيقة الماء وحقيقة الدواء مساوية لحقيقة الغذاء ليس في أحدهما خاصية ولا قوة يتميز بها عن الآخر لفسد علم الطب ولبطلت حكمة الله فيه بل العالم مربوط بالأسباب والقوى والعلل الفاعلية والغائية.
وعلى هذا قام الوجود بتقدير العزيز العليم والكل مربوط بقضائه وقدره ومشيئته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإذا شاء سلب قوة الجسم الفاعل منه ومنع تأثيرها وإذا شاء جعل في الجسم المنفعل قوة تدفعها وتمنع موجبها مع بقائها وهذا لكمال قدرته ونفوذ مشيئته.
والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام:
منهم: من بالغ في نفيها وإنكارها فأضحك العقلاء على عقله وزعم أنه بذلك ينصر الشرع فجنى على العقل والشرع وسلط خصمه عليه.
ومنهم: من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار ومدبر لها يصرفها كيف أراد فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها ويتصرف فيها كما يشاء ويختار.
وهذان طرفان جائران عن الصواب.
ومنهم: من أثبتها خلقا وأمرا قدرا وشرعا وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به من كونها تحت تدبيره ومشيئته وهي طوع المشيئة والإرادة ومحل جريان حكمها عليها فيقوي سبحانه بعضها ببعض ويبطل إن شاء بعضها ببعض ويسلب بعضها قوته وسببيته ويعريها منها ويمنعه من موجبها مع بقائها عليه ليعلم خلقه أنه الفعال لما يريد وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت مع كونه سببا.
وهذا باب عظيم نافع في التوحيد وإثبات الحكم يوجب للعبد إذا(1/243)
تبصر فيه الصعود من الأسباب إلى مسببها والتعلق به دونها وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارا وضارها نافعا ودواءها داء وداءها دواء فالإلتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد وإنكار أن تكون أسبابا بالكلية قدح في الشرع والحكمة والإعراض عنها مع العلم بكونها أسبابا نقصان في العقل وتنزيلها منازلها ومدافعة بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض وشهود الجمع في تفرقها والقيام بها هو محض العبودية والمعرفة وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة والله أعلم.
فصل
وأما غلط من غلط من أرباب السلوك والإرادة في هذا الباب: فحيث ظنوا أن شهود الحقيقة الكونية والفناء في توحيد الربوبية من مقامات العارفين بل أجل مقاماتهم فساروا شائمين لبرق هذا الشهود سالكين لأودية الفناء فيه وحثهم على هذا السير ورغبهم فيه ما شهدوه من حال أرباب الفرق الطبعي فأنفوا من صحبتهم في الطريق ورأوا مفارقتهم فرض عين لا بد منه فلما عرض لهم الفرق الشرعي في طريقهم ورد عليهم منه أعظم وارد فرق جمعيتهم وقسم وحدة عزيمتهم وحال بينهم وبين عين الجمع الذي هو نهاية منازل سيرهم فافترقت طرقهم في هذا الوارد العظيم.
فمنهم من اقتحمه ولم يلتفت إليه وقال: الإشتغال بالأوراد عن عين المورود انقطاع عن الغاية والقصد من الأوراد الجمعية على الآمر فما الإشتغال عن المقصود بالوسيلة بعد الوصول إليه والرجوع من حضرته إلى منازل السفر إليه وربما أنشد بعضهم:
يطالب بالأوراد من كان غافلا ... فكيف بقلبو كل أوقاته رد
فإذا اضطر أحدهم إلى التفرقة بوارد الأمر قال: ينبغي أن يكون الفرق على اللسان موجودا والجمع في القلب مشهودا.(1/244)
ثم من هؤلاء: من يسقط الأوامر والنواهي جملة ويرى القيام بها من باب ضبط ناموس الشرع ومصلحة العموم ومبادىء السير فهي التي تحث أهل الغفلة على التشمير للسير فإذا جد في المسير استغنى بقربه وجمعيته عنها.
ومنهم: من لا يرى سقوطها إلا عمن شهد الحقيقة الكونية ووصل إلى مقام الفناء فيها فمن كان هذا مشهده سقط عنه الأمر والنهي عندهم.
وقد يقولون: شهود إلإرادة يسقط الأمر وفي هذا المشهد يقولون: العارف لايستقبح قبيحة ولا يستحسن حسنة.
ويقول قائلهم: العارف لا ينكر منكرا لإستبصاره بسر الله في القدر.
ويقولون: القيام بالعبادة مقام التلبيس ويحتجون بقوله تعالى 6:9 {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}.
وهذا من أقبح الجهل فإن هذا داخل في جواب (لو) التي ينتفي بها الملزوم وهو المقدم لإنتفاء اللازم وهو الجواب وهو التالي فانتفاء جعل الرسول ملكا كما اقترحوه لإنتفاء التلبيس من الله عليهم والكفار كانوا قد قالوا 6:8 { لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَك} أن أي نعاينه ونراه وإلا فالملك لم يزل يأتيه من عند الله بأمره ونهيه فهم اقترحوا نزول ملك يعاينونه فأخبرسبحانه عن الحكمة التي لأجلها لم يجعل رسوله إليهم من الملائكة ولا أنزل ملكا يرونه فقال 6:8 { وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} أي لوجب العذاب وفرغ من الأمر ثم لا يمهلون إن أقاموا علىالتكذيب.
وهذا نظير قوله في سورة الحجر 15:6، 8 {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قال الله عز وجل {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} والحق ههنا العذاب ثم قال 6:9 {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} أي لو أنزلنا عليهم(1/245)
ملكا لجعلناه في صورة آدمي إذ لا يستطيعون التلقي عن الملك في صورته التي هو عليها وحيئنذ فيقع اللبس منا عليهم لأنهم لا يدرون: أرجل هو أم ملك؟ ولو جعلناه رجلا لخلطنا عليهم وشبهنا عليهم الذي طلبوه بغيره.
وقوله: "ما يلبسون" فيه قولان.
أحدهما: أنه جزاء لهم على لبسهم على ضعفائهم والمعنى: أنهم شبهوا على ضعفائهم ولبسوا عليهم الحق بالباطل فشبه عليهم وتلبس عليهم الملك بالرجل.
والثاني: أنا نلبس عليهم ما لبسوا على أنفسهم وأنهم خلطوا على أنفسهم ولم يؤمنوا بالرسول منهم بعد معرفتهم صدقه وطلبوا رسولا ملكيا يعاينونه وهذا تلبيس منهم على أنفسهم فلو أجبناهم إلى ما اقترحوه لم يؤمنوا عنده وللبسنا عليهم لبسهم على أنفسهم.
وأي تعلق لهذا بالتلبيس الذي ذكرته هذه الطائفة من تعليق الكائنات والمثوبات والعقوبات بالأسباب وتعليق المعارف بالوسائط والقضايا بالحجج والأحكام والعلل والإنتقام بالجنايات والمثوبات بالطاعات مما هو محض الحكمة وموجبها.
وأثر اسمه (الحكيم) في الخلق والأمر: إنما قام بالأسباب وكذلك الدنيا والآخرة وكذلك الثواب والعقاب فجعل الأسباب منصوبة للتلبيس من أعظم الباطل شرعا وقدرا.
وإن الذي أوقع هؤلاء في هذا الغلو: هو نفرتهم من أرباب الفرق الأول ومشاهدتهم قبح ما هم عليه.
وهم لعمر الله خير منهم مع ما هم عليه فإنهم مقرون بالجمع والفرق وأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه فرق بين المأمور والمحظور والمحبوب والمكروه وإن كانوا كثيرا ما يفرقون بأهوائهم ونفوسهم فهم في فرقهم النفسي خير من أهل هذا الجمع إذ هم(1/246)
مقرون أن الله يأمر بالحسنات ويحبها وينهى عن السيئات ويبغضها وإذا فرقوا بحسب أهوائهم وفرقوا بنفوسهم لم يجعلوا هذا الفرق دينا يسقط عنهم أمر الله ونهيه بل يعترفون أنه ذنب قبيح وأنهم مقصرون بل مفرطون في الفرق الشرعي ونهاية ما معهم: صحة إيمان مع غفلة وفرق نفساني وأولئك معهم جمع وشهود يصحبه فساد إيمان وخروج عن الدين.
ومن العجب: أنهم فروا من فرق أولئك النفسي إلى جمع أسقط التفرقة الشرعية ثم آل أمرهم إلى أن صار فرقهم كله نفسيا فهم في الحقيقة راجعون إلى فرقهم ولا بد فإن الفرق أمر ضروري للإنسان ولا بد فمن لم يفرق بالشرع فرق بالنفس والهوى فهم أعظم الناس اتباعا لأهوائهم يميلون مع الهوى حيث مال بهم ويزعمون أنه الحقيقة.
وبالجملة: فلهذا السلوك لوازم عظيمة البطلان منافية للإيمان جالبة للخسران 50:60 {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
وآخر أمر صاحبه: الفناء في شهود الحقيقة العامة المشتركة بين الأبرار والفجار وبين الملائكة والشياطين وبين الرسل وأعدائهم وهي الحقيقة الكونية القدرية ومن وقف معها ولم يصعد إلى الفرق الثاني وهو الحقيقة الدينية النبوية فهو زنديق كافر.
فصل
ومنهم: من لم ير إسقاط الفرق الثاني جملة بل إنما يسقطه عن الواصل إلى عين الجمع الشاهد للحقيقة وما دام سالكا أو محجوبا عن شهود الحقيقة: فالفرق لازم له.
وهؤلاء أيضا من جنس الفريق الأول بل هم خواصهم فإذا وصل واصلهم إلى شهود حقيقة الجمع: لم يجب عليه القيام بتفرقة الأوامر وإن قام بها فلحفظ(1/247)
المرتبة وضبط الناموس وحفظ السالكين عن الذهاب مع الفرق الطبيعي قبل شهودهم الحقيقة ويسمون هذه الحال (تلبيسا) وقد تقدم ذكره.
وسيأتي إن شاء الله تعالى كشف هذا (التلبيس) الذي يشيرون إليه كشفا بينا وقد تقدم أنهم يحتجون على سقوط الفرق عمن شهد الحقيقة بقوله تعالى 15:99 {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
ويقولون: إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان في هذا المقام وإنما كان في قيامه بالأعمال تشريعا وقد ذكرنا أن (اليقين) الموت وأنه من المعلوم بالإضطرار من دين الإسلام: أن الأوامر والنواهي لا تسقط عن العبد ما دام في دار التكليف إلا إذا زال عقله وصار مجنونا.
فصل
ومنهم: من يرى القيام بالأوامر والنواهي واجبا إذا لم تفرق جمعيته فإذا فرقت جمعيته رأى الجمعية أوجب منها فيزعم أنه يترك واجبا لما هو أوجب منه وهذا أيضا جهل وضلال.
فإن رأى أن الأمر لم يتوجه إليه من حال الجمعية فهو كافر وإن علم توجهه إليه وأقدم على تركه فله حكم أمثاله من العصاة والفساق.
فصل
ومنهم: من يرى الأمر لا يسقط عنه ولكن إذا ورد عليه وارد الفناء والجمع غيب عقله واصطلمه فلم يشعر بوقت الواجب ولا حضوره حتى يفوته فيقضيه فهذا متى استدعى ذلك الفناء وطلبه فليس بمعذور في اصطلامه بل هو عاص لله في استدعائه ما يعرضه لإضاعة حقه وهو مفرط أمره إلى الله ومتى هجم عليه بغير استدعاء وغلب عليه مع مدافعته له خشية إضاعة الحق فهذا معذور وليس بكامل في حاله بل الكمال وراء ذلك وهو الإنتقال عن وادي الجمع(1/248)
والفناء والخروج عنه إلى أودية الفرق الثاني والبقاء فالشأن كل الشأن فيه وهو الذي كان ينادي عليه شيخ الطائفة على الإطلاق الجنيد بن محمد رحمه الله ووقع بينه وبين أصحاب هذا الجمع والفناء ما وقع لأجله فهجرهم وحذر منهم وقال عليكم بالفرق الثاني فإن الفرق فرقان الفرق الأول: وهو النفسي الطبيعي المذموم وليس الشأن في الخروج منه إلى الجمع والفناء في توحيد الربوبية والحقيقة الكونية بل الشأن في شهود هذا الجمع واستصحابه في الفرق الثاني وهو الحقيقة الدينية ومن لم يتسع قلبه لذلك فليترك جمعه وفناءه تحت قدمه ولينبذه وراء ظهره مشتغلا بالفرق الثاني والكمال أيضا وراء ذلك وهو شهود الجمع في الفرق والكثرة في الوحدة وتحكيم الحقيقة الدينية على الحقيقة الكونية فهذا حال العارفين الكمل:
يسقى ويشرب لا تلهيه سكرته ... عن النديم ولا يلهو عن الكاس
"إني لاسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة فأتجوز فيها كراهة أن أشق على أمه" وكان صلى الله عليه وسلم في صلاته واشتغاله بالله وإقباله عليه يشعر بعائشة إذا استفتحت الباب فيمشي خطوات يفتح لها ثم يرجع إلى مصلاه و"ذكر في صلاته تبرا كان عنده فصلى ثم قام مسرعا فقسمه وعاد إلى مجلسه" فلم تشغله جمعيته العظمى التي لا يدرك لها من بعده رائحة عن هذه الجزيئات صلوات الله وسلامه عليه.
فصل
ومنهم: من يتمكن الإيمان والعلم من قلبه فإذا جاء الأمر قام إليه وبادر بجمعيته فإن صحبته وإلا طرحها وبادر إلى الأمر وعلم أنه لا يسعه غير ذلك وأن الجمعية فضل والأمر فرض ومن ضيع الفروض للفضول حيل بينه وبين الوصول لكن إذا جاءت المندوبات التي هي محل الأرباح والمكاسب(1/249)
العظيمة والمصالح الراجحة من عيادة المريض واتباع الجنازة والجهاد المستحب وطلب العلم النافع والخلطة التي ينتفع بها وينفع غيره ولم يؤثرها على جمعيته إذا رأى جمعيته خيرا له وأنفع منها فهذا غير آثم ولا مفرط إلا إذا تركها رغبة عنها بالكلية واستبدالا بالجمعية فهذا ناقص.
أما إذا قام بها أحيانا وتركها أحيانا لإشتغاله بجمعيته فهذا غير مذموم بل هذا حقيقة الإعتكاف المشروع وهو جمعية العبد على ربه وخلوته به وكان النبي صلى الله عليه وسلم "يحتجر بحصير في المسجد في اعتكافه يخلو به مع ربه عز وجل" ولم يكن يشتغل بتعليم الصحابة وتذكيرهم في تلك الحال ولهذا كان المشهور من مذهب أحمد وغيره: أنه لا يستحب للمعتكف إقراء القرآن والعلم وخلوته للذكر والعبادة أفضل له واحتجوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
فصل
وأكمل من هؤلاء: من إذا جاءه تفرقة الأمر ورآها أرجح من مصلحة الجمعية ولم يمكنه الجمع في التفرقة: اشترى الفاضل بالمفضول والراجح بالمرجوح فإذا كان المندوب مفضولا مرجوحا والجمع خيرا منه: اشتغل بالجمع عنه فهذا أعلى الأقسام والرجل كل الرجل من يرد من تفرقته على جمعه ومن جمعه على تفرقته فيقوي كل واحد منهما بالآخر ولا يلغى الحرب بينهما فإذا جاءت تفرقة الأمر جد فيها وقام بها لجمعيته مقويا لها بالأمر فإذا جاءت حالة الجمعية تقوى بها على تفرقة الأمر والبقاء به فيرد من هذا على هذا ومن هذا على هذا فإذا جاءت تفرقة الأمر قال: "أتفرق لله ليجمعني عليه" وإذا جاءت الجمعية قال: "أجتمع لأتقوى على أمر الله ورضاه لا لمجرد حظي ولذتي من هذه الجمعية" فما أكثر من يغيب بحظه منها ولذتها ونعيمها وطيبها عن مراد الله منه.
فتدبر هذا الفصل وأحط به علما فإنه من قواعد السلوك والمعرفة وكم قد(1/250)
زلت فيه من أقدام وضلت فيه من أفهام ومن عرف ما عند الناس ونهض من مدينة طبعه إلى السير إلى الله عرف مقداره فمن عرفه عرف مجامع الطرق ومفترق الطرق التي تفرقت بالسالكين وأهل العلم والنظر والله سبحانه الموفق للصواب.
فصل
أصل ذلك كله: هو الفرق بين محبة الله ورضاه ومشيئته وإرادته الكونية ومنشأ الضلال في هذا الباب: من التسوية بينهما أو اعتقاد تلازمهما فسوى بينهما الجبرية والقدرية وقالوا: المشيئة والمحبة سواء أو متلازمان.
ثم اختلفوا فقالت الجبرية: الكون كله قضاؤه وقدره طاعته ومعاصيه خيره وشره فهو محبو به.
ثم من تعبد منهم وسلك على هذا الإعتقاد: رأى أن الأفعال جميعها محبوبة للرب إذ هي صادرة عن مشيئته وهي عين محبته ورضاه وفنى في هذا الشهود الذي كان اعتقادا ثم صار مشهدا فلزم من ذلك ما تقدم من أنه لا يستقبح سيئة ولا يستنكر منكرا وتلك اللوازم الباطلة المنافية للشرائع جملة.
ولما ورد على هؤلاء قوله تعالى 2:205 {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 39:7 {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وقوله 17:38 {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} واعتاص عليهم كيف يكون مكروها له وقد أراد كونه وكيف لا يحبه وقد أراد وجوده أولوا هذه الآيات ونحوها بأنه لا يحبها دينا ولا يرضاه شرعا ويكرهها كذلك بمعنى أنه لا يشرعها مع كونه يحب وجودها ويريده.
فشهدوا في مقام الفناء كونها محبوبة الوجود ورأوا أن المحبة تقتضي موافقةالمحبوب المحبوب فيما يحبه والكون كله محبوبه فأحبوا بزعمهم جميع ما في الكون وكذبوا وتناقضوا فإنما أحبوا ما تهواه نفوسهم وإرادتهم فإذا كان في الكون(1/251)
مالا يلائم أحدهم ويكرهه طبعه أبغضه ونفر منه وكرهه مع كونه مرادا للمحبوب فأين الموافقة وإنما وافقوا أهواءهم وإراداتهم.
ثم بنوا على ذلك أنهم مأمورون بالرضاء بالقضاء وهذه قضاء من قضائه فنحن نرضى بها فمالنا ولإنكارها ومعاداة فاعلها ونحن مأمورون بالرضا بالقضاء فتركب من اعتقادهم كونها محبوبة للرب وكونهم مأمورين بالرضا بها والتسوية بين الأفعال وعدم استقباح شيء منها أو إنكاره.
وانضاف إلى ذلك اعتقادهم جبر العبد عليها وأنها ليست فعله.
فلزم من ذلك: رفع الأمر والنهي وطي بساط الشرع والإستسلام للقدر والذهاب معه حيث كان وصارت لهم هذه العقائد مشاهد وكل أحد إذا ارتاض وصفا باطنه: تجلى له فيه صورة معتقدة فهو يشاهدها بقلبه فيظنها حقا فهذا حال هذه الطائفة.
وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له فليست مقدرة له ولا مقضية فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
قالوا: "ونحن مأمورون بالرضا بالقضاء ومأمورون بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها فليست إذا بقضاء الله إذ الرضا والقضاء متلازمان كما أن محبته ومشيئته متلازمان أو متحدان".
وهؤلاء لا يجيء من سالكيهم وعبادهم ما جاء من سالكي الجبرية وعبادهم ألبتة لمنافاة عقائدهم لمشاهد أولئك وعقائدهم بل غايتهم التعبد والورع وهم في تعظيم الذنوب والمعاصي خير من أولئك وأولئك قد يكونون أقوى حالا وتأثيرا منهم.
فمنشأ الغلط: التسوية بين المشيئة والمحبة واعتقادهم وجوب الرضا بالقضاء ونحن نبين ما في الفصلين إن شاء الله تعالى فإن القوة لله جميعا.(1/252)
فصل
فأما المشيئة والمحبة: فقد دل على الفرق بينهما القرآن والسنة والعقل والفطرة وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى 4:107 {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فقد أخبر أنه لا يرضى بما يبيتونه من القول المتضمن البهت ورمى البريء وشهادة الزور وبراءة الجاني فإن الآية نزلت في قصة هذا شأنها مع أن ذلك كله بمشيئته إذ أجمع المسلمون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ يكن ولم يخالف في ذلك إلا القدرية المجوسية الذين يقولون يشاء مالا يكون ويكون مالا يشاء.
وتأويل من تأول الآية على أنه لا يرضاه دينا مع محبته لوقوعه: مما ينبغي أن يصان كلام الله عنه إذ المعنى عندهم أنه محبوب له ولكن لا يثاب فاعله عليه فهو محبوب بالمشيئة غير مثاب عليه شرعا.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها: أنه مسخوط للرب مكروه له قدرا وشرعا مع أنه وجد بمشيئته وقضائه فإنه يخلق ما يحب وما يكره وهذا كما أن الأعيان كلها خلقه وفيها ما يبغضه ويكرهه كإبليس وجنوده وسائر الأعيان الخبيثة وفيها ما يحبه ويرضاه كأنبيائه ورسله وملائكته وأوليائه وهكذا الأفعال كلها خلقه ومنها ما هو محبوب له وما هو مكروه له خلقه لحكمة له في خلق ما يكره ويبغض كالأعيان وقال تعالى 2:207 {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} مع أنه بمشيئته وقضائه وقدره وقال تعالى 39:7 {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فالكفر والشكر واقعان بمشيئة وقدره وأحدهما محبوب له مرضي والآخر مبغوض له مسخوط.
وكذلك قوله عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر(1/253)
17:38 {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} فهو مكروه له مع وقوعه بمشئته وقضائه وقدره.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " فهذه كراهة لموجود تعلقت به المشيئة.
وفي المسند: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته" فهذه محبة وكراهة لأمرين موجودين اجتمعا في المشيئة وافترقا في المحبة والكراهة وهذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يذكر جميعه.
وقد فطر الله عباده على قولهم: هذا الفعل يحبه الله وهذا يكرهه الله ويبغضه وفلان يفعل مالا يحبه الله والقرآن مملوء بذكر سخطه وغضبه على أعدائه وذلك صفة قائمة به ويترتب عليها العذاب واللعنة لا أن السخط هو نفس العذاب واللعنة بل هما أثر السخط والغضب وموجبهما ولهذا يفرق بينهما كما قال تعالى 4:92 {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} ففرق بين عذابه وغضبه ولعنته وجعل كل واحد غير الآخر.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك".
فتأمل ذكر استعاذته صلى الله عليه وسلم بصفة (الرضا) من صفة (السخط) وبفعل (المعافاة) من فعل (العقوبة) فالأول: للصفة والثاني: لأثرها المترتب عليها ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره فما أعوذ منه: واقع بمشيئتك وإرادتك وما أعوذ به: من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه فإعادتي مما أكره وأحذر ومنعه أن يحل بي: هو بمشيئتك أيضا فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك فعياذي بك منك: عياذي بحولك وقوتك(1/254)
وقدرتك ورحمتك وإحسانك مما يكون بحولك وقوتك وقدرتك وعدلك وحكمتك فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ولا أستعيذ إلا بك من شيء هو صادر عن مشيئتك وخلقك بل هو منك ولا أستعيذ بغيرك من شيء هو صادر عن مشيئتك وقضائك بل أنت الذي تعيذني بمشيئتك مما هو كائن بمشيئتك فأعوذ بك منك.
ولا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته.
وأشرنا إلى شيء يسير من معناها ولو استقصينا شرحها لقام منه سفر ضخم ولكن قد فتح لك الباب فإن دخلت رأيت عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
والمقصود: أن انقسام الكون في أعيانه وصفاته وأفعاله إلى محبوب للرب مرضى له ومسخوط مبغوض له مكروه له: أمر معلوم بجميع أنواع الأدلة من العقل والنقل والفطرة والإعتبار فمن سوى بين ذلك كله فقد خالف فطرة الله التي فطر عليها عباده وخالف المعقول والمنقول وخرج عما جاءت به الرسل.
ولأي شيء نوع الله سبحانه العقوبات البليغة في الدنيا والآخرة وأشهد عباده منها ما أشهدهم؟ لولا شدة غضبه وسخطه على الفاعلين لما اشتدت كراهته وبغضه له فأوجبت تلك الكراهة والبغض منه: وقوع أنواع المكاره بهم كما أن محبته لما يحبه من الأفعال ويرضاه: أوجبت وقوع أنواع المحاب لمن فعلها وشهود ما في العالم من إكرام أوليائه وإتمام نعمه عليهم ونصرهم وإعزازهم وإهانة أعدائه وعقوبتهم وإيقاع المكاره بهم: من أدل الدليل على حبه وبغضه وكراهته بل نفس موالاته لمن والاه ومعاداته لمن عاداه: هي عين محبته وبغضه فإن الموالاة أصلها الحب والمعاداة أصلها البغض فإنكار صفة (المحبة والكراهة) إنكار لحقيقة (الموالاة والمعاداة).
وبالجملة: فشهود القلوب لمحبته وكراهته كشهود العيان لكرامته وإهانته.(1/255)
فصل
وأما حديث الرضا بالقضاء فيقال:
أولا: بأي كتاب أم بأي سنة أم بأي معقول: علمتم وجوب الرضا بكل ما يقضيه ويقدره؟ بل بجواز ذلك فضلا عن وجوبه؟ هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأدلة العقول ليس في شيء منها الأمر بذلك ولا إباحته.
بل من المقضي ما يرضى به ومنه ما يسخطه ويمقته فلا نرضى بكل قضاء كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه بل من القضاء ما يسخطه كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت عليه ويلعن ويذم.
ويقال ثانيا ها هنا أمران (قضاء) وهو فعل قائم بذات الرب تعالى و(مقضيّ) وهو المفعول المنفصل عنه فالقضاء خير كله وعدل وحكمة فيرضى به كله والمقضي قسمان منه ما يرضى به ومنه مالا يرضى به.
وهذا جواب من يقول: الفعل غير المفعول والقضاء غير المقضى.
وأما من يقول: إن الفعل هو عين المفعول والقضاء هو عين المقضي فلا يمكنه أن يجيب بهذا الجواب.
ويقال ثالثا: القضاء له وجهان.
أحدهما: تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه فمن هذا الوجه يرضى به كله.
الوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى مالا يرضى به.
مثال ذلك: قتل النفس مثلا له اعتباران فمن حيث إنه قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلا للمقتول ونهاية لعمره يرضى به ومن حيث إنه صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه بإختياره وعصى الله بفعله: يسخطه ولا يرضى به.
فهذه نهاية أقدام العالم المقرين بالنبوات في هذه المسألة ومفترق طرقهم.(1/256)
قد حصرت لك أقوالهم ومآخذهم وأصول تلك الأقوال بحيث لا يشذ منها شيء وبالله التوفيق.
ولا تنكر الإطالة في هذا الموضع فإنه مزلة أقدام الخلق وما نجا من معاطبه إلا أهل البصائر والمعرفة بالله وصفاته وأمره وشرائعه.
فصل
ثم قال صاحب المنازل:
"فتوبة العامة: الاستكثار من الطاعة وهو يدعو إلى جحود نعمة الستر والإمهال ورؤية الحق على الله والإستغناء الذي هو عين الجبروت والتوثب على الله".
(العامة) عندهم: من عدا باب الجمع والفناء وإن كانوا أهل سلوك وإرادة وعلم هذا مرادهم بالعامة ويسمونهم أهل الفرق ويسميهم غلاتهم (المحجوبين).
ومراده: أن توبتهم مدخولة عند الخواص منقوصة فإن توبتهم من استكثارهم لما يأتون به من الحسنات والطاعات أي رؤيتهم كثرتها وذلك يتضمن ثلاث مفاسد عند الخاصة.
إحداها: أن حسناتهم التي يأتون بها: سيئات بالنسبة إلى مقام الخاصة فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين فهم محتاجون إلى التوبة من هذه الحسنات فلغفلتهم بإستكثارها عن عيوبها ورؤيتها وملاحظتها هم جاحدون نعمة الله في سترها عليهم وإمهالهم كستره على أهل الذنوب الظاهرة تحت ستره وإمهالهم كستره على أهل الذنوب الظاهرة تحت ستره وإمهاله لكن أهل الذنوب مقرون بستره وإمهاله وهؤلاء جاحدون لذلك لأنهم قد توفرت هممهم على استكثارهم من الحسنات دون مطالعة عيب النفس والعمل والتفتيش على دسائسهما وأن الحامل لهم على استكثارها رؤيتها والإعجاب بها ولو تفرغوا لتفتيشها ومحاسبة النفس عليها والتمييز بين ما فيها من الحظ والحق لشغلهم ذلك على استكثارها ولأجل هذا كان من عدم الحضور والمراقبة والجمعية(1/257)
في العمل خف عليه واستكثر منه فكثر في عينه وصار بمنزلة العادة فإذا أخذ نفسه بتخليصها من الشوائب وتنقيتها من الكدر وما في ذلك من شوك الرياء وشبرق الإعجاب وجمعية القلب والهم على الله بكليته وجد له ثقلا كالجبال وقل في عينه ولكن إذا وجد حلاوته سهل عليه حمل أثقاله والقيام بأعبائه والتلذذ والتنعم به مع ثقله.
وإذا أردت منهم هذا القدر كما ينبغي فانظر وقت أخذك في القراءة إذا أعرضت عن واجبها وتدبرها وتعقلها وفهم ما أريد بكل آية وحظك من الخطاب بها وتنزيلها على أدواء قلبك والتقيد بها كيف تدرك الختمة أو أكثرها أو ما قرأت منها بسهولة وخفة مستكثرا من القراءة فإذا ألزمت نفسك التدبر ومعرفة المراد والنظر إلى ما يخصك منه والتعبد به وتنزيل دوائه على أدواء قلبك والإستشفاء به لم تكد تجوز السورة أو الآية إلى غيرها وكذلك إذا جمعت قلبك كله على ركعتين أعطيتهما ما تقدر عليه من الحضور والخشوع والمراقبة لم تكد أن تصلي غيرهما إلا بجهد فإذا خلا القلب من ذلك عددت الركعات بلا حساب فالإستكثار من الطاعات دون مراعاة آفاتها وعيوبها ليتوب منها هي توبة العامة.
المفسدة الثانية: رؤية فاعلها أن له حقا على الله في مجازاته على تلك الحسنات بالجنات والنعيم والرضوان ولهذا كثرت في عينه مع غفلته عن أعماله ولو كانت أعمال الثقلين لا تستقل بدخول الجنة ولا بالنجاة من النار وأنه لن ينجو أحد ألبتة من النار بعمله إلا بعفو الله ورحمته.
الثالثة: استشعارهم الإستغناء عن مغفرة الله وعفوه بما يشهدون من استحقاق المغفرة والثواب بحسناتهم وطاعاتهم فإن ظنهم أن حصول النجاة والثواب بطاعاتهم واستكثارهم منها لذلك وكثرتها في عيونهم إظهار للإستغناء عن مغفرة الله وعفوه وذلك عين الجبروت والتوثب على الله.(1/258)
ولا ريب أن مجرد القيام بأعمال الجوارح من غير حضور ولا مراقبة ولا إقبال على الله قد يتضمن تلك المفاسد الثلاث وغيرها مع أنه قليل المنفعة دينا وأخرى كثير المؤنة فهو كالعمل على غير متابعة الأمر والإخلاص للمعبود فإنه وإن كثر متعب غير مفيد فهكذا العمل الخارجي القشوري بمنزلة النخالة الكثيرة المنظر القليلة الفائدة فإن الله لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها.
وهكذا ينبغي أن يكون سائر الأعمال التي يؤمر بالحضور فيها والخشوع كالطواف وأعمال المناسك ونحوها.
فإن انضاف إلى ذلك إحسان ظنه بها واستكثارها وعدم التفاته إلى عيوبها ونقائصها والتوبة إلى الله واستغفاره منها: جاءت تلك المفاسد التي ذكرها وما هو أكثر منها.
وقد ظن بعض الشارحين لكلامه: أن مراده: الإزراء بالاستكثار من الطاعات وأن مجرد الفناء والشهود والاستغراق في حضرة المراقبة خير منها وأنفع وهذا باطل وكذب عليه وعلى الطريقة والحقيقة.
ولا ريب أن هذه طريقة المنحرفين من السالكين وهو تعبد بمراد العبد وحظه من الله وتقديم له على مراد الله ومحابه من العبد.
فإن للعبد حظا وعليه حقا فحق الله عليه: تنفيذ أوامره والقيام بها والاستكثار من طاعاته بحسب الإمكان والاشتغال بمحاربة أعدائه ومجادلتهم ولو فرق ذلك جمعيته وشتت حضوره فهذا هو العبودية التي هي مراد الله.(1/259)
وأما الجمعية والمراقبة والاستغراق في الفناء وتعطيل الحواس والجوارح عن إرسالها في الطاعات والاستكثار منها: فهذا مجرد حظ العبد ومراده وهو بلا شك أنعم وألذ وأطيب من تفرقة الاستكثار من الطاعات لا سيما إذا شهدوا تفرقة المستكثرين منها وقلة نصيبهم من الجمعية فإنهم تشتد نفرتهم منهم ويعيبون عليهم ويزرون بهم وقد يسمون من رأوه كثير الصلاة (ثقاقيل الحصر) ومن رأوه كثير الطواف (حمر المدار) ونحو ذلك.
وقد أخبرنى من رأى ابن سبعين قاعدا في طرف المسجد الحرام وهو يسخر من الطائفين ويذمهم ويقول: كأنهم الحمر حول المدار ونحو هذا وكان يقول: إقبالهم على الجمعية أفضل لهم.
ولا ريب أن هؤلاء مؤثرون لحظوظهم على حقوق ربهم واقفون مع أذواقهم ومواجيدهم فانين بها عن حق الله ومراده.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكي عن بعض العارفين أنه قال: "العامة تعبدون الله وهؤلاء يعبدون نفوسهم".
وصدق رحمه الله فإن هؤلاء المستكثرين من الطاعات الذائقين لروح العبادة الراجين ثوابها قد رفع لهم علم الثواب وأنه مسبب عن الأعمال فشمروا إليه راجين أن تقبل منهم أعمالهم على عيبها ونقصها بفضل الله خائفين أن ترد عليهم إذ لا تصلح لله ولا تليق به فيردها بعدله وحقه فهم مستكثرون بجهدهم(1/260)
من طاعاته بين خوفه ورجائه والإزراء على أنفسهم والحرص على استعمال جوارحهم في كل وجه من وجوه الطاعات رجاء مغفرته ورحمته وطمعا في النجاة فهم يقاتلون بكل سلاح لعلهم ينجون.
قالوا: وأما ما أنتم فيه من الفناء ومشاهدة الحقيقة والقيومية والاستغراق في ذلك: فنحن في شغل عنه بتنفيذ أوامر صاحب الحقيقة والقيومية والاستكثار من طاعاته وتصريف الجوارح في مرضاته كما أنكم بفنائكم واستغراقكم فى شهود الحقيقة وحضرة الربوبية في شغل عما نحن فيه فكيف كنتم أولى بالله منا ونحن فى حقوقه ومراده منا وأنتم في حظوظكم ومرادكم منه؟.
قالوا: وقد ضرب لنا ولكم مثل مطابق لمن تأمله: بملك ادعى محبته مملوكان من مماليكه فاستحضرهما وسألهما عن ذلك؟ فقالا: أنت أحب شيء إلينا ولا نؤثر عليك غيرك فقال: إن كنتما صادقين فاذهبا إلى سائر مماليكي وعرفاهم بحقوقي عليهم وأخبراهم بما يرضيني عنهم ويسخطني عليهم وابذلا قواكما في تخليصهم من مساخطي ونفذا فيهم أوامرى واصبرا على أذاهم وعودا مريضهم وشيعا ميتهم وأعينا ضعيفهم بقوا كما وأموالكما وجاهكما ثم اذهبا إلى بلاد أعدائي بهذه الملطفات وخالطوهم وادعوهم إلى موالاتى واشتغلا بهم ولا تخافوهم فعندي من جندي وأوليائي من يكفيكما شرهم.
فأما أحد المملوكين: فقام مبادرا إلى امتثال أمره وبعد عن حضرته في طلب مرضاته.
وأما الآخر فقال له: لقد غلب على قلبي من محبتك والاستغراق في مشاهدة حضرتك وجمالك: ما لا أقدر معه على مفارقة حضرتك ومشاهدتك.
فقال له: إن رضائي في أن تذهب مع صاحبك فتفعل كما فعل وإن بعدت عن مشاهدتي.
فقال: لا أوثر على مشاهدتك والاستغراق فيك شيئا.(1/261)
فأيّ المملوكين أحب إلى هذا الملك وأحظى عنده وأخص به وأقرب إليه؟ أهذا الذي آثر حظه ومراده وما فيه لذته على مراد الملك وأمره ورضاه؟ أم ذلك الذي ذهب في تنفيذ أوامره وفرغ لها قواه وجوارحه وتفرق فيها في كل وجه فما أولاه أن يجمعه أستاذه عليه بعد قضاء أوامره وفراغه منها ويجعله من خاصته وأهل قربه ! وما أولى صاحبه بأن يبعده عن قربه ويحجبه عن مشاهدته ويفرقه عن جمعيته عليه ويبدله بالتفرقة التي هرب منها في تفرقة أمره تفرقة في هواه ومراده بطبعه وبنفسه.
فليتأمل اللبيب هذا حق التأمل وليفتح عين بصيرته ويسير بقلبه فينظر في مقامات العبيد وأحوالهم وهممهم ومن هو أولى بالعبودية ومن هو البعيد منها.
ولا ريب أن من أظهر الاستغناء عن الله وطاعاته وتوثب عليه وأورثته الطاعات جبروتا وحجبا عن رؤيته عيوب نفسه وعمله وكثرت حسناته فى عينه فهو أبغض الخلق إلى الله تعالى وأبعدهم عن العبودية وأقربهم إلى الهلاك لا من استكثر من الباقيات الصالحات ومن مثل ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم من سأله مرافقته في الجنة فقال: " أعنّى على نفسك بكثرة السجود " ومن قوله تعالى: 51 :17، 18 {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال الحسن: "مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد" وقال لمن سأله أن يوصيه بشيء يتشبث به: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله".
والدين كله استكثار من الطاعات وأحب خلق الله إليه: أعظمهم استكثارا منها.
وفي الحديث الصحيح الإلهي: "ما تقرب إلي عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه(1/262)
الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه".
فهذا جزاؤه وكرامته للمستكثرين من طاعته لا لأهل الفناء المستغرقين في شهود الربوبية.
وقال صلى الله عليه وسلم لآخر: "عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة"
فصل
وهذه الطريقة في الإرادة والطلب: نظير طريقة التجهم في العلم والمعرفة تلك تعطيل للصفات والتوحيد وهذه تعطيل للأمر والعبودية وانظر إلى هذا النسب والإخاء الذى بينهما كيف شرك بينهما نفي اللفظ كما شرك بينها فى المعنى فتلك طريقة النفي وهذه طريقة الفناء تلك نفى لصفات المعبود وهذه فناء عن عبوديته.
وأما نفي خواص العبيد وفناؤهم: فأمر وراء نفي أولئك وفنائهم لأن نفيهم لصفات النقائص وما يضاد أوصاف الكمال وفناءهم عن إرادة غيره ومحبته وخوفه ورجائه ففناؤهم عن كل ما يخالف أمره ومحابه ونفيهم لكل ما يضاد كماله وجلاله ومن له فرقان فهو يعرف هذا وهذا وغيره لا اعتبار به.
وصاحب المنازل رحمه الله كان شديد الإثبات للأسماء والصفات مضادا للجهمية من كل وجه وله كتاب (الفاروق) استوعب فيه أحاديث الصفات وآثارها ولم يسبق إلى مثله وكتاب (ذم الكلام وأهله) طريقته فيه أحسن طريقة وكتاب لطيف في أصول الدين يسلك فيه طريقة أهل(1/263)
الإثبات ويقررها وله مع الجهمية المقامات المشهودة وسعوا بقتله إلى السلطان مرارا عديدة والله يعصمه منهم ورموه بالتشبيه والتجسيم على عادة بهت الجهمية والمعتزلة لأهل السنة والحديث الذين لم يتحيزوا إلى مقالة غير ما دل عليه الكتاب والسنة.
ولكنه رحمه الله كانت طريقته في السلوك مضادة لطريقته في الأسماء والصفات فإنه لا يقدم على الفناء شيئا ويراه الغاية التي يشمر إليها السالكون والعلم الذي يؤمه السائرون واستولى عليه ذوق الفناء وشهود الجمع وعظم موقعه عنده واتسعت إشاراته إليه وتنوعت به الطرق الموصلة إليه علما وحالا وذوقا فتضمن ذلك تعطيلامن العبودية باديا على صفحات كلامه وزان تعطيل الجهمية لما اقتضته أصولهم من نفي الصفات.
ولما اجتمع التعطيلان لمن اجتمعا له من السالكين تولد منهما القول بوحدة الوجود المتضمن لإنكار الصانع وصفاته وعبوديته وعصم الله أبا إسماعيل باعتصامه بطريقة السلف في إثبات الصفات فأشرف من عقبة الفناء على وادى الاتحاد بأرض الحلول فلم يسلك فيها ولوقوفه على عقبته وإشرافه على تلك الربوع الخراب ودعوة الخلق أقسمت إلى الوقوف على تلك العقبة الاتحادية بالله جهد أيمانهم: إنه لمعهم ومنهم وحاشاه.
وتولى شرح كتابه أشدهم في الاتحاد طريقة وأعظمهم فيه مبالغة وعنادا لأهل الفرق: العفيف التلمساني ونزل الجمع الذي يشير إليه صاحب المنازل(1/264)
على جمع الوجود وهو لم يرد به حيث ذكره إلا جمع الشهود ولكن الألفاظ مجملة وصادفت قلبا مشحونا بالاتحاد ولسانا فصيحا متمكنا من التعبير عن المراد {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فصل
قال: "وتوبة الأوساط: من استقلال العبد المعصية وهو عين الجرأة والمبارزة ومحض التزين بالحمية والاسترسال للقطيعة".
يريد: أن استقلال المعصية ذنب كما أن استكثار الطاعة ذنب والعارف من صغرت حسناته في عينه وعظمت ذنوبه عنده وكلما صغرت الحسنات فى عينك كبرت عند الله وكلما كبرت وعظمت في قلبك قلت وصغرت عند الله وسيئاتك بالعكس ومن عرف الله وحقه وما ينبغى لعظمته من العبودية: تلاشت حسناته عنده وصغرت جدا في عينه وعلم أنها ليست مما ينجو بها من عذابه وأن الذي يليق بعزته ويصلح له من العبودية: أمر آخر وكلما استكثر منها استقلها واستصغرها لأنه كلما استكثر منها فتحت له أبواب المعرفة بالله والقرب منه فشاهد قلبه من عظمته سبحانه وجلاله ما يستصغر معه جميع أعماله ولو كانت أعمال الثقلين وإذا كثرت في عينه وعظمت دل على أنه محجوب عن الله تعالى غير عارف به وبما ينبغي له وبحسب هذه المعرفة ومعرفته بنفسه يستكثر ذنوبه وتعظم في عينه لمشاهدته الحق ومستحقه وتقصيره في القيام به وإيقاعه على الوجه اللائق الموافق لما يحبه الرب ويرضاه من كل وجه.
إذا عرف هذا فاستقلال العبد المعصيته عين الجرأة على الله وجهل بقدر من عصاه وبقدر حقه وإنما كان مبارزة لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها وخفت على قلبه وذلك نوع مبارزة.
وأما قوله: "ومحض التزين بالحمية" أي بالمحاماة عن النفس وإظهار براءة ساحتها لا سيما إن انضاف إلى ذلك مشاهدة الحقيقة والاحتجاج بالقدر وقوله:(1/265)
وأي ذنب لي والمحرك لي غيري والفاعل في سواي وإنما أنا كالميت بين يدي الغاسل وما حيلة من ليس له حيلة وما قدرة من ليس له قدرة ونحو هذا مما يتضمن الجرأة على الله ومبارزته والمحاماة عن النفس واستصغار ذنوبه ومعاصيه إذا أضافها إلى الحكم فيسترسل إذا للقطيعة وهي المقاطعة لربه والانقطاع عنه فيصير خصما لله مع نفسه وشيطانه وهذا حال المحتجين بالقدر على الذنوب فإنهم خصماء الله عز وجل وهم مع الشياطين والنفوس على الله وهذا غاية البعد والطرد والانقطاع عن الله؟.
فإن قلت: فكيف كانت توبة العامة من استكثار الطاعات؟ وتوبة من هم أخص منهم وأعلى درجة من استقلال المعصية وهلا كان الأمر بالضد؟.
قلت: الاوساط لما كانوا أشد طلبا لعيوب النفس والعمل وأكثر تفتيشا عليها: انكشف لهم من ذنوبهم ومعاصيهم ما لم ينكشف للعامة إذ حرص العامة على الاستكثار من الطاعات ولذلك كثرت في أعينهم وحرص هؤلاء على تنقية أنفسهم من الآفات والتفتيش على عيوب الأعمال فاستقلال السيئات آفة هؤلاء وقاطع طريقهم واستكثار الحسنات وعظمها في قلوب أولئك آفتهم وقاطع طريقهم فذكر ما هو الأخص الأغلب على كل واحدة من الطائفتين.
فصل
قال: "وتوبة الخواص: من تضييع الوقت فإنه يفضي إلى درك النقيصة ويطفىء نور المراقبة ويكدر عين الصحبة".
ليس مراده بتضييع الوقت: إضاعته في الاشتغال بمعصية أو لغو أو الإعراض عن واجبه وفرضه فإنهم لو أضاعوه بهذا المعنى لم يكونوا من الخواص بل هذه توبة العامة بعينها و (الوقت) عند القوم: أخص منه في لغة العرب حتى إن منهم من يقول: "الوقت: هو الحق" ومنهم من يقول: "استغراق رسم العبد في وجود الحق" يشيرون إلى الفناء فى حضرة الجمع والغالب على اصطلاحهم: أنه(1/266)
من الإقبال على الله بالمراقبة والحضور والفناء فى الوحدانية ويقولون: هو صاحب وقت مع الله فخصوا (الوقت) بهذا الاسم تخصيصا للفظ العام ببعض أفراده وإلا فكل من هو مشغول بأمر يعنى به فان في شهوده وطلبه: فله وقت معه بل أوقاته مستغرقة فيه.
فتوبة هؤلاء من إضاعة هذا الوقت الخاص الذي هو وقت وجد صادق وحال صحيحة مع الله تعالى لا يكدرها الأغيار.
وربما يمر بك إشباع القول في (الوقت) والفرق بين الصحيح منه والفاسد فيما بعد إن شاء الله.
والقصد: أن إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلى درك النقيصة إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال فإذا أضاعه لم يقف موضعه بل ينزل إلى درجات من النقص فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد فالعبد سائر لا واقف فإما إلى فوق وإما إلى أسفل إما إلى أمام وإما إلى وراء وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف ألبتة ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار فمسرع ومبطىء ومتقدم ومتقدم ومتأخر وليس في الطريق واقف ألبتة وإنما يتخالفون فى جهة المسير وفي السرعة والبطء 74 :35، 37 {إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} ولم يذكر واقفا إذ لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين ألبتة فمن لم يتقدم إلى هذه الآعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة.
فإن قلت: كل مجد في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور ثم ينهض إلى طلبه.
قلت: لا بد من ذلك ولكن صاحب الوقفة له حالان: إما أن يقف ليجم نفسه ويعدها للسير فهذا وقفته سير ولا تضره الوقفة فإن "لكل عمل شرة ولكل شرة فترة".(1/267)
وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه وجاذب جذبه من خلفه فإن أجابه أخره ولا بد فإن تداركه الله برحمته وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره: نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع ووثب وجمز واشتد سعيا ليلحق الركب وإن استمر مع داعي التأخر وأصغى إليه لم يرض برده إلى حالته الأولى من الغفلة وإجابة داعي الهوى حتى يرده إلى أسوأ منها وأنزل دركا وهو بمنزلة النكسة الشديدة عقيب الإبلال من المرض فإنها أخطر منه وأصعب.
وبالجملة: فإن تدارك الله سبحانه وتعالى هذا العبد بجذبة منه من يد عدوه وتخليصه وإلا فهو في تأخر إلى الممات راجع القهقرى ناكص على عقيبه أو مول ظهره ولا قوة إلا بالله والمعصوم من عصمه الله.
وقوله: "ويطفىء نور المراقبة".
يعني أن المراقبة تعطي نورا كاشفا لحقائق المعرفة والعبودية وإضاعة الوقت تغطي ذلك النور وتكدر الصحبة مع الله فإن صاحب الوقت مع صحبة الله وله مع الله معية خاصة بحسب حفظه وقته مع الله فإن كان مع الله كان الله معه فإذا أضاع وقته كدر عين هذه المعية الخاصة وتعرض لقطع هذه الصحبة فلا شيء أضر على العارف بالله من إضاعة وقته مع الله ويخشى عليه إن لم يتداركه بالرجوع: أن تستمر الإضاعة إلى يوم القيامة فتكون حسرته وندامته أعظم من حسرة غيره وندامته وحجابه عن الله أشد من حجاب من سواه ويكون حاله شبيها بحال قوم يؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا عاينوها وشاهدوا ما فيها صرفت وجوههم عنها إلى النار فإذن توبة الخواص تكون من تضييع أوقاتهم مع الله التي تدعو إلى هذه الأمور.
فصل
وفوق هذا مقام آخر من التوبة أرفع منه وأخص لا يعرفه إلا الخواص المحبون الذين يستقلون في حق محبوبهم جميع أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم فلا(1/268)
يرونها قط إلا بعين النقص والإزراء عليها ويرون شأن محبوبهم أعظم وقدره أعلى من أن يرضوا نفوسهم وأعمالهم له فهم أشد شيء احتقارا لها وإزراء بها وإذا غفلوا عن مراد محبوبهم منهم ولم يوفوه حقه: تابوا إليه من ذلك توبة أرباب الكبائر منها فالتوبة لا تفارقهم أبدا وتوبتهم لون وتوبة غيرهم لون 12 :76 {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وكلما ازدادوا حبا له ازدادوا معرفة بحقه وشهودا لتقصيرهم فعظمت لذلك توبتهم ولذلك كان خوفهم أشد وإزراؤهم على أنفسهم أعظم وما يتوب منه هؤلاء قد يكون من كبار حسنات غيرهم.
وبالجملة: فتوبة المحبين الصادقين العارفين بربهم وبحقه: هي التوبة وسواهم محجوب عنها وفوق هذه توبة أخرى الأولى بنا الإضراب عنها صفحا.
فصل
قال صاحب المنازل: "ولا يتم مقام التوبة إلا بالانتهاء إلى التوبة مما دون الحق ثم رؤية علة التوبة ثم التوبة من رؤية تلك العلة".
التوبة مما دون الله: أن يخرج العبد بقلبه عن إرادة ما سوى الله تعالى فيعبده وحده لا شريك له بأمره وباستعانته فيكون كله له وبه.
وهذا أمر لا يصح إلا لمن استولى عليه سلطان المحبة فامتلأ قلبه من الله محبة له وإجلالا وتعظيما وذلا وخضوعا وانكسارا بين يديه وافتقارا إليه.
فإذا صح له ذلك بقيت عليه عندهم بقية أخرى هي علة في توبته وهي شعوره بها ورؤيته لها وعدم فنائه عنها وذلك بالنسبة إلى مقامه وحاله ذنب فيتوب من هذه الرؤية.
فههنا ثلاثة أمور: توبته مما سوى الله ورؤيته هذه التوبة وهي علتها وتوبته من رؤية تلك الرؤية وهذا عند القوم الغاية التي لا شيء بعدها والنهاية(1/269)
التي لا تكون إلا لخاصة الخاصة ولعمر الله إن رؤية العبد فعله واحتجابه به عن ربه ومشاهدته له: علة في طريقه موجبة للتوبة.
وأما رؤيته له واقعا بمنة الله وفضله وحوله وقوته وإعانته: فهذا أكمل من غيبته عنه: وهو أكمل من المقام الذي يشيرون إليه وأتم عبودية وأدعى للمحبة وشهود المنة إذ يستحيل شهود المنة على شيء لا شعور للشاهد به ألبتة.
والذي ساقهم إلى ذلك: سلوك وادي الفناء فى الشهود فلا يشهد مع الحق سببا ولا وسيلة ولا رسما ألبتة.
ونحن لا ننكر ذوق هذا المقام وأن السالك ينتهي إليه ويجد له حلاوة ووجدا ولذة لا يجدها لغيره ألبتة وإنما يطالب أربابه والمشمرون إليه بأمر وراءه وهو أن هذا هو الكمال وهو أكمل من حال من شهد أفعاله ورآها ورأى تفاصيلها مشاهدا لها صادرة عنه بمشيئة الله وإرادته ومعونته فشهد عبوديته مع شهود معبوده ولم يغب في شهود العبودية عن المعبود ولا بشهود المعبود عن العبودية فكلاهما نقص والكمال: أن تشهد العبودية حاصلة بمنة المعبود وفضله ومشيئته فيجتمع لك الشهودان فإن غبت بأحدهما عن الآخر فالمقام مقام توبة وهل في الغيبة عن العبودية إلا هضم لها؟.
والواجب: أن يقع التحاكم في ذلك إلى الله ورسوله وإلى حقائق الإيمان دون الذوق فإننا لا ننكر ذوق هذه الحال وإنما ننكر كونها أكمل من غيرها فأين الإشارة في القرآن أو في السنة أو في كلام سادات العارفين من الصحابة ومن تبعهم إلى هذا الفناء وأنه هو الكمال وأن رؤية العبد لفعله بالله وحوله وفضله وشهوده له كذلك: علة تجب التوبة منها؟.
وهذا القدر مما يصعب إنكاره على القوم جدا ويرمون منكره بأنه محجوب من أهل الفرق وأنه لم يصل إلى هذا المقام ولو وصل إليه لما أنكره وليس في(1/270)
شيء من ذلك حجة لتصحيح قولهم ولا جواب المطالبة فقد سألك هذا المحجوب عن مسألة شرعية وما ذكرتموه ليس بجواب لها.
ولعمر الله إنه يراكم محجوبين عن حال أعظم من هذه الحال ومقام أرفع منه وليس في مجرد الفناء والاستغراق في شهود القيومية وإسقاط الأسباب والعلل والحكم والوسائط كثير علم ولا معرفة ولا عبودية وهل المعرفة كل المعرفة والعبودية: إلا شهود الأشياء على ما هي عليه والقرآن كله مملوء من دعاء العباد إلى التفكر فى الآيات والنظر في أحوال المخلوقات ونظر الإنسان في نفسه وتفاصيل أحواله وأخص من ذلك: نظره فيما قدم لغده ومطالعته لنعم الله عليه بالإيمان والتوفيق والهداية وتذكر ذلك والتفكر فيه وحمد الله وشكره عليه وهذا لا يحصل مع الفناء حتى عن رؤية الرؤية وشهود الشهود.
ثم إن هذا غير ممكن ألبتة فإنكم إذا جعلتم رؤيته لتوبته علة يتوب منها فإن رؤيته لتلك الرؤية أيضا علة توجب عليه توبة وهلم جرا فلا ينتهي الأمر إلا بسقوط التمييز جملة والسكر والطمس المنافي للعبودية فضلا عن أن يكون غاية للعبودية.
فتأمل الآن تفاصيل عبودية الصلاة كيف لا تتم إلا بشهود فعلك الذى متى غبت عنه كان ذلك نقصا في العبودية.
فإذا قال المصلي: "وجهت وجهي للذى فطر السماوات والأرض حنيفا" فعبودية هذا القول: أن يشهد وجهه وهو قصده وإرادته وأن يشهد حقيقته وهي إقباله على الله.
ثم إذا قال: "إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" فعبودية هذا القول: أن يشهد الصلاة والنسك المضافين ولو غاب عنهما كان قد أضاف إلى الله بلسانه ما هو غائب عن استحضاره بقلبه فكيف يكون هذا أكمل وأعلى من حال من استحضر فعله وعبوديته وأضافهما إلى الله وشهد مع(1/271)
ذلك كونهما به؟ فأين هذا من حال المستغرق الفاني المصطلم الذي قد غاب بمعبوده عن حقه وقد أخذ منه وغيب عنه.
نعم غاية هذا: أن يكون معذورا أما أن يكون مقامه أعلى مقام وأجله: فكلا.
وكذلك إذا قال في قراءته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فعبودية هذا القول: فهم معنى العبادة والاستعانة واستحضارهما وتخصيصهما بالله ونفيهما عن غيره فهذا أكمل من قول ذلك بمجرد اللسان.
وكذلك إذا قال في ركوعه: "اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وما استقلت به قدمي" فكيف يؤدي عبودية هذه الكلمات غائب عن فعله مستغرق في فنائه وهل يبقى غير أصوات جارية على لسانه ولولا العذر لم تكن هذه عبودية.
نعم رؤية هذه الأفعال والوقوف عندها والاحتجاب بها عن المنعم بها الموفق لها المان بها: من أعظم العلل والقواطع قال تعالى 49 :17 {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فالعارف غائب بمنة الله عليه في طاعته مع شهودها ورؤيتها والجاهل غائب بها عن رؤية منة الله والفاني غائب باستغراقه في الفناء وشهود القيومية عن شهودها وهو ناقص وقد جعل الله لك شيء قدرا.
فصل
ونذكر نبذا تتعلق بأحكام التوبة تشتد الحاجة إليها ولا يليق بالعبد جهلها.
منها: أن المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها فمتى أخرها عصى بالتأخير فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى وهي توبته من تأخير التوبة وقل أن تخطر هذه ببال التائب بل عنده: أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة(1/272)
ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكنا من العلم فإنه عاص بترك العلم والعمل فالمعصية في حقه أشد وفي صحيح ابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم".
فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب ولا يعلمه العبد.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " أنه كان يدعو في صلاته: اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي فى أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت إلهي لا إله إلا أنت".
وفي الحديث الآخر: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله خطأه وعمده سره وعلانيته أوله وآخره".
فهذا التعميم وهذا الشمول لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه وما لم يعلمه.
فصل
وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟.
فيه قولان لأهل العلم وهما روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه ولم يطلع على الخلاف من حكى الإجماع على صحتها كالنووي وغيره.
والمسألة مشكلة ولها غور ويحتاج الجزم بأحد القولين إلى دليل يحصل به الجزم والذين صححوها احتجوا بأنه لما صح الإسلام وهو توبة من الكفر(1/273)
مع البقاء على معصية لم يتب منها فهكذا تصح التوبة من ذنب مع بقائه على آخر.
وأجاب الآخرون عن هذا بأن الإسلام له شأن ليس لغيره لقوته ونفاذه وحصوله تبعا بإسلام الأبوين أو أحدهما للطفل وكذلك بانقطاع نسب الطفل من أبيه أو بموت أحد أبويه في أحد القولين وكذلك يكون بكون سابيه ومالكه مسلما في أحد القولين أيضا وذلك لقوته وتشوف الشرع إليه حتى حصل بغير القصد بل بالتبعية.
واحتج الآخرون بأن التوبة: هى الرجوع إلى الله من مخالفته إلى طاعته وأي رجوع لمن تاب من ذنب واحد وأصر على ألف ذنب؟.
قالوا: والله سبحانه إنما لم يؤاخذ التائب لأنه قد رجع إلى طاعته وعبوديته وتاب توبة نصوحا والمصر على مثل ما تاب منه أو أعظم لم يراجع الطاعة ولم يتب توبة نصوحا.
قالوا: ولأن التائب إذا تاب إلى الله فقد زال عنه اسم (العاصي) كالكافر إذا أسلم زال عنه اسم (الكافر) فأما إذا أصر على غير الذنب الذي تاب منه فاسم (المعصية) لا يفارقه فلا تصح توبته.
وسر المسألة أن التوبة: هل تتبعض كالمعصية فيكون تائبا من وجه دون وجه كالإيمان والإسلام؟.
والراجح: تبعضها فإنها كما تتفاضل في كيفيتها كذلك تتفاضل في كميتها ولو أتى العبد بفرض وترك فرضا آخر لاستحق العقوبة على ما تركه دون ما فعله فهكذا إذا تاب من ذنب وأصر على آخر لأن التوبة فرض من الذنبين فقد(1/274)
أدى أحد الفرضين وترك الآخر فلا يكون ما ترك موجبا لبطلان ما فعل كمن ترك الحج وأتى بالصلاة والصيام والزكاة.
والآخرون يجيبون عن هذا بأن التوبة فعل واحد معناه الإقلاع عما يكرهه الله والندم عليه والرجوع إلى طاعته فإذا لم توجد بكمالها لم تكن صحيحة إذ هي عبادة واحدة فالإتيان ببعضها وترك بعض واجباتها كالإتيان ببعض العبادة الواجبة وترك بعضها فإن ارتباط أجزاء العبادة الواحدة بعضها ببعض أشد من ارتباط العبادات المتنوعات بعضها ببعض.
وأصحاب القول الآخر يقولون: كل ذنب له توبة تخصه وهي فرض منه لا تتعلق بالتوبة من الآخر كما لا يتعلق أحد الذنبين بالآخر.
والذي عندي في هذه المسألة: أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه: فتصح كما إذا تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر مثلا فإن توبته من الربا صحيحة وأما إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النسيئة وأصر عليه أو بالعكس أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو بالعكس: فهذا لا تصح توبته وهو كمن يتوب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها غير تائب منها أو تاب من شرب عصير العنب المسكر وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر بخلاف من عدل عن معصية إلى معصية أخرى غيرها في الجنس إما لأن وزرها أخف وإما لغلبة دواعي الطبع إليها وقهر سلطان شهوتها له وإما لأن أسبابها حاضرة لديه عتيدة لا يحتاج إلى استدعائها بخلاف معصية يحتاج إلى استدعاء أسبابها وإما لاستحواذ قرنائه وخلطائه عليه فلا يدعونه يتوب منها وله بينهم حظوة بها و جاه فلا تطاوعه نفسه على إفساد جاهه بالتوبة كما قال أبو نواس لأبي العتاهية وقد لامه على تهتكه في المعاصي:(1/275)
أتراني يا عتاهي ... تاركا تلك الملاهي
أتراني مفسدا بالنسك ... عند القوم جاهي
فمثل هذا إذا تاب من قتل النفس وسرقة أموال المعصومين وأكل أموال اليتامى ولم يتب من شرب الخمر والفاحشة: صحت توبته مما تاب منه ولم يؤاخذ به وبقي مؤاخذا بما هو مصر عليه والله أعلم.
فصل
ومن أحكام (التوبة) أنه: هل يشترط في صحتها أن لا يعود إلى الذنب أبدا أم ليس ذلك بشرط؟.
فشرط بعض الناس: عدم معاودة الذنب وقال: متى عاد إليه تبينا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة.
والأكثرون على أن ذلك ليس بشرط وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته.
فإن كانت في حق آدمي: فهل يشترط تحلله فيه تفصيل سنذكره إن شاء الله فإذا عاوده مع عزمه حال التوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية ولم تبطل توبته المتقدمة.
والمسألة مبنية على أصل وهو: أن العبد إذا تاب من الذنب ثم عاوده فهل يعود إليه إثم الذنب الذي قد تاب منه ثم عاوده بحيث يستحق العقوبة على الأول والآخر إن مات مصرا أو إن ذلك قد بطل بالكلية فلا يعود إليه إثمه وإنما يعاقب على هذا الأخير؟.
وفي هذا الأصل قولان.
فقالت طائفة: يعود إليه إثم الذنب الأول لفساد التوبة وبطلانها بالمعاودة.
قالوا: لأن التوبة من الذنب بمنزلة الإسلام من الكفر والكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم الكفر وتوابعه فإن ارتد عاد إليه الإثم الأول مع(1/276)
إثم الردة كما ثبت فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" فهذا حال من أسلم وأساء فى إسلامه ومعلوم أن الردة من أعظم الإساءة في الإسلام فإذا أخذ بعدها بما كان منه فى حال كفره ولم يسقطه الإسلام المتخلل بينهما فهكذا التوبة المتخللة بين الذنبين لا تسقط الإثم السابق كما لا تمنع الإثم اللاحق.
قالوا: واولأن صحة التوبة مشروطة باستمرارها والموافاة عليها والمعلق على الشرط يعدم عند عدم الشرط كما أن صحة الإسلام مشروطة باستمراره والموافاة عليه.
قالوا: والتوبة واجبة وجوبا مصينقا مدى العمر فوقتها مدة العمر إذ يجب عليه استصحاب حكمها في مدة عمره فهي بالنسبة إلى العمر كالإمساك عن المفطرات في صوم اليوم فإذا أمسك معظم النهار ثم نقض إمساكه بالمفطرات: بطل ما تقدم من صيامه ولم يعتد به وكان بمنزلة من لم يمسك شيئا من يومه.
قالوا: ويدل على هذا: الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" وهذا أعم من أن يكون هذا العمل الثاني كفرا موجبا للخلود أو معصية موجبة للدخول فإنه لم يقل: "فيرتد فيفارق الإسلام" وإنما أخبر: أنه يعمل بعمل يوجب له النار وفي بعض السنن: "إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة فإذا كان عند الموت جار في وصيته فدخل النار" فالخاتمة السيئة أعم من أن تكون خاتمة بكفر أو بمعصية والأعمال بالخواتيم.
فإن قيل: فهذا يلزم منه إحباط الحسنات بالسيئات وهذا قول المعتزلة والقرآن والسنة قد دلا على أن الحسنات هي التي تحبط السيئات لا العكس كما قال 11 :114 {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم(1/277)
لمعاذ: "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن".
قيل: والقرآن والسنة قد دلا على الموازنة وإحباط الحسنات بالسيئات فلا يضرب كتاب الله بعضه ببعض ولا يرد القرآن بمجرد كون المعتزلة قالوه فعل أهل الهوى والتعصب بل نقبل الحق ممن قاله ويرد الباطل على من قاله.
فأما الموازنة: فمذكورة في سورة الأعراف (7 :8، 9) والأنبياء (21 :47 ) والمؤمنين (23 :101، 111) والقارعة والحاقة (69 :19، 37).
وأما الإحباط: فقد قال الله تعالى: 47 :33 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وتفسير الإبطال ها هنا بالردة لأنها أعظم المبطلات لا لأن المبطل ينحصر فيها وقال تعالى: 2 :264 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} فهذان سببان عرضا بعد للصدقة فأبطلاها شبه سبحانه بطلانها بالمن والأذى بحال المتصدق رياء فى بطلان صدقة كل واحد منهما وقال تعالى: 49 :2 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" وقالت عائشة رضى الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم وقد باع بيع العينة: "أخبري زيدا: أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب" وقد نص أحمد على هذا في رواية فقال : "ينبغي للعبد أن يتزوج إذا خاف على نفسه فيستدين ويتزوج لا يقع في محظور فيحبط عمله".
فإذا استقرت قاعدة الشريعة أن من السيئات ما يحبط الحسنات بالإجماع ومنها ما يحبطها بالنص جاز ان المعاوده حسنة التوبة فتصير التوبة كأنها لم تكن فيلتقي العملان ولا حاجز بينهما فيكون التأثير لهما جميعا.
قالوا: وقد دل القرآن والسنة وإجماع السلف على الموازنة وفائدتها:(1/278)
اعتبار الراجح فيكون التأثير والعمل له دون المرجوح قال ابن مسعود: "يحاسب يوم القيامة فمن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ومن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ثم قرأ: 7 :8، 9 {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ثم قال: "إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح" قال: "ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف".
وعلى هذا: فهل يحبط الراجح المرجوح حتى يجعله كأن لم يكن أو يحبط ما قابله بالموازنة ويبقى التأثير للقدر الزائد فيه قولان للقائلين بالموازنة.
ينبني عليهما: أنه إذا كانت الحسنات أرجح من السيئات بواحدة مثلا فهل يدفع الراجح المرجوح جملة فيثاب على الحسنات كلها أو يسقط من الحسنات ما قابل السيئات فلا يثاب عليه ولا يعاقب على تلك السيئات فيبقى القدر الزائد لا مقابل له فيثاب عليه وحده؟.
وهذا الأصل فيه قولان لأصحاب الموازنة.
وكذلك إذا رجحت السيئات بواحدة هل يدخل النار بتلك الواحدة التي سلمت عن مقابل أو بكل السيئات التي رجحت على القولين هذا كله على أصل أصحاب التعليل والحكم.(1/279)
وأما على أصول الجبرية نفاة التعليل والحكم والأسباب واقتضائها للثواب والعقاب: فالأمر مردود عندهم إلى محض المشيئة من غير اعتبار شيء من ذلك ولا يدرى عندهم ما يفعل الله بل يجوز عندهم أن يعاقب صاحب الحسنات الراجحة ويثيب صاحب السيئات الراجحة وأن يدخل الرجلين النار مع استوائهما في العمل وأحدهما في الدرك تحت الآخر ويغفر لزيد ويعاقب عمرا مع استوائهما من جميع الوجوه وينعم من لم يطعه قط ويعذب من لم يعصه قط فليس عندهم سبب ولا حكمة ولا علة ولا موازنة ولا إحباط ولا تدافع بين الحسنات والسيئات والخوف على المحسن والمسيء واحد إذ من الجائز تعذيبهما وكل مقدور له فجائز عليه لا يعلم امتناعه إلا بإخبار الرسول: أنه لا يكون فيمتنع وقوعه لمطابقة خبره لعلمه الله عز وجل بعد وقوعه.
فصل
واحتج الفريق الآخر وهم القائلون بأنه لا يعود إليه إثم الذنب الذي تاب منه بنقض التوبة بأن ذلك الإثم قد ارتفع بالتوبة وصار بمنزلة ما لم يعمله وكأنه لم يكن فلا يعود إليه بعد ذلك وإنما العائد إثم المستأنف لا الماضي.
قالوا: ولا يشترط في صحة التوبة العصمة إلى الممات بل إذا ندم وأقلع وعزم على الترك: محي عنه إثم الذنب بمجرد ذلك فإذا استأنفه استأنف إثمه.
قالوا: فليس هذا كالكفر الذي يحبط الأعمال فإن الكفر له شأن آخر ولهذا يحبط جميع الحسنات ومعاودة الذنب لا تحبط ما تقدمه من الحسنات.
قالوا: والتوبة من أكبر الحسنات فلو أبطلتها معاودة الذنب: لأبطلت غيرها من الحسنات وهذا باطل قطعا وهو يشبه مذهب الخوارج المكفعرين بالذنب والمعتزلة المخلدين في النار بالكبيرة التى تقدمها الألوف من الحسنات فإن الفريقين متفقان على خلود أرباب الكبائر في النار ولكن الخوارج كفروهم والمعتزلة فسقوهم وكلا المذهبين باطل في دين الإسلام مخالف للمنقول(1/280)
والمعقول وموجب العدل: 4 :40 {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}.
قالوا: وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد المفتن التواب".
قلت: وهو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه فلو كانت معاودته تبطل توبته لما كان محبوبا للرب ولكان ذلك أدعى إلى مقته.
قالوا: وقد علق الله سبحانه قبول التوبة بالاستغفار وعدم الإصرار دون المعاودة فقال تعالى: 3 :135 {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} والإصرار: عقد القلب على ارتكاب الذنب متى ظفر به فهذا الذي يمنع مغفرته.
قالوا: وأما استمرار التوبة: فشرط في صحة كمالها ونفعها لا شرط في صحة ما مضى منها وليس كذلك العبادات كصيام اليوم وعدد ركعات الصلاة فإن تلك عبادة واحدة لا تكون مقبولة إلا بالإتيان بجميع أركانها وأجزائها وأما التوبة: فهي عبادات متعددة بتعدد الذنوب فكل ذنب له توبة تخصه فإذا أتى بعبادة وترك أخرى لم يكن ما ترك موجبا لبطلان ما فعل كما تقدم تقريره.
بل نظير هذا: أن يصوم من رمضان ويفطر منه بلا عذر فهل يكون ما أفطره منه مبطلا لأجر ما صامه منه؟.
بل نظير من صلى ولم يصم أو زكى ولم يحج.
ونكتة المسألة: أن التوبة المتقدمة حسنة ومعاودة الذنب سيئة فلا تبطل معاودته هذه الحسنة كما لا تبطل ما قارنها من الحسنات.
قالوا: وهذا على أصول السنة أظهر فإنهم متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين ويكون محبوبا لله مبغوضا(1/281)
له من وجهين أيضا بل يكون فيه إيمان ونفاق وإيمان وكفر ويكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الآخر فيكون من أهله كما قال تعالى 3 :167 {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَان} وقال: 12 :106 {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} أثبت لهم الإيمان به مع مقارنة الشرك فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله وإن كان معه تصديق لرسله وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل وباليوم الآخر فهؤلاء مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر.
وشركهم قسمان: شرك خفي وشرك جلي فالخفي قد يغفر وأما الجلي فلا يغفره الله تعالى إلا بالتوبة منه فإن الله لا يغفر أن يشرك به.
وبهذا الأصل أثبت أهل السنة دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها ودخولهم الجنة لما قام بهم من السببين.
فإذا ثبت هذا فمعاود الذنب: مبغوض لله من جهة معاودة الذنب محبوب له من جهة توبته وحسناته السابقة فيرتب الله سبحانه على كل سبب أثره ومسببه بالعدل والحكمة ولا يظلم مثقال ذرة 41 :46 {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}.
فصل
وإذا استغرقت سيئاته الحديثات حسناته القديمات وأبطلتها ثم تاب منها توبة نصوحا خالصة: عادت إليه حسناته ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها بل يقال له: تبت على ما أسلفت من خير فان الحسنات التى فعلها فى الإسلام أعظم من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره: من عتاقة وصدقة وصلة وقد قال حكيم بن حزام: "يا رسول الله أرأيت عتاقة أعتقتها فى الجاهلية وصدقة تصدقت بها وصلة وصلت بها رحمي فهل لي فيها من أجر؟ فقال: أسلمت على ما أسلفت من خير" وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة وصارت كأنها لم تكن فتلاقت الطاعتان واجتمعتا والله أعلم.(1/282)
فصل
ومن أحكامها: أن العاصي إذا حيل بينه وبين أسباب المعصية وعجز عنها بحيث يتعذر وقوعها منه هل تصح توبته وهذا كالكاذب والقاذف وشاهد الزور إذا قطع لسانه والزاني إذا جب والسارق إذا أتي على أطرافه الأربعة والمزور إذا قطعت يده ومن وصل إلى حد بطلت معه دواعيه إلى معصية كان يرتكبها.
ففي هذا قولان للناس.
فقالت طائفة: لا تصح توبته لأن التوبة إنما تكون ممن يمكنه الفعل والترك فالتوبة من الممكن لا من المستحيل ولهذا لا تتصور التوبة من نقل الجبال عن أماكنها وتنشيف البحار والطيران إلى السماء ونحوه.
قالوا: ولأن التوبة مخالفة داعي النفس وإجابة داعي الحق ولا داعي للنفس هنا إذ يعلم استحالة الفعل منها.
قالوا: ولأن هذا كالمكره على الترك المحمول عليه قهرا ومثل هذا لا تصح توبته.
قالوا: ومن المستقر في فطر الناس وعقولهم: أن توبة المفاليس وأصحاب الجوائح: توبة غير معتبرة ولا يحمدون عليها وبل يسمونها توبة إفلاس وتوبة جائحة قال الشاعر:
ورحت عن توبة سائلا ... وجدتها توبة إفلاس
قالوا: ويدل على هذا أيضا: أن النصوص المتضافرة المتظاهرة قد دلت على أن التوبة عند المعاينة لا تنفع لأنها توبة ضرورة لا اختيار قال تعالى: 4 :17، 18 {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ(1/283)
أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} و (الجهالة) ههنا: جهالة العمل وإن كان عالما بالتحريم قال قتادة: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو لم يكن وكل من عصى الله فهو جاهل".
وأما التوبة من قريب: فجمهور المفسرين: على أنها التوبة قبل المعاينة قال عكرمة: قبل الموت وقال الضحاك: قبل معاينة ملك الموت وقال السدى والكلبى: أن يتوب فى صحته قبل مرض موته وفي المسند وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" وفى نسخة دراج أبى الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا: "إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب عز وجل: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني".(1/284)
فهذا شأن التائب من قريب وأما إذا وقع في السياق فقال: إني تبت الآن لم تقبل توبته وذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار فهي كالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها ويوم القيامة وعند معاينة بأس الله.
قالوا: ولأن حقيقة التوبة: هي كف النفس عن الفعل الذى هو متعلق النهي والكف إنما يكون عن أمر مقدور وأما المحال: فلا يعقل كف النفس عنه ولأن التوبة هى الإقلاع عن الذنب وهذا لا يتصور منه الإيقاع حتى يتأتى منه الإقلاع.
قالوا: ولأن الذنب عزم جازم على فعل المحرم يقترن به فعله المقدور والتوبة منه: عزم جازم على ترك المقدور يقترن به الترك والعزم على غير المقدور محال والترك في حق هذا ضروري لا عزم غير مقدور بل هو بمنزلة ترك الطيران إلى السماء وتقل الجبال وغير ذلك.
