وإن كان الورثة صغاراً ينظر لهم الوصي بالاجتهاد بلا محاباة في الرد والإجازة، [فإن لم يكن وصي فالسلطان يلي النظر أو يجعل ناظراً يجتهد بلا محاباة] ، فإن كان [لهم] وصي ومعه من الورثة كبير لا وصي عليه، فهما في ذلك كاختلاف الورثة.
وإن كان الورثة كلهم أصاغر ولهم وصيّان، فما اجتمعا عليه من رد أو إجازة بوجه الاجتهاد بغير محاباة فهو جائز، وإن اختلفا نظر في ذلك السلطان فيمضي قول أصوبهما، بخلاف الورثة، لأن الوصيين لا يحكمان في مال غيرهما، فإن كان مع الوصيين وارث كبير يلي نفسه فيما اجتمعوا عليه من رد أو إجازة بالاجتهاد من غير [محاباة] جاز.
2629 - وإن قال الوارث: أنا أرد، وتماسك الوصيان، أو تماسك الوارث ورد الوصيان فذلك كاختلاف الورثة، وإن أراد الوارث الذي يلي نفسه الرد وأحد الوصيين معه، نظر السلطان في ذلك فمن رآه مصيباً كلف صاحبه الرد معه، أو الأخذ، ثم لا بد لهما من أن يردا أو يأخذا الجميع إلا أن يشاء البائع أو المشتري أن يدعها ويأخذ مصابة الذين يلونهم من الورثة(3/178)
فذلك له، وليس للوصيين [عليه] أن يأخذا منه مصابة الوارث الذي اختار الرد.
وكذلك إن أراد الوارث وأحد الوصيين الأخذ، فالسلطان ينظر في ذلك كما وصفنا.
2630 - قال ابن القاسم: وإن أحاط الدين بمال الميت واختار غرماؤه أخذاً أو رداً وذلك أوفر لتركته وارد لقضاء دينه، فذلك [لهم] دون ورثته، فإن ردوا لم يكن للورثة الأخذ إلا أن يؤدوا الثمن من أموالهم دون [مال] الميت.
2631 - ومن أغمي عليه في أيام الخيار انتظرت إفاقته، ثم هو على خياره، إلا أن يطول إغماؤه أياماً فينظر السلطان، فإن رأى ضرراً فسخ البيع، وليس له أن يمضيه بخلاف الصبي والمجنون، وإنما الإغماء مرض.
2632 - ومن اشترى سلعة من رجل ثم جعل أحدهما لصاحبه الخيار بعد تمام البيع، فذلك يلزمهما إذا كان يجوز في مثله الخيار، وهو بيع مؤتنف بمنزلة بيع المشتري لها من(3/179)
غير البائع، وما أصاب السلعة في أيام الخيار فهو من المشتري لأنه صار بائعاً.
2633 - وإذا ابتاع المكاتب شيئاً بالخيار ثلاثاً فعجز في الثلاث، فلسيده من الخيار ما كان له، قيل: فمن اشترى سلعة على أن فلاناً بالخيار أياماً أيجوز هذا البيع؟ قال: قال مالك في الرجل يبتاع السلعة ويشترط البائع إن رضي فلان البيع: جاز. فلا بأس به، وإن رضي البائع أو رضي فلان [البيع] فالبيع جائز، فهذا يدلك على مسألتك.
2634 - ولا بأس أن يشتري سلعة لفلان على أن يختار فلان، أو يشتري لنفسه على رضى فلان، أو على أن فلاناً بالخيار، ثم ليس للمبتاع رد أو إجازة دون خيار من اشترط.
2635 - ولو ابتاع على أن يستشير فلاناً جاز، وله أن يخالفه إلى رد أو إجازة، ولا يمنعه البائع، وإنما يجوز البيع على مشورة فلان أو رضاه إذا كان قريباً، ولو استثنى مشورة رجل ببلد بعيد فسد البيع.
ولو ترك المبتاع مشورة فلان الغائب مجيزاً للبيع لم يجز لوقوعه فاسداً. وإذا كان الخيار للمتبايعين [جميعاً] لم يتم البيع إلا باجتماعهما على الإجازة.(3/180)
وإذا اشترى رجلان سلعة بالخيار فلمن شاء منهما أن يأخذ أو يرد، ولا خيار في ذلك لصاحب السلعة، لأنه لا يتبع ذمة كل واحد منهما لو فلس إلا بحصته من الثمن.
وإذا اختار من له الخيار من المتبايعين رداً أو إجازة وصاحبه غائب وأشهد على ذلك جاز على الغائب.
2636 - والذي له الخيار من المتبايعين إذا وهب أو دبر أو كاتب أو أجر أو أعتق أو [رهن] أو تصدق أو وطئ أو قبّل أو باشر، فذلك من المبتاع رضى بالبيع ومن البائع رد له، وإن كان [الخيار] للمبتاع في الدابة فهلبها أو ودجها أو عربها أو سافر عليها فهو رضىً وتلزمه الدابة، إلا أن يركبها شيئاً خفيفاً في حاجة له ليختبرها، فيكون على خياره.
وكذلك من اشترى دابة فوجد بها عيباً ثم تسوق بها أو اشترى ثوباً بالخيار فاطلع(3/181)
على عيب به ثم لبسه بعد ذلك، فذلك قطع لخياره ورضىً منه، وإن كان الخيار للمبتاع في الجارية فجردها في أيام الخيار ونظر إليها فليس ذلك برضى، وقد تجرد للتقليب إلا أن يقر أنه فعل ذلك تلذذاً فهو رضى.
ونظر المبتاع إلى فرج المرأة رضىً، لأن الفرج لا يجرد في الشراء ولا ينظر إليه إلا النساء ومن يحل له الفرج.
2637 - وإن زوج المشتري الأمة، أو زوج العبد، أو ضربه، أو جعله في صناعة، أو في الكتاب، أو ساوم بهذه الأشياء للبيع، أو أكرى الدواب والرباع، وهذا كله في أيام الخيار فذلك رضى وقطع لخياره، وإن جنى على العبد عمداً فذلك رضى، وله رده في الخطأ، وما نقصه.
والدابة مثله إن جنى عليها عمداً، فذلك رضى وله ردها في الخطأ وما نقص من ثمنها.
وإن كان عيباً مفسداً ضمن الثمن [كله] . ولم ير أشهب الإجارة والرهن والسوم والجنابة، وإسلامه العبد للصناعة، وتزويجه [العبد] رضى، بعد أن يحلف - في الرهن والإجارة وتزويج العبد - ما كان ذلك منه رضى [بالبيع] ، وروى(3/182)
علي عن مالك في البيع أنه لا ينبغي أن يبيع حتى يختار، فإن باع فإن بيعه ليس باختيار، ورب السلعة بالخيار إن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن، وإن شاء نقض البيع.
2638 - ومن اشترى من رجل عبداً بعبد بالخيار وتقابضا، فمصيبة كل عبد في الخيار من بائعه.
ومن ابتاع دابة بالخيار على أن ينقد ثمنها فنقد، ثم ماتت الدابة في أيام الخيار [فمصيبتها من البائع ويرد الثمن.
2639 - وإن كان الخيار للمبتاع في أمة فأعتقها البائع في أيام الخيار] فعتقه موقوف، فإن رد المبتاع البيع [لزم [البائع] عتقه ذلك، كمن أخدم أو أجّر أمته سنة، ثم أعتقها، فعتقه موقوف، فإذا تمت السنة أعتق بغير إحداث عتق] .(3/183)
2640 - ومن اشترى ثياباً أو رقيقاً أو غنماً على أنه بالخيار إذا نظرها، فنظر إليها وصمت حتى رأى آخرها فلم يرضها، فذلك له.
ولو كانت حنطة فنظر إلى بعضها فرضيه ثم نظر إلى ما بقي فلم يرضه، فإن كان الذي لم يرضه على صفة ما رضي لزمه الجميع لتساويه، لأن الصفة واحدة، وإن خرج آخر الحنطة مخالفاً لأولها لم يلزم المشتري من ذلك شيء، وله رد الجميع إن كان الاختلاف كثيراً، وليس للمبتاع أن يقبل ما رضي بحصته من الثمن ويرد ما خرج مخالفاً إلا أن يرضى البائع، ولا للبائع أن يلزمه ذلك إذا أبى المبتاع وكان الاختلاف كثيراً، وكذلك جميع ما يوزن أو يكال.
2641 - وإذ ماتت الجارية أو أصابها عيب في أيام الخيار أو في عهدت [الثلاث] أو في المواضعة وقد قبضها المبتاع أو لم يقبضها والخيار للبائع أو للمبتاع، فذلك كله من البائع، ويخير المبتاع بين أخذها معيبة بجميع الثمن أو ردها. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (10/184) .(3/184)
وكذلك إن ظهر المبتاع [على] عيب كان بها عند البائع، بعد أن حدث [بها عيب] في أيام الخيار، [فإنما له أن يأخذها معيبة بجميع الثمن، أو يردها، وليس له في ذلك أن يحبسها ويرجع بحصة العيب [من أجل العيب الذي في أيام الخيار] ، لأنه علمه وهي في ضمان البائع، فكأنه عليه اشترى.
وإن حدث بالجارية عيب في أيام الخيار، ثم أصابها عند المبتاع بعدما قبضها وخرجت من الاستبراء عيب آخر مفسد، ثم ظهر على عيب دلّسه البائع، فإن أراد أن يحبسها ويرجع بحصة عيب التدليس، نظر إلى قيمتها يوم الصفقة بالعيب الذي حدث في أيام الخيار بغير عيب التدليس وقيمتها بعيب التدليس [يومئذ] أيضاً فيقسم الثمن على ذلك ويطرح منه حصة عيب التدليس، فإن أراد أن يرد نظر إلى العيب الذي حدث عنده، كم ينقص منها يوم قبضها فيرد ذلك معها، ولا ينظر إلى العيب الذي حدث في أيام الخيار [في شيء من ذلك] . وانخساف البئر في أمد الخيار من البائع.
2642 - وإذا جنى على الأمة في أيام الخيار أجنبي، فقطع يدها، أو أصابها ذلك من أمر الله فللمبتاع ردها ولا شيء عليه، وللبائع طلب الجاني، أو يأخذها معيبة(3/185)
بجميع الثمن والأرش للبائع، وما وهب لها أو تصدق به عليها في أيام الخيار فللبائع، وعليه نفقتها في [أيام] الخيار.
2643 - ولو تلف مال العبد في عهدة الثلاث وقد بيع به لم يكن للمبتاع رد العبد، ولا يرجع بشيء.
ولو هلك العبد في الثلاث انتقض البيع، وعلى المبتاع رد ماله وليس له التمسك بالمال ودفع الثمن.
ولو حدث بالعبد في الثلاث عيب مفسد فإما رده المبتاع بماله على البائع، أو حبسه بماله بجميع الثمن، والأرش للبائع، ولا يرجع المبتاع على البائع بحصة العيب الذي أصابه في العهدة، لأن مصيبته في العهدة من البائع، وعليه عقل جنايته في أيام العهدة.
2644 - قال ابن القاسم: وإذا ولدت الأمة في أيام الخيار، كان ولدها معها في إمضاء البيع أو رده لمن له الخيار بالثمن المشترط، ولا شيء على المبتاع من(3/186)
نقص الولادة إن ردها، قال أشهب: الولد للبائع، فإن اختار المشتري البيع وقبض الأم، قيل لهما: [إما أن يضم المشتري الولد، أو يأخذ البائع الأم] ، فيجتمعان جميعاً في حوز أحدكما، وإلا نقض البيع.
وإن قتل العبد رجلاً في أيام الخيار فللمبتاع رده.
2645 - ومن اشترى ثوبين في صفقة بالخيار فضاعا بيده في أيام الخيار، لم يصدق ولزماه بالثمن كان أكثر القيمة أو أقل. وإن ضاع أحدهما لزمه بحصته من الثمن.
ولو كان المبتاع إنما أخذ الثوبين ليختار أحدهما بعشرة [دراهم] فضاعا، لم يضمن إلا ثمن أحدهما وهو في الآخر مؤتمن، فإن ضاع أحدهما ضمن نصف ثمن التالف، ثم له أخذ الثوب الباقي [أو رده] .(3/187)
وكذلك الذي يسأل رجلاً ديناراً فيعطيه ثلاثة دنانير ليختار أحدهما فيزعم أنه تلف منها دينار فإنه يكون شريكاً، قال أشهب: فإن كان موضع الثوبين في البيع بدان فالهالك من البائع، وللمبتاع أخذ الباقي بالثمن أو رده، قال ابن القاسم: وللمبتاع أن يأخذ أحد الثوبين بالثمن الذي سمياه فيما قرب من أيام الخيار، فإن مضت أيام الخيار وتباعدت فليس له اختيار أحدهما، وينتقض البيع إلا أن يكون قد أشهد أنه اختار في أيام الخيار أو فيما قرب منها، وله اختيار أحدهما بغير محضر البائع، فإن اختاره ببينة أشهدهم عليه بقول أو قطع أو بيع أو رهن أو ما يلزمه [به] من الأحداث [و] كان في الباقي أميناً إن هلك فمن بائعه.
2646 - وإذا انعقد البيع باللفظ فلا خيار لواحد من المتبايعين إلا أن يشترطا. وحديث ابن(3/188)
عمر: "المتبايعان بالخيار كل واحد منهما على صاحبه ما لم يفترقا" (1) ، إلا بيع الخيار. قال فيه مالك: ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه.
_________
(1) رواه البخاري (2001) ، ومسلم (3831) ، وأبو داود (3/273) ، والنسائي (7/248، 251) ، وانظر: السيل الجرار (3/27، 94، 101) ، وكفاية الطالب (2/200) ، والتمهيد (14/8) ، والثمر الداني (1/503) ، ونيل الأوطار (5/289) ، وتلخيص الجيد (3/13) .(3/189)
2647 - وإذا اختلف المتبايعان في الثمن قيل للبائع: إما أن تصدق المشتري أو فاحلف بالله أنك ما بعت سلعتك إلا بما قلت، فإن حلف قيل للمبتاع: إما أن تأخذ بما قال البائع وإلا فاحلف ما اشتريت إلا بما قلت وتبرأ. قال شريح: إذا حلفا أو نكلا ترادا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر لزمه البيع.
2648 - ولا يجوز في الصرف خيار وإن قرب، وإن عقدا عليه لم يجز [و] إن أسقطا الخيار قبل التفرق، إلا أن يستقبلا صرفاً جديداً.
ولا تجوز فيه حوالة ولا كفالة ولا شرط ولا رهن إلا المناجزة.(3/190)
2649 - ولا بأس بالخيار في السلم إلى أمد قريب يجوز تأخير [النقد] إلى مثله، كيومين أو ثلاثة إذا لم يقدم رأس المال، فإن قدمه كرهت ذلك، لأنه يدخله [سلف] وبيع، وسلف جرّ منفعة. (1) وإن تباعد أجل الخيار كشهر أو شهرين لم يجز، قدم النقد أم لا.
ولا يجوز الخيار إلى هذا الأجل في شيء من البيوع، فإن عقد البيع على ذلك ثم ترك الخيار مشترطه قبل التفرق لم يجز لفساد العقدة.
2650 - ومن اشترى ثوبين أو عبدين على أن يختار أحدهما بألف درهم، فذلك له لازم فلا بأس بهز
وأما إن اختلف الثمن فقال: هذا بخمسة وهذا بعشرة، أو قال: هذا بدينار وهذا بشاة، فإن كان على الإلزام لأحدهما لم يجز، وهو من بيعتين في بيعة وإن لم يكن على الإلزام، ولكن لكل واحد [منهما] من الرد والأخذ مثل ما للآخر فجائز.
وأجاز ابن أبي سلمة شراء هذا الثوب بسبعة وهذا بخمسة، يختار أحدهما على
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (4/515) ، ومواهب الجليل (4/515) .(3/191)
الإلزام إذا كان الوزن واحداً، فإن كانت الدراهم مختلفة الوزن، هذه تنقص وهذه وازنة، لم يجز عند مالك ولا [عند] ابن أبي سلمة، وبيعتان في بيعة بيعك سلعة بدينار نقداً أو بدينارين إلى أجل قد لزم المتبايعين أو أحدهما أحد الثمنين، ومكروه ذلك كأنه وجب عليك بدينار نقداً فأخرته وجعلته بدينارين إلى أجل، أو وجب عليك بدينارين إلى أجل فعجلتها بدينار نقداً.
2651 - ومن اشترى هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، أو اشترى هذه الغنم كل شاة بدرهم على أنه بالخيار ثلاثاً، فليس له أخذ بعض دون بعض إلا برضى البائع، إذ هي صفقة واحدة. قيل: فمن أخذ سلعة من رجل بمائة دينار إن رضيها، أو على أن يريها، فماتت أو تلفت قبل أن يرضاها أو يريها [فممن ضمانها؟] قال: قال مالك: ضمان ما بيع على خيار مما لا يغاب عليه، أو مما ثبت هلاكه مما يغاب عليه من البائع، وإن قبضه المبتاع، وما لم يثبت هلاكه مما يغاب عليه فالمبتاع يضمنه ويلزمه الثمن، وكذلك إن وقع بيع الخيار فاسداً باشتراط النقد، كان ما هلك في الخيار من(3/192)
البائع وإن قبضه المبتاع فيما لا يغاب عليه، كالبيع الصحيح، ويرد ما انتقد سواء كان الخيار للبائع أو للمبتاع.
2652 - وكل ما بيع على خيار فلا يجوز اشتراط النقد فيه، قرب الأجل أو بعد، واشتراط ذلك يفسد البيع، لأن ذلك يصير تارة بيعاً وتارة سلفاً.
وإن سلم العقد من اشتراطه جاز التطوع بالنقد بعد صحة العقد.
2653 - وإن اشترى سلعة بالخيار على أن ينقد ثمنها، فأصاب السلعة عيب في أيام الخيار، [فعلم به] ورضيه، وحدث بها أيضاً بعد أيام الخيار بعد أن قبضها عيب مفسد، واطلع على عيب دلسه البائع، فإنه إن شاء حبسها ويوضع عنه قدر عيب التدليس من قيمتها يوم قبضها، لأنه بيع فاسد وجبت فيه قيمة فصارت كالثمن، وبطل الثمن الأول، كان أقل من القيمة أو أكثر، وإن شاء ردها وما نقصها العيب الحادث عنده من قيمتها يوم قبضها.
ولو لم يحدث عنده عيب مفسد ولكن تغيرت عنده في سوق أو بدن، فله ردها بالعيب، إذ حوالة الأسواق لا تفيت الرد بالعيب، وله حبسها بقيمتها يوم قبضها.(3/193)
2654 -[ومن اشترى شيئاً على خيار مما يغاب عليه أم لا، ثم رده في أيام الخيار، فقال البائع: ليس هو هذا، [وقال المبتاع: هو هذا] ، فالمبتاع مصدق مع يمينه، وكذلك من قضى لرجل دنانير من دين ليقلب وينظر، ثم ردها إلى الدافع، فالقول قول الراد مع يمينه] .
2655 - ومن اشترى حيواناً أو رقيقاً بالخيار، فقبضها ثم ادعى إباق الرقيق وانفلات الدواب، أو أن ذلك سُرق منه وهو بموضع لا يجهل لم يكلف بينة، وصدق مع يمينه ولا شيء عليه، لأن هذا لا يغاب عليه إلا أن يأتي بما يدل على كذبه.
2656 - وإن ادعى موتاً وهو بموضع لا يخفى [ذلك فيه] ، سئل عنه أهل ذلك الموضع، لأن الموت لا يخفى عليهم، ولا يقبل إلا العدول، فإن تبين كذبه أو لم يعلم ذلك بالموضع أحد، فهو ضامن، وإن لم يعرف كذبه صدق مع يمينه، وأما إن ادعى هلاك ما يغاب عليه في أيام الخيار فهو ضامن، ولا يصدق إلا ببينة أنه هلك بغير تفريط، أو بأمر ظاهر من أخذ لصوص له، أو غرق مركب كانوا فيه وقد عاينوا غرقه فيه، أو احتراق(3/194)
[منزل] وقد رأوا الثوب في النار، فإذا شهدت بينة بهذا كان من البائع، وكذلك إن ثبت هذا في الرهن والعارية، والضياع كان من ربه.
ومسألة من باع سلعة ثم تبرأ بعد البيع من عيب، مذكورة في كتاب التدليس.
2657 - ومن اشترى سلعة أو ثوباً على أنه بالخيار يومين أو ثلاثة فلم يختر حتى مضت أيام الخيار ثم أراد الرد، والسلعة في يديه، أو أراد أخذها وهي بيد البائع، فإن كان [بعيداً] من أيام الخيار فليس له ردها من يده، ولا أخذها من يد البائع، وتلزم من هي بيده من بائع أو مبتاع، ولا خيار للآخر فيها، وإن كان بعد غروب الشمس من آخر أيام الخيار، أو كان كالغد، أو قرب ذلك، فذلك له، واحتج بالتلوم للمكاتب بعد الأجل.
ولو شرطا إن لم يأت المبتاع بالثوب قبل مغيب الشمس من آخر أيام الخيار لزم(3/195)
البيع، لم يجز هذا البيع، أرأيت إن مرض المبتاع أو حبسه سلطان، [أكان يلزم البيع؟] .
2658 - ومن ابتاع شيئاً بالخيار لم يضرب له أمداً، جاز البيع وضرب له من الأجل ما ينبغي في مثل تلك السلعة.
2659 - ولا بأس بشراء ثوب من ثوبين يختاره بثمن كذا، أو خمسين من مائة إن كانت جنساً واحداً، وذكر صفتها وطولها وعرضها، وإن اختلفت القيم بعد أن تكون كلها مَرَويّة أو هَرَويّة، فإن اختلفت الأجناس لم يجز، لأنه خطر، حتى يسمي ما يختار من كل جنس منها من ثوب، فيجوز.
وكذلك إن اجتمع حرير وخز وصوف، أو إبل وبقر وغنم، لم يجز إلا على ما ذكرنا.(3/196)
2660 - وكل شيء ابتعته من سائر العروض والماشية عدا الطعام على أن يختار منه عدداً يقلّ أو يكثر بثمن مسمى، فذلك جائز في الجنس الواحد، وكذلك على أن يختار تسعاً وتسعين شاة من مائة، ويرد شاة على البائع.
ويجوز أيضاً أن يستثني البائع لنفسه خيار شاة من مائة أو ما يقل عدده، فأما أن يستثني البائع خيار أكثر العدد كتسعين من مائة أو ما يكثر عدده، لم يجز.
وما لم يذكر البائع خياره فيما يستثنيه من العدد، أو المبتاع فيما يشتريه مما قل أو كثر، فذلك جائز، ويكون به في الجميع شريكاً.
2661 - وأما الطعام فلا يجوز أن يشتري منه على أن يختار من صُبر مصبرة، أو من نخل أو شجر مثمر عدداً يسميه، اتفق الجنس أو اختلف، أو كذا أو كذا عذقاً من هذه النخلة يختاره المبتاع، ويدخله التفاضل في بيع الطعام من صنف واحد مع بيعه قبل قبضه إن كان على الكيل، لأنه يدع هذه وقد ملك اختيارها، ويأخذ هذه، وبينهما فضل في الكيل، ولا يجوز فيه التفاضل. (1)
وكذلك إن اشترى منه عشرة آصع محمولة بدينار أو تسعة سمراء على الإلزام
_________
(1) انظر: التقييد (4/53) .(3/197)
لم يجز، ودخله ما ذكرنا، وبيعه قبل قبضه، وكذلك هذه الغنم عشرة بدينار أو هذا التمر عشرة [آصع] بدينار إلزاماً، ويدخله بيعه قبل قبضه وهو من بيعتين في بيعة. (1)
2662 - وكذلك إن ابتاع ثمر أربع نخلات من حائط رجل، على أن يختارها المبتاع، لم يجز، ولو ابتاعها بأصولها [بغير ثمر] جاز ذلك كالعروض، وأما الثمرة فلا وليس كالبائع لأصل حائط يستثنى منه خيار أربع نخلات أو خمس، فهذا قد أجازه مالك بعد أن وقف فيه نحو أربعين ليلة، وجعله كمن باع غنمه على أن يختار منها البائع أربعاً أو خمساً. قال ابن القاسم: لا يعجبني ذلك ولا أحب لأحد أن يدخل فيه، فإن وقع أجزته لقول مالك فيه: ولا باس به في الكباش، لجواز التفاضل
_________
(1) انظر: منح الجليل (5/39) .(3/198)
فيها، بخلاف الثمر، ولو لم يشترط البائع أن يختار جاز البيع، وكان شريكاً بجزء العدد الذي سمي في ثمر كل نخلة.
وكذلك إن استثنى البائع ثمر عشر نخلات غير معينة ولم يذكر خيارها، فإن كانت مائة [نخلة] كان شريكاً بالعشرة.
2663 -[ومن ابتاع سلعة على أنه بالخيار، ولم يجعل للخيار وقتاً، جاز، ويجعل له الخيار في مثل ما يكون في مثل تلك السلعة] .
* * *(3/199)
(كتاب المرابحة)
2664 - ومن اشترى بزاً من بلد، فحمله إلى بلد آخر، فلا يحسب في راس المال جُعْل السمسار ولا أجر الشد والطي، ولا كراء البيت، ولا نفقة نفسه ذاهباً وراجعاً، كان المال له أو قراضاً، ويحسب كراء المحمولة والنفقة على الرقيق والحيوان في أصل الثمن، ولا يحسب له ربح، إلا أن يُربحوه في ذلك [بعد العلم] ،(3/201)
فيجوز، فإن ضرب الربح على الحمولة ولم يبين ذلك وقد فات المتاع بتغير سوق أو بدن، حسب ذلك في الثمن ولم يحسب له ربح، وإن لم يفت رد البيع، إلا أن يتراضيا على ما يجوز، والصبغ والخياطة والقصارة تحسب في أصل الثمن ويضرب له الربح. (1)
2665 - وتجوز المرابحة للعشرة أحد عشر أو أقل أو أكثر، أو بوضيعة للعشرة أحد عشر، ويقسم الثمن على أحد عشر جزءاً، فيحط عنه جزء منها.
2666 - ومن رقم على متاع ورثه أو اشتراه، فلا يبيعه مرابحة على ما رقم.
2667 - ومن ابتاع أمة بالبراءة من ذهاب ضرس أو عيب، أو حدث بها ذلك عنده، فلا يبيعها مساومة ولا مرابحة حتى يبينه، [قال سحنون: فإن لم يذكر ذلك فهي مسألة تدليس] ، ولو ظهر على عيب بها بعد أن ابتاعها فرضيه لم يجزه، ذكره في المرابحة حتى يبين أنه ابتاعها سليمة ثم رأى العيب فرضيه، لأن له ردها إن شاء.
_________
(1) انظر: المدونة (10/239) ، والشرح الكبير (3/161) ، والتاج والإكليل (4/490) .(3/202)
ومن ابتاع حيواناً أو غنماً أو حوائط أو رباعاً فاغتلها وحلب الغنم، فليس عليه أن يبين ذلك في المرابحة، لأن الغلة بالضمان إلا أن يطول الزمان، أو تحول الأسواق، ولا يثبت الحيوان على حال، وأما إن جز صوف الغنم فليبينه كان عليها يوم الشراء أم لا، لأنه إن كان يومئذ تاماً فقد صار له حصة من الثمن، وإن لم يكن تاماً فلم ينبت إلا بعد مدة يتغير فيها.
فإن توالدت الغنم لم يبع مرابحة حتى يبين، ولو باعها بأولادها.
ولو ولدت الأمة عنده لم يبع الأم مرابحة ويحبس الولد، إلا أن يبين.
ومن ابتاع سلعة أو عروضاً أو حيواناً فحالت أسواقها بزيادة أو نقصان أو تقادم مكثها عنده، فلا يبعها مرابحة حتى يبين، لأن الناس في الطَّريّ أرغب منهم في الذي تقادم مكثه في أيديهم.
2668 - ومن ابتاع سلعة بثمن إلى أجل فليبين ذلك [في المرابحة] ، فإن باعها بالنقد ولم يبين فالبيع مردود، وإن قبلها المبتاع بالثمن إلى ذلك الأجل إلا أن يفوت فيأخذ البائع قيمتها يوم قبضها المبتاع، ولا يضرب له الربح على القيمة، فإن كانت القيمة أكثر مما باعها به فليس له إلا ذلك معجلاً.(3/203)
ومن ابتاع سلعة بدراهم نقداً، ثم أخر الثمن، أو نقد وحط عنه ما يشبه حطيطة البيع، أو تجاوز عنه درهماً زائفاً، فلا يبع مرابحة حتى يبين ذلك.
2669 - ومن ابتاع سلعة بألف درهم فأعطى فيها مائة دينار أو ما يوزن أو يكال من عرض أو طعام، أو ابتاع بذلك ثم نقد عيناً أو جنساً سواه مما يكال أو يوزن من عرض أو طعام، فليبين ذلك كله في المرابحة، ويضربان الربح على ما أحبا مما عقدا عليه أو ما نقدا إذا وصف ذلك، وكذلك إن نقد في العين ثياباً جاز أن يربح على الثياب إذا وصفها لا على قيمتها، كما أجزنا لمن ابتاع [سلعة] بطعام أو عرض أن يبيع مرابحة عليها إذا وصف.
ولم يجز أشهب المرابحة على عرض أو طعام، لأنه من بيع ما ليس عندك إلى غير أجل السلم. (1)
2670 - قال ابن القاسم: وكل من ابتاع بعين أو بعرض يكال أو يوزن فنقد خلافه من عين أو عرض، مما يكال أو يوزن وباع ولم يبين رد ذلك إلا أن يتماسك المبتاع ببيعه.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (4/491) .(3/204)
وإن فاتت السلعة بتغير سوق أو بدن أو بوجه من وجوه الفوت، ضرب المشتري الربح على ما نقد البائع على الجزء الذي ربحه في كل مكيل أو موزون، إن كان ذلك خير للمبتاع، وإلا فله التماسك بما عقد به البيع.
2671 - ومن ابتاع سلعة بمائة فنقدها وافترقا ثم وهبت له المائة فله أن يبيع مرابحة.
وإن ابتاع سلعة فوهبها لرجل ثم ورثها عنه فلا يبيعها مرابحة.
2672 - وإن ورث نصف سلعة ثم ابتاع نصفها فلا يبيع نصفها مرابحة حتى يبين، لأنه إذا لم يبين دخل في ذلك ما ابتاع وما ورث، وإذا بين فإنما يقع البيع على ما ابتاع.
2673 - وما ابتعت من موزون أو مكيل من طعام أو غيره، فلك بيع نصفه أو ما شئت من أجزائه مرابحة، أو بيع عشرة أقفزة من مائة، إن كان ذلك كله غير مختلف.(3/205)
وإن ابتعت ثوبين بأعيانهما فلا تبع أحدهما مرابحة أو تولية بحصته من الثمن غير مسمى وإن اتفقت الصفة، ولو كانا من سلم جاز ذلك قبل قبضهما أو بعد، إذا اتفقت الصفة ولم تتجاوز عنه فيهما، إذ لو استحق أحدهما لرجعت بمثله، والمعين إنما يرجع بحصته من الثمن.
2674 - وإذا بعت جزءاً شائعاً مرابحة من عروض ابتعتها معينة جاز، كنصف الجميع أو ثلثه، وكذلك الرقيق، لأنه بثمن معلوم.
2675 - وإن بعت رأساً من الرقيق بما يقع عليه من الثمن لم يجز، ولو ابتاع رجلان عروضاً ثم اقتسماها فلا يبع أحدهما حصته مرابحة [حتى يبين، ومن باع سلعة مرابحة، ثم ابتاعها بأقل مما باعها به أو أكثر، فليبع مرابحة] على الثمن الآخر، لأن هذا ملك حادث. (1)
2676 - ومن ابتاع نصف عبد بمائة ثم ابتاع غيره نصفه بمائتين ثم باعاه مرابحة بربح، فلكل واحد منهما ما نقد، والربح بينهما بقدر ذلك، [وإن باعاه بوضيعة من رأس
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (10/237) .(3/206)
المال، فالوضيعة بينهما بقدر رؤوس أموالهما] . وإن باعاه مساومة فالثمن بينهما نصفان.
2677 - ومن ابتاع سلعة بعشرين ديناراً ثم باعها بثلاثين ثم أقال منها، لم يبع مرابحة إلا على عشرين، لأن البيع لم يتم بينهما حين استقاله.
وإن اشتركت في سلعة أو وليتها رجلاً، ثم حطك بائعك من الثمن ما يشبه استصلاح البيع، فإنك مجبور أن تضع عن من أشركته خاصة نصف ما حط عنك، ولا يلزمك ذلك فيمن وليته إلا أن تشاء أن تحط عنه ذلك الحطاط فيلزمه البيع، فإن لم تحط شيئاً خُيّر في أخذها بجميع الثمن أو ردها عليك، وكذلك إن بعتها مرابحة.
ولو حطك بائعك جميع الثمن أو نصفه مما يعلم أنه لغير البيع، لم يلزمك أن تحط لمن ذكرنا شيئاً، ولا خيار لهم. (1)
2678 - ومن باع سلعة مرابحة فزاد في الثمن ولم تفت خُيّر المبتاع بين أخذها بجميع الثمن أو ردها، غلا أن يحط البائع الكذب وربحه، فتلزم المبتاع، فإن فاتت السلعة - ويفيتها ما يفيت البيع الفاسد - فعلى المبتاع قيمتها يوم قبضها، إلا أن يكون ذلك أكثر من
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (4/492) .(3/207)
الثمن بالكذب وربحه فلا يزاد عليه، أو يكون أقل من الثمن الصحيح وما قابله من الربح فلا ينقص منه.
ولو كانت السلعة مما يكال أو يوزن فلا فوت فيهان ويرد المبتاع المثل صفةً ومقداراً، وله الرضا بها بجميع الثمن [أورد مثلها، إلا أن يحط عنه البائع الكذب وما قابله من الربح، فيلزمه] .
وروى علي عن مالك [أن السلعة إذا كانت قائمة خُير المبتاع في قبولها بجميع الثمن، أو ردها، إلا أن يحط عنه البائع الكذب وربحه فيلزم المبتاع، فإن فاتت بنماء أو نقصان، خير البائع بين أخذ الربح على ثمن الصحة أو ردها، إلا أن يحط عنه البائع الكذب وما قابله من الربح فيلزمه] .
وفي رواية عن مالك في فوت السلعة أن البائع مخير بين أخذ الربح على المال، فالوضيعة بينهما بقدر رؤوس أموالهما] . وإن باعاه مساومة فالثمن بينهما نصفان.
2677 - ومن ابتاع سلعة بعشرين ديناراً ثم باعها بثلاثين ثم أقال منها، لم يبع مرابحة إلا على عشرين، لأن البيع لم يتم بينهما حين استقاله.
وإن اشتركت في سلعة أو وليتها رجلاً، ثم حطك بائعك من الثمن ما يشبه استصلاح البيع، فإنك مجبور أن تضع عن من أشركته خاصة نصف ما حط عنك، ولا يلزمك ذلك فيمن وليته إلا أن تشاء أن تحط عنه ذلك الحطاط فيلزمه البيع، فإن لم تحط شيئاً خُيّر في أخذها بجميع الثمن أو ردها عليك، وكذلك إن بعتها مرابحة.
ولو حطك بائعك جميع الثمن أو نصفه مما يعلم أنه لغير البيع، لم يلزمك أن تحط لنم ذكرنا شيئاً، ولا خيار لهم. (1)
2678 - ومن باع سلعة مرابحة فزاد في الثمن ولم تفت خُيّر المبتاع بين أخذها بجميع الثمن أو ردها، إلا أن يحط البائع الكذب وربحه، فتلزم المبتاع، فإن فاتت السلعة - ويفيتها ما يفيت البيع الفاسد - فعلى المبتاع قيمتها يوم قبضها، إلا أن يكون ذلك أكثر من الثمن بالكذب وربحه فلا يزاد عليه، أو يكون أقل من الثمن الصحيح وما قابله من الربح فلا ينقص منه.
ولو كانت السلعة مما يكال أو يوزن فلا فوت فيها، ويرد المبتاع المثل صفةً ومقداراً، وله الرضا بها بجميع الثمن [أورد مثلها، إلا أن يحط عنه البائع الكذب وما قابله من الربح، فيلزمه] .
وروى علي عن مالك [أن السلعة إذا كانت قائمة خُير المبتاع في قبولها بجميع الثمن، أو ردها، إلا أن يحط عنه البائع الكذب وربحه فيلزم المبتاع، فإن فاتت بنماء أو نقصان، خير البائع بين أخذ الربح على ثمن الصحة أو ردها، إلا أن يحط عنه البائع الكذب وما قابله من الربح فيلزمه] .
وفي رواية عن مالك في فوت السلعة أن البائع مخير بين أخذ الربح على
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (4/492) .(3/208)
ثمن الصحة، وإلا فله قيمتها، إلا أن يشاء أن يثبت على ما اشتراها به، فإن أبى فعليه قيمتها يوم ابتاعها، إلا أن يكون أقل أو أكثر على نحو ما ذكر ابن القاسم.
2679 - وقال مالك فيمن باع سلعة مرابحة، وقال: قامت علي بمائة فأربح عشرة، ثم ثبت أنها قامت عليه بعشرين ومائة، فإن لم تفت خُيّر المشتري بين ردها أو يرضب له الربح على عشرين ومائة، وإن فاتت بنماء أو نقص فالمشتري مخير إن شاء لزمته قيمتها يوم التبايع، إلا أن تكون القيمة أقل من عشرة ومائة فلا ينقص منه، أو تكون أكثر من عشرين ومائة وربحها فلا يزاد عليه. قال ابن القاسم: فإن علم المبتاع أن البائع كذبه في الثمن فرضي بذلك لم يبع مرابحة حتى يبين ذلك.
2680 - ومن ابتاع من عبده أو مكاتبه سلعة بغير محاباة فليبع مرابحة ولا يبين. وكذلك في شراء العبد من سيده، [لأن للسيد محاصّة غرماء العبد بما داينه به من غير محاباة] ، إذ له أن يطأ بملك يمينه، وإن جنى أسلم بماله.(3/209)
2681 - ومن ابتاع ثوباً فلبسه، أو دابة فركبها في سفر، فليبين ذلك في بيع المرابحة (1) ، ولو كانت أمة فوطئها لم يبين إلا أن تكون عذراء افتضها - وهي ممن ينقصها ذلك - فليبينه، وأما الوخش من [الرقيق] التي ربما كان ذلك أزيد لثمنها، فلا تبيين عليه [في ذلك] ، قال غيره: وليس عليه أن يبين ما خفّ من ركوب أو لباس إذا لم يتغير بذلك.
2682 - ومن ابتاع أمة فزوجها لم يبع مرابحة أو مساومة حتى يبين، لأنه عيب [حدث بها] .
وإن باع ولم يبين وهي بحالها خُير المبتاع في قبولها بجميع الثمن أوردها، وليس
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (4/493) .(3/210)
للبائع أن يلزمه إياها على أن يحط عنه قيمة العيب، ولا يفيت رد هذه حوالة الأسواق أو نقص خفيف ولا زيادة، لأنه من معنى الرد بالعيب، بخلاف من اطلع على زيادة في الثمن، فإن فاتت بعتق أو تدبير أو كتابة، فعلى البائع حصة العيب من الثمن بما يقع لذلك من رأس المال وربحه. (1)
* * *
_________
(1) انظر: منح الجليل (5/276) .(3/211)
(كتاب الوكالات) (1)
2683 -[قال ابن القاسم:] ومن أمر رجلاً يشتري له سلعة، فاشتراها الوكيل بعد موت الآمر ولم يعلم بموته، أو اشتراها ثم مات الآمر، فذلك لازم للورثة ويؤخذ الثمن من التركة إن لم يكن الوكيل قبضه.
ولو اشترى بعد علمه بموت الآمر لم يلزم الورثة ذلك، وعليه غرم الثمن، وكذلك ما باع بهذا المعنى.
2684 - وإن أمرت رجلاً يسلم لك دراهم دفعتها إليه في طعام ففعل، ثم أتى البائع بدراهم زائفة ليبدلها، وزعم أنها التي قبض، فإن عرفها المأمور لزمت الآمر، أنكرها أم لا، لأنه أمينه، وإن لم يعرفها [المأمور] وقبلها، حلف الآمر أنه
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/211) ، والمدونة (10/243) ، الكافي لابن عبد البر (1/394) ، ومنح الجليل (6/356) .(3/213)
لا يعرف أنها من دراهمه، وما أعطاه إلا جياداً في علمه، وبرئ وأبدلها المأمور لقبوله إياها.
وإن لم يقبلها المأمور ولا عرفها حلف المأمور أنه ما أعطاه إلا جياداً في علمه ثم للبائع أن يُحلَّف الآمر أنه ما يعرفها من دراهمه، وما أعطاه إلا جياداً في علمه، ثم تلزم البائع.
2685 - ومن وكلته على بيع سلعة لم يجز له أن يبيعها بدين، وإن باع بالعرض ما يباع بالعين فهو متعد.
وإن باع ولم يشهد على المبتاع فجحده، فإنه ضامن، كالرسول يقول: دفعت البضاعة وينكر المبعوث إليه أنه ضامن، إلا أن تقوم له بينة أنه دفعها إليه.
2686 - ومن أمرته بشراء سلعة فاشتراها معيبة، فإن كان عيباً خفيفاً يغتفر مثله، وقد يكون شراؤها به فرصة لزمتك، وإن كان عيباً مفسداً لم يلزمك إلا أن تشاء، وهي لازمة للمأمور.
وإن أمرته بشراء عبد فابتاع من يعتق عليك غير عالم، لزمك وعتق عليك، وإن كان عالماً لم يلزمك.(3/214)
2687 - وإن باع الوكيل أو ابتاع بما لا يشبه من الثمن أو بما لا يتغابن الناس بمثله لم يلزمك، كبيعه الأمة ذات الثمن الكثير بخمسة دنانير ونحوها، ويرد ذلك [كله] ما لم يفت فيلزم الوكيل القيمة، وإن باع بما يشبه جاز بيعه.
وإن أمرته بشراء سلعة بعينها فابتاعها بألف درهم، وهي بثمانمائة، لم تلزمك إلا أن تشاء، وهي لازمة له، ولو كان شيئاً يتغابن الناس بمثله لزمك.
ولا بأس أن تأمره يبتاع لك عبد فلان بطعامه هذا أو بثوبه هذا، وذلك قرض وعليك المثل فيهما، ومن أمرته يشتري لك برذوناً بعشرة دنانير فابتاعه بخمسة، فإن كان على الصفة لزمك وإلا فلا، [وإن ابتاعه بعشرين] فأنت مخير في أخذه بالعشرين أو رده، فيلزم الوكيل ويضمن لك الثمن.
ولو زاد يسيراً مما يزاد في مثل الثمن لزمتك الزيادة، كالدينارين والثلاثة في المائة، وكالدينار والدينارين في الأربعين.
2688 - وإن باع الوكيل السلعة بعشرة، وقال: بذلك أمرني ربها، وقال الآمر: ما أمرتك إلا باثني عشر، فإن لم تفت حلف الآمر وأخذها، وإن فاتت حلف المأمور وبرئ ما لم يبع ما يستنكر.(3/215)
وإن دفعت إليه ألف درهم فاشترى بها ثوباً أو تمراً وقال: بذلك أمرتني، وقلت له: ما أمرتك إلا بحنطة، فالمأمور مصدق مع يمينه، إذ الورق مستهلك كفوت السلعة.
2689 - وإن وكلته بشراء سلعة ولم تدفع إليه ثمناً فاشترى ما أمرته، ثم أخذ منك الثمن، فضاع منه، فعليك غرمة ثانية، وكذلك إن ضاع مراراً حتى يصل إلى البائع، ولو كنت دفعت إليه الثمن قبل الشراء فذهب منه بعد الشراء، لم يلزمك غرم المال [ثانية] إن أبيت، لأنه مال بعينه ذهب بخلاف الأول ويلزم المأمور، والسلعة له إلا أن تشاء أن تدفع إليه الثمن وتأخذها، كالعامل في القراض يشتري سلعة ثم يجد الثمن قد ذهب، فإن رب المال مخير في دفع المال ثانية، ويكون على قراضه أو يأبى، فتلزم العامل.
2690 - ومن وكل رجلاً [يشتري له] جارية بربرية، فبعث بها إليه(3/216)
فوطئها، ثم قدم الوكيل بأخرى فقال: هذه لك والأولى وديعة، ولم يكن الوكيل بيّن ذلك حين بعث بها [إليه] ، فإن لم تفت حلف وأخذها ودفع إليه الثانية، وإن فاتت الأولى بولد منه أو بعتق أو كتابة أو تدبير، لم يُصدَّق المأمور إلا أن يقيم بينة فيأخذها وتلزم الآمر الجارية الأخرى.
وإن أمره بشراء جارية بمائة، فبعث بها إليه، فلما قدم قال: ابتعتها بخمسين ومائة، فإن لم تفت خُيّر الآمر بين أخذها بما قال المأمور أو ردها، وإن فاتت بما ذكرنا لم تلزمه إلا المائة.
2691 - وإذا قال العبد لرجل: اشترني لنفسك بمال دفعه إليه ففعل، فعلى المبتاع غرم الثمن [ثانية] ويكون العبد له، فإن استثنى ماله فلا شيء عليه غير الثمن الأول. (1)
2692 - ومن أمر رجلاً يبيع له سلعة فباعها الآمر وباعها المأمور، فأول البيعتين أحق، إلا أن يقبض الثاني السلعة فهو أحق، كإنكاح الوليين.
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/378) ، والتاج والإكليل (6/339) ، والشرح الكبير (4/378) ، ومختصر خليل (1/292) ، والمدونة (10/247) .(3/217)
2693 - وإن باع المأمور سلعة بطعام أو عرض نقداً، وقال: بذلك أمرتني، وأنكر الآمر، فإن كانت مما لا تباع بذلك ضمن.
وقال غيره: إن كانت السلعة قائمة لم يضمن المأمور، وخُيّر الآمر في إجازة البيع وأخذ ما بيعت به، أو ينقض البيع ويأخذ سلعته، وإن فاتت خُير في أخذ ما بيعت به من عرض أو طعام، أو يضمن الوكيل قيمتها ويسلم ذلك إليه.
وقال غيره: وإن ادعى المأمور أن الآمر بما لا يشبه من يسير الثمن في البيع أو كثيره في الشراء، أو أن يبيع أو أن يشتري بغير العين، وليس مثلها يباع به، أو أن يبيع بالعين إلى أجل، لم يصدق، وهو في بيعه بغير العين مبتاع غير بائع، لأن(3/218)
العين ثمن وما سواه مثمون، ولا يبيعه حالاً من ليس هو عنده، ويجوز شراؤك بالعين وليس هو عندك، والبيع لا ينقض باستحقاق الثمن وينقض باستحقاق المثمونات.
وكل قائم لم يفت فادعى فيه المأمور ما يمكن وادعى الآخر خلافه صُدِّق الآمر مع يمينه، [وكل مستهلك ادعى المأمور فيه ما يمكن، وادعى الآمر غيره، فالآمر مصدق مع يمينه] ، كالصانع يصبغ الثوب بزعفران، أو [الخياط] يقطعه قميصاً، ويقول: بذلك أمرتني، ويدعي ربه أنه أمره بصنعة أخرى، فالصانع مصدق مع يمينه فيما يشبه من الصنعة الفائتة بالعمل إذا كان ذلك كله من عمله.
2694 - ومن أمرته أن يسلم لك في طعام ففعل وأخذ رهناً أو حميلاً بغير أمرك جاز، لأنه زيادة توثق، فإن هلك الرهن قبل علمك به فهو من الوكيل، وإن هلك بعد علمك ورضاك به فهو منك، وإن رددته لم يكن للوكيل حبسه.
2695 - وإن بعث المكاتب بكتابته مع رجل، أو امرأة بعثت بمال اختلعت به من زوجها(3/219)
مع رجل، أو رجل بعث بصداق امرأته مع رجل، أو أمر من له دين عنده أو وديعة بالدفع وإلا ضمن، كالوصي يدعي الدفع إلى الورثة، فعليه البينة، لأنهم غير من دفع إليه.
ولو زعم الوصي أنه تلف ما بيده لم يضمن، لأنه أمين.
2696 - ومن أسلم لك في طعام، ثم أقال منه بغير أمرك، لم تلزمك إقالته، ولك أن تفعل ذلك دون المأمور إذا ثبت أن البيع باعترافه أو ببينة.
وكذلك لو أخر البائع بالطعام بعد محله، لم يلزمك تأخيره.
ولو باع لك سلعة بأمرك لم يكن له أن يقيل ولا يضع من ثمنها شيئاً، والعهدة للآمر على البائع فيما ابتاعه له وكيله إذا ثبت أن ابتياعه له، وإن لم يذكر ذلك الوكيل عند الشراء.
وإن وجد الوكيل عيباً بالسلعة بعد الشراء وقد أمر بشرائها بعينها فلا رد له، إذ العهدة للآمر، وإن كانت بغير عينها فللمأمور الرد، ليس لأن العهدة له دون الآمر، ولكن لضمانه، لمخالفة الصفة، وهو قد علم وأمكنه الرد. قال(3/220)
أشهب: فإن كانت موصوفة فالآمر مقدم في الرضى أو الرد، وله أن يأخذها بعد رد المأمور إياها إذا لم يجز رده، وإن فاتت ضمنها المأمور، لأنه متعد في الرد لسلعة قد وجبت للآمر، قال ابن القاسم: وهذا كله في وكيل مخصوص، فأما المفوض إليه فيجوز جميع ما صنع مما ذكرناه من إقالة أو رد بعيب ونحوه، على الاجتهاد بغير محاباة.
2697 - ومن اشترى لك سلعة بأمرك وأسلف لك الثمن من عنده، فليس له حبسها بالثمن، لأنها وديعة لا رهن، كمن أمر رجلاً يشتري له لؤلؤاً من بلد وينقد عنه، [فقدم فزعم أنه ابتاعه له ونقد فيه، ثم تلف اللؤلؤ، فليحلف على ذلك بالله الذي لا إله إلا هو أنه قد ابتاع له ما أمره به، ونقد عنه] [ويرجع بالثمن على الآمر، لأنه أمينه، فلو كان كالرهن] عنده لضمنه وصاقه بالقيمة في الثمن، إلا أن يقيم بينة بهلاكه.(3/221)
ولو قال له: انقد عني فيه واحبسه حتى أدفع إليك الثمن، كان بمنزلة الرهن، ولو ابتاع له ذلك [ببينة] وهو مما يغاب عليه، ثم ادعى هلاكه لم يكلف ببينة ولا يضمن، ويرجع بالثمن على الآمر، وإن اتهم حُلّف.
2698 - وإن ادعى البائع أنه باع على خيار فأنكر [ذلك] المبتاع، فالمبتاع مصدق، وإن جاءه بالثمن فقال البائع: إنما بعتك على أنك إن لم تأت بالثمن في يوم قد مضى فلا بيع بيننا، فهو مدعٍ، ولو ثبت ذلك لم ينفعه ومضى البيع.
2699 - ومن ابتاع طعاماً فوجده معيباً فرد نصف حمل وقال: هذا الذي ابتعت بمائة، وقال البائع: بل بعتك حملاً [كاملاً] بمائة، فالقول قول المبتاع إن أشبه أن يكون نصف حمل بمائة درهم، لأن البائع قد أقرّ له بالثمن وادعى عليه زيادة في المثمون، وكذلك لو ردّ عبداً بعيب وقال له البائع: بل بعتك عبدين، إلا أن يأتي المبتاع بما لا يشبه فيصدق البائع مع يمينه فيما يشبه، ويرد من الثمن نصفه، ولا غرم على المبتاع إذا حلف في نصف الحمل الباقي، لأن البائع فيه مدع.(3/222)
2700 - ومن ابتاع سلعة بثمن ادعى أنه مؤجل، وقال البائع: بل حالّ، فإن ادعى المبتاع أجلاً يقرب لا يتهم فيه صدق مع يمينه، وإلا صدق البائع، إلا أن يكون للسلعة أمد معروف تباع عليه، فالقول قول مدعيه منهما.
ومن ادُّعي عليه بقرض حال فادعى الأجل فالقول قول المقروض، ولا يشبه هذا البيع.
2701 - وإن باع الوكيل السلعة وقال: بذلك أمرني ربها، وقال ربها: بل أمرتك أن ترهنها، صدق ربها، فاتت أو لم تفت.
ولو قال من هي بيده: ارتهنتنيها، وقال له ربها: بل استودعتكها، صدق ربها. وإن أمرته أن يرهن لك سلعة، فقال: أمرتني برهنها في عشرة ففعلت ودفعت العشرة إليك، وصدقه المرتهن، وقلت أنت: بل في خمسة وقد قبضتها، أو قلت: لم أقبضها، فالقول قول المرتهن فيما ارتهنه إن كانت قيمة الرهن مثلما قال، والقول قول الوكيل فيه، وفي دفعه إليك، لأن الوكيل على البيع موكل على قبض(3/223)
الثمن، وإن لم يسم له القبض في أصل الوكالة، ويصدق في دفع الثمن إلا الآمر ويبرأ الدافع. وقال المخزومي: وإن أعرته إياها ليرهنها لنفسه فلا تكون رهناً إلا فيما أقررت أنت به، والمستعير مدعٍ.
2702 - قال مالك: ومن كان لك عليه دراهم من ثمن سلعة أو غيرها، فأمرته أن يشتري لك بها سلعة نقداً، جاز إن كنت أنت أو وكيلك حاضراً معه، وإلا فذلك مكروه، غير أن مالكاً قال - فيمن كتب إلى رجل في شراء سلعة ففعل وأسلفه الثمن، ثم كتب الرجل [إليه] أن يبتاع له بذلك الثمن سلعة -: إنه من المعروف الجائز [بين الناسٍ] ، قال ابن القاسم: وهذا والأول في القياس واحد.
* * *(3/224)
(كتاب البيع الغَرَر والملامسة) (1)
2703 - ومن اشترى ثياباً مطوية ولم ينشرها ولا وصفت له، فالبيع فاسد، [قال ابن القاسم:] ومن اشترى سلعة غائبة على رؤية تقدمت منذ وقت لا يتغير مثلها فيه،
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (10/250) ، والتقييد (4/68) .(3/225)
جاز البيع، فإن رآها فقال: قد تغيرت فهو مدع والبائع مصدق مع يمينه، إلا أن يأتي المبتاع ببينة على ما ادعى، وقال أشهب: البائع مدع ولا يلزم المبتاع ما هو له جاحد، [قال ابن القاسم:] وقد قال مالك - رحمه الله - في الذي ابتاع أمة كان رأى لها ورماً، فلما قبضها ادعى أن الورم قد زاد: فالمبتاع مدع وعلى البائع اليمين.
2704 -[قال مالك:] والملامسة: شراؤك الثوب لا تنشره، ولا تعلم ما فيه، أو تبتاعه ليلاً ولا تتأمله، أو ثوباً مدرجاً لا يُنْشَر من جرابه.
والمنابذة: أن تبيع ثوبك [من رجل] وتنبذه إليه بثوبه وينبذه إليك من غير تأمل منكما.(3/226)
2705 - ومن الغرر شراء راحلة أو دابة قد ضلت أو عبداً قد أبق.
2706 - ومن رأى سلعة أو حيواناً غائباً منذ مدة تتغير في مثلها، لم يجز له شراؤها إلا بصفة مؤتنفة، أو على أنه بالخيار إذا رآها، ولا ينقد ثمنها، وإن كانت لا تتغير في تلك المدة جاز البيع.
وكل ما وجد على ما كان يعرف منه، أو على ما وصف له، لزمه ولا خيار له. وقال بعض كبار أصحاب مالك: لا ينعقد بيع إلا على أحد أمرين: إما على صفة توصف، أو رؤية قد عرفها، أو شرط في عقد البيع أنه بالخيار إذا رأى، فكل بيع ينعقد في سلعة بعينها على غير ما وصفنا فهو منتقض، قال ابن القاسم: وما ثبت هلاكه من السلعة الغائبة بعد الصفقة وقد كان يوم الصفقة على ما وصف للمبتاع، أو على ما كان رأى، فهي من البائع إلا أن يشترط أنها من المبتاع، وهو(3/227)
آخر قولي مالك، وكان [مالك] يقول: إنها من المبتاع إلا أن يشترط أنها من البائع حتى يقبضها، ثم رجع إلى هذا، [وبهذا أخذ ابن القاسم] ، والنقص والنماء كالهلاك في القولين، وهذا في كل سلعة غائبة بعيدة الغيبة أو قريبة، خلا الدور والأرضين والعقار، فإنها من المبتاع من يوم العقد في القولين جميعاً وإن بعدت.
2707 - ومن ابتاع عِدلاً ببرنامجه جاز أن يقبضه، ويغيب عليه قبل فتحه، فإن ألفاه على الصفة لزمه، وإن قال: وجدته بخلاف الصفة، فإن لم يغب عليه، أو غاب عليه مع بينة، لم تفارقه أو تقاررا فله الرضا به أو رده، فإن لم يعلم ذلك إلا بقوله وأنكر البائع أن يكون مخالفاً للجنس المشترط، أو قال: بعتكه على البرنامج، فالقول قول البائع، لأن المبتاع صدقه، إذ قبضه على صفته. (1)
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/24) ، والتاج والإكليل (4/295) .(3/228)
وكذلك من صرف ديناراً بدراهم، فغاب عليها ثم رد منها رديئاً فأنكره الصراف، فما عليه إلا اليمين أنه لم يعطه إلا جياداً في علمه.
وكذلك من قبض طعاماً على تصديق الكيل، ثم ادعى نقصاً، أو اقتضى ديناً فأخذ صرّة، صدق الدافع أن فيها [كذا] ، ثم وجدها تنقص، فالقول قول الدافع.
2708 - ومن اشترى عدلاً ببرنامجه على أن فيه خمسين ثوباً فوجد فيه إحدى وخمسين، قال مالك: يكون البائع شريكاً معه في الثياب بجزء من إحدى وخمسين جزءاً من الثياب، ثم قال: يرد منها ثوباً كعيب وجده فيه، قال ابن القاسم: وقوله الأول أعجب إليّ، فإن وجد فيه تسعة وأربعين ثوباً وضع عنه من الثمن جزءاً من خمسين جزءاً، قيل: فإن وجد فيه أربعين ثوباً؟ قال: وإن وجد في الثياب أكثر مما سمي لزمه بحصته من الثمن، وإن كثر النقص لم يلزمه أخذها، ورد البيع.
ولو كان في العدل مائة ثوب أجناساً، عشرة أثواب من الخز ومن المروي كذا،(3/229)
ومن غيره كذا، فأخذها بمائة دينار، كل ثوب بدينار، فوجد المبتاع ثياب الخزّ تنقص ثوباً، نظر ما قيمة ثياب الخز كلها يوم الصفقة، فإن كان الربع وضع عن المبتاع عشر ربع الثمن، قلّ أو كثر، قال مالك: وما زال الناس يجيزون بينهم بيع البرنامج، ومما ينبغي صفته في البرنامج عدة الثياب وأصنافها وذرعها وصفاتها.
2709 - ومن ابتاع من رجل داراً غائبة وقد عرفاها جاز، وإن لم يصفاها في الوثيقة.
ومن باع غنماً عنده [غائبة] بعبد غائب، ووصف كل واحد منهما لصاحبه سلعته ثم تفرقا قبل القبض، فلا بأس به، فإن ضربا لقبضهما أو لقبض أحدهما أجلاً لم يجز، إذ لا يباع شيء بعينه إلى أجل إلا [إلى] مثل يوم أو يومين.
وإن قال: إن لم آتك بها إلى يومين فلا بيع بيننا كرهته، فإن نزل أمضيته وبطل الشرط، ومن باع عروضاً أو حيواناً أو رقيقاً أو ثياباً بعينها حاضرة أو قريبة الغيبة، مثل يوم أو يومين جاز ذلك، وجاز النقد فيه بشرط، وإن كان ذلك بعيد الغيبة جاز البيع، ولم يصلح النقد فيه بشرط، كان الثمن عيناً أو عرضاً.(3/230)
وأما الدور والأرضون والعقار فالنقد فيها بشرط جائز، بعدت الغيبة أو قربت، كان الثمن عيناً أو عرضاً لغلبة الأمن في تغييرها، ولا تباع إلا [على] صفة أو رؤية متقدمة.
2710 - ومن مر بزرع فرآه ثم قدم فابتاعه وهو مسيرة اليومين، وشرط أنه منه إن أدركته الصفقة، فذلك جائز، وهو كالعروض في النقد فيه والشرط.
ومن اشترى حيواناً غائباً بعينه لم يجز أن يأخذ به كفيلاً، قربت الغيبة أو بعدت، إذ لو هلك لم يكن على البائع مثله.
2711 - وإن ابتعت سلعة غائبة مما لا يجوز النقد فيها، لم يجز أن تتقايلا فيها، ولا أن تبيعها من باعها منك بمثل الثمن أو بأقل أو أكثر، لأنها إن كانت سالمة في البيع الأول فقد وجب له في ذمتك ثمن، بعت [به] منه سلعة لك غائبة، فهذا من ناحية الدين بالدين، قال سحنون: وهذا على قول مالك الأول: "إن ما أدركته الصفقة فمن المبتاع". قال ابن القاسم: ولا بأس أن يبيعها من غير البائع بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، ولا ينتقد شيئاً من الثمن.(3/231)
2712 - ولا بأس أن تقيل من أمة بعتها وهي في المواضعة لم تحض بعد، ولا استبراء عليك فيها، فإن أربحته أو زادك هو شيئاً على أن تتقايلا، فإن لم تتناقدا الزيادة حتى تحيض جاز ذلك، وإلا لم يجز.
ويجوز للمبتاع بيعها من غير البائع بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، ما لم [ينتقد] .
2713 - وإن استأجرت من رجل داراً بثوب في بيتك ووصفته، ثم اشتريته منه وهو بيدك، بعين أو بثوبين من صنفه، أو بسكنى دار لك، فجائز إن علم أنه عندك وقت الصفقة الثانية، ومن أكرى داره بدابة بعينها موصوفة، أو قد رآها وهي في مكان بعيد مما لا يجوز النقد فيها على أن يبتدئ بائع الدابة السكنى لم يجز.
وإن شرط صاحب الدار أن لا يدفعها للسكنى حتى يقبض الدابة فجائز، وليس هذا من الدين بالدين، لأن هذا بعينه، وهو غائب، وإنما الدين بالدين المضمونان جميعاً. وإن لم يشترطا النقد في عقدة بيع الشيء الغائب، جاز أن يتطوع به المبتاع بعد الصفقة. (1)
_________
(1) انظر: منح الجليل (4/485) .(3/232)
2714 - ولا بأس ببيع سلعة بعينها غائبة لا يجوز النقد فيها، بسلعة مضمونة إلى أجل أو بدنانير إلى أجل، وكذلك حوائط بالتمر] الغائبة يباع ثمرها كيلاً أو جزافاً بدين مؤجل، ذهب أو عرض، وهي على مسيرة خمسة أيام أو ستة [أو شبه ذلك] ، ولا يجوز فيها النقد بشرط.
ولو بعدت الحوائط جداً كإفريقية من مصر لم يجز شراء ثمرها خاصة بحال، لأنها تُجذّ قبل الوصول إليها، إلا أن يكون ثمراً يابساً، وأما بيع رقابها فكبيع الرباع البعيدة يجوز بيعها والنقد فيها.
2715 - ومن ابتاع سلعة كان قد رآها، أو موصوفة، فهلكت قبل قبضها فادعى البائع أنها هلكت بعد الصفقة، [وقال المبتاع: قبل الصفقة] ، فإن لم يقم البائع بذلك بينة، كانت منه في قول مالك الأول ويحلف المبتاع على علمه أنها لم تهلك بعد وجوب البيع إن ادعى علمه، وإلا فلا يمين [له] عليه.(3/233)
وإن قال المتبايعان: لا ندري أهلكت قبل البيع، أو بعده، فهي في هذا الوجه من البائع في قولي مالك جميعاً.
2716 - ويجوز لك شراء طريق في دار [رجل] ، أو موضع جذوع من جداره لتحمل عليها جذوعك إذا وصفتها، ويجوز هذا في الصلح.
ولا بأس بشراء عمود عليه بناء للبائع، أو نصل سيف وجفنه دون حليته، وينقض البائع حليته إن شاء ذلك أحد المتبايعين.
2717 - ولا يجوز لك أن تبيع عشرة أذرع من هواء لك فوق عشرة أذرع من الهواء تبقى لك، إلا أن تشترط بناءً تبنيه قدر عشرة أذرع، وتصفه ليبني المبتاع فوقه [فيجوز] .
ويجوز أن تبيع عشرة أذرع أو أكثر من فوق سقف لك لا بناء عليه إذا بيّن لك المبتاع ما يبني على جدارك.
2718 - ومن قال: أبيعك سكنى داري سنة، فذلك غلط في اللفظ، وهو كراء(3/234)
صحيح، وفي كتاب العرايا ذكر شراء ما منحته أو أسكنته، ويجوز شراء سلعة إلى عشر سنين أو إلى عشرين [سنة] أو إجارة العبد عشر سنين.
2719 - وللغرماء بيع دار الميت، ويستثنون سكنى زوجته لعدتها، ويجوز لمن باع داره أو دابته أن يستثني سكنى الدار سنة، وركوب الدابة يوماً أو يومين، ولا يجوز ذلك فيما بَعُد ولا حياة البائع، ولا ركوب الدابة شهراً، فإن هلكت الدابة فيما لا يجوز استثناؤه فهي من البائع، لأنه بيع فاسد لم تقبض فيه السلعة، قال ربيعة: وكذلك ما بعد من استثناء خدمة العبد.
2720 - ومن له على رجل عرض ديناً فباعه من رجل آخر بدنانير أو دراهم فوجد فيها نحاساً أو رصاصاً فله بدله أو الرضا به، والبيع في ذلك تام.
ومن باع سلعة بعين على أن يأخذه ببلد آخر فإن سميا البلد ولم يضربا لذلك أجلاً لم يجز، وإن ضربا أجلاً جاز ذلك، سميا البلد أو لم يسمياه، فإن حلّ الأجل فله أخذه بالعين أينما لقيه.(3/235)
2721 - وإن باع سلعة بعرض وشرط قبضه ببلد آخر [إلى أجل] فليس له أخذه بعد الأجل إلا في البلد المشترط.
فإن أبى الذي عليه العرض بعد الأجل أن يخرج إلى ذلك [البلد] أُجْبِر على أن يخرج أو يوكل من يخرج فيوفي صاحبه.
2722 - قيل: فإن قلت لرجل: يعني سلعتك بعشرة، فقال: قد فعلت، فقلت: لا أرضى، قال: [قال] مالك: فيمن أوقف سلعته للسوم فقلت له: بكم هي، فقال: بعشرة، فقلت: قد رضيت، فقال: لا أرضى، إنه يحلف ما ساومك على إيجاب البيع، ولكن لما يذكره، ويبرأ، فإن لم يحلف لزمه البيع [فكذلك مسألتك، ولو قلت له: قد أخذت منك غنمك هذه، كل شاة بدرهم، فقال: ذلك لك، فقد لزمك البيع] .
2723 - ولا باس بشراء زيت أو سمن [أو عسل] ، كل رطل بكذا على أن يوزن بالظروف، ثم يطرح وزنها إذا فرغت.(3/236)
ولو ابتاعه على الكيل على أن يوزن بالظروف، فإذا فرغت [وزنت] وطرح وزنها ثم يحسب باقي الوزن أقساطاً على ما عرف من وزن القسط، فإن كان الوزن عندهم والكيل لا يختلف، فلا باس به، فإن وزن بظروفه ثم فرغ وتركت الظروف عند البائع إلى أن توزن، فقال المشتري بعد ذلك: ليس هي هذه وأكذبه البائع، فإن لم يفت السمن وتصادقا عليه أُعيد وزنه، فإن فات فالقول قول من تركت عنده الظروف مع يمينه، أنها هي من بائع أو مبتاع، لأنه مؤتمن.
2724 - ومن ابتاع جارية بمائة دينار، فقام فيها بعيب فأنكره البائع، فتطوع أجنبي بأخذها بخمسين على أن يتحمل البائع نصف الخمسين الباقية والمبتاع نصفها، فذلك لازم، كمن قال لرجل: ابتع عبد فلان وأنا أعينك بألف درهم، فاشتراه لزمه ذلك الوعد.
2725 - ومن تعدى في متاع عنده وديعة، فباعه ثم مات ربه فكان المتعدي وارثه، فللمتعدي نقض ذلك البيع إذا ثبت التعدي، وهو بيع غير جائز. (1)
2726 - ومن اشترى عبداً واستثنى ماله - وماله دنانير ودراهم وعروض ورقيق - بدراهم نقداً أو إلى أجل، فذلك جائز.
* * *
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (4/269) ، والتاج والإكليل (4/269) .(3/237)
(كتاب العرايا)
2727 - والعرايا في النخل وفي جميع الثمار كلها مما ييبس ويدخر، مثل العنب والتين والجوز واللوز وشبهه، يهب ثمرها صاحبها لرجل فأرخص لمعريها أن يشتري الثمرة إذا أزهت، وحل بيعها، لا قبل ذلك، بخرصها يابسة إلى الجذاذ إن كانت(3/239)
خمسة أوسق فأقل، فإن كانت أكثر من خمسة أوسق لم يجز بيعها بتمر نقداً، ولا إلى الجذاذ ولا بطعام يخالفها إلى أجل، ويجوز له ولغيره شراء ما أزهى، وإن زاد على خمسة أوسق بعين أو عرض نقداً أو إلى أجل أو بطعام يخالفها نقداً، ويتعجل جذاذها، فإن تفرقا في الطعام قبل القبض والجذاذ لم يجز.
2728 - وأرخص النبي ÷ في بيع العرايا بخرصها تمراً ما دون خمسة أوسق أو خمسة، - شكّ من حدّث مالكاً - وإنما يؤخذ تمراً عند الجذاذ.
وتجوز عرية النخل والشجر قبل أن يكون فيها ثمر، أو يعري الرجل تمر نخلتين أو ثلاثاً بأكلها عاماً أو عامين، أو حياته، ولا يشتريها معريها حتى تزهى.
2729 - وإذا باع المعري حائطه أو أصله دون ثمرته، أو ثمرته دون أصله، أو الثمرة من رجل والأصل من آخر، جاز لمالك الثمرة شراء العرية الأولى بخرصها، ولو باع المعري عريته بعد الزهو بما يجوز له، أو وهبها، جاز لمعريها شراؤها بالخرص ممن صارت له، كمن أسكنته داراً حياته فوهب سكناه لغيره، كان لك أنت شراء(3/240)
السكنى من الموهوب [له] كما كان لك شراؤه من الذي وهبته [له] .
ولا يجوز لمن أسكنته حياته أن يبيع سكناه من غيرك، لأنه خطر، وله أن يهبه.
2730 - قال مالك: وإذا ملك رجل أصل نخلة في حائطك فلك شراء ثمرتها منه بالخرص، كالعرية إذا [أزهت] ، وأردت بذلك رفقه بكفايتك إياه مؤنتها، وإن كان لدفع ضرر دخوله فلا يعجبني، [وأراه من بيع التمر بالرطب] لأنه لم يعره شيئاً.
2731 - وأما العرية فيجوز شراؤها بالخرص لمعريها لوجهين، إما لدفع ضرر دخوله وخروجه، أو لرفق في الكفاية. (1)
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/181) ، والتاج والإكليل (4/502) .(3/241)
وقال بعض كبار أصحاب مالك: لا يجوز للمعري شراء ما أعرى إلا لدفع ضرر، وكذلك يجوز له شراء ثمرة نخلة أصلها لغيره في حائطه، قال: وليس بقياس، ولكنه موضع تخفيف.
2732 - قال مالك - رحمه الله -: ولمعري خمسة أوسق شراء بعضها بالخرص.
وإن أعرى أكثر من خمسة أوسق فله شراء خمسة [أوسق] ٍ، وقد يجوز لمن أسكن رجلاً حياته شراء بعض السكنى.
ومن مات من مُعْرٍ أو مُعْرى جاز لوارثه ما جاز له، وقال بعض كبار أصحاب مالك: إذا أعرى خمسة أوسق فأدنى، فلا يجوز أن يشتري بعض عريته، لأن الضرر [الذي أرخص به] قائم بعد.(3/242)
2733 - قال ابن القاسم: ومن أعرى جميع حائطه وهو خمسة أوسق أو أدنى جاز له شراء جميعه أو بعضه بالخرص.
وتوقف لي مالك في شراء جميعه بالخرص، وبلغني عنه إجازته، والذي سمعت أنا منه إجازة شراء بعضه وذلك عندي سواء، وإن لم يدفع به ضرراً، كما جاز شراء جميع السكنى أو بعضه ولا يدفع به ضرراً.
2734 - ومن أعرى أناساً شتى من حائط، أو من حوائط له في بلد واحد، أو في بلدان شتى، خمسة أوسق لكل واحد، أو اقل أو أكثر، جاز له أن يشتري من كل واحد [قدر] خمسة أوسق فأدنى.
وكذلك إن أعراهم كلهم حائطاً له، والشركاء في حائط إذا أعروا منه خمسين وسقاً جاز لكل واحد شراء خمسة أوسق منه فأدنى.
2735 - ومن أعرى شيئاً من الخضر والفواكه، مثل التفاح والخوخ والرمان والبطيخ والموز والقصب والحُلو والبقول، فلا تباع بخرصها، لأنها(3/243)
تقطع خضراء، ولكن بعين أو عرض حين جواز بيعه، لأنه لو أعرى ثمر نخل قد أزهت أو أرطبت لم يجز [له] شراؤها بخرصها رطباً، وكذلك معري ما لا يثمر من الرطب أو ما يتزبب من العنب لا يشتريه بخرصه تمراً أو زبيباً.
ويجوز [بيعه] بالعين والعروض نقداً ومؤجلاً، وبخلافه من الطعام على الجذ قبل التفرق.
فإن كان في أحدهما تأخير لم يجز. قال ابن وهب: قيل لمالك: والرجل يعري التين والزيتون وشبه ذلك، ثم يشتريه كما يشتري التمر؟، فقال: أرى بيع العرية جائزاً إذا كان مما ييبس كله ويدخر.
2736 - ولا بأس أن تمنح رجلاً لبن غنم لك أو إبل أو بقر، يحلبها عاماً أو أعواماً، ولا رجوع لك في منحة أو عرية أو إخدام عبد أو سكنى دارٍ تعميراً أو تأجيلاً مسمى.
ولا بأس أن تشتري ما منحته أو أخدمته أو أسكنته بعين أو عرض أو طعام نقداً أو مؤجلاً، لجواز بيع شاة لبون بطعام إلى أجل، ولا بأس أن تبتاع من هذه الدار(3/244)
سكنى وإن كانت تعميراً، بسكنى دار لك أخرى إلى أجل، وخدمة العبد بخدمة عبد لك آخر إلى أجل معلوم.
2737 - ومن أعرى نخلة ثم مات المعري قبل أن يطلع في النخل شيء، وقبل أن يحوز المعري عريته، أو مات وفي النخل تمر لم يرطب ولم يحزها المعري، أو منح لرجل لبن غنم، أو أسكنه [داراً] ، أو أخدمه [عبداً] ، ثم مات [رب ذلك] قبل أن تحاز عنه الغنم والدار [والعبد] ، أو شهد أن فرسه حبس في سبيل الله بعد سنة، فمات ربه قبل السنة، أو منح رجلاً بعيراً إلى الزراع ثم مات ربه قبل الزراع، أو تصدق على رجل غائب بدار فلم يقدم ليحوز حتى مات رب الدار، فذلك كله باطل، وللورثة رده، ويكون ميراثاً لهم.
2738 - وزكاة العرية وسقيها على رب الحائط، وإن لم تبلغ خمسة أوسق إلا مع بقية حائطه، أعراه جزءاً شائعاً، أو نخلاً معينة، أو جميع الحائط. (1)
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (4/505) .(3/245)
2739 - ولو تصدق بثمرة حائطه قبل زهوه على المساكين، كان السقي عليه ولا يحاسب به المساكين.
2740 - ولو وهب ثمر حائطه، أو جزءاً منه، أو ثمر نخل معينة سنين قبل الزهو، أو أعمر ذلك، لم يجز له شراء ثمرة ذلك أو بعضه بخرصه، ولكن بعين أو عرض.
والسقي في ذلك كله على الموهوب له أو المعمر، وعليه الزكاة إن بلغ حطه ما فيه الزكاة، وإن لم يبلغ فلا زكاة على واحد منهما. قال ابن القاسم: وقال أكابر أصحابنا: إن العرية مثل الهبة، وفرّق مالك بينهما في الزكاة والسقي.
2741 - ولا يجوز شراء العرية إذا أزهت بخرصها تمراً نقداً، وإن جذها مكانه، ولا بتمر من غير صنفها إلى الجذاذ، ولا برطب ولا بسر، وإنما يجوز شراؤها بخرصها تمراً من صنفها إلى الجذاذ، ولا يجوز شراؤها بطعام نقداً إلا أن يجذها مكانه، ولا يجوز بطعام إلى أجل، وإن جذها. ويجوز شراؤها بعين أو عرض نقداً أو إلى أجل، ولا يجوز شراؤها قبل زهوها بعين ولا بعرض، إلا على أن يجذها مكانه، فأما إن اشتراه على أن يتركه لم يجز.(3/246)
ولا يجوز له شراء عريته بخرصها تمراً من تمر حائط له آخر بعينه، ولكن بتمر مضمون عليه، ولا يسمي ذلك [في حائط بعينه] .
ولمن ابتاع عريته من حائط بخرصها بيع جميع ثمرة ذلك الحائط رُطباً، وليس للمُعْرى طلبه بالخرص إلا إلى الجذاذ، لأن ذلك في ذمته، وليس عليه أن يعطيه ذلك من حائط بعينه.
* * *(3/247)
(كتاب التجارة إلى أرض الحرب) (1)
2742 - وقد شدّد مالك الكراهية في التجارة إلى بلد الحرب، وقال: يجري حكم المشركين عليهم.
ولا يُباع من الحربيين آلة الحرب من كُرَاع وسلاح وسرج أو غيرها
_________
(1) انظر: المدونة (10/275) ، والكافي (1/218) ، والقوانين الفقهية (ص192) ، ومراتب الإجماع لابن حزم (ص121) ، وأحكام أهل الذمة (ص342) ، ومواهب الجليل (3/366) .(3/249)
مما يَتَقَوَّوْن به في الحرب من نحاس [وحديد أو خرثي أو غيره.
ولا يشتري منهم بالدنانير والدراهم التي فيها اسم الله عز وجل لنجاستهم، كانوا أهل حرب أو عهد أو ذمة.
قيل لمالك: إن في أسواقنا صيارفة منهم، أنصرف منهم؟ قال: أكره ذلك، ولا أرى للمسلم ببلد الحرب أن يعمل بالربا فيما بينه وبين الحربيين.
2743 - ولا بأس ببيع عبدك النصراني من النصراني.(3/250)
وأما بيع الصقالبة منهم قال مالك: ما أعلمه حراماً وغيره أحسن منه. قال ابن القاسم: وأنا أرى أن يمنعوا من شرائهمزقال مالك: وإن ابتعت منهم صقلبية فلك ردها بعيب، وإن كنت نويت إدخالها في دينك. وقال ابن نافع عن مالك في المجوس: إنهم إذا ملكوا أُجبروا على الإسلام، ويُمنع النصارى من شرائهم، ومن شراء صغار الكتابيين، [ولا يمنعوا من شراء كبار الكتابيين] .
2744 - وإذا ابتاع مسلم خمراً من نصراني كسرتها على المسلم، فإن لم يقبض الذمي(3/251)
الثمن تصدقت به أدباً له، ولا أنتزعه منه إذا قبضه. وكذلك إن ابتاعها منه نصراني لمسلم، والنصراني البائع عالم بذلك. وأما إن لم يعلم فالثمن له.
2745 - قال ابن القاسم: وأرض الصلح التي منع أهلها أنفسهم حتى صولحوا، فهي لهم بما صولحوا عليه من جزية الجماجم وخراج الأرض، فلهم بيعها، وتورث عنهم، إلا من لا وارث له فيكون ذلك للمسلمين. ومن أسلم منهم سقط الخراج عنه وعن أرضه، وكانت أرضه له.
وإذا باع المصالح أرضه من مسلم أو ذمي فالخراج باق عليه، إلا أن يسلم فيسقط عنه.
قال أشهب: [بل هو على المسلم] ، ويزول عنه بإسلام البائع.
قال ابن القاسم: ولو ابتاعها المسلم على أن خراجها عليه كان بيعاً [فاسداً] ولا يحل، إذ لا يُدرى قدر بقائه. (1)
_________
(1) انظر: منح الجليل (4/452) .(3/252)
وروى ابن نافع عن مالك في أهل الذمة إن أُخذوا هم وأرضهم عنوة ثم أُقروا فيها وضربت عليهم الجزية، فلا يشترى منهم أصل الأرض، لأنهم وأرضهم للمسلمين.
وأما الذين صولحوا على الجزية فإن أرضهم لهم، يجوز لهم بيعها وهي كغيرها من أموالهم إذا لم يكن على الأرض جزية.
قال ابن القاسم: وبلد العنوة التي غلبهم المسلمون عليها فأقرّوها بأيديهم وضربت عليهم الجزية، فليس لهم بيع أرض ولا دار، ولا لأحد أن يشتريها منهم.
2746 - قال مالك - رحمه الله -: ولا يجوز شراء أرض مصر ولا تقطع لأحد.
2747 - ومن كان بيننا وبينه صُلح أو هدنة من الحربيين، على مال أو غير مال، فلا ينبغي شراؤهم ممن سباهم من أهل الأديان.(3/253)
وكذلك النوبة، لأن لهم عهداً من عمرو بن العاص أو عبد الله بن سعد.
2748 - ولو قدم إلينا تجار من أهل الحرب - وبيننا وبينهم عهد في بلدهم على أن لا نقاتلهم ولا نسبيهم أعطونا على ذلك شيئاً أم لا - فباعوا منا أولادهم لم يجز شراؤهم منهم، لأن لصغارهم من العهد ما لكبارهم.
وأما من نزل عندنا ممن لا عهد له منا ببلده، فلنا أن نبتاع منه الآباء والأبناء والنساء وأمهات الأولاد.
وليس نزولهم على التجارة ببلدنا بعهد، ثم ينصرفون كالعهد الجاري لهم ببلدهم منا على متاركة الحرب، بل هو كدخولنا إليهم لتجارة بعهد، فلنا شراؤهم منهم هنالك. (1)
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (5/21) .(3/254)
2749 - والذمي والمعاهد إذا ابتاع مسلماً أو مصحفاً جُبر على بيعه من مسلم ولم ينقض شراؤه. ولو صالحنا قوماً من أهل الحرب على مائة رأس كل عام، لم ينبغ أن نأخذ منهم أبناءهم ولا نساءهم، إذ لهم من العهد ما لآبائهم، إلا أن تكون المدة سنة أو سنتين فلا بأس أن نأخذ منهم أبناءهم ونساءهم.
2450 - وإذا ابتاع الكافر عبداً بخيار فأسلم العبد في أيام الخيار لم ينفسخ البيع، وقيل لمالك الخيار: اختر أو رُدّ، ثم يباع على من صار إليه. فإن كان المبتاع مسلماً والخيار له، فله أخذه أو رده، فإن رده بيع على ربه.
2751 - وإذا أسلم عبد الكافر أو أمته بيع عليه، وكذلك عبده الصغير يسلم إن عقل الإسلام، أُجبر على بيعه، لأن مالكاً قال في الحر إذا عقل الإسلام فأسلم ثم بلغ فرجع عن الإسلام: إنه يجبر على الإسلام.
وإذا كان لمسلم عبد نصراني فاشترى مسلماً فإنه يجبر على بيعه، إذ هو له حتى ينتزعه سيده، وقد يلحقه دين إن كان عليه.(3/255)
2752 - وإذا أسلم عبيد زوجة المسلم النصرانية، فلا بأس أن ينقل ملكها عنهم ببيعهم من زوجها أو بصدقتهم على ولدها الصغار منه.
2753 - وإذا أسلم عبد النصراني وسيده غائب، فإن بعدت غيبته باعه السلطان عليه ولم ينتظره، وإن قربت غيبته نظر في ذلك السلطان وكتب إليه، كالنصراني الغائب تسلم زوجته ولم يبن بها، فإن كان قريباً نظر السلطان في ذلك خوفاً أن يكون قد أسلم قبلها، وإن كان بعيداً فسخ بغير طلاق، ونكحت مكانها - إن شاءت - ولا عدة عليها إن كان لم يبن بها، ولو كان قد بنى بها وغيبته بعيدة أمرها الإمام بالعدة وتنتظره وهي في العدة، فإن قدم بعد العدة وقد أسلم بعد انقضائها فلا سبيل له إليها، وكذلك لو لم يبن بها وقدم وقد أسلم بعد إسلامها، فإن أسلم في الوجهين قبلها أو أسلم في التي دخل بها بعدها في العدة، فهو أحق بها ما لم تنكح، ويدخل بها الثاني كالمفقود.
2754 - وإذا أسلم عبد نصراني فرهنه بعته عليه وعجلت الثمن إلا أن يأتي النصراني(3/256)
برهن ثقة مكان العبد فيأخذ الثمن، ولو وهبه لمسلم للثواب فلم يثبه، فله أخذه ويباع عليه. ولو وهب مسلم عبداً مسلماً لنصراني، أو تصدق به عليه جاز ذلك، وبيع عليه والثمن له.
2755 - وإذا بيعت أمة مسلمة أو كافرة لم يفرق بينها وبين ولدها، وبيع معها، إلا أن يستغني الولد عنها في أكله وشربه ومنامه [وقيامه] .
قال مالك: وجد ذلك الإثغار ما لم يعجل به، جواري كنّ أو غلماناً، بخلاف حضانة الحرة.
وقال الليث: حد ذلك أن ينفع نفسه ويستغني عن أمه فوق عشر سنين أو نحو ذلك. قال مالك: ويفرق بين الولد الصغير وبين أبيه وجده وجداته لأمه ولأبيه في البيع متى شاء سيده، وإنما ذلك في الأم خاصة.(3/257)
وإذا قالت امرأة من السبي: هذا ابني لم يفرق بينهما، وكذلك جاء الأثر (1) ، ولا يتوارثان بذلك.
2756 - وإذا نزل الروم ببلدنا تجاراً ففرقوا بين الأم وبين ولدها لم أمنعهم، وكرهت للمسلمين شراءهم متفرقين. وإذا ابتاع مسلم منهم أماً وابنها لم يفرّق بينهما إن باع. (2)
_________
(1) انظر: رواه الترمذي (3/580) ، (1283) .
(2) انظر: التاج والإكليل (4/372) .(3/258)
وكذلك من ابتاع أمة قد كان ولدها في ملكه، أو كان لابنه الصغير فلا يفرق بينهما في البيع.
2757 - ولو كان الولد لرجل والأم لآخر لَجُبرا على أن يجمعانهما في ملك أو يبيعاهما معاً. وإذا ورث أخوان أمةً وابنها لزمهما أن يبقياهما في ملكهما أو يبيعاهما [معاً] ، وكذلك لو ابتاعهما رجلان جمعا بينهما.
2758 - ومن باع ولداً دون أمه فسخ البيع إلا أن يجمعاهما في ملك واحد.
2759 - وسئل مالك عن أخوين ورثا أمة وولدها صغير، فأرادا أن يتقاوما الأم فيأخذ أحدهما الأم والآخر الولد، وشرطا ألا يفرقا بين الأم وولدها حتى يبلغ الولد؟ فقال: لا يجوز ذلك لهما وإن كان الأخوان في بيت واحد، وإنما يجوز لهما أن يتقاوما الأم وولدها، فيأخذها أحدهما بولدها أو يبيعاهما جميعاً، وهبة الولد للثواب كبيعه في التفرقة.
2760 - ولو وهب الولد وهو صغير لغير ثواب جاز، ويترك مع أمه ولا يفرق بينهما، ويجبر الواهب والموهوب له على أن يكون الولد مع أمه، إما أن يرضى صاحب الولد أن يرد الولد إلى الأم أو يضم سيد الأمةِ الأمةَ إلى ولدها، وإلا فليبيعاهما [جميعاً] .(3/259)
وإذا جمعاهما فمن أراد البيع منهما أو أرهقه دين باع معه الآخر، وكذلك إن وهبه لابن له في حجره فرهق أحدهما دين.
ومن تمام حوز الموهوب أن يجوز الولد مع الأم، ولا يقبض الولد وحده، فإن فعل أساء، وكان حوزاً إن فلس الواهب أو مات.
2761 - ومن له أمة وولدها صغير، فجنت الأم أو الولد، فاختار السيد إسلام الجاني، قيل له وللمجني عليه: بيعاهما معاً ثم يقسم الثمن على قيمتهما جميعاً.
[ومن] ابتاع أمة وولدها صغير ثم وجد بأحدهما عيباً، فليس له رده خاصة، وله ردهما جميعاً أو حبسهما بجميع الثمن. ويجوز بيع نصف الأم ونصفالولد وليس بتفرقة.
ومن أعتق ابن أمته الصغير، فله بيع أمه، ويشترط على المبتاع نفقة الولد ومؤنته وأن لا يفرق بينه وبين أمه، وإن أعتق الأم جاز له أن يبيع الولد ممن يشترط عليه أن لا يفرق بينه وبين أمه.
وإن كاتب الأم لم يجز له بيع ولدها إذ هي في ملكه بعد إلا أن يبيع كتابتها مع رقبة الابن من رجل واحد، فيجوز ذلك إذا جمع بينهما، وإذا أدبر أحدهما لم يجز له بيع الثاني وحده ولا مع خدمة الآخر.
ولا بأس ببيع الأمة دون الولد، أو الولد دونها [قسمة] للعتق، وليس العتق بتفرقة.(3/260)
ولا ينبغي بيع الأم من رجل والولد من عبد مأذون له لذلك الرجل، لأن ما بيد العبد ملك له حتى ينتزع منه، إذ لو أرهقه دين كان في ماله، فإن بيعا كذلك أُمرا بالجمع بينهما في ملك السيد أو العبد، أو يبيعانهما معاً إلى ملك واحد، وإلا فسخ البيع.
2762 - ومن أوصى بأمة لرجل وبولدها لآخر جاز وجُبرا على الجمع بينهما بحال ما وصفنا في الهبة والصدقة.
قال ابن القاسم: ومن باع أمة على أن الخيار له، ثم ابتاع ولداً لها صغيراً في أيام الخيار بغير خيار، لم ينبغ له أن يختار إمضاء البيع فيها، فإن فعل رُدّ البيع إلا أن يجمعاهما في ملك واحد. وإن كان الخيار للمبتاع فاختار الشراء أُجبر معه مبتاع الولد على أن يجمعاهما في ملك أحدهما أو يبيعاهما جميعاً.
2763 - وإذا أسلم عبد الذمي وله ولد من زوجته - وهي أمة لسيده - فولدها منه تبع له في الدين، ويباع العبد من مسلم، والأم لمّا صار ولدها مسلماً بإسلام أبيه وجب أن يباع الولد مع أمه من مسلم بالقضاء. ولو أسلمت الأم وحدها بيع معها الولد وكان على دين الأب، وإسلام الزوجة يوجب التفرقة إلا أن يسلم الزوج في العدة فيكون أحق بها.(3/261)
وإذا أسلمت الذمية وهي حامل من ذمي، فولدها على دين أبيهم، والولد تبع للأب في الدين، كان الأب حراً أو عبداً.
2764 -[قال مالك - رحمه الله -:] ولا أعرض لأهل الذمة في تعاملهم بالربا، وإذا أسلم ذمي إلى ذمي درهماً في درهمين أو في خمر، ثم أسلما جميعاً فسخ ذلك فيما بينهما. قال مالك: وإن أسلم الذي له الحق فأما في الربا فيأخذ رأس ماله، وأما في الخمر فلا أدري [[ما حقيقته] ، لأني إن أمرت الذمي أن يرد رأس المال ظلمته، وإن أعطيت المسلم الخمر أعطيته ما لا يحل] ، وأما إن أسلم المطلوب فأما في الخمر فيرد رأس المال، وأما في الربا فلا أدري [ما حقيقته، لأني إن أمرته برد رأس المال] خفت أن أظلم الذمي.
وقال ابن القاسم: إذا أسلم أحدهما تراجعا إلى رأس المال في الربا والخمر، لأنه حكم بين مسلم وذمي.(3/262)
2765 - قال النبي ÷: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن اشتراها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعاً من تمر" (1) . قال مالك: وهذا حديث متبع ليس [لأحد] فيه رأي.
2766 - قال ابن القاسم: والمصراة من جميع الأنعام سواء، وهي التي يترك حلبها ليعظم ضرعُها ويحسن حلابها ثم تباع، فإذا حلبها المشتري مرة لم يتبين ذلك، فإذا حلبها الثانية علم بذلك نقص حلابها، فإما رضيها وإما ردها وصاعاً من تمر [قال:] وإن كان ذلك ببلد ليس عيشهم التمر أعطى صاعاً من عيش ذلك البلد. قيل: فإن حلبها ثالثة؟ قال: إن جاء من ذلك ما يعلم أنه حلبها بعد أن تقدم له من حلابها ما فيه خبره فلا ردّ له، ويعد حلابه بعد الاختيار رضىً بها، ولا حجة عليه في الثانية، إذ بها يختبر أمرها.
قال: وإذا ردها لم يكن له أن يرد اللبن معها إن كان قائماً بغير صاع، ولو كان له رده كان عليه في فواته مثله، ولو رضي البائع أن يقبلها مع اللبن بغير صاع
_________
(1) رواه البخاري (2/755) ، والشافعي في مسنده (ص189) ، وابن حبان في صحيحه (11/343) ، ومالك في الموطأ (2/683) ، والبيهقي (5/318) ، وانظر: بداية المجتهد (2/132) ، ونيل الأوطار (5/327) ، وسبل الإسلام (3/26) ، وتلخيص الجبر (3/22، 23) ، والتحقيق لابن الجوزي (2/182) ، والمدونة الكبرى (10/288) ، والفواكه الدواني (2/81) ، والتمهيد لابن عبد البر (18/210، 212) .(3/263)
لم يعجبني، لأنه وجب له صاع طعام فباعه قبل قبضه بلبن، إلا أن يقبلها بغير لبنها فيجوز.
2767 - ومن باع شاة حلوباً غير مصراة في إبان الحلاب ولم يذكر ما تحلب، فإن كانت الرغبة فيها إنما هي للبن - والبائع يعلم ما تحلب فكتمه - فللمبتاع أن يرضاها أو يردها، كصبرة يعلم البائع كيلها دون المبتاع، وإن لم يكن يعلم ذلك البائع فلا رد للمبتاع، وكذلك ما تُنوفس فيه للبن من بقر أو غنم أو إبل. ولو باعها في غير إبان لبنها ثم حلبها المبتاع في حين الإبان فلم يرضها فلا ردّ له، كان البائع يعرف حلابها أم لا. وإن ابتعتها في الإبان على أنها تحلب قسطين جاز، فإن وجدتها تحلب قسطاً فلك الردّ، وهو أقوى في الرد من المصراة للشرط فيها.
2768 - وإذا بنى رجل في أرضك على نهر لك رحىً فلك عليه كراء [الأرض] ، وأما الماء فلا كراء له. وإن كان في أرضك غدير أو بركة أو بحيرة فيها سمك(3/264)
فلا يعجبني بيع ما فيها من السمك ولا تمنع من يصيد فيها ولا الشرب منها. ولا يمنع الماء لشفة أو لسقي كبد إلا ما لا فضل فيه عن أربابه.
ومن له حصة في أصل عين مملوكة، فله بيع حصته أو بيع شرب يوم أو يومين، دون الأصل إذا جاءه حظه في الشرب كان له بيعه أو يبيع بعضه.
وكره مالك بيع ماء المواجل التي على طريق أنطابلس.
2769 - ويجوز بيع فضل ماء الزرع من عين أو بئر وبيع رقابها. وللرجل بيع ما في داره أو أرضه من عين أو بئر للشفة أو للزرع، ويجوز بيعها وبيع مائها، وكذلك المواجل التي يحدثها الناس في دورهم لأنفسهم، فأما ما حفر في الفيافي والطرق من المواجل، كمواجل طرق المغرب فقد كره مالك بيعها، ولم يره بالحرام البين،(3/265)
وجل ما كان يعتمد عليه الكراهية واستثقال بيع مائها، وهي مثل آبار الماشية التي في المهامه.
2770 - وكره مالك بيع أصل بئر الماشية أو مائها، أو فضلة حفرت في جاهلية أو إسلام، ربت من العمران أو بعدت، وأهلها أحق بمائها حتى يرووا، ويكون للناس ماء فضل، بينهم بالسواء، إلا من مرّ بهم لشفتهم ودوابهم فلا يمنعون. وأما من حفرها في أرضه فإن أراد بها الصدقة فهي هكذا، وإن أراد أن ينتفع هو بها فله منعها وبيع مائها بخلاف ما حفر هو في الفيافي.
2771 - قال مالك: والحكرة في كل شيء من طعام أو إدام أو كتان أو صوف أو عصفر أو غيره، فما كان احتكاره يضر بالناس منع محتكره من الحكر، وإن لم يضر ذلك [بالناس ولا] بالسوق فلا باس به. وإن قدم أهل الريف إلى الفسطاط لشراء طعام، فمنعوهم وقالوا: تغلون علينا سعرنا، لم يمنعوا، إلا أن يضر ذلك بأهل(3/266)
الفسطاط وعند أهل القرى ما يكفيهم، فإنهم يمنعون وإلا تركوا. وكذلك من خرج إلى قرية فيها سوق ليجلب منها على ما ذكرنا.
2772 - ولا يجوز أن تبتاع من رجل طعاماً على ما ابتاع منه فلان، أو تخيط له ثوباً بمثل ما خطت لفلان. وكذلك الصبغ والصياغة والإجارة إذا لم تعلم حينئذ ما كان أول ذلك.
2773 - ومن اشترى من رجل ثلاث جنيات من حائطه، على أن ما جنى منها أخذه كل أربعة آصع بدينار، فلا بأس به وهو أمر معروف، وذلك كشراء ثمر الحائط بأسره كيلاً أو زرعه اليابس على الكيل، أو صبرة لا يعلم ما فيها، فأما ابتياعه بأربعين ديناراً من رطب هذا الحائط على أن كذا وكذا صاعاً بدينار، فيأخذ من ذلك ما يجني كل يوم، فلا ينبغي ذلك حتى يسمي ما يأخذ كل يوم، وقد كان الناس يتبايعون اللحم بسعر(3/267)
معلوم ياخذ كل يوم شيئاً معلوماً ويشرع في الأخذ ويتأخر الثمن إلى العطاء، وكذلك كل ما يباع في الأسواق، فلا يكون إلا بأمد معلوم يسمى ما يأخذ كل يوم، وكان العطاء يومئذ مأموناً ولم يروه ديناً بدين واستخفوه.
2774 - وإن اشتريت داراً أو ثوباً كل ذراع بدرهم ولم تسم عدد الأذرع، فقلت: قيسوا فقد أخذت كل ذراع بدرهم، فذلك جائز.
2775 - وإن اشتريت جملة غنم كل شاتين بدرهم، أو جملة ثياب كل ثوبين بدينار فأصبت في الثياب مائة ثوب وثوب، وفي الغنم مائة شاة وشاة، لزمتك الشاة أو الثوب بنصف دينار.
2776 - ولا باس أن يبيع الرجل الشاة أو البعير ويستثني جزءاً من ذلك، ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً، وأما أن يستثني الجلد أو الرأس فقد أجازه مالك في السفر إذ لا ثمن له هناك، وكرهه للحاضر إذ كأنه ابتاع اللحم.(3/268)
قيل: فإن أبى المبتاع ذبحها في السفر والبائع قد استثنى رأسها أو جلدها؟ قال: قال مالك فيمن وقف بعيره فباعه من أهل المياه لينحروه واستثنى جلده فاستحيوه: فإن عليهم شراء جلده أو قيمته كل ذلك واسع، فكذلك مسألتك.
ولا يكون شريكاً بالجلد إذ على الموت باع، ولا يجوز أن يستثني الفخذ أو البطن أو الكبد. ولا بأس باستثناء الصوف والشعر. وإن استثنى من لحمها أرطالاً يسيرة ثلاثة أو أربعة جاز، ويجبر المبتاع على الذبح ههنا، ولم يبلغ به مالك الثلث.
وروى عنه ابن وهب أنه كان لا يجيز الاستثناء من لحمها وزناً ولا جزافاً، ثم رجع فقال: لا بأس به في الأرطال اليسيرة، مثل الثلث فأدنى، وأجاز استثناء(3/269)
الجلد والرأس، لأن المبتاع ضمنها بالشراء، وأما شراء لحم هذه الشاة مطلقاً فلا يجوز، لأنها بعدُ في ضمان البائع.
2777 - قال ابن القاسم: ولا يجوز أن يبيعه رطلاً من لحمها قبل ذبحها وسلخها، وليس كاستثناء البائع ذلك، كما أنه يجوز استثناء البائع أصوعاً من ثمرة باعها رطبة دون الثلث يأخذها تمراً. ولا يجوز أن يبيع من ثمرة قد أزهت أصوعاً معلومة دون الثلث أو أكثر يدفعها تمراً.
2778 - ولا يجوز الاشتراء من لحوم الإبل والبقر والغنم وسائر الطير قبل ذبحها لحماً كل رطل بكذا، لأنه مغيّب لا يدري كيف ينكشف.
2779 - وإن ادعيت في دار دعوى فصالحك من ذلك على عشرة أرطال من لحم شاته هذه، لم يجز.
2780 - ومن اشترى لبن غنم بأعيانها جزافاً شهراً أو شهرين، أو إلى أجل لا ينقضي اللبن قبله، فإن كانت غنماً يسيرة كشاة أو شاتين لم يجز، إذ ليست بمأمونة، وذلك جائز فيما كثر من الغنم كالعشرة ونحوها، إن كان في الإبان وعرفا وجه حلابها، وإن لم يعرفا وجهه لم يجز.