والقول الثاني وهو الصواب أن توبته صحيحة ممكنة بل واقعة فإن أركان التوبة مجتمعة فيه والمقدور له منها الندم وفي المسند مرفوعا: "الندم توبة" فإذا تحقق ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه فهذه توبة وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه مع شدة ندمه ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه وحزنه وخوفه وعزمه الجازم ونيته أنه لو كان صحيحا والفعل مقدورا له لما فعله.
وإذا كان الشارع قد نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها إذا صحت نيته كقوله في الحديث الصحيح: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما" وفي الصحيح أيضا عنه: "إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر" وله نظائر في الحديث فتنزيل العاجز عن المعصية التارك لها قهرا مع نيته تركها اختيارا لو أمكنه منزلة التارك المختار أولى.(1/285)
يوضحه: أن مفسدة الذنب التى يترتب عليها الوعيد تنشأ من العزم عليه تارة ومن فعله تارة ومنشأ المفسدة معدوم في حق هذا العاجز فعلا وعزما والعقوبة تابعة للمفسدة.
وأيضا فإن هذا تعذر منه الفعل ما تتعذر منه التمني والوداد فإذا كان يتمنى ويود لو واقع الذنب ومن نيته: أنه لو كان سليما لباشره فتوبته: بالإقلاع عن هذا الوداد والتمني والحزن على فوته فإن الإصرار متصور في حقه قطعا فيتصور في حقه ضده وهو التوبة بل هي أولى بالإمكان والتصور من الإصرار وهذا واضح.
والفرق بين هذا وبين المعاين ومن ورد القيامة: أن التكليف قد انقطع بالمعاينة وورود القيامة والتوبة إنما تكون في زمن التكليف وهذا العاجز لم ينقطع عنه التكليف فالأوامر والنواهي لازمة له والكف متصور منه عن التمني والوداد والأسف على فوته وتبديل ذلك بالندم والحزن على فعله والله أعلم.
فصل
ومن أحكامها: أن من توغل في ذنب وعزم على التوبة منه ولا يمكنه التوبة منه إلا بارتكاب بعضه كمن أولج في فرج حرام ثم عزم على التوبة قبل النزع الذي هو جزء الوطء وكمن توسط أرضا مغصوبة ثم عزم على التوبة ولا يمكنه إلا بالخروج الذى هو مشى فيها وتصرف فكيف يتوب من الحرام بحرام مثله؟ وهل تعقل التوبة من الحرام بحرام؟.
فهذا مما أشكل على بعض الناس حتى دعاه ذلك إلى أن قال بسقوط التكليف عنه في هذا الفعل الذي يتخلص به من الحرام.
قال: لأنه لا يمكن أن يكون مأمورا به وهو حرام وقد تعين في حقه طريقا للخلاص من الحرام لا يمكنه التخلص بدونه فلا حكم في هذا الفعل ألبتة وهو بمنزلة العفو الذي لا يدخل تحت التكليف.(1/286)
وقالت طائفة: بل هو حرام واجب فهو ذو وجهين مأمور به من أحدهما منهي عنه من الآخر فيؤمر به من حيث تعينه طريقا للخلاص من الحرام وهو من هذا الوجه واجب وينهى عنه من جهة كونه مباشرة للحرام وهو من هذا الوجه محرم فيستحق عليه الثواب والعقاب.
قالوا: ولا يمتنع كون الفعل في الشرع ذا وجهين مختلفين كالاشتغال عن الحرام بمباح فإن المباح إذا نظرنا إلى ذاته مع قطع النظر عن ترك الحرام قضينا بإباحته وإذا اعتبرناه من جهة كونه تاركا للحرام كان واجبا.
نعم غايته: أنه لا يتعين مباح دون مباح فيكون واجبا مخيرا.
قالوا: وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة هي حرام وهي واجبة وستر العورة بثوب الحرير كذلك: حرام واجب من وجهين مختلفين.
والصواب: أن هذا النزع والخروج من الأرض: توبة ليس بحرام إذ هو مأمور به ومحال أن يؤمر بالحرام وإنما كان النزع الذي هو جزء الوطء حراما بقصد التلذذ به وتكميل الوطء وأما النزع الذي يقصد به مفارقة الحرام وقطع لذة المعصية فلا دليل على تحريمه لا من نص ولا إجماع ولا قياس صحيح يستوي فيه الأصل والفرع فى علة الحكم.
ومحال خلو هذه الحادثة عن حكم الله فيها وحكمه فيها: الأمر بالنزع قطعا وإلا كانت الاستدامة مباحة وذلك عين المحال وكذلك الخروج من الأرض المغصوبة: مأمور به وإنما تكون الحركة والتصرف في ملك الغير حراما إذا كان على وجه الانتفاع بها المتضمن لإضرار مالكها أما إذا كان القصد ترك الانتفاع وإزالة الضرر عن المالك فلم يحرم الله ولا رسوله ذلك ولا دل على تحريمه نظر صحيح ولا قياس صحيح.
وقياسه على مشي مستديم الغصب وقياس نزع التائب على نزع المستديم: من أفسد القياس وأبينه بطلانا ونحن لا ننكر كون الفعل الواحد يكون له(1/287)
وجهان ولكن إذا تحقق النهي عنه والأمر به: أمكن اعتبار وجهيه فإن الشارع أمر بستر العورة ونهى عن لبس الحرير فهذا الساتر لها بالحرير قد ارتكب الأمرين فصار فعله ذا وجهين.
وأما محل النزاع: فلم يتحقق فيه النهي عن النزع والخروج عن الأرض المغصوبة من الشارع ألبتة لا بقوله ولا بمعقول قوله إلا باعتبار هذا الفرد بفرد آخر بينهما أشد تباين وأعظم فرق في الحس والعقل والفطرة والشرع.
وأما إلحاق هذا الفرد بالعفو: فإن أريد به أنه: معفو له عن المؤاخذة به فصحيح وإن أريد أنه لا حكم لله فيه بل هو بمنزلة فعل البهيمة والنائم والناسي والمجنون: فباطل إذ هؤلاء غير مخاطبين وهذا مخاطب بالنزع والخروج فظهر الفرق والله الموفق للصواب.
فإن قيل: هذا يتأتى لكم فيما إذا لم يكن فى المفارقة بنزع أو خروج مفسدة فما تصنعون فيما إذا تضمن مفسدة؟ مثل مفسدة الإقامة كمن توسط جماعة جرحى لسلبهم فطرح نفسه على واحد إن أقام عليه قتله بثقله وإن انتقل عنه لم يجد بدا من انتقاله إلى مثله يقتله بثقله وقد عزم على التوبة فكيف تكون توبته؟.
قيل: توبة مثل هذا: بالتزام أخف المفسدتين من الإقامة على الذنب المعين أو الانتقال عنه فإن تساوت مفسدة الإقامة على الذنب ومفسدة الانتقال عنه من كل وجه فهذا يؤمر من التوبة بالمقدور له منها وهو الندم والعزم الجازم على ترك المعاودة وأما الإقلاع: فقد تعذر في حقه إلا بالتزام مفسدة أخرى مثل مفسدته.
فقيل: إنه لا حكم لله في هذه الحادثة لاستحالة ثبوت شىء من الأحكام الخمسة فيها إذ إقامته على الجريح تتضمن مفسدة قتله فلا يؤمر بها ولا هو مأذون له فيها وانتقاله عنه يتضمن مفسدة قتل الآخر فلا يؤمر بالانتقال ولا يؤذن له فيه فيتعذر الحكم في هذه الحادثة وعلى هذا فتتعذر التوبة منها.(1/288)
والصواب: أن التوبة غير متعذرة فإن إلا حكم فإنه لا واقعة إلا ولله فيها حكم علمه من علمه وجهله من جهله.
فيقال: حكم الله في هذه الواقعة: كحكمه في الملجأ فإنه قد ألجىء قدرا إلى إتلاف أحد النفسين ولا بد والملجأ ليس له فعل يضاف إليه بل هو آلة فإذا صار هذا كالملجأ فحكمه: أن لا يكون منه حركة ولا فعل ولا اختيار فلا يعدل من واحد إلى واحد بل يتخلى عن الحركة والاختيار ويستسلم استسلام من هو عليه من الجرحى إذ لا قدرة له على حركة مأذون له فيها ألبتة فحكمه الفناء عن الحركة والاختيار وشهود نفسه كالحجر الملقى على هذا الجريح ولا سيما إن كان قد ألقى عليه بغير اختياره فليس له أن يلقي نفسه على جاره لينجيه بقتله والقدر ألقاه على الأول فهو معذور به فإذا انتقل إلى الثاني انتقل بالاختيار والإرادة فهكذا إذا ألقى نفسه عليه باختياره ثم تاب وندم لا نأمره بإلقاء نفسه على جاره ليتخلص من الذنب بذنب مثله سواء.
وتوبة مثل هذا إنما تتصور بالندم والعزم فقط لا بالإقلاع والإقلاع في حقه مستحيل فهو كمن أولج في فرج حرام ثم شد وربط في حال إيلاجه بحيث لا يمكنه النزع ألبته فتوبته بالندم والعزم والتجافي بقلبه عن السكون إلى الاستدامة وكذلك توبة الأول بذلك وبالتجافي عن الإرادة والاختيار والله أعلم.
فصل
ومن أحكامها: أنها إذا كانت متضمنة لحق آدمي: أن يخرج التائب إليه منه إما بأدائه وإما باستحلاله منه بعد إعلامه به وإن كان حقا ماليا أو جناية على بدنه أو بدن موروثه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان لاخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات".(1/289)
وإن كانت المظلمة بقدم فيه بغيبة أو قدف: فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه؟ أو إعلامه قد نال من عرضه ولا يشترط تعيينه أو لا يشترط لا هذا ولا هذا بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله تعالى من غير إعلام من قذفه واعتابه؟.
على ثلاثة أقوال وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف هل يشترط في توبة القاذف: إعلام المقذوف والتحلل منه أم لا ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم.
والمعروف في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك اشتراط الإعلام والتحلل هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم.
والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي: فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه.
ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفا بقدره فلا بد من إعلام مستحقه به لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره.
واحتجوا بالحديث المذكور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم".
قالوا: ولأن فى هذه الجناية حقين: حقا لله وحقا للآدمي فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه.
قالوا: ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه إن شاء اقتص وإن شاء عفا وكذلك توبة قاطع الطريق.
والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه بل يكفي توبته بينه وبين الله وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه(1/290)
بضد ما ذكره به من الغيبة فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه وقذفه بذكر عفته وإحصانه ويستغفر له بقدر ما اغتابه.
وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه.
واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقا وغما وقد كان مستريحا قبل سماعه فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله وأورثته ضررا في نفسه أو بدنه كما قال الشاعر:
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلا عن أن يوجبه ويأمر به.
قالوا: وربما كان إعلامه به سببا للعداوة والحرب بينه وبين القائل فلا يصفو له أبدا ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب والتراحم والتعاطف والتحابب.
قالوا: والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين.
أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه فلا يجوز إخفاؤها عنه فإنه محض حقه فيجب عليه أداؤه إليه بخلاف الغيبة والقذف فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس.
والثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه ولم تهج منه غضبا ولا عداوة بل ربما سره ذلك وفرح به بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلا ونهارا من أنواع القذف والغيبة والهجو فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت والله أعلم.
فصل
ومن أحكامها: أن العبد إذا تاب من الذنب: فهل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التى حطه عنها الذنب أو لا يرجع إليها؟ اختلف في ذلك.(1/291)
فقالت طائفة: يرجع إلى درجته لأن التوبة تجب الذنب بالكلية وتصيره كأن لم يكن والمقتضي لدرجته: ما معه من الإيمان والعمل الصالح فعاد إليها بالتوبة.
قالوا: لأن التوبة حسنة عظيمة وعمل صالح فإذا كان ذنبه قد حطه عن درجته فحسنته بالتوبة رقته إليها وهذا كمن سقط في بئر وله صاحب شفيق أدلى إليه حبلا تمسك به حتى رقي منه إلى موضعه فهكذا التوبة والعمل الصالح مثل هذا القرين الصالح والأخ الشفيق.
وقالت طائفة: لا يعود إلى درجته وحاله لأنه لم يكن في وقوف وإنما كان في وصعود فبالذنب صار في نزول وهبوط فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذي كان مستعدا به للترقي.
قالوا: ومثل هذا مثل رجلين سائرين على طريق سيرا واحدا ثم عرض لأحدهما ما رده على عقبه أو أوقفه وصاحبه سائر فإذا استقال هذا رجوعه ووقفته وسار بإثر صاحبه: لم يلحقه أبدا لأنه كلما سار مرحلة تقدم ذاك أخرى.
قالوا: والأول يسيره بقوة أعماله وإيمانه وكلما ازداد سيرا ازدادت قوته وذلك الواقف الذي رجع قد ضعفت قوة سيره وإيمانه بالوقوف والرجوع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي هذا الخلاف ثم قال: "والصحيح: أن من التائبين من لا يعود إلى درجته ومنهم من يعود إليها ومنهم من يعود إلى أعلى منها فيصير خيرا مما كان قبل الدنب وكان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة".
قال: وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه وحذره وتشميره فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيرا مما كان وأعلى درجة وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله وإن كان دونه لم يعد إلى درجته وكان منحطا عنها وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة.(1/292)
ويتبين هذا بمثلين مضروبين.
أحدهما: رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن فهو يعدو مرة ويمشي أخرى ويستريح تارة وينام أخرى فبينا هو كذلك إذ عرض له في سيره ظل ظليل وماء بارد ومقيل وروضة مزهرة فدعته نفسه إلى النزول على تلك الاماكن فنزل عليها فوثب عليه منها عدو فأخذه وقيده وكتفه ومنعه عن السير فعاين الهلاك وظن أنه منقطع به وأنه رزق الوحوش والسباع وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمه فبينا هو على ذلك تتقاذفه الظنون إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر فحل كتافه وقيوده وقال له: اركب الطريق واحذر هذا العدو فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد واعلم أنك ما دمت حاذرا منه متيقظا له لا يقدر عليك فإذا غفلت وثب عليك وأنا متقدمك إلى المنزل وفرط لك فاتبعني على الأثر.
فإن كان هذا السائر تيسأ فطنا لبيبا حاضر الذهن والعقل استقبل سيره استقبالا آخر أقوى من الأول وأتم واشتد حذره وتأهب لهذا العدو وأعد له عدته فكان سيره الثاني أقوى من الأول وخيرا منه ووصوله إلى المنزل أسرع وإن غفل عن عدوه وعاد إلى مثل حاله الأول من غير زيادة ولا نقصان ولا قوة حذر ولا استعداد عاد كما كان وهو معرض لما عرض له أولا.
وإن أورثه ذلك توانيا فى سيره وفتورا وتذكرا لطيب مقيله وحسن ذلك الروض وعذوبة مائه وتفيؤ ظلاله وسكونا بقلبه إليه: لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان.
المثل الثاني: عبد في صحة وعافية جسم عرض له مرض أوجب له حمية وشرب دواء وتحفظا من التخليط ونقص بذلك مادة ردية كانت منقصة لكمال قوته وصحته فعاد بعد المرض أقوى مما كان قبله كما قيل:
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل(1/293)
وإن أوجب له ذلك المرض ضعفا في القوة وتداركه بمثل ما نقص من قوته عاد إلى مثل ما كان.
وإن تداركه بدون ما نقص من قوته عاد إلى دون ما كان عليه من القوة وفي هذين المثلين كفاية لمن تدبرهما.
وقد ضرب لذلك مثل آخر برجل خرج من بيته يريد الصلاة في الصف الأول لا يلوي على شيء في طريقه فعرض له رجل من خلفه جبذ ثوبه وأوقفه قليلا يريد تعويقه عن الصلاة فله معه حالان.
أحدهما: أن يشتغل به حتى تفوته الصلاة فهذه حال غير التائب.
الثاني: أن يجاذبه على نفسه ويتفلت منه لئلا تفوته الصلاة.
ثم له بعد هذا التفلت ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يكون سيره جمزا أو وثوبا ليستدرك ما فاته بتلك الوقفة فربما استدركه وزاد عليه.
الثاني: أن يعود إلى مثل سيره.
الثالث: أن تورثه تلك الوقفة فتورا وتهاونا فيفوته فضيلة الصف الأول أو فضيلة الجماعة وأول الوقت فهكذا حال التائبين السائرين سواء.
فصل
ويتبين هذا بمسألة شريفة وهي أنه: هل المطيع الذي لم يعص خير من العاصي الذي تاب إلى الله توبة نصوحا أو هذا التائب أفضل منه؟.
اختلف في ذلك.
فطائفة رجحت من لم يعص على من عصى وتاب توبة نصوحا واحتجوا بوجوه أحدها: أن أكمل الخلق وأفضلهم: أطوعهم لله وهذا الذي لم يعص أطوع فيكون أفضل.
الثاني: أن في زمن اشتغال العاصي بمعصيته يسبقه المطيع عدة مراحل إلى(1/294)
فوق فتكون درجته أعلى من درجته وغايته: أنه إذا تاب استقبل سيره ليلحقه وذاك في سير آخر فأنى له بلحاقه؟ فهما بمنزلة رجلين مشتركين في الكسب كلما كسب أحدهما شيئا كسب الآخر مثله فعمد أحدهما إلى كسبه فأضاعه وأمسك عن الكسب المستأنف والآخر مجد فى الكسب فإذا أدركته حمية المنافسة وعاد إلى الكسب: وجد صاحبه قد كسب في تلك المدة شيئا كثيرا فلا يكسب شيئا إلا كسب صاحبه نظيره فأنى له بمساواته؟.
الثالث: أن غاية التوبة: أن تمحو عن هذا سيئاته ويصير بمنزلة من لم يعملها فيكون سعيه في مدة المعصية لا له ولا عليه فأين هذا السعي من سعي من هو كاسب رابح؟.
الرابع: أن الله يمقت على معاصيه ومخالفة أوامره ففي مدة اشتغال هذا بالذنوب: كان حظه المقت وحظ المطيع الرضا فالله لم يزل عنه راضيا ولا ريب أن هذا خير ممن كان الله راضيا عنه ثم مقته ثم رضى عنه فإن الرضى المستمر خير من الذى تخلله المقت.
الخامس: أن الذنب بمنزلة شرب السم والتوبة ترياقه ودواؤه والطاعة هي الصحة والعافية وصحة وعافية مستمرة: خير من صحة تخللها مرض وشرب سم أفاق منه وربما أديا به إلى التلف أو المرض أبدا.
السادس: أن العاصي على خطر شديد فإنه دائر بين ثلاثة أشياء أحدها: العطب والهلاك بشرب السم الثاني: النقصان من القوة وضعفها إن سلم من الهلاك والثالث: عود قوته إليه كما كانت أو خيرا منها بعيد.
والأكثر إنما هو القسمان الأولان ولعل الثالث نادر جدا فهو على يقين من ضرر السم وعلى رجاء من من حصول العافية بخلاف من لم يتناول ذلك.
السابع: أن المطيع قد أحاط على بستان طاعته حائطا حصينا لا يجد الأعداء إليه سبيلا فثمرته وزهرته وخضرته وبهجته في زيادة ونمو أبدا والعاصي(1/295)
قد فتح فيه ثغرا وثلم فيه ثلمة ومكن منه السراق والأعداء فدخلوا فعاثوا فيه يمينا وشمالا: أفسدوا أغصانه وخربوا حيطانه وقطعوا ثمراته وأحرقوا فى نواحيه وقطعوا ماءه ونقصوا سقيه فمتى يرجع هذا إلى حاله الأول فإذا تداركه قيمه ولم شعثه وأصلح ما فسد منه وفتح طرق مائه وعمر ما خرب منه فإنه إما أن يعود كما كان أو أنقص أو خيرا ولكن لا يلحق بستان صاحبه الذى لم يزل على نضارته وحسنه بل في زيادة ونمو وتضاعف ثمرة وكثرة غرس.
والثامن: أن طمع العدو في هذا العاصي إنما كان لضعف علمه وضعف عزيمته ولذلك يسمى جاهلا قال قتادة: "أجمع أصحاب رسول الله على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة وكذلك قال الله تعالى في حق آدم: 20 :115 {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} وقال في حق غيره: 46 :35 {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وأما من قويت عزيمته وكمل علمه وقوى إيمانه: لم يطمع فيه عدوه وكان أفضل.
التاسع: أن المعصية لا بد أن تؤثر أثرا سيئا ولا بد: إما هلاكا كليا وإما خسرانا وعقابا يعقبه: إما عفو ودخول الجنة وإما نقص درجة وإما خمود مصباح الإيمان وعمل التائب فى رفع هذه الآثار والتكفير وعمل المطيع فى الزيادة ورفع الدرجات.
ولهذا كان قيام الليل نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فإنه يعمل في زيادة الدرجات وغيره يعمل فى تكفير السيئات وأين هذا من هذا؟.
العاشر: أن المقبل على الله المطيع له يسير بجمله أعماله وكلما زادت طاعاته وأعماله ازداد كسبه بها وعظم وهو بمنزلة من سافر فكسب عشرة أضعاف رأس ماله فسافر ثانيا برأس ماله الأول وكسبه فكسب عشرة أضعافه أيضا فسافر ثالثا أيضا بهذا المال كله وكان ربحه كذلك وهلم جرا فإذا فتر عن السفر في آخر أمره مرة واحدة فاته من الربح بقدر جميع ما ربح أو أكثر منه وهذا معنى(1/296)
قول الجنيد رحمه الله: "لو أقبل صادق على الله ألف عام ثم أعرض عنه لحظة واحدة كان ما فاته أكثر مما ناله" وهو صحيح بهذا المعنى فإنه قد فاته في مدة الإعراض ربح تلك الأعمال كلها وهو أزيد من الربح المتقدم فإذا كان هذا حال من أعرض فكيف من عصى وأذنب وفي هذا الوجه كفاية.
فصل
وطائفة رجحت التائب وإن لم تنكر كون الأول أكثر حسنات منه واحتجت بوجوه.
أحدها: أن عبودية التوبه من احب العبوديات الى الله وأكرمها عليه فإنه سبحانه يحب التوابين ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يوجب وقوع محبوبه من التوبة وزيادة محبته لعبده فإن للتائبين عنده محبة خاصة يوضح ذلك:
الوجه الثاني: أن للتوبة عنده سبحانه منزلة ليست لغيرها من الطاعات ولهذا يفرح سبحانه بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يقدر كما مثله النبي صلى الله عليه وسلم بفرح الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوية المهلكة بعد ما فقدها وأيس من أسباب الحياة ولم يجىء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيرا عظيما في حال التائب وقلبه ومزيده لا يعبر عنه وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية فيصير حبيبا لله فإن الله يحب التوابين ويحب العبد المفتن التواب ويوضحه:
الوجه الثالث: أن عبودية التوبة فيها من الذل والانكسار والخضوع والتملق لله والتذلل له ما هو أحب إليه من كثير من الأعمال الظاهرة وإن(1/297)
زادت فى القدر والكمية على عبودية التوبة فإن الذل والانكسار روح العبودية ومخها ولبها يوضحه:
الوجه الرابع: أن حصول مراتب الذل والانكسار للتائب أكمل منها لغيره فإنه قد شارك من لم يذنب في ذل الفقر والعبودية والمحبة وامتاز عنه بانكسار قلبه بالمعصية والله سبحانه أقرب ما يكون الى عبده عند ذله وانكسار قلبه كما في الأثر الإسرائيلي: "يا رب أين أجدك؟ قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" ولأجل هذا كان "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه.
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه عز وجل "أنه يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما إن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده فقال في عيادة المريض: "لوجدتني عنده" وقال في الإطعام والإسقاء: "لوجدت ذلك عندي" ففرق بينهما فإن المريض مكسور القلب ولو كان من كان فلا بد أن يكسره المرض فإذا كان مؤمنا قد انكسر قلبه بالمرض كان الله عنده.
وهذا والله أعلم هو السر في استجابة دعوة الثلاثة: المظلوم والمسافر والصائم للكسرة التي في قلب كل واحد منهم فإن غربة المسافر وكسرته مما يجده العبد في نفسه وكذلك الصوم فإنه يكسر سورة النفس السبعية الحيوانية ويذلها.(1/298)
والقصد: أن شمعة الخبر والفضل والعطايا إنما تنزل فى شمعدان الانكسار وللعاصى التائب من ذلك نصيب اوفر نصيب يوضحه.
الوجه الخامس: أن الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات وهذا معنى قول بعض السلف: "قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة ويعمل الطاعة فيدخل بها النار قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى: ذكر بنه فيحدث له إنكساراتوبة واستغفارا وندما فيكون ذلك سبب نجاته ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى كلما ذكرها أورثته عجبا وكبرا ومنة فتكون سبب هلاكه فيكون الذنب موجبا لترتب طاعات وحسنات ومعاملات قلبية من خوف الله والحياء منه والإطراق بين يديه منكسا رأسه خجلا باكيا نادما مستقيلا ربه وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة وكبرا وازدراء بالناس ورؤيتهم بعين الاحتقار ولا ريب أن هذا الذنب خير عند الله وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته الصائل بها المان بها وبحاله على الله عز وجل وعباده وإن قال بلسانه خلاف ذلك فالله شهيد على ما في قلبه ويكاد يعادى الخلق إذا لم يعظموه ويرفعوه ويخضعوا له ويجد في قلبه بغضة لمن لم يفعل به ذلك ولو فتش نفسه حق التفتيش لرأى فيها ذلك كامنا ولهذا تراه عاتبا على من لم يعظمه ويعرف له حقه متطلبا لعيبه في قالب حمية لله وغضب له وإذا قام بمن يعظمه ويحترمه ويخضع له من الذنوب أضعاف ما قام بهذا فتح له باب المعاذير والرجاء وأغمض عنه عينه وسمعه وكف لسانه وقلبه وقال: باب العصمة عن غير الأنبياء مسدود وربما ظن أن ذنوب من يعظمه تكفر بإجلاله وتعظيمه وإكرامه إياه.
فإذا أراد الله بهذا العبد خيرا ألقاه في ذنب يكسره به ويعرفه قدره ويكفي(1/299)
به عباده شره وينكس به رأسه ويستخرج به منه داء العجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده فيكون هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء العضال كما قيل بلسان الحال في قصة آدم وخروجه من الجنة بذنبه:
يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك فقد استخرج بها منك داء لا يصلح أن تجاورنا به وألبست بها حلة العبودية
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
يا آدم إنما ابتليتك بالذنب لأني أحب أن أظهر فضلي وجودي وكرمي على من عصاني "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم".
يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك.
يا آدم إذا عصمتك وعصمت بنيك من الذنوب فعلى من أجود بحلمى؟ وعلى من أجود بعفوي ومغفرتي وتوبتي وأنا التواب الرحيم؟.
يا آدم لا تجزع من قولي لك: (اخرج منها) فلك خلقتها ولكن اهبط إلى دار المجاهدة وابذر بذر التقوى وأمطر عليه سحائب الجفون فإذا اشتد الحب واستغلظ واستوى على سوقه فتعال فاحصده.
يا آدم ما أهبطتك من الجنة إلا لتتوسل إلي في الصعود وما أخرجتك منها نفيا لك عنها ما أخرجتك فيها إلا لتعود.
إن جرى بيننا وبينك عتب ... وتناءت منا ومنك الديار
فالوداد الذي عهدت مقيم ... والعثار الذى أصبت جيار
يا آدم ذنب تذل به لدينا أحب إلينا من طاعة تدل بها علينا.
يا آدم أنين المذنبين: أحب إلينا من تسبيح المدلّين.(1/300)
"يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك يا ابن آدم لو لقيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بى شيئا أتيتك بقرابها مغفرة".
ويذكر عن بعض العباد: أنه كان يسأل ربه في الطواف طاوفه بالبيت أن يعصمه ثم غلبته عيناه فنام فسمع قائلا يقول: أنت تسألني العصمة وكل عبادي يسألونني العصمة فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل وأجود بمغفرتي وعفوي؟ وعلى من أتوب؟ وأين كرمي وعفوي ومغفرتي وفضلي؟ ونحو هذا من الكلام.
يا ابن آدم إذا آمنت بي ولم تشرك بي شيئا أقمت حملة عرشي ومن حوله يسبحون بحمدي ويستغفرون لك وأنت على فراشك وفي الحديث العظيم الإلهى حديث أبى ذر: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فمن علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي" 39 :53 {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
"يا عبدي! لا تعجز فمنك الدعاء وعلي الإجابة ومنك الاستغفار وعلي المغفرة ومنك التوبة وعلي تبديل سيئاتك حسنات" يوضحه:
الوجه السادس: وهو قوله تعالى: 25 :70 {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح وهو حقيقة التوبة قال ابن عباس رضى الله عنهما: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت وفرحه بنزول 48 :1 {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }.
واختلفوا في صفة هذا التبديل وهل هو في الدنيا أو في الآخرة على قولين.(1/301)
فقال ابن عباس وأصحابه: "هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها فبدلهم بالشرك إيمانا وبالزنا عفة وإحصانا وبالكذب صدقا وبالخيانة أمانة".
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتهم القبيحة وأعمالهم السيئة عوضها صفات جميلة وأعمالا صالحة كما يبدل المريض بالمرض صحة والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين: "هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة".
واحتج أصحاب هذا القول بما روى الترمذى في جامعه: حدثنا الحسين بن حريث قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله: "إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا كذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من كبارها فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها ههنا قال أبو ذر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه".
فهذا حديث صحيح ولكن في الاستدلال به على صحة هذا القول نظر فإن هذا قد عذب بسيئاته ودخل بها النار ثم بعد ذلك أخرج منها وأعطي مكان كل سيئة حسنة صدقة تصدق الله بها عليه ابتداء بعدد ذنوبه وليس فى هذا تبديل تلك الذنوب بحسنات إذ ولو كان كذلك لما عوقب عليها كما لم يعاقب التائب والكلام إنما هو في تائب أثبت له مكان كل سيئة حسنة فزادت حسناته فأين في هذا الحديث ما يدل على ذلك؟.
والناس استقبلوا هذا الحديث مستدلين به في تفسير هذه الآية على هذا القول وقد علمت ما فيه لكن للسلف غور ودقة فهم لا يدركها كثير من المتأخرين.
فالاستدلال به صحيح بعد تمهيد قاعدة إذا عرفت عرف لطف الاستدلال به ودقته وهي أن الذنب لا بد له من أثر وأثره يرتفع بالتوبة تارة وبالحسنات(1/302)
الماحية تارة وبالمصائب المكفرة تارة وبدخول النار ليتخلص من أثره تارة وكذلك إذا اشتد أثره ولم تقو تلك الأمور على محوه فلا بد إذا من دخول النار لأن الجنة لا يكون فيها ذرة من الخبيث ولا يدخلها إلا من طاب من كل وجه فإذا بقي عليه شيء من خبث الذنوب أدخل كير الامتحان ليخلص ذهب إيمانه من خبثه فيصلح حينئذ لدار الملك.
إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أعطي مكان كل سيئة حسنة فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار وأحب إلى الله وإزالة النار بدل منها وهي الأصل فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول يوضحه:
الوجه التاسع: وهو أن التائب قد بدل كل سيئة حسنه بندمه عليها إذ هو توبة تلك السيئة والندم توبة والتوبة من كل ذنب حسنة فصار كل ذنب عمله زائلا بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار فتأمله فإنه من ألطف الوجوه.
وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة وقد تكون دونها وقد تكون فوقها وهذا بحسب نصح هذه التوبة وصدق التائب فيها وما يقترن بها من عمل القلب الذي تزيد مصلحته ونفعه على مفسدة تلك السيئة وهذا من أسرار مسائل التوبة ولطائفها يوضحه:
الوجه العاشر: أن ذنب العارف بالله وبأمره قد يترتب عليه حسنات أكبر منه وأكثر وأعظم نفعا وأحب إلى الله من عصمته من ذلك الذنب: من ذل وانكسار وخشية وإنابة وندم وتدارك بمراغمة العدو بحسنة أو حسنات أعظم(1/303)
منه حتى يقول الشيطان: يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه ويندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه لكن شتان ما بين الندمين والله تعالى يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظه كما تقدم أن هذا من العبودية من أسرارا فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة والتدارك وحصول محبوب الله تعالى من التوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال هنا: ما يوجب جعل مكان السيئة حسنة بل حسنات.
وتأمل قوله {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ولم يقل مكان كل واحدة واحدة فهذا يجوز أن يبدل السيئة الواحدة بعدة حسنات بحسب حال المبدل.
وأما فى الحديث: "فإن الذى عذب على ذنوبه لم يبدلها في الدنيا بحسنات من التوبة النصوح وتوابعها فلم يكن له ما يجعل مكان السيئة حسنات فأعطي مكان كل سيئة حسنة واحدة" وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن كبار ذنوبه ولما انتهى إليها ضحك ولم يبين ما يفعل الله بها وأخبر أن الله يبدل مكان كل صغيرة حسنة ولكن فى الحديث إشارة لطيفة إلى أن هذا التبديل يعم كبارها وصغارها من وجهين.
أحدهما: قوله: "أخبئوا عنه كبارها" فهذا إشعار بأنه إذا رأى تبديل الصغائر ذكرها وطمع فى تبديلها فيكون تبديلها أعظم موقعا عنده من تبديل الصغائر وهو به أشد فرحا واغتباطا.
والثانى: ضحك النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر ذلك وهذا الضحك مشعر بالتعجب مما يفعل به من الإحسان وما يقر به على نفسه من الذنوب من غير أن يقرر عليها ولا يسأل عنها وإنما عرضت عليه الصغائر.
فتبارك الله رب العالمين وأجود الأجودين وأكرم الأكرمين البر اللطيف المتودد إلى عباده بأنواع الإحسان وإيصاله إليهم من كل طريق بكل نوع لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.(1/304)
فصل
وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب وبالإقلاع عنه فى الحال وبالندم عليه في الماضي وإن كان في حق آدمي: فلا بد من أمر رابع وهو التحلل منه.
وهذا الذي ذكروه بعض مسمى (التوبة) بل شرطها وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن ذلك تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به هذا حقيقة التوبة وهي اسم لمجموع الأمرين لكنها إذا قرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه فإذا أفردت تضمنت الأمرين وهي كلفظة (التقوى) التى تقتضى عند إفرادها فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه وتقتضى عند اقترانها بفعل المأمور الانتهاء عن المحظور.
فإن حقيقة (التوبة) الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب وترك ما يكره فهي رجوع من مكروه إلى محبوب فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها والرجوع عن المكروه الجزء الآخر ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال: 24 :31 {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ(1/305)
تُفْلِحُون} فكل تائب مفلح ولا يكون مفلحا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وتارك المأمور ظالم كما أن فاعل المحظور ظالم وزوال اسم (الظلم) عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين فالناس قسمان: تائب وظالم ليس إلا فالتائبون هم 9 :112 { الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} فحفظ حدود الله: جزء التوبة والتوبة هي مجموع هذه الأمور وإنما سمي تائبا: لرجوعه إلى أمر الله من نهيه وإلى طاعته من معصيته كما تقدم.
فإذا (التوبة) هي حقيقة دين الإسلام والدين كله داخل في مسمى (التوبة) وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وإنما يحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
فإذا (التوبة) هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقامات ولهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته كما تقدم وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق والأمر والتوحيد جزء منها بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها.
وأكثر الناس لا يعرفون قدر (التوبة) ولا حقيقتها فضلا عن القيام بها علما وعملا وحالا ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين إلا وهم خواص الخلق لديه.(1/306)
ولولا أن (التوبة) اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل (التوبة) وآثارها.
فصل
وأما (الاستغفار) فهو نوعان: مفرد ومقرون بالتوبة فالمفرد: كقول
نوح عليه السلام لقومه: 71 :10، 11 {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} وكقول صالح لقومه: 27 :46 { لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وكقوله تعالى: 2 :199 { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله: 8 :33 {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون} والمقرون كقوله تعالى: 11 :3 {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} وقول هود لقومه 11 :52 {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} وقول صالح لقومه: 11 :61 {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} وقول شعيب 11 :90 {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} فالاستغفار المفرد كالتوبة بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره لا كما ظنه بعض الناس: أنها الستر فإن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له ولكن(1/307)
الستر لازم مسماها أو جزؤه فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم.
وحقيقتها: وقاية شر الذنب ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى والستر لازم لهذا المعنى وإلا فالعمامة لا تسمى مغفرا ولا القبع ونحوه مع ستره فلا بد في لفظ (المغفر) من الوقاية وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله: 8 :33 {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإن الله لا يعذب مستغفرا وأما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق ولهذا لا يمنع العذاب فالاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق.
وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
فها هنا ذنبان: ذنب قد مضى فالاستغفار منه: طلب وقاية شره وذنب يخاف وقوعه فالتوبة: العزم على أن لا يفعله والرجوع إلى الله يتناول النوعين: رجوع إليه ليقيه شر ما مضى ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله.
وأيضا فإن المذنب بمنزلة من ركب طريقا تؤديه إلى هلاكه ولا توصله إلى المقصود فهو مأمور أن يوليها ظهره ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته والتى توصله إلى مقصوده وفيها فلاحه.
فههنا أمران لا بد منهما: مفارقة شيء والرجوع إلى غيره فخصت التوبة بالرجوع و الاستغفار بالمفارقة وعند إفراد أحدهما يتناول الأمرين ولهذا(1/308)
جاء والله أعلم الأمر بهما مرتبا بقوله {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} فإنه الرجوع إلى طريق الحق: بعد مفارقة الباطل.
وأيضا فالاستغفار من باب إزالة الضرر والتوبة طلب جلب المنفعة فالمغفرة أن يقيه شر الذنب والتوبة: أن يحصل له بعد هذه الوقاية ما يحبه وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم.
فصل
وهذا يتبين بذكر التوبة النصوح وحقيقتها قال الله تعالى: 66 :8 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فجعل وقاية شر السيئات وهو تكفيرها بزوال ما يكره العبد ودخول الجنات وهو حصول ما يحب العبد منوطا بحصول التوبة النصوح و (النصوح) على وزن فعول المعدول به عن فاعل قصدا للمبالغة كالشكور والصبور وأصل مادة (ن ص ح) لخلاص الشيء من الغش والشوائب الغريبة وهو ملاق في الاشتقاق الأكبر لنصح إذا خلص فالنصح في التوبة والعبادة والمشورة: تخليصها من كل غش ونقص وفساد وإيقاعها على أكمل الوجوه والنصح ضد الغش.
وقد اختلفت عبارات السلف عنها ومرجعها إلى شيء واحد فقال عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما: "التوبة النصوح: أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع" وقال الحسن البصري: "هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود فيه" وقال الكلبي: "أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن" وقال سعيد بن المسيب: "توبة نصوحا تنصحون بها أنفسكم" جعلها بمعنى ناصحة للتائب كضروب المعدول عن ضارب.
وأصحاب القول الأول يجعلونها بمعنى المفعول أي قد نصح فيها التائب ولم(1/309)
يشبها بغش فهي إما بمعنى منصوح فيها كركوبة وحلوبة بمعنى مركوبة ومحلوبة أو بمعنى الفاعل أي ناصحة كخالصة وصادقة.
وقال محمد بن كعب القرظي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيء الإخوان.
قلت: النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء.
الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته.
والثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرا بها.
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته ولحفظ حاله أو لحفظ قوته وماله أو استدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم أو لئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل.
فالأول: يتعلق بما يتوب منه والثالث: يتعلق بمن يتوب إليه والأوسط: يتعلق بذات التائب ونفسه فنصح التوبة الصدق فيها والإخلاص وتعميم الذنوب بها ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب وهي أكمل ما يكون من التوبة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فصل
في الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب وقد جاء في كتاب الله تعالى ذكرهما مقترنين وذكر كلا منهما منفردا عن الآخر فالمقترنان كقوله تعالى حاكيا عن عباده المؤمنين: 3 :193 {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا(1/310)
مَعَ الأَبْرَارِ} والمنفرد كقوله: 47 :2 {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} وقوله في المغفرة: 47 :15 {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} وكقوله: 3 :147 {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} ونظائره.
فههنا أربعة أمور: ذنوب وسيئات ومغفرة وتكفير.
فالذنوب: المراد بها الكبائر والمراد بالسيئات: الصغائر وهي ما تعمل فيه الكفارة من الخطأ وما جرى مجراه ولهذا جعل لها التكفير ومنه أخذت الكفارة ولهذا لم يكن لها سلطان ولا عمل في الكبائر في أصح القولين فلا تعمل في قتل العمد ولا في اليمين الغموس في ظاهر مذهب أحمد وأبي حنيفة.
والدليل على أن السيئات هي الصغائر والتكفير لها: قوله تعالى: 4 :31 {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
ولفظ (المغفرة) أكمل من لفظ (التكفير) ولهذا كان مع الكبائر والتكفير مع الصغائر فإن لفظ (المغفرة) يتضمن الوقاية والحفظ ولفظ(1/311)
(التكفير) يتضمن الستر والإزالة وعند الإفراد: يدخل كل منهما في الآخر كما تقدم فقوله تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} يتناول صغائرها وكبائرها ومحوها ووقاية شرها بل التكفير المفرد يتناول أسوأ الأعمال كما قال تعالى: 35 :30 {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا}.
وإذا فهم هذا فهم السر في الوعد على المصائب والهموم والغموم والنصب والوصب بالتكفير دون المغفرة كقوله: فى الحديث الصحيح: "ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا أذى حتى الشوكه يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" فإن المصائب لا تستقل بمغفرة الذنوب ولا تغفر الذنوب جميعها إلا بالتوبة أو بحسنات تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب فهى كالبحر لا يتغير بالجيف وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
فلأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا فإن لم تف بطهرهم.
طهروا في نهر الجحيم يوم القيامة: نهر التوبة النصوح ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها ونهر المصائب العظيمة المكفرة فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة فورد القيامة طيبا طاهرا فلم يحتج إلى التطهير الرابع.
فصل
وتوبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها فتوبته بين توبتين من الله سابقة ولاحقة فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا(1/312)
وإلهاما فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة قال الله سبحانه وتعالى 9 :117، 118 {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم وأنها هي التي جعلتهم تائبين فكانت سببا ومقتضيأ لتوبتهم فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله تعالى عليهم والحكم ينتف لانتفاء علته.
ونظير هذا: هدايته لعبده قبل الاهتداء فيهتدي بهدايته فتوجب له تلك الهداية هداية أخرى يثيبه الله بها هداية على هدايته فإن من ثواب الهدى: الهدى بعده كما أن من عقوبة الضلالة: الضلالة بعدها قال الله تعالى: 47 :17 {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} فهداهم أولا فاهتدوا فزادهم هدى ثانيا وعكسه في أهل الزيغ كقوله تعالى: 61 :5 { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} فهذه الإزاغة الثانية عقوبة لهم على زيغهم.
وهذا القدر من سر اسميه (الأول والآخر) فهو المعد وهو الممد ومنه السبب والمسبب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به: "وأعوذ بك منك" والعبد تواب والله تواب فتوبة العبد: رجوعه إلى سيده بعد الإباق وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق وقبول وإمداد.(1/313)
فصل
و(التوبة) لها مبدأ ومنتهى فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي نصبه لعباده موصلا إلى رضوانه وأمرهم بسلوكه بقوله: تعالى 6 :153 {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} وبقوله: 42 :52، 53 وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض} وبقوله: 22: 24 {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}.
ونهايتها: الرجوع إليه في المعاد وسلوك صراطه الذى نصبه موصلا إلى جنته فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة: رجع إليه في المعاد بالثواب وهذا هو أحد التأويلات في قوله تعالى: 25 :71 { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} قال البغوي وغيره: "يتوب إلى الله متابا: يعود إليه بعد الموت متابا حسنا يفضل على غيره" فالتوبة الأولى وهي قوله: "ومن تاب" رجوع عن الشرك والثانية: رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
والتأويل الثاني: أن الجزاء متضمن معنى الأوامر والمعنى: ومن عزم على التوبة وأرادها فليجعل توبته إلى الله وحده ولوجهه خالصا لا لغيره.
التأويل الثالث: أن المراد لازم هذا المعنى وهو إشعار التائب وإعلامه بمن تاب إليه ورجع إليه والمعنى: فليعلم توبته إلى من؟ ورجوعه إلى من؟ فإنها إلى الله لا إلى غيره.
ونظير هذا على أحد التأويلين قوله تعالى: 5 :67 {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: اعلم ما يترتب على من عصى أوامره ولم يبلغ رسالته.
والتأويل الرابع: أن التوبة تكون أولا بالقصد والعزم على فعلها ثم إذا قوي العزم وصار جازما: وجد به فعل التوبة فالتوبة الأولى: بالعزم والقصد(1/314)
لفعلها والثانية: بنفس إيقاع التوبة وإيجادها والمعنى: فمن تاب إلى الله قصدا ونية وعزما فتوبته إلى الله عملا وفعلا وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
فصل
و(الذنوب) تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف وبلاعتبار قال تعالى: 4 :31 {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وقال تعالى: 53 :32 {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
وأما ما يحكى عن أبي إسحاق الإسفرائيني أنه قال: الذنوب كلها كبائر وليس فيها صغائر فليس مراده: أنها مستوية فى الإثم بحيث يكون إثم النظر المحرم كإثم الوطء في الحرام وإنما المراد: أنها بالنسبة إلى عظمة من عصي بها كلها كبائر ومع هذا فبعضها أكبر من بعض ومع هذا فالأمر في ذلك لفظي لا يرجع إلى معنى.
والذي جاء في لفظ الشارع تسمية ذلك (لمما) و (محقرات) كما في الحديث: "إياكم ومحقرات الذنوب" وقد قيل: إن (اللمم) المذكور فى الآية من الكبائر حكاه البغوي.وغيره.
قالوا: ومعنى الاستثناء: أن يلم بالكبيرة مرة ثم يتوب منها ويقع فيها ثم ينتهي عنها لا يتخذها دأبه وعلى هذا يكون استثناء (اللمم): من الاجتناب إذ معناه: لا يصدر منهم ولا تقع منهم الكبائر إلا لمما.(1/315)
والجمهور على أنه استثناء من الكبائر وهو منقطع أي لكن يقع منهم اللمم.
وحسن وقوع الانقطاع بعد الإيجاب والغالب خلافه أنه إنما يقع حيث يقع التفريغ إذ في الإيجاب هنا معنى النفي صريحا فالمعنى: لا يأتون ولا يفعلون كبائر الإثم والفواحش فحسن استثناء اللمم.
ولعل هذا الذي شجع أبا إسحاق على أن قال: الذنوب كلها كبائر إذ الأصل في الاستثناء الاتصال ولا سيما وهو من موجب.
ولكن النصوص وإجماع السلف على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر.
ثم اختلفوا في فصلين أحدهما: في (اللمم) ما هو؟ والثاني: في (الكبائر) وهل لها عدد يحصرها أو حد يحدها فلنذكر شيئا يتعلق بالفصلين.
فصل
فأما (اللمم) فقد روي عن جماعة من السلف: أنه الإلمام بالذنب مرة ثم لا يعود إليه وإن كان كبيرا قال البغوي: هذا قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عطاء عن ابن عباس قال: وقال عبدالله بن عمرو بن العاص: "اللمم ما دون الشرك" قال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن قول الله عز وجل: {إِلاَّ اللَّمَمَ} فقلت: "هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده" فذكرت ذلك لابن عباس فقال: "لقد أعانك عليها ملك كريم".
والجمهور: على أن (اللمم) ما دون الكبائر وهو أصح الروايتين عن ابن عباس كما في صحيح البخارى من حديث طاووس عنه قال: "ما رأيت أشبه(1/316)
باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين" النظر وزنا اللسان: النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " رواه مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة وفيه "والعينان زناهما: النظر والأذنان: زناهما الاستماع واللسان: زناه الكلام واليد: زناها البطش والرجل: زناها الخطى".
وقال الكلبي: "(اللمم) على وجهين كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا فى الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش والوجه الآخر: هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه".
وقال سعيد بن المسيب: "هو ما ألم بالقلب أي ما خطر عليه".
قال الحسين بن الفضل: (اللمم) النظر من غير تعمد فهو مغفور فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو ذنب وقد روى عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
وذهبت طائفة ثالثة إلى أن (اللمم) ما فعلوه في الجاهلية قبل إسلامهم فالله لا يؤاخذهم به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: "أنتم بالأمس كنتم تعملون معنا فأنزل الله هذه الآية" وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم.
والصحيح: قول الجمهور: أن اللمم صغائر الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم وهو قول أبي هريرة وعبدالله بن مسعود وابن عباس ومسروق والشعبي ولا ينافى هذا قول أبي هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى: "إنه يلم بالكبيرة ثم لا يعود إليها" فإن (اللمم) إما أنه يتناول هذا وهذا ويكون على وجهين كما قال الكلبي(1/317)
أو أن أبا هريرة وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة ولم يصر عليها بل حصلت منه فلتة في عمره باللمم ورأيا أنها إنما تتغلظ وتكبر وتعظم في حق من تكررت منه مرارا عديدة وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم وغور علومهم ولا ريب أن الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث وإنما يخاف العنت على من اتخذ الذنب عادته وتكرر منه مرارا كثيرة وفي ذلك آثار سلفية والاعتبار بالواقع يدل على هذا ويذكر عن علي رضي الله عنه: "أنه دفع إليه سارق فأمر بقطع يده فقال: يا أمير المؤمنين والله ما سرقت غير هذه المرة فقال: كذبت فلما قطعت يده قال: اصدقني كم لك بهذه المرة فقال: كذا وكذا مرة؟ فقال: صدقت إن الله لا يؤاخذ بأول ذنب" أو كما قال فأول ذنب إن لم يكن هو اللمم فهو من جنسه ونظيره فالقولان عن أبي هريرة وابن عباس متفقان غير مختلفين والله أعلم.
وهذه اللفظة فيها معنى المقاربة والإعتاب بالفعل حينا بعد حين فإنه يقال: ألمّ بكذا إذا قاربه ولم يغشه ومن هذا سميت القبلة والغمزة لمما لأنها تلم بما بعدها ويقال: فلان لا يزورنا إلا لماما أى حينا بعد حين فمعنى اللفظة ثابت في الوجهين اللذين فسر الصحابة بهما الآية وليس معنى الآية "والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم فإنهم لا يجتنبونه" فإن هذا يكون ثناء عليهم بترك اجتناب اللمم وهذا محال وإنما هذا استثناء من مضمون الكلام ومعناه فان سياق الكلام في تقسيم الناس إلى محسن ومسيء وأن الله يجزى هذا بإساءته وهذا بإحسانه ثم ذكر المحسنين ووصفهم بأنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ومضمون هذا: أنه لا يكون محسنا مجزيا بإحسانه ناجيا من عذاب الله إلا من اجتنب كبائر الإثم والفواحش فحسن حينئذ استثناء اللمم وإن لم يدخل في الكبائر فإنه داخل في جنس الإثم والفواحش.
وضابط الانقطاع: أن يكون له دخول في جنس المستثنى منه وإن لم يدخل(1/318)
فى نفسه ولم يتناوله لفظه كقوله تعالى: 19 :62 {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاماً} فإن (السلام) داخل في الكلام الذي هو جنس اللغو والسلام وكذلك قوله 78 :24 {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً، إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} فإن الحميم والغساق داخل فى جنس الذوق المنقسم فكأنه قيل في الأول: لا يسمعون فيها شيئا إلا سلاما وفي الثاني: لا يذوقون فيها شيئا إلا حميما وغساقا ونص على فرد من أفراد الجنس تصريحا ليكون نفيه بطريق التصريح والتنصيص لا بطريق العموم الذى يتطرق إليه تخصيص هذا الفرد وكذلك قوله: 4 :156 {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ} فإن الظن داخل في الشعور الذي هو جنس العلم والظن.
وأدق من هذا: دخول الانقطاع فيما يفهمه الكلام بلازمه كقوله تعالى: 4 :22 {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَف} إذ مفهوم هذا: أن نكاح منكوحات الآباء سبب للعقوبة إلا ما قد سلف منه قبل التحريم فإنه عفو وكذلك: 4 :23 {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وإن كان المراد به: ما كان في شرع من تقدم فهو استثناء من القبح المفهوم من ذلك التحريم والذم لمن فعله فحسن أن يقال: "إلا ما قد سلف".
فتأمل هذا فإنه من فقه العربية.
وأما قوله 44 :56 {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} فهذا الاستثناء هو لتحقيق دوام الحياة وعدم ذوق الموت وهو يجعل النفي الأول العام بمنزلة النص الذي لا يتطرق إليه استثناء ألبتة إذ لو تطرق إليه استثناء فرد من أفراده لكان أولى بذكره من العدول عنه إلى الاستثناء المنقطع مجزى هذا الاستثناء مجرى التأكيد والتنصيص على حفظ العموم وهذا جار في كل منقطع فتأمله فإنه من أسرار العربية.
فقوله: "وما بالربع من أحد الأواري" يفهم منه لو وجدت فيها أحدا لاستثنيته ولم أعدل إلى الأواري التي ليست بأحد.(1/319)
وقريب من هذا لفظة (أو) في قوله تعالى: 2 :74 { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} وقوله: 37 :147 {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} هو كالتنصيص على أن المراد بالأول الحقيقة لا المبالغة فإنها إن لم تزد قسوتها على الحجارة فهي كالحجارة في القسوة لا دونها وأنه إن لم يزد عددهم على مئة ألف لم ينقص عنها فذكر (أو) ههنا كالتنصيص على حفظ المئة الألف وأنها ليست مما أريد بها المبالغة والله أعلم.
فصل
وأما الكبائر: فاختلف السلف فيها اختلافا لا يرجع إلى تباين وتضاد وأقوالهم متقاربة.
وفى الصحيحين من حديث الشعبي عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس".
وفيهما عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئا فقال: ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت".
وفى الصحيح من حديث أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبدالله بن مسعود قال: قلت: "يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال: قلت: ثم أي قال: أن تزانى بحليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم 25 :68 {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}.(1/320)
وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقدف المحصنات الغافلات المؤمنات".
وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم: سمعت حميد بن عبد الرحمن يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أكبر الكبائر: أن يسب الرجل والديه قالوا: وكيف يسب الرجل والديه قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه".
وفى حديث أي هريرة رضي الله عنه آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "إن من أكبر الكبائر: استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق".
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أكبر الكبائر: الشرك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله".
قال سعيد بن جبير: سأل رجل ابن عباس عن الكبائر "أسبع هن؟ قال: هن إلى السبعمائة أقرب إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار" وقال: "كل شيء عصي الله به فهو كبيرة من عمل شيئا منها فليستغفر الله فإن الله لا يخلد في النار من الأمة إلا من كان راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بالقدر".
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما نهى الله عنه في سورة النساء من أولها إلى قوله: 4 : 31 {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} فهو كبيرة وقال علي بن أبي طلحة: "هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب".
وقال الضحاك: "هي ما أوعد الله عليه حدا في الدنيا أو عذابا في الآخرة".
وقال الحسين بن الفضل: "ما سماه الله في القرآن كبيرا أو عظيما نحو قوله:(1/321)
4 :3 {إِنَّهُ كَانَ حُوبا} 17 :31 {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} 31 :13 {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 12 :28 {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} 24 :16 {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 33 :53 {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً}.
وقال سفيان الثوري: "الكبائر ما كان فيه من المظالم بينك وبين العباد والصغائر: ما كان بينك وبين الله لأن الله كريم يعفو واحتج بحديث يزيد بن هارون عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينادي مناد من قبل بطنان العرش يوم القيامة: يا أمة محمد إن الله عز وجل قد عفا عنكم جمعكم المؤمنين والمؤمنات فتواهبوا المظالم بينكم وادخلوا الجنة برحمتي".
قلت: مراد سفيان: أن الذنوب التي بين العبد وبين الله أسهل أمرا من مظالم العباد فإنها تزول بالاستغفار والعفو والشفاعة وغيرها وأما مظالم العباد: فلا بد من استيفائها وفى المعجم الطبراني: "الظلم عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئا وهو الشرك بالله ثم قرأ: 4 :48 {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه} وديوان لا يترك الله منه شيئا وهو مظالم العباد بعضهم بعضا وديوان لا يعبأ الله به شيئا وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين الله".
ومعلوم أن هذا الديوان مشتمل على الكبائر والصغائر لكن مستحقه أكرم الأكرمين وما يعفو عنه من حقه ويهبه أضعاف أضعاف ما يستوفيه فأمره أسهل من الديوان الذي لا يترك منه شيئا لعدله وإيصال كل حق إلى صاحبه.
وقال مالك بن مغول: "الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل السنة".
قلت: يريد أن البدعة من الكبائر وأنها أكبر من كبائر أهل السنة فكبائر أهل السنة صغائر بالنسبة إلى البدع وهذا معنى قول بعض السلف: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها.(1/322)
وقيل: الكبائر ذنوب العمد والسيئات: الخطأ والنسيان وما أكره عليه وحديث النفس المرفوعة عن هذه الأمة.
قلت: هذا من أضعف الأقوال طردا وعكسا فإن الخطأ والنسيان والإكراه لا يدخل تحت جنس المعاصي حتى يكون أحد قسميها.
والعمد نوعان: نوع كبائر ونوع صغائر ولعل صاحب هذا القول يرى: أن الذنوب كلها كبائر وأن الصغائر ما عفا الله لهذه الأمة عنه ولم يدخل تحت التكليف وهذا غير صحيح فإن الكبائر والصغائر نوعان تحت جنس المعصية ويستحيل وجود النوع بدون جنسه.
وقيل: الكبائر ذنوب المستحلين مثل ذنب إبليس والصغائر: ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم.
قلت: أما المستحل: فذنبه دائر بين الكفر والتأويل فإنه إن كان عالما بالتحريم فكافر وإن لم يكن عالما به فمتأول أو مقلد وأما المستغفر: فإن استغفاره الكامل يمحو كبائره وصغائره فلا كبيرة مع الاستغفار.
فهذا الفرق ضعيف أيضا إلا أن يكون مراد صاحبه: أن ما يفعله المستحل من الذنب أعظم عقوبة مما يفعله المعترف بالتحريم النادم على الذنب المستغفر منه وهذا صحيح.
وقال السدى: الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبار والسيئات مقدماتها وتوابعها مما يجتمع فيه الصالح والفاسق مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه".
وقيل: الكبائر ما يستصغره العباد والصغائر: ما يستعظمونه فيخافون مواقعته واحتج أرباب هذه المقالة بما روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: "إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا(1/323)
نعدها على عهد رسول الله من الموبقات".
قلت: أما قول السدي: "الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبار" فبيان للشيء بنفسه فإن الذنوب الكبائر: هي الكبائر وإنما مراده: أن المنهي عنه قسمان أحدهما: ما هو مشتمل على المفسدة بنفسه ونفس فعله منشأ المفسدة فهذا كبيرة كقتل النفس والسرقة والقذف والزنا.
الثاني: ما كان من مقدمات ذلك ومباديه كالنظر واللمس والحديث والقبلة الذي هو مقدمة الزنا فهو من الصغائر فالصغائر: من جنس المقدمات والكبائر: من جنس المقاصد والغايات.
وأما من قال: "ما يستصغره العباد فهو كبائر وما يستكبرونه فهو صغائر" فإن أراد: أن الفرق راجع إلى استكبارهم واستصغارهم فهو باطل فإن العبد يستصغر النظرة ويستكبر الفاحشة.
وإن أراد: أن استصغارهم للذنب يكبره عند الله واستعظامهم له يصغره عند الله تعالى فهذا صحيح فإن العبد كلما صغرت ذنوبه عنده كبرت عند الله وكلما كبرت عنده صغرت عند الله والحديث إنما يدل على هذا المعنى فإن الصحابة لعلو مرتبتهم عند الله وكمالهم كانوا يعدون تلك الأعمال موبقات ومن بعدهم لنقصان مرتبتهم عنهم وتفاوت ما بينهم صارت تلك الأعمال في أعينهم أدق من الشعر.
وإذا أردت فهم هذا فانظر: هل كان في الصحابة من إذا سمع نص رسول الله عارضه بقياسه أو ذوقه أو وجده أو عقله أو سياسته؟ وهل كان قط أحد منهم يقدم على نص رسول الله عقلا أو قياسا أو ذوقا أو سياسة أو تقليد مقلد فلقد أكرم الله أعينهم وصانها أن تنظر إلى وجه من هذا حاله أو يكون في زمانهم ولقد حكم عمر بن الخطاب رضى الله عنه على من قدم حكمه على نص الرسول بالسيف وقال: "هذا حكمي(1/324)
فيه" فيالله! كيف لو رأى ما رأينا وشاهد ما بلينا به من تقديم رأي كل فلان وفلان على قول المعصوم ومعاداة من اطرح آراءهم وقدم عليها قول المعصوم؟ فالله المستعان وهو الموعد وإليه المرجع.
وقيل: الكبائر: الشرك وما يؤدي إليه والصغائر: ما عدا الشرك من ذنوب أهل التوحيد.
واحتج أرباب هذه المقالة بقوله تعالى: 4 :48 {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا: لأيتتك بقرابها مغفرة".
واحتجوا أيضا بالحديث الذى روي مرفوعا وموقوفا: "الظلم ثلاث دواوين ديوان لا يغفر الله منه شيئا وهو الشرك وديوان لا يترك الله منه شيئا وهو ظلم العباد بعضهم بعضا وديوان لا يعبأ به الله شيئا وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه".
فهذا جملة ما احتج به أرباب هذه المقالة ولا حجة لهم في شيء منه.
أما الآية: فإن غايتها التفريق بين الشرك وغيره وأن الشرك لان يغفر إلا بالتوبة منه وأما ما دون الشرك: فهو موكول إلى مشيئة وهذا يدل على أن المعاصي دون الشرك وهذا حق فإن أراد أرباب هذا القول هذا: فلا نزاع فيه وإن أرادوا أن كل ما دون الشرك: فهو صغيرة في نفسه فباطل.
فإن قيل: فإذا كان الشرك وغيره مما تأتي عليه التوبة فما وجه الفرق بين الشرك وما دونه وهل هما في حق التائب أم غير التائب أم أحدهما في حق التائب والآخر في حق غيره وما الفرق بين هذه الآية وبين قوله 39 :53 {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.(1/325)
فالجواب: أن كل واحدة من الآيتين لطائفة فآية النساء 4 :48 {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} هي لغير التائبين في القسمين.
والدليل عليه: أنه فرق بين الشرك وغيره في المغفرة ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الشرك يغفر بالتوبة وإلا لم يصح إسلام كافر أبدا.
وأيضا فإنه خصص مغفرة ما دون الشرك بمن يشاء ومغفرة الذنوب للتائبين عامة لا تخصيص فيها فخصص وقيد وهذا يدل على أنه حكم غير التائب.
وأما آية الزمر 39 :58 {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فهي في حق التائب لأنه أطلق وعمم فلم يخصها بأحد ولم يقيدها بذنب ومن المعلوم بالضرورة: أن الكفر لا يغفره وكثير من الذنوب لا يغفرها فعلم أن هذا الإطلاق والتعميم في حق التائب فكل من تاب من أي ذنب كان: غفر له.
وأما الحديث الآخر: "لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة" فلا يدل على أن ما عدا الشرك كله صغائر بل يدل على أن من لم يشرك بالله شيئا فذنوبه مغفورة كائنة ما كانت ولكن ينبغي أن يعلم ارتباط ايمان القلوب بأعمال الجوارح وتعلقها بها وإلا لم يفهم مراد الرسول ويقع الخلط والتخبيط.
فاعلم أن هذا النفي العام للشرك أن لا يشرك بالله شيئا ألبتة لا يصدر من مصر على معصية أبدا ولا يمكن مدمن الكبيرة والمصر على الصغيرة أن يصفو له التوحيد حتى لا يشرك بالله شيئا هذا من أعظم المحال ولا يلتفت إلى جدلي لاحظ له من أعمال القلوب بل قلبه كالحجر أو أقسى يقول: وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟ ولو فرض ذلك واقعا لم يلزم منه محال لذاته!.
فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب(1/326)
من خوف القلب من غير الله ورجائه لغير الله وحبه لغير الله وذله لغير الله وتوكله على غير الله: ما يصير به منغمسا في بحار الشرك والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل فإن ذل المعصية لا بد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفا من غير الله تعالى وذلك شرك ويورثه محبة لغير الله واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه فيكون عمله لا بالله ولا لله وهذا حقيقة الشرك.
نعم قد يكون معه توحيد أبي جهل وعباد الأصنام وهو توحيد الربوبية وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله ولو أنجى هذا التوحيد وحده لأنجى عباد الأصنام والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحدين.
والمقصود: أن من لم يشرك بالله شيئا يستحيل أن يلقى الله بقراب الأرض خطايا مصرا عليها غير تائب منها مع كمال توحيده الذي هو غاية الحب والخضوع والذل والخوف والرجاء للرب تعالى.
وأما حديث الدواوين: فإنما فيه أن حق الرب تعالى لا يؤوده أن يهبه ويسقطه ولا يحتفل به ويعتني به كحقوق عباده وليس معناه: أنه لا يؤاخذ به ألبتة أو أنه كله صغائر وإنما معناه: أنه يقع فيه من المسامحة والمساهلة والإسقاط والهبة ما لا يقع مثله في حقوق الآدميين.
فظهر أنه لا حجة لهم في شيء مما احتجوا به والله أعلم.
وقالت فرقة: الصغائر ما دون الحدين والكبائر: ما تعلق به أحد الحدين.
ومرادهم بالحدين: عقوبة الدنيا والآخرة فكل ذنب عليه عقوبة مشروعة محدودة في الدنيا كالزنا وشرب الخمر والسرقة والقذف أو عليه وعيد في الآخرة كأكل مال اليتيم والشرب في آنية الفضة والذهب وقتل الإنسان نفسه وخيانته أمانته ونحو ذلك فهو من الكبائر وصدق ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: :هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع".(1/327)
فصل
وههنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن (الكبيرة) قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في أعلى رتبها.
وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب وهو قدر زائد على مجرد الفعل والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره.
وأيضا فإنه يعفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ويسامح بما لا يسامح به غيره.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها وجر بلحية نبي مثله وهو هارون ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبه ويكرمه ويدلله لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له وصدع بأمره وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر".
وانظر إلى يونس بن متى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت ولم يحتمل له ما احتمل لموسى وفرق بين من إذا أتى بذنب واحد ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع(1/328)
فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله وتذكر به إذا وقع في الشدائد قال تعالى عن ذي النون 38 :143، 144 {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وفرعون لما لم تكن له سابقة خير تشفع له وقال: 10 :90 {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيل} قال له جبريل {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
وفى المسندا عنه صلى الله عليه وسلم : "إنه قال إن ما تذكرون من جلال الله من التسبيح والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن أفلا يحب أحدكم أن يكون له من يذكر به؟" ولهذا من رجحت حسناته على سيئاته أفلح ولم يعذب ووهبت له سيئاته لأجل حسناته ولأجل هذا يغفر لصاحب التوحيد ما لا يغفر لصاحب الإشراك لأنه قد قام به مما يحبه الله ما اقتضى أن يغفر له ويسامحه ما لا يسامح به المشرك وكما كان توحيد العبد أعظم كانت مغفرة الله له أتم فمن لقيه لا يشرك به شيئا ألبتة غفر له ذنوبه كلها كائنة ما كانت ولم يعذب بها.
ولسنا نقول: إنه لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد بل كثير منهم يدخل بذنوبه ويعذب على مقدار جرمه ثم يخرج منها ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علما بما قدمناه.
ونزيد ههنا إيضاحا لعظم هذا المقام من شدة الحاجة إليه.
اعلم أن أشعة (لا إله إلا الله) بتدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى.
فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس.
ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري.
ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم.(1/329)
وآخر: كالسراج المضيء وآخر كالسراج الضعيف.
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا ومعرفة وحالا.
وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد: أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه أو حصل أضعافه بكسبه فهو هكذا أبدا مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره.
وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله وأن الله رب كل شيء ومليكه كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون بل التوحيد يتضمن من محبة الله والخضوع له والذل وكمال الانقياد لطاعته وإخلاص العبادة له وإرادة وجهة الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله وقوله لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالدا ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة.(1/330)
والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار فلا بد من قول القلب وقول اللسان وقول القلب: يتضمن من معرفتها والتصديق بها ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله المختصة به التي يستحيل ثبوتها لغيره وقيام هذا المعنى بالقلب: علما ومعرفة ويقينا وحالا: ما يوجب تحريم قائلها على النار وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب فإنما هو القول التام كقوله: "من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر" وليس هذا مرتبا على مجرد قول اللسان.
نعم من قالها بلسانه غافلا عن معناها معرضا عن تدبرها ولم يواطىء قلبه لسانه ولا عرف قدرها وحقيقتها راجيا مع ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض.والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.(1/331)
وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب.
ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجله السجلات: لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة.
وإذا اردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك وذكر من هو معرض عنك غافل ساه مشغول بغيرك قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرك وإيثاره عليك هل يكون ذكرهما واحدا أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة أو عبداك أو زوجتاك عندك سواء؟.
وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية وحملته وهو في تلك الحال على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت فهذا أمر آخر وإيمان آخر ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها.
وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة وعدم المعين وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر ثم تواضعها لهذا المخلوق الذى جرت عادة الناس بضربه فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها.
فهكذا الأعمال والعمال عند الله والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان.(1/332)
فصل
فإن قيل: قد ذكرتم: أن المحب يسامح بما لا يسامح به غيره ويعطى للولي عما لا يعفى لسواه وكذلك العالم أيضا يغفر له ما لا يغفر للجاهل كما روى الطبراني بإسناد جيد مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله سبحانه إذا جمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد قال للعلماء: إني كنت أعبد بفتواكم وقد علمت أنكم كنتم تخلطون كما يخلط الناس وإنى لم أضع علمي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم" هذا معنى الحديث وقد روي مسندا ومرسلا.
فهذا الذي ذكرتم صحيح وهو مقتضى الحكمة والجود والإحسان ولكن ماذا تصنعون بالعقوبة المضاعفة التى ورد التهديد بها في حق أولئك إن وقع منهم ما يكره كقوله تعالى 33 :30 {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} وقوله تعالى: 17 :73، 74 { وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} أى لولا تثبيتنا لك لقد كدت تركن إليهم بعض الشيء ولو فعلت لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات أى ضاعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة وقال تعالى: 69 :44، 46 {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} أي: لو أتى بشيءمن عند نفسه لأخذنا منه بيمينه وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه وقد أعاذه الله من الركون إلى أعدائه بذرة من قلبه ومن التقول عليه سبحانه وكم من راكن إلى أعدائه ومتقول عليه من قبل نفسه قد أمهله ولم يعبأ به كأرباب البدع كلهم المتقولين على أسمائه وصفاته ودينه.
وما ذكرتم في قصة يونس: هو من هذا الباب فإنه لم يسامح بغضبة وسجن لأجلها في بطن الحوت ويكفي حال أبي البشر حيث لم يسامح بلقمة وكانت سبب إخراجه من الجنة.(1/333)
فالجواب: أن هذا أيضا حق ولا تنافي بين الأمرين فإن من كملت عليه نعمة الله واختصه منها بما لم يختص به غيره: في إعطاءه منها ما حرمه غيره فحبي بالإنعام وخص بالإكرام وخص بمزيد التقريب وجعل في منزلة الولي الحبيب اقتضت حاله من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص: بأن يراعي مرتبته من أدنى مشوش وقاطع فلشدة الاعتناء به ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ونعمه عليه أكمل والمطلوب منه فوق المطلوب من غيره فهو إذا غفل وأخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد البراني مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك أيضا فيجتمع في حقه الأمران.
وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدم تناقضهما فالواقع شاهد به فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم ويأخذهم ويؤدبهم بما لم يأخذ به غيرهم وقد ذكرنا شواهد هذا وهذا ولا تناقض بين الأمرين.
وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أو زوجتان أحدهما: أحب إليك من الآخر وأقرب إلى قلبك وأعز عليك: عاملته بهذين الأمرين واجتمع في حقه المعاملتان بحسب قربه منك وحبك له وعزته عليك فإذا نظرت إلى كمال إحسانك إليه وإتمام نعمتك عليه: اقتضت معاملته بما لا تعامل به من دونه من التنبيه وعدم الإهمال وإذا نظرت إلى إحسانه ومحبته لك وطاعته وخدمته وكمال عبوديته ونصحه: وهبت له وسامحته وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره فالمعاملتان بحسب ما منك وما منه.
وقد ظهر اعتبار هذا المعنى في الشرع حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزوج إذا تعداه إلى الزنا: الرجم وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد وكذلك ضاعف(1/334)
الحد على الحر الذي قد ملكه نفسه وأتم عليه نعمته ولم يجعله مملوكا لغيره.
وجعل حد العبد المنقوص بالرق الذي لم يحصل له هذه النعمة: نصف ذلك.
فسبحان من بهرت حكمته في خلقه وأمره وجزائه عقول العالمين وشهدت بأنه أحكم الحاكمين.
لله سر تحت كل لطيفة ... فأخو البصائر غائص يتملق
فصل : في أجناس ما يتاب منه.
ولا يستحق العبد اسم (التائب) حتى يتخلص منها.
وهى اثنا عشر جنسا مذكورة في كتاب الله عز وجل هي أجناس المحرمات: الكفر والشرك والنفاق والفسوق والعصيان والإثم والعدوان والفحشاء والمنكر والبغي والقول على الله بلا علم واتباع غير سبيل المؤمنين.
فهذه الاثنا عشر جنسا عليها مدار كل ما حرم الله وإليها انتهاء العالم بأسرهم إلا أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وقد يكون في الرجل أكثرها وأقلها أو واحدة منها وقد يعلم ذلك وقد لا يعلم.
فالتوبة النصوح: هي بالتخلص منها والتحصن والتحرز من مواقعتها وإنما يمكن التخلص منها لمن عرفها.
ونحن نذكرها ونذكر ما اجتمعت فيه وما افترقت تتبين حدودها وحقائقها والله الموفق لما وراء ذلك كما وفق له ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا الفصل من أنفع فصول الكتاب والعبد أحوج شيء إليه.
فأما (الكفر) فنوعان: كفر أكبر وكفر أصغر.
فالكفر الأكبر: هو الموجب للخلود في النار.
والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود كما في قوله تعالى وكان(1/335)
مما يتلى فنسخ لفظه: {لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم} وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : "إثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة" وقوله في السنن: "من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد" وفي الحديث الآخر: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد" وقوله "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال ابن عباس: "ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر" وكذلك قال طاووس وقال عطاء: "هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق".
ومنهم: من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح فإن نفس جحوده كفر سواء حكم أو لم يحكم.
ومنهم: من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله قال: ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام وهذا تأويل عبدالعزيز الكناني وهو أيضا بعيد إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه.
ومنهم: من تأولها على الحكم بمخالفة النص تعمدا من غير جهل به ولا خطأ في التأويل حكاه البغوي عن العلماء عموما.
ومنهم: من تأولها على أهل الكتاب وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما وهو بعيد وهو خلاف ظاهر اللفظ فلا يصار.
إليه ومنهم: من جعله كفرا ينقل عن الملة.
والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصيانا لأنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر وإن(1/336)
اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله تعالى فهذا كفر أكبر وإن جهله وأخطأه: فهذا مخطىء له حكم المخطئين.
والقصد: أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر فإنها ضد الشكر الذي هو العمل بالطاعة فالسعي: إما شكر وإما كفر وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا والله أعلم.
فصل
وأما الكفر الأكبر فخمسة أنواع: كفر تكذيب وكفر استكبار وإباء مع التصديق وكفر إعراض وكفر شك وكفر نفاق.
فأما كفر التكذيب: فهو اعتقاد كذب الرسل وهذا القسم قليل في الكفار فإن الله تعالى أيد رسله وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة وأزال به المعذرة قال الله تعالى عن فرعون وقومه 27 :14 {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا} وقال لرسوله: 6 :33 {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
وإن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح إذ هو تكذيب باللسان.
وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول وأنه جاء بالحق من عند الله ولم ينقد له إباء واستكبارا وهو الغالب على كفر أعداء الرسل كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه: 23 :47 {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} وقول الأمم لرسلهم: 14 :10 {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} وقوله 91 :11 {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} وهو كفر اليهود كما قال تعالى: 2 :89 {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه} وقال 2 :142 {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} وهو كفر أبي طالب أيضا فإنه صدقه ولم يشك في صدقه ولكن أخذته الحمية وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم ويشهد عليهم بالكفر.(1/337)
وأما كفر الإعراض: فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به ألبتة كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: "والله أقول لك كلمة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أكلمك".
وأما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا بكذبه بل يشك في أمره وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة فلا يسمعها ولا يلتفت إليها وأما مع إلتفاته إليها ونطره فيها: فإنه لا يبقى معه شك لأنها مستلزمة للصدق ولا سيما بمجموعها فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار.
وأما كفر النفاق: فهو أن يظهر بلسانه الإيمان وينطوي بقلبه على التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر وسيأتى بيان أقسامه إن شاء الله تعالى.
فصل
وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام وكفر مقيد خاص.
فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله وإرساله الرسول.