فإن اشترى لبن عشرة من الغنم ثلاثة أشهر في إبانه فماتت خمس بعد أن حلب(3/270)
جميعها شهراً، نظر فإن كانت الميتة تحلب قسطين [قسطين] والباقية تحلب قسطاً قسطاً نظر كم الشهر من الثلاثة في قدر نفاق اللبن ورخصه، فإن قيل: النصف، فقد قبض نصف صفقته بنصف الثمن، وهلك ثلثا النصف الباقي قبل قبضه، فله الرجوع بحصته من الثمن وهو ثلثا نصف الثمن، وذلك ثلث الثمن أجمع.
2781 - ولو كان موت هذه الميتة قبل أن تحلب شيئاً لرجع بثلثي جميع الثمن، وعلى هذا يحسب أن لو كانت حصة الميت الثلث أو النصف أو الثلاثة أرباع، ولو كنت أسلمت في لبنها سلماً على كيل فهلك بعضها، كان سلمك فيما بقي منها، بخلاف شرائك لبنها مطلقاً.
2782 - ويجوز السلم في لبن غنم معينة على الكيل كل قسط بكذا، كانت الغنم يسيرة أو كثيرة، كشاة أو شاتين، بعد أن يكون في إبان لبنها، ويسمي أقساطاً معلومة، ويضرب أجلاً لا ينقضي اللبن قبله. قيل: أفينقده الثمن؟ قال: نعم، إذا شرع في أخذ اللبن، أو كان يشرع فيه إلى أيام يسيرة، فإن زال الإبان ولم يأخذ لبناً رجع بالثمن، وإن اشترى لبنها في غير إبانه على جزاف أو كيل وشرطا أخذه في الإبان فلا خير فيه.
وإن اكترى ناقة أو بقرة حلوباً واستثنى حلابها جاز إن عرف وجهه.(3/271)
2783 - ولا يجوز شراء سمسم أو زيتون أو حب فجل بعينه على أن على البائع عصره، أو زرعاً قائماً على أن عليه حصاده ودرسه، وكأنه ابتاع ما يخرج من ذلك كله وذلك مجهول. فأما إن ابتعت منه ثوباً على أن يخيطه لك أو نعلين على أن يحذوهما فلا بأس به.
وإن ابتعت منه قمحاً على أن يطحنه لك، [قال مالك مرة: لا خير فيه،] واستخفه بعد أن كرهه، وكان وجه ذلك عنده مكروهاً، وجل قوله في ذلك التخفيف على وجه الاستحسان لا القياس.
* * *(3/272)
(كتاب التَّدليس بالعيوب) (1)
2784 - ومن ابتاع عبداً فألفاه معيباً ولم يحدث به عنده عيب مفسد، فإنما له التمسك به بجميع الثمن أو الرد، ولا يفيت الرد بالعيب حوالة سوق، ولا نماء، ولا عيب خفيف يحدث عنده ليس بمفسد، كالرمد والكي والدماميل والحمى والصداع، وإن نقصه ذلك فله رده ولا شيء عليه في مثل هذا، وكذلك ذهاب الظفر، وأما زوال الأنملة فهو كذلك في الوخش خاصة.
وأما ما حدث عنده من عيب مفسد، كالقطع والشلل والعمى والعور وذهاب أصبع، بقطع أو بأمر من الله تعالى، أو قطع الأنملة في العلة وشبه ذلك، فإنه مخير بين رده بما نقصه ذلك أو التماسك [له] والرجوع بحصة العيب القديم من الثمن
_________
(1) انظر: الفواكه الدواني (2/81) ، ومواهب الجليل (4/481) ، والتاج والإكليل (5/195) .(3/273)
فذلك له، إلا أن يرضى البائع بأخذ العبد معيباً [فيرد جميع الثمن] ، ولا يرجع على المبتاع في العيب الحادث عنده بشيء، فذلك له إلا أن يرضى المبتاع بالتماسك به معيباً بجميع الثمن، فذلك له.
2785 - ومن ابتاع عبدين في صفقة واحدة بمائة دينار فهلك أحدهما، ثم وجد بالباقي عيباً، رده وأخذ حصته من الثمن، فإن اختلفا في قيمة الهالك وصفاه وقومت تلك الصفة، فإن اختلفا في الصفة فالقول قول البائع [إن انتقد] مع يمينه، فإن لم ينتقد فالقول قول المبتاع.
2786 - ومن ابتاع شاتين مذبوحتين فأصاب إحداهما غير ذكية، أو طعاماً على أن فيه مائة إردب فلم يجد فيه إلا خمسين أو أربعين، فلا يلزمه أخذه، ولا أخذ الشاة المذكاة، وله رد الجميع، لأنه يقول: أردت شراء الجملة لرخصه، أو لحاجتي إليه، إلا أن يشاء أن يأخذ [الشاة] الذكية بحصتها من الثمن فذلك له. ولو نقصت(3/274)
المائة إردب شيئاً يسيراً، أو ابتاع عشرين شاة مذبوحة فأصاب إحداهن ميتة لزمه الباقي بحصته من الثمن.
وكذلك من ابتاع قُلّتي خل، أو قلالاً فيصيب إحداهن خمراً، فهو على ما وصفنا.
وقال غيره: إذا اشترى شاتين، أو عبدين، أو قلتين متكافئتين، فهذا لم يبتع أحدهما لصاحبه، فإن أصاب بأحدهما عيباً، أو استحق، رجع بما يصيبه من الثمن ويرد المعيب.
وكذلك يقول ابن القاسم في العبدين المتكافئين، بخلاف عبدين أحدهما تبع لصاحبه، أو جملة ثياب، أو رقيق، أو كيل، أو وزن، فإن استحق الأقل من ذلك، أو وجد به عيباً بعد أن قبضه أو قبل، لزمه الباقي بحصته من الثمن، وإن استحق أكثر ذلك حتى يضُرّ به لتبعيض صفقته، أو لرغبته في الجملة فله رد جميع الصفقة وأخذ الثمن.(3/275)
وله أن يحبس ما سلم في يديه بحصته من الثمن إن كان ما اشترى على الكيل أو الوزن أو كان مما يعد، فاستحق منه جزءٌ شائع، كالنصف أو ثلاثة أرباعه، لأن ما بقي حصته من الثمن معلومة، وإن كان فيما يُعد إنما استحق بعض السلع بأعيانها، وذلك كثير من الصفقة لم يجز رضاه بما بقي، إذ لا يعلم حصة ذلك [من الثمن] إلا بعد القيمة، وكأنه بيع مؤتنف بثمن مجهول، لوجوب الرد في جميع الصفقة.
وأما إن وجد عيباً في كثير من العدد حتى يضر ذلك به في صفقته، أو كثير من وزنه، أو في كيله، فليس له إلا أن يرضى بالمعيب بجميع الثمن أو رد جميع الصفقة، وليس له أخذ غير المعيب بحصته من الثمن وإن كان معروفاً، بخلاف الاستحقاق [في هذا] .
2787 -[قال ابن القاسم في باب بعد هذا: ومن ابتاع سلعاً كثيرة في صفقة فوجد ببعضها عيباً بعد أن قبضها أو قبل، فليس له إلا رد المعيب بحصته من الثمن إن لم يكن وجه الصفقة، فإن كان المعيب وجه الصفقة وفيه رجاء الفضل، فليس له إلا الرضا بالعيب بجميع الثمن، أو رد جميع الصفقة] . (1)
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (4/459) ، والمدونة (10/332) ، والكافي (1/348) .(3/276)
2788 - ومن باع عبداً بثوبين فهلك عنده أحدهما وألفى الآخر معيباً، فإن كان المعيب وجه الصفقة رده وقيمة الهالك وأخذ عبده إن لم يفت، فإن فات العبد بحوالة سوق أو بدن، نظر إلى الثوب الباقي كم كان من التالف، فإن كان ثلثاً أو ربعاً رجع بحصة ذلك من قيمة العبد، لا في عينه، ولو كان العيب بالعبد رده مشتريه، ثم إن كان الحاضر من الثوبين أرفعهما ولم يفت بحوالة سوق أو غيره، أخذه مع قيمة الهالك ما بلغت، وإن فات الحاضر بتغير سوق، أو غير ذلك، أو كان لم يفت وليس بوجه الثوبين، أسلمه وأخذ قيمة ثوبيه ما بلغت.
2789 - ومن اشترى جارية بيعاً صحيحاً، فلم يقبضها إلا بعد [شهر] أو شهرين وقد حالت الأسواق عند البائع، فقبضها، وماتت عند المشتري، ثم اطلع على عيب كان عند البائع، فالتقويم في قيمة البيع الصحيح يوم الصفقة، والقيمة في البيع الفاسد يوم القبض، لأن المشتري في البيع الفاسد لا يضمن إلا بعدما يقبض، لأن له أن يترك ولا يقبض، والبيع الصحيح يلزمه قبضه ومصيبته منه، ولو لم يقبضها المبتاع في البيع الصحيح حتى ماتت عند البائع، أو حدث بها عنده عيب وقد قبض الثمن أم لا، فضمانها من المبتاع، وإن كان البائع احتبسها بالثمن كالرهن، هذا إذا كانت الجارية لا يتواضع مثلها وبيعت على القبض.(3/277)
وقد قال ابن المسيب: من باع عبده وحبسه حتى يقبض الثمن فمات عنده فمصيبته من البائع.
وقال سليمان بن يسار: هو من المبتاع. وقال مالك بقوليهما.
قال ابن القاسم: ولو كان بهذه الجارية عيب ولم يعلم به المبتاع حين الشراء، فلم يقبضها حتى هلكت عند البائع أو أصابها عنده عيب مفسد، مثل القطع والشلل وشبههما، فضمانها من المبتاع حتى يقضى له بردها أو يبرئه منها البائع.
ويجوز فيها عتق المبتاع إذ له الرضا بالعيب، ولا يجوز فيها عتق البائع، ولو كان البيع فاسداً جاز عتق البائع فيها، ولم يكن للمبتاع معه عتق، إلا أن يعتق المبتاع قبل البائع فيكون قد أتلفها.
ومسألة من اشترى جارية غائبة على صفة، مذكورة في كتاب شراء الغائب.(3/278)
2790 - قال مالك: ومن ابتاع أمة بيعاً صحيحاً وبها عيب لم يعلم به حتى ماتت، أو أعتقها، أو تصدق بها، أو وهبها لغير ثواب، أو كاتبها، أو دبرها، أو ولدت منه، فذلك فوت يوجب له الآن قيمة العيب. وأما إن باعها، أو وهبها لثواب، أو أجّرها أو رهنها، ثم اطلع على عيب فلا يرجع بشيء، فإذا زالت من الإجارة أو الرهن يوماً فله ردها بالعيب إن كانت بحالها، وإن دخلها عيب مفسد رد معها ما نقصت عنده.
قال أشهب: إن افتكها حين علم بالعيب [فله ردها بالعيب ويرجع بالثمن كله] ، وإلا رجع بما بين الصحة والداء.
قال ابن القاسم: وإن ولدت الأمة عند المبتاع من غيره ثم وجد بها عيباً، فلا يردها إلا مع ولدها أو يمسكها.(3/279)
وإن مات ولدها وبقيت هي فليردها بالعيب، ويرجع بالثمن كله ولا شيء عليه في الولد، إلا أن تنقصها الولادة فيرد ما نقصها كعيب حادث، ولو ماتت الأم أو قتلت وبقي الولد عنده ثم علم بالعيب، لم يكن له رد الولد مع قيمة الأم، وإنما له أن يرجع على البائع بحصة العيب من الثمن بعد أن تُقوّم الأم يوم الصفقة بغير ولد.
قال أشهب: إلا أن يكون ما وصل إليه من قيمة الأم حين قتلت مثل الثمن الذي يرجع به على البائع، فلا حجة له، لأن الأم لو ماتت بغير قتل فقال البائع: أنا آخذ الولد على أن أرد جميع الثمن، فذلك له، إلا أن يتماسك المبتاع بالولد بغير شيء فذلك له، فإذا كان بيده مثل الثمن والولد زيادة فلا حجة له.
2791 - وإن بعت ثوباً من رجلين فباع أحدهما حصته من صاحبه، ثم ظهر على عيب كان عندك، فليس للذي باع نصيبه أن يرجع إليك بشيء، وللذي ملك جميعه أن يرد عليك نصف الثوب، ويأخذ نصف الثمن، ويبقى في يده نصف الثوب وفي يدك نصفه.
2792 - ومن ابتاع جارية على أنها بربرية فأصابها خراسانية فله أن يردها. (1)
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (4/427) ، والمدونة الكبرى (10/247، 309) .(3/280)
وإن اشترطها صقلبية أو أبرية أو أشبانية، فأصابها بربرية أو خراسانية فلا يردها، لأن ذلك الجنس أفضل مما شرط، وإنما تذكر الأجناس لفضل بعضها على بعض، فإذا وجد أرفع جنساً مما طلب فلا رد له، إلا أن يعلم أن المبتاع أراد بذلك وجهاً، فيرد مثل أن يكره البربرية، لما يخاف من أصولهن وجرأتهن وسرقتهن ونحو ذلك فيرد. وما لم يكن على هذا الوجه وليس فيه عيب يرد به أو يضع من الثمن، فلا رد له.
وقال مالك في رجل ابتاع جارية، فأراد أن يتخذها أم ولد، فإذا نسبها من العرب، فأراد ردها لذلك خوفاً أن تلد منه وتعتق، فتجر العرب ولاءها دون ولده: إنه ليس بعيب ترد به.
2793 - وإن ابتعت عبداً بخمسين ديناراً، فظهرت منه على عيب قديم، وحدث به عندك(3/281)
عيب مفسد، فإن اخترت أخذ [قيمة] العيب القديم، قيل: ما قيمة العبد صحيحاً يوم الصفقة؟ فيقال: مائة، ثم يقال: ما قيمته يومئذ بالعيب الأقدم؟ فيقال: ثمانون، فقد نقصه الخمس [وهو عشرون ديناراً] ، فترجع بخمس الثمن وهو عشرة دنانير إذ لم تأخذ لها عوضاً، وإن اخترت رده ورد ما نقصه العيب الحادث عندك. قيل: ما قيمته أيضاً بالعيبين جميعاً إن لو كان به العيب الذي حدث عند المبتاع يوم الصفقة؟ فإن قيل: ستون، رددت معه خمس الثمن.
2794 - ومن باع عبداً دلس فيه بعيب، فهلك العبد بسبب ذلك [العيب] أو نقص، فضمانه من البائع، ويرد جميع الثمن، كالتدليس بالمرض فيموت منه، أو بالسرقة فيسرق فتقطع يده فيموت من ذلك أو يحيا، أو بالإباق فيأبق فيهلك. قال ابن شهاب: أو بالجنون فيخنق فيموت. قال مالك: وهذا بعد أن يقيم المبتاع بينة أن العيب قديم وأن البائع باع بعد علمه [به] ، ولا شيء على المبتاع فيما حدث بالعبد من سبب عيب التدليس.
وأما ما حدث [به] من غير سبب عيب التدليس، فلا يرده إلا مع ما نقصه(3/282)
ذلك، أو يحبسه ويرجع بعيب التدليس كما فسرنا.
2795 - ومن ابتاع عبداً أعجمياً فعلمه البنيان أو صنعة [نفيسة] فارتفع ثمنه لذلك، أو ابتاع أمة فعلمها النسج والغزل ونحوه، فارتفع لذلك ثمنها، ثم ظهر على عيب فليس ذلك فوتاً، وله أن يرد أو يحبس ولا شيء له.
وأما الصغير يكبر أو الكبير يهرم، فذلك فوت يمنع من رده ويوجب الرجوع بقيمة عيبه وإن كره البائع.
2796 - وإن زوج الأمة من عبده أو من رجل حر، ثم ظهر بها عيب فله ردها، وليس للبائع فسخ النكاح، وعلى المبتاع ما نقصها النكاح، وإن لم ينقصها فلا شيء عليه، وإن نقصها وقد ولدت وفي قيمة الولد ما يجبر به النقص، ردها ولا شيء عليه.
وقال غيره: يرد ما نقصها النكاح ولا يجبر النقص بالولد. وذلك كالنماء(3/283)
فيها، وقد قال مالك - رحمه الله -: لا يجبر به النقص.
2797 - وإن ابتعت من رجل عبداً بعبد أو بعرض فأصبت به عيباً فلك رده، ولا شيء عليك فيما دخله عندك من نقص خفيف أو حوالة سوق، وترجع فيما دفعت من عبد أو عرض فتأخذه، إلا أن يهلك عند مبتاعه منك أو يبيعه أو يتغير عنده في سوق أو بدن فلا يكون لك أخذه ولا أخذ ما باعه به، وإنما لك قيمته يوم ابتاعه منك.
ولو كنت ابتعت العبد بما يكال أو يوزن من طعام أو غيره، فرددته بالعيب وقد تلف الثمن الذي دفعت فيه، فإنك ترجع بمثل ما دفعت من الكيل أو الوزن كالعين.
2798 - ومن ابتاع عبداً بيعاً فاسداً فلم يقبضه حتى أعتقه المبتاع لزمه العتق، ويصير ذلك قبضاً ويغرم قيمته إن كان له مال، فإن لم يكن له مال لم يجز عتقه، كما لو ابتاع عبداً غائباً بيعاً صحيحاً، واشترط على البائع أنه منه حتى يقبضه فأعتقه المبتاع بعد الشرط جاز عتقه، وإن كان في ضمان البائع.
2799 - ومن اشترى عبداً فللبائع أن يمنعه من قبضه حتى يدفع إليه الثمن، فإن أعتقه المبتاع بعد الصفقة وقبل دفع الثمن جاز عتقه إن كان له مال، ويؤخذ منه الثمن، فإن(3/284)
لم يكن له مال رُدّ العتق وبيع في الثمن، إلا أن يوسر قبل البيع فيجوز ذلك العتق، ولو بيع بالقضاء ثم رجع إليه بشراء أو غيره لم يعتق عليه.
2800 - وإن ابتعت سلعة حاضرة بسلعة في بيتك أو بموضع قريب يجوز فيه النقد ووصفتها جاز ذلك، فإن هلكت سلعتك قبل وجوب الصفقة رددت التي قبضت، إلا أن تفوت التي قبضت عندك بيع أو عتق، إن كانت جارية فيلزمك قيمتها يوم التبايع.
ولو كانت سلعتك بموضع بعيد لا يصلح فيه النقد وشرطت قبض التي قبضت فسد البيع، وترد التي قبضت إن كانت قائمة، وإن بعتها أو أعتقتها بعد ذلك لزمتك قيمتها يوم قبضها، ولو أعتقتها في الوجهين ولا مال لك رد العتق.
2801 - وكل بيع فاسد فضمان ما يحدث بالسلعة في سوق أو بدن من البائع حتى يقبضها المبتاع، وإن كانت جارية فأعتقها المبتاع قبل أن يقبضها، أو كاتبها [أو دبرها] ، أو تصدق بها، فذلك فوت إن كان له مال، فإن قبضها المبتاع فكاتبها ثم عجزت بعد أيام يسيرة فله الرد، إلا أن يتغير سوقها قبل رجوعها إليه فذلك(3/285)
فوت، فإن عاد [السوق] لهيئته، أو مضى للأمة مثل الشهر فلا بد أن تتغير في بدنها فتفوت. (1)
وأشهب: يفيتها بعقد الكتابة وإن عجزت بقرب ذلك.
وإن اشتراها بيعاً فاسداً فرهنها أو أجرها فذلك فوت، إلا أن يقدر على افتكاكها من الرهن لملائه، أو يقدر على فسخ الإجارة.
وإن اتخذها أم ولد في البيع الفاسد، أو باعها كلها، أو باع نصفها، أو حال سوقها فقط، فذلك فوت في جميعها. وإن اشترى مسلم جارية من ذمي بخمر فأعتقها أو أحبلها، فذلك فوت وعليه قميتها.
2802 - ومن ابتاع عبداً فوجد به عيباً قديماً لا يحدث مثله فرفعه إلى الإمام والبائع غائب، فعلى المبتاع البينة أنه ابتاع بيع الإسلام وعهدته، فإن أقامها لم يعجل الإمام على القريب الغيبة، وأما البعيد فيتلوّم له إن كان يطمع بقدومه، فإن لم يأت قضى عليه برد العبد ثم يبيعه عليه، ويعطى المبتاع ثمنه الذي نقد بعد أن
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (4/385) .(3/286)
تقول بينة: إنه نقد الثمن وهو كذا وكذا ديناراً، فما فضل حبسه الإمام للغائب عند أمين.
وإن كان نقصاناً رجع المبتاع على البائع بما بقي له من الثمن.
ولو أقام المبتاع البينة أنه ابتاع منه عبداً بيعاً فاسداً، فإن لم يتغير في سوق أو بدن فعل فيه الإمام كفعله في العيوب، وإن تغير في سوق أو بدن حكم عليه الإمام بقيمته، كانت أقل من الثمن أو أكثر، ويفسخ البيع ويتراد هو والبائع الفضل متى ما لقيه.
2803 - وإذا وجبت القيمة في البيع الفاسد لم ينظر هل هي أقل من الثمن أو أكثر، إلا في البيع والسلف ونحوه، وهذا مذكور في البيوع الفاسدة.
2804 - قال ربيعة: ومن ابتاع جارية على أن لا يبيع ولا يهب، أو على أن يلتمس ولدها، فلا يحل للمبتاع وطؤها على شيء من هذه الشروط، ويخير البائع بين إمضاء البيع بلا شرط أو فسخ البيع.(3/287)
وقد قال عمر للذي ابتاع أمة من زوجته على أنه متى ما باعها كانت أحق بها بالثمن: لا تقربها وفيها شرط لأحد.
2805 - ومن باع جارية حاملاً، فدلس [بحملها] فماتت منه ولم يعلم به المبتاع، فله الرجوع بالثمن، ولو علم فلم يردها حتى ماتت منه كانت من المبتاع.
قال أشهب: إلا أن يبادر في الطلب، ولم يفرط بقرب ذلك، أو يعلم عندما ضربها الطلق فطلب الرد فلم يصل إليه أو إلى السلطان حتى ماتت، فهي من البائع.
وكذلك لو مضى بعد علمه وقت في مثله ما يرد ولكنه لا يعدّ فيه راضياً لقربه كاليوم ونحوه، ويحلف بالله إنه لم يكن منه رضاً ولا كان إلا على القيام، فإن لم يدلس له البائع فإنما له الرجوع بما بين الصحة والداء.
ومن ابتاع أمة فلم يقبضها حتى ولدت عند البائع، ثم قبضها وظهر على عيب قديم وحدث بها عنده عيب آخر، فأراد الرجوع بحصة العيب القديم فإنها تُقوّم يوم البيع صحيحة ثم معيبة بلا ولد، فيرجع بحصة العيب [القديم] من الثمن.(3/288)
2806 - وإن ابتاع المأذون أو المكاتب رقيقاً، ثم عجز المكاتب، أو مات قبل الأداء، أو حجر على المأذون له، فللسيد القيام بما لهما من العهدة في الرد بالعيب أو الرضا به، وليس للعبد أن يرضى به، ولو رضي به قبل العجز أو الحجر على وجه النظر بغير محاباة، أو أقام البائع بينة أنه تبرأ من ذلك إلى المكاتب قبل موته لزمه ذلك، وللوارث أن يقوم بالعيب فيما ابتاعه الميت، فإن ادعى البائع أنه تبرأ منه كُلف البينة، وإلا حلف من يُظن به من الورثة علم ذلك على علمهم. ولا يمين على من يرى أنه لا يعلم ذلك.
وإذا رد عبد بعيب على المكاتب بعد عجزه أخذ الثم من ماله، فإن لم يكن له مال بيع عليه في الثمن، فما فضل فله، وما نقص أتبع به.
وإن كان عليه مع ذلك دين فإن رضي المبتاع بالرد كان أسوة الغرماء في ثمن العبد.
2807 - وإذا بعت عبدك من نفسه بأمة له، فقبضتها ثم استُحقت، أو وجدت بها [عيباً] ، لم يكن لك ردها عليه، وكأنك انتزعتها منه وأعتقته. ولو بعته نفسه(3/289)
بها وليست له يومئذ، رجعت عليه بقيمتها لا بقيمته، كما لو قاطعت مكاتبك على أمة في يديه فقبضتها وأعتقته وتمت حرمته، ثم استحقت أو وجدت بها عيباً، فإنك ترجع عليه بقيمتها ديناً، وهذا كالنكاح بها، بخلاف البيوع.
2808 - ومن اشترى داراً فوجد بها صدعاً، فأما ما تخاف منه سقوط جدار فليرد به، وإلا فلا.
2809 - ومن ابتاع أمة فوجدها رسحاء: وهي الزلاء، فليس بعيب، [والزعر في العانة عيب، والدين على العبد عيب يرد به إن شاء أو يتماسك به، والدين باق عليه.
2810 - ومن ابتاع عبداً له ولد أو زوجة، أو ابتاع أمة لها ولد أو زوج ولم يعلم بذلك، فذلك عيب يوجب الرد.
ومن ابتاع أمة فألفاها قد زنت عند البائع، فليس على المبتاع بواجب(3/290)
أن يحدها إلا أن ذلك] عيب يرد به في الوخش والعلية، وهو عيب في العبد أيضاً.
2811 - وإن اشتريت عبداً من رجل ثم بعته، فادعيت بعد بيعك العبد أن عيباً كان به عند بائعك فليس لك خصومته الآن، إذ لو ثبت ذلك لم أرجعك عليه. فأما إن رجع إليك العبد بهبة أو شراء أو غيرها فلك القيام بالعيب.
وقال أشهب: عن رجع العبد إليك بشراء، فلك رده على بائعه منك أخيراً، لأن عهدتك عليه ثم هو مخير في الرضا به أو رده عليك، لأن عهدته عليك فإن رده(3/291)
عليك رددته إن شئت على بائعك الأول، فإن لم يرده عليك ورضي بعيبه فقد اختلف الرواة، فقال بعضهم: لا رجوع لك على بائعك الأول بشيء، كان ما بعته به أقل مما اشتريته به أو أكثر.
وقال بعضهم: ينظر فإن كنت بعته من هذا الراضي [بالعيب] بأقل مما ابتعته به، رجعت على بائعك الأول بالأقل من تمام ثمنك أو من قيمة العيب من ذلك الثمن. ولو بعته بمثل الثمن فأكثر فلا رجوع لك [عليه] .
قال أشهب: وإن لم ترده أنت على بائعه منك أخيراً، فلك رده على بائعك الأول وأخذ ثمنك، ثم لا رجوع لك بقيمة العيب على البائع منك آخراً، لأخذك الأول(3/292)
بالعهدة، ولو أن المبتاع له منك أخيراً باعه منك بأقل مما ابتاعه [به] منك، فله الرجوع عليك بتمام ثمنه لا بالأقل، لأن له رده عليك وها هو ذا في يديك.
ولو باعه من غيرك بأقل مما ابتاعه به منك فرضيه مبتاعه لم يرجع عليك ههنا إلا بالأقل.
ولو وهبكه المبتاع منك أو تصدق به عليك لرجع عليك بقيمة العيب من الثمن الذي بعته به منه، ثم لك رده على بائعك الأول وأخذ جميع الثمن منه ولا كلام له.
ولو ورثته من مبتاعه منك كان لك رده على البائع الأول وأخذه بجميع الثمن، لأن ما وجب للميت عليك قد ورثته عنه.
2812 - وإذا ابتاع رجلان عبداً فوجدا به عيباً، قال مالك: فلمن شاء منهما أن يرد أو يحبس دون الآخر، وكان يقول أولاً: للبائع مقال.(3/293)
قال ابن القاسم: وجوب الرد لمن شاء منهما بين، إذ لو فلس أحدهما لم يتبع [الآخر] إلا بنصف الثمن.
2813 - ومن اشترى أمة مستحاضة، فذلك عيب ترد به. وإن اشتراها وهي حديثة السن ممن تحيض فارتفع حيضها عند المبتاع في الاستبراء فذلك عيب، إلا أنها لا ترد في ارتفاعه بعد مضي أيام حيضتها بأيام يسيرة حتى يطول ذلك، فيكون ضرراً في منع المبتاع من الوطء والسفر بها فترد، والسلطان ينظر في الضرر لطول تربص الحيض، ولم يحد مالك شهراً ولا شهرين.
ولو أقام البائع بينة أنها حاضت قبل البيع بيوم لم ينفعه، إذ هي بعد في ضمانه فيما يحدث بها في المواضعة، إلا في التي لا تتواضع، فذلك كله من المبتاع، لأنه يحدث، وكذلك ما يحدث بها بعد العقد من عيب أو هلاك.
2815 - وإذا طعن المبتاع في عبد ابتاعه بعيب، فقال البائع: احلف لي أنه لم يكن به يوم بعته عيب، لم يجب بذلك يمين على البائع لا على البتّ، ولا على العلم، حتى(3/294)
يدعي في عيب ظاهر أنه باعه [إياه] وهو به، ولو مكن من ذلك أحلفه كل يوم على ما شاء أنه لم يبعه وهو به، فإن ظهر به عيب يعلم أنه لا يحدث مثله عند المبتاع وجب به الرد، وإن كان مما يمكن حدوثه عند أحدهما، فإن كان ظاهراً حلف البائع على البت، وإن كان [مما] يخفى مثله، حلف على العلم، وعلى المبتاع البينة، فإن أحلفه عالماً ببينته فلا قيام له، وإن لم يعلم بها فله القيام بها كسائر الحقوق.
2816 - ومن ابتاع عبداً فأبق عنده بقرب البيع، فقال للبائع: أخشى أنه لم يأبق لقرب البيع إلا وقد أبق عندك فاحْلِف، فلا يمين عليه.
وما جهل أمره فهو على السلامة حتى تقوم بينة. وإن دلس البائع بعيب في العبد فرد عليه، فليس له أن يُحلّف المبتاع أنه لم يرض [به] بعد علمه به، إلا أن يدعي علم رضاه بمخبر أخبره انه تسوق به بعد علمه بالعيب أو رضيه، أو يقول: قد بينته له فرضيه.
وكذلك إن قال: احلف أنك لم تر العيب عند الشراء، فلا يمين له عليه حتى يدعي أنه أراه إياه فيحلّفه، أو يقيم بينة فيقضي [له] بها. (1)
2817 - ويرد العبد إن وجد مخنثاً. وكذلك الأمة المذكرة إن اشتهرت بذلك. وإن وجد
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (4/457) .(3/295)
العبد والأمة ولدي زنا فهو عيب يردان به. والحمل في الوخش والعلية عيب ترد به. وقاله لنا مالك - رحمه الله - حين خالفني ابن كنانة في الوخش.
ومن باع أمة رائعة كانت تبول في الفراش ثم انقطع عنها، فللمبتاع الرد بذلك، لأن على البائع أن يبينه [له] ، إذ لا يؤمن عودته، [وكذلك الجنون] .
وقال أشهب: إلا أن ينقطع ويمضي كثير من السنين مما يؤمن عودته، فليس عليه أن يبينه، وأما انقطاع لا تؤمن عودته فله الرد.(3/296)
قلت: أرأيت من ابتاع أمة فوجدها صهباء الشعر؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئاً، ولكن سمعته يقول فيمن اشترى جارية فوجد شعرها قد جُعّد أو سُوّد: فإنه عيب ترد به.
وترد الرائعة بالشيب، ولا ترد به غير الرائعة، إلا أن يكون ذلك عيباً يضع من ثمنها.
قال ابن وهب عن مالك: والبخر في الفم عيب ترد به، والخيلان في الوجه والجسد إن كان عند الناس عيباً ينقص الثمن رُدّ به، ولا ترد بالكي الخفيف وشبهه الذي ينقص الثمن، ولا يتفاحش وإن كان عند النخاسين عيباً.
وإذا اتُهم عبد بسرقة فحبس ثم أُلفي بريئاً لم يكن ذلك عيباً وإن لم يبينه بائعه، وقد ينزل ذلك بالحر فلا يجرحه.
2818 - ومن اشترى عبداً عليه دين فلم يرده حتى أسقطه عنه ربه أو أداه البائع، أو كان له ولد صغير أو كبير، فلم يعلم به حتى مات الولد، أو حُم العبد في(3/297)
الثلاث أو أصاب عينه بياض، ثم ذهب في الثلاث فلا يرد بذلك، وكذلك مبتاع أمة في عدة فلم يعلم حتى انقضت، أو بعينها بياض فلم يعلم حتى ذهب، وكل عيب كان فذهب قبل الرد [به] فلا يرد بعد ذلك.
2819 - ومن باع سلعة بمائة دينار، ثم أخذ بالمائة ثوباً فألفاه معيباً فرده، فليرجع بالمائة، وهذا مما لا اختلاف فيه. وكذلك من أخذ من ثمن الطعام طعاماً فإنما ينقض عليه البيع الآخر.
2820 - ومن ابتاع عشرة أثواب في صفقة بمائة دينار، وسموا لكل ثوب عشرة فأصاب بأحدها عيباً، لم ينظر إلى ما سمّوا لكل ثوب، ولكن يقسم الثمن على قيم الثياب، فإن كان المعيب ليس بوجه الصفقة رده بحصته من الثمن، وإن كان وجه الصفقة لم يكن له إلا الرضا بالعيب بجميع الثمن، أو رد جميع الصفقة، فإن كان قيمة المعيب خمسين ديناراً وقيمة كل سلعة سواه نحو الثلاثين، لم يكن وجه الصفقة حتى تكون حصته أكثر الثمن، مثل أن يكون ثمن الجميع مائة دينار وثمن هذا المعيب سبعين ديناراً أو ثمانين، فهذا وجه الصفقة.(3/298)
2821 - وإذا رددت عبداً أو داراً بعيب، كان ما اغتللت منهما لك بضمانك. وإن أصاب الدار أو العبد عندك عيب، رددت معهما ما نقصهما.
وإذا ولدت الأمة عندك ثم رددتها بعيب رددت معها ولدها، وإلا فلا شيء لك. وكذلك ما ولدت الإبل والبقر والغنم، ولا شيء عليك في الولادة إلا أن ينقصها ذلك فترد ما نقصها، وليس عليك شيء فيما جززت من صوف أو وبر، أو حلبت من لبن، أو انتفعت به من زبد أو سمن، لأن ذلك غلة، سواء كان بيدك أو قد فات، وترجع بجميع الثمن.
وكذلك في البيع الفاسد ترد، ولا شيء عليك من الغلات فيه.
وأما الولد فيفيت البيع الفاسد ويوجب القيمة، ولو كان صوف الغنم يوم الصفقة تاماً فجززته، ثم رددتها بعيب فإنك ترد ذلك معها، أو مثله إن فات، ولا ترد للبن شيئاً، وإن كان في الضروع يوم التبايع وذلك خفيف.
ولو كانت نخلاً فجذذتها زماناً ثم رددتها بعيب أو استحقت، فلا شيء عليك للثمرة، لأن الغلة بالضمان، وترجع على بائعك بالثمن كله، وإن كانت الثمرة يوم الشراء مأبورة فاشترطتها، فإنك إن ردد النخل بعيب رددت معها الثمرة، وإلا فلا شيء لك، فإن رددتها معها كان لك أجر سقيك وعلاجك فيها، ولما لم تكن واجبة إلا باشتراط صح أن لها من الثمن حصة، ولم ألزمها لك بحصتها من(3/299)
الثمن كسلعة ثانية، فتصير إذا أُفردت بيع ثمرة لم يبد صلاحها. وهي كمال العبد إذا انتزعته رددته معه حين ترده بعيب، وإن هلك المال قبل انتزاعك لم يلزمك له نقص من ثمنك إن رددته بعيب.
وكذلك ما يأتي على الثمن من أمر من الله سبحانه قبل جذاذها.
قال أشهب في الثمرة وإن أُبرّت، وفي الصوف وإن تم يوم الصفقة: فهما غلة لا يرد ذلك في رده بالعيب.
قال ابن شهاب: وكذلك الدابة يُسافَر عليها ثم يردها بعيب، فلا كراء عليه.
2822 - وكل ما حدث بالرقيق والحيوان والدور عند المبتاع من عيب مفسد، فلا يرده إن وجد به عيباً إلا بما نقصه ذلك عنده، دلّس له البائع بالعيب [أو لا] بخلاف(3/300)
الثياب تقطع وتصبغ وتقصر، إذ لهذا تُشترى، فيفترق بها التدليس عن غيره، ويصير المدلس كالآذن في ذلك، فلا شيء له في الرد مما نقصها، إلا أن يفعل في الثياب ما لا يفعل في مثلها، أو يحدث فيها عيب مفسد من غير التقطيع، فلا يُرد إلا بما نقصها، فإن قطع الثياب قمصاً أو سراويلات أو أقبية، ثم ظهر على عيب لم يعلم به البائع، فالمبتاع مخير في حبسه والرجوع بقيمة العيب، أو رده وما نقصه القطع، فإن دلس له به البائع فلا شيء على المبتاع لما نقص القطع إن رده. فإن ادعى [المبتاع] أن البائع دلس له فأنكره، أحلفه.
2823 - ولو قال البائع: علمت بالعيب وأنسيته حين البيع، حلف أنه نسيه وكان له ما نقصه القطع، وكذلك الجلود تقطع خفافاً أو نعالاً، وسائر السلع إذا عمل بها ما يعمل بمثلها مما ليس بفساد، فإن فعل في ذلك ما لا يفعل في مثله كقطع الثوب الموشى خرقاً، أو تباين فليس له رده، وذلك فوت، ويرجع على البائع بقيمة العيب من الثمن.
2824 - وأما إن لبس الثوب لبساً ينقصه لم يرده إلا بما نقصه اللبس في التدليس وغيره، لأنه انتفه [به] وبحبسه، ويرجع بقيمة العيب، ولا يرد لِلّبس الخفيف شيئاً إذا لم ينقصه.
وأما إن صبغ الثوب صبغاً ينقصه، أو قطعه والبائع مدلس، فللمبتاع الرد(3/301)
بلا مغرم، أو التمسك [به] والرجوع بقيمة العيب، وإن لم يدلس البائع في الثياب فردها عليه المبتاع بعيب قد حدث بها عند المبتاع، وإن لم يفسدها فليرد معها ما نقصها، والعيوب في الثياب ليست كالعيوب في الحيوان، [لأن يسير الخرق في وسط الثوب ينقص ثمنه، والكيّة وشبهها تكون في الحيوان] لا تكاد تضع من ثمنه كبير شيء، إلا أن يحدث عند المبتاع الشيء الخفيف الذي لا خطب له فليرده ولا يرد معه شيئاً، ولو فعل في الثوب ما زادت به قيمته من صبغ أو غيره، فله حبسه وأخذ قيمة العيب أو رده، ويكون بما زادت الصنعة شريكاً، لا بقيمة الصنعة ولا بما أدى، سواء دلس في هذا أو لا. (1)
2825 - وكل ما بيع من غير الحيوان وفي باطنه عيب من أصل الخلقة يجهله المتبايعان، ولا يعلم بفساده، مثل الخشب وشبهها يشق فيلقى في داخلها عيب فليس له رد، ولا قيمة [عيب] ، وكذلك الجوز الهندي وسائر الجوز يوجد داخله فاسداً، أو القثاء أو البطيخ يوجد مراً فلا يُرد.
[قال مالك - رحمه الله -: وأهل السوق يردونه [إذا وجدوه مراً] ، وما أدري
_________
(1) انظر: الموطأ (2/750) ، وشرح الزرقاني (4/51) ، والمدونة الكبرى (10/334) ، والكافي لابن عبد البر (1/351) .(3/302)
بم ردوا ذلك؟، إنكاراً لرده] .
وأما البيض فيرد لفساده، لأنه مما يعلم ويظهر فساده قبل كسره وهو من البائع.
2826 - وإذا ابتعت حنطة كانت مبلولة فجفت، أو عسلاً أو لبناً مغشوشاً، فلم تعلم حتى أكلت ذلك، فلك الرجوع بما بين الصحة والداء، إذ لا يوجد مثله بغشه، ولو وجدت مثله حتى يحاط بعلم ذلك، لرددت مثله وأخذت جميع الثمن.
2827 - ولو ابتعت أمة ذات زوج علمت به، ثم افتضها الزوج [عندك] ثم ظهرت على عيب، فلك ردها، ولا تغرم لنقص الافتضاض شيئاً. وإن اشتريت عبداً ثم بعته من الذي باعكه بمثل الثمن، فلا تراجع بينكما في تدليس ولا غيره، وإن بعته منه بأقل من الثمن قبل علمك بالعيب، رجعت عليه بتمام الثمن، دلّس لك [به] أم لا.
وإن بعته منه بأكثر من الثمن، فلا رجوع له عليك إن كان مدلساً، وإن لم يدلس فله رده عليك وأخذ ثمنه منك، ثم لك رده عليه وأخذ ثمنك، فتتقاصان(3/303)
إن شئتما. وإن وهبته لبائعه منك ثم اطلعت على العيب الذي كان به، رجعت عليه بحصة العيب من الثمن.
وإن بعت نصفه من أجنبي ثم علمت بالعيب فالخيار هاهنا للبائع، لضرر الشركة فيه، في أن يغرم لك نصف قيمة العيب، أو يقبل نصف العبد بنصف الثمن، ولا شيء عليه للعيب.
2828 - ومن ابتاع خفين أو نعلين أو مصراعين أو شبه ذلك مما لا يفترق، فأصاب بأحدهما عيباً بعدما قبضهما أو قبل، فإما ردهما جميعاً أو رضيهما. وأما ما ليس بأخ لصاحبه أو كانت نعالاً فرادى، فله رد المعيب، على ما ذكرنا في اشتراء الجملة.
2829 - ومن باع بعيراً فتبرأ من دبرته، فإن كانت مُنْغِلة مفسدة لم يبرأ، وإن أراه إياها حتى يذكر ما فيها من نغل أو غيره. وكذلك إن تبرأ في عبد من إباق أو سرقة، والمبتاع يظن إباق [مثل] ليلة أو إلى مثل العوالي، أو سرقة الرغيف، فوجد(3/304)
ينقب [البيوت] أو قد أبق إلى مثل مصر أو الشام، فلا يبرأ حتى يبين أمره.
2830 - ولو تبرأ من كي بلأمة فوجد الكي بالظهر والفخذين، فقال المبتاع: ظننته ببطنها، فلا رد له، إلا أن يكون متفاحشاً على ما ذكرنا في الدَبَرة والإباق.
وإن تبرأ من عيوب الفرج، فإن كانت مختلفة ومنها المتفاحش، لم يبرأ حتى يذكر أي عيب هو، إلا من اليسير فإنه يبرأ.
وأما الرَتق وما تفاحش فلا [يبرأ منه] ، ولو تبرأ من الرتق فوجد بها المبتاع رتقاً لا يقدر على علاجه، فإن كان من الرتق ما يقدر على علاجه، ومنه ما لا يعالج، لم يبرأ البائع حتى يبينه.
2831 - ومن كثر في براءته [من] أسماء العيوب، فلا يبرئه إلا من عيب يريه إياه ويوقفه عليه، وقد منع عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أن يذكر في البراءة(3/305)
عيوباً ليست في المبيع إرادة التلفيق. (1)
قال النخعي: ولو قال: أبيعك لحماً على بارئة، لم يبرأ حتى يسمي العيب. قال شريح: حتى يضع يده عليه.
2832 - وإن أتى بائع الأمة فتبرأ من عيب ذكره، فإن كان ظاهراً فذلك له والمبتاع مخير، وإن لم يكن ظاهراً لم تنفعه براءته ولا رد [له] للبيع، ثم إن ظهر للمبتاع عيب قديم كان له الرد أو الرضا. ولو أقام البائع البينة أن بها عيباً باطناً مُكّن من ذلك، ثم خيّر المبتاع في أخذها أو ردها.
_________
(1) رواه ابن القاسم في المدونة (10/336) .(3/306)
2833 - وما بيع من الرقيق بغير براءة فمات في الثلاث، أو أصابه مرض أو عيب، أو ما يعلم أنه داء فهو من البائع، وللمبتاع رده ولا شيء عليه.
وكذلك إن مات، أو غرق، أو سقط من حائط، أو خنق نفسه، أو قُتل، كان من البائع في الثلاث، ولو جرح، أو قطع له عضو كان نقصه للبائع، ثم للمبتاع الخيار في رده أو قبوله معيباً بالثمن كله.
ومن ابتاع عبداً فأبق في الثلاث كان من البائع، إلا أن يبيعه بيع براءة.
قال ابن نافع عن مالك: فإن بيع على البراءة من الإباق، فأبق في الثلاث فهو من البائع، حتى يعلم أنه خرج من الثلاث سالماً.
قال: ولا أعجل برد الثمن، وأضرب للعبد أجلاً، فإن علم أنه خرج من الثلاث سالماً كان من المبتاع، وإن جهل أمره كان من البائع.(3/307)
ولو وجدناه بعد الثلاث لم تؤتنف فيه عهدة ولا حجة على البائع في إباقه، لأنه تبرأ منه.
2834 - قال مالك - رحمه الله -: ولا تنفع البراءة مما لا يعلم البائع في ميراث أو غيره في شيء من السلع والحيوان إلا في الرقيق وحده.
ومن باع عبداً أو وليدة وشرط البراءة فقد برئ مما لا يعلم إلا من الحمل في الرائعة، لأنها تتواضع، ولا يبرأ مما علم.
2835 - وبيع السلطان للرقيق في الديون أو المغنم وغيره بيع براءة، وإن لم يشترط، وكذلك بيع الميراث في الرقيق إذا ذكر أنه ميراث، وإن لم يذكر البراءة، ولم يذكر ميراثاً لم يبرأ، إلا بذكر البراءة، وليس للمبتاع رده بعيب قديم ولا في ذلك عهدة ثلاث ولا سنة، وهو من المبتاع بعقد الشراء، ولا ينفع في غير الرقيق شرط البراءة، باعه وارث أو وصي أو سلطان. وقد(3/308)
رجع مالك - رحمه الله - فقال: لا تنفع البراءة في الرقيق أيضاً، وإن باعه وصي أو ورثته أو غيرهم من الناس، إلا أن يكون عيباً خفيفاً فعسى.
قال: ومن ذلك من يقدم عليه الرقيق فيبيع بالبراءة ولم يختبرها ولا كشفها، فلا براءة له، وإنما كانت البراءة فيما باع السلطان على مفلس ونحوه.
قال ابن القاسم: وبأول قوله أقول. وثبت مالك على أن بيع السلطان بيع براءة، وقال: وهو أشد من بيع البراءة.
وإذا كتم الورثة عيوباً يعلمونها لم ينفعهم شرط البراءة ولا ذكر الميراث.
ولا يجوز بيع أمة رائعة بشرط البراءة من الحمل، ولا بأس بذلك في الوخش من الزنج وغيرهم إن لم يطأها البائع، إذ ليس بكبير نقص فيها، وربما زاد ثمنها به، وهو مخاطرة في الرائعة، لكثرة ما ينقصها إن كان بها، ولو كان بها [حمل] ظاهر وليس من(3/309)
السيد جازت البراءة منه، وزال التخاطر، وثمن خمسين لها حكم الرائعة، وهي ممن تراد للوطء، ولا يبرأ البائع من عيب يعلمه في الرقيق حتى يسميه، ولا يبرأ في غيرها إلا مما سمى، علم عيباً أم لا. (1)
2836 - ولا عهدة في الرقيق على أهل الميراث ولا أيمان ولا تباعة، إلا أن يقيم المبتاع بينة أنهم كتموه عيباً علموه.
قيل: فمن اشترى [عبداً] من مال رجل - فلّسَه السلطان - فأصاب به عيباً، على من يرده؟ أعلى السلطان أم على المفلس أم على الغرماء؟.
قال: بلغني أن مالكاً - رحمه الله - قال: يرد على الغرماء الذين بيع لهم وأخذوا المال، [قال مالك:] ولو جمع السلطان متاعه فباعه لهم ثم تلف ما اجتمع من الأثمان قبل قسمها كانت من الغرماء، ولو تلف ما جمع للبيع من المتاع كان من المديان، فإن أعتق المديان أمته ولا مال له، فرد الغرماء عتقه وتركوها [موقوفة] في يديه [فلا يطؤها حتى تباع في دينه] أو تعتق إن أفاد مالاً.
_________
(1) انظر: منح الجليل للشيخ عليش (5/221) ، والتقييد للزرويلي (4/108) .(3/310)
وإن باعها السلطان عليه في دَينه، ثم أيسر فاشتراها بقيت له رقاً، وحلّ له وطؤها.
ومن وجد أمته التي باع بيد المبتاع بعد أن فلّس كان أحق بها، إلا أن يعجل له بقية الغرماء جميع الثمن، فإن فعلوا ثم هلكت الأمة قبل أن تباع كانت من المديان، وعليه خسارتها، وله ربحها، وليس له منعهم من أداء ثمنها عنه بأن يقول: إما أبرأتموني مما تدفعون فيها أو أسلموها.
2837 - ومن باع لرجل سلعة بأمره من رجل، فإن أعلمه في العقد أنها لفلان فالعهدة على ربها، فإن ردت بعيب فعلى ربها تُردّ، وعليه الثمن لا على الوكيل، وإن لم يُعلمه [الوكيل] أنها لفلان حلف الوكيل، وإلا ردت السلعة عليه.
2838 - وما باعه الطوافون في المزايدة مثل النخاسين وغيرهم، أو من يعلم أنه يبيع للناس، فلا عهدة عليهم في عيب ولا استحقاق، والتباعة على ربها إن وُجد، وإلا أُتبِع.
وإذا رُدّت السلعة بعيب ردّ السمسار الجُعل على البائع.(3/311)
ومن ابتاع سلعة لرجل فأعلم به البائع، فالثمن على الوكيل، كان نقداً أو إلى أجل حتى يقول له في العقد: إنما ينقد فلان دوني، فالثمن على الآمر حينئذ.
2839 - ولا عهدة على قاض أو وصي فيما وليا بيعه، والعهدة في مال اليتامى، فإن هلك مال الأيتام ثم استحقت السلعة فلا شيء على الأيتام.
2840 - قال ابن القاسم: وإذا باع السلطان عبداً لمفلس وقد كان أعتقه، وقسم الثمن بين غرمائه، ثم وجد به المبتاع عيباً قديماً لم يرده، لأنه بيع براءة، إلا أن يعلم أن المديان علم به فكتمه، فللمبتاع الرد، ويؤخذ الثمن من الغرماء إن كان المديان الآن عديماً، ثم يباع لهم ثانية بالبراءة من العيب، وإن نقص ثمنه عن حقهم اتبعوه به، ولو كان الآن ملياً أدى هو الثمن من ماله، ولم يتبع الغرماء بشيء، وكان العبد حراً، لأن البيع الأول لم يتم حين رده بالعيب. (1)
ولو حدث به عيب آخر مفسد عند المبتاع كان له حبسه وأخذ قيمة العيب من ربه في ملائه، أو من الغرماء في عدمه، أو رده ورد ما نقصه العيب الثاني، ثم يعتق على البائع في ملائه ويغرم الثمن، أو يباع للغرماء في عدمه.
2841 - وما أصاب العبد [في عهدة الثلاث] ، وفي عهدة السنة من الجنون والجذام
_________
(1) انظر: الفواكه الدواني (2/98) .(3/312)
والبرص، فمن [البائع] ، وللمبتاع الرد، وكذلك إن وسوس في السنة فأطبق عليه وذهب عقله أو وسوس رأس كل شهر، [ولو جُنّ في رأس شهر واحد من السنة] ، ثم لم يعاوده لرُدّ، إذ لا يعرف ذهابه.
ولو جُنّ عنده مرة ثم انقطع لم يجز بيعه حتى يبين، إذ لا يؤمن من عودته.
ولو أصابه في السنة جذام أو برص ثم برئ قبل علم المبتاع به لم يرده إلا أن يخاف عودته أهل المعرفة فيكون كالمجنون.
وليس له رده من الجرب والحمرة وإن تسلخ وورم، ولا من البهق في السنة.
ولو جنى عليه رجل في السنة بضربة أذهبت عقله لكان من المبتاع ولا يرد.
ولو أصابه في السنة صمم أو خرس لم يرد إذا كان معه عقله.
وإن ذهب من ذلك عقله كان من البائع، وعهدة السنة [وعهدة] الثلاث أمر قائم بالمدينة.(3/313)
2842 - قال مالك - رحمه الله -: ولا عهدة عندنا إلا في الرقيق فما حدث بالرأس في الثلاث من مرض أو موت فهو من البائع، ولا يجوز النقد في الثلاث بشرط.
وعهدة السنة من الجنون والجذام والبرص لا غير ذلك والنقد فيها جائز.
* * *(3/314)
(كتاب الصلح) (1)
2843 - وإن اشتريت من رجل عبداً بمائة دينار دفعتها إليه، ثم أصبت به عيباً ولم يفت العبد، فصالحك البائع على عشرة دنانير نقدها لك جاز، لأنك قد استرجعت عشرة من دنانيرك وأخذت العبد بتسعين. وإن تأخرت الدنانير على غير شرط جاز، وأما بشرط فلا يجوز، لأنه بيع وسلف منك للبائع.
وإن صالحك على أن يدفع لك مائة درهم إلى شهر لم يجز، لأنه بيع عبدٍ نقداً ودراهم إلى أجل بدنانير نقداً، وذلك صرف مستأخر.
ويجوز على دراهم نقداً إن كانت أقل من صرف دينار.
وقال أشهب: ذلك جائز، وإن كانت أكثر من صرف دينار.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/88) ، ومواهب الجليل (5/398) ، والمدونة (11/360) ، والفروق للقرافي (2/249) ، وجواهر العقود (1/136) ، ومنح الجليل (6/135) ، والشرح الكبير (3/80) .(3/315)
وإن فات العبد فصالحك على أن دفع لك دنانير، أو دراهم، أو عرضاً نقداً جاز ذلك بعد معرفتكما بقيمة العيب.
وإن صالحك على دنانير إلى شهر، جاز ذلك إن كانت الدنانير مثل حصة العيب من الثمن أو أقل، وإن كانت أكثر لم يجز، لأنه تأخير بزيادة. وإن صالحك على دراهم، أو عرض إلى أجل لم يجز، لأنك فسخت حصة العيب من الذهب في ذلك.
2844 - وإن ابتعت طوق ذهب فيه مائة دينار بألف درهم محمدية نقداً، فوجدت به عيباً، فصالحك منه البائع على دينار نقدك إياه جاز [ذلك] ، وكأنه في عقد البيع. وإن صالحك على مائة درهم محمدية من سكة الثمن، فإن كانت نقداً جاز، وكأن البيع وقع بتسعمائة. وإن كانت إلى أجل لم يجز، لأنه بيع وسلف منك للبائع، وإن صالحك على مائة درهم يزيدية من غير سكة الثمن، أو على تبر فضة لم يجز، لأنه بيع ذهب وفضة بفضة.(3/316)
2845 - ومن مات عن ولد وزوجة، وترك دنانير ودراهم حاضرة، وعروضاً حاضرة وغائبة، وعقاراً، فصالح الولد الزوجة على دراهم من التركة، فإن كانت قدر مورثها من الدراهم فأقل جاز ذلك، وإن كانت أكثر لم يجز، لأنها باعت عروضاً حاضرة وغائبة، ودنانير بدراهم نقداً، وهذا حرام. (1)
2846 - وإن صالحها الولد على دراهم أو دنانير من غير التركة، قَلّت أو كثرت لم يجز. فأما على عروض من ماله نقداً فذلك جائز بعد معرفتهما بجميع التركة وحضور أصنافها، وحضور من عليه العروض وإقراره. فإن لم يقفا على معرفة ذلك [كله] لم يجز. وإن ترك دنانير ودراهم وعروضاً، وذلك كله حاضر لا دين فيه ولا شيء غائب، فصالحها الولد على دنانير من التركة، فذلك جائز إن كانت الدراهم يسيرة.
2847 - وإن ترك دراهم وعروضاً فصالحها على دنانير من ماله، فإن كانت الدراهم يسيرة [قدر] حظها منها أقل من صرف دينار، جاز إن لم يكن في التركة دين، وإن كان في حظها منها صرف دينار فأكثر لم يجز.
وإن ترك دنانير وعروضاً فصالحها على دنانير من غير التركة لم يجز، لأنه ذهب وسلعة بذهب.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/85) .(3/317)
وإن كان في التركة دين من دنانير أو دراهم لم يجز الصلح على دنانير أو دراهم نقداً من عند الولد، وإن كان الدين حيواناً، أو عروضاً من بيع، أو قرض، أو طعام من قرض لا من سلم، فصالحها من ذلك على دنانير أو دراهم عجلها لها من عنده فذلك جائز، إذا كان الغرماء حضوراً مقرين، ووصف ذلك كله.
2848 - وإن ترك الميت دنانير حاضرة وعروضاً ديناً من دراهم ودنانير وطعاماً من سلم، فصالحها على دنانير من التركة نقداً، فإن كانت قدر مورثها من الدنانير الحاضرة فأقل جاز، وإن كانت أكثر لم يجز، وإن صالحها على دنانير أو دراهم من غير التركة لم يجز.
2849 - وإذا صالح شريك شريكه على دنانير من جميع ما بينهما، وبينهما دنانير ودراهم وعروض وفلوس لم يجز. ومن لك عليه مائة درهم حالة - وهو مقر بها - جاز أن تصالحه على خمسين [منها] إلى أجل، لأنك حططته وأخرته.
ولا بأس أن تصالحه على عرض أو ذهب نقداً، ولا يجوز فيهما تأخير.
والإقرار والإنكار فيما ذكرنا سواء، لأنك إن كنت محقاً لم يجز فسخك إياه من غيره، وإن كنت مبطلاً لم يجز لك أخذ شيء عاجل أو آجل.(3/318)
2850 - وإذا كان بين الرجلين خلطة فمات أحدهما وترك ولدين، فادعى أحد الولدين أن لأبيه قبل خليطه مالاً، فأقر له أو أنكر، فصالحه على حظه من ذلك بدنانير، أو دراهم، أو عرض، فلأخيه أن يدخل معه فيما أخذ، وكل ذِكر حقَّ لهما، بكتاب أو بغير كتاب، إلا أنه كان من شيء بينهما فباعاه في صفقة بمال، أو بعرض يكال أو يوزن غير الطعام والإدام، أو من شيء أقرضاه من عين أو طعام، أو غيره مما يكال أو يوزن، أو ورثا هذا الذكر الحق، فإن ما قبض منه أحدهما يدخل فيه الآخر.
وكذلك إن كانوا جماعة فإنه يدخل فيه بقية أشراكه، إلا أن [يكون الذي عليه الحق غائباً] ، فيشخص [إليه] المقتضي بعد الإعذار إلى شركائه في الخروج معه أو الوكالة فامتنعوا، فإن أشهد عليهم لم يدخلوا فيما اقتضى، لأنه لو رفعهم إلى الإمام لأمرهم بالخروج أو التوكيل، فإن فعلوا وإلا خلى بينه وبين اقتضاء [حقه] ، ثم لم يدخل عليه أحد منهم فيما اقتضى.(3/319)
فإن شخص لذلك دون الإعذار إليهم، أو اقتضى من حاضر فلشركائه أن يدخلوا معه فيما أخذ، قبض جميع حقه أو بعضه، أو يسلموا له ما قبض ويتبعوا الغريم، فإن اختاروا اتباع الغريم وسلّموا له ما قبض لم يدخلوا معه بعد ذلك فيما قبض وإن نوى ما على الغريم، لأن ذلك مقاسمة للدين، فصار كذكر حق بكتابين. والحق إذا كان بكتابين كان لكل واحد ما اقتضى، ولم يدخل عليه فيه شركاؤه، وإن كان من شيء أصله بينهما أو باعاه في صفقة.
وإن كان لهما مائة دينار من شيء أصله بينهما وهي بكتاب واحد أو بغير كتاب، فصالح أحدهما من جميع حقه على عشرة دنانير، ولم يشخص أو شخص ولم يعذر إلى شريكه، فشريكه مخير في تسليم ذلك واتباع الغريم بخمسين، أو يأخذ من شريكه خمسة ويرجع هو بخمسة وأربعين وصاحبه بخمسة، وهكذا قال غيره في كتاب المديان، وذكر فيه ابن القاسم أن للذي لم يصالح أن يأخذ من شريكه خمسة ثم يرجع هو على الغريم بخمسين جميع حقه، فإذا قبضها دفع للمصالح الخمسة(3/320)
التي أخذ منه، وقال غيره في كتاب الصلح: إن اختار الذي لم يصالح أن يدخل مع المصالح في العشرة، فإني أجعل دَينهما [كأنه] كان ستين ديناراً، فيكون له خمسة أسداس العشرة، وللمصالح سدسها، ثم يرجع المصالح بخمسة أسداسها على الغريم، ويرجع عليه الآخر بما بقي له، وذلك إحدى وأربعون ديناراً وثلثا دينار، وكذلك لو قبض أحدهما العشرة اقتضاء ثم حط عن غريمه أربعين، ثم قام عليه شريكه بعد ذلك فاختار مقاسمته، فليفعلا كما وصفنا، فأما لو قام عليه شريكه قيل الحطيطة فقاسمه العشرة بشطرين، ثم حطه الأربعين فلا يرجع عليه شريكه بشيء، لأنه قاسمه وحقه كامل، فمضى ذلك على ما قسما، ثم يتبعان الغريم هذا بخمسة وصاحبه بخمسة وأربعين.(3/321)
2851 - ولو باع أحدهما حقه أو صالح منه على عشرة أقفزة قمحاً جاز، ولشريكه تركه واتباع الغريم، وأخذ نصف القمح من الشريك.
قال سحنون: ثم تكون بقية الدين بينهما، وذلك أنه تعدى له على دين فابتاع به شيئاً، فهو كعرض باعه بغير أمره وليس كعين تعدى فيه.
والصلح في غير موضع أشبه شيء بالشراء، وهكذا قال غيره في [كتاب] المديان.
وقال فيه ابن القاسم: إن للذي لم يصالح أن يأخذ من شريكه نصف العرض الذي صالح عليه، ثم إذا قبض هو جميع حقه ردّ على المصالح قيمة العرض الذي أخذ منه يوم وقع الصلح به. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/370) .(3/322)
2852 -[قال ابن القاسم] في كتاب الصلح: ولو كان دينهما ثياباً أو عرضاً مما يكال أو يوزن، أو لا يوزن ولا يكال من غير الطعام والإدام فصالح أحدهما، أو باع حقه بعشرة دنانير جاز، ولشريكه أخذ نصفها ثم يكون ما بقي على الغريم بينهما، وإن شاء سلم له ذلك وأتبع الغريم بجميع حقه، ثم لا رجوع له على الشريك وإن أعدم الغريم.
2853 - ومن له عليك مائة دينار فرهنته بها شيئاً يغاب عليه قيمته، أقل من الدين أو أكثر، ثم صالحك على ألف درهم، أو باع منك المائة بألف درهم نقداً، ثم ادعى أن الرهن ضاع قبل الصلح أو بعده فهو له ضامن، إلا أن يقيم بذلك بينة، والبيع والصلح نافذ.(3/323)
2854 - ومن وجب لك عليه دم عمد، أو جراحة فيها قصاص، فادعيت أنه صالحك على مال وأنكر الصلح، فليس لك أن تقتص منه، ولك عليه اليمين أنه ما صالحك.
2855 - والقاتل خطأ إذا صالح الأولياء على مالٍ نجموه عليه فدفع إليهم نجماً، ثم قال: ظننت أن الدية تلزمني، فذلك له، ويوضع عنه ويتبعون العاقلة بالدية، ويردون إليه ما قبضوا منه إذا كان يجهل ذلك. ولو أقر رجل بقتل رجل خطأ ولم تقم بينة، فصالح الأولياء على مال قبل أن تلزم الدية العاقلة بقسامة، وظن أن ذلك يلزمه فالصلح جائز، وقد اختلف عن مالك في الإقرار بالقتل خطأ. فقيل: على المقر في ماله. وقيل: على العاقلة بقسامة، في رواية ابن القاسم وأشهب.(3/324)
وكل ما وقع به الصلح من دم عمد، أو جراح عمد، مع المجروح أو مع أوليائه بعد موته، فذلك لازم، كان أكثر من الدية أضعافاً أو أقل من الدية، لأن [دم] العمد لا دية فيه إلا ما اصطلحوا عليه، وإذا وجب لمريض على رجل جراحة عمد فصالحه في مرضه، على أقل من الدية، أو من أرش تلك الجراحة ثم مات من مرضه فذلك جائز لازم، إذ للمقتول العفو عن دم العمد في مرضه وإن لم يدّع مالاً. (1)
2856 - ومن قتل رجلاً عمداً له وليان فصالحه أحدهما على عرض أو قرض، فللولي الآخر الدخول معه في ذلك ولا سبيل إلى القتل.
قال غيره: وإن صالح من حصته على أكثر من الدية، أو على عرض قلّ أو كثر
_________
(1) انظر: منح الجليل (6/168) .(3/325)
فليس له غيره، ولم يكن لصاحبه على القاتل إلا بحساب الدية، ولا سبيل إلى القتل، إذ لو عفا الأول جاز عليه عفوه، ولا يدخل أحدهما على الآخر في هذا القول فيما أخذ، إذ ليس دم العمد بمال، وهو كعبد بينهما باع أحدهما حصته بما شاء فلا يدخل عليه الآخر فيه.
قال أشهب: إن عفا أحد الابنين على الدية فأكثر منها، عن جميع الدم ولهما أخت، فذلك كله بين البنين على خمسة، للبنت [الخمس] ولكل ابن خمسان. ولو صالح بذلك على حصته فقط، كان للأخ والأخت اللذين لم يصالحا على القاتل ثلاثة أخماس الدية، يضمانه إلى ما صالح به أخوهما، ثم يقتسمون الجميع على خمسة(3/326)
كما ذكرنا، هذا إذا كان صالحه من حصته على خمس الدية فأكثر، فإن كان على أقل من خمسي الدية فليس له غيره. ويرجع الأخ الآخر والأخت على القاتل بثلاثة أخماس الدية، فيكون بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين.
2857 - وإن صالح عن الدم كله بأقل من الدية فله الخمسان من ذلك، ويسقط ما بقي عن القاتل من حصته، ويكون للأخ الآخر والأخت ثلاثة أخماس الدية كاملاً في مال القاتل.
قال ابن القاسم: وكل ما صُولح به من دم العمد والخطأ فللزوجة ميراثها [فقط] ولسائر الورثة على فرائض الله تعالى.
2858 - وإذا قطع جماعة يد رجل، أو جرحوه عمداً، فله صلح أحدهم والعفو عمن شاء، والقصاص ممن شاء. وكذلك للأولياء في النفس. (1)
ومن قطعت يده عمداً فصالح [القاطع] على مال أخذه، ثم نزى فيها فمات، فلأوليائه أن يقسموا ويقتلوا، ويرد المال ويبطل الصلح، فإن أبوا أن يقسموا كان لهم المال الذي أخذوا في قطع اليد.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/86) .(3/327)
وكذلك لو كانت موضحة خطأ فلهم أن يقسموا ويستحقوا الدية على العاقلة، ويرجع الجاني فيأخذ ماله ويكون في العقل كرجل من قومه.
ولو قال قاطع اليد للأولياء حين نكلوا عن القسامة: قد عادت [الجناية] نفساً فاقتلوني وردوا المال، فليس ذلك له، ولو لم يكن صالح [فقال ذلك وشاء الأولياء قطع اليد ولا يقسمون فذلك لهم، وإن شاءوا أقسموا وقتلوا] .
2859 - ولا يجوز الصلح من جناية عمد على ثمرة لم يبد صلاحها فإن وقع ذلك ارتفع القصاص وقضي بالدية، كما لو وقع النكاح بذلك وفات بالبناء قُضي بصداق المثل.
وقال غيره: يمضي ذلك إذا وقع وهو بالخلع أشبه، لأنه أرسل من يده بالغرر ما كان له أن يرسله بغير عوض، وليس كمن أخذ بضعاً ودفع فيه غرراً.(3/328)
2860 - ومن صالح من دم عمد، أو خالع على عبد، فذلك جائز، فإن وجد به عيباً يرد من مثله في البيوع فإنه يرده ويرجع بقيمة العبد صحيحاً، إذ ليس للدم والطلاق قيمة تعلم فيرجع بها، وكذلك النكاح في هذا، وإذ للمقتول العفو عن دم العمد وجراحات العمد في مرضه، وإن لم يدع مالاً، أو له مال وعليه دين يغترقه وليس لورثته أن يقولوا فعله في ثلثه، ولا لغرمائه إن كان عليه دين أن يقولوا: فرّ عنا بماله، ولا ينظر إلى قولهم، وعفوه جائز.
ولو صالح من ذلك، أو من جرح عمد يُخاف منه موته على مال، فثبت ثم حطّ المال بعد ذلك لم يجز إن أحاط الدين به، وإن لم يكن عليه دين كان ما فعل في ثلثه.
ومن جنى جناية عمداً وعليه دين يحيط بماله فأراد أن يصالح منها على مال يعطيه من عنده ويسقط القصاص عن نفسه، فللغرماء رد ذلك.(3/329)
2861 - قلت: فمن ادعى داراً في يدي رجل فأنكر، فصالحه المدعي على مال أخذه منه، ثم أقر له المطلوب؟ [قال:] قال مالك - رحمه الله -: فيمن ادعى قبل رجل مالاً أو داراً فأنكره فصالحه من ذلك على شيء أخذه منه ثم وجد بينة فإن كان الطالب عالماً بالبينة فلا قيام له، وإن كانت بينته غائبة فخاف موتهم أو إعدام الغريم إلى قدومهم، فلا حجة له في ذلك، ولو شاء تربص، وإن لم يعلم بالبينة فله القيام ببقية حقه، فهذا يدلك على مسألتك.
2862 - والصلح جائز على الإقرار وعلى الإنكار.
ومن ادعى على رجل مالاً فأنكره أو أقر له، فصالحه منه على شيء قبضه، جاز ذلك وكان صلحاً قاطعاً لدعواه.
وإن ادعيت على رجل ديناً فصالحك منه على عشرة أرطال من لحم شاته وهي حية، لم يجز. (1)
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/317) .(3/330)
قال أشهب: أكرهه، فإن حبسها وعرف نحوها وشرع في الذبح جاز.
2863 - وإن استهلك لك بعيراً لم يجز أن تصالحه على بعير مثله إلى أجل، [لأنك فسخت] ما وجب لك من القيمة في بعير [لا تتعجله] .
وكذلك إن استهلك لك متاعاً فصالحته على طعام، أو عرض مؤجل [لم يجز] ، فأما على دنانير مؤجلة فإن كانت أكثر من القيمة لم يجز، وإن كانت كالقيمة فأدنى، وكان ما استهلك لك يباع بالدنانير بالبلد، فذلك جائز، ويجوز على دراهم نقداً، أو عرض نقداً بعد معرفتكما بقيمة المستهلك من الدنانير، ولا يجوز ذلك إلى أجل، وإن كان مما يباع بالدراهم جاز الصلح على دراهم مؤجلة مثل القيمة فأدنى، ولا يجوز على دنانير أو عرض إلا نقداً بعد معرفتكما بقيمة المستهلك ن الدراهم، وإن اشترطتما تأخير ذلك إلى أجل لم يجز.
ولو تعجلته بعد الشرط لم يجز، وكذلك إن ادعيت أنه استهلك لك عبداً أو متاعاً فالصلح فيه على عين أو عرض يجري عل ما ذكرنا.(3/331)
ولو لم يفت العبد الذي ادعيت أو المتع ولا تغير، جاز صلحك منه على عين أو عرض نقداً أو مؤجلاً، إذا وصفت العرض المؤجل وكان مما يجوز أن تسلم فيه عرضك.
وإن غصبك عبداً فأبق منه لم يجز أن تصالحه على عرض مؤجل، فأما على دنانير مؤجلة فإن كانت كالقيمة فأقل جاز، وليس هذا من بيع الآبق.
وقد قال مالك - رحمه الله - في المكتري يتعدى إلى غير البلد فتضل الدابة: إن لربها تضمينه القيمة. (1)
2864 - ومن أوصى لرجل بما في بطن أمته، لم يجز للورثة مصالحته من ذلك على شيء.
[وإن أوصى له بخدمة عبده، أو بغلّة نخله، أو سكنى داره، أو لبن غنمه، أو سمنها، أو صوفها، جاز للورثة مصالحته من ذلك على شيء] يدفعونه إليه، ويبرأ لهم من الوصية، لأن هذه الأشياء غلات ولهما مرجع إلى الورثة. والجنين ليس بغلة ولا لهم فيه مرجع.
2865 - وقد جوز أهل العلم ارتهان غلة الدار والغلام وثمرة النخل التي لم يبد صلاحها، ولم يجوزوا ارتهان الأجنة، وقد أُرخص في بيع العريّة ونُهي عن بيع الأجنة، لأن من ابتاع هذه الأشياء فاستغلها وكانت الغلة قائمة في يديه ثم استحقت، فلا شيء للمستحق من الغلة، لأن الغلة بالضمان. ولو استحق أمة له أو غنماً وقد ولدت أخذ الولد معها.
_________
(1) انظر: منح الجليل (6/177) .(3/332)
2866 - وإن ادعيت شقصاً من دار بيد رجل [فأنكر] وله شريك فصالحك منه على دراهم، فإن كان على إقرار ففيه الشفعة، وإن كان على إنكار فلا شفعة فيه.
2867 - ومن صالح من موضحة عمد وموضحة خطأ على شقص جاز، وفيه الشفعة بدية موضحة الخطأ وبنصف قيمة الشقص.
وقال المخزومي: الصلح جائز، وتحمل دية الخطأ وهي خمسون على قيمة الشقص، فإن تكن الخمسون ثلث الجميع استشفع بخمسين ديناراً وثلثي قيمة الشقص، فهكذا يحسب فيما قل من الأجزاء أو كثر.
2868 - ومن ابتاع عبداً فطعن فيه بعيب فأنكره البائع فاصطلحا على مال جاز ذلك.
وإن اشتريت عبداً بألف درهم إلى أجل فاطلعت على عيب به فأنكره البائع، وزعم أنه لم يكن عنده، فصالحته قبل الأجل على أن رددته إليه مع عبد آخر،(3/333)
أو عرض نقداً فذلك جائز، لأن مالكاً قال: لا باس أن يشتري الرجل عبداً بذهب إلى أجل، ثم يستقيل قبل الأجل على أن يرد العبد ويرد معه عرضاً نقداً، وإنما يكره أن يرد معه دنانير أو دراهم نقداً قبل الأجل، [ويدخله إن زدت معه دنانير بيع وسلف منك له تقبضه من نفسك، وفي زيادة الدراهم تأخير الصرف] . ولو حلّ الأجل جاز أن يرد مع العبد عرضاً أو دنانير أو دراهم نقداً، ولا يجوز تأخير [شيء من] الزيادة، [ويدخله إن كانت ذهباً صرف مستأخر، وإن كانت فضة دخله البيع والسلف، وإن كانت عرضاً دخله الدين بالدين] .
قال غيره: وإن اصطلحا على أن زاده البائع عرضاً أو عبداً نقداً ولم يفت العبد جاز، وكأنهما في صفقة أو استغلاه فزاده. قال: فإن زاده البائع دراهم نقداً(3/334)
لم يجز، وذلك سلف من البائع [له] .
ولو زاده البائع دنانير [إلى أجل] لم يجز، لأنه بيع عبد وذهب بفضة إلى أجل.
وكذلك إن كان البيع بدنانير إلى أجل، لم يجز أن يزيده البائع دراهم نقداً، فيصير عبد ودراهم [نقداً] بدنانير إلى أجل، فإن فات العبد بعتق أو موت أو تدبير، وقد ابتاعه بدراهم مؤجلة لم يجز أن يزيده البائع دراهم نقداً، لأنها سلف للمبتاع يردها فيما عليه إلى أجل، وإنما ينبغي أن يضع عنه حصة العيب مما عليه قصاصاً.
2869 -[قال ابن القاسم: وإن بعت عبداً من رجل بذهب إلى أجل، ثم استقالك المبتاع قبل الأجل على أن رده إليك، أو رده معه عرضاً نقداً جاز، وإنما يكره أن يرد إليك معه ذهباً أو فضة قبل الأجل، وإن حل الأجل فلا بأس أن يرد إليك معه دنانير أو دراهم [أو عرضاً] نقداً، وإن أخرته بذلك لم يجز، ويدخله البيع والسلف والدين بالدين] .(3/335)
2870 - قيل لابن القاسم: فمن باع من رجل عبداً ثم صالحه بعد العقد من كل عيب فيه على دراهم دفعها [إليه] .
قال: قال مالك - رحمه الله - في المتبرئ في العقدة من كل عيب بالعبد أو مَشَشٍ بالدابة: إنه لا يبرأ حتى يريه ذلك أو يبينه، وإلا لم تنفعه في ذلك البراءة.
ويجب القيام للمبتاع بما ظهر من عيب.
ومن قال لرجل: هلم أصالحك من دينك الذي لك على فلان بكذا، ففعل، أو أتى رجل إلى رجل فصالحه على امرأته بشيء مسمى، لزم الزوج الصلح ولزم المصالح ما صالح به، وإن لم يقل: أنا ضامن، لأنه إنما قضى على الذي عليه الحق. (1)
ولو كان على رجل ألف درهم نقداً، فصالحته [من ذلك] على مائة درهم، ثم فارقته قبل أن تقبضها، جاز ذلك.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/81) ، والمدونة الكبرى (11/379) .(3/336)
ومن له على رجل دين عرض، أو طعام من سلم، فصالحه على رأس ماله ثم فارقه قبل أن يقبضه، لم يجز.
وكره مالك أن يصالح الرجل من دراهم له جياد على زيوف، وهي المحمول عليها النحاس، أو بدراهم مبهرجة. وقال: أكره البيع [بها] والشراء وإن بيّن، وأرى أن تقطع. قال ابن القاسم: وذلك [كله] للصيارفة فيما أرى، ولا أدري هل كرهها لجميع الناس؟ وأرى الصلح بها جائزاً إن لم يَغُر [بها] أحداً وكان يقطعها.(3/337)
ولو كان لك عل رجل دين حالّ، فأخذت به عبداً، أو جحدك فصالحك منه على عبد فلا تبعه مرابحة حتى تبين، فإن بعت ولم تبين ردّ، إلا أن يفوت فتجب لك القيمة، وهذا المعنى في كتاب المرابحة مذكور.
وإن بعت من رجل طعاماً لك عليه من قرض بدراهم أو غيرها فلا تؤخره بها، فإن تأخر ذلك أو بعضه حتى فارقك لم يجز، وترد الدراهم ويبقى لك الطعام بحاله، ولا يجوز من ذلك حصة النقد إلا أن يكون افتراقكما شيئاً قريباً، مثل أن تذهب معه إلى البيت أو السوق فينقدك.
ولو كان لك عليه دنانير وأخذت بها طعاماً، جاز أن يتأخر كيله إلى غد لتأتي بدواب ونحوها.
ومن لك عليه طعام من قرض وعشرة دراهم، فصالحته على أحد عشر درهماً نقداً فذلك جائز، وإن كان من بيع لم يجز.
ومن لك عليه مائة دينار ومائة درهم حالة فصالحته من ذلك على مائة دينار ودرهم فذلك جائز، لأنك أخذت [الدنانير] قضاء من دنانيرك وأخذت درهماً من دراهمك وهضمت باقيها، بخلاف التبادل بها نقداً فذلك صرف، ولا يجوز فضة وذهب بمثلها يداً بيد عدداً ولا مراطلة، إذ لكل صنف حصة من الصنفين.(3/338)
وإن صالحته على مائة درهم مؤخرة وعشرة دراهم نقداً لم يجز شيء منه، إذ لِما تأخّر حصة من الذهب والفضة، وهذا صرف يدخله بيع وسلف بخلاف الأول.
وإن ادعيت على رجل عشرة دنانير فصالحك على مائة درهم، أو صرفت منه عشرة دنانير نقدتها له بمائة درهم، فدفع إليك منها خمسين، ثم فارقته قبل أن تقبض ما بقي، أو أسلمت إلى رجل مائة دينار في طعام إلى أجل فدفعت إليه خمسين وأخرك بخمسين إلى أجل الطعام، فذلك كله يبطل.
ولا يجوز حصة ما نقد ولا حصة ما لم ينقد.
وإن صرفت الدنانير بدراهم فأصبت منها درهماً زائفاً، انتقض [منها] صرف دينار، وإن كان ما أصبت أكثر من صرف دينار انتقض منها صرف دينارين، وإن زاد فعلى هذا ينبني.
وإن كان لك على رجل دراهم نسيتما مبلغها، جاز أن تصطلحا على ما شئتما من ذهب أو ورق أو عرض نقداً، وتتحالا، ومَغْمَز التقية في ذلك كله سواء.
ولا يجوز تأخير ما تصالحه به، لأنه يدخله الخطر والدين بالدين.(3/339)
وإن صالحته من دين لك عليه، على ثوب، على أن عليه صبغه، أو على عبد أنت فيه بالخيار ثلاثاً لم يجز ويفسخ ذلك، وهو دين في دين.
وإن كان لك عليه ألف درهم حالة، فأشهدت له أنه إن أعطاك مائة من الألف الحالة إلى شهر فباقيها ساقط عنه، وإن لم يفعل فالألف كلها لازمة، فذلك جائز ولكما لازم. (1)
وقد بقي باب من آخر هذا الكتاب جرى ذكره قبل هذا.
* * *
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (5/75) .(3/340)
(كتاب الجعل والإجارة) (1)
2871 - ومن باع من رجل سلعة بثمن على أن يتجر له بثمنها سنة، كان كمن آجره على أن يتجر له بهذه المائة [دينار] سنة، أو يرعى له غنماً بعينها سنة، فإن شرط في العقد خلف ما هلك منها أو تلف، جاز، وإلا لم يجز.
وإن شرط ذلك فهلك من ذلك شيء فأبى ربُّه خَلَفَه قيل له: أوفِ الإجارة واذهب بسلام، وتكون له أجرته تامة.
ولو آجره على رعاية مائة شاة غير معينة جاز، وإن لم يشترط خلف ما مات منها، وله خلف ما مات منها بالقضاء، وإن كانت معينة فلا بد من الشرط، وليس له أن يزيده فيها.
2872 - ولا بأس باجتماع بيع مع إجارة. ولا يجوز اجتماع بيع وجُعل في صفقة، ولا إجارة وجُعل معاً.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/392) ، والمدونة الكبرى (11/402) .(3/341)
ومن باع من رجل نصف ثوب، أو نصف دابة، أو غيرها، على أن يبيع له النصف الآخر بالبلد، جاز إن ضربا لبيع ذلك أجلاً، ما خلا الطعام فإنه لا يجوز. فإن باع ذلك في نصف الأجل فله نصف الإجارة، فإن تم الأجل ولم يقدر على بيع ذلك فله الأجر كاملاً.
وإن باع منه نصف هذه السلع على أن يبيع له النصف الباقي ببلد آخر لم يجز، وإن كان بالبلد ولم يضربا أجلاً لم يجز أيضاً، لأنه في السلع اليسيرة كالدابة أو الثوب أو الثوبين يدخله جعل وبيع.
والسلع الكثيرة لا يجوز فيها الجُعل، فصارت إجارة غير مؤجلة، فأفسدتها مع ما عُقد معها من بيع.
2873 - وروي عن مالك - رضي الله عنه - أنه إذا باعه نصف ثوب على أن يبيع له النصف الآخر فلا خير فيه. قيل لمالك: فإن ضرب للبيع أجلاً؟ قال: فذلك أحرم له.
* * *(3/342)
[في الإجارة والجُعل على بيع السلع، وما يجوز من ذلك وما لا يجوز]
2874 - والإجارة تلزم بالعقد، ولا تجوز إلا بالأجل، وليس لأحدهما الترك حتى يحل الأجل، والجُعل بخلاف ذلك، يدعه العامل متى شاء، ولا يكون مؤجلاً، ألا ترى أن من قال لرجل: بع لي هذا الثوب ولك درهم، أنه جائز، وقّت له في الثوب ثمناً أم لا، وهو جعل، فإن قال: اليوم، لم يصلح، إلا أن يشترط أن يترك متى شاء، لأنه إن مضى اليوم ولم يبع ذهب عمله باطلاً، وإن باع في نصفه أخذ الجعل كاملاً، وسقط عنه بقية عمل اليوم، فهذا أخطر.
2872 - والجعل لا يكون مؤجلاً إلا أن يكون متى شاء أن يردّه ردّه.
وقد قال [مالك] في مثل هذا: إنه جائز، وهو جل قوله [الذي يعتمد عليه] .
2876 - ولا يجوز الجُعل على بيع كثير السلع والدواب والرقيق، كالعشرة الأثواب ونحوها، ولا على ما فيه مشقة سفر من قليلها.
ويجوز الجعل في بيع قليل السلع في البلد، سمّوا لها ثمناً أم لا، مثل الدابة أو العبد أو الثوب والثوبين، إذ لا يقطعه ذلك عن شغله، فإن باع أخذ ولا شيء له إن لم يبع.(3/343)
وكل ما جاز فيه الجعل جازت فيه الإجارة، وليس كل ما جازت فيه الإجارة يجوز فيه الجعل.
2877 - وتجوز الإجارة على بيع قليل السلع وكثيرها والأعكام من البز، وكثير الطعام إن ضرب للبيع أجلاً، وإلا لم تجز الإجارة، فإن باع لتمام الأجل فله أجره كاملاً، وإن باع في ثلثه أو نصفه فله حصة ذلك من الأجر، إلا أنه إن ضرب الأجل للبيع وسمّى الأجر فلا يجوز النقد في هذا، لأنه إن باع في نصف الأجل رد نصف ما قبض، فيدخله بيع وسلف.
وإن لم ينقده شيء ومضى من الأجل يوم أو يومان، فللأجير قبض حصة ذلك من الأجر.
ومن أجرته على بيع سلع كثيرة شهراً على أنه متى شاء ترك جاز ذلك، لأنها إجارة على خيار، ولا يجوز فيه النقد.
وإن أجرته شهراً على أن يبيع لك ثوباً وله دراهم، جاز ذلك إن كان إذا باع قبل ذلك أخذ بحساب الشهر.
2878 -[وإذا دفعت إلى حائك غزلاً ينسج لك منه ثوباً بعشرة دراهم على أن يسلفك فيه(3/344)
رطلاً من غزل لم يجز، لأنه سلف وإجارة. (1)
ولا بأس أن تؤجره على طحين إردب بدرهم وبقفيز من دقيقه، لأن ما جاز بيعه جازت الإجارة به] .
ولو أجرته يطحنه لك بدرهم وبقسط زيت زيتون قبل أن يعصر، جاز ذلك.
2879 - ولو بعت منه دقيق هذه الحنطة، كل قفيز بدرهم قبل أن يطحنها جاز، لأن الدقيق لا يختلف، فإن تلفت هذه الحنطة كان ضمانها من البائع، وإن كان الزيت والدقيق يختلف خروجه إذا عصر أو طُحن، لم يجز ذلك فيه حتى يُطحن أو يعصر.
وقد خفف مالك أن يبتاع الرجل حنطة على أن على البائع طحينها، إذ لا يكاد الدقيق يختلف، ولو كان خروجه مختلفاً ما جاز.
ولا يجوز بيع لحم شاة حية أو مذبوحة، أو لحم بعير كسير قبل الذبح والسلخ، كل رطل بكذا من حاضر ولا مسافر. ولا تجوز الإجارة على سلخها بشيء من لحمها.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/396) .(3/345)
2880 - وإن أجرت رجلاً يخيط لك ثوباً، وإن خاطه اليوم فبدرهم، وإن خاطه غداً فبنصف درهم، أو قلت له: إن خطته خياطة رومية فبدرهم، وإن خطته خياطة عربية فبكذا، لم يجز، وهو من وجه بيعتين في بيعة، فإن خاطه فله أجر مثله زاد على التسمية أو نقص.
قال غيره في المسألة الأولى: إلا أن يزيد على الدرهم أو ينقص من نصف درهم فلا يزاد ولا ينقص.
ولا يجوز أن يؤاجره على دبغ جلود أو عملها، أو نسج ثوب، على أن له نصف ذلك، إذ لا يدري كيف يخرج ذلك، ولأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز أن يُستأجر به.
ولو قلت له: انسج لي هذا الغزل بغزل آخر عجلته له، جاز.
وإذا دفعت إليه دابة أو إبلاً أو داراً أو سفينة أو حماماً على أن يكري ذلك وله نصف الكراء، لم يجز.(3/346)
فإن نزل كان لك جميع الكراء، وله أجر مثله، كما لو قلت له: بع سلعتي فما بعتها به فبيني وبينك، أو قلت له: فما زاد على مائة فبيننا، فذلك لا يجوز، والثمن لك، وله أجر مثله.
2881 - ولو أعطيته الدابة أو السفينة أو الإبل ليعمل عليها، على أن ما أصاب بينكما لم يجز ذلك، فإن عمل عليها فالكسب ههنا للعامل، وعليه كراء المثل في ذلك ما بلغ، وكأنه اكترى ذلك كراء فاسداً، والأول أجر نفسه منك إجارة فاسدة، فافترقا.
2882 - ولا يجوز أن يحمل لك طعاماً إلى بلد كذا بنصفه، إلا أن تنقده نصفه مكانك، لأنه شيء بعينه بيع على أن يتأخر قبضه إلى أجل.
وإن أجرت رجلاً على حمل طعام بينكما إلى بلد يبيعه به، على أن له عليك كراء حصتك، وسميتما ذلك، فإن شرطت أن لا يميز حصته منه قبل البلد لم يجز، فإن نزل ذلك وباع الطعام كان له أجر مثله في حصتك.
وإن كان على أنه متى شاء ميزها قبل أن يصل أو يخرج، جاز إن ضرب للبيع أجلاً.(3/347)
وكذلك إن أجرته على طحينه، فإن كان إذا شاء أفرد طحين حصته جاز، وإن كان على ألا يطحنه إلا مجتمعاً لم يجز، فإن طحنه كان له أجر مثله في حصتك.
2883 - وكذلك إن أجرته على رعاية غنم بينكما جاز ولزمته الإجارة، إذا كان له أن يقاسمك حصته، أو يبيعها متى شاء، وشرطت خلف ما هلك من حصتك. قال غيره: إذا اعتدلت في القسم. (1)
ولا يجوز أن تؤاجره على نسج غزل بينكما بدراهم مسماة، إذ لا يقدر على [بيع] حصته منه حتى ينسجه.
2884 -[ولا بأس أن تؤاجره على بناء دارك هذه والجص والآجر من عنده، [وهذه إجارة وشراء جص وآجر في صفقة واحدة] ، ولما تعارف الناس ما يدخلها وأمد فراغها كان عرفهم كذكر الصفقة والأجل، لأن وجه ذلك أمر قد عرف.
_________
(1) انظر: كفاية الطالب (2/248) ، وحاشية الدسوقي (4/15) ، والتاج والإكليل (5/426) ، والفواكه الدواني (2/115) ، والشرح الكبير (4/15) ، ومواهب الجليل (5/414) ، والقوانين لابن جزي (ص220) ، وحاشية العدوي (2/256) .(3/348)
وقال غيره: إذا كان على وجه القبالة ولم يشترط عمل يده، فلا بأس به إذا قدم نقده] .
2885 - ولا بأس أن تؤاجر حافتي نهرك ممن يبني عليه بيتاً، أو ينصب عليه رحاً، ويجوز أن تستأجر طريقاً في دار رجل، أو مسيل مصب مرحاض. وأما إجارة مسيل ماء ميازيب من دار رجل فلا يعجبني، لأن المطر يقل ويكثر، ويكون ولا يكون.
ولا يجوز أن تكري بيت الرحا من رجل، والرحا من آخر، ودابة الرحا من رجل ثالث في صفقة واحدة، كل شهر بكذا وكذا، إذ لا يعلم ما لكل واحد من(3/349)
الثمن إلا بعد القيمة، وكذلك في الاستحقاق، وأجازه غيره.
2886 - ولا بأس بإجارة رحا الماء بالطعام وغيره.
فإن انقطع عنها الماء فهو عذر تفسخ به الإجارة. وإن رجع الماء في بقية المدة لزمه باقيها، وإن اختلفا في انقطاع ماء الرحا فقال ربها: انقطع عشرة أيام، وقال المكتري: بل شهراً، فإن تصادقا في أول السنة وآخرها صُدّق رب الرحا.
وكذلك اختلافهما في انهدام الدار في بعض المدة، أو قال المكتري بعد السنة: كان انهدام الدار وانقطاع الماء في السنة كلها، فالمكتري في ذلك كله مُدّع.
وإن قال رب الرحا أو الدار: قد انقضت السنة، وقال المكتري: ما مضى منها إلا شهران وقد انهدمت الدار الآن وانقطع ماء الرحا، صُدّق المكتري.
ومن استأجر رحا ماءٍ شهراً على أنه إن انقطع الماء قبل الشهر لزمته الإجارة، لم يجز ذلك.(3/350)
2887 - ومن استأجر فسطاطاً، أو بساطاً، أو غرائر، أو آنية إلى مكة ذاهباً وجائياً جاز، فإن ادعى حين رجع ضياع هذه الأشياء في البداءة، صُدّق في الضياع، ولزمه الكراء كله، إلا أن يأتي ببينة على وقت الضياع، وإن كان معه قوم في سفر فشهدوا أنه أعلمهم بضياع ذلك وطلبه بمحضرهم حُلّف، وسقط عنه من يومئذ حصة باقي المدة.
وقال غيره: هو مصدق [في الضياع] ولا يلزمه من الإجارة إلا ما قال: إنه انتفع به.
وقال أشهب عن مالك في رجل اكترى جفنة وادعى الضياع أنه يضمن، إلا أن يقيم بينة على الضياع.(3/351)
2888 - ومن استأجر فسطاطاً أو ثوباً شهراً فحبسه فلم يلبسه سائر المدة، لزمه جميع الأجر، ولو حبسه بعد المدة أياماً لزمه أجر حبسه بغير لباس [ليس كأجر اللابس] . وقاله ابن نافع.
وقال غيره: بل بحساب ما استأجره، إن كان ربه حاضراً.
2889 - وتجوز إجارة متاع البيت مثل الآنية والقدور والصحاف ومتاع الجسد.
2900 - ومن استأجر ثوباً يلبسه فادعى أنه ضاع أو سُرق منه أو غصب فهو مصدق، لأن المستأجر لا يضمن، إلا أن يتعدى أو يفرّط.
وإن استأجره يومين فلبسه يوماً، ثم ضاع في اليوم الثاني، فأصابه بعد ذلك فرده، لم يلزمه أجر مدة الضياع، كالدابة تكترى أياماً فتضيع في بعضها، فإنما(3/352)
عليه حصة الأيام التي لم تضع فيها، وإن استأجرت ثوباً تلبسه يوماً إلى الليل فلا تعطه غيرك ليلبسه، لاختلاف اللبس والأمانة، وإن هلك بيدك لم تضمنه، وإن دفعته إلى غيرك كنت ضامناً إن تلف.
2901 - قال: وكره مالك - رحمه الله - لمكتري الدابة لركوبها كِراها من غيره، كان مثله أو أخف منه، فإن أكراها لم أفسخه، وإن تلفت لم يضمن إن كان أكراها في ما اكتراها فيه من مثله في حاله وأمانته وخفته. ولو بدا له عن السفر أو مات، أكريت من مثله. (1)
وكذلك الثياب في الحياة والممات، وليس ككراء الحمولة والسفينة والدار، هذا له أن يكري ذلك من مثله في مثل ما اكتراها له.
وإن اكتريت فسطاطاً إلى مكة فأكريته من مثلك في حالك وأمانتك، ويكون صنيعه في الخباء كصنيعك، وحاجته إليه كحاجتك، فذلك جائز.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/407، 416) ، ومواهب الجليل (5/416، 417) .(3/353)
2902 - ولا بأس بإجارة حلي الذهب بذهب أو فضة، وأجازه مالك - رحمه الله - ثم استثقله، وقال: ليس بحرام بيّن، وما هو من أخلاق الناس، وأجازه ابن القاسم.
ويجوز إجارة المكيال والميزان والدلو والفأس وشبه ذلك.
2903 - وتجوز إجارة المصحف لجواز بيعه، وأجاز بيعه كثير من التابعين. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما لم يجعله متجراً. وأما ما عملته بيدك فجائز. قال ابن القاسم: وتجوز الإجارة على كتابته.(3/354)
ولا بأس بالإجارة على تعليم القرآن، كل سنة، أو كل شهر بكذا، أو على الحِذاق للقرآن بكذا، أو على أن يعلمه القرآن كله أو سدسه بكذا. (1)
وتجوز الإجارة على تعليم الكتابة فقط، أو على الكتابة مع القرآن مشاهرة.
قال ابن وهب عن مالك: ولا بأس أن يشترط مع أجرته شيئاً معلوماً كل فطرٍ أو أضحى.
2904 - وأكره الإجارة على تعليم الفقه والفرائض، كما أكره بيع كتبها.
وأكره الإجارة على تعليم الشعر والنحو، أو على كتابة ذلك أو إجارة كتب فيها ذلك أو بيعها.
وكره مالك بيع كتب الفقه فكيف بهذه. وما كره بيعه فلا تجوز إجارته.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/418) ، والتاج والإكليل (5/423) ، ومواهب الجليل (5/419، 423) .(3/355)
2905 - وكره مالك قراءة القرآن بالألحان فكيف بالغناء.
وكره مالك بيع الأمة بشرط أنها مغنية. قال ابن القاسم: فإن وقع فسخ البيع.
2906 - وكره مالك الإجارة على الحج، وعلى الإمامة في الفرض والنافلة وفي قيام(3/356)
رمضان. [وهو عندي في المكتوبة أشد كراهية] .
2910 - ومن استأجر رجلاً على أن يؤذن لهم ويقيم ويصلي بهم جاز، وكأن الأجر إنما وقع على الأذان والإقامة والقيام بالمسجد لا على الصلاة.
2911 - ومن أجرته على تعليم عبدك القرآن والكتابة سنة وله نصفه، لم يجز، إذ لا يقدر على قبض ماله فيه قبل السنة، وقد يموت العبد فيها فيذهب عمله باطلاً.
وإن دفعت عبدك إلى خياط، أو قصار، أو غيره ليعلموه ذلك العمل بعمل الغلام سنة جاز ذلك، وقال غيره: بأجر معلوم أجوز.
2912 - ولا تعجبني إجارة الدف والمعازف في العرس، وكره ذلك مالك وضعّفه،(3/357)
ولا بأس بالإجارة على قتل قصاص، أو على ضرب عبدك وولدك للأدب، كما تجوز إجارة الطبيب، وهو يقطع ويبطّ، وأما لغير ما ينبغي من الأدب فلا يعجبني.
وإن آجره على قتل رجل ظلماً فقتله، [قُتل به] ولا أجر له.
2913 - وكل مستأجر على ما لا يجوز من ذلك، فعلى الأجير القصاص، وعلى الذي آجره الأدب.
والأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برئ فله حقه، وإلا فلا شيء له، إلا أن يشترطا شرطاً حلالاً فينفذ بينهما، كالشرط أن يكحله شهراً، أو كل يوم بدرهم، فيجوز إن لم ينقده، [وهذه إجارة] ، فإن برئ قبل الأجل أخذ بحسابه، إلا أن يؤجره وهو صحيح العينين بكحله شهراً بدرهم، فيجوز فيه النقد، إذ لا يتقي فيه رد ما بقي بعد البرء، ويلزمهما تمامه.(3/358)
2914 - وكره مالك إجارة قسّام الدور أو قسام القاضي وحسّابهم، وقال: قد كان خارجة ومجاهد [يقسمان مع القضاة ويحسبان] ولا يأخذان لذلك جُعلاً، ولا يصلح [لأحد] أن يبني مسجداً ليكريه ممن يصلي فيه، أو يكري بيته ممن يصلي فيه. وأجاز ذلك غيره في البيت.(3/359)
2915 - وكره مالك السكنى بالأهل فوق ظهر المسجد.
2916 - ولا بأس أن يكري أرضه على أن تُتخذ مسجداً عشر سنين، فإذا انقضت كان النقض للذي بناه ورجعت الأرض إلى ربها.
2916 - ولا يجوز لمسلم أن يكري داره، أو يبيعها ممن يتخذها كنيسة، أو بيت نار في مدينة أو قرية لأهل الذمة.(3/360)
ولا يكري لهم دابة ليركبوها لأعيادهم، أو يبيع منهم شاة يعلم [أنهم] يذبحونها لذلك.
2917 - قال مالك - رحمه الله -: وليس لأهل الذمة أن يحدثوا في بلد الإسلام كنائس إلا أن يكون لهم أمر أعطوه. (1)
قال ابن القاسم: ولهم أن يحدثوها في بلدة صولحوا عليها، وليس ذلك لهم في [بلد] العنوة، لأنها فيء ليست لهم، ولا تورث عنهم، ولو أسلموا لم يكن لهم فيها شيء.
قال: وما اختطه المسلمون عند فتحهم وسكنوه، كالفسطاط والبصرة والكوفة وإفريقية وشبهها من مدائن الشام، فليس لهم إحداث ذلك فيها، إلا أن يكون لهم عهد فيوفى به، لأن تلك المدائن صارت لأهل الإسلام دون أهل الصلح، يبيعونها ويتوارثونها.
وقال غيره: كل بلدة افتتحت عنوة وأُقروا فيها وأوقفت الأرض لنوائب
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/424) .(3/361)
المسلمين وأعطياتهم فلا يمنعوا من كنائسهم التي فيها، ولا من أن يحدثوا فيها كنائس، لأنهم أقروا [فيها] على ما يجوز لأهل الذمة، ولا خراج عليهم في قراهم التي أقروا فيها، وإنما الخراج على الأرض.
2918 - ولا يجوز لمسلم أن يؤجر نفسه، أو عبده، أو دابته في حمل الخمر، أو داره، أو حانوته، أو شيئاً مما يملكه في أمر الخمر، [فإن نزل ذلك تصدق به] . ولا يعطى من الإجارة شيئاً لا ما سموا ولا أجر مثله، كمسلم باع خمراً فلا يعطى من ثمنها شيئاً، ويفعل فيه، إن كان قبض الإجارة أو لم يقبض، مثل ما وصفنا في ثمن الخمر.
2919 - وإن آجر نفسه من ذمي يرعى له الخنازير أُدّب، إلا أن يعذر بجهل، وتؤخذ الإجارة من الذمي ولا تترك له، مثل قول مالك في الخمر، ويتصدق بها على المساكين، ولا يحل للمسلم أخذها أدباً له.(3/362)
2920 - ولو باع منه الذمي خمراً وهو يعلم أنه مسلم أُدّب الذمي على ذلك، ويتصدق بالثمن على المساكين أدباً للذمي، وتكسر الخمر في يد المسلم، وأكره لمسلم أن يؤجر نفسه من ذمي لحرث، أو بناء، أو حراسة، أو غير ذلك، أو يأخذ منه قراضاً.
2921 - ولا بأس بالإجارة على طرح الميتة والدم والعذرة، ولا يؤجر على طرح الميتة بجلدها، إذ لا يجوز بيعه وإن دبغ، ولا يصلى عليه ولا يلبس.
وأما الاستسقاء في جلود الميتة إذا دبغت، فإنما كرهه مالك في خاصة نفسه، ولم يحرمه، ولا بأس أن يغربل عليها ويجلس، وهذا وجه الانتفاع الذي جاء في الحديث.
* * *(3/363)
[في إجارة نزو الفحل]
2922 - ولا بأس بإجارة الفحل للإنزاء، كان فرساً، أو حماراً، أو بعيراً، أو تيساً، على نزو أكوام معلومة، أو أشهر بكذا، فإن شرط نزو الفحل حتى تعلق الرمكة لم تجز الإجارة. (1)
وذكر بيع ماء العيون قد جرى مستوعباً في كتاب التجارة [بأرض الحرب] .
2923 - وكره مالك - رحمه الله - أن يشتري الوصي من مال اليتيم لنفسه، فإن فعل، أو أجر الوصي نفسه من يتيم في حجره تعقبه الإمام، فما كان خيراً لليتيم أمضاه. وكذلك الأب في ابنه الصغير.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/427) .(3/364)
ومن أجر ابنه للخدمة، فإن كان الابن محتلماً جاز ذلك، وكان له الأجر.
2924 - وإن أجر صبياً صغيراً في عمل بغير إذن وليه، أو عبداً محجوراً عليه بغير إذن سيده لم يجز ذلك إلا بإذنهما، فإن [فعل] بوعملا] فعليه الأكثر مما سمى، أو أجر المثل، كالتعدي والغصب في الدابة، وإن عطبا وكان عملاً يعطبان في مثله، فالسيد مخير في أخذ الكراء ولا شيء له من قيمة العبد، أو يأخذ قيمة العبد ما بلغت ولا كراء له. وأما في الصبي فعلى المكتري الأكثر من أجر مثله، أو ما سمي له، والدية على عاقلته.
قال ابن وهب عن مالك: وإذا أنكر السيد أن يكون أذن له في الإجارة لم يضمن مستعمله أجر هلاكه، إلا أن يستعمله في غرر كالبئر ذات الحَمْأة، أو الهدم تحت الجدران بغير إذن أهله فيضمن.
وكذلك إن أطلقه ربه في الإجارة ضمن من استعمله في هذا الغرر بغير إذن سيده، لأنه لم يؤذن له في التغرير بنفسه.
وإن خرج به في سفر بغير إذن أهله ضمن.(3/365)
2925 - قال ربيعة: من استعان عبداً فيما فيه الإجارة ضمنهن وكذلك إن أجره في غرر والعبد قد أرسل في الإجارة. وأما حُرّ كبير فما علمت فيه شيئاً، إلا أن يستغفل أو يستجهل في أمر لا يعلم منه ما يعلم من أجره.
ومن استعان غلاماً غير بالغ فيما في مثله الإجارة ضمن ما أصابه، وأما ما لا إجارة فيه كمناولة القدح والنعل وشبه ذلك، فلا عقل فيه في حر ولا عبد.
قال ابن القاسم: ومن آجر عبداً يخدمه شهراً بعينه، على أنه إن مرض قضاه ذلك في غيره، لم يعجبني، لاختلاف أيام الشتاء والصيف عن تمادى مرضه. (1)
2926 - ولا بأس بإجارة الحائط لحمل خشب، أو لبناء سترة عليه، أو لضرب وتد، أو تعليق ستر كل شهر بكذا.
_________
(1) انظر: حاشية العدوي (2/476) .(3/366)
والحديث في غرز الخشب إنما هو ندب ولا يقضى به. (1)
2927 - ولا بأس بإجارة العبد ذي الصنعة على أن يأتيك بالغلة، ما لم تُضمّنه في أصل الإجارة خراجاً معلوماً، وإن وضعته عليه بعد ذلك ولم تضمنه إن لم يأت به جاز ذلك.
قال ابن وهب: قال مالك: وإن آجرت أجيراً سنة بدنانير ليعمل لك في السوق على أن يأتيك بثلاثة دراهم كل يوم، لم يجز، لأنه إن أعطاك فضة فهو ذهب في فضة مؤجلة، وإن كان على أن يعطيك به طعاماً فهو سلم في حنطة بغير سعر معلوم، وقد يكثر ما يعطيك بثلاثة دراهم لرخص الطعام، وقد يقل لغلائه فهو غرر.
_________
(1) رواه البخاري (1215) ، ومسلم (1609) .(3/367)
2928 - وأكره للأعزب أن يؤاجر حرة ليس بينه وبينها محرم أو أمة لخدمته، يخلو معها أو يعادلها في محمل.
2929 - ولا بأس بإجارة العبد عشر سنين أو خمس عشرة سنة، وجواز ذلك في الدور أبين.(3/368)
والموصى له بخدمة [عبد] عشر سنين لا بأس أن يكريه عشر سنين.
وقال غيره: لا تجوز إجارة العبد السنين الكثيرة لما في الحيوان من سرعة التغير، وهو في الدواب أبين غرراً.
2930 - ومن أجّر عبده أو نفسه في خياطة شهراً، لم يجز أن يفسخ ذلك في قصارة أو غيرها، لأنه دين بدين [إلا أن تكون الإجارة يوماً ونحوه فيجوز ذلك، لأنه لا يكون ديناً بدين] .
2931 - ومن استأجر عبداً يخدمه جاز أن يؤاجره في مثل ذلك.
ومن استأجر عبداً للخياطة كل شهر بكذا فلا يستعمله في غيرها، فإن فعل فعطب ضمنه إن كان عملاً يعطب في مثله.
2932 - ومن أجر أجيراً في الخدمة استعمله على عرف الناس من خدمة الليل والنهار، كمناولته إياه ثوبه، أو الماء في ليله، وليس فيما يمنعه النوم، إلا في(3/369)
أمر يعرض له المرة يستعمله فيه بعض ليله، كما لا ينبغي لأرباب العبيد إجهادهم، فمن عمل منهم في نهاره ما يجهده فلا يستطحنه في ليله، إلا أن يخفّ عمل نهاره فليستطحنه ربه في ليله إن شاء من غير [إكراء ولا] إفداح. وكُره ما أجهد أو قل أمنه.
2933 - ومن استأجر أجيراً للخدمة فليس له أن يسافر به، ولا يجوز أن يشترط أنه إن سافر أو حرث استعمله في ذلك.
2934 - ولا بأس باشتراط ما شابه الخدمة من عجن وخبز وكنس، والمُتباعد خطراً لتفاوت قيم الأعمال.
2935 - ومن أجر عبده ثم باعه، فالإجارة أولى به، فإن كانت إجارته قريبة، كيوم أو يومين، جاز البيع، وإن بعد الأجل فسخ البيع، ولم يكن للمبتاع أخذه بعد الإجارة، إذ لا يجوز بيع عبد على أن يقبض إلى شهر.(3/370)
2936 - والعبد المستأجر يمرض مرضاً بيناً أو يأبق أو يهرب إلى بلد الحرب، فإن الإجارة تفسخ، ولو رجع أو أفاق في بقية المدة لزمه تمامها.
قال غيره: إلا أن يكون فُسخ الإيجار.
وقال في باب بعد هذا: إلا أن يتفاسخا قبل ذلك.
ولو هرب السيد إلى بلد الحرب كانت الإجارة بحالها لا تنتقض.
ولا تكرى أم الولد في الخدمة.
2937 - ومن استأجر عبداً للخدمة فألفاه سارقاً فهو عيب يرد به كالبيع.
2938 - ومن استؤجر على رعاية غنم كثيرة لا يقوى على أكثر منها، فليس(3/371)
له أن يرعى معها غيرها، إلا أن يدخل معه راعياً يقوى به، إلا أن تكون غنماً يسيرة فذلك له، إلا أن يشترط ربها عليه ألا يرعى معها غيرها، فيجوز ويلزمه.
وأكره هذا الشرط في قليل القراض، إذ ليس بإجارة معلومة، وهذا يحيله عن وجه رخصته.
والإجارة تجوز مؤجلة، أو على بيع متاع، أو شرائه ببلد آخر بخلاف القراض. فإن رعى [غنماً] غيرها بعد هذا الشرط فالأجر لرب الأولى.
وكذلك أجيرك للخدمة يؤجر نفسه من غيرك يوماً أو أكثر، فلك أخذ الأجر وتركه، أو إسقاط حصة ذلك اليوم من الأجر عنك.
قال غيره: إن لم يدخل برعاية الثانية [على الأولى تقصير في الرعاية، فأجر الثانية] للراعي، وليس للراعي أن يأتي بغيره يرعى مكانه،(3/372)
ولو رضي بذلك رب الغنم لم يجز.
2939 - ومن مر براعٍ فلا ينبغي له أن يستسقيه لبناً، وإذا توالدت الغنم حُملا في رعاية الولد على عرف الناسن فإن لم تكن لهم سُنة لم يلزمه رعايتها.
2940 - ولا ضمان على الرعاة إلا ما تعدّوا فيه، أو فرطوا في جميع ما رعوه من الغنم والدواب لناس شتى، أو لرجل واحد، ولا يضمن [الراعي] ما سُرق إلا أن تشهد بينة أنه ضيع أو فرط. قال أبو الزناد: وإلا لم يلزمه إلا يمين. (1)
قال ابن وهب: قال مالك - رحمه الله -: ولا ضمان عل العبد الراعي إلا أن ينحر شيئاً فيضمنه.
قال أبو الزناد: وإن استُرعي العبد بغير إذن سيده فنحر أو باع، فليس على سيده
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/427) ، ومواهب الجليل (5/428) .(3/373)
ولا في رقبة العبد شيء من ذلك. قال ابن القاسم: وإن اشترط على الراعي الضمان فسدت الإجارة ولا شيء عليه وله أجر مثله بغير ضمان، [نافَ] على التسمية أو نقص.
وقال غيره: إن كان ذلك أكثر من التسمية لم يزد عليها. قال: ومحال أن تكون أكثر.
قال ابن القاسم: وكذلك إن شرطوا على الراعي أنه إن لم يأت بسمة [على] ما مات منها ضمن، فلا يضمن وإن لم يأت بها، وله أجر مثله ممن لا ضمان عليه.
وإن خاف الراعي الموت على شاة فذبحها، لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة. وقال غيره: يضمن ما نحر.
والراعي مصدق فيما هلك أو سُرق، ولو قال: ذبحتها ثم سُرقت، صُدّق.(3/374)
وقال غيره: بالذبح ضَمِن.
وإن أنزى الراعي على الإبل أو البقر والغنم والرمك بغير إذن أهلها فعطبت ضمن. قال غيره: لا يضمن.
وإن شرط عليه الرعاية بموضع فرعى في غيره ضمن قيمتها يوم تعدى، كالتعدي في الدابة، وله الأجر إلى يوم تعديه.
2941 - ولا باس بإجارة الظئر على إرضاع الصبي حولاً أو حولين بكذا. (1)
وكذلك إن شرطت عليهم طعامها وكسوتها، وليس لزوجها وطؤها إن أجرت
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (4/364) ، (5/425) ، ومواهب الجليل (5/412) .(3/375)
نفسها بإذنه، وإن كان بغير إذنه فله أن يفسخ إجارتها، وترضعه حيث اشترطوا، فإن لم يشترطوا موضعاً فشأن الناس الرضاع عند الأبوين، إلا امرأة لا ترضع مثلها عند الناس، أو يكون الأب وضيعاً لا يرضع مثلها عنده فذلك لها، ويُحمّلون فيما يحتاجه الصبي من المؤنة في غسل خرقه، وتحميمه ودهنه ودق ريحانه وطيبه، على ما تعارفه الناس، فإذا حملت الظئر فخيف على الصبي فلهم فسخ الإجارة، ولا يلزمهما أن تأتي بغيرها ترضعه، وكذلك تفسخ الإجارة بموت الصبي ولها بحساب ما أرضعت، وليس لها ولا لأبويه أن يأتوا بصبي غيره ترضعه، كمن اكترى دابة ليركبها، فليس له كراؤها من غيره في مثل حاله وخفته، لأنه قد يجد من هو مثله في الأمانة والحال والخفة، ولا يكون مثل في الرفق.
وإن سافر الأبوان فليس لهما أخذ الصبي إلا أن يدفعا إلى الظئر جميع الأجر.
2942 - وإن أجرت الشريفة نفسها لرضاع صبي لزمها ذلك، وإن لم يقض على مثلها برضاع ولدها، لأنها ألزمت ذلك نفسها، كما لو شاءت رضاع ولدها لم تمنع.
2943 - وإذا مرضت الظئر مرضاً لا تقدر معه على الرضاع فسخت الإجارة.
ولو صحت في بقية منها جُبرت على الرضاع [بقيتها] ، ولها من الأجر بقدر(3/376)
ما أرضعت، وليس عليها أن ترضع ما مرضت. قال غيره: إلا أن يكون الكراء فسخ بينهما فلا يعود.
[قال ابن القاسم:] وإن تمادى مرضها حتى انقضى وقت الإجارة فلا تعود إلى الرضاع.
ولو آجرها على رضاع صبيين حولين، فمات أحدهما بعد حول، وضع عنه قدر ما ينوبه، وذلك ربع الإجارة، إلا أن يختلف ذلك من رخص الكراء أو غلائه، وباختلاف الأزمنة من شتاء وصيف، وصبي كبير وصغير، فيحسب ذلك. ثم لها أن ترضع مع الباقي غيره بإجارة. ولو آجرها على إرضاع صبي لم يكن لها أن ترضع غيره معه. ومن آجر ظئرين فماتت واحدة، فللباقية ألا ترضع وحدها.(3/377)
وكذلك الأجيران في رعاية الغنم، يموت أحدهما.
وإن آجر واحدة ثم [آجر] أخرى تطوعاً، فماتت الثانية فالرضاع للأولى لازم كما كانت، وإن ماتت الأولى فعليه أن يأتي بمن يرضع مع الثانية.
2944 - وإن هلك الأب فحصة باقي المدة من الأجر في مال الولد، قدمه الأب أو لم يقدمه، وترجع حصة باقي المدة [من الأجر] إن قدمه الأب ميراثاً، وليس ذلك عطية وجبت، [إذ] لو مات الصبي لم يورث عنه، وكان للأب خاصة دون أمه، ففارق معنى الضمان في الذي يقول لرجل: اعمل لفلان عملاً أو بعه سلعتك والثمن لك عليّ، فالثمن في ذمة الضامن إن مات، ولا طلب على المبتاع ولا على الذي عمل له.
وإن مات الأب ولم يدع مالاً، ولم تأخذ الظئر من أجرتها شيئاً، فلها فسخ الإجارة.
ولو تطوع رجل بأدائها لم تفسخ، وما وجب للظئر فيما مضى ففي ذمة الأب، ولا طلب فيه على الصبي.
ولو أرضعته باقي المدة لم تتبعه بشيء، وكذلك إن قالت: أرضعه على أن أتبعه، فهي متطوعة، كمن أنفق على يتيم لا مال له، وأشهد أن يتبعه إن طرأ له مال، فذلك غير لازم له، وهو على وجه الحسبة.(3/378)
ولا بأس أن يؤجر الرجل أمه أو أخته أو ذات رحم على رضاع ولده، أو يؤجر زوجته أو خادمتها على رضاع ولده من زوجة له أخرى.
وأجر رضاع اللقيط، ومن لا مال له [من اليتامى] على بيت المال.
2945 - وحامل الدُّهن والطعام لا يضمن ما عثر به فاهراق أو انكسر، أو فيما ربضت به الدابة أو انقطع به الحبل، إلا أن يعلم أنه غر من عثار أو ضعف حباله، أو غرر في رباطه، أو أخرق في سوق دابته، وإن لم يعلم ذلك لم يضمن، وهو مصدق فيما ادعى من ذلك، إلا في الطعام والإدام، فلا يصدق في ذهابه إلا ببينة.
ولا ضمان على من جلس يحفظ ثياب من دخل الحمام، لأنه أجير.(3/379)
ولا يضمن أجير الخدمة ما كسر من آنية، أو أفسد من طحين، أو أهراق من ماء أو لبن، أو ما وطئ عليه فكسره أو خرقه إلا أن يتعدى.
وقال غيره: ما وطئ ليه أو عثر عليه فهي جناية، وما سقط من يده أو عثر به لم يضمن.
وللصناع منه ما عملوا حتى يقبضوا أجرهم، وهم أحق به في الموت والفَلَس. وكذلك حامل المتاع والطعام على رأسه أو دابته أو سفينته.
2946 - ولو آجرته على بناء دار فالأداة والماء والفؤوس والقفاف والدلاء على من تعارف الناس أنها عليه.(3/380)
وكذلك حيثان التراب في حفر القبر، ونقش الرحا وشبهه، فإن لم تكن لهم سنة فآلة البناء على رب الدار ونقش الرحا على ربها.
وإذا انهدم من حمام أو دار أو رحا ما أضر بالمكتري في السكنى، أو منعه العمل فأراد فسخ الإجارة وأبى ربها فقال: أنا أصلح، فالقول قول المكتري.
ومن أجرته على بناء حائط ووصفته له فبنى نصفه ثم انهدم، فله بحساب ما بنى [من أجره، لأنك قابض لكل ما بنى] ، وليس عليه بناؤه ثانية، كان الآجر والطين [من عندك أو] من عنده.
وقال غيره: هذا في عمل رجل بعينه، وعليه في المضمون تمام العمل.
2947 - وإن آجرته على حفر بئر صفتها كذا، فحفر نصفها ثم انهدمت فله بقدر ما عمل، ولو انهدمت بعد فراغها أخذ جميع الأجر، حفرها في ملكك أو في غير ملكك، إلا أن يكون بمعنى الجعل.(3/381)
فإن انهدمت قبل إسلامها إليك فلا شيء له، وإسلامها إليك فراغه من حفرها.
وقد قال مالك - رحمه الله - في الأجير على حفر قبر: فإن انهدم قبل فراغه فلا شيء له، وإن انهدم بعد فراغه فله الأجر. (1)
قال ابن القاسم: وذلك فيما لا يملكه من الأرضين.
ولا بأس بالإجارة على حفر بئر بموضع كذا عمقها كذا، وقد خبر الأرض، فإن لم يخبرها لم يجز، لأنه قد يسهل أعلاها ثم يظهر له حجر أو صلابة، وكذلك الإجارة على حفر فُقُر النخل إلى الماء إن خبر الأرض جاز، وإلا لم يجز.
قال أبو الزناد: وعلى حافر البئر إخراج الماء.
قال ربيعة: ذلك في أرض متقاربة في خروج الماء، فأما مختلفة فمزارعة أحب إليّ.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (2/246) .(3/382)
2948 - ومن آجرته على حفر قبر فحفره شقاً، فقلت أنت: أردته لحداً، حملتما على سنة الناس.
وإن أجرت رجلين على حفر بئر فحفرا بعضها ثم مرض أحدهما فأتمها الآخر فالأجر بينهما. ويقال للمريض: أرض الحافر من حقك، فإن أبى لم يقض عليه، والحافر متطوع له.
2949 - وإذا أراد الصناع والأجراء تعجيل الأجر قبل [الفراغ] وامتنع رب العمل حُملوا على المتعارف بين الناس فيه، فإن لم تكن لهم سنة لم يقض لهم إلا بعد فراغ أعمالهم، وأما في الأكرية في دار، أو راحلة، أو في إجارة بيع السلع ونحوه فبقدر ما مضى.
وليس للخياط إذا خاط نصف القميص أخذ نصف الأجرة حتى يتم، إذ لم يأخذها على ذلك.(3/383)
2950 - وإن ادعى رب المتاع أن الصانع عمله له باطلاً، وقال الصانع: [بل] بأجر كذا، صدق الصانع فيما يشبه من الأجر، وإلا رد إلى إجارة مثله.
وقال غيره: يحلف الصانع ويأخذ الأقل مما ادعى أو من أجر مثله.
ومن ادعي على صباغ أو صانع فيما قد عمله أنه أودعه إياه، وقال الصانع: بل استعملني فيه، فالصانع مصدق، لأنهم لا يشهدون في هذا، ولو جاز هذا لذهبت أعمالهم.
وقال غيره: بل الصانع مدع.(3/384)
وإذا أقرّ الصانع بقبض متاع، وقال: عملته ورددته ضمن، إلا أن يقيم برده بينة، وإن ادعي على أحدهم فأنكر لم يؤخذ إلا ببينة أن المتاع قد دفع [إليه] وإلا حلف.
وإذا قال الصانع: استعملتني هذا المتاع، وقال ربه: بل سُرق مني، تحالفا، ثم قيل لربه: ادفع إليه أجر عمله وخذه، فإن أبى قيل للعامل: ادفع إليه قيمة ثوبه غير معمول، فإن أبى كانا شريكين، هذا بقيمة ثوبه غير معمول، وهذا بقيمة عمله، لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه.
وقال غيره: العامل مدع، ولا يكونان شريكين.
2951 - قال ابن القاسم: وكذلك إن ادعى أن الصانع سرقه منه، إلا أنه ههنا إن كان الصانع ممن لا يشار إليه بذلك، عوقب رب الثوب، وإلا لم يعاقب.
2952 - وإن أقمت بينة على قميص بيد رجل أنها كانت ملحفة لك لم تأخذه إلا بغرم(3/385)
قيمة الخياطة، وإلا قضى بما ذكرنا في السرقة.
وقاله مالك - رضي الله عنه - في يتيم باع ملحفة فتداولتها الأيدي بالبيع وقد صبغها آخرهم، فإنهم يترادّون الربح فيما بينهم، ولا شيء على اليتيم من الثمن، إلا أن يكون قائماً بيده فيرده، ويكون اليتيم والذي صبغها آخراً شريكين، هذا بقيمة الصبغ، واليتيم بقيمة الملحفة بيضاء، وبيعه للملحفة كلا بيع.
وإذا قلع الحجام ضرس رجل بأجر فقال له: لم آمرك أن تقلع إلا الذي يليه، فلا شيء بله] عليه، لأنه علم به حين قلعه، وله أجره، إلا أن يصدقه الحجام فلا يكون له أجر. وقال غيره: الحجام مدع.(3/386)
ومن لتّ سويقاً بسمن وقال لربه: أمرتني أن ألته لك بعشرة دراهم، وقال ربه: لم آمرك أن تلته بشيء، قيل لصاحب السويق: إن شئت فاغرم له ما قال وخذ السويق ملتوتاً، فإن أبى قيل للاّت: اغرم له سويقه غير ملتوت، وإلا فأسلمه إليه بلتاته ولا شيء لك، ولا يكونان شريكين في الطعام لوجود مثله.
وقال غيره: إن امتنع رب السويق أن يعطيه ما لتّه به قُضي له على اللاّت بمثل سويقه غير ملتوت.
فإن قال: أمرتني أن ألته بعشرة ففعلت، فقال ربه: بل أمرتك بخمسة وبها لتَتّه، فاللات مصدق مع يمينه إن أشبه أن يكون فيه سمن بعشرة، لأنه مدع عليه الضمان.
وكذلك الصباغ إذا صبغ الثوب بعشرة دراهم عصفراً وقال لربه: بذلك أمرتني،(3/387)
وقال ربه: بل ما أمرتك أن تجعل فيه إلا بخمسة دراهم عصفراً، فالصباغ مصدق مع يمينه إن أشبه أن يكون فيه بعشرة [دراهم] ، وإن أتى بما لا يشبه صٌدّق رب الثوب، فإن أتيا جميعاً بما لا يشبه فله أجر مثله، واللات مثله سواء.
ولو قال رب الثوب: كان لي فيه صبغ متقدم، أو في السويق لتات متقدم، لم يصدق، لأنه ائتمن الذي أسلمه إليه، والقول قول الصباغ واللات مع أيمانهما، وهذا في جميع ما ذكرنا، إذا أسلم إليه السويق والثوب، وأما إن لم يسلمه إليه، ولم يغب عليه فرب السويق مصدق في قوله: أمرتك بخمسة، إذا لم يأتمنه، وهو كمبتاع يقول: لم أشتر إلا بخمسة، فالقول قوله، وإن قال أهل النظر: فيه سمن بعشرة [دراهم] ، فإن لم يدع ربه أنه تقدم له فيه سمن فاللات مصدق، وإن قال ربه: كان لي فيه لتات، فهو مصدق، إذ لم يسلمه إليه، ولو أسلمه إليه لصدق رب السمن، ولم يصدق ربه أنه تقدم له فيه لتات.
2953 - ومن آجر يتيماً في حجره ثلاث سنين، فاحتلم بعد سنة، ولم يظن ذلك به، فلا يلزمه باقي المدة إلا أن يبقى كالشهر ويسير الأيام، ولا يؤاجره وصي ولا أب بعد احتلامه، وأما إن أكرى ربعه ودوابه ورقيقه سنين ثم احتلم بعد مضي السنة، فإن كان يظن بمثله أنه لا يحتلم في تلك المدة، فعجل عليه الاحتلام وأنس منه الرشد،(3/388)
فلا فسخ له ويلزمه باقيها. وقال غيره: لا يلزمه إلا فيما قل.
قال ابن القاسم: وإن عقد عليه أمداً يعلم أنه يبلغ فيه، لم يلزمه في نفسه ولا فيما يملك من ربع وغيره، وكذلك الأب.
وأما سفيه بالغ آجر عليه وليّ أو سلطان، ربعه أو رقيقه سنتين أو ثلاث ثم انتقل إلى حال الرشد، فذلك يلزمه، لأن الولي عقد يومئذ ما يجوز له.
قال غيره: إنما يجوز للولي هذا أن يكري عليه هذه الأشياء كالسنة ونحوها، لأنه جُل كراء الناس، وإذ ترجى إفاقته كل يوم، فأما ما كثر فله فسخه.
2954 - وتجوز إجارة السمسار والجعل في شراء كثير الثياب بخلاف بيعها.
ومن دفع إلى بزاز مالاً وجعل له في كل مائة ديناراً يشتري له بها بزّاً كذا وكذا جاز، وهذا جُعل.(3/389)
قال ربيعة: إن كان ذلك موجوداً، فإن اشترى أخذ وإلا فلا شيء له.
قال مالك - رحمه الله -: وله رد المال متى شاء، وإن ضاع بيده لم يضمن.
وإن فوض إليه في شراء مائة ثوب ولم يصفها، فاشترى له ما يشبه في تجارته أو في كسوته لزمه ذلك.
2955 - ومن قال لرجل: إن جئتني، أو قال: من جاءني بعبدي الآبق فله أو فلك عشرة دنانير، وسمى موضعاً [هو فيه] ، أو لم يسم ولم يعرف السيد موضعه، جاز ذلك، ولمن جاء به العشرة.
وإن قال: من جاءني به فله نصفه، لم يجز، لأنه لا يدري ما دخله، وما لا يجوز بيعه فلا يجوز [أن يكون] ثمناً لإجارة أو جعل، فإن جاء به على هذا فله أجر مثله، وإن لم يأت به فلا شيء له.
ومن جعل لرجل في عبدين أبقا عشرة دنانير، إن أتى بهما، لم يجز، فإن(3/390)
أتاه بأحدهما فله أجر مثله في عنائه لا خمسة. وقال ابن نافع: له خمسة.
وإن جعل في عبد واحد لرجل خمسة، ثم جعل لآخر عشرة فأتيا به جميعاً فالعشرة بينهما على الثلث والثلثين. وقال ابن نافع: لكل واحد منهما نصف ما جعل له.
2956 ومن قال لرجل: احصد زرعي هذا ولك نصفه، أو جذ نخلي هذه ولك نصفها، جاز، وليس له تركه، لأنها إجارة.
وكذلك لقط الزيتون، وهو كبيع نصفه، وإن قال: فما حصدت أو لقطت فلك نصفه، جاز، وله الترك متى شاء، لأن هذا جعل وغيره لا يجيز هذا.(3/391)
وإن قال له: احصد اليوم أو التقط اليوم، فما اجتمع فلك نصفه، فلا خير فيه، إذ لا يجوز بيع ما يحصد اليوم، ولا أجيزه ثمناً مع ضرب الأجل في الجعل، إلا أن يشترط أن يترك متى شاء فيجوز.
وإن قال له: انفض شجري، أو حركها فما نفضت أو سقط فلك نصفه، لم يجز، لأنه مجهول.
[وإن قال له: اعصر زيتوني، أو جلجلاني، فما عصرت فلك نصفه، لم يجز، إذ لا يدري كيف يخرج، وإذ لا يقدر على الترك إذا شرع، وليس(3/392)
هكذا الجعل] ، والحصاد يدعه متى شاء إذا قال: فما حصدت من شيء فلك نصفه.
وأما قوله: احصده ولك نصفه، فتلك إجارة لازمة.
وإن قال له: احصد [زرعي هذا] وادرسه لك ونصفه، لم يجز، لأنه استأجره بنصف ما يخرج من الحب، وهو لا يدري كم يخرج [ولا كيف يخرج] ، ولأنك لو بعته زرعك جزافاً وفد يبس على أن عليك درسه وحصاده وذريه، لم يجز، لأنه اشترى حباً جزافاً لم يعاين جملته.
ولو قال: على أن كل قفيز بدرهم، جاز، لأنه معلوم بالكيل وهو يصل إلى صفة القمح بفرك سنبله، وإن تأخر في درسه على مثل عشرة أيام أو خمسة عشر يوماً، فهو قريب، وليس ذلك كحنطة في بيتك، تلك لا بد فيها من صفة أو عيان وهذا معين.(3/393)
وكره مالك الجعل على الخصومة، على أنه لا يأخذ إلا بإدراك الحق.
قال ابن القاسم: وإن عمل على ذلك فله أجر مثله. (1)
وقد روي عن مالك أنه جائز.
* * *
_________
(1) انظر: البيان والتحصيل لابن رشد (14/49) .(3/394)
(كتاب تضمين الصناع)
2957 - قال ابن القاسم: ومن دفع غزلاً إلى حائك لينسجه سبعة في ثمانية، فنسجه ستة في سبعة فله أخذه، وللحائك أجره كله. وقال غيره: بل بحساب ما عمل.
قال ابن القاسم: وإن شاء تركه وضمن الصانع قيمة الغزل، لأن من(3/395)
استهلك لرجل غزلاً أو ثوباً فعليه قيمته. وقال غيره: يضمن في الغزل مثله، لأنه مما يوزن.
2958 - وإذا احترق الثوب عند القصار أو أفسده أو ضاع عنده بعد القصارة ضمن قيمته يوم قبضه أبيض، وليس لربه أن يُغرّم الصانع قيمة الثوب مفروغاً ويعطيه أجره.
2959 - وإذا دعاك الصانع إلى أخذ الثوب وقد فرغ منه ولم تأخذه، فهو له ضامن حتى يصل إليك.
2960 - وإذا أفسد الخياط القميص في قطعه فساداً يسيراً فعليه قيمة ما أفسد، وإن كان كثيراً ضمن قيمة الثوب كله يوم قبضه وكان له. وقد قضى الخلفاء بتضمين الصناع وهو صلاح للعامة.
ويضمن القصار ما أفسد أجيره ولا شيء على الأجير، إلا أن يتعدى أو يفرط.(3/396)
2961 - وإذا احترق الخبز فإن لم يفرط صاحب الفرن ولا غر من نفسه لم يضمن، لغلبة النار، فإن غر أو فرط ضمن. (1)
2962 - وإذا أخطأ الصباغ فصبغ غير ما أمر به فلك أن تعطيه قيمة الصبغ وتأخذ ثوبك، أو تضمنه قيمته يوم قبضه.
وإذا أخطأ القصار فدفع ثوبك بعدما قصره إلى غيرك، فقطعه وخاطه ودفع إليك ثوباً غيره، فإن لك أن ترده [ثم لك أن] تضمن القصار [ثوبك] أو تأخذه مخيطاً بعد دفع أجر الخياطة للذي خاطه، نقصه ذلك أو زاده، ثم لا شيء لك على القصار.
2963 - وليس لك تضمين القاطع ولا أن تأخذ منه الثوب مع ما نقصه القطع، إذ لم يتعد، ولا لك أخذ الثوب بغير غرم أجر الخياطة، ولك أخذ ما خاطه الغاصب بغير غرم أجر الخياطة لتعديه.
2964 - ومن اشترى ثوباً فغلط البائع فدفع إليه غيره، فقطعه قميصاً ولم يخطه، فللبائع أخذه مقطوعاً، وليس القطع بزيادة من الذي قطعه ولا نقصان، فإن خاطه المبتاع لم يأخذه البائع حتى يدفع قيمة الخياطة للمبتاع إذ لم يتعد.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/389) ، ومواهب الجليل (5/429) .(3/397)
وإن سألت خياطاً قياس ثوب، فزعم أنه يقطع قميصاً فابتعته لقوله فلم يقطع قميصاً فقد لزمك، ولا شيء لك عليه ولا على البائع.
وكذلك الصيرفي يقول في درهم تريه إياه: إنه جيد، فيلفى رديئاً، فإن غرا من أنفسهما عوقبا ولم يغرما.
2965 - وما قامت [فيه] بينة أنه ضاع، أو سرق، أو أنه احترق بمعاينة بينة بغير سبب الصانع لم يضمنه.
ويغرم القصار قرض الفأر، إذ لا يعرف أنه قرض فأر، ولو علم أن الفأر قرضه من غير تضييع وقامت [بذلك] بينة، لم يضمن.
2966 - ولو مرّ حطّاب بثوب على حبل الصباغ فخرقه ضمن، ولم يضمن الصباغ وإن كان المار معدماً، لأن هذا مما ظهر بغير سبب الصباغ، لأن له أن ينشر الثياب، فلما نشره في الطريق لم يكن لهذا أن يخرقه [لأنه] كاصطدام الأحمال في الطريق.(3/398)
وكذلك لو أوقف دابة محملة في الطريق، فصدمها رجل فكسر ما عليها أو قتلها لضمن، أو وضع قلالاً في الطريق فعثر عليها رجل فكسرها ضمن.
2967 - وما عمله الصناع في بيتك لم يضمنوه إن ضاع. وكذلك كل ما لم تسلمه إليهم، إلا أن يتعدوا. وكذلك رب الحنطة يصحب الكرى فتضيع فلا يضمن الحمال.
وإذا صبغ الصباغ الثوب أحمر أو أسود، وقال لربه: بذلك أمرتني، وقال ربه: أمرتك بأخضر، فالصباغ مصدق، إلا أن يصبغ صبغاً لا يشبه مثله.
2968 - وإذا صاغ الصائغ سوارين، فقال ربهما: أمرتك بخلخالين، فالصائغ مصدق.
2970 - وإذا أقر جميع الصناع بقبض متاع، وزعموا أنه ضاع، أو ردوه إلى ربه فعليهم البينة بذلك، وإلا ضمنوا، عملوه بأجر أو بغير أجر، قبضوه ببينة أو بغير بينة.(3/399)
2971 - وإذا اختلف المتبايعان في [قلة] الثمن وكثرته، والسلعة بيد البائع أو بيد المبتاع، وقد غاب عليها، إلا أنها لم تتغير في بدن ولا سوق، أحلف البائع أولاً أنه ما باع إلا بكذا، ثم خيّر المبتاع في أخذها بذلك، أو يحلف أنه ما ابتاع إلا بكذا ثم يترادّان المبيع. فإن فاتت بيد المبتاع بتغير سوق فأعلى صدق مع يمينه، إذا أتى بما يشبه. وثبت مالك على هذا.
2972 - وإن مات المتبايعات فورثتهما في الفوت وغيره مكانهما، إن ادعوا معرفة الثمن. وإن تجاهل ورثتهما الثمن وتصادقا على البيع حلف ورثة المبتاع أنهم لا يعلمون بما ابتاعها به أبوهم، ثم يحلف ورثة البائع أنهم لا يعلمون بم باعه [به] أبوهم، ثم ترد، فإن فاتت بما ذكرنا لزمت ورثة المبتاع بقيمتها في ماله. وإن ادعى معرفة الثمن ورثة أحدهما، وجهله ورثة الآخر، حلف من ادعى معرفته، وصُدّق إن أشبه ذلك ثمن السلعة، وإن اتفق المتبايعان في الثمن واختلفا في الأجل، فقال البائع: بعتها حالّة، [أو إلى شهر] ، وقال المبتاع: بل إلى شهرين، فإن لم تفت حلفا(3/400)
وردت، وإن فاتت بيد المبتاع، فأما في قول البائع: بعتها إلى شهر، فالمبتاع مصدق مع يمينه، لأن البائع أقرّ بالأجل وادعى حلوله، وأما في قول البائع بعتها حالّة فيصير المبتاع مدعياً للأجل.
وروى ابن وهب عن مالك في الوجهين [جميعاً] أن السلعة إن لم يقبضها المبتاع صدق البائع مع يمينه [إن ادعى ما يشبه] ، [وإن قبضها المبتاع صدق مع يمينه] [إن ادعى ما يشبه] . وإن تصادقا أن الأجل شهر، فادعى البائع حلوله وأنكر المبتاع، حُلّف المبتاع وصُدّق، وكذلك رب الدار والأجير يدعي تمام أجل الكراء، فهو مدع، إلا أن يقيم بينة فيقضى بها. (1)
_________
(1) انظر: الفواكه الدواني (2/85) ، ومواهب الجليل (4/462) ، والمدونة (10/302) ، والتمهيد (24/299) .(3/401)
2973 - وإذا قال الرسول: دفعت المال إلى المبعوث إليه، أو قال الوصي: دفعت المال إلى الأيتام، فهو ضامن إن كذبوه، إلا أن يقيم بينة [فيقضى بها] .
2974 - ومن فتح في جداره كوة أو باباً يضر بجاره في التشرف منه عليه، مُنع، وأما كوة قديمة أو باب قديم لا منفعة له فيه، وفيه مضرة على جاره، لا يمنع منه.
2975 - ومن كفل يتيماً فأنفق عليه، ولليتيم مال، فله أن يرجع بما أنفق عليه في مال اليتيم، أشهد أو لم يشهد، إذا قال: إنما أنفقت عليه لأرجع في ماله.
والنفقة على اللقيط احتساب، فإن لم يجد الإمام من يحتسب فيه أنفق عليه من بيت المال، ولا يتبع اللقيط بشيء مما أنفق عليه. وكذلك اليتامى الذين لا مال لهم.
ولو قال من في حجره يتيم عديم: أنا أنفق عليه فإن أفاد مالاً أخذته منه وإلا فهو في حل، فذلك باطل، ولا يتبع اليتيم بشيء، إلا أن يكون له أموال عروض فيُسلفه حتى يبيع عروضه، فذلك له، وإن قصر ذلك المال عما أسلفه لم يتبعه بالنايف، وكذلك اللقيط.(3/402)
2976 - ومن التقط لقيطاً فأنفق عليه فأتى رجل فأقام بينة أنه ابنه، فله أن يتبعه بما أنفق إن كان الأب موسراً في حين النفقة، لأنه ممن تلزمه نفقته، [هذا] إن تعمد الأب طرحه، وإن لم يكن الأب هو الذي طرحه فلا شيء عليه.
قال مالك - رحمه الله - في صبي صغير ضل من والده، فأنفق عليه رجل فلا يتبع أباه بشيء، وكذلك اللقيط، لأن النفقة عليه على وجه الحسبة.
2977 - ومن أنفق على ولد غائب وهم صغار بغير أمره، أو أنفقت زوجته على نفسها في غيبته [بغير أمره] ثم قدم، فلهما أن يرجعا عليه بما انفقا إن كان موسراً في غيبته، وإلا فلا.
ولو غاب وهو موسر فأمر الإمام رجلاً [بالنفقة] على ولده الصغير لزمه ذلك. وكذلك لو أنفق هو عليه بغير أمر الإمام على وجه السلف [له] لأتبعه بذلك إذا حلف أن ذلك منه بمعنى السلف، وكانت له على النفقة بينة، وإن كان الأب معسراً في ذلك لم يتبع بشيء، ولو أيسر بعد عسره فمات لم يتبع بشيء.(3/403)
2978 - ومن التقط لقيطاً فكابره عليه رجل فنزعه منه فرفعه إلى الإمام، نظر الإمام للصبي فأيهم كان أقوى على مؤنته وكفالته وكان مأموناً، دفعه إليه.
قيل لابن القاسم: فمن التقط لقيطاً في مدينة الإسلام، أو في قرية للشرك في أرض، أو كنيسة، أو بيعة وعليه زي أهل الذمة أو المسلمين؟ قال: إن التقطه في قرى المسلمين ومواضعهم فهو مسلم، وإن كان في قرى الشرك وأهل الذمة ومواضعهم فهو مشرك، فإن وجد في قرية ليس فيها إلا الاثنان والثلاثة من المسلمين فهو للنصارى ولا يعرض له، إلا أن يلتقطه مسلم فيجعله على دينه.
2979 - ومن وهب لرجل لحم شاة ولآخر جلدها، فغفل عنها [حتى] نتجت فالنتاج لصاحب اللحم وعليه مثل الجلد أو قيمته لصاحب الجلد، وليس لصاحب الجلد قيمة جلد الولد ولا مثله.
ولو هلكت الشاة لم يكن له في الولد شيء وكذلك الناقة، ولصاحب اللحم أن يستحيي الشاة ويغرم لصاحب الجلد مثله أو قيمته.
2980 - قال مالك - رحمه الله -: ومن اختلط له دينار مع مائة دينار لغيره، ثم ضاع من الجملة دينار فهما فيه شريكان، صاحب الدينار بجزء من مائة وجزء، وصاحب المائة(3/404)
دينار بمائة جزء من مائة وجزء. وقال ابن أبي سلمة وابن القاسم: لصاحب المائة الدينار تسعة وتسعون، ويقسمان الدينار الباقي نصفين.
2981 - ومن انفلت له باز فلم يقدر على أخذه حتى استوحش فهو لمن وجده. (1)
وإن هربت النحل ولحقت مكانها بالجبال، فإن كان أصل النحل عند أهل المعرفة [بها] وحشية، فهي بمنزلة ما وصفنا من الوحش.
وإذا خرجت النحل من جبح هذا إلى جبح هذا، فإن علم ذلك وقدر
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/211) ، ومواهب الجليل (5/253) .(3/405)
على ردها إلى صاحبها ردها، وإلا فهي لمن ثبتت في أجباحه. وكذلك حمام الأبرجة.
2982 - ولا يحكم الإمام بين أهل الذمة في تعاملهم بالربا وشبهه، ولكن من امتنع منهم من دفع ثمن أو مثمون في البيع حُكم بينهم فيه، لأن هذا من التظالم.
ولا يعرض لهم فيما يجري بينهم من فساد بيع أو سلف، إلا أن يتحاكموا إليه، فيكون الإمام مخيراً، إن شاء حكم أو ترك.
قال مالك: وترك الحكم بينهم في ذلك أحبّ إلي، فإن حكم بينهم يحكم بحكم الإسلام، والذين حكم النبي ÷ فيهم بالرجم لم يكونوا أهل ذمة.(3/406)
2983 - وإن وقع رطل من زيت في زق زنبق لرجل، فلك عليه رطل من زيت، فإن أبى أخذت رطلك الذي وقع في الزنبق من الزنبق.
قال سحنون: الزيت قد أعاب الزنبق لا محالة ويُسأل عن الزنبق، فإن كان قد أعاب الزيت كانا شريكين في ثمنه، هذا بقيمة زنبقه معيباً وهذا بقيمة زيته معيباً.
وإن كان الزنبق لا يضر الزيت ولا يعيبه ضرب بقيمة الزيت غير معيب، كالشعير يختلط بالقمح من غير عداء من أربابه، فالقمح لم يعب الشعير، والشعير هو الذي أعاب القمح، فيباع ذلك ويشتركان في ثمنه، هذا بقيمة شعير غير معيب، وهذا بقيمة قمحه معيباً.
2984 - قال مالك - رحمه الله -: ومن اعترفت من يده دابة وقضي عليه، فله وضع قيمتها بيد عدل، ويخرج بها إلى بلد البائع منه لتشهد لبينة على عينها.
وكذلك في العروض أو العبد أو الأمة، إلا أنه في الأمة إن كان أميناً دفعت إليه، وإلا فعليه أن يستأجر معه أميناً.(3/407)
قال مالك - رحمه الله -: ويطبع في أعناقهم، ولم يزل ذلك من أمر الناس، فإن رجع بذلك، وقد أصابه في الحيوان أو في الرقيق عور، أو كسر، أو عجف فهو لها ضامن، ولا يضمن إن نقص سوق ذلك كله، وله رده وأخذ القيمة التي وضع. (1)
* * *
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (5/131) .(3/408)
(كتاب المساقاة)
2985 -[قال مالك - رحمه الله -:] ولا بأس بالمساقاة على أن للعامل جميع الثمرة كالربح في القراض. ولا بأس بمساقاة النخل، وفيها ما لا يحتاج إلى سقي قبل طيبه. وتجوز المساقاة على النصف والثلث والربع وأقل من ذلك أو أكثر.
2986 - وقد ساقى رسول الله ÷ يهود خيبر على شطر ما أخرجت من ثمر أو حب. (1)
قال مالك - رحمه الله -: وكان بياض خيبر يسيراً بين أضعاف السواد. قال:
_________
(1) رواه البخاري (2203) ، ومسلم (1551) .(3/409)
وبذلك قضى أهل العلم أن البياض إذا كان يسيراً، سوقيت بالجزء مما يخرج منها، وإن كان هو الأكثر أكريت بالذهب والورق. (1)
2987 - ولا بأس بمساقاة حائط ببلد بعيد إذا وصف كالبيع، نفقة العامل في خروجه إليه عليه، بخلاف القراض، وهذه سنة المساقاة.
2988 - وما كان في الحوائط يوم عقد المساقاة من رقيق أو دواب لربه، فللعامل اشتراطهم، ولا ينبغي لرب الحائط أن يساقيه على أن ينزع ذلك منه، فيصير كزيادة شرطها، إلا أن يكون قد نزعهم قبل ذلك، وما لم يكن في الحائط يوم العقد، فلا ينبغي أن يشترطه العامل على رب الحائط، إلا بما قَلّ كغلام أو دابة في حائط كبير، ولا يجوز ذلك في صغير. (2)
ورب حائط تكفيه دابة واحدة لصغره، فيصير في هذا يشرط جميع العمل على ربه، فلا يجوز، وإنما يجوز اشتراط ما قل فيما كثر.
2989 - ولا يجوز للعامل أن يشترط على رب المال دواباً أو رقيقاً ليسوا في الحائط، ولا خلف ما أدخل العامل فيه.
وأما ما كان في الحائط يوم التعاقد من دواب ورقيق، فخلف ما مات منهم على
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/379) .
(2) انظر: التقييد (5/133) .(3/410)
رب الحائط، وإن لم يشترط العامل ذلك عليه، إذ عليهم عمل العامل، ولو شرط خلفهم على العامل لم يجز.
2990 - ولو شرط رب المال إخراج رقيقه ودوابه منه، أو اشتراطهم العامل على ربه وليسوا فيه لم يجز، فإن نزل ذلك فللعامل أجر مثله والثمرة لربها، ولا يجوز أن يشترط العامل أن يعمل معه رب الحائط بنفسه، فإن نزل ذلك فله مساقاة مثله، لأن مالكاً أجاز أن يشترط عليه دابة أو غلاماً، إذا كان لا يزول، وإن مات أخلفه له رب الحائط.
2991 - ووجه العمل في المساقاة أن جميع العمل والنفقة وجميع المؤونة على العامل، وإن لم يشترط ذلك عليه، وعليه نفقة نفسه ونفقة دواب الحائط ورقيقه، كانوا له أو لرب الحائط، [ولا يجوز أن يشترط نفقته أو نفقة العامل نفسه على رب الحائط] .
قال ربيعة: ولا بينهما، ولا يكون شيء من النفقة في ثمرة الحائط، ولا أرى للعامل أن يأكل من الثمرة شيئاً.
2992 - والجذاذ والحصاد والدراس على العامل.
وقال في الزيتون: إن شرطا قسمه حباً جاز، وإن شرطا عصره على العامل جاز ذلك.(3/411)
وإن اشترط العامل على رب النخل صرام النخل لم ينبغ ذلك، لأن مالكاً قد جعل الجذاذ مما يشترط على العامل، ولا بأس باشتراط التلقيح على رب المال، فإن لم يشترط فهو على العامل.
2993 - وتجوز مساقاة ما لم يزه من ثمر نخل أو شجر، كما تجوز لو لم تظهر الثمرة، وإذا أزهى بعض الحائط لم تجز مساقاة جميعه لجواز بيعه.
2994 - وإن عجز العامل وقد حل بيع الثمرة لم يجز أن يساقي غيره، ويستأجر من يعمل له، فإن لم يجد إلا أن يبيع نصيبه، ويؤجر به فعل. فإن كان فيه فضل فله، وإن نقص كان [ذلك] في ذمته، إلا أن يرضى رب الحائط أخذه ويعفيه [من العمل] ، فذلك له.
ولمن سوقي في أصل أو زرع مساقاة غيره في مثل أمانته، وإن ساقى غير أمين ضمن.(3/412)
قال ابن أبي سلمة: المساقاة بالذهب والورق كبيع ما لم يبد صلاحه.
ولا يجوز أن يربح في المساقاة إلا [ثمراً] مثل أن يأخذ على النصف ويُعطي على الثلث، أو [يأخذه على النصف ويعطي] على الثلثين، فيربح السدس أو يربح عليه.
2995 - قال ابن القاسم: وإن شرطا أن لأحدهما مكيلة من الثمر معلومة وما بقي بينهما، لم يجز، ويكون للعامل أجر مثله، أثمرت النخل أم لا، وما كان من ثمر فهو لرب الحائط.
وإن شرطا أن للعامل ثمر نخلة معلومة وما بقي بينهما، أو على أن لرب الحائط نصف البرني، وباقي الحائط للعامل لم يجز، لأنه خطر.
ولو شرط العامل أن يخرج نفقته من ثمرة الحائط ثم يقتسمان ما بقي لم يجز.
ومن طابت ثمرة نخله فساقاه هذه السنة، وسنتين بعدها لم يجز، وفسخ.
2996 - وإن جذ العامل الثمرة كان له أجره، وما أنفق فيها، وإن عمل بعد جذاذه الثمرة لم تفسخ بقية المساقاة، وله استكمال الحولين الباقيين، وله فيهما مساقاة مثله،(3/413)
ولا أفسخها بعد تمام الحول الثاني، إذ قد تقل ثمرة العام الثاني، وتكثر في الثالث فأظلمه، وذا كأخذ العروض قراضاً إن أدرك بعد بيعه وقبل أن يُعمل فُسخ، وله أجر بيعه، وإن عمل فله قراض مثله وله أجر بيعه.
2997 - وإذا اشترط رب الحائط على العامل بناء حائط حول النخل، أو تزريعها، أو حفر بئر لسقيها أو لسقي زرع، أو إخراق مجرى العين إليها، لم يجز، ويكون أجيراً إذا كان ما ازداد ربه من ذلك يكفيه به مؤونة ليست بيسيرة.
2998 - وإنما يجوز لرب الحائط أن يشترط على العامل ما تقل مؤونته، مثل: سَرْو الشرب: وهو تنقية ما حول النخل من منافع، وخم العين: وهو كنسها، وقطع الجريد، وإبار النخل: وهو تذكيرها وسد الحظار، واليسير من إصلاح الظفيرة ونحوها مما تقل مؤونته فيجوز اشتراطه على العامل، وإلا لم يجز. (1)
وأجاز مالك لمن انهارت بئره دفع حائطه مساقاة إلى جاره، يسوق ماءه إليه للضرورة.
قال ابن القاسم: ولولا أنه أجازه لكرهته.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/11) ، ومواهب الجليل (5/382) .(3/414)
وإذا اشترط أن يسقي العامل النخل بمائة، ويصرف رب النخل ماءه حيث شاء، لم يجز للزيادة المشترطة، كاشتراط زيادة دينار واحد، وقد يساوي الماء مالاً عظيماً.
2999 - ولا بأس أن يشترطا الزكاة في حظ أحدهما، لأنه يرجع إلى جزء معلوم ساقى عليه، فإن لم يشترطا شيئاً فشأن الزكاة أن يبدأ بها، ثم يقتسمان ما بقي.
3000 - والشأن في المساقاة إلى الجذاذ، ولا تجوز شهراً أو سنة محدودة، وهي إلى الجذاذ، إذ لم يؤجّلا، وإن كانت تطعم في العام [الواحد] مرتين فهي إلى الجذاذ الأول، حتى يشترط الثاني، ويجوز أن يساقيه سنين ما لم تكثر جداً. قيل: فعشرة؟ قال: لا أدري تحديد عشرة ولا ثلاثين ولا خمسين.
3001 - ومن أعطى رجلاً أرضاً يغرسها شجراً كذا ويقوم عليها حتى إذا بلغت الشجرة(3/415)
كانت بيده مساقاة سنين سماها لم يجز، لأنه خطر، ولا يجوز مساقاة نخل أو شجر لم يبلغ حد الإطعام خمس سنين، وهي تبلغه إلى حولين.
3002 - ومن ساقى رجلاً ثلاث سنين فليس لأحدهما المتاركة حتى ينقضي [الأجل] ، لأن المساقاة تلزم بالعقد وإن لم يعمل، وليس لأحدهما الترك إلا أن يتتاركا [جميعاً] ، بغير شيء يأخذه أحدهما من الآخر، فيجوز، وليس هذا بيع ثمر لم يبد صلاحه، إذ للعامل أن يساقي غيره، فرب الحائط كأجنبي إذا تاركه. (1)
3003 - وإذا عجز العامل عن السقي قيل له: ساقِ من شئت أميناً، فإن لم يجد أسلم الحائط إلى ربه ثم لا شيء له ولا عليه، لأنه لو ساقاه إياه جاز كجوازه لأجنبي، ولو اجتمعا على بيع التمر قبل زهوه، أو الزرع قبل طيبه ممن يجذ أو يحصد ذلك مكان جاز ذلك، وما أرى فيه مغمزاً، وما سمعت فيه شيئاً.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/104) ، ومواهب الجليل (5/382) .(3/416)
3004 - ومن ساقيته حائطك، أو أكريته دارك، ثم ألفيته سارقاً لم يفسخ لذلك مساقاة ولا كراء وليتحفظ منه. (1)
وكذلك من باع من رجل سلعة إلى أجل وهو مفلس، ولم يعلم بذلك البائع، فقد لزمه البيع.
3005 - ومن ساقيته حائطك لم يجز أن يقيلك على شيء تعطيه إياه، كان قد شرع في العمل أم لا، لأنه غرر، إن أثمرت النخل فهو بيع الثمرة قبل زهوها، وإن لم تثمر فهو أكل المال بالباطل.
3006 - وما كان [من] سواقط النخل، أو ما يسقط من بلح أو غيره، والجريد والليف وتبن الزرع فبينهما على ما شرطا من الأجزاء.
3007 - وإذا اختلفا في المساقاة فالقول قول العامل فيما يشبه. وإذا ادعى أحدهما فساداً فالقول قول مدعي الصحة. فإن وكلت رجلاً على دفع نخلك مساقاة فقال: دفعتها إلى هذا [الرجل] ، فصدقه الرجل وأكذبته أنت فالقول قوله، كوكيل البيع يقول: بعت، وأنت تنفي أن يكون باع، بخلاف الرسول يقول: دفعت المال، والمبعوث إليه يكذبه. وهذا لم يكذبه المبتاع، فإن لم يقم الرسول البينة بالدفع ضمن.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/387) .(3/417)
3008 - ولا يجوز أن تدفع إلى رجل حائطين مساقاة أحدهما على النصف، والآخر على الثلث في صفقة [واحدة] ، وهو خطر في أن يثمر أحد الحائطين دون الآخر.
ولا بأس أن يكونا على جزء واحد، وإن كان أحدهما أفضل من الآخر مما لو أفرد لسوقي هذا على الثلث وهذا على الثلثين.
وقد كان في خيبر الجيد والرديء حين ساقاها النبي ÷ كلها على الشطر.
ومن ساقى رجلاً نخلاً على النصف، وزرعاً على الثلث لم يجز، حتى يكونا على جزء واحد جميعاً ويعجز عن الزرع ربه، وإن كانا في ناحيتين وذلك كحائطين متفرقين.
3009 - ولا يجوز أن يساقيه حائطاً على أن يعمل له في حائط آخر بغير شيء، والنخل بين الرجلين لا بأس أن يسقيها أحدهما الآخر.(3/418)
3010 - ويجوز للوصي دفع حائط الأيتام مساقاة، لأن بيعه وشراءه لهم جائز. وللمأذون له دفع المساقاة أو أخذها.
3011 - وللمديان دفع المساقاة ككرائه لأرضه وداره، ثم ليس لغرمائه فسخ ذلك، [ولو ساقى أو أكر بعد قيامهم فلهم فسخ ذلك] .
3012 - وللمريض أن يساقي نخله كما يجوز بيعه، إلا أن يحابي فيه فيكون ذلك في ثلثه.
ويجوز للرجلين أن يأخذا حائطاً مساقاة من رجل، وكذلك حائط لقوم يجوز أن يساقوه لجماعة أيضاً.
3013 - وإذا مات العامل في النخل قيل لورثته: اعملوا كعمله، فإن أبوا لزم ذلك في ماله، وإن كانوا غير مأمونين لم يأخذوه وأتوا بأمين.
وإن مات رب المال أو العامل لم تنتقض المساقاة بموت واحد منهما.
وليس للعامل أن يعري من الحائط، إذ ليس له نخلة معينة، إلا أن يعريه حظه من نخلات معينات فيجوز.(3/419)
3013 - ولا بأس بمساقاة شجر البعل التي على غير ماء، لأنها تحتاج إلى عمل ومَؤُونة كشجر إفريقية والشام. قيل: فزرع البعل كزرع إفريقية ومصر وهو لا يسقى؟ قال: إن احتاج من المؤنة إلى ما يحتاج إليه شجر البعل، ويخاف هلاكه إن ترك جازت مساقاته، وإن كان لا مؤونة فيه إلا حفظه [وحصاده] ودراسه لم يجز، وتصير إجارة فاسدة، وليس زرع البعل كشجره، وإنما تجوز مساقاة زرعه على الضرورة والخوف عليه، ولا بأس بمساقاة نخلة أو نخلتين، أو شجرة أو شجرتين.
3014 - وكره مالك أخذك من نصراني مساقاة أو قراضاً، ولست أراه حراماً.
ولا بأس أن تدفع نخلك إلى نصراني مساقاة إن أمنت أن يعصره خمراً.
3015 - وإن فلس رب الحائط لم تفسخ المساقاة، كان قد عمل العامل أم لا، ويقال للغرماء: بيعوا الحائط على أن هذا مساقى فيه. قيل: لم أجزته؟ ولو أن رجلاً باع حائطه واستثنى ثمرته لم يجز؟ قال: هذا وجه الشأن فيه.(3/420)
وذكر أجير السقي والصباغ والأكرية في كتاب التفليس.
3016 - ومن أخذ نخلاً مساقاة وفيها بياض يسير، على أن يزرعه العامل ببذره، أو ببذر ربه، ويعمل فيه العامل على أن ما أنبتت فلرب النخل، لم يجز، كزيادة يسيرة تشترط على العامل. ولا يجوز أن يشترط فيه نصف البذر على رب الحائط، أو حرث البياض فقط، وإن جعلا الزرع بينهما. وإن كان على أن يزرعه العامل من عنده ويعمله، وما أنبتت [الأرض] فبينهما فجائز.
3017 - قال مالك - رحمه الله -: وأحب إلي أن يلغى البياض فيكون للعامل، وهذا أَحَلُّه.
وإن ساقاه زرعاً فيه بياض، وهو تبع له، جاز أن يشترط العامل ليزرعه لنفسه خاصة، كبياض النخل، ولو كان في الورع شجر متفرقة هي تبع له، جاز أن(3/421)
تشترط على ما اشترطا في الزرع، ولا ينبغي أيشترطها العامل لفسه وإن قلّت، بخلاف البياض.
ولا يجوز على أن ثمرتها لأحدهما دون الآخر، وإنما يجوز على أن ثمرتها بينهما على ما شرطا في الزرع.
3018 - ومن أخذ نخلاً مساقاة خمس سنين، وفيها بياض تبع لها على أن يكون البياض أول سنة للعامل يزرعه لنفسه، ثم يعود لرب الحائط يزرعه لنفسه باقي السنين، لم يجز، لأنه خطر.
ومن أخذ حائطين مساقاة على النصف، على أن يعمل أول سنة فيهما ثم يرد أحدهما في العام الثاني ويعمل في الآخر لم يجز، لأنه خطر.
3019 - ولا تجوز مساقاة الزرع إلا أن يعجز عنه ربه، وإن كان له ما يسقيه به، لأنه قد يعجز ربه عن الدواب والأجراء، وكذلك إن كان ماؤه سيحاً، فعجز عن الأجراء، وإنما تجوز مساقاته إذا استقل من الأرض، وإن أسبل إذا احتاج إلى الماء وإن تُرك مات، وأما بعد جواز بيعه فلا تجوز مساقاته. والمساقاة في كل ذي أصل من الشجر جائزة ما لم يحل بيع ثمرها [فلا تجوز مساقاته] .(3/422)
ولا بأس بمساقاة الورد والياسمين والقطن. وأما المقاثي والبصل وقصب السكر، فكالزرع يساقى إن عجز عنه ربه. وإذا حلّ بيع المقاثي لم يجز مساقاتها، وإن عجز عنها أيضاً. وكذلك كل ما حل بيعه، وإنما تجوز مساقاتها قبل أن يحل بيعها.
3020 - ولا تجوز مساقاة القصب، لأنه يسقى بعد جواز بيعه، وكذلك القرظ والبقل والموز، وإن عجز عن ذلك ربه، لأن ذلك كله بطن بعد بطن، وجزة بعد جزة، وليس كثمرة ذات أصل تجتنى في مرة، ويتفاوت طيبها، ولكن من شاء اشترى ذلك واشترط خلفته على ما يجوز.
3021 - ولا بأس بمساقاة نخل تطعم في السنة مرتين، كما تجوز مساقاة عامين، وليس ذلك مثل ما كرهنا من مساقاة القصب، لأن القصب يحل بيعه، وبيع ما يأتي بعده. والشجر لا تباع ثمرتها قبل أن تزهي.
3021 - ولا تجوز مساقاة شجر الموز، وإن عجز عنها ربها، وإن لم يكن فيها ثمرة.(3/423)
ولا بأس بشراء الموز في شجره إذا حل بيعه، ويستثني من بطونه خمسة أو عشرة بطون، أو ما تطعم هذه السنة، أو سنة ونصف، وذلك معروف والقصب مثله.
وأصل قولهم في المساقاة أن كل ما يجزّ أصله فيخلف لا تجوز مساقاته، وكل ما تجنى ثمرته ولا يخلف وأصله ثابت أو غير ثابت فمساقاته جائزة.
* * *(3/424)
(كتاب الجوائح)
3022 - وما بيع مما يطعم بطوناً كالمقاثي والورد والياسمين وشبه ذلك، أو من الثمار مما لا يخرص ولا يدخر، وهو مما يطعم في كره إلا أن طيبه يتفاوت، ولا يحبس أوله على آخره، كالتفاح والأترج والخوخ [والتين] والموز ونحو ذلك، فإن أجيح شيء من ذلك نظر، فإن كان ما أصابت منه الجائحة قد ثلث الثمرة في النبات فأكثر، في أول مجناه أو في وسطه أو في آخره، حطّ من الثمن قدر قيمته في زمانه من قيمة باقيه، كان في القيمة أقل من الثلث أو أكثر. (1)
وإن كان المجاح من الجميع أقل من الثلث في كيل، أو وزن، لا في القيمة، فلا توضع فيه جائحة، نافت قيمته على الثلث أو نقصت، مثل أن يبتاع مقثاة بمائة درهم فأجيح بطن منها، ثم جنى بطنين، فإن كان المجاح مما لم يجح قدر ثلث النبات بعد معرفة ناجية النبات، وضع عنه قدره، وقيل: ما قيمة المجاح في زمانه؟ فإن قيل: ثلاثون، والبطن الثاني عشرون، والثالث عشرة
_________
(1) انظر: المدونة (12/25) ، ومواهب الجليل (4/505) ، وشرح حدود ابن عرفة (ص401) .(3/425)
[في زمانيهما] لغلاء أوله وإن قل، ورخص آخره وإن كثر فيرجع بنصف الثمن، وكذلك لو كان المجاح تسعة أعشار القيمة لرجع بمثله من الثمن، وإن كان أقل من الثلث في النبات لم يوضع فيه شيء، وإن كانت قيمته تسعة أعشار الصفقة، وكذلك فيما يتفاوت طيبه مما ليس بطناً بعد بطن.
وراعى أشهب في وضع الجائحة القيمة فيما بلغ عنده في القيمة الثلث فأكثر، وضع عنه حصته من الثمن وإن نقص من الثلث في النبات، ولا يوضع ما نقص عن ثلث القيمة وإن جاوز الثلث في النبات. قال: لأنها حينئذ ليست مصيبة عليه.
وما كان بطناً واحداً فثلث الثمرة بثلث الثمن، إذا كانت الثمرة صنفاً واحداً لا تقويم في ذلك.
3023 - قال ابن القاسم: وأما ما بيع من الثمر مما ييبس ويدخر ويترك حتى يجذ جميعه، مما يخرص أم لا، كالعنب والنخل والزيتون واللوز والفستق والجوز وما أشبه ذلك، فأصابت الجائحة قدر ثلث الثمرة فأكثر، في كيل أو مقدار لا في القيمة، وضع عن المبتاع قدر ذلك من الثمن، فإن أجيح أقل من ثلث الثمرة في المقدار لم يوضع عنه لذلك شيء، ولا تقويم في هذه الأشياء، لأن لمبتاعها تعجيل جذها وتأخيره حتى تيبس. (1)
_________
(1) انظر: التقييد (5/5) .(3/426)
وأما التفاح [والرمان] والخوخ والأترج والموز والمقاثي وشبهها، فإنما تشترى على طيب بعضه بعد بعض، ولو ترك أوله حتى يطيب آخره كان فساداً لأوله.
وإن كان في الحائط أصناف من التمر، برني وصيحاني وعجوة وشقيم وغيره، فأجيح أحدهما، فإن كان قدر الثلث في الكيل من الأصناف، وضع من الثمن قدر قيمته من جميعها، ناف على ثلث الثمن أو نقص.
وأصل قول مالك - رحمه الله -[في هذا] أن ينظر، فكل ما يقدر على ترك أوله على آخره ولا يكون فساداً حتى ييبس، فهو بمنزلة النخل والعنب، وكل ما لا يستطاع ترك أوله على آخره حتى ييبس في شجره، فهو كالمقاثي.
3024 - وإن اشترى أول جزة من الفصيل فأجيح ثلثها، فثلث الثمن موضوع بغير قيمة.
ولو شاء فصله يوم الشراء وقد أدرك جميعه، ولو اشترط خلفته كان(3/427)
كالمقاثي، إن أجيح قدر الثلث من أوله أو من خلفته، على ما ذكرنا في التقويم. وهكذا يحسب فيمن اكترى أرضاً سنين، فتعطش منها سنة، أو ربعاً [كدور مكة] ، فتخرب في بعض السنين إن كانت السنون تختلف قيمتها في الكراء.
قيل: فالتين أيضاً [أليس] مما يطعم بعضه بعد بعض، وهو مما يدخر فييبس، فكيف يعرف شأنه؟ قال: يُسأل عنه أهل المعرفة.
ومن اشترى مقثاة وفيها بطيخ وقثاء فأجيح أول بطن منها، فإن كانت قدر الثلث فأكثر من باقي البطون فكما ذكرنا.
3025 - وأما جائحة البقول كالسلق والبصل والفجل والجزر والكراث وغيره، فيوضع قليل ما أجيح فيه وكثيره.(3/428)
وروى علي بن زياد وابن أشرس عن مالك: أنها لا توضع جائحة البقول حتى تبلغ الثلث.
3026 - ومن ابتاع فولاً أخضر أو قطنية على أن يقطعها خضراء، فذلك جائز، وتوضع فيه الجائحة إن بلغت الثلث وضع عنه ثلث الثمن، ولا يجوز اشتراط تأخيره حتى ييبس.
ولا توضع في القصب الحلو جائحة، إذ لا يجوز بيعه حتى يطيب ويمكن قطعه وليس ببطون. (1)
قال سحنون: وقد قال ابن القاسم: توضع جائحة القصب الحلو، وهو أحسن.
3027 - وكل ما لا يباع إلا بعد يبسه من الحبوب، من قمح، أو شعير، أو قطنية وشبهها
_________
(1) انظر: منح الجليل (5/283) .(3/429)
من [الحبوب] ، أو سمسم، أو حب فجل الزيت، فلا جائحة في ذلك، وهو بمنزلة ما لو باعه في الأنادر.
وما بيع من ثمر نخل، أو عنب وغيره بعد أن ييبس فصار تمراً أو زبيباً، فلا جائحة فيه.
ولو اشترى ذلك حين الزهو ثم أجيح بعد إمكان الجذاذ [واليبس] فلا جائحة فيه، وكأنك ابتعتها بعد إمكان الجذاذ واليبس.
ولا جائحة فيما بيع بأصله ولم يؤبر، ولا فيما اشترطه المبتاع مع الرقاب مما أبر، وهو بلح، أو بسر، أو رطب، أو تمر، وهو لغو، وإن أوجبها الاشتراط، وهو كمكتري الدار فيها نخل لم يطب، وهي تبع للكراء، فإن اشترطها فذلك جائز، ولا جائحة في ثمرها، إذ لا حصة لذلك من الثمن في الكراء، وكمن ابتاع عبداً فاستثنى ماله، ثم هلك ماله ثم رده بعيب، فإنه يرجع بجميع الثمن، ولا يحط لمال العبد من الثمن شيء، إذ لا حصة له منه.(3/430)
3028 - ومن ابتاع زرعاً لم يبد صلاحه على أن يحصده، ثم اشترى الأرض جاز أن يبقيه فيها حتى يبلغ.
وكذلك لو ابتاع نخلاً قد أبرت، ولم يشترط الثمرة فله شراؤها قبل الزهو، كما كان له جمعها في أول الصفقة، ثم لا جائحة فيهما، إذ كأنهما في صفقة.
ومن ابتاع ثمرة نخلة واحدة ففيها الجائحة إن بلغت ثلث ثمرتها، ووضع الجائحة.
3029 - وتوضع الجائحة عن مشتري [ما] أعرى من العرية بخرصها مثل ما يوضع عنه في الشراء سواء.
ومن أسلم في حائط بعينه فأجيح بعضه أتبعه بحقه في بقيته، لأنه على كيل، بخلاف مبتاع جميع ثمرته، هذا إن أصاب الحائط جائحة أذهبت ثلثه، وضع عنه ثلث الثمن.(3/431)
3030 - ومن اشترى ثمرة نخل قبل أن يبدو صلاحها وشرط تأخيرها، فأصابت الثمرة جائحة بعد ما بدا صلاحها، فهي من البائع وإن كانت أقل من الثلث، إذ هو بيع فاسد لم يقبضه مبتاعه، ولو اشتراه على الجذ مكانه [قبل أن يطيب] فأُجيح قبل الجذ وضعت فيه الجائحة إن بلغت الثلث، كالثمار لا كالبقل. (1)
وكذلك إن اشترى بلح جميع الثمار أو اشترى ما لم يطب من جوز [ولوز] [وجِلَّوْزٍ] وفستق على أن يجذه، فأجيح قبل الجذ، فهو كالثمار، وتوضع فيه الجائحة [إن بلغت الثلث] .
3031 - وكل ما جاء من الله عز وجل فهو جائحة، كالجراد والريح والنار والغرق والبرد والمطر والطين الغالب والدود وعفن الثمرة في الشجر، والسموم، [فذلك جائحة توضع عن المبتاع إن أصابت الثلث فصاعداً] .
وأما إن هلكت [الثمرة] من انقطاع ماء السماء أو انقطع عنها عين سقيها،
_________
(1) انظر: شرح الزرقاني (2/174) ، والتاج والإكليل (4/209) ، والمدونة الكبرى (12/34) .(3/432)
فذلك يوضع قليل ما هلك بسببه وكثيره، بخلاف الجوائح، لأنه باعها على حياتها من الماء، فما كان من قبل الماء فهو من البائع.
والجيش والسارق جائحة. ولم ير ابن نافع السارق جائحة.
3032 - قال مالك - رحمه الله -: وتوضع الجائحة في المساقاة. وحفظ سعد عن مالك: أنه إن أجيح دون الثلث لم يوضع عنه شيء من سقي الحائط [كله] ، وإن كان الثلث فأكثر خيّر، فإن شاء سقى جميع الحائط، وإلا ترك جميعه.(3/433)
3033 - قال مالك: ومن اكترى أرضاً فيها سواد قدر الثلث فأدنى فاشترطه جاز ذلك [قال ابن القاسم: فإن اشترط ذلك فأثمر السواد، ثم أصابت جميع ثمره جائحة، فلا جائحة في ثمره، لأن السواد كان ملغىً] ، ولا جائحة في ثمرته. وإن لم يكن ذلك السواد تبعاً فاشترط ثمرته، فإن لم تزه فسدت الصفقة كلها، فإن أزهى جازت.
3034 - فإن أصابت الثمرة جائحة نظر إلى قيمة الثمرة، وإلى مثل كراء الأرض يوم الصفقة، فيقسم الثمن على ذلك، فما قابل الثمرة منه فهو ثمنها، فإن أصابت الجائجة ثلث الثمرة وضع عنه ثلث حصة الثمرة، من جميع الثمن الذي نقد في الكراء.
وإن أصابت الجائحة أقل من ثلث الثمرة لم يوضع عنه قليل ولا كثير. (1)
* * *
_________
(1) انظر: منح الجليل (5/311) .(3/434)
(كتاب كراء الرواحل والدواب)
3035 - ومن اشترى عبداً واكترى راحلة بعينها إلى مكة بمائة دينار في صفقة واحدة، جاز ذلك إن لم يشترط خلف الراحلة إن هلكت، وإن اشترط ذلك لم يجز إلا أن يكون الكراء مضموناً في أصل الصفقة.
3036 - وكراء الدواب على وجهين: مضمون في ذمة، أو في دابة بعينها، فالدابة المعينة إن هلكت انفسخ الكراء، ولا يأتي بغيرها، إلا أن يشترط البلاغ وهو المضمون، فإن اشترط في المعينة إن ماتت أتاه بغيرها، لم يجز، والدابة هاهنا كالراعي لا يشترط إن مات أن يؤتى ببديل من ماله، وتفسخ الإجارة بموته. (1)
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/425) ، والشرح الكبير (4/34) ، ومواهب الجليل (5/436) ، ومختصر خليل (1/247) .(3/435)
وإذا استؤجر لغنم يرعاها أو دواب يقوم عليها، فماتت الغنم والدواب لم تنفسخ الإجارة، وإنما تنفسخ الإجارة بموت الأجير لا بموت المستأجر عليه.
3037 - ومن باع دابة واستثنى ركوبها يوماً أو يومين، أو أن يسافر عليها اليوم، أو إلى المكان القريب، جاز ذلك، ولا ينبغي ما بَعُد، إذ لا يدري المبتاع كيف ترجع إليه، وضمانها من المبتاع فيما يجوز استثناؤه، ومن البائع فيما لا يجوز استثناؤه.
3038 - ومن اكترى راحلة بعينها على أن يركبها إلى اليوم واليومين وما قرب، جاز ذلك، وجاز فيه النقد. وإن كان الركوب إلى شهر أو شهرين، جاز ما لم ينقده. وقال غيره: لا يجوز.
3039 - ولا يصلح النقد في كراء الخيار، إلا أن يشترط الخيار في مجلسهما ذلك قبل أن يفترقا.
وإن اكتريت ن رجل دابة بعينها، أو داراً فباعها ربها، أو وهبها،(3/436)
أو تصدق بها، لم يجز ذلك، لأن المكتري أحق بهما في الموت والفلَس بقية المدة، كطعام بعينه مات بائعه، أو فلس قبل كيله، فمبتاعه أحق به من الغرماء حتى يستوفي حقه.
3040 - وإن ذهب مبتاع الدابة بها فلم يوجد، فسخ الكراء وترجع فيما نقدت. ولو قدرت عليها وربها غائب فأقمت بينة على كرائك كنت أحق بها، ونقض البيع، وللمبتاع الرضا بتأخيرها إلى تمام مسافتك إن قربت، وإن بعدت لم يجز.
3041 - ومن اكترى دابة لركوب أو حمل، أو داراً، أو استأجر أجيراً بشيء بعينه من عرض، أو حيوان، أو طعام، فتشاحا في النقد ولم يشترطا شيئاً، فإن كانت سنة البلد في الكراء على النقد جاز، وقضي بقبضها، وإن لم تكن سنتهم النقد فيه لم يجز الكراء وإن عجلت هذه الأشياء، إلا أن يشترط النقد في العقد. كما لا يجوز بيع ثوب، أو حيوان بعينه على أن لا يقبض إلا إلى شهر ويفسخ.
قال ابن القاسم: وإن اكترى ما ذكرنا بدنانير معينة ثم تشاحّا في النقد، فإن كان الكراء في البلد بالنقد قضي بنقدها، وإلا لم يجز الكراء، إلا أن يعجلها، كقول مالك فيمن ابتاع سلعة بدنانير له ببلد آخر عند قاض أو غيره، فإن شرط ضمانها إن(3/437)
تلفت جاز، وإلا لم يجز البيع، [فأرى] إن كان الكراء لا ينقد في مثله فلا يجوز، إلا أن يشترط في الدنانير إن تلفت فعليه مثلها.
ولا يجوز اشتراط هذا في طعام ولا عرض في بيع ولا كراء، لأنه مما يبتاع لعينه، فلا يدري أي الصفقتين ابتاع، ولا يراد من المال عينه. وقال غيره في الدنانير: هو جائز. وإن تلفت فعليه الضمان.
3042 - قال ابن القاسم: ومن اكترى إلى مكة بعرض بعينه، أو بطعام بعينه، أو بدنانير معينة والكراء عندهم ليس على النقد، فقال المكتري: أنا أعجل العرض والدنانير والطعام، ولا أفسخ الكراء، فلا بد من فسخه لفساد العقد.
وقال غيره مثله، إلا في الدنانير فإنه جائز عنده.
3043 - قال ابن القاسم: وإن اكترى بهذه المعينات من عرض ونحوه، وشرط عليه أن لا ينقد ذلك إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام، لم يعجبني ذلك، إلا لعذر من ركوب دابة ولبس ثوب إن كان مما يلبس وخدمة عبد وغيره، أو توثقا حتى يشهدا فذلك جائز،(3/438)
وإن لم يكن لشيء من ذلك كرهته، ولا أفسخ به البيع، ولا أحب أن يعقد الكراء على هذا.
وقد أجاز مالك تأخير الكيل اليوم واليومين للمشتري من صبرة معينة، ورأى في المشترط إن لم يأت بالثمن إلى أيام فلا بيع، له انفاذ البيع وسقوط الشرط، عجل النقد أو أخّره، ويقضى عليه بالنقد، وأما الدنانير المعينة فلا يعجبني تأخيرها اليوم واليومين، إلا أن يشترط المكتري ضمانها، أو يضعها رهناً بيد غيره، ولم يكرهه غيره، وإن بقيت بيده، لأنه لو ابتاع بها بعينها فاستحقت لقضي عليه بمثلها، والبيع تام.
3044 - قال ابن القاسم: وإذا هلك هذا العرض المعين بيد المكترى له، وقد شرط حبسه للوثيقة، أو للمنفعة، [فهو من المكري، لأنه أمر يعرف هلاكه، ولو حبسه المكتري وهو مما يُغاب عليه للوثيقة فهلك بيده] ، كان منه إن لم يعرف هلاكه وانتقض الكراء، ولا يقال له: إيت بمثله، وكذلك إن استحق في هذا، أو إذا كان رأس مال السلم، وكذلك في المبيع يحبسه البائع لنفعه به،(3/439)
أو للثمن، فهو منه إلا أن تقوم بينة بهلاكه، فيكون كالحيوان ضمانه من المبتاع والبيع تام.
3045 - ولا يجوز اشتراط ضمان ما هلك مما يتأخر قبضه اليوم واليومين، إلا في العين وحده.
قال غيره في الثياب والحيوان وما لا يكال أو يوزن من العروض: يحبسها البائع لركوب، أو لباس ثوب، أو نفع، أو خدمة [عبد وغير ذلك] ، بشرط يوم أو يومين، فالنقد في ذلك جائز لقربه، وضمانها من المبتاع، لأنه كأنه قبضه وتلف في يديه، وكذلك إن اكترى بها دابة أو داراً وحبسها لذلك.
3046 - قال ابن القاسم: ومن اكترى من رجل دابة إلى موضع كذا بثوب مروي ولم يصف رفعته وذرعه، لم يجز كالبيع.
3047 - ولا بأس أن تكتري إبلاً من رجل على أن عليك رحلتها. أو تكتري دابة بعلفها، أو أجيراً بطعامه، أو إبلاً على أن عليك علفها وطعام ربها، أو على أن عليه هو طعامك ذهاباً وراجعاً، فذلك جائز، وإن لم توصف النفقة، وذلك معروف، والزوج إذا تزوج لا يحد للزوجة نفقة. (1)
_________
(1) انظر: التقييد (5/151) .(3/440)
3048 - ولا بأس أن يؤاجر الحر أو العبد أجلاً معلوماً بطعامه في الأجل، أو بكسوته [فيه] ، وكذلك إن كان مع الكسوة أو الطعام دنانير، أو دراهم، أو عروض بعينها، جاز ذلك إذا كانت العروض معجلة، وإن كانت عروضاً مضمونة بغير عينها جاز تأخيرها إن ضربا لذلك أجلاً.
3049 - ومن اكترى دابة ليركبها في حوائجه شهراً، فإن كانت على ما يركب الناس الدواب جاز، وكذلك إن اكتراها لطحين قمح شهراً بعينه ولم يذكر كم يطحن كل يوم، جاز، لأن وجه طحين الناس معروف.
3050 - ومن استأجر دوابّ لرجل واحد في صفقة ليحمل عليها مائة إردب قمحاً، ولم يسم ما تحمل كل دابة، جاز ذلك، وليحمل على كل دابة بقدر قوتها.
وإن كانت الدواب لرجال شتى وحملها مختلف، لم يجز، إذ لا يدري كل واحد بم أكرى دابته كالبيوع. ولا يجوز كراء دابة ليشيِّع عليها رجلاً حتى يسمي منتهى التشييع.
قال غيره: إلا أن يكون مبلغ التشييع بالبلد قد عرف فلا بأس به.(3/441)
3051 - ومن اكترى دابتين، واحدة إلى برقة وأخرى إلى إفريقية، لم يجز حتى يعين [التي إلى برقة] والتي إلى إفريقية.
3052 - وإن اكتريت من رجل على أنه إن أدخلك مكة في عشرة أيام فله عشرة دنانير، وإن أدخلك في أكثر فله خمسة دنانير، لم يجز، ويفسخ قبل الركوب، وإن نزل ذلك وبلّغك إلى مكة، فله كراء مثله في سرعة السير وإبطائه، ولا ينظر إلى ما سميتما.
ومن اكترى دابة ولم يسم ما يحمل عليها، لم يجز، إلا من قوم قد عرف حملهم، فذلك لازم على ما عرفوا من الحِمل.
قال غيره: ولو سمى حمل طعام أو بز أو عطر، جاز، وحملها قدر مثلها.
ولو قال: احمل عليها حمل مثلها مما شئت، لم يجز، لاختلاف ضرر الأشياء في الحمل، وكذلك ليركبها إلى أي بلد شاء، لم يجز، لاختلاف الطرق بالسهولة والوعورة، وكذلك الحوانيت والدور، وكل ما يتباعد الاختلاف فيه، لأن في ذلك(3/442)
ما هو أضر بالجدران، ولأن رب الدابة والمسكن باع من منافعهما ما لا يدري، ألا ترى أن من حمل ما ليس بأضر مما شرط لم يضمن، كمن اكترى [دابة] ليحمل حنطة، فحمل مكانها شعيراً مثله، أو سمسماً لم يضمن إن عطبت الدابة.
وكذلك إن اكتراها على أن يحمل شطوياً فحمل عليها بغدادياً أو بصرياً أو ما أشبهه من نحوه وخفته وثقله، لم يضمن.
3053 - ولو حمل رصاصاً أو حجارة بوزن ذلك فعطبت ضمن، لاختلاف ما بين ذلك.
3054 - قال ابن القاسم: ومن تكارى من رجل إلى مكة بمثل ما يتكارى الناس، لم يجز.
ومن أكرى إبله بطعام مضمون ولم يضرب له أجلاً، ولا ذكر موضع قبضه، فإن [لم] يكن للناس في ذلك سُنة معروفة، لم يجز، إلا أن يتراضوا على أمر جائز.
وإن اكترى المشاة على حمل أزوادهم على أن لهم حمل من مرض منهم، لم يجز.
3055 - ومن اكترى من رجل دابة على أنه إن بلغه موضع كذا يوم كذا، وإلا فلا كراء له، لم يجز.(3/443)
وكل من ركب أو حُمل في كراء فاسد فعليه كراء المثل.
3056 - وإذا تكارى قوم دابة ليزفوا عليها ليلتهم عروساً فلم يزفوها تلك الليلة فعليهم الكراء.
ومن أكرى دابة ليشيع عليها رجلاً إلى موضع معروف، أو ليركبها إلى موضع [معلوم] سمّاه، فبدا له أو للرجل، فقد لزمه الكراء، وليكر الدابة إن شاء إلى الموضع في مثل ما اكترى. (1)
وإن اكتراها ليركبها يومه بدرهم، فأمكن منها فلم يركبها حتى مضى اليوم، لزمه الكراء.
3057 - وإن اكتراها إلى حج أو إلى بيت المقدس، فعاقه مرض أو سقط أو مات أو عرض له غريم حبسه في بعض الطريق، فالكراء عليه، وله كراء الدابة، أو لورثته في مثل ما اكترى من مثله، وصاحب الإبل أولى بما على إبله من الغرماء حتى يقبض كراه، وللغرماء أن يكروها في مثل ما اكترى.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/414، 437) ، والمدونة الكبرى (14/360) .(3/444)
3058 - وإن اكتريت ثوراً لتطحن عليه إردبين كل يوم بدرهم، فوجدته لا يطحن إلا [إردباً، فلك رده، وعليه في الإردب نصف درهم، وإن اكتريت دابة بعينها أو بعيراً بعينه فإذا هو] عضوض أو جموح أو لا يبصر بالليل، أو دُبر تحتك دبرة فاحشة يؤذيك ريحها، فما أضر من ذلك براكبها فله فيه الفسخ، لأنها عيوب، والكراء [فيها] غير مضمون.
3059 - وإذا مرض العبد في مدة الإجارة، فسخ الكراء وسقط عنك كراء أيام مرضه، [إلا أنه] إذا صح في بقية المدة عاد إلى عمله.
وإذا اعتلت الدابة المكتراة في الطريق فسخ الكراء، [وإن صحت بعد ذلك لم يلزمه] كراؤها بقية الطريق، بخلاف العبد، للضرر في صبر المسافر عليها، وهي إن صحت لم تلحقه، وإن لحقته فلعله قد اكترى غيرها، ولو رضي المكتري بالمقام عليها وأبى ربها إذا مرضت إلا بيعها، فإن كان مرضاً يرجى برؤه إلى ما قرب من اليومين ونحوهما مما لا ضرر فيه على المكتري حُبس لذلك، فإن كان فيه ضرر فسخ.(3/445)
3060 - وإن اكتريت دابة بعينها فليس لربها أن يحمل تحتك متاعاً، ولا يردف رديفاً، وكأنك تملك ظهرها، وكذلك السفينة، وإن حمل في متاعك على الدابة متاعاً بكراء، أو بغير كراء فلك كراؤه، إلا أن تكون اكتريت منه حمل أرطال مسماة، فالزيادة له. (1)
قال أشهب: إن أكراه ليحمله وحده أو مع متاعه فكراء الزيادة للمكري وقد كان للمكتري منعه من الزيادة عليها [إذا أكراه الدابة] .
3061 - ومن اكترى دابة ليركبها فحمل [مكانه] مثله في الخفة والأمانة، لم يضمن. وإن أكرى ممن هو أثقل منه أو من غير مأمون، ضمن.
وإن أكرى من غير مأمون فادعى تلف الدابة لم يضمن الثاني، إلا أن يأتي من سببه أو يتبين كذبه.
ويضمن المكتري الأول لربها [قيمتها] بتعديه، وأكره له أن يكري من
_________
(1) انظر: كفاية الطالب (2/253) ، وحاشية الدسوقي (4/35) ، والفواكه الدواني (2/113) ، والمدونة الكبرى (11/476، 500) .(3/446)
غيره، إذ قد يكري منه لحاله وحسن ركوبه، فإن فعل لم يضمن إن حمل مثله في الثقل والحال، وأما في موته فلورثته حمل مثله، وأكثر قول مالك أن ذلك له في الحياة.
ومن اكترى من رجل على حمولة إلى بلد فليس له صرفها إلى غير البلد الذي اكترى إليه، وإن ساواه في المسافة والصعوبة والسهولة، إلا بإذن الكري، ولم يجزه غيره وإن رضيا، لأنه فسخ دين في دين، إلا بعد صحة الإقالة.
وإذا زاد المكتري على الدابة في الحمل الذي شرط فعطبت، فإن زاد ما تعطب(3/447)
في مثله خُيّر ربها بين أخذ المكتري بقيمة كراء ما زاد على الدابة بالغاً ما بلغ مع الكراء الأول، أو قيمة الدابة يوم التعدي، ولا كراء له، فإن زاد ما لا تعطب في مثله، فله كراء الزيادة [بالغاً] ما بلغ فقط مع كرائه الأول، ولا ضمان عليه، وكذلك الرديف فيما ذكرنا.
3062 - وكذلك لو اكتراها ليشيع عليها رجلاً، فأردف خلفه رجلاً فعطبت، فينظر إن عطبت لذلك، كما ذكرنا، وأما زيادة الحاج في وزن الزاملة أكثر من شرطه مما تعطب في مثله، قال مالك: فليس ذلك كغيره، وقد عُرفت للحاج زيادات من السفر والأطعمة ولا ينظر فيها المكاري، ولا يعرف ما حمل، فلا ضمان عليه في ذلك.
قال: وذلك إذا كان الكري قد رأى ذلك وحمله فالضمان ساقط، وإذا بلغ المكتري الغاية التي اكترى إليها ثم زاد ميلاً ونحوه [فعطبت الدابة] ، فلربها كراؤه الأول، والخيار في أخذ [قيمة] كراء الميل الزائد ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي، ولو ردها بحالها بعد زيادة ميل أو أميال، أو بعد أن حبسها اليوم ونحوه، لم يضمن إلا كراء زيادة الأمد.
3063 - وإن اكتراها يوماً فحبسها أياماً أو شهراً وردها بحالها، فلربها كراء اليوم، والخيار(3/448)
في أخذ قيمتها يوم التعدي، أو قيمة كرائها فيما حبسها فيه من عمل، أو [قيمة] حبسه إياها بغير عمل ما بلغ ذلك، وإن لم تتغير.
قال غيره: إن كان ربها حاضراً معه بالمصر فإنما له عليه فيما حبسها بحساب كرائها الأول، وكأنه رضي به، لأنه كان قادراً على أخذها، وإن كان غائباً عنه ورد الدابة بحالها، فله في الزيادة الأكثر من قيمة كراء ذلك أو من حساب الكراء الأول، عمل عليها شيئاً أو لا، وإن شاء فقيمة الدابة يوم حبسها والكراء الأول له في كل حال. (1)
3064 - قال ابن القاسم: ومن اكترى دابة لحمل محمل، فحمل عليها زاملة فعطبت، فإن كان ذلك أقل ضرراً من المحمل أو مساوياً له، لم يضمن، وإن كان أضر ضمن.
وكذلك حمله مكان كتان صوفاً، أو مكان بَزّ دُهْناً، أو مكان دهن رصاصاً، فربما تساوى الوزن وتفاوت الضرر، لأن ما حمل أضر لجفائه، أو لأنه
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/44) ، ومواهب الجليل (5/439) ، والمدونة الكبرى (11/482) .(3/449)
أضغط لظهور الدواب، كالرصاص ونحوه، وكذلك إن اكترى ليركب، فحمل غيره أثقل أو أضر منه، فما ضَمّنْته به من ذلك كله، فإن لرب الدابة إن شاء كراء الفضل في الضرر والتعب، أو قيمة الدابة.
3065 - وكذلك إن اكترى رحاً ليطحن حنطة، فطحن شعيراً أو عدساً أو غير ذلك من القطاني، فانكسرت الرحا، فإن كان طحين ذلك ليس بأضر من الحنطة، لم يضمن، وإن كان ذلك أضر، ضمن.
وكذلك إن اكترى دابة ليحمل عليها حنطة، فحمل عليها شعيراً أو ثياباً أو دهناً. [قال:] وله حمل غير ما سمى إن لم يكن أضر، ولا أثقل، ولا أتعب، ورب زاملة أثقل من محمل، وهي أرفق بالإبل. والحديد أضغط لظهورها.
3066 - ومن اكترى دابة من مصر إلى برقة ذاهباً وراجعاً إلى مصر، فتمادى إلى إفريقية وعاد إلى مصر، فرب الدابة مخير في أخذ قيمة كرائها من برقة إلى إفريقية ذاهباً وراجعاً إلى برقة ما بلغ مع كرائه الأول، أو نصف الكراء الأول مع قيمتها ببرقة يوم التعدي، ردها بحالها أو تغير حالها، لأن سوقها قد تغير، وقد حبسها المكتري عن نفعه بها وعن أسواقها.(3/450)
وإن أكراها إلى بلد ذاهباً وجائياً، فعطبت يوم وصولها إلى البلد، لم يضمن المكتري، ولربها نصف الكراء فقط.
وإن جاوزها فلربها أخذ قيمتها يوم تعديه مع كرائها إلى ذلك الموضع، وإن شاء [أخذ] دابته وكراء ما تعدى فيه.
ومن اكترى ثوراً ليطحن عليه كل يوم إردباً، فطحن عليه إردبين فعطب الثور، فلربه إن شاء كراء الإردب الأول وقيمة الثور وقت ربطه في الثاني، وإن شاء قيمة طحين الثاني ما بلغ مع كراء الأول.
3067 - وإذا اختلف المتكاريان قبل الركوب أو بعد مسير لا ضرر في رجوعه فقال المكري: أكريتك إلى برقة بمائة، وقال المكتري: إنما اكتريت منك إلى إفريقية بمائة، تحالفا وتفاسخا نَقَد الكراء أو لم ينقده.
قال غيره: إذا انتقد الجمّال وكان يشبه ما قال فالقول قوله،(3/451)
لأنه مدعى عليه، ألا ترى أنه لو قال: بعتك بهذه المائة التي قبضت منك مائة إردب إلى سنة، وقال المبتاع: بل اشتريت بها منك مائتي إردب إلى سنة، وكان ما قال البائع يشبه أن القول قوله والمشتري مدع.
3068 - وإذا اختلفا في المسافة فقط فقال المكري: إلى برقة، وقد بلغاها، وقال المكتري: إلى إفريقية، فإن انتقد الكراء فهو مصدق إن أشبه أن يكون كراء الناس إلى برقة بمائة درهم، ويحلف، وإن لم يشبه إلا قول المكتري كان للجمال حصة مسافة برقة على دعوى المكتري بعد أن يتحالفا ولا يلزمه التمادي، وإن لم ينتقد وأشبه ما قالا - لأن ذلك مما يتغابن الناس فيه - تحالفا وفُضّ الكراء وأخذ الجمال حصة مسافة برقة ولم يتماد، وأيهما نكل قُضي لمن حلف، وإن أقام البينة قبل الركوب أو بعد بلوغ برقة قُضي بأعدل البينتين، ولو تكافأتا [تحالفا] ، فإن لم يركب فسخ الكراء كله.(3/452)
قال غيره: يُقضى بالزيادة، وليس بتهاتر، وقاله ابن القاسم في اختلاف المتبايعين قبل القبض في الثمن، أنه يقضى ببينة البائع إذا زادت.
[قال ابن القاسم:] ولو قال المكري: أكريتك إلى المدينة بمائتين وقد بلغاها، وقال المكتري: بل إلى مكة بمائة، فإن نقده المائة فالقول قول الجمال فيما يشبه، لأنه ائتمنه، ويحلف له المكتري في المائة الثانية، ويحلف الجمال أنه لم يكره إلى مكة بمائة، ويتفاسخان، وإن أقاما بينة قضي بأعدلهما، وإن تكافأتا سقطتا، وإن لم ينقده صدق الجمال في المسافة، وصدق المكتري في حصتها من الكراء الذي يذكر بعد أيمانهما، ويقضى الكراء على ما يدعي المكتري، والبينة في ذلك كما ذكرنا أولاً.(3/453)
وقال هو وغيره: وذلك إذا أشبه ما قالا أو ما قال المكتري. وأما إن أشبه قول المكري خاصة، فالقول قوله، ويحلف على دعوى المكتري.
قال غيره: يُقضى ببينة كل واحد منهما، إذا كانت عادلة، لأن كل واحد ادعى فضلة، أقام عليها بينة فأقضي بأبعد المسافتين وبأكثر الثمنين، وليس هذا من التهاتر، وسواء انتقد أو لم ينتقد.
قال ابن القاسم: وإن قال المكتري: دفعت الكراء، وأكذبه الجمال وقد بلغ الغاية، فالقول قول الجمال إن كانت الحمولة بيده، أو بعد أن سلمها بيوم أو بيومين وما قرب، وعلى المكتري البينة. وكذلك الحاج إن أقام الكري بقرب بلوغهم، صُدّق ما لم يبعد مع يمينه، فإن تطاول ذلك فالمكتري مصدق مع يمينه، إلا أن يقيم بينة.
وكذلك قيام الصناع بالأجر بحدثان رد المتاع، فإن قبض المتاع ربه وتطاول ذلك فالقول قول رب المتاع وعليه اليمين.(3/454)
3069 - قال مالك: وإذا تكاريا من مصر إلى مكة فاختلفا في الكراء بأيلة، فالقول قول المكتري إن أتى بما يشبه في كراء مضمون أو معين.
قال: وهو في المضمون إذا قبض البعير الذي يحمل عليه لم يكن للجمال نزعه منه إلا بإذنه، وهو أحق به في الفلس، وهو في حوزه إياه كالمعين.
وقال غيره: ليس الراحلة بعينها مثل المضمون.
3070 - قال ابن القاسم: وإن أجرت رجلاً على تبليغ كتاب من مصر إلى إفريقية بكذا، فقال بعد ذلك: أوصلته، فأكذبته، فالقول قوله في أمد يبلغ في مثله، لأنك ائتمنته عليه، وعليك دفع كرائه إليه، وكذلك الحمولة كلها.(3/455)
قال غيره: على المكرى البينة أنه أوفاه قه وبلغه غايته.
3071 - وإذا طلب الجمال أخذ الكراء قبل الركوب أو بعد المسير القريب فامتنع المكتري، حُملا على سنة الناس في نقد الكراء أو تأخيره، وإن لم تكن لهم سنة كان كالسكنى لا يعطيه إلا بقدر ما سكن، وإن عجل له الكراء من غير شرط فلا رجوع له فيه، فإن أراد أحدهما نقد البلد الذي بلغا إليه، وطلب الآخر نقد بلد التعاقد، قُضي بنقد البلد الذي انعقد فيه الكراء، وإذا اكتريت بدراهم ولم تشترط نقدها، وكراء الناس مؤخر، أو لم يكن مؤخراً، وشرطت تأخيرها لم يجز أن تعطي بها دنانير نقداً قبل الركوب أو بعده، ما لم تحل الدراهم ببلوغ الغاية. وكذلك لو دفعت دراهم عن دنانير، ولو شرطتما النقد أو كان كراء الناس بالنقد جاز دفعك من الدراهم دنانير نقداً، كان الكراء معيناً أو مضموناً، ثم إن هلكت الراحلة بعينها ببعض الطريق رجعت بحصة ما بقي [دنانير] كما نقدت، ولو كنت دفعت عن(3/456)
الدراهم عرضاً لرجعت بدراهم كما عقدت عليه، ولا تأخذ من ذهب لك إلى أجل فضة نقداً، ولا من فضة إلى أجل ذهباً [نقداً] ، لأنه ذهب بفضة ليس يداً بيد.
ومن أكرى بعيراً له بطعام بعينه كيلاً، أو بطعام إلى أجل فلا يبعه حتى يقبضه. وإن كان الذي بعينه مصْبراً، فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه.
3072 - ومن اكترى إلى مكة فأراد تعجيل الخروج وأباه الجمال، فإن كان في الزمان بقية لم يجبر إلا إلى خروج الناس.
وإذا انتقصت زاملة الحاج أو نفدت، فأراد تمامها وأبى الجمال، حملا على ما تعارفه الناس.
قال غيره: وإن لم تكن لهم سنة، فله حمل الوزن الأول المشترط إلى تمام غاية الكراء.(3/457)
ومن اكترى دابة أو بعيراً إلى الفسطاط فله النزول بمنزله وإن كان منزله بأقصى الفسطاط، وليس للمكري أن ينزله بأول الفسطاط، إلا أن يريد ذلك المكتري.