والخاص المقيد: أن يجحد فرضا من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته أو صفة وصف الله بها نفسه أو خبرا أخبر الله به عمدا أو تقديما لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض.
وأما جحد ذلك جهلا أو تأويلا يعذر فيه صاحبه: فلا يكفر صاحبه به كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح ومع(1/338)
هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا.
فصل
وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منهوهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: 26 :97، 98 {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم بل كلهم يحبون معبوداتهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرد وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحش فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه.(1/339)
وهكذا كان عباد الأصنام سواء وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم فأولئك كانت آلهتهم من الحجر وغيرهم اتخذوها من البشر قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: 39 :3 {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاًَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر: أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.
فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي من أنكره!.
والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء فإنه سبحانه يأذن لمن شاء في الشفاعة لهم حيث لم يتخذهم شفعاء من دونه فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن الله له: صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله ربه ومولاه.
و(الشفاعة) التي أثبتها الله ورسوله: هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده والتي نفاها الله: هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء فيعاملون بنقيض قصدهم من شفعائهم ويفوز بها الموحدون.(1/340)
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وقد سأله: "من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟" قال: "أسعد الناس بشفاعتي: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته: تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة: هو تجريد التوحيد فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.
ومن جهل المشرك: اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا: أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم من ولاهم والهم ولم يعلموا أن الله ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى في الفصل الأول: 2 :255 {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وفي الفصل الثاني 21 :28 {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} وبقي فصل ثالث وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولين والآخرين كما قال أبو العالية: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟".
فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله فالله تعالى: لا يغفر شرك العادلين به غيره كما قال تعالى: 6 :1 {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وأصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى 26 :97، 98 {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وكما في آية البقرة 2 :165 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}.
وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله(1/341)
ولا نسويهم بالله ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت أعظم مما يغضب لله ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم: من إغاثة اللهفات وكشف الكربات وقضاء الحاجات وأنهم الباب بين الله وبين عباده فإنك ترى المشرك يفرح ويسر ويحن قلبه وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده لحقته وحشة وضيق وحرج ورماك بنقص الإلهية التي له وربما عاداك.
رأينا والله منهم هذا عيانا ورمونا بعداوتهم وبغوا لنا الغوائل والله مخزيهم في الدنيا والآخرة ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب آلهتنا فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا وأبواب حوائجنا إلى الله وهكذا قال النصارى للنبي لما قال لهم: "إن المسيح عبد الله" قالوا: تنقصت المسيح وعبته وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانا تعبد ومساجد تقصد وأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله قالوا: تنقصت أصحابها.(1/342)
فانظر إلى هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به 18 :17 {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}.
وقد قطع الله تعالى كل الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعا قطعا يعلم من تأمله وعرفه: أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو 29 :41 { كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } فقال تعالى: 34 :22، 23 {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.
فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده.
فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مترتبا متنقلا من الأعلى إلى ما دونه فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه.
فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواداه لمن عقلها والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن.
ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".(1/343)
وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه: وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف: أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان.
فصل
وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقول الرجل للرجل: "ما شاء الله وشئت" و "هذا من الله ومنك" و "أنا بالله وبك" و "مالي إلا الله وأنت" و "أنا متوكل على الله وعليك" و "لولا أنت لم يكن كذا وكذا" وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له: "ما شاء الله وشئت": "أجعلتنى لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده " وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ.
ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ فإنه شرك من الساجد والمسجود له والعجب: أنهم يقولون: ليس هذا سجود وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراما وتواضعا فيقال لهؤلاء: ولو سميتموه ما سميتموه فحقيقة السجود:(1/344)
وضع الرأس لمن يسجد له وكذلك السجود للصنم وللشمس وللنجم وللحجر كله وضع الرأس قدامه.
ومن أنواعه: ركوع المتعممين بعضهم لبعض عند الملاقاة وهذا سجود في اللغة وبه فسر قوله تعالى: 2 :58 {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} أي منحنين وإلا فلا يمكن الدخول بالجبهة على الأرض ومنه قول العرب: "سجدت الأشجار إذا أمالتها الريح".
ومن أنواعه: حلق الرأس للشيخ فإنه تعبد لغير الله ولا يتعبد بحلق الرأس إلا في النسك لله خاصة.
ومن أنواعه: التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم فإن التوبة لا تكون إلا لله كالصلاة والصيام والحج والنسك فهي خالص حق الله.
وفي المسند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتى بأسير فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله".
فالتوبة عبادة لا تنبغي إلا لله كالسجود والصيام.
ومن أنواعه: النذر لغير الله فإنه شرك وهو أعظم من الحلف بغير الله فإذا كان "من حلف بغير الله فقد أشرك" فكيف بمن نذر لغير الله؟ مع أن في السنن من حديث عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وسلم: "النذر حلفة".
ومن أنواعه: الخوف من غير الله والتوكل على غير الله والعمل لغير الله والإنابة والخضوع والذل لغير الله وابتغاء الرزق من عند غيره وحمد غيره على ما أعطى والغنية بذلك عن حمده سبحانه والذم والسخط على ما لم يقسمه ولم(1/345)
يجر به القدر وإضافة نعمه إلى غيره واعتقاد أن يكون في الكون ما لا يشاؤه.
ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم.
وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده كما تقدم فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه وإنما السبب لإذنه: كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها وهذه حالة كل مشرك والميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين: "أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة" فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة واستقضاء الحوائج والاستغاثة بهم وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد وسموا قصدها حجا واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس فجمعوا بين الشرك بالمعبود الحق وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى التنقص للأموات وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه وهؤلاء هم أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم ولله خليله إبراهيم عليه السلام حيث يقول 14 :35، 36 {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}.
وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده فجرد حبه لله وخوفه لله ورجاءه لله وذله لله وتوكله على الله واستعانته بالله والتجاءه إلى الله واستغاثته بالله وأخلص قصده لله متبعا لأمره متطلبا(1/346)
لمرضاته إذا سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله وإذا عمل عمل لله فهو لله وبالله ومع الله.
والشرك أنواع كثيرة لا يحصيها إلا الله.
ولو ذهبنا نذكر أنواعه لاتسع الكلام أعظم اتساع ولعل الله أن يساعد بوضع كتاب فيه وفي أقسامه وأسبابه ومباديه ومضرته وما يندفع به.
فإن العبد إذا نجا منه ومن التعطيل وهما الداءان اللذان هلكت بهما الأمم فما بعدهما أيسر منهما وإن هلك بهما فبسبيل من هلك ولا آسى على الهالكين.
فصل
وأما النفاق: فالداء العضال الباطن الذي يكون الرجل ممتلئا منه وهو لا يشعر فإنه أمر خفي على الناس وكثيرا ما يخفى على من تلبس به فيزعم أنه مصلح وهو مفسد.
وهو نوعان: أكبر وأصغر.
فالأكبر: يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولا للناس يهديهم بإذنه وينذرهم بأسه ويخوفهم عقابه.
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر وذكر طوائف العالم الثلاثة في أول سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين فذكر في المؤمنين أربع آيات وفي الكفار آيتين وفي المنافقين ثلاث عشرة آية لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدا لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة(1/347)
يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد.
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه ! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه ! وكم من علم له قد طمسوه ! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه ! وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها ! وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها !.
فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية ويزعمون أنهم بذلك مصلحون 2 :12 {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} 61 :8 {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون 23 :53 {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 6 :112 {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} ولأجل ذلك 25 :30 {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}.
درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها وأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله ولم يرفعوا به رأسا ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسا خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فقايلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في الصدور منها والأعجاز وقالوا: "ما لك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل الاجتياز أعدوا(1/348)
لدفعها أصناف العدد وضروب القوانين" وقالوا لما حلت بساحتهم: "ما لنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئا من اليقين" وعوامهم قالوا: "حسبنا ما وجدنا عليه خلفنا من المتأخرين فإنهم أعلم بها من السلف الماضين وأقوم بطرائق الحجج والبراهين وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحظور فطريقة المتأخرين: أعلم وأحكم وطريقة السلف الماضين: أجهل لكنها أسلم.
أنزلوا نصوص السنة والقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان اسمه على السكة وفي الخطبة فوق المنابر مرفوع والحكم النافذ لغيره فحكمه غير مقبول ولا مسموع.
لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران فالظواهر ظواهر الأنصار والبواطن قد تحيزت إلى الكفار فألسنتهم ألسنة المسالمين وقلوبهم قلوب المحاربين ويقولون 2 :8 {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}.
رأس مالهم الخديعة والمكر وبضاعتهم الكذب والختر وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون وهم بينهم آمنون 2 :9 {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.
قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون 2 :10 {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
من علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق ففسادهم في الأرض كثير وأكثر الناس عنه(1/349)
غافلون 2 :11، 12 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}.
المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا فهمه في حمل المنقول وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة وما هو عندهم بمقبول وأهل الاتباع عندهم سفهاء فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون 2 :13 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}.
لكل منهم وجهان وجه يلقى به المؤمنين ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون والآخر يترجم به عن سره المكنون 2 :14 { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارا وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه أشرا واستكبارا فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحى يستهزئون 2 : 15 {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات فركبوا مراكب الشبه والشكوك تجري بهم في موج الخيالات فلعبت بسفنهم الريح العاصف فألقتها بين سفن الهالكين 2 :16 {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.
أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال ثم طفىء ذلك النور وبقيت نارا تأجج ذات لهب واشتعال فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون 2 : 17 {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}.(1/350)
أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون 2 :18 {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}.
صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وظعت عليهم في المساء والصباح فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وجدوا في الهرب والطلب في آثارهم والصياح فنودي عليهم على رءوس الأشهاد وكشفت حالهم للمستبصرين وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم: المناظرين والمقلدين فقيل: 2 :19 {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}.
ضعفت أبصار بصائرهم عن احتمال ما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه وعجزت أسماعهم عن تلقي وعوده وعيده وأوامره ونواهيه فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه لا ينتفع بسمعه السامع ولا يهتدي ببصره البصير 2 :20 {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
لهم علامات يعرفون بها مبينة في السنة والقرآن بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان قام بهم والله الرياء وهو أقبح مقام قامه الإنسان وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا 4 :143 { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}.
أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين تيعر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تستقر مع إحدى الفئتين فهم واقفون بين الجمعين ينظرون أيهم أقوى وأعز(1/351)
قبيلا 4 :143 {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}.
يتربصون الدوائر بأهل السنة والقرآن فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم تكن معكم؟ وأقسموا على ذلك بالله جهد ايمانهم وان كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب قالوا: ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم وان النسب بيننا قريب؟ فيا من يريد معرفتهم ! خذ صفتهم من كلام رب العالمين فلا تحتاج بعده دليلا: 4 :141 { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}.
يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته ولينه ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه ومينه فتراه عند الحق نائما وفي الباطل على الأقدام فخذ وصفهم من قول القدوس السلام: 2 :204 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}.
أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد ونواهيهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد وأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد 2 :205 {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.
فهم جنس بعضه يشبه بعضا يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليتجنبوه فاسمعوا أيها المؤمنون 9 :67 {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ(1/352)
يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسولهرأيتهم عنه معرضين فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا 4 :61 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}.
فكيف لهم بالفلاح والهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم وأديانهم وأنى لهم التخلص من الضلال والردى ! وقد اشترا الكفر بإيمانهم فما أخسر تجارتهم البائرة ! وقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقا 4 :62 {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}.
نشب زقوم الشبه والشكوك في قلوبهم فلا يجدون له مسيغا 4 :63 {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}.
تباًّ لهم ما أبعدهم عن حقيقة الإيمان ! وما أكذب دعواهم للتحقيق والعرفان فالقوم في شأن وأتباع الرسول في شأن لقد أقسم الله جل جلاله في كتابه بنفسه المقدسة قسما عظيما يعرف مضمونه أولو البصائر فقلوبهم منه على حذر إجلالا له وتعظيما فقال تعالى تحذيرا لأوليائه وتنبيها على حال هؤلاء وتفهيما 4 :65 {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وكشف ما لديه وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون ليحسب السامع أنهم صادقون 63 :2 {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.(1/353)
تباًّ لهم برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان فلما رأوا طول الطريق وبعد الشقة نكصوا على أعقابهم ورجعوا وظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش ولذة المنام في ديارهم فما متعوا به ولا بتلك الهجعة انتفعوا فما هو إلا أن صاح بهم الصائح فقاموا عن موائد أطعمتهم والقوم جياع ما شبعوا فكيف حالهم عند اللقاء وقد عرفوا ثم أنكروا وعموا بعد ما عاينوا الحق وأبصروا 63 : 3 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}.
أحسن الناس أجساما وأخلبهم لسانا وألطفهم بيانا وأخبثهم قلوبا وأضعفهم جنانا فهم كالخشب المسندة التى لا ثمر لها قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون 63 :4 {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }.
يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول إلى شرق الموتى فالصبح عند طلوع الشمس والعصر عند الغروب وينقرونها نقر الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب ولا يشهدون الجماعة بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان هذه معاملتهم للخلق وتلك معاملتهم للخالق فخذ وصفهم من أول المطففين وآخر (والسماء والطارق) فلا ينبئك عن أوصافهم مثل خبير 9 :73 { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فما أكثرهم ! وهم(1/354)
الأقلون وما أجبرهم ! وهم الأذلون وما أجهلهم ! وهم المتعالمون وما أغرهم بالله ! إذ هم بعظمته جاهلون 9 :56 {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}.
إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون 9 :50،51 {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وقال تعالى في شأن السلفين المختلفين والحق لا يندفع بمكابرة أهل الزيغ والتخليط 3 :120 {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.
كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وفساد نياتهم فثبطهم عنها وأقعدهم وأبغض قربهم منه وجواره لميلهم إلى أعدائه فطردهم عنه وأبعدهم وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم وأشقاهم وما أسعدهم وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين فقال تعالى 9 :46 { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم فقال وهو أحكم الحاكمين 9 :47 {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
ثقلت عليهم النصوص فكرهوها وأعياهم حملها فألقوها عن أكتافهم ووضعوها وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها وصالت عليهم نصوص(1/355)
الكتاب والسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها ولقد هتك الله أستارهم وكشف أسرارهم وضرب لعباده أمثالهم واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر وبينها لهم فقال 47 :9 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
هذا شأن من ثقلت عليه النصوص فرآها حائلة بينه وبين بدعته وهواه فهي في وجهه كالبنيان المرصوص فباعها بمحصل من الكلام الباطل واستبدل منها بالفصوص فأعقبهم ذلك أن أفسد عليهم إعلانهم وإسرارهم 47 :26، 28 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ، فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وفلتات اللسان ووسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد كيف والناقد البصير قد كشفها لكم 47 :29، 30 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ، وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}.
فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون 68 :43 {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}.(1/356)
أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو أدق من الشعرة وأحد من الحسام وهو دحض مزلة مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطيء الأقدام فقسمت بين الناس الأنوار وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب وأعطوا نورا ظاهرا مع أهل الإسلام كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان 57 13 {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} لنتمكن في هذا المضيق من العبور فقد طفئت أنوارنا ولا جواز اليوم إلا بمصباح من النور {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} حيث قسمت الأنوار فهيهات الوقوف لأحد في مثل هذا المضمار كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق فهل يلوي اليوم أحد على أحد في هذا الطريق وهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق فذكروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدار كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نصوم كما تصومون ونصلي كما تصلون ونقرأ كما تقرؤون ونتصدق كما تصدقون ونحج كما تحجون فما الذي فرق بيننا اليوم حتى انفردتم دوننا بالمرور {قَالُوا بَلَى} ولكنكم كانت ظواهركم معنا وبواطنكم مع كل ملحد وكل ظلوم كفور 57 :14، 15 {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.(1/357)
لا تستطل أوصاف القوم فالمتروك والله أكثر من المذكور كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات سمع حذيفة رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم أهلك المنافقين فقال: "يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك".
تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين لعلمهم بدقة وجله وتفاصيله وجمله ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين قال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: "يا حذيفة نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم قال لا ولا أزكي بعدك أحدا" وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل" ذكره البخاري وذكر عن الحسن البصري: "ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن" ولقد ذكر عن بعض الصحابة: أنه كان يقول في دعائه "اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق قال أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاشع".
تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانا ويقينا وخوفهم من النفاق شديد وهمهم لذلك ثقيل وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم وهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل.
زرع النفاق ينبت على ساقيتين ساقية الكذب وساقية الرياء ومخرجهما من عينين عين ضعف البصيرة وعين ضعف العزيمة فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وبنيانه ولكنه بمدارج السيول على شفا جرف هار فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر وكشف المستور وبعثر(1/358)
ما في القبور وحصل ما في الصدور تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب 24 :39 {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
قلوبهم عن الخيرات لاهية وأجسادهم إليها ساعية والفاحشة في فجاجهم فاشية وإذا سمعوا الحق كانت قلوبهم عن سماعه قاسية وإذا حضروا الباطل وشهدوا الزور انفتحت أبصار قلوبهم وكانت آذانهم واعية.
فهذه والله أمارات النفاق فاحذرها أيها الرجل قيل أن تنزل بك القاضية إذا عاهدوا لم يفوا وإن وعدوا أخلفوا وإن قالوا لم ينصفوا وإن دعوا إلى الطاعة وقفوا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدفوا وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران فلا تثق بعهودهم ولا تطمئن إلى وعودهم فإنهم فيها كاذبون وهم لما سواها مخالفون 9 :75، 77 {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ}.
فصل
وأما الفسوق: فهو في كتاب الله نوعان مفرد مطلق ومقرون بالعصيان.
والمفرد نوعان أيضا: فسوق كفر يخرج عن الإسلام وفسوق لا يخرج عن الإسلام فالمقرون كقوله تعالى 49 : 7 {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
والمفرد الذي هو فسوق كفر كقوله تعالى 2 :26، 27 { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} الآية وقوله عز وجل 2 :99 {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ(1/359)
الْفَاسِقُونَ} وقوله 32 :20 { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الآية فهذا كله فسوق كفر.
وأما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام فكقوله تعالى 2 :82 {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} الآية وقوله 49 6 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الآية فإن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع القوم بمقدمه تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال له انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فنزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية.
و(النبأ) هو الخبر الغائب عن المخبر إذا كان له شأن و(التبين) طلب بيان حقيقة والإحاطة بها علما.
وههنا فائدة لطيفة وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه(1/360)
ورد شهادته جملة وإنما أمر بالتبين فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق ولو أخبر به من أخبر فهكذا ينبغي الإعتماد في رواية الفاسق وشهادته وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري وفسقه من جهات أخر فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ولا سيما من فسقه من جهة الإعتقاد والرأي وهو متحر للصدق فهذا لا يرد خبره ولا شهادته.
وأما من فسقه من جهة الكذب فإن كثر منه وتكرر بحيث يغلب كذبه على صدقه فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته وإن ندر منه مرة ومرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله.
والمقصود: ذكر الفسوق الذي لا يخرج إلى الكفر.
والفسوق الذي تجب التوبة منه أعم من الفسوق الذي ترد به الرواية والشهادة.
وكلامنا الآن فيما تجب التوبة منه وهو قسمان فسق من جهة العمل وفسق من جهة الإعتقاد.
ففسق العمل نوعان: مقرون بالعصيان ومفرد.
فالمقرون بالعصيان: هو ارتكاب ما نهى الله عنه والعصيان: هو عصيان أمره كما قال الله تعالى 66 :6 {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} وقال موسى لأخيه هارون عليهما السلام 20 :92، 93 {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وقال الشاعر:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فالفسق أخص بارتكاب النهى ولهذا يطلق عليه كثيرا كقوله تعالى 2 :282 { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} والمعصية أخص بمخالفة الأمر كما تقدم ويطلق كل منهما على صاحبه كقوله تعالى 18 :50 {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ(1/361)
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } فسمى مخالفته للأمر فسقا وقال 20 :121 {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فسمى ارتكابه للنهي معصية فهذا عند الإفراد فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر والآخر لمخالفة النهي.
و(التقوى) اتقاء مجموع الأمرين وبتحقيقها تصح التوبة من الفسوق والعصيان بأن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله ويترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله.
وفسق الإعتقاد: كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك.
وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم.
وأما غالية الجهمية: فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب.(1/362)
ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة وقالوا هم مباينون للملة.
وليس مقصودنا الكلام في أحكام هؤلاء وإنما المقصود: تحقيق (التوبة) من هذه الأجناس العشرة.
فالتوبة من هذا الفسوق: بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله من غير تشبيه ولا تمثيل وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ونزهه عنه رسوله من غير تحريف ولا تعطيل وتلقى النفي والإثبات من مشكاة الواحي لا من آراء الرجال ونتائج أفكارهم التي هي منشأ البدعة والضلالة.
فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الإعتقادات الفاسدة: بمحض اتباع السنة ولا يكتفى منهم بذلك أيضا حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى: البيان لأن ذنبهم لما كان بالكتمان كانت توبتهم منه بالبيان قال الله تعالى 2 :159، 190 {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم لأن ذاك كتم الحق وهذا كتمه ودعا إلى خلافه فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس.
وشرط في توبة المنافق: الإخلاص لأن ذنبه بالرياء فقال تعالى 4 :45، 46 {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار} ثم قال {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} ولذلك كان الصحيح من القولين: أن توبة القاذف: إكذابه نفسه لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عريض المسلم المحصن(1/363)
فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف وهو مقصود التوبة.
وأما من قال: إن توبته أن يقول (أستغفر الله) من القذف ويعترف بتحريمه فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف ولا يحصل له به براءة عرضه مما قذفه به فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب فإن فيه حقين حقا لله وهو تحريم القذف فتوبته منه: باستغفاره واعترافه بتحريم القذف وندمه عليه وعزمه على أن لا يعود وحقا للعبد وهو إلحاق العار به فتوبته منه: بتكذيبه نفسه فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين.
فإن قيل: إذا كان صادقا قد عاين الزنا فأخبره به فكيف يسوغ له تكذيب نفسه وقذفها بالكذب ويكون ذلك من تمام توبته؟.
قيل: هذا هو الإشكال الذي قال صاحب هذا القول لأجله ما قال إن توبته الإعتراف بتحريم القذف والإستغفار منه وهو موضع يحتاج فيه إلى بيان الكذب الذي حكم الله به على القاذف وأخبر أنه كاذب عنده ولو كان خبره مطابقا للواقع فنقول:
الكذب يراد به أمران أحدهما: الخبر غير المطابق لمخبره وهو نوعان: كذب عمد وكذب خطأ فكذب العمد معروف وكذب الخطأ ككذب أبي السنابل بن بعكك في فتواه للمتوفى عنها إذا وضعت حملها "أنها لا تحل حتى تتم لها أربعة أشهر وعشرا" فقال النبي صلى الله عليه وسلم "كذب أبو السنابل" ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "كذب من قالها" لمن قال "حبط عمل عامر حيث قتل نفسه خطأ" ومنه قول عبادة بن الصامت: "كذب أبو محمد" حيث قال: "الوتر واجب" فهذا كله من كذب الخطأ ومعناه "أخطأ " قائل ذلك.
والثاني من أقسام الكذب: الخبر الذي لا يجوز الإخبار به وإن كان(1/364)
خبره مطابقا لمخبره كخبر القاذف المنفرد برؤية الزنا والإخبار به فإنه كاذب في حكم الله وإن كان خبره مطابقا لمخبره ولهذا قال تعالى 24 :13 {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فحكم الله في مثل هذا أن يعاقب عقوبة المفترى الكاذب وإن كان خبره مطابقا وعلى هذا فلا تتحقق توبته حتى يعترف بأنه كاذب عند الله كما أخبر الله تعالى به عنه فإذا لم يعترف بأنه كاذب وجعله الله كاذبا فأي توبة له وهل هذا إلا محض الإصرار والمجاهرة بمخالفة حكم الله الذي حكم به عليه.
فصل
واختلف في توبة السارق إذا قطعت يده هل من شرطها: ضمان العين المسروقة لربها؟.
وأجمعوا على أن من شرط صحة توبته: أداؤها إليه إذا كانت موجودة بعينها وإنما اختلفوا إذا كانت تالفة فقال الشافعي وأحمد من تمام توبته ضمانها لمالكها ويلزمه ذلك موسرا كان أو معسرا وقال أبو حنيفة إذا قطعت يده وقد استهلكت العين لم يلزمه ضمانها ولا تتوقف صحة توبته على الضمان لأن قطع اليد هو مجموع الجزاء والتضمين عقوبة زائدة عليه لا تشرع.
قال: وهذا بخلاف ما إذا كانت العين قائمة فإن صاحبها قد وجد عين ماله فلم يكن أخذها عقوبة ثانية بخلاف التضمين فإنه غرامة وقد قطع طرفه فلا نجمع عليه غرامة الطرف وغرامة المال.
قالوا: ولهذا لم يذكر الله في عقوبة السارق والمحارب غير إقامة الحد عليهما ولو كان الضمان لما أتلفوه واجبا لذكره مع الحد ولما جعل مجموع جزاء المحاربين ما ذكره من العقوبة بأداة (إنما) التي هي عندكم للحصر فقال: 5 :33 {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} الآية ومدلول هذا الكلام عند من يجعل أداة (إنما) للحصر أنه لا جزاء لهم غير ذلك.(1/365)
قالوا: وقد روى النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قضى في السارق إذا أقيم عليه الحد: أنه لا غرم عليه".
قالوا: وهذا هو المستقر في فطر الناس وعليه عملهم: أنهم يقعطون السراق ولا يغرمونهم ما أتلفوه من أموال الناس وما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن.
قالوا: ولأنها لو ثبتت في ذمته بعد القطع لكان قد ملكها إذ لا يجتمع لربها البدل والمبدل وثبوت بدلها في ذمته يستلزم تقدير ملكها وهو شبهة في إسقاط القطع.
وأصحاب القول الأول يقولون: هذه العين تعلق بها حقان حق لله وحق لمالكها وهما حقان متغايران لمستحقين متباينين فلا يبطل أحدهما الآخر بل يستوفيان معا لأن القطع حق لله والضمان حق للمالك ولهذا لا يسقط القطع بإسقاطه بعد الرفع إلى الإمام ولو أسقط الضمان سقط.
وهذا كما إذا أكره أمة غيره على الزنا لزمه الحد لحق الله والمهر لحق السيد وكذلك إذا أكره الحرة على الزنا أيضا بل لو زنا بأمة ثم قتلها لزمه حد الزنا وقيمتها لمالكها وهو نظير ما إذا سرقها ثم قتلها قطعت يده لسرقتها وضمنها لمالكها.
قالوا: وكذلك إذا قتل في الإحرام صيدا مملوكا لمالكه فعليه الجزاء لحق الله وقيمة الصيد لمالكه وكذلك إذا غصب خمر ذمي وشربها لزمه الحد حقا لله ولزمه عندكم ضمانها للذمي ولم يلزمه ضمان عند الجمهور لأنها ليست بمال فلا تضمن بالإتلاف كالميتة.
قالوا: وأما قولكم: إن قطع اليد مجموع الجزاء إن أردتم: أنه مجموع العقوبة فصحيح فإنه لم يبق عليه عقوبة ثانية ولكن الضمان ليس بعقوبة للسرقة ولهذا يجب في حق غير الجاني كمن أتلف مال غيره خطأ أو إكراها(1/366)
أو في حال نومه أو أتلفه إتلافا مأذونا له فيه كالمضطر إلى أكله أو المضطر إلى إلقائه في البحر لإنجاء السفينة ونحو ذلك فليس الضمان من العقوبة في شيء.
وأما قولكم: "إن الله لم يذكر في القرآن تضمين السارق والمحارب" فهو لم ينفه أيضا وإنما سكت عنه فحكمه مأخوذ من قواعد الشرع ونصوصه كقوله 2 :194 {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وهذا قد اعتدى بالإتلاف فيعتدى عليه بالتضمين ولهذا أوجبنا رد العين إذا كانت قائمة ولم يذكر في القرآن وليس هذا من باب الزيادة على النص بل من باب إعمال النصوص كلها لا يعطل بعضها ويعمل ببعضها وكذلك الجواب عن قوله تعالى في المحاربين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي عقوبتهم.
قالوا: وأما حديث عبد الرحمن بن عوف: فمنقطع لا يثبت يرويه سعد بن إبراهيم عن منصور وقد طعن في الحديث ابن المنذر فقال: سعد بن إبراهيم مجهول وقال ابن عبد البر: الحديث ليس بالقوي.
وأما استقرار ذلك في فطر الناس: فمن قال: إنه مستقر في فطرهم: أن الغني الواجد إذا سرق مال فقير محتاج أو يتيم وأتلفه وقطعت يده أنه لا يضمن مال هذا الفقير واليتيم مع تمكنه من الضمان وقدرته عليه وضرورة صاحبه وضعفه؟ وهل المستقر في فطر الناس إلا عكس هذا؟.
وأما قولكم: "لو ثبت في ذمته بعد القطع لكان قد ملكها" فضعيف جدا لأنها بالإتلاف قد استقرت في ذمته ولهذا له المطالبة ببذلها اتفاقا وهذا الإستقرار في ذمته لا يمنع القطع فإنه يقطع بعد إتلافها واستقرارها في ذمته فكيف يزيل القطع ما ثبت في ذمته ويكون مبرئا له منه؟.
وتوسط فقهاء المدينة مالك وغيره بين القولين فقالوا: إن كان له مال ضمنها بعد القطع وإن لم يكن له مال فلا ضمان عليه.(1/367)
وهذا استحسان حسن جدا وما أقر به من محاسن الشرع وأولاه بالقبول والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
وأما (الإثم والعدوان) فهما قرينان قال الله تعالى 5 :2 {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وكل منهما إذا أفرد تضمن الآخر فكل إثم عدوان إذ هو فعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر الله به فهو عدوان على أمره ونهيه وكل عدوان إثم فإنه يأثم به صاحبه ولكن عند اقترانهما فهما شيئان بحسب متعلقهما ووصفهما.
ف(الإثم) ما كان محرم الجنس كالكذب والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك و(العدوان) ما كان محرم القدر والزيادة.
فالعدوان: تعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم والزيادة كالإعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه إما بأن يتعدى على ماله أو بدنه أو عرضه فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها فهذا كله عدوان وتعد للعدل.
وهذا العدوان نوعان: عدوان في حق الله وعدوان في حق العبد وعدوان في حق العبد فالعدوان في حق الله كما إذا تعدى ما أباح الله له من الوطء الحلال في الأزواج والمملوكات إلى ما حرم عليه من سواهما كما قال تعالى 23 :5، 7 {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وكذلك تعدى ما أبيح له من زوجته وأمته إلى ما حرم عليه منها كوطئها في حيضها أو نفاسها أو في غير موضع الحرث أو في إحرام أحدهما أو صيامه الواجب ونحو ذلك.
وكذلك كل من أبيح له منه قدر معين فتعداه إلى أكثر منه فهو من العدوان كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها(1/368)
أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والشهادة والمعاملة والمداواة فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور فتعدى المباح إلى القدر المحظور وحام حول الحمى المحوط المحجور فصار ذا بصر حائر وقلب عن مكانه طائر أرسل طرفه رائدا يأتيه بالخبر فخامر عليه وأقام في تلك الخيام فبعث القلب في آثاره فلم يشعر إلا وهو أسير يحجل في قيوده بين تلك الخيام فما أقلعت لحظات ناظره حتى تشحط بينهن قتيلا وما برحت تنوشه سيوف تلك الجفون حتى جندلته تجديلا هذا خطر العدوان وما أمامه أعظم وأخطر وهذا فوت الحرمان وما حرمه من فوات ثواب من غض طرفه لله عز وجل أجل وأكبر سافر الطرف في مفاوز محاسن المنظور إليه فلم يربح إلا أذى السفر وغرر بنفسه في ركوب تلك البيداء وما عرف أن راكبها على أعظم الخطر يا لها من سفرة لم يبلغ المسافر منها ما نواه ولم يضع فيها عن عاتقه عصاه حتى قطع عليه فيها الطريق وقعد له فيها الرصد على كل نقب ومضيق لا يستطيع الرجوع إلى وطنه والإياب ولا له سبيل إلى المرور والذهاب يرى هجير الهاجرة من بعيد فيظنه برد الشراب 24 :39 {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وتيقن أنه كان مغرورا بلامع السراب تالله ما استوت هذه الذلة وتلك اللذة في القيمة فيشتريها بها العارف الخبير ولا تقاربا في المنفعة فيتحير بينهما البصير ولكن على العيون غشاوة فلا تفرق بين مواطن السلامة ومواضع العثور والقلوب تحت أغطية الغفلات راقدة فوق فرش الغرور 22 :46 {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
ومن أمثلة العدوان: تجاوز ما أبيح من الميتة للضرورة إلى ما لم يبح منها إما بأن يشبع وإنما أبيح له سد الرمق على أحد القولين في مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة.(1/369)
وأباح مالك له الشبع والتزود إذا احتاج إليه فإذا استغنى عنها وأكلها واقيا لماله وبخلا عن شراء المذكى ونحوه كان تناولها عدوانا قال تعالى 2 :173 {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال قتادة والحسن: "لا يأكلها من غير اضطرار ولا يعدو شبعه" وقيل: {غَيْرَ بَاغٍ} غير طالبها وهو يجد غيرها {وَلا عَاد} أي لا يتعدى ما حد له منها فيأكل حتى يشبع ولكن سد الرمق وقال مقاتل: "غير مستحل لها ولا متزود منها".
وقيل: لا يبغى بتجاوز الحد الذي حد له منها ولا يتعدى بتقصيره عن تناوله حتى يهلك فيكون قد تعدى حد الله بمجاوزته أو التقصير عنه فهذا آثم وهذا آثم وقال مسروق من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار وهذا أصح القولين في الآية وقال ابن عباس وأصحابه والشافعي: "{غَيْرَ بَاغٍ} على السلطان {وَلا عَاد} في سفره فلا يكون سفر معصية وبنوا على ذلك أن العاصي بسفره لا يترخص.
والقول الأول: أصلح لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها إذ الآية لا تعرض فيها للسفر بنفي ولا إثبات ولا للخروج على الإمام ولا هي مختصة بذلك ولا سيقت له وهي عامة في حق المقيم والمسافر والبغي والعدوان فيها يرجعان إلى الأكل المقصود بالنهي لا إلى أمر خارج عنه لا تعلق له بالأكل ولأن نظير هذا قوله تعالى في الآية الأخرى 5 :2 {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} فهذا هو الباغي العادي والمتجانف للإثم المائل إلى القدر الحرام من أكلها وهذا هو الشرط الذي لا يباح له بدونه ولأنها إنما أبيحت للضرورة فتقدرت الإباحة بقدرها وأعلمهم أن الزيادة عليها بغي وعدوان وإثم فلا تكون الإباحة للضرورة سببا لحله والله أعلم.
و(الإثم) و(العدوان) هما الإثم والبغي المذكوران في سورة الأعراف (7 :33) مع أن (البغي) غالب استعماله في حقوق العباد والإستطالة عليهم.(1/370)
وعلى هذا فإذا قرن البغي بالعدوان كان (البغي) ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والإبتداء بالأذى و(العدوان) تعدى الحق في استيفائه إلى أكبر منه فيكون البغي والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله.
فههنا أربعة أمور: حق لله وله حد وحق لعباده وله حد فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما رواءهما أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما.
فصل
وأما (الفحشاء والمنكر) فالفحشاء صفة لموصوف قد حذف تجريدا لقصد الصفة وهي الفعلة الفحشاء والخصلة الفحشاء وهي ما ظهر قبحها لكل أحد واستفحشه كل ذي عقل سليم ولهذا فسرت بالزنا واللواط وسماها الله (فاحشة) لتناهي قبحهما وكذلك القبيح من القول يسمى فحشا وهو ما ظهر قبحه جدا من السب القبيح والقذف ونحوه.
وأما (المنكر) فصفة لموصوف محذوف أيضا أي الفعل المنكر وهو الذي تستنكره العقول والفطر ونسبته إليها كنسبة الرائحة القبيحة إلى حاسة الشم والمنظر القبيح إلى العين والطعم المستكره إلى الذوق والصوت المستنكر إلى الأذن فما اشتد إنكار العقول والفطر له فهو فاحشة كما فحش إنكار الحواس له من هذه المدركات.
فالمنكر لها: ما لم تعرفه ولم تألفه والقبيح المستكره لها: الذي تشتد نفرتها عنه هو الفاحشة ولذلك قال ابن عباس: "الفاحشة الزنا والمنكر ما لم يعرف في شريعة ولا سنة".
فتأمل تفريقه بين ما لم يعرف حسنه ولم يؤلف وبين ما استقر قبحه في الفطر والعقول.(1/371)
فصل
وأما (القول على الله بلا علم) فهو أشد هذه المحرمات تحريما وأعظمها إثما ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان ولا تباح بحال بل لا تكون إلا محرمة وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في حال دون حال.
فإن المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت قال الله تعالى في المحرم لذاته 7 :33 {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} فقال ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به وتغيير دينه وتبديله ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه وعداوة من والاه وموالاة من عاداه وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله.
فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثما وهو أصل الشرك والكفر ووعليه أسست البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.
ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض وحذروا فتنتهم أشد التحذير وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد وقد أنكر تعالى على من نسب إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عنده بلا برهان من الله فقال 16 :116 {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} الآية.(1/372)
فكيف بمن نسب إلى أوصافه سبحانه وتعالى ما لم يصف به نفسه؟ أو نفى عنه منها ما وصف به نفسه؟.
قال بعض السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم الله كذا فيقول الله: كذبت لم أحل هذا ولم أحرم هذا.
يعني التحليل والتحريم بالرأي المجرد بلا برهان من الله ورسوله.
وأصل الشرك والكفر: هو القول على الله بلا علم فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبودا من دون الله يقر به إلى الله ويشفع له عنده ويقضى حاجته بواسطته كما تكون الوسائط عند الملوك فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل والإبتداع في دين الله فهو أعم من الشرك والشرك فرد من أفراده.
ولهذا كان الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم موجبا لدخول النار(1/373)
واتخاذ منزلة منها مبوءا وهو المنزل اللازم لا يفارقه صاحبه لأنه متضمن للقول على الله بلا علم كصريح الكذب عليه لأن ما انضاف إلى الرسول فهو مضاف إلى المرسل والقول على الله بلا علم صريح افتراء الكذب عليه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}.
فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس فلا تتحقق التوبة منه إلا بالتوبة من البدع.
وأتى بالتوبة منها لمن لم يعلم أنها بدعة أو يظنها سنة فهو يدعو إليها ويحض عليها فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة وكثرة اطلاعه عليها ودوام البحث عنها والتفتيش عليها ولا ترى صاحب بدعة كذلك أبدا.
فإن السنة بالذات تمحق البدعة ولا تقوم لها وإذا طلعت شمسها في قلب العبد قطعت من قلبه ضباب كل بدعة وأزالت ظلمة كل ضلالة إذ لا سلطان للظلمة مع سلطان الشمس ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة ويعينه على الخروج من ظلمتها إلى نور السنة إلا المتابعة والهجرة بقلبه كل وقت إلى الله بالإستعانة والإخلاص وصدق اللجإ إلى الله والهجرة إلى رسوله بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنته "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" ومن هاجر إلى غير ذلك فهو حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة والله المستعان.
فصل: ومن أحكام التوبة.
أن من تعذر عليه أداء الحق الذي فرط فيه ولم يمكنه تداركه ثم تاب فكيف حكم توبته وهذا يتصور في حق الله سبحانه وحقوق عباده.(1/374)
فأما في حق الله: فكمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر مع علمه بوجوبها وفرضها ثم تاب وندم فاختلف السلف في هذه المسألة.
فقالت طائفة: توبته بالندم والإشتغال بأداء الفرائض المستأنفة وقضاء الفرائض المتروكة وهذا قول الأئمة الأربعة وغيرهم.
وقالت طائفة: توبته باستئناف العمل في المستقبل ولا ينفعه تدارك ما مضى بالقضاء ولا يقبل منه فلا يجب عليه وهذا قول أهل الظاهر وهو مروى عن جماعة من السلف.
وحجة الموجبين للقضاء قول النبي صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".
قالوا: فإذا وجب القضاء على النائم والناسي مع عدم تفريطهما فوجوبه على العامد والمفرط أولى.
قالوا: ولأنه كان يجب عليه أمران الصلاة وإيقاعها في وقتها فإذا ترك أحد الأمرين بقي الآخر.
قالوا: ولأن القضاء إن قلنا يجب عليه بالأمر الأول فظاهر وإن قلنا يجب عليه بأمر جديد فأمر النائم والناسي به تنبيه على العامد كما تقدم.
قالوا: ولأن مصلحة الفعل إن لم يمكن العبد تداركها تدارك منها ما أمكن
وقد فاتت مصلحة الفعل في الوقت فيتدارك ما أمكن منها وهو الفعل في خارج الوقت.
قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم" وهذا قد استطاع الإتيان بالمأمور خارج الوقت وقد تعذر عليه الإتيان به في وقته فيجب عليه الإتيان بالمستطاع.(1/375)
قالوا: وكيف يظن بالشرع أنه يخفف عن هذا المتعمد المفرط العاصي لله ورسوله بترك الوجوب ويوجبه على المعذور بالنوم أو النسيان؟.
قالوا: ولأن الصلاة خارج الوقت بدل عن الصلاة في الوقت والعبادة إذا كان لها بدل وتعذر المبدل: انتقل المكلف إلى البدل كالتيمم مع الوضوء وصلاة القاعد عند تعذر القيام والمضطجع عند تعذر القعود وإطعام العاجز عن الصيام لكبر أو مرض غير مرجو البرء عن كل يوم مسكينا ونظائر ذلك كثيرة في الشرع.
قالوا: ولأن الصلاة حق مؤقت فتأخيره عن وقته لا يسقط إلا بمبادرته خارج الوقت كديون الآدميين المؤجلة.
قالوا: ولأن غايته: أنه أثم بالتأخير وهذا لا يسقط القضاء كمن أخر الزكاة عن وقت وجوبها تأخيرا أثم به أو أخر الحج تأخيرا ثم به.
قالوا: ولو ترك الجمعة حتى صلاها الإمام عمدا عصى بتأخيرها ولزمه أن يصلى الظهر ونسبة الظهر إلى الجمعة كنسبة صلاة الصبح بعد طلوع الشمس إلى صلاتها قبل الطلوع.
قالوا: وقد أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الأحزاب إلى أن صلاها بعد غروب الشمس فدل على أن فعلها ممكن خارج الوقت في العمد سواء كان معذورا به كهذا التأخير وكتأخير من أخرها من الصحابة يوم بنى قريظة إلى بعد غروب الشمس أو لم يكن معذورا به كتأخير المفرط فتأخيرهما إنما تختلف في الإثم وعدمه لا في وجوب التدارك بعد الترك.
قالوا: ولو كانت الصلاة خارج الوقت لا تصح ولا تجب لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة يوم بني قريظة بتأخير صلاة العصر إلى أن يصلوها فيهم فأخرها بعضهم حتى صلاها فيهم بالليل فلم يعنفهم ولم يعنف من صلاها في الطريق لاجتهاد الفريقين.(1/376)
قالوا: ولأن كل تائب له طريق إلى التوبة فكيف تسد عن هذا طريق التوبة ويجعل إثم التضييع لازما له وطائرا في عنقه؟ فهذا لا يليق بقواعد الشرع وحكمته ورحمته ومراعاته لمصالح العباد في المعاش والمعاد.
فهذا أقصى ما يحتج به لهذه المقالة.
قال أصحاب القول الآخر: العبادة إذا أمر بها على صفة معينة أو في وقت بعينه لم يكن المأمور ممتثلا للأمر إلا إذا أوقعها على الوجه المأمور به: من وصفها ووقتها وشرطها فلا يتناولها الأمر بدونه.
قالوا: وإخراجها عن وقتها كإخراجها عن استقبال القبلة مثلا وكالسجود على الخد بدل الجبهة والبروك على الركبة بدل الركوع ونحوه.
قالوا: والعبادات التي جعل لها ظرف من الزمان لا تصح إلا فيه كالعبادات التي جعل لها ظرف من المكان فلو أراد نقلها إلى أمكنة أخرى غيرها: لم تصح إلا في أمكنتها ولا يقوم مكان مقام مكان آخر كأمكنة المناسك من عرفة ومزدلفة والجمار والسعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت فنقل العبادة إلى أزمنة غير أزمنتها التي جعلت أوقاتا لها شرعا إلى غيرها كنقلها عن أمكنتها التي جعلت لها شرعا إلى غيرها لا فرق بينهما في الإعتداد وعدمه كما لا فرق بينهما في الإثم.
قالوا: فنقل الصلاة المحدودة الوقت أولا وآخرا عن زمنها إلى زمن آخر كنقل الوقوف بعرفة عن زمنه إلى مزدلفة ونقل أشهر الحج عن زمنها إلى زمن آخر.
قالوا: فأي فرق بين من نقل صوم رمضان إلى شوال أو صلى العصر نصف الليل وبين من حج في المحرم ووقف فيه فكيف تصح صلاة هذا وصيامه دون حج هذا وكلاهما مخالف لأمر الله تعالى عاص آثم؟.
قالوا: فحقوق الله المؤقتة لا يقبلها الله في غير أوقاتها فكما لا تقبل قبل(1/377)
دخول أوقاتها لا تقبل بعد خروج أوقاتها فلو قال: أنا أصوم شوال عن رمضان كان كما لو قال: أنا أصوم شعبان الذي قبله عنه.
قالوا: فإن الحق الليلي لا يقبل بالنهار والنهاري لا يقبل بالليل ولهذا جاء في وصية الصديق لعمر رضي الله عنهما التي تلقاها بالقبول هو وسائر الصحابة "واعلم أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وحقا بالنهار لا يقبله بالليل".
قالوا: ولأنها إذا فات وقتها المحدود لها شرعا لم تبق تلك العبادة بعينها ولكن شيء آخر غيرها فإذا فعلت العصر بعد غروب الشمس لم تكن عصرا فإن العصر صلاة هذا الوقت المحدود وهذه ليست عصرا فلم يفعل مصليها العصر ألبتة وإنما أتى بأربع ركعات صورتها صورة صلاة العصر لا أنها هي.
قالوا: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ترك صلاة العصر حبط عمله" وفي لفظ "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" فلو كان له سبيل إلى التدارك وفعلها صحيحة: لم يحبط عمله ولم يوتر أهله وماله مع صحتها منه وقبولها لأن معصية التأخير عندكم لا تحقق الترك والفوات لاستدراكه بالفعل في الوقت الثاني.
قالوا: وهذه الصلاة مردودة بنص الشارع فلا يسوغ أن يقال بقبولها وصحتها مع تصريحه بردها وإلغائها كما ثبت في الصحيح عنه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي لفظ "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وهذا عمل على خلاف أمره فيكون ردا و(الرد) بمعنى المردود كالخلق بمعنى المخلوق والضرب بمعنى المضروب.
وإذا ثبت أن هذه الصلاة مردودة فليست بصحيحة ولا مقبولة.
قالوا: ولأن الوقت شرط في سقوط الإثم وامتثال الأمر فكان شرطا في براءة(1/378)
الذمة والصحة كسائر شروطها من الطهارة والإستقبال وستر العورة فالأمر تناول الشروط تناولا واحدا فكيف ساغ التفريق بينها مع استوائها في الوجوب والأمر والشرطية؟.
قالوا: وليس مع المصححين لها بعد الوقت لا نص ولا إجماع ولا قياس صحيح وسنبطل جميع أقيستهم التي قاسوا عليها ونبين فسادها.
قالوا: وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أفطر يوما من رمضان لغير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر" فكيف يقال: يقضيه عنه يوم مثله؟.
قالوا:ولأن صحة العبادة:إن فسرت بموافقة الأمر فلا ريب أن هذه العبادة غير موافقة له فلا تكون صحيحة وإن فسرت بسقوط القضاء فإنما يسقط القضاء ما وقع على الوجه المأمور به وهذا لم يقع كذلك ولا سبيل إلى وقوعه على الوجه المأمور به فلا سبيل إلى صحته وإن فسرت بما أبرأ الذمة فهذه لم تبريء الذمة من الإثم قطعا ولم يثبت بدليل يجب المصير إليه إبراؤها للذمة من توجه المطالبة بالمأمور.
قالوا:ولأن الصحيح من العبادات:ما اعتبره الشارع ورضيه وقبله وهذا لا يعلم إلا بإخباره عن صحتها أو بموافقتها أمره وكلاهما منتف عن هذه العبادة فكيف يحكم لها بالصحة؟.
قالوا:فالصحة والفساد حكمان شرعيان مرجعهما إلى الشارع فالصحيح ما شهد له بالصحة أو علم أنه وافق أمره أو كان مماثلا لما شهد له بالصحة فيكون حكم المثل مثله وهذه العبادة قد انتفى عنها كل واحد من هذه الأمور.
ومن أفسد الإعتبار:اعتبارها بالتأخير المعذور به أو المأذون فيه وهو اعتبار(1/379)
الشيء بضده وقياسه على مخالفه في الحقيقة والشرع وهو من أفسد القياس كما سيأتي.
قالوا:وأما استدلالكم بقول النبي صلى الله عليه وسلم :"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فأوجب القضاء على المعذور فالمفرط أولى فهذه الحجة إلى أن تكون عليكم أقرب منها أن تكون لكم فإن صاحب الشرع شرط في فعلها بعد الوقت: أن يكون الترك عن نوم أو نسيان والمعلق على الشرط يعدم عند عدمه فلم يبق معكم إلا مجرد قياس المفرط العاصي المستحق للعقوبة على عذره الله ولم ينسب إلى تفريط ولا معصية كما ثبت عنه في الصحيح "ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة: أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت التي بعدها" وأي قياس في الدنيا أفسد من هذا القياس وأبطل؟.
قالوا: وأيضا فهذا لم يؤخر الصلاة عن وقتها بل وقتها المأمور به لمثله حين استيقظ وذكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فإن الله يقول 20 :14 { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} وهذه اللام عند كثير من النحاة اللام الوقتية أي عند ذكري أو في وقت ذكري.
قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم ما صلى الصبح يوم الوادي بعد طلوع الشمس إلا في وقتها حقيقة.
قالوا: والأوقات ثلاثة أنواع: وقت للقادر المستيقظ الذاكر غير المعذور فهي خمسة ووقت للذاكر المستيقظ المعذور وهي ثلاثة فإن في حقه وقت الظهر والعصر واحد ووقت المغرب والعشاء واحد ووقت الفجر واحد فالأوقات في حق هذا ثلاثة وإذا أخر الظهر إلى أن فعلها فين وقت العصر فإنما صلاها في وقتها.(1/380)
ووقت في حق غير المكلف بنوم أو نسيان فهو غير محدود ألبتة بل الوقت في حقه عند يقظته وذكره لا وقت له إلا ذلك.
هذا الذي دلت عليه نصوص الشرع وقواعده وهذا المفرط المضيع خارج عن هذه الأقسام وهو قسم رابع فبأيها تلحقونه؟.
قالوا: وقد شرع الله سبحانه قضاء رمضان لمن أفطره لعذر من حيض أو سفر أو مرض ولم يشرعه قط لمن أفطره متعمدا من غير عذر لا بنص ولا بإيماء ولا تنبيه ولا تقتضيه قواعده وإنما غاية ما معكم قياسه على المعذور مع إطراد قواعد الشرع على التفريق بينهما بل قد أخبر الشارع: أن صيام الدهر لا يقضيه عن يوم يفطره بلا عذر فضلا عن يوم مثله.
قالوا: وأما قولكم "إنه كان يجب عليه أمران: العبادة وإيقاعها في وقتها فإذا ترك أحدهما بقي عليه الآخر" فهذا إنما ينفع فيما إذا لم يكن أحد الأمرين مرتبطا بالآخر ارتباط الشرطية كمن أمر بالحج والزكاة فترك أحدهما: لم يسقط عنه الآخر أما إذا كان أحدهما شرطا في الآخر وقد تعذر الإتيان بالشرط الذي لم يؤمر بالمشروط إلا به فكيف يقال: إنه يؤمر بالآخر بدونه ويصح منه بدون وصفه وشرطه؟ فأين أمره الله بذلك؟ وهل الكلام إلا فيه؟.
قالوا: وإن قلنا: إنما يجب القضاء بأمر جديد فلا أمر معكم بالقضاء في محل النزاع وقياسه على مواقع الإجماع: ممتنع كما بيناه وإن قلنا يجب بالأمر الأول فهذا فيما إذا كان القضاء نافعا ومصلحته كمصلحة الأداء كقضاء المريض والمسافر والحائض للصوم وقضاء المغمى عليه والنائم والناسي أما إذا كان القضاء غير مبريء للذمة ولا هو معذور بتأخير الواجب عن وقته فهذا لم يتناوله الأمر الأول ولا أمر ثان وإنما هو القياس الذي علم افتراق الأصل والفرع فيه في وصف ظاهر التأثير مانع للإلحاق.
قالوا: وأما قولكم "إنه إذا لم يمكن تدارك مصلحة الفعل تدارك منها(1/381)
ما أمكن" فهذا إنما يفيد إذا لم يمكن حصول المصلحة على شرط تزول المصلحة بزواله والتدارك بعد فوات شرطه وخروجه عن الوجه المأمور به ممتنع إلا بأمر آخر: من التوبة وتكثير النوافل والحسنات وأما تدارك غير هذا الفعل فكلا ولما.
قالوا: وأما قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم" فقد أبعد النجعة من احتج به فإن هذا إنما يدل على أن المكلف إذا عجز عن جملة المأمور به أتى بما يقدر عليه منه كمن عجز عن القيام في الصلاة أو عن إكمال غسل أعضاء الوضوء أو عن إكمال الفاتحة أو عن تمام الكفاية في الإنفاق الواجب ونحو ذلك أتى بما يقدر عليه ويسقط عنه ما عجز عنه أما من ترك المأمور به حتى خرج وقته عمدا وتفريطا بلا عذر فلا يتناوله الحديث ولو كان الحديث متناولا له لما توعده بإحباط عمله وتشبيهه بمن سلب أهله وماله وبقى بلا أهل ولا مال.
قالوا: وأما قولكم "إنه لا يظن بالشرع تخفيفه عن هذا العامد المفرط بعدم إيجاب القضاء عليه وتكليف المعذور به" فكلام بعيد عن التحقيق بين البطلان فإن هذا المعذور: إنما فعل ما أمر به في وقته كما تقدم فهو في فعل ما أمر به كغير المعذور الذي صلى في وقته ونحن لم نسقط القضاء عن العامد المفرط تخفيفا عنه بل لأنه غير نافع له ولا مقبول منه ولا مأمور به فلا سبيل له إلى تحصيل مصلحة ما تركه فأين التخفيف عنه؟.
قالوا: وأما قولكم "إن الصلاة خارج الوقت بدل عن الصلاة في الوقت وإذا تعذر المبدل انتقل إلى بدله" فهل هذا إلا مجرد دعوى؟ وهل وقع النزاع(1/382)
إلا في هذا؟ فما الدليل على أن صلاة هذا المفرط العامد بدل؟ ونحن نطالبكم بالأمر بها أولا وبكونها مقبولة نافعة ثانيا وبكونها بدلا ثالثا ولا سبيل لكم إلى إثبات شيء من ذلك ألبتة.
وإنما يعلم كون الشيء بدلا بجعل الشارع له كذلك كشرعه التيمم عند العجز عن استعمال الماء والإطعام عند العجز عن الصيام وبالعكس كما في كفارة اليمين فأين جعل الشرع قضاء هذا المفرط المضيع بدلا عن فعله العبادة في الوقت وهذ ذلك إلا القياس الذي قد تبين فساده؟.
قالوا: وأما قياسكم فعلها خارج الوقت على صحة أداء ديون الآدميين بعد وقتها فمن هذا النمط لأن وقت الوجوب في حقه ليس محدود الطرفين كوقت الصلاة فالوجوب في حقه ليس مؤقتا محدودا بل هو على الفور كالزكاة والحج عند من يراه على الفور فلا يتصور فيه إخراج عن وقت محدود هو شرط لفعله.
نعم أولى الأوقات به: الوقت الأول على الفور وتأخيره عنه لا يوجب كونه قضاء.
فإن قيل: فما تصنعون بقضاء رمضان فإنه محدود على جهة التوسعة بما بين رمضانين ولا يجوز تأخيره مع القدرة إلى رمضان آخر؟ ومع هذا لو أخره لزمه فعله وإطعام كل يوم مسكينا كما أفتى به الصحابة رضي الله عنهم وهذا دليل على أن العبادة المؤقتة لا يتعذر فعلها بعد خروج وقتها المحدود لها شرعا؟.
قيل: قد فرق الشارع بين أيام رمضان وبين أيام القضاء فجعل أيام رمضان محدودة الطرفين لا يجوز تقدمها ولا تأخرها وأطلق أيام قضائه فقال سبحانه 2 :183، 184 {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فأطلق العدة ولم يوقتها وهذا يدل على أنها تجزيء في أي أيام كانت ولم يجيء نص عن الله ولا عن رسوله ولا إجماع على تقييدها بأيام لا تجزيء في غيرها.(1/383)
وليس في الباب إلا حديث عائشة رضي الله عنها "كان يكون على الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان من الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم" ومعلوم أن هذا ليس صريحا في التوقيت بما بين الرمضانين كتوقيت أيام رمضان بما بين الهلالين فاعتبار أحدهما بالآخر ممتنع وجمع بين ما فرق الله بينهما فإنه جعل أيام رمضان محدودة بحد لا تتقدم عنه ولا تتأخر وأطلق أيام القضاء وأكد إطلاقها بقوله (أخر) وأفتى من أفتى من الصحابة بالإطعام لمن أخرها إلى رمضان آخر جبرا لزيادة التأخير عن المدة التي بين الرمضانين ولا تخرج بذلك عن كونها قضاء بل هي قضاء وإن فعلت بعد رمضان آخر فحكمها في القضاء قبل رمضان وبعده واحد بخلاف أيام رمضان.
يوضح هذا: انه لو أفطر يوما من أيام رمضان عمدا بغير عذر لم يتمكن أن يقيم مقامه يوما آخر مثله ألبتة ولو أفطر يوما من أيام القضاء قام اليوم الذي بعد مقامه.
وسر الفرق: أن المعذور لم يتعين في حقه أيام القضاء بل هو مخير فيها وأي يوم صامه قام مقام الآخر وأما غير المعذور فأيام الوجوب متعينة في حقه لا يقوم غيرها مقامها.
قالوا: وأما من ترك الجمعة عمدا: فإنما أوجبنا عليه الظهر لأن الواجب في هذا الوقت أحد الصلاتين ولا بد إما الجمعة وإما الظهر فإذا ترك الجمعة فوقت الظهر قائم وهو مخاطب بوظيفة الوقت.(1/384)
قالوا: ولا سيما عند من يجعل الجمعة بدلا من الظهر فإنه إذا فاته البدل رجع إلى الأصل وهذا إن كان القضاء ثابتا بالإجماع أو بالنص وإن كان فيه خلاف أجبنا بالجواب المركب.
فنقول: إن كان ترك الجمعة مساويا لترك الصلاة حتى يخرج وقتها فالحكم في الصورتين واحد ولا فرق حينئذ عملا بما ذكرنا من الدليل وإن كان بينهما فرق مؤثر بطل الإلحاق فامتنع القياس فعلى التقديرين بطل القياس.
قالوا: وأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الأحزاب إلى غروب الشمس فللناس في هذا التأخير هل هو منسوخ أم لا؟ قولان.
فقال الجمهور كأحمد والشافعي ومالك: "هذا كان قبل نزول صلاة الخوف ثم نسخ بصلاة الخوف وكان ذلك التأخير كتأخير صلاة الجمع بين الصلاتين فلا يجوز اعتبار الترك المحرم به ويكون الفرق بينهما كالفرق بين تأخير النائم والناسي وتأخير المفرط بل أولى فإن هذا التأخير حينئذ مأمور به فهو كتأخير المغرب ليلة جمع إلى مزدلفة".
القول الثاني: أنه ليس بمنسوخ بل هو باق وللمقاتل تأخير الصلاة حال القتال واشتغاله بالحرب والمسايفة وفعلها عند تمكنه منها وهذا قول أبي حنيفة ويذكر رواية عن أحمد.
وعلى التقديرين: فلا يصح إلحاق تأخير العامد المفرط به وكذلك تأخير الصحابة العصر يوم بني قريظة فإنه كان تأخيرا مأمورا به عند طائفة من أهل العلم كأهل الظاله أو تأخيرا سائغا للتأويل عند بعضهم ولهذا لم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاها في الطريق في وقتها ولا من أخرها إلى الليل حتى صلاها في بني قريظة لأن هؤلاء تمسكوا بظاهر الأمر وأولئك نظروا إلى المعنى والمراد منهم وهو سرعة السير.
واختلف علماء الإسلام في تصويب أي الطائفتين.(1/385)
فقالت طائفة: لو كنا مع القوم لصلينا في الطريق مع الذين فهموا المراد وعقلوا مقصود الأمر فجمعوا بين إيقاع الصلاة في وقتها وبين المبادرة إلى العدول ولم يفتهم مشهدهم إذ المقدار الذي سبقهم به أولئك لحقوهم به لما اشتغلوا بالصلاة وقت النزول في بني قريظة.
قالوا: فهؤلاء أفقه الطائفتين جمعوا بين الامتثال والاجتهاد والمبادرة إلى الجهاد مع فقه النفس.
وقالت طائفة: لو كنا معهم لأخرنا الصلاة مع الذين أخروها إلى بني قريظة فهم الذين أصابوا حكم الله قطعا وكان هذا التأخير واجبا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فهو الطاعة لله ذلك اليوم خاصة والله يأمر بما يشاء فأمره بالتأخير في وجوب الطاعة: كأمره بالتقديم فهؤلاء كانوا أسعد بالنص وهم الذين فازا بالأجرين وإنما لم يعنف الآخرين لأجل التأويل والاجتهاد فإنهم إنما قصدوا طاعة الله ورسوله وهم أهل الأجر الواحد وهم كالحاكم الذي يجتهد فيخطىء الحق.
والمقصود: أن إلحاق المفرط العاصي بالتأخير بهؤلاء في غاية الفساد.
قالوا: وأما قولكم "هذا تائب نادم فكيف تسد عليه طريق التوبة ويجعل إثم التضييع لازما له وطائرا في عنقه؟" فمعاذ الله أن نسد عليه بابا فتحه الله لعباده المذنبين كلهم ولم يغله عن أحد إلى حين موته أو إلى وقت طلوع الشمس من مغربها وإنما الشأن في طريق توبته وتحقيقها هل يتعين لها القضاء أم يستأنف العمل ويصير ما مضى لا له ولا عليه ويكون حكمه حكم الكافر إذا أسلم في استئناف العمل وقوبل التوبة فإن ترك فريضة من فراض الإسلام لا يزيد على ترك الإسلام بجملته وفرائضه فإذا كانت توبة تارك الإسلام مقبولة صحيحة لا يشترط في صحتها إعادة ما فاته في حال إسلامه أصليا كان أو مرتدا كما أجمع عليه الصحابة في ترك أمر المرتدين لما رجعوا إلى الإسلام بالقضاء فقبول توبة تارك الصلاة وعدم توقفها على القضاء أولى والله أعلم.(1/386)
فصل
وأما في حقوق العباد: فيتصور في مسائل.
إحداها: من غصب أموالا ثم تاب وتعذر عليه ردها إلى أصحابها أو إلى ورثتهم لجهله بهم أو لانقراضهم أو لغير ذلك فاختلف في توبة مثل هذا.
فقالت طائفة: لا توبة له إلا بأداء هذه المظالم إلى أربابها فإذا كان ذلك قد تعذر عليه فقد تعذرت عليه التوبة والقصاص أمامه يوم القيامة بالحسنات والسيئات ليس إلا.
قالوا: فإن هذا حق للآدمي لم يصل إليه والله سبحانه لا يترك من حقوق عباده شيئا بل يستوفيها لبعضهم من بعض ولا يجاوزه ظلم ظالم فلا بد أن يأخذ للمظلوم حقه من ظالمه ولو لطمة ولو كلمة ولو رمية بحجر.
قالوا: وأقرب ما لهذا في تدارك الفارط منه أن يكثر من الحسنات ليتمكن من الوفاء منها يوم لا يكون الوفاء بدينار ولا بدرهم فيتجر تجارة يمكنه الوفاء منها ومن أنفع ما له الصبر على ظلم غيره له وأذاه وغيبته وقذفه فلا يستوفى حقه في الدنيا ولا يقابله ليحيل خصمه عليه إذا أفلس من حسناته فإنه كما يؤخذ منه ما عليه يستوفى أيضا ماله وقد يتساويان وقد يزيد أحدهما عن الآخر.
ثم اختلف هؤلاء في حكم ما بيده من الأموال.
فقالت طائفة: يوقف أمرها ولا يتصرف فيها ألبتة.
وقالت طائفة: يدفعها إلى الإمام أو نائبه لأنه وكل أربابها فيحفظها لهم ويكون حكمها حكم الأموال الضائعة.
وقالت طائفة أخرى: بل بال التوبة مفتوح لهذا ولم يغلقه الله عنه ولا عن مذنب وتوبته أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان هلم الخيار بين أن يجيزا ما فعل وتكون أجورها لهم وبين أن لا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم ويكون ثواب تلك الصدقة(1/387)
له إذ لا يبطل الله سبحانه ثوابها ولا يجمع لأربابها بين العوض والمعوض فيغرمه إياها ويجعل أجرها لهم وقد غرم من حسناته بقدرها.
وهذا مذهب جماعة من الصحابة كما هو مروى عن ابن مسعود ومعاوية وحجاج بن الشاعر فقد روى أن ابن مسعود: "اشترى من رجل جارية ودخل يزن له الثمن فذهب رب الجارية فانتظره حتى يئس من عوده فتصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عن رب الجارية فإن رضي فالأجر له وإن أبى فالأجر لي وله من حسناتي بقدره" و"غل رجل من الغنيمة ثم تاب فجاء بما غله إلى أمي الجيش فأبى أن يقبله منه وقال كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا فأتى حجاج بن الشاعر فقال يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم فإن الله يوصل ذلك إليهم أو كما قال ففعل فلما أخبر معاوية قال لأن أكون أفيتتك بذلك أحب إلي من نصف ملكي".
قالوا: وكذلك اللقطة إذا لم يجد ربها بعد تعريفها ولم يرد أن يتملكها تصدق بها عنه فإن ظهر مالكها خيره بين الأجر والضمان.
قالوا: وهذا لأن المجهول في الشرع كالمعدوم فإذا جهل الملك صار بمنزلة المعدوم وهذا مال لم يعلم له مالك معين ولا سبيل إلى تعطيل الانتفاع به لما فيه من المفسدة والضرر بمالكه وبالفقراء وبمن هو في يده أما المالك: فلعدم وصول نفعه إليه وكذلك الفقراء وأما من هو في يده فلعدم تمكنه من الخلاص من إثمه فيغرمه يوم القيامة من غير انتفاع به ومثل هذا لا تبيحه شريعة فضلا عن أن تأمر به وتوجبه فإن الشرائع مبناها على المصالح بحسب الإمكان وتكميلها وتعطيل المفاسد بحسب الإمكان وتقيلها وتعطيل هذا المال ووقفه ومنعه عن الانتفاع به مفسدة محضة لا مصلحة فيها فلا يصار إليه.
قالوا: وقداستقرت قواعد الشرع على أن الإذن العرفي كاللفظي فمن رأى(1/388)
رأى بمال غيره موتا وهو مما يمكن استدراكه بذبحه فذبحه إحسانا إلى مالكه ونصحا له فهو مأذون له فيه عرفا وإن كان المالك سفيها فإذا ذبحه لمصلحة مالكه لم يضمنه لأنه محسن و 9 :91 {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وكذلك إذا غصبه ظالم أو خاف عليه منه فصالحه عليه ببعضه ليس الباقي لمالكه وهو غائب عنه أو رآه آيلا إلى تلف محض فباعه وحفظ ثمنه له ونحو ذلك فإن هذا كله مأذون فيه عرفا من المالك وقد باع عروة بن الجعد البارقي وكيل النبي ملك النبي بغير إذنه لفظا واشترى له ببعض ثمنه مثل ما وكله في شرائه بذلك الثمن كله ثم جاءه بالثمن وبالمشترى فقبله النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له.
وأشكل هذا على بعض الفقهاء وبناه على تصرف الفضولي فأورد عليه أن الفضولي لا يقبض ولا يقبض وهذا قبض وأقبض.
وبناه آخرون على أنه كان وكيلا مطلقا في كل شيء وهذا أفسد من الأول فإنه لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وكل أحدا وكالة مطلقة ألبتة ولا نقل ذلك عنه مسلم.
والصواب: أنه مبني على هذه القاعدة أن "الإذن العرفي كالإذن اللفظي" ومن رضي بالمشتري وخرج ثمنه عن مكله فهو بأن يرضى به ويحصل له الثمن أشد رضى.
ونظير هذا: مريض عجز أصحابه في السفر أو الحضر عن استئذانه في إخراج شيء من ماله في علاجه وخيف عليه فإنهم يخرجون من ماله ما هو مضطر إليه بدون استئذانه بناء على العرف في ذلك ونظائر ذلك مما مصلحته وحسنه مستقر في فطر الخلق ولا تأتي شريعة بتحريمه كثير.
وإذا ثبت ذلك فمن المعلوم: أن صاحب هذا المال الذي قد حيل بينه وبينه أشد شيء رضى بوصول نفعه الآخروي إليه وهو أكره شيء لتعطيله أو إبقائه(1/389)
مقطوعا عن الانتفاع به دنيا وأخرى وإذا وصل إليه ثواب ماله سره ذلك أعظم من سروره بوصوله إليه في الدنيا فكيف يقال: مصلحة تعطيل هذا المال عن انتفاع الميت والمساكين به ومن هو بيده أرجح من مصلحة إنفاقه شرعا؟ بل أي مصلحة دينية أو دنيوية في هذا التعطيل وهل هو إلا محض المفسدة؟.
ولقد سئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه سأله شيخ فقال هربت من أستاذي وأنا صغير إلى الآن لم أطلع له على خبر وأنا مملوك وقد خفت من الله عز وجل وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي وقد سألت جماعة من المفتين فقالوا لي: اذهب فاقعد في المستودع فضحك شيخنا وقال تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثا في غير مصلحة وإضرارا بك وتعطيلا عن مصالحك ولا مصلحة لأستاذك في هذا ولا لك ولا للمسلمين أو نحو هذا من الكلام والله أعلم.
فصل
المسألة الثانية: إذا عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض كالزانية والمغنى وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم ثم تاب والعوض بيده.
فقالت طائفة: يرده إلى مالكه إذ هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح.
وقالت طائفة: بل توبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أصوب القولين فإن قابضه إنما قبضه ببذل مالكه له ورضاه ببذله وقد استوفى عوضه المحرم فكيف يجمع له بين العوض والمعوض؟ وكيف يرد عليه مالا قد استعان به على معاصي الله ورضى(1/390)
بإخارجه فيما يستعين به عليها ثانيا وثالثا؟ وهل هذا إلا محض إعانته على الإثم والعدوان؟ وهل يناسب هذا محاسن الشرع: أن يقضى للزاني بكل ما دفعه إلى من زنى بها ويؤخذ منها ذلك طوعا أو كرها فيعطاه وقد نال عوضه؟.
وهب أن هذا المال لم يملكه الآخذ فملك صاحبه قد زال عنه بإعطائه لمن أخذه وقد سلم له ما في قبالته من النفع فكيف يقال: ملكه باق عليه ويجب رده إليه؟ وهذا بخلاف أمره بالصدقة به فإنه قد أخذه من وجه خبيث برضى صاحبه وبذله له بذلك وصاحبه قد رضى بإخراجه عن ملكه بذلك وأن لا يعود إليه فكان أحق الوجوه به: صرفه في المصلحة التي ينتفع بها من قبضه ويخفف عنه الإثم ولا يقوى الفاجر به ويعان ويجمع له بين الأمرين.
وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدر الحرام ويطيب باقي ماله والله أعلم.
فصل
إذا غصب مالا ومات ربه وتعذر رده عليه تعين عليه رده إلى وارثه فإن مات الوارث رده إلى وارثه وهلم جرا فإن لم يرده إلى ربه ولا إلى أحد ورثته فهل تكون المطالبة به في الآخرة للموروث إذ هو ربه الأصلي وقد غصبه عليه أو للوارث الأخير إذ الحق فد انتقل إليه؟.
فيه قولان للفقهاء وهم وجهان في مذهب الشافعي.
ويحتمل أن يقال: المطالبة للموروث ولكل واحدة من الورثة إذ كل منهم قد كان يستحقه ويجب عليه الدفع إليه فقد ظلمه بترك إعطائه ما وجب عليه دفعه إليه فيتوجه عليه المطالبة في الآخرة له.
فإن قيل: فكيف يتخلص بالتوبة من حقوق هؤلاء.
قيل: طريق التوبة: أن يتصدق عنهم بمال تجري منافع ثوابه عليهم بقدر(1/391)
ما فات كل واحد منهم من منفعة ذلك المال لو صار إليه متحريا للممكن من ذلك وهكذا لو تطاولت على المال سنون وقد كان يمكن ربه أن ينميه بالربح فتوبته بأن يخرج المال ومقدار ما فوته من ربح ماله.
فإن كان قد ربح فيه بنفسه فقيل: الربح كله للمالك وهو قول الشافعي وظاهر مذهب أحمد رحمهما الله.
وقيل: كله للغاصب وهو مذهب أبي حنيفة ومالك رحمهما الله.
وكذلك لو أودعه مالا فاتجر به وربح فربحه له دون مالكه عندهما وضمانه عليه.
وفيها قول ثالث: أنهما شريكان في الربح وهو رواية عن أحمد رحمه الله واختيار شيخنا رحمه الله وهو أصح الأقوال فتضم حصة المالك من الربح إلى أصل المال ويتصدق بذلك.
وهكذا لو غصب ناقة أو شاة فنتجت أولادا فقيل أولاده كلها للمالك فإن ماتت أو شيء من النتاج رد أولادها وقيمة الأم وما مات من النتاج هذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عند أصحابه.
وقال مالك: إذا ماتت فربها بالخيار بين أخذ قيمتها يوم ماتت وترك نتاجها للغاصب وبين أخذ نتاجها وترك قيمتها وعلى القول الثالث الراجح: يكون عليه قيمتها وله نصف النتاج والله أعلم.
فصل
اختلف الناس: هل من الذنوب ذنب لا تقبل توبته أم لا؟.
فقال الجمهور: التوبة تأتي على كل ذنب فكل ذنب يمكن التوبة منه وتقبل.
وقالت طائفة: لا توبة للقاتل وهذا مذهب ابن عباس المعروف عنه(1/392)
وإحدى الروايتين عن أحمد وقد ناظر ابن عباس في ذلك أصحابه فقالوا: "أليس قد قال الله تعالى في سورة الفرقان 25 :68، 70 { وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} إلى أن قال {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} فقال: كانت هذه الآية في الجاهلية وذلك أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأتوا رسول الله فقالوا إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزل 25 :68 {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية فهذه في أولئك وأما التي في سورة النساء وهي قوله تعالى 4 :93 {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم" وقال زيد بن ثابت: "لما نزلت التي في الفرقان {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة" وأراد بالغليظة: هذه الآية التي في سورة النساء وباللينة: آية الفرقان قال ابن عباس: "آية الفرقان مكية وآية النساء مدنية نزلت ولم ينسخها شيء".
قال هؤلاء: ولأن التوبة من قتل المؤمن عمدا متعذرة إذ لا سبيل إليها إلا باستحلاله أو إعادة نفسه التي فوتها عليه إلى جسده إذ التوبة من حق الآدمي لا تصح إلا بأحدهما وكلاهما متعذر على القاتل فكيف تصح توبته من حق آدمي لم يصل إليه ولم يستحله منه؟.
ولا يرد عليهم هذا في المال إذا مات ربه ولم يوفه إياه لأنه يتمكن من إيصال نظيره إليه بالصدقة.
قالوا: ولا يرد علينا أن الشرك أعظم من القتل وتصح التوبة منه فإن ذلك محض حق الله فالتوبة منه ممكنة وأما حق الآدمي: فالتوبة موقوفة على أدائه إليه واستحلاله وقد تعذر.(1/393)
واحتج الجمهور بقوله تعالى 39 :53 {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فهذه في حق التائب وبقوله 4 :48 {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} فهذه في حق غير التائب لأنه فرق بين الشرك وما دونه وعلق المغفرة بالمشيئة فخصص وعلق وفي التي قبلها عمم وأطلق.
واحتجوا بقوله تعالى 20 :82 {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} فإذا تاب هذا القاتل وآمن وعمل صالحا فإن الله عز وجل غفار له.
قالوا: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قتل المائة ثم تاب فنفعته توبته وألحق بالقرية الصالحة التي خرج إليها وصح عنه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وحوله عصابة من أصحابه "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك".