3073 - ومن استأجرته يحمل لك على دابة دهناً أو طعاماً أو متاعاً إلى موضع كذا، فعثرت الدابة [فسقطت] فانكسرت القوارير فذهب الدهن، أو هلك الطعام، أو انقطعت الحبال فسقط المتاع ففسد، لم يضمن المكري قليلاً ولا كثيراً، إلا أن يغر من عثار، أو ضعف الأحبل عن حمل ذلك، فيضمن حينئذ، وإلا لم يضمن فإن فِعْل العجماء جبار، ما لم يفعل بها رجل شيئاً عثرت له، فيضمن الفاعل. (1)
3074 - وكل ما عطب من سبب حامله من دابة أو غيرها من عثار وغيره، فلا كراء له فيه، إلا على البلاغ. ولا يضمن الحمال إلا أن يُغرّ.
وكذلك ما حمله رجل على ظهره فعطب، فلا كراء له، ولا ضمان عليه، وليس على المكتري أن يأتي بمثل ذلك ليحمله. وكذلك هروب الدابة.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/427) .(3/458)
وكذلك السفينة إذا غرقت في ثلثي الطريق، وغرق ما فيها من طعام وغيره فلا كراء لربها، ولا ضمان عليه في شيء من ذلك، لأنه من أمر الله تعالى، ورأى مالك أن ذلك على البلاغ.
قال غيره: ليس الدواب كالسفن فيما هلك من سبب حامله، إذ لا يضمنون لسبب العثار إن لم يغرّوا، ولهم جميع الكراء فيما هلك عن العثار، ولربه حمل مثله إلى غايته، كالذي هلك بلصوص أو سيل، وإن غروا ضمنوا. [وقال ابن نافع: لرب السفينة بحساب ما بلغت] .
3075 - قال ابن القاسم: وما استحملت في السوق على رجل أو دابة من كل شيء، إلى بيتك أو إلى بلد، فعطب أو سرق أو غصب، أو كان ذلك طعاماً(3/459)
فثبت ذلك ببينة، فللمكري الكراء بأسره، وعليه حمل مثله.
وكذلك الدواب والإبل، إذا هلك ما حملت من طعام بعينه أو متاع بأمر من الله تعالى من غير سبب الدواب، فالكراء قائم بينهما لا يفسخ، وللمكري الكراء بأسره وعليه حمل مثل ذلك.
3076 - وللمكتري أن يأتي بمثل ذلك فيحمله أو يكري الإبل في مثل ذلك، وإلا فلا شيء له على الجمال، وللجمال الكراء كاملاً، فإن لم يكن مع الجمال صاحب الطعام، ولا خليفته، رفع ذلك الجمال إلى عامل البلد، فيكري له الإبل، فإن لم يجد كراءً، فليطلب ذلك الجمال أمامه، فإن لم يجد فله جميع الكراء، لأن مالكاً قال في الرجل يتكارى إلى الحج أو المرأة، فيهلك أو تهلك في الطريق، فإنه يكرى للميت مثله، ويطلب ذلك في الطريق، فإن وجد من يكري أكرى له، وإلا كان على الميت لرب الإبل الكراء كله كاملاً.
وإن كان رب الطعام مع المكاري فأصاب الطعام تلف من السماء، أو من غير السماء لم يلزم المكاري شيء، لأن رب الطعام معه، وكذلك إن كان في السفينة مع طعامه فلا شيء على صاحب السفينة، وإن كان المكري وحده فلا يصدق في الطعام والإدام، إذا قال: سُرق مني، حمله على نفسه أو على دوابه [أو في سفينته] ، إلا أن تقوم له بنية أن ذلك تَلِف من غير فعله، فلا يضمن.(3/460)
ويصدق في كل عرض إذا قال: هلك أو سُرق، أو قد عثرت الدواب فانكسرت القوارير، إلا أن يُستدل على كذبه.
قال يحيى بن سعيد: ويضمن ما ضيع.
3077 - قال السبعة من فقهاء التابعين: لا يكون كراء بضمان، إلا أن يشترط على الجمال أن لا ينزل ببلد كذا أو وادي كذا أو لا يسري بليل، فيتعدى ما شرط عليه فيتلف شيء مما حمل في ذلك التعدي، فيضمنه. (1)
3078 - قال ابن القاسم: ويضمن الأكرياء ما ذكرنا من الطعام والإدام، إلا أن تقوم بينة أنه هلك بغير سبب حامليه، أو يصحبه ربه فيبرءون، ولهم جميع الكراء إن بلغوه غايته، ولا يضمنون سائر العروض، ويصدّقون فيها، إلا أن لهم منع أهلها منها حتى يقبضوا كراهم، فإن حازوها بذلك حيازة الرهن، فإنهم يضمنونها كالرهن، ولهم الكراء كله إن بلغوا ذلك غايته، ضمنوه أو لم يضمنوه.
3079 - وإذا حمل الجمال لرجل طعاماً، فزاد أو نقص ما يشبه الكيل فلا شيء له،
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/491) ، ومنح الجليل (7/521) .(3/461)
ولا عليه من ضمان، ولا حصة كراء، وإن زاد ما لا يشبه فلم يدع الجمال تلك الزيادة، وقال: زيدت علي غلطاً، فإن صدقته أخذتها وغرمت كراءها، وإن أنكرت الغلط لم يصدق الجمال، وربما اغترق كراؤه ثمنه، إلا أن تشاء أنت أخذه وغرم كرائه.
وإن زاد الكيل وقال رب الطعام: أنا آخذ طعامي ومقدار زيادة كيلي، فليس له أن يأخذ إلا كيل طعامه خاصة، إلا أن تكون زيادة الكيل أمراً معروفاً عند الناس، ولكل صانع أو حمال على ظهر أو سفينة منع ما حمل أو عمل حتى يقبض أجره، فإن هلك بأيديهم في منعهم فالصناع ضامنون ولا أجر لهم، إلا أن تقوم بينة على الضياع، فلا ضمان عليهم ولا أجر لهم، لأنهم لم يسلموا ما عملوا إلى أربابه.
ومن اكتريت منه دابة أو ثوراً للطحين، فكسر المطحنة لمّا ربطته فيها فأفسد آلتها، لم يضمن إلا أن يغرك، وهو يعلم ذلك منه فيضمن، لأن مالكاً قال فيمن(3/462)
أكرى دابته من رجل وهي ربوض أو عثور، وقد علم ذلك فلم يعلمه بذلك فحمل عليها فربضت أو عثرت فانكسر ما عليها: إنه ضامن. (1)
ومن اكترى من رجل دابة فحمل عليها دهناً من مصر إلى فلسطين فغره منها وعثرت بالعريش، ضمن قيمة الدهن بالعريش. قال غيره: قيمته بمصر إن أراد لأنه منها تعدى.
3080 - ومن حمل على ظهره أو دابته دهناً أو طعاماً بكراء، فزحمه الناس فانكسرت الآنية وهلك ما فيها من الطعام والدهن، فالذي زحمه ضامن.
3081 - وقد قال مالك: في الرجلين يحملان جرتين أو غير ذلك، على كل واحد منهما جرة، فيصطدمان في الطريق، قال: إن انكسرت إحداهما ضمن الذي سلم للذي لم يسلم، وإن انكسرتا جميعاً ضمن كل واحد منهما لصاحبه.
3082 - وإذا اصطدم الفارسان فمات الفرسان والراكبان، ففرس كل واحد [منهما]
_________
(1) 0انظر: المدونة الكبرى (11/492) .(3/463)
في مال الآخر، ودية كل واحد على عاقلة الآخر، وإذا سلم أحدهما بفرسه ففي ماله فرس الآخر، وعلى عاقلته دية راكبه.
3083 - وأما اصطدام السفينتين فلا شيء عليهما إذا كان أمراً غالباً من الريح لا يقدر على دفعه، ولو عُلِم أن النوتيّ يقدر أن يصرفها فلم يفعل لضمن.
وإذا كان الفرس في رأسه اعتزام، فحمل بصاحبه فصدم، فراكبه ضامن، لأن سبب فعله وجمحه من راكبه، وفعله به إما أذعره فخاف منه، أو غير ذلك، إلا أن يكون إنما نفر من شيء مر به في الطريق من غير سبب راكبه فلا ضمان عليه.
وإن كان غيره فعل به ما جمح به، فذلك على الفاعل، والسفينة لا يذعرها شيء، والريح هو الغالب، فهذا فرق ما بينهما.
وإذا غرقت السفينة من مد النواتية، فإن صنعوا ما يجوز لهم من المد والعمل فيها لم يضمنوا، فإن تعدوا فأخرقوا في مد أو علاج، ضمنوا ما هلك من الناس فيها والحمولة، كتعدي من استعملته في بيتك من صانع أو طبيب أو غير ذلك.
ومن اكتريت منه [دابة] لحمل صبي مملوك إلى موضع من المواضع وأسلمته(3/464)
إليه، فساق به، فعثرت الدابة فسقط فمات لم يضمن، إلا أن يخرق في سوقه.
وكذلك البيطار في طرح الدابة لا يضمن، إلا أن يتجاوز في طرحها فيضمن.
وإذا ضرب المكتري الدابة أو كبحها فأذهب عينها أو كسر لحييها ضَمِن. والرائض مثله. ولو ضربها كضرب الناس لم يضمن.
وكل شيء صنعه الراعي مما لا يجوز له فعله، فأصاب الغنم من فعله عيب، فهو ضامن. وإن صنع ما يجوز له أن يفعله، فعيبت الغنم، فلا ضمان عليه.
3084 - ومن اكترى من مكة أو من إفريقية إلى مصر جاز، وهو إلى الفسطاط، وإن لم يذكراه، لأنه المتعارف، وليس كمن اكترى إلى الشام، أو إلى خراسان، لأنها كُوَر وأجناد، فلا يجوز حتى يسمي أي كورة أو مدينة، وأما إلى فلسطين فإن كان المتعارف عندهم إلى الرملة، كان إليها وجاز. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/498، 499) .(3/465)
ومن اكترى من رجل على حمل رجلين أو امرأتين جاز، وإن لم يرهما لتساوي الأجسام، إلا الخاص، فإن أتاه بفادحين لم يلزمه ذلك.
3085 - ويجوز كراء محمل لا يذكر وِطاءه، ويحمل كوُطأ الناس، وكذلك على زاملة لا يخبره بما فيها، ويحملان على المتعارف من زوامل الحاج أو غيره، وعليه حمل المتعارف من معاليق وغيرها. ولو شرط عليه حمل هدايا مكة، فإن كان أمر عرف وجهه، جاز، وإلا لم يجز.
وأجاز للمكتري أن يحمل في عيبته ثوباً أو ثوبين لغيره، ولا يخبر بذلك الجمال، وهو من شأن الناس، ولو بيّن هذه الأشياء ووزنها كان أحسن.
3086 - وإذا ولدت المكترية أجير الكري على حمل ولدها، وإن لم يشترط. ولا بأس أن يكتري محملاً ويشترط عقبة الأجير.(3/466)
3087 - وإن اكتريت من رجل إبله ثم هرب الجمال وتركها في يديك، فأنفقت عليها، فلك الرجوع بذلك. وكذلك إن اكتريت من يرحِّلها رجعت بكرائه.
ولو هرب بإبله والكراء أو غيّرها، تكارى لك عليه الإمام ورجعت بما اكتريت به عليه. (1)
وإذا تغيب الجمال يوم خروجك فليس لك عليه إن لقيته بعد ذلك إلا الركوب أو الحمل، وله كراؤه، وهذا في كل سفر في كراء مضمون، إلا الحاج فإنه يفسخ، وإن قبض الكراء رده، لزوال إبّانه.
3088 - وكذلك قال مالك في الدابة بعينها يكتريها ليركبها في غد [إلى موضع كذا] ، فيغيب بها ربها، ثم يأتي بها بعد اليومين أو الثلاثة، فليس له إلا ركوبه.
قال غيره: ولو رفع ذلك إلى الإمام نظر وفسخ ما آل إلى الضرر، كمن اكترى دابة فاعتلت في سفره.
قال ابن القاسم: فإن اكتراها بعينها إلى بلد ليركبها في غده، فأخلفه الكري
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/500) .(3/467)
فليس له إلا ركوبه أو يكري الدابة من مثله إلى البلد.
وإن أكراها أياماً معينة انتقض الكراء فيما غاب منها، كالعبد يستأجر شهراً بعينه، فيمرضه أو يأبقه، فإنه تنتقض الإجارة، وكذلك شهراً بعينه في الراحلة بعينها لركوب أو طحين أو غير ذلك، بخلاف المضمون وإذا هرب المكتري في كراء مكة أو غيرها رفع الجمال ذلك إلى الإمام، فأكرى الإبل للهارب، ويقضي من ذلك للجمال كراه، وإن لم يجد له كراء تركها وأتبعه بجميع الكراء.
3089 - وقاله مالك فيمن اكترى على حمل متاع أو طعام وكيله ببلد آخر فلم يجد الجمال الوكيل، فإن الإمام يتلوم له بغير ضرر، فإن جاء الوكيل وإلا أكرى الإبل للمكتري وكان الكراء له، وإن لم يجد كراء تركها، وكان للجمال جميع كرائه، ولو رجع الجمال ولم يرفع ذلك إلى السلطان وبالبلد سلطان، فليرجع ثانية فيحمل، وإن لم يكن بها سلطان فتلوم الكري وانتظر فأشهد، كان ذلك له عذراً، وله الكراء ولا يرجع.
قال ابن وهب عن مالك: ولو واعد المكتري الجمال إلى موضع، فجاء الجمال فلم يجده، رفع ذلك إلى الإمام إلا أن يجد الكراء، فإن انصرف ولم يكر ولم يعلم الإمام، فلا شيء له إذا كان الكراء بالبلد ممكناً(3/468)
إلى البلد الذي أكرى إليه، وإن لم يكن الكراء موجوداً أو جهل إعلام الإمام لم أر أن يبطل عمله.
3090 - ومن اكترى إلى الحج وغيره، ثم تقايلا برأس المال أو بزيادة وقد نقده أو لم ينقده، فإن كان قبل الركوب وقبل النقد أو بعد النقد وقبل غيبته عليه، فلا بأس بالزيادة ممن كانت، فإن نقده وتفرقا جازت الزيادة من المكتري قصاصاً ولم تجز من المكري، لأنه [ردّ] أزيد مما أخذ، وصار الكراء محللاً، وكذلك بعد سيرهما يسيراً من المسافة، للتهمة أن يكون ذلك محللاً. وأما بعد المسير الكثير من الطريق مما لا يتهمان فيه، فجائز أن يزيده الكري إذا عجل الزيادة. (1)
وهذا بخلاف البيوع وأكرية الدور، ويدخل في تأخير الزيادة الدين بالدين، وإنما تجوز زيادة المكتري بعد النقد قصاصاً، وإلا لم تجز، ركبا أو لم يركبا.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/437) .(3/469)
قال غيره: لا يزيد الكري إن غاب على النقد قبل الركوب أو بعد يسير الركوب أو كثيره، لأنه بيع وسلف.
3091 - وإن فلس المكتري فالجمال أولى بالمتاع حتى يقبض كراه. ويكرى الغرماء الإبل في مثل كرائه، سار قليلاً أو كثيراً، أو لم يركب بعد وقد قبض المتاع. وكذلك الصناع.
* * *
"انتهى كتاب كراء الدواب والرواحل"
ولله الحمد والمنة
* * *(3/470)
(كتاب كراء الدور والأرضين)
3092 - قال ابن القاسم: ومن اكترى داراً أو أرضاً وفيها سدرة أو دالية، أو كان في الأرض نبذ من نخل أو شجر، ولا ثمرة فيها حينئذ، أو فيها ثمرة لم تزه، فالثمرة للمكري، إلا أنه إن اشترط المكتري ثمرة ذلك، فإن كانت تبعاً مثل الثلث فأقل جاز ذلك، وبلغني توقيت الثلثعن مالك، فأما في سؤالي إياه فلم يبلغ به الثلث، ومعرفة ذلك أن يقوَّم كراء الأرض أو الدار بغير شرط الثمرة، فإن قيل: عشرة، قيل: ما قيمة الثمرة فيما عرف مما تطعم كل عام بعد طرح قيمة المؤونة والعمل؟ فإن قيل: خمسة فأقل، جاز ذلك. وهذا كالمساقاة إذا كان معها بياض قدر الثلث فأدنى، في قيمة كرائه من قيمة الثمرة على عرف نباتها بعد إلغاء قيمة مؤونتها، جازت المساقاة فيه. (1)
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/424) .(3/471)
وإن كانت الثمرة أكثر من الثلث لم يجز للمكتري أن يشترطها، إذا كانت غير مزهية، فإن وقع فالثمرة لرب الأرض، وللمكتري أجر ما سقى [وعالج] ، وعليه قيمة كراء الأرض بلا ثمر، إن كان قد زرعها، ولو كانت الثمرة مزهية، جاز للمكتري اشتراط جميعها، وإن جاوزت الثلث لجواز بيعها مفردة.
ومن اكترى أرضاً وفيها زرع أو بقل لم يطب فاشترطه، فإن كان تافهاً جاز، ولا أبلغ به الثلث، وإذا كانت الثمرة تبعاً فاشترط المكتري نصفها لم يجز، وإنما جاز إذ هي تبع أن تلغى بالسنة، فإذا اشترط نصفها صار ذلك كبيع ثمر قبل زهوه، وكذلك حلية السيف والخاتم ومال العبد.(3/472)
وجائز في المساقاة اشتراط [ما خرج من] البياض بينهما، لأن العمل والزريعة من عند العامل، ومن اكترى أرضاً فيها سواد هو الثلث فأدنى، فاشترط نصف السواد لم يجز.
3094 -[قال ابن القاسم:] ومن اكترى داراً أو حماماً فاشترط كنس المراحيض والتراب وغسالة الحمام على المكري، جاز، لأنه معروف وجهه.
ومن اكترى داراً أو حماماً على أن ما احتاجا إليه من مرمّة رمّها المكتري، فإن اشترط على أن ذلك من الكراء جاز ذلك، [وإلا لم يجز] ، ولو شرط أن ما عجز عنه المكري أنفقه الساكن من عنده لم يجز، ولو شرط أن عليه ما احتاجت الدار من يسير مرمّة أو كسر خشبة، فلا خير فيه، إلا أن يكون ذلك من كرائها.
ومن اكترى داراً فعلى ربها مرمتها وكنس مراحيضها وإصلاح ما وهى من الجدارات والبيوت.
3095 - وإذا اختلف رب الحمام والمكتري في قدر الحمام، فهي لرب الحمام، لأنها بمنزلة(3/473)
البنيان، ومن اكترى حماماً على أن عليه لربه ما احتاج إليه أهله من نورة أو حميم، لم يجز حتى يسمي شيئاً معروفاً، ومن اكترى داراً على أن عليه تطيين البيوت جاز ذلك إذا سمى تطيينها في السنة مرة أو مرتين، أو في كل سنتين مرة، لأنه معلوم، وأما إذا قال: كلما احتاجت طيّنتها، فهذا مجهول لا يجوز، ولا بأس بكراء الحمامات. (1)
ومن اكترى حمامين أو حانوتين فانهدم أحدهما، فإن كان الذي انهدم وجه ما اكترى رد الجميع، وإن لم يكن وجهه لزمه الباقي بحصته من الكراء.
3096 - وتجوز إجارة نصف دابة أو نصف عبد يكون للمستأجر يوماً وللذي له النصف الآخر يوماً كالبيع.
وما جاز لك بيعه من ثمرتك جاز [لك] الإجارة به، والطعام وكل ما يوزن أو يكال أو يعد مما لا يعرف بعينه، يجوز أن يكترى به، ولا يجوز أن يكرى.
ولا بأس بكراء نصف دار أو سدسها أو جزء شائع قل أو كثر كالشراء، وإذا اكترى رجلان داراً بينهما فلأحدهما أن يكري حصته، قال مالك - رحمه الله -: ولا شفعة فيه لشريكه بخلاف البيع.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/509) ، وحاشية العدوي (2/259) .(3/474)
ومن أكرى مساكن له واستثنى ربعها بربع الكراء أو بغير كراء، جاز ذلك، وكذلك من باع داره واستثنى ثلاثة أرباعها، فإنه جائز، لأنه إنما باع ربعها، ولا ينظر على اللفظ إذا صح العمل بينهما.
3097 - ومن استأجر داراً سنة بسكنى دار له أخرى [سنة] جاز ذلك. ومن اكترى داراً أو أرضاً بثوب أو بعبد مضمون بغير صفة أو بصفة، ولم يضرب له أجلاً لم يجز، فإن سكن أو زرع فعليه كراء المثل.
وإن أكريت دارك بعبد بعينه على أن تقبضه، فمات بيد المكتري فهو منك، والكراء يلزمك كالبيع.
ولو كان بثوب بعينه في بيت المكتري، وقد وصفه كان منه وانتقض الكراء باقي المدة، ولك فيما سكن كراء المثل، وكذلك لو قبضته فاستحق أو رددته بعيب بعد أن سكن نصف المدة، وليس لك إذا وجدت العيب في الثوب أن تحبسه وتأخذ قيمة عيبه، وإنما لك حبسه معيباً، ولا ترجع بشيء أو ترده ويكون كما وصفنا، ولو كان العيب خفيفاً لا يتقص ثمن الثوب لم يكن لك رده، وإن كان عند الناس عيباً.
ولو اطلعت على العيب بعد أن بعت الثوب لم ترجع بقيمة عيبه، وأما إن وهبته أو تصدقت به، أو لبسته أو هلك، ثم اطلعت على العيب، فلك أن ترجع بحصة العيب، وينتقض من الكراء بقدر حصة قيمة العيب، لأنه ثمنه.(3/475)
3098 - ومن استأجر بيتاً شهراً بعشرة دراهم، على أنه إن سكن منه يوماً واحداً فالكراء له لازم جاز إذا كان له أن يسكن البيت بقية الشهر أو يكريه إذا خرج، وإلا لم يجز على حال، وللمكري أن يأخذ كراء كل يوم يمضي، إلا أن يكون بينهما شرط، فيحملان عليه.
وإن أكراها في رأس الهلال كل شهر بكذا، فكان الشهر تسعة وعشرين [يوماً] فله كراء الشهر كاملاً.
3099 - ومن قال لرجل: أكتري منك دارك أو حانوتك في كل سنة، أو كل سنة بدرهم، أو في كل شهر، أو كل شهر بدرهم، فلرب الدار أن يخرجه متى شاء، وللمكتري أن يخرج متى شاء، ويلزمه فيما سكن حصته من الكراء، إلا أن يكتري منه سنة بعينها، أو شهراً بعينه، فلا يكون لأحدهما فسخ الكراء إلا أن يتراضيا جميعاً.
قال ابن شهاب: ومن مات بعد أن أكرى داره عشر سنين، فليس للورثة إخراج المكتري إلا برضاه، ولهم بيعها على أن للمكتري سكناه، وإن مات المكتري وقد سكن أو لم يسكن لزم ورثته الكراء في تركته.
قال ابن القاسم: ومن اكترى داراً سنة أو سنتين ولم يسمّ متى يسكن، جاز، ويسكن أو يُسكن غيره متى شاء، ما لم يأت من ذلك ضرر بيّن على الدار.(3/476)
3100 - ومن اكترى داراً سنة بعد أن مضت عشرة أيام من الشهر، حسب إحدى عشر شهراً بالأهلة، وشهراً على تمام هذه الأيام ثلاثين يوماً، كالعدة والأيمان.
ومن اكترى داراً ثلاث سنين، فمنعه ربها من سكناها سنة، فخاصمه بعدها، فإنه يقضى للمكتري بسكنى عامين وعليه كراؤهما فقط، كالعبد يمرض أو يأبق في الإجارة، فليس عليه قضاء ذلك.
ولو أمكنه رب الدار منها فتركها المكتري سنة، فإن لم يكن رب الدار فيها، أو ساكن من قِبَله أو شاغل لها، فجميع الكراء للمكتري لازم، كمن اكترى إبلاً أو دواب ليركبها، فأتاه بها ربها فأبى أن يركبها، فإن عليه جميع الكراء.
وإن اكتريت من رجل داراً هو فيها ساكن، فبقي في طائفة منها [لم يخرج، وسكنت أنت طائفة، لم يجب عليك إلا حصة ما سكنت.
3101 - ولو سكن أجنبي طائفة من دارك] وقد علمت به فلم تخرجه لزمه كراء كل ما سكن. (1)
ومن اكترى داراً فله أن يكريها من مثله بأكثر من الكراء أو أقل.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/444) ، ومواهب الجليل (5/391) .(3/477)
ومن اكترى حانوتاً للقصارة فله كراءه من حداد أو طحان أو غيره، إلا أن يكون ذلك أكثر ضرراً بالبنيان فيمنع، وله ذلك في المساوي، وإذا اتخذ مكتري الدار فيها تنوراً يجوز له فاحترقت منه الدار وبيوت جيرانه لم يضمن، وإن شرط ربها أن لا يوقد فيها ناراً فأوقد المكتري فيها ناراً لخبزه فاحترقت الدار ضمن.
ولو أكراها المكتري من غيره فهدمها الثاني ضمن الثاني لربها، ولا شيء على الأول، لأنه [إنما] فعل ما يجوز له.
3102 - وإذا ربط المكتري بباب الدار دابة فرمحت فكسرته أو قتلت ابن رب الدار فذلك جبار، وكذلك من نزل عنها بباب المسجد أو بباب الأمير أو بباب حانوت نزله لحاجة، فما أصابت فهو جبار، [ولا يضمن، لأنه فعل ما يجوز له] .
ومن اكترى داراً فله أن يدخل فيها ما شاء من الدواب والأمتعة، وينصب فيها الحدادين والقصارين والأرحية، ما لم يكن ضرراً على الدار، أو تكون داراً لا ينصب ذلك في مثلها لارتفاعها، ويمنع مما تعارف منعه.
ومن اكترى بيتاً وشرط أن لا يسكن معه أحد، فتزوج أو ابتاع رقيقاً، فإن لم يكن في سكناهم ضرر على رب البيت لم يكن له أن يمنعه، وإن كان في سكناهم ضرر فله منعه، وقد تكون غرفة ضعيفة الخشب ونحوه فينظر في ذلك.(3/478)
3103 - وأكره للمسلم كراء حانوته أو داره من ذمي ليبيع فيها خمراً أو خنازير، أو دابته ليحمل ذلك عليها، أو ممن يعلم أنه يريدها لذلك، فإن فعل فالكراء فاسد، وإن لم يكن يعلم أنه يفعل ذلك فيها، فذلك جائز من كتابي أو مجوسي، فإن فعل ذلك فيها فله منعه من ذلك كان في قرية أو مدينة، ولا يفسخ الكراء.
وكذلك إن اتخذ في الدار كنيسة يصلي فيها هو وأصحابه وأراد أن يضرب فيها ناقوساً، فلرب الدار منعه من ذلك.
3104 - ومن نكح امرأة وهي في بيت اكترته سنة، فدخل بها وسكن فيه باقي السنة، فلا كراء عليه لها، ولا لربها، وهي كدار تملكها، إلا أن تبين [له] : إني بالكراء [أسكن] فإما وَديْت أو خرجت. وقال غيره: عليه الأقل من كراء المثل، أو ما اكترت به.(3/479)
3105 - ومن اكترى داراً بإفريقية وهو بمصر جاز ذلك كالشراء، ولا بأس بالنقد فيها، لأنها مأمونة، فإن قدم فلم يرضها حين رآها، أو قال: هي بعيدة من المسجد، فالكراء لا يصلح إلا أن يكون قد رأى الدار، وعرف موضعها أو على صفة، وإلا لم يجز.
3106 - ومن اكترى داراً على أن يبتدئ سكناها إلى شهر أو شهرين، جاز ذلك وإن نقد الكراء، والدور والأرضون المأمونة مخالفة للرقيق والحيوان في الكراء.
ومن اكترى داراً بدنانير لم يصفها، والنقد مختلف، فإن عرف لنقد الكراء سُنّة قضي بها، وإلا فسخ الكراء، وعليه فيما سكن كراء مثلها.
3107 - ولا بأس بكراء دار أو رقيق عشر سنين ويعجل النقد. وقال أكثر الرواة: إنّ بُعْد الأجل في الرقيق خطر، ومن اكترى داراً سنة ولم يشترط عليه النقد غرم بحساب ما سكن إلا أن يكون كراء الناس عندهم على النقد، فيقضى به، وكذلك الدواب.
3108 - ولا ينتقض الكراء في الدور، ولا الكراء المضمون في الدواب والإبل بموت أحد المتكاريين.(3/480)
وإذا ظهرت من مكتري الدار خلاعة [أو دعارة] أو فسق أو شرب خمر، لم ينتقض الكراء [ولكن] الإمام يمنعه من ذلك، ويكف أذاه عن الجيران، وعن رب الدار، وإن رأى إخراجه أخرجه وأكراها عليه.
3109 - وإن اكترى قصار وحداد حانوتاً، فأراد كل واحد مُقَدَّمه، ولم يقع كراؤهما على أن لأحدهما مقدم الحانوت من مؤخره، فالكراء لهما لازم، ويقسم بينهما إن انقسم، وإلا أكري عليهما، لأنه ضرر، والبيت مثله.
3110 - ومن اكترى بيتاً فهطل عليه، لم يجبر رب البيت على الطَّر، ولا للمكتري أن يطر من كرائها ويسكن، وله الخروج في الضرر البيّن من ذلك، إلا أن يطرّها رباه فلا خروج له. قال غيره: الطر وكنس المراحيض مما يلزم رب الدار.(3/481)
3111 - ومن اكترى داراً فانهدمت كلها، أو بيت منها أو حائط، لم يجبر ربها على البنيان، إلا أن يشاء، فإن انهدم منها ما فيه ضرر على المكتري قيل له: إن شئت فاسكن أو فاخرج، وناقضه الكراء، وليس له أن يصلح من كرائها ويسكن، إلا أن يأذن له ربها في ذلك، فإن بناها ربها في بقية من وقت الكراء، لزم المكتري أن يسكن، ولم يكن له أن ينقض الكراء، هذا إن بناها ربها قبل خروج المكتري، وأما إن بناها بعد خروجه، وقد بقي من الأمد شيء لم يلزم المكتري الرجوع لتمام ما بقي.
وإن لم يكن فيما انهدم ضرر على المكتري، ولم يبنه رب الدار، لزم المكتري السكنى وجميع الكراء، ولم يوضع عنه لذلك من الكراء شيء، وانهدام الشرفات لا يضر بسكنى المكتري وإن أنفق فيها كان متطوعاً لا شيء عليه.
ومن اكترى أرضاً ثلاث سنين فزرعها ثم غارت [عينها] أو انهدمت بئرها(3/482)
وأبى رب الأرض أن ينفق عليها، فللمكتري أن ينفق فيها حصة تلك السنة خاصة من الكراء، ويلزم ربها، وإن زاد على كراء سنة فهو متطوع، وكذلك من أخذ نخلاً مساقاة فغار ماؤها بعد أن سقى، فله أن ينفق عيها قدر حصة صاحب الأرض من الثمرة سنته تلك لا أكثر.
وليست الدور كذلك، لأن المكتري لا نفقة له فيها، والذي زرع أو ساقى قد تقدمت له نفقة فيها وعمل، وفي نفقته إحياء للزرع، ولو لم يزرع الأرض ولا سقى النخل حتى غارت لم يكن للمكتري أن ينفق فيها شيئاً، وصارت بمنزلة الدور.
3112 - وإذا انهدمت الدار وربها غائب فليُشهِد المكتري على ذلك، ولا شيء عليه، ولا عذر ينقض به الكراء إلا هدم الدار، أو ينهدم منها ما يضر بالسكنى، فللمكتري أن يتركها إن أحب، وكذلك إن خاف أن تسقط عليه وكان البنيان مخوفاً فله أن يناقضه [الكراء] .
3113 - ولا بأس بكراء حانوت لا يسمي ما يعمل فيه، وله أن يعمل فيه حداداً أو قصاراً أو طحاناً إذ لم يضر ذلك بالبنيان، وإن كان [ذلك] ضرراً على البنيان أو فساداً للحانوت لم يكن له أن يعمله، وإن اشترط المكتري أن يعمل في الحانوت ما ذكرنا، وفيه ضرر على البنيان لزم ذلك ربه. (1)
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/538) .(3/483)
3114 - ومن اكترى حانوته من رجل فإذا هو جزار أو قصار، ولا ضرر في عمله على البنيان إلا أنه يقذر الحانوت، فكره رب الحانوت تقذيره فله منعه، لأن فيه ضرراً على الحانوت.
قال غيره: إذا كانت الأعمال يتفاوت ضررها وأكريتها، لم يجز الكراء، إلا على شيء معروف يعمل فيه، وإن لم يختلف فلا بأس به.
3115 - وإذا قال رب الدار: أكريتكها سنة بمائة دينار، وقال المكتري: بل بمائة إردب حنطة، تحالفا وتفاسخا كالبيوع. وكذلك لو سكن [المكتري] أياماً أو شهراً أو شهرين أو أكثر من سنة، ثم اختلفا تحالفا، ويبدأ رب الدار باليمين، ويفسخ الكراء كله، ويأخذ رب الدار فيما مضى كراء المثل، وكذلك لو قال رب(3/484)
الدار: أكريتك بعشرة، وقال المكتري: بدينار، [وقالا جميعاً] ما لا يشبه، وقد سكن أو لم يسكن فهو كما ذكرنا.
ومن أسكنته دارك ثم سألته الكراء، فادعى أنك أسكنته بغير كراء، فالقول قولك فيما يشبه من الكراء مع يمينك، وقال غيره: على الساكن الأقل من دعواك، أو من كراء المثل بعد أيمانكما.
3116 - قال ابن القاسم: وكل ما ادعى الساكن أنه زاده في الدار من خشبة أو من فرش قاعة أو سترة جدار، فالقول قول ربها في تكذيبه، وما كان ملقى في الأرض من حجر أو باب أو خشبة أو سارية، فالقول فيه قول المكتري.
وإذا أذن له رب الدار أن ينفق من كرائها، فزعم أنه أنفق، وأكذبه رب الدار فالمكتري مصدق، لأنه أمين، إن تبين للعمل أثر، وإن تبين كذبه، لم يصدق، والعمل والبناء يتبين أثره، كبيت جديد يشبه أن يكون من بنيان المكتري، أو مرمة جديدة. قال غيره: على المكتري البينة، لأن الكراء دين لزمه، وعلى المكري اليمين.(3/485)
وإذا انقضى أجل الكراء وقد أحدث المكتري في الدار بناء، أو غيره مما ينتفع به بأمر رب الدار أو بغير أمره من غير الكراء، فما كان لنقضه قيمة، لرب الدار أن يعطيه قيمته مقلوعاً، وليس للمكتري أن يأبى، لأنه مضار، ولرب الدار أن يأمره بقلعه أحدثه بأمره أو بغير أمره، لأنه يقول: لم آذن لك في نفعك لأغرم لك شيئاً، وأما ما لا ينتفع به إن نقض من جص وطين، فلا شيء له فيه، إلا أن يكون له فيه نفع فيكون كما ذكرنا.
3117 - ومن وكل رجلاً يكري داره فأكراها بغير العين، أو حابى في الكراء، فهو كالبيع لا يجوز، ولو أعارها أو تصدق بها أو وهبها أو أسكنها أو حابى فيها رجع ربها على الوكيل بالكراء في ملائه، ثم لا رجوع للوكيل على الساكن. وإن كان الوكيل عديماً رجع ربها على الساكن بالكراء، ثم لا رجوع للساكن على الوكيل.
3118 - ومن اكترى داراً سنة فسكن فيها ستة أشهر ثم فلس، فربها أحق ببقية السكنى إلا أن يدفع إليه الغرماء حصة باقي الشهور من الكراء بالتقويم، فإن أبوا خير في الحصاص بجميع الكراء وإسلام الدار، أو أخذ باقي السكنى بحصته من الكراء، والحصاص بحصة كراء ما مضى.(3/486)
3119 - ومن اكترى أرضاً ثلاث سنين فزرعها سنة أو سنتين ثم تهَوَّر بئرها، أو انقطعت عينها، قوّم العام الأول على قدر نفاقه، وتشاح الناس فيه، وليس كراء الأرض في الشتاء والصيف واحداً، وكذلك يحسب كراء الدور في الهدم، ولا يحسب على عدد الشهور والأعوام، وقد تكرى سنة لأشهر فيها كدور بمصر وبمكة، تكثر عمارتها في المواسم.
3120 - ومن اكترى أرضاً ليزرعها فغرق بعضها قبل الزراعة أو عطش، فإن كان أكثرها ردّ جميعها، وإن كان تافهاً حط عنه بقدر حصته من الكراء في كرمه ورداءته، لا بقدر مساحته منه إذا كانت مختلفة، ولزمه ما بقي من الأرض بحصته من الكراء، وكذلك في استحقاق بعض الأرض فيما يقل ويكثر. (1)
3121 - ولا بأس بكراء أرض المطر عشر سنين إن لم ينقد، فإن اشترط النقد فسد الكراء.
وإن كان اكتراها سنين، وقد أمكنت للحرث، جاز نقد حصة عامه هذا، فإن اكتراها قرب الحرث، وحين توقع الغيث، لم يجز النقد حتى تروى ويتمكن من الحرث.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/528) ، والتاج والإكليل (5/444) .(3/487)
قال غيره: لا تكرى أرض المطر التي تروى مرة وتعطش أخرى، إلا قرب الحرث وتوقع الغيث، إذا لم ينقد، ولا يجوز كراؤها بالنقد حتى تروى رياً [مأموناً] متوالياً مبلغاً للزرع أو لأكثره، مع رجاء مطر غيره، ولا يجوز كراؤها إلا عاماً واحداً، إلا أن تكون مأمونة كأمن النيل في سقيها فلا بأس بكرائها قرب إبان شربها، بالنقد أو بغير النقد.
3122 - قال ابن القاسم: ومن اكترى أرضاً ليزرعها فقحطت السماء فلم يقدر على الحرث وقد أمكن من الأرض، أو غرقت أو لم يقدر أن يزرع أو كان لها بئر أو عين، فانهارت قبل تمام الزرع، فهلك الزرع لذلك، أو امتنع الماء الذي يحيا به الزرع من السماء أو من بئر أو عين حتى هلك الزرع فلا كراء على الزارع، وإن نقده رجع به، فإن جاءه بما] كفى بعضه أو هلك بعضه فإن حصد ماله بال،(3/488)
وله فيه نفع، فعليه من الكراء بقدره، ولا شيء عليه إن حصد ما لا بال له، ولا نفع له فيه.
وأما إن هلك زرعه ببرد أو جليد أو جائحة فالكراء عليه، وأما إن أتى مطر بعدما زرع فغرق زرعه أياماً، أو شهراً فأماته، فإن كان غرقه بعد مضي إبان الحرث، كان كالجليد والجراد والبرد، وإن كان غرقه في إبان لو انكشف الماء عن الأرض أدرك زرعها ثانية، فلم ينكشف حتى فات الإبان، فذلك كغرقها في الإبان قبل أن تزرع حتى فات الحرث فلا كراء عليه، ولو انكشف الماء في إبان يدرك فيه الحرث لزمه الكراء، وإن لم يحرث.
3123 - ويجوز النقد في أرض النيل قبل ريّها لأمنها.
قيل لمالك: فإن كانت أرض المطر فيما اختبر منها لا تخلف، أيجوز النقد فيها؟ قال: النيل أبين شاناً، وأرجو جواز النقد فيها إن كانت هكذا، بخلاف التي تخلف من أرض المطر، أو ذات بئر قل ماؤها، يخاف أن لا يقوم بها، فالنقد في هاتين خطر، لغلبة الغرر في أن يكفي ماؤها، فيغبن المكتري رب الأرض، أو لا يكون فيها ما يكفي، فيكون المكتري مغبوناً، ويصير النقد لهذا الغرر تارة ثمناً، وتارة سلفاً،(3/489)
كالنقد في المواضعة والخيار وبيع العهدة، ولم يدخلا في الماء المأمون في غرر، وإن انقطع الماء بأمر حادث فللمكتري إنفاق كراء سنته في غور بئر، أو عين، وليس له [ذلك] في غير المأمونة، إن أبى ربها.
3124 - ومن زرع في أرض الخراج بكراء مثل أرض مصر فغرقت أو عطشت فلا كراء عليه إذا لم يتم الزرع من العطش.
وأما أرض الصلح التي صالحوا عليها، إذا زرعوا فعطش زرعهم فعليهم الخراج. قال غيره: هذا إذا كان الصلح وظيفة عليهم، فأما إن صولحوا على خراج على الأرض معروف فلا شيء عليهم.
3125 - ومن اكترى أرضاً ليزرعا عشر سنين، فأراد أن يغرس فيها شجراً، فإن كان ذلك أضر بها منع، وإلا فله ذلك، كحمله على الراحلة غير ما اكتراها له.(3/490)
وإن اكتريت أرضاً سنين مسماة، فغرست فيها شجراً فانقضت المدة، وفيها شجرك فلا بأس أن تكتريها من ربها سنين مستقبلة، ولو اكتريت أرضاً فأكريتها من غيرك فغرسها ثم انقضت مدة الكراء وفيها غرسه، فلك أن تكريها من ربها سنين مؤتنفة، ثم إن أرضاك الغارس وإلا قلع غرسه.
قال غيره: لا ينبغي ذلك حتى يتعامل الغارس ورب الأرض على ما يجوز، ثم يكري أرضه إن شاء، إلا أن يكريك أرضه على أن يقلع عنك الشجر.
3126 - قال ابن القاسم: ولو كان موضع الشجر زرعاً أخضر لم يكن لرب الأرض أن يكريها ما دام زرع هذا فيها، لأن الزرع إذا انقضت الإجارة لم يكن لرب الأرض قلعه، وإنما له كراء أرضه، وله أن يقلع الشجر فافترقا، إلا أن يكريها إلى تمام الزرع فلا بأس بذلك. قال سحنون: إن كانت الأرض مأمونة.
وإذا انقضت السنون وفي الأرض للمكتري زرع لم يبد صلاحه لم يجز لرب(3/491)
الأرض شراؤه، وإنما يجوز بيع زرع أخضر يشترط مع الأرض في صفقة، وكذلك الأصول بثمرها، وإن لم يشترطه المبتاع كان ما أثبر من الثمر أو ما ظهر في الأرض من الزرع للبائع، وإن لم تؤبر الثمرة ولم يظهر الزرع [في الأرض] فذلك للمبتاع.
3127 - ومن اكترى أرضاً فغرسها شجراً، ثم انقضت المدة فصالح ربها على بقاء الغرس في أرضه عشر سنين على أن له نصف الشجر، لم يجز، لأنه أكراه نصف الشجر يقبضها إلى عشر سنين، وقد تسلم أو لا تسلم. ولو بتل له الآن نصف الشجر جاز. وقال غيره: لا يجوز، لأنه فسخ دين في دين.
ومن اكترى أرضاً عشر سنين على أن يغرسها المكتري شجراً سماها، على أن الثمرة للغارس، فإذا انقضت المدة فالشجر لرب الأرض، لم يجز، لأنه أكراها بشجر لا يدري أيسلم أم لا؟.
ومن اكترى أرضاً يزرعها كل سنة بكذا، ولم يسم سنين بأعيانها، جاز ذلك، ولكل واحد منهما أن يترك متى شاء، ما لم يزرع المكتري، فحينئذ لا ترك لأحدهما(3/492)
تلك السنة خاصة، ويلزمه كراؤها، ويترك بعد ذلك إن شاء.
وإن قال المكتري: أنا أقلع زرعي، وأؤدي حصة ما مضى، لم يكن له ذلك، كان في إبان الحرث أو بعده، نه حين زرع فقد رضي بأخذ الأرض سنة.
وإن اكتريت من رجل أرضه قابلاً، وفيها الآن زرع له أو لمكتري عامه جاز، فإن كانت مأمونة كأرض النيل جاز شرط النقد فيها، وإلا لم يجز شرطه.
ومن اكترى داراً على أن لا يقبضها [إلا] إلى سنة، جاز ذلك، وجاز النقد فيها لا منها، فإن بَعُد الأجل جاز الكراء، ولا أحب النقد فيه، ولم يجز في سائر العروض والحيوان شراؤه على أن لا يقبض [إلا] إلى أجل، لغلبة الغرر في تغيره. (1)
3128 - ومن اكترى أرضاً سنة فحصد زرعه قبل تمام السنة، فأما أرض المطر فمحمل السنة فيها الحصاد، ويقضى بذلك فيها، وأما ذات السقي التي تكترى على أمد الشهور والسنين، فللمكتري العمل إلى إتمام سنته، وإن تمت وله فيها زرع أخضر أو بقل، فليس لرب الأرض قلعه، وعليه تركه إلى تمامه، وله فيما بقي كراء مثلها على حساب ما أكراها منه.
_________
(1) انظر: منح الجليل (8/58) .(3/493)
قال غيره: إن بقي من السنة بعد حصاده ما لا يتم فيه زرع فلا ينبغي أن يزرع، فإن فعل فعليه في زيادة المدة الأكثر من الكراء الأول، إذ كأنه رضيه أو كراء المثل.
3129 - ومن اكترى أرضاً ليزرعها شعيراً فأراد أن يزرعها حنطة، فإن كان ذلك أضر بالأرض منع، وله أن يزرع ما ضرره مثل ضرر الشعير فأدنى.
3130 - وإذا قال المكتري: اكتريت الأرض عشر سنين بخمسين، فقال ربها: بل خمس سنين بمائة. فإن كان بحضرة الكراء تحالفا [وتفاسخا] وإن كان قد زرعها سنة أو سنتين ولم ينقد فلربها فيما مضى ما أقر به المكتري إن أشبه تغابن الناس ويحلف، وإن لم يشبه فعلى قول ربها إن أشبه مع يمينه، فإن لم يشبه فله كراء المثل فيما مضى، ويفسخ باقي المدة على كل حال، وإنما فسخنا الكراء بقية الخمس سنين، وإن أقر بها رب الأرض لدعواه في كرائها أكثر من دعوى المكتري، وهذا إذا لم ينتقد، ومن قول مالك - رحمه الله -: إن رب الأرض والدابة والدار مصدق في الغاية [والمدة] فيما يشبه، وإن لم ينتقد.(3/494)
قال غيره: إذا انتقد فالقول قول ربها مع يمينه فيما يشبه من المدة، فإن لم يأت بما يشبه، وأتى المكتري بما يشبه صدق فيما سكن على ما أقر به، ويرجع ببقية المال على ربها بعد يمين ربها [على ما ادعى عليه] ، ويمين [المكتري] فيما ادعى عليه من طول المدة، وإن لم يشبه ما قال واحد منهما تحالفا وفسخ الكراء، وعلى المكتري قيمة كراء ما سكن، وإن أتيا بما يشبه صدق رب الدار، لأنه انتقد مع يمينه، ولم يسكن المكتري إلا ما أقر به المكري.
قال سحنون: وروى نحوه ابن وهب عن مالك: وهذا هو الأصل في الدور والرواحل والعبيد وغيرها، فرد إليه ما خالفه.
3131 - قال ابن القاسم: ومن زرع أرض رجل، وادعى أنه اكتراها منه، وربها منكر،(3/495)
فربها مصدق مع يمينه، إلا أن يعلم به ربها حين زرع، ولم ينكر عليه، فإن قامت بذلك بينة أو لم تقم بينة، فأحلف عليه فنكل، فليس له إلا ما أقر به المكتري مع يمينه إلا أن يأتي بما لا يشبه.
قال غيره: علم به أو لم يعلم، فله الأكثر من كراء المثل، أو ما أقر به المكتري مع يمينه على دعوى المكتري إن كان كراء المثل أكثر من دعواه.
قال ابن القاسم: وإن لم يعلم وقد مضى إبان الزراعة، فله كراء المثل ولا يقلعه وإن لم يفت الإبان ولم تقم [له] بينة أنه علم به فتركه، ولا أنه أكراه، حلف على ذلك ثم خُيّر بين أن يأخذ من المكتري ما أقر به، قال غيره: أو كراء المثل.
قالا: فإن أبى فله أن يأمره أن يقلع زرعه، إلا أن يتراضيا على ما يجوز فينقد(3/496)
بينهما، ولو تركه لرب الأرض جاز ذلك إن رضي بها، وإن لم يكن للمكتري في الزرع نفع إذا قلعه، لم يكن له قلعه، وبقي لرب الأرض، إلا أن يأباه فيأمره بقلعه.
3132 - ومن اكترى من رجل أرضاً فتشاحا في النقد، فإن كان لأهل البلد سنة في كراء الأرض حملا عليها، وإلا نظر، فإن كانت كأرض النيل التي تروى في مرة، لزم المكتري النقد إذا رويت، وإن كانت لا يتم زرعها إلا بالسقي أو المطر فيما يستقبل بعد الزراعة، لم ينقده إلا بعد تمام ذلك. (1)
قال غيره: إن كانت من أرض السقي وكان السقي مأموناً، وجب له كراؤه نقداً.
قال ابن القاسم: وإن كانت تزرع بطوناً كالقصب والبقول نقده لكل بطن
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/393) ، ومواهب الجليل (5/394) .(3/497)
حصته بعد أن يسلم. قال غيره: عليه بقدر حصة أول بطن.
والفرق بين النقد في الدور والرواحل، وبينه في الأرض غير المأمونة، أنه ليس له في الأرض بحساب ما يمضي إذ لا كراء له إذا عطش الزرع، وفي تينك في كل وقت يمضي قد وجب كراؤه وتم نفعه، فإذا لم يكن للنقد فيها سنة وجب له كراء ما مضى.
3133 - ومن اكتريت منه أرضه الغرقة بكذا إن انكشف عنها الماء، وإلا فلا كراء بينكما، جاز إن لم تنقد، ولا يجوز النقد إلا أن يوقن بانكشافه، قال غيره: إن خيف أن لا ينكشف لم يجز وإن لم ينقد.(3/498)
3134 - ومن اكترى أرضاً أو داراً كراءً فاسداً وقبض ذلك، فلم يسكن ولم يزرع حتى مضت المدة، فعليه كراء المثل، ولو لم يقبض الأرض، ولا الدار، لم يلزمه كراء، وكذلك الدابة. وكل كراء فاسد ففيه إن سكن كراء المثل، كان أقل من التسمية أو أكثر، ولا ينتقض الكراء بموت المتكاريين أو أحدهما.
ومن اكترى داراً أو أرضاً فلم يجد بذراً، أو سجنه سلطان باقي المدة، فالكراء يلزمه، ولا يعذر بهذا، ولكن يكريها إن لم يقدر هو على أن يزرعها.
3135 - ونهى النبي ÷ عن المزابنة والمحاقلة. (1)
والمزابنة: اشتراء الرطب بالتمر، والمحاقلة: اشتراء الزرع بالحنطة، واكتراء
_________
(1) رواه مالك في الموطأ (2/624، 625) ، والبخاري (2381) ، ومسلم (1536) ، وأبو داود (3304) ، والترمذي (1290) ، وابن ماجة (2266) ، وأحمد في المسند (3/360) ، وأبو عوانة (3/307، 321) ، والشافعي في مسنده (ص146) .(3/499)
الأرض بالحنطة. (1)
قال ابن القاسم: ومن المحاقلة اكتراؤها بشيء مما تنبته، كمن اكترى الأرض بكتان فزرعها كتاناً، وفي حديث آخر أنه عليه السلام نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وهي المخابرة التي نهى عنها في حديث آخر، فلا يجوز كراء الأرض بشيء مما تنبت بفيما] قل أو كثر، ولا بطعام تنبت مثله، أو لا تنبته، ولا بما تنبته من غير الطعام، من قطن أو كتان أو أصطبة، إذ قد يزرع ذلك فيها فيصير
_________
(1) انظر: شرح الزرقاني (3/345، 346) ، والتمهيد (2/313) ، (6/441، 443) .(3/500)
محاقلة، ولا بقضب أو قرظ أو تبن أو علف، ولا بلبن محلوب أو في ضروعه، ولا بخبز أو سمن أو عسل أو تمر أو صير أو ملح، ولا بسائر الأشربة والأنبذة.
وإذا خيف في اكترائها ببعض ما تنبت من الطعام أن يدخله طعام بمثله إلى أجل خيف في اكترائها بطعام لا تنبته أن يكون طعاماً بطعام خلافه إلى أجل، ولا تكتري بفلفل ولا بزيت زريعة الكتان، أو بزيت الجلجلان، ولا بالسمك ولا بطير الماء الذي هو للسكين، ولا بشاة لحم، لأن هذا من الطعام، ولا بزعفران، لأنه مما تنبته، ولا بطيب يشبه الزعفران، ولا بعصفر.
ولا بأس بكرائها بالعود والصندل والحطب والخشب والجذوع، ويجوز كراؤها بالعين، وروي ذلك عن النبي ÷، وقاله عدد من الصحابة والتابعين.
ومن أكرى أرضه بدنانير مؤجلة، فحلّت، فلا يأخذ بها طعاماً ولا إداماً، وليأخذ ما يجوز أن يبتديا به كراها.
ويجوز أن تكري أرضك بشجر بأصولها، وتأخذها من المكتري، إن لم يكن فيها(3/501)
يومئذ ثمر، فإن كان فيها [يومئذ] ثمر لم يجز، كما كره مالك شراء [شجر] فيها ثمر، بطعام عاجل أو آجل، ويجوز بيع رقبة الأرض بشجر فيها ثمر، كما تباع بطعام عاجل أو آجل.
3136 - ولا باس ببيع نخل بتمر إلى أجل يثمر النخل إليه، كشاة لا لبن فيها في لبن إلى أجل يصير إليه فيها اللبن.
3137 - ولا يباع كتان بثوب كتان إلى أجل، لأنه يخرج منه، إلا أن يكون أجلاً قريباً لا يعمل في مثله من الكتان ثوب، فلا بأس به، كالقصيل يُسلم فيه شعير.
وأما القصيل بالشعير إلى أجل قريب أو بعيد فلا باس به، ولا بأس بكراء دار بدار أو أرض بأرض.
3138 - ويجوز أن تكتري من رجل أرضه تزرعها أنت العام بأرضك عاماً قابلاً ليزرعها هو، إن كانت أرضك مأمونة، يجوز النقد فيها، لأن أرضه كعرض انتقدته في أرضك.(3/502)
ومن اكترى أرضاً يقبضها قابلاً بألف درهم، إلى عشر سنين [جاز ذلك] ، وكذلك شراء الغائب بثمن إلى أجل أبعد من مسافته جائز، وليس ديناً بدين.
ومن أكرى أرضه بدنانير معلومة على أن يأخذ لكل دينار عشرين درهماً جاز، وكذلك بدراهم [على أن] يأخذ لكل عشرين منها ديناراً، والتعاقد واقع على المقبوض واللفظ لغو، ولو ثبت الكراء بدراهم مؤجلة لم يجز أن يأخذ بها دنانير معجلة أو مؤجلة حتى تحل، فيأخذ بها دنانير نقداً.
3139 - ومن اكترى أرضاً بدراهم وخمر في صفقة، فسد جميعها ولم تجز حصة الدراهم، وإن رضي المكري بترك الخمر لم يجز، وليس كالبيع والسلف.
ولا بأس بكراء الأرض بصوف على ظهور الغنم إن شرع في الجزّ مكانه أو إلى ما قرب من خمسة أيام أو عشرة.
ومن أكرى أرضه بدراهم إلى أجل، فلما حلّ الأجل فسخها في ثياب بعينها على أن يقبضها إلى ثلاثة أيام، لم يجز، إلا أن يقبض الثياب قبل أن يفترقا، لأنه من وجه الدين بالدين [ويجوز كراؤها بثياب موصوفة إذا ضرب لها أجلاً] .
ويجوز الكراء بالخيار لأحدكما أو لكما، وإن لم تؤجلاه جاز، وأجله الإمام(3/503)
إلا أن يكون قد مضى مقداره، فيوقف الآن من له الخيار. وإن كانا بالخيار فاختلفا في الأخذ والرد، فالقول قول من أراد المرد. (1)
ومن اكترى أرضاً على أنه إن زرع حنطة فبكذا، أو شعيراً فبكذا، أو اكتراها بهذا الثوب أو بهذا العبد لم يجز، وكذلك إن قال: [أكريك هذه الدار] بقفيز حنطة، أو قفيزين شعيراً أيهما شاء المكري أو المكتري، وذلك كله معين أو مضمون قد لزمهما، أو أحدهما لم يجز، وذلك من بيعتين في بيعة، فأما على غير الإلزام لأحدهما ومن شاء ردّ، فذلك جائز.
3140 - ومن أكرى أرضه من رجل [على أن] يزرعها قصباً أو قصيلاً أو بقلاً أو قمحاً أو شعيراً أو قطنية، على أن ما أنبتت بينهما، أو هو مع الأرض بينهما لم يجز، وإن قال له: اغرسها شجراً، أو قال: نخلاً فإذا بلغت النخل كذا أو كذا سعفة، والشجر قدر كذا، فالأصول والشجر بينهما نصفين، فذلك جائز. وإن
_________
(1) انظر: منح الجليل (9/590) .(3/504)
قال: فالأصول بيننا فقط، فإن كان مع مواضعها من الأرض جاز، وإن لم يشترط ذلك، وشرط له ترك الأصول في أرضه حتى تبلى لم يجز.
وإن أعطيت لرجل أرضك فليزرع لك فيها حنطة من عنده بطائفة من أرضك يزرعها لنفسه لم يجز، لأنك أكريته الأرض بما تنبت الأرض، وإن دفعت إليه أرضك يزرعها بحبك، على أن له طائفة أخرى من أرضك غير مزروعة جاز ذلك.
وإن قلت له: اغرس لي أرضي هذه نخلاً أو شجراً بطائفة أخرى من أرضي، جاز ذلك، وهذا ككراء الأرض بالخشب.
3141 - ومن اكترى ربع أرض ليزرعها أو جزءاً شائعاً قلّ أو كثر جاز ذلك كالشراء. ومن اكترى من رجل مائة ذراع من أرضه التي بموضع كذا جاز ذلك [كالشراء] إذا كانت متساوية، ولا يجوز في المختلفة حتى يسمي من أي موضع منها. قال غيره: فإن استوت لم يجز حتى يسمي الموضع.(3/505)
3142 - ومن اكترى أرضاً على أن يكريها ثلاث مرات ويزرعها في الكراء الرابع جاز ذلك، وكذلك على أن يزبلها إن كان الذي يزبلها به شيئاً معروفاً، وإن شرط على أن يحرثها له ربها جاز ذلك، ولا بأس بالبيع والكراء في صفقة.
3143 - ولا بأس بكراء أرض أو دار غائبة ببلد قريب أو بعيد، على صفة أو رؤية متقدمة وينقده كالبيع، ثم لا رد له إن وجدها على الصفة، وإنما يجوز ذلك على رؤية متقدمة منذ أمد لا تتغير في مثله.
3144 - وللرجل بيع مراعي أرضه إذا بلغ خصبها أن يرعى، لا قبل ذلك فيبيع مرعاها سنة لا أزيد. وليس للرجل أن يكري ربع زوجته إلا بإذنها.
ولا أحب للوصي أن يشتري لنفسه شيئاً من مال يتيمه أو يكتري أرضاً له(3/506)
من نفسه، فإن نزل أعيد ما اشترى إلى السوق، فإن زيد عليه بيع، وإلا لزم الوصي ما سمى، وكذلك الكراء، إلا أن يكون إبّان الكراء قد مات، فيسأل أهل المعرفة عن الكراء، فإن كان فيه فضل غرمه الوصي، وإلا أدى ما عليه، و [لا] يرجع بالفضل إن كان له.
3145 - وإذا انتشر للمكتري في حصاده حب في الأرض، فنبت قابلاً فهو لرب الأرض، وكذلك من زرع زرعاً فحمل السيل زرعه إلى أرض غيره فنبت فيها. قال مالك: فالزرع لمن جره السيل إلى أرضه ولا شيء للزارع.
3146 - ومن ابتاع زرعاً أخضر على أن يحصده الآن، ثم أذن له رب الأرض في بقائه بكراء، أو بغير كراء، لم يجز، إلا أن يشتري الأرض بعد شرائه للزرع، فيجوز أن يبقيه فيها.(3/507)
3147 - ومن اكترى أرضاً بعبد أو بثوب بعينه، فاستحق بعد الحرث أو الزراعة، فعليه كراء مثلها، وكذلك إن اكتراها بحديد أو رصاص أو نحاس بعينه، وقد عرفا وزنه فاستحق فالكراء ينتقض، إلا أن يكون قد زرعها أو حرثها أو أحدث فيها عملاً فعليه كراء المثل.
ومن أكرى أرضه من رجل سنة ثم اكتراها من غيره سنة أخرى بعد الأولى جاز ذلك.
3148 - ولا بأس أن يكري المسلم أرضه من ذمي إذا كان لا يغرس فيها ما يعصر منه خمراً. وأكره للمسلم كراء أرض الجزية ذات الخراج، وإن اكتريتها فجار السلطان عليك فأخذ منك الخراج، فإن لم يكن الذمي أداه رجعت عليه بالخراج المعلوم لا بما جار وزاد عليك السلطان، وإن كان الذمي قد أداه لم ترجع عليه بشيء.
3149 - وإذا فلس المكتري أو مات بعد أن زرع ولم ينقد، فربها أحق [بالزرع في الفلس(3/508)
وهو في الموت أسوة الغرماء، وكذلك رب الدار في فلس المكتري أحق] بالسكنى كلها إن لم يسكن المكتري، وإن سكن شيئاً فكلام غير هذا، وقد ذكرناه.
وإن فلس الجمال فالمكتري أحق بالجمال حتى يتم حمله، إلا أن يضمن له الغرماء حِملانه ويكتروا له من أملياء ثم يأخذون الإبل ويبيعونها في دَينهم. وقال غيره: لا يجوز أن يضمنوا حملانه.
وإن فلس المكتري أو مات فالجمال أولى بالمتاع، حتى يقبض كراءه، ويكري الغرماء الإبل في مثل ما اكترى، وجميع الصناع أحق بما في أيديهم في الموت والفَلَس.
وإن اكتريت أرضاً بدراهم، ثم أقالك ربها، على إن زدته دراهم فذلك جائز.
* * *(3/509)
(كتاب القراض)
3150 - ولا تصلح المقارضة إلا بالدنانير والدراهم لا بالفلوس، لأنها تحول إلى الفساد والكساد، وليست عند مالك بالسكة البينة كالعين، وقد أخبرني عبد الرحيم أن مالكاً كان يجيز شراءها بالدنانير والدراهم، ثم رجع فكرهه.(3/511)
وقد ذكر بعض أصحابنا أن مالكاً سهل في القراض بنقر الذهب والفضة، فسالت مالكاً عن ذلك، فقال: لا يجوز. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/87) .(3/512)
3151 - قال ابن القاسم: ولا خير في القراض بطعام أو عرض، كان مما يكال أو يوزن أم لا، للغرر بتغير الأسواق عند المفاصلة، ويفسخ ذلك، وإن بيع ما لم يعمل بالثمن، فإن عمل به فله أجر مثله في بيعه، وقراض مثله في الثمن، ولا ينظر إلى ما شرط له من الربح.
وكذلك إن دفعت إليه مالاً [قراضاً] على النصف على أن يشتري عبد فلان ثم يشتري بعدما يبيعه ما شاء، فهو أجير في شرائه وبيعه، وفيما بعد ذلك له قراض المثل، وكذلك إن دفعت إليه دنانير على أن يصرفها ثم يعمل بها، أو على أن يقبض من غريمك ديناً ثم يعمل به فله أجر الصرف أو التقاضي وقراض مثله إن عمل.
ولا تدفع إليه وديعة لك عنده، أو ديناً لك عليه قراضاً، إلا أن تقبضه [منه] ثم تعيده إليه، لأن هذا اغتزاء الزيادة بتأخير الدين، ولعله أنفق الوديعة فيصير كالدين.(3/513)
قال عبد العزيز: ولا تدفع إليه سلعتك وتقول: قامت عليّ بكذا، فما كان من ربح بعد ذلك فبيني وبينك، وهذا له أجر مثله فيما عمل، وما كان في سلعتك من ربح أو وضيعة فلك أو عليك.
3152 - ولا يجوز اشتراط عمل يد العامل لخفاف أو صناعة أو غيرها، فإن نزل كان أجيراً، والربح والوضيعة لرب المال أو عليه.
3153 - وتجوز المقارضة على النصف [والثلث والربع] والخمس أو أكثر من ذلك أو أقل، قلت: فإن أعطيته مالاً قراضاً على أن الربح كله للعامل؟ [قال:] قال مالك - رحمه الله - فيمن أعطى لرجل مالاً يعمل به على أن الربح للعامل، ولا ضمان عليه أنه لا بأس به، وكذلك المساقاة.
وإن قارضه ولم يسمّ ما له من الربح، وتصادقا على ذلك، أو على أن له شِرْكَاً في المال لم يسمه، كان على قراض مثله إن عمل.(3/514)
وقال غيره: إذا قال: لك شرك في المال ولم يسمه وتصادقا، فذلك على النصف. وإن أعطيته قراضاً على النصف، ثم تراضيتما بعد أن عمل أن [تجعلاه] على الثلثين له أو لك جاز ذلك.
وإن قارضت رجلين على أن لك نصف الربح ولأحدهما الثلث وللآخر السدس لم يجز، كما لو اشتراه العاملان على مثل هذا، لم يجز، لأن أحدهما يأخذ بعض ربح صاحبه بغير شيء.
3154 - وإذا اختلف المتقارضان في أجزاء الربح قبل العمل، رد المال، إلا أن يرضى بقول ربه، وإن اختلفا بعد العمل فالقول قول العامل، كالصانع إذا جاء بما يشبه، وإلا رد إلى قراض مثله، وكذلك المساقاة، وإن ادعى أحدهما ما لا يجوز، مثل أن يدعي أن(3/515)
له من الربح مائة درهم ونصف ما بقي أو ثلثه، وادعى الآخر أن له الثلث أو النصف من الجميع، صدق مدعي الحلال منهما إذا أتى بما يشبه.
وإذا اشترط المتقارضان عند معاملتهما ثلث الربح للمساكين، جاز ذلك، ولا أحب لهما أن يرجعا فيه، ولا يقضى بذلك عليهما.
3155 - وإذا كان العامل مقيماً في أهله فلا نفقة له من المال ولا كسوة. قال الليث: إلا أن يشغله البيع فيتغدى بالأفلُس.
ولا ينفق منه في تجهزه في سفره حتى يظعن، فإذا شخص [به] من بلده(3/516)
كانت نفقته من المال في طعامه، وفيما يصلحه بالمعروف من غير صرف، ذاهباً وراجعاً إن كان المال يحمل ذلك، ولا يحاسب بذلك في ربحه، ولكن يلغى، وسواء [في ذلك] قرب السفر أو بعد، وإن لم يشتر شيئاً، وله أن يرد ما بقي بعد النفقة إلى صاحبه، فإذا رجع إلى مصره لم يأكل منه، وله أن يكتسي منه في بعيد السفر، إن كان المال يحمل ذلك، ولا يكتسي في قريبه، إلا أن يكون مقيماً بموضع إقامة يحتاج فيه إلى الكسوة.
3156 - ومن قدم إلى الفسطاط وأخذ مالاً قراضاً على أن يقيم يتجر به بالفسطاط وليست ببلده، فلينفق في مقامه، لأن المال حبسه بها، إلا أن يوطئها، أو ينتقل لسكناها، وإن لم يكن [له] بها أهل فلا نفقة له، ولو خرج بالمال إلى بلد فنكح [بها] وأوطنها فمن يومئذ تكون نفقته على نفسه.
ولو أخذ مالاً قراضاً بالفسطاط، وله بها أهل، فخرج به إلى بلد له بها أهلن فلا نفقة له في ذهابه ولا في رجوعه، لأنه ذهب إلى أهله، ورجع إلى أهله.
ولو أخذه في بلد ليس فيه أهله، ثم خرج إلى البلد الذي فيه أهله، فاتجر هناك فلا نفقة له في ذهابه إلى أهله، ولا في إقامته عندهم، وله النفقة في رجوعه.
وللعامل أن يؤاجر من مال القراض من يخدمه في سفره، إن كان المال كثيراً،(3/517)
وكان مثله لا يخدم نفسه، وله أن يؤاجر أُجراء للأعمال التي لا بد له من ذلك فيها ويكتري البيوت والدواب لما يحمل أو يخزن.
3157 - ولا ينبغي للعامل أن يهب منه شيئاً ولا يولي ولا يعطي عليه ولا يكافئ [فيه] أحداً، فأما أن يأتي بطعام إلى قوم، ويأتون بمثله، فأرجو أن يكون ذلك واسعاً، إذا لم يتعمد أن يتفضل عليهم، فإن تعمد ذلك بغير إذن صاحبه فليتحلل صاحبه، فإن حلله فلا بأس، وإن أبى فليكافئه بمثله إن كان ذلك شيئاً له مكافأة.
قيل لمالك: إن عندنا تجاراً يأخذون المال قراضاً فيشترون به متاعاً يشهدون به الموسم، ولولا ذلك ما خرجوا، هل لهم في المال نفقة؟ فقال: لا نفقة لحاج ولا لغاز في مال القراض في ذهاب ولا رجوع. (1)
3158 - ومن تجهز لسفر بمال أخذه قراضاً من رجل، فاكترى وتزود ثم أخذ [مالاً] قراضاً ثانياً من غيره، فليحسب نفقته وركوبه على المالين بالحصص، وكذلك من أخذ مالاً قراضاً فسافر به وبمال لنفسه، فالنفقة على المالين.
وإن خرج في حاجة لنفسه فأعطاه رجل قراضاً فله أن يفُضّ النفقة على مبلغ قيمة نفقته في سفره، ومبلغ القراض، فيأخذ من القراض حصته ويكون باقي النفقة عليه.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/368) .(3/518)
3160 - وإذا أنفق العامل في السفر من مال نفسه رجع به في مال القراض، فإن هلك المال لم يلزم رب المال شيء، وكذلك إن اشترى بجميع مال القراض سلعاً واكترى لها دواب من ماله، فإن أدى ذلك رب المال وإلا كان للعامل أن يأخذ من ثمن المتاع كراءه وإن اغترقه، وإن لم يف بحقه فلا شيء له، ولا يكون بالكراء شريكاً في السلع.
3161 - وأما إن صبغ الثياب أو قصرها بمال من عنده، فذلك كزيادة في ثمن السلعة على السلف لرب المال، فإما دفع إليه رب المال ما أدى وكان على قراضه وإلا كان العامل شريكاً له بما أدى من ماله، لأن هذا عين قائمة بخلاف الكراء.
قال غيره: إن دفع إليه رب المال قيمة الصبغ لم يكن الصبغ على القراض [الأول] ، لأنه كقراض ثان، على أن يخلط بالأول بعد أن عمل، بخلاف زيادة العامل على رأس المال في ثمن السلعة عند الشراء على السلف، لأن هذا كقراض ثان(3/519)
قبل انشغال الأول، وذلك إنما صبغ الثياب بعد الشراء، فإن أعطاه رب المال قيمة الصبغ لم يكن على القراض، وله أن لا يعطيه ذلك، وأن يضمنه قيمة الثياب، فإن كان في القيمة فضل فللعامل حصته منه، وإن أبى أن يضمنه، كان العامل شريكاً في الثياب بقيمة الصبغ من قيمة الثياب. (1)
3162 - ولا يزكي العامل رأس المال ولا ربحه، وإن أقام في يده أحوالاً حتى ينض ويحضر ربه ويقتسمان، فإن كان العامل يدير زَكيّاً لكل سنة بقدر ما كان المال فيه من عين أو قيمة عرض، فإن كان أول سنة قيمة المتاع مائة، والسنة الثانية مائتين، والسنة الثالثة ثلاثمائة، زكى لكل سنة قيمة ما كان يسوى المتاع فيها، إلا ما نقصت الزكاة كل عام، [قال ابن القاسم:] وإن أخذ تسعة عشر ديناراً فعمل بها شهراً فكان تمام حول رب المال، ثم افترقا وقد ربحا ديناراً فلا زكاة عليهما، لأن رب المال لم يكمل له في رأس ماله وربحه ما فيه الزكاة.
ولو أخذ قراضاً بعد ستة أشهر من يوم زكاه ربه فعمل به أربعة أشهر ثم تفاصلا، زكى رب المال لتمام حوله، ولا يزكي العامل حصة ربحه حتى يتم الحول من يوم اقتسما، وفي ربحه عشرون ديناراً، أو كان له مال قبل ربحه إذا أضافه إلى ربحه بلغ
_________
(1) انظر: منح الجليل (7/327) .(3/520)
ما تجب فيه الزكاة، فليزكه لتمام حول من يوم اقتسما، لأن الفائدة الأولى تضم إلى حول الثانية.
3163 - وإذا ضاع بعض المال بيد العامل قبل العمل أو بعده أو خسره أو أخذه اللصوص أو العاشر ظلماً، لم يضمنه العامل إلا أنه إن عمل ببقية المال أجبر بما ربح فيه أصل المال، فما بقي بعد تمام رأس المال الأول، كان بينهما على ما شرطا، ولو كان العامل قد قال لرب المال: لا أعمل حتى تجعل ما بقي رأس المال، ففعلا وأسقطا الخسارة فهو أبداً على القراض الأول، وإن حاسبه وأحضره ما لم يقبضه منه، وليس ما استهلك العامل منه مثل ما ذهب أو خسر، لأن ما استهلك قد ضمنه، ولا حصة لذلك من الربح، إلا أنه تمام رأس المال.
3164 - وإن تسلف العامل نصف المال أو أكله، فالنصف الباقي رأس المال، وربحه على ما شرطا، وعلى العامل غرم النصف فقط، ولا ربح لذلك النصف.
ومن أخذ مائة قراضاً، فربح فيها مائة، ثم أكل منها مائة، ثم اتجر في المائة الباقية فربح مالاً، فالمائة في ضمانه، [وما بقي في يده] وما ربح بعد ذلك فهو بينهما على ما شرطا، ولو ضاع ذلك فلم يبق إلا المائة(3/521)
التي في ذمته ضمنها لرب المال، ولا تعد ربحاً، إذ لا ربح إلا بعد [تمام] رأس المال.
3165 - وإن اشترى بالقراض وهو مائة [دينار] عبداً يساوي مائتين، فجنى عليه رب المال جناية نقصته مائة وخمسين ثم باعه العامل بخمسين، فعمل فيها فربح مالاً أو وضع لم يكن ذلك من رب المال قبضاً من رأس ماله وربحه حتى يحاسبه ويفاصله ويحسبه عليه، فإذا لم يفعل فذلك دين على رب المال مضاف إلى هذا المال.
3166 - وإذا اشترى العامل سلعة ثم ضاع المال خيّر ربه في دفع ثمنها [وتكون] على القراض، فإن أبى لزم العامل الثمن، وكانت له خاصة، وإن لم يكن له مال بيعت عليه، فما ربح فله، وما وضع فعليه. (1)
وإن نقد فيها رب المال كان ما نقد فيها، لأن رأس ماله دون الذاهب، وإن ضاعت السلعة والمال قبل النقد، فلا شيء على رب المال، ويغرم العامل.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/367) ، والشرح الكبير (3/529) .(3/522)
3167 - وإذا خاف العامل إن قدم ماله على مال القراض، أو أخّره [وقع] الرخص في ماله، فالصواب أن يخلطهما، ويكون ما اشترى بهما من السلع على القراض، وعلى ما نقد فيها، فحصة القراض بعلى] رأس مال القراض، وحصة العامل على ما نقد فيها، ولا يضمن العامل إذا خلطهما بغير شرط، ولا يجوز أن يقارضه على أن يخلطا ذلك بشرط.
ولا يجوز للعامل أن يشارك بمال القراض أحداً، وإن عملا جميعاً، فإن فعل ضمن، ولا يجوز له أن يشارك عاملاً آخر لرب المال، كما لا يستودع المودع الوديعة عند من لربها عنده وديعة، ولا عند غيره.
ولا يبيع أحدهما من الآخر بيعاً يحابيه فيه، وإن كان في المال فضل، فإن فعل لم يجز، لأنه قد يجبر ما يخسر بذلك [وينتفع به فيه] ، ولا يبضع العامل من المال بضاعة، فإن فعل ضمن، ولو أذن له رب المال في ذلك جاز، ما لم يأخذه على ذلك.(3/523)
ولا يبضع مع عبد لرب المال اشترط معونته، ولا يوجه أيضاً مع عبد نفسه بعض المال إلى بلد يتجر فيه، فإن فعل ضمن.
3168 - ولو أذن رب المال للعامل أن يبيع بالنقد والنسيئة فلا يودع أحداً شيئاً إلا لعذر كالمودع، فإن كان لغير عذر ضمن، ويعذر بالسفر أو بمنزل خرب، إذ ليس بحرز أو ليس عنده من يثق به، ولا يضمن في هذا، ولا يشارك بالمال أو يقارض به إلا بإذن ربه. (1)
وإن أخذه على النصف فتعدى فدفعه إلى غيره قراضاً على الثلثين ضمن، فإن عمل هب الثاني فربح، كان لرب المال نصف الربح، وللعامل الثاني نصفه، ثم يرجع الثاني ببقية شرطه وهو السدس على العامل الأول، وكذلك المساقاة، ولو كانت ثمانين ديناراً فخسر الأول أربعين ثم دفع أربعين إلى الثاني على النصف، فصارت مائة، ولم يكن الثاني علم بذلك، فرب المال أحق بأخذ الثمانين، رأس ماله ونصف ما بقي وهو عشرة، ويأخذ الثاني عشرة، ويرجع على الأول بعشرين ديناراً، وهي تمام نصف ربحه على الأربعين.
قال أشهب: لا يحسب رب المال على الثاني إلا أربعين، رأس ماله فيأخذها
_________
(1) انظر: الكافي (1/385) ، والقوانين الفقهية (ص186) ، والتاج والإكليل (5/365) .(3/524)
ثم يأخذ نصف الربح، وهو ثلاثون، فإن كان الأول أتلف الأربعين الأولى تعدياً رجع عليه رب المال بتمام عشرة ومائة إلى ما أخذه، وإن هلكت بأمر من الله رجع عليه بتمام التسعين، وذلك عشرون ديناراً، عشرة بقية رأس ماله، وعشرة حصته من الربح، ولا يأخذ ذلك من الثاني فيظلمه [في] عمله، وأرجعناه على الأول، لأنه ضامن بتعديه.
قال ابن القاسم: وإن أمر العامل من يقتضي ديونه بغير إذن رب المال ضمن ما تلف بيد الوكيل مما قبض.
3169 - وإذا باع العامل سلعة من القراض، فأخر رب المال المبتاع بالثمن، جاز ذلك في حظ رب المال خاصة، فإن توى حظ رب المال، وقد قبض العامل حصته لم يرجع عليه رب المال بشيء، وكذلك ما وهب يجوز في حظه.
وللمأذون [له] دفع القراض وأخذه، ولا يضمنه، وللعامل أن يأخذ قراضاً من رجل آخر، إن لم يكن الأول كثيراً يشغله الثاني عنه، فلا يأخذ حينئذ من غيره شيئاً، فإن أخذهما وهو يحتمل العمل بهما،(3/525)
فله أن يخلطهما، ولا يضمن، ولا يجوز أن يكون ذلك بشرط من الأول أو الثاني.
3170 - ولا بأس أن يقارض الرجل عبده أو أجيره للخدمة إن كان مثل العبد. قال سحنون: ليس الأجير كالعبد، وللمكاتب أن يبضع أو يدفع قراضاً أو يأخذه على ابتغاء الفضل.
3171 - ولا أحب مقارضة من يستحل الحرام، أو من لا يعرف الحلال من الحرام، وإن كان مسلماً.(3/526)
3172 - وأكره للمسلم أخذ قراض من ذمي، أو مساقاة [من ذمي] أو يؤاجر منه نفسه للمذلة، وليس بحرام، ولا بأس أن يدفع المسلم كرمه مساقاة إلى ذمي إن كان الذمي لا يعصر حصته خمراً.
3173 - ومن دفعت إليه مائتين قراضاً، على أن يعمل بكل مائة على حدة، وربح مائة لأحدكما وربح الأخرى بينكما، أو ربح مائة بعينها لك، وربح الأخرى للعامل لم يجز [للغرر] ، ويكون العامل أجيراً في المائتين. وكذلك على أن مائة على النصف ومائة على الثلث، ويعمل بكل مائة على حدة فلا خير فيه إذا كان لا يخلطهما، وكذلك في مساقاة الحائطين حتى يكونا على جزء واحد.
3174 - وإن أخذ المال على أن لرب المال درهماً من الربح ثم ما بقي بينهما(3/527)
فسد القراض والربح كله لرب المال، والوضيعة عليه، وللعامل أجر مثله، [لا ضمان عليه] ، وإن ضاع المال فهو بأجره أسوة الغرماء في المال وفي غيره.
3175 - وإن أخذ قراضاً على أن يسلفه رب المال سلفاً كان أجيراً، والربح كله لرب المال، لأن السلف زيادة ازدادها العامل، وما لم يشترط فيه زيادة لأحدهما من القراض الفاسد، ففيه إن نزل قراض مثله، [كالقراض على ضمان، أو إلى أجل] ، فإنه يرد إلى قراض مثله، ولا ضمان عليه، وإن اشترطت على العامل إخراج مثل المال من عنده يعمل به مع مالك وله ثلاثة أرباع الربح، لم يجز، لأنه نفع اشترطته لكثرة المال، وكذلك إن اشترطت عليه أن يخرج من عنده أقل من مالك أو أكثر على ما ذكرنا.
3176 - ومن أخذ قراضاً على أن يعمل معه رب المال في المال، لم يجز، فإن نزل كان العامل أجيراً، وإن عمل رب المال بغير شرط كرهته، إلا العمل اليسير.(3/528)
ولا يبيع رب المال عبداً من القراض بغير إذن العامل، [فإن فعل] فللعامل رده أو إجازته.
3177 - ويجوز للعامل أن يشترط على رب المال أن يعينه بعبده أو دابته في المال خاصة لا في غيره، ولم يجزه عبد العزيز في الغلام. قال ابن القاسم: ولا يصلح لرب المال أن يشترط معونة عبد العامل أو دابته.
3178 - ومن أخذ قراضاً على أن يخرج به إلى بلد يشتري منه تجارة فلا خير فيه، قال مالك: يعطيه المال ويقوده كما يقاد البعير؟ ّ، وإنما كره مالك من هذا أنه قال: يحجر عليه أن لا يشتري إلى أن يبلغ ذلك الموضع. وقد تقدم ذكر من أخذ قراضاً(3/529)
على أن يبتاع عبد فلان. وفي كتاب المساقاة مسألة من طابت ثمرة نخله فدفعها مساقاة سنين.
3179 - ولا يجوز أن تقارض رجلاً على أن يشتري هو وتنقد أنت وتقبض ثمن ما باع، أو تجعل معه غيرك لمثل ذلك أميناً عليه، وإنما القراض أن تسلم إليه المال.
ولا خير في أن يجعل رب المال ابنه مع العامل ليبصّره التجارة، لأنه نفع ازداده رب المال في تبصرة ولده، وكذلك إن جعل معه أجنبياً أراد نفع الأجنبي بذلك كصديق ملاطف أفسدت به القراض.
3180 - وإن قارضت رجلاً على النصف فلم يعمل حتى زدته مالاً آخر على النصف على أن يخلطهما فهو جائز. قيل: فإن زدته مالاً على الثلث؟ قال: لم يجز مالك دفع المالين [إليه] أحدهما على النصف والآخر على الثلث إذا كان لا يخلطهما.
3181 - وإن أخذ الأول على النصف فابتاع به سلعة، ثم أخذ الثاني على مثل جزء الأول(3/530)
أو اقل أو أكثر على أن يخلطه بالأول لم يعجبني، إذ قد يخسر في الثاني فيلزمه جبره بما ربح في الأول.
وإن كانت قيمة سلع الأول كرأس المال الأول فإن الأسواق قد تحول، وأما على أن لا يخلطه فجائز، فإن خسر في الأول وربح في الآخر، فليس عليه أن يجبر هذا بهذا، وإن اتجر في الأول وباع فنضّ في يديه ثم أخذ الثاني، فإن كان باع [بمثل] رأس مال [الأول] سواء، جاز أخذه للثاني على مثل جزء الأول، لا أقل ولا أكثر، وإن نضّ الأول وفيه ربح أو وضيعة، لم يجز أخذ الثاني عل مثل جزء الأول، أو أقل أو أكثر، لا على الخلط ولا على غير الخلط.
وقال غيره: إن ربح في الأول جاز أخذه الثاني على مثل القراض الأول في الربح على أن لا يخلطه.(3/531)
3182 - وإن دفعت إليه قراضاً على أن يبيع بالنسيئة فباع بالنقد، لم يجز هذا القراضز
وقال غيره: فإن باع بالنقد تعدى، كمن قارض رجلاً على أن لا يشتري إلا صنف كذا غير موجود، كان قراضاً لا يجوز، فإن اشترى غير ما أمر به [فقد] تعدى، فإن ربح فله فيما ربح قراض مثله، وإن خسر ضمن، ولا أجر له في الوضيعة، ولا أعطيه إن ربح إجارته، إذ لعلها تغترق [الربح] وتزيد فيصل بتعديه إلى ما يريده. وقد قال ربيعة في المتعدي في القراض إن وضع ضمن الوضيعة، ويكون له في الربح قدر شرطه، وكذلك المتعدي في القراض الفاسد. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/115) ، والتاج والإكليل (5/360) .(3/532)
3183 - قال مالك: ولا يجوز للعامل أن يبيع بالنسيئة إلا بإذن رب المال، فإن فعل بغير إذنه ضمن.
ولا ينبغي أن يقارض رجلاً على أن لا يشتري إلا البزّ، إلا أن يكون موجوداً في الشتاء والصيف فيجوز، ثم لا يعدوه إلى غيره، ولا يبيع البز بعرض سواه، فيصير مبتاعاً لغير البز.
وإن قلت له بعد أخذه المال وقبل أن يشغله في شيء لا تتجر به إلا في البز، فذلك لك إن كان البزّ موجوداً في الشتاء والصيف - كما ذكرنا -.
3184 - ويجوز أن تشترط عليه أن لا ينزل به وادياً، ولا يسري به بليل، ولا يبتاع به سلعة كذا، ولا يحمله في بحر، فإن فعل شيئاً من ذلك ضمن المال، وقاله السبعة رحمة الله عليهم أجمعين.
وإن نهيته عن شراء سلعة في عقد القراض الصحيح أو بعد العقدة وقبل أن يعمل ثم اشتراها فهو متعد، ويضمن، ولك تركها على القراض أو تضمينه المال، ولو كان قد باعها كان الربح بينكما على شرطكما، والوضيعة عليه خاصة، وكذلك إن تسلف من المال ما ابتاع به سلعة لنفسه ضمن ما خسر، وكان [ما] ربح بينكما.(3/533)
3185 - وإن ابتاع مُقارضك سلعة نهيته عنها، فأتى بها وفيها وضيعة، أو اتجر بما تعدى فيه فخسر، فجاء ومعه سلع لا وفاء فيها، أو عين لا وفاء فيه برأس المال فأردت تضمينه فقام غرماؤه، فقالوا: أنت أسوتنا إن ضمنته، فإن كان معه عين فأنت أحق به [منهم] وإن كان معه سلع فأنت مخير بين أن تشركه فيها، أو تسلمها وتضمنه رأس المال، فإن أسلمتها كنت أسوة الغرماء.
3186 - ومن نهيته عن الخروج بالمال من مصر، فخرج به إلى إفريقية عيناً ورجع به عيناً قبل أن يتجر فيه، ثم اتجر به بمصر فخسر أو ضاع منه بمصر، لم يضمن، لأنه رده قبل أن يحركه، كمن أخذ وديعة بمصر فليس له أن يخرجها من مصر، فإن فعل ضمنها إن تلفت، فإن ردها إلى مصر لم يضمن، وكذلك إن أنفق وديعة عنده أو بعضها ثم رد ذلك مكانه فضاعت لم يضمن.
وللعامل أن يتجر بالمال في الحضر والسفر حيث شاء، إلا أن يقول له رب المال حين دفعه إليه بالفسطاط: لا تخرج من أرض مصر، أو من الفسطاط، فلا ينبغي له أن يخرج، فإن لم يشترط ذلك فليس له أن ينهاه عن السفر إذا أشغل [المال] ، ولو هلك رب المال بعد تجهزه به كان له النفوذ [به] إلى البلد الذي تجهز إليه.(3/534)
3187 - وإن قارضته على أن يجلس به ههنا في حانوت في البزازين والسقاطين، يعمل فيه ولا يعمل في غيره، أو على أن يجلس في القيسارية، أو على أن لا يشتري لا من فلان أو من سلعة فلان، أو على أن لا يتجر إلا في سلعة كذا، وليس وجودها بمأمون، أو على أن يزرع فلا ينبغي ذلك، فإن نزل ذلك [كله] كان للعامل أجره، وما كان من زرع أو فضل أو خسارة، فلرب المال وعليه، ولو علم رب المال أنه يجلس في حانوت فهو جائز، ما لم يشترطه عليه.
3188 - ولو زرع العامل من غير شرط في أرض اشتراها من مال القراض، أو اكتراها، جاز ذلك إن كان بموضع أمن وعدل، ولا يضمن. وأما إن خاطر به في موضع ظلم وغرر يدري أنه خطر، فإنه ضامن.
ولو أخذ العامل نخلاً وأنفق عليها من مال القراض، كان كالزرع، ولم يكن متعدياً. (1)
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/362) .(3/535)
3189 - وإن أخذ العامل ألف درهم قراضاً، فابتاع بها سلعة، فلم ينقد حتى ابتاع أخرى على القراض بألف، أو ابتاع سلعة بأكثر من رأس المال ليضمن ما زاد ديناً ويكون في القراض، لم ينبغ ذلك أن يضمن العامل الدين، ويأخذ رب المال ربحه، [هذا لا يجوز] .
وإن أخذ مائة قراضاً فاشترى سلعة بمائتين نقداً كان فيها شريكاً لرب المال، يكون نصفها على القراض ونصفها للعامل، وإن كانت المائة الثانية مؤجلة على العامل، قومت المائة المؤجلة بالنقد، فإن ساوت خمسين كان العامل شريكاً بالثلث.
3190 - ومن اشترى سلعة فعجز عن بعض ثمنها فأخذ من رجل قراضاً ونقده فيها، لم أحب ذلك، وأخاف أن يكون قد استغلى، وإن ابتاع سلعة ثم سأل رجلاً ليدفع(3/536)
إليه مالاً ينقده فيها، ويكون قراضاً بينهما، فلا خير فيه، فإن نزل لزمه ردّ [ذلك] المال إلى ربه، وما كان فيها من ربح أو وضيعة فله وعليه، وهو كمن أسلفه رجل ثمن سلعة على أن له نصف ربحها.
3191 - وإن باع العامل سلعة فطعن عليه بعيب فحط من الثمن أكثر من قيمة العيب أو أقل، أو اشترى سلعة من والده أو ولده فما كان من هذا نظراً بغير محاباة جاز.
3192 - وإن اشترى بجميع المال عبداً، ثم رده بعيب فرضيه رب المال، فليس ذلك لرب المال، لأن العالم إن أخذه كذلك جبر ما خسر فيه بربحه، إلا أن يقول له رب المال: إن أبيت فاترك القراض واخرج، لأنك إنما تريد رده، فأنا أقبله، فذلك له، ولو رضي العامل بالعيب على وجه النظر جاز، وإن حابى فهو متعد، ولا تجوز محاباته في البيع إلا في حصته من ربح تلك السلعة.(3/537)
3193 - وإن باع العامل سلعة من القراض فاحتال بالثمن على مليء أو معدم إلى أجل ضمن، كبيعه بالدين بغير أمر رب المال.
3194 - وإذا دفع العامل ثمن سلعة بغير بينة، فجحده البائع وحبس السلعة، فالعامل ضامن، وكذلك الوكيل على شراء سلعة بعينها، أو بغير عينها، يدفع الثمن فيجحده البائع، فهو ضامن، ولرب المال أن يغرمه [إياها] وإن علم بقبض البائع الثمن بإقراره عنده ثم جحده أو بغير ذلك، ويطيب له ما يقضى له به من ذلك، إلا أن يدفع الوكيل الثمن بحضرة رب المال، فلا يضمن. (1)
3195 - وإن اشترى لك رجل سلعة ودفعها إليك، ثم دفعت إليه ثمنها لينقده فضاع بيده، فعليك غرمه ثانية، ولا يغرم المأمور، لأنه رسول مؤتمن، وقال بعض المدنيين: لا يغرم رب المال شيئاً.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/123) .(3/538)
وأكره أن يشتري العامل من رب المال سلعة، وإن صح منهما لم يصح من غيرهما، لأن رأس المال قد رجع إلى ربه، وصار القراض بهذا العرض.
3196 - وإذا اشترى العامل أباه أو من يعتق عليه، فإن كان قد علم وهو مليء عتقوا عليه، وغرم لرب المال رأس ماله وحصة ربحه على ما قارضه، [وإن لم يعلم وكان فيهم فضل فكذلك أيضاً، وإن لم يكن فيهم فضل لم يعتقوا وبيعوا، وإن كان فيهم فضل ولا مال للعامل] بيع منهم لرب المال بقدر رأس ماله وحصة ربحه، وعتق ما بقي على العامل علم أو لم يعلم.(3/539)
3197 - وإن اشترى أباً لرب المال، ولم يعلم عتق على الابن وكان له ولاؤه، وعليه للعامل حصة ربحه [فيه] إن كان فيه فضل، وإن علم العامل وهو مليء عتق عليه لضمانه بالتعمد، والولاء للابن، ويغرم العامل ثمنه للابن، فإن لم يكن له مال بيع منه بقدر رأس مال الابن، وحصة ربحه، وعتق على العامل ما بقي منه، وقد اختلف في هذه المسألة، وهذا أحسن ما فيها من الاختلاف.
3198 - وإن وطئ العامل أمة من المال فحملت وله مال ضمن قيمتها، فجبر به راس المال، وإن أعتق العامل عبداً من المال وهو مليء، جاز وغرم لرب المال رأس ماله، وحصة ربحه إن كان فيه ربح، وإن كان عديماً بيع منه بقدر رأس ماله وحصة ربحه وعتق حصة العامل، ولو أعتقد رب المال جاز، وضمن للعامل ربحه إن كان فيه ربح.
3199 - وإذا قتل عبد لرجل عبداً من القراض فاختار العامل أو رب المال القصاص واختار الآخر العفو على أخذ الجاني، فالقول قول العافي على أخذ العبد وجعله على القراض كما كان المقتول، وكذلك إن قتله سيده فقيمة العبد في القراض.(3/540)
3200 - وإذا باع العامل سلعة بثمن إلى أجل بإذن رب المال لم يجز لرب المال أن يبتاعها بأقل من الثمن نقداً.
ومن أخذ من رجل مالاً فقال: هو في يدي وديعة أو قراض، وقال ربه: بل أسلفتكه، فالقول قول رب المال مع يمينه، وإن قال العامل قراضاً، وقال رب المال: بل أبضعتكه لتعمل به، فالقول قول رب المال مع يمينه، وعليه للعامل أجر مثله. قال سحنون: إلا أن يكون ما ادعى العامل من الربح أقل من أجر مثله فليأخذ الأقل، وإن نكل رب المال صدق العامل مع يمينه إذا كان مثله يستعمل في القراض. (1)
_________
(1) انظر: منح الجليل (7/380) .(3/541)
3201 - وإن قال رب المال: أودعتكه، وقال العامل أخذته قراضاً، صدق ربه، والعامل مدع لطرح الضمان عن نفسه، وإن قال ربه: قراض، وقال العامل: قرض، صدق العامل، لأن ربه ههنا مدع في الربح، ولا يلتفت إلى قول هذا: أخذت منك أو أخذت مني.
وإن قال العامل: راس المال ألف، وقال ربه: ألفان، صدق العامل، لأنه أمين.
ولو خسر في البُرّ فادعى رب المال أنه نهاه عنه فتعدى، فالقول قول العامل أنه لم ينهه.
3202 - وإن قال العامل: رددت إليك رأس مالك والذي بيد ربح، وقال ربه: لم تدفع إليّ شيئاً، صدق رب المال ما دام في المال ربح وعلى العامل البينة.
وإن قال العامل: أنفقت في سفري من مالي مائة درهم لأرجع بها في مال القراض، صدق، ربح أو خسر، ويرجع بها في المال إن أشبه ذلك نفقة مثله، وإن ادعى ذلك بعد المقاسمة لم يصدق.
3203 - ولرب المال ردّ المال ما لم يعمل به العامل أو يظعن لسفر، وليس له أن يقول بعد ظعنه: ارجع، وأنا أنفق عليك، وإن ابتاع به سلعاً لم يكن لرب المال أن يجبره على بيعها ليرد القراض، ولينظر السلطان [في ذلك](3/542)
فيؤخر منها ما يرجى له سوق، فإن لم يكن لتأخيرها وجه بيعت، واقتسما ربحها إن كان.
وإذا لم يشغل العامل المال حتى نهاه ربه أن يتجر به، فتعدى فاشترى به سلعة، لم يكن قراضاً، وضمن المال والربح له، كمن تعدى على وديعة عنده فاشترى بها سلعة، فهو ضامن للوديعة والربح له، بخلاف الذي نهاه رب المال عن شراء سلعة فابتاعها، وقد ذكرناه.
3204 - وإذا باع العامل بالديون بإذن رب المال، فأراد أن يحيله بها ويبرأ وفي المال وضيعة، فلربه أن يجبره على التقاضي أو يدعه، وكذلك إن كان فيه ربح، فعليه التقاضي، إلا أن يدعه رب المال ويسلم له العامل ربحه، وإذا شخص [العامل] في اقتضاء الديون أنفق من المال، وإن كانت فيه وضيعة.
وإن اشترى العامل بجميع المال سلعاً يرجو بها الأسواق، فقال رب المال: أنا آخذ قيمة رأس مالي سلعاً وأقاسمك باقيها على ما شرطنا، وأبى العامل، فذلك للعامل، لأنه يرجو الزيادة فيما يأخذه رب المال إذا جاءت أسواقها، وإن أراد العامل بيع ما معه، وأراد رب المال أخذه بما يسوى، فهو فيه والأجنبي سواء.(3/543)
3205 - وإذا مات العامل قيل للورثة: تقاضوا الدين وبيعوا السلع، وإن لم يؤتمنوا أتوا بأمين وكانوا على سهم وليهم، وإن لم يأتوا بأمين ولم يكونوا مأمونين أسلموا ذلك إلى ربه ولا ربح لهم، وكذلك في موت العاملين. (1)
3206 - وإن مات رب المال فالعامل على قراضه، فإن أراد الورثة أخذ المال فذلك لهم إن كان المال عيناً وليس ذلك لهم إن كان سلعاً، وهم في هذا كوليهم سواء، فإن علم العامل بموت رب المال، والمال بيده عيناً فلا يعمل به، وإن لم يعلم بموته حتى ابتاع به سلعاً مضى ذلك على القراض.
3206 - ومن هلك وقبله قراض وودائع لم توجد، ولم يوص بشيء فذلك في ماله، ويحاص به غرماؤه، وإن أقر بوديعة بعينها أو قراض بعينه في مرضه، وعليه دين ببينة في صحته، أو بإقرار في مرضه هذا قبل إقراره بذلك أو بعد، فلرب الوديعة والقراض أخذ ذلك بعينه دون غرمائه، وإن لم يكن بعينها وجب الحصاص فيها مع غرمائه. والله الموفق للصواب.
* * *
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/370) ، ومواهب الجليل (6/405) ، والمدونة (12/130) .(3/544)
(كتاب الشركة)(3/545)
3207 - ولا تجوز الشركة إلا بالأموال أو على عمل الأبدان إذا كانت صنعة واحدة، فأما بالذمم بغير مال على أن يضمنا ما ابتاع كل واحد منهما فلا يجوز، كانا في بلد واحد، أو في بلدين يجهز كل واحد منهما على صاحبه تفاوضا، كذلك في تجارة الرقيق وفي جميع التجارات أو في بعضها.
وكذلك إن اشتركا بمال قليل على أن يتداينا، لأن أحدهما يقول لصاحبه: تحمّل عني بنصف ما اشتريت على أن أتحمل عنك بنصف ما اشتريت، إلا أن يجتمعا في شراء سلعة معينة حاضرة أو غائبة فيبتاعاها بدين، فيجوز ذلك إذا كانا حاضرين، لأن العهدة وقعت عليهما، وإن ضمن أحدهما عن صاحبه فذلك جائز.
وإذا أقعدت صانعاً في حانوت على أن تتقبل عليه المتاع ويعمل هو، فما رزق الله بينكما نصفان، لم يجز.
3208 - ولا تجوز الشركة في عمل الأيدي إلا أن يكون عملها نوعاً واحداً، كالصباغين والخياطين ويعملان في حانوت واحد، وإن فضل أحدهما الآخر في العمل، وهذا ما لا بد منه.(3/546)
ولا يجوز أن يشتركا على أن يفترقا في قريتين أو حانوتين، وإن اتفقت الصنعة، ولا يشترك ذوا صنعتين وإن كانا في موضع واحد كحداد مع قصار ونحوه.
وإن اشترك ذوا صنعة عل عمل أيديهما ولا يحتاجا إلى رأس مال على أن على أحدهما ثلث العمل وله ثلث الكسب، وعليه ثلث الضياع، وثلثا ذلك على صاحبه، وله ثلثا الكسب، فذلك جائز كالأموال، وكذلك شركة الجماعة على ما وصفنا.
3209 - وما احتاج شريكا الصنعة من رأس المال أخرجاه بينهما بالسوية وعملاً جميعاً، وإن أخرج أحدهما ثلث رأس المال، والآخر الثلثين، على أن العمل عليهما جميعاً، والربح بينهما نصفان، لم تجز هذه الشركة، وإن كان بقدر ما يخرج كل واحد من رأس ماله في عدد أو وزن يكون له من الربح وعليه من العمل والوضيعة فذلك جائز.