قالوا: وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى "ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة" وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" وقال: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" وفي حديث الشفاعة "أخرجوا من النار من في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان" وفيه يقول الله تعالى: "وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله" وأضعاف هذه النصوص كثير تدل على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد.(1/394)
قالوا: وأما هذه الآية التي في النساء فهي نظائر أمثالها من نصوص الوعيد كقوله تعالى 4 :14 {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وقوله 4 :10 {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} وقوله صلى الله عليه وسلم: " من قتل نفسه بحديدة فحديدته يتوجأبها خالدا مخلدا في نار جهنم" ونظائره كثيرة.
وقد اختلف الناس في هذه النصوص على طرق.
أحدها: القول بظاهرها وتخلد أرباب هذه الجرائم في النار وهو قول الخوارج والمعتزلة ثم اختلفوا.
فقالت الخوارج: هم كفار لأنه لا يخلد في النار إلا كافر وقالت المعتزلة: ليسوا بكفار بل فساق مخلدون في النار هذا كله إذا لم يتوبوا.
وقالت فرقة: بل هذا الوعيد في حق المستحل لها لأنه كافر وأما من فعلها معتقدا تحريمها: فلا يلحقه هذا الوعيد وعيد الخلود وإن لحقه وعيد الدخول.
وقد أنكر الإمام أحمد هذا القول وقال: "لو استحل ذلك ولم يفعله كان كافرا والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال من فعل كذا وكذا".
وقالت فرقة ثالثة: الاستدلال بهذه النصوص مبني على ثبوت العموم وليس في اللغة ألفاظ عامة ومن ههنا أنكر العموم من أنكره وقصدهم تعطيل هذه الأدلة عن استدلال المعتزلة والخوارج بها لكن ذلك يستلزم تعطيل الشرع جملة بل تعطيل عامة الأخبار فهؤلاء ردوا باطلا بأبطل منه وبدعة بأقبح منها وكانوا كمن رام أن يبني قصرا فهدم مصرا.
وقالت فرقة رابعة: في الكلام إضمار.
قالوا: والإضمار في كلامهم كثير معروف.(1/395)
ثم اختلفوا في هذا المضمر فقالت طائفة بإضمار الشرط والتقدير فجزاؤه كذا إن جازاه أو إن شاء.
وقالت فرقة خامسة: بإضمار الاستثناء والتقدير فجزاؤه كذا إلا أن يعفو وهذه دعوى لا دليل في الكلام عليها ألبتة ولكن إثباتها بأمر خارج عن اللفظ.
وقالت فرقة سادسة: هذا وعيد وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد ولا يجوز عليه خلف الوعد والفرق بينهما أن الوعيد حقه فإخلافه عفو وهبة وإسقاط وذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه والوعد حق عليه أوجبه على نفسه والله لا يخلف الميعاد.
قالوا: ولهذا مدح به كعب بن زهير رسول الله حيث يقول:
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
وتناظر في هذه المسألة أبو عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيد فقال عمرو بن عبيد يا أبا عمرو لا يخلف الله وعده وقد قال: 4 :93 {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} الآية فقال له أبو عمرو: "ويحك يا عمرو من العجمة أتيت إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذما بل جودا وكرما أما سمعت قول الشاعر:
ولا يهب ابن العم ما عشت صولتي ... ولا يخشى من سطوة المتهدد
وإني إن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقالت فرقة سابعة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضى للعقوبة ولا يلزم من وجود مقتضى الحكم وجوده فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه وغاية هذه النصوص: الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع وبعضها بالنص فالتوبة مانع بالإجماع والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها والحسنات العظيمة الماحية مانعة والمصائب الكبار المكفرة مانعة وإقامة الحدود في(1/396)
الدنيا مانع بالنص ولا سبيل إلى تعطي لهذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين.
ومن ههنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات اعتبارا بمقتضى العقاب ومانعه وإعمالا لأرجحها.
قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه ويكون الحكم للأغلب منهما فالقوة مقتضية للصحة والعافية وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة وفعل القوة والحكم للغالب منهما وكذلك قوى الأدوية والأمراض والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطي وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له.
ومن ههنا يعلم انقسام الخلق إلى من يدخل الجنة ولا يدخل النار وعكسه ومن يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه.
ومن له بصيرة نورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله حتى كأنه يشاهده رأى عين ويعلم أن هذا هو مقتضى إلهيته سبحانه وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك ونسبة خلاف ذلك إليه نسبة مالا يليق به إليه فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره وهذا يقين الإيمان وهو الذي يحرق السيئات كما تحرق النار الحطب.
وصاحب هذا المقام من الإيمان: يستحيل إصراره على السيئات وإن وقعت(1/397)
منه وكثرت فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله بعدد أنفاسه وهذا من أحب الخلق إلى الله.
فهذه مجامع طرق الناس في نصوص الوعيد.
فصل
واختلفوا فيما إذا تاب القاتل وسلم نفسه فقتل قصاصا هل يبقى عليه يوم القيامة للمقتول حق؟.
فقالت طائفة: لا يبقى عليه شيء لأن القصاص حده والحدود كفارة لأهلها وقد استوفى ورثة المتقول حق موروثهم وهم قائمون مقامه في ذلك فكأنه قد استوفاه بنفسه إذ لا فرق بين استيفاء الرجل حقه بنفسه أو بنائبه ووكيله.
يوضح هذا: أنه أحد الجنايتين فإذا استوفيت منه لم يبق عليه شيء كما لو جنى على طرفه فاستقاد منه فإنه لا يبقى له عليه شيء.
وقالت طائفة: المقتول قد ظلم وفاتت عليه نفسه ولم يستدرك ظلامته والوارث إنما أدرك ثأر نفسه وشفاء غيظه وأي منفعة حصلت للمقتول بذلك؟ رأى ظلامة استوفاها من القاتل؟.
قالوا: فالحقوق في القتل ثلاثة: حق لله وحق للمقتول وحق للوارث فحق الله: لا يزول إلا بالتوبة وحق الوارث: قد استوفاه بالقتل وهو مخير بين ثلاثة أشياء: بين القصاص والعفو مجانا أو إلى مال فلو أحله أو أخذ منه مالا لم يسقط حق المقتول بذلك فكذلك إذا اقتص منه لأنه أحد الطرق الثلاثة في استيفاء حقه فكيف يسقط حق المقتول بواحد منها دون الآخرين؟.
قالوا: ولو قال القتيل لا تقتلوه لأطالبه بحقي يوم القيامة فقتلوه أكان يسقط حقه ولم يسقطه؟ فإن قلتم: يسقط فباطل لأنه لم يرض بإسقاطه وإن قلتم: لا يسقط فكيف تسقطونه إذا اقتص منه مع عدم العلم برضا المقتول بإسقاط حقه؟.(1/398)
وهذه حجج كما ترى في القوة لا تندفع إلا بأقوى منها أو بأمثالها.
فالصواب والله أعلم أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله وسلم نفسه طوعا إلى الوارث ليستوفى منه حق موروثه: سقط عنه الحقان وبقي حق الموروث لا يضيعه الله ويجعل من تمام مغفرته للقاتل: تعويض المقتول لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله والتوبة النصوح تهدم ما قبلها فيعوض هذا عن مظلمته ولا يعاقب هذا لكمال توبته وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلما في الصف ثم أسلم وحسن إسلامه فإن الله سبحانه يعوض هذا الشهيد المقتول ويغفر للكافر بإسلامه ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلما فإن هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله.
وعلى هذا إذا سلم نفسه وانقاد فعفا عنه الولي وتاب القاتل توبة نصوحا فالله تعالى يقبل توبته ويعوض المقتول.
فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده والحكم بعد ذلك لله 27 :78 {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.
فصل : في مشاهد الخلق في المعصية.
وهي ثلاثة عشر مشهدا.
مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة ومشهد الجبر ومشهد القدر ومشهد الحكمة ومشهد التوفيق والخذلان ومشهد التوحيد ومشهد الأسماء والصفات ومشهد الإيمان وتعدد شواهده ومشهد الرحمة ومشهد العجز والضعف ومشهد الذل والافتقار ومشهد المحبة والعبودية.
فالأربعة الأول للمنحرفين والثمانية البواقي لأهل الاستقامة وأعلاها: المشهد العاشر.(1/399)
وهذا الفصل من أجل فصول الكتاب وأنفعها لكل أحد وهو حقيق بأن تثنى عليه الخناصر ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى "سفر الهجرتين في طريق السعادتين".
فصل
فأما مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة: فمشهد الجهال الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية فضلا عن درجة الملائكة فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفلوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها.
فمنهم: من نفسه كلبية لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب ونبح كل كلب يدنو منها فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة ولا يسمح لكلب بشيء منها وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق: ميتة أو مذكى خبيث أو طيب ولا يستحى من قبيح إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك وإن منعته هرك ونبحك.
ومنهم: من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكدر والعلف كلما زيد في علفه زيد في كده أبكم الحيوان وأقله بصيرة ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه فلم يحمله معرفة ولا فقها ولا عملا ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه وفي هذين المثلين أسرار عظيمة ليس هذا موضوع ذكرها.(1/400)
ومنهم: من نفسه سبعية غضبية همته العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت إليه قدرته طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه.
ومنهم: من نفسه فأرية فاسق بطبعه مفسد لما جاروه تسبيحه بلسان الحال سبحان من خلقه للفساد.
ومنهم: من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات كالحية والعقرب وغيرهما وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر والجمل القدر والعين وحدها لم تفعل شيئا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب وقابلت المعين على غرة منه وغفلة وهو أعزل من سلاحه فلدغته كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه فإما عطب وإما أذى ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة بل إذا وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته عن حمل سلاحه كل وقت فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح كالحية إذا قابلت درعا سابغا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف فحق على من أراد حفظ نفسه وحمايتها: أن لا يزال متدرعا متحصنا لابسا أداة الحرب مواظبا على أوراد التعوذات والتحصينات النبوية التي في القرآن والتي في السنة.
وإذا عرف الرجل بالأذى بالعين: ساغ بل وجب حبسه وإفراده عن الناس ويطعم ويسقي حتى يموت ذكر ذلك غير واحد من الفقهاء ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف لأن هذا من نصيحة المسلمين ودفع الأذى عنهم ولو قيل فيه غير ذلك لم يكن بعيدا من أصول الشرع.(1/401)
فإن قيل فهل تقيدون منه فإذا قتل بعينه؟.
قيل: إن كان ذلك بغير اختياره بل غلب على نفسه لم يقتص منه وعليه الدية وإن تعمد وقدر على رده وعلم أنه يقتل به: ساغ للولي أن يقتله بمثل ما قتل به فيعينه إن شاء كما عان هو المقتول وأما قتله بالسيف قصاصا: فلا لأن هذا ليس مما يقتل غالبا ولا هو مماثل لجنايته.
وسألت شيخنا أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن القتل بالحال هل يوجب القصاص؟.
فقال: للولي أن يقتله بالحال كما قتل به.
فإن قيل: فما الفرق بين القتل بهذا وبين القتل بالسحر حيث توجبون القصاص به بالسيف؟.
قلنا: الفرق من وجهين.
أحدهما: أن السحر الذي يقتل به: هو السحر الذي يقتل مثله غالبا ولا ريب أن هذا كثير في السحر وفيه مقالات وأبواب معروفة للقتل عند أربابه.
الثاني: أنه لا يمكن أن يقتص منه بمثل ما فعل لكونه محرما لحق الله فهو كما لو قتله باللواط وتجريع الخمر فإنه يقتص منه بالسيف.
وليس هذا موضع ذكر هذه المسائل وإنما ذكرت لما ذكرنا أن من النفوس البشرية ما هي على نفوس الحيوانات العادية وغيرها وهذا هو تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى 6 :38 {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.
وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام عند الإناسن وفي داره أو أنها تحاريه وهو كما اعتمدوه وقد وقع لنا ولغيرنا من ذلك في المنام وقائع كثيرة فكان تأويلها مطابقا لأقوام على طباع تلك(1/402)
الحيوانات وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد "بقرا تنحر" فكان من أصيب من المؤمنين بنحر الكفار فإن البقر أنفع الحيوانات للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما فيها من السكينة والمنافع والذل بكسر الذال فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية والجواميس كبارهم ورؤساؤهم ورأى عمر بن الخطاب كأن ديكا نقره ثلاث نقرات فكان طعن أبي لؤلؤة له والديك رجل أعجمي شرير.
ومن الناس: من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوى عليها فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوىء فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله.
ومنهم: من هو على طبيعة الطاوس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش وليس وراء ذلك من شيء.
ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان وأغلظه كبدا.
ومنهم من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث وعلى طبيعة القرد.
وأحمد طبائع الحيوانات: طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسا وأكرمها طبعا وكذلك الغنم وكل من ألف ضربا من ضورب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى فإن الغاذي شبيه بالمغتذى.
ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما تورث آكلها من شبه نفوسها بها والله أعلم.
والمقصود: أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى ميل نفوسهم وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك ألبتة.(1/403)
فصل: المشهد الثاني
مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة كمشهد زنادقة الفلاسفة والأطباء الذين يشهدون أن ذلك من لوازم الخلقة الإنسانية وأن تركيب الإنسان من الطبائع الأربع وامتزاجها واختلاطها كما يقتضى بغي بعضها على بعض وخروجه عن الاعتدال بحسب اختلاف هذه الاخلاط فكذلك تركيبه من البدن والنفس والطبيعة والأخلاط الحيوانية تتقاضاه آثار هذه الخلقة ورسوم تلك الطبيعة ولا تنقهر إلا بقاهر إما من نفسه وإما من خارج عنه وأكثر النوع الإنساني ليس له قاهر من نفسه فاحتياجه إلى قاهر فوقه يدخله تحت سياسة وإيالة ينتظم بها أمره ضرورة كحاجته إلى مصاحله من الطعام والشراب واللباس.
وعند هؤلاء: أن العاقل متى كان له وازع من نفسه قاهر لم يحتج إلى أمر غيره ونهيه وضبطه.
فمشهد هؤلاء: من حركات النفس الاختيارية الموجبة للجنايات كمشهدهم من حركات الطبيعة الاضطرارية الموجبة للتغيرات وليس لهم مشهد وراء ذلك.
فصل المشهد الثالث
مشهد أصحاب الجبر وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم وأنها واقعة بغير قدرتهم بل لا يشهدون أنها أفعالهم ألبتة.
يقولون: إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر وأن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه وأنه آلة محضة وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار.
وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر وحملوا ذنوبهم عليه.(1/404)
وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طعات خيرها وشرها لموافقتها للمشيئة والقدر.
ويقولون: كما أن موافقة الأمر طاعة فموافقة المشيئة طاعة كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم: أنهم جعلوا مشيئة الله تعالى لأفعالهم دليلا على أمره بها ورضاه وهؤلاء شر من القدرية النفاة وأشد منهم عداوة لله ومناقضة لكتبه ورسله ودينه حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده وينسب ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال ويقول ما ذنبه وقد صان وجهه عن السجود لغير خالقه؟ وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه ثم كيف يمكنه السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله إلا محسنا؟ ولكن
إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب
وهؤلاء أعداء الله حقا وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه وإذا ناح منهم نائح على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرا عجبا ورأيت من ظلمهم الأقدار واتهامهم الجبار ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم وتسمع من أحدهم من التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه فهؤلاء هم الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته:
ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرا فرقة القدرية
فصل: المشهد الرابع
مشهد القدرية النفاة يشهدون أن هذه الجنايات والذنوب هم الذين أحدثوها وأنها واقعة بمشيئتهم دون مشيئة الله تعالى وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاء ولا خلق أفعالهم وأنه لا يقدر أن يهدي أحدا(1/405)
ولا يضله إلا بمجرد البيان لا أنه يلهمه الهدى والضلال والفجور والتقوى فيجعل ذلك في قلبه.
ويشهدون أنه يكون في ملك الله مالا يشاؤه وأنه يشاء مالا يكون وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة الله.
فالمعاصي والذنوب خلقهم وموجب مشيئتهم لا أنها خلق الله ولا تتعلق بمشيئته وهم لذلك مبخوسو الحظ جدا من الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام به وسؤاله أن يهديهم وأن يثبت قلوبهم وأن لا يزيغها وأن يوفقهم لمرضاته ويجنبهم معصيته إذ هذا كله واقع بهم وعين أفعالهم لا يدخل تحت مشيئة الرب شيء منها.
والشيطان قد رضي منهم بهذا القدر فلا يؤزهم إلى المعاصي ذلك الأز ولا يزعجهم إليها ذلك الإزعاج وله في ذلك غرضان مهمان.
أحدهما: أن يقر في قلوبهم صحة هذا المشهد وهذه العقيدة وأنكم تاركون الذنوب والكبائر التي يقع فيها أهل السنة فدل على أن الأمر مفوض إليكم واقع بكم وأنكم العاصمون لأنفسكم المانعون لها من المعصية.
الغرض الثاني: أنه يصطاد على أيديهم الجهال فإذا رأوهم أهل عبادة وزهادة وتورع عن المعاصي وتعظيم لها قالوا: هؤلاء أهل الحق والبدعة آثر عنده وأحب إليه من المعصية فإذا ظفر بها منهم واصطاد الجهال على أيديهم كيف يأمرهم بالمعصية؟ بل ينهاهم عنها ويقبحها في أعينهم وقلوبهم ولا يكشف هذه الحقائق إلا أرباب البصائر.
فصل: المشهد الخامس
وهو أحد مشاهد أهل الإستقامة: مشهد (الحكمة) وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه ويلوم ويعاقب عليه وأنه(1/406)
لو شاء لعصمه منه ولحال بينه وبينه وأنه سبحانه لا يعصى قسرا وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته 7 :57 {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئا عبثا ولا سدى وأن له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر وطاعة ومعصية وحكمة باهرة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها وتكل الألسن عن التعبير عنها.
فمصدر قضائه وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه (الحكيم) الذي بهرت حمته الألباب وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا 2 :30 {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فأجابهم سبحانه بقوله {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم وأنواع التعرفات إلى خلقه وتنويع آياته ودلائل ربوبيته ووحدانيته وإلهيته وحكمته وعزته وتمام ملكه وكمال قدرته وإحاطة علمه ما يشهده أولو البصائر عيانا ببصائر قلوبهم فيقولون 3 :191 {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة.
ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه حق كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم كآيته في إغراق قوم نوح وعلو الماء على رءوس الجبال حتى أغرق جميع أهل الأرض ونجى أولياءه وأهل معرفته وتوحيده فكم في ذلك من آية وعبرة ودلالة باقية على ممر الدهور وكذلك إهلاك قوم عاد وثمود.
وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى عليه السلام إليهم بل قبل مبعثه إلى حين إغراقهم لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات(1/407)
والعجائب وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه وأمنعه عن الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر وكذلك فعل سبحانه فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر.
وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم وإلقائهم له في النار حتى صارت تلك الآية حتى نال إبراهيم بها ما نال من كمال الخلة.
وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم.
وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم ومجاهدتهم في الله وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات.
إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه وكان ذلك محض الحكمة لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية.
فحصول هذا المحبوب العظيم: أحب إليه من فوات ذلك المبغوض المسخوط فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبا له لكن حصول هذا المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المبغوض أحب إليه وفوات هذا المحبوب: أكره إليه من فوات ذلك المكروه المسخوط وكمال حكمته تقتضي حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين وأن لا يعطل هذا الأحب بتعطيل ذلك المكروه وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا: كفرضه وجود المسببات بدون أسبابها والملزومات بدون لوازمها مما تمنعه حكمة الله وكمال قدرته وربوبيته.
ويكفي من هذا مثال واحد وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى(1/408)
من امتحان خلقه وتكليفهم وإرسال رسله وإنزال كتبه وإظهار آياته وعجائبه وتنويعها وتصريفها وإكرام أوليائه وإهانة أعدائه وظهور عدله وفضله وعزته وانتقامه وعفوه ومغفرته وصفحه وحلمه وظهور من يعبده ويحبه ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان.
فلو قدر أن آدم لم يأكل من الشجرة ولم يخرج من الجنة هو وأولاده: لم يكن شيء من تلك ولا ظهر من القوة إلى الفعل ما كان كامنا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة ولم يتميز خبيث الخلق من طيبهم ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب وعقوبة وإهانة ودار سعادة وفضل ودار شقاوة وعدل.
وكم في تسليط أوليائه على أعدائه وتسليط أعدائه على أوليائه والجمع بينهما في دار واحدة وابتلاء بعضهم ببعض من حكمة بالغة ونعمة سابغة؟.
وكم فيها من حصول محبوب للرب وحمد له من أهل سمواته وأرضه وخضوع له وتذلل وتبعد وخشية وافتقار إليه وانكسار بين يديه: أن لا يجعلهم من أعدائه إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم وإعراضه عنهم ومقته لهم وما أعد لهم من العذاب وكل ذلك بمشيئته وإرادته وتصرفه في مملكته فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون على أشد وجل وأعظم مخافة وأنم انكسار.
فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له وهارون ومارون: وضعت رؤوسها بين يدي الرب خضوعا لعظمته واستكانه لعزته وخشية من إبعاده وطرده وتذللا لهيبته وافتقارا إلى عصمته ورحمته وعلمت بذلك منته عليهم وإحسانه إليهم وتخصيصه لهم بفضله وكرامته.
وكذلك أولياؤه المتقون إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم وغضبه عليهم وخذلانه لهم ازدادوا خضوعا وذلا وافتقارا وانكسارا وبه استعانة(1/409)
وإليه إنابة وعليه توكلا وفيه رغبة ومنه رهبة وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا إليه وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو ولا ينجيهم من سخطهم إلا مرضاته فالفضل بيده أولا وآخرا.
وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه والبصير يطالع ببصيرته ما وراءه فيطلعه على عجائب من حكمته لا تبلغها العبارة ولا تنالها الصفة.
وأما حظ العبد في نفسه وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية وكل مؤمن له من ذلك شرب معلوم ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه والله الموفق والمعين.
فصل: المشهد السادس: مشهد التوحيد
وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه وأن الخلق مقهورون تحت قبضته وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه فالقلوب بيده وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد وأنه هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها وهو الذي هداها وزكاها وألهم نفوس الفجار فجورها وأشقاها "من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي" له يهدي من يشاء بفضله ورحمته ويضل من يشاء بعدله وحكمته هذا فضله وعطاؤه وما فضل الكريم بممنون وهذا عدله وقضاؤه 21 :23 {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده".(1/410)
وفي هذا المشهد: يتحقق للعبد مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علما وحالا فيثبت قدم العبد في توحيد الربوبية ثم يرقى منه صاعدا إلى توحيد الإلهية فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع والعطاء والمنع والهدى والضلال والسعادة والشقاء: كل ذلك بيد الله لا بيد غيره وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه وأن أصح القلوب وأسلمها وأقومها وأرقها وأصفاها وأشدها وألينها: من اتخذه وحده إلها ومعبودا فكان أحب إليه من كل ما سواه وأخوف عنده من كل ما سواه وأرجى له من كل ما سواه فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب فتنساق المحاب تبعا لها كما ينساق الجيش تبعا للسلطان ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات فتنساق المخاوف كلها تبعا لخوفه ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء فينساق كل رجاء تبعا لرجائه.
فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب والباب الذي دخل إليه منه توحيد الربوبية أي باب توحيد الإلهية: هو توحيد الربوبية.
فإن أول ما يتعلق القلب يتعلق بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية كما يدعو الله سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر ويحتج عليهم به ويقررهم به ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية.
وفي هذا المشهد يتحقق له مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قال الله تعالى 44 :87 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي فأين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله وعن عبادته وحده وهم يشهدون أنه لا رب غيره ولا خالق سواه وكذلك قوله تعالى 23 :84، 89 {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أنه إذا كان هو وحده مالك الأرض ومن فيها وخالقهم وربهم ومليكهم فهو وحده إلههم ومعبودهم فكما لا رب لهم غيره فهكذا لا إله لهم سواه { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ(1/411)
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } الآيات وهكذا قوله في سورة النمل 27 :59، 65 { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} إ لى آخر الآيات.
يحتج عليهم بأن من فعل لهم هذا وحده فهو الإله لهم وحده فإن كان معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون معه إلها آخر.
ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية "أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فعل هذا؟" حتى يتم الدليل فلا بد من الجواب بلا فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله فكيف تعبدون آلهة أخرى سواه؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة كما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقراركم وشهادتكم.
ومن قال: المعنى "هل مع الله إله آخر؟" من غير ان يكون المعنى "فعل هذا" فقوله ضعيف لوجهين.
أحدهما: أنهم كانوا يقولون: مع الله آهلة أخرى ولا ينكرون ذلك.
الثاني: أنه لا يتم الدليل ولا يحصل إفحامهم وإقامة الحجة عليهم إلا بهذا التقدير أي فإذا كنتم تقولون: إنه ليس معه إله آخر فعل مثل فعله فكيف تجعلون معه إلها آخر لا يخلق شيئا وهو عاجز وهذا كقوله 13 :16 {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} وقوله 31 :11 {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه} وقوله 16 :17 {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} وقوله 16 :20 {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } وقوله 25 :3 {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً(1/412)
لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهو كثير في القرآن وبه تتم الحجة كما تبين.
والمقصود: أن العبد يحصل له هذا في المشهد من مطالعة الجنايات والذنوب وجريانها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم وأنه لا عاصم من غضبه وأسباب سخطه إلا هو ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه فموارد الأمور كلها منه ومصادرها إليه وأزمة التوفيق جميعها بيديه فلا مستعان للعباد إلا به ولا متكل إلا عليه كما قال شعيب خطيب الأنبياء: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
فصل: المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان.
وهو من تمام هذا المشهد وفروعه ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده وانتفاعه به وقد أجمع العارفون بالله: أن (التوفيق) هو أن لا يكلك الله إلى نفسك وأن (الخذلان) هو أن يخلى بينك وبين نفسك فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه له ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له فهو دائر بين توفيقه وخذلانه فإن وفقه فبفضله ورحمته وإن خذله فبعدله وحكمته وهو المحمود على هذا وهذا له أتم حمد وأكمله ولم يمنع العبد شيئا هو له وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله؟.
فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه علم شدة ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس وكل لحفظ وطرفة عين وأن إيمانه وتوحيده بيده تعالى لو تخلى عنه طرفة عين لثل عرش تويحده ولخرت سماء إيمانه على الأرض وأن الممسك له هو من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فهجيرى قلبه ودأب(1/413)
لسانه "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك" ودعواه "يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك".
ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه كما يشهد ربوبيته وخلقه فيسأله توفيقه مسألة المضطر ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف ويلقي نفسه بين يديه طريحا ببابه مستسلما له ناكس الرأس بين يديه خاضعا ذليلا مستكينا لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ونشورا.
و(التوفيق) إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد بأن يجعله قادرا على فعل ما يرضيه مريدا له محبا له مؤثرا له على غيره ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه إليه وهذا مجرد فعله والعبد محل له قال تعالى 49 :7، 8 {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصح له حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله لا يمنعه أهله ولا يضعه عند غير أهله وذكر هذا عقيب قوله 49 :7 { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} ثم جاء به بحرف الاستدراك فقال { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ}.
يقول سبحانه: لم تكن محبتكم للإيمان وإرادتكم له وتزيينه في قلوبكم: منكم ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك فآثرتموه ورضيتموه فلذلك فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي ولا تقولوا حتى يقو لولا تفعلوا حتى يأمر فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم بمصالح عباده منكم وأنت مفلولا توفيقه لكم لما أذعنت نفوسكم للإيمان فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم ولا تقدمتم به إليها فنفوسكم تصر وتعجز عن ذلك ولا تبلغه فلو أطاعكم رسولي في كثير مما(1/414)
تريدون: لشق عليكم ذلك ولهلكتم وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون ولا تظنوا أن نفوسكم تريد لكم الرشد والصلاح كما أردتم الإيمان فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم وكرهت إليكم ضده لما وقع منكم ولا سمحت به أنفسكم.
وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثل: ملك أرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا وكتب معه إليهمن كتابا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب ومجتاحهم ومخرب البلد ومهلك من فيها وأرسل إليهم أموالا ومراكب وزادا وعدة وأدلة وقال: ارتحلوا مع هؤلاء الأدلة وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه ثم قال لجماعة من مماليكه: اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده واحملوه ولا تذروه يعقد واذهبوا إلى فلان كذلك وإلى فلان وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم فلم يتركوهم يقرون بل حملوهم حملا وساقوهم سوقا إلى الملك فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم وأسر من أسر.
فهل يعد الملك ظالما لهؤلاء أم عادلا فيهم نعم خص أولئك بإحسانه وعنايته وحمرها من عداهم إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه بل ذلك فضلة يؤتيه من يشاء.
وقد فسرت القدرية الجبرية (التوفيق) بأنه خلق الطاعة و(الخذلان) بأنه خلق المعصية.
ولكن بنو ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم وردوا الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة.
وقابلهم القدرية النفاة ففسروا (التوفيق) بالبيان العام والهدى العام(1/415)
والتمكن من الطاعة والإقبال عليها وتهيئة أسبابها هذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة وتمكن من الإيمان.
فالتوفيق عندهم: أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين إذ الإقدار والتمكين والدلالة والبيان قد عم به الفريقين ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم والكفار بخذلان امتنع به الإيمان منهم ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلما.
والتزموا لهذا الأصل لوازم قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ولم يجدوا بدا من التزامها فظهر فساد مذهبهم وتناقض قولهم لمن أحاط به علما وتصوره حق تصوره وعلم أنه من أبطل مذهب في العالم وأردأه.
وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صارط مستقيم فلم يرضوا بطريق هؤلاء ولا بطريق هؤلاء وشهدوا انحراف الطريقين عن الصراط المستقيم فأثبتوا القضاء والقدر وعموم مشيئة الله للكائنات وأثبتوا الأسباب والحكم والغايات والمصالح ونزهوا الله عز وجل أن يكون في ملكه ما لا يشاء أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته أو أن يكون شيء من أفعالهم واقعا بغير اختياره وبدون مشيئته ومن قال ذلك فلم يعرف ربه ولم يثبت له كمال الربوبية.
ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح وأن يخلق شيئا سدى وأن تخلوا أفعاله عن حكم بالغة لأجلها أو جدها وأسباب بها سببها وغايات جعلت طرقا ووسائل إليها وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة بالغة وتلك الحكمة صفة له قائمة به ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر والحكمة في الحقيقة.
فأهل الصراط المستقيم: بريئون من الطائفتين إلا من حق تتضمنه مقالاتهم فإنهم يوافقونهم عليه ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى ولا يبطلون(1/416)
ما معهم من الحق لما قالوه من الباطل فهم شهداء الله على الطوائف وأمناؤه عليهم حكام بينهم حاكمون عليهم ولا يحكم عليهم أحد منهم يكشفون أحوال الطوائف ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول وعرف الفرق بينه وبين غيره ولم يلتبس عليه وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته ليسوا من الذين فرقوا دنيهم وكانوا شيعا ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا بل ممن هم على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه ومعرفة بما عند الناس والله الموفق.
فصل: المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصفات.
وهو من أجل المشاهد وهو أعلى مما قبله وأوسع.
والمطلع على هذا المشهد: معرفة تعلق الوجود خلقا وأمرا بالأسماء الحسنى والصفات العلى وارتباطه بها وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها.
وهذا من أجل المعارف وأشرفها وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة فإن أسماءه أوصاف مدح وكمال وكل صفة لها مقتض وفعل: إما لازم وإما متعد ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه كل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها.
ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال وتعطيل الأفعال عن المفعولات كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله وأفعاله عن صفاته وصفاته عن أسمائه وتعيطل أسمائه وأوصافه عن ذاته.
وإذا كانت أوصافه صفات كمال وأفعاله حكما ومصالح وأسماؤه حسنى: ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه ولها ينكر سبحانه على من عطله(1/417)
عن أمره ونهيه وثوابه وعقابه وأنه بذلك نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما يتنزه عنه وأن ذلك حكم سيىء ممن حكم به عليه وأن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره ولا عظمه حق تعظيمه كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل وإنزال الكتب 6 :91 {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب 39 :67 {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه} وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين كالأبرار والفجار والمؤمنين والكفار 45 :21 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} فأخبر أن هذا حكم سيء لا يليق به تأباه أسماؤه وصفته وقال سبحانه 23 :115 { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} عن هذا الظن والحسبان الذين تأباه أسماؤه وصفاته.
ونظائر هذا في القرآن كثيرة ينفي فيها عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته إذ ذلك مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها.
فاسمه (الحميد المجيد) يمنع ترك الإنسان سدى مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب وكذلك اسمه (الحكيم) يأبى ذلك وكذلك اسمه (الملك) واسمه (الحي) يمنع أن يكون معطلا من الفعل بل حقيقة (الحياة) الفعل فكل حي فعال وكونه سبحانه (خالقا قيوما) من موجبات حياته ومقتضياتها واسمه (السميع البصير) يوجب مسموعا ومرئيا واسمه (الخالق) يقتضي مخلوقا وكذلك (الرزاق) واسمه (الملك) يقتضي مملكة وتصرفا وتدبيرا وإعطاء ومنعا وإحسانا وعدلا وثوابا وعقابا واسم (البر المحسن المعطي المنان) ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها.(1/418)
إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه (الغفار التواب العفوّ) فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ولا بد من جناية تغفر وتوبة تقبل وجرائم يعفى عنها ولا بد لاسمه (الحكيم) من متعلق يظهر فيه حكمه إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم (الخالق الرزاق المعطي المانع) للمخلوق والمرزوق والمعطي والممنوع وهذه الأسماء كلها حسنى.
والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه فهو عفو يحب العفو ويحب المغفرة ويحب التوبة ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال.
وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه ويسامحه: من موجب أسمائه وصفاته وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سمواته وأهل أرضه ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده.
وهو سبحانه الحميد المجيد وحمده ومجده يقتضيان آثارهما.
ومن آثارهما: مغفرة الزلات وإقالة العثرات والعفو عن السيئات والمسامحة على الجنايات مع كمال اقدرة على استيفاء الحق والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها فحلمه بعد علمه وعفوه بعد قدرته ومغفرته عن كمال عزته وحكمته كما قال المسيح صلى الله عليه وسلم 5 :118 {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك لست كمن يغفر عجزا ويسامح جهلا بقدر الحق بل أنت عليم بحقك قادر على استيفائه حكيم في الأخذ به.
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال وغايتها أيضا: مقتضى حمده ومجده كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته.
فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة والآيات الباهرة والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته واستدعاء محبتهم له وذكرهم له وشكرهم له وتعبدهم له(1/419)
بأسمائه الحسنى إذ كل اسم فله تعبد مختص به علما ومعرفة وحالا وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر كمن يحجبه التعبد باسمه (القدير) عن التعبد باسمه الحليم الرحيم أو يحجبه عبودية اسمه (المعطي) عن عبودية اسمه المانع أو عبودية اسمه (الرحيم والعفوّ والغفور) عن اسمه (المنتقم) أو التعبد بأسماء (التودد والبر واللطف والإحسان) عن أسماء (العدل والجبروت والعظمة والكبرياء) ونحو ذلك.
وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال الله تعالى: 7 :180 { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ويثنوا عليه بها ويأخذوا بحظهم من عبوديتها.
وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته.
فهو (عليم) يحب كل عليم (جواد) يحب كل جواد (وتر) يحب الوتر (جميل) يحب الجمال (عفو) يحب العفو وأهله (حيي) يحب الحياء وأهله (برّ) يحب الأبرار (شكور) يحب الشاكرين (صبور) يحب الصابرين (حليم) يحب أهل الحلم فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح: خلق من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له ليترتب عليه المحبوب له المرضي له فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب.
فربما كان مكروه العباد إلى ... محبوبها سبب ما مثله سبب
والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع: محبوب يفضي إلى محبوب ومكروه يفضي إلى محبوب وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه.(1/420)
والثالث: مكروه يفضي إلى مكروه والرابع: محبوب يفضي إلى مكروه وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره الذي ما خلق ما خلق ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها لا تكون إلا محبوبة للرب مرضية له والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له ومكروه له.
فالطاعات والتوحيد: أسباب محبوبة له موصلة إلى الإحسان والثواب المحبوب له أيضا والشرك والمعاصي: أسباب مسخوطة له موصلة إلى العدل المحبوب له وإن كان الفضل أحب إليه من العدل فاجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما عن الآخر لما فيهما من كمال الملك والحمد وتنوع الثناء وكمال القدرة.
فإن قيل: كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه.
قيل: هذا سؤال باطل لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع والذي يقدر في الذهن وجوده شيء آخر سوى غير هذا المطلوب المحبوب للرب وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم بلا علم بل قد يكون مبغوضا للرب تعالى لمنافاته حكمته فإذا حكم الذهن عليه بأنه محبوب له كان نسبة له إلى ما لا يليق به ويتعالى عنه.
فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التأمل فإنه مزلة أقدام ومضلة أفهام ولو أمسك عن الكلام من لا يعلم لقل الخلاف.
وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كتاب أو يستوعبه خطاب وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة تطلع على ما وراءها والله الموفق والمعين.
فصل: المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده.
وهو من ألطف المشاهد وأخصها بأهل المعرفة ولعل سامعه يبادر إلى إنكاره ويقول: كيف يشهد زيادة الإيمان من الذنوب والمعاصي؟ ولا سيما من ذنوب العبد ومعاصيه وهل ذلك إلا منقص للإيمان فإنه بإجماع السلف: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.(1/421)
فاعلم أن هذا حاصل من التفات العارف إلى الذنوب والمعاصي منه ومن غيره وإلى ترتب آثارها عليها وترتب هذه الآثار عليها علم من أعلام النبوة وبرهان من براهين صدق الرسل وصحة ما جاءوا به فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أمروا العباد بما فيه صلاح ظواهرهم وبواطنهم في معاشهم ومعادهم ونهوهم عما فيه فساد ظواهرهم وبواطنهم في المعاش والمعاد وأخبروهم عن الله عز وجل: أنه يحب كذا وكذا ويثيب عليه بكذا وكذا وأنه يبغض كيت وكيت ويعاقب عليه بكيت وكيت وأنه إذا أطيع بما أمر به: شكر عليه بالإمداد والزيادة والنعم في القلوب والأبدان والأموال ووجد العبد زيادته وقوته في حاله كلها وأنه إذا خولف أمره ونهيه ترتب عليه من النقص والفساد والضعف والذل والمهانة والحقارة وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب كما قال تعالى: 16 :97 { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال تعالى: 39 : 10 قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} وقال تعالى: 11 :3 {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} وقال تعالى: 20 :124، 125 {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} وفسرت المعيشة الضنك: بعذاب القبر والصحيح: أنها في الدنيا وفي البرزخ فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة(1/422)
الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى إزالته بسكر ثان فهو هكذا مدة حياته وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب شعور؟.
فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر 82 :13، 14 {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} هذا في دورهم الثلاث ليس مختصا بالدار الآخرة وإن كان تمامه وكماله وظهوره: إنما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك كما قال تعالى: 52 :47 {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } وقال تعالى: 27 :71، 72 {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}.
وفي هذه الدار دون ما في البرزخ ولكن يمنع من الإحساس به: الاستغراق في سكرة الشهوات وطرح ذلك عن القلب وعدم التفكر فيه.
والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه ويجعل إقباله على غيره لئلا يشعر به جملة فلو زال عنه ذلك الالتفات لصاح من شدة الألم فما الظن بعذاب القلوب وآلامها؟!.
وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارا محبوبة لذيذة طيبة لذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها وجعل للسيئات والمعاصي آلاما وآثارا مكروهة وحزازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة قال(1/423)
ابن عباس: "إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وزيادة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق" وهذا يعرفه صاحب البصيرة ويشهده من نفسه ومن غيره.
فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر قال تعالى: 42 :30 {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وقال لخيار خلقه وأصحاب نبيه: 3 :165 {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وقال: 4 :79 {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}.
والمراد بالحسنة والسيئة هنا: النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله ولهذا قال: {مَا أَصَابَكَ} ولم يقل: ما أصبت.
فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها.
وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال: أمر مشهود في العالم لا ينكره ذو عقل سليم بل يعرفه المؤمن والكافر والبر والفاجر.
وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته: مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل وبالثواب والعقاب فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم ومثوبات وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة كما قال بعض الناس: إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتداركه بالتوبة: انتظرت أثره السيء فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت يكون هجيراى: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ويكون ذلك من شواهد الإيمان(1/424)
وأدلته فإن الصادق متى أخبرك أنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا فجعلت كلما فعلت شيئا من ذلك حصل لك ما قال من المكروه لم تزدد إلا علما بصدقه وبصيرة فيه وليس هذا لكل أحد بل أكثر الناس ترين الذنوب على قلبه فلا يشهد شيئا من ذلك ولا يشعر به ألبتة.
وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان وأهوية الذنوب والمعاصي تعصف فيه فهو يشاهد هذا وهذا ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة تلك الأهوية والرياح فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح وتقلب السفينة وتكفئها ولا سيما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح فهكذا المؤمن يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب إذا أريد به الخير وإن أريد به غير ذلك فقلبه في واد آخر.
ومتى انفتح هذا الباب للعبد: انتفع بمطالعة تاريخ العالم وأحوال الأمم وماجريات الخلق بل انتفع بماجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس وفهم حينئذ معنى قوله تعالى: 13 :33 {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وقوله: 3 :18 {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط وهو عدل الله وقسطه وإن أجراه على يد ظالم فالمسلط له أعدل العادلين كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: 17 :5 {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} الآية.
فالذنوب مثل السموم مضرة بالذات فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها وإلا قهرت القوة الإيمانية وكان الهلاك كما قال بعض السلف: "المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت".
فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه وتغير القلوب عليه وجفولها منه(1/425)
وانسداد الأبواب في وجهه وتوعر المسالك عليه وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتى ووقوعه على السبب الموجب لذلك: مما يقوي إيمانه فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال رأى العز بعد الذل والغنى بعد الفقر والسرور بعد الحزن والأمن بعد الخوف والقوة في قلبه بعد ضعفه ووهنه ازداد إيمانا مع إيمانه فتقوى شواهد الإيمان في قلبه وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته فهذا من الذين قال الله فيهم 39 :35 {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ }.
وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه وأعطاه حقه: صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها فنفعه الله في نفسه ونفع به من شاء من خلقه والله أعلم.
فصل: المشهد العاشر: مشهد الرحمة.
فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة والكيفية الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب حتى لو قدر عليه لأهله وربما دعا الله عليه أن يهلكه ويأخذه غضبا منه لله وحرصا على أن لا يعصى فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء ولا يذكرهم إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم فإذا جرت عليه المقادير وخلي ونفسه استغاث الله والتجأ إليه وتململ بين يديه تململ السليم ودعاه دعاء المضطر فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينا مع قيامه بحدود الله وتبدل دعاؤه عليهم دعاء لهم وجعل لهم وظيفة من عمره يسأل الله أن يغفر لهم.
فما أنفعه له من مشهد ! وما أعظم جدواه عليه والله أعلم.(1/426)
فصل: فيورثه ذلك: المشهد الحادي عشر.
وهو مشهد العجز والضعف وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه وأنه لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح يمينا وشمالا ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح وتتلاعب بها الأمواج ترفعها تارة وتخفضها تارة أخرى تجري عليه أحكام القدر وهو كالآلة طريحا بين يدي وليه ملقى ببابه واضعا خده على ثرى أعتابه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع لا يردها عنها إلا الراعي فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاءا.
وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجن فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلا وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم بل هو نصيب من ظفر به منهم.
وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقا ويعرف ربه وهذا أحد التأويلات للكلام المشهور: "من عرف نفسه عرف ربه" وليس هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضا "يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك" وفيه ثلاث تأويلات:
أحدهما: أن من عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة ومن عرفها بالذل عرف ربه بالعز ومن عرفها بالجهل عرف ربه بالعلم فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق والحمد والثناء والمجد والغنى والعبد فقير ناقص محتاج وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذله وضعفه: ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله.(1/427)
التأويل الثاني: أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به فمعطي الكمال أحق بالكمال فكيف يكون العبد حيا متكلما سميعا بصيرا مريدا عالما يفعل باختياره ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه فهذا من أعظم المحال بل من جعل العبد متكلما أولى أن يكون هو متكلما ومن جعله حيا عليما سميعا بصيرا فاعلا قادرا أولى أن يكون كذلك.
فالتأويل الأول من باب الضد وهذا من باب الأولوية.
والتأويل الثالث: أن هذا من باب النفي أي كما أنك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك فلا تعرف حقيقتها ولا ماهيتها ولا كيفيتها فكيف تعرف ربك وكيفية صفاته؟.
والمقصود: أن هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف فتزول عنه رعونات الدعاوى والإضافات إلى نفسه ويعلم أنه ليس له من الأمر شيء إن هو إلا محض القهر والعجز والضعف.
فصل: فحينئذ يطلع منه على: المشهد الثاني عشر.
وهو مشهد الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة: ضرورة تامة وافتقارا تاما إلى ربه ووليه ومن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعادته وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها وإنما تدرك بالحصول فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل الذي لا شيء فيه ولا به ولا منه ولا فيه منفعة ولا يرغب في مثله وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه فحينئد يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير ويرى أنه لا يستحق قليلا منه ولا كثيرا فأي خير ناله من(1/428)
الله استكثره على نفسه وعلم أن قدره دونه وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به وسياقته إليه واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه واستكثر قليل معاصيه وذنوبه فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله.
فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور ! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه ! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه ! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم وأحب القلوب إلى الله سبحانه: قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة وملكته هذه الذلة فهو ناكس الرأس بين يدي ربه لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا من الله.
قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب قال: نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء فهذا سجود القلب.
فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد السجود المراد منه إذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم وخشع الصوت والجوارح كلها وذل العبد وخضع واستكان ووضع خده على عتبة العبودية ناظرا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم فلا يرى إلا متملقا لربه خاضعا له ذليلا مستعطفا له يسأله عطفه ورحمته فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له الذي لا غنى له عنه ولا بد له منه فليس له هم غير استرضائه واستعطافه لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته له يقول: كيف أغضب من حياتى في رضاه وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟.
وصاحب هذا المشهد: يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس ويربيه أحسن التربية ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية وهو القيم بمصالحه كلها فبعثه أبوه في حاجة له فخرج عليه في طريقه(1/429)
عدو فأسره وكتفه وشده وثاقا ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة فتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الأمر إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريبا فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه ! انظر إلى ولدك وما هو فيه ودموعه تستبق على خديه قد اعتنقه والتزمه وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به فهل تقول: إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها؟ إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحا ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكيا بين يديه يقول: يا رب يا رب ارحم من لا راحم له سواك ولا ناصر له سواك ولا مؤوي له سواك ولا مغيث له سواك مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك أنت معاذه وبك ملاذه.
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره
فصل
فإذا استبصر في هذا المشهد تمكن من قلبه وباشره وذاق طعمه وحلاوته ترقى منه إلى:
المشهد الثالث عشر
وهو الغاية التي شمر إليها السالكون وأمها القاصدون ولحظ إليها العاملون.
وهو مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه والابتهاج به والفرح والسرور به فتقر به عينه ويسكن إليه قلبه وتطمئن إليه جوارحه ويستولى(1/430)
ذكره على لسان محبه وقلبه فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية وإرادات التقرب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي قد امتلأ قلبه من محبته ولهج لسانه بذكره وانقادت الجوارح لطاعته فإن هذه الكسرة الخاصة لها تأثير عجيب في المحبة لا يعبر عنه.
ويحكى عن بعض العارفين أنه قال: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
وقال بعض العارفين: لا طريق أقرب إلى الله من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد ولا يضر مع الذل والافتقار بطالة يعني بعد فعل الفرائض.
والقصد: أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله وترميه على طريق المحبة فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق وإن كانت طرق سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابا من المحبة لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ورؤيتها بعين الضعف والعجز(1/431)
والعيب والنقص والذم بحيث يشاهدها ضيعة وعجزا وتفريطا وذنبا وخطيئة: نوع آخر وفتح آخر والسالك بهذه الطريق غريب في الناس هم في واد وهو في واد وهي تسمى طريق الطير يسبق النائم فيها على فراشه السعاة فيصبح وقد قطع الطريق وسبق الركب بينا هو يحدثك وإذا به قد سبق الطرف و فات السعاة والله المستعان خير الغافرين.
وهذا الذي حصل له من آثار محبة الله له وفرحه بتوبة عبده فإنه سبحانه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم أعظم فرح وأكمله.
فكلما طالع العبد منن ربه سبحانه عليه قبل الذنب وفي حال مواقعته وبعده وبره به وحلمه عنه وإحسانه إليه: هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق إلى لقائه فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وأي إحسان أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي وهو يمده بنعمه ويعامله بألطافه ويسبل عليه ستره ويحفظه من خطفات أعدائه المترقبين له أدنى عثرة ينالون منه بها بغيتهم ويردهم عنه ويحول بينهم وبينه؟ وهو في ذلك كله بعينه يراه ويطلع عليه فالسماء تستأذن ربها أن تحصبه والأرض تستأذنه أن تخسف به والبحر يستأذنه أن يغرقه كما في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه: أن يغرق ابن آدم والملائكة تستأذنه: أن تعاجله وتهلكه والرب تعالى يقول: دعوا عبدي فأنا أعلم به إذ أنشأته من الأرض إن كان عبدكم فشأنكم به وإن كان عبدي فمني وإلي عبدى وعزتي وجلالي إن أتاني ليلا قبلته وإن أتاني نهارا قبلته وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا وإن مشى إلي هرولت إليه وإن استغفرني غفرت له وإن استقالني أقلته وإن تاب إلي تبت عليه من أعظم مني جودا وكرما وأنا الجواد الكريم عبيدي يبيتون يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم في مضاجعهم وأحرسهم على فرشهم من(1/432)
أقبل إلي تلقيته من بعيد ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد ومن أراد مرادي أردت ما يريد أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إلي فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب".
ولنقتصر على هذا القدر من ذكر (التوبة) وأحكامها وثمراتها فإنه ما أطيل الكلام فيها إلا لفرط الحاجة والضرورة إلى معرفتها ومعرفة أحكامها وتفاصيلها ومسائلها والله الموفق لمراعاة ذلك والقيام به عملا وحالا كما وفق له علما ومعرفة فما خاب من توكل عليه ولاذ به ولجأ إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فصل
قد علمت أن من نزل في منزل (التوبة) وقام في مقامها نزل في جميع منازل الإسلام فإن التوبة الكاملة متضمنة لها وهي مندرجة فيها ولكن لابد من إفرادها بالذكر والتفصيل تبيينا لحقائقها وخواصها وشروطها.
فإذا استقرت قدمه في منزل (التوبة) نزل بعده منزل (الإنابة) وقد أمر الله تعالى بها في كتابه وأثنى على خليله بها فقال: 39 :54 {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} وقال: 11 :75 {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة فقال 50 :6، 8 {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} إلى أن قال {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} وقال تعالى 40 :13 {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ} وقال تعالى 30 :31 {مُنِيبِينَ إليه وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} الآية.
(فمنيبين) منصوب على الحال من الضمير المستكن في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} لأن هذا الخطاب له ولأمته أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه نظيره قوله 65 :1 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ويجوز أن يكون حالا من المفعول في(1/433)
قوله {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي فطرهم منيبين إليه فلو خلو وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه ولكنها تحول وتتغير عما فطرت عليه كما قال صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة " وفي رواية: "على الملة حتى يعرب عنه لسانه" وقال عن نبيه داود 38 :24 {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة فقال: 50 :31، 34 {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} وأخبر سبحانه أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة فقال: 39 :17 {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}.
و(الإنابة) إنابتان: إنابة لربوبيته وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر قال الله تعالى: 30 :33 {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إليه} فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع وهذه (الإنابة) لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر كما قال تعالى في حق هؤلاء 30 :33، 34 {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} فهذا حالهم بعد إنابتهم.
و(الإنابة الثانية) إنابة أوليائه وهي إنابة لإلهيته إنابة عبودية ومحبة.
وهي تتضمن أربعة أمور: محبته والخضوع له والإقبال عليه والإعراض عما سواه فلا يستحق اسم (المنيب) إلا من اجتمعت فيه هذه الأربعة وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك.
وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع والتقدم و (المنيب) إلى الله: المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه.
قال صاحب المنازل:
"الإنابة في اللغة: الرجوع وهي ههنا الرجوع إلى الحق.(1/434)
وهى ثلاثة أشياء: الرجوع إلى الحق إصلاحا كما رجع إليه اعتذارا والرجوع إليه وفاء كما رجع إليه عهدا والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة".
لما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته كان من تتمة ذلك: رجوعه إليه بالاجتهاد والنصح في طاعته كما قال: 25 :70 {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} وقال: 2 :160 {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} فلا تنفع توبة وبطالة فلا بد من توبة وعمل صالح: ترك لما يكره وفعل لما يحب تخل عن معصيته وتحل بطاعته.
وكذلك الرجوع إليه بالوفاء بعهده كما رجعت إليه عند أخذ العهد عليك فرجعت إليه بالدخول تحت عهده أولا فعليك بالرجوع بالوفاء بما عاهدته عليه ثانيا والدين كله: عهد ووفاء فإن الله أخذ عهده على جميع المكلفين بطاعته فأخذ عهده على أنبيائه ورسله على لسان ملائكته أو منه إلى الرسول بلا واسطة كما كلم موسى وأخذ عهده على الأمم بواسطة الرسل وأخذ عهده على الجهال بواسطة العلماء فأخذ عهده على هؤلاء بالتعليم وعلى هؤلاء بالتعلم ومدح الموفين بعهده وأخبرهم بما لهم عنده من الأجر فقال: 48 :10 {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وقال: 17 :34 {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وقال: 16 :91 {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} وقال: 2 :177 {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}.
وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطاعة وعهودهم مع الخلق.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن من علامات النفاق (الغدر بعد العهد).
فما أناب إلى الله عز وجل من خان عهده وغدر به كما أنه لم ينب إليه من لم يدخل تحت عهده فالإنابة لا تتحقق إلا بالتزام العهد والوفاء به.
وقوله: "والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة".(1/435)
أي هو سبحانه قد دعاك فأجبته بلبيك وسعديك قولا فلا بد من الإجابة حالا تصدق به المقال فإن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد من حال قائله فكما رجعت إلى الله إجابة بالمقال فارجع إليه إجابة بالحال قال الحسن رحمه الله: "ابن آدم لك قول وعمل وعملك أولى بك من قولك ولك سريرة وعلانية وسريرتك أملك بك من علانيتك".
فصل
قال: "وإنما يستقيم الرجوع إليه إصلاحا بثلاثة أشياء: بالخروج من التبعات والتوجع للعثرات واستدراك الفائتات".
والخروج من التبعات: هو بالتوبة من الذنوب التي بين العبد وبين الله وأداء الحقوق التي عليه للخلق والتوجع للعثرات يحتمل شيئين.
أحدهما: أن يتوجع لعثرته إذا عثر فيتوجع قلبه وينصدع وهذا دليل على إنابته إلى الله بخلاف من لا يتألم قلبه ولا ينصدع من عثرته فإنه دليل على فساد قلبه وموته.
الثاني: أن يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر حتى كأنه هو الذي عثر بها ولا يشمت به فهو دليل على رقة قلبه وإنابته.
واستدراك الفائتات: هو استدراك ما فاته من طاعة وقربة بأمثالها أو خير منها ولا سيما في بقية عمره عند قرب رحيله إلى الله فبقية عمر المؤمن لا قيمة لها يستدرك بها ما فات ويحيي بها ما أمات.
فصل
قال: "وإنما يستقيم الرجوع إليه عهدا: بثلاثة أشياء بالخلاص من لذة الذنب وبترك الاستهانة بأهل الغفلة تخوفا عليهم مع الرجاء لنفسك وبالاستقصاء في رؤية علة الخدمة".(1/436)
إذا صفت له الإنابة إلى ربه تخلص من الفكرة في لذة الذنب وعاد مكانها ألما وتوجعا لذكره والفكرة فيه فما دامت لذة الفكرة فيه موجودة في قلبه فإنابته غير صافية.
فإن قيل: أي الحالين أعلى؟ حال من يجد لذة الذنب في قلبه فهو يجاهدها لله ويتركها من خوفه ومحبته وإجلاله أو حال من ماتت لذة الذنب في قلبه وصار مكانها ألما وتوجعا وطمأنينة إلى ربه وسكونا إليه والتذاذا بحبه وتنعما بذكره؟.
قيل: حال هذا أكمل وأرفع وغاية صاحب المجاهدة أن يجاهد نفسه حتى يصل إلى مقام هذا ومنزلته ولكنه يتلوه في المنزلة والقرب ومنوط به.
فإن قيل: فأين أجر مجاهدة صاحب اللذة وتركه محابه لله وإيثاره رضى الله على هواه؟ وبهذا كان النوع الإنساني أفضل من النوع الملكي عند أهل السنة وكانوا خير البرية والمطمئن قد استراح من ألم هذه المجاهدة وعوفي منها فبينهما من التفاوت ما بين درجة المعافى والمبتلى.
قيل: النفس لها ثلاثة أحوال: الأمر بالذنب ثم اللوم عليه والندم منه ثم الطمأنينة إلى ربها والإقبال بكليتها عليه وهذه الحال أعلى أحوالها وأرفعها وهي التي يشمر إليها المجاهد وما يحصل له من ثواب مجاهدته وصبره فهو لتشميره إلى درجة الطمأنينة إلى الله فهو بمنزلة راكب القفار والمهامه والأهوال ليصل إلى البيت فيطمئن قلبه برؤيته والطواف به والآخر بمنزلة من هو مشغول به طائفا وقائما وراكعا وساجدا ليس له التفات إلى غيره فهذا مشغول بالغاية وذاك بالوسيلة وكل له أجر ولكن بين أجر الغايات وأجر الوسائل بون.
وما يحصل للمطمئن من الأحوال والعبودية والإيمان فوق ما يحصل لهذا المجاهد نفسه في ذات الله وإن كان أكثر عملا فقدر عمل المطمئن المنيب بجملته وكيفيته أعظم وإن كان هذا المجاهد أكثر عملا وذلك فضل الله يؤتيه من(1/437)
يشاء فما سبق الصديق الصحابة بكثرة عمل وقد كان فيهم من هو أكثر صياما وحجا وقراءة وصلاة منه ولكن بأمر آخر قام بقلبه حتى إن أفضل الصحابة كان يسابقه ولا يراه إلا أمامه.
ولكن عبودية مجاهد نفسه على لذة الذنب والشهوة قد تكون أشق ولا يلزم من مشقتها تفضيلها في الدرجة فأفضل الأعمال الإيمان بالله والجهاد أشق منه وهو تاليه في الدرجة ودرجة الصديقين أعلى من درجة المجاهدين والشهداء وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء فقال: "إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته".
فصل
ومن علامات الإنابة: ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم مع فتحك باب الرجاء لنفسك فترجو لنفسك الرحمة وتخشى على أهل الغفلة النقمة ولكن ارج لهم الرحمة واخش على نفسك النقمة فإن كنت لا بد مستهينا بهم ماقتا لهم لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه فكن لنفسك أشد مقتا منك لهم وكن لهم أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك.
قال بعض السلف: لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتا.
وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم وضعفهم وتقصيرهم بل تفريطهم وإضاعتهم لحق الله وإقبالهم على غيره وبيعهم حظهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني لم يجد بدا من مقتهم ولا يمكنه غير ذلك ألبتة ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره وكان على بصيرة من ذلك: كان لنفسه أشد مقتا واستهانة فهذا هو الفقيه.(1/438)
وأما الاستقصاء في رؤية علل الخدمة: فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس وتمييز حق الرب منها من حظ النفس ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظا لنفسك وأنت لا تشعر.
فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال: أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه ! وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر ألبتة وهو غير خالص لله ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا وهو خالص لوجه الله ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها.
فبين العمل وبين القلب مسافة وفى تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل ولا قوة في أمره فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل وميز بين أولياء الله وأعدائه وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال.
ثم بين القلب وبين الرب مسافة وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب ومن رحمة الله تعالى: سترها على أكثر العمال إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل وخمود العزم وفتور الهمة ولهذا لما ظهرت (رعاية) أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي واشتغل بها العباد عطلت منهم مساجد كانوا يعمرونها بالعبادة والطبيب الحاذق يعلم كيف يطب النفوس فلا يعمر قصرا ويهدم مصرا.
فصل
قال: "وإنما يستقيم الرجوع إليه حالا بثلاثة أشياء: بالإياس من عملك وبمعاينة اضطرارك وشيم برق لطفه بك".(1/439)
المجلد الثاني
فصل منازل إياك نعبد وإياك نستعين (تابع)
منزلة الإخبات
...