3210 - وإن اشترك قصّاران لأحدهما الحانوت وللآخر الأداة، والكسب بينهما، أو أتى رجل بدابة والآخر برحا، فاشتركا يعملان كذلك، على أن ما أصابا فبينهما نصفان، لم يجز ذلك إذا كانت الإجارة مختلفة، فإن تطول أحد القصارين على(3/547)
صاحبه بشيء تافه من الماعون لا قدر له في الكراء، كالقصرية ومدقة جاز، فأما إن تطول أحدهما على صاحبه بأداة لا يلغى مثلها لكثرتها، لم يجز حتى يشتركا في ملكها، أو يكري من الآخر نصفها كالمتزارعين يشتركان فيخرج أحدهما أرضاً لها قدر من الكراء فيلغيها لصاحبه ويعتدلان فيما بعد ذلك من العمل والبذر، فلا يجوز إلا [على] أن يخرج صاحبه نصف كراء الأرض، ويكون جميع العمل والبذر بينهما بالسوية، أو تكون أرضاً لا خطب لها في الكراء كأرض المغرب وشبهها، فيجوز أن يلغي كراءها لصاحبه ويخرجان ما بعد ذلك بينهما بالسوية. () (1)
3211 - وقد اختلف عن مالك في [الشركة] في الحرث، فروى عنه بعض الرواة أنه لا يجوز الشركة حتى يشتركا في رقاب الدواب والآلة، ليضمنا ما هلك، وروى غيرهم أنه إن ساوى كراء ما يخرج هذا من البقر والأداة كراء ما يخرج الآخر من الأرض والعمل، جاز ذلك بعد أن يعتدلا في الزريعة.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/44) .(3/548)
وإذا اشترك ثلاثة [نفر] أتى أحدهم برحا والآخر بدابة والثالث بالبيت على أن يعملوا بأيديهم والكسب بينهم أثلاثاً فعملوا على ذلك، وجهلوا أنه لا يجوز، فإن ما أصابوا يقسم بينهم أثلاثاً إن كان كراء البيت والرحا والدابة معتدلاً، وتصح الشركة، لأن كل واحد منهم أكرى متاعه بمتاع صاحبه، ألا ترى أن الرحا والبيت والدابة لو كان ذلك لأحدهم فأكرى ثلثي ذلك من صاحبيه وعملوا جازت الشركة.
وإن كان كراء ما أخرجوه مختلفاً قسم لمال بينهم أثلاثاً، لأن رؤوس أموالهم عمل أيديهم، وقد تكافؤوا فيه، ويرجع من له فضل كراء على صاحبه فيترادون ذلك فيما بينهم وإن لم يصيبوا شيئاً، لأن ما أخرجوه مما يكرى، وقد اكترى كراءً فاسداً ولم يتراجعوا في عمل أيديهم، لتساويهم فيه.
وإن اشترط صاحب البيت والرحا أن العمل على رب البغل فعمل على هذا كان الربح والوضيعة لصاحب الدابة، لأن عمله كأنه رأس المال، وعليه أجر الرحا والبيت، وإن لم يصب شيئاً كالدابة يعمل عليها الرجل على نصف ما يكسب.
3212 - وإذا مرض أحد شريكي الصنعة أو غاب يوماً أو يومين فعمل صاحبه فالعمل بينهما، لأن هذا أمر جائز بين الشركاء، إلا ما تفاحش من ذلك وطال، فإن(3/549)
العامل إن أحب أن يعطي لصاحبه نصف ما عمل جاز ذلك إن لم يعقدا في أصل الشركة أن من مرض منهما أو غاب غيبة بعيدة فما عمل الآخر فبينهما، فإن عقدا على هذا لم تجز الشركة، فإن نزل ذلك كان ما اجتمعا فيه من العمل بينهما على قدر عملهما، وما انفرد به أحدهما له خاصة، وما عمل أحد شريكي الصنعة لزم الآخر عمله وضمانه ويؤخذ بذلك وإن افترقا.
3213 - وتجوز شركة المعلمين في مكتب واحد لا في موضعين، وكذلك الأطباء إذا كان [ثمن] ما يشترون به الدواء بينهما.
ولا تجوز شركة الحمالين على رؤوسهم ودوابهم، لافتراقهم فيما يحملونه، كصانعين في حانوتين، إلا أن يجتمعا في حمل شيء بعينه إلى غاية واحدة، فجائز على الرؤوس والدواب، وإن جمعا دابتيهما على أن يكرياهما ممن أصابا، والكراء بينهما لم يعجبني ذلك، إذ لا يدوم ذلك، وقد يكري هذا ويبقى هذا، وكذلك على رقابهما وقد تختلف الغايات، إلا فيما لا يفترقان فيه فيجوز.(3/550)
3214 - ومن استأجر نصف دابة رجل ثم اشتركا في العمل عليها فجائز، وإن اشتركا ليحتطبا أو ليحتشّا ثمار البرية [أو بقلها ويحملانه] على رقابهما أو دوابهما، فأما من موضع واحد فجائز، ولا يجوز إن افترقا.
3215 - ولا بأس أن يشتركا في صيد السمك والطير والوحش بنصب الشرك والشباك إذا عملا جميعاً لا يفترقان في التعاون بالنصب وغيره. (1)
ولا يجوز أن يشتركا على أن يصيدا ببازيهما أو كلبيهما، إلا أن يملكا رقابهما أو يكون الكلبان أو البازيان طلبهما وأخذهما واحد لا يفترقان.
3216 - قال ابن القاسم: ولا باس أن يشتركا في حفر القبور والمعادن والآبار والعيون، والبنيان وعمل الطين وضرب اللَّبِن وطبخ القراميد وقطع الحجارة إذا لم يفترقا في ذلك. ولا يجوز في موضعين، ولا هذا في غار وهذا في غار من المعدن، وإن عملا في المعدن معاً فأدركا نيلاً كان بينهما.
_________
(1) انظر: المدونة (12/51) .(3/551)
قلت: فمن مات منهما بعد إدراكه النيل؟ قال: قال مالك في المعادن: لا يجوز بيعها، لأنها إذا مات صاحبها الذي عملها أقطعها الإمام غيره، فأرى المعادن لا تورث. وإذا مات صاحبها فالسلطان يقطعها لمن يرى وينظر في ذلك للمسلمين.
ومعادن الرصاص والنحاس والكحل والزرنيخ مثله.
ولا بأس أن يشتركا في إخراج اللؤلؤ من البحر والعنبر بصفته وجميع ما يقذف به البحر، وما يغاص عليه فيه، إذا عملا جميعاً كتعاون صيادي الحوت، وكذلك في طلب الكنوز والدفائن والركاز، إذا كانا بموضع واحد.
وكره مالك الطلب في قبور الجاهلية وبيوتهم وآثارهم وقال: لا أراه حراماً، وأجازه ابن القاسم واستخف غسل ترابهم.
3217 - ولا تصلح الشركة في الزرع إلا أن يخرجا البذر بينهما نصفين ويتساويا في قيمة [أكرية] ما يتخارجانه بعد ذلك، مثل أن يكون لأحدهما الأرض(3/552)
وللآخر البقر والعمل عليهما، أو على أحدهما إذا تساويا. ولا أحب أن يفضل أحدهما الآخر في كراء أرض ولا بقر، إلا أرضاً لا بال لها إنما تمنح، فلا بأس أن تلغى بينهما ويتساويا فيما سوى ذلك من البذر والعمل، وإن أخرج أحدهما الأرض والآخر البذر، والعمل بينهما وقيمة البذر وكراء الأرض سواء، لم يجز، لأنه أكرى نصف أرضه بنصف طعام لصاحبه.
3218 - ولو اكتريا أرضاً من أجنبي جاز أن يخرج أحدهما البذر كله، والآخر البقر والعمل وكراء ذلك، وقيمة البذر سواء، وإن اشتركا على أن البذر والعمل بينهما بالثلث والثلثين جاز ذلك.
3219 - وإن تساويا في الزريعة، والأرض لأحدهما والعمل على الآخر، على أن متولي العمل يكرب الأرض العام ويزرع قابلاً، لم يجز ذلك إلا في أرض مأمون رواؤها في كل عام للغرر إن لم ترو، وانتفاع صاحب الأرض بعمل الآخر باطلاً.(3/553)
وإن اشترك ثلاثة فأخرج أحدهما الأرض والآخر البقر والآخر العمل، وتساووا [في الكراء] وفي إخراج الزريعة جاز، فإن كان البذر من عند رجلين، ومن عند الآخر الأرض وجميع العمل، لم يجز، ويقضى بالزرع لصاحب الأرض ولهذين عليه مثل بذرهما. وروى ابن غانم عن مالك أن الزرع لصاحبي الزريعة، ولهذا كراء أرضه وعمله كقراض فاسد، وإنما يجعل الربح لما لا يؤاجر، وفيه الخسارة كالمال.
3220 - ولا باس أن يشتركا بعرضين مختلفين أو متفقين أو طعام عروض، على قيمة ما أخرج كل واحد [منهما] يومئذ، فبقدره الربح والعمل، وإن اتفق قيمة العرضين المختلفين وعرفا ذلك في العقدة واشتركا بهما جاز، وهذا بيع لنصف عرض هذا بنصف عرض الآخر، [فإن قوما وأشهدا على الشركة جاز،](3/554)
وإن لم يذكرا بيعاً ولو شرطا التساوي في الشركة بالسلع، فلما قوما سلعتيهما تفاضلت القيمة، فإن لم يعملا أخذ كل واحد سلعته وزالت الشركة.
وإن فاتت السلعتان وعملا على ذلك، كان رأس مال كل واحد منهما ما بيعت به سلعته وبقدر ذلك ربحه ووضيعته، ويرجع من قبل ماله بفضل عمله على صاحبه، ولا يكون على صاحب السلعة القليلة ضمان في فضل سلعة صاحبه، لأن فضل سلعته لم يقع فيه بينهما بيع. (1)
3221 - وإذا وقعت الشركة بالعروض فاسدة فرأس مال كل واحد [منهما] ما بيعت به سلعته لا ما قومت به، ويقتسمان الربح على قدر ذلك، فأما في الشركة الصحيحة فرؤوس أموالهما ما قوما به سلعتيهما يوم اشتركا، ولا ينظر إلى ما بيعتا به كان أكثر مما قوما به أو أقل، لأنهما حين قوّما صار كل واحد منهما قد باع نصف سلعته بنصف سلعة صاحبه، وصار ضمانهما منهما، وفي الفاسد لم يقع لأحدهما في سلعة الآخر ملك ولا ضمان.
3222 - وتجوز الشركة بما سوى الطعام والشراب من سائر العروض ومما يكال أو يوزن أو لا يكال ولا يوزن من مسك وعنبر وحناء وكتان وغيره، كانت من صنف واحد أو من صنفين إذا اتفقت القيم.
3223 - وتجوز الشركة بالطعام ودراهم أو بعين وعروض على ما ذكرنا من القيم، وبقدر ذلك يكون الربح والعمل.
_________
(1) انظر: الكافي (1/391) .(3/555)
3224 - ولا تجوز الشركة عند مالك بشيء من الطعام والشراب، كان مما يكال أو يوزن أم لا، من صنف واحد أو صنفين.(3/556)
وأجاز ابن القاسم الشركة بطعام متفق في الصفة والجودة من نوع واحد على الكيل.
قال: ورجع مالك عن إجارة الشركة بالطعام وإن تكافأ، ولم يجزه لنا منذ لقيناه، ولا أعلم لكراهيته فيه وجهاً.
قال ابن القاسم: وأما إن أخرج أحدهما محمولة والآخر سمراء أو أخرج هذا قمحاً والآخر شعيراً، وقيمة ذلك متفقة أو مختلفة، وباع هذا نصف طعامه بنصف [طعام] الآخر، لم يجز على حال كيفما شرطا، كما لا أجيز الشركة بدنانير ودراهم متفقة قيمتها.
3225 - وإذا وقعت الشركة بالطعام فاسدة، فرأس مال كل واحد ما بيع به طعامه، إذ هو في ضمانه حتى يباع، ولو خلطاه قبل البيع جعلت رأس [المال] قيمة طعام كل واحد يوم خلطاه. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/58) ، ومواهب الجليل (5/125) ، والكافي (ص391) .(3/557)
3226 - قال ابن القاسم: وتجوز الشركة بالعين، وصفة ذلك أن يخرجا دنانير ودنانير، ودراهم ودراهم متفقة النفاق والعين، بقدر ما يخرج كل واحد من رأس ماله في عدد أو وزن يكون له من الربح، وعليه من العمل أو الوضيعة.
وإن تساويا في المال والأعمال على أن يتفاضلا في الربح لم يجز، وإن تفاضلا في المال على أن يتساويا في ربح أو عمل، لم يجز، ولو أن العمل على أحدهما وتساويا في المال والربح أو تفاضلاً، لم يجز، فإن نزل ذلك كله فالربح والخسارة على قدر رؤوس الأموال.
وكذلك لو لحقهما دين من تجارتهما بعد أن خسر المال كله وذهب، فيرجع من له فضل عمل بفضل عمله على الآخر، ويبطل ما شرطا، ولا يضمن القليل المال لصاحبه نصف ما فضله به، وليس بسلف، لأن ربحه لربه.
3227 - ولو صح عقد المتفاضلين في المال ثم تطوع الذي له الأقل فعمل في الجميع جاز، ولا أجر له، وإن تساويا في المال والربح على أن يمسك أحدهما راس المال معه، فإن كان ليتولى التجارة دون الآخر لم يجز، وإن تولياها جميعاً جاز.
وتجوز الشركة في المال الغائب إن أخرج ذلك المال.
وإن أخرج أحدهما ألفاً والآخر ألفاً، منها خمسمائة غائبة، ثم خرج ربها(3/558)
ليأتي بها، وخرج بجميع المال الحاضر فلم يجدها فاشترى بما معه تجارة، فإنما له ثلث الفضل، ولا يرجع بأجر في فضل المال كشريكين على التفاضل طاع أحدهما بالعمل.
وإن أخرج هذا دنانير هاشمية، وأخرج الآخر دنانير مثل وزنها دمشقية، أو أخرج هذا دراهم يزيدية، والآخر مثل وزنها محمدية، وصرفهما مختلف، لم يجز، إلا في اختلاف يسير لا بال له فيجوز [وهذا] فيما كثر، كتفاضل المالين.
ولو جعلا الربح والعمل بينهما بقدر فضل ما بين السكتين لم يجز، إذ صرفاهما إلى القيم، وحكمهما الوزن في البيع والشركة، وإن كانت السكتان متفقتي الصرف يوم الشركة جاز.
فإن افترقا وقد حال الصرف لم ينظر إلى ذلك، ويقتسمان ما في أيديهما بالسوية، عرضاً كان أو عيناً أو طعاماً، وإن أخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم لم يجز، وإن باع نصف ذهبه بنصف فضة صاحبه، لأنه صرف وشركة.
3228 - ولا يصلح مع الشركة صرف ولا قراض، وهما أيضاً نوعان مما لا يقوّمان، فإن عملا فلكل واحد مثل رأس ماله، ويقتسمان الربح لكل عشرة دنانير ديناراً، ولكل عشرة دراهم درهماً، وكذلك الوضيعة، وكذلك إن عرف كل واحد السلعة التي اشتريت بماله فإن السلع تباع ويقسم الثمن كله كما ذكرنا. (1)
_________
(1) انظر: التقييد (5/236) .(3/559)
وقال غيره: لكل واحد السلعة التي اشتريت بماله إن عرفت، ولا شركة له في سلعة الآخر، وإن تفاضل المال فلأقلهما مالاً أجرة في عون صاحبه، وإن لم تعلم السلعة فالربح والخسارة بينهما على قيمة الدراهم من الدنانير يوم اشتركا ولأقلهما مالاً أجره في عون صاحبه [لشركة فاسدة بطعام خلطاه ثم باعاه] .
قال ابن القاسم: ولا باس أن يخرج هذا ذهباً وفضة، وهذا مثله من ذهب وفضة، وإن اشتركا بمالين سواء، فأخرج كل واحد ذهبه فصرّها على حدة وجعلا الصرتين بيد أحدهما أو في تابوته أو خرجه فضاعت واحدة، فالذاهبة، منهما، وإن بقيت صرة كل واحد منهما بيده فضياعها منه حتى يخلطا أو يجعلا الصرتين عند أحدهما، وكذلك إن كانتا فيما ذكرنا مختلفتي السكة، إلا أن الصرف واحد، ولو تفاضل الصرف فسدت الشركة وكانت الذاهبة من ربها.(3/560)
وإن بقيت كل صرة بيد ربها حتى ابتاع بها أحدهما أمة على الشركة وتلفت الصرة الأخرى والمالان متفقان فالأمة بينهما والصرة من ربها. وقال غيره: لا تنعقد بينهما شركة حتى يختلطا.
3229 - ولا بأس أن يشتركا بمال كثير يتفاوضان فيه، وهما في بلدين، على أن يجهز كل واحد منهما على صاحبه، ويلغيان نفقتهما، كانا في بلد واحد أو بلدين، وإن اختلف سعراهما كانا ذوي عيال أو لا عيال لهما، وإن كان لأحدهما عيال وولد، وليس للآخر أهل ولا ولد، حسب كل واحد [منهما] ما أنفق، وما ابتاع أحدهما مما يلغى من طعام أو كسوة له أو لعياله فللبائع أن يتبع أيهما شاء بالثمن، لأن النفقة والكسوة لهما أو لعيالهما مما يلغى، وهي من مال التجارة إلا كسوة(3/561)
لا يبتذلها العيال، كوشي أو قصبي ونحوه، فهذا لا يلغى، وإن ابتاع أحدهما طعاماً أو كسوة له أو لعياله لم يدخل فيه الآخر، إذ لا بد لهما من ذلك وعليه عقدا.
3230 - والمفاوضة على وجهين: إما في جميع الأشياء، وإما في نوع واحد من المتاجر يتفاوضان فيه كشراء الرقيق يتفاوضان فيه إذا اشتركا على أصل مال.
قال ابن القاسم: وأما شركة عنان فلا أعرفه من قول مالك، ولا رأيت أحداً من أهل الحجاز يعرفه.(3/562)
3231 - ومن أقام البينة على رجل أنه مفاوضه على الثلث أو على الثلثين جاز ذلك وكانا متفاوضين، ويكونان متفاوضين ولأحدهما هين أو عرض دون صاحبه، ولا يفسد ذلك المفاوضة بينهما. (1)
3232 - ومن أقام بينة أن فلاناً مفاوضه، كان جميع ما في أيديهما بينهما، إلا ما قامت فيه بينة أنه لأحدهما بميراث أو هبة أو صدقة عليه، أو كان له قبل التفاوض، وأنه لم يفاوض عليه فيكون له خاصة، والمفاوضة فيما سواه قائمة، وما ابتاع أحد المتفاوضين من بيع صحيح أو فاسد لزم الآخر، ويتبع البائع بالثمن أو القيمة في فوت الفاسد أيهما شاء، ومن عليه دين لأحدهما فقضاه لشريكه جاز.
3233 - ويجوز للمأذون له مفاوضة الحر، [كما يجوز له أن يدفع قراضاً،] . وتجوز شركة العبيد إذا أُذن لهم في التجارة.
ولا يصلح لمسلم أن يشارك ذمياً إلا أن لا يغيب الذمي على بيع ولا شراء ولا قضاء ولا اقتضاء إلا بحضرة المسلم. وتجوز الشركة بين النساء أو بين النساء والرجال.
_________
(1) انظر: منح الجليل (6/254) .(3/563)
وأكره أن يخرجا مالاً على أن يتجرا به، وبالدين مفاوضة، فإن فعلا فما اشترى كل واحد منهما فبينهما وإن جاوز رأس ماليهما، وإن تفاوضا بالمالين ولم يذكرا في أصل شركتهما أن يبيعا بدين فباع أحدهما بدين، فذلك جائز على شريكه.
3234 - وإن تفاوضا بأموالهما في جميع التجارات، وليس لأحدهما مال دون صاحبه، فاشترى أحدهما من مال الشركة جارية لنفسه، وأشهد على ذلك، خيّر شريكه بين أن يجيز له ذلك، أو يردها في الشركة، قيل: فإن ابتاعها للوطء، أو للخدمة من مال الشركة، أتكون له أم في الشركة؟ قال: قيل لمالك: إذا كان كل واحد منهما يشتري الأمة [من مال الشركة] فيطؤها ثم يبيعها ويرد ثمنها في رأس المال؟ قال: لا خير في ذلك، قيل: فما يصنعان بما في أيديهما من الجواري مما قد اشتريا على هذا الشراء؟ قال: يتقاومانهن فيما بينهما، فمن صارت له الأمة كانت له بثمن معلوم وحلّ له الوطء.
قال ابن القاسم: وإن شاء الشريك أنفذها لشريكه الذي وطئها بالثمن الذي(3/564)
اشتراها به، وليس من فعل ذلك من أحد المتفاوضين كغاصب للثمن، أو متعد في وديعة ابتاع بها سلعة، هذا ليس عليه لرب الدنانير إلا مثل دنانيره، ولكنه كمبضع معه في شراء سلعة أو مقارض تعدى، فرب المال مخير في أخذ ما اشترى أو تركه، لأن هؤلاء أذن لهم في تحريك المال، فلكل متعد سُنّة يحمل عليها، إلا أن الذي ابتاع الأمة ووطئها من المتفاوضين إذا لم يسلمها له الشريك بالثمن وقال: لا أقاومه ولكن أردها في الشركة، لم يكن له ذلك، وقال غيره: له ذلك.
3235 - وإذا أخر أحد المتفاوضين غريماً بدين أو وضع له منه نظراً واستيلافاً في التجارة ليشتري منه في المستقبل جاز. وكذلك الوكيل على البيع إذا كان مفوضاً إليه، وما صنعه مفوض إليه من شريك أو وكيل على وجه المعروف لم يلزم، ولكن يلزم الشريك في حصته، ويرد صنيع الوكيل إلا أن يهلك ما صنع الوكيل من ذلك فيضمنه الوكيل.
وإن باع أحدهما سلعة بثمن إلى أجل لم يصلح لشريكه أن يبتاعها بأقل من ذلك [الثمن] نقداً، لكن يبتاعها بما يجوز لبائعها أن يشتريها به.(3/565)
وإن أبضع أحدهما مع رجل دنانير من الشركة ليشتري بها شيئاً [ثم علم الرجل بموت الذي بعثها معه، أو بموت شريكه، فإن علم أنها من الشركة فلا يشتر بها شيئاً] وليردها على الباقي وعلى الورثة، وإن بلغه افتراقهما فله أن يشتري، لأن ذلك لهما بعد، وفي الموت يقع للورثة بعضه، وهم لم يأمروه بذلك. ولأحد المتفاوضين أن يبضع أو يقارض دون إذن الآخر.
3236 - وأما إيداعه فإن كان لوجه عذر لنزوله ببلد فيرى أن يودع، إذ منزله الفنادق وما لا أمن فيه، فذلك له. وما أودع لغير عذر ضمنه.
وإن أودعك أحدهما وديعة فزعمت أنك رددتها إليه فأنكر، فأنت مصدق، إلا أن يودعك ببينة، فلا تبرأ إلا ببينة، فإن زعمت أنها هلكت فأنت مصدق وإن أخذتها ببينة، وإن رددتها إلى الآخر منهما [بغير بينة] برئت إن صدقك القابض وإن أنكر لم تبرأ إلا ببينة ودفعك لثمن ما ابتعت منهما، أو من أحدهما إلى أحدهما، مبايعك أو غيره، فذلك يبرؤك إن صدقك القابض، وإلا لم تبرأ إلا ببينة.(3/566)
3237 - وإن أودع أحد المتفاوضين وديعة لرجل فأودعها ذلك الرجل لشريكه المفاوض ضمن، إلا أن يكون ذلك لعذر من عورة بيت أو سفر أراده.
ومن دفعت إليه منهما وديعة كانت بيده دون صاحبه، فإن مات ولم تعرف الوديعة بعينها، كانت في حصته ديناً دون حصة شريكه إذ ليست من التجارة.
وإذا أودع رجل لأحدهما وديعة فعمل بالوديعة تعدياً فربح، فإن علم شريكه بالعداء ورضي بالتجارة بها بينهما، فلهما الربح والضمان عليهما، وإن لم يعلم فالربح للمتعدي وعليه الضمان خاصة.
وقال غيره: إن رضي الشريك وعمل معه فإنما له أجر مثله فيما أعانه، وهو ضامن، وإن رضي ولم يعمل معه فلا شيء له ولا ضمان عليه، ولا يوجب الرضا بذلك دون بسط اليد ضماناً ولا ربحاً، إلا من وجه قول الرجل للرجل: لك نصف ما أربح في هذه السلعة، فله طلبه بذلك ما لم يفلس أو يمت.(3/567)
ولا يجوز لأحدهما أن يفاوض شريكاً إلا بإذن شريكه، وأما إن شاركه في سلعة بعينها غير شركة مفاوضة فجائز. (1)
وإن أخذ أحدهما قراضاً فلا ربح للآخر فيه، ولا ضمان عليه فيما تعدى فيه الآخذ له، لأن المقارضة ليست من التجارة وإنما هو أجير أجر نفسه فلا شيء لشريكه في ذلك.
وإن استعار أحدهما بغير إذن الآخر ما حمل عليه لنفسه أو لمال الشركة [فتلف] فضمانه من المستعير، ولا شيء على شريكه، لأن شريكه يقول: كنت أستأجر لئلا أضمن.
قال غيره: لا يضمن الدابة في العارية إلا بالتعدي، وإن استعاراها جميعاً فتعدى عليها أحدهما ضمن المتعدي خاصة في ماله، [وإن استعارها أحدهما لحمل طعام من الشركة فحمله شريكه الآخر عليها بغير أمر شريكه] فعطبت، لم يضمن، إذ فعل بها [شريكه] ما استعيرت له وشريكه كوكيله، ولو استعار رجل دابة ليحمل عليها غلاماً له فربطها في داره
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/128) ، ومواهب الجليل (5/118) .(3/568)
وأتى أجنبي فحمل عليها ذلك الغلام نفسه فعطبت، كان ضامناً إذ لم يأذن له ربها ولا وكله المستعير.
3238 - وليس لأحد المتفاوضين أن يعير من مال الشركة إلا أن يوسع له في ذلك شريكه أو يكون شيئاً خفيفاً كعارية غلام يسقي دابة أو نحوه، فأرجو أن لا يكون به بأس، والعارية من المعروف الذي لا يجوز لأحدهما أن يفعله في مال الشركة إلا بإذن صاحبه إلا أن يكون أراد به استيلاف التجارة.
وإن وهب أحدهما أو أعار على المعروف ضمن حصة شريكه، إلا أن يفعل ذلك لاستيلاف التجارة فلا يضمن، وإن باع أحدهما جارية ثم وهب ثمنها لم يجز ذلك، إلا في حصته.
وعبد المتفاوضين ليس لأحدهما أن يأذن له في التجارة، ولا يكاتبه ولا يعتقه على مال يتعجله منه بغير إذن شريكه، إلا أن يأخذ مالاً من أجنبي على عتقه مثل قيمته فأكثر فيجوز، وهو كبيعه.
3239 - ولا يلزم أحدهما كفالة الآخر، لأنهما معروف، وما جنى أحدهما أو غصب أو استهلك أو أصدق أو آجر فيه نفسه، فلا يلزم شريكه منه شيء.(3/569)
3240 - ومن ابتاع من أحدهما عبداً فظهر على عيب فله رده بالعيب على بائعه [إن كان حاضراً] وإن كان غائباً غيبة قريبة كاليوم ونحوه فلينتظر لعل له حجة، وإن كانت غيبته بعيدة فأقام المشتري بينة أنه ابتاع [منه] بيع الإسلام وعهدته، نظر في العيب، فإن كان قديماً لا يحدث مثله، رُدّ العبد على الشريك الآخر، وإن كان يحدث مثله فعلى المبتاع البينة أن هذا العيب كان عند البائع، وإلا حلف الشريك الآخر بالله: ما أعلم أن هذا العيب كان عندنا، وبرئ، فإن نكل حلف المبتاع [على البتّ] أنه ما حدث عنده ثم رده عليه.
3241 - ومن ابتاع سلعة من أحد المتفاوضين بثمن إلى أجل فقضى الثمن بعد افتراقهما للذي باع منه أو لشريكه، فإن لم يعلم بافتراقهما فلا شيء عليه، وإن علم ضمن حصة الآخر.
3242 - وأما من كان له وكيل قد فوض إليه في البيع والشراء واقتضاء الديون وأشهد له بذلك ثم خلعه وأشهد على خلعه، ولم يعلم بذلك غرماؤه فلا يبرأ غريم مما دفع إليه بعد خلعه، كان ذلك من ثمن شيء باعه الوكيل أم لا. وقال غيره: إن لم يعلم(3/570)
الوكيل ولا الغريم بالحجر فالغريم بريء، وإن علم بذلك أحدهما والآخر عالم أم لا، لم يبرأ الغريم.
ولا بأس أن يشتري أحد المتفاوضين من الآخر سلعة من تجارتهما لنفسه لقنية أو لتجارة. (1)
3243 - وإن اشترى أحدهما عبداً فوجد به عيباً فرضيه هو أو شريكه لزم ذلك الآخر، فإن رده مبتاعه ورضيه شريكه لزمه رضاه، لأن مشتريه لو رده ثم اشتراه شريكه وقد علم بالرد وبالعيب لزم ذلك شريكه.
وإقالة أحدهما فيما باعه هو أو شريكه وتوليته لازمة كبيعه، ما لم تكن محاباة، فيكون كالمعروف لا يلزم إلا ما جرّ به إلى التجارة نفعاً، وإلا لزمه قدر حصته منه وإقالته لخوف عُدْم الغريم [ونحوه] من النظر، فهو كشراء حادث. وإن أقرّ
_________
(1) انظر: منح الجليل (6/415) .(3/571)
أحدهما بدين من شركتهما لأبويه أو لولده أو لجده [أو لجدته] أو لزوجه أو صديق ملاطف ومن يتهم عليه، لم يجز ذلك على شريكه، ويجوز إقراره بذلك لأجنبي ممن لا يتهم عليه ويلزم شريكه.
ولو أن شريكين في دار أو متاع أو غير ذلك من العروض أقر أحدهما لأجنبي بنصف ما في أيديهما، حلف المدعي [معه] واستحق لأنه شاهد كإقرار وارث بدين على الميت.
3244 - وإن مات أحد الشريكين لم يكن للباقي أن يحدث في المال ولا في السلع قليلاً ولا كثيراً، إلا برضى الورثة لانقطاع الشركة. وإن اشتركا شركة صحيحة فادعى أحدهما أنه ابتاع سلعة وضاعت منه صدق، لأنه أمين فيما يلي.
3245 - وإن مات أحد المتفاوضين فأقر الحيّ منهما أنهما رهنا متاعاً من الشركة عند فلان، وقال ورثة الهالك: بل أودعته أنت إياه بعد موت وليّنا، فللمرتهن أن يحلف مع شاهده الحي ويستحق الجميع رهناً، فإن أبى فله حصة المقر رهناً، لأن مالكاً قال في أحد الورثة يقر بدين على الميت: إن صاحب الدين يحلف معه ويستحق جميع حقه من مال الميت، وإن نكل أخذ من المقر ما ينوبه من الدين، ولا يأخذ من حصته دينه كله.(3/572)
وإن جحد أحد المتفاوضين الشركة فأقام عليه الآخر البينة فهلك المال بيد الجاحد في الخصومة فإنه ضامن لحصة الآخر، لأنه كالغاصب يمنعه.
3246 - وإن مات أحد الشريكين فأقام صاحبه بينة أن مائة دينار من الشركة كانت عند الميت فلم توجد، ولا علم مسقطها، فإن كان موته قريباً من أخذها فيما يظن أن مثله لم يشغلها في تجارة، فهي في حصته، وما تطاول وقته لم يلزمه، أرأيت لو قالت البينة: إنه قبضها منذ سنة، وهما يتجران أيلزمه؟ أي [أنه] لا شيء عليه.
* * *(3/573)
كتاب الأقضية
3247 - وإذا قضى القاضي بقضية فيها اختلاف بين العلماء، ثم تبين له أن الحق غير ما قضى به، رجع فيه، وإنما لا ينقض ما حكم فيه غيره مما فيه اختلاف. ولا ينبغي للقاضي أن يكثر الجلوس جداً، وإذا دخله هم أو نعاس أو ضجر فليقم.
قال مالك: والقضاء في المسجد من الحق، وهو من الأمر القديم، ولأنه يرضى فيه بالدون من المجلس، وتصل إليه المرأة والضعيف، وإذا احتجب لم يصل إليه الناس. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/144) .(3/575)
ولا يقيم في المسجد الحدود وشبهها، ولا بأس فيه بخفيف الأدب، ولا بأس أن يضرب الخصم إذا تبين لدده وظلمه.
3248 - ولا يقضي بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السر، فإن زُكوا في السر أو في العلانية اكتفى بذلك، ولا يقبل في التزكية أقل من رجلين، ويزكى الشاهد وهو غائب عن القاضي، ومن الناس من لا يسأل عنه ولا يطلب فيه تزكية لشهرة عدالته عند القاضي والناس، وإذا استقال الشاهد بعد الحكم لم يقل.
ولا تجوز شهادته فيما يُستقبل، وإن استقال قبل الحكم وادعى وهماً وجاء بشبهة أُقيل، ولا تبطل شهادته إلا أن يعرف كذبه فيما شهد به، فترد شهادته في هذا وفي غيره.
وإذا عرف الشاهد خطه في كتاب فيه شهادته، فلا يشهد حتى يذكر الشهادة ويوقن بها، ولكن يؤدي ذلك كما علم ثم لا تنفع الطالب.
3249 - وإذا مات القاضي أو عزل وفي ديوانه شهادة البينات وعدالتها، لم ينظر فيه من ولي بعده ولم يجزه إلا أن تقوم عليه بينة، وإن قال المعزول: ما في ديواني قد شهدت به البينة عندي، لم يقبل قوله، ولا أراه شاهداً، فإن لم تقد بينة على ذلك أمرهم القاضي المحدث بإعادة البينة.(3/576)
وللطالب أن يحلِّف المطلوب بالله أن هذه الشهادة التي في ديوان القاضي ما شهد عليه بها أحد، فإن نكل حلف الطالب وثبتت له الشهادة ثم نظر فيها الذي ولي بما كان ينظر المعزول، ولا تجوز شهادة المعزول على ما حكم به.
3250 - ولا يتخذ القاضي كاتباً من أهل الذمة ولا قاسماً ولا عبداً [ولا مكاتباً] ولا يتخذ في شيء من أمور المسلمين إلا العدول المسلمين.
3251 - وإذا كتب قاض إلى قاض، فمات الذي كتب الكتاب أو عزل قبل أن يصل الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، أو مات المكتوب إليه أو عزل، ووصل الكتاب إلى من ولي بعده، فالكتاب جائز ينفذه من وصل إليه، وإن كان إنما كتب إلى غيره. (1)
3252 - وتجوز كتب القضاة إلى القضاة في القصاص والحدود وغيرها، لجواز الشهادة على ذلك.
ومن أقام بينة على غائب ثم قدم قبل الحكم لم تعد البينة بحضوره، ألا ترى
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/146) ، والتاج والإكليل (6/142) .(3/577)
أنه يقضى عليه في غيبته، ولكن يخبر بمن شهد عليه وبالشهادة، فلعل له حجة، فإن كانت عنده حجة وإلا حكم عليه.
3253 - وسُئل مالك عن أشياء قضت فيها ولاة المياه، فرأى أن تجوز إلا في جور بيّن، وكذلك والي الفسطاط أمير الصلاة إن حكم، وكذلك والي الإسكندرية إن قضى بقضية أو استقضى قاضياً فقضى، فإنما يُنقض من ذلك الجور البين.
ولو أن رجلين حكّما بينهما رجلاً فحكم بينهما، فليمضه القاضي ولا يرده، إلا أن يكون جوراً بيناً. ومسألة من اعتُرفت في يده دابة [أو غيرها، فسأل وضع قيمتها ليخرج بها إلى بلد بائعه] قد تقدم ذكرها في كتاب تضمين الصناع.
3254 - وكره مالك إجارة قسام القاضي، وأنا أرى إن وقع ذلك أن يكون على عدد(3/578)
الرؤوس لا على قدر الأنصباء إذا لم يشترطوا بينهم شيئاً.
ولا تجوز شهادة القُسّام على ما قسموا، وإذا اقتسم الورثة ثم ادعى أحدهما الغلط فذلك مذكور في كتاب القسم.
وإذا دفع القاضي مالاً إلى رجل فأمره أن يدفعه إلى فلان، فقال: دفعته إليه، وكذبه فلان، فالرسول ضامن إلا أن يقيم بينة.
3255 - وإذا وجد السلطان أحداً على حدّ من حدود الله تعالى رفع ذلك إلى من فوقه، وإن رآه السلطان الأعلى الذي ليس فوقه سلطان فليرفعه إلى القاضي، فإن رآه مثل أمير مصر رفعه إلى القاضي، وكان شاهداً، دون أن يرفعه إلى أمير المؤمنين.
وإن سمع السلطان قذفاً، فإن كان معه شهود لم يجز فيه عفو الطالب، إلا أن يريد ستراً، مثل أن يخاف أن يثبت ذلك عليه إن لم يعف، قيل لمالك: فكيف يعرف ذلك؟ قال: يسأل الإمام عن ذلك سراً، فإن أخبر أن ذلك أمر قد سمع أجاز عفوه.
3256 - ولا يقضي القاضي بعلمه قبل أن يلي أو بعد، ولو أقرّ أحد الخصمين عند القاضي بشيء وليس عنده أحد، ثم يعود [المقر] إليه فيجحد ذلك الإقرار، فإنه لا يقضي عليه به إلا ببينة سواه، فإن لم تكن عنده بينة شهد هو بذلك عند من فوقه، وكذلك ما اطلع عليه من حد لله عز وجل أو رأى من غصب، أو سمع من قذف، فليرفعه إلى من فوقه ويكون شاهداً.(3/579)
وفرق أهل العراق بين الحدود والإقرارات، وقالوا يحكم من الإقرار بما سمع في ولايته لا بما علم قبل أن يلي، ورأى مالك ذلك كله سواء.
3257 - ولا عهدة على قاضٍ أو على وصي فيما وليا بيعه، وعهدة المبتاع في مال اليتامى فإن هلك مال الأيتام ثم استحقت السلعة فلا شيء على الأيتام.
3258 - وإذا عزل القاضي [وقد حكم بأحكام] فادعى من حكم عليه جوره، لم ينظر في قوله، ولا خصومة بينهما، وقضاؤه نافذ، إلا أن يرى الذي ولي بعده جوراً بيّناً فيرده، ولا شيء على الأول، ولا يتعرض الذي ولي قضاء من كان قبله إلا في الجور البين.
3259 - قال مالك: ولا يستقضى من ليس بفقيه (1) . وقال عمر بن عبد العزيز: لا يستقضى حتى يكون عارفاً بآثار من مضى مستشيراً لذوي الرأي.
قال مالك: ولا ينبغي لطالب العلم أن يفتي حتى يراه الناس أهلاً للفتيا. قال
_________
(1) انظر: المدونة (12/149، 150) .(3/580)
سحنون: الناس هاهنا العلماء. قال ابن هرمز: ويرى هو نفسه أهلاً لذلك. قال مالك: وليس علم القضاء كغيره من العلم، ولم يكن بهذا البلد أحد أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن، وكان قد أخذ شيئاً من علم القضاء من أبان بن عثمان وأخذ ذلك أبان من أبيه عثمان.
3260 - وإذا أدلى الخصمان بحجتهما ففهم القاضي عنهما وأراد أن يحكم بينهما فليقل لهما: أبَقِيت لكما حجةظ فإن قالا: لا، حكم بينهما، ثم لا يقبل من المطلوب حجة إلا أن يأتي بما له وجه، مثل بينة لم يعلم بها، أو يكون أتى بشاهد عند من لا يقضي بشاهد ويمين، فحكم عليه، ثم وجد شاهداً آخر بعد الحكم، وقال: لم أعلم به، فليقض بهذا الآخر. (1)
* * *
_________
(1) انظر: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لبدر الدين بن جماعة الشافعي - بتحقيقنا - ط دار الكتب العلمية، وكذلك مثله: رسائل في السياسة الشرعية.(3/581)
(كتاب الشهادات)
3261 - ولا تجوز شهادة من هو في عيال رجل له، وكذلك الأخ والأجير إذا كانا في عياله، فإن لم يكونا في عياله جازت شهادتهما إذا كانا مبرزين في العدالة في الأموال والتعديل. وقال النبي ÷: لا تجوز شهادة خصم(3/583)
ولا ظنين ولا جارٍّ لنفسه ولا دافعٍ لها. (1)
3262 - ولا تجوز شهادة السؤال إلا في التافه اليسير فتجوز إذا كان عدلاً، ولا تجوز شهادة المغنّي والنائحة إذا عرفوا بذلك. (2)
3263 - قال مالك: ولا تجوز شهادة الشاعر الذي يمدح من أعطاه ويهجو من منعه، وإن كان لا يهجو أحداً، [ويأخذ ممن أعطاه] قُبِل إذا كان عدلاً.
3264 - ومن أدمن على اللعب بالشطرنج لم تجز شهادته [وإن كان إنما هو المرة بعد المرة فشهادته جائزة] إذا كان عدلاً، وكره مالك اللعب بها وإن قلّ، وقال: هي أشر من النرد.
_________
(1) انظر الآثار المروية في ذلك: مصنف ابن أبي شيبة (7/258) ، والسنن الكبرى للبيهقي (10/150) ، والموطأ (2/720) .
(2) انظر: المدونة (12/138) ، (13/153) ، والتاج والإكليل (6/167) ، والقوانين (ص203) .(3/584)
3265 - وتجوز شهادة المولى لمن أعتقه، ما لم يدفع بها عن نفسه شيئاً أو يجره إليها. ولا تجوز شهادة الرجل لمكاتبه ولا لعبد ابنه، وإن شهد لأمة بالعتق زوجها ورجل أجنبي لم تجز شهادة الزوج.
3266 - وإذا شهد صبي أو عبد أو نصراني شهادة، ثم أدوها بعد الحلم أو العتق أو الإسلام جازت الشهادة، ولو أدوها في حالتهم الأولى فردت لم تجز أبداً، وروي ذلك عن عثمان وغيره.
3267 - ولا تجوز شهادة الأبوية أو أحدهما للولد، ولا الولد لهما، ولا أحد الزوجين لصاحبه، ولا الجد لابن ابنه ولا الرجل لجده، ولا تجوز في [أحد من] هؤلاء شهادة للآخر في حق أو تزكية أو في تجريح من شهد عليه.
وتجوز شهادة الأخ لأخيه، والرجل لمولاه ولصديقه الملاطف، إلا أن يكون في عياله أحد من هؤلاء يمونه، فلا تجوز شهادته له. (1)
وتجوز شهادة الرجل لشريكه المفاوض إذا شهد له في غير التجارة إذا كان لا يجرّ بذلك إلى نفسه شيئاً.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/155) ، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص203) ، والتاج والإكليل (6/155) ، ومنح الجليل (8/394) .(3/585)
3268 - ولا تجوز شهادة أهل الكفر على مسلم أو كافر من أهل ملتهم أو من غيرها، ولا على وصية ميت [مات] في سفر، وإن لم يحضره مسلمون، وتجوز شهادة المسلمين عليهم.
3269 - ولا تجوز شهادة نساء أهل الكفر في الاستهلال أو الولادة، وتجوز في ذلك شهادة امرأتين مسلمتين، وكل شيء تقبل فيه شهادة النساء وحدهن، فلا يقبل فيه أقل من امرأتين، ولا تجوز شهادة امرأة واحدة في شيء من الشهادات.
3270 - وتجوز شهادة من تاب ممن حُدّ في القذف، وحسنت حاله وزاد على ما عرف به من حسن الحال، في الحقوق والطلاق.
3271 - وتجوز الشهادة على الشهادة في الحد والطلاق والولاء، وفي كل شيء. وشهادة رجلين تجوز على شهادة عدد كثير. ولا ينقل أقل من اثنين في الحقوق عن واحد فأكثر.
3272 - ولا يجوز نقل واحد عن واحد مع يمين الطالب في مال، لأنها بعض شهادة شاهد، والنقل بعينه ليس بمال فيحلف عليه من الناقل، ولو أجيز ذلك لم يصل إلى(3/586)
قبض المال إلا بيمين، وإنما قضى النبي ÷ في الأموال بشاهد ويمين واحدة. (1)
3273 - ولا تجوز شهادة النساء في الحدود والقصاص والطلاق والنكاح والنسب والعتاق والولاء، شهدن في ذلك على علمهن أو على السماع، كنّ وحدهن أو مع رجل [قال مالك:] ولا تجوز شهادتهن إلا حيث ذكرها الله في الدين وما لا يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك.
3274 - ويحلف الطالب مع شهادة امرأتين في الأموال ويقضى له، وتجوز شهادتهن على الشهادات في الأموال أو في الوكالة على الأموال إذا كان معهن رجل، وهنّ وإن كثرن كرجل [واحد] ، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل، نقلن عن رجل أو امرأة
_________
(1) رواه مسلم (1712) ، وأبو داود (3608) ، ومالك في الموطأ (2/721) ، وابن ماجة (2369) .(3/587)
وقاله أشهب. وقال غيره: لا تجوز شهادتهن على شهادة، ولا على وكالة في مال. قال ابن القاسم: وما لا تجوز فيه شهادتهن فلا يجوز أن يشهدن فيه على شهادة غيرهن، كان معهن رجل أم لا.
3275 - قال مالك: وتجوز شهادتهن في المواريث إذا ثبت النسب بغيرهن، وإنما جازت في اختلافهم في الميراث، لأنه مال، والنسب معروف بغير شهادتهن.
وتجوز في قتل الخطأ لأنه مال، قال ربيعة وسحنون: إنما أُجزن في قتل الخطأ والاستهلال ضرورة لفواتهما، وأما الجسد فهو يبقى، فإن شهد رجلان على رؤية جسد القتيل والجنين، وإلا لم تجز شهادتهن.
3276 - قال مالك: وتجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في القتل والجراح ما لم يفترقوا أو يخيبوا، ولا تجوز إلا شهادة اثنين منهم فأكثر، بعضهم على بعض(3/588)
إذا كانوا صبياناً كلهم. ولا تجوز فيه شهادة واحد، ولا تجوز شهادة الإناث من الصبيان في الجراح فيما بينهم.
ولا تجوز شهادة الصبيان في الجراح لكبير على صغير أو كبير، وإذا شهدت بينة على قول صبي أن فلاناً الصبي قتله، لم ينفع هذا إلا ببينة على القتل، ولا يقسم بذلك وإن اعترف القاتل، وليس في الصبيان قسامة فيما بين بعضهم لبعض إلا أن يشهد كبير أن كبيراً قتل صغيراً، فيقسم ولاته على ما شهد به الشاهد من عمد أو خطأ.
قال أشهب أو غيره: لا تجوز شهادة الصبيان في القتل، ولا تجوز شهادة الإناث. وقال المخزومي: إن الإناث تجوز شهادتهن وإن شهادة الصبيان في القتل جائزة. وقال ابن نافع وغيره في صبي شهد عليه صبيان أنه(3/589)
جرح صبياً ثم نزى في جرحه فمات، أن ولاته يقسمون لَمِنْ ضَرْبه مات، ويستحقون الدية.
3276 - وتجوز شهادة الوصيين أو الوارثين بدين على الميت، وإن شهد لصاحب الدين بذلك واحد من الورثة، فإنه يحلف معه إن كان عدلاً ويستحق حقه، فإن نكل أخذ من شاهده قدر ما يصيبه من الدين، وإن كان سفيهاً لم تجز شهادته، ولم يرجع عليه في حصته بقليل ولا كثير.
وشهادة الوصيين أن الميت أوصى لفلان معهما جائزة، وقال غيره: إذا ادعى ذلك فلان، ولم يجرا بذلك إلى أنفسهما نفعاً وكذلك الوارثان.
3277 - وتجوز شهادة الوارثين على نسب يلحقانه بالميت، أو دين أو وصية أو أن فلاناً وصي، وإن شهدا أن أباهما أعتق هذا العبد ومعهما أخوات أو زوجة للأب، فإن لم يتهما في ولائه لدناءته جازت شهادتهما، وإن كان يُرغب في ولائه ويتهمان على جره لم تجز شهادتهما.(3/590)
3278 - ولا تجوز شهادة وصي بدين للميت، إلا أن يكون الورثة كباراً [عدولاً] وكان لا يجرّ بشهادته شيئاً يأخذه فشهادته جائزة.
قال مالك: فإن شهد الوصي لورثة الميت بدين لهم على الناس، لم تجز شهادته، لأنه الناظر لهم، إلا أن يكونوا كباراً عدولاً يلون أنفسهم فتجوز شهادته لهم، لأنه لا يقبض لهم شيئاً وهم يقبضون لأنفسهم إذا كانت حالهم مرضية. (1)
3279 - ولا تجوز شهادة النساء وحدهن أو مع رجل أن فلاناً وصى، إذا كان في الوصية عتق وأبضاع نساء.
وقال غيره: لا تجوز في الوصي بحال، لأن ذلك ليس بمال.
قال سحنون: الوصية والوكالة ليستا بمال، إذ لا يحلف وصي أو وكيل مع شاهد رب المال إذ المال لغيرهما. وإن شهدن لرجل أن فلاناً أوصى له بكذا جازت شهادتهن مع يمينه، وامرأتان في
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/164، 165) ، ومواهب الجليل (6/172) ، والكافي لابن عبد البر (ص461، 462) ، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص212) .(3/591)
ذلك، ومائة امرأة سواء، يحلف معهن ويستحق، ولا يحلف مع امرأة واحدة، فإن شهدن لعبد أو لامرأة أو لذمي فإنه يحلف ويستحق.
وأما إن شهدن لصبي فإنه لا يحلف حتى يبلغ، وإن كان في الورثة كبار أو أصاغر حلفوا وأخذوا مقدار حقهم، فإن نكلوا وبلغ الصغار، كان لهم أن يحلفوا ويستحقوا حقهم.
3280 - وإن شهد رجل وامرأتان على رجل بالسرقة ضمن المال ولم يقطع، ولو شهد عليه بالسرقة رجل واحد حلف الطالب وضمن له السارق ولم يقطع، كما لو أقام شاهداً أن عبد فلان قتل عبده عمداً أو خطأ، فإنه يحلف معه يميناً واحدة، ويستحق العبد ولا يقتله وإن كان عمداً.
وكل جرح لا قصاص فيه مما هو متلف كالجائفة والمأمومة وشبهها، فالشاهد واليمين فيه جائز، لأن العمد والخطأ فيه إنما هو مال.
3281 - ومن أقام شاهداً بمائة دينار ديناً، وشاهداً بخمسين، فإن شاء حلف مع شاهد المائة وقُضي له بها، وإلا أخذ خمسين بغير يمين.(3/592)
3282 - وإذا شهد وارثان أن فلاناً تكفل لفلان ولوالدهما بمال، أو شهد رجلان أن لهما أو لفلان على فلان مائة دينار، لم يجز شيء من ذلك.
وقال مالك فيمن شهد على وصية أُوصي له فيها بشيء تافه لا يتهم فيه جازت له ولغيره إذ لا يصح بعض الشهادة ويرد بعضها.
وقال غيره عن مالك: إذا اتهم لم تجز شهادته له ولا لغيره.
قال سحنون: وفي هذا الأصل اختلاف عن مالك [وغيره] ، قال يحيى بن سعيد: إن كان معه شاهد غيره جازت له ولغيره، وإن كان وحده جازت لغيره ولم تجز له، وروى ابن وهب عن مالك أنها لا تجوز له ولا لغيره.
3283 -[وقال يحيى بن سعيد في قوم مسافرين في قبائل شتى، توفي أحدهم فأوصى لهم(3/593)
بوصية ولم يشهد على الوصية [غيرهم] : إن شهادة بعضهم لبعض في الوصية لا تجوز، إلا أن يشهد لهم من ليس له في الوصية حق] .
3284 - وإن شهد شاهد على وصية فيها عتق، ووصايا لقوم لم تجز شهادته في العتق، وتجوز في الوصايا للقوم مع أيمانهم، فإن ضاق الثلث فإنما لهم من الثلث ما فضل عن العتق، وإنما تبطل كلها لو شهد لنفسه فيها.
3285 - ومن أودعك وديعة فشهدت عليه أنه تصدق بها على فلان، أو أقرّ بها له، حلف فلان مع شهادتك واستحقها إن كان حاضراً، وإن غاب لم تجز شهادتك إن كانت غيبة تنتفع أنت بمثلها في المال.
3286 - ومن سمع رجلاً يذكر شهادته أن لفلان [على فلان] كذا، أو يقول: سمعت فلاناً يقذف فلاناً، أو يطلق زوجته، فلا يشهد على شهادته حتى يقول له: اشهد على شهادتي، وإن سمع رجلاً يطلق زوجته أو يقذف رجلاً فليشهد بذلك، وإن لم يشهده وعليه أن يشهد ويخبر بذلك من له الشهادة.(3/594)
3287 - وقال مالك في الحدود: إنه يشهد بما سمع إن كان معه غيره، وسمعته قبل ذلك يقول فيمن مرّ برجلين يتكلمان في أمر فسمع منهما شيئاً ولم يشهداه، ثم يطلب أحدهما تلك الشهادة، قال: فلا يشهد له. قال ابن القاسم: إلا أن يستوعب كلامهما من أوله [إلى آخره] فليشهد وإلا فلا، إذ قد يكون قبله كلام يبطله أو بعده. (1)
3288 - وإن شهد شاهدان أنهما سمعا أن هذا الميت مولى فلان هذا لا يعلمان له وارثاً غير
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/133) ، (13/169) ، والشرح الكبير (4/179) ، وحاشية الدسوقي (4/179) .(3/595)
هذا، أو شهد شاهد واحد أنه مولاه اعتقه، استوني بالمال، فإن لم يستحقه أحد غيره قضي له به مع يمينه، ولا يجر بذلك الولاء.
3289 - وإن كان شاهد واحد على السماع، لم يقض له بالمال وإن حلف، لأن السماع نقل شهادة، ولا تجوز شهادة واحد على شهادة غيره، وكثير من هذا المعنى في كتاب الولاء أتم مما ههنا فأغنى عن إعادته.
وإن شهد لرجل أعمامه أن فلاناً الميت مولى أبيه أعتقه، فإن لم يدّعِ ولداً ولا مولى وإنما ترك مالاً جازت الشهادة لارتفاع التهمة، وإن ترك ولداً ومولى يتهمون بذلك على جرّ ولائهم يوماً ما لقُعْدُدهم، لم يجز.
وقد قال مالك في ابني عمٍ شهدا لابن عمهما على عتق: إنه إن كان ممن يتهمان لقربهما منه في جر الولاء لم يجز ذلك، وإن لم يتهما الآن في جر الولاء لبعدهما منه جازت الشهادة، وإن كان الولاء قد يرجع إليهما يوماً ما.
3290 - والشهادة على السماع في الأحباس جائزة لطول زمانها يشهدون أنا لم نزل نسمع أن هذه الدار حبس، تحاز بحوز الأحباس، وإن لم ينقلوا عن بينة(3/596)
معينين إلا قولهم سمعنا وبلغنا، ولو نقلوا عن قوم عدول أشهدوهم لم يكن سماعاً وكانت شهادة.
قال مالك: وليس عندنا أحد ممن شهد على أحباس الصحابة إلا على السماع.
3291 - وسئل مالك عن قوم شهدوا على السماع في حبس على قوم وأنه يعرف أن من مات منهم لا يدخل في نصيبه زوجته، وتهلك ابنة الميت، فلا يدخل فيه ولدها ولا زوجها. قال: أراه حبساً ثابتاً وإن لم يشهدوا على أصل الحبس، ولم يذكروا ذلك كله وذكروا من السماع ما يستدل به فذلك جائز.
ومن أقامت في يده دار خمسين سنة أو ستين ثم قدم رجل كان غائباً فادعاها، وثبت الأصل له، وأقام بينة أنها لأبيه أو جده، وثبتت المواريث حتى صارت له، فقال الذي بيده الدار: اشتريتها من قوم، وقد انقرضوا وانقرضت البينة وأتى ببينة يشهدون على السماع، فالذي ينفعه من ذلك أن يشهد قوم أنهم سمعوا أن الذي في يديه الدار أو أحد من آبائه ابتاعها من القادم أو من أحد آبائه أو ممن ورثها القادم عنه، أو ممن ابتاعها من أحد ممن ذكرنا، فذلك يقطع حق القادم منها.
قال مالك: وها هنا دور يعرف لمن أصلها بالمدينة قد تداولتها الأملاك فشهادة السماع على مثل هذا جائزة، وإن أتى الذي في يديه الدار ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الذي في يديه الدار أو أحد من آبائه ابتاعها ولا يدرون ممن [ابتاعها](3/597)
فلا ينفعه ذلك، ولو أقام بينة يشهدون على السماع أن أباه ابتاعها ممن ذكرنا منذ خمس سنين ونحوها، لم ينفعه ذلك، ولا يقبل في مثل هذا القرب إلا بينة تقطع على الشراء، فإن لم يأت الحائز ببينة يشهدون على علم الشراء في قريب الزمان أو على السماع في بعيده قضي بها للقادم الذي استحقها.
3292 - ومن أقرّ أنه كان تسلف من فلان الميت مالاً وقضاه إياه فإن كان ما يذكر من ذلك حديثاً لم يطل زمانه لم ينفعه قوله: قضيته، وغرم لورثته إلا أن يقيم بينة قاطعة على القضاء، وإن طال الزمان حلف المقرّ وبرئ، إلا أن يذكر ذلك على معنى الشكر، يقول: جزى الله فلاناً خيراً أسلفني وقضيته، فلا يلزمه في هذا شيء مما أقر به، قرب الزمان أو بعد.
3293 - ومن أقام شاهداً على رجل أنه تكفل له بماله على فلان حلف مع شاهده واستحق الكفالة [بماله] قِبَلَه، ويحاص من قضى له في دينه بشاهد ويمين مع من قضى له بشاهدين.
وإن أقام الطالب شاهداً وأبى أن يحلف معه فله يمين المطلوب فإن نكل غرم،(3/598)
ولا يرد اليمين على الطالب، لأنه هو ردها، وإذا ثبتت الخلطة ولم يأت الطالب بشاهد واستحلف المطلوب فنكل لم يقض الإمام للطالب حتى يرد اليمين عليه، وإن جهل المطلوب أن يسأله ردها، فعليه أن يعلمه بذلك، ولا يقضي حتى يردها، وإن نكل الطالب فلا شيء له. (1)
3294 - وإن حلف المطلوب ثم وجد الطالب بينة فإن لم يكن علم بها قضي له بها، وإن استحلفه بعد علمه ببينته تاركاً لها، وهي حاضرة أو غائبة فلا حق له، وإن قدمت بينته.
وإن قال الطالب للإمام بينتي غائبة فأحلفه لي، فإذا قدمت بينتي قمت بها نظر الإمام، فإن كانت بينته بعيدة الغيبة وخاف تطاول الأمر وذهاب الغريم أحلفه له وكان له القيام ببينته إذا قدمت، وإن كانت بينته قريبة الغيبة على مثل اليومين والثلاثة، لم يحلفه إلا على إسقاطها.
3295 - ومن ادعى قبل رجل كفالة ولا خلطة بينهما فلا يمين له عليه. ومن باع سلعة من رجلين فقبض من أحدهما حصته ثم لقي الآخر فقال له: قد دفعت إلى صاحبي يدفع إليك، فسأل البائع صاحبه فأنكر، فأراد يمينه، فلم ير مالك هذه خلطة توجب اليمين.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/265) ، والكافي لابن عبد البر (1/414) .(3/599)
3296 - ومن ادعى قبل رجل ديناً أو غصباً أو استهلاكاً فإن [كان] عُرِف بمخالطته في معاملته أو علمت تهمته فيما ادعى قبله من التعدي والغصب، نظر فيه الإمام، فإما أحلفه أو أخذ له كفيلاً حتى يأتي بالبينة، وإن لم تعلم خلطته أو تهمته فيما ذكر لم يعرض له، ولا تجب اليمين حتى تثبت الخلطة، وكذلك قال السبعة من فقهاء التابعين.
3297 - وقد قال مالك في امرأة ادعت أن فلاناً استكرهها أنه إن كان ممن [لا] يشار إليه بذلك حُدّت، وإن كان ممن يشار إليه بذلك نظر الإمام في ذلك، وقد تركت هنا مسائل كثيرة قد تقدم ذكرها في كتب النساء والعبيد مستوعبة فأغنى عن إعادته.
3298 - ومن ادعى على رجل أنه ولده أو والده [فأنكر] فلا يمين عليه. ومن ادعى قبل رجل حداً فقدمه إلى القاضي وادعى بينة قريبة يأتي بها في يومه أو غده، فليوقفه القاضي ولا يحبسه.(3/600)
ولو أقام الطالب شاهداً عدلاً حبسه القاضي له، ولا يؤخذ في هذا كفيل، وكذلك في الجراح، وما يكون في الأبدان لا يؤخذ به كفيل.
3299 - ومن ادعى عبداً بيد رجل وأقام شاهداً عدلاً يشهد على القطع أنه عبده، أو أقام بينة تشهد أنهم سمعوا أن عبداً سرق له مثل ما يدعي، وإن لم تكن شهادة قاطعة وله بينة ببلد آخر فسأل وضع [قيمة] العبد ليذهب به إلى بينته لتشهد على عينه عند قاضي تلك البلدة فذلك له، وإن لم يقم شاهداً ولا بينة على سماع ذلك، وادعى بينة قريبة بمنزلة اليومين والثلاثة فسأل وضع قيمة العبد ليذهب به إلى بينته لم يكن ذلك له.
فإن قال: أوقفوا العبد حتى آتي ببينتي، لم يكن له ذلك، إلا أن يدعي بينة حاضرة على الحق، أو سماعاً يثبت له به دعواه، فإن القاضي يوقف العبد ويوكل به حتى يأتيه ببينته، [أو بما يثبت به دعواه] فيما قرب من يوم ونحوه، فإن جاء بشاهد أو بسماع وسأل إيقاف العبد ليأتي ببينته، فإن كانت بعيدة وفي إيقافه ضرر استحلف القاضي المدعى عليه وسلمه إليه بغير كفيل، وإن ادعى شهوداً حضوراً على حقه أوقف له نحو الخمسة الأيام(3/601)
والجمعة وهذا التحديد لغير ابن القاسم.
ورأى ابن القاسم أن يوقف له، لأن الجائي بشاهد أو بسماع له وضع القيمة عند مالك، والذهاب به إلى بينته، فهذا كالإيقاف، ونفقة العبد في الإيقاف على من يُقضى له به.
وقال غيره: وإنما يوقف مثل ما يشهد على عينه من الرقيق والحيوان والعروض، لأن ذلك يحول وتزول عينه.
3300 - قال ابن القاسم: يوقف ما لا يؤمن تغيره وزواله، فأما المأمون كالرباع والعقار وماله من ذلك الغلة فإنما يوقف وقفاً يمنع فيه من الإحداث فيها، والغلة أبداً إنما هي للذي هي بيده، لأن ضمانها منه حتى يُقضى بها للطالب.
قال سحنون: هذا إذا كان مبتاعاً أو صارت إليه من مبتاع.(3/602)
قال غيره: وإن ادعى عليه ديناً أو شيئاً مستهلكاً وطلب كفيلاً، سأله القاضي بيّنة على خلطة أو معاملة أو ظنة، فإن ادعى على الخلطة بيّنة قريبة وُكّل بالمطلوب حتى يأتي بما يوجب اللطخ ما بينه وبين يوم وشبهه، فإن جاء بذلك وادعى على الحق بينة بعيدة استُحلِف المطلوب وأطلقه بغير كفيل، وإن ادعى قربها أخذه بكفيل بنفسه ما بينه وبين خمسة أيام إلى الجمعة، ولا يأخذه بكفيل بالمال، وإنما يأخذ الكفيل بنفسه ليحضره فتشهد عليه البينة، كما يوقف الحيوان والعروض، لأنه يحتاج إلى إحضاره لتشهد البينة على عينه، وأما ما لا يحتاج إلى إحضاره لتشهد البينة على عينه، فلا يؤخذ فيه كفيل. (1)
3301 - وإن كانت الدعوى فيما يفسد من اللحم ورَطِب الفواكه، وقد أقام لطخاً أو شاهداً على الحق، وأبى أن يحلف وادعى بينة قريبة على الحق، أجّله القاضي بإحضار شاهدين أو شاهد إن أتى بشاهد قبله، ولم يحلف معه، ما لم يخف فساد ذلك الشيء، فإن أتى بما ينتفع وإلا أسلم ذلك الشيء إلى المطلوب، ونهي المدعي عن التعرض له، فإن كان الطالب قد أقام شاهدين، فأوقف القاضي ذلك الشيء إلى الكشف عنهما، فإن خاف فساده باعه وأوقف ثمنه، فإن زكيت بينة المدعي وهو
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/184) .(3/603)
مبتاع أخذه وأدى الثم الذي قالت بينته، كان أقل من ذلك أو أكثر، ويقال للبائع إذا كان يأخذ أكثر من الثمن الموقوف: أنت أعلم بالمُخْرَج عن الزيادة، وإن لم تُزكّ البينة أخذ المدعى عليه الثمن من الموقوف، لأنه عليه بيع نظراً، ولو ضاع الثمن قبل القضاء أو بعده كان ممن قضي له به.
3302 - قال ابن القاسم: ومن بعث بمال صلة لرجل أو هبة أو صدقة مع رجل فقال: قد دفعته إليه وأنكر القابض، فعلى الرسول البينة وإلا غرم، وكذلك إن أمره بصدقته، على مساكين بأعيانهم، فإن لم يكونوا معينين فهو مصدق.
وإن أمرت غريمك أن يدفع دينك إلى رجل بعينه فقال: قد دفعته، وأنكر القابض لم يبرأ المأمور إلا ببينة، وإن قال القابض: قبضته وضاع مني، لم يبرأ الدافع إلا ببينة.
وكذلك من وكلته على قبض مال من يد رجل فقال: قبضته وضاع، فلا يبرأ الدافع إلا ببينة، ولو قال الوكيل: قبضت المال، أو قال: برئ إلي من المال، لم يبرأ الدافع إلا ببينة أنه دفع إليه المال، أو يأتي الوكيل بالمال [إلا أن يكون الوكيل] مفوضاً إليه فهو مصدق بخلاف وكيل مخصوص.
3303 - ومن كانت في يديه دور أو عبيد أو عروض أو دنانير أو دراهم(3/604)
أو غير ذلك من الأشياء، فادعى ذلك رجل وأقام بينة أن ذلك له، وأقام من ذلك بيده بينة أنها له، قضي بشهادة أعدلهما وإن كانت أقل عدداً، فإن تكافأتا في العدالة سقطتا، وبقي الشيء بيد حائزه ويحلف، ولا أقضي بأكثرهما، لأن التكافؤ في العدالة لا في العدد، حتى لو كانت بينة أحدهما رجلين أو رجلاً وامرأتين، فيما تجوز فيه شهادة النساء، وبينة الآخر مائة رجل فاستووا كلهم في العدالة سقطوا وبقي الشيء بيد حائزه ويحلف، [وكذلك إن كانت دار بيد رجل يدعيها لنفسه فادعاها رجلان وأقام كل واحد منهما بينة أنها له وتكافأت بينتهما، فإن الدار تبقى بيد الذي هي في يديه] وذلك أن كل بينة قد كذبت الأخرى وجرحتها فسقطتا.
قال غيره: ليس هذا بتجريح، ولكن البينة لما تكافأت صارت كأنها لم تأت بشيء، ويقران على الدعوى.
3304 - قال مالك: وإن تداعيا في شيء وليس هو بيد واحد منهما وأقام كل واحد بينة أنه له، قضي باعدل الشهود وإن قلّوا، فإن تكافئوا في العدالة وكان الذي شهدوا فيه مما يرى الإمام منعهما منه، فعل حتى يأتيا ببينة أعدل منهما، وإن كان مما لا(3/605)
ينبغي للإمام أن يقره [ولا] يرى أنه لأحدهما قسّمه بينهما بعد أيمانهما كشيء لا شهادة لهما فيه.
قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك في القوم يتنازعون عفواً من الأرض فيأتي هؤلاء ببينة وهؤلاء ببينة، فإنه يقضى في ذلك بأعدل البينتين، وإن كانت أقل عدداً، ويحلف أصحابها مع شهادتهم، فإن تكافأت البينتان سقطتا، وبقيت الأرض كغيرها من عفو بلاد المسلمين، حتى تستحق بأثبت من هذا. قال ابن القاسم: مثل أن يأتي أحدهما ببينة هي أعدل من الأولى.
وقال ابن القاسم عن مالك في باب بعد هذا: إن كل ما تكافأت فيه البينتان وليس هو في يد واحد منهما، وكان مما لا يخاف عليه، مثل الدور والأرضين ترك حتى يأتي أحدهما بأعدل مما أتى به صاحبه، فيُقضى له به، إلا أن يطول الزمان، ولا يأتيا بشيء غير ما أتيا به أولاً، [فإنه يقسّم بينهما، قال ابن القاسم: لأن ترك ذلك ووقفه يصير إلى الضرر.
قال مالك:] وما كان يخشى تغيره مثل الحيوان والرقيق والعروض والطعام، فإنه يستأنى به قليلاً، لعل أحدهما يأتي بأثبت مما أتى به صاحبه فيقضى له به، فإن لم يأتيا بشيء وخيف عليه قسّمه بينهما. (1)
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/211) .(3/606)
قال ابن القاسم: وكذلك زرع ادعياه في أرض رجل لا يدعيه، ولو ادعاه رب الأرض كان أحقّ به في تكافؤ بينتيهما، ولو كان الزرع في يد أحدهما، كان أولى به إذا أقام البينة.
3305 - ومن أقام بينة في دار أنه ابتاعها من فلان وأنه باعه ما ملك، فأقام من هي بيده بينة أنه يملكها قضي بأعدلهما، وإن تكافأتا سقطتا وبقيت الدار بيد حائزها، كما لو ادعاها الذي يزعم هذا المدعي أنه ابتاعها منه لقضي بها لحائزها عند تكافؤ البينتين، وإن لم يقم الحائز بينة قضي بها للمدعي إلا أن تكون طالت حيازة الحائز بحال ما وصفنا في الحيازة، والمدعي حاضر، فذلك قطع لدعواه، وإذا أقام كل واحد من المدعي والحائز بينة على نتاج أو نسج، كان ذلك لمن هو بيده منهما.
ولو أن أمة ليست بيد أحدهما، فأتى أحدهما ببينة أنها له، لا يعلمونها خرجت من ملكه حتى سرقت له، وأقام الآخر بينة أنها له، ولدت عنده، ولا يعلمونها خرجت من ملكه بشيء، قضي بها لصاحب الولادة.
قال غيره: إذا كانت البينة الناتج عدولاً وإن كانت الأخرى أعدل، وليس هذا(3/607)
من التهاتر، ولكن لما زادت بقدم المالك كانت أولى، كما لو شهدت بينة أن هذا يملكها منذ عام، وبينة الآخر أنه يملكها منذ عامين فإني أقضي ببينة أبعد التاريخين إن عُدِّلت، وإن كانت الأخرى أعدل، ولا أبالي بيد من كانت الأمة منهما، إلا أن يحوزها الأقرب تاريخاً بالوطء والخدمة والادعاء لها بمحضر الآخر، فهذا يقطع دعواه.
3306 - قال ابن القاسم: ومن مات وترك ولدين مسلماً ونصرانياً، كلاهما يدعي أن الأب مات على دينه، وأقاما على ذلك بينة مسلمين، فتكافأت في العدالة أو لم تكن لهما بينة، فالميراث يقسم بينهما، كمالٍ تداعياه، فإن كان قد صلّى هذا المسلم على أبيه ودفنه في مقبرة المسلمين، فليس الصلاة بشهادة، ولو لم يأتيا ببينة وقد كان يعرف بالنصرانية فهو على ذلك، وابنه النصراني أحث بميراثه حتى يقيم المسلم بينة على ما ذكر. (1)
وقال غيره: إذا تكافأت البينتان قضى بالمال للمسلم بعد أن يحلف على دعوى النصراني، لأن بينة المسلم زادت حين زعمت أنه مسلم.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/89) .(3/608)
3307 - قال مالك: ومن أقامت بيده دار سنين ذوات عدد يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني، فأقام رجل بينة أن الدار داره، أو أنها لأبيه أو لجده وأثبت المواريث، فإن كان هذا المدعي حاضراً يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له، وذلك يقطع دعواه، وإن كان غائباً ثم قدم فادعاها فقد تقدم الجواب في ذلك.
قال ابن القاسم: وكذلك من حاز على حاضر عروضاً أو حيواناً أو رقيقاً فذلك كالحيازة في الرباع إذا كانت الثياب تلبس وتمتهن، والدواب تركب وتكرى، والأمة توطأ، ولم يحد لي مالك في الحيازة في الرباع عشر سنين ولا غير ذلك.
وقال ربيعة: حوز عشر سنين يقطع دعوى الحاضر، إلا أن يقيم بينة أنه إنما أكرى أو أسكن أو أعار ونحوه، ولا حيازة على غائب.(3/609)
وذكر ابن المسيب وزيد بن أسلم أن النبي ÷ قال: "من حاز شيئاً عشر سنين فهو له". (1)
قيل لابن القاسم: أرأيت لو أن داراً في يدي ورثْتُها عن أبي ثم أقام ابن عمي بينة أنها دار جده، وطلب مورثه؟ قال: هذا من وجه الحيازة التي أخبرتك.
3311 - ومن قامت له بينة أنه ابن فلان الميت، لم يستحق ميراثه حتى يقولوا: لا نعلم له وارثاً غيره، وكذلك إن شهدوا مع ذلك بأن هذه الدار لأبيه أو جده، فلا تتم الشهادة حتى يقولوا: لا نعلم أنها خرجت من ملكه إلى أن مات وتركها ميراثاً لهذا، وإنا لا نعلم به وارثاً غيره، فإن شهدوا أن هذا وارث أبيه أو جده مع ورثة له آخرين، لم يعط هذا منها إلا مقدار حظه، ويترك القاضي باقيها في يد المدعى عليه حتى يأتي من يستحقها.
_________
(1) رواه أبو داود في المراسيل (394) ، وانظر: التاج والإكليل (6/210) ، والفواكه الدواني (2/245) ، والشرح الكبير (4/234) ، ومواهب الجليل (6/221، 223، 225) ، والمدونة الكبرى (13/192) .(3/610)
قال سحنون: وقد كان يقول غير هذا، وروي عن مالك أنه قال: تنزع من يد المطلوب، وتوقف.
قال ابن القاسم: وإن قالت البينة: لا نعرف كم الورثة، لم يقض لهذا بشيء من الدار ولا ينظر إلى تسمية المدعي للورثة، وتبقى الدار للذي هي في يده حتى يثبت عدد الورثة [ببينة] .
3312 - قال مالك: ومن ادعى أرضاً وتبين لدعواه وجه، والذي هي في يديه يحفر فيها عيناً فإنه يمنع ويوقف، وليس له أن يقول: دعوني أعمل، فإن ثبتت له هدَمْت ذلك.
وقال غيره: ومن أقام بينة غير قاطعة في أرض فليس للذي هي في يديه أن يبيع،(3/611)
لأن البيع حينئذ غرر.
[قال ابن القاسم: له أن يبيع ويصنع ما شاء وليس بيعه بالذي يبطل حق المدعي] .
3313 - ومن ادعى عيناً قائمة من رقيق أو حيوان أو طعام أو عروض أو ناض أو غير ذلك بيد رجل، وأتى ببينة على ملكه لذلك، فمن تمام شهادتهم أن يقولوا: وما علمناه باع ولا وهب ولا خرج من ملكه، ثم لا يقضى له به حتى يحلف على البت أنه ما باع، ولا وهب ولا خرج من ملكه بوجه من الوجوه، فإن قال: أعرتها أو استودعتها، لم يكن ذلك خروجاً من ملكه.
قال مالك: وليس عليه أن يأتي ببينة يشهدون على البت أنه ما باع ولا وهب ولو شهدت البينة بذلك كانت زوراً، وإن أقام بما ذكرنا شاهداً واحداً حلف [معه] وقضي له.(3/612)
3314 - ومن أقام شاهدين على حق له، فليس عليه أن يحلف مع شاهديه، إلا أن يدعي المديان أنه قد قضاه فيما بينه وبينه فإنه يُحلفه، فإن نكل حلف المطلوب وبرئ.
3315 - ومن قُضى له بمورّث أو غيره لم يؤخذ منه كفيل، وذلك جزر ممن فعله.
3316 - ومن اشترى منك ثوباً ونقدك الثمن فقبضته وجحدت الاقتضاء وطلبت يمينه فأراد هو أن يحلف أنه لا حق لك قبله، فليس له ذلك. قال مالك - رحمه الله -: ولك أن تحلفه أنه ما اشترى منك سلعة كذا بكذا، لأن هذا يريد أن يورّك. قال ابن القاسم: يريد بقوله: "يورك": الإلغاز.(3/613)
3317 - وإن ادعى أحد المتفاوضين على رجل ديناً من شركتهما فجحده، فليس للمطلوب أن يقول لهذا المفاوض: لا أحلف إلا على حصتك وليحلف على حصته وحصة صاحبه، لأن فعل أحدهما كفعلهما، فإن حلف لهذا ثم أتى صاحبه لم يكن له أن يحلفه، لأنه قد حلف لشريكه.
وكذلك لو وكّلت رجلاً يقبض مالك على فلان فجحده، فحلّفه الوكيل ثم لقيته أنت لم يكن لك أن تحلفه.
3318 - ويحلف المدعى عليه، أو من حلف مع شاهده بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد على هذا، وكل شيء له بال فإنما يحلف عليه في جامع بلده في أعظم مواضعه وليس عليه أن يستقبل القبلة، ولا يعرف مالك اليمين عند المنبر إلا منبر النبي ÷ في ربع دينار فأكثر. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/198) .(3/614)
3319 - وتخرج المرأة فيما له بال من الحقوق فتحلف في المسجد، فإن كانت ممن لا تخرج نهاراً فلتخرج ليلاً، وتحلف في اليسير في بيتها إن لم تكن ممن تخرج، ويبعث إليها القاضي من يحلفها لصاحب الحق ويجزيه رجل واحد. وأم الولد مثل الحرة فيمن تخرج أو لا تخرج. والعبد ومن فيه بقية رق فهو كالحر في اليمين. ولا يحلف الصبيان إذا ادعي عليهم، ولا مع شاهد يقوم لهم حتى يبلغوا.
3320 - وإذا قامت بينة لميت بدين فادعى المطلوب أنه قضى الميت حقه لم ينفعه ذلك، وله اليمين على من يظن به أنه علم ذلك من بالغي ورثته على العلم، ولا يمين على من لا يظن به علم ذلك ولا على صغير، ومن نكل ممن لزمته اليمين منهم سقط من الدين حصته فقط.
3321 - ولا يحلف اليهودي والنصراني في حق أو لعان أو غيره إلا بالله، ولا يزاد عليهم الذي أنزل التوراة والإنجيل، ويحلفون في كنائسهم وحيث يعظمون، ويحلف المجوسي في بيت نارهم وحيث يعظمون.(3/615)
3322 - ولا يقضي القاضي بشهادة الشهود حتى يكشف عنهم، وهذا مستوعب في كتاب الأقضية.
ومما يجرح به الشاهد أن تشهد عليه بينة أنه [شاهد زور] ، أو شارب خمر [أو آكل خنزير] أو آكل ربا، أو صاحب قيان، أو كذاب في غير شيء واحد ونحو هذا. ولا يجرحه إلا اثنان عدلان.
3323 - قال ربيعة: ترد شهادة الخصم الذي يجر إلى نفسه، والظنين وهو المغموص عليه في خلائقه وشكله، ومخالفته حال العدل، وإن لم يظهر منه قبيح عمل، وترد شهادة العدو الذي لا يؤمن ما شهد عليه.
قال مالك: وإذا ظهر الإمام على شاهد الزور ضربه بقدر رأيه وطاف به في المجالس. قال ابن القاسم: يريد [بقوله] في المجالس: المسجد الجامع، ولا تقبل له شهادة أبداً وإن تاب وحسنت حاله.(3/616)
3324 - وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عامله بالشام إذا أخذتم شاهد الزور فاجلدوه أربعين جلدة وسخموا وجهه وطوفوا به حتى يعرفه الناس ويطال حبسه ويحلق رأسه ولحيته. (1)
* * *
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/203) ، والتاج والإكليل (6/270) ، ومنح الجليل (8/303) ، والأثر رواه البيهقي في الكبرى (10/142) ، وابن أبي شيبة في المصنف (28713) ، وكذا عبد الرزاق (15392) .(3/617)
(كتاب المديان)
3325 - قال مالك: ولا يحبس في الدين حر ولا عبد إذا لم يتبين [لدده] ، ولا اتهم أن يكون غيب ماله، ولكن يستبرأ أمره، إلا أن يحبسه قدر تلومه في اختباره وكشف حاله، أو يأخذ عليه حميلاً لذاك، فإذا لم يجد له شيئاً ولا غيّب شيئاً لم يحبسه، ويحبس من اتهمه أن يكون غيب مالاً. ومثل من يقعد من التجار بأموال الناس ويقول: ذهبت مني، ولا يعلم أهل موضعه أنه أجيح بحريق أو سرقة ونحو ذلك فإنهم يحبسون.
وإذا حبس لتهمة أو لدد، لم يكن لطول ذلك حد، ولكن يحبس حتى يقضي أو يتبين عُدْمه، فإن تبين عدمه أطلق. ثم ليس لرب الدين ملازمته ومنعه من تصرفه، ولا أن يوكل به من يلازمه. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/204) .(3/619)
وروي أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا يستحلفانه أنه ما يجد قضاءً من قرض ولا عرض، وأنه إن وجد ليقضيَّن. (1)
ويحبس فيما ذكرنا أحد الزوجين لصاحبه، والولد [يحبس] في دين الأبوين، ولا يحبسان في دينه.
وقد قال مالك: لا أرى أن يحلف الأب للابن في دعواه. [وإن استحلفه فهي جرحة على الابن] ، وإن لم أحبس الأبوين للولد فلا أظلم الولد لهما.
قال: ويحبس له من سواهما من الجدود والأقارب.
وتحبس النساء والعبيد ومن فيه بقية رق، وأهل الذمة وهم في هذا مثل الأحرار سواء، ويحبس النساء في القصاص والحدود.
3326 - قال مالك: ولا يؤجَّر الحر إذا أفلس. قال ابن القاسم: ولا يستعمل لقول الله تعالى: ×وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ% [البقرة: 280] . ويُحبس السيد في دين مكاتبه إن لدّ به، ولا يحبس المكاتب لعجز عن كتابته، إذ ليست بدين ثابت في ذمته ولكن يتلوم له.
3327 - قال مالك: وإن هلك رجل وعليه دين للناس وترك مالاً ليس فيه وفاء بديونه،
_________
(1) رواه البيهقي في الكبرى (6/53) ، وانظر: التاج والإكليل (5/48) ، ومختصر خليل (ص204) ، والتقييد (5/287) .(3/620)
فأخذه الوارث أو الوصي فقضاه بعض غرمائه، فإن لم يعلموا ببقية الغرماء ولم يكن الميت موصوفاً بالدين فلا شيء عليهم، ويرجع الغرماء القادمون على الذي اقتضوا بما كان ينوبهم في المحاصة من المال، فإن علموا بدينه أو كان موصوفاً بالدين، رجع الغرماء القادمون على الورثة أو الوصي بحصصهم، ويرجع الورثة أو الوصي بذلك على الغرماء الذين اقتضوا أولاً. قال ابن القاسم [في باب بعد هذا] : إذا قضى الورثة من حضرهم وهم يعلمون بدين القادم، فإنه إن وجد الغرماء معدومين رجع على الورثة بما ينوبه من ذلك، ثم يرجع الورثة بما أدوا من ذلك على الغرماء الأولين.
وإن مات وترك وفاءً بديونه فقضى الوصي أو الورثة بعض غرمائه ثم تلف ما بقي، فليس للباقين رجوع على من قبض من الغرماء شيء، إذ فيما بقي وفاء لدين الباقين.
3328 - وإن باع الورثة مال الميت وقضوا ديونه وفضلت فضلة بأيديهم، ثم قدم غريم، فإنما يتبع الورثة ولا يتبع الغرماء إن كان في الفضلة كفاف دينه، وجد الورثة أملياء أو عدماء، فإن لم يكن فيما فضل كفاف دين القادم فله اتباع(3/621)
الورثة بمثل الفضلة في ملائهم وعدمهم. فإن كان لو حضر نابه في الحصاص أكثر من الفضلة فليتبع الغرماء ببقية ما نابه. وتفسير ذلك أن تكون التركة مائتين وخمسين، والدين ثلاثمائة لثلاثة رجال، لكل واحد مائة، وأحدهم غائب لم يعلم به، فأخذ الحاضر مائتين والورثة الخمسين، ثم قدم الغائب، فقد علمت أنه لو حضر لنابه في الحصاص ثلاثة وثمانون وثلث، فله خمسون منها في ذمة الورثة، ويبقى له ثلاثة وثلاثون وثلث يرجع بها على الغريمين بينهما نصفين.
ولو كانت التركة كفاف دينهما فقبضاه، لرجع عليهما بحصاصة فيها، وإن ألفاهما عديمين اتبع ذمتيهما، ولم يتبع من قضاهما من ورثة أو وصي بشيء إن قضوهما ولم يعلموا بدينه.
3329 - وإذا باع الورثة التركة فأكلوا ذلك واستهلكوه، ثم طرأت ديون على الميت، فإن كان الميت يُعرف بالدين فباعوا [ماله] مبادرة، لم يجز بيعهم، وللغرماء انتزاع عروضه ممن هي في يديه، ويتبع المشتري الورثة بالثمن. وإن لم يعرف الميت بالدين وباعوا على ما يبيع الناس اتبع الغرماء الورثة بالثمن، كان فيه وفاء أو لم يكن، ولا تباعة على من ذلك المال بيده.(3/622)
بشيء، والقول الأول أعجب إليّ، وعليه جماعة الناس. وله أن يقضي بعض غرمائه دون بعض، وسواء قام غرماؤه بإثر ذلك أو تأخر قيامهم إذا كان يبيع ويتاجر الناس، فبيعه وقضاؤه ورهنه جائز.
3330 - وإذا كان لرجلين دين على رجل فأخّره أحدهما بحصته، لزمه ذلك، فإن أعدم الغريم وقد اقتضى الآخر حصته فلا رجوع لصاحبه عليه.
وأما صلح أحدهما للغريم على شيء من حقه، فقد جرى مستوعباً في كتاب الصلح.
3331 - وإذا عزل الورثة دين الغريم واقتسموا ما بقي ثم ضاع ما عزلوا، لم يضمنه الغريم، ويرجع عليهم فيما قبضوا، ولو عزله القاضي وقسم الباقي بين ورثته أو غرمائه، كان ضياع ذلك ممن أوقف له.
3332 - ومن أوصى بتأخير دين له على رجل وقد حلّ ولا يحمله الثلث أو هو جميع ماله، خُيّر الورثة بين التأخير أو القطع له بثلث جميع التركة.(3/624)
3333 - ويجوز إقرار المريض بقبض الدين، إلا من وارث أو ممن يتهم بالتأليج إليه، وكذلك لا يجوز إقرار الزوجة بقبض المهر المؤجل من زوجها في مرضها، [ولا يجوز إقرار المريض لبعض ورثته بدين، وأما إن أقرّ لزوجته في مرضه] بدين أو مهر، فإن لم يعرف منه إليها انقطاع وناحية [محاباة] وله ولد من غيرها، فذلك جائز، وإن عرف بانقطاع إليها ومودة، وقد كان بينه وبين ولده من غيرها تفاقم - ولعل لها منه ولداً صغيراً - فلا يجوز إقراره، قيل: أفغيرها من الورثة بهذه المنزلة فيمن له منه انقطاع أو بُعْد؟ قال: لا، وإنما رأى ذلك مالك للزوجة، لأنه لا يتهم إذا لم يكن له ولد منها، ولا يعرف بانقطاع مودة إليها، أن يفرّ إليها بماله عن ولده، فأما إن [كان] ورثته إخوته أو بنوه فلا يجوز إقراره لبعضهم. ولو ترك ابنة وعصبة يرثونه لقرابة أو ولاء، فأقرّ لهم بمال فذلك جائز، ولا يتهم أن يفر إلى العصبة [بماله] دون الابنة، وأصل هذا قيام التهمة.
فإذا لم يتهم بمن يفر إليه دون من يرث معه، جاز إقراره، فهذا أصل ذلك.
3334 - ومن كان عليه دين لأجنبي ببينة يغترق ماله، فلا يجوز إقراره بدين لصديق ملاطف، أو لزوجته، أو لغيرها من ورثته.(3/625)
3335 - وإذا مرض رجل وعليه دين، فليس له أن يقضي بعض غرمائه، لأن قضاءه الساعة على وجه التأليج (1) ، فإن فعل لم يجز ذلك إذا كان الدين يغترق ماله. وقال غيره: المريض لم يحجر عليه في التجارة، وهو كالصحيح في تجارته وفي إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه.
3336 - ورهن من أحاط الدين بماله جائز ما لم يفلس، ويكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء.
وقد كان روي مرة عن مالك أن الغرماء يدخلون معه [في الرهن] وليس ذلك
وقد قال مالك فيمن عليه دين فأقر لأخت له بدين، فلا شيء لها إلا ببينة على أصل الدين، أو تقيم بينة أنها كانت تقتضيه في حياته. قال سحنون: يعني فيلزمه إقراره لها.
3337 - وإن هلك رجل وترك ولدين وترك مائتين، فأقرّ أحدهما أن لفلان على أبيه مائة وأنكر الآخر، فإن كان المقر عدلاً حلف معه المقرّ له وأخذ المائة، وإن أبى أن يحلف رجع على المقر بنصف المائة التي في يديه، لأنه إنما يلزمه إقراره في حقه دون حق أخيه، وإن كان سفيها لم تقبل شهادته [في] هذا، ولا يؤخذ من ماله شيء. وإن أقر رجلان من الورثة له بذلك قضى بهما إن كانا عدلين.
3338 - ومن أقرّ أن لفلان بضعة عشر درهماً، فالبضع ما بين الثلاث إلى التسع، فإن اختلفا في البضع لم يقض له إلا بثلاثة، إلا أن يزيد المقر عليها، ويحاص من قضي له [في دينه] بشاهد ويمين مع من قضي له بشاهدين.
3339 - ومن قال لرجل لا شيء له عنده: ادفع إلى فلان مائة درهم صلة مني له،
_________
(1) بعض المحاباة والدخول، وانظر: التاج والإكليل (4/69) .(3/626)
فمات الآمر قبل دفع المأمور إياها، أو بعث لرجل بهدية فمات الباعث قبل وصولها إلى الموهوب [له] ، فإن [كان] أشهد في الوجهين فهي نافذة، وإن لم يشهد فهي رد.
وكذلك إن تصدق على رجل بدين له على آخر وأشهد، كقول مالك فيمن ساق عن ناكح صداقاً، فمات السائق قبل قبض الزوجة الصداق، فهو لازم للميت، [يؤخذ من رأس ماله] . وقال غيره: إذا مات الذي وصل الرجل بالصلة قبل قبض الموصول إياها حتى تصير بالقبض ديناً على الواصل، فلا شيء للمعطى.
3340 - وإن أمرت من لك عليه دراهم يدفعها إلى من استقرضكها فأعطاه بها دنانير(3/627)
برضاه فذلك جائز، وليس لك منعه، وأستحبُّ لك اتباع الآخر بدراهم، والقول فيه من مالك مختلف. ولو قبض فيها عرضاً لم تتبعه إلا بالدراهم. وإن استقرضك دنانير فأمرت من لك عليه دنانير يدفعها إليه، وله [هو] على المستقرض دراهم، فأراد مقاصاته بها، جاز ذلك إن حلا. وإن أمرت رجلا يقضي عنك ألف درهم فدفع فيها دنانير أو طعاماً أو عرضاً، فإنما يتبعك بمثل ما أمرته، لأنه سلف منه لك.
وقد ذكر فيه اختلاف عن مالك، وأنه لا يربح في السلف.
3341 - ومن سأل رجلاً أن يقضي عنه لفلان ألف درهم، فأنعم له فمات الآمر قبل القضاء، فإن كان الطالب [رب الدين] اتعد من المأمور على وعدٍ ورضيا بذلك وانصرفا عليه، لزمه الغرم، وهذه حمالة.(3/628)
3342 - وإن كان لك على رجل دين دنانير أو دراهم إلى أجل وعجلها لك قبل الأجل، أُجبرت على أخذها، كانت من بيع أو قرض.
ولو كان دينك عرضاً أو طعاماً أو حيواناً من قرض، فعجله لك قبل الأجل، أجبرت على أخذه، ولو كان ذلك من بيع لم تجبر على أخذه قبل الأجل.
3344 - ومن مات وعليه دين، فتبرع رجل فضمن دينه، فذلك لازم له ولا رجوع له عن ذلك، فإن كان للميت مال رجع فيه بما أدى، إن قال: إنما أديت لأرجع في ماله، وإن لم يكن له مال والضامن بذلك عالم، فإنه لا يرجع في مال إن ثاب للميت، لأنه بمعنى الحسبة. ومن ضمن لرجل ماله على ميت، ثم بدا له فقد لزمه ذلك، لأن المعروف كله إذا أشهد به الرجل على نفسه لزمه. ومن أدى عن رجل ديناً عليه بغير أمره أو دفع عنه مهراً لزوجته، جاز ذلك إن فعله رفقاً بالمطلوب، وأما إن أراد الضرر بطلبه وإعناته، أو أراد سجنه لعُدْمه لعداوة بينه وبينه، منع من ذلك.
وكذلك إن اشترى ديناً عليه تعنتاً له، لم يجز البيع، ورُدّ إن علم بذلك.(3/629)
3345 - ومن وكل وكيلاً يقبض ديناً له على رجل، فقال: قبضته وضاع مني، أو قال: قد برئ إليّ من المال، وقال الرجل: دفعته إليه، لم يبرأ الدافع إلا أن يقيم بينة أنه دفعه إليه، أو يأتي الوكيل بالمال، إلا أن يكون الوكيل مفوضاً إليه أو وصياً، فهو مصدق، بخلاف الوكيل المخصوص. وإن قال الوصي: قبضت من غرماء الميت ما عليهم، لم يكن لليتامى إن بلغوا الرشد اتباعهم، وذلك يبرئهم. وكذلك إن قال: قبضته وضاع مني، صدق وبرئوا.
قال ابن هرمز: فإن ادعى الغرماء أنهم دفعوا المال إلى الوصي، وأنكر ذلك الوصي، حلف، وإن نكل ضمن. وأما مالك فضمنه بنكوله في اليسير، وتوقف في الكثير، قال ابن القاسم: ورأيي على قول ابن هرمز أنه يضمن في القليل والكثير.
وإذا قضى الوصي غرماء الميت بغير بينة فأنكروا، ضمن إن لم يأت ببينة.
3346 - قال الله تبارك وتعالى: ×وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ(3/630)
رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ% [النساء: 6] . فاشترط الرشد مع البلوغ. قال ابن القاسم: فلا يخرج المولّى عليه بأب أو وصي من الولاية، وإن حاضت الجارية وتزوجت ودخلت بيتها واحتلم الغلام أو خضب بالحناء، ولا يدفع إليه ماله إلا برشد الحال. (1)
3347 - ولا يجوز للمولّى عليه عتق ولا بيع ولا هبة ولا صدقة، ولا يلزمه ذلك بعد بلوغه ورشده إلا أن يجيزه الآن. وأستحبّ له إمضاءه ولا أجبره عليه. وما ليس فيه إلا المتعة ففعله فيه جائز، فيجوز طلاقه زوجته وعتقه أم ولده، وأما النكاح فلا، إلا بإذن وليه، وما وُهب له من مال فإنه يدخل تحت الحجر.
وكذلك إن اتجر فربح. ولا يجوز شراؤه أيضاً إلا فيما لا بد له منه من عيشه، مثل الدراهم يبتاع به لحماً، ومثل خبز أو بقل ونحوه، يشتري ذلك لنفسه مما يُدفع إليه من نفقته.
3348 - وللرجل منع أم ولده من التجارة في مالها كما له انتزاعه، وليس له منع زوجته من التجارة، وله منعها من الخروج.
وإذا عقل الصبي التجارة ولم يؤنس رشده فأذن له أبوه أو وصيه أن يتجر، لم يجز ذلك الإذن، لأنه مولّى عليه، ولو دفع الوصي إلى المولّى عليه بعد الحلم بعض
_________
(1) انظر: شرح الرزقاني (3/161) ، والتاج والإكليل (5/75) ، والمدونة الكبرى (15/132) ، والفتح (9/383) ، واختلاف الفقهاء (ص255) ، وبداية المجتهد (2/211) .(3/631)
المال يختبره به فلحقه [فيه] دين، فلا يلزمه الدين فيما دفع إليه ولا فيما أبقى، لأنه لم يخرج من الولاية بذلك، وهو بخلاف العبد يأذن له سيده في التجارة، لأن العبد لم يمنع لسفه فيه وإنما منع من البيع والنكاح وغيره، لأن ملكه بيد غيره، فإذا أذن له جاز، والصبي والسفيه ليس ملكه بيد أحد، فليس الإذن مزيلاً للسفه.
وقال غيره في اليتيم المختبر بالمال: يلحقه ما ادّان فيه خاصة. قال ابن القاسم: ولو دفع أجنبي إلى محجور عليه من يتيم أو عبد مالاً يتجر فيه، فما لحقهما من دين فيه كان في ذلك المال خاصة، بخلاف دفع الوصي، ولا يلزم ذمتهما ولا ذمة الدافع شيء.
وصفة من يحجر عليه من الأحرار أن يكون يبذر ماله سرفاً في لذاته من الشراب والفسق وغيره، ويقسط فيه سقوط من لا يعد المال شيئاً.
وأما من أحرز ماله ونمّاه وهو فاسق في حاله غير مبذر لماله، فلا يحجر عليه، وإن كان له مال عند وصي قبضه.
3349 - ويحجر على البالغ السفيه في ماله وإن كان شيخاً، ولا يتولى الحجر إلا القاضي، قيل: فصاحب الشُّرط؟ قال: القاضي أحب إليّ.(3/632)
3350 - ومن أراد الحجر على ولده أتى به إلى الإمام ليحجر عليه ويشهر ذلك في الجامع والأسواق ويشهد على ذلك، فمن باعه أو ابتاع منه بعد ذلك فهو مردود.
ومن أمر رجلاً أن يدفع لفلان ألف درهم، قال: عني، أو لم يقل، ففعل ثم قال الآمر: كانت لي ديناً على المأمور، وأنكر المأمور وقال: بل أسلفته إياها، فالقول قول المأمور.
* * *(3/633)
(كتاب التفليس)
3351 - وإذا أقام رجل واحد بالمديان، فله أن يفلسه كقيام الجماعة، وإن أقرّ حينئذ بدين لغائب لم يصدق إلا أن يقر قبل التفليس، أو تقوم بينة للمقر له، فيحاص للغائب وتعزل حصته.
وإذا فلس رجل فاقتسم غرماؤه ماله، ثم طرأ غريم له لم يُعلم به، رجع على الغرماء بقدر ما [كان] ينوبه في المحاصة، فيتبع ذامة كل واحد منهم بحصاصه في ملائه أو عُدْمه، والموت والفَلَس بمنزلة واحدة. قال ابن وهب: قال مالك: ومن(3/635)
قام بدين على غائب - ولعله كثير المداينة لغير من حضر - فأرى أن تباع عروضه لمن حضر، ويقضى، وليس كالميت في الاستيناء (1) لاجتماع من يطرأ من غرمائه لبقاء ذمة هذا وزوال ذمة الميت، وجعله غيره كالميت، ويستأنى بأمره إن كان معروفاً بالدين.
قال مالك: يُستأنى بقسم مال الميت المعروف بالدين لاجتماع بقية غرمائه، وكذلك إن مات في غيبته، وإن لم يعرف بالدين قضى لمن حضر ولم ينتظر به. قال ابن القاسم: ومن كان من غرماء الحي حاضراً عالماً بتفليسه، فلم يقم مع من قام، فلا رجوع له على الغرماء، وذلك رضاً منه ببقاء دينه في ذمة الغريم، كعلمهم بعتقه وسكوتهم عنه، فلا يرد لهم العتق إن قاموا بعد ذلك. وقيل: توقف لهم حقوقهم كالغائب، إلا أن يتبين من الحاضر تركاً لدينه في ذمة الغريم، ورضاً بما قبض غيره.
_________
(1) هو بمعنى التربص والإمهال وانظر: حاشية الدسوقي (4/128) ، والتاج والإكليل (6/316) ، والمدونة الكبرى (14/364) ، (15/59) ، ومنح الجليل (6/35) .(3/636)
3353 - ومن كان عليه دين في صحته ببينة أو بإقرار منه، فأقر في مرضه بدين لوارث أو لذي قرابة أو لصديق ملاطف، لم يقبل قوله إلا ببينة. وإن أقرّ في مرضه لأجنبي جاز، وحاصص من له دين ببينة أو من أقر له في الصحة.
3354 - ومن أقر لرجل قبل التفليس بمال فإنه يدخل مع من ديّنه ببينة، وإن أقرّ له بعد التفليس فلا يدخل فيما بيده من مال، ويتحاص فيه أهل دينه دون هذا المُقرّ له [وإن أفاد مالاً بعد ذلك دخل فيه هذا المقر له] حين التفليس ومن بقي له من الأولين شيء، لأن التهمة إنما كانت في المال الأول، فإن أفاد مالاً بعدما فلسوه فلم يقم [فيه] الغرماء الأولون ببقية دينهم ولا المقر له حتى أقر بدين لرجل آخر، فإقراره له جائز، ما لم يقر له عند قيام الأولين، لتفليسه ثانية، فإذا أُقر له قبل قيامهم جاز له ذلك.
3355 - وإذا أفلس ثانية كان المقر له آخراً، أولى بما في يديه من الغرماء الأولين، إلا أن يفضل شيء عن دينه، لأن ما بيده هو من المعاملة الثانية، إذا كان قد عومل بعد التفليس وباع واشترى، لأن مالكاً قال: إذا داين الناس بعد التفليس ثم فلّس ثانية، فالذين داينوه آخراً أولى من الغرماء الأولين، لأنه مال لهم.(3/637)
فإن كان المال الذي أفاد بعد التفليس، إنما أفاده بموروث أو صلة أو أرش جناية أو نحوه، فإن الغرماء الأولين والآخرين يدخلون فيه.
3356 - قال مالك: وما دام قائم الوجه فإقراره جائز. ولا يجوز له عتق ولا صدقة ولا هبة إذا أحاط الدين بماله، وأما رهنه وقضاؤه لبعض غرمائه دون بعض، فجائز ما لم يفلس.
وقد كان مالك يقول: إذا تبين فَلَسه فليس له ذلك، وإن لم يقم به غرماؤه، ثم رجع عنه. قيل: وإذا حبسه أهل دينه فأقرّ في الحبس بدين لرجل آخر أيجوز إقراره؟ قال: إذا صنعوا به هذا ورفعوه إلى السلطان حتى حبسوه، فهذا وجه التفليس، فلا يجوز إقراره إلا ببينة، ويبيع الإمام ما ظهر له من مال فيتوزعه غرماؤه ويحبس فيما بقي إن تبين لدَدُه أو اتهم. وينبغي للقاضي أن يعزل لمن غاب من غرماء المفلس حصته، ثم إن هلك ما عزل كان ممن عزل له.(3/638)
3357 - وإذا اقتسم الغرماء المال في فلس أو موت، ثم قدم غريم لم يعلم به، فليرجع على جميعهم بما يجب له في الحصاص إن لو حضر، يتبع كل واحد بما صار بيده من ذلك، ولا يأخذ مليئاً أو حاضراً عمن مات أو أعدم، وليتبع ذمة كل واحد، مثل أن يكون ثلاثة لكل واحد مائة، غاب أحدهم فلم يعلم به وبيد المفلس مائة فاقتسمها الحاضران، فإن القادم يتبع كل واحد بسبعة عشر إلا ثلثاً.
3358 - ومن أقرّ في مرضه لأجنبي بمائة ولابنه بمائة ولم يترك إلا مائة، فليتحاصّا فيها، فما صار للأجنبي أخذه، وما صار للابن دخل فيه بقية الورثة، إلا أن يجيزوه له، ولا حجة للأجنبي أنه أقرّ لوارث، لأن الأجنبي إنما أخذ بإقراره.
3359 - ولو كان دين الأجنبي ببينة كانت له حجة، ولم يدخل مع الوارث بحصاص.
وإذا أراد واحد من الغرماء تفليس الغريم وحبسه، وقال الباقون: ندعه يسعى، حبس لمن أراد حبسه إن تبين لدده، ثم إن شاء الآخرون محاصّة القائم في ماله فذلك لهم، ثم لهم قبض ما نابهم أو إبقاؤه [بيده] ، فإن أقروه بيده لم يكن للقائم أن يأخذ منه شيئاً في بقية دينه إلا أن يربح فيه أو يفيد(3/639)
فائدة من غيره، فيضرب في الربح أو الفائدة للقائم بما بقي له، وهؤلاء بما بقي لهم بعد الذي أبقوا بيده، لأنهم فيما ردوا إليه كمن عامله بعد التفليس، فيكون من عامله آخراً أولى بما في يده بقدر ما داينوه به، ثم يتحاصون مع القائم في الربح أو الفائدة كما وصفنا. وإن كان فيما أبقوا بيده وضيعة، وطرأت له فائدة من غير الربح، ضربوا فيها من الوضيعة، وبما بقي لهم أولاً وضرب فيها القائم بما بقي له. وإن كان ما بيده الآن عرض قوم فما فضل فيه من ربح عن قدر ما أبقوا بيده تحاص في ذلك الربح القائم بما بقي له وهؤلاء بما بقي لهم بعد الذي أبقوا بيده، وإن هلك جميع ما أبقوا بيده وطرأت له فائدة، ضرب فيها القائم بما بقي له وهؤلاء بجميع دينهم ما ردّوا إليه وما بقي لهم، ولم يزد رسول الله ÷ غرماء معاذ على أن خلع لهم ماله ولم يأمر ببيعه. (1)
3360 - وإن أسلفت رجلاً سلفاً بلا رهن أو برهن، [ثم] أسلفته بعده سلفاً آخر، على أن أخذت منه رهناً بالسلف الأول والثاني، وجهلتما أن الرهن الثاني فاسد، فقامت الغرماء [على الراهن] في فَلَس أو موت، فالرهن الأول في السلف
_________
(1) رواه ابن ماجة (2357) ، (2/789) ، وانظر: مصباح الزجاجة للبوصيري (3/52) .(3/640)
الأول، والرهن الثاني في السلف الثاني، ولا يكون الثاني رهناً في شيء من السلف الأول، لأنه سلف جرّ منفعة.
3361 - ومن فلس ولعبده دين فلا يضرب العبد مع غرماء سيده بدينه، لأنه يباع لغرماء سيده، إلا أن يكون على العبد دين لأجنبي، فإن العبد يضرب بدينه ويكون غرماؤه أحق بما وقع له، أو بما في يديه ويتبعون ذمته بما بقي لهم، وتباع رقبته لغرماء سيده.
3362 - ومن جنى جناية [خطأ] لا تحملها العاقلة وعليه دين يحيط بماله، فرهن في الجناية رهناً قبل قيام الغرماء عليه، ثم فُلس، فصاحب الجناية أحق بالرهن، ولو لم يرهنه شيئاً كان للمجني عليه محاصة غرمائه، ولا حجة لهم أن يقولوا: إن ذلك ليس من ابتياع أو تجارة.
3363 - وما كان على مفلس أو ميت من دين مؤجّل فإنه يحل حينئذ، وما كان له من دين مؤجل فإنه إلى أجله، وللغرماء تأخيره إن شاؤوا إلى أجله أو بيعه الآن.(3/641)
3364 - ومن فلس أو مات وقد ارتهن منه رجل زرعاً لم يبد صلاحه، وهو مما لا يباع حين الحصاص، فإن المرتهن يحاصص [الغرماء] بجميع دينه الآن ويترك الزرع، فإذا حلّ بيعه بيع، فإن كان ثمنه مثل دينه أو أزيد منه، قبض منه دينه، ورد الزيادة إن كانت مع ما كان أخذ في الحصاص فكان بين الغرماء، وإن كان ثمنه أقل من دينه نظرت [إلى] ما بقي له من دينه بعد مبلغ ثمن الزرع فعلمت أن بمثله كان له الحصاص أو لام، فما وقع له على ذلك فليحبسه مما كان قبض، ويرد ما بقي فيتحاص فيه الغرماء.
3365 - وليس للمفلس أن يتزوج في المال الذي فلس فيه، وله أن يتزوج فيما أفاده بعده، وإذا تغيرت الهبة للثواب بيد الموهوب بزيادة أو نقص بدن وقد فلس، فللواهب أخذها إلا أن يرضى الغرماء بدفع قيمة الهبة إليه فذلك لهم. (1)
3366 - ومن ابتاع من رجل سلعة فمات المبتاع قبل أن يدفع ثمنها وهي قائمة بيده فالبائع أسوة الغرماء في ثمنها، وإن فلس المبتاع وهي قائمة بيده كان البائع أحق بها وإن لم يكن للمفلس مال غيرها إلا أن يرضى الغرماء بدفع ثمنها إليه فذلك لهم.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/42) .(3/642)
3367 - ومن ابتاع أمة فولدت عنده ثم ماتت فبقي ولدها ثم فلس، فللبائع المحاصة إن شاء بجميع الثمن أو أخذ الولد بجميع دينه، إلا أن يعطيه الغرماء جميع الثمن ويأخذوا الولد فذلك لهم.
وأما إن ابتاع أمة أو غنماً، ثم فلس فوجد البائع الأمة قد ولدت والغنم قد تناسلت، فله أخذ الأمهات والأولاد كالرد بالعيب.
وأما ما كان من غلة أو صوف جزه أو لبن حلبه فذلك للمبتاع.
وكذلك النخل يجني ثمرها فهو كالغلة إلا أن يكون يوم الشراء على ظهور الغنم صوف قديم، وفي النخل ثمر قد أُبر واشترط ذلك الثمر، فليس كالغلة.
وقال غيره: إن جذ الثمرة وجز الصوف فهما كالغلة.
3370 - والأجير على سقي زرع أو نخل أو أصل، فإن سقاه فهو أحق به في الفلس حتى يستوفي حقه وهو في الموت أسوة الغرماء.
وأما الأجير على رعاية الإبل أو رحلتها أو علف الدواب فهو أسوة الغرماء الموت والفلس.(3/643)
وأرباب الحوانيت والدور أسوة غرماء مكتريها في الموت والفلس وليسوا أحق بما فيها من متاع.
وجميع الصناع أحق بما أسلم إليهم في الموت والفلس، وكذلك المكرى على حمل متاع إلى بلد فهو أحق بما حمل على دوابه في الموت والفلس، كان قد أسلم دوابه إلى المكتري أو كان معها، ورب المتاع معه أو لا، وهو كالرهن، ولأنه على دوابه وصل إلى البلد.
3371 - وليس للغرماء أن يجبروا المفلس على انتزاع مال أم ولده أو مدبره، وله هو انتزاعه إن شاء لقضاء دينه، أو ينتزعه إن شاء على غير هذا الوجه لنفسه، وأما إن مرض ولا دين عليه فليس له انتزاعه، لأنه إنما ينتزعه لورثته وفي الفلس ينتزعه لنفسه. وله انتزاع مال عبده المعتق إلى سنين ما لم يتقارب الأجل.
قيل له: فإن بقيت سنة؟ قال أرى أن يأخذ ماله ما لم يتقارب، ولم ير السنة قرباً. وإن فلس المريض لم يكن له أن يأخذ مال مدبره للغرماء، فإن مات بيع المدبر بماله إن أحاط الدين بماله.
3372 - ولا بأس للسيد بمبايعة عبده المأذون له، ويضرب بدينه مع غرمائه، وكذلك يضرب بدينه مع مكاتبه من غير الكتابة، ولا يضرب بالكتابة في فلس ولا موت.(3/644)
3373 - وإن ارتد رجل ولحق بدار الحرب وعليه دين ثم قاتل فقتل وفتحت البلاد وظفر [المسلمون] بماله فغرماؤه أحق بماله، ولا يكون في المقاسم إلا ما فضل عن دينهم. (1)
* * *
_________
(1) انظر: التمهيد لابن عبد البر (2/18) .(3/645)
(كتاب المأذون له في التجارة)
3374 - ومن خلّى بين عبده وبين التجارة اتجر فيما شاء، ولزم ذمته ما داين به الناس من جميع أنواع التجارات، لأنه أقعده للناس ولا يدري الناس لأي أنواع التجارات أقعده.
وأما إن أقعده ذا صنعة مثل قصار وأمره بعمل القصارة فلا يكون ذلك إذناً في التجارة ولا في المداينة فيها.
3375 - وإذا أخّر المأذون غريماً له بدين أو حطه [عنه] نظراً واستيلافاً، جاز. ولا تجوز على غير ذلك كالوكيل [المفوض] ، وأما الوكيل المخصوص على بيع سلعة يضع من ثمنها بعد البيع فلا يلزم ذلك ربها.
3376 - وليس للعبد الواسع المال أن يعق عن ولده ويطعم لذلك الطعام إلا أن يعلم أن(4/5)
سيده لا يكره ذلك، ولا له أن يصنع طعاماً ويدعو إليه الناس إلا أن يأذن سيده، إلا أن يفعل ذلك المأذون استيلافاً للتجارة، فيجوز.
ولا له أن يعطي من ماله شيئاً بغير إذن سيده، كان مأذوناً أو غير مأذون، وكذلك العارية.
3377 - وما استدان العبد ولم يؤذن له في التجارة فلا يتبع بشيء من ذلك إلا أن يعتق يوماً ما فيتبع بذلك في ذمته، إلا أن يفسخه عنه سيده أو السلطان، لأن ذلك يعيبه، وليس لمن داينه بغير إذن سيده أن يوجب في رقبته عيباً فإذا فسخه عنه سيده أو السلطان برئت ذمته ولم يتبع به إن عتق.
وكل ما صار بيد المأذون على الطوع من معطيه من دين أو وديعة أو أمانة فاستهلكه، [فذلك] في ذمته لا في رقبته، وليس للسيد فسخه عنه.
3378 - قيل لمالك (1) : أيبيع المأذون أم ولده؟ قال: إن أذن له سيده [فله أن يبيعها] . قال ابن القاسم: وأما فيما عليه من دين فإنها تباع، لأنها مال له ولا حرية فيها ولم يدخلها من الحرية ما دخل أم ولد الحر، وأما ولده منها فلا يباع في دينه، لأن
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/77) ، ومنح الجليل (6/61) .(4/6)
ولده ليس بمال له. ولو اشترى المأذون ولده وعليه دين فإنهم يباعون [عليه] في دينه، لأنه أتلف أموال غرمائه وهم في هذا الموضع ملكه.
3379 - وللسيد رد ما وهب العبد والمكاتب والمدبر وأم الولد لو تصدقوا به، وإن استهلك ذلك من أخذه غرم القيمة لهم، إلا أن يكون ذلك من السيد انتزاعاً من غير المكاتب، فيقبض هو القيمة، ولو رده ولم ينتزعه وأقره لهم ثم مات السيد أو فلس فذلك لهم، ولو أعتقهم تبعهم ذلك.
ولو كان إذ رده استثناه لنفسه كان ذلك له، إلا في المكاتب فإنه للمكاتب إذ لا ينتزع ماله، أو يكون إنما رده في مرضه، فإنّ رده جائز، ولكن يبقى ذلك للمدبر وأم الولد، ولا ينتزعه إذ لا ينتزع أموالهما في المرض.
3380 - ومن استتجر عبده بمال دفعه إليه فلحق العبد دين، كان دينه فيما دفع إليه سيده وفي مال العبد، ويكون بقية الدين في ذمة العبد، لا في رقبته، ولا يكون في ذمة السيد من ذلك الدين شيء.
3381 - ولا يحاص السيد غرماء عبده بما دفع إليه من مال استتجره به، إلا أن يكون عامله بعد ذلك فأسلفه أو باعه بيعاً صحيحاً بغير محاباة، فإنه يضرب بذلك فيما دفع إليه من المال ليتّجر به وفي مال العبد، وإن دفع العبد إلى سيده في ذلك رهناً كان السيد أحق به.(4/7)
3382 - وإن ابتاع من سيده سلعة بثمن كثير لا يشبه الثمن مما يعلم أنه توليج لسيده، فالغرماء أحق بما في يد العبد، إلا أن يبيعه بيعاً يشبه الثمن، فهو يحاص به الغرماء.
3383 - وما وُهِب للمأذون وقد اغترقه دين، فغرماؤه أحق به من سيده، والسيد أحق بكسبه وعمل يده وأرش جراحه وقيمته إن قُتل، وإن خارجه سيده لم يكن للغرماء من [عمل] يده شيء، ولا من خراجه ولا مما يبقى في يد العبد بعد خراجه، وإنما يكون لهم ذلك في مال إن وُهب للعبد أو تصدق به عليه أو أوصى به فقبله العبد، فإن أعتق العبد يوماً ما، بقي الدين في ذمته. (1)
3384 - ولو باعه السيد سلعة بعينها ففلس العبد وهي قائمة في يده فسيده أحق بها، إلا أن يرضى الغرماء بدفع ثمنها إلى السيد فذلك لهم.
3385 - وإن أسلمت إلى عبدك المأذون أو إلى أجنبي دنانير في طعام ثم فلس والدنانير قائمة بيده لم تفت، فإن شهدت عليها بينة لم تفارقه أنها بعينها، فأنت أحق بها من الغرماء.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/77) ، وحاشية الدسوقي (3/305) .(4/8)
3386 - قال ابن وهب عن مالك: ومن ابتاع زيتاً فصبّه على زيت له بمحضر بينة، ثم فلس المبتاع، فالبائع أحق بمقدار زيته منه، وهو كعين قائمة، وليس خلط المبتاع إياه يمنع البائع من أخذه، وكذلك إن دفع إلى صرّاف دنانير فصبها في كيسه بمحضر بينة ثم بان فلسه.
والرجل يشتري بزاً فيرقمه ويخلطه ببز عنده فليس هذا وشبهه بالذي يمنع الناس من أخذ ما وجدوا من متاعهم إذا فلس المبتاع.
قال أشهب: هو أحق بالعرض، وأما العين فهو فيه أسوة الغرماء.
3387 - وإقرار المأذون في صحته أو في مضره بدين لمن لا يتهم عليه جائز، إلا أن يقر بعد قيام غرمائه، فلا يجوز ذلك كالحر في الوجهين. ويجوز إقراره بالدين فيما بيده من المال، وإن حجر عليه سيده فيه ما لم يفلس.
ولا تلزم السيد عهدة فيما يشتري المأذون إلا أن يكون قال للناس: بايعوه وأنا له ضامن، فيلزم ذلك ذمة السيد وذمة العبد أيضاً، ويباع العبد عليه في ذلك إن لم يوف عنه سيده.(4/9)
3388 - قال مالك: ولا أرى للمسلم أن يستتجر عبده النصراني ولا يأمره ببيع شيء لقول الله تعالى: ×وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ% [النساء: 161] .
3389 - ولا يجوز لأحد الشريكين في العبد أن يأذن له في التجارة دون صاحبه وكذلك قسمة ماله، ولا يلزم ذلك من أبى منهما، لأنه ينقص العبد.
ومن دعا إلى بيعه منهما فذلك له، إلا أن يتقاوماه بينهما.
3390 - وإذا كان على المأذون دين يحيط بماله فادعى السيد في مال بيد العبد أنه له، وقال العبد: بل هو لي، فالقول قول العبد، ولو كان محجوراً عليه كان القول قول السيد، كقول مالك في ثوب بيد العبد يقول: فلان أودعنيه، وسيده يدعيهن فالسيد مصدق إلا أن يقيم فلان بينة.
3391 - ومن أراد أن يحجر على ولده فلا يحجر عليه إلا عند السلطان فيوقفه السلطان للناس ويسمع به في مجلسه ويشهد على ذلك، فمن باعه أو ابتاع منه بعد ذلك فهو مردود عليه.(4/10)
وكذلك المأذون له لا ينبغي للسيد أن يحجر عليه إلا عند السلطان فيوقفه السلطان للناس، ويأمر به فيطاف به حتى يعلم ذلك منه.
3392 - ولا يجوز للعبد المحجور عليه في ماله بيع [ولا شراء] ولا إجارة ولا أن يؤجر عبداً له إلا بإذن سيده في ذلك كله.
3393 - وإذا لحق المأذون دين يغترق ماله فلسيده أن يحجر عليه ويمنعه من التجارة، ودَيْنه في ماله، ولا شيء لسيده في ماله، إلا أن يفضل عن دينه شيء، أو يكون السيد داينه، فيكون أسوة الغرماء، وليس للغرماء أن يحجروا عليه، وإنما لهم أن يقوموا [عليه] فيفلسوه وهو كالحر في هذا. (1)
* * *
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/77) .(4/11)
(كتاب الحمالة) (1)
3394 - ومن قال لرجل: أنا حميل لك بفلان أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل أو هو لك عندي أو عليّ أو إليّ أو قبلي، فذلك كله حمالة لازمة إن أراد الوجه لزمه، وإن أراد المال لزمه ما شرط، فإن شرط بالمال فأتى بالغريم عند الأجل عديماً لم يبرأ وغرم.
وأما إن تكفل برجل أو بنفسه أو بعينه أو بوجهه إلى أجل، ولم يذكر مالاً، فإنه إذا أتى بالرجل عند الأجل مليّاً أو معدماً [برئ] ، فإن لم يأت به حينئذ والغريم حاضر أو غائب، قريب الغيبة مثل اليوم وشبهه، تلوّم السلطان للحميل، فإن أتى به بعد التلوم فلا شيء عليه وإلا غرم.
_________
(1) ويقال: الضمان كما في جامع الأمهات لابن الحاجب (ص391) ط اليمامة-دمشق. ويقال أيضاً: الكفالة والزعامة والإذانة والقبالة وجميعها بمعنى واحد. وانظر: شرح حدود ابن عرفة (445) .(4/13)
3395 - وإن بعدت غيبة المكفول به غرم الحميل مكانه، ولو شرط حميل الوجه أني أطلبه فإن لم أجده برئت من المال، ولكن عليّ طلبه حتى آتي به، لم يلزمه إلا ما شرط.
قال غيره: لا يلزمه من المال شيء جاء بالرجل، أو لم يأت به، إلا أن يمكنه بعد الأجل إحضاره ففرّط فيه حتى أعوزه، فهذا قد غره.
وإذا مات الغريم برئ حميل الوجه، لأن النفس المكفولة قد ذهبت، ولو غرم الحميل ثم أتى ببينة أن الغريم مات في غيبته قبل القضاء، رجع الحميل بما أدى على رب الدين، لأنه لو علم أنه ميت حين أخذ به الحميل لم يكن عليه شيء، وإنما تقع الحمالة بالنفس ما كان حياً، ولو قدم الغريم [أو أتى به بعد غرم الحميل] لم يرجع إلا عليه.
قال: وإن أخذ به فلم يقض عليه الحاكم بالغرم حتى أحضره برئ، ولو كان قد حكم عليه بالمال بعد التلوم لزمه المال ومضى الحكم.
3396 - وإذا حبس المحمول بعينه فدفعه الحميل إلى الطالب وهو في السجن برئ الحميل،(4/14)
لأن الطالب يقدر على أخذه في السجن، ويحبس له في حقه، بعد تمام ما سجن فيه. وكذلك إن دفعه إليه بموضع فيه حكم وسلطان وإن لم يكن ببلده، فيبرأ.
وإن دفعه إليه بموضع لا سلطان فيه أو في حال فتنة أو بمفازة أو بمكان يقدر الغريم على الامتناع منه، لم يبرأ منه الحميل حتى يدفعه إليه بموضع يصل إليه وفيه سلطان فيبرأ، وإن أمكن الغريم الطالب من نفسه وأشهد أني قد دفعت نفسي إليك براءة للحميل، لم يبرأ بذلك الحميل، وإن كان بموضع تُنفّذ فيه الأحكام، حتى يدفعه الحميل بنفسه أو وكيله إلىالطالب، فإن لم يقبل ذلك الطالب أشهد عليه وكان ذلك له براءة.
3397 - قال ابن القاسم: ومن ادعى على رجل حقاً فأنكره فقال له رجل: أنا به حميل إلى غد، فإن لم أوفّك به في غد فأنا ضامن للمال، فلم يأت به في غد فلا يلزم الحميل شيء حتى يثبت الحق ببينة فيكون حميلاً بذلك، وإن أنكر المدعى عليه ثم قال للطالب: أجلني اليوم فإن لم أوفك غداً فالذي تدعيه، قبلي، فهذا مخاطرة ولا شيء عليه.
×فقال له رجل: أنا بها كفيل، فأتى فلان فأنكرها، لم يلزم الكفيل شيء حتى يثبت ذلك ببينة.
3398 - ومن أدى عن رجل حقاً بغير أمره فله أن يرجع به عليه.(4/15)
وكذلك من تكفل عن صبي بحق قضي به عليه، فإن أداه عنه بغير أمر وليه فله أن يرجع في مال الصبي.
وكذلك لو أدى عنه ما لزمه من متاع كسره أو أفسده أو اختلسه، لأن ما فعل الصبي من ذلك يضمنه.
3399 - ومن له على رجل ألف درهم من قرض، وألف من كفالة فقضاه [الغريم] ألفاً، ثم ادعى أنها القرض، وقال المقتضي: بل هي الكفالة، قُضي بنصفها عن القرض ونصفها عن الكفالة. (1)
وقال غيره: القول قول المقتضي مع يمينه، لأنه مؤتمن مدعى عليه، وورثة الدافع في قوليهما كالدافع.
3400 - قال مالك: ومن تحمل برجل أو بمال عليه فليس للذي له الحق إذا كان الغريم حاضراً مليئاً أن يأخذ من الكفيل شيئاً إلا ما عجز عنه الغريم. وكان مالك
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/102) .(4/16)
يقول: يتبع أيهما شاء في ملاء الغريم، ثم رجع إلى هذا وأخذ به ابن القاسم ورواه ابن وهب.
3401 - قال مالك: ولو كان الغريم غائباً مليئاً أو مدياناً حاضراً يخاف الطالب إن أقام عليه المحاصة، فله اتباع الحميل، إلا أن يكون للغائب مال حاضر يعدى فيه، فلا يتبع الحميل.
قال غيره: إلا أن يكون في تثبيت ذلك وفي النظر فيه بُعد فيؤخذ من الحميل.
3402 - وإذا مات الكفيل قبل الأجل فللطالب تعجيل الدين من تركته، ثم لا رجوع لورثته على الغريم حتى يحل الأجل، وله محاصة غرمائه أيضاً.
وإن مات الغريم تعجّل الطالب دينه من ماله، فإن لم يدع مالاً لم يتبع الكفيل حتى يحل الأجل.(4/17)
3403 - وإن مات الغريم مليئاً والطالب وارثه برئ الحميل، لأنه إن غرم للطالب شيئاً رجع عليه بمثله في تركة الميت، والتركة في يده فصارت كمقاصة.
3404 - وإن مات الغريم معدماً ضمن الكفيل، وأما في الحوالة فذلك على المحال عليه بأصل الدّين، مات الغريم الموروث مليئاً أو معدماً. (1)
3405 - ومن تكفل لرجلين بحق لهما، فغاب أحدهما وأخذ الحاضر من الكفيل حصته من الدين، فللغائب إذا قدم أن يدخل معه فيما قبض إن كان الدين بكتاب واحد.
[وكذلك] قال مالك في رجلين لهما دين [على رجل] بصك واحد، فاقتضى أحدهما نصيبه دون صاحبه، فإن صاحبه يشاركه فيما اقتضى، إلا أن يكون المقتضي أعذر إلى صاحبه عند السلطان، أو أشهد على ذلك دون السلطان، فلم يخرج معه، ولا وكل، فحينئذ يكون له ما قبض خاصة، وهذا في التفليس مذكور، ولو رفع ذلك إلى الإمام وشريكه غائب والغريم مليء بحقيهما، فقضى للحاضر بأخذ حقه لم يدخل الغائب عليه فيه وإن أعدم الغريم.
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/338) ، والتاج والإكليل (5/104) ، ومواهب الجليل (5/98) ، والمدونة (13/254) .(4/18)
ولو قام الحاضر على الغريم فلم يجد عنده إلا قدر حقه، قضى له الإمام بما ينويه في المحاصة لو كان صاحبه معه، فإن جهل الإمام فقضى له بجميع حقه، كان للقادم أن يدخل معه فيه، لأنه كالتفليس.
وقال غيره: يدخل عليه القادم، قُضي له بذلك كله أو بنصفه كالتفليس.
3406 - ومن قال لرجل: ما ثبت لك قِبَل فلان الذي تخاصمه فأنا له [به] كفيل، فاستحق قبله مالاً كان هذا الكفيل ضامناً له.
وكل من تبرع بكفالة لزمته، فإن مات هذا الكفيل قبل ثبات الحق، ثم ثبت الحق بعد موته، لزم ذلك في مال الكفيل. (1)
ومن قال لرجل: احلف أن الدين الذي تدعي قِبل أخي حق وأنا له ضامن،
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/259) .(4/19)
ثم رجع، لم ينفعه رجوعه، ولزمه ذلك إن حلف الطالب، وإن مات كان ذلك في ماله.
3407 - وإن أشهد رجل على نفسه أنه ضامن بما قُضي لفلان على فلان، أو قال: أنا كفيل لفلان بماله على فلان، وهما حاضران أو غائبان، أو أحدهما غائب، لزمه ما أوجب على نفسه من الكفالة والضمان، لأن ذلك معروف، والمعروف من أوجبه على نفسه لزمه.
ومن قال لرجل: بايع فلاناً أو داينه، فما بايعته به من شيء أو داينته به، فأنا له ضامن، لزمه ذلك إذا ثبت مبلغه.
قال غيره: إنما يلزمه من ذلك ما كان يشبه أن يداين بمثله المحمول عنه ويبايع به. قال ابن القاسم: ولو لم يداينه حتى أتاه الحميل فقال له: لا تفعل فقد بدا لي في الحمالة، فذلك له، بخلاف قوله: احلف وأنا ضامن، ثم يرجع قبل اليمين هذا، لا ينفعه رجوعه، لأنه حق وجب.(4/20)
3408 - وإذا تكفل رجلان بمال، وكل واحد ضامن عن صاحبه، فغاب أحدهما وغاب الغريم وغرم الحاضر الجميع، ثم قدم الغائب والغريم وهما مليئان، فللكفيل اتباع الغريم بالجميع، وإن شاء أتبعه بالنصف ثم أتبع الكفيل الآخر بما أدى عنه، لأنه كدين له قبله لا كغريم حضر مع كفيل.
3409 - وإذا تكفل ثلاثة رجال بمال على رجل، فأعدم الغريم، لم يكن للطالب على من لقي من الحملاء إلا ثلث الحق، إلا أن يشترط في أصل الكفالة أن بعضهم حميل ببعض فحينئذ إن غاب أحدهم أو أعدم أخذ من وجد منهم مليئاً بجميع الحق، فإن لقيهم أملياء لم يأخذ من كل واحد إلا ثلث الحق، إذ لا يُتبع الكفيل في حضور المكفول به وملائه، ولو شرط أيكم شئت أخذت بحقي، ولم يقل: بعضكم كفيل لبعض، فله أخذ أحدهم بجميع الحق، وإن كانوا حضوراً أملياء، ثم لا رجوع للغارم على صاحبيه، إذ لم يؤد بالحمالة عنهم، ولكن على الغريم.
قال: [ولو] قال: بعضكم كفيل ببعض، وقال مع ذلك: أيكم شئت أخذت بحقي، أو لم يقل فإنه إن أخذ من أحدهم في هذا جميع المال رجع الغارم على صاحبيه إذا لقيهما بالثلثين، وإن لقي أحدهما رجع عليه بالنصف. (1)
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/111) .(4/21)
3410 - قال ابن وهب: قال مالك: إن من أمر الناس الجائز عندهم أن يكتب الرجل حقه على الرجلين، ويشترط أن حيكما عن ميتكما ومليكما عن معدمكما، وذلك كحمالة أحدهما عن الآخر.
3411 - قال غيره: وإذا كان لرجل ستمائة درهم على ستة رجال على أن بعضهم حميل عن بعض بجميع المال، أو على أن كل واحد منهم حميل [بجميع المال، قال عن أصحابه أو لم يقل، أو قال: على أن كل واحد منهم حميل] عن واحد أو اثنين أو ثلاثة منهم أو أكثر أو عن جميعهم، إلا أنه قال: بجميع المال، قال في ذلك: ولا براءة له إلا بأدائها، أو لم يقل، فإن قال مع ذلك: أيكم شئت أخذت بحقي، فله أخذ أحدهم بالجميع، كان الباقون حضوراً أملياء أم لا، وإن لم يذكر أيكم شئت أخذت بحقي، فإنه إن لقيهم مياسير أخذ كل واحد بمائة، ولم يكن له أن يأخذ بعضهم ببعض، لأن الحميل لا يؤخذ بالحق في حضور الغريم وملائه، وإنما يؤخذ به إذا كان الغريم عديماً أو غائباً أو مُلِدّاً ظالماً، فأما إن لقي أحدهم فليأخذه بستمائة [درهم] ، ثم إن لقي الغارم للستمائة أحد أصحابه، أخذه بمائة(4/22)
أداها عنه، وبنصف الأربعمائة [التي] أدى عن الباقين، لأنه حميل معه بهم، فذلك ثلاثمائة، ثم إن لقي أحدهما أحد الأربعة [الباقين] ، أخذه بخمسين عن نفسه، وبخمسة وسبعين بالحمالة. وكذلك إذا لقي الرابع المأخوذ منه المال الثالث من الباقين فإنه يأخذه بما أدى عنه من أصل الدين، وبنصف ما أدى عن أصحابه، فإن لقي الرابع المأخوذ منه المال الآخر من الأولين الذي لم يرجع على الرابع، فقال له: بقي لي مما أديت بالحمالة مائتان عن أربعة أنت أحدهم فعليك خمسون في خاصتك، فيأخذها منه، ثم يقول له: بقيت لي خمسون ومائة أديتها عن أصحابك، وأنت معي بهم حميل، فيقول له: هذا الرابع قد أديت عنهم أنا بالحمالة خمسة وسبعين أيضاً لغيرك ساويتك في مثلها بقيت لك خمسة وسبعون لك [عليّ] نصفها، فيدفع إليه سبعة وثلاثين ونصفاً، وهكذا تراجعهم إن لقي بعضهم بعضاً حتى يؤدي كل واحد منهم مائة، لأن كل واحد منهم كان عليه من أصل الدين مائة.
وأما إن تحمل بعضهم عن بعض، على أن كل اثنين حميلان أو ضامنان بجميع المال، قالا في ذلك عن أصحابهم أو عن اثنين أو عن واحد، أو على أن كل واحد حميل بنصف جميع المال فذلك كله سواء، فإن لقي رب المال اثنين منهم أخذ كل(4/23)
واحد بثلاثمائة، وإن لم يلق إلا واحداً أخذه بثلاثمائة وخمسين، مائة منها عليه من أصل الدين ومائتان وخمسون بالحمالة، لأنه بنصف ما بقي تكفل، ثم إن لقي هذا الغارم أحد الباقين، أخذه بخمسين عن نفسه وبنصف المائتين التي أداها بالحمالة عن [أصحابه] ، [ثم] إن لقي هذا الغارم الثاني [أحداً] ممن لم يغرم، قال له: أديت مائة بالحمالة عن أربعة أنت أحدهم، فهلُمّ خمسة وعشرين عن نفسك ونصف ما بقي بالحمالة، فهكذا تراجعهم حتى يستوون في الغرم، وأما إن تحمل بعضهم عن بعض على أن كل ثلاثة حملاء [عن جميع المال، أو على أن كل ثلاثة حملاء] عن ثلاثة أو اثنين، أو عن واحد بجميع المال، أو على أن كل واحد حميل بثلث المال فذلك سواء، فإن لقي ثلاثة أخذهم بالجميع، وإن لقي واحداً أخذه بمائة عنه وبثلث ما بقي، وذلك مائة وستة وستون وثلثان، وإن لقي اثنين أخذهما بمائة عنهما ثم بثلثي ما بقي، وذلك مائتان وستة وستون وثلثان.
3412 - وإذا لقي ثلاثة فأخذ منهم جميع المال، ثم لقي أحدهم أخذ الذين لم يغرموا، فإنه يقول: أديت مائة بالحمالة عن ثلاثة أنت أحدهم، فلهم ثلثها عن حصتك ونصف باقيها بالحمالة عن الباقين، ثم إن لقي الآخذ لذلك أحد الثلاثة الغارمين معه رجع عليه بنصف ما فضله به، حتى يكونا في الغرم سواء، فإن اقتسما ذلك ثم لقيا(4/24)
الباقي الذي غرم معهما أولاً، دخل عليهما فيما بأيديهما من قبل الثالث المرجوع عليه حتى يصير ما أخذ من الثالث بينهم أثلاثاً، ثم إن لقي أحدهم أحداً ممن لم يغرم شيئاً فأخذ منه ما يجب له، فلا بد أن يشارك فيه من لقي من الاثنين الغارمين معه أولاً حتى يكون ما أخذ كل واحد منهم بالسوية، لأنهم حملاء عن أصحابهم فهكذا تراجعهم.
3413 - قال ابن القاسم: ومن أخذ من غريمه كفيلاً بعد كفيل، فله في عُدم الغريم أن يأخذ بجميع حقه أي الكفيلين شاء، بخلاف كفيلين في صفقة لا يشترط حمالة بعضهما ببعض، وليس أخذ الحميل الثاني إبراء للحميل الأول، ولكن كل واحد منهم حميل بالجميع. (1)
ومن أخذ من الكفيل كفيلاً لزمه ما لزم الكفيل.
قال غيره: وكذلك لو تحمل رجل بنفس رجل وتحمل آخر بنفس الحميل، فذلك جائز.
وكذلك لو تحمل ثلاثة رجال بنفس رجل، وكل واحد منهم حميل بصاحبه، جاز.
ومن جاء به منهم برئ هو والباقيان، لأنه كوكيلهما في إحضاره، وإن لم يكن بعضهم حميلاً ببعض، فإن جاء به أحدهم برئ [هو] وحده، ولم يبرأ صاحباه.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/111) .(4/25)
3414 - قال ابن القاسم: وإذا أخر الطالب الحميل بعد محلّ الحق فذلك تأخير للغريم، إلا أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما كان ذلك مني تأخيراً للغريم، فيكون له طلبه، لأنه لو وضع الحمالة بعنه] كان له طلب الغريم إن قال: وضعت الحمالة دون الحق، فإن نكل لزمه تأخيره، ولو أخّر الغريم كان تأخيراً للكفيل، ثم للكفيل أن لا يرضى بذلك خوفاً من إعدام الغريم، فإن لم يرض خُيّر الطالب، فإما أبرأ الحميل من حمالته ويصح التأخير، وإلا لم يكن له ذلك إلا برضى الحميل.
وإن سكت الحميل وقد علم بذلك لزمته الحمالة، وإن لم يعلم حتى حلّ أجل التأخير حلف الطالب ما أخّره ليُبرئ الحميل وتثبت الحمالة.
قال غيره: إذا كان الغريم مليئاً فأخره تأخيراً بيناً سقطت الحمالة، وإن أخره ولا شيء عنده فلا حجة للكفيل، وله طلب الكفيل أو تركه.(4/26)
3415 - قال ابن القاسم: ومن تكفل بمائة دينار هاشمية، فأداها دمشقية وهي دونها برضى الطالب رجع بمثل ما أدى. ولو دفع فيها عروضاً أو طعاماً فالغريم مخير في دفع مثل الطعام، أو قيمة العرض، أو ما لزمه من أصل الدين، ولو دفع ذهباً عن ورق لم يجز ذلك، ورجع الكفيل بما أدى وكان للطالب أصل دينه، والحميل به حميل، وهو بخلاف المأمور يدفع خلاف ما أمر به من العين، وذلك مذكور في كتاب المديان.
[وقد] ٍ قال ابن القاسم وغيره: إن المأمور والكفيل إذا دفعا ذهباً عن ورق أو طعاماً أو عرضاً، أن الغريم والآمر مخير إن شاء دفع ما عليه أو ما دفع هذا عنه، لأنه تعدى فيما دفع، وهذا أصل، التنازع فيه كثير.
3416 - قال ابن القاسم: ومن تكفل عن رجل بألف درهم، فأخذ الكفيل من الغريم سلعة على أن يدفع عنه الألف ثم أغرمها الطالب للغريم، فللغريم الرجوع بالألف على الكفيل، لأنه باعه السلعة [بها] .
ومن تكفل لك بمائة حالة، فأبرأته من خمسين، على أن دفع إليك خمسين،(4/27)
فلا يرجع [هو] إلا بما أدى، ولك اتباع الغريم بخمسين، لأن تلك البراءة براءة من الحمالة فقط، وإن تكفل رجلان بألف فأخذ أحدهما من الآخر مائة على أن يدفع الألف عنه وعن نفسه، فإن حل الأجل والطالب حاضر فقبضها مكانه، جاز، وإن اغتزى نفعاً بسلف لتأجيل الدين أو لغيبة الطالب أو لغير ذلك، لم يجز.
قال غيره: فإن أخذ المائة على أمر جائز ثم صالح الطالب على خمسين، جاز، ورد إلى صاحبه خمسة وسبعين، ثم رجعا على الغريم بخمسين بينهما نصفين، [وإن صالحه على خمسين ومائة، جاز، ورد إلى صاحبه خمسة وعشرين، ورجعا على الغريم بخمسين ومائة بينهما] .
وإن صالحه على مائتين جاز، ورجعا على الغريم، كل واحد منهما بمائة.
وإن صالحه على خمسمائة جاز، ورجعا على الغريم بما أديا، مُخرج المائة بمائة، والآخر بالأربع مائة، فإن ألفياه عديماً لم يكن للذي أدى أربع مائة أن يرجع على صاحبه بشيء، ويتبعان جميعاً الغريم بما أديا عنه. (1)
3417 - ومن تكفل لرجل بما أدركه من درك في جارية ابتاعها من رجل أو دار أو غيرها، جاز ذلك، ولزمه الثمن حين الدرك في غيبة البائع وعدمه.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (1. 3/269) .(4/28)
ولو شرط خلاص السلعة لم تجز الكفالة ولم تلزم. وقال غيره: يلزمه، وهو أدخل المشتري في غُرم ماله، فعليه الأقل من قيمة السلعة يوم تستحق، أو الثمن الذي أدى، إلا أن يكون الغريم مليئاً حاضراً، فيبرأ.
قال ابن القاسم: ولو شرط المبتاع على البائع خلاص السلعة في الدرك وأخذ منه بذلك كفيلاً، بطل البيع والكفالة، كمن باع ما ليس له وشرط خلاصه، ولولا أن الناس يكتبون ذلك في وثائق الأشرية، لا يريدون به الخلاص، ولكن تشديداً في التوثيق لنقضت به البيع، ولو عقد البيع على اشتراطه فسد البيع.
3418 - وما ابتعت من شيء بعينه، لم يجز أن تأخذ به كفيلاً، كان حاضراً، أو غائباً على صفة، قربت الغيبة أو بعدت، كما لا يجوز للبائع ضمان مثله إن هلك.
3419 - ولا تجوز الكفالة بكتابة المكاتب، وأما من عجل عتق عبده على مال، جازت الكفالة بذلك، وكذلك من قال لرجل: عجل عتق مكاتبك وأنا بباقي كتابته كفيل، جاز [له، وله] الرجوع بذلك على المكاتب.(4/29)
3420 - ومن له دين على رجل إلى أجل، فأخذ به منه قبل الأجل حميلاً أو رهناً على أن يوفيه حقه إلى الأجل أو إلى دونه، فذلك جائز.
وإن أخره به بعد الأجل برهن أو حميل جاز، لأنه ملك قبض دينه مكانه، فتأخيره به كابتداء سلف على حميل أو رهن، وإن لم يحل الأجل فأخره به إلى أبعد من الأجل بحميل أو رهن، لم يجز، لأنه سلف بنفع.
قال غيره: ولا يلزم الحميل شيء ولا يكون الرهن به رهناً، وإن قبض في فلس الغريم أو موته.
3421 - ومن قال لرجل: إن لم أوفك بغريمك غداً فأنا ضامن لما عليه، فمضى الغد وادعى الحميل أنه أوفاه به، فالبينة عليه وإلا غرم، إلا أن بوافيه به الآن قبل الحكم عليه فيبرأ من المال.
3422 - ومن كان بينه وبين رجل خلطة في معاملة، فادعى عليه حقاً، لم يجب له عليه كفيل بوجهه حتى يثبت حقه.(4/30)
وقال غيره: إذا ثبت الخلطة بينهمان فله عليه [كفيل] بنفسه، ليوقع البينة على عينه.
قال ابن القاسم: وإن سأله وكيلاً بالخصومة حتى يقيم البينة عند القاضي، لم يلزم المطلوب ذلك، إلا أن يشاء، لأنا نسمع البينة في غيبة المطلوب، وإن سأله كفيلاً بالحق حتى يقيم البينة، لم يكن ذلك له إلا أن يقيم شاهداً، فله أخذ كفيل وإلا فلا، إلا أن يدعي بينة [قريبة] يحضرها من السوق أو من بعض القبائل فليوقف القاضي المطلوب عنده لمجيء البينة، فإن جاء بها وإلا خلي سبيله.
ومن قُضي له برَبع أو غيره أنه وارثه فلا يؤخذ بذلك من المقضي له كفيل، وهذا جور ممن فعله من القضاة.
وكذلك من استحق ديناً قِبَل غائب وله رباع أو عروض حاضرة، فإن القاضي يبيعها ويوفي دينه، ولا يؤخذ من المقضي له بذلك كفيل.
3423 - ومن تكفل لك بطعام من سلم أو قرض، فلا يجوز ذلك أن تصالح الكفيل أو الغريم قبل الأجل على بعض الطعام، وتترك باقيه، وإن حلّ الأجل جاز ذلك منهما، ويرجع الكفيل بما أدى.(4/31)
ولا يجوز ذلك قبل الأجل أن تصالح الغريم أو الكفيل على حنطة، مثل [كيل] حنطتك إلا أنها أجود منها أو أدنى.
ولا يجوز لك صلح الكفيل بعد محل أجل السلم على مثل الكيل، والجنس أجود صفة أو أدنى، ولا على أقل كيلاً وأجود صفة.
ويجوز أن تأخذ من الغريم بعد الأجل مثل الكيل، أجود صفة أو أدنى، لأن ذلك بدل، وتبرأ ذمته.
3424 - وفي الكفيل يدخله بيع الطعام قبل قبضه، لأن المطلوب مخير، عليه إن شاء أعطاه مثل ما أدى، أو ما كان عليه، وأما في القرض فجائز أن يأخذ من الكفيل بعد الأجل مثل المكيلة أجود صفة أو أدنى.
3425 - وإن اشترى ثلاثة رجال سلعة من رجل، وتحمّل بعضهم ببعض في الثمن على أن يأخذ البائع أيهم شاء بحقه، فمات أحدهم، فادعى ورثته أن الميت دفع جميع الثمن إلى البائع، وأقاموا شاهداً، فإنهم يحلفون معه ويبرأ وليهم ويرجعون على الشريكين بما ينوبهما، فإن نكل الورثة لم يحلف الشريكان، لأنهما يغرمان، إلا أن يقولا: نحن أمرناه ووكلناه بالدفع عنه وعنا ودفعنا ذلك إليه، وإنما هو حق علينا، والشاهد لنا فيحلفان ويبرآن.(4/32)
3426 - ولا تجوز الكفالة في الحدود ولا في الأدب والتعزير ولا تلزم.
قال بكير: ولا في دم أو زناً أو سرقة أو شرب خمر. ولا في شيء من الحدود.
3427 - وما فهم عن الأخرس أنه فهمه من كفالة أو غيرها، لزمه. (1)
3428 - ومن تكفل في مرضه فذلك في ثلثه، وإن تداين بعد ذلك في مرضه كان دينه من رأس ماله مبدأً، فإن اغترق الدين ماله سقطت الكفالة، ولا يحاص بها الغرماء، لأنها من الثلث، وما كان من رأس المال أولى، كمن أوصى لرجل بثلث ماله ثم اغترق الدين جميع ماله، فالوصية تبطل.
3429 - ومن تكفل في مرضه لوارث أو غير وارث ثم صح لزمه ذلك، كما لو بتل صدقة في مرضه لوارث أو غير وارث ثم صح، لزمته الصدقة إذا لم تكن على وجه وصية.
3430 - ومن أقر في مرضه أنه تكفل في مرضه هذا، فإن كان [ذلك] لوارث لم يجز، وإن كان لأجنبي أو لصديق ملاطف جاز إقراره في ثلثه، إلا أن يكون عليه دين يغترق ماله، فلا يجوز.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (3/419) .(4/33)
وكذلك لو أقر للصديق الملاطف بدين في مرضه، فإنما يرد إقراره إذا كان عليه دين يغتر قماله، فإن لم يكن عليه دين [يغترق] ، جاز إقراره إن ورثه ولده، وتجوز الوصية له في الثلث ورث بولد أو كلالة، وما أقرّ المريض أنه فعله في مرضه ذلك من عتق [أو غيره، فهي وصية، وما أقر به الصحيح أنه فعله فللذين أقر لهم أخذ ذلك ما لم يمرض المقر أو يمت، فإن مرض أو مات فلا شيء لهم، وإن قامت لهم بذلك بينة إلا العتق والكفالة، فإنه إذا قامت بعد موته بينة أنه أقرّ في صحته بعتق عبد أو كفالة أو جبس أو صدقة أو غيرها لوارث أو غير وارث، كان ذلك في رأس ماله، لأنه دين قد ثبت في ماله في صحته] . وما أقر به المريض أنه فعله في صحته من عتق أو كفالة أو حبس أو صدقة أو غيرها لوارث، فإقراره باطل، ولا يجوز ذلك في ثلث ولا غيره، ويكون ميراثاً، وإن أوصى بذلك مع وصايا، كانت الوصايا في ثلث ما بقي بعد ذلك، فإن قصر الثلث عن وصيته لم تدخل الوصايا في شيء مما أقرّ به.
3431 - ومن أجرته لخدمتك شهراً، لم يجز أن تأخذ منه حميلاً بالخدمة، وإن مات عبد في إجارتك فأعطاك سيده عبداً يعمل كعمله، لم يجز، وهو دين في دين.
والحمالة أيضاً في هذا لا تجوز، لأن الغلام إن مات لم يلزم الحميل أن يأتي بغيره يخدم.(4/34)
ومن أجرته يخيط ثوبك بنفسه جاز [ذلك] .
3432 - ولا تجوز الحمالة بذلك العمل في حياة الصانع أو مماته، ولا كفيل به حتى يعمله، ولا بأس بأخذ حميل بالحمولة المضمونة.
ولا تجوز في دابة بعينها، إلا أن يتكفل برد بقية الكراء عند موتها، فيجوز.
وكذلك أجير الخياطة والخدمة، وإن فرّ الكريّ في المضمون فأكري الكفيل للطالب بضعف الكراء، وجب للكفيل الرجوع بذلك على الكري، ولا ينظر إلى الكراء الأول، وهذا مذكور في كراء الرواحل.
3433 - ولا يجوز لعبد أو مكاتب أو مدبر أو أم ولد، عتق ولا هبة ولا صدقة ولا غير ذلك مما هو معروف عند الناس إلا بإذن السيد.
فإن فعلوا ذلك بغير إذنه لم يجز إن رده السيد، فإن رده لم يلزم وإن عتقوا، وإن لم يرده حتى عتقوا لزمهم ذلك، علم به السيد قبل عتقهم أو لم يعلم.
وقال غيره: لا يجوز ذلك للمكاتب وإن أذن له سيده، لأنه داعية إلى رقه.(4/35)
3434 - ولا تجوز كفالة المأذون إلا بإذن سيده، وإن كان عليه دين يغترق ماله، لم تجز كفالته وإن أذن له السيد، كما لا تجوز كفالة الحر ومعروفه إذا اغترق الدين ماله.
3435 - وتجوز حمالة العبيد ووكالتهم في الخصومة وغيرها بإذن السيد، لأن من وكل عبده لقضاء دينه فقام للعبد شاهد أنه قد قضى، حلف العبد وبرئ [السيد] ، كالحر سواء، ولا يحلف السيد.
وإن تحمل عبد بدين على سيده بإذن السيد، [ثم فلس السيد أو مات، فإن أتبع الطالب بدينه ذمة السيد بيع العبد في ذلك، وإن رضي باتباع العبد دون السيد كان ذلك في ذمة العبد] .
قال غيره: ليس له أن يتبع ذمة العبد إلا بما عجز عنه مال السيد.
قال ابن القاسم: وإن تحمل بالدين عن أجنبي بأمر سيده كان ذلك في ذمته لا في رقبته.
3436 - وتجوز كفالة العبد أو من فيه بقية رق لسيده، ولا يجبره السيد على ذلك، ولا يلزمه إن أجبره.(4/36)
قال ابن القاسم: وإن أبى العبد أن يتكفل وقال: أخاف إن عتقت لزمتني هذه الكفالة، فأشهد السيد أنه ألزمه الكفالة عنه، لم تلزم العبد إلا برضاه.
3437 - وقال مالك في الرجل يعتق عبده وعليه مائة دينار: إن ذلك لازم للعبد وإن كره العبد ذلك.
3438 - ومن باع من عبده سلعة بدين إلى أجل، أو تكفل عنه بدين، فأداه عنه ثم باعه أو أعتقه فإن ذلك باق في ذمته، إلا أن ذلك عيب في البيع إن لم يبينه، فالمبتاع مخير في الرضى بذلك أو رد البيع.
3439 - ومن له على عبده دين فأخذ به منه كفيلاً، لزم ذلك الكفيل، لأن السيد يحاص به غرماء عبده.
3440 - ومن قال لرجل: إن لم يوفك فلان حقك فهو علي، ولم يضرب لذلك أجلاً، تلوم له السلطان بقدر مات يرى، ثم ألزمه المال، إلا أن يكون الغريم حاضراً مليئاً، فإن قال له: إن لم يوفك حقك حتى يموت فهو عليّ، فلا شيء على الكفيل حتى يموت الغريم.
3441 - ولا بأس أن يتكفل بمال إلى خروج العطاء، وإن كان العطاء مجهولاً، إن كان في قرض أو تأخير في ثمن بيع صحت عقدته، وإن كان في أصل بيع، لم يجز.(4/37)
3442 - وليس للكفيل أخذ الغريم بالمال قبل أن يؤخذ منه، إلا أن يتطوع [الغريم] ، لأنه لو أخذه منه ثم أعدم الحميل أو فلس، كان للذي له الحق أن يتبع الغريم.
3443 - وإذا دفع الغريم الحق إلى الكفيل فضاع فإن كان على الاقتضاء فهو من الكفيل، عيناً كان أو عرضاً.
3444 - وإذا عنست الجارية البكر في بيت أبيها، أو أنس منها الرشد، جاز عتقها وهبتها(4/38)
وكفالتها، وإن كره الوالد. قيل: أهذا قول مالك؟ قال: هذا رأيي، وقوله: إن ذلك ليس بجائز، هو الذي يعرف.
3445 - قال ابن القاسم: وقد سئل مالك - رحمه الله - عن الجارية المعنسة تعتق أجائز؟ قال: إن أجازه الوالد [جاز] .
وسئل ابن القاسم في باب آخر عن البكر التي عنست في بيت أهلها، أتجوز(4/39)
كفالتها؟ قال: قال مالك في هبتها وصدقتها: لا تجوز، فكذلك كفالتها في هذا لا تجوز، لأن بضعها بيد أبيها.
وكان مالك مرة يقول - فيما وجدت في كتاب عبد الرحيم -: إنها إذا عنست جاز أمرها.
قال ابن القاسم: وأما البكر التي في بيت أهلها وقد حاضت إلا أنها لم تعنس، فلا تجوز كفالتها، ولا بيعها، ولا صدقتها، ولا هبتها، ولا عتقها، ولا شيء من معروفها، وإن أجازه الوالد لم ينبغ للسلطان أن يجيزه، وهي في هذا كالصبي والمولى عليه.
وإن أعطت لأبويها شيئاً من مالها، لم يجز ذلك لها، كما لو أعطت ذلك لأجنبي.
ولا يجوز لها بعد البناء في مالها بيع ولا شراء ولا شيء من المعروف، أجاز ذلك زوجها أو لم يجزه، حتى يتبين رشدها، وإذا عُرف بعد البناء رشدها وصلاح حالها، جاز بيعها وشراؤها في مالها كله، وإن كره الزوج إذا لم تحاب. فإن حابت أو تكفلت أو أعتقت أو وهبت أو تصدقت أو صنعت شيئاً من المعروف، فإن حمل ذلك ثلثها وهي لا يؤلى عليها جاز، وإن كره الزوج. (1)
_________
(1) انظر: منح الجليل للشيخ عليش (6/222) ، وجامع الأمهات لابن الحاجب (ص385) ط اليمامة-دمشق.(4/40)
وإن جاوز الثلث فللزوج رد الجميع أو إجازته، وإن جاوز الثلث فللزوج رد الجميع أو إجازته، إلا أن يزيد على الثلث كالدينار وما خفّ، فهذا يعلم أنها لم ترد ضرراً، فيمضي الثلث مع ما زادت.
3446 - قال مالك فيمن أوصى بجارية له أن تُعتق إن حملها الثلث [وإلا فلا] ، فزاد ثمنها على الثلث ديناراً أو دينارين، قال: لا تحرم العتق بمثل هذا.
قال ابن القاسم: وتغرم الجارية ما زاد على الثلث إذا كان يسيراً، فإن لم يكن معها أتبعها به الولد ديناً.
3447 - ولو حلفت ذات زوج بعتق رقيقها فحنثت، والثلث يحملهم، عتقوا، فإن كانوا أكثر من ثلثها فللزوج رد ذلك، ولا يعتق منه شيء، فإن مات زوجها أو طلقها رأيت أن تعتقهم بغير قضاء، وهي في عطيتها لأبويها [وولدها] كعطيتها الأجنبي.
وقال المغيرة في ذات الزوج تزيد على ثلثها: إنه يجوز منه الثلث كالوصايا.(4/41)
وقال غيره: ليس كالوصايا، إذ قد تجوز وصية من لم يبلغ الحلم، ولا يجوز صنيعه في صحته في ثلث ماله ولا غيره.
3448 - قال ابن القاسم: وإذا أجاز الزوج كفالة زوجته الرشيدة في أكثر من الثلث جاز، تكفلت عنه أو عن غيره، وإن تكفلت عنه بما يغترق جميع مالها فلم يرض، لم يجز من ذلك ثلث ولا غيره.
وتجوز عطيتها لزوجها جميع مالها إذا لم تكن سفيهة.
وإن تكفلت بزوجها ثم ادعت أنه أكرهها، لم تصدق إلا ببينة، ويلزمها ذلك وإن أحاط بمالها إذا كانت مريضة.
وإذا كانت المرأة أيّماً لا زوج لها فلها أن تتكفل بمالها كله وتعطيه إذا لم يولّ عليها. (1)
* * *
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (5/332) ، والمقدمات لابن رشد (2/352) .(4/42)
(كتاب الحوالة) (1)
3449 - وإذا أحالك غريمك على من له عليه دين، فرضيت باتباعه، برئت ذمة غريمك، ولا ترجع عليه في غيبة المحال عليه أو عدمه، ولو غرك من عدم يعلمه بغريمه أو تفليس فلك طلب المحيل، وإن لم يغرك كانت الحوالة لازمة لك، وإن لم تقبض ما أحالك به حتى أفلس المحيل أو مات، فلا دخول لغرمائه معك في ذلك الدين، لأنه كبيع نفذ.
وإن أحالك على من ليس له قِبَله دين، فليست حوالة، وهي حمالة سبيلها سبيل ما وصفنا في الحمالة.
قال ابن القاسم: ولو علمت حين أحالك عليه أنه لا شيء للمحيل عليه، وشرط عليك المحيل براءته من دينك فرضيت لزمك، ولا رجوع لك على المحيل إذا كنت قد علمت، وإن كنت لم تعلم فلك الرجوع.
_________
(1) انظر: صحيح البخاري (2287) ، ومسلم (1564) ، حيث إثبات أصل مشروعيتها، ومنح الجليل لعليش (6/178) ، وجامع الأمهات لابن الحاجب (ص390) ، ومواهب الجليل (5/94) ، والتاج والإكليل (5/95) .(4/43)
وروى ابن وهب عن مالك فيمن قال لرجل: حرِّق صحيفتك [التي لك] على فلان واتبعني بما فيها، من غير حوالة بدين كان له عليه، فأتبعه حتى فلس الضامن أو مات ولا وفاء له، أن للطالب الرجوع على الأول، وإنما يثبت من الحوالة ما أحيل به على أصل دين.
3450 - قال ابن القاسم: ومن اكترى من رجل داراً سنة بعشرة دنانير على أن يحيله بها على رجل ليس له عليه دين، جاز، وكانت حمالة جائزة، وليس للمكري طلب الحميل إلا في فلس المكتري أو موته عديماً، وإن أحاله بالدنانير قبل السكنى على رجل له عليه دين، جاز ذلك إن كان الكراء عندهم بالنقد أو شرطوه، وإن لم يشرط ولا كان سنتهم النقد، لم يجز، لأنه فسخ دين لم يحل في دين حل أو لم يحل.(4/44)
3451 - ولا بأس بأن تكتري من رجل عبده أو داره، بدين لك حال أو مؤجل على رجل آخر مقر حاضر، وتحيله عليه إن شرعت في السكنى أو الخدمة.
3452 - وإن بعت من رجل عبداً بمائة دينار، ولرجل عليك مائة دينار، فأحلته بها على المبتاع فرضي، ثم استحق العبد، فعلى مبتاعه أداء ثمنه لغريمك، لأنه شيء لزم ذمته، ثم يرجع هو بالثمن عليك.
3453 - وإن أحالك مكاتبك بالكتابة على مكاتب له، وله عليه مقدار ما على الأعلى، فلا يجوز ذلك إلا على أن تَبُتّ أنت عتق الأعلى فيجوز، ثم إن عجز الأسفل كان لك رقاً، ولا ترجع على المكاتب الأعلى بشيء، لأن الحوالة كالبيع، وقد تمت حرمته.
3454 - ولا تجوز حمالة بكتابة، فأما الحوالة فإن أحالك على من لا دين له قِبَلَه، لم يجز، لأنها حمالة، وإن كان [على من] له عليه دين حل أو لم يحل، جازت الحوالة إن كانت الكتابة قد حلت، ويعتق مكانه. وكذلك إن حلّ عليه نجم فلا بأس أن يحيلك به على من له عليه دين حل أو لم يحل، ويبرأ المكاتب من ذلك النجم، وإن كان آخر نجومه كان حراً مكانه، وإن لم يحل النجم لم يجز أن يحيلك به على من له عليه دين حال، لأن هذا ذمة بذمة، ورباً بين السيد ومكاتبه، وكذلك(4/45)
إن لم تحل الكتابة لم تجز الحوالة بها وإن حل الدين، لأنه فسخ دين لم يحل في دين حل أو لم يحل.
وقال غيره: تجوز الحوالة ويعتق مكانه، لأن ما على المكاتب ليس بدين ثابت وكأنه قد عجل عتقه على دراهم نقداً، أو مؤجلة، والكتابة دنانير لم تحل، وكمن قال لعبده: إن جئتني بألف درهم فأنت حر، ثم قال: إن جئت بخمس مائة درهم أو بعشرة دنانير فأنت حر، فإن جاء بها كان حراً، ولم يكن بيع فضة بذهب، ولا فسخاً لدين في أقل منه، وكأن لم يكن قبله إلا ما أدى.
قال ابن القاسم: ذلك لا ينبغي، لأن مالكاً كره للسيد بيع الكتابة من أجنبي بعرض أو غيره إلى أجل، ووسع في هذا بين السيد ومكاتبه، فلما كره ذلك مالك بين السيد والأجنبي من قِبل أنه دين بدين، كرهنا الحوالة أيضاً، إذا لم تحل الكتابة، لأنه دين بدين.
قال مالك: وسمعت بعض أهل العلم يقولون: الذمة بالذمة من وجه الدين بالدين.
* * *(4/46)
(كتاب الرهون) (1)
3455 - ولا بأس برهن [جزء] مشاع غير مقسوم من رَبْع أو حيوان أو عَرَض، وقبضه أن يحوزه المرتهن دون صاحبه، والحوز في ارتهان نصف ما يملك الراهن جميعه من عبد أو دابة أو ثوب قبض جميعه، فإن كان النصف الآخر من هذه الأشياء لغير الراهن، فإن المرتهن يقبض حصة الراهن، فيحل محله، ولا بأس أن يضعاه على يدي الشريك.
وكذلك الدار المشتركة إن حل المرتهن محل الراهن، وحاز نصيبه وكان يكريه ويليه مع من له فيه شريك، فتلك حيازة.
_________
(1) انظر: الأصل في مشرعيته البخاري (2069) ، والترمذي (1215) ، وانظر: منح الجليل (5/417) .(4/47)
وإن كان مما يقسم من طعام ونحوه، فرهن حصته منه، جاز ذلك إذا حازه المرتهن، فإن شاء الشريك البيع قاسمه ذلك الراهن، وهو في يد المرتهن، فإن غاب الراهن أقام الإمام من يقسم له، ثم تبقى حصة الراهن بيد المرتهن رهناً ويطبع على ما لا يعرف بعينه.
3456 - ومن رهن حصته من دار ثم اكترى حصة شريكه وسكن، بطل حوز الرهن إن لم يقم المرتهن من يقبض حصة الراهن من الدار ويقاسمه، لأنه لما سكن نصف الدار وهي غير مقسومة، صار المرتهن غير حائز لما ارتهن، ولا أمنع الشريك أن يكري نصيبه من الراهن، ولكن تقسم الدار فيحوز المرتهن رهنه، ويكري الشريك نصيبه ممن شاء.
3457 - ومن ارتهن نصف ثوب فقبض جميعه فهلك عنده، لم يضمن إلا نصفه، كالمعطي لغريمه ديناراً ليستوفي منه نصف دينار له عليه ويرد ما بقي، فزعم أنه ضاع، فضمان النصف من المقتضي وهو مؤتمن في النصف الآخر، ولا يمين عليه إلا أن يتهم فيحلف.
3458 - ومن ارتهن دابة أو داراً أو ثياباً واستحق نصف ذلك من يد المرتهن، فباقيه رهن بجميع الحق، فإن شاء المستحق البيع، قيل للراهن وللمرتهن: بيعا معه، وقيل(4/48)
للمرتهن: لا تسلم رهنك ولكن يباع وهو بيدك، وتصير حصة الراهن من الثمن رهناً بيد المرتهن بجميع حقه أو بيد ن كان الرهن على يديه.
3459 - ولو ترك المستحق حصته بيد المرتهن وهو ثوب، ثم ضاع، لم يضمن المرتهن إلا نصف قيمته للراهن، فإن كان الراهن والمرتهن قد وضعها على يدي المستحق أو غيره ثم ضاع، لم يضمنه المرتهن وبقي دينه بحاله.
3460 - وما وضع من رهن يغاب عليه أم لا، على يدي عدل فضمانه من الراهن.
وما قبضه المرتهن من رهن لا يغاب عليه من ربع أو حيوان أو رقيق، فالمرتهن مُصدّق فيه ولا يضمن ما زعم أنه هلك أو عطب أو أبق أو دخله عيب.
وأما ما يغاب عليه فالمرتهن يضمنه إذا قبضه، إلا أن يقيم بينة على هلاكه من غير سببه بأمر من الله، أو بتعدي أجنبي، فذلك من الراهن، وله طلب المتعدي، فإذا غرم المتعدي القيمة، فأحب ما فيه إليّ - إن أتى الراهن برهن ثقة مكان ذلك - أخْذ القيمة، وإلا جعلت هذه القيمة رهناً.
3461 - وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن لم يجز بيعه، فإن أجازه المرتهن جاز البيع وعُجّل للمرتهن حقه، شاء الراهن أو أبى. (1)
وإن باعه بإذن المرتهن فقال المرتهن: لم آذن له في البيع إلا لإحياء الرهن لا ليأخذ
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/13، 19) ، والشرح الكبير (3/248) ، ومواهب الجليل (5/20) .(4/49)
الراهن الثمن، خلف على ذلك، وقيل للراهن: إن أتيت برهن ثقة يشبه الرهن الذي بعت وتكون قيمته كقيمة الرهن الأول فلك أخذ الثمن، وإلا بقي الثمن رهناً إلى الأجل، ولم يُعجَّل للمرتهن حقه، وخذا إذا بيع بإذن المرتهن، ولم يسلمه من يده إلا إلى المبتاع، وأخذ منه الثمن.
وأما إن أسلمه إلى الراهن فباعه خرج من الرهن، وإن تعدى المرتهن فباع الرهن أو وهبه، فلربه رده حيث وجده، فيأخذه ويدفع ما عليه فيه، ويتبع المبتاع بائعه بالثمن.
3462 - ومن ارتهن ثمرة نخل أو زرعاً قبل بدو صلاحهما أو بعده جاز ذلك، إن حازه المرتهن، أو عدل يرضيان به، ويتولى من يحوزه سقيه وعمله، وأجر السقي في ذلك على الراهن، كما أن عليه نفقة الدابة والعبد الرهن، وعليه كسوة العبد وكفنه إن مات ودفنه، وللذي ارتهن الثمرة أن يأخذ النخل معها، وله قبض الأرض مع الزرع ليتم له الحوز، ثم لا يكون رهناً في قيام الغرماء، إلا الثمر أو الزرع خاصة والنخل والأرض للغرماء.
3463 - ومن ارتهن أمة حاملاً كان ما في بطنها وما تلد بعد ذلك رهناً [معها] ، وكذلك نتاج الحيوان كله.
3464 - ومن ارتهن نخلاً لم يدخل في الرهن ما فيها من ثمر، أُبِّر أو لم يؤبّر، أزهى أو لم يزه، ولا ما يثمر بعد ذلك إلا أن يشترط ذلك.(4/50)
وولد الأمة في هذا بخلاف ما تثمره الأصول، لأن من باع أمة حاملاً كان ما في بطنها للمبتاع.
3465 - ومن باع نخلاً قد أُبّر ثمرها فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، [وكذلك] الثمرة وكراء الدور وإجارة العبيد كل ذلك للراهن، ولا يكون في الرهن إلا أن يشترطه المرتهن، وكذلك صوف الغنم وألبانها، إلا صوفاً كمل نباته يوم الرهن فإنه رهن معها.
ولا يكون مال العبد الرهن رهناً إلا أن يشترطه المرتهن كالبيع، فيدخل في البيع والرهن، كان ماله معلوماً أو مجهولاً.
وما وهب له فليس برهن، وهو كماله موقوف بيده إلا أن ينتزعه سيده. (1)
3466 - وإن تكفلت لرجل بدين وأعطيته به رهناً جاز ذلك، فإن هلك الرهن عند المرتهن وهو مما يغاب عليه ضمنه، فإن كانت قيمته كفاف الدين فقد استوفى المرتهن حقه، وترجع أنت على الذي عليه الحق بقيمة رهنك، وسواء في هذا تكفلت عن المطلوب بأمره أو بغير أمره، أو أعطيت الرهن بأمره أو بغير أمره، فأما إن رهنته بأمر المطلوب وقيمة الرهن أكثر من الدين رجعت على المطلوب خاصة بمبلغ الدين من رهنك، ويسقط دين المرتهن، وترجع بفضل
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/221) .(4/51)
قيمة رهنك على المرتهن إن شئت، أو على المطلوب، فإن أغرمت المطلوب الزيادة رجع هو بها على المرتهن.
وإن كنت رهنته بغير أمر المطلوب رجعت على المطلوب بالدين فقط، ولا يتبع بالزيادة إلا المرتهن خاصة.
3467 - ويجوز الرهن في دم الخطأ إن علم الراهن أن الدية على العاقلة، ولو ظن أن ذلك يلزمه وحده لم يجز، وله رد الرهن، وكذلك الكفالة فيه.
3468 - وإن استعرت من رجل دابة على أنها مضمونة عليك لم تضمنها، وإن رهنته بها رهناً فمصيبتها من ربها والرهن فيها لا يجوز، فإن ضاع الرهن عنده ضمنه، إذ لم يأخذه على الأمانة.
3469 - ومن ارتهن ما يغاب عليه، وشرط أن لا ضمان عليه فيه، وأنه مصدق لم ينفعه شرطه، وضمن إن ادعى أنه ضاع.
ويجوز الرهن بالعارية التي يغاب عليها، لأنها مضمونة. (1)
3470 - ومن استأجر عبدَ رجلٍ وأعطاه بالإجارة رهناً جاز.
3471 - ومن ادعى قبل رجل ديناً فأعطاه به رهناً يغاب عليه، فضاع الرهن عنده
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/16) .(4/52)
وتصادقا أن دعواه باطل، وكان قد اقتضاه ولم يعلم فهو ضامن للرهن إذا لم يأخذه على الأمانة، وكذلك إن أعطاه دراهم حتى يصارفه بها من دنانير له عليه ديناً فزعم أن الدراهم ضاعت.
وكذلك ما عمله الصناع بغير أجر، فضمانه منهم، وكذلك لو قبض [المرتهن] دينه أو وهبه للراهن، ثم ضاع الرهن بعد ذلك ضمنه المرتهن وإن زادت قيمته على الدين، وإن صرف دراهم بدنانير فقبض الدراهم وأعطاه بالدنانير رهناً، وجهلا، فالرهن إن ضاع من المرتهن، فإن كانت قيمة الرهن مثل الدراهم برئ الراهن، وإن زادت أو نقصت ترادّا الفضل.
3472 - ومن أخذ رهناً بقراض لم يجز، إلا أنه إن ضاع ضمنه، إذ لم يأخذه على الأمانة.
وإن دفعت إلى رجل رهناً بكل ما أقرض لفلان جاز ذلك.
3473 - ومن ارتهن رهناً وجعلاه على يد عدل أو على يد المرتهن، إلى أجل كذا وشرطا إن جاء الراهن بحقه إلى ذلك الأجل، وإلا فلمن على يديه الرهن بيعه، فلا يباع إلا بإذن السلطان وإن شرط ذلك، فإن بيع نفذ بيعه ولم يرد، وإن لم يأذن له في بيعه رفعه المرتهن إذا حل الأجل إلى السلطان، فإن أوفاه حقه وإلا باع له الرهن فأوفاه حقه.(4/53)
3474 - وإذا قبض الرهن وكيل المرتهن بأمر من الراهن فهلك بيده وهو مما يغاب عليه، فهو من المرتهن، لأن قبض وكيله كقبضه، وليس كالعدل الذي تراضيا عليه.
3475 - وإن تعدى العدل في رهن في يديه فدفعه إلى الراهن أو إلى المرتهن فضاه، وهو مما يغاب عليه، فإن دفعه إلى الراهن ضمن للمرتهن، وإن دفعه للمرتهن ضمنه للراهن، فإن كان الرهن كفاف الدين سقط دين المرتهن لهلاكه بيده، فإن كان فيه فضل ضمن العدل الفضل للراهن.
وإذا مات العدل وبيده رهن فليس له أن يوصي عند موته بوضعه عند غيره، وذلك إلى المتراهنين. (1)
3476 - وإذا أمر السلطان رجلاً ببيع الرهن ليقضي المرتهن حقه فباعه، ثم ضاع الثمن من يده لم يضمنه المأمور وصُدّق في ضياعه، فإن اتهم حلف، وكان الثمن من الذي له الدين كقول مالك في ضياع ثمن ما باعه السلطان لغرماء المفلس أنه من الغرماء.
وإن قال المأمور: قد بعت الرهن بمائة وقبضها المرتهن، وقال المرتهن: ما أخذت شيئاً، صدق المرتهن، ولو قال المرتهن: إنما باعه بخمسين وقضانيها، ضمن المأمور الخمسين الباقية بإقراره أنه باعه بمائة، كمأمور يدفع مائة دينار إلى رجل يدعي أنه دفعها وقال الرجل: لم أقبض إلا خمسين، فالمأمور ضامن للخمسين.
وإذا باع السلطان الرهن ودفع ثمنه إلى المرتهن، ثم استحق الرهن وقد فات عند المبتاع، أو غاب المبتاع فلم يوجد، فللمستحق إجازة البيع وأخذ الثمن من المرتهن،
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/23) .(4/54)
ويرجع المرتهن بحقه على الراهن. وقاله مالك فيمن باع سلعة فاستحقها صاحبها وقد دارت في أيدي رجال، أنه يأخذ الثمن من أيهم شاء.
وإن باع المأمور الرهن بحنطة أو شعير أو عرض لم يجز، ثم إن ضاع ما قبضه منه ضمنه المأمور بتعديه.
ولو باع بالعين لم يضمن. وكذلك الوكيل على بيع سلعة يبيعها بغير العين.
وإن قال الراهن: لم يحلّ الأجل، وقال المرتهن: قد حل، صدق الراهن، لأن المرتهن مقر بأجل يدعي حلوله، وهذا إذا أتى الراهن بأمر لا يستنكر وادعى أجلاً يشبه، وإلا لم يصدق.
3477 - قال مالك: وإذا قال مبتاع السلعة بعد أن فاتت عنده: ابتعتها بثمن إلى أجل،(4/55)
وقال البائع: بل بثمن حال، فإن ادعى المبتاع أجلاً قريباً صُدق، وإن ادعى أجلاً بعيداً لم يصدق. قال ابن القاسم: لا يصدق في الأجل، ويؤخذ بما أقر به من المال حالاً، إلا أن يقر بأكثر مما ادعاه البائع، فلا يكون للبائع إلا ما ادعاه.
3478 - ومن ارتهن رهناً فقبضه، ثم أودعه للراهن أو أجره منه أو أعاره إياه أو رده إليه بأي وجه كان حتى يكون الراهن هو الحائز له، فقد خرج من الرهن.
وليس للمرتهن إن أعاره إياه رده في الرهن، إلا أن يعيره [إياه] على ذلك، فإن أعاره على ذلك ثم لم يرتجعه حتى قامت الغرماء [على الراهن] أو مات، كان أسوة الغرماء.(4/56)
وكذلك إن ارتهنت أرضاً فزرعها الراهن بإذنك وهي بيدك، كان خروجاً من الرهن.
3479 - وإذا أجر المرتهن الرهن، أو أعاره بإذن الراهن، وولي المرتهن ذلك ولم يسلمه إلى الراهن، لم يكن ذلك خروجاً من الرهن، وهو على حاله، فإن ضاع الرهن عند المستأجر، وهو مما يغاب عليه فضياعه على الراهن، لإذنه فيه، وإن لم يقبض المرتهن الرهن حتى مات الراهن أو فلس، كان أسوة الغرماء في الرهن.
وإذا كان الحق إلى أجل وأخذ به رهناً، فمات الراهن قبل الأجل بِيع [الرهن] وقضي المرتهن حقه، لأن من مات فقد حلت ديونه.
3480 - ومن رهن لامرأته رهناً قبل البناء بجميع الصداق جاز ذلك، لأن عقد النكاح يوجب لها الصداق كله، إلا أن يطلق قبل البناء، فإن طلق قبل البناء لم يكن له أخذ نصف الرهن، والرهن أجمع رهن بنصف الصداق، كمن قضى بعض الدين أو وُهِب(4/57)
له، فالرهن رهن بما بقي له، فإن هلك الرهن وهو مما يغاب عليه ضمن المرتهن جميعه، وقد اختلف قول مالك في رهن [من] أحاط الدين بماله، وقد ذكرناه في كتاب المديان. (1)
3481 - وإذا كان لك على رجل مائتان فرهنك بمائة منها رهناً، ثم قضاك مائة وقال: هي التي فيها الرهن، وقلت أنت: هي التي لا رهن فيها، وقامت الغرماء أو لم يقوموا، فإن المائة يكون نصفها لمائة الرهن، ونصفها للمائة الأخرى، وإن أسلمت في طعام إلى أجل وأخذت به رهناً، ثم تقايلتما بعد ذلك الأجل أو قبله، ولم تقبض رأس المال مكان الرهن الذي في يديك، لم تجز الإقالة، إلا أن تقبض رأس المال مكانك قبل أن تفترقا، وإلا دخله بيع الطعام قبل قبضه.
3482 - ومن ارتهن عبداً فجنى العبد جناية خُيّر السيد أولاً، فإن فداه كان على رهنه، وإن أسلمه خير المرتهن أيضاً، فإن أسلمه كان لأهل الجناية بماله، قل أو كثر، وبقي دين المرتهن بحاله، وإن فداه المرتهن لم يكن لسيده أخذه حتى يدفع ما فداه به مع الدين.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/309) .(4/58)
ولا يكون ماله رهناً بأرش ولا دين، إذ لم يشترط في الدين أولاً.
وإن أبى سيده أن يأخذه بِيع العبد بعد حلول [أجل] الدين، لا قبله، وبدئ بما فداه به المرتهن من الجناية، فإن ساوت رقبته أقل مما فداه به، لم يتبع السيد بما بقي من ذلك، لأنه فداه بغير أمره، وأتبعه بدينه الأول.
وإن كان فيه فضل كان الفضل من رقبته في الدين، وإن افتداه المرتهن بأمر الراهن، أتبعه المرتهن بما فداه به وبالدين جميعاً.
3483 - ولو أقر الراهن أن العبد الرهن جنى جناية، أو استهلك مالاً وهو عند المرتهن، ولم تقم بذلك بينة، فإن كان الراهن معدماً لم يصدّق، وإن كان مليئاً قيل له: أتفديه أم تسلمه؟ فإن فداه بقي رهناً على حاله، وإن أسلمه لم يكن له ذلك حتى يحل الأجل، فإذا حل [الأجل] أدى الدين ودفع العبد بجنايته التي أقر بها، وإن فلس قبل الأجل فالمرتهن أحق به من أهل الجناية، وليس ذلك كثبوت الجناية ببينة.
3484 - وإذا أخذت من رجل رهناً بدين لك عليه ثم استقرضك دراهم أخرى على ذلك(4/59)
الرهن، [جاز] ، وكان بالدينين [جميعاً] رهناً.
3485 - وإذا ارتهنت ثوباً قيمته مائة دينار في خمسين ديناراً ثم رهن رب الثوب فضلته لغيرك، لم يجز، إلا أن يكون ذلك بإذنك فيجوز، وتكون حائزاً للمرتهن الثاني، فإن هلك الثوب بيدك بعدما ارتهن الثاني فضلته ضمنت منه مبلغ دينك، وكنت في الباقي أميناً، ويرجع المرتهن الثاني بدينه، لأن فضلة الرهن على يدي عدل، وهو المرتهن الأول.
3486 - وإن أنفق المرتهن على الرهن بأمر ربه أو بغير أمره، رجع بما أنفق على الراهن، ولا يكون ما أنفق في الرهن إذا أنفق بأمر ربه، لأن ذلك سلف إلا أن يقول له: أنفق على أن نفقتك في الرهن، فله حبسه بنفقته وبما رهنه فيه، إلا أن تقوم الغرماء على الراهن، فلا يكون المرتهن أحق منهم بفضله عن دينه لأجل نفقته، أُذن له في ذلك أو لم يؤذن، إلا أن يقول له: أنفق والرهن بما أنفقت رهناً. (1)
فأما المنفق على الضالة فهو أحق بها من الغرماء حتى يستوفي نفقته، إذ لا يقدر على صاحبها، ولا بد من النفقة عليها، والرهن يأخذه راهنه بنفقته، فإن غاب رفع ذلك إلى الإمام.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (4/193) .(4/60)
3487 - وللوصي أن يرهن من متاع اليتيم رهناً فيما يبتاع له من كسوة أو طعام، كما يتسلف لليتيم حتى يبيع له بعض متاعه، وذلك لازم لليتيم.
وللوصي أن يعطي مال اليتيم مضاربة.
ولا يعجبني أن يعمل به الوصي لنفسه، إلا أن يتجر لليتيم فيه أو يقارض له به غيره.
وللوصي أن يسلف الأيتام ويرجع عليهم إن كان لهم يوم السلف عرض أو عقار، ثم يبيع ويستوفي، وإن لم يكن لهم يوم السلف مال فقال الوصي: أنا أسلفهم فإن أفادوا مالاً رجعت عليهم، لم يكن له ذلك. والنفقة عليه حينئذ على وجه الحسبة ولا يرجع [عليهم] بشيء [وإن أفاد اليتيم مالاً] .
وليس للوصي أن يأخذ عروض اليتيم بما أسلفه رهناً، إلا أن يكون تسلف لليتيم مالاً من غيره أنفقه عليه، ولا يكون أحق بالرهن من الغرماء، لأنه حائز لنفسه من نفسه، وهو والغرماء في ذلك سواء.(4/61)
3488 - ومن قال: لله عليّ أن أصوم شهراً متتابعاً أجزأه التبييت لأول ليلة ولا يحتاج أن يبيّت الصوم كل ليلة.
3489 - ولا يدفع أحد الوصيين رهناً من التركة إلا بإذن صاحبه، وإن اختلفا نظر الإمام، وكذلك البيع والنكاح.
وإذا عزل الورثة دين الغريم فضاع، فمذكور في كتاب المديان.
3490 - ومن زوج أمته وأخذ مهرها قبل البناء بها فاستهلكه وأعتقها، ثم طلقها الزوج قبل البناء ولا مال للسيد، لم يُردّ عتقها، لأن الدين إنما لزم السيد حين طلق الزوج لا يوم العتق.
قال مالك - رحمه الله -: وليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز، ولكن يجهزها به كالحرة.
وإذا رهن الأب من متاع ابنه الصغير في دين على الأب ولم يستدنه للولد، لم يجز الرهن، لأنه لا يجوز له أخذ مال ولده من غير حاجة، وإنما يجوز بيع الأب عليه على وجه النظر وكذلك الوصي.(4/62)
ولا بأس أن يشتري الأب أو الوصي لبعض من يليان عليه من بعض.
3491 - وإذا اشترط المرتهن منفعة الرهن فإن كان الدين من قرض لم يجز ذلك، لأنه سلف جر منفعة.
وإن كان الدين من بيع، وشرط منفعة الرهن إلى أجل مسمى، قال مالك: لا باس به في الدور والأرضين وكرهه في الحيوان والثياب، إذ لا يدري كيف يرجع إليه، وأجاز ذلك كله ابن القاسم إذا سميا أجلاً كالإجارة، وهذه إجارة وبيع.
3492 - ولا بأس برهن المصحف، ولا يقرأ فيه، فإن لم يشترط في أصل السلف أن يقرأ فيه فوسع له رب المصحف أن يقرأ فيه لم يعجبني، كان الرهن من بيع أو قرض.(4/63)
3493 - ولا يجوز لمسلم أن يؤجر نفسه في شيء مما حرم الله عز وجل، وهذا مذكور في كتاب الجعل والإجارة.
3494 - ولا ترهن الدنانير والدراهم والفلوس، وما لا يعرف بعينه من طعام أو إدام، وما يكال أو يوزن، إلا أن يطبع على ذلك، ليمنع المرتهن من النفع به، ويرد مثله.
وأما الحلي فلا يطبع عليه، حذر اللبس، كما لا يفعل ذلك في سائر العروض، لأن ذلك يعرف بعينه.
3495 - ولا يجوز لمسلم أن يرتهن من ذمي خمراً أو خنازير.
وإذا ولدت الأمة الرهن ثم ماتت، كان ولدها رهناً بجميع الدين.
وإن رهنك خلخالين من ذهب في مائة درهم فاستهلكتهما قبل الأجل أو كسرتهما، وقيمتهما مائة درهم، لم أجعل ذلك قَصَاصاً بدينك، ولكن تؤخذ القيمة منك دراهم فتوضع بيد عدل مطبوع عليها رهناً، فإذا حل الأجل أخذتها في حقك، وكذلك إن كان من فضة فلزمتك قيمتها دنانير، كانت رهناً كما ذكرنا إلى الأجل، فإن وفاك حقك أخذ الدنانير، وإلا صُرفت لك، وأخذت منها حقك.
وكان ابن القاسم يقول: إذا كسر الخلخالين فإنما عليه ما نقص الصناعة، ثم رجع إلى أن يغرم قيمتها، ويكونان له، ولا يكون الرهن بما فيه ولكن المرتهن ضامن لجميع قيمته. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (4/319) .(4/64)
3496 - ومن لك عليه دين إلى أجل من بيع أو قرض، فرهنك به رهناً على أنه إن لم يفتكه منك إلى الأجل، فالرهن لك بدينك، لم يجز ذلك، وينقض هذا الرهن، ولا ينتظر به الأجل، ولك أن تحبس الرهن حتى تأخذ حقك، وأنت أحق به من الغرماء، وإن حلّ الأجل والرهن بيدك أو بيد أمين، فقبضته أنت لأجل شرطك ذلك، لم يتم لك ملك الرهن فيما شرطت فيه، ولكن ترده إلى ربه ما لم يفت، وتأخذ دينك، ولك أن تحبسه حتى تأخذ دينك، وأنت أحق به من الغرماء، فإن فات الرهن بيدك بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة سوق فأعلى في الحيوان والسلع، وأما الدور والأرضون فلا يفيتهما حوالة سوق ولا طول زمان، وإنما يفيتهما الغرس والبناء والهدم، وسواء هدمتها أنت أو انهدمت بأمر من الله، فذلك فوت، فحينئذ لا ترد الرهن ويلزمك بقيمته يوم حل الأجل، لأنه بيع فاسد وقع يوم حل الأجل، وأنت للسلعة يومئذ قابض وتقاضيه بدينك وتترادان الفضل.
3497 - ومن أسلفته فلوساً وأخذت به رهناً، ففسدت الفلوس، فليس لك عليه إلا مثل فلوسك، ويأخذ رهنه.
وإن بعته سلعة بفلوس إلى أجل، فإنما لك نقد الفلوس يوم البيع، ولا يلتفت إلى كسادها، وكذلك إن أقرضته دراهم فلوساً وهي يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم صارت مائتي فلس بدرهم فإنما يرد إليك ما أخذ لا غير ذلك.(4/65)
3498 - وإذا أخذت رهناً يغاب عليه في ثمن شيء بعته، أو قرض عين أو عرض أو حيوان أو طعام، فهلك الرهن بيدك وقامت عليك الغرماء ولا مال لك غير الدين الذي لك على غريمك، فعلى غريمك غرم دينك، وله محاصة غرمائك بقيمة رهنه، ولا يكون دينك عليه رهناً له بذلك، ولا له المقاصة بذلك، لأنك لم ترهنه إياه.
وكذلك إن أسلفته مالاً، ثم ابتعت منه سلعة بثمن ولم تذكر أن ذلك من دينك، ثم قامت الغرماء على أحدكما، فلا يكون ما في ذمته له رهناً بما في ذمة الآخر، ولكنه يغرم ويحاص.
وإن تكلفت عن رجل بحق عليه، وأخذت منه بذلك رهناً فذلك جائز.
3499 - وإذا اختلف الراهن والمرتهن في مبلغ الدين، فالرهن كشاهد للمرتهن، إذ حيازته وثيقة له، فإذا كانت قيمته يوم الحكم والتداعي لا يوم الرهن مثل دعوى المرتهن فأكثر، صدق المرتهن مع يمينه.
وإن تصادقا على أن قيمته يوم التراهن أقل من ذلك فزاد سوقه، لم أنظر إلا إلى قيمته الآن، زادت أو نقصت. (1)
فإن قال الراهن: هو في مائة، وقال المرتهن: في مائتين، صُدّق المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن يوم الحكم ويحلف.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/30) .(4/66)
فإن ادعى أكثر من قيمة الرهن الآن، لم يصدق فيما زاد عليها، وحلف الراهن على ما قال، فإن حلف فإنما يبرأ من الزيادة على قيمة الرهن، ويؤدي مبلغ قيمته ويأخذه إن أحب، وإلا فليس له أخذه.
3500 - وإن قال المرتهن: ارتهنته في مائة دينار، وقال الراهن: المائة لك عليّ ولم ارهنك إلا بخمسين، فالقول قول المرتهن إلى مبلغ قيمة الرهن، فإن لم يساو إلا خمسين فعجل الراهن الخمسين قبل الأجل ليأخذ رهنه، وقال المرتهن: لا أسلمه حتى آخذ المائة، فللراهن أخذ رهنه إذا عجل الخمسين قبل أجلها، وتبقى عليه خمسون بغير رهن، فكما لو أنكرها لم تلزمه، فكذلك لا تلزمه بما رهنه في أكثر من قيمته.
3501 - وإذا ضاع الرهن عند المرتهن فاختلفا في قيمته تواصفاه، ويكون القول في الصفة قول المرتهن مع يمينه، ثم يدعى لتلك الصفة المقوِّمون، ثم إن اختلفا في الدين صدق المرتهن إلى مبلغ قيمة تلك الصفة.
3501 - وإن رهنه ثوبين فضاع عنده أحدهما فاختلفا في قيمته صدق المرتهن مع يمينه في قيمته يسقط من الدين مبلغ قيمة الثوب الذاهب.
3502 - وإذا كان بيد المرتهن عبدان، فادعى أنهما رهن بألف، وقال الراهن: رهنتك بالألف أحدهما، وأودعتك الآخر فالقول قول الراهن، [لأن] من ادعى في سلعة بيده أو عبد أن ذلك رهن وقال ربه: بل عارية أو وديعة صدق ربه،(4/67)
ولو كانا نمطا وجُبّة فهلك النمط فقال المرتهن: أودعتنيه والجبة رهن، وقال الراهن: النمط هو الرهن، والجبة وديعة، فكل واحد مدع على صاحبه، فلا يصدق الراهن في تضمين المرتهن لما هلك، ولا يصدق المرتهن أن الجبة رهن، ويأخذها ربها. (1)
3503 - وإن بعت من رجل سلعة على أن يرهنك عبده ميموناً بحقك وفارقته قبل قبضه، لم يبطل الرهن، ولك أخذه منه رهناً، ما لم تقم عليه الغرماء، فتكون أسوتهم.
وإن باعه قبل أن تقبضه منه، مضى البيع، وليس لك أخذه برهن غيره، لأن تركك إياه حتى باعه كتسليمك إياه لذلك، وبيعك الأول غير منتقض.
وإن بعت منه سلعة بثمن إلى أجل على أن تأخذ به رهناً ثقة من حقك، فلم تجد عنده رهناً، فلك نقض البيع وأخذ سلعتك أو تركه بلا رهن.
3504 - ومن ارتهن عصيراً فصارت خمراً، فليدفعها إلى الإمام لتهراق بأمره، وكذلك الوصي يجد في التركة خمراً خوفاً من أن يتعقب بأمر.
وإذا ملك المسلم خمراً أهريقت عليه، ولا يخللها، فإن أصلحها فصارت خلاً فقد أساء، ويأكله.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/29) .(4/68)
3506 - ولا بأس برهن جلود السباع المذكّاة وبيعها دبغت أو لا، ولا يجوز رهن جلود الميتة ولا بيعها دبغت أم لا، ويجوز ارتهان ما لا يجوز بيعه في وقت، وقد يجوز بيعه بعد ذلك، مثل زرع أو ثمر، لم يبد صلاحه، فإن ارتهنت ذلك منه، ثم مات الراهن قبل أجل الدين، ولم يبد صلاح الزرع أو الثمر، حل الدين الذي لك عليه بموته، وتعجلت دينك من ماله، وسلّمت الرهن لورثته، وإن لم يدع مالاً انتظرت أن يحل بيع ما ذكرنا، فيباع وتأخذ دينك من ثمنه، فإن فلّس الراهن أو مات، فقام عليه غرماؤه، والذي بيدك من الرهن لم يبد صلاحه، فمذكور في كتاب التفليس.
ويحكم بين أهل الذمة في تظالمهم في الرهان.
3507 - وإذا رهن المكاتب أو ارتهن، جاز ذلك إن أصاب وجه الرهن، لأنه جائز البيع والشراء، وكذلك المأذون.
3508 - وإذا وجد السيد مع المكاتب قبل حلول أجل الكتابة مالاً فيه وفاء بالكتابة أو أقل منها، فليس له أخذه.
3509 - وإذا أعطاك أجنبي رهناً بكتابة مكاتبك لم يجز ذلك، كما لا تجوز الحمالة بها، وإن خاف المكاتب العجز، جاز أن يرهن أم ولده، فأما ولده فلا، وذلك كالبيع.(4/69)
3510 - ومن رهن عبداً ثم أعتقه أو كاتبه جاز ذلك إن كان ملياً وعجل الدين، وأما إن دبره جاز، وبقي رهناً على حاله، لأن الرجل يرهن مدبره.
وروى ابن وهب عن مالك أن التدبير مثل العتق سواء فليعجل له دينه.
وإذا أعتقه السيد قبل محل الدين فليس له أن يرهنه سواه حتى يحل الأجل، وليعجل له حقه في ملائه.
وإن أعتقه وهو عديم بقي العبد رهناً فإن أفاد ربه قبل الأجل مالاً أخذ منه الدين ونفذ العتق.
3511 - ومن رهن أمته ثم وطئها الراهن فأحبلها، فإن وطئها بإذن المرتهن أو كانت مُخْلاة تذهب [حيث شاءت] وتجيء في حوائج المرتهن فهي أم ولد للراهن، ولا رهن للمرتهن فيها، وإن وطئها على وجه الغصب والتسور بغير إذن المرتهن عجل ربها الحق إن كان ملياً وكانت له أم ولد، وإن لم يكن له مال بيعت الجارية بعد(4/70)
الوضع، ولا يباع ولدها وهو حر لاحق النسب، فإن نقص ثمنها عن دين المرتهن أتبع السيد بذلك، فإن وطئها المرتهن فولدت منه حُدّ ولم يلحق به الولد وكان مع الأم رهناً وعليه للراهن ما نقصها الوطء، بكراً كانت أو ثيباً إن كرهها، وكذلك إن طاوعته وهي بكر، فأما إن كانت ثيباً فلا شيء عليه والمرتهن وغيره في ذلك سواء.
فإن اشترى المرتهن هذه الأمة وولدها لم يعتق عليه ولدها لأنه لم يثبت نسبه منه.
3512 - وإذا أعتق المديان عبده فأراد الغرماء رد العتق وبيع العبد فقال لهم العبد خذوا دينكم بمني] ولا تردوا العتق، أو تبرع بذلك لهم أجنبي، فذلك للعبد.
3513 - ومن استعار سلعة ليرهنها جاز ذلك، ويقضى للمرتهن ببيعها إن لم يؤد الغريم ما عليه، ويتبع المعير المستعير بما أدى عنه من ثمن سلعته، ولو هلكت السلعة عند المرتهن وهي مما يغاب عليه لأتبع المعير المستعير بقيمتها. وإن كانت مما لا يغاب عليه لم يضمنها المستعير ولا المرتهن.(4/71)
3514 - ومن أعرته سلعة ليرهنها في دراهم مسماة فرهنها في طعام فقد خالف، وأراه ضامناً.
3515 - ومن استعار عبداً ليرهنه فرهنه ثم أعتقه المعير، فإن كان المعير ملياً جاز العتق، وقيل له: عجّل الدين إلى ربه إذ أفسدت رهنه، إلا أن تكون قيمة العبد أقل من الدين فلا يلزمه إلا قيمته ويرجع المعير على المستعير بذلك بعد محل أجل الدين لا قبله.
3516 - ومن رهن عبداً ثم أقر أنه لغيره لم يجز إقراره في هذا.
3517 - ومن رهن رهناً على أنه إن مضت سنة خرج من الرهن فلا أعرف هذا من رهون الناس، ولا يكون هذا رهناً.
3518 - ومن قال لعبده: أدّ إليّ الغلة، لم يكن بهذا مأذوناً له.
وإذا اشترى المأذون من قرابة سيده من لو ملكهم سيده عُتقوا عليه وهو يعلم، لم يجز ذلك، كما لو أعطاه سيده مالاً يشتري له عبداً فاشترى من يعتق على سيده لم يجز، وليس له أن يتلف مال سيده. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/330) .(4/72)
ومن أمرته أن يبيع لك سلعة فباعها وأخذ [لك] بثمنها رهناً، لم يجز ذلك عليك، كما ليس له بيعها بالدين إلا بأمرك، فإن أمرته أن يبيع بالدين فباع وأخذ رهناً فأنت مخير في قبوله ويكون ضمانه منك إن تلف، وإلا رددت الرهن إلى ربه وبقي البيع على حاله، فإن تلف الرهن قبل علمك به فضمانه من المأمور.
3519 - ولا يجوز للمقارض الشراء بالدين على القراض، فإن اشترى بجميع المال عبداً ثم اشترى عبداً ثانياً بدين فرهن فيه الأول لم يجز ذلك، ولو أمره رب المال أن يشتري بالدين على المضاربة كانت مضاربة لا تحل، ولو جاز هذا جاز أن يقارضه بغير مال.
3520 - ومن ارتهن نخلاً ببئرها أو زرعاً أخضر ببئره فانهارت البئر فأبى الراهن أن يصلح فأصلح المرتهن لخوف هلاك الزرع والنخل، فلا رجوع له بما أفق على الراهن، ولكن يكون له ذلك في الزرع، وفي رقاب النخل يبدأ فيه بنفقته، فما فضل كان في دينه، فإن بقي بعد ذلك شيء كان لربه، كالمكتري سنين أو المساقي ينفق في مثل ذلك، فليس له أن ينفق(4/73)
ما زاد على كراء تلك السنة خاصة في الكراء، أو على حظ رب النخل من ثمرة تلك السنة في المساقاة، وهذا مذكور في كتاب الأكرية.
وإن أخذ الراهن مالاً من أجنبي فأنفقه في ذلك الزرع لخوف هلاكه فالأجنبي أحق بمبلغ نفقته من ثمن الزرع من المرتهن، فما فضل كان للمرتهن، فإن لم يفضل [منه] شيء رجع المرتهن على الراهن بدينه.
3521 - ومن رهن أرضاً ذات نخل لم يسمها أو رهن النخل ولم يسم الأرض، فذلك موجب لكون الأرض والنخل رهناً، وكذلك [هذا] في الوصية والبيع.
3522 - ون ارتهنت أرضاً فأخذ منك السلطان خراجها لم ترجع به على الراهن إلا أن يكون ذلك الخراج حقاً وإلا فلا.
3523 - وإذا ارتهن رجلان ثوباً فرضيا، ورضي الراهن كونه بيد أحدهما جاز، فإن هلك ضمن الذي هو في يديه حصته، ولا يضمن الآخر شيئاً، وضمان حصته من الراهن، وإن لم يجعله ربه بيد أحدهما جعلاه حيث شاء، وهما ضامنان [له] .(4/74)
3524 - وإذا كان لرجلين على رجل دين مفترق، لهذا مال ولهذا طعام، أو لهذا قرض ولهذا سلم، فأخذا به رهناً واحداً جاز ذلك، إلا أن يكون أحدهما أقرضه قرضاً على أن يبيعه الرجل الآخر بيعاً ويأخذا بذلك جميعاً رهناً، فلا يجوز، لأنه قرض جرّ منفعة. (1)
وأما إن وجب الدين من بيع أو [من] قرض بغير هذا الشرط فذلك جائز، ولو أقرضاه جميعاً معاً واشترطا أن يرهنهما فلا بأس به. قيل: فإن قضى أحدهما دينه هل له أخذ حصته من الرهن؟ قال: قال مالك في رجلين رهنا داراً لهما في دين فقضى أحدهما حصته من الدين فإن له أخذ حصته من الدار، فكذلك مسألتك إلا أن في مسألتك إن كتبا دينهما في كتاب واحد وكان دينهما واحداً فليس لأحدهما أن يقبض شيئاً دون صاحبه، وإن كان دينهما مفترقاً شيئين لهذا مال وللآخر قمح فلا يدخل أحدهما فيما اقتضى الآخر، كتبا الصنفين في كتاب واحد أم لا، وإنما الذي ليس لأحدهما أن يقبض دون الآخر أن يكتبا كتاباً بينهما بشيء واحد يكون ذلك لشيء بينهما أو يكون الرهن لهما في شيء واحد، وإن لم يكتبا به كتاباً - مثل أن تكون دنانير كلها أو قمحاً كله أو نوعاً واحداً - فليس لواحد
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/335) .(4/75)
[منهما] أن يقبض دون صاحبه، وفي كتاب التفليس ذكر من جنى جناية لا تحملها العاقلة فرهن فيها رهناً.