فصل: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإخبات
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} ثم كشف عن معناهم فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35 ] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
الخبت في أصل اللغة: المكان المنخفض من الأرض وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ المخبتين وقالا: هم المتواضعون
وقال مجاهد: المخبت المطمئن إلى الله عز وجل قال: والخبت: المكان المطمئن من الأرض
وقال الأخفش: الخاشعون
وقال إبراهيم النخعي: المصلون المخلصون وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا وهذه الأقوال تدور على معنيين: التواضع والسكون إلى الله عز وجل ولذلك عدي بإلى تضمينا لمعنى الطمأنينة والإنابة والسكون إلى الله تعالى
قال صاحب المنازل: "هو من أول مقامات الطمأنينة يعني بمقامات الطمأنينة كالسكينة واليقين والثقة بالله ونحوها" فالإخبات: مقدمتها ومبدؤها قال: وهو ورود المأمن من الرجوع والتردد(2/3)
لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد الذي هو نوع غفلة وإعراض والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة فى أول مناهله فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر فإذا ورد ذلك الماء: زال عنه التردد وخاطر الرجوع كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره وجد في السير
قال وهو على ثلاث درجات
الدرجة الأولى: أن تستغرق العصمة الشهوة وتستدرك الإرادة الغفلة ويستهوي الطلب السلوة المريد السالك: تعرض له غفلة عن مراده تضعف إرادته وشهوة تعارض إرادته فتصده عن مراده ورجوع عن مراده وسلوة عنه
فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة فتستغرق عصمته شهوته والعصمة هي الحماية والحفظ و الشهوة الميل إلى مطالب النفس و الاستغراق للشيء الاحتواء عليه والإحاطة به
يقول: تغلب عصمته شهوته وتقهرها وتستوفي جميع أجزائها فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة: فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة ونزوله أول منازلها وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار والرجوع والعزم إلى الاستقامة والعزم الجازم والجد في السير وذلك علامة السكينة
وتستدرك إرادته غفلته و الإرادة عند القوم: هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله و المريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه وأخذ في السفر إلى الله والدار الآخرة فإذا نزل في منزل الإخبات أحاطت إرادته بغفلته فاستدركها واستدرك بها فارطهاررر(2/4)
وأما استهواء طلبه لسلوته فهو قهر محبته لسلوته وغلبتها له بحيث تهوي السلوة وتسقط كالذي يهوى في بئر وهذا علامة المحبة الصادقة: أن تقهر فيه وارد السلوة وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدا
فالحاصل: أن عصمته وحمايته: تقهر شهوته وإرادته تقهر غفلته ومحبته تقهر سلوته قال:
الدرجة الثانية: أن لا ينقض إرادته سبب ولا يوحش قلبه عارض ولا يقطع عليه الطريق فتنة هذه ثلاثة أمور أخرى تعرض لصادق الإرادة: سبب يعرض له ينقض عزمه وإرادته ووحشة تعرض له في طريق طلبه ولا سيما عند تفرده وفتنة تخرج عليه تقصد قطع الطريق عليه فإذا تمكن من منزل الإخبات اندفعت عنه هذه الآفات لأن إرادته إذا قويت وجد به السير: لم ينقضها سبب من أسباب التخلف و النقض هو الرجوع عن إرادته والعدول عن جهة سفره
ولا يوحش أنسه بالله في طريقه عارض من العوارض الشواغل للقلب والجواذب له عمن هو متوجه إليه و العارض هو المخالف كالشيء الذي يعترضك في طريقك فيجيء في عرضها ومن أقوى هذه العوارض: عارض وحشة التفرد فلا يلتفت إليه كما قال بعض الصادقين: انفرادك في طريق طلبك: دليل على صدق الطلب وقال آخر: لا تستوحش فى طريقك من قلة السالكين ولا تغتر بكثرة الهالكين وأما الفتنة التى تقطع عليه الطريق: فهي الواردات التي ترد على القلوب تمنعها من مطالعة الحق وقصده فإذا تمكن من منزل الإخبات وصحة الإرادة والطلب: لم يطمع فيه عارض الفتنة(2/5)
وهذه العزائم لا تصح إلا لمن أشرق على قلبه أنوار آثار الأسماء والصفات وتجلت عليه معانيها وكافح قلبه حقيقة اليقين بها
وقد قيل: من أخذ العلم من عين العلم ثبت ومن أخذه من جريانه أخذته أمواج الشبه ومالت به العبارات واختلفت عليه الأقوال قال:
الدرجة الثالثة: أن يستوي عنده المدح والذم وتدوم لائمته لنفسه ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته
أعلم أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها: ارتفعت همته وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم فلا يفرح بمدح الناس ولا يحزن لذمهم وهذا وصف من خرج عن حظ نفسه وتأهل للفناء في عبودية ربه وصار قلبه مطرحا لأشعة أنوار الأسماء والصفات وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه والوقوف عند مدح الناس وذمهم: علامة انقطاع القلب وخلوه من الله وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه وأما قوله: وأن تدوم لأئمته لنفسه فهو أن صاحب هذا المنزل لا يرضى عن نفسه وهو مبغض لها متمن لمفارقتها والمراد بالنفس عند القوم: ما كان معلولا من أوصاف العبد مذموما من أخلاقه وأفعاله سواء كان ذلك كسبياأو خلقيا فهو شديد اللائمة لها وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}
قال سعيد بن جبير وعكرمة: تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء ولا على الضراء وقال قتادة: اللوامة: هى الفاجرة
وقال مجاهد: تندم على ما فات وتقول: لو فعلت ولو لم أفعل وقال الفراء: ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهى تلوم نفسها: إن كانت عملت خيرا قالت: هلا زدت وإن عملت شرا قالت: ليتني لم أفعل(2/6)
وقال الحسن: هى النفس المؤمنة إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمة كذا ما أردت بأكلة كذا ما أردت بكذا ما أردت بكذا وإن الفاجر يمضي قدما قدما ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها
وقال مقاتل: هى النفس الكافرة تلوم نفسها فى الآخرة على ما فرطت فى أمر الله فى الدنيا
والقصد: أن من بذل نفسه لله بصدق كره بقاءه معها لأنه يريد أن يتقبلها من بذلت له ولأنه قد قربها له قربانا ومن قرب قربانا فتقبل منه ليس كمن رد عليه قربانه فبقاء نفسه معه دليل على أنه لم يتقبل قربانه وأيضا فإنه من قواعد القوم المجمع عليها بينهم التي اتفقت كلمة أولهم وآخرهم ومحقهم ومبطلهم عليها: أن النفس حجاب بين العبد وبين الله وأنه لا يصل إلى الله حتى يقطع هذا الحجاب كما قال أبو يزيد: رأيت رب العزة فى المنام فقلت: يا رب كيف الطريق إليك فقال: خل نفسك وتعال فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل فلا بد أن ينتهى إليه ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه وإنه ليسير على من يسره الله عليه
وفي ذلك الجبل أودية وشعوب وعقبات ووهود وشوك وعوسج وعليق وشبرق ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين ولا سيما أهل الليل المدلجين فإذا لم يكن معهم عدد الإيمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات وإلا(2/7)
تعلقت بهم تلك الموانع وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته والشيطان على قلة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوفهم منه فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته وضعف عزيمة السائر ونيته فيتولد من ذلك: الانقطاع والرجوع والمعصوم من عصمه الله وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه فإذا قطعه وبلغ قلته: انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا وحينئذ يسهل السير وتزول عنه عوارض الطريق ومشقة عقباتها ويرى طريقا واسعا آمنا يفضي به إلى المنازل والمناهل وعليه الأعلام وفيه الإقامات وفيه أعدت لركب الرحمن فبين العبد وبين السعادة والفلاح: قوة عزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس وثبات قلب والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
فصل وقوله: "ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته"
يعني أنه وإن كان أعلى ممن هو دونه من الناقصين عن درجته إلا أنه لاشتغاله بالله وامتلاء قلبه من محبته ومعرفته والإقبال عليه: يشتغل به عن ملاحظة حال غيره وعن شهود النسبة بين حاله وأحوال الناس ويرى اشتغاله بذلك والتفاته إليه نزولا عن مقامه وانحطاطا عن درجته ورجوعا على عقبيه فإن هجم عليه ذلك بغير استدعاء واختيار فليداوه بشهود المنة وخوف المكر وعدم علمه بالعاقبة التي يوافي عليها والله المستعان(2/8)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الزهد
قال الله تعالى {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} وقال تعالى اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور وقال تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} إلى قوله {وَخَيْرٌ أَمَلاً} وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقال: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} وقال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} إلى قوله {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} والقرآن مملوء من التزهيد فى الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها(2/9)
وسرعة فنائها والترغيب فى الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها فإذا أراد الله بعبد خيرا أقام فى قلبه شاهدا يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار
وقد أكثر الناس من الكلام في الزهد وكل أشار إلى ذوقه ونطق عن جاله وشاهده فإن غالب عبارات القوم عن أذواقهم وأحوالهم والكلام بلسان العلم: أوسع من الكلام بلسان الذوق وأقرب إلى الحجة والبرهان وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها
وقال سفيان الثورى: الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء
وقال الجنيد: سمعت سريا يقول: إن الله عز وجل سلب الدنيا عن أوليائه وحماها عن أصفيائه وأخرجها من قلوب أهل وداده لأنه لم يرضها لهم وقال: الزهد في قوله تعالى: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود ولا يأسف منها على مفقود(2/10)
وقال يحيى بن معاذ: الزهد يورث السخاء بالملك والحب يورث السخاء بالروح
وقال ابن الجلاء: الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال فتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها
وقال ابن خفيف: الزهد وجود الراحة في الخروج من الملك
وقال أيضا: الزهد سلو القلب عن الأسباب ونفض الأيدي من الأملاك وقيل: هو عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف
وقال الجنيد: الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد وقال الإمام أحمد الزهد في الدنيا قصر الأمل وعنه رواية أخرى: أنه عدم فرحه بإقبالها ولا حزنه على إدبارها فإنه سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدا فقال: نعم على شريطة أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت
وقال عبد الله بن المبارك: هو الثقة بالله مع حب الفقر وهذا قول شقيق ويوسف بن أسباط
وقال عبدالواحد بن زيد الزهد: الزهد في الدينار والدرهم وقال أبو سليمان الداراني: ترك ما يشغل عن الله وهو قول الشبلي
وسأل رويم الجنيد عن الزهد فقال: استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب وقال مرة: هو خلو اليد عن الملك والقلب عن التتبع وقال يحيى بن معاذ: لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال: عمل بلا علاقة وقول بلا طمع وعز بلا رياسة وقال أيضا: الزاهد يسعطك الخل والخردل والعارف يشمك المسك والعنبر وقيل: حقيقته هو الزهد في النفس وهذا قول ذي النون المصري
وقيل: الزهد الإيثار عند الاستغاء والفتوة الإيثار عند الحاجة قال الله تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(2/11)
وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزاهدين وأقعد معهم فقال: إذا صرت من رياضتك لنفسك إلى حد لو قطع الله الرزق عنك ثلاثة أيام لم تضعف نفسك فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه الأول: ترك الحرام وهو زهد العوام والثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص والثالث: ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين
وهذا الكلام من الإمام أحمد يأتي على جميع ما تقدم من كلام المشايخ مع زيادة تفصيله وتبيين درجاته وهو من أجمع الكلام وهو يدل على أنه رضي الله عنه من هذا العلم بالمحل الأعلى وقد شهد الشافعي رحمه الله بإمامته في ثمانية أشياء
أحدها: الزهد والذي أجمع عليه العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه في منازل الآخرة وعلى هذا صنف المتقدمون كتب الزهد كالزهد لعبد الله ابن المبارك وللإمام أحمد ولوكيع ولهناد بن السري ولغيرهم ومتعلقه ستة أشياء: لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها وهي المال والصور والرياسة والناس والنفس وكل ما دون الله وليس المراد رفضها من الملك فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة وكان علي بن أبي طالب(2/12)
وعبدالرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال وكان الحسن بن علي رضي الله عنه من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحا لهن وأغناهم وكان عبدالله بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير وكذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد وكان له رأس مال يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه وقد روي مرفوعا
فصل:
وقد اختلف الناس فى الزهد هل هو ممكن في هذه الأزمنة أم
لا فقال أبو حفص الزهد لا يكون إلا في الحلال ولا حلال في الدنيا فلا زهد
وخالفه الناس في هذا وقالوا: بل الحلال موجود فيها وفيها الحرام كثيرا وعلى تقدير: أن لا يكون فيها الحلال فهذا أدعى إلى الزهد فيها وتناول ما يتناوله المضطر منها كتناوله للميتة والدم ولحم الخنزير
وقال يوسف بن أسباط: لو بلغني أن رجلا بلغ في الزهد منزلة أبي ذر وأبي الدرداء وسلمان والمقداد وأشباههم من الصحابة رضي الله عنهم ما قلت له(2/13)
زاهد لأن الزهد لا يكون إلا في الحلال المحض والحلال المحض لا يوجد في زماننا هذا وأما الحرام: فإن ارتكبته عذبك الله عز وجل
ثم اختلف هؤلاء في متعلق الزهد فقالت طائفة: الزهد إنما هو في الحلال لأن ترك الحرام فريضة وقالت فرقة: بل الزهد لا يكون إلا في الحرام وأما الحلال: فنعمة من الله تعالى على عبده والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده فشكره على نعمه والاستعانة بها على طاعته واتخاذها طريقا إلى جنته: أفضل من الزهد فيها والتخلي عنها ومجانبة أسبابها . والتحقيق: أنها إن شغلته عن الله فالزهد فيها أفضل وإن لم تشغله عن الله بل كان شاكرا لله فيها فحاله أفضل والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها والطمأنينة إليها والله أعلم
فصل: قال صاحب المنازل: "الزهد: هو إسقاط الرغبة عن الشيء بالكلية"(2/14)
يريد بالشيء المزهود فيه: ما سوى الله والإسقاط عنه: إزالته عن القلب وإسقاط تعلق الرغبة به
وقوله: "بالكلية" أي بحيث لا يلتفت إليه ولا يتشوق إليه
قال: وهو للعامة: قربة وللمريد: ضرورة وللخاصة: خشية يعني أن العامة تتقرب به إلى الله و القربة ما يتقرب به المتقرب إلى محبوبه
وهو ضرورة للمريد لأنه لا يحصل له التخلي بما هو بصدده إلا بإسقاط الرغبة فيما سوى مطلوبه فهو مضطر إلى الزهد كضرورته إلى الطعام والشراب إذ التعلق بسوى مطلوبه لا يعدم منه حجابا أو وقفة أو نكسة على حسب بعد ذلك الشيء من مطلوبه وقوة تعلقه به وضعفه
وإنما كان خشية للخاصة: لأنهم يخافون على ما حصل لهم من القرب والأنس بالله وقرة عيونهم به: أن يتكدر عليهم صفوه بالتفاتهم إلى ما سوى الله فزهدهم خشية وخوف قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الزهد في الشبهة بعد ترك الحرام بالحذر من المعتبة والأنفة من المنقصة وكراهة مشاركة الفساق
أما الزهد في الشبهة: فهو ترك ما يشتبه على العبد: هل هو حلال أو حرام كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات اتقى الحرام ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب فالشبهات برزخ بين الحلال والحرام وقد جعل الله عز وجل بين كل(2/15)
متباينين برزخا كما جعل الموت وما بعده برزخا بين الدنيا والآخرة وجعل المعاصي برزخا بين الإيمان والكفر وجعل الأعراف برزخا بين الجنة والنار وكذلك جعل بين كل مشعرين من مشاعر المناسك برزخا حاجزا بينهما ليس من هذا ولا هذا فمحسر برزخ بين منى ومزدلفة ليس من واحد منهما فلا يبيت به الحاج ليلة جمع ولا ليالي منى وبطن عرنة برزخ بين عرفة وبين الحرم فليس من الحرم ولا من عرفة وكذلك ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس برزخ بين الليل والنهار ليس من الليل لتصرمه بطلوع الفجر ولا من النهار لأنه من طلوع الشمس وإن دخل في اسم اليوم شرعا وكذلك منازل السير: بين كل منزلتين برزخ يعرفه السائر في تلك المنازل وكثير من الأحوال والواردات تكون برازخ فيظنها صاحبها غاية وهذا لم يتخلص منه إلا فقهاء الطريق والعلماء هم الأدلة فيها
وقوله: بعد ترك الحرام أي ترك الشبهة لا يكون إلا بعد ترك الحرام
وقوله: بالحذر من المعتبة يعني أن يكون سبب تركه للشبهة: الحذر من توجه عتب الله عليه وقوله: والأنفة من المنقصة أي يأنف لنفسه من نقصه عند ربه وسقوطه من عينه عينيه لا أنفته من نقصه عند الناس وسقوطه من عيونهم وإن كان ذلك ليس مذموما بل هو محمود أيضا ولكن المذموم: أن تكون أنفته كلها من الناس ولا يأنف من الله
وقوله: وكراهة مشاركة الفساق يعنى أن الفساق يزدحمون على مواضع الرغبة في الدنيا ولتلك المواقف بهم كظيظ من الزحام فالزاهد يأنف من مشاركتهم في تلك المواقف ويرفع نفسه عنها لخسة شركائه فيها كما قيل لبعضهم: ما الذي زهدك في الدنيا قال: قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها
إذا لم أترك الماء اتقاء تركت لكثرة الشركاء فيه(2/16)
إذا وقع الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب يلغن فيه
قال: الدرجة الثانية: الزهد في الفضول وهو ما زاد على المسكة والبلاغ من القوت باغتنام التفرغ إلى عمارة الوقت وحسم الجأش والتحلي بحلية الأنبياء والصديقين
الفضول ما يفضل عن قدر الحاجة و المسكة ما يمسك النفس من القوت والشراب واللباس والمسكن والمنكح إذا احتاج إليه و البلاغ هو البلغة من ذلك الذي يتبلغ به المسافر في منازل السفر فيزهد فيما وراء ذلك اغتناما لتفرغه لعمارة وقته
ولما كان الزهد لأهل الدرجة الأولى: خوفا من المعتبة وحذرا من المنقصة: كان الزهد لأهل هذه الدرجة أعلى وأرفع وهو اغتنام الفراغ لعمارة أوقاتهم مع الله لأنه إذا اشتغل بفضول الدنيا فاته نصيبه من انتهاز فرصة الوقت فالوقت سيف إن لم تقطعه وإلا قطعك
وعمارة الوقت: الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب أو منكح أو منام أو راحة فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت وإن كان له فيها أتم لذة فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات(2/17)
فالمحب الصادق ربما كان سيره القلبي في حال أكله وشربه وجماع أهله وراحته أقوى من سيره البدني في بعض الأحيان
وقد حكي عن بعضهم: أنه كان يرد عليه وهو على بطن امرأته حال لا يعهدها في غيرها
ولهذا سبب صحيح وهو اجتماع قوى النفس وعدم التفاتها حينئذ إلى شيء مع ما يحصل لها من السرور والفرح والسرور يذكر بالسرور واللذة تذكر باللذة فتنهض الروح من تلك الفرحة واللذة إلى ما لا نسبة بينها وبينها بتلك الجمعية والقوة والنشاط وقطع أسباب الالتفات فيورثه ذلك حالا عجيبة
ولا تعجل بالإنكار وانظر إلى قلبك عند هجوم أعظم محبوب له عليه في هذه الحال كيف تراه فهكذا حال غيرك ولا ريب أن النفس إذا نالت حظا صالحا من الدنيا قويت به وسرت واستجمعت قواها وجمعيتها وزال تشتتها(2/18)
اللهم اغفر فقد طغى القلم وزاد الكلم فعياذا بك اللهم من مقتك
وأما حسم الجأش فهو قطع اضطراب القلب المتعلق بأسباب الدنيا رغبة ورهبة وحبا وبغضا وسعيا فلا يصح الزهد للعبد حتى يقطع هذا الاضطراب من قلبه بأن لا يلتفت إليها ولا يتعلق بها في حالتي مباشرته لها وتركه فإن الزهد زهد القلب لا زهد الترك من اليد وسائر الأعضاء فهو تخلي القلب عنها لا خلو اليد منها
وأما التحلى بحلية الأنبياء والصديقين فإنهم أهل الزهد في الدنيا حقا إذ هم مشمرون إلى علم قد رفع لهم غيرها فهم زاهدون وإن كانوا لها مباشرين
فصل قال: الدرجة الثالثة: الزهد في الزهد وهو بثلاثة أشياء:
استحقار ما زهدت فيه واستواء الحالات فيه عندك والذهاب عن شهود الاكتساب ناظرا إلى وادي الحقائق وقد فسر الشيخ مراده بالزهد في الزهد بثلاثة أشياء
أحدها: احتقاره ما زهد فيه فإن من امتلأ قلبه بمحبة الله وتعظيمه لا يرى أن ما تركه لأجله من الدنيا يستحق أن يجعل قربانا لأن الدنيا بحذافيرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة فالعارف لا يرى زهده فيها كبير أمر يعتد به ويحتفل له فيستحي من صح له الزهد أن يجعل لما تركه لله قدرا يلاحظ زهده فيه بل يفنى عن زهده فيه كما فنى عنه ويستحي من ذكره بلسانه وشهوده بقلبه
وأما استواء الحالات فيه عنده: فهو أن يرى ترك ما زهد فيه وأخذه: متساويين عنده إذ ليس له عنده قدر وهذا من دقائق فقه الزهد فيكون زاهدا في حال أخذه كما هو زاهد في حال تركه إذ همته أعلى عن ملاحظته أخذا وتركا لصغره في عينه
وأما الذهاب عن شهود الاكتساب فمعناه: أن من استصغر الدنيا(2/19)
بقلبه واستوت الحالات في أخذها وتركها عنده: لم ير أنه اكتسب بتركها عند الله درجة ألبتة لأنها أصغر في عينه من أن يرى أنه اكتسب بتركها الدرجات
وفيه معنى آخر: وهو أن يشاهد تفرد الله عز وجل بالعطاء والمنع فلا يرى أنه ترك شيئا ولا أخذ شيئا بل الله وحده هو المعطي المانع فما أخذه فهو مجري لعطاء الله إياه كمجرى الماء في النهر وما تركه لله فالله سبحانه وتعالى هو الذي منعه منه فيذهب بمشاهدة الفعال وحده عن شهود كسبه وتركه فإذا نظر إلى الأشياء بعين الجمع وسلك في وادي الحقيقة غاب عن شهود اكتسابه وهو معنى قوله: ناظرا إلى وادي الحقائق وهذا أليق المعنين بكلامه فهذا زهد الخاصة قال الشاعر
إذا زهدتني في الهوى خشية الردى ... جلت لي عن وجه يزهد في الزهد
...(2/20)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الورع
قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [ المؤمنون: 51 ] وقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [ المدثر: 4 ] قال قتادة ومجاهد: نفسك فطهر من الذنب فكنى عن النفس بالثوب وهذا قول إبراهيم النخعي والضحاك والشعبي والزهري والمحققين من أهل التفسير قال ابن عباس: لا تلبسها على معصية ولا غدر ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
وإنى بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء: طاهر الثياب وتقول للغادر والفاجر: دنس الثياب وقال أبي بن كعب: لا تلبسها على الغدر والظلم والإثم ولكن البسها وأنت بر طاهر
وقال الضحاك: عملك فأصلح قال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا:(2/20)
إنه لطاهر الثياب وإذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب وقال سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهر وقال الحسن والقرظي: وخلقك فحسن
وقال ابن سيرين وابن زيد: أمر بتطهير الثياب من النجاسات التى لا تجوز الصلاة معها لأن المشركين كانوا لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم وقال طاووس: وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها
والقول الأول: أصح الأقوال ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز وجل بإزالتها والبعد عنها والمقصود: أن الورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة وباطنة ولذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه وحاله ويؤثر كل منهما في الآخر ولهذا نهى عن لباس الحرير والذهب وجلود السباع لما تؤثر في القلب من الهيئة المنافية للعبودية والخشوع وتأثير القلب والنفس في الثياب أمر خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها ودنسها ورائحتها وبهجتها وكسفتها حتى إن ثوب البر ليعرف من ثوب الفاجر وليسا عليهما وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة فهذه الكلمة كافية شافية في الورع قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات وفى الترمذي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس"(2/21)
قال الشبلي: الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله وقال إسحاق بن خلف: "الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة والزهد في الرياسة: أشد منه في الذهب والفضة لأنهما يبذلان في طلب الرياسة" وقال أبو سليمان الداراني: "الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضى" وقال يحيى بن معاذ: "الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل" وقال: "الورع على وجهين ورع فى الظاهر وورع فى الباطن فورع الظاهر: أن لا يتحرك إلا لله وورع الباطن: هو أن لا يدخل قلبك سواه" وقال: "من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء" وقيل: "الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات" وقيل: "من دق في الدنيا ورعه أو نظره جل في القيامة خطره" وقال يونس بن عبيد: "الورع الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة عين" وقال سفيان الثوري: "ما رأيت أسهل من الورع ما حاك في نفسك فاتركه" وقال سهل: "الحلال هو الذي لا يعصي الله فيه والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه" وسأل الحسن غلاما فقال له: "ما ملاك الدين قال: الورع قال: فما آفتة قال: الطمع فعجب الحسن منه" وقال الحسن: "مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة" وقال أبو هريرة: "جلساء الله غدا أهل الورع والزهد"
وقال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس" وقال بعض الصحابة: "كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام"(2/22)
فصل
قال صاحب المنازل الورع: "توق مستقصى على حذر وتحرج على تعظيم"
يعني أن يتوقى الحرام والشبه وما يخاف أن يضره أقصى ما يمكنه من التوقي لأن التوقي والحذر متقاربان إلا أن التوقي فعل الجوارح و الحذر فعل القلب فقد يتوقى العبد الشيء لا على وجه الحذر والخوف ولكن لأمور أخرى: من إظهار نزاهة وعزة وتصوف أو اعتراض آخر كتوقي الذين لا يؤمنون بمعاد ولا جنة ولا نار ما يتوقونه من الفواحش والدناءة تصونا عنها ورغبة بنفوسهم عن مواقعتها وطلبا للمحمدة ونحو ذلك
وقوله: "أو تحرج على تعظيم" يعني أن الباعث على الورع عن المحارم والشبه إما حذر حلول الوعيد وإما تعظيم الرب جل جلاله وإجلالا له أن يتعرض لما نهى عنه فالورع عن المعصية: إما تخوف أو تعظيم واكتفى بذكر التعظيم عن ذكر الحب الباعث على ترك معصية المحبوب لأنه لا يكون إلا مع تعظيمه وإلا فلو خلا القلب من تعظيمه لم تستلزم محبته ترك مخالفته كمحبة الإنسان ولده وعبده وأمته فإذا قارنه التعظيم أوجب ترك المخالفة قال: "وهو آخر مقام الزهد للعامة وأول مقام الزهد للمريد" يعني أن هذا التوقي والتحرج بوصف الحذر والتعظيم: هو نهاية لزهد العامة وبداية لزهد المريد وإنما كان كذلك لأن الورع كما تقدم هو أول الزهد وركنه وزهد المريد: فوق زهد العامة ونهاية العامة: هى بداية المريد فنهاية مقام هذا هي بداية مقام هذا فإذا انتهى ورع العامة صار زهدا وهو أول ورع المريد قال: "وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: تجنب القبائح لصون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان"(2/23)
هذه ثلاث فوائد من فوائد تجنب القبائح إحداها: صون النفس وهو حفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله عز وجل وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده: صانها وحماها وزكاها وعلاها ووضعها في أعلى المحال وزاحم بها أهل العزائم والكمالات ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده أنقاها في الرذائل وأطلق شناقها وحل زمامها وأرخاه ودساها ولم يصنها عن قبيح فأقل ما في تجنب القبائح: صون النفس
وأما توفير الحسنات فمن وجهين
أحدهما: توفير زمانه على اكتساب الحسنات فإذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعدا لتحصيلها
والثاني: توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها بموازنة السيئات وحبوطها كما تقدم في منزلة التوبة: أن السيئات قد تحبط الحسنات وقد تستغرقها بالكلية أو تنقصها فلا بد أن تضعفها قطعا فتجنبها يوفر ديوان الحسنات وذلك بمنزلة من له مال حاصل فإذا استدان عليه فإما أن يستغرقه الدين أو يكثره أو ينقصه فهكذا الحسنات والسيئات سواء وأما صيانة الإيمان فلأن الإيمان عند جميع أهل السنة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وقد حكاه الشافعي وغيره عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم وإضعاف المعاصي للإيمان أمر معلوم بالذوق والوجود فإن العبد كما جاء في الحديث إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب واستغفر صقل قلبه وإن عاد فأذنب نكت فيه نكتة أخرى حتى تعلو قلبه وذلك الران الذي قال الله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [ المطففين: 14 ] فالقبائح تسود القلب وتطفىء نوره والإيمان هو نور فى القلب والقبائح تذهب به أو تقلله قطعا فالحسنات تزيد نور القلب والسيئات تطفىء نور القلب وقد(2/24)
أخبر الله عز وجل أن كسب القلوب سبب للران الذي يعلوها وأخبر أنه أركس المنافقين بما كسبوا فقال: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [ النساء: 88 ] وأخبر أن نقض الميثاق الذي أخذه على عباده سبب لتقسية القلب فقال فيما نقضهم ميثقاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به [ المائده: 13 ] فجعل ذنب النقض موجبا لهذه الآثار: من تقسية القلب واللعنة وتحريف الكلم ونسيان العلم فالمعاصي للإيمان كالمرض والحمى للقوة سواء بسواء ولذلك قال السلف: المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت
فإيمان صاحب القبائح كقوة المريض على حسب قوة مرضه وضعفه وهذه الأمور الثلاثة وهي صون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان هي أرفع من باعث العامة على الورع لأن صاحبها أرفع همة لأنه عامل على تزكية نفسه وصونها وتأهيلها للوصول إلى ربها فهو يصونها عما يشينها عنده ويحجبها عنه ويصون حسناته عما يسقطها ويضعها لأنه يسير بها إلى ربه ويطلب بها رضاه ويصون إيمانه بربه: من حبه له وتوحيده ومعرفته به ومراقبته إياه عما يطفىء نوره ويذهب بهجته ويوهن قوته قال الشيخ وهذه الثلاث الصفات: هي في الدرجة الأولى من ورع المريدين
يعني أن للمريدين درجتين أخريين من الورع فوق هذه ثم ذكرهما فقال: الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به إبقاء على الصيانة والتقوى وصعودا عن الدناءة وتخلصاعن اقتحام الحدود
يقول: إن من صعد عن الدرجة الأولى إلى هذه الدرجة من الورع يترك كثيرا مما لا بأس به من المباح إبقاء على صيانته وخوفا عليها أن يتكدر(2/25)
صفوها ويطفأ نورها فإن كثيرا من المباح يكدر صفو الصيانة ويذهب بهجتها ويطفىء نورها ويخلق حسنها وبهجتها وقال لي يوما شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة أو نحو هذا من الكلام فالعارف يترك كثيرا من المباح إبقاء على صيانته ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام فإن بينهما برزخا كما تقدم فتركه لصاحب هذه الدرجة كالمتعين الذي لا بد منه لمنافاته لدرجته والفرق بين صاحب الدرجة الأولى وصاحب هذه: أن ذلك يسعى في تحصيل الصيانة وهذا يسعى في حفظ صفوها أن يتكدر ونورها أن يطفأ ويذهب وهو معنى قوله: إبقاء على الصيانة
وأما الصعود عن الدناءة: فهو الرفع عن طرقاتها وأفعالها
وأما التخلص عن اقتحام الحدود فالحدود: هي النهايات وهي مقاطع الحلال والحرام فحيث ينقطع وينتهي فذلك حده فمن اقتحمه وقع في المعصية وقد نهى الله تعالى عن تعدي حدوده وعن قربانها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [ البقره وقال : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [ البقره: 229 ] فإن الحدود يراد بها أواخر الحلال وحيث نهى عن القربان فالحدود هناك: أوائل الحرام يقول سبحانه: لا تتعدوا ما أبحت لكم ولا تقربوا ما حرمت عليكم فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدي هذه وهو اقتحام الحدود قال: الدرجة الثالثة: التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت والتعلق بالتفرق وعارض يعارض حال الجمع الفرق بين شتات الوقت والتعلق بالتفرق: كالفرق بين السبب والمسبب(2/26)
والنفي والإثبات فإنه يتشتت وقته فلا يجد بدا من التعلق بما سوى مطلوبه الحق إذ لا تعطيل في النفس ولا في الإرادة فمن لم يكن الله مراده أراد ما سواه ومن لم يكن هو وحده معبوده عبد ما سواه ومن لم يكن عمله لله فلا بد أن يعمل لغيره وقد تقدم هذا فالمخلص يصونه الله بعبادته وحده وإرادة وجهه وخشيته وحده ورجائه وحده والطلب منه والذل منه والافتقار إليه وحده وإنما كان هذا أعلى من الدرجة الثانية: لأن أربابها اشتغلوا بحفظ الصيانة من الكدر وملاحظتها وذلك عند أهل الدرجة الثالثة: تفرق عن الحق واشتغال عن مراقبته بحال نفوسهم فأدب أهل هذه أدب حضور وأدب أولئك أدب غيبة وأما الورع عن كل حال يعارض حال الجمع فمعناه: أن يستغرق العبد شهود فنائه في التوحيد وجمعيته على الله تعالى فيه عن كل حال يعارض هذا الفناء والجمعية وهذا عند الشيخ لما كان هو الغاية التي ليس بعدها مطلب: جعل كل حال يعارضها ويقطع عنها ناقصا بالنسبة إليها فالرغبة عنه غير ورع صاحبها وقد عرفت ما فيه وأن فوق هذا مقام أرفع منه وأعلى وهو الورع عن كل حظ يزاحم مراده منك ولو كان الحظ فناءا وجميعة أو كائنا ما كان وبينا أن الفناء و الجمعية حظ العبد وأن حق الرب وراء ذلك وهو البقاء بمراده فرقا وجمعا به وله وعلى هذا فالورع الخاص: الورع عن كل حال يعارض حال القيام بالأمر والبقاء به فرقا وجمعا والله المستعان(2/27)
فصل الخوف يثمر الورع والاستعانة وقصر الأمل وقوة الإيمان باللقاء
تثمر الزهد والمعرفة تثمر المحبة والخوف والرجاء والقناعة تثمر الرضاء والذكر يثمر حياة القلب والإيمان بالقدر يثمر التوكل ودوام تأمل الأسماء والصفات يثمر المعرفة والورع يثمر الزهد أيضا والتوبة تثمر المحبة أيضا ودوام الذكر يثمرها والرضا يثمر الشكر والعزيمة والصبر يثمران جميع الأحوال والمقامات والإخلاص والصدق كل منهما يثمر الآخر ويقتضيه والمعرفة تثمر الخلق والفكر يثمر العزيمة والمراقبة تثمر عمارة الوقت وحفظ الأيام والحياء والخشية والإنابة وإماتة النفس وإذلالها وكسرها: يوجب حياة القلب وعزه وجبره ومعرفة النفس ومقتها يوجب الحياء من الله عز وجل واستكثار ما منه واستقلال ما منك من الطاعات ومحو أثر الدعوى من القلب واللسان وصحة البصيرة تثمر اليقين وحسن التأمل لما ترى تسمع من الآيات المشهودة والمتلوة يثمر صحة البصيرة وملاك ذلك كله: أمران أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله وأخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته تنزلها على داء قلبك فهذه طريق مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى آمنة لا يلحق سالكها خوف ولا عطب ولا جوع ولا عطش ولا فيها آفة من آفات سائر الطريق ألبتة وعليها من الله حارس وحافظ يكلأ السالكين فيها ويحميهم ويدفع عنهم ولا يعرف قدر هذه الطريق إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وآفاتها وقطاعها والله المستعان(2/28)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التبتل
قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [ المزمل: 8 ] و التبتل الانقطاع وهو تفعل من البتل وهو القطع وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا وقطعت منهن ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسر لطيف فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة فأتى بالفعل الدال على أحدهما بالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل: بتل نفسك إلى الله تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره وهذا كثير في القرآن وهو من أحسن الاختصار والإيجاز قال صاحب المنازل: التبتل: "الانقطاع إلى الله بالكلية" وقوله عز وجل: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [ الرعد: 14 ] أي التجريد المحض
ومراده بالتجريد المحض: التبتل عن ملاحظة الأعواض بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر بخلاف العبد فإنه يخدم بمقتضى عبوديته لا للأجرة فهو لا ينصرف عن باب سيده إلا إذا كان آبقا والآبق قد خرج من شرف العبودية ولم يحصل له إطلاق الحرية فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده وغاية شرف النفس: دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا ومحبة لا كرها وقهرا كما قيل:
شرف النفوس دخولها في رقهم
والعبد يحوي الفخر بالتمليك
والذي حسن استشهاده بقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} في هذا الموضع: إرادة هذا المعنى وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته وإن لم يوجب لداعيه بها(2/29)
ثوابا فإنه يستحقها لذاته فهو أهل أن يعبد وحده ويدعى وحده ويقصد ويشكر ويحمد ويحب ويرجى ويخاف ويتوكل عليه ويستعان به ويستجار به ويلجأ إليه ويصمد إليه فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده
ومن قام بقلبه هذا معرفة وذوقا وحالا صح له مقام التبتل والتجريد المحض وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد والإخلاص فيه والصدق ومرادهم: هذا المعنى
فقال علي رضى الله عنه دعوة الحق: التوحيد وقال ابن عباس رضي الله عنهما شهادة أن لا إله إلا الله وقيل: الدعاء بالإخلاص والدعاء الخالص لا يكون إلا لله وحده ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: تجريد الانقطاع عن الحظوظ واللحوظ إلى العالم خوفا أو رجاء أو مبالاة بحال قلت التبتل يجمع أمرين: اتصالا وانفصالا لا يصح إلا بهما فالانفصال: انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله خوفا منه أو رغبة فيه أو مبالاة به أو فكرا فيه بحيث يشغل قلبه عن الله والاتصال: لا يصح إلا بعد هذا الانفصال وهو اتصال القلب بالله وإقباله عليه وإقامة وجهه له حبا وخوفا ورجاء وإنابة وتوكلا
ثم ذكر الشيخ ما يعين على هذا التجريد وبأي شيء يحصل فقال: بحسم الرجاء بالرضى وقطع الخوف بالتسليم ورفض المبالاة بشهود الحقيقة يقول: إن الذى يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك: هو الرضى بحكم الله(2/30)
عز وجل وقسمه لك فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع والذي يحسم مادة الخوف: هو التسليم لله فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضا فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها فلا معنى للخوف من غير الله بوجه وفي التسليم أيضا فائدة لطيفة وهي أنه إذا سلمها الله فقد أودعها عنده وأحرزها في حرزه وجعلها تحت كنفه حيث لا تنالها يد عدو عاد ولا بغي باغ عات
والذي يحسم مادة المبالاة بالناس: شهود الحقيقة وهو رؤية الأشياء كلها من الله وبالله وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته ولا ينفع ولا يضر إلا بإذنه ومشيئته فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود
قال: الدرجة الثانية: تجريد الانقطاع عن التعريج على النفس بمجانبة الهوى وتنسم روح الأنس وشيم برق الكشف الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها: أن الأولى انقطاع عن الخلق وهذه انقطاع عن النفس وجعله بثلاثة أشياء
أولها: مجانبة الهوى ومخالفته ونهي نفسه عنه لأن اتباعه يصد عن التبتل
وثانيها: وهو بعد مخالفة الهوى تنسم روح الأنس بالله والروح للروح كالروح للبدن فهو روحها وراحتها وإنما حصل له هذا الروح لما أعرض عن هواه فحينئذ تنسم روح الأنس بالله ووجد رائحته إذ النفس لا بد لها من(2/31)
التعلق فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله وهبت عليها نسماته فريحتها وأحيتها
وثالثها: شيم برق الكشف وهو مطالعته واستشرافه والنظر إليه ليعلم به مواقع الغيث ومساقط الرحمة وليس مراده بالكشف ههنا: الكشف الجزئي السفلي المشترك بين البر والفاجر والمؤمن والكافر كالكشف عن مخبآت الناس ومستورهم وإنما هو الكشف عن ثلاثة أشياء هن منتهى كشف الصادقين أرباب البصائر
أحدها: الكشف عن منازل السير
والثاني: الكشف عن عيوب النفس وآفات الأعمال ومفسداتها
والثالث: الكشف عن معاني الأسماء والصفات وحقائق التوحيد والمعرفة وهذه الأبواب الثلاثة: هي مجامع علوم القوم وعليها يحومون وحولها يدندنون وإليها يشمرون فمنهم من جل كلامه ومعظمه: في السير وصفة المنازل ومنهم من جل كلامه: في الآفات والقواطع ومنهم من جل كلامه: في التوحيد والمعرفة وحقائق الأسماء والصفات
والصادق الذكي يأخذ من كل منهم ما عنده من الحق فيستعين به على مطلبه ولا يرد ما يجده عنده من الحق لتقصيره في الحق الآخر ويهدره به فالكمال المطلق لله رب العالمين وما من العباد إلا له مقام معلوم
قال: الدرجة الثالثة: تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة والاستغراق في قصد الوصول والنظر إلى أوائل الجمع
لما جعل الدرجة الأولى انقطاعا عن الخلق والثانية انقطاعا عن النفس جعل الثالثة طلبا للسبق وجعله بتصحيح الاستقامة وهي الإعراض عما سوى الحق ولزوم الإقبال عليه والاشتغال بمحابه ثم بالاستغراق في قصد الوصول(2/32)
وهو أن يشغله طلب الوصول عن كل شيء بحيث يستغرق همومه وعزائمه وإراداته أوقاته وإنما يكون ذلك بعد بدو برق الكشف المذكور له
وأما النظر إلى أوائل الجمع: فالجمع هو قيام الخلق كلهم بالحق وحده وقيامه عليهم بالربوبية والتدبير
والنظر إلى أوائل ذلك: هو الالتفات إلى مقدماته وبداياته وهي العقبة التي ينحدر منها على وادي الفناء وقد قيل: إنها وقفة تعترض القاطع لأودية التفرقة قبل وصوله إلى الجمع ومنها يشرف عليه وهذه الوقفة تعترض كل طالب مجد في طلبه فمنها يرجع على عقبه أو يصل إلى مطلبه كما قيل
لابد للعاشق من وقفة ... ما بين سلوان وبين غرام
وعندها ينقل أقدامه ... إما إلى خلف وإما أمام
والذي يظهر لي من كلامه: أن أوائل الجمع: مباديه ولوائحه وبوارقه
وبعد هذا درجة رابعة وهي الانقطاع عن مراده من ربه والفناء عنه إلى مراد ربه منه والفناء به فلا يريد منه بل يريد ما يريده منقطعا به عن كل إرادة فينظر في أوائل الجمع في مراده الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه
وأكثر أرباب السلوك عندهم إياك نعبد فرق وإياك نستعين جمع ثم منهم من يرى: أن ترك الجمع زندقة وكفر فهو يعرض عن الجمع إلى الفرق
ومنهم من يرى: أن مقام التفرقة ناقص مرغوب عنه ويرى سوء حال أهله وتشتتهم فيرغب عنه عاملا على الجمع يتوجه معه حيث توجهت ركائبه والمستقيمون منهم يقولون: لابد للعبد السالك من جمع وفرق وقيام العبودية بهما فمن لا تفرقة له لا عبودية له ومن لا جمع له لا معرفة له ولا حال(2/33)
فإياك نعبد فرق و إياك نستعين جمع
والحق: أن كلا من مشهدي إياك نعبد وإياك نستعين متضمن للفرق والجمع وكمال العبودية بالقيام بهما في كل مشهد ففرق إياك نعبد تنوع ما يعبد به وكثرة تعلقاته وضروبه وجمعه: توحيد المعبود بذلك كله وإرادة وجهه وحده والفناء عن كل حظ ومراد يزاحم حقه ومراده
فتضمن هذا المشهد فرقا في جمع وكثرة في وحدة فصاحبه يتنقل في منازل العبودية من عبادة إلى عبادة ومعبوده واحد لا إله إلا هو وأما فرق إياك نستعين فشهود ما يستعين به عليه ومرتبته ومنزلته ومحله من النفع والضر وبدايته وعاقبته واتصاله بل وانفصاله وما يترتب عليه من هذا الاتصال والانفصال ويشهد مع ذلك فقر المستعين وحاجته ونقصه وضرورته إلى كمالاته التى يستعين ربه في تحصيلها وآفاته التي يستعين ربه في دفعها ويشهد حقيقة الاستعانة وكفاية المستعان به وهذا كله فرق يثمر عبودية هذا المشهد وأما جمعه: فشهود تفرده سبحانه بالأفعال وصدور الكائنات بأسرها عن مشيئته وتصريفها بإرادته وحكمته
فغيبته بهذا المشهد عما قبله من الفرق: نقص في العبودية كما أن تفرقه في الذي قبله دون ملاحظته: نقص أيضا والكمال إعطاء الفرق والجمع حقهما في هذا المشهد والمشهد الأول فتبين تضمن إياك نعبد وإياك نستعين للجمع والفرق وبالله المستعان(2/34)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرجاء
قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [ الإسراء: 57 ] فابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبة فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التى عليها بناؤه: الحب والخوف والرجاء قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [ العنكبوت: 5 ] وقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [ الكهف: 110 ] وقال تعالى: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [ البقره: 218 ] وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" وفي الصحيح عنه: "يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" الرجاء حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب وهو الله والدار الآخرة ويطيب لها السير وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه وقيل: هو الثقه بجود الرب تعالى والفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد و الرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل
فالأول: كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها
والثاني: كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل(2/35)
قال شاه الكرماني: علامة صحة الرجاء: حسن الطاعة والرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان ونوع غرور مذموم
فالأولان: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه ورجل أذنب ذنوباثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه
والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب وللسالك نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف إلى سعة فضل ربه وكرمه وبره ونظر يفتح عليه باب الرجاء ولهذا قيل في حد الرجاء هو النظر إلى سعة رحمة الله
وقال أبو علي الروذباري الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت وسئل أحمد بن عاصم: ما علامة الرجاء في العبد فقال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر راجيا لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا والآخرة وتمام عفوه عنه في الآخرة واختلفوا أي الرجائين أكمل: رجاء المحسن ثواب إحسانه أو رجاء المسيء التائب مفغرة ربه وعفوه فطائفة رجحت رجاء المحسن لقوة أسباب الرجاء معه وطائفة رجحت رجاء المذنب لأن رجاءه مجرد عن علة رؤية العمل مقرون بذلة رؤية الذنب قال يحيى بن معاذ: يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أصفيها وأحرزها وأنا(2/36)
بالآفات معروف وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف
وقال أيضا: إلهى أحلى العطايا في قلبي رجاؤك وأعذب الكلام على لساني ثناؤك وأحب الساعات إلي ساعة يكون فيها لقاؤك
فصل قال صاحب المنازل: الرجاء: أضعف منازل المريدين لأنه
معارضة من وجه واعتراض من وجه وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة وفائدة واحدة نطق بها التنزيل والسنة وتلك الفائدة: هي كونه يبرد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى اليأس شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه
أما قوله: الرجاء أضعف منازل المريدين فيعني بالنسبة إلى ما فوقه من المنازل كمنزلة المعرفة والمحبة والإخلاص والصدق والتوكل لا أن مراده ضعف حال هذه المنزلة في نفسها وأنها منزلة ناقصة وأما قوله: لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه فلأنه تعلق بمراد العبد من ربه من الإحسان والثواب والإفضال وقد يكون مراده تعالى من عبده: استيفاء حقه ومعاملته بحكم عدله له لما له في ذلك من الحكمة فإذا أراد العبد منه معاملته بحكم الفضل دخل في نوع معارضة وكأن الراجي تعلق قلبه بما يعارض تصرف المالك فى ملكه وذلك ينافي حكم استسلامه وانقياده وانطراحه بين يدى ربه مستسلما لما يحكم به فيه فرجاؤه معارض لحكمه وإرادته ووقوف مع مراده من سيده وذلك يعارض مراد سيده(2/37)
منه والمحب الصادق من فني بمراد محبوبه عن مراده منه ولو كان فيه تعذيبه
وأما وجه الاعتراض: فهو أن القلب إذا تعلق بالرجاء ولم يظفر بمرجوه: اعترض حيث لم يحصل له مرجوه ولم يظفر به وإن ظفر به: اعترض حيث فاته غيره ذلك المرجو لأن كل أحد يرجو فضل الله ويحدث نفسه به وفيه وجه آخر من الاعتراض: وهو أن يعترض على ربه تعالى بما يرجو منه لأن الراجي متمن لما يرجو مؤثر له وذلك اعتراض على القدر مناف لكمال الاستسلام والرضى بما سبق به القضاء فإذا تيقن له أنه سبق القضاء بشيء فإنه لابد أن يناله فعلق قلبه برجاء شيء من الفضل فقد اعترض على القضاء ولم يعرف للاستسلام للحكم حقه وذلك وقوع في الرعونة في مذهب السائرين على درب الفناء الناظرين إلى عين الجمع إذ الرعونة هي الوقوف مع حظ النفس والرجاء هو الوقوف مع الحظ لأنه يتعلق بالحظوظ وأصحاب هذه الطريقة أول طريقهم: الخروج عن نفوسهم فضلا عن حظوظها لأنهم عاملون على أن يكونوا بالله لا بنفوسهم فغاية المحب: أن يرضى بأحكام محبوبه عليه ساءته أم سرته حتى يبلغ بأحدهم هذا الحال إلى أن ينشد:
أحبك لا أحبك للثواب ... ولكني أحبك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
ولو كان نفس تلذذه بالعذاب مقصوده من العذاب: لكان أيضا واقفا مع حظه ولكن أراد أن رضاه بمراد محبوبه منه ولو كان عذابه لم يدع فيه للرجاء موضعا ولا للخوف بل يقول: أنا أحب ما تريده بي لو أنه عذابي وقد كشف بعض المغرورين عن هذا بقوله:(2/38)
وتعذيبي مع الهجران عندي ... أحب إلي من طيب الوصال
لأني في الوصال عبيد حظي ... وفي الهجران عبد للموالي
فأخبر أن التعذيب بالهجران أحب إليه من طيب الوصال لكون الوصال فيه ما تشتهيه النفس وأما التعذيب: فليس للنفس فيه مقصود ثم أخبر أنه لم يأت في القرآن والسنة إلا لفائدة واحدة وهي تبريده لحرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى الإياس وهذا وجه كلامه وحمله على أحسن المحامل فيقال: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة الإخلاص وتجريد التوحيد ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس
إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بهم مطلقا وهذا عدوان وإسراف فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها(2/39)
والطائفة الثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانها فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها واستظهروا بها في سلوكهم وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون
والطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد
وهذه الشطحات ونحوها هي التي حذر منها سادات القوم وذموا عاقبتها وتبرؤا منها حتى ذكر أبو القاسم القشيرى فى رسالته: أن أبا سليمان الداراني رؤى بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي وما كان شيء أضر علي من إشارات القوم وقال أبو القاسم: سمعت أبا سعيد الشحام يقول: رأيت أبا سهل الصعلوكي في المنام فقلت له: أيها الشيخ فقال: دع التشييخ فقلت: وتلك الأحوال فقال: لم تغن عنا شيئا فقلت: ما فعل الله بك قال: غفر لي بمسائل كانت تسأل عنها العجائز
وذكر عن الجريري: أنه رأى الجنيد في المنام بعد موته فقال: كيف حالك يا أبا القاسم فقال: طاحت تلك الإشارات وفنيت تلك العبارات وما نفعنا إلا تسبيحات كنا نقولها بالغدوات وقال أبو سليمان الداراني: تعرض علي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل: الكتاب والسنة وقال الجنيد: مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب(2/40)
الحديث لا يقتدي به في طريقنا
هذا إلى غير ذلك من الأقوال التي وردت عنهم رضي الله عنهم
فأما قوله: الرجاء أضعف منازل المريدين فليس كذلك بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [ الأحزاب: 21 ] وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي" وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " رواه مسلم وقد أخبر تعالى عن خواص عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقربون بهم إلى الله تعالى: أنهم كانوا راجين له خائفين منه فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [ الإسراء: 5957 ](2/41)
يقول تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم من دوني: هم عبادي يتقربون إلي بطاعتي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي فلماذا تدعونهم من دوني فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم: من الحب والخوف والرجاء
قوله: لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه يقال: وهو عبودية وتعلق بالله من حيث اسمه المحسن البر فذلك التعلق والتعبد بهذا الاسم والمعرفة بالله: هو الذي أوجب للعبد الرجاء من حيث يدري ومن حيث لا يدري فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات ولى من أبيات:
لولا التعلق بالرجاء تقطعت ... نفس المحب تحسرا وتمزقا
وكذاك لولا برده بحرارة ال ... كباد ذابت بالحجاب تحرقا
أيكون قط حليف حب لا يرى ... برجائه لحبيبه متعلقا
أم كلما قويت محبته له ... قوي الرجاء فزاد فيه تشوقا
لولا الرجا يحدو المطي لما سرت ... بحمولها لديارهم ترجو اللقا
وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء وكل محب راج خائف بالضرورة فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه وكذلك خوفه فإنه يخاف سقوطه من عينه وطرد محبوبه له وإبعاده واحتجابه عنه فخوفه أشد خوف ورجاؤه ذاتي للمحبة فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه وبره وإقباله عليه ونظره إليه بعين الرضى وتأهيله في محبته وغير ذلك مما(2/42)
لا حياة للمحب ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه فرجاؤه أعظم رجاء وأجله وأتمه فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه لكن خوف المحب لا يصحبه وحشه بخلاف خوف المسيء ورجاء المحب لا يصحبه علة بخلاف رجاء الأجير وأين رجاء المحب من رجاء الأجير وبينهما كما بين حاليهما
وبالجملة: فالرجاء ضرورى للمريد السالك والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه وعيب يرجو إصلاحه وعمل صالح يرجو قبوله واستقامة يرجو حصولها ودوامها وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها فكيف يكون الرجاء من أضعف منازله وهذا حاله وأما حديث المعارضة والاعتراض فباطل فإن الراجي ليس معارضا ولا معترضا بل راغبا راهبا مؤملا لفضل ربه محسن الظن به متعلق الأمل ببره وجوده عابدا له بأسمائه المحسن البر المعطي الحليم الغفور الجواد الوهاب الرزاق والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يرجوه ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به و الرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه بل هو من أقوى الأسباب ولو تضمن معارضة واعتراضا لكان ذلك في الدعاء والمسألة أولى فكان دعاء العبد ربه وسؤاله أن يهديه ويوفقه ويسدده ويعينه على طاعته ويجنبه معصيته ويغفر ذنوبه ويدخله الجنة وينجيه من النار معارضة واعتراضا لأن الداعي راج وطالب ما يرجوه فهو أولى حينئذ بالمعارضة والاعتراض(2/43)
والذي أوجب للشيخ هذا القدر: الاسترسال في القدر والفناء في شهود الحقيقة الكونية فإنه من الراسخين فيه الذين لا تأخذهم فيه لومة لائم وهو شديد فى إنكار الأسباب وهذا موضع زلت فيه أقدام أئمة أعلام
ولولا أن حق الحق أوجب من حق الخلق لكان في الإمساك فسحة ومتسع وليس في الرجاء ولا في الدعاء معارضة لتصرف المالك في ملكه فإنه إنما يرجو تصرفه في ملكه أيضا بما هو أولى وأحب الأمرين إليه فإن الفضل أحب إليه من العدل والعفو أحب إليه من الانتقام والمسامحة أحب إليه من الاستقصاء والترك أحب إليه من الاستيفاء ورحمته غلبت غضبه فالراجي علق رجاءه بتصرفه المحبوب له المرضي له فلم يوجب رجاؤه خروجه عن تصرفه في ملكه بل اقتضى عبوديته وحصول أحب التصرفين إليه وهو سبحانه وتعالى لا ينتفع باستيفاء حقه وعقوبة عبده حتى يكون رجاؤه مبطلا لذلك وإنما العبد استدعى العقوبة وأخذ الحق منه لشركه بالله وكفره به واجتهاده في غضبه ولغضبه موجبات وآثار ومقتضيات والعبد مؤثر لها ساع في تحصيلها عامل عليها بإيثاره إياها وسعيه في أسبابها فهو المهلك لنفسه وربه يحذره ويبصره ويناديه: هلم إلي أحمك وأصنك وأنجك مما تحذر وأؤمنك من كل ما تخاف وهو يأبى إلا شرودا عليه ونفارا عنه ومصالحة لعدوه ومظاهرة له على ربه متطلب لمرضاة خلقه بمساخطه رضى المخلوق آثر عنده من رضى خالقه وحقه آكد عنده من حقه وخوفه ورجاؤه وحبه في قلبه أعظم من خوفه من الله ورجائه وحبه فلم يدع لفضل ربه وكرامته وثوابه إليه طريقا بل سد دونه طرق مجاريها بجهده وأعطى بيده لعدوه فصالحه وسمع له وأطاع وانقاد إلى مرضاته فجاء من الظلم بأقبحه وأشده فهو الذي عارض مراده به منه بمراده وهواه وشهوته واعترض لمحابه ومراضيه بالدفع ولم يأذن لها في الدخول عليه فأضاع حظه وبخس حقه وظلم نفسه(2/44)
وعادى حبيبه ووالى عدوه وأسخط من حياته في رضاه وأرضى من حياته في سخطه وجاد بنفسه لعدوه وبخل بها عن حبيبه ووليه والرب تبارك وتعالى ليس له ثأر عند عبده فيدركه بعقوبته ولا يتشفى بعقابه ولا يزيد ذلك في ملكه مثقال ذرة ولا ينقص مغفرته ولو غفر لأهل الأرض كلهم لما نقص مثقال ذرة من ملكه كيف والرحمة أوسع من العقوبة وأسبق من الغضب وأغلب له وهو قد كتب على نفسه الرحمة فرجاء العبد له لا ينقص شيئا من حكمته ولا ينقص ذرة من ملكه ولا يخرجه عن كمال تصرفه ولا يوجب خلاف كمال ولا تعطيل أوصافه وأسمائه ولولا أن العبد هو الذي سد على نفسه طرق الخيرات وأغلق دونها أبواب الرحمة بسوء اختياره لنفسه: لكان ربه له فوق رجائه وفوق أمله
وأما استسلام العبد لربه واستسلامه بانطراحه بين يديه ورضاه بمواقع حكمه فيه: فما ذاك إلا رجاء منه أن يرحمه ويقيله عثرته ويعفو عنه ويقبل حسناته مع عيوب أعماله وآفاتها ويتجاوز عن سيئاته فقوة رجائه أوجبت له هذا الاستسلام والانقياد والانطراح بالباب ولا يتصور هذا بدون الرجاء ألبتة فالرجاء حياة الطلب والإرادة روحها
وأما رضاه بمراده منه وإن عذبه: فهذا هو الرعونة كل الرعونة فإن مراده سبحانه نوعان: مراد يحبه ويرضاه ويمدح فاعله ويواليه فموافقته في هذا المراد: هي عين محبته وإرادة خلافه رعونة ومعارضة واعتراض ومراد يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ويعاديه فموافقته في هذا المراد: عين مشاقته ومعاداته ومخالفته والتعرض لمقته وسخطه
فهذا الموضع موضع فرقان فالموافقة كل الموافقة معارضة هذا المراد واعتراضه بالدفع والرد بالمراد الآخر
فالعبودية الحق: معارضة مراده بمراده ومزاحمة أحكامه بأحكامه(2/45)
فاستسلامه لهذا المراد المكروه المسخوط وما يوجبه ويقتضيه: عين الرعونة والخروج عن العبودية وهو عين الدعوى الكاذبة إذ لو كان مصدر ذلك الاستسلام والموافقة وترك الاعتراض والمعارضة لكان ذلك مخصوصا بمحابه ومراضيه وأوامره التي الاستسلام لها والموافقة فيها وترك معارضتها والاعتراض عليها هو عين المحبة والموالاة
وأما الفناء بمراد ربه: فقد تقدم أن المحمود من هو ذلك: الفناء بمراده الديني الأمري لا الكوني القدري فإن الكون كله مراده القدري خيره وشره
وأما تعلق الرجاء بمراده دون مراد سيده: فهو إنما علقه بمراده المحبوب له هاربا من مراده المسخوط المكروه له وعلى تقدير أن يكون محبوبا له إذا كان انتقاما فالعفو والفضل أحب إليه منه فهو إنما علق رجاءه بأحب المرادين إليه
وأما كون الرجاء اعتراضا على ما سبق به الحكم: فليس كذلك بل تعلقا بما سبق به الحكم فإنه إنما يرجو فضلا وإحسانا ورحمة سبق بها القضاء والقدر وجعل الرجاء أحد أسباب حصولها فليس الرجاء اعتراضا على القدر ولا معارضة للقدر بل طلبا لما سبق به القدر وأما اعتراضه إذا لم يحصل له مرجوه: فهذا نقص في العبودية وجهل بحق الربوبية فإن الراجي والداعي يرجو ويدعو فضلا لا يستحقه ولا يستوجبه بمعاوضة فإن أعطيه فمحض المنة والصدقة عليه وإن منعه فلم يمنع حقا هو له فاعتراضه رعونة وجهالة ولا يلزم من فوات المرجو أو عدم حصول المدعو به في حق العبد الصادق: معارضة ولا اعتراض
وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى ثلاث خصال لأمته فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة فرضي بما أعطاه ولم يعترض فيما منعه بل رضي وسلم(2/46)
وأما كون الرجاء وقوفا مع الحظ وأصحاب هذه الطريقة قد خرجوا عن نفوسهم فكيف حظوظهم فيا لله العجب أي رعونة فيمن يجعل رجاء العبد ربه وطمعه في بره وإحسانه وفضله وسؤاله ذلك بقلبه ولسانه فإن الرجاء هو استشراف القلب لنيل ما يرجوه فإذا كان العبد دائما مستشرفا بقلبه سائلا بلسانه طالبا لفضل ربه فأي رعونة ههنا وهل الرعونة كل الرعونة إلا خلاف ذلك
ومن العجب: دعواهم خروجهم عن نفوسهم وهم أعظم الناس عبادة لنفوسهم وليس الخارج عن نفسه إلا من جعلها حبسا على مراد الله الديني الأمري النبوي وبذلها لله في إقامة دينه وتنفيذه بين أهل العناد والمعارضة والبغي فانغمس فيهم يمزقون أديمه ويرمونه بالعظائم ويخيفونه بأنواع المخاوف ويتطلبون دمه بجهدهم لا تأخذه في جهادهم في الله لومة لائم يصدع بالحق عند من يخافه ويرجوه قد زهد في مدحهم وثنائهم وتعظيمهم وتشييخهم له وتقبيل يده وقضاء حوائجه يصيح فيهم بالنصائح جهارا ويعلن لهم بها ويسر لهم إسرارا قد تجرد عن الأوضاع والقيود والرسوم وتعلق بمراضي الحي القيوم مقامه ساعة في جهاد أعداء الله ورباطه ليلة على ثغر الإيمان آثر عنده وأحب إليه من فناء ومشاهدات وأحوال هي أعظم عيش النفس وأعلى قوتها وأوفر حظها ويزعم أنه قد خرج عن نفسه فكيف حظها ولعله قد خرج عن مراد ربه من عبوديته إلى عين مراده وهو حظه ولو فتش نفسه لرأى ذلك فيها عيانا وهل الرعونة كل الرعونة إلا دعواه: أنه يحب ربه لعذابه لا لثوابه وأنه إذا أحبه وأطاعه للثواب كان ذلك حظا وإيثارا لمراد النفس بخلاف ما إذا أحبه وأطاعه ليعذبه فإنه لاحظ للنفس في ذلك(2/47)
فوالله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج وماذا يلعب الشيطان بالنفوس وإن نفسا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة لمحتاجة إلى سؤال المعافاة فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين وسؤالهم ربهم على أحوال هؤلاء الغالطين الذين مرجت بهم نفوسهم ثم قايس بينهما وانظر التفاوت
فأين هذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقوله لعمه العباس رضي الله عنه: يا عباس ! يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم سل الله العافية وقوله للصديق الأكبر رضي الله عنه وقد سأله أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم وقوله لصديقة النساء وقد سألته دعاء تدعو به إن وافقت ليلة القدر فقال: قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" وقوله في دعائه الذي كان لا يدعه: وإن دعا بدعاء أردفه به: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"
وقد أثنى الله تعالى على خاصته وهم أولو الألباب بأنهم سألوه: أن يقيهم عذاب النار فقالوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [ آل عمران: 191 ] وقال لأم حبيبة لو سألت الله أن يجيرك من عذاب النار لكان خيرا لك وكان يستعيذ كثيرامن عذاب النار ومن عذاب القبر وأمر المسلمين: أن يستعيذوا في تشهدهم من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال حتى قيل: إن هذا الدعاء واجب في الصلاة لا تصح إلا به وهذا أعظم من أن نستقصيه ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده فرآه مثل الفرخ(2/48)
فقال: ما كنت تدعو به فقال: كنت أقول: "اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا" فقال: "سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا سألت الله العفو والعافية " وفي المسند عنه قال: ما سئل الله شيئا أحب إليه من سؤال العفو والعافية وقال لبعض أصحابه: ما تقول إذا صليت فقال: أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا حولها ندندن
فأين هذا من حال من قال: لا أحبك لثوابك لأنه عين حظي وإنما أحبك لعقابك لأنه لاحظ لي فيه والرجاء عين الحظ ونحن قد خرجنا عن نفوسنا فما لنا وللرجاء فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم: إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوبا على عقله كالسكران ونحوه ولا تهدر محاسنه ومعاملاته وأحواله وزهده
ولكن الذي ينكر كون هذا من الأحوال الصحيحة والمقامات العلية التي يتعاطاها العبد ويشمر إليها فهذا الذي لا تلبس عليه الثياب ولا تصبر عليه نفوس العلماء وحاشا سادات القوم وأئمتهم من هذه الرعونات بل هم أبعد الناس منها نعم قد يعرض لأحدهم حال يحدث نفسه فيه بأنه لو عذبه لكان راضيا بعذابه كرضى صاحب الثواب بثوابه ويعزم على ذلك بقلبه ولكن هذا عزم وأمنية وعند الحقيقة لا يكون لذلك أثر ألبتة ولو امتحنه بأدنى محنة لصاح واستغاث وسأل العافية كما جرى للقائل وهو سمنون(2/49)
وليس لي من هواك بد ... فكيفما شئت فامتحني
فامتحنه بعسر البول فطاحت هذه الدعوى عنه واضمحل حالها وجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب فالعزم على الرضى لون وحقيقته لون آخر
وأما قوله: وإنما نطق به التنزيل لفائدة وهي كونه يبرد حرارة الخوف فيقال: بل لفوائد كثيرة أخر مشاهدة منها: إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ويستشرفه من إحسانه وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه ويسألوه من فضله لأنه الملك الحق الجواد أجود من سئل وأوسع من أعطى وأحب ما إلى الجواد: أن يرجى ويؤمل ويسأل وفي الحديث: من لم يسأل الله يغضب عليه والسائل راج وطالب فمن لم يرج الله يغضب عليه
فهذه فائدة أخرى من فوائد الرجاء وهي التخلص به من غضب الله ومنها: أن الرجاء حاد يحدو به في سيره إلى الله ويطيب له المسير ويحثه عليه ويبعثه على ملازمته فلولا الرجاء لما سار أحد فإن الخوف وحده لا يحرك العبد وإنما يحركه الحب ويزعجه الخوف ويحدوه الرجاء
ومنها: أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة ويلقيه في دهليزها فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبا لله تعالى وشكرا له ورضى به وعنه ومنها: أنه يبعثه على أعلى المقامات وهو مقام الشكر الذي هو خلاصة العبودية فإنه إذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره ومنها: أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها والتعلق بها فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى متعبدبها وداع بها قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [ الأعراف: 180 ] فلا ينبغي أن يعطل دعاؤه بأسمائه الحسنى التي(2/50)
هي أعظم ما يدعو بها الداعي فالقدح في مقام الرجاء تعطيل لعبودية هذه الأسماء وتعطيل للدعاء بها ومنها: أن المحبة لا تنفك عن الرجاء كما تقدم فكل واحد منهما يمد الآخر ويقويه
ومنها: أن الخوف مستلزم للرجاء والرجاء مستلزم للخوف فكل راج خائف وكل خائف راج ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [ نوح: 13 ] قال كثير من المفسرين: المعنى مالكم لا تخافون لله عظمة قالوا: والرجاء بمعنى الخوف 2 والتحقيق: أنه ملازم له فكل راج خائف من فوات مرجوه والخوف بلا رجاء يأس وقنوط وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [ الجاثيه: 14 ] قالوا في تفسيرها: لا يخافون وقائع الله بهم كوقائعه بمن قبلهم من الأمم ومنها: أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه فأعطاه ما رجاه: كان ذلك ألطف موقعا وأحلى عند العبد وأبلغ من حصول ما لم يرجه وهذا أحد الأسباب والحكم في جعل المؤمنين بين الرجاء والخوف في هذه الدار فعلى قدر رجائهم وخوفهم يكون فرحهم في القيامة بحصول مرجوهم واندفاع مخوفهم
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته: من الذل والانكسار والتوكل والاستعانة والخوف والرجاء والصبر والشكر والرضى والإنابة وغيرها ولهذا قدر عليه الذنب وابتلاه به لتكمل مراتب عبوديته بالتوبة التي هي من أحب عبوديات عبده إليه فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف
ومنها: أن في الرجاء من الانتظار والترقب والتوقع لفضل الله ما يوجب تعلق القلب بذكره ودوام الالتفات إليه بملاحظة أسمائه وصفاته وتنقل القلب في رياضها الأنيقة وأخذه بنصيبه من كل اسم وصفة كما تقدم بيانه فإذا فني عن(2/51)
ذلك وعاب عنه فاته حظه ونصيبه من معاني هذه الأسماء والصفات
إلى فوائد أخرى كثيرة يطالعها من أحسن تأمله وتفكره في استخراجها وبالله التوفيق
والله يشكر لشيخ الإسلام سعيه ويعلي درجته ويجزيه أفضل جزائه ويجمع بيننا وبينه في محل كرامته فلو وجد مريده سعة وفسحة في ترك الاعتراض عليه واعتراض كلامه لما فعل كيف وقد نفعه الله بكلامه وجلس بين يديه مجلس التلميذ من أستاذه وهو أحد من كان على يديه فتحه يقظة ومناما
وهذا غاية جهد المقل في هذا الموضع فمن كان عنده فضل علم فليجد به أو فليعذر ولا يبادر إلى الإنكار فكم بين الهدهد ونبي الله سليمان وهو يقول له: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [ النمل: 22 ] وليس شيخ الإسلام أعلم من نبي الله ولا المعترض
فصل قال صاحب المنازل الرجاء على ثلاث درجات الدرجة الأولى:
رجاء يبعث العامل على الاجتهاد ويولد التلذذ بالخدمة ويوقظ الطباع للسماحة بترك المناهي أي ينشطه لبذل جهده لما يرجوه من ثواب ربه فإن من عرف قدر مطلوبه هان عليه ما يبذل فيه
وأما توليده للتلذذ بالخدمة: فإنه كلما طالع قلبه ثمرتها وحسن عاقبتها التذ بها وهذا كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره ويقاسي مشاق السفر لأجلها فكلما صورها لقلبه هانت عليه تلك المشاق والتذ بها وكذلك المحب الصادق الساعي في مراضي محبوبه الشاقة عليه كلما تأمل ثمرة رضاه عنه وقبوله سعيه وقربه منه: تلذذ بتلك المساعي وكلما قوى علم العبد بإفضاء ذلك السبب إلى عليه بأجهل من هدهد وبالله المستعان وهو أعلم
فصل قال صاحب المنازل قدس الله روحه: الرجاء على ثلاث درجات الدرجة
الأولى: رجاء يبعث العامل على الاجتهاد ويولد التلذذ بالخدمة ويوقظ الطباع للسماحة بترك المناهي أي ينشطه لبذل جهده لما يرجوه من ثواب ربه فإن من عرف قدر مطلوبه هان عليه ما يبذل فيه وأما توليده للتلذذ بالخدمة: فإنه كلما طالع قلبه ثمرتها وحسن عاقبتها التذ بها وهذا كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره ويقاسي مشاق السفر لأجلها فكلما صورها لقلبه هانت عليه تلك المشاق والتذ بها وكذلك المحب الصادق الساعي في مراضي محبوبه الشاقة عليه كلما تأمل ثمرة رضاه عنه وقبوله سعيه وقربه منه: تلذذ بتلك المساعي وكلما قوى علم العبد بإفضاء ذلك السبب إلى(2/52)
المسبب المطلوب وقوي علمه بقدر المسبب وقرب السبب منه: ازداد التذاذا بتعاطيه وأما إيقاظ الطباع للسماحة بترك المناهي: فإن الطباع لها معلوم ورسوم تتقاضاها من العبد ولا تسمح له بتركها إلا بعوض هو أحب إليها من معلومها ورسومها وأجل عندها منه وأنفع لها فإذا قوي تعلق الرجاء بهذا العوض الأفضل الأشرف: سمحت الطباع بترك تلك الرسوم وذلك المعلوم فإن النفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليها منه أو حذرا من مخوف هو أعظم مفسدة لها من حصول مصلحتها بذلك المحبوب وفي الحقيقة ففرارها من ذلك المخوف إيثار لضده المحبوب لها فما تركت محبوبا إلا لما هو أحب إليها منه فإن من قدم إليه طعام لذيذ يضره ويوجب له السقم فإنما يتركه محبة للعافية التي هي أحب إليه من ذلك الطعام
قال: الدرجة الثانية: رجاء أرباب الرياضات: أن يبلغوا موقفا تصفو فيه همهم برفض الملذوذات ولزوم شروط العلم واستقصاء حدود الحمية أرباب الرياضات: هم المجاهدون لأنفسهم بترك مألوفاتها والاستبدال بها مألوفات هي خير منها وأكمل فرجاؤهم أن يبلغوا مقصودهم بصفاء الوقت والهمة من تعلقها بالملذوذات وتجريد الهم عن الالتفات إليها وبلزوم شروط العلم وهو الوقوف عند حدود الأحكام الدينية فإن رجاءهم متعلق بحصول ذلك لهم واستقصاء حدود الحمية
و الحمية العصمة والامتناع من تناول ما يخشى ضرره آجلا أو عاجلا وله حدود متى خرج العبد عنها انتقض عليه مطلوبه والوقوف على حدودها بلزوم شروط العلم
والاستقصاء في تلك الحدود بأمرين: بذل الجهد في معرفتها علما وأخذ النفس بالوقوف عندها طلبا وقصدا(2/53)
قال: الدرجة الثالثة: رجاء أرباب القلوب وهو رجاء لقاء الخالق الباعث على الاشتياق المبغض المنغص للعيش المزهد في الخلق هذا الرجاء أفضل أنواع الرجاء وأعلاها قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [ الكهف: 110 ] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [ العنكبوت: ] وهذا الرجاء هو محض الإيمان وزبدته وإليه شخصت أبصار المشتاقين ولذلك سلاهم الله تعالى بإتيان أجل لقائه وضرب لهم أجلا يسكن نفوسهم ويطمئنها
والاشتياق هو سفر القلب في طلب محبوبه واختلف المحبون: هل يبقى عند لقاء المحبوب أم يزول على قولين فقالت طائفة: يزول لأنه إنما يكون مع الغيبة وهو سفر القلب إلى المحبوب فإذا انتهى السفر واجتمع بمحبوبه وضع عصا الاشتياق عن عاتقه وصار الاشتياق أنسا به ولذة بقربه وقالت طائفة: بل يزيد ولا يزول باللقاء قالوا: لأن الحب يقوى بمشاهدة جمال المحبوب أضعاف ما كان حال غيبته وإنما يواري سلطانه فناؤه ودهشته بمعاينة محبوبه حتى إذا توارى عنه ظهر سلطان شوقه إليه ولهذا قيل:
وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام
وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة وتوابعها في كتابنا الكبير في المحبة وفي كتاب سفر الهجرتين وسنعود إليها إذا انتهينا إلى منزلتها إن شاء الله تعالى
وقوله: المنغص للعيش فلا ريب أن عيش المشتاق منغص حتى يلقى محبوبه فهناك تقر عينه ويزول عن عيشه تنغيصه وكذلك يزهد في الخلق غاية التزهيد لأن صاحبه طالب للأنس بالله والقرب منه فهو أزهد شيء في الخلق(2/54)
إلا من أعانه على هذا المطلوب منهم وأوصله إليه فهو أحب خلق الله إليه ولا يأنس من الخلق بغيره ولا يسكن إلى سواه فعليك بطلب هذا الرفيق جهدك فإن لم تظفر به فاتخذ الله صاحبا ودع الناس كلهم جانبا
مت بداء الهوى وإلا فخاطر ... واطرق الحي والعيون نواظر
لا تخف وحشة الطريق إذا جئ ... ت وكن في خفارة الحب سائر
واصبر النفس ساعة عن سواهم ... فإذا لم تجب لصبر فصابر
وصم اليوم واجعل الفطر يوما ... فيه تلقى الحبيب بالبشر شاكر
وافطم النفس عن سواه فكل ال ... عيش بعد الفطام نحوك صائر
وتأمل سريرة القلب واستح ... ي من الله يوم تبلى السرائر
واجعل الهم واحدا يكفك الل ... ه هموما شتى فربك قادر
وانتظر يوم دعوة الخلق إلى الل ... ه ربهم من بطون المقابر
واستمع ما الذي به أنت تدعي ... به من صفات تلوح وسط المحاضر
وسمات تبدو على أوجه الخل ... ق عيانا تجلى على كل ناظر
يا أخا اللب إنما السير عزم ... ثم صبر مؤيد بالبصائر
يالها من ثلاثة من ينلها ... يرق يوم المزيد فوق المنابر
فاجتهد في الذي يقال لك ال ... بشرى بذا يوم ضرب البشائر
عمل خالص بميزان وحي ... مع سر هناك في القلب حاضر(2/55)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة
الرغبة قال الله عز وجل: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [ الأنبياء: 90 ] والفرق بين الرغبة و الرجاء أن الرجاء طمع والرغبة طلب فهي ثمرة الرجاء فإنه إذا رجا الشيء طلبه والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف فمن رجا شيئا طلبه ورغب فيه ومن خاف شيئا هرب منه(2/55)
والمقصود: أن الراجي طالب والخائف هارب قال صاحب المنازل: الرغبة: هي من الرجاء بالحقيقة لأن الرجاء طمع يحتاج إلى تحقيق والرغبة سلوك على التحقيق أي الرغبة تتولد من الرجاء لكنه طمع وهي سلوك وطلب وقوله: الرجاء طمع يحتاج إلى تحقيق أي طمع في مغيب عنه مشكوك في حصوله وإن كان متحققا في نفسه كرجاء العبد دخول الجنة فإن الجنة متحققة لا شك فيها وإنما الشك في دخوله إليها وهل يوافي ربه بعمل يمنعه منها أم لا بخلاف الرغبة فإنها لا تكون إلا بعد تحقق ما يرغب فيه فالإيمان في الرغبة أقوى منه في الرجاء فلذلك قال والرغبة سلوك على التحقيق هذا معنى كلامه وفيه نظر فإن الرغبة أيضا طلب مغيب هو على شك من حصوله فإن المؤمن يرغب في الجنة وليس بجازم بدخولها فالفرق الصحيح: أن الرجاء طمع و الرغبة طلب فإذا قوي الطمع صار طلبا
قال: والرغبة على ثلاث درجات الدرجة الأولى: رغبة أهل الخبر تتولد من العلم فتبعث على الاجتهاد المنوط بالشهود وتصون السالك عن وهن الفترة وتمنع صاحبها من الرجوع إلى غثاثة الرخص أراد بالخبر ههنا الإيمان الصادر عن الأخبار ولهذا جعل تولدها من العلم ولكن هذا الإيمان متصل بمنزلة الإحسان منه يشرف عليه ويصل إليه ولهذا قال: المنوط بالشهود أي المقترن بالشهود وذلك الشهود: هو مشهد مقام الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه ولا مشهد للعبد في الدنيا أعلى من هذا وعند كثير من الصوفية أن فوقه مشهدا أعلى منه وهو شهود الحق مع(2/56)
غيبته عن كل ما سواه وهو مقام الفناء وقد عرفت ما فيه ولو كان فوق مقام الإحسان مقام آخر لذكره النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل ولسأله جبريل عنه فإنه جمع مقامات الدين كلها في الإسلام والإيمان والإحسان نعم الفناء المحمود: هو تحقيق مقام الإحسان وهو أن يفنى بحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه وعبادته والتبتل إليه عن غيره وليس فوق ذلك مقام يطلب إلا ما هو من عوارض الطريق
قوله: وتصون السالك عن وهن الفترة أي تحفظه عن وهن فتوره وكسله الذى سببه عدم الرغبة أو قلتها وقوله: وتمنع صاحبها من الرجوع إلى غثاثه الرخص أهل العزائم بناء أمرهم على الجد والصدق فالسكون منهم إلى الرخص رجوع وبطالة
وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل ليس على إطلاقه فإن الله عز وجل يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه وفي المسند مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته فجعل الأخذ بالرخص قبالة إتيان المعاصي وجعل حظ هذا: المحبة وحظ هذا: الكراهية و ما عرض للنبي أمران إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما والرخصة أيسر من العزيمة وهكذا كان حاله في فطره وسفره وجمعه بين الصلاتين والاقتصار من الرباعية على ركعتين وغير ذلك فنقول:
الرخصة نوعان أحدهما: الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصا كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة وإن قيل لها: عزيمة باعتبار الأمر والوجوب فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة وكفطر المريض والمسافر وقصر الصلاة في السفر وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعدا وفطر الحامل والمرضع خوفا على ولديهما ونكاح الأمة خوفا من العنت ونحو ذلك فليس في(2/57)
تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته ولا يرد إلى غثاثة ولا ينقص طلبه وإرادته ألبتة فإن منها ما هو واجب كأكل الميتة عند الضرورة ومنها ما هو راجح المصلحة كفطر الصائم المريض وقصر المسافر وفطره ومنها ما مصلحته للمترخص وغيره ففيه مصلحتان قاصرة ومتعدية كفطر الحامل والمرضع ففعل هذه الرخص أرجح وأفضل من تركها النوع الثاني: رخص التأويلات واختلاف المذاهب فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة ويوهن الطلب ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص
فإن من ترخص بقول أهل مكة في الصرف وأهل العراق في الأشربة وأهل المدينة في الأطعمة وأصحاب الحيل في المعاملات وقول ابن عباس في المتعة وإباحة لحوم الحمر الأهلية وقول من جوز نكاح البغايا المعروفات بالبغاء وجوز أن يكون زوج قحبة وقول من أباح آلات اللهو والمعازف: من اليراع والطنبور والعود والطبل والمزمار وقول من أباح الغناء وقول من جوز استعارة الجواري الحسان للوطء وقول من جوز للصائم أكل البرد وقال: ليس بطعام ولا شراب وقول من جوز الأكل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس للصائم وقول من صحح الصلاة بمدهامتان بالفارسية وركع كلحظة الطرف ثم هوى من غير اعتدال وفصل بين السجدتين بارتفاع كحد السيف ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من الصلاة بحبقة وقول من جوز وطء النساء في أعجازهن ونكاح بنته المخلوقة من مائه الخارجة من صلبه حقيقة إذا كان ذلك الحمل من زني وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء فهذا الذي تنقص بترخصه رغبته ويوهن طلبه ويلقيه في غثاثة الرخص فهذا لون والأول لون قال: الدرجة الثانية: رغبة أرباب الحال وهي رغبة لا تبقي من المجهود مبذولا ولا تدع للهمة ذبولا ولا تترك غير القصد مأمولا
يعني أن الرغبة الحاصلة لأرباب الحال: فوق رغبة أصحاب الخبر لأن صاحب(2/58)