3525 - وإن ارتهنت عبدين فقتل أحدهما صاحبه فالباقي رهن بجميع الدين، لأن مصيبة العبد من الراهن.
3526 - ومن حبس على صغار ولده داراً، أو وهبها لهم، أو تصدق بها عليهم، فذلك جائز، وحوزه لهم حوز، إلا أن يكون ساكناً في كلها أو جلها حتى مات، فتبطل جميعها وتورث على فرائض الله عز وجل، وأما الدار الكبيرة ذات المساكن يسكن أقلها وأكرى لهم باقيها، فذلك نافذ لهم فيما سكن وفيما لم يسكن، ولو سكن الجل وأكرى الأقل بطل الجميع.
وكذلك دور يسكن واحدة منها هي أقل حُبُسه أو أكثره على ما ذكرنا.
3527 - ومن غصبك عبداً فجنى عنده [جناية] ثم رده إليك والجناية في رقبته فأنت(4/76)
مخير في إسلامه وتأخذ قيمته من الغاصب أو تفتكه بدية الجناية ولا ترجع على الغاصب بشيء.
3528 - ومن ارتهن عبداً فأعاره لرجل بغير أمر الراهن فهلك عند المعار بأمر من الله، لم يضمن هو ولا المستعير. وكذلك إن استودعه رجلاً، إلا أن يستعمله المودع أو المستعير عملاً، أو يبعثه مبعثاً يعطب في مثله، فيضمن.
3529 - ومن ارتهن جارية لها زوج، أو ابتاعها لم يمنع زوجها من وطئها، ومن رهن أمة عبده أو رهنهما معاً فليس للعبد وطؤها في الرهن، ثم هي في الوجهين بعد فداء الرهن للعبد كما كانت، وافتكاكهما جميعاً أبين.
ومن رهن أمته ثم زوجها لم يجز تزويجه، لأن ذلك عيب إلا برضا المرتهن.
3530 - ومن أقرضته مائة درهم وأخذت منه بها رهناً قيمته مائة درهم، ثم استقرضك مائة أخرى ففعلت على أن يرهنك بالمائتين رهناً آخر قيمته مائتان، لم يجز،(4/77)
لأنك انتفعت بزيادة وثيقة في المائة الأولى. وكذلك لو كانت المائة الأولى بغير رهن ثم استقرضك مائة أخرى على أن يرهنك بها وبالمائة الأولى رهنا فلا خير فيه.
قال: فإن نزل ذلك وقامت الغرماء على المتسلف في فلس أو موت فالرهن الثاني رهن بالدين الآخر خاصة دون الأول. (1)
* * *
تم الكتاب بحمد الله وعونه
* * *
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/11) ، ومواهب الجليل (5/12) .(4/78)
(كتاب الغصب)
3531 - ومن تعدى على صحفة، أو عصا لرجل [بعينه] فكسرها، أو خرّق ثوباً، فإن أفسد ذلك فساداً كثيراً خير ربه في أخذ قيمة جميعه، أو أخذه بعينه، وأخذ ما نقصه من المتعدي، وإن كان الفساد يسيراً فلا خيار لربه وإنما له ما نقصه بعد رفء المتعدي للثوب.
وقد كان مالك يقول: يغرم ما نقصه، ولا يفصل بين قليل ولا كثير، ثم قال هكذا.(4/79)
وكذلك من تعدى على دابة رجل فقطع لها عضواً، أو فعل بها ما أفسدها فساداً يسيراً أو كثيراً، فهي كالثوب فيما وصفنا، وكذلك سائر الحيوان.
3532 - وأما من تعدى على عبد رجل ففقأ عينه، أو قطع له جارحة أو جارحتين، فما كان من ذلك فساداً فاحشاً حتى لم يبق فيه كبير منفعة، فإنه يضمن قيمته ويعتق عليه، وكذلك الأمة.
3533 - ومن غصب أمة فزادت قيمتها عنده أو نقصت، ثم قتلها أو وهبها أو تصدق بها، ففاتت بعنده] ، فإنما عليه قيمتها يوم الغصب فقط، ولو غصبها وقيمتها مائة، ثم باعها وقيمتها مائتان، بخمسين ومائة، ثم لم يعلم للأمة موضع، فإنما لربها على الغاصب إن شاء الثمن الذي قبض فيها أو قيمتها يوم الغصب، ولو قتلها عند الغاصب أجنبي وقيمتها يومئذ أكثر من قيمتها يوم الغصب، فلربها أخذ القاتل بقيمتها يوم القتل بخلاف الغاصب، فإن كانت قيمتها يومئذ أقل من قيمتها يوم الغصب، كان له الرجوع بتمام القيمة على الغاصب.
وما أصاب السلعة بيد الغاصب من عيب قل أو كثر بأمر من الله تعالى، فربها مخير في أخذها معيبة، أو يضمنه قيمتها يوم الغصب.(4/80)
وإن كانت جارية فأصابها عنده عور، أو عمى، أو ذهاب يد [بأمر] من الله تعالى بغير سببه، فليس لربها أن يأخذها، وما نقصها عند الغاصب إنما له أخذها ناقصة، أو قيمتها يوم الغصب.
وليس للغاصب أن يلزم ربها أخذها، ويعطيه [قيمة] ما نقصها إذا اختار ربها أخذ قيمتها، ولو ماتت عند الغاصب ضمن قيمتها.
ولو كان الغاصب هو الذي قطع يدها، فلربها أن يأخذها وما نقصها، أو يدعها ويأخذ قيمتها يوم الغصب.
ولو قطع يدها أجنبي، ثم ذهب فلم يقدر عليه، فليس لربها أخذ الغاصب بما نقصها، وله أن يضمنه قيمتها يوم الغصب، ثم للغاصب اتباع الجاني بما جنى عليها، وإن شاء ربها أخذها وأتبع الجاني بما نقصها دون الغاصب.
3534 - ومن غصب أمة شابة فهرمت عنده، فذلك فوت يوجب لربها قيمتها.
[قال:] وإن غصبها صغيرة وهي تساوي مائة، فكبرت عنده حتى نهدت فصارت تساوي ألفاً ثم ماتت، فإنما يضمن مائة، ولو ولدت عند الغاصب ثم مات(4/81)
الولد، لم يضمنهم، ولو قتلهم الغاصب ضمن قيمتهم، ولو باعها الغاصب من رجل لم يعلم بالغصب فماتت عند المبتاع، فلا شيء عليه، ولربها أخذ الغاصب بقيمتها يوم الغصب لا يوم البيع أو الثمن الذي أخذه فيها، [و] لو قتلت عند المبتاع فأخذ لها أرشاً ثم استحقت، فلربها إن شاء أخذ قيمتها يوم الغصب من الغاصب، وإن شاء أخذ منه الثمن وأجاز البيع، وإن شاء أخذ من المبتاع ما قبض فيها من القاتل، ثم يرجع المبتاع على الغاصب بالثمن.
ولو كان المبتاع هو الذي قتلها، فلربها أخذه بقيمتها يوم القتل، ثم يرجع المبتاع على الغاصب بالثمن.
قال ابن القاسم: وإنما ضمن المبتاع قيمتها، لأن مالكاً قال فيمن ابتاع طعاماً فأكله، أو ثياباً فلبسها حتى أبلاها، ثم استحق ذلك [مستحق] : إن المستحق يأخذ من المبتاع مثل طعامه وقيمة الثياب، وإنما وضع عن المبتاع موت الجارية، لأنه من أمر الله تعالى [يعرف] . (1)
وكذلك ما عرف هلاكه من [أمر] الله تعالى من الثياب والطعام، فلا يضمنه المبتاع.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/277، 290) .(4/82)
وكذلك إن قطع المبتاع يدها أو فقأ عينها، فلربها أخذها ويضمن المبتاع ما نقصها ويرجع المبتاع بالثمن على الغاصب، وإن شاء ربها أجاز البيع وأخذ الثمن من الغاصب، أو أغرمه القيمة يوم الغصب.
وكذلك من اشترى ثوباً من غاصب ولم يعلم، فلبسه لبساً ينقصه ثم استحق، فالجواب [فيه] كما ذكرنا في قطع المبتاع يد الأمة، ولو كان ذهاب عين الجارية، أو قطع يدها عند المبتاع بأمر من الله تعالى من غير سببه، لم يضمن المبتاع ذلك، والمغصوب منه مخير في أخذ جاريته ناقصة، ولا شيء له على المبتاع ولا على الغاصب، أو يأخذ من الغاصب الثمن أو القيمة يوم الغصب. ومن غصب عبداً أو دابة فباعها ثم استحقها رجل وهي بحالها، فليس له تضمين الغاصب قيمتها وإن حالت الأسواق، وإنما له أن يأخذها أو يأخذ الثمن من الغاصب، كما لو وجدها بيد الغاصب قد حال سوقها، فليس له تضمينه قيمتها إلا أن تتغير في بدنها، وإن أجاز ربها البيع بعد أن هلك الثمن بيد الغاصب، فإن الغاصب يغرمه.
وليس الرضا ببيعه، يوجب له حكم الأمانة في الثمن.
3535 - وإذا باع الغاصب الأمة، فولدت عند المبتاع أو ماتت، ثم أجاز ربها البيع، فذلك جائز.
وإن أقمْت شاهداً أن فلاناً غصبك هذه الأمة، وشاهداً آخر على إقرار الغاصب(4/83)
أنه غصبكها، تمت الشهادة، ولو شهد أحدهما أنها لك وشهد الآخر أنه غصبكها، فقد اجتمعا على إيجاب ملكك لها، فيقضى لك بها، ولم يجتمعا على إيجاب الغصب.
فإن دخل الجارية نقص، كان لك أن تحلف مع الشاهد بالغصب، ويضمن الغاصب القيمة.
3536 - ومن أقام شاهداً أن هذه الأرض له، وشاهداً آخر أنها [في] حيزه، قضي له بها، لأنهما قد اجتمعا على الشهادة، ومعنى حيزه كقولك: هذا حيز فلان، [وهذا حيز فلان] .
3537 - ومن غصب أمة بعينها بياض فباعها، ثم ذهب البياض عند المبتاع، فأجاز ربها البيع، ثم علم بذهاب البياض فقال: إنما أجزت ولم أعلم بذهابه وأما الآن فلا أجيزه، لم يلتفت إلى قوله ولزمه البيع.
وقد قال مالك في المكتري: يتعدى [في] المسافة، فتضل الدابة فيغرم قيمتها ثم توجد: فهي للمتعدي، ولا شيء لربها فيها، ولو شاء لم يَعْجَل.(4/84)
ومن غصب أمة فباعها، فقام ربها وقد أعتقها المبتاع، فله أخذها ونقض العتق، نقصت أو زادت، وله أن يجيز البيع، فإن أجازه تم العتق بالعقد الأول، والعتق منعقد بظاهر الشراء، والبيع لم يزل جائزاً إلا أن للمستحق فيه الخيار.
3536 - ومن باع أمة ثم أقر أنه غصبها من فلان، لم يصدق على المبتاع، ويضمن لربها قيمتها يوم غصبها، إلا أن يشاء ربها أخذه بالثمن، فذلك له.
3537 - ومن ابتاع أمة من غاصب ولم يعلم [به] ، ثم ابتاعها الغاصب من ربها، فليس للغاصب نقض ما باع، لأنه تحلل صنيعه وكأنه غرم القيمة له.
ولو باعها ربها من رجل غير الغاصب ممن رآها وعرفها، كان نقضاً لبيع الغاصب، وللمبتاع أخذها من الذي اشتراها من الغاصب.
3538 - وإن باع الغاصب ما غصب، ثم علم المبتاع بالغصب والمغصوب منه غائب، فللمبتاع رد البيع بحجة أنه يضمنه، ويصير ربه مخيراً عليه إذا قدم. وليس للغاصب أن يقول: أنا أستأْني رأي صاحبها.
ولو حضر المغصوب منه فأجاز البيع، لم يكن للمبتاع رده، وكذلك من افتيت عليه في بيع سلعته في غيبة ربها أو حضوره.(4/85)
وإن أقمت بينة على رجل أنه غصبك جارية لا يدرون قيمتها وقد هلكت، قيل لهم: صفوها! وتُقوّم تلك الصفة.
وإن شهدت البينة أنه غصبك ثوباً أو جارية، لا يدرون لمن تلك الجارية أو الثوب، فذلك تمليك، ويقضى عليه برد ذلك إليك.
3539 - وإذا ادعى الغاصب هلاك ما غصب من أمة أو سلعة، واختلفا في صفتها، صدق الغاصب في الصفة مع يمينه، فإن جاء بما لا يشبه صدق المغصوب منه في الصفة مع يمينه، ولو قضينا بقول الغاصب في القيمة ثم ظهرت السلعة، أو الأمة عنده بعد الحكم، فإن علم أنه أخفاها، فلربها أخذها ورد ما أخذ، وإن لم يعلم ذلك لم يأخذها [ربها، قال ابن القاسم:] إلا أن يظهر أفضل من تلك الصفة بأمر بين، فلربها الرجوع بتمام القيمة، وكأن الغاصب لزمته القيمة فجحد بعضها. (1)
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/299) .(4/86)
3540 - ومن غصب أو انتهب صرة ببينة، ثم قال: كان فيها كذا، والمغصوب يدعي أكثر، فالقول قول الغاصب مع يمينه.
3541 - وإذا ولدت الأمة بيد الغاصب من وطئه، أو من زوج تزوجها علم أنها أمة ولم يعلم بالغصب، أو ولدت من زناً، فلربها أخذها وأخذ الولد رقاً، ويحد الغاصب في وطئه إن أقر بالوطء، ولا يثبت نسب ولده، ويثبت نسب ولد الزوج ويكون رقاً، إلا أن يتزوجها أنها حرة، فيكون عليه لربها قيمة الولد ويكون حراً.
3542 - ومن ابتاع أمة [من غاصب] فأعتقها، فليأخذها ربها، وينتقض العتق إن قامت له بينة أنها غُصبت منه أو سرقت، أو أنها له ولم تذكر البينة غير ذلك، وإذا ولدت من المبتاع فمذكور في كتاب الاستحقاق.
3543 - ومن ابتاع ثوباً من غاصب ولم يعلم فلبسه حتى أبلاه ثم استحق، غرم المبتاع لربه قيمته يوم لبسه، وإن شاء ربه ضمن الغاصب قيمته يوم غصبه، أو أجاز البيع وأخذ الثمن.(4/87)
ولو تلف الثوب من عند المبتاع [بأمر من الله تعالى، لم يضمنه، ولو تلف عند الغاصب] بأمر من الله، ضمنه.
ومن غصب من رجل طعاماً أو إداماً فاستهلكه، فعليه مثله بموضع غصبه، فإن لم يجد هناك مثلاً، لزمه أن يأتي بمثله، إلا أن يصطلحا على أمر جائز.
فإن لقيه ربه بغير البلد الذي غصبه فيه لم يقض عليه هناك بمثله ولا بقيمته، وإنما له عليه مثله بموضع غصبه فيه.
3544 - وأما العروض والرقيق والحيوان، فله قيمة ذلك ببلد الغصب يوم الغصب يأخذه بتلك القيمة أينما لقيه من البلدان، نقصت القيمة في غير البلد أو زادت.
وما أثمر عند الغاصب من نخل أو شجر، أو تناسل من الحيوان، أو جز من الصوف، أو حلب من اللبن، فإنه يرد ذلك كله مع ما اغتصب لمستحقه، وما أكل رد المثل فيما له مثل، والقيمة فيما لا يقضى بمثله.(4/88)
وليس له اتباع المستحق بما أنفق في ذلك، وسقى، وعالج، ورعى، ولكن له المقاصة بذلك فيما بيده من غلة، وإن عجزت الغلة عن ذلك، لم يرجع على المستحق بشيء، وإن ماتت الأمهات وبقي الولد، أو ما جز منها وحلب، خير ربها: فإما أخذ قيمة الأمهات ولا شيء له فيما بقي من ولد، أو صوف، أو لبن [ونحوه] ولا في ثمنه إن بيع، وإن شاء أخذ الولد إن كان ولد، أو ثمن ما بيع من صوف، أو لبن ونحوه.
وما أكل الغاصب أو انتفع به من ذلك، فعليه المثل فيما له المثل، والقيمة فيما يقوّم، ولا شيء عليه من قبل الأمهات، ألا ترى أن من غصب أمة ثم باعها فولدت عند المبتاع ثم ماتت، فليس لربها أن يأخذ أولادها، وقيمة الأمة من الغاصب، وإنما له أخذ الثمن من الغاصب أو قيمتها يوم الغصب أو يأخذ الولد من المبتاع، ثم لا شيء له عليه [ولا على الغاصب] من قيمة الأم، ولكن للمبتاع الرجوع على الغاصب بالثمن. ولا يجتمع على الغاصب غرم ثمنها وقيمتها.
3545 - وكل ربع اغتصبه غاصب فسكنه أو اغتله، أو أرضاً فزرعها، فعليه كراء ما سكن أو زرع لنفسه، وغرم ما أكراها به من غيره ما لم يحاب، وإن لم يسكنها ولا انتفع بها ولا اغتلها، فلا شيء عليه. (1)
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/28) .(4/89)
3546 - وما اغتصب أو سرق من دواب أو رقيق، فاستغلها شهوراً، أو طال مكثها بيده، أو أكراها وقبض كراها، فلا شيء عليه في ذلك، وله ما قبض من كرائها، وإنما لربها عين شيئه، وليس له أن يلزمه قيمتها إذا كانت على حالها لم تتغير في بدن، ولا ينظر إلى تغير سوق.
3547 - ولو استعمل الدابة حتى أعجفها أو أدبرها، فتغيرت في بدنها، فلربها أن يضمنه قيمتها يوم غصبها أو سرقها، وإلا أخذها ولا كراء له، ولم يكن على الغاصب أو السارق كراء ما ركب من الدواب، بخلاف ما سكن من الربع أو زرع، لأنه أنفق عيهم، وهو لو أنفق على الصغير من رقيق أو حيوان حتى كبر، كان لمستحقه أخذه بزيادته، ولم يكن له ما أنفق أو أعلف أو كسا، ولو كان ذلك ربعاً وأحدث فيه عملاً، كان له أخذ ما أحدث فيه، فهذه وجوه مفترقة.
وأما المكتري أو المستعير يتعدى المسافة تعدياً بعيداً، أو يحبسها أياماً كثيرة ولم يركبها ثم يردها بحالها، فربها مخير في أخذ قيمتها يوم التعدي،(4/90)
أو يأخذها مع كراء حبسه إياها بعد المسافة، وله في الوجهين على المكتري الكراء الأول.
والغاصب أو السارق ليس عليه في مثل هذا قيمة ولا كراء إذا ردها بحالها.
ابن القاسم: ولولا ما قاله مالك لجعلت على السارق كراء ركوبه [إياها] ، وأضمنه قيمتها إذا حبسها عن أسواقها كالمكتري، ولكن آخذ فيها بقول مالك.
ولقد قال جُلّ الناس إن الغاصب والسارق والمكتري والمستعير، بمنزلة واحدة لا كراء عليهم، [وليس عليهم] إلا القيمة، أو يأخذ دابته.
قال ابن القاسم: وإذا زاد مكتري الدابة أو مستعيرها في المسافة ميلاً أو أكثر،(4/91)
فعطبت، ضمن وخيّر ربها، فإما ضمّنه قيمتها يوم التعدي ولا كراء له في الزيادة، وإما ضمّنه كراء الزيادة ولا شيء له من قيمتها، وله على المكتري الكراء الأول على كل حال.
ولو ردها بحالها والزيادة يسيرة، مثل البريد أو اليوم وشبهه، لم يلزمه قيمتها، ولا يضمن إلا كراء الزيادة فقط.
3548 - وما مات من الحيوان، أو انهدم من الربع بيد غاصبه بقرب الغصب، أو بغير قربه بغير سبب الغاصب، فإنه يضمن قيمة ذلك يوم الغصب.
3549 - ومن استعار دابة ليشيع عليها رجلاً إلى ذي الحليفة فبلغها، ثم تنحى قريباً، فنزل ثم رجع، فهلكت في رجوعه، فإن كان الذي تنحى إليه مثل منازل الناس، لم يضمن، وإن جاوز منازلهم ضمن.
ولا تحمل العاقلة دم العبد، عمداً كان قتله أو خطأ.
3550 - ومن وهب لرجل طعاماً، أو إداماً فأكله، أو ثياباً فلبسها حتى أبلاها، ثم استحق ذلك رجل، فليرجع بذلك على الواهب إن كان ملياً، فإن كان عديماً أو لم يقدر عليه رجع بذلك على الموهوب، ثم لا يرجع الموهوب على الواهب بشيء. وكذلك لو أعاره الغاصب هذه الثياب فلبسها(4/92)
لبساً ينقصها، فعلى ما ذكرنا، ثم لا يرجع المستعير بما يغرم من نقص الثوب على المعير، وأما إن كرى منه الثوب فلبسه لبساً ينقصه، فلربه أن يأخذ ثوبه من اللابس ويضمّنه ما نقص اللبس، ثم للمكتري الرجوع على الغاصب بجميع الكراء ويصير كالمشتري.
3551 - ومن ادعى على رجل غصباً وهو ممن لا يتهم بهذا عوقب المدعي، وإن كان متهماً بذلك نظر فيه الإمام وأحلفه، فإن [حلف برئ، وإن] نكل لم يقض عليه حتى ترد اليمين على المدعي كسائر الحقوق.
وفي كتاب الشهادات ذكر المرأة تدعي أن فلاناً استكرهها.
3552 - وإذا قال الغاصب: غصبت الثوب خَلِقاّ، وقال رب الثوب: بل كان جديداً، صدق الغاصب مع يمينه، فإن حلف أدى قيمته خلقاً، فإن قامت بينة تشهد أنه غصبه جديداً، فإن كان ربه عالماً بالبينة فلا شيء له، وإن لم يكن عالماً(4/93)
رجع بتمام القيمة، وهذا في كل الحقوق، [و] حلف عند السلطان أو عند غيره.
3553 - ومن غصب ثوباً فصبغه، خُيّر صاحبه في أن يأخذ من الغاصب قيمته يوم غصبه، أو يعطيه قيمة صبغه ويأخذ الثوب، [ولا يكونان شريكين في الغصب] .
3554 - ومن غصب حنطة فطحنها دقيقاً، فأحب ما فيه إلي أن يضمن مثل الحنطة.
ومن غصب لرجل سوارين من ذهب فاستهلكهما، فعليه قيمتهما مصوغين من الدراهم، وله أن يؤخره بتلك القيمة، وكذلك من غصب لرجل ثوباً فحكم عليه بقيمته، فلا بأس أن يؤخره بها، وأما من كسر لرجل سوارين، فإنما عليه قيمة الصياغة، لأنه إنما أفسد له صنعة. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/85) .(4/94)
ومن بيده [سلعة] وديعة [أو عارية] أو بإجارة، وربها غائب، فادعاها رجل وأقام بينة أنها له، فليقض له بها، لأن الغائب يقضى عليه بعد الاستيناء، إلا أن يكون ربها بموضع قريب، فيتلوم له القاضي ويأمر أن يكتب إليه حتى يقدم.
3555 - ومن غصب لرجل قمحاً، ولآخر شعيراً فخلطهما، فعليه لكل واحد مثل طعامه.
ومن غصب خشبة أو حجراً فبنى عليها، فلربه أخذها وهدم البناء.
وكذلك إن غصب ثوباً فجعله ظهارة لجبة، فلربه أن يأخذها أو يضمنه قيمة الثوب، ولو عمل الغاصب من الخشبة باباً، أو غصب تراباً فعمله بلاطاً، أو حنطة فزرعها فحصد منها [حباً] كثيراً، أو سويقاً فلته بسمن، أو غصب فضة فصاغها حلياً، أو ضربها دراهم، أو غصب حديداً، أو نحاساً، أو رصاصاً فعمل منه قدوراً أو سيوفاً، أو أتلفه، فعليه في ذلك كله مثل ما غصب في صفته ووزنه وكيله، أو القيمة فيما لا يكال ولا يوزن. (1)
وكذلك في السرقة، لأن من ابتاع ما يكال أو يوزن بيعاً حراماً فأتلفه، فإنما عليه مثل صفته ووزنه أو كيله، فكذلك الغصب.
_________
(1) انظر: المدونة (14/363) ، والتاج والإكليل (5/280) .(4/95)
3556 - ومن غصب ودياً صغاراً من نخل، أو شجراً صغاراً فقلعها وغرسها في أرض فصارت بواسق، فلربها أخذها، [كصغير من الحيوان يكبر، وإن غصب مسلم خمراً من مسلم فخللها، فلربها أخذها] .
ومن ملك من المسلمين خمراً فليهرقها، فإن اجترأ فخللها فليأكلها.
3557 - ومن غصب جلد ميتة غير مدبوغ فعليه - إن أتلفه - قيمته، كما لا يباع كلب ماشية أو زرع أو صيد، وعلى قاتله قيمته ما بلغت.
ولم يؤقت مالك أن في كلب الماشية شاة، وفي كلب الصيد(4/96)
أربعين درهماً، وفي كلب الزرع فرقاً من طعام، وإنما على قاتله قيمته.
وكره مالك بيع جلود الميتة والصلاة فيها أو عليها، دبغت أو لم تدبغ، ولكن إذا دبغت جاز الجلوس عليها، وتفرش وتمتهن للمنافع، ولا تلبس.
قيل لمالك: أيستقى بها؟ قال: أما أنا فأتقيها في خاصة نفسي، ولا أحب أن أضيق على الناس، وغيرها أعجب إلي منها.
وإذا ذكيت جلود السباع، جاز أن تلبس وتباع ويصلى عليها، دبغت أو لم تدبغ.
3558 - وليس كل غاصب محارباً، لأن السلطان يغصب فلا يعد محارباً.(4/97)
والمحارب: القاطع للطريق، أو من دخل على رجل بيته فكابره على ماله، أو كابره عليه في طريق بعصاً أو بسيف أو بغير ذلك.
3559 - ومن غصب شيئاً ثم أودعه فهلك عند المودع، فليس لربه تضمين المودع إلا أن يتعدى.
3560 - قيل لمالك: يا أبا عبد الله! إنا نكن في ثغورنا بالإسكندرية، فيقال لنا: إن الإمام يقول: لا تحرسوا إلا بإذني، [قال مالك:] ويقول أيضاً: لا تصلوا إلا بإذني، فلا يلتفت إلى قوله وليحرس الناس.
3561 - ومن أقر أنه غصبك هذا الخاتم، ثم قال: وفصه لي، أو أقر لك بجبة، ثم قال: وبطانتها لي، أو أقر [لك] بدار، ثم قال: وبناؤها لي، لم يصدق إلا أن يكون كلامه نسقاً.
ومن غصب أرضاً فغرس فيها غرساً، أو بنى [بناءً] ثم استحقها رجل، قيل للغاصب: اقلع البناء والأصول، إن كان لك فيه منفعة، إلا أن يشاء رب الأرض أن يعطيه قيمة البناء والأصل مقلوعاً.(4/98)
وكل ما لا منفعة فيه للغاصب بعد القلع كالجص والنقش، فلا شيء له فيه.
وكذلك [كل] ما حُفِر من بئر أو مطمر، فلا شيء له في ذلك.
ومن غصب لذمي خمراً فأتلفها، فعليه قيمتها يقومها من يعرف القيمة من المسلمين.
3561 - وإذا تظالم أهل الذمة في غصب الخمر أو فسادها، قضينا بينهم فيها، إذ هي من أموالهم، ولا أقضي بينهم في تظالمهم في الربا، وترك الحكم بينهم في الربا أحب إلي(4/99)
لقول الله عز وجل: ×فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ% [المائدة: 42] .
3562 - وإذا دُفن رجل وامرأة في قبر، جعل الرجل مما يلي القبلة، قيل: فهل يجعل بينهما حاجز من الصعيد، أو يدفنان في قبر واحد من غير ضرورة؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئاً [إلا ما أخبرتك] .
وعصبة المرأة أولى بالصلاة عليها من زوجها، وزوجها أحق منهم بغسلها وإدخالها في قبرها، ويُدخلها [أيضاً] في قبرها ذوو محارمها، فإن اضطر إلى الأجنبيين، جاز أن يُدخلوها في قبرها. (1)
3563 - ومن اشترى أرضاً فحفر فيها مطامر أو آباراً، أو بنى فيها، ثم استحقها رجل، قيل له: ادفع إلى المبتاع قيمة العمارة والبناء وخذ أرضك بما فيها، فإن أبى، قيل للمبتاع: اغرم له قيمة أرضه وخذها واتبع من اشتريت منه بالثمن، فإن أبى
_________
(1) انظر: منح الخليل (7/168) .(4/100)
كانا شريكين [فيها] ، هذا بقيمة أرضه والمبتاع بقيمة ما أحدث، وكذلك من أحيا أرضاً وهو يظن أنها مواتاً ليست لأحد، ثم استحقها رجل، قيل له: ادفع قيمة العمارة، فإن أبى قيل لهذا: أعطه قيمة الأرض، فإن أبى كانا شريكين في الأرض والعمارة، هذا بقيمة أرضه، وهذا بقيمة العمارة.
وقد اختلف في هذه المسألة، قال ابن القاسم: وهذا أحسن ما سمعت.
3566 - وإن حفر المبتاع في الأرض بئراً، أو عمرها بأصل جعله فيها، ثم استحق رجل نصف الأرض وأراد الأخذ بالشفعة، قيل له: ادفع إلى المبتاع قيمة نصف ما عمر وخذ نصف الأرض باستحقاقك، ولا شفعة لك في النصف الآخر حتى تدفع للمبتاع نصف قيمة ما عمر، فإن أبى من دفع ذلك فيما استحق واستشفع قيل للمبتاع: ادفع [إليه] نصف [قيمة] الأرض الذي استحق، وارجع على البائع بنصف الثمن، فإن أبى كانا شريكين في [ذلك] النصف، للمستحق فيه بقدر ما استحق(4/101)
وللمبتاع بقدر ما عمر، ويكون للمبتاع النصف الآخر ونصف ما أحدث. قال ابن القاسم: وهذا أحسن ما سمعت فيها.
3567 - ومن مات وعليه دين وترك دنانير أو دراهم، فشهد قوم أن الميت غصب هذه الدنانير أو هذه الدراهم بأعيانها من فلان، فإن عرفوها بأعيانها، فهو أحق بها من غرماء الميت.
* * *(4/102)
(كتاب الاستحقاق)
3568 - ومن اكترى أرضاً سنين، للبناء، والغرس، والزرع، فبنى فيها أو غرس أو زرع، وكانت تزرع السنة كلها، ثم قام مستحق قبل تمام المدة، فإن كان الذي أكراها مبتاعاً، فالغلة له بالضمان إلى يوم الاستحقاق، وللمستحق أن يجيز كراء بقية المدة أو يفسخ، فإن أجاز فله حصة الكراء من يومئذ، ثم له بعد تمام المدة أن يدفع إلى المكتري قيمة البناء والغرس مقلوعاً، أو يأمره بقلعه. (1)
3569 - وإن فسخ الكراء قبل تمام المدة، لم يكن له قلعه، ولا أخذه بقيمته مقلوعاً، ولكن يقال له: ادفع قيمة البناء والغرس قائماً، فإن أبى قيل للمكتري: أعطه قيمة أرضه، فإن أبى كانا شريكين، وكان عليه في الزرع إذا فسخ الكراء، الصبر إلى انقضاء البطن الذي أدرك، وله فيها الكراء من يومئذ على حساب السنة.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/368) ، والكافي (1/370) ، ومواهب الجليل (6/12) .(4/103)
وإن كانت أرضاً تزرع في السنة مرة، فاستحقها وهي مزروعة قبل فوات إبان الزريعة، فكراء تلك السنة للمستحق، وليس له قلع زرعه، لأن المكتري زرع بوجه شبهة.
ولو كان الزارع غاصباً، كان لرب الأرض قلعه إن كان في إبان الزراعة.
وإن استحقها بعد إبان الزراعة وقد زرعها مشتريها أو مكتري منه، فلا كراء للمستحق في تلك السنة، وكراؤها للذي أكراها إن لم يكن غاصباً، وكانت بيده بشراء أو ميراث.
وكذلك إن سكن الدار مشتريها، أو أكراها أمداً، ثم استحقها رجل بعد الأمد، فلا كراء له وكراؤها للمبتاع.
وإذا كان مكري الأرض لا يُعلم أغاصب هو أم مبتاع، فزرعها المكتري منه ثم استحقت، فمكريها كالمشتري حتى يُعلم أنه غاصب.
وإن كان مكري الأرض وارثاً ثم طرأ له أخ شريكه لم يعلم به أو علم به، فإنه يرجع على أخيه بحصته من الكراء إن لم يحاب، فإن حابى في الكراء رجع على أخيه بالمحاباة إن كان ملياً، وإن لم يكن له مال رجع على المكتري.
وقال غيره: بل يرجع في المحاباة على المكتري في ملائه وعدمه، كان أخوه(4/104)
ملياً أو معدماً، إلا أن يعلم الأخ أن معه وارثاً فيرجع عليه أخوه في عدم المكتري.
قال ابن القاسم: وأما إن سكنها الوارث أو زرع فيها لنفسه، ثم طرأ له أخ لم يعلم به، فالاستحسان أن لا رجوع لأخيه عليه بشيء، بخلاف الكراء إلا أن يكون به عالماً، فيغرم له نصف كرائها.
وقد روى [علي بن زياد] عن مالك أن له [عليه كراء] نصف ما سكن، ولو كان إنما ورث الأرض عن أخيه فأكراها ممن زرعها ثم قدم ولد للميت حجبه، فليس له قلع الزرع وله الكراء، قدم في إبان الحرث أو بعده، لأنها لو عطبت كانت في ضمان القادم، وإنما الذي يدخل مع الورثة فيشاركهم في الكراء والغلة من دخل معهم في الميراث بسبب واحد.(4/105)
3570 - فأما من استحق داراً بوراثة أو بغير وراثة من يد من ابتاعها أو ورثها من أبيه، فإنما له الكراء من يوم استحق، ولا كراء له فيما مضى إلا أن تكون الدار بيد غاصب. (1)
3571 - ومن اكترى أرضاً بعبد أو بثوب فاستحق، أو بما يوزن من نحاس أو حديد بعينه يعرفان وزنه فاستحق ذلك، فإن كان استحق قبل أن يزرع أو يحرث انفسخ الكراء، وإن كان بعدما زرع أو أحدث فيها عملاً، فعليه قيمة كراء الأرض.
3572 - ومن ابتاع من رجل طعاماً بعينه، ففارقه قبل أن يكتاله، فتعدى البائع على الطعام فباعه، فعليه أن يأتي بطعام مثله، ولا خيار للمبتاع في أخذ دنانيره.
ولو هلك الطعام بأمر من الله تعالى انتقض البيع، وليس للبائع أن يأتي بطعام مثله ولا ذلك عليه.
3573 - ومن اكترى داراً سنة من غير غاصب، فلم ينقده الكراء حتى استحقت الدار في نصف السنة، فكراء ما مضى للأول، وللمستحق فسخ ما بقي أو الرضا به، فيكون له بقية كراء السنة، فإن أجاز الكراء، فليس للمكتري أن يفسخ الكراء
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (6/210) .(4/106)
فراراً من عهدته إذ لا ضرر عليه، لأنه يسكن، فإن انهدمت الدار أدى بحساب ما سكن.
ولو انتقد الأول كراء السنة كلها، لدفع إلى المستحق حصة باقي المدة إن كان مأموناً، ولم يخف من دين أحاط به ونحوهن ولا يرد باقي الكراء على المكتري.
ومن اكترى داراً فهدمها تعدياً ثم قام مستحق، فله أخذ النقض إن وجده، وقيمة الهدم من الهادم، ولو كان المكري قد ترك للمكتري قيمة الهدم قبل الاستحقاق لرجع بها المستحق على الهادم، كان ملياً أو معدماً، لأن ذلك لزم ذمته بالتعدي، ولا يرجع على المكري، إذ لم يتعد، وفعل ما يجوز له، وهو كمن ابتاع عبداً فسرقه منه رجل [ثم هلك بيده] فترك له قيمته، ثم قام [مستحقه] ، فإنما يتبع السارق خاصة.
ولو باع النقض هادمه، كان عليه للطالب إن شاء الثمن الذي قبض فيه أو قيمته.
ولو هدمها المكري، لم يلزمه لربها قيمته، وإنما له النقض بعينه إن وجده، وإن بيع فله ثمنه.
3574 - ومن ابتاع داراً فاستحق منها بيتاً بعينه، فإن كان اليسير من الدار مثل دار(4/107)
عظمى لا يضرها ذلك، لزم البيع في بقيتها، ورجع بحصة ما استحق منها. وكذلك النخل الكثيرة يستحق منها النخلات اليسيرة.
وأما إن استحق نصف الدار، أو جلها، أو دون النصف مما يضر بالمشتري، فهو مخير في ردها كلها وأخذ الثمن، أو التمسك بما لم يستحق منها بحصته من الثمن، إن كان الذي استحق النصف رجع بنصف الثمن، وإن كان الثلث رجع بثلث الثمن. (1)
والذي يكتري داراً فيستحق منها شيء، فهو مثل ما وصفنا في البيوع.
وقال غيره: ليس الكراء كالشراء في هذا، وليس للمكتري التماسك بما بقي إن استحق نصف الدار أو جلها، لأن ما بقي مجهول.
[وقال سحنون: يعني إن اختلف قيمة كراء الشهور، وأما إن لم يختلف فليس ذلك بمجهول] .
3575 - ومن ابتاع داراً أو عبيداً من غاصب ولم يعلم، فاستغلهم زماناً ثم استحقوا،
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/376) .(4/108)
فالغلة للمبتاع بضمانه، وكذلك إن ورثهم عن أبيه ولم يدر بما كانوا لأبيه، فاستغلهم ثم استحقوا، فالغلة للوارث، ولو وهب ذلك لأبيه رجل، فإن علم أن الواهب لأبيه هو الذي غصب هذه الأشياء من المستحق، أو من رجل هذا المستحق وارثه، فغلة ما مضى للمستحق، فإن جهل أمر الواهب أغاصب هو أم لا؟ فهو على الشراء حتى يعلم أنه غاصب.
3576 - ومن غصب داراً أو عبيداً فوهبهم لرجل فاغتلهم وأخذ كراهم، ثم قام مستحق فإن كان الموهوب له عالماً بالغصب، فللمستحق الرجوع بالغلة على أيهما شاء وإن لم يعلم الموهوب بالغصب، فإن المستحق يرجع أولاً بالغلة على الغاصب، فإن كان عديماً رجع بها على الموهوب. (1)
وكذلك من غصب ثوباً أو طعاماً فوهبه لرجل فأكله، أو لبس الثوب فأبلاه، أو كانت دابة فباعها وأكل ثمنها، ثم استحقت هذه الأشياء بعد فواتها بيد الموهوب، فعلى ما ذكرنا.
ولو أن الغاصب نفسه استغل العبد، أو أخذ كراء الدار، لزمه أن يرد الغلة والكراء للمستحق.
3577 - ولو مات الغاصب وترك هذه الأشياء ميراثاً فاستغلها ولده، كانت هذه الأشياء وغلتها للمستحق، [ويرجع على الولد بما استغل أو استأجر] .
[قال ابن القاسم:] والموهوب لا يكون في عدم الواهب أحسن حالاً
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/291) .(4/109)
من الوارث، ألا ترى أن من ابتاع قمحاً فأكله، أو ثياباً فلبسها حتى أبلاها، أو شاة فذبحها وأكل لحمها، ثم استحق ذلك رجل أن له على المبتاع مثل طعامه، أو قيمة ما لا مثل له ن الثياب وغيرها، ولا يضع ذلك عنه أنه اشتراه، فإن هلك ذلك بيد المبتاع بغير سببه وانتفاعه، فإن لم يعلم بالغصب وقامت بهلاك ما يغاب عليه من ذلك بينة، فلا شيء عليه، ولا يضمن ما هلك من الحيوان، أو الربع، أو انهدم بغير سببه، فكما كان المشتري حين أكل ولبس لم يضع عنه الاشتراء الضمان، كان من وهبه غاصب، فاستغل أحرى أن يرد ما استغل في عدم الواهب، لأنه أخذ هذه الأشياء بغير ثمن.
3578 - ولو نزل عبد ببلد فادعى الحرية فاستعمله رجل [في عمل] ، فعمل له عملاً له بال من بناء أو غيره بغير أجر، أو وهبه مالاً، فلربه إذا استحقه أخذ قيمة عمله ممن استعمله، إلا أن يكون عملاً لا بال له كسقي الدابة، ويأخذ من [ذلك] الموهوب ما وهب له، وما أكله الموهوب، أو باعه فأخذ ثمنه فعليه غرمه، وما هلك من ذلك بيد الموهوب بغير سببه، فلا شيء له عليه بخلاف الغاصب، لأن الغاصب لو هلكت هذه الأشياء عنده بغير سببه ضمنها، ولو اغتلها رد الغلة، والموهوب لو اغتلها ولم يعلم بالغصب، لم يلزمه رد الغلة إلا في عدم الواهب.(4/110)
ولو هلكت عنده بغير سببه لم يضمن، لأنه لم يتعد إلا أن يغتلها وقد علم بالغصب، فيصير كالغاصب سواء.
3579 - ومن ابتاع من غاصب - ولم يعلم - دوراً، أو أرضين، أو ثياباً، أو حيواناً، أو ماله غلة، أو نخلاً، فأثمرت عنده، فالغلة والثمرة للمبتاع بضمانه إلى يوم يستحقها ربها، ولو كان الغاصب إنما وهبه ذلك لرجع المستحق بالغلة على الموهوب في عدم الغاصب، لأن الموهوب لم يضمن في ذلك ثمناً أداه، ويكون للموهوب من الغلة قيمة عمله وعلاجه.
3580 - ومن ابتاع سلعة بدنانير فدفع فيها دراهم، ثم استحقت السلعة أو ردها بعيب، فإنما يرجع بما دفع من العين بعضه عن بعض، ولو دفع في الدنانير عرضاً لم يرجع على البائع إلا بالدنانير، ولو استحق هذا العرض من يد البائع رجع على المبتاع بالدنانير، لأن أخذه لهذا العرض لم يكن ثمناً للسلعة التي باع، وإنما هي صفقة ثانية، كما لو قبض الدنانير من المبتاع ثم ابتاع بها منه سلعة أخرى فاستحقت من يده فإنما يرجع عليه بالدنانير.
3581 - ومن ابتاع أمة فوطئها وهي ثيب، أو بكر فافتضها، ثم استحقت بملك أو حرية، فلا شيء عليه للوطء، ولا صداق ولا ما نقصها، فإن أولدها المبتاع فلمستحقها بالملك أخذها إن شاء مع قيمة ولدها يوم الحكم عبيداً، وعلى هذا جماعة(4/111)
الناس، وقاله مالك، وأخذ به ابن القاسم ثم رجع عنه مالك فقال: يأخذ قيمتها، لأن في ذلك ضرراً على المبتاع، ويأخذ قيمة الولد أيضاً [يومئذ] ٍ، فإن أُخذت الأمة من المبتاع على أحد قولي مالك رجع بالثمن على بائعه، ولا يرجع بما أدى من قيمة الولد، كما لو باع من رجل عبداً سارقاً ودلس له به فسرق متاعه، لم يضمن البائع ذلك، فإن أخذ منه المستحق الأمة وألفاه عديماً أتبعه بقيمة الولد ديناً، وإن كان الولد ملياً أدى القيمة، ثم لا يرجع بها على أبيه إن أيسر، وإن كانا مليين فذلك على الأب، ولا يرجع به الأب على الولد، وإن كانا عديمين أتبع أولهما يسراً، ولا يؤخذ من الابن قيمة الأم في عدم الأب أو يسره،(4/112)
[وقال غيره: لا شيء على الابن من قيمة نفسه في عدم الأب أو يسره] .
قال ابن القاسم: وليس للمستحق فيمن مات من الولد قيمة، وولدها لاحق النسب، له حكم الحر في النفس وفي الجراح وفي الغرة قبل الاستحقاق أو بعده، ولا يضع القصاص عن القاتل استحقاق هذه الأمة، لأنه حر، ومن قتل من الولد خطأ فديته كاملة للأب، وعليه لسيد الأمة الأقل من قيمة الولد يوم القتل عبداً، أو ما أخذ من ديته، وإن قتل عمداً فاقتص الأب من قاتله، لم يكن على الأب فيهم قيمة، ويغرم قيمة الولد الحي وإن جاوزت الدية.
ولو قطعت يد الولد خطأ فأخذ الأب ديتها ثم استحقت أمه، فعلى الأب للمستحق قيمة الولد أقطع اليد يوم الحكم فيه، وينظر كم قيمة الولد صحيحاً وقيمته أقطع اليد يوم جني عليه، فيغرم الأب الأقل مما بين القيمتين أو ما قبض في دية اليد، فإن كان ما بين القيمتين أقل، كان ما فضل من دية اليد للأب.
ولو ضرب رجل بطن هذه الأمة وهي حامل من سيدها فألقت جنيناً ميتاً، فللأب عليه غرة [عبد أو وليدة] كالحر، ثم للمستحق على الأب الأقل من ذلك أو من(4/113)
عشر قيمة أمه يوم ضرب بطنها، وليس على المبتاع ما نقصتها الولادة، لأنها لو ماتت لم تلزمه قيمتها، لأنه مبتاع. وقد تقدم في كتاب الغصب ذكر الأمة تلد من الغاصب، وفي كتاب النكاح ذكر الأمة تزوج نفسها أو يزوجها أجنبي على أنها حرة.
3582 - ومن بنى داره مسجداً ثم استحقها رجل، فله هدمه، كمن ابتاع عبداً فأعتقه ثم استحق، فلربه رد العتق.
3583 - ومن ابتاع ثياباً كثيرة، أو صالح بها من دعواه، فاستحق بعضها أو وجد بها عيباً قبل قبضها أو بعد، فإن كان ذلك أقلها رجع بحصته من الثمن فقط، وإن كان وجه الصفقة، انتقض ذلك كله ورد ما بقي، ثم لا يجوز أن يتماسك بما بقي بحصته من الثمن وإن رضي البائع، إذ لا يعرف حتى يقوّم وقد وجب الرد، فصار بيعاً مؤتنفاً بثمن مجهول، ولو كان ما ابتاع مكيلاً أو موزوناً، فإن استحق القليل [منه] رجع بحصته من الثمن ولزمه ما بقي، وإن كان كثيراً فهو مخير في أن(4/114)
يحبس ما بقي بحصته من الثمن أو يرده، وكذلك في جزء شائع مما لا ينقسم، لأن حصته من الثمن [معلومة قبل الرضا به، ومن ابتاع سلعاً كثيرة في صفقة واحدة، فإنما يقع لكل سلعة منها حصتها من الثمن] يوم وقعت الصفقة.
3584 - ومن ابتاع صبرة قمح وصبرة شعير جزافاً في صفقة بمائة دينار، على أن لكل صبرة خمسين ديناراً، أو ثياباً أو رقيقاً، على أن لكل عبد أو ثوب من الثمن كذا وكذا، فاستحقت إحدى الصبرتين أو أحد العبيد أو الثياب، فإن الثمن ينقسم على جميع الصفقة، فما أصاب الذي استحق من الثمن وضع عن المبتاع، ولا ينظر إلى ما سميا من الثمن.
ولو اشترى صبرة القمح وصبرة الشعير على الكيل، على أن كل قفيز بدينار لم يجز البيع.
3585 - ومن ابتاع عبدين في صفقة، فاستحق أحدهما بحرية بعد أن قبضه أو قبل، فإن كان وجه الصفقة، فله رد الباقي، وإن لم يكن وجهها لزمه الباقي بحصته من الثمن، وإنما يقوّم المستحق قيمته أن لو كان عبداً، وكذلك لو كان المستحق مكاتباً أو مدبراً أو أم ولد. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/85) ، ومواهب الجليل (5/305) ، والتاج والإكليل (5/305) .(4/115)
3586 - ومن ادعى شيئاً بيد رجل، ثم اصطلحا على الإقرار على عرض، فاستحق ما أخذ المدعي، فليرجع على صاحبه ويأخذ منه ما أقر له به إن لم يفت، فإن فات بتغير سوق أو بدن، وهو عرض أو حيوان أخذ قيمته، وإن كان الصلح على الإنكار فاستحق ما بيد المدعى عليه، فليرجع بما دفع إن لم يفت، فإن فات بتغير سوق أو بدن، رجع بقيمته.
ومن كان له على رجل مائتان، فصالحه على أن يترك له مائة، وعلى أن يأخذ منه بالمائة الباقية عبده ميموناً، فذلك جائز، وإن استحق العبد فإنه يرجع بالمائتين، لأنه من باع سلعة بثمن سماه، على أن يأخذ بذلك الثمن سلعة بعينها نقداً أو مضمونة مؤجلة، فإنما وقع البيع بتلك السلعة، ولا ينظر إلى اللفظ، ولكن إلى ما انعقد [من] الفعل.
3587 - ومن صالح من دم عمد وجب له على رجل بعبد، جاز ذلك، فإن استحق العبد رجع بقيمته ولا سبيل إلى القتل.
وكذلك من نكح بعبد فاستحق، أو وجدت به المرأة عيباً، فإنها ترده وترجع على الزوج بقيمة العبد وتبقى زوجة له على حالها، والخلع بهذه المنزلة. (1)
ومن اشترى عبداً فأصاب به عيباً، فصالحه البائع من العيب على عبد آخر دفعه
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/308) .(4/116)
إليه، جاز ذلك، وكأنهما في صفقة [واحدة] ، فإن استحق أحدهما فليفضّ الثمن عليهما، وينظر هل هو وجه الصفقة [أم لا] على ما ذكرنا.
ومن باع عبداً بعبد فاستحق أحدهما من يد مبتاعه أو رده بعيب، فإنه يرجع في عبده الذي أعطي فيأخذه إن وجده، وإن فات بتغير سوق أو بدن، لم يكن له إلا قيمته يوم الصفقة، ولا يجتمع لأحد في مثل هذا خيار في أخذ سلعته أو تضمينها.
3588 - وإن بعت عبداً بثوب فاستحق الثوب وقد عتق العبد، فإنك ترجع بقيمة العبد، وإن ابتعت جارية بعبد فحال سوقها عندك أو ولدت أولاداً، ثم استحق [العبد] بملك أو حرية، فإنما عليك قيمة الجارية يوم الصفقة.
وكذلك إن زوجت الأمة ثم استحق العبد أو وجد به عيب، فذلك في الجارية فوت أخذت لها مهراً أو لم تأخذ، وعليك قيمتها يوم الصفقة، لأن التزويج عيب.
وقد قال مالك - رحمه الله -: إن التزويج ينقصها وإن كانت وخشاً، ولا يردها مبتاعها بعيب إذا زوجها إلا ومعها ما نقصها.(4/117)
3589 - ومن كاتب عبده على عرض موصوف، أو حيوان، أو طعام، فقبضه وعتق العبد ثم استحق ما دفع العبد من ذلك، [قال:] فأحب إليّ أن لا يرد العتق، ولكن يرجع عليه بمثل ذلك، فإن أعتقه على شيء مما ذكرنا بعينه وهو عبد غير مكاتب، ثم استحق ذلك، فالعتق ماض ولا يرد، وكأنه انتزعه منه ثم أعتقه.(4/118)
3590 - ومن وهب لرجل هبة فعوضه فاستحق العوض، فإنه يرجع في هبته إن كانت قائمة، إلا أن يعوضه قيمتها فيلزمه، وليس للواهب قيمة العوض وإن كان أكثر من الهبة، لأن الذي زاده أولاً في عوضه على قيمة هبته إنما كان تطولاً، وإن استحقت الهبة رجع في العوض إلا أن يفوت في بدن [أو تغير] سوق، فيأخذ قيمته. (1)
3591 - ومن باع جارية بعبد فقبضه ثم أعتقه، ثم استحق نصف الجارية قبل حوالة سوق، فلمبتاعها حبس نصفها الباقي والرجوع بنصف قيمة عبده، أو رد باقيها وأخذ قيمة عبده لفوته بالعتق، وكذلك إن كان الغلام هو الذي استحق نصفه والجارية هي المعتقة على ما ذكرنا.
3592 - ومن أوصى بحج أو غيره، ثم مات فبيعت تركته وأنفذت وصيته، ثم استحقت رقبته، فإن كان معروفاً بالحرية، لم يضمن الوصي ولا متولي الحج شيئاً، ويأخذ السيد ما كان قائماً من التركة لم يُبع، وما بيع وهو قائم بيد مبتاعه، فلا يأخذه السيد إلا بالثمن ويرجع بذلك الثمن على البائع.
_________
(1) انظر: المدونة (14/391) ، (15/141) .(4/119)
3593 - وكذلك قال مالك - رحمه الله - فيمن شهدت بينة بموته، فبيعت تركته وتزوجت زوجته ثم قدم حياً، فإن كان الشهود عدولاً وذكروا ما يعذرون به في دفع تعمد الكذب، مثل أن يروه في معركة القتل فظنوا أنه ميت، أو طعن فلم يتبين لهم أن به حياة، أو شهدوا على شهادة غيرهم، فهذا ترد إليه زوجته وليس له من متاعه إلا ما وجده لم يبع، وما بيع فهو أحق به بالثمن إن وجده قائماً لم يتغير عن حاله.
قال ابن القاسم: والذي أراد مالك تغير البدن وليس له أخذ ذلك حتى يدفع الثمن إلى من ابتاعه، وما وجده قد فاتت عينه عند مبتاعه، أو تغير عن حاله في بدنه، أو فات بعتق، أو تدبير، أو كتابة، أو أمة تحمل من السيد، أو صغير يكبر، فإنما له الرجوع بالثمن على من باع ذلك كله، فإن لم تأت البينة بما تعذر به من شبهة دخلت عليهم، فذلك كتعمدهم للزور، فيأخذ متاعه حيث وجده إن شاء بالثمن الذي بيع به وترد إليه زوجته، وله أخذ ما أُعتق من عبد، أو كوتب، أو دُبر، أو صغير كبر، أو أمة اتخذت أم ولد، فيأخذها وقيمة ولدها من المبتاع يوم الحكم، كالمغصوبة يجدها بيد مشتر.(4/120)
3594 - وإن أسلمت دنانير في طعام أو غيره، فاستحقت بيد المسلم إليه قبل أن تقبض ما سلمت فيه أو بعد [ذلك] ، فالسلم تام وعليك مثلها، وكذلك الدراهم والفلوس، وكذلك في البيعالناجز.
ولو أسلمت عرضاً، أو حيواناً، أو رقيقاً، أو شيئاً مما يكال أو يوزن، من طعام أو عرض فيما يجوز أن تسلمه فيه، فاستحق ما دفعت، أو وجد به عيباً [يرده] به، فرده قبل أن تقبض ما أسلمت فيه أو بعد قبضه، فالسلم ينتقض.
وكذلك ينتقض البيع الناجز، وترد ما قبضت إن كان قائماً أو مثله إن كنت استهلكته.
ومن أسلف في طعام مضمون فلما قبضه استحق من يده، فإنه يرجع بمثله ولا ينتقض السلف.
3595 - ومن ابتاع طعاماً كيلاً أو وزناً فتلف قبل أن يقبضه، انتقض البيع، وليس على البائع أن يأتي بمثله.(4/121)
3596 - ومن ابتاع سلعة على أن يهبه البائع، أو يتصدق عليه، فإن كان شيئاً معلوماً، جاز ذلك، فإن استحقت السلعة وفاتت الهبة فإن الثمن يفض على قيمتها من قيمة الهبة، فيرجع من الثمن بحصة السلعة.
3597 - ومن قال لرجل: أبيعك عبدي هذا بخمسة أثواب موصوفة إلى أجل، فالعبد رأس المال، ولو قال: أشتري منك عبدك هذا بعشرة أثواب [موصوفة] إلى أجل، فالعبد رأس المال، فإن استحق العبد بطل السلم.
3598 - ومن أسلم ثوباً في عشرة أرادب حنطة إلى أجل، وفي عشرة دراهم إلى أجل أبعد منه، جاز ذلك، فإن استحق نصف الثوب قبل أن يدفعه أو بعد، فالمسلم إليه يخير في رد باقي الثوب وينتقض السلم، أو التماسك بنصفه، ويلزمه نصف الطعام ونصف الدراهم، لأن من ابتاع عبداً أو ثوباً بثمن فاستحق نصف ذلك، خير المبتاع في رد باقيه أو يتماسك به ويرجع على البائع بنصف الثمن وإن كره.
3599 - ومن أسلم ثوبين في فرس موصوف، فاستحق أحدهما، فإن كان وجه الثوبين بطل السلم، وإن كان الأدنى رده ورجع بقيمته وثبت السلم، وهذا وما بيع يداً بيد سواء، ما يفسخ في بيع يد بيد يفسخ في السلم.(4/122)
وما أسلمت فيه من الحيوان إلى أجل فقبضته، ثم استحق، فإنك ترجع بمثله في صفته التي شرطت، ولا تنظر زاد عندك أم نقص.
ومسألة من ابتاع إناء فضة بدراهم فاستحقت، مذكورة في كتاب الصرف، وفيه مسألة الخلخالين موعبة. والله الموفق.
* * *(4/123)
(كتاب الشُّفْعة)
3600 - قال: وإذا كانت دار بين مسلم وذمي، فباع المسلم حصته من مسلم أو ذمي، فلشريكه الذمي الشفعة كما لو كان مسلماً، ولو كانت بين ذميين فباع أحدهما، لم أقض بالشفعة بينهما إلا أن يتحاكما إلينا. (1)
3601 - ومن هلك وترك ثلاثة بنين: اثنان شقيقان والآخر لأب، وترك بينهم داراً، فباع أحد الشقيقين حصته قبل القسم فالشفعة بين الشقيقين والأخ للأب سواء، إذ بالبنوة ورثوا، ولا ينظر إلى الأقعد بالبائع.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/453) ، ومواهب الجليل (5/311) ، والتاج والإكليل (5/310) .(4/125)
ولو ولد لأحدهم أولاد ثم مات، فباع بعض ولده حصته، فبقية ولده أشفع من أعمامهم، لأنهم أهل مورث ثان، فإن سلّموا فالشفعة لأعمامهم. وإن باع أحد الأعمام، فالشفعة لبقية الأعمام مع بني أخيهم لدخولهم مدخل أبيهم.
وإن ترك ابنتين وعصبة، فباعت إحدى الابنتين، فأختها أحق من العصبة، لأنهما أهل سهم واحد، فإن سلّمت فالعصبة أحق ممن شركهم بملك.
ولو باع أحد العصبة فالشفعة لبقية العصبة والبنات، وكذلك الأخوات مع البنات [حكمهن] حكم العصبة، لأن العصبة ليس لهم فرائض مسماة.
ولو ترك داراً بينه وبين رجل وورثته عصبة فباع أحدهم حصته قبل القسمة، فبقيتهم أحق بالشفعة من الشريك الأجنبي، لأنهم أهل مورثه، [فإن سلّموا فللشريك الآخذ] .
33602 - وإن ترك أختاً شقيقة وأختين لأب، فأخذت الشقيقة النصف وأخذ الأختان للب السدس تكملة الثلثين، فباعت إحدى الأخوات للأب، فالشفعة بين الأخت الأخرى للأب وبين الشقيقة، إذ هن أهل سهم.(4/126)
وإذا ورثت الجدتان السدس، فباعت إحداهما، فالشفعة [أيضاً] لصاحبتها دون ورثة الميت، لأنهما أهل سهم واحد.
ولا يرث عند مالك من الجدات أكثر من جدتين، وكذلك الإخوة للأم إذا ورثوا الثلث، فباع أحدهم حصته من الدار، فالشفعة لبقيتهم دون غيرهم من الورثة، لأنهم أهل سهم.
3603 - وإذا وجبت الشفعة للشركاء، قسمت بينهم على قدر أنصبائهم لا على عددهم.
وإذا اقتسم قوم داراً وتركوا الساحة لم يقتسموها، فباع أحدهم ما صار له من الدار، فلا شفعة بينهم، وإن كانت الساحة واسعة وأرادوا قسمتها ليحوز كل إنسان حصته إلى منزله فيرتفق به، فإن لم يكن ضرر، فلا بأس به.
ولا شفعة بالجوار والملاصقة في سكة أو غيرها، ولا بالشركة في الطريق.
ومن له طريق في دار رجل فبيعت الدار، فلا شفعة له فيها، ولا شفعة في شيء(4/127)
سوى الدور، والأرضين، والنخل، والشجر، وما يتصل بذلك من بناء أو ثمرة. ولا شفعة في دين، ولا حيوان، ولا سفن، ولا بز، ولا طعام، ولا عرض، ولا غيره مما ينقسم أو لا ينقسم.
3604 - وإذا بنى قوم في دار حبست عليهم ثم مات أحدهم فأراد أحد ورثته بيع نصيبه من البناء، فللآخرين فيه الشفعة، واستحسنه مالك وقال: ما سمعت فيه شيئاً.
3605 - ومن بنى في عرصة رجل بإذنه ثم أراد الخروج منها، فلرب العرصة أن يعطيه قيمة النقض أو يأمره بقلعه. وإن بنى رجلان في عرصة رجل بإذنه، ثم باع أحدهما حصته من النقض، فلرب الأرض أخذ ذلك النقض بالأقل من قيمته، أو من الثمن الذي باعه به، فإن أبى فللشريك الشفعة للضرر، والضرر أصل الشفعة.(4/128)
3608 - وللصغير الشفعة يقوم بها أبوه أو وصيه، فإن لم يكونا فالإمام ينظر له.
ولو كان له جد لم يأخذه له، ولكن يرفع ذلك إلى الإمام، وإن لم يكن له أب ولا وصي وهو بموضع لا سلطان فيه، فهو على شفعته إذا بلغ.
ولو سلّم من ذكرنا من أب أو وصي أو سلطان شفعة الصبي، لزمه ذلك، ولا قيام له إن كبر.
فإن كان له أب، فلم يأخذ له بالشفعة ولم يترك، حتى بلغ الصبي، وقد مضى لذلك عشر سنين، فلا شفعة للصبي، لأن والده بمنزلته، ألا ترى أن الصغير لو بلغ فترك أخذ شفعته عشر سنين، كان ذلك قطعاً لشفعته.
3609 - قال مالك - رحمه الله -: والشفيع على شفعته حتى يترك، أو يأتي من طول الزمان ما يُعلم أنه تارك لشفعته، وإذا علم بالاشتراء، فلم يطلب شفعته سنة، فلا يقطع ذلك شفعته، وإن كان قد كتب شهادته في الاشتراء، ولم ير مالك التسعة الأشهر ولا السنة بكثير، إلا أنه إذا تباعد(4/129)
هكذا يحلف: ما كان وقوفه تركاً لشفعته، وإذا جاوز السنة بما يعد به تاركاً، فلا شفعة له.
وإن كانت الدار بغير البلد الذي هما فيه، فهو كالحاضر مع الدار [الحاضرة] فيما تنقطع إليه الشفعة. (1)
ولا حجة للشفيع أنه لا ينقد حتى يقبضها، لجواز النقد في الرَّبع الغائب.
والغائب على شفعته وإن طالت غيبته وهو عالم بالشراء، وإن لم يعلم، فذلك أحرى ولو كان حاضراً.
3606 - ومن اشترى داراً وشفيعها حاضر، ثم سافر الشفيع بحدثان الشراء، فأقام سنين كثيرة ثم قدم فطلب الشفعة، فإن كان سفره يعلم أنه لا يؤوب منه إلا بعد أمد تنقطع في مثله شفعة الحاضر فجاوزه، فلا شفعة له، وإن كان سفراً يؤوب منه قبل ذلك فعاقبه أمر بعذر به فتخلف له، فهو على شفعته ويحلف بالله ما كان تاركاً لشفعته، أشهد عند خروجه أنه على شفعته أم لا.
وإذا اكترى الشفيع الشقص من المبتاع، أو ساومه ليشتريه، أو ساقاه في النخل فذلك قطع للشفعة.
3607 - وإذا اختلف الشفيع والمبتاع في الثمن، صدق المبتاع، لأنه مدعىّ عليه، إلا أن
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/323) .(4/130)
يأتي بما لا يشبه مما لا يتغابن الناس بمثله، فلا يصدق إلا أن يكون مثل هؤلاء الملوك يرغب أحدهم في الدار اللاصقة بداره فيثمنه، فالقول قوله إذا أتى بما يشبه، وإن أقاما بينة وتكافأت في العدالة كانا كمن لا بينة لهما ويصدق المبتاع، لأن الدار في يده، وعهدة الشفيع على المبتاع خاصة، وإليه يدفع الثمن، كان بائعه قد قبض الثمن أم لا.
ولو غاب المبتاع قبل أن ينقد الثمن ولم يقبض الدار، نظر الإمام في ذلك.
وللبائع له منه الشقص حتى يقبض الثمن، فإن شاء الشفيع أن ينقده [الثمن] ، فذلك له، ويقبض الشقص وعهدته على المبتاع، لأنه عنه أدى.
وإن كان على مبتاع الشقص دين، فلم يقبض الشقص ولا دفع الثمن حتى قام غرماؤه وقام الشفيع، قيل للشفيع: ادفع الثمن إلى البائع قضاء عن المبتاع واقبض الدار ولا شيء للغرماء، لأن للبائع منع الشقص حتى يقبض الثمن، ولأن الشفيع لو سلمها بيعت الدار، فأعطى البائع الثمن الذي باع به، وكان أحق به الغرماء، إلا أن يقوم غرماء المبتاع فيفلسوه، فيكون البائع أولى بداره، إلا أن يضمن له الغرماء الثمن، ويقضى للشفيع بالشفعة في غيبة المبتاع كالقضاء عليه به حاضراً، ويكون على حجته.(4/131)
3610 - ومن ابتاع شقصاً بثمن إلى أجل، فللشفيع أخذه بالثمن إلى ذلك الأجل إن كان ملياً أو أتى بضامن ثقة مليء.
وإن قال البائع للمبتاع: أنا أرضى أن يكون مالي على الشفيع إلى الأجل، لم يجز، لأنه فسخ ما لم يحل من دينه، في شيء [لم يتعجله، فصار ديناً في دين] .
وإن عجل الشفيع الثمن، فللمبتاع قبضه، ثم ليس عليه أن يعجله للبائع، وليس للبائع أن يمنعه من قبض الدار.
3611 - ومن ابتاع شقصاً من دار لها شفيعان، فسلم أحدهما، فليس للآخر أن يأخذ بقدر حصته إذا أبى عليه المبتاع، فإما أخذ الجميع أو ترك، وإن شاء هذا القائم أخذ الجميع، فليس للمبتاع أن يقول: لا تأخذ إلا بقدر حصتك.
3612 - ومن ابتاع شقصاً من دارين في صفقة واحدة، وشفيع كل دار على حدة فسلم أحدهما، فللآخر أن يأخذ شفعته في التي هو شفيعها دون الأخرى.
ولو اشترى ثلاثة أشقاص من دار، أو من دور في بلد، أو في بلدان من رجل، أو رجال وذلك في صفقة واحدة وشفيع ذلك كله واحد، فليس له أن يأخذ [إلا] الجميع أو يسلم.(4/132)
وكذلك إن اشترى من أحدهم حصته في نخل، ومن آخر حصته في قرية، ومن آخر في دار، في صفقة واحدة، أو كان بائع ذلك كله واحد، أو شفيع ذلك كله واحد، فإما أخذ الجميع أو سلم.
ولو ابتاع ثلاثة ما ذكرنا من واحد، أو من ثلاثة في صفقة، والشفيع واحد، فليس له أن يأخذ من أحدهم دون الآخر، وليأخذ الجميع أو ليدع.
3613 - ومن اشترى حظ ثلاثة رجال من دار في ثلاث صفقات، فللشفيع أن يأخذ ذلك [أو] يأخذ أي صفقة شاء، فإن أخذ الأولى، لم يستشفع معه فيها المبتاع، وإن أخذ الثانية، كان للمبتاع معه الشفعة فيها بقدر صفقته الأولى فقط، وإن أخذ الثالثة خاصة، شفع فيها بالأولى والثانية.
3614 - ومن ابتاع شقصاً هو شفيعه مع شفيع آخر، تحاصّا فيه بقدر حصتيهما، يضرب فيه المبتاع بقدر نصيبه من الدار قبل الشراء، ولا يضرب ما اشترى.
ومن ابتاع شقصاً من دار لها شفعاء غُيَّب إلا واحد حاضر فأراد أخذ الجميع، فمنعه المبتاع أخذ حظوظ الغياب، أو قال له المبتاع: خذ الجميع، وقال الشفيع: لا آخذ إلا حصتي، فإنما للشفيع في الوجهين أن يأخذ الجميع أو يترك، وإن قال: أنا آخذ حصتي فإذا قدم أصحابي فإن أخذوا شفعتهم وإلا أخذت، لم يكن(4/133)
ذلك له، إما أن يأخذ الجميع أو يدع، [فإن سلم، فلا أخذ له مع أصحابه إن قدموا، ولهم أن يأخذوا الجميع أو يدعوا] ، فإن سلموا إلا واحداً قيل له: خذ الجميع أو دع.
ولو أخذ الحاضر الجميع ثم قدموا، فلهم أن يدخلوا معه كلهم إن أحبوا فيأخذوا بقدر ما كان لهم من شفعتهم، وإن أخذ بعضهم وأبى البعض لم يكن للآخذ أن يأخذ بقدر حصته فقط، ولكن يساوي الآخذ قبله فيما أخذ أو يدع.
3615 - ومن ابتاع شقصاً من دار وعرضاً في صفقة واحدة بثمن، فالشفعة في الشقص خاصة بحصته من الثمن، بقيمته من قيمة العرض يوم الصفقة، تغيرت الدار بسكنى أو لم تتغير، وليس للشفيع أخذ العرض ولا ذلك عليه إن أباه.
3616 - وإذا أُخبر الشفيع بالثمن فسلم، ثم ظهر أن الثمن دون ذلك، فله الأخذ بالشفعة، ويحلف ما سلم إلا لكثرة الثمن.
وإن قيل له: قد ابتاع فلان نصف نصيب شريكك، [فسلم] ، ثم ظهر أنه(4/134)
ابتاع جميع النصيب، فله القيام أيضاً بشفعته، فإن قيل له: ابتاعه فلان فسلم، ثم ظهر أنه ابتاعه مع آخر، فله القيام [أيضاً بشفعته] وأخذ حصتهما.
3617 - وإن قال الشفيع بعد الشراء: اشهدوا أني أخذت بشفعتي، ثم رجع فإن علم بالثمن قبل الأخذ لزمه، وإن لم يعلم به، فله أن يرجع، وإذا سلم الشفيع الشفعة بعد البيع، فلا قيام له.
ولو قال للمبتاع قبل الشراء: اشتر فقد سلمت لك الشفعة، وأشهد بذلك، فله القيام بعد الشراء، لأنه سلم ما لم يجب له بعد.
وإن سلم بعد الشراء على مال أخذه، جاز، وإن كان قبل الشراء، بطل وردّ المال وكان على شفعته.
3618 - وإن قال البائع: بعت الشقص بمائتين، وقال المبتاع: بمائة، وقال الشفيع: بخمسين، أو لم يدع شيئاً، فإن لم تفت الدار بطول زمان [أو تغير أسواق] ، أو تهدُّم الدار، أو تغير المساكن، أو بيع أو هبة ونحوه وهي بيد المبتاع أو البائع،(4/135)
فالقول قول البائع، ويترادان بعد التحالف، ثم ليس للشفيع أن يقول: إنما آخذها بمائتين، ولا يردوا البيع.
ولا شفعة حتى يتم البيع فتصير العهدة على المبتاع، وههنا هي على البائع.
وإن تغيرت الدار بما ذكرنا وهي بيد المبتاع، صدق مع يمينه وأخذها الشفيع بذلك.
ولا شفعة في هبة الثواب إلا بعد العوض، وإنما جازت [الهبة] على غير عوض مسمى، لأنه على وجه التفويض في النكاح. (1)
وفي القياس لا ينبغي أن يجوز، ولكن قد أجازه الناس.
3619 - ومن اشترى شقصاً بألف درهم، ثم وضع عنه البائع تسع مائة [درهم] بعد أخذ الشفيع أو قبل، نظر، فإن أشبه أن يكون ثمن الشقص عند الناس مائة درهم إذا تغابنوا بينهم أو اشتروا بغير تغابن، وضع ذلك عن الشفيع، لأن ما أزهرا من الثمن الأول إنما كان سبباً لقطع الشفعة، وإن لم يشبه ثمنه أن يكون مائة، لم يحط الشفيع شيئاً وكانت الوضيعة هبة للمبتاع.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/315) .(4/136)
وقال في موضع آخر: إن حط عن المبتاع ما يشبه أن يحط في البيوع، وضع ذلك عن الشفيع، وإن كان مما لا يحط مثله، فهي هبة، ولا يحط للشفيع شيء.
3620 - ومن ابتاع شقصاً من دار له شفيع غائب، فقاسم شريكه، ثم جاء الشفيع، فله نقض القسم وأخذه، إذ لو باعه المشتري كان للشفيع رد بيعه، ولو بنى فيه المشتري بعد القسم مسجداً، فللشفيع أخذه وهدم المسجد.
3621 - ولو وهب المبتاع ما اشترى من الدار أو تصدق [به] كان للشفيع إذا قدم نقض ذلك وأخذه والثمن للموهوب [له] أو المتصدق عليه، لأن الواهب علم أن له شفيعاً، فكأنه وهبه الثمن، ومن ابتاع شقصاً ثم باعه، فتداولته الأملاك فللشفيع أخذه بأي صفقة شاء، وينتقض ما بعدها، وإن شاء أخذه بالبيع الآخر، وثبتت البيوع كلها.
وكذلك إن بيع الشقص على المبتاع في دين لغرمائه، في حياته أو بعد وفاته، فللشفيع الأخذ بالبيع الأول وينقض الثاني، [وإن شاء أخذ بالثاني] .(4/137)
3622 - وإذا زاد المبتاع البائع في الثمن بعد البيع، فللشفيع الأخذ بالثمن الأول، لأنه بيع قد وجب.
ولو أقال منه فالشفعة للشفيع وتبطل الإقالة، وليس له أخذه بعهدة الإقالة، والإقالة عند مالك: بيع حادث في كل شيء إلا في هذا، فإن سلّم الشفيع صحت الإقالة.
3623 - وإن اشترت المرأة شقصاً فخالعت به، فإن شاء الشفيع أخذه وتكون عهدته على الزوجة، فليأخذه بالثمن الذي اشترته به، وإن شاء كانت عهدته على الزوج، فليأخذه منه بقيمته يوم الخلع، فإن أخذه من الزوجة بالثمن رجع عليها الزوج بقيمته يوم الخلع.
ومن اشترى شقصاً فنكح به فمثل هذا سواء، يكون الزوج في النكاح كالزوجة في الخلع.
3624 - ومن قام بالشفعة ولم يحضره الثمن، تلوم له [اليوم و] اليومين والثلاثة.
وإن أخذ بالشفعة ثم لم يقبض الشقص حتى انهدمت الدار، فضمان الشقص من الشفيع.(4/138)
وكذلك في البيوع ما أصاب الدار بعد الصفقة، فمن المشتري.
3625 - ولك أن توكل بأخذ الشفعة غبت أو حضرت، ولا يلزمك تسليم الوكيل إلا أن تفوض إليه في الأخذ أو الترك.
ولو أقر الوكيل أنك سلمتها، فهو كشاهد يحلف معه المبتاع، فإن نكل حلفت أنت وأخذت، وإن أقام الوكيل بينة أن فلاناً الغائب وكّله على طلب شفعته في هذه الدار، مُكِّن من ذلك.
3626 - ومن اشترى شقصاً من دار لرجل غائب، كان للشفيع أن يأخذ بالشفعة، ولا يضمن المبتاع للشفيع ما حدث عنده في الشقص من هدم، أو حرق، أو غرق، أو ما غار من عين أو بئر.
ولا يحط الشفيع لذلك من الثمن شيئاً، فإما أخذ بجميع الثمن أو ترك.
وكذلك لو هدم المبتاع البناء ليبنيه أو ليتوسع فيه، فإما أخذ ذلك الشفيع مهدوماً مع نقضه بجميع الثمن أو ترك.
3627 - ولو هدم المبتاع ثم بنى قيل للشفيع: خذ بجميع الثمن وقيمة ما عمّر فيها، وإلا فلا شفعة لك.(4/139)
3628 - ومن اشترى داراً فهدمها وباع النقض، ثم استحق رجل نصفها وقد فات النقض عند مبتاعه، فإن أبى المستحق أن يجيز البيع في نصيبه من الدار، أخذ نصفها ونصف ثمن القض باستحقاقه، ثم إن شاء أخذ بقيتها بشفعته، فإن أخذه قسم ثمن نصف الدار [باستحقاقه الدار] على قيمة نصف الأرض، وقيمة نصف النقض يوم الصفقة، ثم أخذ نصف الأرض بما ينوبها ولا ينظر إلى ثمن ما باع منه. (1)
وأما ما قابل ذلك [من النقض] ، فلا شفعة فيه لفواته وثمن ذلك للمبتاع.
ولو وجد المستحق النقض لم يبع، أو وجده قد بيع وهو حاضر عند مبتاعه لم يفت، فله أخذ نصفه ونصف العرصة بالاستحقاق وباقيها بالشفعة، ولا يضمن المبتاع في الوجهين لهدمه شيئاً، فإن أبى أن يأخذ ما استحق من الدار مهدوماً، قيل له: فارجع على البائع بالثمن الذي باع به حصتك إن أحببت.
3628 - ولو هدم الدار أجنبي تعدياً وأتلف النقض، فلم يقم عليه المبتاع حتى قام المستحق
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (4/437) .(4/140)
فاستشفع، فله الشفعة فيما بقي بحصته بالتقويم ثم يقضي الثمن على قيمة ما هدم وما بقي، فيأخذ ذلك بحصته من الثمن، ثم يتبع المشتري الهادم بنصف قيمة ما هدم، فكان له، وكان بمنزلة ما باع، ويتبعه المستحق بمثل ذلك.
ولو كان المبتاع قد ترك للهادم قيمة ما هدم، فللمستحق طلب الهادم بنصف قيمة ذلك من النصف المستحق، وتسقط عنه حصة المبتاع.
وإن كان الهادم عديماً أتبعه المستحق دون المبتاع، ومن اشترى داراً فوهبها لرجل فهدمها، أو وهب نصفها لرجل فهدمها، ثم استحق رجل نصفها، فلا شيء على الهادم فيما هدم، وهو كالمشتري، ولو وهب الدار مبتاعها لرجل، ثم استحق رجل نصفها وأخذ باقيها فالشفعة بثمن النصف المستشفع للواهب، بخلاف من وهب شقصاً ابتاعه وهو يعلم أن به شفيعاً فهذا ثمنه للموهوب إذا أخذه الشفيع.
3629 - ومن وهب لرجل أمة فاستحقت بحرية أو أنها مسروقة، فما رجع به من ثمنها فللواهب أو لورثته دون الموهوب.
* * *(4/141)
(كتاب الوصايا)
3630 - وإذا شهد ولدان للميت أن أباهما أعتق هذا العبد، وشهد أجنبيان أنه أوصى بالثلث لرجل، والعبد هو الثلث، فإن كان عبداً يتهمان في جر ولائه، لم تجز شهادتهما وجازت الشهادة بالوصية، وإن لم يتهما، فهي جائزة، وهذا كشهادتهما بذلك ومعهما من الورثة نساء، فما يتهمان فيه مع النساء يتهمان فيه مع الموصى له.
[ابن القاسم:] ومن قال في وصيته: يخدم عبدي فلاناً سنة ثم هو حر، ولم يدع سواه، فإن لم يجز الورثة، بُدئ بالعتق، فعتق ثلث العبد بتلاً وتسقط الخدمة.
[قال سحنون: وعلى هذا أكثر الرواة] .
3631 - ويفسخ البيع الفاسد في الدور وغيرها إذا لم يفت، ولا شفعة فيه، ولو علم به بعد أخذ الشفيع [بالشفعة] فسخ بيع الشفعة والبيع الأول، لأن الشفيع دخل مدخل المشتري، وكذلك لو باعها المبتاع من غيره بيعاً فاسداً لرد البيع الأول والآخر جميعاً إلا أن يفوت، وتجب في ذلك القيمة فلا يرد.
وإذا لم يفسخ البيع الأول حتى فات ولزمت المبتاع قيمته يوم قبضه، ففيه حينئذ الشفعة بتلك القيمة.
ويفيت الرَّبع في البيع الفاسد، الهدم والبناء والغرس وبناء البيوت أو عطب الغرس، وليس تغير سوق الرباع فوتاً، ولا أعرف أن تغير البناء فوت أو طول المدة السنتين والثلاثة.
وإذا فاتت الدار ببنيان زاده المبتاع فيها، لم يأخذها الشفيع حتى يدفع إلى المبتاع قيمة ما أنفق مع القيمة التي لزمته، وإن انهدمت الدار لم ينقص الشفيع الهدم شيئاً وقيل له: خذها بجميع القيمة التي لزمت [المبتاع] أو دع.(4/142)
وإن باعها المشتري من غيره بيعاً صحيحاً فذلك فوت أيضاً، وللشفيع الأخذ بثمن البيع الصحيح ويتراد الأولان القيمة.
وكذلك من ابتاع شيئاً من جميع الأشياء بيعاً فاسداً، ثم باعه بيعاً صحيحاً قبل أن يفوت عنده، نفذ البيع الثاني، ويتراد الأولان القيمة.
قال: وليس للشفيع الأخذ بالبيع الأول الفاسد، لأنا نُزيل البيع الذي أفاته، ويعود بيعاً فاسداً لا فوت فيه، وهذا إذا لم يفت ببناء أو هدم، فأما إن فاتت بذلك فليأخذ الشفيع إن شاء بالثمن الصحيح أو بالقيمة في الفاسد، وإن لم يفت بهذا إلا أن المتبايعين يترادان القيمة بعد البيع الثاني، فللشفيع أن يأخذ بأي ذلك شاء لتمام البيع بأخذ القيمة، ترادّاها بقضية أو بغير قضية، لأن مبتاع الصحة لو ردّ ذلك بعيب وجده بعد أن تراد الأولان القيمة، لم يكن له الرد بالعيب، ويأخذ القيمة التي دفع.(4/143)
وقد قال مالك في المكتري يتعدى الموضع فيتلف الدابة فيغرم القيمة ثم توجد بحالها، فليس لربها أخذها، لأنه قد أخذ قيمتها.
3632 - ولا تجوز التولية في البيع الفاسد وترد، لأن المبتاع إن كان ابتاع على أن أسلف فقد دخل الثاني مدخله.
ولو قال له: هذه السلعة قامت عليّ بمائة دينار وأنا أبيعكها بذلك، كان كاذباً، لأنه إن كان اشتراها بمائة [دينار] على أن أسلفه عشرة دنانير، وقيمة السلعة خمسون ديناراً، فلم تقم عليه بمائة، ويخير المبتاع في أخذ السلعة بمائة أو ردها. فإن فاتت بيده قبل أن يختار، لزمه الأقل من قيمتها أو من المائة.
3633 - ومن ابتاع شقصاً فيه فضل فقام غرماؤه في فَلَسه أو موته، فللشفيع إن قام أخذ الشقص دونهم.
وإن ترك من أحاط الدين بماله القيام بشفعته، فليس لغرمائه أخذها ولا أن يجبروه على أخذها، وذلك إليه أخذ أو سلم.(4/144)
3634 - ولا يجوز للشفيع أن يعطيه أجنبي مالاً، على أن يقوم الشفيع بشفعته ويربحه ذلك المال.
ولا يجوز بيع الشقص قبل أخذه إياه بشفعته، ولا يجوز له أن يأخذ شفعته لغيره. (1)
ومن وكل رجلاً يبيع له شقصاً أو يشتريه له والوكيل شفيعه، ففعل، لم يقطع ذلك شفعته، وإذا كانت دار بيد أحد رجلين، فأقام كل واحد منهما بينة أنه ابتاعها من الآخر، قضيت بأعدلهما، فإن تكافأتا، بقيت الدار لمن هي في يديه.
3635 - ومن ابتاع داراً وأخذ من البائع كفيلاً بما أدركه من درك، فبنى في الدار، ثم استحقت، لم يلزم الكفيل من قيمة البناء شيء، ولكن يقال للمستحق: ادفع إلى المبتاع قيمة ما بنى أو خذ قيمة دارك، فإن دفع ذلك وأخذ الدار، رجع المبتاع بالثمن على البائع، فإن كان غائباً أو عديماً، رجع به على الحميل.
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/479) ، والتاج والإكليل (5/331) ، والمدونة الكبرى (14/407) .(4/145)
3636 - ومن ابتاع شقصاً من دار بعبد بعينه، فمات بيده قبل دفعه، فمصيبته من البائع، وللشفيع الأخذ بقيمة العبد، وعهدته على المبتاع، لأن الشفعة وجبت له بعقد البيع.
3637 - وإن أخذ الشفيع بقيمة العبد، ثم وجد بائع الشقص بالعبد عيباً، فله رده ويأخذ من المبتاع قيمة الشقص وقد مضى الشقص للشفيع بشفعته، بخلاف البيع الفاسد الذي تبطل فيه الشفعة في ذلك، لأن البيع فسد بعيبه، وفي العيب لو رضيه البائع لزمه، فإن استحق العبد قبل قيام الشفيع، بطل البيع ولا شفعة في ذلك.
فإن استحق [العبد] بعد أن أخذ الشفيع، فقد مضت الدار للشفيع، ويرجع بائع الشقص على مبتاعه بقيمة الشقص كاملاً، كان ذلك أكثر مما أخذ [فيه] من الشفيع أو أقل، ثم لا تراجع بينه وبين الشفيع، إذ الشفعة كبيع ثانٍ.(4/146)
3638 - ومن ابتاع شقصاً بحنطة بعينها، فاستحقت الحنطة قبل أخذ الشفيع، فسخ البيع، ولا شفعة في ذلك.
وكذلك إن ابتاع الحنطة بثمن فاستحقت، بطل البيع ويرجع بالثمن، وليس على البائع أن يأتي بمثلها.
3639 - ومن ابتاع شقصاً من دار بعرض، فاختلف المبتاع مع الشفيع في قيمته، وقد فات في يد البائع أو لم يفت، فإنما ينظر إلى قيمته يوم الصفقة لا اليوم، فإن كان مستهلكاً صُدّق المبتاع في قيمته مع يمينه، فإن جاء بما لا يشبه، صدق الشفيع فيما يشبه، فإن جاء بما لا يشبه، وصفه المبتاع وحلف على صفته، وأخذ الشفيع بقيمة تلك الصفة يوم الصفقة أو ترك، فإن نكل المبتاع حلف الشفيع على ما يصف هو، وأخذ بقيمة صفته.
وإذا أنكر المشتري الشراء وادعاه البائع تحالفا وتفاسخا، وليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة بإقرار البائع، لأن عهدته على المشتري، فإذا لم يثبت للمشتري شراء، فلا شفعة للشفيع.(4/147)
3640 - ومن باع عبداً قيمته ألف درهم، بألف درهم وبشقص قيمته ألف درهم، ففي الشقص الشفعة بنصف قيمة العبد، وذلك خمسمائة.
3641 - ومن كان بينه وبين رجل عرض مما لا ينقسم، فأراد بيع حصته، قيل لشريكه: بِعْ معه أو خذها بما يعطى، فإن رضي فباع حصته مشاعة، فلا شفعة لشريكه.
3642 - وإن كانت بينهما أرض ونخل ولها عين، فاقتسما الأرض والنخل خاصة، ثم باع أحدهما نصيبه من العين، فلا شفعة فيه، وهو الذي جاء فيه ما جاء: "لا شفعة في بئر". (1)
وإن لم يقتسموا ولكن باع أحدهم حصته من العين، أو البئر خاصة، أو باع حظه من الأرض والعين جميعاً، ففي ذلك الشفعة، ويقسم شرب العين بالقِلد، وهو القدر.
_________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/454، 520) ، وعبد الرزاق في المصنف (8/88) ، والبيهقي في الكبرى (6/105) ، وانظر: بداية المجتهد (2/194) ، والتحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (2/217) ، والمحلي (9/83) ، والمدونة الكبرى (14/424) ، والفواكه الدواني (2/151) ، والتاج والإكليل (5/319) .(4/148)
وإن كان بينهما أرض ونخل فاقتسما النخل خاصة، فلا شفعة لأحدهما فيما باع الآخر من النخل، [لأن ما قسم عند مالك، فلا شفعة فيه] .
3643 - ومن باع نخلة في جنان رجل، فلا شفعة لرب الجنان فيها.
ومن اشترى شقصاً من أرض فزرعها، فللشفيع أخذها بالشفعة ولا كراء له، والزرع للزارعز
ولو غرسها المبتاع شجراً أو نخلاً، فإما أدى الشفيع قيمة ذلك قائماً مع ثمن الأرض، وإلا فلا شفعة له.
3644 - ومن ابتاع أرضاً فزرعها، ثم استحقها رجل، فلا شيء له في الزرع ولا كراء له، إلا أن يقوم في إبان الزراعة على ما [وصفنا] ، فيكون له كراء مثلها، وإن استحق نصف الأرض خاصة واستشفع، فله كراء ما استحق إن قام في إبان الزراعة على ما وصفنا، ولا كراء له فيما استشفع.(4/149)
ومن ابتاع أرضاً بزرعها الأخضر، فاستحق رجل نصف الأرض [خاصة] واستشفع، فالبيع في النصف المستحق باطل، ويبطل في نصف الزرع خاصة، لانفراده بالأرض، [لأنه صار بيع الزرع قبل بدو صلاحه] ، ويرد البائع نصف الثمن، ويصير له نصف الزرع وللمستحق نصف الأرض، ثم يبتدئ الشفيع بالخيار في نصف الأرض الباقي، فإن أحب، أخذه بالشفعة، ولم يكن له في نصف الزرع شفعة.
[قال ابن القاسم:] فإن لم يستشفع خُيّر المبتاع بين رد ما بقي في يديه من الصفقة وأخذ جميع الثمن، لأنه قد استحق من صفقته ما له بال وعليه فيه الضرر، وبين أن يتماسك بنصف الأرض ونصف الزرع، ويرجع بنصف الثمن.
3645 - ومن ابتاع أرضاً ذات زرع أخضر دون زرعها، ثم ابتاع الزرع في صفقة أخرى، أو ابتاع الجميع في صفقة ثم استحق رجل جميع الأرض خاصة، بطل البيع في الزرع لانفراده، وإنما أجيز بيعه أخضر مع أرضه في صفقة [واحدة] ، أو ابتياعه بعد ابتياعه الأرض، فيبقيه فيها ويحل محل البائع، ثم له بيع الأرض دون الزرع، ولا يبطل البيع في الزرع، لأن شراءه الأرض لم ينتقض، وفي الاستحقاق قد انتقض.(4/150)
وإذا كان بين قوم ثمر في شجرة قد أزهى، فباع أحدهم حصته منه قبل قسمته، والأصل لهم أو بأيديهم في مساقاة أو حبس، فاستحسن مالك لشركائه فيه الشفعة ما لم ييبس قبل قيام الشفيع، أو تباع وهي يابسة، وقال: ما علمت أن أحداً قاله قبلي.
وأما الزرع يبيع أحدهم حصته منه بعد يبسه فلا شفعة فيه، وهذا لا يباع حتى ييبس.
وكل ما بيع من سائر الثمار قبل يبسه مما فيه الشفعة، مثل التمر والعنب مما ييبس في شجره، فبيع بعد اليبس في شجره، فلا شفعة فيه كالزرع، كما لا جائحة فيه حينئذ ولا في زرع.
ومن ابتاع نخلاً لا تمر فيها، أو فيها تمر لم يؤبر، ثم استحق رجل نصفها(4/151)
واستشفع، فإن قام [المستحق] يوم البيع أخذ النصف بملكه والنصف بشفعته، بنصف الثمن، ورجع المبتاع على بائعه بنصف الثمن، وإن لم يقم حتى عمل فيها المبتاع، فأبرت وفيها الآن بلح أو فهيا ثمرة قد أزهت، ولم تيبس، فكما ذكرنا ويأخذ الأصل بثمره، و [يكون] عليه للمبتاع [قدر] قيمة ما سقى وعالج، فيما استحق واستشفع، وإن لم يستشفع، فذلك عليه يما استحق فقط، فإن أبى أن يغرم ذلك فيما استحق، فليس له أخذه وليرجع بالثمن إن شاء على البائع ويجيز البيع، فإن قام بعد يبس الثمرة أو جذاذها لم يكن له في الثمرة شفعة، وله أن يأخذ نصف الأصول بالشفعة بنصف الثمن، ولا يحط عنه للثمر شيء، إذ لم يقع عليها من الثمن يوم البيع حصة.
وقال بعض المدنيين: إذا قام الشفيع وقد أبرت النخل، فهي للمبتاع دونه، وأباه مالك وقال: وإذا ابتاع النخل والثمرة مأبورة أو مزهية فاشترطها، ثم استحق رجل نصفها واستشفع، فله نصف النخل ونصف الثمرة باستحقاقه، [يريد في هذا: وإن جزت] .(4/152)
[قال ابن القاسم:] وعليه للمبتاع في ذلك قيمة ما سقى وعالج، ويرجع المبتاع بنصف الثمن على بائعه، فإن شاء المستحق الشفعة في النصف الباقي، فذلك له ويكون له أخذ الثمرة بالشفعة مع الأصل ما لم تجذ أو تيبس، ويغرم قيمة العلاج أيضاً.
وإن قام بعد اليبس أو الجذاذ، فلا شفعة له في الثمرة، كما لو بيعت حينئذ، ويأخذ الأصل بالشفعة بحصته من الثمن بقيمته من قيمة الثمرة يوم الصفقة، لأن الثمرة وقع لها حصة من الثمن.
3646 - وأما من ابتاع نخلاً لا ثمر فيها، أو فيها ثمر قد أبر أو لم يؤبر، ثم فلس وفي النخل ثمرة قد حل بيعها، فالبائع أحق بالأصل والثمرة ما لم تجذ، إلا أن يعطيه الغرماء الثمن [بخلاف البيع.
3647 - ومن ابتاع أرضاً بزرعها الأخضر ثم قام شفيع بعد طيبه، فإنما له الشفعة في الأرض] دون الزرع بما ينوبها من الثمن بقيمتها من قيمة الزرع على غرره يوم الصفقة، لأن الزرع وقعت له حصة من الثمن في الصفقة، وليس كنخل بيعت وفيها ثمر لم يؤبر، ثم قام شفيع بعد يبس الثمرة، هذا لا شيء له من الثمرة، ولا ينقص لذلك من الثمن شيء، لأن الثمرة لم يقع لها حصة من الثمن، ولأن النخل إذا بيعت وفيها طلع لم يؤبر فاستثناه البائع، لم يجز استثناؤه، والأرض إذا بيعت وفيها زرع لم يبد صلاحه، كان الزرع للبائع فافترقا.(4/153)
ولو كانت الثمرة يوم البيع مأبورة وقام بعد يبسها لسقط عنه حصاصها من الثمن، فظهور الزرع من الأرض كإبار الثمرة في النخل في هذا، وفي أن ذلك للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فيصير له بالاشتراط حصة من الثمن، ولم يكن للشفيع في الزرع شفعة، لأنه غير ولادة، وليس له منه شيء، والثمرة ولادة وللشفيع نصفها، فإذا قام قبل يبسها كانت له الشفعة.
ومن ابتاع نخلاً لا ثمر فيها فاغتلها سنين، فلا شيء للشفيع إن قام من الغلة، ومن ابتاع ودياً صغاراً، ثم قام شفيع بعد أن صارت بواسق، فإنه يأخذها ويدفع إلى المبتاع قيمة ما عمل.
وفي كتاب المرابحة مسألة من ابتاع نخلاً فاغتلها، هل تباع مرابحة [أم لا] ؟.
3648 - وليس في رحا الماء شفعة، وليست من البناء، وهي كحجر ملقى، ولو بيعت(4/154)
معها الأرض أو البيت التي نصبت فيه ففيهما الشفعة دون الرحا بحصة ذلك، وسواء أجراها الماء أو الدواب. وفي الحمام الشفعة. (1)
ولا شفعة في بئر لا بياض لها، ولا نخل لها وإن سُقي بها زرع أو نخل، والنهر والعين مثلها، ولو أن لها أرضاً أو نخلاً لم تقسم، فباع [أحدهما] حصته من البئر أو العين خاصة، ففيه الشفعة، بخلاف بيعه [لمشاع] البئر بعد قسم الأصول أو الأرض.
3650 - ولا بأس بشراء شرب يوم، أو شهر، أو شهرين، يسقي به زرعه في أرضه دون شراء [أصل] العين.
قال مالك - رحمه الله -: فإن غار الماء فنقص قدر ثلث الشرب الذي ابتاع، وضع عنه كجوائح الثمار.
قال ابن القاسم: وأنا أرى أنه مثل ما أصاب الثمرة من قبل الماء فإنه، يوضع
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (4/424) ، والفواكه الدواني (2/151) ، والتاج والإكليل (5/320) .(4/155)
عنه إن نقص شربه ما عليه فيه ضرر بين، وإن كان أقل من الثلث، إلا ما قل مما لا خطب له، فلا يوضع لذلك شيء.
ومن ابتاع أرضاً ولم يذكر شجرها، فهي داخلة في البيع كبناء الدار، إلا أن يقول البائع: أبيعك الأرض بلا شجر، وأما إن كان فيها زرع، فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.
ولو تصدق بالشجر ولم يذكر الأرض، أو تصدق بالأرض ولم يذكر الشجر كانت الأرض داخلة مع الشجر في الصدقة.
ومن ابتاع أرضاً بعبد فاستحق نصف الأرض قبل تغير سوق العبد فله رد بقية الأرض وأخذ عبده، فإن شاء المستحق أن يأخذ بقيتها بالشفعة بنصف قيمة العبد فذلك له، وعهدته على المبتاع.
3651 - ومن ابتاع نخلاً ليقلعها ثم ابتاع الأرض فأقر النخل فيها، ثم استحق رجل نصف جميع ذلك، فله أ×ذ نصف النخل والأرض بنصف ثمنها، لا بالقيمة في أحدهما.(4/156)
وليس للمبتاع حجة في النخل أنه ابتاعها للقلع، فإن لم يستشفع خير المبتاع بين التماسك بما بقي أو رده.
3652 - وقال في باب بعد هذا، فيمن اشترى عرصة [بشقص] من دار فيها بنيان، على أن النقض لرب الدار، ثم اشترى بعد ذلك النقض، أو اشترى التقض أولاً، ثم اشترى العرصة بعد ذلك، فقام شفيع، فله أخذ العرصة والنقض جميعاً بشفعته يأخذ العرصة بالثمن، والنقض بقيمته قائماً.
[قال ابن القاسم:] ومن ابتاع نقض شقص شائع من رجل أو حصته من نخل على أن يقلع ذلك المبتاع وشريك البائع غائب، لم يجز، إذ لا يقدر هذا البائع على القلع إلا بعد القسم، وإذ لو شاء البائع أن يقاسم شريكه النخل خاصة ليقلعها، لم يكن ذلك له إلا مع الأرض.
3653 - ومن ابتاع نقض دار قائماً على أن يقلعه، ثم استحق رجل نصف الدار، فللمبتاع رد بقية النقض، ولا شفعة فيه للمستحق، لأنه بيع على القلع، ولم يبع الأرض، وأما إن استحق جميع الأرض دون النقض، أو كانت نخلاً بيعت(4/157)
للقلع فاستحق رجل الأرض دون النخل، كان البيع تاماً في النقض والنخل، وكان للمستحق أخذ ذلك من المبتاع [بقيمته مقلوعاً لا بالثمن، لأنه ليس بمعنى الشفعة، ولكن للضرر، وليس للمبتاع أن يمنعه من ذلك،] لأنه في امتناعه من ذلك مضار، فإن أبى المستحق من أخذ ذلك بقيمته، قيل للمبتاع: اقلعه.
وكذلك من غرس في أرض اكتراها فانقضت المدة.
3654 - ومن بنى أو غرس في أرض يظنها له فاستحقت، فعلى المستحق في هذه قيمة ذلك قائماً للشبهة فإن أبى دفع إليه الذي عمر قيمة أرضه، فإن أبيا كانا شريكين على القيم بخلاف المكتري، لأنه غرس إلى مدة.
ومن ابتاع عبداً فوهبه لرجل ثم استحق، قيل للمستحق: إن شئت فاتبع البائع بالثمن، وإلا فاطلب العبد، فإن وجدته أخذته، ولا شيء لك على الواهب.
3655 - ومن وهب شقصاً من دار لثواب، أو تصدق به على عوض، أو أوصى به على عوض، فهو بيع وفيه الشفعة، فإن سمى العوض فالشفعة بقيمة العوض إن كان مما له قيمة من العروض، أو بمثله في المقدار والصفة إن كان عيناً، أو طعاماً، أو إداماً، كانت الهبة بيد الواهب أو قد دفعها. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/437) .(4/158)
وإن وهبه على عوض يرجوه لم يسمه، فلا قيام للشفيع إلا بعد العوض، ولا يجبر الموهوب على ثواب إذا لم تتغير الهبة في بدن، وللواهب ردها إن لم يثبه الموهوب فإن أثابه مثل القيمة لزم الواهب، وإن أثابه أقل، لم يلزمه إلا أن يشاء، وله أخذ هبته، إلا أن تتغير في البدن، فلا يأخذها، ويقضى له على الموهوب [بقيمتها يوم قبضها، ويقال للشفيع: خذه الآن أو دع، إذا قضي على الموهوب] بالقيمة.
ولو أثابه بعد تغيرها أضعاف القيمة قبل قيام الشفيع، ثم قام، لم يأخذها الشفيع إلا بذلك، كالثمن الغالي، وإنما يهب الناس ليعاضوا أكثر، ومن أوصى أن يباع شقصه من فلان بكذا، فلم يقبل، فليس للشفيع أخذه بذلك.