الحال كالمضطر إلى رغبته وإرادته فهو كالفراش الذي إذا رأى النور ألقى نفسه فيه ولا يبالي ما أصابه فرغبته لا تدع من مجهوده مقدورا له إلا بذله ولا تدع لهمته وعزيمته فترة ولا خمودا وعزيمته في مزيد بعدد الأنفاس ولا تترك في قلبه نصيبا لغير مقصوده وذلك لغلبة سلطان الحال وصاحب هذه الحال لا يقاومه إلا حال مثل حاله أو أقوى منه ومتى لم يصادفه حال تعارضه فله من النفوذ والتأثير بحسب حاله
قال: الدرجة الثالثة: رغبة أهل الشهود وهي تشرف يصحبه تقية تحمله عليها همة نقية لا تبقي معه من التفرق بقية يشير الشيخ بذلك إلى حالة الفناء التي يحمله عليها همة نقية من أدناس الالتفات إلى ما سوى الحق بحيث لا يبقى معه بقية من تفرقة بل قد اجتمع شاهده كله وانحصر في مشهوده وأراد بالشهود ههنا شهود الحقيقة
وقوله: تشرف أي استشرف الغيبة في الفناء ويحتمل أن يريد به تشرفا عن التفاته إلى ما سوي مشهوده
والتقية التي تصحب هذا التشرف: يحتمل أن يريد بها التقية من إظهار الناس على حاله وإطلاعهم عليها صيانة لها وغيرة عليها
ويحتمل أن يريد بها الحذر من التفاته في شهوده إلى ما سوى حضرة مشهوده فهي تتقي ذلك الالتفات وتحذره كل الحذر
ثم ذكر الحامل له على هذه الرغبة وهي اللطيفة المدركة المريدة التي قد تطهرت قبل وصولها إلى هذه الغاية وهي الهمة النقية ولو لم يحصل لها كمال الطهارة لبقيت عليها بقية منها تمنعها من وصولها إلى هذه الدرجة والله سبحانه وتعالى أعلم(2/59)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرعاية وهي مراعاة
العلم وحفظه بالعمل ومراعاة العمل بالإحسان والإخلاص وحفظه من المفسدات ومراعاة الحال بالموافقة وحفظه بقطع التفريق فالرعاية صيانة وحفظ ومراتب العلم والعمل ثلاثة رواية وهي مجرد النقل وحمل المرويو دراية وهي فهمه وتعقل معناه ورعاية وهي العمل بموجب ما عمله ومقتضاه فالنقلة همتهم الرواية والعلماء همتهم الدراية والعارفون همتهم الرعاية وقد ذم الله من لم يرع ما اختاره وابتدعه من الرهبانية حق رعايته فقال تعالى {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} رهبانية منصوب بابتدعوها على الاشتغال إما بنفس الفعل المذكور على قول الكوفيين وإما بمقدر محذوف مفسر بهذا المذكور على قول البصريين أي وابتدعوا رهبانية وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه فالوقف التام عند قوله: ورحمة ثم يبتدىء ورهبانية ابتدعوها أي لم نشرعها لهم بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم ولم نكتبها عليهم وفي نصب قوله: إلا ابتغاء رضوان الله ثلاثة أوجه
أحدها: أنه مفعول له أي لم نكتبها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وهذا فاسد فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه كيف وقد أخبر: أنهم هم ابتدعوها فهي مبتدعة غير مكتوبة وأيضا فإن المفعول لأجله يجب أن يكون علة لفعل الفاعل المذكور معه فيتحد السبب والغاية نحو: قمت إكراما فالقائم هو المكرم وفعل الفاعل المعلل ههنا هو الكتابة و ابتغاء رضوان الله فعلهم لا فعل الله فلا يصلح أن يكون علة لفعل الله لاختلاف الفاعل(2/60)
وقيل: بدل من مفعول كتبناها أي ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وهو فاسد أيضا إذ ليس ابتغاء رضوان الله عين الرهبانية فتكون بدل الشيء من الشيء ولا بعضها فتكون بدل بعض من كل ولا أحدهما مشتمل على الآخر فتكون بدل اشتمال وليس بدل غلط فالصواب: أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع أي لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلا لطلب رضوان الله ودل على هذا قوله: ابتدعوها ثم ذكر الحامل لهم والباعث على ابتداع هذه الرهبانية وأنه هو طلب رضوان الله ثم ذمهم بترك رعايتها إذ من التزم لله شيئا لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب لزمه رعايته وإتمامه حتى ألزم كثير من الفقهاء من شرع في طاعة مستحبة بإتمامها وجعلوا التزامها بالشروع كالتزامها بالنذر كما قال: أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهو إجماع أو كالإجماع في أحد النسكين
قالوا: والالتزام بالشروع أقوى من الالتزام بالقول فكما يجب عليه رعاية ما التزمه بالنذر وفاء يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماما وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة
والقصد: أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله ورضيها لعباده وأذن بها وحث عليها(2/61)
فصل قال صاحب المنازل: "الرعاية: صون بالعناية وهي على ثلاث درجات
الدرجة الأولى : رعاية الأعمال
والثانية : رعاية الأحوال
والثالثة : رعاية الأوقات
فأما رعاية الأعمال: فتوفيرها بتحقيرها والقيام بها من غير نظر إليها وإجراؤها على مجرى العلم لا على التزين بها أما قوله صون بالعناية أي حفظ بالاعتناء والقيام بحق الشيء الذي يرعاه ومنه راعي الغنم وقوله أما رعاية الأعمال: فتوفيرها بتحقيرها فالتوفير: سلامة من طرفي التفريط بالنقص والإفراط بالزيادة على الوجه المشروع في حدودها وصفاتها وشروطها وأوقاتها وأما تحقيرها: فاستصغارها في عينه واستقلالها وأن ما يليق بعظمة الله وجلاله وحقوق عبوديته أمر آخر وأنه لم يوفه حقه وأنه لا يرضى لربه بعمله ولا بشيء منه
وقد قيل: علامة رضي الله عنك: إعراضك عن نفسك وعلامة قبول عملك: احتقاره واستقلاله وصغره في قلبك حتى إن العارف ليستغفر الله عقيب طاعته وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثا وأمر الله عباده بالاستغفار عقيب الحج ومدحهم على الاستغفار عقيب قيام الليل وشرع النبي صلى الله عليه وسلم عقيب الطهور التوبة والاستغفار
فمن شهد واجب ربه ومقدار عمله وعيب نفسه: لم يجد بدا من استغفار ربه منه واحتقاره إياه واستصغاره وأما القيام بها فهو توفيتها حقها وجعلها قائمة كالشهادة القائمة والصلاة القائمة والشجرة القائمة على ساقها التي ليست بساقطة(2/62)
وقوله: من غير نظر إليها أي من غير أن يلتفت إليها ويعددها ويذكرها مخافة العجب والمنة بها فيسقط من عين الله ويحبط عمله
وقوله: وإجراؤها على مجرى العلم هو أن يكون العمل على مقتضى العلم المأخوذ من مشكاة النبوة إخلاصا لله وإرادة لوجهه وطلبا لمرضاته لا على وجه التزين بها عند الناس
قال: وأما رعاية الأحوال: فهو أن يعد الاجتهاد مراءاة واليقين تشبعا والحال دعوى أي يتهم نفسه في اجتهاده: أنه راءى الناس فلا يطغى به ولا يسكن إليه ولا يعتد به وأما عده اليقين تشبعا فالتشبع: افتخار الإنسان بما لا يملكه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور وعد اليقين تشبعا: يحتمل وجهين أحدهما أن ما حصل له من اليقين لم يكن به ولا منه ولا استحقه بعوض وإنما هو فضل الله وعطاؤه ووديعته عنده ومجرد منته عليه فهو خلعة خلعها سيده عليه والعبد وخلعته ملكه وله فما للعبد في اليقين مدخل وإنما هو متشبع بما هو ملك لله وفضله ومنته على عبده والوجه الثاني: أن يتهم يقينه وأنه لم يحصل له اليقين على الوجه الذي ينبغي بل ما حصل له منه هو كالعارية لا الملك المستقر فهو متشبع بزعم نفسه بأن اليقين ملكه وله وليس كذلك وهذا لا يختص باليقين بل بسائر الأحوال فالصادق يعد صدقه تشبعا وكذا المخلص يعد إخلاصه وكذا العالم لاتهامه لصدقه وإخلاصه وعلمه وأنه لم ترسخ قدمه في ذلك ولم يحصل له فيه ملكة فهو كالمتشبع به ولما كان اليقين روح الأعمال وعمودها وذروة سنامها: خصه بالذكر تنبيها على ما دونه(2/63)
والحاصل: أنه يتهم نفسه في حصول اليقين فإذا حصل فليس حصوله به ولا منه ولا له فيه شيء فهو يذم نفسه في عدم حصوله ولا يحمدها عند حصوله وأما عد الحال دعوى: أي دعوى كاذبة اتهاما لنفسه وتطهيرا لها من رعونة الدعوى وتخليصا للقلب من نصيب الشيطان فإن الدعوى من نصيب الشيطان وكذلك القلب الساكن إلى الدعوى مأوى الشيطان أعاذنا الله من الدعوى ومن الشيطان
فصل قال: وأما رعاية الأوقات: فأن يقف مع كل خطوة ثم أن
يغيب عن حضوره بالصفاء من رسمه ثم أن يذهب عن شهود صفوه أي يقف مع حركة ظاهره وباطنه بمقدار تصحيحها نية وقصدا وإخلاصا ومتابعة فلا يخطو هجما وهمجا بل يقف قبل خطوة حتى يصحح الخطوة ثم ينقل قدم عزمه فإذا صحت له ونقل قدمه انفصل عنها وقد صحت الغيبة عن شهودها ورؤيتها فيغيب عن شهود تقدمه بنفسه فإن رسمه هو نفسه فإذا غاب عن شهود نفسه وتقدمه بها في كل خطوة فذلك عين الصفاء من رسمه الذي هو نفسه فعند ذلك يشاهد فضل ربه ولما كانت النفس محل الأكدار سمي انفصاله عنها: صفاء وهذه الأمور تستدعي لطف إدراك واستعدادا من العبد وذلك عين المنة عليه وأما ذهابه عن شهود صفوه: أي لا يستحضره في قلبه ويشهد ذلك الصفو المطلوب ويقف عنده فإن ذلك من بقايا النفس وأحكامها وهو نوع كدر فإذا تخلص من الكدر لا ينبغي له الالتفات والرجوع إليه فيصفو من الرسم ويغيب عن الصفو بمشاهدة المطلب الأعلى والمقصد الأسنى(2/64)
فصل: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المراقبة
قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [ البقره: 235 ] وقال تعالى {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} [ الأحزاب: 52 ] وقال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [ الحديد: 4 ] وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [ العلق: 14 ] وقال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [ الطور: 48 ] وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [ غافر: 19 ] إلى غير ذلك من الآيات وفي حديث جبريل عليه السلام: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال له: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل البدايات فكيف بحال المريدين فكيف بحال العارفين
قال الجريري: من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة: لم يصل إلى الكشف والمشاهدة وقيل: من راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه
وقيل لبعضهم: متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة فقال: إذا علم أن عليه رقيبا وقال الجنيد: من تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير وقال ذو النون: علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله وتعظيم ما عظم الله وتصغير ما صغر الله(2/65)
وقيل: الرجاء يحرك إلى الطاعة والخوف يبعد عن المعاصي والمراقبة تؤديك إلى طريق الحقائق وقيل: المراقبة مراعاة القلب لملاحظة الحق مع كل خطرة وخطوة
وقال الجريري: أمرنا هذا مبني على فصلين: أن تلزم نفسك المراقبة لله وأن يكون العلم على ظاهرك قائما
وقال إبراهيم الخواص: المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل وقيل: أفضل ما يلزم الإنسان نفسه في هذه الطريق: المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم
وقال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري: إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك
وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر: سبب لحفظها في حركات الظواهر فمن راقب الله في سره: حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته و المراقبة هي التعبد باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها: حصلت له المراقبة والله أعلم
فصل قال صاحب المنازل: المراقبة: دوام ملاحظة المقصود وهي على ثلاث
درجات الدرجة الأولى: مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام بين تعظيم مذهل ومداناة حاملة وسرور باعث فقوله: دوام ملاحظة المقصود أي دوام حضور القلب معه وقوله بين تعظيم مذهل فهو امتلاء القلب من عظمة الله عز وجل(2/66)
بحيث يذهله ذلك عن تعظيم غيره وعن الالتفات إليه فلا ينسى هذا التعظيم عند حضور قلبه مع الله بل يستصحبه دائما فإن الحضور مع الله يوجب أنسا ومحبة إن لم يقارنهما تعظيم أورثاه خروجا عن حدود العبودية ورعونة فكل حب لا يقارنه تعظيم المحبوب: فهو سببا للبعد عنه والسقوط من عينه فقد تضمن كلامه خمسة أمور: سير إلى الله واستدامة هذا السير وحضور القلب معه وتعظيمه والذهول بعظمته عن غيره
وأما قوله: ومداناة حاملة يريد دنوا وقربا حاملا على هذه الأمور الخمسة وهذا الدنو يحمله على التعظيم الذي يذهله عن نفسه وعن غيره فإنه كلما ازداد قربا من الحق ازداد له تعظيما وذهولا عن سواه وبعدا عن الخلق
وأما السرور الباعث فهو الفرحة والتعظيم واللذة التي يجدها في تلك المداناة فإن سرور القلب مع الله وفرحه به وقرة العين به لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة وليس له نظير يقاس به وهو حال من أحوال أهل الجنة حتى قال بعض العارفين: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز وجل وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضاته ومن لم يجد هذا السرور ولا شيئا منه فليتهم إيمانه وأعماله فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نورا يجد به حلاوة الإيمان وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته فذكر الذوق والوجد وعلقه بالإيمان فقال: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا" وقال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"(2/67)
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتهمه فإن الرب تعالى شكور يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول والقصد: أن السرور بالله وقربه وقرة العين به تبعث على الازدياد من طاعته وتحث على الجد في السير إليه قال: الدرجة الثانية مراقبة نظر الحق إليك برفض المعارضة بالإعراض عن الاعتراض ونقض رعونة التعرض هذه مراقبة لمراقبة الله لك فهي مراقبة لصفة خاصة معينة وهي توجب صيانة الباطن والظاهر فصيانة الظاهر: بحفظ الحركات الظاهرة وصيانة الباطن: بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة التي منها رفض معارضة أمره وخبره فيتجرد الباطن من كل شهوة وإرادة تعارض أمره ومن كل إرادة تعارض إرادته ومن كل شبهة تعارض خبره ومن كل محبة تزاحم محبته وهذه حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به وهذا هو حقيقة تجريد الأبرار المقربين العارفين وكل تجريد سوى هذا فناقص وهذا تجريد أرباب العزائم(2/68)
ثم بين الشيخ سبب المعارضة وبماذا يرفضها العبد فقال بالإعراض عن الاعتراض فإن المعارضة تتولد من الاعتراض و الاعتراض ثلاثة أنواع سارية في الناس والمعصوم من عصمه الله منها النوع الأول: الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة التي يسميها أربابها قواطع عقلية وهي في الحقيقة خيالات جهلية ومحالات ذهنية اعتراضوا بها على أسمائه وصفاته عز وجل وحكموا بها عليه ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله وأثبتوا ما نفاه ووالوا بها أعداءه ووعادوا بها أولياءه وحرفوا بها الكلم عن مواضعه ونسوا بها نصيبا كثيرا مما ذكروا به وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون
والعاصم من هذا الاعتراض: التسليم المحض للوحي فإذا سلم القلب له: رأى صحة ما جاء به وأنه الحق بصريح العقل والفطرة فاجتمع له السمع والعقل والفطرة وهذا أكمل الإيمان ليس كمن الحرب قائم بين سمعه وعقله وفطرته
النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره وأهل هذا الاعتراض: ثلاثة أنواع
أحدها: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى وتحريم ما أباحه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما أسقطه وإبطال ما صححه وتصحيح ما أبطله واعتبار ما ألغاه وإلغاء ما اعتبره وتقييد ما أطلقه وإطلاق ما قيده وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها والتحذير منها وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض وحذروا منهم ونفروا عنهم
النوع الثاني: الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله(2/69)
وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفوس الجاهلة
والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ وكل ما هم فيه فحظ ولكن حظهم حظ متضمن مخالفة مراد الله والإعراض عن دينه واعتقاد أنه قربة إلى الله فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات المعترفين بذمها المستغفرين منها المقرين بنقصهم وعيبهم وأنها منافية للدين وهؤلاء في حظوظ اتخذوها دينا وقدموها على شرع الله ودينه واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله فتولد من معقول أولئك وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة وأذواق هؤلاء خراب العالم وفساد الوجود وهدم قواعد الدين وتفاقم الأمر وكاد لولا أن الله ضمن أنه لا يزال يقوم به من يحفظه ويبين معالمه ويحميه من كيد من يكد
النوع الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله وحكموا بها بين عباده وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده
فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل: قدمنا العقل وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس: قدمنا القياس وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع: قدمنا الذوق والوجد والكشف
وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه فهؤلاء يقولون: لكم النقل ولنا العقل والآخرون يقولون: أنتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار وأولئك يقولون: أنتم أرباب الظاهر ونحن أهل الحقائق والآخرون يقولون: لكم الشرع ولنا السياسة(2/70)
فيا لها من بلية عمت فأعمت ورزية رمت فأصمت وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون وأهوية عصفت فصمت منها الآذان وعميت منها العيون عطلت لها والله معالم الأحكام كما نفيت لها صفات ذي الجلال والإكرام واستند كل قوم إلى ظلم وظلمات آرائهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم وصار لأجلها الوحي عرضة لكل تحريف وتأويل والدين وقفا على كل إفساد وتبديل النوع الرابع: الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره وهذا اعتراض الجهال وهو ما بين جلي وخفي وهو أنواع لا تحصى وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله لرأى ذلك في قلبه عيانا فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفسا قد اطمأنت إليه وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها فتلك حظها التسليم والانقياد والرضى كل الرضاء
وأما نقض رعونة التعرض فيشير به إلى معنى آخر لا تتم المراقبة عنده إلا بنقضه وهو إحساس العبد بنفسه وخواطره وأفكاره حال المراقبة والحضور مع الله فإن ذلك تعرض منه لحجاب الحق له عن كمال الشهود لأن بقاء العبد مع مداركه وحواسه ومشاعره وأفكاره وخواطره عند الحضور والمشاهدة: هو تعرض للحجاب فينبغي أن تتخلص مراقبة نظر الحق إليك من هذه الآفات وذلك يحصل بالاستغراق في الذكر فتذهل به عن نفسك وعما منك لتكون بذلك متهيئا مستعدا للفناء عن وجودك وعن وجود كل ما سوى المذكور سبحانه وهذا التهيؤ والاستعداد: لا يكون إلا بنقض تلك الرعونة والذكر يوجب الغيبة عن الحس فمن كان ذاكرا لنظر الحق إليه من إقباله عليه ثم أحس بشيء من حديث نفسه وخواطره وأفكاره: فقد تعرض واستدعى عوالم نفسه واحتجاب المذكور عنه لأن حضرة الحق تعالى لا يكون فيها غيره(2/71)
وهذه الدرجة لا يقدر عليها العبد إلا بملكة قوية من الذكر وجمع القلب فيه بكليته على الله عز وجل
فصل : قال: الدرجة الثالثة: مراقبة الأزل بمطالعة عين السبق استقبالا لعلم التوحيد ومراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد ومراقبة الإخلاص من ورطة المراقبة
قوله: مراقبة الأزل أي شهود معنى الأزل وهو القدم الذي لا أول له بمطالعة عين السبق أي بشهود سبق الحق تعالى لكل ما سواه إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء فمتى طالع العبد عين هذا السبق شهد معنى الأزل وعرف حقيقته فبدا له حينئذ علم التوحيد فاستقبله كما يستقبل أعلام البلد وأعلام الجيش ورفع له فشمر إليه وهو شهود انفراد الحق بأزليته وحده وأنه كان ولم يكن شيء غيره ألبتة وكل ما سواه فكائن بعد عدمه بتكوينه فإذا عدمت الكائنات من شهوده كما كانت معدومة في الأزل فطالع عين السبق وفني بشهود من لم يزل عن شهود من لم يكن فقد استقبل علم التوحيد وأما مراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد فقد تقدم أن ما يظهر فى الأبد: هو عين ما كان معلوما في الأزل وأنه إنما تجددت أحايينه وهي أوقات ظهوره فقد ظهرت إشارات الأزل وهي ما يشير إليه العقل بالأزلية من المقدرات العلمية على أحايين الأبد هذا معناه الصحيح عندي والقوم يريدون به معنى آخر: وهو اتصال الأبد بالأزل في الشهود وذلك بأن يطوى بساط الكائنات عن شهوده طيا كليا ويشهد استمرار وجود الحق سبحانه وحده مجردا عن كل ما سواه فيصل بهذا الشهود الأزل بالأبد ويصيران شيئا واحدا وهو دوام وجوده سبحانه بقطع النظر عن كل حادث(2/72)
والشهود الأول أكمل وأتم وهو متعلق بأسمائه وصفاته وتقدم علمه بالأشياء ووقوعها في الأبد مطابقة لعلمه الأزلي فهذا الشهود يعطي إيمانا ومعرفة وإثباتا للعلم والقدرة والفعل والقضاء والقدر
وأما الشهود الثاني: فلا يعطي صاحبه معرفة ولا إيمانا ولا إثباتا لاسم ولا صفة ولا عبودية نافعة وهو أمر مشترك يشهده كل من أقر بالصانع من مسلم وكافر فإذا استغرق في شهود أزليته وتفرده بالقدم وغاب عن الكائنات: اتصل في شهوده الأزل بالأبد فأي كبير أمر في هذا وأي إيمان ويقين يحصل به ونحن لا ننكر ذوقه ولا نقدح في وجوده وإنما نقدح في مرتبته وتفضيله على ما قبله من المراقبة بحيث يكون لخاصة الخاصة وما قبله لمن هم دونهم فهذا عين الوهم والله الموفق
فإذا اتصل في شهود الشاهد: الأزل الذي لا بداية له بالأزمنة التي يعقل لها بداية وهي أزمنة الحوادث ثم اتصل ذلك بما لا نهاية له بحيث صارت الأزمنة الثلاثة واحدا لا ماضي فيه ولا حاضر ولا مستقبل وذلك لا يكون إلا إذا شهد فناء الحوادث فناء مطلقا وعدمها عدما كليا وذلك تقدير وهمي مخالف للواقع وهو تجريد خيالي يوقع صاحبه في بحر طامس لا ساحل له وليل دامس لا فجر له
فأين هذا من مشهد تنوع الأسماء والصفات وتعلقها بأنواع الكائنات وارتباطها بجميع الحادثات وإعطاء كل اسم منها وصفة حقها من الشهود والعبودية والنظر إلى سريان آثارها في الخلق والأمر والعالم العلوي والسفلي والظاهر والباطن ودار الدنيا ودار الآخرة وقيامه بالفرق والجمع في ذلك علما ومعرفة وحالا ! والله المستعان
قوله: ومراقبة الإخلاص من ورطة المراقبة يشير إلى فناء شهود المراقب عن نفسه وما منها وأنه يفني بمن يراقبه عن(2/73)
نفسه وما منها فإذا كان باقيا بشهود مراقبته: فهو في ورطتها لم يتخلص منها لأن شهود المراقبة لا يكون إلا مع بقائه والمقصود: إنما هو الفناء والتخلص من نفسه ومن صفاتها وما منها
وقد عرفت أن فوق هذا درجة أعلى منه وأرفع وأشرف وهي مراقبة مواقع رضى الرب ومساخطه في كل حركة والفناء عما يسخطه بما يحب والتفرق له وبه وفيه ناظرا إلى عين جمع العبودية فانيا عن مراده من ربه مهما ولو علا بمراد ربه منه والله سبحانه وتعالى أعلم(2/74)
فصل: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة تعظيم حرمات الله عز وجل
قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [ الحج: 30 ] قال جماعة من المفسرين حرمات الله ههنا مغاضبه وما نهى عنه و تعظيمها ترك ملابستها قال الليث: حرمات الله: ما لا يحل انتهاكها وقال قوم: الحرمات: هي الأمر والنهي وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقال قوم: الحرمات ههنا المناسك ومشاعر الحج زمانا ومكانا والصواب: أن الحرمات تعم هذا كله وهي جمع حرمة وهي ما يجب احترامه وحفظه: من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن فتعظيمها: توفيتها حقها وحفظها من الإضاعة
قال صاحب المنازل:
الحرمة: هي التحرج عن المخالفات والمجاسرات التحرج الخروج من حرج المخالفة وبناء تفعل يكون للدخول في الشيء كتمني إذا دخل في الأمنية وتولج في الأمر: دخل فيه ونحوه وللخروج منه كتحرج وتحوب وتأثم إذا أراد الخروج من الحرج والحوب: هو الإثم(2/74)
أراد أن الحرمة هي الخروج من حرج المخالفة وجسارة الإقدام عليها ولما كان المخالف قسمين جاسرا وهائبا قال عن المخالفات والمجاسرات: قال: هي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: تعظيم الأمر والنهي لا خوفا من العقوبة فتكون خصومة للنفس ولا طلبا للمثوبة فيكون مستشرفا للأجرة ولا مشاهدا لأحد فيكون متزينا بالمراءاة فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس هذا الموضع يكثر في كلام القوم والناس بين معظم له ولأصحابه معتقد أن هذا أرفع درجات العبودية: أن لا يعبد الله ويقوم بأمره ونهيه خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه فإن هذا واقف مع غرضه وحظ نفسه وأن المحبة تأبى ذلك فإن المحب لا حظ له مع محبوبه فوقوفه مع حظه علة في محبته وأن طمعه في الثواب: تطلع إلى أنه يستحق بعمله على الله تعالى أجرة ففي هذا آفتان: تطلعه إلى الأجرة وإحسان ظنه بعمله إذ تطلعه إلى استحقاقه الأجر وخوفه من العقاب: خصومة للنفس فإنه لا يزال يخاصمها إذا خالفت ويقول: أما تخافين النار وعذابها وما أعد الله لأهلها فلا تزال الخصومة بذلك بينه وبين نفسه ومن وجه آخر أيضا: وهو أنه كالمخاصم عن نفسه الدافع عنها خصمه الذي يريد هلاكه وهو عين الاهتمام بالنفس والالتفات إلى حظوظها مخاصمة عنها واستدعاء لما تلتذ به
ولا يخلصه من هذه المخاصمة وذلك الاستشراف: إلا تجريد القيام بالأمر والنهي من كل علة بل يقوم به تعظيما للآمر الناهي وأنه أهل أن يعبد وتعظم حرماته فهو يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته كما في الأثر الإسرائيلي لو لم أخلق جنة ولا نارا أما كنت أهلا أن أعبد ومنه قول القائل:(2/75)
هب البعث لم تأتنا رسله ... وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستح ... ق على ذي الورى الشكر للمنعم
فالنفوس العلية الزكية تعبده لأنه أهل أن يعبد ويجل ويحب ويعظم فهو لذاته مستحق للعبادة قالوا: ولا يكون العبد كأجير السوء إن أعطى أجره عمل وإن لم يعط لم يعمل فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة قالوا: والعمال شاخصون إلى منزلتين: منزلة الآخرة ومنزلة القرب من المطاع قال تعالى في حق نبيه داود {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ ص: 25 ] فالزلفى منزلة القرب وحسن المآب: حسن الثواب والجزاء وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [ يونس: 26 ] ف الحسنى الجزاء و الزيادة منزلة القرب ولهذا فسرت بالنظر إلى وجه الله عز وجل وهذان هما اللذان وعدهما فرعون للسحرة إن غلبوا موسى فقالوا له: إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال: نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ الأعراف: 11311 وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [ التوبه: 72 ]
قالوا: والعارفون عملهم على المنزلة والدرجة والعمال عملهم على الثواب والأجرة وشتان ما بينهما
فصل وطائفة ثانية تجعل هذا الكلام من شطحات القوم ورعوناتهم وتحتج
بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين ودعائهم وسؤالهم والثناء عليهم بخوفهم من النار ورجائهم للجنة كما قال تعالى في حق خواص عباده الذين عبدهم المشركون: إنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه كما تقدم وقال عن أنبيائه ورسله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} إلى أن قال {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي(2/76)
الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [ الأنبياء: 8990 أي رغبا فيما عندنا ورهبا من عذابنا والضمير في قوله: إنهم عائد على الأنبياء المذكورين في هذه السورة عند عامة المفسرين والرغب والرهب رجاء الرحمة والخوف من النار عندهم أجمعين وذكر سبحانه عباده الذين هم خواص خلقه وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم وجعل منها: استعاذتهم به من النار فقال تعالى: والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقراومقاما [ الفرقان: 6566 ] وأخبر عنهم: أنهم توسلوا إليه بإيمانهم أن ينجيهم من النار فقال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [ آل عمران: 16 ] فجعلوا أعظم وسائلهم إليه: وسيلة الإيمان وأن ينجيهم من النار وأخبر تعالى عن سادات العارفين أولي الألباب أنهم كانوا يسألونه جنته ويتعوذون به من ناره فقال تعالى: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الآيات إلى آخرها ولا خلاف أن الموعود به على ألسنة رسله: هي الجنة التى سألوها
وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [ الشعراء: 8289 ] فسأل الله الجنة واستعاذ به من النار وهو الخزي يوم البعث وأخبرنا سبحانه عن الجنة: أنها كانت وعدا عليه مسئولا أي يسأله إياها عباده وأولياؤه(2/77)
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته: أن يسألوا له في وقت الإجابة عقيب الأذان أعلى منزلة في الجنة وأخبر: أن من سألها له حلت عليه شفاعته
وقال له سليم الأنصاري أما إني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال: أنا ومعاذ حولها ندندن وفي الصحيح في حديث الملائكة السيارة الفضل عن كتاب الناس إن الله تعالى يسألهم عن عباده وهو أعلم تبارك وتعالى فيقولون: أتيناك من عند عباد لك يهللونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك فيقول عز وجل: وهل رأوني فيقولون: لا يا رب ما رأوك فيقول عز وجل: كيف لو رأوني فيقولون: لو رأوك لكانوا لك أشد تمجيدا قالوا: يارب ويسألونك جنتك فيقول: هل رأوها فيقولون: لا وعزتك ما رأوها فيقول: فكيف لو رأوها فيقولون: لو رأوها لكانوا لها أشد طلبا قالوا: ويستعيذون بك من النار فيقول عز وجل: وهل رأوها فيقولون: لا وعزتك ما رأوها فيقول: فكيف لو رأوها فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد منها هربا فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأعذتهم مما استعاذوا منه
والقرآن والسنة مملوءان من الثناء على عباده وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها والاستعاذة من النار والخوف منها
قالوا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه :" استعيذوا بالله من النار وقال لمن سأله مرافقته في الجنة: أعني على نفسك بكثرة السجود" قالوا: والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته ليكونا دائما على ذكر منهم فلا ينسونهما ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار: هو محض الإيمان قالوا: وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه وأمته فوصفها وجلاها لهم ليخطبوها وقال:" ألا مشمر للجنة فإنها ورب الكعبة نور(2/78)
يتلألأ وريحانة تهتز وزوجة حسناء وفاكهة نضيجة وقصر مشيد ونهر مطرد الحديث فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن المشمرون لها فقال: قولوا: إن شاء الله" ولو ذهبنا نذكر ما في السنة من قوله: من عمل كذا وكذا أدخله الله الجنة تحريضا على عمله لها وأن تكون هي الباعثة على العمل: لطال ذلك جدا وذلك في جميع الأعمال قالوا: فكيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض عليه ويقول: من فعل كذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية و: من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة و: من كسا مسلما على عرى كساه الله من حلل الجنة و: عائد المريض في خرفة الجنة والحديث مملوء من ذلك أفتراه يحرض المؤمنين على مطلب معلول ناقص ويدع المطلب العالي البريء من شوائب العلل لا يحرضهم عليه
قالوا: وأيضا فالله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه جنته ويستعيذوا به من ناره فإنه يحب أن يسأل ومن لم يسأله يغضب عليه وأعظم ما سئل الجنة وأعظم ما استعيذ به من النار فالعمل لطلب الجنة محبوب للرب مرضي له وطلبها عبودية للرب والقيام بعبوديته كلها أولى من تعطيل بعضها
قالوا: وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار ورجاء هذه والهرب من هذه: فترت عزائمه وضعفت همته ووهى باعثه وكلما كان أشد طلبا للجنة وعملا لها: كان الباعث له أقوى والهمة أشد والسعي أتم وهذا أمر معلوم بالذوق
قالوا: ولو لم يكن هذا مطلوبا للشارع لما وصف الجنة للعباد وزينها لهم وعرضها عليهم وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها وما عداه أخبرهم به مجملا كل هذا تشويقا لهم إليها وحثا لهم على السعى لها سعيها(2/79)
قالوا: وقد قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} وهذا حث على إجابة هذه الدعوة والمبادرة إليها والمسارعة في الإجابة والتحقيق أن يقال: الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب والحور العين والأنهار والقصور وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل ومن أعظم نعيم الجنة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا فأيسر يسير من رضوانه: أكبر من الجنان وما فيها من ذلك كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [ التوبه: 72 ] وأتى به منكرا في سياق الإثبات أي أي شيء كان من رضاه عن عبده:
فهو أكبر من الجنة قليل منك يقنعني ... ولكن قليلك لا يقال له قليل
وفي الحديث الصحيح حديث الرؤية: "فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه" وفي حديث آخر: "أنه سبحانه إذا تجلى لهم ورأوا وجهه عيانا ": نسوا ما هم فيه من النعيم وذهلوا عنه ولم يلتفوا إليه ولا ريب أن الأمر هكذا وهو أجل مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحبة فإن المرء مع من أحب ولا تخصيص في هذا الحكم بل هو ثابت شاهدا وغائبا
فأي نعيم وأي لذة وأي قرة عين وأي فوز يداني نعيم تلك المعية ولذتها وقرة العين بها وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب الذي لا شيء أجل منه ولا أكمل ولا أجمل قرة عين ألبتة وهذا والله هو العلم الذي شمر إليه المحبون واللواء الذي أمه العارفون وهو روح مسمى الجنة وحياتها وبه طابت الجنة وعليه قامت(2/80)
فكيف يقال: لا يعبد الله طلبا لجنته ولا خوفا من ناره وكذلك النار أعاذنا الله منها فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته وغضبه وسخطه والبعد عنه: أعظم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم بل التهاب هذه النار في قلوبهم: هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم ومنها سرت إليها فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين: هو الجنة ومهربهم: من النار
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل ومقصد القوم: أن العبد يعبد ربه بحق العبودية والعبد إذا طلب من سيده أجرة على خدمته له كان أحمق ساقطا من عين سيده إن لم يستوجب عقوبته إذ عبوديته تقتضي خدمته له وإنما يخدم بالأجرة من لا عبودية للمخدوم عليه إما أن يكون حرا في نفسه أو عبدا لغيره وأما من الخلق عبيده حقا وملكه على الحقيقة ليس فيهم حر ولا عبد لغيره: فخدمتهم له بحق العبودية فاقتضاؤهم للأجرة خروج عن محض العبودية
وهذا لا ينكر على الإطلاق ولا يقبل على الإطلاق وهو موضع تفصيل وتمييز وقد تقدم في أول الكتاب: ذكر طرق الخلق في هذا الموضع وبينا طريق أهل الاستقامة فالناس في هذا المقام أربعة أقسام أحدهم: من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه فهؤلاء أعداؤه حقا وهم أهل العذاب الدائم وعدم إرادتهم لثوابه: إما لعدم تصديقهم به وإما لإيثار العاجل عليه ولو كان فيه سخطه(2/81)
والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه وهؤلاء خواص خلقه قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [ الأحزاب: 29 ] فهذا خطابه لخير نساء العالمين أزواج نبيه وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً } [ الإسراء: 19 ] فأخبر أن السعي المشكور: سعي من أراد الآخرة وأصرح منها: قوله لخواص أوليائه وهم أصحاب نبيه ورضى عنهم في يوم أحد {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما وقد غلط من قال: فأين من يريد الله فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله تعالى وثوابه فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله والقسم الثالث: من يريد من الله ولا يريد الله فهذا ناقص غاية النقص وهو حال الجاهل بربه الذي سمع: أن ثم جنة ونارا فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق لا يخطر بباله سواه ألبتة بل هذا حال أكثر المتكلمين المنكرين رؤية الله تعالى والتلذذ بالنظر إلى وجهه في الآخرة وسماع كلامه وحبه والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله وهم عبيد الأجرة المحضة فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس
ومنهم من يصرح بأن إرادة الله محال قالوا: لأن الإرادة إنما تتعلق بالحادث فالقديم لا يراد فهؤلاء منكرون لإرادة الله غاية الإنكار وأعلى الإرادة عندهم: إرادة الأكل والشرب والنكاح واللباس في الجنة وتوابع ذلك فهؤلاء في شق وأولئك الذين قالوا: لم نعبده طلبا لجنته ولا هربا من ناره في شق وهما طرفا نقيض بينهما أعظم من بعد المشرقين وهؤلاء من أكثف الناس حجابا وأغلظهم طباعا وأقساهم قلوبا وأبعدهم عن روح المحبة والتأله ونعيم الأرواح والقلوب وهم يكفرون أصحاب(2/82)
المحبة والشوق إلى الله والتلذذ بحبه والتصديق بلذة النظر إلى وجهه وسماع كلامه منه بلا واسطة
وأولئك لا يعدونهم من البشر إلا بالصورة ومرتبتهم عندهم قريبة من مرتبة الجماد والحيوان البهيم وهم عندهم في حجاب كثيف عن معرفة نفوسهم وكمالها ومعرفة معبودهم وسر عبوديته وحال الطائفتين عجب لمن اطلع عليه
والقسم الرابع وهو محال: أن يريد الله ولا يريد منه فهذا هو الذي يزعم هؤلاء: أنه مطلوبهم وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام وهو أن يكون الله مراده ولا يريد منه شيئا كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال: قبل لي: ما تريد فقلت: أريد أن لا أريد
وهذا في التحقيق عين المحال الممتنع: عقلا وفطرة وحسا وشرعا فإن الإرادة من لوازم الحي وإنما يعرض له التجرد عنها بالغيبة عن عقله وحسه كالسكر والإغماء والنوم فنحن لا ننكر التجريد عن إرادة ما سواه من المخلوقات التي تزاحم إرادتها إرادته أفليس صاحب هذا المقام مريدا لقربه ورضاه ودوام مراقبته والحضور معه وأي إرادة فوق هذه نعم قد زهد في مراد لمراد هو أجل منه وأعلا فلم يخرج عن الإرادة وإنما انتقل من إرادة إلى إرادة ومن مراد إلى مراد وأما خلوه عن صفة الإرادة بالكلية مع حضور عقله وحسه: فمحال
وإن حاكمنا في ذلك محاكم إلى ذوق مصطلم مأخوذ عن نفسه فإن عن(2/83)
عوالمها: لم ننكر ذلك لكن هذه حال عارضة غير دائمة ولا هي غاية مطلوبة للسالكين ولا مقدورة للبشر ولا مأمور بها ولا هي أعلا المقامات فيؤمر باكتساب أسبابها فهذا فصل الخطاب في هذا الموضع والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قوله: ولا مشاهدا لأحد فيكون متزينا بالمراءاة هذا فيه
تفصيل أيضا وهو أن المشاهدة في العمل لغير الله نوعان مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه فهذه مراءاة خالصة أو مشوبة كما أن المشاهدة القاطعة عنه أيضا من الآفات والحجب ومشاهدة لا تبعث عليه ولا تعين الباعث بل لا فرق عنده بين وجودها وعدمها فهذه لا تدخله في التزين بالمراءاة ولا سيما عند المصلحة الراجحة في هذه المشاهدة: إما حفظا ورعاية كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك فتكون محسنا إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص أو قصدا منك للاقتداء وتعريف الجاهل فهذا رياء محمود والله عند نية القلب وقصده فالرياء المذموم: أن يكون الباعث: قصد التعظيم والمدح والرغبة فيما عند من ترائيه أو الرهبة منه وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة وملاحظة هجوم العدو ونحو ذلك: فليس في هذه المشاهد رياء بل قد يتصدق العبد رياء مثلا وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر مثال ذلك: رجل مضرور سأل قوما ما هو محتاج إليه فعلم رجل منهم: أنه إن أعطاه سرا حيث لا يراه أحد: لم يقتد به أحد ولم يحصل له سوى تلك العطية وأنه إن أعطاه جهرا: اقتدي به واتبع وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر: إرادة سعة العطاء عليه(2/84)
من الحاضرين فهذه مراءاة محمودة حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أوجور أولئك المعطين
قوله: فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس يعني أن الخائف يشتغل بحفظ نفسه من العذاب ففيه عبادة لنفسه إذ هو متوجه إليها وطالب المثوبة متوجه إلى طلب حظ نفسه وذلك شعبة من عبوديتها والمشاهد للناس في عبادته: فيه شعبة من عبودية نفسه إذ هو طالب لتعظيمهم وثنائهم ومدحهم فهذه شعب من شعب عبودية النفس والأصل الذي هذه الشعب فروعه: هي النفس فإذا ماتت بالمجاهدة والإقبال على الله والاشتغال به ودوام المراقبة له: ماتت هذه الشعب فلا جرم أن بناء أمر هذه الطائفة على ترك عبادة النفس وقد علمت أن الخوف وطلب الثواب: ليس من عبادة النفس في شيء نعم التزين بالمراءاة عين عبادة النفس والكلام في أمر أرفع من هذا فإن حال المرائي أخس ونفسه أسقط وهمته أدنى من أن يدخل في شأن الصادقين ويذكر مع الصالحين والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل : قال صاحب المنازل: الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره وهو أن تبقى أعلام توحيد العامة الخبرية على ظواهرها ولا يتحمل البحث عنها تعسفا ولا يتكلف لها تأويلا ولا يتجاوز ظواهرها تمثيلا ولا يدعي عليها إدراكا أو توهما
يشير الشيخ رحمه الله وقدس روحه بذلك إلى أن حفظ حرمة نصوص الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أذهان العامة ولا يعني بالعامة الجهال بل عامة الأمة كما قال مالك رحمه الله وقد سئل عن قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ طه: 5 ] كيف استوى(2/85)
فأطرق مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ففرق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة وبين الكيف الذي لا يعقله البشر وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شاف عام في جميع مسائل الصفات
فمن سأل عن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [ طه: 46 ] كيف يسمع ويرى أجيب بهذا الجواب بعينه فقيل له: السمع والبصر معلوم والكيف غير معقول
وكذلك من سأل عن العلم والحياة والقدرة والإرادة والنزول والغضب والرضى والرحمة والضحك وغير ذلك فمعانيها كلها مفهومة وأما كيفيتها: فغير معقولة إذ تعقل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها فإذا كان ذلك غير معقول للبشر فكيف يعقل لهم كيفية الصفات
والعصمة النافعة في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل تثبت له الأسماء والصفات وتنفى عنه مشابهة المخلوقات فيكون إثباتك منزها عن التشبيه ونفيك منزها عن التعطيل فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل ومن شبهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثل ومن قال: استواء ليس كمثله شيء فهو الموحد المنزه وهكذا الكلام في السمع والبصر والحياة والإرادة والقدرة واليد والوجه والرضى والغضب والنزول والضحك وسائر ما وصف الله به نفسه والمنحرفون في هذا الباب قد أشار الشيخ إليهم بقوله: لا يتحمل البحث عنها تعسفا أي لا يتكلف التعسف عن البحث عن كيفياتها و التعسف سلوك غير الطريق يقال: ركب فلان التعاسيف في سيره إذا كان يسير يمينا وشمالا جائرا عن الطريق(2/86)
ولا يتكلف لها تأويلا أراد بالتأويل ههنا: التأويل الاصطلاحي وهو صرف اللفظ عن ظاهره عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح
وقد حكى غير واحد من العلماء: إجماع السلف على تركه وممن حكاه البغوى وأبو المعالي الجويني في رسالته النظامية بخلاف ما سلكه في شامله و إرشاده وممن حكاه: سعد بن علي الزنجاني وقبل هؤلاء خلائق من العلماء لا يحصيهم إلا الله
ولا يتجاوز ظاهرها تمثيلا أي لا يمثلها بصفات المخلوقين وفي قوله: لا يتجاوز ظاهرها إشارة لطيفة وهي أن ظواهرها لا تقتضي التمثيل كما تظنه المعطلة النفاة وأن التمثيل تجاوز لظواهرها إلى ما لا تقتضيه كما أن تأويلها تكلف وحمل لها على ما لا تقتضيه فهي لا تقتضي ظواهرها تمثيلا ولا تحتمل تأويلا بل إجراء على ظواهرها بلا تأويل ولا تمثيل فهذه طريقة السالكين بها سواء السبيل
وأما قوله: ولا يدعى عليها إدراكا أي لا يدعى عليها استدراكا ولا فهما ولا معنى غير فهم العامة كما يدعيه أرباب الكلام الباطل المذموم بإجماع السلف
وقوله: ولا توهما أي لا يعدل عن ظواهرها إلى التوهم و التوهم نوعان: توهم كيفية لا تدل عليه ظواهرها أو توهم معنى غير ما تقتضيه ظواهرها وكلاهما توهم باطل وهما توهم تشبيه وتمثيل أو تحريف وتعطيل وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبين مرتبته من السنة ومقداره في العلم وأنه بريء مما رماه به أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل على عادتهم في رمي أهل الحديث والسنة بذلك كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب والمعتزلة بأنهم نوابت حشوية وذلك ميراث من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه ورمي أصحابه رضي الله عنهم بأنهم صبأة قد ابتدعوا دينا محدثا وميراث لأهل(2/87)
الحديث والسنة من نبيهم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة وقدس الله روح الشافعي حيث يقول وقد نسب إلى الرفض:
إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ورضي الله عن شيخنا أبي العباس بن تيمية حيث يقول
إن كان نصبا حب صحب محمد ... فليشهد الثقلان أني ناصبي
وعفا الله عن الثالث حيث يقول
فإن كان تجسيما ثبوت صفاته ... وتنزيهها عن كل تأويل مفترى
فإني بحمد الله ربي مجسم ... هلموا شهودا واملأوا كل محضر
فصل قال: الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط: أن تشوبه جرأة وصيانة
السرور: أن يداخله أمن وصيانة الشهود: أن يعارضه سبب لما كانت هذه الدرجة عنده مختصة بأهل المشاهدة والغالب عليهم الانبساط والسرور فإن صاحبها متعلق باسمه الباسط حذره من شائبة الجرأة وهي ما يخرجه عن أدب العبودية ويدخله في الشطح كشطح من قال سبحاني ونحو ذلك من الشطحات المعروفة المخرجة عن أدب العبودية التي نهاية صاحبها: أن يعذر بزوال عقله وغلبة سكر الحال عليه فلا بد من مقارنة التعظيم والإجلال لبسط المشاهدة وإلا وقع في الجرأة ولا بد فالمراقبة تصونه عن ذلك قوله: وصيانة السرور: أن يداخله أمن(2/88)
يعني أن صاحب الانبساط والمشاهدة يداخله سرور لا يشبهه سرور ألبتة فينبغي له أن لا يأمن في هذا الحال المكر بل يصون سروره وفرحه عن خطفات المكر بخوف العاقبة المطوي عنه علم غيبها ولا يغتر وأما صيانة الشهود: أن يعارضه سبب فيريد أن صاحب الشهود: قد يكون ضعيفا في شهود حقيقة التوحيد فيتوهم أنه قد حصل له ما حصل بسبب الاجتهاد التام والعبادة الخالصة فينسب حصول ما حصل له من الشهود إلى سبب منه وذلك نقص في توحيده ومعرفته لأن الشهود لا يكون إلا موهبة ليس هو كسبيا ولو كان كسبيا فشهود سببه نقص في التوحيد وغيبة عن شهود الحقيقة ويحتمل أن يريد بالسبب المعارض للشهود: ورود خاطر على الشاهد يكدر عليه صفو شهوده فيصونه عن ورود سبب يعارضه: إما معارض إرادة أو معارض شبهة وقد يعم كلامه الأمرين والله سبحانه أعلم(2/89)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإخلاص
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [ البينة: 5 ] وقال: وقال إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص وقال: قل الله لنبيه أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ الزمر: 23 ] وقال: له {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [ الأنعام: 16216 وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [ عملا: الملك: 2 ] قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا: لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص: أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ(2/89)
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [ الكهف: 110 ] وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [ النساء: 125 ] فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله والإحسان فيه: متابعة رسوله وسنته وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [ الفرقان: 23 ] وهي الأعمال التي كانت على غير السنة أو أريد بها غير وجه الله قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله تعالى: إلا ازددت به خيرا ودرجة ورفعة وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" أي لا يبقى فيه غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة بل تنفي عنه غله وتنقيه منه وتخرجه عنه فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل وكذلك يغل على الغش وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه: بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة
و سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل: " يقاتل رياء ويقاتل شجاعة ويقاتل حمية: أي ذلك في سبيل الله فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وأخبر عن أول ثلاثة تسعر بهم النار: قارىء القرآن والمجاهد والمتصدق بماله الذين فعلوا ذلك ليقال: فلان قارىء فلان شجاع فلان متصدق ولم تكن أعمالهم خالصة لله وفي الحديث الصحيح الإلهى يقول الله تعالى: أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء(2/90)
وفي أثر آخر: يقول له يوم القيامة: اذهب فخذ أجرك ممن عملت له لا أجر لك عندنا وفي الصحيح عنه إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [ الحج: 37 ]
وفي أثر مروري إلهي: الإخلاص: سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي
وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص و الصدق والقصد واحد فقيل: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين وقيل: التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك و الصدق التنقي من مطالعة النفس فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص ولا يتمان إلا بالصبر
وقيل: من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص فنقصان كل مخلص في إخلاصه: بقدر رؤية إخلاصه فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص صار مخلصا مخلصا وقيل: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن والرياء: أن يكون ظاهره خيرا من باطنه والصدق في الإخلاص: أن يكون باطنه أعمر من ظاهره وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله ومن كلام الفضيل ترك العمل من أجل الناس: رياء والعمل من أجل الناس: شرك والإخلاص: أن يعافيك الله منهما(2/91)
قال الجنيد: الإخلاص سر بين الله وبين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله وقيل لسهل: أي شيء أشد على النفس فقال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب وقال بعضهم: الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله ولا مجازيا سواه وقال مكحول: ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا: الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر وقال أبو سليمان الداراني: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء
فصل قال صاحب المنازل الإخلاص: تصفية العمل من كل شوب
أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس: إما طلب التزين في قلوب الخلق وإما طلب مدحهم والهرب من ذمهم أو طلب تعظيمهم أو طلب أموالهم أو خدمتهم ومحبتهم وقضائهم حوائجه أو طلب محبتهم له أو غير ذلك من العلل والشوائب التي عقد متفرقاتها: هو إرادة ما سوى الله بعمله كائنا ما كان قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: إخراج رؤية العمل عن العمل والخلاص من طلب العوض على العمل والنزول عن الرضى بالعمل يعرض للعامل في عمله ثلاث آفات: رؤيته وملاحظته وطلب العوض عليه ورضاه به وسكونه إليه
ففي هذه الدرجة يتخلص من هذه البلية فالذي يخلصه من رؤية عمله: مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه له وأنه بالله لا بنفسه وأنه إنما أوجب(2/92)
عمله مشيئة الله لا مشيئته هو كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ التكوير: 29 ] فهننا ينفعه شهود الجبر وأنه آلة محضة وأن فعله كحركات الأشجار وهبوب الرياح وأن المحرك له غيره والفاعل فيه سواه وأنه ميت والميت لا يفعل شيئا وأنه لو خلي ونفسه لم يكن من فعله الصالح شيء ألبتة فإن النفس جاهلة ظالمة طبعها الكسل وإيثار الشهوات والبطالة وهي منبع كل شر ومأوى كل سوء وما كان هكذا لم يصدر منه خير ولا هو من شأنه فالخير الذي صدر منها: إنما هو من الله وبه لا من العبد ولا به كما قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [ النور: 21 ] وقال أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [ الأعراف: 43 ] وقال تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [ الإسراء: 74 ] وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية فكل خير في العبد فهو مجرد فضل الله ومنته وإحسانه ونعمته وهو المحمود عليه فرؤية العبد لأعماله في الحقيقة كرؤيته لصفاته الخلقية: من سمعه وبصره وإدراكه وقوته بل من صحته وسلامة أعضائه ونحو ذلك فالكل مجرد عطاء الله ونعمته وفضله
فالذي يخلص العبد من هذه الآفة: معرفة ربه ومعرفة نفسه والذي يخلصه من طلب العوض على العمل: علمه بأنه عبد محض والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا ولا أجرة إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه وإحسان إليه وإنعام عليه لا معاوضة إذ الأجرة إنما يستحقها الحر أو عبد الغير فأما عبد نفسه فلا والذي يخلصه من رضاه بعمله وسكونه إليه: أمران:(2/93)
أحدهما: مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره فيه وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان فقل عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب وإن قل وللنفس فيه حظ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد "
فإذا كان هذا التفات طرفه أو لحظه فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله هذا أعظم نصيب الشيطان من العبودية
وقال ابن مسعود لا يجعل أحدكم للشيطان حظا من صلاته يرى أن حقا عليه: أن لا ينصرف إلا عن يمينه فجعل هذا القدر اليسير النزر حظا ونصيبا للشيطان من صلاة العبد فما الظن بما فوقه وأما حظ النفس من العمل: فلا يعرفه إلا أهل البصائر الصادقون الثاني: علمه بما يستحقه الرب جل جلاله: من حقوق العبودية وآدابها الظاهرة والباطنة وشروطها وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقا وأن يرضى بها لربه فالعارف لا يرضى بشيء من عمله لربه ولا يرضى نفسه لله طرفة عين ويستحيي من مقابلة الله بعمله فسوء ظنه بنفسه وعمله وبغضه لها وكراهته لأنفاسه وصعودها إلى الله: يحول بينه وبين الرضى بعمله والرضى عن نفسه وكان بعض السلف يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة ثم يقبض على لحيته ويهزها ويقول لنفسه: يا مأوى كل سوء وهل رضيتك لله طرفة عين
وقال بعضهم: آفة العبد رضاه عن نفسه ومن نظر إلى نفسه باستحسانر(2/94)
شيء منها فقد أهلكها ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور
فصل : قال صاحب المنازل: الدرجة الثانية: الخجل من العمل مع بذل المجهود وتوفير الجهد بالاحتماء من الشهود ورؤية العمل في نور التوفيق من عين الجود
هذه ثلاثة أمور خجلة من عمله وهو شدة حيائه من الله إذ لم ير ذلك العمل صالحا له مع بذل مجهوده فيه قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}: أنهم إلى ربهم راجعون [ المؤمنون: 60 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه وقال بعضهم: إني لأصلي ركعتين فأقوم عنهما بمنزلة السارق أو الزاني الذي يراه الناس حياء من الله عز وجل فالمؤمن: جمع إحسانا في مخافة وسوء ظن بنفسه والمغرور: حسن الظن بنفسه مع إساءته الثاني: توفير الجهد باحتمائه من الشهود أي يأتي بجهد الطاقة في تصحيح العمل محتميا عن شهوده منك وبك الثالث: أن تحتمي بنور التوفيق الذي ينور الله به بصيرة العبد فترى في ضوء ذلك النور: أن عملك من عين جوده لا بك ولا منك فقد اشتملت هذه الدرجة على خمسة أشياء: عمل واجتهاد فيه وخجل وحياء من الله عز وجل وصيانة عن شهوده منك ورؤيته من عين جود الله سبحانه ومنه
قال: الدرجة الثالثة: إخلاص العمل بالخلاص من العمل تدعه يسير سير العلم وتسير أنت مشاهدا للحكم حرا من رق الرسم(2/95)
قد فسر الشيخ مراده بإخلاص العمل من العمل بقوله: تدعه يسير سير العلم وتسير أنت مشاهدا للحكم ومعنى كلامه: أنك تجعل عملك تابعا للعلم موافقا له مؤتما به تسير بسيره وتقف بوقوفه وتتحرك بحركته نازلا منازله مرتويا من موارده ناظرا إلى الحكم الديني الأمري متقيدا به فعلا وتركا وطلبا وهربا ناظرا إلى ترتب الثواب الثواب والعقاب عليه سببا وكسبا ومع ذلك فتسير أنت بقلبك مشاهدا للحكم الكوني القضائي الذي تنطوي فيه الأسباب والمسببات والحركات والسكنات ولا يبقى هناك غير محض المشيئة وتفرد الرب وحده بالأفعال ومصدرها عن إرادته ومشيئته فيكون قائما بالأمر والنهي: فعلا وتركا سائرا بسيره وبالقضاء والقدر: إيمانا وشهودا وحقيقة فهو ناظر إلى الحقيقة قائم بالشريعة وهذان الأمران هما عبودية هاتين الآيتين {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ التكوير: 2829 ] وقال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [ الإنسان: 2930 ]
فترك العمل يسير سير العلم: مشهد لمن شاء منكم أن يستقيم وسير صاحبه مشاهدا للحكم: مشهد وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين وأما قوله: حرا من رق الرسم فالحرية التي يشيرون إليها: هي عدم الدخول تحت عبودية الخلق والنفس والدخول تحت رق عبودية الحق وحده ومرادهم بالرسم: ما سوى الله فكله رسوم فإن الرسوم هي الآثار ورسوم المنازل والديار: هي الآثار التي تبقى بعد سكانها والمخلوقات بأسرها في منزل الحقيقة ورسوم وآثار للقدرة أي فتخلص نفسك من عبودية كل ما سوى الله وتكون بقلبك مع القادر الحق وحده لا مع آثار قدرته التي هي رسوم فلا تشتغل بغيره لتشغلها بعبوديته ولا تطلب بعبوديتك له حالا ولا مقاما ولا مكاشفة ولا شيئا سواه(2/96)
فهذه أربعة أمور: بذل الجهد وتحكيم العلم والنظر إلى الحقيقة والتخلص من الالتفات إلى غيره والله الموفق والمعين
فصل: الإخلاص عدم انقسام المطلوب و الصدق عدم انقسام الطلب فحقيقة
الإخلاص: توحيد المطلوب وحقيقة الصدق: توحيد الطلب والإرادة ولا يثمران إلا بالاستسلام المحض للمتابعة فهذه الأركان الثلاثة: هي أركان السير وأصول الطريق التي من لم يبن عليها سلوكه وسيره فهو مقطوع وإن ظن أنه سائر فسيره إما إلى عكس جهة مقصوده وإما سير المقعد والمقيد وإما سير صاحب الدابة الجموح كلما مشت خطوة إلى قدام رجعت عشرة إلى خلف فإن عدم الإخلاص والمتابعة: انعكس سيره إلى خلف وإن لم يبذل جهده ويوحد طلبه: سار سير المقيد وإن اجتمعت له الثلاثة: فذلك الذي لا يجاري في مضمار سيره وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(2/97)
فصل: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التهذيب والتصفية
وهو سبك العبودية في كير الامتحان طلبا لإخراج ما فيها من الخبث والغش قال صاحب المنازل: التهذيب: محنة أرباب البدايات وهو شريعة من شرائع الرياضة يريد: أنه صعب على المبتدي فهو له كالمحنة وطريقة للمرتاض الذي قد مرن نفسه حتى اعتادت قبوله وانقادت إليه(2/97)
قال: وهو على ثلاث درجات الأولى: تهذيب الخدمة أن لا يخالجها جهالة ولا يشوبها عادة ولا يقف عندها همة أي: تخليص العبودية وتصفيتها من هذه الأنواع الثلاثة وهي: مخالجة الجهالة وشوب العادة ووقوف همة الطالب عندها النوع الأول: مخالطة الجهال فإن الجهالة متى خالطت العبودية أوردها العبد غير موردها ووضعها في غير موضعها وفعلها في غير مستحقها وفعل أفعالا يعتقد أنها صلاح وهي إفساد لخدمته وعبوديته بأن يتحرك في موضع السكون أو يسكن فى موضع التحرك أو يفرق في موضع جمع أو يجمع في موضع فرق أو يطير في موضع سفوف أو يسف في موضع طيران أو يقدم في موضع إحجام أو يحجم في موضع إقدام أو يتقدم في موضع وقوف أو يقف في موضع تقدم ونحو ذلك من الحركات التي هي في حق الخدمة: كحركات الثقيل البغيض في حقوق الناس فالخدمة ما لم يصحبها علم ثان بآدابها وحقوقها غير العلم بها نفسها كانت في مظنة أن تبعد صاحبها وإن كان مراده بها التقرب ولا يلزم حبوط ثوابها وأجرها فهي إن لم تبعده عن الأجر والثواب أبعدته عن المنزلة والقربة ولا تنفصل مسائل هذه الجملة إلا بمعرفة خاصة بالله وأمره ومحبة تامة له ومعرفة بالنفس وما منها النوع الثاني: شوب العادة وهو أن يمازج العبودية حكم من أحكام عوائد النفس تكون منفذة لها معينة عليها وصاحبها يعتقدها قربة وطاعة كمن اعتاد الصوم مثلا وتمرن عليه فألفته النفس وصار لها عادة تتقاضاها أشد اقتضاء فيظن أن هذا التقاضي محض العبودية وإنما هو تقاضي العادة(2/98)
وعلامة هذا: أنه إذا عرض عليها طاعة دون ذلك وأيسر منه وأتم مصلحة: لم تؤثرها إيثارها لما اعتادته وألفته كما حكى عن بعض الصالحين من الصوفية قال: حججت كذا وكذا حجة على التجريد فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبا بحظي وذلك: أن والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماء فثقل ذلك على نفسي فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كان بحظ نفسي وإرادتها إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع النوع الثالث: وقوف همته عند الخدمة وذلك علامة ضعفها وقصورها فإن العبد المحض لا تقف همته عند خدمة بل همته أعلى من ذلك إذ هي طالبة لرضى مخدومه فهو دائما مستصغر خدمته له ليس واقفا عندها والقناعة تحمد من صاحبها إلا في هذا الموضع فإنها عين الحرمان فالمحب لا يقنع بشيء دون محبوبه فوقوف همة العبد مع خدمته وأجرتها: سقوط فيها وحرمان قال: الدرجة الثانية: تهذيب الحال وهو أن لا يجنح الحال إلى علم ولا يخضع لرسم ولا يلتفت إلى حظ أما جنوح الحال إلى العلم فهو نوعان: ممدوح ومذموم فالممدوح: التفاته إليه وإصغاؤه إلى ما يأمر به وتحكيمه عليه فمتى لم يجنح إليه هذا الجنوح كان حالا مذموما ناقصا مبعدا عن الله فإن كل حال لا يصحبه علم: يخاف عليه أن يكون من خدع الشيطان وهذا القدر هو الذي أفسد على أرباب الأحوال أحوالهم وعلى أهل الثغور ثغورهم وشردهم عن الله كل مشرد وطردهم عنه كل مطرد حيث لم يحكموا عليه العلم وأعرضوا عنه صفحا حتى قادهم إلى الانسلاخ من حقائق الإيمان وشرائع الإسلام
وهم الذين قال فيهم سيد الطائفة الجنيد بن محمد لما قيل له: أهل المعرفة يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد: إن هذا(2/99)
كلام قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الجوارح وهو عندي عظيمة الذي يزني ويسرق أحسن حالا من الذي يقول هذا فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها
وقال: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول
وقال: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث: لا يقتدي به في طريقنا هذا لأن طريقنا وعلمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال: علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والبلية التي عرضت لهؤلاء: أن أحكام العلم تتعلق بالعلم وتدعو إليه وأحكام الحال تتعلق بالكشف وصاحب الحال ترد عليه أمور ليست في طور العلم فإن أقام عليها ميزان العلم ومعياره تعارض عنده العلم والحال فلم يجد بدا من الحكم على أحدهما بالإبطال فمن حصلت له أحوال الكشف ثم جنح إلى أحكام العلم فقد رجع القهقرى وتأخر في سيره إلى وراء فتأمل هذا الوارد وهذه الشبهة التي هي سم ناقع: تخرج صاحبها من المعرفة والدين كإخراج الشعرة من العجين
واعلم أن المعرفة الصحيحة: هي روح العلم والحال الصحيح: هو روح العمل المستقيم فكل حال لا يكون نتيجة العمل المستقيم مطابقا للعلم: فهو بمنزلة الروح الخبيثة الفاجرة ولا ينكر أن يكون لهذه الروح أحوال لكن الشأن في مرتبة تلك الأحوال ومنازلها فمتى عارض الحال حكم من أحكام العلم فذلك الحال إما فاسد وإما ناقص ولا يكون مستقيما أبدا
فالعلم الصحيح والعمل المستقيم: هما ميزان المعرفة الصحيحة والحال الصحيح وهما كالبدنين لروحيهما(2/100)
فأحسن ما يحمل عليه قوله: أن لا يجنح الحال إلى العلم أن العلم يدعو إلى التفرقة دائما والحال يدعو إلى الجمعية والقلب بين هذين الداعيين فهو يجيب هذا مرة وهذا مرة فتهذيب الحال وتصفيته: أن يجيب داعي الحال لا داعي العلم ولا يلزم من هذا إعراضه عن العلم وعدم تحكيمه والتسليم له بل هو متعبد بالعلم محكم له مستسلم له غير مجيب لداعيه من التفرقة بل هو مجيب لداعي الحال والجمعية آخذ من العلم ما يصحح له حاله وجمعيته غير مستغرق فيه استغراق من هو مطرح همته وغاية مقصده لا مطلوب له سواه ولا مراد له إلا إياه فالعلم عنده آلة ووسيلة وطريق توصله إلى مقصده ومطلوبه فهو كالدليل بين يديه يدعوه إلى الطريق ويدله عليها فهو يجيب داعيه للدلالة ومعرفة الطريق وما في قلبه من ملاحظة مقصده ومطلبه من سيره وسفره وباعث همته على الخروج من أوطانه ومرباه ومن بين أصحابه وخلطائه الحامل له على الاغتراب والتفرد في طريق الطلب: هو المسير له والمحرك والباعث فلا يجنح عن داعيه إلى اشتغاله بجزئيات أحوال الدليل وما هو خارج عن دلالته على طريقه فهذا مقصد شيخ الإسلام إن شاء الله تعالى لا الوجه الأول والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل : وأما قوله: ولا يخضع لرسم أي لا يستولي على قلبه شيء
من الكائنات بحيث يخضع له قلبه فإن صاحب الحال: إنما يطلب الحي القيوم فلا ينبغي له أن يقف عند المعاهد والرسوم وأما قوله: ولا يلتفت إلى حظ أي إذا حصل له الحال التام: لم يشتغل بفرحه به وحظه منه واستلذاذه فإن ذلك حظ من حظوظ النفس وبقية من بقاياها(2/101)
فصل قال صاحب المنازل: الدرجة الثالثة: تهذيب القصد وهو تصفيته من ذل الإكراه وتحفظه من مرض الفتور ونصرته على منازعات العلم
هذه أيضا ثلاثة أشياء تهذب قصده تصفيه
أحدها: تصفيته من ذل الإكراه أي لا يسوق نفسه إلى الله كرها كالأجير المسخر المكلف بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعا ومحبة وإيثارا كجريان الماء في منحدره وهذه حال المحبين الصادقين فإن عبادتهم طوعا ومحبة ورضى ففيها قرة عيونهم وسرور قلوبهم ولذة أرواحهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" وكان يقول: "يا بلال أرحنا بالصلاة"
فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه: في طاعة محبوبه بخلاف المطيع كرها المتحمل للخدمة ثقلا
وفي قوله: ذل الإكراه لطيفة وهي أن المطيع كرها يرى أنه لولا ذل قهره وعقوبة سيده له لما أطاعه فهو يتحمل طاعته كالمكره الذي قد أذله مكرهه وقاهره بخلاف المحب الذي يعد طاعة محبوبه قوتا ونعيما ولذة وسرورا فهذا ليس الحامل له ذل الإكراه
والثاني: تحفظه من مرض الفتور أي توقيه من مرض فتور قصده وخمود نار طلبه فإن العزم هو روح القصد ونشاطه كالصحة له وفتوره مرض من أمراضه فتهذيب قصده وتصفيته بحميته من أسباب هذا المرض الذي هو فتوره وإنما يتحفظ منه بالحمية من أسبابه وهو أن يلهو عن الفضول من كل شيء ويحرص على ترك ما لا يعنيه ولا يتكلم إلا فيما يرجو فيه زيادة إيمانه وحاله مع الله(2/102)
ولا يصحب إلا من يعينه على ذلك فإن بلي بمن لا يعينه فليدرأه عنه ما استطاع ويدفعه دفع الصائل
الثالث: نصرة قصده على منازعات العلم ومعنى ذلك: نصرة خاطر العبودية المحضة والجمعية فيها والإقبال على الله فيها بكلية القلب على جواذب العلم والفكرة في دقائقه وتفاريع مسائله وفضلاته أو أن العلم يطلب من العبد العمل للرغبة والرهبة والثواب وخوف العقاب
فتهذيب القصد: تصفيته من ملاحظة ذلك وتجريده: أن يكون قصده وعبوديته محبة لله بلا علة وأن لا يحب الله لما يعطيه ويحميه منه فتكون محبته لله محبة الوسائل ومحبته بالقصد الأول: لما يناله من الثواب المخلوق فهو المحبوب له بالذات بحيث إذا حصل له محبوبه تسلى به عن محبة من أعطاه إياه فإن من أحبك لأمر والاك عند حصوله وملك عند انقضائه والمحب الصادق يخاف أن تكون محبته لغرض من الأغراض فتنقضي محبته عند انقضاء ذلك الغرض وإنما مراده: أن محبته تدوم لا تنقضي أبدا وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره بل يجعل ما سواه وسيلة له إلى محبوبه وهذا القدر هو الذي حام عليه القوم وداروا حوله وتكلموا فيه وشمروا إليه فمنهم من أحسن التعبير عنه ومنهم من أساء العبارة وقصده وصدقه يصلح فساد عبارته ومن الناس: من لم يفهم هذا كما ينبغي فلم يجد له ملجأ غير الإنكار والله يغفر لكل من قصده الحق واتباع مرضاته فإنه واسع المغفرة(2/103)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الاستقامة
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [ فصعلت: 30 ] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ(2/103)
{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ الأحقاف: 1314 ] وقال لرسوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [ هود: 112 ] فبين أن الاستقامة ضد الطغيان وهو مجاوزة الحدود فى كل شىء وقال تعالى: قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه [ فصعلت: 6 ] وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [ الجن: 16 ] سئل صديق الأمة وأعظمها استقامة أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئا يريد الاستقامة على محض التوحيد
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما: استقاموا أدوا الفرائض وقال الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك قال: قل آمنت بالله ثم استقم(2/104)
وفيه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن
والمطلوب من العبد الاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة فإن نزل عنها: فالتفريط والإضاعة كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال وأخبر في حديث ثوبان: أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم كالذي يرمي إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه ومع هذا فأخبرهم: أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به ولا يرى أن نجاته به بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله
فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات فالاستقامة فيها: وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطالبك بالاستقامة
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة(2/105)
فصل قال صاحب المنازل قدس الله روحه في قوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [ فصعلت: 6 ] إنه إشارة إلى عين التفريد يريد: أنه أرشدهم إلى شهود تفريده وهو أن لا يروا غير فردانيته
وتفريده نوعان: تفريد في العلم والمعرفة والشهود وتفريد في الطلب والإرادة وهما نوعا التوحيد وفي قوله: عين التفريد إشارة إلى حال الجمع وأحديته التي هي عنده فوق علمه ومعرفته لأن التفرقة قد تجامع علم الجمع وأما حاله: فلا تجامعه التفرقة والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل: قال: الاستقامة: روح تحيا به الأحوال كما تربو للعامة عليها
الأعمال وهي برزخ بين وهاد التفرق وروابي الجمع شبه الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد وكما أن حياة الأحوال بها فزيادة أعمال الزاهدين أيضا وربوها وزكاؤها بها فلا زكاء للعمل ولا صحة للحال بدونها
وأما كونها برزخا بين وهاد التفرق وروابي الجمع ف البرزخ هو الحاجز بين شيئين متغايرين و الوهاد الأمكنة المنخفضة من الأرض واستعارها للتفرق لأنها تحجب من يكون فيها عن مطالعة ما يراه من هو على الروابى كما أن صاحب التفرق محجوب عن مطالعة ما يراه صاحب الجمع ويشاهده وأيضا فإن حاله أنزل من حاله فهو كصاحب الوهاد وحال صاحب الجمع أعلى فهو كصاحب الروابي وشبه حال صاحب الجمع بحال من على الروابي(2/106)
لعلوه ولأن الروابي تكشف لمن عليها القريب والبعيد وصاحب الجمع تكشف له الحقائق المحجوبة عن صاحب التفرقة
إذا عرف هذا فمعنى كونها برزخا أن السالك يكون في أول سلوكه في أودية التفرقة سائرا إلى روابي الجمع فيستقيم في طريق سيره غاية الاستقامة ليصل باستقامته إلى روابي الجمع فاستقامته برزخ بين تلك التفرقة التي كان فيها وبين الجمع الذي يؤمه ويقصده وهذا بمنزلة تفرقة المقيم في البلد في أنواع التصرفات فإذا عزم على السفر وخرج وفارق البلد واستمر على السير: كان طريق سفره برزخا بين البلد الذي كان فيه والبلد الذي يقصده ويؤمه
فصل قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة
الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد لا عاديا رسم العلم ولا متجاوزا حد الإخلاص ولا مخالفا نهج السنة هذه درجة تتضمن ستة أمور: عملا واجتهادا فيه وهو بذل المجهود واقتصادا وهو السلوك بين طرفي الإفراط وهو الجور على النفوس والتفريط بالإضاعة ووقوفا مع ما يرسمه العلم لا وقوفا مع داعي الحال وإفراد المعبود بالإرادة وهو الإخلاص ووقوع الأعمال على الأمر وهو متابعة السنة فبهذه الأمور الستة تتم لأهل هذه الدرجة استقامتهم وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة: إما خروجا كليا وإما خروجا جزئيا والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرا وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضا عن كمال الانقياد للسنة: أخرجه عن الاعتصام بها وإن رأى فيه حرصا على السنة وشدة طلب لها: لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد فيها قائلا له: إن هذا(2/107)
خير وطاعة والزيادة والاجتهاد فيها أكمل فلا تفتر مع أهل الفتور ولا تنم مع أهل النوم فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها فيخرج عن حدها كما أن الأول خارج عن هذا الحد فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم وقراءتهم مع قراءتهم وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "يا عبد الله بن عمرو إن لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنة أفلح ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر " قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل
فكل الخير في اجتهاد باقتصاد وإخلاص مقرون بالاتباع كما قال بعض الصحابة: اقتصاد في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا أن تكون أعمالكم على منهاج الأنبياء عليهم السلام وسنتهم وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة والفتور والتواني يخرجه عنها أيضا
فصل قال: الدرجة الثانية: استقامة الأحوال وهي شهود الحقيقة لا
كسبا ورفض الدعوى لا علما والبقاء مع نور اليقظة لا تحفظا(2/108)
يعني أن استقامة الحال بهذه الثلاثة
أما شهود الحقيقة فالحقيقة حقيقتان: حقيقة كونية وحقيقة دينية يجمعهما حقيقة ثالثة وهي مصدرهما ومنشؤهما وغايتهما وأكثر أرباب السلوك من المتأخرين: إنما يريدون بالحقيقة الحقيقة الكونية وشهودها هو شهود تفرد الرب بالفعل وأن ما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله فهو كالحفير الذي هو محل لجريان الماء حسب
وعندهم أن شهود هذه الحقيقة والفناء: فيها غاية السالكين
ومنهم: من يشهد حقيقة الأزلية والدوام وفناء الحادثات وطيها في ضمن بساط الأزلية والأبدية وتلاشيها في ذلك فيشهدها معدومة ويشهد تفرد موجدها بالوجود الحق بالحق وأن وجود ما سواه رسوم وظلال
فالأول: شهد تفرده بالأفعال وهذا شهد تفرده بالوجود وصاحب الحقيقة الدينية في طور آخر فإنه في مشهد الأمر والنهي والثواب والعقاب والموالاة والمعاداة والفرق بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يبغضه ويسخطه فهو في مقام الفرق الثاني الذي لا يحصل للعبد درجة الإسلام فضلا عن مقام الإحسان إلا به
فالمعرض عنه صفحا لا نصيب له في الإسلام ألبتة وهو كالذي كان الجنيد يوصى به أصحابه فيقول: عليكم بالفرق الثاني وإنما سمى ثانيا لأن الفرق الأول: فرق بالطبع والنفس وهذا فرق بالأمر والجمع أيضا جمعان: جمع في فرق وهو جمع أهل الاستقامة والتوحيد وجمع بلا فرق وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد
فالناس ثلاثة: صاحب فرق بلا جمع فهو مذموم ناقص مخذول وصاحب جمع بلا فرق وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد فصاحبه ملحد زنديق(2/109)
وصاحب فرق وجمع يشهد الفرق في الجمع والكثرة في الوحدة فهو المستقيم الموحد الفارق وهذا صاحب الحقيقة الثالثة الجامعة للحقيقتين الدينية والكونية فشهود هذه الحقيقة الجامعة: هو عين الاستقامة
وأما شهود الحقيقة الكونية أو الأزلية والفناء فيها: فأمر مشترك بين المؤمنين والكفار فإن الكافر مقر بقدر الله وقضائه وأزليته وأبديته فإذا استغرق في هذا الشهود وفني به عن سواه: فقد شهد الحقيقة وأما قوله لا كسبا أي يتحقق عند مشاهدة الحقيقة: أن شهودها لم يكن بالكسب لأن الكسب من أعمال النفس فالحقيقة لا تبدو مع بقاء النفس إذ الحقيقة فردانية أحدية نورانية فلابد من زوال ظلمة النفس ورؤية كسبها وإلا لم يشهد الحقيقة وأما رفض الدعوى لا علما ف الدعوى نسبة الحال وغيره إلى نفسك وإنيتك فالاستقامة لا تصح إلا بتركها سواء كانت حقا أو باطلا فإن الدعوى الصادقة تطفىء نور المعرفة فكيف بالكاذبة
وأما قوله: لا علما أي لا يكون الحامل له على ترك الدعوى مجرد علمه بفساد الدعوى ومنافاتها للاستقامة فإذا تركها يكون تركها لكون العلم قد نهى عنها فيكون تاركا لها ظاهرا لا حقيقة أو تاركا لها لفظا قائما بها حالا لأنه يرى أنه قد قام بحق العلم في تركها فيتركها تواضعا بل يتركها حالا وحقيقة كما يترك من أحب شيئا تضره محبته حبه حالا وحقيقة وإذا تحقق أنه ليس له من الأمر شيء كما قال الله عز وجل لخير خلقه على الاطلاق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [ آل عمران: 128 ] ترك الدعوى شهودا وحقيقة وحالا
وأما البقاء مع نور اليقظة فهو الدوام في اليقظة وأن لا يطفىء نورها بظلمة الغفلة بل يستديم يقظته ويرى أنه في ذلك كالمجذوب المأخوذ عن نفسه حفظا من الله له لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه(2/110)
فهذه ثلاثة أمور: يقظة واستدامة لها وشهود أن ذلك بالحق سبحانه لا بك فليس سبب بقائه في نور اليقظة بحفظه بل بحفظ الله له وكأن الشيخ يشير إلى أن الاستقامة في هذه الدرجة لا تحصل بكسب وإنما هو مجرد موهبة من الله فإنه قال في الأولى: الاستقامة على الاجتهاد وفي الثانية استقامة الأحوال لا كسبا ولا تحفظا
ومنازعته في ذلك متوجهة وأن ذلك مما يمكن تحصيله كسبا بتعاطي الأسباب التي تهجم بصاحبها على هذا المقام
نعم الذي ينفي في هذا المقام: شهود الكسب وأن هذا حصل له بكسبه فنفي الكسب شيء ونفي شهوده شيء آخر
ولعل أن نشبع الكلام في هذا فيما يأتي إن شاء الله تعالى
فصل قال: الدرجة الثالثة: استقامة بترك رؤية الاستقامة وبالغيبة عن
تطلب الاستقامة بشهود إقامة وتقويمه الحق هذه الاستقامة معناها: الذهول بمشهوده عن شهوده فيغيب بالمشهود المقصود سبحانه عن رؤية استقامته في طلبه فإن رؤية الاستقامة تحجبه عن حقيقة الشهود
وأما الغيبة عن تطلب الاستقامة فهو غيبته عن طلبها بشهود إقامة الحق للعبد وتقويمه إياه فإنه إذا شهد أن الله هو المقيم له والمقوم وأن استقامته وقيامه بالله لا بنفسه ولا بطلبه: غاب بهذا الشهود عن استشعار طلبه لها
وهذا القدر من موجبات شهود معنى اسمه القيوم وهو الذي قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد وقام كل شيء به فكل ما سواه محتاج إليه بالذات وليست حاجته إليه معللة بحدوث كما يقول المتكلمون ولا بإمكان كما يقول الفلاسفة المشاءون بل حاجته إليه ذاتية وما بالذات لا يعلل(2/111)
نعم الحدوث والإمكان دليلان على الحاجة فالتعليل بهما من باب التعريف لا من باب العلل المؤثرة والله أعلم(2/112)
فصل" ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التوكل
قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [ المائده: 23 ] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [ إبراهيم: 11 ] وقال: {مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [ الطلاق: 3 ] وقال عن أوليائه: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [ الممتحنة: 4 ] وقال لرسوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [ الملك: 29 ] وقال لرسوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [ النمل: 79 ] وقال له: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [ النساء: 81 ] وقال له: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [ الفرقان: 58 ] وقال له: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [ آل عمران: 159 ] وقال عن أنبيائه ورسله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [ إبراهيم: 12 ] وقال عن أصحاب نبيه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [ آل عمران: 173 ] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [ الأنفال: 2 ]
والقرآن مملوء من ذلك وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}" [ آل عمران: 173 ](2/112)
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت: أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون"
وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعا: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا"
وفي السنن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال يعني إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: هديت ووقيت وكفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي"
التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة ومنزلته: أوسع المنازل وأجمعها ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل وكثرة حوائج العالمين وعموم التوكل ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل وإن تباين متعلق توكلهم فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وفي محابه وتنفيذ أوامره
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وحفظ حاله مع الله فارغا عن الناس
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه من رزق أو عافية أو نصر على عدو أو زوجة أو ولد ونحو ذلك
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش فإن أصحاب(2/113)
هذه المطالب لا ينالونها غالبا إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم ويظفرهم بمطالبهم فأفضل التوكل: التوكل في الواجب أعني واجب الحق وواجب الخلق وواجب النفس وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج فى مصلحة دينية أو في دفع مفسدة دينية وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض وهذا توكل ورثتهم ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم فمن متوكل على الله في حصول الملك ومن متوكل في حصول رغيف ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله فإن كان محبوبا له مرضيا كانت له فيه العاقبة المحمودة وإن كان مسخوطا مبغوضا كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه وإن كان مباحا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن به على طاعاته والله أعلم
فصل: فلنذكر معنى التوكل ودرجاته وما قيل فيه
قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب ومعنى ذلك: أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح ولا هو من باب العلوم والإدراكات
ومن الناس: من يجعله من باب المعارف والعلوم فيقول: هو علم القلب بكفاية الرب للعبد ومنهم: من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب فيقول: التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار
قال سهل: التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد(2/114)
ومنهم: من يفسره بالرضى فيقول: هو الرضى بالمقدور قال بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله يكذب على الله لو توكل على الله رضي بما يفعل الله
وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلا فقال: إذا رضي بالله وكيلا ومنهم: من يفسره بالثقة بالله والطمأنينة إليه والسكون إليه
قال ابن عطاء: التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقتك إليها ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها قال ذو النون: هو ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة وإنما يقوي العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه
وقال بعضهم: التوكل التعلق بالله في كل حال وقيل: التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات فلا تسمو إلا إلى من إليه الكفايات
وقيل: نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك وقال ذو النون: خلع الأرباب وقطع الأسباب يريد قطعها من تعلق القلب بها لا من ملابسة الجوارح لها ومنهم: من جعله مركبا من أمرين أو أمور فقال أبو سعيد الخراز: التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب يريد: حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن وسكون إلى المسبب وركون إليه ولا يضطرب قلبه معه ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه
وقال أبو تراب النخشبي: هو طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إلى الكفاية فإن أعطى شكر وإن منع صبر فجعله مركبا من خمسة أمور: القيام بحركات العبودية وتعلق القلب بتدبير(2/115)
الرب وسكونه إلى قضائه وقدره وطمأنينته وكفايته له وشكره إذا أعطى وصبره إذا منع قال أبو يعقوب النهرجوري: التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام: أما إليك فلا لأنه غائب عن نفسه بالله فلم ير مع الله غير الله
وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد
قال سهل بن عبدالله: من طعن في الحركة فقد طعن في السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم والكسب سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته وهذا معنى قول أبي سعيد: هو اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب وقول سهل أبين وأرفع وقيل: التوكل قطع علائق القلب بغير الله وسئل سهل عن التوكل فقال: قلب عاش مع الله بلا علاقة وقيل: التوكل هجر العلائق ومواصلة الحقائق وقيل: التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال
وهذا من موجباته وآثاره لأنه حقيقته وقيل: هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك وهذا صحيح من وجه باطل من وجه فترك الأسباب المأمور بها: قادح في التوكل وقد تولى الحق إيصال العبد بها وأما ترك الأسباب المباحة: فإن تركها لما هو أرجح منها مصلحة فممدوح وإلا فهو مذموم وقيل: هو إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية(2/116)
يريد: استرسالها مع الأمر وبراءتها من حولها وقوتها وشهود ذلك بها بل بالرب وحده ومنهم: من قال: التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه ومنهم من قال: هو التفويض إليه في كل حال ومنهم: من جعل التوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية
قال أبو علي الدقاق: التوكل ثلاث درجات: التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده وصاحب التسليم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضى بحكمه فالتوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية فالتوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين
التوكل صفة العوام والتسليم صفة الخواص والتفويض صفة خاصة الخاصة التوكل صفة الأنبياء والتسليم صفة إبراهيم الخليل والتفويض صفة نبينا محمد وعليهم أجمعين هذا كله كلام الدقاق ومعنى هذا التوكل: اعتماد على الوكيل وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه وإرادة وشائبة منازعة فإذا سلم إليه زال عنه ذلك ورضي بما يفعله وكيله وحال المفوض فوق هذا فإنه طالب مريد ممن فوض إليه ملتمس منه أن يتولى أموره فهو رضى واختيار وتسليم واعتماد فالتوكل يندرج في التسليم وهو والتسليم يندرجان في التفويض والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل وحقيقة الأمر: أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة
التوكل إلا بها وكل أشار إلى واحد من هذه الأمور أو اثنين أو أكثر
فأول ذلك: معرفة بالرب وصفاته: من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء(2/117)
الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل قال شيخنا رضي الله عنه: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين: بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات
فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه ولا هو فاعل باختياره ولا له إرادة ومشيئة ولا يقوم به صفة فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف: كان توكله أصح وأقوى والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل : الدرجة الثانية: إثبات في الأسباب والمسببات فإن من نفاها
فتوكله مدخول وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي: أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل وأن نفيها تمام التوكل فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببا ولا جعل دعاءه سببا لنيل شيء فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله: إن كان قد قدر حصل توكل أو لم يتوكل دعا أو لم يدع وإن لم يقدر لم يحصل توكل أيضا أو ترك التوكل
وصرح هؤلاء: أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة لهما إلا ذلك ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدر له ومن غلاتهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطإ والنسيان عديم الفائدة إذ هو مضمون الحصول ورأيت بعض متعمقي هؤلاء في كتاب له لا يجوز الدعاء بهذا وإنما يجوزه تلاوة لا دعاء قال لأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه لأن الداعي بين الخوف والرجاء والشك في وقوع ذلك شك في خبر الله فانظر إلى ما قاد إنكار(2/118)
الأسباب من العظائم وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء به وبطلبه ولم يزل المسلمون من عهد نبيهم وإلى الآن يدعون به في مقامات الدعاء وهو من أفضل الدعوات وجواب هذا الوهم الباطل أن يقال: بقي قسم ثالث غير ما ذكرتم من القسمين لم تذكروه وهو الواقع وهو أن يكون قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب وقضى بحصوله إذا فعل العبد سببه فإذا لم يأت بالسبب امتنع المسبب وهذا كما قضى بحصول الولد إذا جامع الرجل من يحبلها فإذا لم يجامع لم يخلق الولد وقضى بحصول الشبع إذا أكل والري إذا شرب فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطريق فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات: لم يدخلها أبدا وقضى بإنضاج الطعام بإيقاد النار تحته
وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشق الأرض وإلقاء البذر فيها فما لم يأت بذلك لم يحصل إلا الخيبة فوزان ما قاله منكرو الأسباب: أن يترك كل من هؤلاء السبب الموصل ويقول: إن كان قضى لى وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج ونحوها فلا بد أن يصل إلي تحركت أو سكنت وتزوجت أو تركت سافرت أو قعدت وإن لم يكن قد قضى لي لم يحصل لي أيضا فعلت أو تركت
فهل يعد أحد هذا من جملة العقلاء وهل البهائم إلا أفقه منه فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة(2/119)
فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ولكن من تمام التوكل: عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها
فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل : الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل
فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده بل حقيقة التوكل: توحيد القلب فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول وعلى قدر تجريد التوحيد: تكون صحة التوكل فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة ومن ههنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب وهذا حق لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلق الجوارح بها فيكون منقطعا منها متصلا بها والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل : الدرجة الرابعة: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه
إليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وعلامة هذا: أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق(2/120)
عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها فحاله حال من خرج عليه عدو عظيم لا طاقة له به فرأى حصنا مفتوحا فأدخله ربه إليه وأغلق عليه باب الحصن فهو يشاهد عدوه خارج الحصن فاضطراب قلبه وخوفه من عدوه في هذه الحال لا معنى له وكذلك من أعطاه ملك درهما فسرق منه فقال له الملك: عندي أضعافه فلا تهتم متى جئت إلي أعطيتك من خزائني أضعافه فإذا علم صحة قول الملك ووثق به واطمأن إليه وعلم أن خزائنه مليئة بذلك لم يحزنه فوته وقد مثل ذلك بحال الطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره وليس في قلبه التفات إلى غيره كما قال بعض العارفين: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه
فصل الدرجة الخامسة: حسن الظن بالله عز وجل فعلى قدر حسن ظنك
بربك ورجائك له يكون توكلك عليه ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه والله أعلم
فصل الدرجة السادسة: استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه
وقطع منازعاته وبهذا فسره من قال: أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير(2/121)
وهذا معنى قول بعضهم: التوكل إسقاط التدبير يعني الاستسلام لتدبير الرب لك وهذا في غير باب الأمر والنهي بل فيما يفعله بك لا فيما أمرك بفعله
فالاستسلام كتسليم العبد الذليل نفسه لسيده وانقياده له وترك منازعات نفسه وإرادتها مع سيده والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل الدرجة السابعة: التفويض وهو روح التوكل ولبه وحقيقته وهو إلقاء
أموره كلها إلى الله وإنزالها به طلبا واختيارا لا كرها واضطرارا بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره: كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته وحسن ولايته له وتدبيره له فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه وقيامه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه وراحته من حمل كلفها وثقل حملها مع عجزه عنها وجهله بوجوه المصالح فيها وعلمه بكمال علم من فوض إليه وقدرته وشفقته
فصل: فإذا وضع قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة الرضى وهي
ثمرة التوكل ومن فسر التوكل: بها فإنما فسره بأجلع ثمراته وأعظم فوائده فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله
وكان شيخنا رضي الله عنه يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضى بعده فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية أو معنى هذا
قلت: وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم فى دعاء الاستخارة: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فهذا(2/122)
توكل وتفويض ثم قال: فإنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلا أو آجلا وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلا أو آجلا فهذا هو حاجته التي سألها فلم يبق عليه إلا الرضى بما يقضيه له فقال: واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به
فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية التي من جملتها: التوكل والتفويض قبل وقوع المقدور والرضى بعده وهو ثمرة التوكل والتفويض علامة صحته فإن لم يرض بما قضى له فتفويضه معلول فاسد
فباستكمال هذه الدرجات الثمان يستكمل العبد مقام التوكل وتثبت قدمه فيه وهذا معنى قول بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله يكذب على الله لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به وقول يحيى بن معاذ وقد سئل: متى يكون الرجل متوكلا فقال: إذا رضي بالله وكيلا
فصل وكثيرا ما يشتبه في هذا الباب المحمود الكامل بالمذموم الناقص
فيشتبه التفويض بالإضاعة فيضيع العبد حظه ظنا منه أن ذلك تفويض وتوكل وإنما هو تضييع لا تفويض فالتضييع في حق الله والتفويض في حقك
ومنه: اشتباه التوكل بالراحة وإلقاء حمل الكل فيظن صاحبه أنه متوكل وإنما هو عامل على عدم الراحة
وعلامة ذلك: أن المتوكل مجتهد في الأسباب المأمور بها غاية الاجتهاد مستريح من غيرها لتعبه بها والعامل على الراحة آخذ من الأمر مقدار ما تندفع به الضرورة وتسقط به عنه مطالبة الشرع فهذا لون وهذا لون(2/123)
ومنه: اشتباه خلع الأسباب بتعطيلها فخلعها توحيد وتعطيلها إلحاد وزندقة فخلعها عدم اعتماد القلب عليها ووثوقه وركونه إليها مع قيامه بها وتعطيلها إلغاؤها عن الجوارح
ومنه: اشتباه الثقة بالله بالغرور والعجز والفرق بينهما: أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشجرة وباذر الأرض والمغتر العاجز: قد فرط فيما أمر به وزعم أنه واثق بالله والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود
ومنه: اشتباه الطمأنينة إلى الله والسكون إليه بالطمأنينة إلى المعلوم وسكون القلب إليه ولا يميز بينهما إلا صاحب البصيرة كما يذكر عن أبي سليمان الداراني: أنه رأى رجلا بمكة لا يتناول شيئاإلا شربة من ماء زمزم فمضى عليه أيام فقال له أبو سليمان يوما: أرأيت لو غارت زمزم أي شيء كنت تشرب فقام وقبل رأسه وقال: جزاك الله خيرا حيث أرشدتني فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام ثم تركه ومضى
وأكثر المتوكلين سكونهم وطمأنينتهم إلى المعلوم وهم يظنون أنه إلى الله وعلامة ذلك: أنه متى انقطع معلوم أحدهم حضره همه وبثه وخوفه فعلم أن طمأنينته وسكونه لم يكن إلى الله
ومنه: اشتباه الرضى عن الله بكل ما يفعل بعبده مما يحبه ويكرهه بالعزم على ذلك وحديث النفس به وذلك شيء والحقيقة شيء آخر كما يحكى عن أبي سليمان أنه قال: أرجو أن أكون أعطيت طرفا من الرضى لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيا
فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا عزم منه على الرضى وحديث نفس به ولو أدخله النار لم يكن من ذلك شيء وفرق بين العزم على الشيء وبين حقيقته(2/124)
ومنه: اشتباه علم التوكل بحال المتوكل فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله فيظن أنه متوكل وليس من أهل التوكل فحال التوكل: أمر آخر من وراء العلم به وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها وحال المحب العاشق وراء ذلك وكمعرفة علم الخوف وحال الخائف وراء ذلك وهو شبيه بمعرفة المريض ماهية الصحة وحقيقتها وحاله بخلافها فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوى فيه بالحقائق والعوارض بالمطالب والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
فصل التوكل من أعم المقامات تعلقا بالأسماء الحسنى فإن له تعلقا
خاصا بعامة أسماء الأفعال وأسماء الصفات فله تعلق باسم الغفار والتواب والعفو والرؤوف والرحيم وتعلق باسم الفتاح والوهاب والرزاق والمعطي والمحسن وتعلق باسم المعز المذل الحافظ الرافع المانع من جهة توكله عليه في إذلال أعداء دينه وخفضهم ومنعهم أسباب النصر وتعلق بأسماء القدرة والإرادة وله تعلق عام بجميع الأسماء الحسنى ولهذا فسره من فسره من الأئمة بأنه المعرفة بالله وإنما أراد أنه بحسب معرفة العبد يصح له مقام التوكل وكلما كان بالله أعرف كان توكله عليه أقوى
فصل وكثير من المتوكلين يكون مغبونا في توكله وقد توكل حقيقة
التوكل وهو مغبون كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله ويمكنه نيلها بأيسر شيء وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم ونصرة الدين والتأثير في العالم خبرا فهذا توكل العاجز القاصر الهمة كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء أو جوع يمكن زواله بنصف(2/125)
رغيف أو نصف درهم ويدع صرفه إلى نصرة الدين وقمع المبتدعين وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين والله أعلم
فصل : قال صاحب المنازل: التوكل: كلة الأمر إلى مالكه والتعويل على وكالته وهو من أصعب منازل العامة عليهم وأوهى السبل عند الخاصة لأن الحق تعالى قد وكل الأمور كلها إلى نفسه وأيأس العالم من ملك شيء منها
قوله: كلة الأمر إلى مالكه أي تسليمه إلى من هو بيده والتعويل على وكالته أي الاعتماد على قيامه بالأمر والاستغناء بفعله عن فعلك وبإرادته عن إرادتك
و الوكالة يراد بها أمران أحدهما: التوكيل وهو الاستنابة والتفويض والثاني: التوكل وهو التعرف بطريق النيابة عن الموكل وهذا من الجانبين فإن الله تبارك وتعالى يوكل العبد ويقيمه في حفظ ما وكله فيه والعبد يوكل الرب ويعتمد عليه
فأما وكالة الرب عبده ففي قوله: تعالى {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [ الأنعام: ] قال قتادة: وكلنا بها الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرناهم يعني قبل هذه الآية وقال أبو رجاء العطاردي: معناه إن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملائكة وقال ابن عباس ومجاهد: هم الأنصار أهل المدينة والصواب: أن المراد من قام بها إيمانا ودعوة وجهادا ونصرة فهولاء هم الذين وكلهم الله بها فإن قلت: فهل يصح أن يقال: إن أحدا وكيل الله قلت: لا فإن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة والله عز وجل(2/126)
لا نائب له ولا يخلفه أحد بل هو الذي يخلف عبده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل على أنه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنه مأمور بحفظ ما وكله فيه ورعايته والقيام به وأما توكيل العبد ربه: فهو تفويضه إليه وعزل نفسه عن التصرف وإثباته لأهله ووليه ولهذا قيل في التوكل: إنه عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية وهذا معنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأموره ومصالحه لأنه نائبه في التصرف فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان له وخلعة منه عليه لا عن حاجة منه وافتقار إليه كموالاته وأما توكيل العبد ربه: فتسليم لربوبيته وقيام بعبوديته
وقوله وهو: من أصعب منازل العامة عليهم لأن العامة لم يخرجوا عن نفوسهم ومألوفاتهم ولم يشاهدوا الحقيقة التي شهدها الخاصة وهي التي تشهد التوكيل فهم في رق الأسباب فيصعب عليهم الخروج عنها وخلو القلب منها والاشتغال بملاحظة المسبب وحده وأما كونه أو هي السبل عند الخاصة فليس على إطلاقه بل هو من أجل السبل عندهم وأفضلها وأعظمها قدرا وقد تقدم في صدر الباب: أمر الله رسوله بذلك وحضه عليه هو والمؤمنين ومن أسمائه المتوكل وتوكله أعظم توكل وقد قال الله له: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [ النمل: 79 ] وفي ذكر أمره بالتوكل مع إخباره بأنه على الحق: دلالة على أن الدين بمجموعه في هذين الأمرين: أن يكون العبد على الحق في قوله وعمله واعتقاده ونيته وأن يكون متوكلا على الله واثقا به فالدين كله في هذين المقامين وقال رسل الله وأنبياؤه {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [ إبراهيم: 12 ] فالعبد آفته: إما من عدم الهداية وإما من عدم التوكل فإذا جمع التوكل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كله(2/127)
نعم التوكل على الله في معلوم الرزق المضمون والاشتغال به عن التوكل في نصرة الحق والدين: من أوهى منازل الخاصة أما التوكل عليه في حصول ما يحبه ويرضاه فيه وفي الخلق فهذا توكل الرسل والأنبياء عليهم السلام فكيف يكون من أوهى منازل الخاصة
قوله: لأن الحق قد وكل الأمور إلى نفسه وأيأس العالم من ملك شيء منها
جوابه: أن الذي تولى ذلك أسند إلى عباده كسبا وفعلا وإقدارا واختيارا وأمرا ونهيا استعبدهم به وامتحن به من يطيعه ممن يعصيه ومن يؤثره ممن يؤثر عليه وأمر بتوكلهم عليه فيما أسنده إليهم وأمرهم به وتعبدهم به وأخبر: أنه يحب المتوكلين عليه كما يحب الشاكرين وكما يحب المحسنين وكما يحب الصابرين وكما يحب التوابين
وأخبر: أن كفايته لهم مقرونة بتوكلهم عليه وأنه كاف من توكل عليه وحسبه وجعل لكل عمل من أعمال البر ومقام من مقاماته جزاء معلوما وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته فقال {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [ الطلاق: 4 ] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية [ النساء: 69 ] ثم قال في التوكل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [ الطلاق: 3 ] فانظر إلى هذا الجزاء الذي حصل للمتوكل ولم يجعله لغيره وهذا يدل على أن التوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه وليس كونه وكل الأمور إلى نفسه بمناف لتوكل العبد عليه بل هذا تحقيق كون الأمور كلها موكولة إلى نفسه لأن العبد إذا علم ذلك وتحققه معرفة: صارت حاله التوكل قطعا على من هذا شأنه لعلمه بأن الأمور كلها موكولة إليه وأن العبد لا يملك شيئا منها فهو لا يجد بدا(2/128)
من اعتماده عليه وتفويضه إليه وثقته به من الوجهين: من جهة فقره وعدم ملكه شيئا ألبتة ومن جهة كون الأمر كله بيده وإليه والتوكل ينشأ من هذين العلمين
فإن قيل: فإذا كان الأمر كله لله وليس للعبد من الأمر شيء فكيف يوكل المالك على ملكه وكيف يستنيبه فيما هو ملك له دون هذا الموكل فالخاصة لما تحققوا هذا نزلوا عن مقام التوكل وسلموه إلى العامة وبقي الخطاب بالتوكل لهم دون الخاصة
قيل: لما كان الأمر كله لله عز وجل وليس للعبد فيه شيء ألبتة كان توكله على الله تسليم الأمر إلى من هو له وعزل نفسه عن منازعات مالكه واعتماده عليه فيه وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به إلى تصرفه بربه وكونه به سبحانه دون نفسه وهذا مقصود التوكل
وأما عزل العبد نفسه عن مقام التوكل: فهو عزل لها عن حقيقة العبودية
وأما توجه الخطاب به إلى العامة: فسبحان الله هل خاطب الله بالتوكل في كتابه إلا خواص خلقه وأقربهم إليه وأكرمهم عليه وشرط في إيمانهم أن يكونوا متوكلين والمعلق على الشرط يعدم عند عدمه
وهذا يدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل فمن لا توكل له: لا إيمان له قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [ المائده: 23 ] وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [ الأنفال: 2 ] وهذا يدل على انحصار المؤمنين فيمن كان بهذه الصفة
وأخبر تعالى عن رسله بأن التوكل ملجأهم ومعاذهم وأمر به رسوله في أربع مواضع من كتابه وقال: وقال موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [ يونس: 8485 ] فكيف يكون من أو هي السبل وهذا شأنه والله سبحانه وتعالى أعلم(2/129)
فصل قال: وهو على ثلاث درجات كلها تسير مسير العامة الدرجة الأولى
: التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس بالسبب مخافة ونفع الخلق وترك الدعوى يقول: إن صاحب هذه الدرجة يتوكل على الله ولا يترك الأسباب بل يتعطاها على نية شغل النفس بالسبب مخافة أن تفرغ فتشتغل بالهوى والحظوظ فإن لم يشغل نفسه بما ينفعها شغلته بما يضره لا سيما إذا كان الفراغ مع حدة الشباب وملك الجدة وميل النفس إلى الهوى وتوالي الغفلات كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
ويكون أيضا قيامه بالسبب على نية نفع النفس ونفع الناس بذلك فيحصل له نفع نفسه ونفع غيره
وأما تضمن ذلك لترك الدعوى: فإنه إذا اشتغل بالسبب تخلص من إشارة الخلق إليه الموجبة لحسن ظنه بنفسه الموجب لدعواه فالسبب ستر لحاله ومقامه وحجاب مسبل عليه
ومن وجه آخر وهو أن يشهد به فقره وذله وامتهانه امتهان العبيد والفعلة فيتخلص من رعونة دعوى النفس فإنه إذا امتهن نفسه بمعاطاة الأسباب: سلم من هذه الأمراض فيقال: إذا كانت الأسباب مأمورا بها ففيها فائدة أجل من هذه الثلاث وهي المقصودة بالقصد الأول وهذه مقصودة قصد الوسائل وهي القيام بالعبودية والأمر الذي خلق له العبد وأرسلت به الرسل وأنزلت لأجله الكتب وبه قامت السموات والأرض وله وجدت الجنة والنار
فالقيام بالأسباب المأمور بها: محض العبودية وحق الله على عبده الذي توجهت به نحوه المطالب وترتب عليه الثواب والعقاب والله سبحانه أعلم(2/130)
فصل قال: الدرجة الثانية: التوكل مع إسقاط الطلب وغض العين عن
السبب اجتهادا لتصحيح التوكل وقمعا لشرف النفس وتفرغا إلى حفظ الواجبات قوله: مع إسقاط الطلب أي من الخلق لا من الحق فلا يطلب من أحد شيئا وهذا من أحسن الكلام وأنفعه للمريد فإن الطلب من الخلق فى الأصل محظور وغايته: أن يباح للضرورة كإباحة الميتة للمضطر ونص أحمد على أنه لا يجب وكذلك كان شيخنا يشير إلى أنه لا يجب الطلب والسؤال
وسمعته يقول في السؤال: هو ظلم في حق الربوبية وظلم في حق الخلق وظلم في حق النفس أما في حق الربوبية: فلما فيه من الذل لغير الله وإراقة ماء الوجه لغير خالقه والتعوض عن سؤاله بسؤال المخلوقين والتعرض لمقته إذا سأل وعنده ما يكفيه يومه
وأما في حق الناس: فبمنازعتهم ما في أيديهم بالسؤال واستخراجه منهم وأبغض ما إليهم: من يسألهم ما في أيديهم وأحب ما إليهم: من لا يسألهم فإن أموالهم محبوباتهم ومن سألك محبوبك فقد تعرض لمقتك وبغضك
وأما ظلم السائل نفسه: فحيث امتهنها وأقامها في مقام ذل السؤال ورضي لها بذل الطلب ممن هو مثله أو لعل السائل خير منه وأعلى قدرا وترك سؤال من ليس كمثله شىء وهو السميع البصير فقد أقام السائل نفسه مقام الذل وأهانها بذلك ورضي أن يكون شحاذا من شحاذ مثله فإن من تشحذه فهو أيضا شحاذ مثلك والله وحده هو الغني الحميد
فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير والرب تعالى كلما سألته كرمت عليه ورضي عنك وأحبك والمخلوق كلما سألته هنت عليه وأبغضك ومقتك وقلاك كما قيل:
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب(2/131)
وقبيح بالعبد المريد: أن يتعرض لسؤال العبيد وهو يجد عند مولاه كل ما يريد وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا حديثي عهد ببيعة فقلنا قد بايعناك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلام نبايعك فقال أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا قال: ولقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا أن يناوله إياه
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم
وفيهما أيضا عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: واليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا: هي المنفقة والسفلى: هي السائلة
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر"
وفي الترمذي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في الأمر الذي لا بد منه" قال الترمذي: حديث صحيح
وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل وفي السنن و المسند عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا أتكفل له بالجنة " فقلت: أنا فكان لا يسأل أحدا شيئا(2/132)
وفي صحيح مسلم عن قبيصة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا"
فالتوكل مع إسقاط هذا الطلب والسؤال هو محض العبودية قوله: وغض العين عن التسبب اجتهادا في تصحيح التوكل معناه: أنه يعرض عن الاشتغال بالسبب لتصحيح التوكل بامتحان النفس لأن المتعاطي للسبب قد يظن أنه حصل التوكل ولم يحصله لثقته بمعلومه فإذا أعرض عن السبب صح له التوكل
وهذا الذي أشار إليه: مذهب قوم من العباد والسالكين وكثير منهم كان يدخل البادية بلا زاد ويرى حمل الزاد قدحا في التوكل ولهم في ذلك حكايات مشهورة وهؤلاء في خفارة صدقهم وإلا فدرجتهم ناقصة عن العارفين ومع هذا فلا يمكن بشرا ألبتة ترك الأسباب جملة
فهذا إبراهيم الخواص كان مجردا في التوكل يدقق فيه ويدخل البادية بغير زاد وكان لا تفارقه الإبرة والخيط والركوة والمقراض فقيل له: لم تحمل هذا وأنت تمنع من كل شيء فقال: مثل هذا لا ينقص من التوكل لأن لله علينا فرائض والفقير لا يكون عليه إلا ثوب واحد فربما تخرق ثوبه فإذا لم يكن(2/133)
معه إبرة وخيوط تبدو عورته فتفسد عليه صلاته وإذا لم يكن معه ركوة فسدت عليه طهارته وإذا رأيت الفقير بلا ركوة ولا إبرة ولا خيوط فاتهمه في صلاته
أفلا تراه لم يستقم له دينه إلا بالأسباب أو ليست حركة أقدامه ونقلها في الطريق والاستدلال على أعلامها إذا خفيت عليه من الأسباب
فالتجرد من الأسباب جملة ممتنع عقلا وشرعا وحسا
نعم قد تعرض للصادق أحيانا قوة ثقة بالله وحال مع الله تحمله على ترك كل سبب مفروض عليه كما تحمله على إلقاء نفسه في مواضع الهلكة ويكون ذلك الوقت بالله لا به فيأتيه مدد من الله على مقتضى حاله ولكن لا تدوم له هذه الحال وليست في مقتضى الطبيعة فإنها كانت هجمة هجمت عليه بلا استدعاء فحمل عليها فإذا استدعى مثلها وتكلفها لم يجب إلى ذلك وفي تلك الحال: إذا ترك السبب يكون معذورا لقوة الوارد وعجزه عن الاشتغال بالسبب فيكون في وارده عون له ويكون حاملا له فإذا أراد تعاطي تلك الحال بدون ذلك الوارد وقع في المحال وكل تلك الحكايات الصحيحة التي تحكي عن القوم فهي جزئية حصلت لهم أحيانا ليست طريقا مأمورا بسلوكها ولا مقدورة وصارت فتنة لطائفتين
وطائفة ظنتها طريقا ومقاما فعملوا عليها فمنهم من انقطع ومنهم من رجع ولم يمكنه الاستمرار عليها بل انقلب على عقبيه وطائفة قدحوا في أربابها وجعلوهم مخالفين للشرع والعقل مدعين لأنفسهم حالا أكمل من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ لم يكن فيهم أحد قط يفعل ذلك ولا أخل بشيء من الأسباب وقد ظاهر بين درعين يوم أحد ولم يحضر الصف قط عريانا كما يفعله من لا علم(2/134)
عنده ولا معرفة واستأجر دليلا مشركا على دين قومه يدله على طريق الهجرة وقد هدى الله به العالمين وعصمه من الناس أجمعين وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد وجميع أصحابه وهم أولو التوكل حقا وأكمل المتوكلين بعدهم: هو من اشتم رائحة توكلهم من مسيرة بعيدة أو لحق أثرا من غبارهم فحال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه محك الأحوال وميزانها بها يعلم صحيحها من سقيمها فإن هممهم كانت في التوكل أعلى من همم من بعدهم فإن توكلهم كان في فتح بصائر القلوب وأن يعبد الله في جميع البلاد وأن يوحده جميع العباد وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد فملؤا بذلك التوكل القلوب هدى وإيمانا وفتحوا بلاد الكفر وجعلوها دار إيمان وهبت رياح روح نسمات التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقينا وإيمانا فكانت همم الصحابة رضى الله عنهم أعلى وأجل من أن يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعى فيجعله نصب عينيه ويحمل عليه قوى توكله قوله: وقمعا لشرف النفس يريد: أن المتسبب قد يكون متسببا بالولايات الشريفة في العبادة أو التجارات الرفيعة والأسباب التي له بها جاه وشرف في الناس فإذا تركها يكون تركها قمعا لشرف نفسه وإيثارا للتواضع
وقوله: وتفرغا لحفظ الواجبات أي يتفرغ بتركها لحفظ واجباتها التي تزاحمها تلك الأسباب والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثالثة: التوكل مع معرفة التوكل النازعة إلى
الخلاص من علة التوكل وهي أن يعلم أن ملكة الحق تعالى للأشياء هي ملكة عزة(2/135)
لا يشاركه فيها مشارك فيكل شركته إليه فإن من ضرورة العبودية: أن يعلم العبد: أن الحق سبحانه هو مالك الأشياء وحده يريد أن صاحب هذه الدرجة متى قطع الأسباب والطلب وتعدى تينك الدرجتين فتوكله فوق توكل من قبله وهو إنما يكون بعد معرفته بحقيقة التوكل وأنه دون مقامه فتكون معرفته به وبحقيقته نازعة أي باعثة وداعية إلى تخلصه من علة التوكل أي لا يعرف علة التوكل حتى يعرف حقيقته فحينئذ يعرف التوكل المعرفة التي تدعوه إلى التخلص من علته ثم بين المعرفة التي يعلم بها علة التوكل فقال: أن يعلم أن ملكة الحق للأشياء ملكة عزة أي ملكة امتناع وقوة وقهر تمنع أن يشاركه في ملكه لشيء من الأشياء مشارك فهو العزيز في ملكه الذي لا يشاركه غيره في ذرة منه كما هو المنفرد بعزته التي لا يشاركه فيها مشارك فالمتوكل يرى أن له شيئا قد وكل الحق فيه وأنه سبحانه صار وكيله عليه وهذا مخالف لحقيقة الأمر إذ ليس لأحد من الأمر مع الله شيء فلهذا قال: لا يشاركه فيه مشارك فيكل شركته إليه فلسان الحال يقول لمن جعل الرب تعالى وكيله: فيماذا وكلت ربك أفيما هو له وحده أو لك وحدك أو بينكما فالثاني والثالث ممتنع بتفرده بالملك وحده والتوكيل في الأول ممتنع فكيف توكله فيما ليس لك منه شيء ألبتة فيقال ههنا أمران: توكل وتوكيل فالتوكل: محض الاعتماد والثقة والسكون إلى من له الأمر كله وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون: من أقوى أسباب توكله وأعظم دواعيه
فإذا تحقق ذلك علما ومعرفة وباشر قلبه حالا: لم يجد بدا من اعتماد قلبه على الحق وحده وثقته به وسكونه إليه وحده وطمأنينته به وحده لعلمه أن(2/136)
حاجاته وفاقاته وضروراته وجميع مصالحه كلها بيده وحده لا بيد غيره فأين يجد قلبه مناصامن التوكل بعد هذا فعلة التوكل حينئذ: التفات قلبه إلى من ليس له شركة في ملك الحق ولا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض هذه علة توكله فهو يعمل على تخليص توكله من هذه العلة نعم ومن علة أخرى وهي رؤية توكله فإنه التفات إلى عوالم نفسه وعلة ثالثة: وهي صرفه قوة توكله إلى شيء غيره أحب إلى الله منه فهذه العلل الثلاث: هي علل التوكيل وأما التوكل: فليس المراد منه إلا مجرد التفويض وهو من أخص مقامات العارفين كمان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [ غافر: 4445 ] فكان جزاء هذا التفويض قوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} فإن كان التوكل معلولا بما ذكره فالتفويض أيضا كذلك وليس فليس ولولا أن الحق لله ورسوله وأن كل ما عدا الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك وهو عرضة الوهم والخطأ: لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم ولا نجري معهم في مضمارهم ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان ومنازل السائرين كالنجوم الدراري ومن كان عنده علم فليرشدنا إليه ومن رأى في كلامنا زيغا أو نقصا وخطأ فليهد إلينا الصواب نشكر له سعيه ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم والله أعلم وهو الموفق(2/137)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التفويض
قال صاحب المنازل: وهو ألطف إشارة وأوسع معنى من التوكل فإن التوكل بعد وقوع(2/137)
السبب والتفويض قبل وقوعه وبعده وهو عين الاستسلام والتوكل شعبة منه يعني أن المفوض يتبرأ من الحول والقوة ويفوض الأمر إلى صاحبه من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه بخلاف التوكل فإن الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكل فالتفويض: براءة وخروج من الحول والقوة وتسليم الأمر كله إلى مالكه
فيقال: وكذلك التوكل أيضا وما قدحتم به فى التوكل يرد عليكم نظيره في التفويض سواء فإنك كيف تفوض شيئا لا تملكه ألبتة إلى مالكه وهل يصح أن يفوض واحد من آحاد الرعية الملك إلى ملك زمانه فالعلة إذن في التفويض أعظم منها في التوكل بل لو قال قائل: التوكل فوق التفويض وأجل منه وأرفع لكان مصيبا ولهذا كان القرآن مملوءا به أمرا وإخبارا عن خاصة الله وأوليائه وصفوة المؤمنين بأن حالهم التوكل وأمر الله به رسوله في أربعة مواضع من كتابه وسماه المتوكل كما في صحيح البخارى عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق
وأخبر عن رسله بأن حالهم كان التوكل وبه انتصروا على قومهم وأخبرر(2/138)
النبي عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: أنهم أهل مقام التوكل ولم يجيء التفويض في القرآن إلا فيما حكاه عن مؤمن آل فرعون من قوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [ غافر: 44 ] وقد أمر الله رسوله بأن يتخذه وكيلا فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [ المزمل: 9 ] وهذا يبطل قول من قال من جهلة القوم: إن توكيل الرب فيه جسارة على البارى لأن التوكل يقتضي إقامة الوكيل مقام الموكل وذلك عين الجسارة قال: ولولا أن الله أباح ذلك وندب إليه: لما جاز للعبد تعاطيه وهذا من أعظم الجهل فإن اتخاذه وكيلا هو محض العبودية وخالص التوحيد إذا قام به صاحبه حقيقة
ولله در سيد القوم وشيخ الطائفة سهل بن عبدالله التستري إذ يقول: العلم كله باب من التعبد والتعبد كله باب من الورع والورع كله باب من الزهد والزهد كله باب من التوكل
فالذي نذهب إليه: أن التوكل أوسع من التفويض وأعلى وأرفع قوله: فإن التوكل بعد وقوع السبب والتفويض قبل وقوعه وبعده يعني بالسبب: الاكتساب فالمفوض قد فوض أمره إلى الله قبل اكتسابه وبعده والمتوكل قد قام بالسبب وتوكل فيه على الله فصار التفويض أوسع فيقال: والتوكل قد يكون قبل السبب ومعه وبعده فيتوكل على الله أن يقيمه في سبب يوصله إلى مطلوبه فإذا قام به توكل على الله حال مباشرته فإذا أتمه توكل على الله في حصول ثمراته فيتوكل على الله قبله ومعه وبعده فعلى هذا: هو أوسع من التفويض على ما ذكر قوله: وهو عين الاستسلام أي التفويض عين الانقياد بالكلية إلى(2/139)
الحق سبحانه ولا يبالي أكان ما يقضى له الخير أم خلافه والمتوكل يتوكل على الله في مصالحه
وهذا القدر هو الذي لحظه القوم في هضم مقام التوكل ورفع مقام التفويض عليه وجوابه من وجهين
أحدهما: أن المفوض لا يفوض أمره إلى الله إلا لإرادته أن يقضي له ما هو خير له في معاشه ومعاده وإن كان المقضي له خلاف ما يظنه خيرا فهو راض به لأنه يعلم أنه خير له وإن خفيت عليه جهة المصلحة فيه وهكذا حال المتوكل سواء بل هو أرفع من المفوض لأن معه من عمل القلب ما ليس مع المفوض فإن المتوكل مفوض وزيادة فلا يستقيم مقام التوكل إلا بالتفويض فإنه إذا فوض أمره إليه اعتمد بقلبه كله عليه بعد تفويضه ونظير هذا: أن من فوض أمره إلى رجل وجعله إليه فإنه يجد من نفسه بعد تفويضه اعتمادا خاصا وسكونا وطمأنينة إلى المفوض إليه أكثر مما كان قبل التفويض وهذا هو حقيقة التوكل الوجه الثاني: أن أهم مصالح المتوكل: حصول مراضي محبوبه ومحابه فهو يتوكل عليه في تحصيلها له فأي مصلحة أعظم من هذه
وأما التفويض: فهو تفويض حاجات العبد المعيشية وأسبابها إلى الله فإنه لا يفوض إليه محابه والمتوكل يتوكل في محابه والوهم إنما دخل من حيث يظن الظان: أن التوكل مقصور على معلوم الرزق وقوة البدن وصحة الجسم ولا ريب أن هذا التوكل ناقص بالنسبة إلى التوكل في إقامة الدين والدعوة إلى الله(2/140)
قال: وهو على ثلاث درجات الأول أن يعلم أن العبد لا يملك قبل عمله استطاعة فلا يأمن من مكر ولا ييأس من معونة ولا يعول على نية
أي يتحقق أن استطاعته بيد الله لا بيده فهو مالكها دونه فإنه إن لم يعطه الاستطاعة فهو عاجز فهو لا يتحرك إلا بالله لا بنفسه فكيف يأمن المكر وهو محرك لا محرك يحركه من حركته بيده فإن شاء ثبطه وأقعده مع القاعدين كما قال فيمن منعه هذا التوفيق: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [ التوبة: 46 ] فهذا مكر الله بالعبد: أن يقطع عنه مواد توفيقه ويخلي بينه وبين نفسه ولا يبعث دواعيه ولا يحركه إلى مراضيه ومحابه وليس هذا حقا على الله فيكون ظالما بمنعه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا بل هو مجرد فضله الذي يحمده على بذله لمن بذله وعلى منعه لمن منعه إياه فله الحمد على هذا وهذا ومن فهم هذا فهم بابا عظيما من سر القدر وانجلت له إشكالات كثيرة فهو سبحانه لا يريد من نفسه فعلا يفعله بعبده يقع منه ما يحبه ويرضاه فيمنعه فعل نفسه به وهو توفيقه لأنه يكرهه ويقهره على فعل مساخطه بل يكله إلى نفسه وحوله وقوته ويتخلى عنه فهذا هو المكر قوله: ولا ييأس من معونة يعني إذا كان المحرك له هو الرب جل جلاله وهو أقدر القادرين وهو الذي تفرد بخلقه ورزقه وهو أرحم الراحمين فكيف ييأس من معونته له
قوله: ولا يعول على نية أي لا يعتمد على نيته وعزمه ويثق بها فإن نيته وعزمه بيد الله تعالى لا بيده وهي إلى الله لا إليه فلتكن ثقته بمن هي في يده حقا لا بمن هي جارية عليه حكما(2/141)
فصل قال: الدرجة الثانية: معاينة الاضطرار فلا يرى عملا منجيا
ولا ذنبا مهلكا ولا سببا حاملا أي يعاين فقره وفاقته وضرورته التامة إلى الله بحيث إنه يرى في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة وفاقة تامة إلى الله فنجاته إنما هي بالله لا بعمله
وأما قوله: ولا ذنبا مهلكا فإن أراد به: أن هلاكه بالله لا بسبب ذنوبه: فباطل معاذ الله من ذلك وإن أراد به: أن فضل الله وسعته ومغفرته ورحمته ومشاهدة شدة ضرورته وفاقته إليه: يوجب له أن لا يرى ذنبا مهلكا فإن افتقاره وفاقته وضرورته تمنعه من الهلاك بذنوبه بل تمنعه من اقتحام الذنوب المهلكة إذ صاحب هذا المقام لا يصر على ذنوب تهلكه وهذا حاله فهذا حق وهو من مشاهد أهل المعرفة
وقوله: ولا سببا حاملا أي يشهد: أن الحامل له هو الحق تعالى لا الأسباب التي يقوم بها فإنه وإياها محمولان بالله وحده
فصل قال: الدرجة الثالثة: شهود انفراد الحق بملك الحركة والسكون
والقبض والبسط ومعرفته بتصريف التفرقة والجمع هذه الدرجة تتعلق بشهود وصف الله تبارك وتعالى وشأنه والتي قبلها تتعلق بشهود حال العبد ووصفه أي يشهد حركات العالم وسكونه صادرة عن الحق تعالى في كل متحرك وساكن فيشهد تعلق الحركة باسمه الباسط وتعلق السكون باسمه القابض فيشهد تفرده سبحانه بالبسط والقبض
وأما معرفته بتصريف التفرقة والجمع فأن يكون المشاهد عارفا بمواضع التفرقة والجمع والمراد بالتفرقة: نظر الاعتبار ونسبة الأفعال إلى الخلق(2/142)
والمراد بالجمع: شهود الأفعال منسوبة إلى موجدها الحق تعالى وقد يريدون بالتفرقة والجمع: معنى وراء هذا الشهود وهو حال التفرقة والجمع فحال التفرقة: تفرق القلب في أودية الإرادات وشعابها وحال الجمع: جمعيته على مراد الحق وحده فالأول: علم التفرقة والجمع والثاني: حالهما والله أعلم(2/143)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الثقة بالله تعالى
قال صاحب المنازل: الثقة: سواد عين التوكل ونقطة دائرة التفويض وسويداء قلب التسليم وصدر الباب بقوله تعالى لأم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [ القصص: 7 ] فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجرياته إلى حيث ينتهى أو يقف ومراده: أن الثقة خلاصة التوكل ولبه كما أن سواد العين: أشرف ما في العين وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض إلى أن مدار التوكل عليه وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة فإن النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ونسبة جهات المحيط إليها نسبة واحدة وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض
وكذلك قوله: سويداء قلب التسليم فإن القلب أشرف ما فيه سويداؤه وهي المهجة التي تكون بها الحياة وهي في وسطه فلو كان التفويض قلبا لكانت الثقة سويداءه ولو كان عينا لكانت سوادها ولو كان دائرة لكانت نقطتها(2/143)
وقد تقدم أن كثيرا من الناس يفسر التوكل بالثقة ويجعله حقيقتها ومنهم من يفسره بالتفويض ومنهم من يفسره بالتسليم فعلمت: أن مقام التوكل يجمع ذلك كله فكأن الثقة عند الشيخ هي روح و التوكل كالبدن الحامل لها ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان والله أعلم
فصل قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: درجة الإياس وهو
إياس البعد عن مقاومات الأحكام ليقعد عن منازعة الأقسام ليتخلص من قحة الإقدام يعني أن الواثق بالله لاعتقاده: أن الله تعالى إذا حكم بحكم وقضى أمرا فلا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه فمن حكم الله له بحكم وقسم له بنصيب من الرزق أو الطاعة أو الحال أو العلم أو غيره: فلا بد من حصوله له ومن لم يقسم له ذلك: فلا سبيل له إليه ألبتة كما لا سبيل له إلى الطيران إلى السماء وحمل الجبال فبهذا القدر يقعد عن منازعة الأقسام فما كان له منها فسوف يأتيه على ضعفه وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته والفرق بين قوله: مقاومة الأحكام و: منازعة الأقسام أن مقاومة الأحكام: أن تتعلق إرادته بعين ما في حكم الله وقضائه فإذا تعلقت إرادته بذلك جاذب الخلق الأقسام ونازعهم فيها
وقوله: يتخلص من قحة الإقدام أي يتخلص بالثقة بالله من هذه القحة والجرأة على إقدامه على ما لم يحكم له به ولا قسم له والله سبحانه أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: درجة الأمن وهو أمن العبد من فوت
المقدور وانتقاض المسطور فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين اليقين وإلا فبلطف الصبر(2/144)
يقول: من حصل له الإياس المذكور حصل له الأمن وذلك أن من تحقق بمعرفة الله وأن ما قضاه الله فلا مرد له ألبتة: أمن من فوت نصيبه الذي قسمه الله له وأمن أيضا من نقصان ما كتبه الله له وسطره في الكتاب المسطور فيظفر بروح الرضى أي براحته ولذته ونعيمه لأن صاحب الرضى في راحة ولذة وسرور كما في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى وجعل الهم والحزن في الشك والسخط فإن لم يقدر العبد على روح الرضى ظفر بعين اليقين وهو قوة الإيمان ومباشرته للقلب بحيث لا يبقى بينه وبين العيان إلا كشف الحجاب المانع من مكافحة البصر
فإن لم يحصل له هذا المقام حصل على لطف الصبر وما فيه من حسن العاقبة كما في الأثر المعروف: إن استطعت أن تعمل لله بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر ما تكره النفس خيرا كثيرا
فصل قال: الدرجة الثالثة: معاينة أزلية الحق ليتخلص من محن
القصود وتكاليف الحمايات والتعريج على مدارج الوسائل قوله: معاينة أزلية الحق أي متى شهد قلبه تفرد الرب سبحانه وتعالى بالأزلية غاب بها عن الطلب لتيقنه فراغ الرب تعالى من المقادير وسبق الأزل بها وثبوت حكمها هناك فيتخلص من المحن التي تعرض له دون القصود ويتخلص أيضا من تعريجه والتفاته وحبس مطيته على طرق الأسباب التي يتوسل بها إلى المطالب وهذا ليس على إطلاقه فإن مدارج الوسائل قسمان: وسائل موصلة إلى عين الرضى فالتعريج على مدارجها معرفة وعملا وحالا وإيثارا هو محض(2/145)
العبودية ولكن لا يجعل تعريجه كله على مدارجها بحيث ينسى بها الغاية التي هي وسائل إليها وأما تخلصه من تكاليف الحمايات فهو تخلصه من طلب ما حماه الله تعالى عنه قدرا فلا يتكلف طلبه وقد حمي عنه ووجه آخر: وهو أن يتخلص بمشاهدة سبق الأزلية من تكاليف احترازاته وشدة احتمائه من المكاره لعلمه بسبق الأزل بما كتب له منها فلا فائدة في تكلف الاحتماء نعم يحتمي مما نهى عنه وما لا ينفعه في طريقه ولا يعينه على الوصول(2/146)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التسليم
وهي نوعان: تسليم لحكمه الديني الأمري وتسليم لحكمه الكوني القدري فأما الأول: فهو تسليم المؤمنين العارفين قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [ النساء: 65 ] فهذه ثلاث مراتب: التحكيم وسعة الصدر بانتفاء الحرج والتسليم وأما التسليم للحكم الكونى: فمزلة أقدام ومضلة أفهام حير الأنام وأوقع الخصام وهي مسألة الرضى بالقضاء وقد تقدم الكلام عليها بما فيه كفاية وبينا أن التسليم للقضاء يحمد إذا لم يؤمر العبد بمنازعته ودفعه ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها وأما الأحكام التي أمر بدفعها: فلا يجوز له التسليم إليها بل العبودية: مدافعتها بأحكام أخر أحب إلى الله منها(2/146)
فصل قال صاحب المنازل:
وفي التسليم والثقة والتفويض: ما في التوكل من العلل وهو من أعلى درجات سبل العامة يعني أن العلل التي في التوكل من معاني الدعوى ونسبته الشيء إلى نفسه أولا حيث زعم أنه وكل ربه فيه وتوكل عليه فيه وجعله وكيله القائم عنه بمصالحه التي كان يحصلها لنفسه بالأسباب والتصرفات وغير ذلك من العلل المتقدمة وقد عرفت ما في ذلك وليس في التسليم إلا علة واحدة: وهي أن لا يكون تسليمه صادرا عن محض الرضى والاختيار بل يشوبه كره وانقباض فيسلم على نوع إغماض فهذه علة التسليم المؤثرة فاجتهد في الخلاص منها وإنما كان للعامة عنده لأن الخاصة في شغل عنه باستغراقهم بالفناء في عين الجمع وجعل الفناء غاية الاستغراق في عين الجمع: هو الذى أوجب ما أوجب والله المستعان قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: تسليم ما يزاحم العقول مما سبق على الأوهام من الغيب والإذعان لما يغالب القياس من سير الدول والقسم والإجابة لما يفزع المريد من ركوب الأحوال اعلم أن التسليم هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر أو شهوة تعارض الأمر أو إرادة تعارض الإخلاص أو اعتراض يعارض القدر والشرع وصاحب هذا التخلص: هو صاحب القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به فإن التسليم ضد المنازعة والمنازعة: إما بشبهة فاسدة تعارض الإيمان بالخبر عما وصف الله به نفسه من(2/147)
صفاته وأفعاله وما أخبر به عن اليوم الآخر وغير ذلك فالتسليم له: ترك منازعته بشبهات المتكلمين الباطلة وإما بشهوة تعارض أمر الله عز وجل فالتسليم للأمر: بالتخلص منها أو إرادة تعارض مراد الله من عبده فتعارضه إرادة تتعلق بمراد العبد من الرب فالتسليم: بالتخلص منها أو اعتراض يعارض حكمته في خلقه وأمره بأن يظن أن مقتضى الحكمة خلاف ما شرع وخلاف ما قضى وقدر فالتسليم: التخلص من هذه المنازعات كلها وبهذا يتبين أنه من أجل مقامات الإيمان وأعلى طرق الخاصة وأن التسليم هو محض الصديقية التي هي بعد درجة النبوة وأن أكمل الناس تسليما أكملهم صديقية فلنرجع إلى شرح كلام الشيخ فأما قوله: تسليم ما يزاحم العقول مما سبق على الأوهام
فيعني: أن التسليم يقتضي ما ينهى عنه العقل ويزاحمه فإنه يقتضي التجريد عن الأسباب والعقل يأمر بها فصاحب التسليم يسلم إلى الله عز وجل ما هو غيب عن العبد فإن فعله سبحانه وتعالى لا يتوقف على هذه الأسباب التي ينهى العقل عن التجرد عنها فإذا سلم لله لم يلتفت إلى السبب في كل ما غاب عنه فالأوهام يسبق عليها أن ما غاب عنها من الحكم لا يحصل إلا بالأسباب والتسليم يقتضي التجرد عنها والعقل ينهى عن ذلك والوهم قد سبق عليه أن الغيب موقوف عليها فههنا أمور ستة: عقل ومزاحم له ووهم وسائق إليه وغيب وتسليم لهذا المزاحم فالعقل هو الباعث له على الأسباب الداعي له إليها التي إذا خرج الرجل عنها عد خروجه قدحا في عقله(2/148)
والمزاحم له: التجرد عنها بكمال التسليم إلى من بيده أزمة الأمور: مواردها ومصادرها والوهم: اعتقاده توقف حصول السعادة والنجاة وحصول المقدور كائنا ما كان عليها وأنه لولاها لما حصل المقدور وهذا هو السائق إلى الوهم والغيب: هو الحكم الذي غاب عنه وهو فعل الله
والتسليم: تسليم هذا المزاحم إلى نفس الحكم مع أن في تنزيل عبارته على هذا المعنى وإفراغ هذا المعنى في قوالب ألفاظه نظرا وفيه وجه آخر: وهو أن يكون المراد: التسليم لما يبدو للعبد من معاني الغيب مما يزاحم معقوله في بادي الرأي لما يسبق إلى وهمه: أن الأمر بخلافه فيسبق على الأوهام من الغيب الذي أخبرت به شيء يزاحم معقولها فتقع المنازعة بين حكم العقل وحكم الوهم فإن كثيرا من الغيب قد يزاحم العقل بعض المزاحمة ويسبق إلى الوهم خلافه فالتسليم: تسليم هذا المزاحم إلى وليه ومن هو أخبر به والتجرد عما يسبق إلى الوهم مما يخالفه
وهذا أولى المعنيين بكلامه إن شاء الله فالأول: تسليم منازعات الأسباب لتجريد التوحيد العملي القصدي الإرادي وهذا تجريد منازعات الأوهام المخالفة للخبر لتجريد التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي وهذا حقيقة التسليم قوله: والإذعان لما يغالب القياس من سير الدول والقسم أي الانقياد لما يقاوي عقله وقياسه مما جرى به حكم الله في الدول قديما وحديثا: من طي دولة ونشر دولة وإعزاز هذه وإذلال هذه والقسم التي قسمها على خلقه مع شدة تفاوتها وتباين مقاديرها وكيفياتها وأجناسها فيذعن(2/149)
لحكمة الله في كل ذلك ولا يعترض على ما وقع منها بشبهة وقياس ويحتمل أن يكون مراده ب الدول و القسم الأحوال التي تتداول على السالك ويختلف سيرها و القسم التي نالته من الله: ما كان قياس سعيه واجتهاده أن يحصل له أكثر منها فيذعن لما غالب قياسه منها ويسلم للقاسم المعطي بحكمته وعدله فإن من عباده من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغناه لأفسده ذلك ومنهم من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقره لأفسده ذلك ومنهم من لا يصلحه إلا المرض ولو أصحه لأفسده ذلك ومنهم من لا يصلحه إلا الصحة ولو أمرضه لأفسده ذلك
وقوله: والإجابة لما يفزع المريد من ركوب الأحوال يقول: إن صاحب هذه الدرجة من قوة التسليم يهجم على الأمور المفزعة ولا يلتفت إليها ولا يخاف معها من ركوب الأحوال واقتحام الأهوال لأن قوة تسليمه تحميه من خطرها فلا ينبغي له أن يخاف فإنه في حصن التسليم ومنعته وحمايته والله سبحانه وتعالى الموفق بحوله وقوته
فصل قال: الدرجة الثانية: تسليم العلم إلى الحال والقصد إلى
الكشف والرسم إلى الحقيقة أما تسليم العلم إلى الحال فليس المراد منه: تحكيم الحال على العلم حاشا الشيخ من ذلك وإنما أراد: الانتقال من الوقوف عند صور العلم الظاهرة إلى معانيها وحقائقها الباطنة وثمراتها المقصودة منها مثل الانتقال من محض التقليد والخبر إلى العيان واليقين حتى كأنه يرى ويشاهد ما أخبر به الرسول(2/150)
كما قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [ سبأ: 6 ] وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [ الرعد: 19 ] وينتقل من الحجاب إلى الكشف فينتقل من العلم إلى اليقين ومن اليقين إلى عين اليقين ومن علم الإيمان إلى ذوق طعم الإيمان ووجدان حلاوته فإن هذا قدر زائد على مجرد علمه ومن علم التوكل إلى حاله وأشباه ذلك
فيسلم العلم الصحيح إلى الحال الصحيح فإن سلطان الحال أقوى من سلطان العلم فإذا كان الحال مخالفا للعلم فهو ملك ظالم فليخرج عليه بسيف العلم وليحكمه فيه وأما تسليم القصد إلى الكشف فليس معناه: أن يترك القصد عن معاينة الكشف فإنه متى ترك القصد خلع ربقة العبودية من عنقه ولكن يجعل قصده سائرا طالبا لكشفه يؤمه فإذا وصل إليه سلمه إليه وصار الحكم للكشف إذ القصد آلة ووسيلة إليه فإن كان كشفا صحيحا مطابقا للحق في نفسه: كشف له عن آفات القصد ومفسداته ومصححاته وعيوبه فأقبل على تصحيحه بنور الكشف لا أن صاحب القصد ترك القصد لأجل الكشف فهذا سير أهل الإلحاد الناكبين عن سبيل الحق والرشاد وأما ترك الرسم إلى الحقيقة فإنه يشير به إلى الفناء فإن من جملة تسليم صاحب الفناء: تسليم ذاته ليفنى في شهود الحقيقة فإن ذات العبد هى رسم والرسم تفنيه الحقيقة كما يفني النور الظلمة لأن عند أصحاب الفناء: أن الحق سبحانه لا يراه سواه ولا يشاهده غيره لا بمعنى الاتحاد ولكن بمعنى: أنه لا يشاهده العبد حتى يفنى عن إنيته ورسمه وجميع عوالمه فيفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل هذا كإجماع من الطائفة بل هو إجماع منهم(2/151)
قال: الدرجة الثالثة: تسليم ما دون الحق إلى الحق مع السلامة من رؤية التسليم بمعاينة تسليم الحق إياك إليه
هذه الدرجة تكملة الدرجة التي قبلها فإن التسليم في التي قبلها بداية لها وهي واسطة بين الدرجة الأولى والثالثة فالأولى: بداية والثانية: وسط والثالثة: نهاية قوله: تسليم ما دون الحق إلى الحق يريد به: اضمحلال رسوم الخلق في شهود الحقيقة وكل ما دون الحق رسوم فإذا سلم رسمه الخاص إلى ربه: حصل له حقيقة الفناء وهذا التسليم نوعان أحدهما: تسليم رسمه الخاص به والثاني: تسليم رسوم الكائنات ورؤية تلاشيها واضمحلالها في عين الحقيقة وهذا علم ومعرفة والأول حال قوله: والسلامة من رؤية التسليم أي ينسلب أيضا من رسم رؤية التسليم فإن الرؤية أيضا رسم من جملة الرسوم فما دام مستصحبا لها: لم يسلم التسليم التام وقد بقيت عليه بقية من منازعات رسمه ثم عرف كيفية هذا التسليم فقال: بمعاينة تسليم الحق إياك إليه أي ينكشف لك حين تسلم ما دون الحق إلى الحق أن الحق تعالى هو الذي سلم إلى نفسه ما دونه فالحق تعالى هو الذى سلمك إليه فهو المسلم وهو المسلم إليه وأنت آلة التسليم فمن شهد هذا المشهد: وجد ذاته مسلمة إلى الحق وما سلمها إلى الحق غير الحق فقد سلم العبد من دعوى التسليم والله أعلم(2/152)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصبر
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا وهو واجب بإجماع الأمة وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر(2/152)
وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعا
الأول: الأمر به نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [ البقره: 153 ] وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [ البقره: 45 ] وقوله: { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [ آل عمران: 20 ] وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [ النحل: 127 ]
الثاني: النهي عن ضده كقوله: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [ الأحقاف: 35 ] وقوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [ الأنفال: 15 ] فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة وقوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } 0 [ محمد: 33 ] فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها وقوله: فلا تهنوا ولا تحزنوا [ آل عمران: 139 ] فإن الوهن من عدم الصبر
الثالث: الثناء على أهله كقوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} الآية [ آل عمران: 17 ] وقوله : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ البقره: 177 ] وهو كثير في القرآن
الرابع: إيجابه سبحانه محبته لهم كقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [ آل عمران: 146 ]
الخامس: إيجاب معيته لهم وهي معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم ليست معية عامة وهي معية العلم والإحاطة كقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ الأنفال: 46 ] وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقره: 249 الأنفال: 69 ]
السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه كقوله: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [ النحل: 126 ] وقوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [ النساء: 25 ]
السابع: إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم كقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ النحل: 96 ]
الثامن: إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب كقوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ الزمر: 10 ]
التاسع: إطلاق البشرى لأهل الصبر كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [ البقره: 155 ](2/153)
العاشر: ضمان النصر والمدد لهم كقوله تعالى : بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [ آل عمران: 125 ] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: واعلم أن النصر مع الصبر
الحادى عشر: الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم كقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [ الشورى: 43 ]
الثاني عشر: الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر كقوله تعالى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [ القصص: 80 ] وقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [ فصلت: 35 ]
الثالث عشر: الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر كقوله تعالى لموسى: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ إبراهيم: 5 ] وقوله في أهل سبأ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ سبأ: 19 ] وقوله في سورة الشورى: { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ الشورى: 3233 ]
الرابع عشر: الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة إنما نالوه بالصبر كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [ الرعد: 2324 ]
الخامس عشر: أنه يورث صاحبه درجة الإمامة سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [ السجده: 24 ]
السادس عشر: اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه(2/154)
باليقين وبالإيمان وبالتقوى والتوكل وبالشكر والعمل الصالح والرحمة ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خير عيش أدركناه بالصبر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أنه ضياء وقال: من يتصبر يصبره الله وفي الحديث الصحيح: عجبا لأمر المؤمن ! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
وقال للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته: أن يدعو لها: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت: إني أتكشف فادع الله: أن لا أتكشف فدعا لها وأمر الأنصار رضي الله تعالى عنهم بأن يصبروا على الأثرة التي يلقونها بعده حتى يلقوه على الحوض وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر وأمر بالصبر عند المصيبة وأخبر: أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى
وأمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب فإن ذلك يخفف مصيبته ويوفر أجره والجزع والتسخط والتشكى يزيد في المصيبة ويذهب الأجر وأخبر أن الصبر خير كله فقال: ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع: من الصبر
فصل و الصبر في اللغة: الحبس والكف ومنه: قتل فلان صبرا
إذا أمسك وحبس ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [ الكهف: 28 ] أي احبس نفسك معهم(2/155)
فالصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله وصبر على امتحان الله فالأولان: صبر على ما يتعلق بالكسب والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها: أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار ورضى ومحاربة للنفس ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة فإنه كان شابا وداعية الشباب إليها قوية وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته وغريبا والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله ومملوكا والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحر والمرأة جميلة وذات منصب وهي سيدته وقد غاب الرقيب وهي الداعية له إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص ومع ذلك توعدته إن لم يفعل: بالسجن والصغار ومع هذه الدواعي كلها: صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه(2/156)
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات: أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل فإن مصلحة فعل الطاعة: أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية ومفسدة عدم الطاعة: أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية وله رحمه الله فى ذلك مصنف قرره فيه بنحو من عشرين وجهاليس هذا موضع ذكرها والمقصود: الكلام على الصبر وحقيقته ودرجاته ومرتبته والله الموفق
فصل وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله
فالأول: أول الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبر وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [ النحل: 127 ] يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر والثاني: الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأعراض والثالث: الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية صابرا نفسه معها سائرا بسيرها مقيما بإقامتها يتوجه معها أين توجهت ركائبها وينزل معها أين استقلت مضاربها فهذا معنى كونه صابرا مع الله أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين قال الجنيد: المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن وهجران الخلق في جنب الله شديد والمسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد وسئل عن الصبر فقال: تجرع المرارة من غير تعبس(2/157)
قال ذو النون المصري الصبر التباعد من المخالفات والسكون عند تجرع غصص البلية وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة
وقيل: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور ولا شكوى وقيل: تعويد النفس الهجوم على المكاره وقيل: المقام مع البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية وقال عمرو بن عثمان: هو الثبات مع الله وتلقي بلائه بالرحب والدعة وقال الخواص: هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة وقال يحيى بن معاذ: صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين واعجبا ! كيف يصبرون وأنشد:
الصبر يجمل في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يجمل
وقيل: الصبر هو الاستعانة بالله وقيل: هو ترك الشكوى وقيل:
الصبر مثل اسمه مر مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل
وقيل: الصبر أن ترضى بتلف نفسك في رضى من تحبه كما قيل:
سأصبر كي ترضى وأتلف حسرة ... وحسبي أن ترضي ويتلفني صبري
وقيل: مراتب الصابرين خمسة: صابر ومصطبر ومتصبر وصبور وصبار فالصابر: أعمها والمصطبر: المكتسب الصبر المليء به والمتصبر: المتكلف حامل نفسه عليه والصبور: العظيم الصبر الذي صبره أشد من صبر غيره والصبار: الكثير الصبر فهذا فى القدر والكم والذي قبله في الوصف والكيف وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو(2/158)
وقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابرين فقال: الصبر في الله قال السائل: لا فقال: الصبر لله فقال: لا فقال: الصبر مع الله فقال: لا قال الشبلي: فإيش هو قال: الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف وقال الجريري: الصبر أن لا يفرق بين حال النعمة وحال المحبة مع سكون الخاطر فيهما والتصبر: هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال أثقال المحنة قال أبو علي الدقاق: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته فإن الله مع الصابرين وقيل في قوله تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [ آل عمران: 200 ] إنه انتقال من الأدنى إلى الأعلى ف الصبر دون المصابرة و المصابرة دون المرابطة و المرابطة مفاعلة من الربط وهو الشد وسمى المرابط مرابطا: لأن المرابطين يربطون خيولهم ينتظرون الفزع ثم قيل لكل منتظر قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها: مرابط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط وقال رباط يوم فى سبيل الله: خير من الدنيا وما فيها وقيل: اصبروا بنفوسكم على طاعة الله وصابروا بقلوبكم على البلوي في الله ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله وقيل: اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله وقيل: اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء فالصبر مع نفسك و المصابرة بينك وبين عدوك و المرابطة الثبات وإعداد العدة وكما أن الرباط لزوم الثغر لئلا يهجم منه العدو فكذلك(2/159)
الرباط أيضا لزوم ثغر القلب لئلا يهجم عليه الشيطان فيملكه أو يخربه أو يشعثه وقيل: تجرع الصبر فإن قتلك قتلك شهيدا وإن أحياك أحياك عزيزا وقيل: الصبر لله غناء وبالله تعالى بقاء وفي الله بلاء ومع الله وفاء وعن الله جفاء والصبر على الطلب عنوان الظفر وفي المحن عنوان الفرج
وقيل: حال العبد مع الله رباطه وما دون الله أعداؤه وفي كتاب الأدب للبخارى سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: الصبر والسماحة ذكره عن موسى بن اسماعيل قال: حدثنا سويد قال: حدثنا عبدالله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده فذكره وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها فإن النفس يراد منها شيئان: بذل ما أمرت به وإعطاؤه فالحامل عليه: السماحة وترك ما نهيت عنه والبعد منه فالحامل عليه: الصبر
وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل فسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه و الصفح الجميل هو الذى لا عتاب معه و الهجر الجميل هو الذي لا أذى معه وفي أثر اسرائيلي أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: أنزلت بعبدى بلائي فدعاني فما طلته بالإجابة فشكاني فقلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك وقال ابن عيينة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [ السجدة: 24 ] قال: أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساء وقيل: صبر العابدين أحسنه: أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه: أن يكون مرفوضا كما قيل:(2/160)
تبين يوم البين أن اعتزامه ... على الصبر من إحدى الظنون الكواذب
والشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل والنبي إذا وعد لا يخلف ثم قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [ يوسف: 86 ] وكذلك أيوب أخبر الله عنه: أنه وجده صابرا مع قوله: { مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [ الأنبياء: 83 ]
وإنما ينافي الصبر شكوى الله لا الشكوى إلى الله كما رأى بعضهم رجلا يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال: يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك ثم أنشد :
وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
فصل قال صاحب المنازل: الصبر: حبس النفس على المكروه وعقل اللسان
عن الشكوى وهو من أصعب المنازل على العامة وأوحشها في طريق المحبة وأنكرها في طريق التوحيد
وإنما كان صعبا على العامة: لأن العامي مبتدىء في الطريق وما له دربة في السلوك ولا تهذيب المرتاض بقطع المنازل فإذا أصابته المحن أدركه الجزع وصعب عليه احتمال البلاء وعز عليه وجدان الصبر لأنه ليس من أهل الرياضة فيكون مستوطنا للصبر ولا من أهل المحبة فيلتذ بالبلاء في رضى محبوبه
وأما كونه وحشة في طريق المحبة: فلأنها تقتضي التذاذ المحب بامتحان محبوبه له والصبر يقتضي كراهيته لذلك وحبس نفسه عليه كرها فهو وحشة في طريق المحبة وفي الوحشة نكتة لطيفة لأن الالتذاذ بالمحنة في المحبة هو من موجبات(2/161)
أنس القلب بالمحبوب فإذا أحس بالألم بحيث يحتاج إلى الصبر انتقل من الأنس إلى الوحشية ولولا الوحشة لما أحس بالألم المستدعي للصبر وإنما كان أنكرها في طريق التوحيد: لأن فيه قوة الدعوى لأن الصابر يدعي بحاله قوة الثبات وذلك ادعاء منه لنفسه قوة عظيمة وهذا مصادمة لتجريد التوحيد إذ ليس لأحد قوة ألبتة بل لله القوة جميعا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فهذا سبب كون الصبر منكرا في طريق التوحيد بل من أنكر المنكر كما قال لأن التوحيد يرد الأشياء إلى الله والصبر يرد الأشياء إلى النفس وإثبات النفس في التوحيد منكر هذا حاصل كلامه محررا مقررا وهو من منكر كلامه بل الصبر من آكد المنازل في طريق المحبة وألزمها للمحبين وهم أحوج إلى منزلته من كل منزلة وهو من أعرف المنازل في طريق التوحيد وأبينها وحاجة المحب إليه ضرورية فإن قيل: كيف تكون حاجة المحب إليه ضرورية مع منافاته لكمال المحبة فإنه لا يكون إلا مع منازعات النفس لمراد المحبوب
قيل: هذه هي النكتة التي لأجلها كان من آكد المنازل في طريق المحبة وأعلقها بها وبه يعلم صحيح المحبة من معلولها وصادقها من كاذبها فإن بقوة الصبر على المكاره في مراد المحبوب يعلم صحة محبته ومن ههنا كانت محبة أكثر الناس كاذبة لأنهم كلهم ادعوا محبة الله تعالى فحين امتحنهم بالمكاره انخلعوا عن حقيقة المحبة ولم يثبت معه إلا الصابرون فلولا تحمل المشاق وتجشم المكاره بالصبر: لما ثبتت صحة محبتهم وقد تبين بذلك أن أعظمهم محبة أشدهم صبرا ولهذا وصف الله تعالى بالصبر خاصة أوليائه وأحبابه فقال عن حبيبه أيوب:(2/162)
{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ ص: 44 ] ثم أثنى عليه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ ص: 44 ] وأمر أحب الخلق إليه بالصبر لحكمه وأخبر أن صبره به وأثنى على الصابرين أحسن الثناء وضمن لهم أعظم الجزاء وجعل أجر غيرهم محسوبا وأجرهم بغير حساب وقرن الصبر بمقامات الإسلام والإيمان والإحسان كما تقدم فجعله قرين اليقين والتوكل والإيمان والأعمال والتقوى وأخبر أن آياته إنما ينتفع بها أولو الصبر وأخبر أن الصبر خير لأهله وأن الملائكة تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما تقدم ذلك
وليس في استكراه النفوس لألم ما تصبر عليه وإحساسها به ما يقدح في محبتها ولا توحيدها فإن إحساسها بالألم ونفرتها منه أمر طبعي لها كاقتضائها للغذاء من الطعام والشراب وتألمها بفقده فلوازم النفس لا سبيل إلى إعدامها أو تعطيلها بالكلية وإلا لم تكن نفسا إنسانية ولارتفعت المحنة وكانت عالما آخر
و الصبر و المحبة لا يتناقضان بل يتواخيان ويتصاحبان والمحب صبور بل علة الصبر فى الحقيقة: المناقضة للمحبة المزاحمة للتوحيد أن يكون الباعث عليه غير إرادة رضى المحبوب بل إرادة غيره أو مزاحمته بإرادة غيره أو المراد منه لا مراده هذه هي وحشة الصبر ونكارته وأما من رأى صبره بالله وصبره لله وصبر مع الله مشاهدا أن صبره به تعالى لا بنفسه فهذا لا تلحق محبته وحشة ولا توحيده نكارة ثم لو استقام له هذا لكان في نوع واحد من أنواع الصبر وهو الصبر على المكاره فأما الصبر على الطاعات وهو حبس النفس عليها وعن المخالفات وهو منع النفس منها طوعا واختيارا والتذاذا فأي وحشة في هذا وأي نكارة فيه فإن قيل: إذا كان يفعل ذلك طوعا ومحبة ورضى وإيثارا: لم يكن الحامل(2/163)
له على ذلك الصبر فيكون صبره في هذا الحال ملزوم الوحشة والنكارة لمنافاتها لحال المحب قيل: لا منافاة في ذلك بوجه فإن صبره حينئذ قد اندرج في رضاه وانطوى فيه وصار الحكم للرضى لا أن الصبر عدم بل لقوة وارد الرضى والحب وإيثار مراد المحبوب صار المشهد والمنزل للرضى بحكم الحال والصبر جزء منه ومنطو فيه ونحن لا ننكر هذا القدر فإن كان هو المراد فحبذا الوفاق وليس المقصود القيل والقال ومنازعات الجدال وإن كان غيره: فقد عرف ما فيه والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الصبر عن المعصية
بمطالعة الوعيد: إبقاء على الإيمان وحذرا من الحرام وأحسن منها: الصبر عن المعصية حياء ذكر للصبر عن المعصية سببين وفائدتين
أما السببان: فالخوف من لحوق الوعيد المترتب عليها والثاني: الحياء من الرب تبارك وتعالى أن يستعان على معاصيه بنعمه وأن يبارز بالعظائم وأما الفائدتان: فالابقاء على الإيمان والحذر من الحرام فأما مطالعة الوعيد والخوف منه: فيبعث عليه قوة الإيمان بالخبر والتصديق بمضمونه وأما الحياء: فيبعث عليه قوة المعرفة ومشاهدة معاني الأسماء والصفات وأحسن من ذلك: أن يكون الباعث عليه وازع الحب فيترك معصيته محبة له كحال الصهيبيين وأما الفائدتان: فالإبقاء على الإيمان: يبعث على ترك المعصية لأنها لا بد أن(2/164)
تنقصه أو تذهب به أو تذهب رونقه وبهجته أو تطفىء نوره أو تضعف قوته أو تنقص ثمرته هذا أمر ضروري بين المعصية وبين الإيمان يعلم بالوجود والخبر والعقل كما صح عنه: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن فإياكم إياكم والتوبة معروضة بعد وأما الحذر عن الحرام: فهو الصبر عن كثير من المباح حذرا من أن يسوقه إلى الحرام ولما كان الحياء من شيم الأشراف وأهل الكرم والنفوس الزكية: كان صاحبه أحسن حالا من أهل الخوف ولأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته وحضور القلب معه ولأن فيه من تعظيمه وإجلاله ما ليس في وازع الخوف
فمن وازعه الخوف: قلبه حاضر مع العقوبة ومن وازعه الحياء: قلبه حاضر مع الله والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها والمستحي مراع جانب ربه وملاحظ عظمته وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان غير أن الحياء أقرب إلى مقام الإحسان وألصق به إذ أنزل نفسه منزلة من كأنه يرى الله فنبعت ينابيع الحياء من عين قلبه وتفجرت عيونها قال: الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة بالمحافظة عليها دواما وبرعايتها إخلاصا وبتحسينها علما هذا يدل على أن عنده: أن فعل الطاعة آكد من ترك المعصية فيكون الصبر عليها فوق الصبر عن ترك المعصية في الدرجة وهذا هو الصواب كما تقدم فإن ترك المعصية إنما كان لتكميل الطاعة(2/165)
والنهي مقصود للأمر فالمنهي عنه لما كان يضعف المأموز به وينقصه: نهي عنه حماية وصيانة لجانب الأمر فجانب الأمر أقوى وآكد وهو بمنزلة الصحة والحياة والنهي بمنزلة الحمية التي تراد لحفظ الصحة وأسباب الحياة وذكر الشيخ: أن الصبر في هذه الدرجة بثلاثة أشياء: دوام الطاعة والإخلاص فيها ووقوعها في مقتضى العلم وهو تحسينها علما فإن الطاعة تتخلف من فوات واحد من هذه الثلاثة فإن العبد إن لم يحافظ عليها دواما عطلها وإن حافظ عليها دواما عرض لها آفتان:
إحداهما: ترك الإخلاص فيها بأن يكون الباعث عليها غير وجه الله وإرادته والتقرب إليه فحفظها من هذه الآفة: برعاية الإخلاص
الثانية: ألا تكون مطابقة للعلم بحيث لا تكون على اتباع السنة فحفظها من هذه الآفة: بتجريد المتابعة كما أن حفظها من تلك الآفة بتجريد القصد والإرادة فلذلك قال: بالمحافظة عليها دواما ورعايتها إخلاصا وتحسينها علما
فصل قال: الدرجة الثالثة: الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء
وانتظار روح الفرج وتهوين البلية بعد أيادي المنن وبذكر سوالف النعم هذه ثلاثة أشياء تبعث المتلبس بها على الصبر في البلاء إحداها: ملاحظة حسن الجزاء وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء لشهود العوض وهذا كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة فالنفس موكلة بحب العاجل وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب ومطالعة الغايات وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن من رافق الراحة(2/166)
فارق الراحة وحصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة فإن قدر التعب تكون الراحة
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكريم الكرائم
ويكبر في عين الصغير صغيرها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
والقصد: أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك والثاني: انتظار روح الفرج يعني راحته ونسيمه ولذته فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة ولا سيما عند قوة الرجاء أو القطع بالفرج فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته: ما هو من خفي الألطاف وما هو فرج معجل وبه وبغيره يفهم معنى اسمه اللطيف والثالث: تهوين البلية بأمرين أحدهما: أن يعد نعم الله عليه وأياديه عنده فإذا عجز عن عدها وأيس من حصرها هان عليه ما هو فيه من البلاء ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر الثاني: تذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه فهذا يتعلق بالماضي وتعداد أيادي المنن: يتعلق بالحال وملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج: يتعلق بالمستقبل وأحدهما في الدنيا والثاني يوم الجزاء
ويحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت إصبعها فضحكت فقال لها بعض من معها: أتضحكين وقد انقطعت إصبعك فقالت: أخاطبك على قدر عقلك حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها إشارة إلى أن عقله لا يحتمل ما فوق هذا المقام من ملاحظة المبتلي ومشاهدة حسن اختياره لها في ذلك البلاء(2/167)
وتلذذها بالشكر له والرضى عنه ومقابلة ما جاء من قبله بالحمد والشكر كما قيل:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... فقد سرني أني خطرت ببالكا
فصل قال: وأضعف الصبر: الصبر لله وهو صبر العامة وفوقه:
الصبر بالله وهو صبر المريدين وفوقه: الصبر على الله وهو صبر السالكين معنى كلامه: أن صبر العامة لله أي رجاء ثوابه وخوف عقابه وصبر المريدين: بالله أي بقوة الله ومعونته فهم لا يرون لأنفسهم صبرا ولا قوة لهم عليه بل حالهم التحقق ب لا حول ولا قوة إلا بالله علما ومعرفة وحالا
وفوقهما: الصبر على الله أي على أحكامه إذ صاحبه يشهد المتصرف فيه فهو يصبر على أحكامه الجارية عليه جالبة عليه ما جلبت من محبوب ومكروه فهذه درجة صبر السالكين وهؤلاء الثلاثة عنده من العوام إذ هو في مقام الصبر وقد ذكر: أنه للعامة وأنه من أضعف منازلهم هذا تقرير كلامه
والصواب: أن الصبر لله فوق الصبر بالله وأعلى درجة منه وأجل فإن الصبر لله متعلق بإلهيته والصبر به: متعلق بربوبيته وما تعلق بإلهيته أكمل وأعلى مما تعلق بربوبيته ولأن الصبر له: عبادة والصبر به استعانة والعبادة غاية والاستعانة وسيلة والغاية مرادة لنفسها والوسيلة مرادة لغيرها ولأن الصبر به مشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر فكل من شهد الحقيقة الكونية صبر به وأما الصبر له: فمنزلة الرسل والأنبياء والصديقين وأصحاب مشهد إياك نعبد وإياك نستعين(2/168)
ولأن الصبر له: صبر فيما هو حق له محبوب له مرضى له والصبر به: قد يكون في ذلك وقد يكون فيما هو مسخوط له وقد يكون في مكروه أو مباح فأين هذا من هذا وأما تسمية الصبر على أحكامه صبرا عليه فلا مشاحة في العبارة بعد معرفة المعنى فهذا هو الصبر على أقداره وقد جعله الشيخ في الدرجة الثالثة وقد عرفت بما تقدم: أن الصبر على طاعته والصبر عن معصيته: أكمل من الصبر على أقداره كما ذكرنا في صبر يوسف عليه السلام فإن الصبر فيها صبر اختيار وإيثار ومحبة والصبر على أحكامه الكونية: صبر ضرورة وبينهما من البون ما قد عرفت وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم قومهم: أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسببا عن فعله وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح وصبر أبيه إبراهيم عليهما السلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف فعلمت بهذا أن الصبر لله أكمل من الصبر بالله والصبر على طاعته والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن قلت: الصبر بالله أقوى من الصبر لله فإن ما كان بالله كان بحوله وقوته وما كان به لم يقاومه شيء ولم يقم له شيء وهو صبر أرباب الأحوال والتأثير والصبر لله صبر أهل العبادة والزهد ولهذا هم مع إخلاصهم وزهدهم وصبرهم لله أضعف من الصابرين به فلهذا قال: وأضعف الصبر: الصبر لله قيل: المراتب أربعة
إحداها: مرتبة الكمال وهي مرتبة أولي العزائم وهي الصبر لله وبالله(2/169)
فيكون في صبره مبتغيا وجه الله صابرا به متبرئا من حوله وقوته فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها
الثانية: أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا فهو أخس المراتب وأردأ الخلق وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان
الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله وهو مستعين متوكل على حوله وقوته متبرىء من حوله هو وقوته ولكن صبره ليس لله إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ولكن لا عاقبة له وربما كانت عاقبته شر العواقب وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية فإن صبرهم بالله لا لله ولا في الله ولهم من الكشف والتأثير بحسب قوة أحوالهم وهم من جنس الملوك الظلمة فإن الحال كالملك يعطاه البر والفاجر والمؤمن والكافر
الرابع: من فيه صبر لله لكنه ضعيف النصيب من الصبر به والتوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه فهذا له عاقبة حميدة ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه لضعف نصيبه من إياك نعبد وإياك نستعين فنصيبه من الله: أقوى من نصيبه بالله فهذا حال المؤمن الضعيف وصابر بالله لا لله: حال الفاجر القوي وصابر لله وبالله: حال المؤمن القوي والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف
فصابر لله وبالله عزيز حميد ومن ليس لله ولا بالله مذموم مخذول ومن هو بالله لا لله قادر مذموم ومن هو لله لا بالله عاجز محمود
فبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذا الباب ويتبين فيه الخطأ من الصواب والله سبحانه وتعالى أعلم(2/170)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرضى
وقد أجمع العلماء على أنه مستحب مؤكد استحبابه واختلفوا في وجوبه على قولين وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكيهما على قولين لأصحاب أحمد وكان يذهب إلى القول باستحبابه قال: ولم يجىء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم
قال: وأما ما يروي من الأثر: من لم يصير على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي فهذا أثر إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم
قلت: ولا سيما عند من يرى أنه من جملة الأحوال التي ليست بمكتسبة بل هو موهبة محضة فكيف يؤمر به وليس مقدورا عليه وهذه مسألة اختلف فيها أرباب السلوك على ثلاث طرق فالخراسانيون قالوا: الرضى من جملة المقامات وهو نهاية التوكل فعلى هذا: يمكن أن يتوصل إليه العبد باكتسابه والعراقيون قالوا: هو من جملة الأحوال وليس كسبيا للعبد بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال والفرق بين المقامات والأحوال: أن المقامات عندهم من المكاسب والأحوال مجرد المواهب
وحكمت فرقة ثالثة بين الطائفتين منهم القشيري صاحب الرسالة وغيره فقالوا: يمكن الجمع بينهما بأن يقال: بداية الرضى مكتسبة للعبد وهي من جملة المقامات ونهايته من جملة الأحوال وليست مكتسبة فأوله مقام ونهايته حال(2/171)
واحتج من جعله من جملة المقامات: بأن الله مدح أهله وأثنى عليهم وندبهم إليه فدل ذلك على أنه مقدور لهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وقال: من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا غفرت له ذنوبه وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي وقد تضمنا الرضى بربوبيته سبحانه وألوهيته والرضى برسوله والانقياد له والرضى بدينه والتسليم له ومن اجتمعت له هذه الأربعة: فهو الصديق حقا وهي سهلة بالدعوى واللسان وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها من ذلك: تبين أن الرضى كان لسانه به ناطقا فهو على لسانه لا على حاله فالرضى بإلهيته يتضمن الرضى بمحبته وحده وخوفه ورجائه والإنابة إليه والتبتل إليه وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه فعل الراضي بمحبوبه كل الرضى وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له والرضى بربوبيته: يتضمن الرضى بتدبيره لعبده ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به
فالأول: يتضمن رضاه بما يؤمر به
والثاني: يتضمن رضاه بما يقدر عليه وأما الرضى بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته ولا يحاكم إلا إليه ولا يحكم عليه غيره ولا يرضى بحكم غيره ألبتة لا فى شىء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته ولا في(2/172)
شيء من أحكام ظاهره وباطنه لا يرضى في ذلك بحكم غيره ولا يرضى إلا بحكمه فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم وأحسن أحواله: أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور وأما الرضى بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى: رضي كل الرضى ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلم له تسليما ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده وشيخه وطائفته وههنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم فإياك أن تستوحش من الاغتراب والتفرد فإنه والله عين العزة والصحبة مع الله ورسوله وروح الأنس به والرضى به ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا بل الصادق كلما وجد مس الاغتراب وذاق حلاوته وتنسم روحه قال: اللهم زدني اغترابا ووحشة من العالم وأنسا بك وكلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب وهذا التفرد: رأى الوحشة عين الأنس بالناس والذل عين العز بهم والجهل عين الوقوف مع آرائهم وزبالة أذهانهم والانقطاع عين التقيد برسومهم وأوضاعهم فلم يؤثر بنصيبه من الله أحدا من الخلق ولم يبع حظه من الله بموافقتهم فيما لا يجدي عليه إلا الحرمان وغايته: مودة بينهم في الحياة الدنيا فإذا انقطعت الأسباب وحقت الحقائق وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وبليت السرائر ولم يجد من دون مولاه الحق من قوة ولا ناصر: تبين له حينئذ مواقع الربح والخسران وما الذي يخف أو يرجح به الميزان والله المستعان وعليه التكلان
والتحقيق في المسألة: أن الرضى كسبي باعتبار سببه موهبي باعتبار حقيقته فيمكن أن يقال بالكسب لأسبابه فإذا تمكن في أسبابه وغرس شجرته: اجتنى منها ثمرة الرضى فإن الرضى آخر التوكل فمن رسخ قدمه في التوكل(2/173)
والتسليم والتفويض: حصل له الرضى ولا بد ولكن لعزته وعدم إجابة أكثر النفوس له وصعوبته عليها لم يوجبه الله على خلقه رحمة بهم وتخفيفا عنهم لكن ندبهم إليه وأثنى على أهله وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها فمن رضي عن ربه رضي الله عنه بل رضي العبد عن الله من نتائج رضى الله عنه فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضي قبله أوجب له أن يرضى عنه ورضى بعده هو ثمرة رضاه عنه ولذلك كان الرضى باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العارفين وحياة المحبين ونعيم العابدين وقرة عيون المشتاقين ومن أعظم أسباب حصول الرضى: أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه فإنه يوصله إلى مقام الرضى ولابد قيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضى فقال إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه فيقول: إن أعطيتني قبلت وإن منعتني رضيت وإن تركتني عبدت وإن دعوتني أجبت وقال الجنيد: الرضى هو صحة العلم الواصل إلى القلب فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضى
وليس الرضى والمحبة كالرجاء والخوف فإن الرضى والمحبة حالان من أحوال أهل الجنة لا يفارقان المتلبس بهما في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة بخلاف الخوف والرجاء فإنهما يفارقان أهل الجنة بحصول ما كانوا يرجونه وأمنهم مما كانوا يخافونه وإن كان رجاؤهم لما ينالون من كرامته دائما(2/174)
لكنه ليس رجاء مشوبا بشك بل هو رجاء واثق بوعد صادق من حبيب قادر فهذا لون ورجاؤهم في الدنيا لون وقال ابن عطاء: الرضى سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل فيرضى به قلت: وهذا رضى بما منه وأما الرضى به: فأعلى من هذا وأفضل ففرق بين من هو راض بمحبوبه وبين من هو راض بما يناله من محبوبه من حظوظ نفسه والله أعلم
فصل وليس من شرط الرضى ألا يحس بالألم والمكاره بل ألا يعترض على
الحكم ولا يتسخطه ولهذا أشكل على بعض الناس الرضى بالمكروه وطعنوا فيه وقالوا: هذا ممتنع على الطبيعة وإنما هو الصبر وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهية وهما ضدان
والصواب: أنه لا تناقض بينهما وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى كرضى المريض بشرب الدواء الكريه ورضى الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمإ ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها
وطريق الرضى طريق مختصرة قريبة جدا موصلة إلى أجل غاية ولكن فيها مشقة ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة ولا فيها من العقبات والمفاوز ما فيها وإنما عقبتها همة عالية ونفس زكية وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله ويسهل ذلك على العبد: علمه بضعفه وعجزه ورحمته به وشفقته عليه وبره به فإذا شهد هذا وهذا ولم يطرح نفسه بين يديه ويرضى به وعنه وتنجذب دواعي حبه ورضاه كلها إليه: فنفسه نفس مطرودة عن الله بعيدة عنه ليست(2/175)
مؤهلة لقربه وموالاته أو نفس ممتحنة مبتلاة بأصناف البلايا والمحن
فطريق الرضى والمحبة: تسير العبد وهو مستلق على فراشه فيصبح أمام الركب بمراحل وثمرة الرضى: الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فى المنام وكأني ذكرت له شيئامن أعمال القلب وأخذت في تعظيمه ومنفعته لا أذكره الآن فقال: أما أنا فطريقتي الفرح بالله والسرور به أو نحو هذا من العبارة وهكذا كانت حاله في الحياة يبدو ذلك على ظاهره وينادي به عليه حاله لكن قد قال الواسطي: استعمل الرضى جهدك ولا تدع الرضى يستعملك فتكون محجوبا بلذته ورؤيته عن حقيقة ما تطالع وهذا الذي أشار إليه الواسطى هو عقبة عظيمة عند القوم ومقطع لهم فإن مساكنة الأحوال والسكون إليها والوقوف عندها: استلذاذا ومحبة: حجاب بينهم وبين ربهم بحظوظهم عن مطالعة حقوق محبوبهم ومعبودهم وهي عقبة لا يجوزها إلا أولو العزائم وكان الواسطي كثير التحذير من هذه العقبة شديد التنبيه عليها ومن كلامه: إياكم واستحلاء الطاعات فإنها سموم قاتلة فهذا معنى قوله: استعمل الرضى جهدك ولا تدع الرضى يستعملك أي لا يكون عملك لأجل حصول حلاوة الرضى بحيث تكون هي الباعثة لك عليه بل اجعله آلة لك وسببا موصلا إلى قصدك ومطلوبك فتكون مستعملا له لا أنه مستعمل لك وهذا لا يختص بالرضى بل هو عام في جميع الأحوال والمقامات القلبية التي يسكن إليها القلب حتى إنه أيضا لا يكون عاملا على المحبة لأجل المحبة(2/176)
وما فيها من اللذة والسرور والنعيم به بل يستعمل المحبة في مرضاة المحبوب لا يقف عندها فهذا من علل المحبة وقال ذو النون: ثلاثة من أعلام الرضى: ترك الاختيار قبل القضاء وفقدان المرارة بعد القضاء وهيجان الحب في حشو البلاء وقيل للحسين بن علي رضي الله عنهما: إن أبا ذر رضي الله عنه يقول: الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلي من الصحة فقال: رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافي: الرضى أفضل من الزهد في الدنيا لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته وسئل أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك الرضى بعد القضاء فقال: لأن الرضى قبل القضا عزم على الرضى والرضى بعد القضا هو الرضى وقيل: الرضى ارتفاع الجزع في أي حكم كان وقيل: رفع الاختيار وقيل: استقبال الأحكام بالفرح وقيل سكون القلب تحت مجاري الأحكام وقيل: نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد وهو ترك السخط وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى رضي الله عنهما: أما بعد فإن الخير كله في الرضى فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر وقال أبو علي الدقاق: الإنسان خزف وليس للخزف من الخطر ما يعارض فيه حكم الحق تعالى
وقال أبو عثمان الحيري: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته وما نقلني إلى غيره فسخطته والرضى ثلاثة أقسام: رضى العوام بما قسمه الله وأعطاه ورضى الخواص بما قدره وقضاه ورضى خواص الخواص به بدلا من كل ما سواه(2/177)
فصل قال صاحب المنازل:
قال الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [ الفجر: 2730 ] لم يدع في هذه الآية للمتسخط إليه سبيلا وشرط القاصد الدخول في الرضى و الرضى اسم للوقوف الصادق حيثما وقف العبد لا يلتمس متقدما ولا متأخرا ولا يستزيد مزيدا ولا يستبدل حالا وهو من أوائل مسالك أهل الخصوص وأشقها على العامة أما قوله: لم يدع في هذه الآية للمتسخط إليه سبيلا فلأنه قيد رجوعها إليه سبحانه بحال وهو وصف الرضى فلا سبيل إلى الرجوع إليه مع سلب ذلك الوصف عنها وهذا نظير قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [ النحل: 32 ] فإنما أوجب لهم هذا السلام من الملائكة والبشارة بقيد وهو وفاتهم طيبين فلم تبق الآية لغير الطيب سبيلا إلى هذه البشارة والحاصل: أن الدخول في الرضى شرط في رجوع النفس إلى ربها فلا ترجع إليه إلا إذا كانت راضية قلت: هذا تعلق بإشارة الآية لا بالمراد منها فإن المراد منها: رضاها بما حصل لها من كرامته وبما نالته عند الرجوع إليه فحصل لها رضاها والرضى عنها وهذا يقال لها عند خروجها من دار الدنيا وقدومها على الله
قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: إذا توفى العبد المؤمن أرسل الله إليه ملكين وأرسل إليه بتحفة من الجنة فيقال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح وريحان ورب عنك راض وفي وقت هذه المقالة ثلاثة أقوال للسلف(2/178)
أحدها: أنه عند الموت وهو الأشهر قال الحسن: إذا أراد قبضها اطمأنت إلى ربها ورضيت عن الله فيرضى الله عنها
وقال آخرون: إنما يقال لها ذلك عند البعث هذا قول عكرمة وعطاء والضحاك وجماعة وقال آخرون: الكلمة الأولى وهي ارجعي إلى ربك راضية مرضية تقال لها عند الموت والكلمة الثانية وهي فادخلي في عبادي وادخلي جنتي تقال لها يوم القيامة قال أبو صالح ارجعي إلى ربك راضية مرضية هذا عند خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها فادخلي في عبادي وادخلي جنتي والصواب: أن هذا القول يقال لها عند الخروج من الدنيا ويوم القيامة فإن أول بعثها عند مفارقتها الدنيا وحينئذ فهي في الرفيق الأعلى إن كانت مطمئنة إلى الله وفي جنته كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فإذا كان يوم القيامة قيل لها ذلك وحينئذ فيكون تمام الرجوع إلى الله ودخول الجنة فأول ذلك عند الموت وتمامه ونهايته: يوم القيامة فلا اختلاف في الحقيقة ولكن الشيخ أخذ من إشارة الآية: أن رجوعها إلى الله من الخلق في هذا العالم إنما يحصل برضاها ولكن لو استدل بالآية في مقام الطمأنينة لكان أولى فإن هذا الرجوع الذي حصل لها فيه رضاها والرضى عنها: إنما نالته بالطمأنينة وهو حظ الكسب من هذه الآية وموضع التنبيه على موقع الطمأنينة وما يحصل لصاحبها فلنرجع إلى شرح كلامه قوله: الرضى هو الوقوف الصادق يريد به الوقوف مع مراد الرب تبارك وتعالى الديني حقيقة من غير تردد في ذلك ولا معارضة وهذا مطلوب القوم السابقين وهو الوقوف الصادق مع محاب الرب تعالى من غير أن يشوب ذلك تردد ولا يزاحمه مراد(2/179)
قوله: حيثما وقف العبد يصح أن يكون العبد فاعلا أي حيث ما وقف بإذن ربه لا يلتمس تقدما ولا تأخرا ويصح أن يكون مفعولا وهو أظهر أي حيثما وقف الله العبد فإن وقف يستعمل لازما ومتعديا أي حيثما وقفه ربه لا يطلب تقدما ولا تأخرا وهذا إنما يكون فيما يقفه فيه من مراده الكوني الذي لا يتعلق بالأمر والنهي وأما إذا وقفه في مراد ديني فكماله بطلب التقدم فيه دائما فإنه إن لم تكن همته التقدم إلى الله في كل لحظة: رجع من حيث لا يدري فلا وقوف في الطريق ألبتة ولكن إذا وقف في مقام من الغنى والفقر والراحة والتعب والعافية والسقم والاستيطان ومفارقة الأوطان يقف حيث وقفه لا يطلب غير تلك الحالة التي أقامه الله فيها وهذا لتصحيح رضاه باختيار الله له والفناء به عن اختياره لنفسه وكذلك قوله: لا يستزيد مزيدا ولا يستبدل حالا وهذا المعنى الذي ذكره الشيخ فرد من أفراد الرضى وهو الرضى بالأقسام والأحكام الكونية التي لم يؤمر بمدافعتها وقوله: وهو من أوائل مسالك أهل الخصوص يعني أن سلوك أهل الخصوص: هو بالخروج عن النفس والخروج عن الإرادة: هو مبدأ الخروج عن النفس فإذا الرضى بهذا الاعتبار من أوائل مسالك الخاصة وهذا على أصله في كون الفناء غاية مطلوبة فوق الرضى والصواب: أن الرضى أجل منه وأعلى وهو غاية لا بداية نعم فوقه مقام الشكر فهو منزلة بينه وبين منزلة الصبر وقوله: وأشقها على العامة وذلك لمشقة الخروج عن الحظوظ على العامة و الرضى أول ما فيه: الخروج عن الحظوظ والله سبحانه وتعالى أعلم(2/180)
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: رضى العامة وهو الرضى بالله ربا وتسخط عبادة ما دونه وهذا قطب رحى الإسلام وهو يطهر من الشرك الأكبر الرضى بالله ربا: أن لا يتخذ ربا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه قال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [ الأنعام: 164 ] قال ابن عباس رضى الله عنهما: سيدا وإلها يعني فكيف أطلب ربا غيره وهو رب كل شيء وقال في أول السورة: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [ الأنعام: 14 ] يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة وقال في وسطها: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [ الأنعام: 114 ] أي أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه وهذا كتابه سيد الحكام فكيف نتحاكم إلى غير كتابه وقد أنزله مفصلا مبينا كافيا شافيا
وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل رأيتها هي نفس الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ورأيت الحديث يترجم عنها ومشتق منها فكثير من الناس يرضى بالله ربا ولا يبغي ربا سواه لكنه لا يرضى به وحده وليا وناصرا بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه أنهم يقربونه إلى الله وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك بل التوحيد: أن لا يتخذ من دونه أولياء والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته فموالاة أوليائه لون واتخاذ الولي من دونه لون ومن(2/181)
لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضى بحكمه وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: أن لا يتخذ سواه ربا ولا إلها ولا غيره حكما وتفسير الرضى بالله ربا: أن يسخط عبادة ما دونه هذا هو الرضى بالله إلها وهو من تمام الرضى بالله ربا فمن أعطى الرضى به ربا حقه سخط عبادة ما دونه قطعا لأن الرضى بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته كما أن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية وقوله: وهو قطب رحى الإسلام يعنى أن مدار رحى الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة ربه وحده وأن يسخط عبادة غيره وقد تقدم أن العبادة هي الحب مع الذل فكل من ذللت له وأطعته وأحببته دون الله فأنت عابد له وقوله: وهو يطهر من الشرك الأكبر يعني أن الشرك نوعان: أكبر وأصغر فهذا الرضى يطهر صاحبه من الأكبر وأما الأصغر: فيطهر منه نزوله منزلة إياك نعبد وإياك نستعين
فصل قال: وهو يصح بثلاثة شروط: أن يكون الله عز وجل أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة يعني أن هذا النوع من الرضى إنما يصح بثلاثة أشياء أيضا أحدها: أن يكون الله عز وجل أحب شيء إلى العبد وهذه تعرف بثلاثة أشياء أيضا أحدها: أن تسبق محبته إلى القلب كل محبة فتتقدم محبته المحاب كلها الثاني: أن تقهر محبته كل محبة فتكون محبته إلى القلب سابقة قاهرة(2/182)
ومحبة غيره متخلفة مقهورة مغلوبة منطوية في محبته الثالث: أن تكون محبة غيره تابعة لمحبته فيكون هو المحبوب بالذات والقصد الأول وغيره محبوبا تبعا لحبه كما يطاع تبعا لطاعته فهو في الحقيقة المطاع المحبوب وهذه الثلاثة في كونه أولى الأشياء بالتعظيم والطاعة أيضا
فالحاصل: أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه: فهو متكبر عليه ومتى أحب معه سواه وعظم معه سواه وأطاع معه سواه: فهو مشرك ومتى أفرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: الرضى عن الله وبهذا نطقت آيات التنزيل وهو الرضى عنه في كل ما قضى وقدر وهذا من أوائل مسالك أهل الخصوص الشيخ جعل هذه الدرجة أعلى من الدرجة التي قبلها ووجه قوله: أنه لا يدخل في الإسلام إلا بالدرجة الأولى فإذا استقر قدمه عليها دخل في مقام الإسلام وأما هذه الدرجة: فمن معاملات القلوب وهي لأهل الخصوص وهي الرضى عنه في أحكامه وأقضيته وإنما كان من أول مسالك أهل الخصوص لأنه مقدمة للخروج عن النفس والذي هو طريق أهل الخصوص فمقدمته بداية سلوكهم لأنه يتضمن خروج العبد عن حظوظه ووقوفه مع مراد الله عز وجل لا مع مراد نفسه
هذا تقرير كلامه وفي جعله هذه الدرجة أعلى من التي قبلها نظر لا يخفى وهو نظير جعله الصبر بالله أعلى من الصبر لله والذى ينبغي: أن تكون الدرجة الأولى أعلى شأنا وأرفع قدرا فإنها مختصة(2/183)
وهذه الدرجة مشتركة فإن الرضى بالقضاء يصح من المؤمن والكافر وغايته التسليم لقضاء الله وقدره فأين هذا من الرضى به ربا وإلها ومعبودا وأيضا فالرضى به ربا فرض بل هو من آكد الفروض باتفاق الأمة فمن لم يرض به ربا لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال وأما الرضى بقضائه: فأكثر الناس على أنه مستحب وليس بواجب وقيل: بل هو واجب وهما قولان في مذهب أحمد
فالفرق بين الدرجتين فرق ما بين الفرض والندب وفي الحديث الإلهي الصحيح: يقول الله عز وجل: ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه فدل على أن التقرب إليه سبحانه بأداء فرائضه أفضل وأعلى من التقرب إليه بالنوافل وأيضا: فإن الرضى به ربا يتضمن الرضى عنه ويستلزمه فإن الرضى بربوبيته: هو رضى العبد بما يأمره به وينهاه عنه ويقسمه له ويقدره عليه ويعطيه إياه ويمنعه منه فمتى لم يرض بذلك كله لم يكن قد رضي به ربا من جميع الوجوه وإن كان راضيا به ربا من بعضها فالرضى به ربا من كل وجه: يستلزم الرضى عنه ويتضمنه بلا ريب
وأيضا: فالرضى به ربا متعلق بذاته وصفاته وأسمائه وربوبيته العامة والخاصة فهو الرضى به خالقا ومدبرا وآمرا وناهيا وملكا ومعطيا ومانعا وحكما ووكيلا ووليا وناصرا ومعينا وكافيا وحسيبا ورقيبا ومبتليا ومعافيا وقابضا وباسطا إلى غير ذلك من صفات ربوبيته
وأما الرضى عنه: فهو رضى العبد بما يفعله به ويعطيه إياه ولهذا إنما يجىء إلا في الثواب والجزاء كقوله تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [ الفجر: 2728 ] فهذا برضاها عنه لما حصل لها من كرامته كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [ البينة: 8 ](2/184)
والرضى به: أصل الرضى عنه والرضى عنه: ثمرة الرضى به وسر المسألة: أن الرضى به متعلق بأسمائه وصفاته والرضى عنه: متعلق بثوابه وجزائه وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم علق ذوق طعم الإيمان بمن رضي بالله ربا ولم يعلقه بمن رضي عنه كما قال: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فجعل الرضى به قرين الرضى بدينه ونبيه وهذه الثلاثة هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا بها وعليها وأيضا: فالرضى به ربا يتضمن توحيده وعبادته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاءه ومحبته والصبر له وبه والشكر على نعمه يتضمن رؤية كل ما منه نعمة وإحسانا وإن ساء عبده فالرضا به يتضمن شهادة أن لا إله إلا الله والرضى بمحمد رسولا يتضمن شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والرضى بالإسلام دينا: يتضمن التزام عبوديته وطاعته وطاعة رسوله فجمعت هذه الثلاثة الدين كله وأيضا: فالرضى به ربا يتضمن اتخاذه معبودا دون ما سواه واتخاذه وليا ومعبودا وإبطال عبادة كل ما سواه وقد قال تعالى لرسوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [ الأنعام: 114 ] وقال: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [ الأنعام: 14 ] وقال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [ الأنعام: 164 ] فهذا هو عين الرضى به ربا
وأيضا: فإنه جعل حقيقة الرضى به ربا: أن يسخط عبادة ما دونه فمتى سخط العبد عبادة ما سوى الله من الآلهة الباطلة حبا وخوفا ورجاء وتعظيما وإجلالا فقد تحقق بالرضى به ربا الذي هو قطب رحى الإسلام وإنما كان قطب رحى الدين: لأن جميع العقائد والأعمال والأحوال: إنما تنبني على توحيد الله عز وجل في العبادة وسخط عبادة ما سواه فمن لم يكن(2/185)
له هذا القطب لم يكن له رحى تدور عليه ومن حصل له هذا القطب ثبتت له الرحى ودارت على ذلك القطب فيخرج حينئذ من دائرة الشرك إلى دائرة الإسلام فتدور رحى إسلامه وإيمانه على قطبها الثابت اللازم
وأيضا: فإنه جعل حصول هذه الدرجة من الرضى موقوفا على كون المرضى به ربا سبحانه أحب إلى العبد من كل شيء وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة ومعلوم أن هذا يجمع قواعد العبودية وينتظم فروعها وشعبها
ولما كانت المحبة التامة ميل القلب بكليته إلى المحبوب: كان ذلك الميل حاملا على طاعته وتعظيمه وكلما كان الميل أقوى: كانت الطاعة أتم والتعظيم أوفر وهذا الميل يلازم الإيمان بل هو روح الإيمان ولبه فأي شيء يكون أعلى من أمر يتضمن أن يكون الله سبحانه أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة
وبهذا يجد العبد حلاوة الإيمان كما في الصحيح عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كمان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار فعلق ذوق الإيمان بالرضى بالله ربا وعلق وجود حلاوته بما هو موقوف عليه ولا يتم إلا به وهو كونه سبحانه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله ولما كان هذا الحب التام والإخلاص الذي هو ثمرته أعلى من مجرد الرضى بربوبيته سبحانه: كانت ثمرته أعلى وهي وجد حلاوة الإيمان وثمرة الرضى: ذوق طعم الإيمان فهذا وجد حلاوة وذلك ذوق طعم والله المستعان وإنما ترتب هذا وهذا على الرضى به وحده ربا والبراءة من عبودية ما سواه وميل القلب بكليته إليه وانجذاب قوى المحب كلها إليه ورضاه عن ربه تابع(2/186)
لهذا الرضى به فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدا ومن رضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته: لم ينل بذلك درجة رضى الرب عنه إن لم يرض به ربا وبنبيه رسولا وبالإسلام دينا فإن العبد قد يرضى عن الله ربه فيما أعطاه وفيما منعه ولكن لا يرضى به وحده معبودا وإلها ولهذا إنما ضمن رضي العبد يوم القيامة لمن رضى به ربا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال كل يوم: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة
فصل إذا عرف هذا فلنرجع إلى شرح كلامه قال: وبهذا الرضى نطق النزيل
شير إلى قوله عز وجل: قال الله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ المائدة: 119 ] وقال تعالى فى آخر سورة المجادلة {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وقال في آخر سورة لم يكن {خالدين خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} فتضمنت هذه الآيات: جزاءهم على صدقهم وإيمانهم وأعمالهم الصالحة ومجاهدة أعدائه وعدم ولا يتهم بأن رضي الله عنهم فأرضاهم فرضوا عنه وإنما حصل لهم هذا بعد الرضى به ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا قوله: وهو الرضى عنه في كل ما قضى ههنا ثلاثة أمور: الرضاء بالله والرضا عن الله والرضا بقضاء الله فالرضى به فرض والرضى عنه وإن كان من أجل الأمور وأشرف أنواع العبودية فلم يطالب به العموم لعجزهم عنه ومشتقه عليهم وأوجبته طائفة كما أوجبوا الرضى به واحتجوا بحجج(2/187)
منها: أنه إذا لم يكن راضيا عن ربه فهو ساخط عليه إذ لا واسطة بين الرضى والسخط وسخط العبد على ربه مناف لرضاه به ربا قالوا: وأيضا فعدم رضاه عنه يستلزم سوء ظنه به ومنازعته له في اختياره لعبده وأن الرب تبارك وتعالى يختار شيئا ويرضاه فلا يختاره العبد ولا يرضاه وهذا مناف للعبودية قالوا: وفي بعض الآثار الإلهية من لم يرض بقضائى ولم يصبر على بلائي فليتخذ ربا سواي ولا حجة في شيء من ذلك
أما قوله: إنه لا يتخلص من السخط على ربه إلا بالرضى عنه إذ لا واسطة بين الرضا والسخط فكلام مدخول لأن السخط بالمقضي لا يستلزم السخط على من قضاه كما أن كراهة المقضي وبغضه والنفرة عنه لا تستلزم تعلق ذلك بالذي قضاه وقدره فالمقضي قد يسخطه العبد وهو راض عمن قضاه وقدره بل قد يجتمع تسخطه والرضى بنفس القضاء كما سيأتي إن شاء الله وأما قولكم: إنه يستلزم سوء ظن العبد بربه ومنازعته له في اختياره فليس كذلك بل هو حسن الظن بربه في الحالتين فإنه إنما يسخط المقدور وينازعه بمقدور آخر كما ينازع القدر الذي يكرهه ربه بالقدر الذي يحبه ويرضاه فينازع قدر الله بقدر الله بالله لله كما يستعيذ برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته ويستعيذ به منه فأما كونه يختار لنفسه خلاف ما يختاره الرب فهذا موضع تفصيل لا يسحب عليه ذيل النفي والإثبات فاختيار الرب تعالى لعبده نوعان: أحدهما: اختيار ديني شرعي فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا النوع غير ما اختاره له سيده قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [ الأحزاب: 36 ] فاختيار العبد خلاف ذلك مناف لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا(2/188)
النوع الثاني: اختيار كوني قدري لا يسخطه الرب كالمصائب التي يبتلى الله بها عبده فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه ويدفعها ويكشفها وليس في ذلك منازعة للربوبية وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر فهذا يكون تارة واجبا وتارة يكون مستحبا وتارة يكون مباحا مستوى الطرفين وتارة يكون مكروها وتارة يكون حراما وأما القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه مثل قدر المعائب والذنوب فالعبد مأمور بسخطها ومنهي عن الرضى بها
وهذا هو التفصيل الواجب في الرضى بالقضاء وقد اضطرب الناس في ذلك اضطرابا عظيما ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل فإن لفظ الرضى بالقضاء لفظ محمود مأمور به وهو من مقامات الصديقين فصارت له حرمة أوجبت لطائفة قبوله من غير تفصيل وظنوا أن كل ما كان مخلوقا للرب تعالى فهو مقضى مرضي مخلوقا له ينبغي له الرضى به ثم انقسموا على فرقتين فقالت فرقة: إذا كان القضاء والرضى متلازمين فمعلوم أنا مأمورون ببغض المعاصي والكفر والظلم فلا تكون مقضية مقدرة وفرقة قالت: قد دل العقل والشرع على أنها واقعة بقضاء الله وقدره فنحن نرضى بها
والطائفتان منحرفتان جائرتان عن قصد السبيل فأولئك أخرجوها عن قضاء الرب وقدره وهؤلاء رضوا بها ولم يسخطوها هؤلاء خالفوا الرب تعالى في رضاه وسخطه وخرجوا عن شرعه ودينه وأولئك أنكروا تعلق قضائه وقدره بها واختلفت طرق أهل الإثبات للقدر والشرع في جواب الطائفتين فقالت طائفة: لم يقم دليل من الكتاب ولا السنة ولا الإجماع على جواز(2/189)
الرضى بكل قضاء فضلا عن وجوبه واستحبابه فأين أمر الله عباده أو رسوله: أن يرضوا بكل ما قضاه الله وقدره وهذه طريقة كثير من أصحابنا وغيرهم وبه أجاب القاضي أبو يعلى وابن الباقلاني قال: فإن قيل: أفترضون بقضاء الله وقدره قيل له: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه الذي أمرنا أن نرضى به ولا نرضى من ذلك ما نهانا عنه أن نرضى به ولا نتقدم بين يدي الله تعالى ولا نعترض على حكمه وقالت طائفة أخرى: يطلق الرضى بالقضاء في الجملة دون تفاصيل المقضي المقدر فنقول: نرضى بقضاء الله جملة ولا نسخطه ولا نطلق الرضى على كل واحد من تفاصيل المقضي كما يقول المسلمون: كل شيء يبيد ويهلك ولا يقولون: حجج الله تبيد وتهلك ويقولون: الله رب كل شيء ولا يضيفون ربوبيته إلى الأعيان المستخبثة المستقذرة بخصوصها وقالت طائفة أخرى: نرضى بها من جهة إضافتها إلى الرب خلقا ومشيئة ونسخطها من جهة إضافتها إلى العبد كسبا له وقياما به وقالت طائفة أخرى: بل نرضى بالقضاء ونسخط المقضي فالرضى والسخط لم يتعلقا بشيء واحد
وهذه الأجوبة لا يتمشى شيء منها على أصول من يجعل محبة الرب تعالى ورضاه ومشيئته واحدة كما هو أحد قول الأشعري وأكثر أتباعه فإن هؤلاء يقولون: إن كل ما شاءه وقضاه فقد أحبه ورضيه وإذا كان الكون محبوبا له مرضيا فنحن نحب ما أحبه ونرضى ما رضيه وقولكم: إن الرضى بالقضاء يطلق جملة ولا يطلق تفصيلا فذلك لا يمنع دخوله في جملة المرضي به فيعود الإشكال(2/190)
وقولكم: نرضى بها من جهة كونها خلقا لله ونسخطها من جهة كونها كسبا للعبد: فك2سب العبد إن كان أمرا وجوديا فهو خلق لله فنرضى به وإن كان أمرا عدميا فلا حقيقة له ترضى ولا تسخط وأما قولكم: نرضى بالقضاء دون المقضي: فهذا إنما يصح على قول من يجعل القضاء غير المقضي والفعل غير المفعول وأما من لم يفرق بينهما: فكيف يصح هذا على أصله وقد أورد القاضي أبو بكر الباقلانى على نفسه هذا السؤال فقال: فإن قيل: القضاء عندكم هو المقضي أو غيره قيل: هو على ضربين فالقضاء بمعنى الخلق هو المقضي لأن الخلق هو المخلوق والقضاء الذي هو الإلزام والإعلام والكتابة: غير المقضى لأن الأمر غير المأمور والخبر غير المخبر عنه
وهذا الجواب لا يخلصه أيضا لأن الكلام ليس في الإلزام والإعلام والكتابة وإنما الكلام في نفس الفعل المقدور المعلم به المكتوب: هل مقدره وكاتبه سبحانه راض به أم لا وهل العبد مأمور بالرضى به نفسه أم لا هذا هو حرف المسألة وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على من جعل مشيئته وقضاءه مستلزمان لمحبته ورضاه فكيف بمن جعل ذلك شيئا واحدا قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [ الأنعام: 148 ] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [ النحل: 35 ] وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [ الزخرف: 20 ] فهم استدلوا على محبته لشركهم ورضاه عنه(2/191)
بمشيئته لذلك وعارضوا بهذا الدليل أمره ونهيه وفيه أبين الرد لقول من جعل مشيئته غير محبته ورضاه فالإشكال إنما نشأ من جعلهم المشيئة نفس المحبة ثم زادوه بجعلهم الفعل نفس المفعول والقضاء عين المقضي فنشأ من ذلك إلزامهم بكونه تعالى راضيا محبا لذلك والتزام رضاهم به والذي يكشف هذه الغمة ويبصر من هذه العماية وينجي من هذه الورطة إنما هو التفريق بين ما فرق الله بينه وهو المشيئة والمحبة فإنهما ليسا واحدا ولا هما متلازمين بل قد يشاء ما لا يحبه ويحب ما لا يشاء كونه فالأول: كمشيئته لوجود إبليس وجنوده ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه والثاني: كمحبته إيمان الكفار وطاعات الفجار وعدل الظالمين وتوبة الفاسقين ولو شاء ذلك لوجد كله وكان جميعه فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإذا تقرر هذا الأصل وأن الفعل غير المفعول والقضاء غير المقضي وأن الله سبحانه لم يأمر عباده بالرضى بكل ما خلقه وشاءه: زالت الشبهات وانحلت الإشكالات ولله الحمد ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض بحيث يظن إبطال أحدهما للآخر بل القدر ينصر الشرع والشرع يصدق القدر وكل منهما يحقق الآخر
إذا عرف هذا فالرضى بالقضاء الديني الشرعي واجب وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان فيجب على العبد أن يكون راضيا به بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [ النساء: 65 ] فأقسم: أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه وحتى يسلموا لحكمه تسليما وهذا حقيقة الرضى بحكمه فالتحكيم: في مقام الإسلام وانتفاء الحرج: في مقام الإيمان والتسليم: في مقام الإحسان(2/192)
ومتى خالط القلب بشاشة الإيمان واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين وحيى بروح الوحي وتمهدت طبيعته وانقلبت النفس الأمارة مطمئنة راضية وادعة وتلقى أحكام الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلم: فقد رضي كل الرضى بهذا القضاء الديني المحبوب لله ولرسوله والرضى بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من الصحة والغنى والعافية واللذة أمر لازم بمقتضى الطبيعة لأنه ملائم للعبد محبوب له فليس في الرضى به عبودية بل العبودية في مقابلته بالشكر والاعتراف بالمنة ووضع النعمة مواضعها التى يحب الله أن توضع فيها وأن لا يعصى المنعم بها وأن يرى التقصير في جميع ذلك والرضى بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب وهو من مقامات أهل الإيمان وفي وجوبه قولان وهذا كالمرض والفقر وأذى الخلق له والحر والبرد والآلام ونحو ذلك والرضى بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان: حرام يعاقب عليه وهو مخالفة لربه تعالى فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه فكيف تتفق المحبة ورضى ما يسخطه الحبيب ويبغضه فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضى بالقضاء فإن قلت: كيف يريد الله سبحانه أمرا لا يرضاه ولا يحبه وكيف يشاؤه ويكونه وكيف تجتمع إرادة الله له وبغضه وكراهيته قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا وتباينت عنده طرقهم وأقوالهم فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره:(2/193)
فالمراد لنفسه: مطلوب محبوب لذاته ولما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد والمراد لغيره: قد لا يكون في نفسه مقصودا للمريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما وهذا كالدواء المتناهي في الكراهة إذا علم متناوله أن فيه شفاءه وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده وكقطع المسافة الشاقة جدا إذا علم أنها توصله إلى مراده ومحبوبه بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته وطويت عنه مغبته فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب فهو سبحانه وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته ولاينافي ذلك إرادته لغيره وكونه سببا إلى ما هو أحب إليه من فوته مثال أنه سبحانه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى مسخوط له لعنه الله ومقته وغضب عليه ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه وجودها أحب إليه من عدمها:
منها: أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبريل التي هي أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها وهي مادة كل خير فتبارك الله خالق هذا وهذا كما ظهرت لهم قدرته التامة في خلق الليل والنهار والضياء والظلام والداء والدواء والحياة والموت والحر والبرد(2/194)
والحسن والقبيح والأرض والسماء والذكر والأنثى والماء والنار والخير والشر
وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته وسلطانه وملكه فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض وسلط بعضها على بعض وجعلها محال تصرفه وتدبيره وحكمته فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته
ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية مثل القهار والمنتقم والعدل والضار وشديد العقاب وسريع الحساب وذي البطش الشديد والخافض والمذل فإن هذه الأسماء والأفعال كمال فلا بد من وجود متعلقها ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك: لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة فإنه سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته فلا يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع ولا الثواب موضع العقاب ولا العقاب موضع الثواب ولا الخفض موضع الرفع ولا الرفع موضع الخفض ولا العز مكان الذل ولا الذل مكان العز ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه ولا ينهى عما ينبغي الأمر به فهو أعلم حيث يجعل رسالته وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها(2/195)
إليه ووصولها وأعلم بمن لا يصلح لذلك ولا يستأهله وأحكم من أن يمنعها أهلها وأن يضعها عند غير أهلها فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار ولم تظهر لخلقه ولفاتت الحكم والمصالح المترتبة عليها وفواتها شر من حصول تلك الأسباب فلو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر فلو قدر تعطيلها لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشر بما لا نسبة بينه وبينه
فصل ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت
ولكان الحاصل بعضها لا كلها فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها: من الموالاة فيه سبحانه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه وبذل النفس له في محاربة عدوه وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الرب على محاب النفس
ومنها: عبودية التوبة والرجوع إليه واستغفاره فإنه سبحانه يحب التوابين ويحب توبتهم فلو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها ومنها: عبودية مخالفة عدوه ومراغمته في الله وإغاظته فيه وهي من أحبر(2/196)
أنواع العبودية إليه فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه ويسوءه وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس ومنها: أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه وسؤاله أن يجيره منه ويعصمه من كيده وأذاه ومنها: أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه بمخالفته وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المرتبة الشيطانية فلا يخلدون إلى غرور الأمل بعد ذلك
ومنها: أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته الذي حصوله مشروط بالمعاداة والمخالفة فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتبة على مخالفته ومنها: أن نفس اتخاذه عدوا من أكبر أنواع العبودية وأجلها قال الله تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [ فاطر: 6 ] فاتخاذه عدوا أنفع شىء للعبد وهو محبوب للرب
ومنها: أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر والطيب والخبيث وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد فخلق الشيطان مستخرجا لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ليترتب عليه آثاره وما في قوى أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره وتظهر حكمته في الفريقين وينفذ حكمه فيهما ويظهر ما كان معلوما له مطابقا لعلمه السابق وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكته حين قالوا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [ البقرة: 30 ] فظنت الملائكة أن وجود من يسبح بحمده ويطيعه ويعبده أولى منر(2/197)
وجود من يعصيه ويخالفه فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح والغايات المحمودة في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة ومنها: أن ظهور كثير من آياته وعجائب صنعه: حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكافرة الظالمة كآية الطوفان وآية الريح وآية إهلاك ثمود وقوم لوط وآية انقلاب النار على إبراهيم بردا وسلاما والآيات التي أجراها الله تعالى على يد موسى وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر كل آية منها في سورة الشعراء: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [ الشعراء: 68-9 ] فلولا كفر الكافرين وعناد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلا بعد جيل إلى الأبد ومنها: أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضا ويكسر بعضها بعضا: هو من شأن كمال الربوبية والقدرة النافذة والحكمة التامة والملك الكامل وإن كان شأن الربوبية كاملا في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب لكن خلقها من لوازم كماله وملكه وقدرته وحكمته فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة: تحقيق لذلك الكمال وموجب من موجباته فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصفات من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه وأقسامه وغاياته
وبالجملة: فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا يرضاه وتقديره ومشيئته: أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها فإن قلت: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب قلت: هذا سؤال باطل إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه كفرض وجود الابن بدون الأب والحركة بدون المتحرك والتوبة بدون التائب فإن قلت: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه أم هي مسخوطة من جميع الوجوه(2/198)
قلت: هذا السؤال يورد على وجهين أحدهما: من جهة الرب سبحانه وتعالى وهل يكون محبا لها من جهة إفضائها إلى محبوبه وإن كان يبغضها لذاتها والثاني: من جهة العبد وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضا فهذا سؤال له شأن فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه وهو من هذه الجهة شر وأما من جهة وجوده المحض: فلا شر فيه مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه وحركتها من حيث هي حركة خير وإنما تكون شرا بالإضافة لا من حيث هي حركة والشر كله ظلم وهو وضع الشىء في غير موضعه فلو وضع في موضعه لم يكن شرا
فعلم أن جهة الشر فيه: نسبة إضافية ولهذا كانت العقوبات الموضوعات في محالها خيرا في نفسها وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذى حلت به لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه فإنه سبحانه لا يخلق شرا محضا من جميع الوجوه والاعتبارات فإن حكمته تأبى ذلك بل قد يكون ذلك المخلوق شرا ومفسدة ببعض الاعتبارات وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده بل الواقع منحصر في ذلك فلا يمكن في جناب الحق جل جلاله أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه بكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما هذا من أبين المحال فإنه سبحانه بيده الخير والشر ليس إليه بل كل ما إليه فخير والشر(2/199)
إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه فلو كان إليه لم يكن شرا فتأمله فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا
فإن قلت: لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة قلت: هو من هذه الجهة ليس بشر فإن وجوده هو المنسوب إليه وهو من هذه الجهة ليس بشر والشر الذي فيه: من عدم إمداده بالخير وأسبابه والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير فإن أردت مزيد إيضاح لذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد والإعداد والإمداد فهذه هي الخيرات وأسبابها فإيجاد السبب خير وهو إلى الله وإعداده خير وهو إليه أيضا وإمداده خير وهو إليه أيضا فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه ضده فإن قلت: فهلا أمده إذ أوجده قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه سبحانه يوجد ويمده وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده: أوجده بحكمته ولم يمده بحكمته فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده فإن قلت: فهلا أمد الموجودات كلها قلت: فهذا سؤال فاسد يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة وهذا عين الجهل بل الحكمة كل الحكمة: في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها وليس في خلق كل نوع منها تفاوت فكل نوع منها ليس في خلقه من تفاوت والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق من تفاوت فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم فراجع قول القائل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع(2/200)
كما ذكر: أن الأصمعي اجتمع بالخليل بن أحمد وحرص على فهم العروض منه: فأعياه ذلك فقال له الخليل يوما: قطع لي هذا البيت وأنشده: إذا لم تستطع شيئا البيت ففهم ما أراد فأمسك عنه ولم يشتغل به وسر المسألة: أن الرضى بالله يستلزم الرضى بصفاته وأفعاله وأسمائه وأحكامه ولا يستلزم الرضى بمفعولاته كلها بل حقيقة العبودية: أن يوافقه عبده في رضاه وسخطه فيرضى منها بما يرضى به ويسخط منها ما سخطه فإن قيل: فهو سبحانه يرضى عقوبة من يستحق العقوبة فكيف يمكن العبد أن يرضى بعقوبته له قيل: لو وافقه في رضاه بعقوبته لانقلبت لذة وسرورا ولكن لا يقع منه ذلك فإنه لم يوافقه في محبته وطاعته التي هي سرور النفس وقرة العين وحياة القلب فكيف يوافقه في محبته للعقوبة التي هى أكره شيء إليه وأشق شيء عليه بل كان كارها لما يحبه من طاعته وتوحيده فلا يكون راضيا بما يختاره من عقوبته ولو قبل ذلك لارتفعت عنه العقوبة فإن قلت: فكيف يجتمع الرضى بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته
قلت: لا تنافي في ذلك فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب ويكرهه من جهة تألمه به كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه فإنه يجتمع فيه رضاه به وكراهته له فإن قلت: كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه قلت: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التى رضيها له وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هى أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة بحيث يكون وقوعها منه مستلزما لمفسدة راجحة ومفوتا لمصلحة راجحة وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله:(2/201)
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [ التوبة: 46-47 ] فأخبر سبحانه: أنه كره انبعاثهم مع رسوله للغزو وهو طاعة وقربة وقد أمرهم به فلما كرهه منهم ثبطهم عنه ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت ستترتب على خروجهم لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا أي فسادا وشرا ولأوضعوا خلالكم أي سعوا فيما بينكم بالفساد والشر يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم أي قابلون منهم مستجيبون لهم فيتولد من بين سعي هؤلاء بالفساد وقبول أولئك منهم من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم فاقتضت الحكمة والرحمة: أن منعهم من الخروج وأقعدهم عنه فاجعل هذا المثال أصلا لهذا الباب وقس عليه فإن قلت: قد يتصور لي هذا في رضى الرب تعالى لبعض ما يخلقه من وجه وكراهته من وجه آخر فكيف لي بأن يجتمع الأمران في حقي بالنسبة إلى المعاصي والفسوق قلت: وهو متصور ممكن بل واقع فإن العبد يسخط ذلك ويبغضه ويكرهه من حيث هو فعل له بسببه وواقع بكسبه وإرادته واختياره ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإذنه الكوني فيه فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان وطائفة أخرى رأوا كراهة ذلك مطلقا وعدم الرضى به من كل وجه
وهؤلاء في الحقيقة لا يخالفون أولئك فإن العبد إذا كرهها مطلقا فإن الكراهة إنما تقع على الاعتبار المكروه منها وهؤلاء لم يكرهوا علم الرب وكتابته(2/202)
ومشيئته وإلزامه حكمه الكوني وأولئك لم يرضوا بها من الوجه الذي سخطها الرب وأبغضها لأجله
وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه والذي إلى العبد منها هو المكروه والمسخوط فإن قلت: ليس إلى العبد شيء منها قلت: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق والقدري أقرب إلى التخلص منه من الجبري وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية: هم أسعد بالتخلص منه من الفريقين فإن قلت: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة قلت: هذا الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته في ذلك وقيل:
أصبحت منفعلا لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات
وهؤلاء أعمى الخلق بصائر وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية فإن الطاعة هي موافقة الأمر لا موافقة القدر والمشيئة ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله وكان قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون كلهم مطيعين له فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته وانتقم منهم لأجلها وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله فإن قلت: ومع ذلك فاجمع لي بين الندم والتوبة وبين مشهد القيومية والحكمة قلت: العبد إذا شهد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه وكمال فقره إلى ربه وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين كان بالله في هذه الحال لا بنفسه(2/203)
فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة فإن عليه حصنا حصينا من: فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال فإذا حجب عن هذا المشهد وسقط إلى وجوده الطبيعي وبقي بنفسه: استولى عليه حكم النفس والطبع والهوى وهذا الوجود الطبيعي قد نصبت فيه الشباك والأشراك وأرسلت عليه الصيادون فلابد أن يقع في شبكة من تلك الشباك وشرك من تلك الأشراك وهذا الوجود هو حجاب بينه وبين ربه فعند ذلك يقع الحجاب ويقوى المقتضى ويضعف المانع وتشتد الظلمة وتضعف القوى فأنى له بالخلاص من تلك الأشراك والشباك فإذا انقشع ضباب ذلك الوجود الطبيعي وانجاب ظلامه وزال قتامه وصرت بربك ذاهبا عن نفسك وطبعك
بدا لك سر طال عنك اكتتامه ... ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فإن غبت عنه حل فيه وطنبت ... على منكب الكشف المصون خيامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ... ولولاك لم يطبع عليه ختامه
وجاء حديث لا يمل سماعه ... شهي إلينا نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها ... وزال عن القلب المعنى قتامه
فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة فإنه كان في المعصية بنفسه محجوبا فيها عن ربه وعن طاعته فلما فارق ذلك الوجود وصار في وجود آخر: بقي بربه لا بنفسه
وإذا عرف هذا فالتوبة والندم يكونان في هذا الوجود الذي هو فيه بربه وذلك لا ينافي مشهد الحكمة والقيومية بل يجامعه ويستمد منه وبالله التوفيق
قوله: ويصح بثلاثة شرائط باستواء الحالات عند العبد وسقوط الخصومة مع الخلق والخلاص من المسألة والإلحاح(2/204)
يعني: أن الرضى عن الله إنما يتحقق بهذه الأمور الثلاثة فإن الراضي الموافق تستوي عنده الحالات من النعمة والبلية في رضاه بحسن اختيار الله له وليس المراد استواؤها عنده في ملاءمته ومنافرته فإن هذا خلاف الطبع البشري بل خلاف الطبع الحيواني
وليس المراد أيضا استواء الحالات عنده في الطاعة والمعصية فإن هذا مناف للعبودية من كل وجه وإنما تستوى النعمة والبلية عنده في الرضى بهما لوجوه
أحدها: أنه مفوض والمفوض راض بكل ما اختاره له من فوض إليه ولا سيما إذا علم كمال حكمته ورحمته ولطفه وحسن اختياره له
الثاني: أنه جازم بأنه لا تبديل لكلمات الله ولا راد لحكمه وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهو يعلم أن كلا من البلية والنعمة بقضاء سابق وقدر حتم
الثالث: أنه عبد محض والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن بل يتلقاها كلها بالرضى به وعنه
الرابع: أنه محب والمحب الصادق: من رضي بما يعامله به حبيبه
الخامس: أنه جاهل بعواقب الأمور وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه
السادس: أنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه ولو عرف أسبابها فهو جاهل ظالم وربه تعالى يريد مصلحته ويسوق إليه أسبابها ومن أعظم أسبابها: ما يكرهه العبد فإن مصلحته فيما يكره أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [ البقرة: 216 ] وقال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [ النساء: 19 ](2/205)
السابع: أنه مسلم والمسلم من قد سلم نفسه لله ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه ولم يسخط ذلك
الثامن: أنه عارف بربه حسن الظن به لا يتهمه فيما يجريه عليه من أقضيته وأقداره فحسن ظنه به يوجب له استواء الحالات عنده ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه
التاسع: أنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه به من رضى وسخط فلا بد له منه فإن رضي فله الرضى وإن سخط فله السخط
العاشر: علمه بأنه إذا رضي انقلب في حقه نعمة ومنحة وخف عليه حمله وأعين عليه وإذا سخطه تضاعف عليه ثقله وكله ولم يزدد إلا شدة فلو أن السخط يجدي عليه شيئا لكان له فيه راحة أنفع له من الرضى به ونكتة المسألة: إيمانه بأن قضاء الرب تعالى خير له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن
الحادي عشر: أن يعلم أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه ولو لم يجر عليه منها إلا ما يحب لكان أبعد شيء عن عبودية ربه فلا تتم له عبوديته من الصبر والتوكل والرضى والتضرع والافتقار والذل والخضوع وغيرها إلا بجريان القدر له بما يكرهه وليس الشأن في الرضى بالقضاء الملائم للطبيعة إنما الشأن في القضاء المؤلم المنافر للطبع
الثاني عشر: أن يعلم أن رضاه عن ربه سبحانه وتعالى في جميع الحالات يثمر رضى ربه عنه فإذا رضي عنه بالقليل من الرزق: رضي ربه عنه بالقليل من العمل وإذا رضي عنه في جميع الحالات واستوت عنده وجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضاه وتملقه(2/206)
الثالث عشر: أن يعلم أن أعظم راحته وسروره ونعيمه: فى الرضى عن ربه تعالى وتقدس في جميع الحالات فإن الرضى باب الله الأعظم ومستراح العارفين وجنة الدنيا فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه وأن لا يستبدل بغيره منه
الرابع عشر: أن السخط باب الهم والغم والحزن وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال والظن بالله خلاف ما هو أهله والرضى يخلصه من ذلك كله ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة
الخامس عشر: أن الرضى يوجب له الطمأنينة وبرد القلب وسكونه وقراره والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره
السادس عشر: أن الرضى ينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها ومتى نزلت عليه السكينة: استقام وصلحت أحواله وصلح باله والسخط يبعده منها بحسب قلته وكثرته وإذا ترحلت عنه السكينة ترحل عنه السرور والأمن والدعة والراحة وطيب العيش فمن أعظم نعم الله على عبده: تنزل السكينة عليه ومن أعظم أسبابها: الرضى عنه في جميع الحالات
السابع عشر: أن الرضى يفتح له باب السلامة فيجعل قلبه سليما نقيا من الغش والدغل والغل ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى وكلما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم فالخبث والدغل والغش: قرين السخط وسلامة القلب وبره ونصحه: قرين الرضى وكذلك الحسد: هو من ثمرات السخط وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى
الثامن عشر: أن السخط يوجب تلون العبد وعدم ثباته مع الله فإنه لا يرضى إلا بما يلائم طبعه ونفسه والمقادير تجري دائما بما يلائمه وبما لا يلائمه وكلما جرى عليه منها ما لا يلائمه أسخطه فلا تثبت له قدم على العبودية فإذا(2/207)
رضي عن ربه في جميع الحالات استقرت قدمه في مقام العبودية فلا يزيل التلون عن العبد شيء مثل الرضى
التاسع عشر: أن السخط يفتح عليه باب الشك في الله وقضائه وقدره وحكمته وعلمه فقل أن يسلم الساخط من شك يداخل قلبه ويتغلغل فيه وإن كان لا يشعر به فلو فتش نفسه غاية التفتيش لوجد يقينه معلولا مدخولا فإن الرضى واليقين أخوان مصطحبان والشك والسخط قرينان وهذا معنى الحديث الذي في الترمذى أو غيره: إن استطعت أن تعمل بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا العشرون: أن الرضى بالمقدور من سعادة ابن آدم وسخطه من شقاوته كما في المسند و الترمذى من حديث سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سعادة ابن آدم: استخارة الله عز وجل ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله ومن شقوة ابن آدم: سخطه بما قضى الله ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله فالرضا بالقضاء من أسباب السعادة والتسخط على القضاء من أسباب الشقاوة
الحادي والعشرون: أن الرضى يوجب له أن لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه وذلك من أفضل الإيمان أما عدم أساه على الفائت: فظاهر وأما عدم فرحه بما آتاه: فلأنه يعلم أن المصيبة فيه مكتوبة من قبل حصوله فكيف يفرح بشيء يعلم أن له فيه مصيبة منتظرة ولا بد
الثاني والعشرون: أن من ملأ قلبه من الرضى بالقدر: ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ومن فاته حظه من الرضى: امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه فالرضى يفرغ القلب لله والسخط يفرغ القلب من الله(2/208)
الثالث والعشرون: أن الرضى يثمر الشكر الذى هو من أعلى مقامات الإيمان بل هو حقيقة الإيمان والسخط يثمر ضده وهو كفر النعم وربما أثمر له كفر المنعم فإذا رضي العبد عن ربه في جميع الحالات: أوجب له ذلك شكره فيكون من الراضين الشاكرين وإذا فاته الرضى: كان من الساخطين وسلك سبيل الكافرين
الرابع والعشرون: أن الرضى ينفي عنه آفات الحرص والكلب على الدنيا وذلك رأس كل خطيئة وأصل كل بلية وأساس كل رزية فرضاه عن ربه في جميع الحالات: ينفي عنه مادة هذه الآفات
الخامس والعشرون: أن الشيطان إنما يظفر بالإنسان غالبا عند السخط والشهوة فهناك يصطاده ولا سيما إذا استحكم سخطه فإنه يقول مالا يرضى الرب ويفعل مالا يرضيه وينوي مالا يرضيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم: يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول إلا ما يرضي الرب فإن موت البنين من العوارض التي توجب للعبد السخط على القدر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يقول في مثل هذا المقام الذي يسخطه أكثر الناس فيتكلمون بما لا يرضي الله ويفعلون مالا يرضيه إلا ما يرضي ربه تبارك وتعالى ولهذا لما مات ابن الفضيل بن عياض رؤي في الجنازة ضاحكا فقيل له: أتضحك وقد مات ابنك فقال: إن الله قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه فأنكرت طائفة هذه المقالة على الفضيل وقالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه وأخبر أن: القلب يحزن والعين تدمع وهو في أعلى مقامات الرضى فكيف يعد هذا من مناقب الفضيل والتحقيق: أن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتسع لتكميل جميع المراتب من الرضى عن الله والبكاء رحمة للصبي فكان له مقام الرضى ومقام الرحمة(2/209)
ورقة القلب والفضيل لم يتسع قلبه لمقام الرضى ومقام الرحمة فلم يجتمع له الأمران والناس في ذلك على أربع مراتب أحدها: من اجتمع له الرضى بالقضاء ورحمة الطفل فدمعت عيناه رحمة والقلب راض
الثاني: من غيبه الرضى عن الرحمة فلم يتسع للأمرين بل غيبه أحدهما عن الآخر
الثالث: من غيبته الرحمة والرقة عن الرضى فلم يشهده بل فني عن الرضى
الرابع: من لا رضى عنده ولا رحمة وإنما يكون حزنه لفوات حظه من الميت وهذا حال أكثر الخلق فلا إحسان ولا رضى عن الرحمن والله المستعان فالأول في أعلى مراتب الرضى والثاني دونه والثالث دون الثاني والرابع هو الساخط
السادس والعشرون: أن الرضى هو اختيار ما اختاره الله لعبده والسخط كراهة ما اختاره الله له وهذا نوع محادة فلا يتخلص منه إلا بالرضى عن الله فى جميع الحالات
السابع والعشرون: أن الرضى يخرج الهوى من القلب فالراضي هواه تبع لمراد ربه منه أعني المراد الذي يحبه ربه ويرضاه فلا يجتمع الرضى واتباع الهوى في القلب أبدا وإن كان معه شعبة من هذا وشعبة من هذا فهو للغالب عليه منهما
الثامن والعشرون: أن الرضى عن الله في جميع الحالات يثمر للعبد رضى الله عنه كما تقدم بيانه في الرضى به فإن الجزاء من جنس العمل وفي أثر إسرائيلي(2/210)
أن موسى سأل ربه عز وجل: ما يدنى من رضاه فقال: إن رضاي في رضاك بقضائي
التاسع والعشرون: أن الرضى بالقضاء أشق شيء على النفس بل هو ذبحها في الحقيقة فإنه مخالفة هواها وطبعها وإرادتها ولا تصير مطمئنة قط حتى ترضى بالقضاء فحينئذ تستحق أن يقال لها: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [ الفجر: 27-30 ] الثلاثون: أن الراضي متلق أوامر ربه الدينية والقدرية بالانشراح والتسليم وطيب النفس والاستسلام والساخط يتلقاها بضد ذلك إلا ما وافق طبعه وإرادته منها وقد بينا أن الرضى بذلك لا ينفعه ولا يثاب عليه فإنه لم يرض به لكون الله قدره وقضاه وأمر به وإنما رضي به لموافقته هواه وطبعه فهو إنما رضي لنفسه وعن نفسه لا بربه عن ربه
الحادي والثلاثون: أن المخالفات كلها أصلها من عدم الرضى والطاعات كلها أصلها من الرضى وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من عرف صفات نفسه وما يتولد عنها من الطاعات والمعاصي
الثاني والثلاثون: أن عدم الرضى يفتح باب البدعة والرضى يغلق عنه ذلك الباب ولو تأملت بدع الروافض والنواصب والخوارج لرأيتها ناشئة من عدم الرضى بالحكم الكوني أو الديني أو كليهما
الثالث والثلاثون: أن الرضى معقد نظام الدين ظاهره وباطنه فإن القضايا لا تخلو من خمسة أنواع: فتنقسم قسمين: دينية وكونية وهي مأمورات ومنهيات ومباحات ونعم ملذة وبلايا مؤلمة(2/211)
فإذا استعمل العبد الرضى في ذلك كله فقد أخذ بالحظ الوافر من الإسلام وفاز بالقدح المعلى الرابع والثلاثون: أن الرضى يخلص العبد من مخاصمة الرب تعالى في أحكامه وأقضيته فإن السخط عليه مخاصمة له فيما لم يرض به العبد وأصل مخاصمة إبليس لربه: من عدم رضاه بأقضيته وأحكامه الدينية والكونية فلو رضي لم يمسخ من الحقيقة الملكية إلى الحقيقة الشيطانية الإبليسية الخامس والثلاثون: أن جميع ما في الكون أوجبته مشيئة الله وحكمته وملكه فهو موجب أسمائه وصفاته فمن لم يرض بما رضى به ربه لم يرض بأسمائه وصفاته فلم يرض به ربا
السادس والثلاثون: أن كل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه لا يخلو: إما أن يكون عقوبة على الذنب فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامي به المرض إلى الهلاك أو يكون سببا لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه فالمكروه ينقطع ويتلاشى وما يترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع فإذا شهد العبد هذين الأمرين انفتح له باب الرضى عن ربه في كل ما يقضيه له ويقدره
السابع والثلاثون: أن حكم الرب تعالى ماض في عبده وقضاؤه عدل فيه كما في الحديث: ماض في حكمك عدل في قضاؤك ومن لم يرض بالعدل فهو من أهل الظلم والجور وقوله: عدل في قضاؤك يعم قضاء الذنب وقضاء أثره وعقوبته فإن الأمرين من قضائه عز وجل وهو أعدل العادلين في قضائه بالذنب وفي قضائه بعقوبته أما عدله في العقوبة: فظاهر وأما عدله في قضائه بالذنب: فلأن الذنب(2/212)
عقوبة على غفلته عن ربه وإعراض قلبه عنه فإنه إذا غفل قلبه عن ربه ووليه ونقص إخلاصه: استحق أن يضرب بهذه العقوبة لأن قلوب الغافلين معدن الذنوب والعقوبات واردة عليها من كل جهة وإلا فمع كمال الإخلاص والذكر والإقبال على الله سبحانه وتعالى وذكره يستحيل صدور الذنب كما قال تعالى {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [ يوسف: 24 ] فإن قلت: قضاؤه على عبده بإعراضه عنه ونسيانه إياه وعدم إخلاصه: عقوبة على ماذا قلت: هذا طبع النفس وشأنها فهو سبحانه إذا لم يرد الخير بعبده خلي بينه وبين نفسه وطبعه وهواه وذلك يقتضي أثرها من الغفلة والنسيان وعدم الإخلاص واتباع الهوى وهذه الأسباب تقتضي آثارها من الآلام وفوات الخيرات واللذات كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها وآثارها(2/213)
فإن قلت: فهلا خلقه على غير تلك الصفة قلت: هذا سؤال فاسد ومضمونه: هلا خلقه ملكا لا إنسانا فإن قلت: فهلا أعطاه التوفيق الذي يتخلص به من شر نفسه وظلمة طبعه قلت: مضمون هذا السؤال: هلا سوى بين جميع خلقه ولم خلق المتضادات والمختلفات وهذا من أفسد الأسئلة وقد تقدم بيان اقتضاء حكمته وربوبيته وملكه لخلق ذلك
الثامن والثلاثون: أن عدم الرضى إما أن يكون لفوات ما أخطأه مما يحبه ويريده وإما لإصابة ما يكرهه ويسخطه فإذا تيقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه: فلا فائدة في سخطه بعد ذلك إلا فوات ما ينفعه وحصول ما يضره
التاسع والثلاثون: أن الرضى من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح: فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان: الصبر للحكم والرضى بالقدر الأربعون: أن أول معصية عصي الله بها في هذا العالم: إنما نشأت من عدم الرضى فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا من تفضيل آدم وتكريمه ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم وآدم لم يرض بما أبيح له من الجنة حتى ضم إليه الأكل من شجرة الحمى ثم ترتبت معاصي الذرية على عدم الصبر وعدم الرضى(2/214)
الحادي والأربعون: أن الراضي واقف مع اختيار الله له معرض عن اختياره لنفسه وهذا من قوة معرفته بربه تعالى ومعرفته بنفسه وقد اجتمع وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجاءة قبل اليوم وأما اليوم: فوددت أني ميت فقال له يوسف بن أسباط: ولم فقال: لما أتخوف من الفتنة فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء فقال الثوري: ولم تكره الموت قال: لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت فقال: أنا لا أختار شيئا أحب ذلك إلي أحبه إلى الله فقبل الثوري بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة فهذا حال عبد قد استوت عنده حالة الحياة والموت وقف مع اختيار الله له منهما وقد كان وهيب رحمه الله له المقام العالى من الرضى وغيره الثاني والأربعون: أن يعلم أن منع الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء وابتلاءه إياه عافية قال سفيان الثورى: منعه عطاء وذلك: أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم وإنما نظر فى خير عبده المؤمن فمنعه اختيارا وحسن نظر وهذا كما قال فإنه سبحانه لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له ساءه ذلك القضاء أو سره فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء وإن كان في صورة المنع ونعمة وإن كانت في صورة محنة وبلاؤه وعافية وإن كان في صورة بلية ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل وكان ملائما لطبعه ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة والبلاء رحمة وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية وتلذذ بالفقر أكثر من لذته(2/215)
بالغنى وكان في حال القلة أعظم شكرا من حال الكثرة وهذه كانت حال السلف فالعاقل الراضي: من يعد البلاء عافية والمنع نعمة والفقر غنى وأوحى الله إلى بعض أنبيائه: إذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجلت عقوبته فالراضي: هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه كما قال بعض العارفين: يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب وقد قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [ البقرة: 216 ] وقد قال بعض العارفين: ارض عن الله في جميع ما يفعله بك فإنه ما منعك إلا ليعطيك ولا ابتلاك إلا ليعافيك ولا أمرضك إلا نيشفيك ولا أماتك إلا ليحييك فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفة عين فتسقط من عينه الثالث والأربعون: أن يعلم أنه سبحانه هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والمظهر لكل شيء والمالك لكل شيء وهو الذي يخلق ما يشاء ويختار وليس للعبد أن يختار عليه وليس لأحد معه اختيار ولا يشرك في حكمه أحدا والعبد لم يكن شيئا مذكورا فهو سبحانه الذي اختار وجوده واختار أن يكون كما قدره له وقضاه: من عافية وبلاء وغنى وفقر وعز وذل ونباهة وخمول فكما تفرد سبحانه بالخلق تفرد بالاختيار والتدبير وليس للعبد شيء من ذلك فإن الأمر كله لله وقد قال تعالى لنبيه:(2/216)
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فإذا تيقن العبد أن الأمر كله لله وليس له من الأمر قليل ولا كثير لم يكن له معول بعد ذلك غير الرضى بمواقع الأقدار وما يجري به من ربه الاختيار
الرابع والأربعون: أن رضى الله عن العبد أكبر من الجنة وما فيها لأن الرضى صفة الله والجنة خلقه قال الله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [ التوبة: 72 ] بعد قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ التوبة: 72 ] وهذا الرضى جزاء على رضاهم عنه في الدنيا ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال
الخامس والأربعون: أن العبد إذا رضي به وعنه في جميع الحالات: لم يتخير عليه المسائل وأغناه رضاه بما يقسمه له ويقدره ويفعله به عن ذلك وجعل ذكره في محل سؤاله بل يكون من سؤاله له الإعانة على ذكره وبلوغ رضاه فهذا يعطي أفضل ما يعطاه سائل كما جاء في الحديث من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين فإن السائلين سألوه فأعطاهم الفضل الذي سألوه والراضون رضوا عنه فأعطاهم رضاه عنهم ولا يمنع الرضى سؤاله أسباب الرضى بل أصحابه ملحون في سؤاله ذلك
السادس والأربعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إلى أعلى المقامات فإن عجز العبد عنه: حطه إلى المقام الوسط كما قال: اعبد الله كأنك تراه فهذا مقام المراقبة الجامع لمقامات الإسلام والإيمان والإحسان ثم قال فإن لم تكن تراه فإنه يراك فحطه عند العجز عن المقام عن المقام الأول إلى المقام الثاني وهوالعلم باطلاع الله عليه ورؤيته له ومشاهدته لعبده في الملأوالخلاء وكذا الحديث الآخر: إن استطعت أن تعمل لله بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا فرفعه إلى أعلى المقامات ثم(2/217)
رده إلى أوسطها إن لم يستطع الأعلى فالأول: مقام الإحسان والذي حطه إليه: مقام الإيمان وليس دون ذلك إلا مقام الخسران
السابع والأربعون: أنه أثنى على الراضين بمر القضاء بالحكم والعلم والفقه والقرب من درجة النبوة كما في حديث الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنتم فقالوا: مؤمنون فقال: ما علامة إيمانكم فقالوا: الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضى بمر القضاء والصدق في مواطن اللقاء وترك الشماتة بالأعداء فقال: حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء
الثامن والأربعون: أن الرضى آخذ بزمام مقامات الدين كلها وهو روحها وحياتها فإنه روح التوكل وحقيقته وروح اليقين وروح المحبة وصحة المحب ودليل صدق المحبة وروح الشكر ودليله قال الربيع بن أنس: علامة حب الله: كثرة ذكره فإنك لا تحب شيئا إلا أكثرت من ذكره وعلامة الدين: الإخلاص لله في السر والعلانية وعلامة الشكر الرضى بقدر الله والتسليم لقضائه وقال أحمد بن أبي الحواري: ذاكرت أبا سليمان في الخبر المروي أول من يدعى إلى الجنة الحمادون فقال: ويحك ليس هو أن تحمده على المصيبة وقلبك يتعصى عليك إذا كنت كذلك فارجع إلى الصابرين إنما الحمد: أن تحمده وقلبك مسلم راض فصار الرضى كالروح لهذه المقامات والأساس الذي تنبني عليه ولا يصح شيء منها بدونه ألبتة والله أعلم التاسع والأربعون: أن الرضى يقوم مقام كثير من التعبدات التي تشق على البدن فيكون رضاه أسهل عليه وألذ له وأرفع في درجته وقد ذكر في أثر إسرائيلي: إن عابدا عبد الله دهرا طويلا فأري في المنام: أن فلانة الراعية(2/218)
رفيقتك في الجنة فسأل عنها إلى أن وجدها فاستضافها ثلاثا لينظر إلى عملها فكان يبيت قائما وتبيت نائمة ويظل صائما وتظل مفطرة فقال لها: أما لك عمل غير ما رأيت قالت: ما هو والله غير ما رأيت أو قالت: إلا ما رأيت لا أعرف غيره فلم يزل يقول لها: تذكري حتى قالت: خصيلة واحدة هي في وذلك: أني إن كنت في شدة لم أتمن أني في رخاء وإن كنت في مرض لم أتمن أنى في صحة وإن كنت في الشمس لم أتمن أنى فى الظل قال: فوضع العابد يده على رأسه وقال: أهذه خصيلة هذه والله خصلة عظيمة يعجز عنها العباد وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه: من رضي بما أنزل من السماء إلى الأرض غفر له وفي أثر مرفوع: من خير ما أعطي العبد: الرضى بما قسم الله له وفي أثر آخر: إذا أحب الله عبدا ابتلاه فإن صبر اجتباه فإن رضي اصطفاه وفي أثر: إن بني إسرائيل: سألوا موسى أن يسأل ربه أمرا إذا هم فعلوه رضي عنهم فقال موسى: رب إنك تسمع ما يقولون فقال: قل لهم يرضون عني حتى أرضى عنهم وفي أثر آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحب أن يعلم ماله عند الله فلينظر مالله عنده فإن الله ينزل العبد منه حيث ينزله العبد من نفسه وفي أثر آخر: من رضي من الله بالقليل من الرزق رضي الله منه بالقليل من العمل وقال بعض العارفين: أعرف في الموتى عالما ينظرون إلى منازلهم في الجنان في قبورهم يغدي عليهم ويراح برزقهم من الجنة بكرة وعشيا وهم في غموم وكروب في البرزخ لو قسمت على أهل بلد لماتوا أجمعين(2/219)
قيل: وما كانت أعمالهم قال: كانوا مسلمين مؤمنين إلا أنهم لم يكن لهم من التوكل ولا من الرضى نصيب وفي وصية لقمان لابنه: أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئا وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت وقال بعض العارفين: من يتوكل على الله ويرض بقدر الله فقد أقام الإيمان وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير وأقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره الخمسون: أن الرضى يفتح باب حسن الخلق مع الله تعالى ومع الناس فإن حسن الخلق من الرضى وسوء الخلق من السخط وحسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم وسوء الخلق يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب الحادي والخمسون: أن الرضى يثمر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور وطيب النفس وسكونه