وكذلك إن قال: اشهدوا أني بعت شقصي من فلان بكذا وكذا إن قبل فإن لم يقبل، فلا شفعة للشفيع، ومن باع شقصاً على خيار له أو للمبتاع، فلا شفعة فيه حتى يتم البيع.
3656 - ومن وهب شقصاً لغير ثواب، فعُوض فيه فقبل، فإن رأى أنه لصداقة أو صلة رحم، فلا شفعة فيه.
ومن عوض من صدقة وقال: ظننته يلزمني، فليرجع في العوض إن كان قائماً، فإن فات، فلا شيء له.(4/159)
ومن وهب شقصاً من دار لابنه الصغير على عوض، جاز وفيه الشفعة.
ولا تجوز محاباة في قبول الثواب، ولا ما وهب، أو أعتق، أو تصدق من مال ابنه الصغير، ويرد ذلك كله، إلا أن يكون الأب موسراً فيجوز ذلك على الابن [في العتق] ، ويضمن قيمته في ماله، ولا تجوز في الهبة وإن كان موسراً، وإنما يجوز بيع الأب مال ابنه [الصغير] على وجه النظر.
3657 - وهبة الوصي لشقص اليتيم، كبيع ربعه، لا يجوز ذلك إلا لنظر كثمن يرغبه فيه، [مثل] ملك يجاوره، أو ملي يصاقبه، وليس في غلته ما يكفيه، أو لوجه نظر، فيجوز، وفيه الشفعة، وهبة المكاتب والمأذون على عوض تجوز بلا محاباة، وفي ذلك الشفعة.(4/160)
3658 - ومن ابتاع شقصاً بخيار وله شفيع، فباع الشفيع شقصه قبل تمام الخيار بيعاً بتلاً فإن تم بيع الخيار، فالشفعة للمبتاع، وإن رُدّ، فهو لبائعه، ومن ابتاع شقصاً على خيار له فانهدم [قبل أن يختار] ، فله رده ولا شيء عليه، كما كان له الرد وهو قائم، ولا شفعة فيه حتى يتم البيع.
3659 - ومن نكح، أو خالع، أو صالح من دم عمد على شقص، ففيه الشفعة بقيمته، إذ لا ثمن معلوم لعوضه.
وإن أخذه من دم خطأ، ففيه الشفعة بالدية. فإن كانت العاقلة أهل إبل، أخذه بقيمة الإبل، أو أهل ورق أو ذهب، فبذهب أو ورق، ينجم ذلك على الشفيع كالتنجيم على العاقلة، الدية في ثلاثة أعوام: ثلثها في عام، وثلثاها في عامين، والنصف [قال مرة: يؤجل عامين، وقال] مرة: يجتهد فيه الإمام [على قدر ما يرى، ولم يحد فيه حداً.(4/161)
قال ابن القاسم:] ثم كذلك يؤجل به الشفيع، ويأول قوله - إن نصف الدية يقطع في عامين - أقول.
3660 - ومن اكترى إبلاً إلى مكة بشقص، ففيه الشفعة بمثل كراء الإبل إلى مكة، ولو آجر به أجيراً سنة فبقيمة الإجارة. ولو اكترى به داراً، فبقيمة كرائها.
ومن تمفل بنفس رجل فغاب، فصالح الطالب الكفيل على شقص، فجائز إن عرفا مبلغ الدين، وفيه الشفعة بمثل الدين، ويرجع الكفيل على المطلوب بالأقل من المال الذي عليه، أو قيمة الشقص. وإن لم يعرف كم الدين، فلا يجوز الصلح فيه.
3661 - ومن تكفل بنفس رجل ولم يذكر ما عليه، جاز، فإن غاب المطلوب، قيل للطالب: أثبت حقك ببينة وخذه من الكفيل، فإن لم تقم بينة وادعى أن له على المطلوب ألف درهم، فله أن يُحلِّف الكفيل على علمه، فإن نكل حلف الطالب واستحق.(4/162)
3662 - ومن صالح من قذف على شقص أو مال، لم يجز، ورد ولا شفعة فيه، بلغ الإمام أو لا، وللمقذوف أن يعفو ما لم يبلغ الإمام، فإذا بلغه أقيم الحد [إلا أن يريد ستراً] .
3663 - ومن قتل قتيلاً في حرابة، ثم أخذ قبل أن يتوب، لم يجز فيه عفو الأولياء وإن بلغوا الإمام، ولا صلح لهم على مال، وذلك مردود.
ومسألة الصلح من الموضحتين على شقص، مذكورة في كتاب الصلح.
3664 - والشفعة في الغياض والآجام إن كانت الأرض بينهما.
ومن ابتاع داراً فهدمها وبناها، ثم استحق رجل نصفها واستشفع، فإن دفع إليه في حصة الشفعة قيمة نصف بنيانه وإلا فلا شفعة له، ويقال له في النصف الذي استحق: ادفع إليه قيمة نصف بنيانه أيضاً، فإن أبى، قيل للآخر: ادفع إليه قيمة نصف الأرض بغير بنيان إن(4/163)
كان قد هدم جميع بنيانها أيضاً، فإن أبيا كانا شريكين بقيمة ما لكل واحد منهما.
قال مالك: ومن ابتاع داراً فاستحق رجل منها شقصاً، فله أن يأخذ بقية الدار بالشفعة، فإن اصطلحوا على أن يأخذ المستحق بالشفعة بيتاً ن الدار بما يصيبه من الثمن بعد تقويم جميع الدار، فذلك جائز. (1)
3665 - وليس لأحد المتفاوضين فيما باع الآخر شفعة، لأن بيع أحدهما يلزم صاحبه. قيل: فإن تفاوضا في الدور؟ قال: ما أعرف المفاوضة في الدور، فإن نزل ذلك فلا شفعة للآخر. وليس لرب المال أن يبيع شيئاً مما بيد العامل بغير أمره.
3666 - وإذا اشترى المقارض من المال شقصاً هو شفيعه، فله الشفعة، ولا يمنعه رب المال، ولو كان رب المال هو الشفيع، فله القيام أيضاً.
3667 - ولأم الولد والمكاتب الشفعة، وللعبد المأذون [الشفعة] ، وإن لم يكن مأذوناً فذلك لسيده، إن أحب أخذ الشفعة لعبده أو ترك، وإن سلّمها المأذون، فلا قيام
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/81) .(4/164)
لسيده، ولو أراد أخذها المأذون وسلمها السيد، فإن لم يكن العبد مدياناً، جاز تسليم السيد، [وإن كان مدياناً وله فيه فضل، فلا تسليم للسيد] ، ولو سلمها المكاتب لزمه ولا أخذ للسيد.
ولذات الزوج تسليم شفعتها ولها الشراء والبيع، ولا يمنعها الزوج من ذلك، ولا من أن تتجر، فإن حابت في الشراء والبيع، فذلك في ثلثها، فإن جاوزته، بطل جميعه إن لم يجزه الزوج، وليس لأحد رد محاباتها إذا لم تكن سفيهة في عقلها ولم يول عليها غير الزوج. وفي كتاب الكفالة [شيء] من هذا. وتورث الشفعة عن الميت.
3668 - ومن أعمر عمرى على عوض، لم يجز، ورُدّ ولا شفعة فيه، لأنه كراء فاسد،(4/165)
ويرد المعمر الدار [الذي أُعمرها] ، وإن استغلها رد غلتها، وعليه إجارة ما سكن، لأن ضمانها من ربها، ويأخذ عوضه.
ومن تصدق على رجل بدار على أن ينفق عليه حياته، فهذا بيع فاسد، والغلة للمتصدق عليه، لأنها في ضمانه، ويرجع بما أنفق ويرد الدار.
ولو هلكت الدار بيده بغرق أو غيره، ضمن قيمتها يوم قبضها، وتجوز الهبة غير مقسومة.
3669 - والشفعة في دور القرى، كهي في دور المدائن.
وإن أقر رجل أنه ابتاع هذا الشقص من فلان الغائب، فقام الشفيع، فلا يقضى له بالشفعة بإقرار هذا حتى تقوم بينة على الشراء، لأن الغائب إذا قدم فأنكر البيع [كان له] أن يأخذ داره ويرجع على مدعي الشراء إذا قدم بكراء ما سكن، وإذا قضى بها قاض للشفيع بإقرار [هذا] ، لم يرجع عليه الغائب بذلك، ولا على مدعي الشراء، فيبطل حق الغائب في الغلة [والدار] بلا بينة.(4/166)
3670 - ومن لا تجوز شهادته من القرابة لقريبه، فلا يجوز [له] أن يشهد له أن فلاناً وكله على شيء، ويجوز أن يشهد أنه وكل غيره.
وما لا تجوز فيه شهادة النساء من عتق، أو طلاق، أو قتل، فلا تجوز شهادتهن على الوكالة فيه. وتجوز شهادتهن في الأموال أو في الوكالة عليها.
وتجوز شهادتهن في الوكالة على أخذ الشفعة، أو تسليمها، أو على أنه شفيع، أو يشهدن على المبتاع أنه أقر بأن فلاناً شفيع هذه الدار، فذلك جائز، لأنه مال، فكل ما جازت فيه شهادتهن، جاز أن يشهدن على الوكالة فيه.
ولا تجوز تزكيتهن على حال للرجال ولا للنساء في شهادة مال ولا غيره.
3671 - ولا يأخذ الوصي للحمل بالشفعة حتى يولد ويستهل، إذ لا ميراث له حتى يولد ويستهل. وفي كتاب التجارة بأرض الحرب، ذكر العبد يسلم والزوجة والسيد والزوج غائب.
3672 - ومن بنى مسجداً على ظهر بيته، أو في أرضه على وجه الصدقة، والإباحة، أو حبس عرصة له، أو بيتاً في المساكين، أو على المسلمين، لم يجز له بيع ذلك.(4/167)
3673 - وإذا كان حائط بين رجلين فباع أحدهما حظه منه، فالشفعة [فيه] لشريكه، وإن ملكه أحدهما وللآخر فيه حمل خشب، فلا شفعة فيه لمن له الحمل. ومن له علو دار ولآخر سفلها فلا شفعة لأحدهما فيما باع الآخر منها. ولا شفعة في أرض العنوة ولا يجوز بيعها.
وأما أرض الصلح تباع، فإن كان على أن خراج الأرض باق على الذمي البائع، فجائز وفيه الشفعة إن شركه مسلم، فإن شرط الخراج على المبتاع المسلم، لم يجز، إذ بإسلام الذمي ينقطع الخراج عنه وعن الأرض، فهذا غرر مجهول.
3674 - ولا ينبغي لرجل أن يبيع أرضاً من رجل، على أن على المبتاع كل عام شيئاً يدفعه.
3675 - ومن اشترى أرضاً ونخلاً في صفقة، والأرض أرض النخل فاستُحق من النخل شيء [يسير] ، وضع عنه حصته من الثمن، ولزمه البيع في الباقي.(4/168)
وإن استُحق من النخل كثير، فله رد جميع ذلك، أو التماسك بما بقي في يديه، ويأخذ من الثمن بقدر ما استحق، وإن كانت الأرض على حدة، والنخل على حدة فابتاعهما في صفقة [واحدة] ، ثم استحق بعض النخل، فإن كان ما استحق منها وجه صفقته، وفيه رجاء الفضل، فله رد جميع ذلك، وإن لم يكن وجه الصفقة، كان له رد جميع النخل خاصة إن كان المستحق منها أكثرها، وإن كان تافهاً فإنما ينتقض من الصفقة [بقدر] حصة ذلك، ويرجع بما يصيبه من الثمن، وتصح بقية الصفقة.
وإن ابتاع دارين في صفقة، فاستحق بعض واحدة، وهي ليست بوجه ما اشترى، فإن كان ما استحق من هذه الدار تافهاً منها، رجع بحصته من الثمن فقط، وإن كان أكثر تلك الدار وهو ضرر، رد تلك الدار فقط بحصتها من الثمن، ولا يرد الأخرى، فإن كانت وجه الدارين فاستحق جلها أو ما فيه ضرر، رد الدارين بذلك، وإن استحق منها تافهاً لا ضرر فيه، رجع بحصته من ثمن الدارين فقط. (1)
3676 - ومن ادعى حقاً في دار بيد رجل فصالحه منه، فإن جهلاه جميعاً جاز ذلك.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/327) .(4/169)
وإن عرف المدعي دعواه منها فليسمه، فإن لم يسمه بطل الصلح ولا شفعة فيه، [لأن الصلح لا يجوز فيه المجهول] .
[وكذلك] الزوجة إذا صالحت الورثة على ميراثها، فإن عرفت هي وجميع الورثة مبلغ التركة، جاز الصلح، وإن لم يعرفوه، لم يجز.
وإن ادعيت سدس دار بيد رجل فأنكر، فصالحك منه على شقص من دار له أخرى دفعه إليك، فالشفعة في الشقص الذي دعوى فيه بقيمة المدعى فيه، لأن قابضه مقر أنه اشتراه، ودفع في ثمنه السدس المدعى فيه.
ولا شفعة في الشقص المدعى فيه، لأن قابضه يقول: إنما أخذت حقي وافتديته بما دفعت فيه، ولم أشتره.
3677 - ومن ادعيت عليه أنه قتل دابتك، فصالحك على شقص، ففيه الشفعة بقيمة الدابة، والقول قولك في قيمتها ولا تكلف صفتها، لأن مالكاً قال في الذي يشتري داراً بعرض فيفوت العرض: إن القول فيه قول المشتري، ويقال للشفيع: خذ بذلك أو دع، ولم يقل مالك: يقال له: صف، فإن ادعى في قيمة ذلك العرض ما لا يشبه، صدق الشفيع فيما يشبه.(4/170)
3678 - قيل: فما وُهِب للقيط أو تُصدق به عليه، أيكون الذي [هو] في حجره قابضاً له ولم يجعله له السلطان ناظراً ولا وصياً؟ قال: نعم، لأن مالكاً قال: من تصدق على غائب بصدقة ودفعها إلى أجنبي ليحوزها له والغائب غير عالم بالصدقة، إن ذلك جائز.
3679 - ومن غصب عبداً فابتاع [به] شقصاً، فلا قيام للشفيع ما دام العبد لم يفت، فإن فات فوتاً يجب به على الغاصب قيمته فللشفيع الأخذ بقيمة العبد يوم اشترى به الدار.
3680 - ولو غصب ألف درهم، فابتاع بها شقصاً، فالشراء جائز، وللشفيع الشفعة مكانه وعلى الغاصب مثلها، وإن وجدها المغصوب منه بعينها بيد البائع وأقام عليها بينة أخذها ورجع البائع على المبتاع بمثلها، والبيع تام. (1)
3681 - وإذا ادعى المبتاع أنه بنى في الدار [بناءً] ، فأكذبه الشفيع، فالمبتاع مدع، وعليه البينة.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (4/326) .(4/171)
والموهوب له الشقص والمتصدق به عليه يقول له الشفيع: أخاف أنك ابتعته منه أو عاوضته فيه سراً، وأردتما قطع الشفعة بما أظهرتما، فاحلف، فإن كان ممن يتهم أحلفه وإلا لم يحلفه.
3682 - وإذا كانت دار بين رجلين بنصفين، فباع أحدهما نصفاً منها بعينه قبل القسم بغير أمر شريكه، ثم قدم الشرك، فله نصف المبيع، إما أجاز بيعه وإلا أخذ منه حصته وأخذ باقيه بشفعته إن شاء، ودفع نصف الثمن إلى المشتري، ويرجع المشتري بنصف الثمن الباقي إن شاء على البائع، ثم يقاسم الشفيع شريكه النصف الباقي إن شاء، قيل: فلم لا يقاسم هذا الذي لم يبع شريكه الذي باع، فإن وقع النصف المبيع في حصة بائعه مضى عليه؟ قال: لا، ولكن يفعل كما ذكرنا.
والنخلة بين الرجلين يبيع أحدهما حصته منها، فلا شفعة لصاحبه فيها.(4/172)
3683 - ومن تزوج امرأة على امرأة له أخرى، فحلف للأولى بطلاق الثانية إن آثر الثانية عليها، ثم طلق الأولى، فإن الثانية تطلق عليه، لأنه لما طلق الأولى فقد آثر الثانية عليها.
3684 - وقال مالك في دار بين رجلين، حبس أحدهما نصيبه على رجل، وولده [وولد ولده] ، فباع شريكه في الدار نصيبه، فليس للذي حبس ولا للمحبس عليهم أخذه بالشفعة، إلا أن يأخذه المحبس فيجعله في مثل ما جعل نصيبه الأول.
* * *(4/173)
(كتاب القَسْم) (1)
3685 - قال مالك: ومن باع من رجل مورثه من هذه الدار، فإن عرفا مبلغه جاز وإن لم يسمياه، وإن جهله أحدهما أو كلاهما، لم يجز. وإن تصدق بذلك أو وهبه، جاز وإن لم يسمه.
3686 - وإن ورث رجلان دارين، فباع كل واحد منهما من صاحبه نصيبه في إحداهما بنصيب الآخر في الأخرى، فإن عرف كل واحد نصيبه ما هو من نصيب صاحبه، جاز وإن لم يسمياه.
وكذلك إن رضيا بأن يأخذ أحدهما بمورثه نصف إحدى الدارين وثلث الأخرى، ويسلم بقيتهما لصاحبه، فإن جهل أحدهما مبلغ
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/87) .(4/175)
حقه منهما، لم يجز، كما لا يجوز صلح الزوجة على مورث لها في دار لا تعلم مبلغه.
3687 - ولو أن داراً بين ثلاثة رجال رضوا بأن يأخذ أحدهم بيتاً من الدار على أن يكون للآخرين بقية الدار، جاز ذلك، وإنما لا يجمع بين رجلين في القسم بالسهم، ومن اشترى من رجل ممراً في داره من غير أن يشتري من رقبة البنيان شيئاً، [جاز ذلك] .
3688 - وإن اقتسم رجلان داراً بينهما، فأخذ هذا طائفة وهذا طائفة، على أن الطريق لأحدهما وللآخر فيه الممر، أو اقتسماها على أن يأخذ أحدهما الغرف والآخر السّفل، أو على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة من الدار، فذلك كله جائز ولهما لازم، ولا رجوع لأحدهما وإن لم تنصَّب الحدود، لأن هذا بيع من البيوع.(4/176)
وإذا كان بين قوم دور أو قرى، أو حوائط، أو أقرحة - وهي الفدادين - فشاء بعضهم جمع كل صنف من ذلك في القسم ليجتمع له حظه في موضع، وقال آخرون: بل نقسم كل دار أو حائط أو قريح على حدة، فإن كانت الدور في النفاق والرغبة في مواضعها والتشاح فيها سواء وكان بعضها قريباً من بعض، جمعت في القسم، وإن اختلفت مواضعها قسمت كل دار على حدتها، إلا أن تتفق [داران منها أو ثلاث في الصفة والنفاق لا في مواضعها، فتجمع المتفقة] في القسم، ويقسم باقيها كل دار على حدة.
وكذلك الداران في المصر، فواحدة بناحية منه وأخرى بناحية [أخرى] ، فإن تساوى الموضعان في الرغبة والتشاح، جمعا في القسم، وإن اختلفا أو كان بين الدارين مسيرة يوم أو يومين وتساوى الموضعان في الرغبة [والتشاح] والنفاق، لم يجمعا في القسم.
3689 - وإذا تشاح الورثة في دار من دور الميت كانوا يسكنونها، فأراد كل وارث أخذ حظه منها، وترك الميت [دوراً] غيرها [بالبلد، ودوره في المواضع](4/177)
والتشاح فيها سواء، وهذه [الدار] في موضع غير موضع بقية دوره، [فلتقسم هذه الدار بينهم وحدها، فيأخذ كل واحد منهم نصيبه فيها، ثم يجمع في القسم بقية دوره] المتفقة في النفاق والتشاح على مواضعها، وبعضها قريب من بعض.
3690 - قال: وأما القرى والأرضون فما تقارب [منها] في أماكنه وتساوى في كرمه من قرى كثيرة، أو حوائط، أو أقرحة، جمع في القسم. والمِيْل وشبهه بين ذلك، قريب.
3691 - وإن تباعد ما بين كل قرية، أو حائط، أو قريح، فكان بينهم مثل اليوم واليومين، لم يجمع في القسم، وإن اتفقت في الكرم والنفاق، وتقسم كل قرية [أو حائط] أو قريح على حدة، وإن تقاربت الأماكن واختلف النفاق، لم تجمع.(4/178)
وإن كانت قرية ذات دور، وأرض بيضاء وشجر، فليقتسموا الدور والأرض على ما وصفنا، وأما الأشجار فإن كانت مختلفة، مثل: تفاح ورمان وأُترج وغيرها، وكلها في جنان واحد، فإنه يقسم كله مجتمعاً بالقيمة، كالحائط يكون في البرني، والصيحاني، والجعرور، وأصناف التمر، فإنه يقسم على القيمة ويجمع لكل واحد حظه من الحائط في موضع.
وإن كان كل صنف من تفاح ورمان وغيره في جنان على حدة، قسم بينهم كل جنان على حدة، بالقيمة إن انقسم.
3692 - وإذا ورث قوم أراضي وعيوناً كثيرة، فأراد أحدهم قسمة [كل عين وأرض] ، وأراد غيره اجتمع حصته من ذلك، فإن استوت الأرض في الكرم وتقاربت أماكنها، واستوت العيون في سقيها الأرض، جُمعت في القسم، وإن اختلفت الأرض في الكرم، والعيون في الغور، قسمت كل أرض وعيونها على حدة.
وإن ورثوا أرضاً فيها شجر متفرقة، فليقتسموا الأرض والشجر جميعاً. ولو أفردنا قسمة الأصول، وقعت أصول الرجل في أرض غيره.(4/179)
وإن ورثوا قرية على أجزاء مختلفة، ولها ماء ومجرى ماء، ورثوا أرضها وماءها وشجرها وشربها، قسمت الأرض بينهم على قدر مواريثهم منها، ولا يقسم [مجرى] الماء، ويكون لهم من الماء على قدر مواريثهم [منه] .
3693 - وكل شركاء في قلد [من الأقلاد] يبيع أحدهم نصيبه منه، فشركاؤه دِنْية أحق به بالشفعة دون [سائر] شركائهم في الماء، والدنية: هم أهل وراثة يتوارثون [بالشفعة] دون شركائهم، وإن قسموا الأرض خاصة ثم باع أحدهم حظه من الماء، فلا شفعة فيه. وقد تقدم هذا في الشفعة.(4/180)
قيل: [فمن] ادعى في دار بيد غائب أنه وارثها مع الغائب، أو أنها لأبيه لا حق للغائب فيها، وأقام بينة؟ قال: سمعت من يذكر عن مالك أنه لا يقضى على الغائب في الدور.
قال ابن القاسم: وهو رأيي إلا في البعيد الغيبة، مثل: الأندلس أو طنجة، وما بَعُد فليقض عليه السلطان. وإن كانت الغيبة [قريبة] مثل ما يسافر الناس إليه ويقدمون مما ليس بالمنقطع بالغيبة] ، فليكتب إليه الإمام فليوكل أو يَقْدُم. ولا يقيم الإمام لغائب أو طفل وكيلاً يقوم بحجته. (1)
3694 - وإذا ورث قوم [أرضاً و] شجراً ونخلاً، وفيها ثمر [وزرع] ، فلا يقسموا الثمر مع الأصل، وإن كان الثمر بلحاً أو طلعاً، ولا يقسم الزرع مع الأرض، ولكن تقسم الأرض والأصول، ويترك الثمر والزرع حتى يحل بيعهما، فيقسموا
_________
(1) انظر: منح الجليل (7/373) .(4/181)
ذلك حينئذ كيلاً، أو يبيعوه ويقتسموا ثمنه على فرائض الله، ولا يقسم الزرع [الذي طاب] فدادين ولا مذارعة ولا قتاً، ولكن كيلاً، ويدخل في قسم الزرع مع الأرض طعام وأرض بطعام وأرض. وإنما يجوز بيع الزرع مع الأرض بعين أو عرض لا بطعام، كان الزرع أقل من ثلث قيمة الأرض أو أكثر.
3695 - وأما ثمر النخل والعنب فإنه إذا طاب وحل بيعه واحتاجوا إلى قسمته، فإن كانت حاجتهم إليه واحدة، مثل أن يريدوا كلهم أكله أو بيعه رطباً، فلا يقسم بالخرص ولكن كيلاً، وإن اختلفت حاجتهم [إليه] : فأراد بعضهم بيعه، و [أراد] آخر أكله رطباً، وآخر تَيْبيسه، قُسّم بينهم بالخرص إن وجدوا من يعرف الخرص، وعلى كل واحد سقي نخله وإن كان ثمرها لغيره، إذا كانوا قد اقتسموا الأصل قبل الثمرة، لأن على صاحب الأصل سقيه إذا باع ثمرته، وإن لم يطب ثمر النخل والعنب، فلا يقسم بالخرص، ولكن يجذونه فيقسمونه كيلاً.(4/182)
3696 - قال ابن القاسم: ولا يقسم البقل القائم بالخرص، وليقسم ثمنه، ولا يقسم شيء مما في رؤوس الشجر من الفواكه والثمار بالخرص، وإن اختلفت فيه الحاجة، إلا في النخل والعنب إذا حل بيعهما واختلفت حاجة أهلهما كما ذكرنا، لأن أمر الناس إنما مضى على الخرص فيهما خاصة. وسألت مالكاً عما روي عنه من إجازة ذلك في غيرهما من الفواكه،(4/183)
[فقال: لا أرى ذلك، ثم سألته غير مرة فأبى أن يرخص لي فيه] .
ولا خير في بيع فدان كراث بفداني كراث، أو سريس، أو خس، أو سلق، إلا أن يجذ الجميع قبل التفرق.
وكذلك لا خير في بيع ثمرة قد طابت في رؤوس النخل، بثمرة مخالفة لها يابسة، أو هي في شجرها مزهية، إلا أن يجذا ما في الشجر من ذلك قبل أن يتفرقا.
وإن جذ أحدهما وتفرقا قبل أن يجذ الآخر، لم يجز، وكذلك لو اشترى ما في رؤوس النخل بحنطة، فدفعها وتفرقا قبل الجذاذ، [لم يجز] .
3696 - ومن باع حائط نخل بمثله ولا ثمر فيهما، أو في أحدهما ثمر مزه أو غير مزه ولا شيء في الآخر، فذلك جائز، وإن كان فيهما طلع قد أُبر، أو بلح، أو تمر قد أزهى، أو رطب، فلا خير في أن يشترط كل واحد ثمرة صاحبه مع أصلها، فإن(4/184)
تبايعا الأصلين دون ثمرتهما واشترط أحدهما ثمرة الآخر ولم يشترط الآخر شيئاً، جاز ذلك فيهما [إذا كانت ثمرتاهما مأبورة] ، وإن لم تؤبر لم يجز التبادل فيهما بحال، لأن الثمرة إن استثناها بائعها، لم يجز، وإن لم يستثنها وبقيت تبعاً دخله التأخير في بيع الطعامين. وإن أبرت ثمرة أحدهما ولم تؤبر ثمرة الآخر، جاز أن يبيع أحدهما لصاحبه إن بقيت المأبورة خاصة لربها، وإن اشترطها الذي لم تؤبر ثمرته، لم يجز.
وأصل ما كره مالك من هذا أن النخل إذا كان فيها بلح، أو طلع، أو رطب، أو تمر، لم يصلح بيعها بما في رؤوسها بشيء من الطعام، إلا أن يجذ ذلك ويتقابضا قبل التفرق، فيجوز إذا كان الطعام مخالفاً لثمر النخل. ويجوز بيعها مع ثمرها بعين أو عرض.
3697 - ولا بأس بقسمة الزرع قبل أن يبدو صلاحه بالتحري، على أن يجذاه مكانهما إن كان يستطاع أن يعدل بينهما في قسمته تحرياً، وكذلك القضب والتين.
وإن ترك الزرع حتى صار حباً انتقض القسم، وقسما ذلك كله كيلاً، وإن(4/185)
حصد أحدهما حصته، وترك الآخر [حصته] حتى تحبب الزرع، انتقض القسم، إذ لا يجوز بيع ذلك على أن يترك إلى طيبه، وليرد الذي حصد قيمة ما حصد.
[قال ابن القاسم:] فتكون تلك القيمة مع الزرع القائم بينهما، لأن القسمة ههنا بيع من البيوع.
والبلح الكبير إن اختلفت حاجتهما فيه في أن يأكل هذا بلحاً، ويبيع الآخر بلحاً، جاز قسمه بالخرص، وهو كالبسر في تحريم التفاضل فيه.
ومن عرف ما صار له منه، فهو قبض فيه وإن لم يجذه، وإن جذه بعد يوم أو يومين، أو ثلاثة، أو أكثر من ذلك، جاز ما لم يتركه حتى يُزهي، فإن ترك أحدهما حصته أو تركاه جميعاً حتى أزهى، بطل القسم، إذ لا يجوز بيع ذلك على أن يترك حتى يزهي.
3698 - وأما الذين يقتسمون الرطب بالخرص لاختلاف حاجتهم، فللذي يأكل رطباً أن يجذ كل يوم حاجته منه، وإن تركاه أو أحدهما حتى أتمر، لم يبطل القسم، وكذلك في بيعه.
ولا بأس بقسمة البسر أو الرطب - بعد أن يجذ - كيلاً، وإن كان يختلف نقصانه إذا يبس، فلا يضره ذلك.
ولا بأس بقسمة البلح الصغير بالتحري، على أن يجذاه مكانهما إذا اجتهدا(4/186)
حتى يخرجا من وجه الخطر، وإن لم تختلف حاجتهما إليه، وإن اقتسماه وفضل أحدهما صاحبه بأمر يعرف فضله، جاز ذلك، كما يجوز [التفاضل] في البلح الصغير، بلح نخلة ببلح نخلتين على أن يجذاه مكانهما، وإنما هو بمنزلة البقل والعلف.
وإن تركاه حتى صار بلحاً كبيراً، فإن كان اقتسماه على تفاضل انتقض القسم، وإن اقتسماه على تساو وكان إذا كبر تفاضل [في] الكيل انتقض أيضاً، وإلا لم ينتقض إلا أن يزهي قبل أن يجذاه، أو قبل أن يجذ أحدهما، أو يكونا قد جذا إلا أن أحدهما [قد] بقي له شيء في رؤوس النخل حتى أزهى، فإن أكل أحدهما جميع ما صار له، وأكل الآخر نصف حظه وبقي نصفه حتى أزهى، بطل القسم فيما أزهى ورد الآكل قيمة جميع حظه مع نصف قيمة ما جذ [صاحبه] ، فيقتسمان ذلك مع ما أزهى.
3699 -[قال ابن القاسم:] ولا يجوز قسم اللبن في الضروع، لأن هذا مخاطرة، وأما إن فضل أحدهما الآخر بأمر بيّن على المعروف، وكانا إن هلك ما بيد هذا من(4/187)
الغنم رجع فيما بيد صاحبه، فذلك جائز، لأن أحدهما ترك للآخر فضلاً بغير معنى القسم. (1)
3700 - قال ابن القاسم: ولا بأس بقسمة الصوف على ظهور الغنم إن جزّاه الآن، أو إلى أيام قريبة يجوز بيعه إليها، ولا يجوز ما بَعُد.
ويقسم العبيد إذا انقسموا وإن أبى ذلك بعضهم.
3701 - ويجمع في القسم البز كله، من ديباج، [وحرير،] وخز، وثياب كتان، ويجمع مع ذلك ثياب الصوف والأبرية إذا لم يكن في كل صنف من ذلك ما يحمل القسم في انفراده، وإن كان في كل صنف من ذلك ما يحمل القسم في انفراده، قسم منفرداً.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/343) ، والمدونة الكبرى (14/472) .(4/188)
وقال في باب آخر بعد هذا: فيمن ترك ثياب خز، وحرير، وقطن، وكتان، وجباب، وأكسية، أيقسم كل نوع على حدة، أم يجعل ذلك كله في القسم كنوع واحد؟ قال: أرى أن يجعل ذلك كله في القسم كنوع واحد، فيقسم على القيمة، كما يجمع الرقيق وفيها: صغير، وكبير، ودني، وفاره.
وكذلك تقسم الإبل وفيها أصناف، والبقر وفيها أصناف.
ولو ترك قُمصاً وجباباً وأردية وسراويلات، جمع ذلك كله في القسم على القيمة، ولا يجمع مع الأمتعة والثياب، بسط أو وسائد.
قال ابن القاسم: ولا يجمع في القسم بالسهاد الخيل، والبغال، والحمير، والبراذين، ولكن يقسم كل صنف على حدة، فالخيل والبراذين صنف، والحمير صنف، والبغال صنف، والجذع يكون بين الرجلين، والثوب الواحد والثوب الملفق قطعتين من العدني وغيره، والباب، والمصراعان، والخفان، والنعلان، والرحا، لا يقسم شيء من ذلك إلا بالتراضي، والساعدان، والساقان، والفص،(4/189)
والياقوتة، واللؤلؤة، والخاتم، هذا كله لا يقسم، فإن اجتمع من كل صنف من ذلك عدد يحمله القسم، قسم كل صنف على حدة، ولا يجمع من ذلك صنفان في القسم، والغرارتان إن لم تكن في قسمتهما فساد، قسمتا، وإلا لم تقسما.
والحبل والخرج إذا أبى أحدهما قسمته لم يقسم.
والمحمل إذا كان في قسمته ضرر ونقص ثمن، لم يقسم، إلا أن يجتمعا على ذلك. وتقسم الجبنة وإن أبى أحدهم كالطعام.
3702 - ومن هلك وترك عروضاً حاضرة وديوناً على رجال شتى، فاقتسم الورثة، فأخذ أحدهم العروض، وأخذ آخر الديون على أن يتبع الغرماء، فإن كان الغرماء حضوراً [مقرين] وجمع بينه وبينهم، جاز، وإن كانوا غُيّباً، لم يجز، إذ لا يجوز شراء دين على غريم غائب.
وإن ترك ديوناً على رجال، لم يجز للورثة أن يقتسموا الرجال فتصير ذمة بذمة، وليقتسموا ما على كل واحد.(4/190)
3703 - وإذا ادعى أحد الشركاء بعد القسم غلطاً، مضى القسم ويحلف المنكر، إلا أن تقوم للمدعي بينة، أو يتفاحش الغلط فينقض، كمن باع ثوباً مرابحة ثم ادعى وهماً، فلا يقبل منه إلا ببينة، أو يأتي من رقم الثوب ما يدل على الغلط فيصدق مع يمينه، وكذلك في القسم، ولو قسما عشرة أثواب فأخذ هذا ستة وهذا أربعة، ثم ادعى صاحب الأربعة ثوباً من الستة في قسمه، لم ينتقض القسم إذا شبه قسم الناس، وحلف حائز الستة، وكذلك إن أقاما جميعاً البينة فتكافأت، وكذلك الغنم.
وليس هذا كمن باع عشرة أثواب من رجل فقبضها المبتاع ثم قال البائع: لم أبع إلا تسعة وغلطت بالعاشر، وقال المبتاع: بل اشتريت العشرة، هذا إذا كانت الثياب قائمة انتقض البيع فيها بعد أيمانها بخلاف القسم.
3704 - ولو اقتسما داراً فتداعيا بيتاً منها، وليس ذلك البيت بيد أحدهما، تحالفا وتفاسخا، ومن حاز البيت وأقام بينة، صدق.
ومن لزمته منهما لصاحبه يمين فنكل، لم يقض لصاحبه حتى يرد اليمين عليه.
ولو قال كل واحد [منهما] : حد الساحة من ههنا، ودفع إلى جانب(4/191)
صاحبه، فإن كانا اقتسما البيوت على حدة [والساحة على حدة] ، تحالفا إن لم تكن بينهما بينة، وفسخ قسم الساحة وحدها. ولو جمعاهما في القسم تراضياً بذلك، فسخ الجميع إذا حلفا.
وإن قسما أرضاً على أن لا طريق لأحدهما على الآخر، وهو لا يجد طريقاً إلا عليه، لم يجز بالقسم] ، وليس هذا من قسم المسلمين.
3705 - وإذا انقلعت نخلة لك في أرض رجل من الربح، أو قلعتها أنت، فلك أن تغرس مكانها نخلة أو شجرة من سائر الشجر، تعلم أنها لا تكون أكثر انتشاراً ولا أكثر ضرراً في الأرض من النخلة [الأولى] ، ولا تغرس مكانها نخلتين، وإن كانت لك في أرض رجل نخلة، فليس له منعك من الدخول إليها، لإصلاحها ولجذاذها، أنت ومن يلي ذلك لك، وإن كانت أرضه مزروعة، فلك السلوك فيها من غير ضرر له مع من يجذها لك. (1)
وليس لك أن تجمع لذلك نفراً يطؤون زرعه، ولو كان لك في وسط أرضه المزروعة أرض لك فيها رعي، لم يكن لك السلوك بماشيتك فيها إليه لترعاها، ولك الدخول لاحتشاشه.
وإذا كان لك نهر ممرُّه في أرض قوم، فليس لك منعهم أن يغرسوا في حافتيه
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/101) .(4/192)
شجراً، فإذا كنست نهرك حملت على سنّة البلد في طرح الكناسة، فإن كان الطرح بضفتيه، لم تطرح ذلك على شجرهم إن أصبت دونها من ضفتيه متسعاً، فإن لم يكن فبين الشجر، فإن ضاق عن ذلك طرحت فوق شجرهم إذا كان سنة بلدهم طرح طين النهر على حافتيه.
3706 - ومن هلك وعليه دين وترك داراً بيع منها بقدر الدين، ثم قسَّم الورثة باقيها، إلا أن يخرج الورثة الدين من أموالهم، فتبقى لهم الدار فيقتسمونها، وإن هلك وعليه دين وترك دوراً ورقيقاً، وصاحب الدين غائب، فجهل الورثة أن الدين قبل القسمة، أو لم يعلموا بالدين، فاقتسموا ميراثه، ثم علموا بالدين، فالقسمة ترد حتى يُوفى الدين إن كان ما اقتسموا قائماً، فإن أتلف بعضهم حظه وبقي حظ بعضهم بيده، فلرب الدين أخذ دينه مما بيده، فإن كان دينه أقل مما بيده، أخذ قدر دينه وضم ما [بقي] بيد هذا الوارث بعد الدين إلى ما أتلف بقية الورثة، فكان هو التركة، فما بقي بيد الغارم كان له، ويتبع جميع الورثة بتمام مورثه من مال الميت بعد الدين إن بقي له شيء.
ويضمن كل وارث ما أكل أو استهلك مما أخذ، وما باع فعليه ثمنه لا قيمته إن لم يجاب.(4/193)
قال مالك: وما مات بأيديهم من حيوان أو هلك بأمر من الله عز وجل من عرض أو غيره، فلا ضمان على من هلك ذلك بيده، وضمانه من جميعهم. [قال] ابن القاسم: لأن القسمة كانت بينهم باطلة، للدين الذي على الميت.
وإذا جُني على الرقيق بعد القسم قبل لحوق الدين، فإن جميعهم يتبع الجاني لانتقاض القسم بلحوق الدين.
وإذا قسم القاضي بينهم، لم يأخذ منهم كفيلاً بما لحق من دين.
فإن قسم القاضي بينهم ثم طرأ دين، انتقضت القسمة، كقسمتهم بغير أمر القاضي وهم رجال.
وإذا أقر أحد الورثة بعد القسمة بدين على الميت، فإن كان عدلاً حلف الطالب معه واستحق، فإن قال الورثة: إنما أقر لينقض القسم، قيل لهم: فادفعوا أنتم وهو الدين، ويتم القسم، وإلا أبطلنا القسم وأعطينا هذا دينه وقسمنا بينكم ما بقي. فإن أخرجوا مَنابَتَهم من الدين وأبى المقر إلا نقض القسم قيل له: إما أخرجت منابتك من الدين، وإلا بعنا عليك فيه ما صار لك بالقسم.(4/194)
ولو أقر قبل القسم وحلف معه الطالب، لم يجز لهم أن يقتسموا حتى يأخذ رب الدين دينه.
وإذا طرأ [على الورثة] وارث أو موصى له بالثلث بعد القسم، والتركة عين أو عرض، فإنما يتبع كل وارث بقدر ما صار إليه من حقه إن قدر على قسم ما بيده من ذلك.
ولا [يكون لهذا الوارث الذي طرأ على ورثة الميت أن] يتبع المليئ منهم بما على المعدم، وليس كغريم طرأ على ورثة، ولكن كغريم طرأ على غرماء وقد قسموا مال الميت أجمع وأَعْدَم بعضهم، فلا يتبع المليئ إلا بما عنده من حصته في الحصاص. وهذا مذكور في كتاب المديان.
وإن كانت التركة دوراً ليس فيها عين، فاقتسمها الورثة، ثم قدم وارث أو موصى له بالثلث، نقض القسم، كانوا قد جمعوا الدور في القسم أو قسموا كل دار على حدة.
ولو قدم موصى له بدنانير أو دراهم يحملها الثلث، كان كلحوق الدين، إما أدّوه أو نقض القسم، ولا يجبرون على أدائه من أموالهم، ومال الميت قائم، وما هلك بأيديهم مما أخذوه من مال الميت بغير سببهم، لم يضمنوه.(4/195)
ولو طاع أكثرهم بأداء الوصية أو الدين، وأبى أحدهم، وقال: انقضوا القسم وبيعوا لذلك واقسموا ما بقي، فذلك له، وهذا إذا كان ما في يد الذي أبى قد تغير بانهدام مساكن، أو بحوالة سوق الحيوان، أو بنقص دخلها في أبدانها.
فأما إذا مات ما أخذ من [الحيوان و] الرقيق، أو صارت المساكن خرباً، أو نحو هذا من التلف، فلا يرجع عليه بشيء من قبل الدين.
ولا يرجع هو على من قاسمه بشيء، ويقال للذين بقوا: إما أديتم جميع الدين وتبقى قسمتكم بحالها، وإلا نقض القسم بينكم وأديتم الدين مما [بقي] في أيديكم خاصة.
ولو دعوا إلى نقض القسم إلا واحداً قال: أنا أؤدي جميع الدين، والوصية عيناً كانت أو طعاماً، ولا أتبعكم بشيء ولا تنقضوا القسم، لرغبته في حظه، وقد قسموا ربعاً أو حيواناً، فذلك له.
3707 - وإذا ورث قوم نصف دار والشريك غائب، فأحبوا القسم، فالقاضي يلي ذلك على الغائب ويعزل حظه، وكذلك هذا في الرقيق وجميع الأشياء.(4/196)
وإنما يتوقف في الحكم على الغائب ويستأنى إذا ادعي في ربعه، وكذلك إن كان الشريك حاضراً وغاب بعض الورثة فقام الحاضرون، أو قام موصى له بالثلث والورثة غياب، فطلب القائم القسم، فالقاضي يلي ذلك ويوكل من يقسم بينهم، ويعزل نصيب الغائب، فإن رفعوا ذلك إلى صاحب الشرطة، فسمع منهم وقسم بينهم، لم يجز ذلك إلا بأمر القاضي.
3708 - ولا تقسم أصناف مختلفة بالسهم، مثل أن يجعلوا [[البقر حظاً] ، والعروض، حظاً و] الدور حظاً، والرقيق حظاً، ويستهموا، وإن اتفق قيم ذلك، لأنه خطر، وإنما تقسم هذه الأشياء كل نوع على حدة، [والبقر على] [حدة،] والغنم على حدة، والعروض على حدة، إلا أن يتراضوا على شيء بغير سهم، [فيجوز] .
وكذلك لا يجوز أن يجعلوا دنانير ناحية، وما قيمته مثلها ناحية من ربع أو عرض أو حيوان، ويقترعون. وأما بالتراضي بغير قرعة، فجائز. (1)
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/337) .(4/197)
وأما داران في موضع [واحد] وإن تفاضلتا في البناء، كواحدة جديدة وأخرى قديمة، أو دار بعضها رثيث وباقيها جديد، فذلك يجمع في القسم، لأنه صنف واحد، منه جيد ودون بالقيم، كقسمة الرقيق على تباينها.
وكل صنف لا بد من ذلك فيه، فإن كان كل صنف من ذلك لا يحمله القسم، بيع عليهم الجميع، إلا أن يتراضوا على شيء بغير سهم، فيجوز.
3709 - ومن هلك وترك متاعاً وحلياً، قسم المتاع بين الورثة بالقيمة، والحلي بالوزن، فإن قال أحدهم: أعطوني حظكم من الحلي بوزنه ذهباً يداً بيد، فرضوا، جاز ذلك.
وإذا كان في الحلي جوهر لا يبين منه، فإن كانت الفضة أو الذهب فيه قدر الثلث فأدنى، أو كانت سيوفاً محلاة كذلك، حلية كل سيف منها الثلث فأدنى، جاز قسم ذلك بالقيمة كالعروض، إذ يجوز بيع السيف فضته الثلث فأقل بفضة نقداً، أقل مما فيه أو أكثر. [ويجوز أن يباع](4/198)
بفضة وعرض، أو بسيف فضته أكثر من الثلث أو أدنى، وكذلك القسمة.
فأما إن كان فضة كل سيف أكثر من الثلث، لم يجز قسمتها بالقيمة، وكذلك الحلي، 3710 - وإذا قسم القاسم بين قوم فلم يرض أحدهم بما أخرج السهم له أو لغيره، وقال: لم أظن هذا يخرج لي، فقد لزمه، وقسم القاسم ماض، كان في ربع أو حيوان أو غيره.
وكذلك إن قالوا له: غلطت، أو لم تعدل، مضت قسمته ونظر الإمام في ذلك، فإن كان قد عدل في القسمة أمضاه، وإلا رده، ولم ير مالك قسمة القاسم بمنزلة حكم القاضي.
ولا يجوز لأجنبي أن يشتري [من] أحدهم ما يخرج له بالسهم من الثياب، إذ لا شركة له فيها، وإنما جاز ما أخرج السهم في تمييز حظ الشريك خاصة، لأن القسمة عند مالك بالقرعة ليست من البيوع.(4/199)
والقسمة تفارق البيوع في بعض الحالات، وإذا دعا أحد الشريكين إلى قسمة ثوب بينهما، لم يقسم، وقيل لهما: تقاوياه فيما بينكما أو بيعا، فإذا استقرا على ثمن فلمن أبى البيع أخذه، وإلا بيع.
3711 - وإذا ورثا نخلاً وكرماً، لم يعرفاه ولم يرياه، أو عرف ذلك أحدهما، فرضيا أن يأخذ أحدهما الكرم والآخر النخل، لم يجز ذلك إلا أن يكونا رأيا [ذلك] ، أو وصف لهما.
ولا بأس أن يقتسما داراً غائبة على ما وصف لهما من بيوتها وساحتها، ويميزا حصتيهما منها بالصفة، كبيعها على الصفة، ولو قسما على أن لأحدهما الخيار أياماً يجوز مثلها في البيع في ذلك الشيء، فجائز، وليس لمن لا خيار له منهما رد، وذلك لمشترطه.
وإذا بنى من له الخيار، أو هدم، أو ساوم للبيع، فذلك رضى كالبيوع.
3712 - ويجوز أن يقاسم على الصغير أبوه، أو وصيه، الدور والعقار وغيره، ملك(4/200)
ذلك بمورث عن أمه أو بغير ذلك، ولا يقسم الوصي بين الأصاغر حتى يرفع [ذلك] إلى الإمام ويراه نظراً.
وإن كان معهم [إخوة] أكابر، أحببت له أن يرفع [أمرهم] إلى الإمام، فإن قاسم الكبار [وصي] للصغار دون الإمام، جاز إذا اجتهد، حضر الأصاغر أو غابوا، وما صار لكل صغير منهم بقسم وصي أو قاض مع أكابر، بقي بحاله لا تخلط أنصباؤهم بعد ذلك، ولو غاب أحد الأكابر، لم تجز قسمة الوصي عليه، ولا يقسم لغائب إلا الإمام، ويوكل بذلك ويجعل ما صار له بيد أمين. وليس لوصي الأصاغر أن يقول: ابقوا حظ الغائب بيدي. وقال في الجالفة: لتقاسمنّ أخوتها أحب إليّ أن يرفعوا ذلك إلى القاضي، فيأمر من يقسم بينهم خوفاً من الدلسة فتحنث.
وإذا قاسم على الصغير أبوه فحابى، لم تجز محاباته في ذلك، ولا هبته، ولا صدقته بمال ابنه الصغير، ويرد ذلك إن وجده بعينه.(4/201)
قال: وترد الصدقة وإن كان الأب موسراً، فإن فات لك عند المعطى وتلف ضمنه الأب إن كان موسراً، يوم يختصمون دون المعطى، فإذا غرم الأب في ملائه، لم يكن للأب ولا للابن على الأجنبي شيء، وإن كان الأب عديماً رجع الولد على المعطى، فإن كان الأب والمعطى عديمين اتبع الولد أولهما يسراً بالقيمة، ومن أدى منهما لم يرجع على صاحبه بشيء.
ولو أيسر الأب أولهما، لم يكن للابن تركه واتباع الأجنبي، كما ليس له ذلك في ملائهما.
وإن أعتق الأب غلام ابنه الصغير، جاز ذلك إن كان الأب موسراً يوم أعتق، وعليه الثمن في ملائه. وإن كان معسراً يوم أعتق لم يجز عتقه ورُدّ، قال مالك: إلا أن يتطاول زمان ذلك، وينكح الحرائر وتجوز شهادته فلا يرد عتقه ويتبع الأب بقيمته. وفي كتاب الشفعة ذكر بيع الوصي عقار اليتامى. (1)
3713 - وإذا أسند مسلم وصيته إلى ذمي أو مسخوط، لم يجز ذلك ولا يكون وصياً.
وإذا هلكت امرأة وتركت ولداً صغيراً يتيماً لا وصي له، فأوصت بالصبي وبمالها إلى رجل، لم يجز ذلك ولا يكون وصياً، ولا تجوز مقاسمته عليه، إلا أن المال
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/494) ، ومواهب الجليل (5/74) .(4/202)
الذي ورث الولد من أمه لا ينزع من الوصي إن كان يسيراً نحو ستين ديناراً، استحسنه مالك وليس بقياس.
وإن أوصت إليه بتنفيذ ثلثها، جاز [وله] تنفيذه، ولا يكون وصي العم، أو الجد، أو الأخ وصياً في يسير مال ولا كثيره، والأم بخلافهم إذ لها اعتصار ما وهبت لولدها.
وهذا المال الذي أوصوا به، ينظر فيه السلطان ويحوزه على الصغير والغائب.
3714 - ولا تجوز قسمة الأب على ابنه الكبير وإن غاب، ولا الأم على ابنها الصغير إلا أن تكون وصية، ولا الكافر على ابنته المسلمة البكر، كما لا [يجوز له] تزويجها. ويجوز قسم ملتقط اللقيط عليه. (1)
ومن كنف أخاً له صغيراً، أو ابن أخ له احتساباً، فأوصى له أحد بمال فقام عليه، لم يجز بيعه له ولا قسمه.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/493) .(4/203)
وكذلك لو وثب على تركة أخيه وولده بغير إيصائه، فهو كالأجنبي، ولا يجوز قسم الزوج لزوجته البكر ولا قبض مالها، والأب أو وصيها أولى بذلك وإن دخلت حتى يؤنس رشدها بعد الدخول، فيدفع إليها مالها حينئذ.
وليس للزوج قضاء في مالها قبل البناء ولا بعده، وإن مات الأب ولم يوص، لم يجز للزوج أن يقسم لها إلا بأمر قاض.
3715 -[قال ابن القاسم:] وإذا اقتسم شريكان دوراً، أو أرضين، أو رقيقاً، أو عروضاً، فوجد أحدهما ببعض ما أخذ عيباً، فإن كان وجه ما نابه أو أكثره ردّ الجميع وابتديا بالقسم إلا أن يفوت بيد صاحبه ببيع، أو هبة، أو حبس، أو صدقة، أو هدم، أو بناء، فيرد قيمته يوم قبضه، فيقتسمان تلك القيمة مع الحاضر المردود، وليس حوالة الأسواق في الدور فوتاً، وإن كان المعيب الأقل، رده ولم يرجع فيما بيد شريكه وإن لم يفت، إذ لم ينقض القسم، ولكن ينظر فإن كان المعيب قدر سُبع ما بيده، رجع على صاحبه بقيمة نصف سبع ما أخذ ثمناً، ثم يقتسمان هذا المعيب.(4/204)
وكذلك إن اقتسما داراً واحدة ثم وجد أحدهما عيباً يسيراً أو كثيراً، أو اقتسما على التراضي، فأخذ أحدهما نخلاً ودوراً ورقيقاً وحيواناً، وأخذ الآخر بزاً وعطراً وجوهراً، فأصاب أحدهما بصنف مما أخذ عيباً فعلى ما ذكرنا، ولو بنى أحدهما في حصته من الدار وهدم بعد القسمة، ثم وجد عيباً، فذلك فوت، ويرجع بنصف قيمة العيب ثمناً على ما فسرنا.
3716 - ومن ابتاع داراً عظمى أو نخلاً فاستحق بعضها، أو وجد بها عيباً، فأما اليسير كبيت من دار عظمى، أو نخلات يسيرة من كثيرة، فإن ذلك يرجع بحصته من الثمن، ويلزمه البيع فيما بقي، وإن كان كثيراً رد البيع. وكذلك القسمة.
3717 - وإذا اقتسم رجلان حنطة، فأصاب أحدهما بما أخذ عيباً بعد أن طحنها، رد قيمتها، ويرد الآخر الطعام أو مكيلته إن فات، ثم يقتسمان ذلك، وليس له أن يرجع بنصف قيمة العيب في حنطة صاحبه فيدخله التفاضل في الطعام، ولا عليه أن يأتي بحنطة معيبة مثلها، إذ لا يحاط بمعرفته.
وكذلك من ابتاع عرضاً أو حيواناً أو غيره، فوجد به عيباً بعد أن فات عنده، فليس عليه ولا له أن يأتي بسلعة معيبة مثلها، إذ لا يحاط بذلك ولا بمعرفته،(4/205)
ولو كان يحاط بمعرفته، كان له أن يخرج مثلها فيما يكال أو يوزن.
3718 - وإذا تبادلا قمحاً عفناً بعفن مثله، فإن اشتبها في العفن فلا بأس بذلك وإن تباعدا لم يجز، وإن كانا مغشوشين، أو كان أحدهما أو كلاهما كثير التبن أو التراب حتى يصير خطراً، لم يجز أن يتبادلا إلا في الغلث الخفيف، أو يكونا نقيين.
وكذلك سمراء مغلوثة بشعير مغلوث، لا يجوز إلا أن يكون ذلك شيئاً خفيفاً.
وليس حشف التمر بمنزلة غلث الطعام، لأن الحشف من التمر، والغلث في الطعام من غير الطعام.
ولو كان الطعام المغلوث صبرة واحدة، جاز أن يقتسماها، وإن كانا صبرتين مختلفتين، لم يجز ذلك، للغرر في موضع غلث هذه من غلث هذه.
والذي أجيز من القمح بالقمح أو بالشعير، أن يكونا نقيين ويكونا مشتبهين، ولا يكون أحدهما مغلوثاً والآخر نقياً.
قال مالك: ويغربل القمح للبيع، وهو الحق الذي لا شك فيه.(4/206)
ومن اشترى عبداً فباع نصفه، ثم استحق [رجل ربع] جميع العبد، فقد جرى الاستحقاق فيما بيع وفيما بقي.
ومن قول مالك فيمن ابتاع عبداً كاملاً، فاستحق أيسره، أن له رده كله لضرر الشركة، أو يحبس ما بقي من العبد بحصته من الثمن.
[قال ابن القاسم:] فالمستحق في مسألتك يأخذ الربع من جميع ما باع المبتاع ومما أبقى، ثم للمبتاع الثاني أن يرجع من ثمنه على بائعه بقدر ما استحق من العبد من حصته، أو يرد بقية صفقته إن شاء، ويخير المشتري الأول أيضاً كما وصفنا.
ولو اطلع المبتاع على عيب به بعد أن باع نصفه، فرضي به المبتاع الثاني، فأراد المشتري الأول رده، فالخيار ههنا للبائع في أن يغرم له نصف قيمة العيب، أو يقبل نصف العبد بنصف الثمن.
3719 - وإن اقتسما عبدين فأخذ هذا عبداً وهذا عبداً، فاستُحق نصف أحدهما، فللذي استُحق ذلك من يديه أن يرجع على صاحبه بربع العبد الذي في يديه إن كان قائماً، وإن فات ببيع أو حوالة سوق فأعلى، رجع على صاحبه بربع قيمته يوم قبضه، ولا خيار له في [غير] هذا.(4/207)
وأما إن ابتاع عبداً، فله رده باستحقاق أيسره، لضرر الشركة فيه من منع السفر أو الوطء في الأمة، بخلاف مبتاع عبدين متكافئين يستحق أحدهما، أو مبتاع لدور أو سلع، لا ترد في تلك الصفقة إلا باستحقاق أكثرها. وقد تقدم كثير من هذا المعنى في كتاب الاستحقاق، و [في كتاب] العيوب.
3720 - وإن اقتسما داراً، فأخذ هذا ربعها من مقدمها، وأخذ الآخر ثلاثة أرباعها من مؤخرها، جاز ذلك، فإن استُحق نصف نصيب أحدهما، رجع على صاحبه بربع قيمة ما بيده، ولا تنقض القسمة في هذا إذا [كان الذي] استحق من يد كل واحد منهما تافهاً يسيراً، وإن استحق جل ما بيده انتقضت القسمة ورد ما بقي بيده وابتدأ بالقسم، إلا أن يفوت نصيب صاحبه، فيخرج قيمته بحال ما وصفنا.
3721 - وإن اقتسما عشرين شاة، فوقع لهذا خمسة عشر، ولهذا خمسة بالقيمة والسهم، جاز [ذلك] .
فإن استحقت شاة من يد أحدهما، لم ينتقض القسم، ونُظر فإن كانت قدر خمس ما بيده، رجع على صاحبه بعشر قيمة ما بيده، وإن استحق جُلّ ما صار(4/208)
لأحدهما، انتقض القسم، ولا يجوز في قسم ثمر الحائط تفضيل أحد في الكيل، لرداءة حظه، ولا [على] التساوي في المقدار على أن يودي آخذ الجيد ثمناً لصاحبه.
ولا يجوز بيع حنطة ودراهم، [بحنطة] مثلها.
ولو اقتسما ثلاثين قفيزاً من قمح، وثلاثين درهماً، فأخذ أحدهما الدراهم وعشرة أقفزة، وأخذ الآخر عشرين قفيزاً، فإن كان القمح مختلفاً سمراء ومحمولة، أو نقياً ومغلوثاً لم يجز.
وإن تساوى القمح في النقاء والجودة والجنس، أو كان من صبرة يتفق أعلاها وأسفلها، فذلك جائز بخلاف المتبايعين، لأن هاهنا لم يأت أحدهما بطعام [وأتى] الآخر بطعام ودراهم، فيكون فاسداً.
ولو اقتسما مائة قفيز من قمح، ومائة من شعير، فأخذ هذا ستين قمحاً وأربعين شعيراً، وأخذ الآخر ستين شعيراً وأربعين قمحاً، فذلك جائز.
وإن اقتسما حنطة وقطنية، فأخذ هذا الحنطة، [وأخذ] هذا القطنية يداً بيد، جاز.(4/209)
ولو كان الصنفان زرعاً قد يبس، لم يجز إلا على أن يحصداه مكانهما.
[قال مالك:] ولو كان الزرع كله صنفاً واحداً، لم تجز قسمته وإن يبس حتى يحصد ويدرس ويقسم كيلاً.
3722 - وإن اقتسما داراً أو أرضاً فبنى أحدهما أو غرس، ثم استحق نصف نصيبه، فذلك فوت، وكذلك إن استحق نصف نصيب الذي لم يبن، فليرد الذي لم يبن ما بقي، ويرد الذي [غرس أو] بنى قيمة جميع حظه لفوته بالعمارة، ويقتسمان ذلك كله إن كان ما استحق كثيراً، وإن كان يسيراً تُركت القسمة ونظر إلى ما قابل ذلك مما بيد صاحبه، فيرجع عليه بنصف قيمته.
ولو كان الاستحقاق في نصيب الذي عمَّر، فإما دفع إليه المستحق قيمة ما عمَّر قائماً، وإلا دفع إليه هذا قيمة أرضه [براحاً] ، إذ ليس بغاصب، ونظر، فإن كان الذي استحق قليلاً قدر ربع ما بقي في يديه، لم ينتقض القسم ورجع على صاحبه بثمن قيمة ما في يديه، ولا يرجع بذلك في حظ شريكه وإن كان قائماً.(4/210)
قال ابن القاسم: وأنْظُر أبداً إلى ما استحق، فإن كان كثيراً كان له أن يرجع بقدر نصف ذلك فيما بيد صاحبه شريكاً فيه إن لم يفت، وفي اليسير يرجع بنصف قيمة ذلك ثمناً من دنانير أو دراهم. وكذلك في العبيد.
3723 -[قال مالك:] ومن اشترى مائة إردب [قمح] ، فاستحق منها خمسون، خُيّر المبتاع بين أخذ ما بقي بحصته من الثمن أو رده.
وإن أصاب بخمسين إردباً منها عيباً، أو بثلث الطعام، أو بربعه، فإنما له أخذ الجميع أو رده، وليس له رد المعيب وأخذ الجيد خاصة، وإن اقتسما عشرين داراً بالسهم أو التراضي، فوقع لكل واحد عشر دور فاستحقت واحدة، أو وُجد بها عيب، فإن كان جل ما بيد من وقعت له أو أكثره ثمناً، انتقض القسم، وإن لم يكن جله فإن كانت قدر عشر نصيبه وقد استحقت، رجع بنصف عشر قيمة ما بيد الآخر ثمناً، ولا يرجع فيه وإن كان قائماً.
وإن كان [إنما] وجد بها عيباً فيردها، وليرد الآخر عشر قيمة ما بيده، ثم يكون ذلك مع الدار المعيبة بينهما، إذا لم ينتقض القسم.
واستحقاق دار من دور في البيوع بخلاف الدار الواحدة يبتاعها، ثم يستحق بعضها لما يدخل عليه من الضرر فيها فيما يريد أن يبني أو يسكن، إلا أن لا يضره(4/211)
ذلك في بقيتها فيكون كالدور، واستحقاق النصف أو الثلث فيها كثير، يوجب له رد بقيتها أو حبسه بحصته من الثمن.
3724 - وإن اقتسما جاريتين فأخذ كل واحد منهما واحدة، فاستحقت جارية أحدهما بعد أن أولدها، فلربها أخذها وقيمة ولدها، ويرجع هذا على صاحبه بنصف الجارية الأخرى إن لم تفت، فإن فاتت بتغير سوق فأعلى، أخذ منه نصف قيمتها يوم قبضها.
وقد قال مالك فيمن استحق أمة وقد ولدت من مبتاعها: إنه يأخذها وقيمة ولدها يوم الاستحقاق، وأخذ به ابن القاسم، ثم رجع مالك فقال: لا يأخذها، لأن في ذلك على المبتاع ضرراً لما يلحقه من العار ويلحق ولده إذا أخذت منه، ولكن يأخذ المستحق قيمتها وقيمة ولدها.
قال ابن القاسم: ولو رضي المستحق بأخذ قيمتها، لم يكن للذي أولدها أن يأبى ذلك، ويجيز حينئذ في قولي مالك جميعاً على غرم قيمتها وقيمة ولدها يوم الاستحقاق.
[قال مالك:] وإنما يأخذ قيمتها يوم يستحقها، لأنها لو ماتت عند(4/212)
المبتاع قبل أن يستحقها ربها، لم تلزم المبتاع قيمتها، [ولو لزمته قيمتها] إذا هلكت ما لزمه من قيمة ولدها شيء، فليس لربها إلا قيمتها وقيمة ولدها يوم الاستحقاق.
ومن باع أمة في سوق المسلمين بعين، أو عرض، أو حيوان، ثم استحقت من يد المبتاع بعد أن حالت بيده في سوق أو بدن بأمر من الله، وحال الثمن الذي بيعت به إن كان عرضاً، بزيادة أو نقص في سوق أو بدن بأمر من الله تعالى، فليس لربها إلا أن يأخذها بحالها، أو يجيز البيع ويأخذ من بائعها ما بيعت به على ما هو [به] من نقص أو نماء، لأن من باع عرضاً بعرض فوجد أحدهما بالعرض الذي أخذ عيباً وقد حال سوقه، فليرده ويأخذ عرضه ما لم يفت بحوالة سوق، [فإن فات] ، فلا يكون له إلا قيمته.
والموصى له بالثلث إذا قاسم الورثة فأخذ ثلث الربع فبناه، ثم استحق ما بيده فللمستحق أن يعطيه قيمة بنائه، وإلا أعطاه هذا قيمة أرضه براحاً، فإن دفع إليه المستحق قيمة البناء وكان ذلك أقل مما أنفق فيه بحوالة سوق النقض، لم يرجع بنقض ذلك على الورثة ولا [على] غيرهم، وينتقض القسم، ويرجع فيقاسم الورثة(4/213)
ما في أيديهم من الربع إلا أن يفوت ببناء أو بيع، فيرجع عليهم بقيمة الرباع يوم قبضوها، فيقتسمون تلك القيمة.
وإن فات ذلك بهدم، لم يكن له غير ثلث ذلك مهدوماً مع ثلث النقض.
وإن بيع من النقض شيء، فله ثلث ثمنه فقط ولا قيمة له عليهم، لأن من ابتاع داراً فهدمها، أو احترقت في يديه، ثم استحقت، فللمستحق إن شاء اتباع البائع بالثمن أو أخذ داره مهدومة، ولا تباعة له على المبتاع إلا أن يكون باع من النقض شيئاً، فعليه الثمن الذي قبض فيه.
وكذلك إن ابتاع جارية فعميت عنده، ثم استحقت، فلا شيء عليه، وإنما لربها أخذها بحالها، أو أخذ ثمنها من البائع.
3725 - وإذا كان بين رجلين نقض دون القاعة، جاز أن يقتسماه على تراض، أو بالقيمة والسهم، ويجبر من أباه منهم لمن أراده، فإن أراد هدم النقض ورب العرصة غائب، رفعا ذلك إلى الأمام، فإن رأى شراء ذلك للغائب بقيمة النقض منقوضاً، فعل، وإلا تركهم ولزم الغائب ما فعل السلطان، قيل: فمن أين يدفع الإمام الثمن عن الغائب؟ قال: هو أعلم بذلك.(4/214)
فإن نقضا البناء دون الإمام، فلا شيء عليهما ويقتسمان النقض.
وفي كتاب العارية ذكر [أمدٍ] ما يقيم النقض في العرصة المعارة.
وإذا بنيا في عرصة رجل بإذنه، فأقام بناؤهما [في العرصة] قدر ما يعار إلى مثله، ثم أراد ربها إخراج أحدهما، فإن قدر على قسمة البناء قسم وخُير في المُخْرَج، فإما أعطاه قيمة حصته أو أمره بقلعه، وإن لم ينقسم قيل للشريكين: لا بد أن يقلع هذا الذي قال له رب العرصة: اقلع نقضك، فاصطلحا، إما تقاوياه أو بِيعاه، فإن باعا وبلغ ثمناً فللمقيم في العرصة أخذ ذلك بشفعته ما بلغ.
ولا يقسم الطريق في الدار إذا امتنع بعضهم، ويقسم الجدار إن لم يكن فيه ضرر وكان ينقسم، فإن كان فيه ضرر لم يقسم، وإن كان لكل واحد عليه جذوع لم يقسم وتقاوماه.
وتأول مالك قول الله تعالى: ×مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا% [النساء: 7] ،(4/215)
فرأى أن يقسم البيت الصغير وإن لم يقع لأحدهم ما ينتفع به، والأرض القليلة، والدكان الصغير في السوق وإن كان أصل العرصة بينهم، والحمام والماجل، وكل شيء عنده [يقسم] .
3728 - قال ابن القاسم: وإنما لم يقسم الطريق والجدار إذا كان في ذلك ضرر، لأنه لا كبير عرصة لهما، فلا يقسمان إلا بتراض أو على غير ضرر.
وأنا أرى أن [كل] ما لا ينقسم إلا بضرر ولا يكون فيما يقسم منه منتفع من دار، أو أرض، أو حمام، فإنه لا يقسم، ويباع فيقسم ثمنه، لقول النبي ÷: "لا ضرر ولا ضرار". (1)
_________
(1) رواه ابن ماجة (2/784) ، والشافعي في مسنده (1/224) ، والحاكم في المستدرك (2/66) ، ومالك (2/745) ، والدارقطني في سننه (3/77) ، (4/227) ، وانظر: نيل الأوطار (5/387) ، وبداية المجتهد (2/200) ، والمدونة (14/436) ، ومواهب الجليل (5/171) .(4/216)
وكذلك الماجل، إلا أن يصير لكل واحد ماجل ينتفع به، فليقسم.
3729 - ولا يقسم أصل العيون ولا الآبار، ولكن يقسم شربها بالقِلْد، قيل: فإن كانت نخلة وزيتونة بين رجلين هل يقسمانهما؟ قال: إن اعتدلتا في القسم وتراضيا [بذلك] بينهما قسماهما، فأخذ هذا واحدة وهذا واحدة، فإن كرها لم يجبرا، وإن لم يعتدلا في القسم تقاوماهما، أو باعاهما مثل ما لا ينقسم من ثوب أو عبد أو غيره، ومن دعا منهما إلى البيع أُجبر عليه من أباه، فإذا استقر على ثمن فلمن أبى البيع أخذ ذلك بما بلغ ولا بيع.
وإذا كانت دار داخلها لقوم، وخارجها لقوم، وللداخلين الممر على أهل خارجها، فأراد أهل خارجها تحويل بابها إلى موضع قريب من مكانه، لا ضرر(4/217)
على الداخلين فيه، فذلك لهم، وإن لم يقرب موضعه فللداخلين منعهم، ولهم منعهم من تضييق باب الدار. (1)
3730 - ولو اقتسم أهل الداخلة، فأراد أهل كل نصيب [منهم] فتح باب لنصيبه إلى الخارجة لممره، فللخارجين منعهم ألا يدخلوها إلا من الباب الأول.
[قال مالك - رحمه الله -: وليس العمل على حديث عمر - رضي الله عنه - في الخليج الذي أمرَّه في أرض رجل بغير رضاه] .
وإذا كانت دار بين رجلين لأحدهما دار تلاصقها، فأراد أن يفتح في المشتركة باباً يدخل منه إلى داره، فللشريك منعه لشركته معه في موضع الفتح.
فإن قسّما فقال: اجعلوا نصيبي إلى جنب داري حتى أفتح فيه باباً، لم يقبل منه ذلك، وقسمت الدار بالقيمة، فحيث وقع سهمه أخذه وإن كان في الناحية الأخرى.
وإن اقتسما هذه الدار فاشترى أحد النصيبين رجل يلاصق داره، ففتح إلى النصيب من داره باباً وجعل يمر من داره إلى طريق هذا النصيب هو ومن اكترى منه، أو سكن معه، فذلك له إن أراد ارتفاقاً، ولا يمنع.
وإن أراد أن يجعل ذلك فيه، كسكة نافذة لممر الناس يدخلون من باب داره ويخرجون كالزقاق، فليس له ذلك.
_________
(1) انظر: منح الجليل (7/283) .(4/218)
وإن قسما داراً على أن يأخذ كل واحد طائفة، فإن من صارت الأجنحة في حظه، فهي له ولا تعد من الفناء، وإن كانت في هوى الأفنية، وهي تُعد من البناء.
قال: وفناء الدار لهم أجمعين، للمرفق به، ولا بأس بالتفاضل في قسمة التراضي، أو يزيد أحدهما الآخر عرضاً أو حيواناً بعينه، نقداً أو موصوفاً إلى أجل معلوم، أو عيناً نقداً أو مؤجلاً، أو [على] هبة، [أو هدية] أو صدقة معلومة كذلك. ولا يجوز على دين مسمى إلا أن يضربا أجلاً.
3731 - ولا بأس بأرزاق القضاة والعمال إذا عملوا على حق، وكل عامل للمسلمين على حق، وما بعث فيه الإمام من أمور الناس، فالرزق فيه من بيت المال.
وأكره لقسام القاضي والمغنم أن يأخذوا على القسم أجراً، لأنه إنما يفرض(4/219)
لهم من أموال الناس اليتامى وسائر الناس، كما أكره ارتزاق صاحب السوق من أمول الناس، وإن كانت أرزاق القسام من بيت المال، جاز. (1)
ولا بأس أن يستأجر أهل مورث، أو مغنم قاسماً برضاهم، وأجر القاسم على جميعهم ممن طلب القسم أو أباه.
وكذلك أجر [كاتب] الوثيقة، قال مالك في قوم أرادوا أخذ مال لهم عند رجل، فيستأجرون من يكتب بينهم كتاباً يتوثق لهم وله، فأجره عليهم وعليه. وقد تقدم في كتاب العتق ذكر من أعتق أو دبر في مرضه.
3732 - وإذا اقتسما داراً مذارعة بالسهم، فإن كانت الدار كلها سواء، جاز، وإن كان بعضها أجود من بعض أو كانت كلها سواء وجعلا في ناحية أكثر من ناحية، لم يجز، إلا أن يتراضوا [بذلك] بغير سهم فيجوز.
ولا بأس أن يقتسما البناء بالقيمة، والساحة بالذرع، إذا تساوت الساحة في القيمة والذرع، وإن كانت متفاضلة، لم يجز.
وإذا تداعوا إلى قسم البناء والساحة معاً، وكان يصير لكل واحد في حصته من الساحة ما ينتفع به في مدخل، أو مخرج، أو مربط دابة، أو غيره، قسمت الساحة
_________
(1) انظر: الشرح الكبير (3/510) .(4/220)
مع البناء، وإن صار منها تلك المنافع لبعضهم ويصير لأقلهم نصيباً من الساحة ما لا ينتفع به أو ما لا ينتفع به إلا في دخوله وخروجه فقط، قسم البناء وتركت الساحة لانتفاعهم، وللأقل نصيباً من الانتفاع بالساحة ما للأكثر نصيباً، سكن معهم أو لم يسكن، ولهم منع من بيني في الساحة منهم.
وإذا كانت بين قوم دار فيها بيوت وساحة، ولها غرف وسطوح بين يديها، فقسموا البناء على القيمة وأبقوا الساحة، فالسطح يقوم مع البناء، تقوم الغرفة بما بين يديها من المرتفق، ولصاحب العلو أن يرتفق بساحة السفل [كارتفاق صاحب السفل] ، ولا ارتفاق لصاحب السفل في سطح الأعلى، إذ ليس من الأفنية، ويضيف القاسم قيمة خشب السطح والغرف، مع قيمة البيوت التي تحت ذلك.
وما رَث من خشب العلو [الذي] هو أرض الغرف والسطح، فإصلاحه على رب الأسفل وله ملكه، كما عليه إصلاح ما وهى ورث من جدار السفل.(4/221)
3733 -[وإذا سقط العلو الذي على السفل فهدمه، جبر رب السفل] على أن يبنيه، أو يبيع ممن يبنيه حتى يبني رب العلو علوه، فإن باعه ممن يبنيه فامتنع من بنائه أُجبر المبتاع أيضاً على أن يبنيه، أو يبيع ممن يبنيه. (1)
3734 - وإذا اقتسم قوم داراً وتركوا الساحة مرتفقاً، فكل واحد منهما أولى بما بين يدي [باب] بيته من الساحة في الارتفاق، وإن أراد بعضهم أن يطرح بين يدي [باب] غيره العلف والحطب، لم يكن له ذلك إن كان في الدار سعة عن ذلك، وإن احتاج إلى طرح ذلك في الساحة، ويقع بعض ذلك على باب غيره طرحه، إلا أن يكون في ذلك ضرر على من يطرحه على بابه، فيمنع أن يضر به.
وإذا اقتسموا البناء والساحة رفعوا الطريق، ولا يعرض فيها أحدهم لصاحبه.
وإن اقتسموا على أن يصرف كل واحد منهم بابه لناحية أخرى، ولا يدعوا طريقاً بتراض، جاز، ولا ترفع لهم طريق، وليصرف كل واحد طريقه حيث شاء إن كان له حيث يصرفه.
_________
(1) انظر: التقييد (6/112) .(4/222)
وإن اقتسموا البناء ثم قسموا الساحة ولم يذكروا رفع الطريق، فوقع باب الدار في حظ أحدهم ورضي بذلك صاحبه، فإن لم يشترطوا في أصل القسم أن طريق كل حصة ومدخلها فيها خاصة، فإن الطريق بينهما عل حالها، وملك باب الدار لمن وقع في حظه، ولباقيهم فيه الممر.
وإن قسموا الساحة وهي واسعة يقع لكل واحد ما يرتفق به إذا قسمت بينهم، ليس لهم طريق ولا مخرج إلا من باب الدار، فاختلفوا في سعة الطريق، فقال بعضهم: اجعلها ثلاثة أذرع، وقال بعضهم: أكثر من ذلك، جعلت بقدر دخول الحمولة ودخولهم، ولا أعرف عرض باب الدار.
فإن قسما داراً [بتراض] ، فأخذ أحدهما دبر الدار وأعطي الآخر مقدمها على ألا طريق لصاحب المؤخر على المقدم، جاز ذلك على ما شرطا ورضيا إن كان له موضع يصرف إليه بابه، وإلا لم يجز.
وكذلك إن اقتسموا داراً على أن أخذ أحدهم الغرف، على ألا طريق له في الأسفل، فعلى ما ذكرنا.
3735 - وإن دعا أحد الأشراك إلى قسم ما يقسم من ربع أو حيوان أو عرض، وشركتهم بمورث أو غيره، أجبر على القسم من أباه، فإن لم ينقسم ذلك، فمن دعا إلى البيع أجبر عليه من أباه، ثم للآبي أخذ الجميع بما يعطى فيه، وكل(4/223)
ما قسم من ربع أو غيره فعلى قيمة عدل، ثم يضرب بالسهم، فمن خرج سهمه لزمه، ووجه قسم الربع بالسهم، وإن اختلفت الأنصباء: لواحد خمس، ولآخر ربع، ولآخر سدس، أن يقسم على أقلهم سهماً.
وكذلك من ترك زوجة وأماً وأختاً، إلا أن من خرج له سهم [في ناحية] جمع له تمام باقي حصته [فيها] ولا يفرق، وإذا تشاحوا على أي الطرفين يضرب، أسهم بأيهم يبدأ، فما خرج عرفه، ثم أسهم للقسم، فمن خرج سهمه أعطاه من ذلك الطرف، وضم إليه فيه سهمانه مجتمعة.
وإن كثرت يضرب الفريضة في الانكسار، ثم يضرب أيضاً بسهام من بقي، فيضرب على أقلهم سهماً، فإن تشاحوا على أي الطرفين يضرب، فعلى ما ذكرنا أولاً، فإذا بقي منهم اثنان فتشاحا على أي الطرفين يضرب، لم ينظر إلى قول واحد منهما وضرب القاسم على أي الطرفين شاء.
وإن ترك زوجة وابناً، أو عصبة، لم يسهد للزوجة إلا على أحد الطرفين لا في الوسط، فأي الطرفين خرج لها أخذته وكان الباقي للولد أو للعصبة، وكذلك إن كان الولد أو العصبة عدداً.
ولا يجمع حظ رجلين في القسم وإن أراد ذلك الباقون، إلا في مثل هذا.(4/224)
3736 - وما أحدثه الرجل في عرصته من فرن، أو حمام، أو أرحية ماء، أو غيرها، أو كير للحديد، أو أفران لتسييل الذهب والفضة، أو آبار، أو كُنُف، فكل ما أضر بجدار جاره من ذلك منع منه، واستخف اتخاذ التنور.
وليس لك أن تفتح في سكة غير نافذة، باباً يقابل باب جارك أو يقاربه، ولا تحول باباً لك هنالك إذا منعك، لأنه يقول: الموضع الذي تريد أن تفتح فيه بابك، لي فيه مرفق أفتح فيه بابي، وأنا في سترة، ولا أدعك أن تفتح قبالة بابي أو قربه، فتتخذ علي فيه المجالس وشبه هذا، فإذا كان هذا ضرراً فلا يجوز أن تحدث على جارك ما يضر به.
وأما في السكة النافذة، فلك أن تفتح ما شئت، وتحول بابك حيث شئت منها.
ومن رفع بنيانه فتجاوز به بنيان جاره ليشرف عليه، لم يمنع من رفع بنيانه، ومنع من الضرر.(4/225)
وإن رفع بنيانه فسد على جاره كواه، أو أظلمت أبواب غرفه وكواها، ومنعه الشمس أن تدخل في حجرته، لم يمنع من هذا البناء.
* * *(4/226)
(كتاب الوصايا)
3738 - قال: ومن أوصى بعتق عبد من عبيده فماتوا كلهم، بطلت الوصية، وكذلك من أوصي له بعبد فمات العبد، فلا حق [له] في مال الميت.
قال غيره: لأن ما مات أو هلك قبل النظر في الثلث، فكأن الميت لم يتركه، وكأنه لم يوص [فيه] بشيء، لأنه لا يقوّم ميت ولا يقوّّم على ميت. (1)
ومن أوصى بعتق عشرة من عبيده ولم يعينهم وعدد عبيده خمسون، فمات منهم
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/2) ، والكافي (1/553) .(4/227)
عشرون قبل التقويم، عتق ممن بقي منهم عشرة أجزاء من ثلاثين جزءاً بالسهم، خرج عدد ذلك أقل من عشرة أو أكثر، [ولو هلكوا كلهم إلا عشرين، عتق نصفهم في ثلث الميت] ، ولو هلكوا إلا خمسة عشر عتق ثلثاهم.
ولو هلكوا إلا عشرة إن حملهم الثلث، [وإن لم يحملهم الثلث عتق منهم مبلغه بالقرعة ورق ما بقي] ، وكذلك من أوصى لرجل بعدد من رقيقه، أو أوصى بعشرة من إبله في سبيل الله وله إبل كثيرة فهلك بعضها، فعلى ما وصفنا.
ومن قال: ثلث رقيقي أحرار، عتق ثلثهم بالسهم لا من كل واحد ثلثه، فإن قال: ثلثهم لفلان وهلك بعضهم، أو أوصى له بثلث غنمه فاستحق ثلثاها، فإنما للموصى له ثلث ما بقي من العبيد أو الغنم إن حمل ذلك الثلث، وسواء بقي ثلثهم أو أقل، فإن لم ينقسموا كان شريكاً بثلثهم.
وإن أوصى له بجميع غنمه فهلك بعضها أو استحق، فللموصى له ما بقي إن حمله الثلث.
وإن أوصى له بعشرة من غنمه وله مائة شاة، فللموصى له عشرها [بالسهم] ، يدخل فيه ما دخل، فإن هلكت الغنم كلها إلا عشرة، فهي للموصى(4/228)
له، وإن كانت تعدل نصف الغنم إذا حملها الثلث، وإن أوصى له بعشر غنمه وهي مائة، فهلكت كلها إلا عشرة لم يكن للموصى له إلا عشرها.
ومن أوصى بنسمة تشترى فتعتق، لم تكن بالشراء حرة حتى تعتق، لأنه لو قتله رجل أدى قيمته عبداً، وأحكامه في جميع أحواله أحكام عبد حتى يعتق، فإن مات بعد الشراء وقبل العتق، كان عليهم أن يشتروا رقبة أخرى ما بينهم وبين مبلغ الثلث.
3739 - ومن أوصى بعتق نسمة تشترى [فتعتق] ولم يسم ثمناً، أُخرجت بالاجتهاد بقدر قلة المال وكثرته، وكذلك إن قال: عن ظهاري، وإن سمى ثمناً لا يسعه الثلث اشتري بثلثه إن كان فيه ما يشترى به رقبة، فإن لم يبلغ شورك به في رقبة، فإن لم يبلغ أعين به مكاتب في آخر كتابته.
وإن سمى ثمناً فيه كفاف الثلث فاشترى الوصي به قبة فأعتقها، ثم لحق الميت دين يغترق جميع المال رد العبد رقاً، وإن لم يغترق الدين جميع ماله، ردّ العبد(4/229)
وأعطي صاحب الدين دينه، ثم عتق من العبد مقدار ثلث ما بقي من مال الميت بعد قضاء الدين. [قال مالك - رحمه الله -:] ولا يضمن الوصي إذا لم يعلم [بالدين] .
3740 - ومن قال في وصيته: اشتروا عبد فلان لفلان، أو فأعتقوه، أو بيعوا عبدي من فلان، أو ممن أحب، أو ممن يعتقه، فامتنع المشتري أن يشتريه بمثل ثمنه، أو امتنع الذي يبتاع منه أن يبيعه بمثل الثمن، فإنه يزاد في المشترى، وينقص في المبيع ما بينك وبين ثلث ثمنه لا ثلث الميت، وإن لم يذكر الميت أن يزاد أو ينقص، فإن أبى المشتري أن يأخذه إلا بأقل من ثلثي ثمنه، أو أبى الذي يبتاع منه أن يبيعه إلا بأكثر من ثمنه وثلث ثمنه، فذلك يختلف، أما الموصى أن يشترى فيعتق، [قال ابن القاسم:] يستأنى بثمنه، فإن بيع وإلا رد ثمنه ميراثاً، وفي رواية ابن وهب(4/230)
وغيره عن [مالك] أن الثمن يوقف ما رجي بيع العبد إلا أن يفوت بعتق أو موت. [قال سحنون:] وعليه أكثر الرواة.
[قال ابن القاسم:] وأما الذي يُشترى لفلان إن امتنع سيده من بيعه ليزداد ثمناً دفع ثمنه وزيادة ثلث ثمنه إلى الموصى له،(4/231)
فإن امتنع [سيده] من بيعه أصلاً ضناً منه بالعبد عاد ذلك ميراثاً وبطلت الوصية. (1)
وقال غيره: إن امتنع [سيده أن يبيعه] لزيادة، أو ضناً به، لم يلزم الورثة أكثر من زيادة ثلث الثمن، وليكن ثمنه موقوفاً حتى يؤيس من العبد، فإذا يئس منه رجع المال ميراثاً ولا شيء للموصى له، لأن الميت إنما أوصى له برقبة لا بمال.
قال ابن القاسم: وأما الذي قال: بيعوه من فلان، فطلب المشتري وضيعة أكثر من ثلث ثمنه، فإنه يخير الورثة بين بيعه بما سئلوا، أو يقطعوا له بثلث العبد بتلاً.
وأما الذي يباع ممن أحب [وليس من رجل بعينه] فيطلب المشتري
_________
(1) انظر: منح الجليل لعليش (9/536) .(4/232)
وضيعة أكثر من ثلث ثمنه، فإنه يخير الورثة بين بيعه بما سئلوا، أو يعتقوا ثلث العبد بتلاً.
[قال سحنون:] وروى غير واحد عن مالك أن الورثة إذا بذلوه لمن أحب بوضيعة الثلث فلم يجدوا من يشتريه إلا بأقل، فليس عليهم غير ذلك.
وقال ابن وهب: قال مالك - رحمه الله -: وذلك الأمر عندنا.
وقال ابن القاسم عن مالك: وأما الذي يباع ممن يعتقه فيخير الورثة بين بيعه بمنه] بما أعطاهم، أو يعتقوا ثلث العبد، وهذا مما لم يختلف فيه قول مالك.
قال سحنون: وقد بينا هذا الأصل باختلاف الرواة [فيه] قبل هذا.(4/233)
[مالك: وإذا لم يذكر حطيطة فإنه يحط عن المشتري، لأنها وصية] .
3741 - قال [مالك] : ومن أوصى [في مرضه] بعتق عبده فلم يقبل [العبد] ، فلا قول له، ويخرج إذا مات سيده من الثلث إن حمله [الثلث] ، أو ما حمل [الثلث] منه.
وإن أوصى أن تباع جاريته ممن يعتقها فأبت، فإن كانت من جواري الوطء، فذلك لها، وإلا بيعت ممن يعتقها، وقيل: لا يلتفت إلى قولها وتباع للعتق، إلا أن لا يوجد من يشتريها بوضيعة ثلث الثمن إن كان للميت مال يحمل [ثلث] الجارية.
3742 -[قال مالك - رحمه الله -:] ومن اشترى ابنه في مرضه، جاز إن حمله الثلث وعتق، وورث باقي المال إن انفرد أو حصته مع غيره.(4/234)
[قال ابن القاسم:] وإن أعتق عبداً له، واشترى ابنه فأعتقه وقيمته الثلث، فالابن يُبدّأ إذا حمله الثلث [ويكون وارثاً] .
ومن أوصى أن يشترى أبوه بعد موته، فإنه يشترى ويعتق في ثلث وإن لم يقل: أعتقوه.
3743 - ومن قال لعبده لفظاً بغير كتاب: إن مت من مرضي هذا، أو في سفري هذا، فأنت حر، أو قال: لفلان كذا، فهي وصية [له] ، وله أن يغيرها [ببيع أو غيره] ، فإن مات قبل أن يغيرها، جازت من ثلثه إن مات من مرضه أو في سفره، وإن برئ من مرضه أو قدم من سفره فلم يغيرها حتى مات، فذلك باطل ولا ينفذ منه شيء، إلا أن يكون كتب بذلك كتاباً ووضعه على يدي رجل، فلم يغيره بعد قدومه أو إفاقته وأقره حتى مات، فهي وصية تنفذ. (1)
وإن كتب وصيته عند سفره أو عند مرضه، ووضعها على يدي رجل [أمين] ، ثم قدم من سفره أو برئ من مرضه، فقبضها ممن هي عنده وأقرها بيده حتى مات، فهي باطل وإن أشهد عليها، وإنما تنفذ إذا جعلها على يدي رجل [أمين] .
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/370) .(4/235)
3744 - وإن كتب وصيته في مرض أو صحة أو عند سفر، إلا أنه لم يقل فيها: إن مِتّ في سفري أو في مرضي هذا، وإنما كتب فيها متى حدث [بي حدث الموت] ، [أو إن حدث بي حدث الموت] ، وأقرها عند نفسه أو أخرجها من يده، فهي جائزة، مات في ذلك [المرض] أو بعده [إذا شهدت عليه بينة] .
[قال ابن القاسم: هذا إذا كانت وصيته مبهمة، لم يذكر فيها موته من مرضه أو من سفره، وإنما كتب فيها] : متى حدث [بي] حدث الموت، [وأقرها عند نفسه] ، أو أخرجها من يده، [أو كانت على يديه] ، فهي جائزة، مات في ذلك أو بعده إذا شهدت عليه بينة، وإنما اختلف الناس في السفر والمرض، [وروى مالك أن النبي ÷ قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين(4/236)
إلا ووصيته عنده مكتوبة"] . (1)
3745 - قال مالك: ومن كتب وصيته، فليقدم ذكر التشهد [قبل الوصية] . قال ابن القاسم: ولم يذكر لنا مالك كيف هو.
[وروى ابن وهب أن مالك بن أنس قال: كانوا يوصون أن يشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له] ، وأن محمداً عبده ورسوله، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ربهم، ويصلحوا ذات بينهم إن كانوا مسلمين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: ×يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ%] ، وأوصى إن مات في مرضه هذا.
قال مالك - رحمه الله -: وإن كتبها بغير محضر البينة ولا قرأها عليهم، دفعها إليهم وأشهدهم على ما فيها، فإن عرفوا الكتاب بعينه فليشهدوا بما فيه.
_________
(1) رواه مسلم (1627) ، (3/1250) ، ومالك في الموطأ (2/761) ، والبخاري (2738) ، والنسائي (6/239) ، وفي الكبرى (4/100) ، وانظر: المدونة (15/10، 15) ، والتمهيد (14/290) ، وشرح الزرقاني (4/76) .(4/237)
قال عنه ابن وهب: ولو طبعها ثم دفعها إليهم وأشهدهم [أن ما فيها منه، وأمرهم] أن لا يفضوا خاتمها حتى يموت، جاز أن يشهدوا بما فيها بعد موته.
قال عنه ابن القاسم: وللموصي أن يغير وصيته، ويرجع ويزيد وينقص، أوصى في صحة أو في مرض، بعتق أو غيره.
3746 - وإن قال في وصيته: إن مت [من مرضي] فكل مملوك مسلم لي، حر، وله عبيد مسلمون ونصارى، ثم أسلم بعضهم قبل موته، لم يعتق منهم إلا من كان يوم الوصية مسلماً، لأني لا أراه أراد غيرهم.
وإن قال: أعتقوا عبدي بعد موتي بشهر، أو قال: هو حر بعد موتي بشهر، فذلك سواء، [وهو قول مالك] ، فإن لم يحمله الثلث خير الورثة بين أن يجيزوا أو يعتقوا، لأن محمل الثلث [منه] بتلاً، فإن أجازوا الوصية خدمهم تمام الشهر ثم خرج جميعه حراً.(4/238)
3747 - ومن قال: اشهدوا على أن فلاناً وصيي، ولم يزد على هذا، فهو وصيه في جميع الأشياء، وإنكاح صغار بنيه ومن بلغ من أبكار بناته بإذنهن، والثيب بإذنها، وفي النكاح إيعاب هذا.
وإن قال: فلان وصيي على كذا، لشيء خصه، فإنما هو وصي على ما سمى فقط، وإن قال: [فلان] وصي على قبض ديوني وبيع تركتي، ولم يذكر غير هذا. قال مالك: فأحب إليّ أن لا يزوج بناته [حتى] يرفع إلى السلطان، فإن لم يرفع رجوت أن يجوز. ولو قال: فلان وصيي على اقتضاء ديني أو قضائه، وفلان وصيي على مالي، وفلان وصيي على بضع بناتي، أو قال: فلان وصيي حتى يقدم فلان فيكون وصيي، فذلك جائز، ويكون كما قال.(4/239)
3748 - وإن مات الوصي فأوصى إلى غيره، جاز ذلك، وكان وصي الوصي مكان الوصي في النكاح وغيره.
قال يحيى بن سعيد: وإن كانا وصيين أو ثلاثة، فأوصى أحدهم عند موته بما أوصى به إليه من تلك الوصية إلى غير شريكه في الوصية، جاز ذلك، وأباه سحنون.
3749 - وللمرأة أن توصي في مالها في إنفاذ وصاياها وعلى قضاء دينها، وإن لم يكن عليها [دين] ، فلا يجوز إيصاؤها بمال ولدها الطفل إلا أن تكون وصية من [قيل] أب، وإلا لم يجز إذا كان المال كثيراً، وينظر فيه الإمام، وإن كان يسيراً نحو ستين ديناراً فجائز إسنادها فيه إلى العدل، وذلك فيمن لا أب له ولا وصي. وقال غيره: لا يجوز للمرأة أن توصي بمال ولدها.(4/240)
ولا تجوز وصية الجد بولد الولد، ولا أخ بأخ له صغير، وإن لم يكن لهم أب ولا وصي وإن قل المال، إلا أن يكون وصياً بخلاف الأم. (1)
3750 - وإذا قبل الوصي الوصية في حياة الموصي، فلا رجوع له بعد موته، ولا تجوز الوصية إلى ذمي أو مسخوط أو من ليس بعدل، ويعزل إن أوصي إليه.
وإن أوصى ذمي إلى مسلم، فإن لم يكن في تركته خمر أو خنازير ولم يخف أن يلزم بالجزية، فلا بأس بذلك.
3751 - ومن أوصى إلى وصيين، فليس لأحدهما بيع، ولا شراء، ولا إنكاح، ولا غيره دون صاحبه إلا أن يوكله. قال غيره: لأن إلى كل واحد منهما [ما إلى] صاحبه.
قال ابن القاسم: وإن اختلفا [في مال الميت] نظر السلطان، ولا يقسم المال بينهما، وليكن عند أعدلهما، فإن استويا في العدالة جعله الإمام عند أكفئهما.
_________
(1) انظر: منح الجليل (9/586) .(4/241)
ولو اقتسما الصبيان، فلا يأخذ كل واحد حصة من عنده من الصبيان، ولا يخاصم أحد الوصيين خصماً للميت إلا مع صاحبه. ومن ادعى على الميت دعوى وأحدهم حاضر، خاصمه ويقضى له، ويكون الغائب إذا قدم على حجة الميت.
3752 - ومن أسند وصية إلى مكاتبه أو عبده، جاز ذلك، فإن كان في الورثة أصاغر وأراد الأكابر بيع نصيبهم من العبد، اشترى للأصاغر حصة الأكابر منه إن كان لهم مال يحمل ذلك، فإن لم يحمل ذلك نصيبهم وأضر بهم بيعه، باع الأكابر حصتهم منه خاصة، إلا أن يضر ذلك بالأكابر ويأبوا، فيقضى على الأصاغر بالبيع معهم.
3753 - ولا يبيع الوصي عقار اليتامى، ولا العبد الذي أحسن القيام بهم، إلا أن يكون لبيع العقار وجه من ملك يجاوره يرغبه في الثمن، أو ما لا كفاية في غلته وليس لهم مال ينفق منه عليهم، فيجوز بيعه، ولا يشتري الوصي لنفسه من تركة الميت ولا يدس أو يوكل من يشتري [له] ، فإن فعل تعقب ذلك، فإن كان فيه فضل [كان] لليتامى وإلا مضى.(4/242)
وأرخص مالك لوصيّ سأله عن حمارين [من حمر الأعراب] في تركة الميت، ثمنهما ثلاثة دنانير، تسوق بهما الوصي في المدينة والبادية [واجتهد] ، فأراد أخذهما لنفسه بما أُعطي، فأجاز ذلك واستخفه لقلة الثمن.
ولا يبيع الوصي على الأصاغر التركة إلا بحضرة الأكابر، وإن كانوا بأرض نائية وذلك حيوان أو عروض، رفع ذلك إلى الإمام فأمر من يلي معه البيع للغائب.
ولا يجوز للوصي أن يؤخر الغريم بالدين إن كان الورثة كباراً، وإن كانوا صغاراً جاز ذلك على وجه النظر لهم، ولم يجز ذلك غيره. وفي كتاب النذور من هذا.
3754 - وإذا قال الميت: قد كتبت وصيتي وجعلتها عند فلان فأنفذوها وصدقوه، فإنه يصدق وينفذ ما فيها. وكذلك إن قال: قد أوصيته بثلث [مالي] فصدقوه، جاز ذلك وأنفذ ما قال. فإن قال الوصي: إنما أوصي بالثلث لابني، فقال أشهب:(4/243)
يصدق، وقال ابن القاسم: لا يصدق، لأن مالكاً قال فيمن أوصى فقال: اجعل فلان ثلثي حيث تراه: إنه إن أعطاه لولد نفسه أو لقرابة له، لم يجز إلا أن يكون لذلك وجه يظهر صوابه. (1)
3755 - وإن شهد وارثان أن أباهما أوصى إلى فلان، جاز ذلك. قال غيره: إن لم يجرا بذلك نفعاً إلى أنفسهما، وإن جرا بذلك نفعاً إلى أنفسهما لم يجز.
فإن شهدت امرأتان مع رجل على موت ميت، فإن لم تكن له زوجة ولا أوصى بعتق عبد ونحوه وليس إلا قسمة المال، فشهادتهن جائزة. وقال غيره: لا تجوز.
_________
(1) انظر: منح الجليل (9/576) .(4/244)
وتركت [ذكر] شهادة الوصي [أو الوارث] أو النساء في وصية أو دين أو غيره، وذلك كله مذكور في كتاب الشهادات.
3756 - ومن أسند وصيته إلى أم ولده على أن لا تتزوج، جاز، فإن تزوجت عزلت.
وكذلك لو أوصى لها بألف درهم على أن لا تتزوج فأخذتها، فإن تزوجت أخذت منها.
ومن أوصى لحمل امرأة فأسقطته بعد موت الموصي، فلا شيء له إلا أن يستهل صارخاً.
3757 - وإذا قال الوصي: قد دفعت إلى الأيتام أموالهم بعد البلوغ والرشد، فأنكروا، لم يصدق إلا ببينة وإلا غرم، وقد قال الله تعالى: ×فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ% [النساء: 6] .
قال مالك - رحمه الله -: ويصدق في الإنفاق عليهم إن كانوا في حجره إن لم يأت(4/245)
بسرف، وإن ولي النفقة غيره ممن يحضنهم من أم أو غيرها، لم يصدق على دفع النفقة إلى من يليهم إلا ببينة.
3758 - وإن شهد وارث بوصية لرجل، حلف معه إن كان عدلاً وقضي له، وإن نكل أخذ من حصة المقر ما يصير عليه من ذلك إن لم يول على المقر.
وكذلك إن أقر أن هذا الشيء أو العبد لفلان عند أبيه وديعة، فإن نكل فلان فله نصيب المقر فقط من ذلك الشيء.
ومن أوصى بعتق أمته بعد موته بسنة، والثلث يحملها، فما ولدت بعد موته وقبل مضي السنة، فهم بمنزلتها يعتقون بعتقها. وأرش جراحها وقيمتها إن قتلت قبل السنة للورثة، وتقوم كالأمة. وما أفادت بعطية أو اكتسبت من الأموال، فهو لها مقر بيدها لا ينتزعونه، وقيل: ينتزعونه ما لم يقرب الأجل.
وإن جنت خير الورثة، فإما فدوا الخدمة بجميع الجناية أو أسلموا الخدمة(4/246)
للمجني عليه، ويقاص بها في الجناية، فإن أوفت قبل السنة رجعت تخدم الورثة بقية السنة. وإن مضت السنة وقد بقي من أرش الجناية شيء، عتقت وأتبعت بما بقي في ذمتها.
ومن أوصى بعتق أمته إلى أجل والثلث يحملها، فعجل الوارث عتقها قبل الأجل، جاز لا رجوع له، وهو وضع خدمة، والولاء للميت. وإن كانا وارثين فأعتقها أحدهما، فعتقه هاهنا وضع خدمة، فيوضع عن الأمة حق هذا من الخدمة، ويكون نصيبه منها حراً، ولا يضمن لصاحبه قيمة خدمته منها، وتخدم هي الآخر نصف خدمتها إلى تمام الأجل، ثم تخدم حرة.
3759 - قال مالك - رحمه الله -: ومن أوصى لعبد بثلث ماله وقيمته الثلث، عتق جميعه، وما فضل من الثلث كان للعبد، [وإن لم يحمله الثلث عتق منه محمله، قال ابن القاسم: وإذا لم يحمله الثلث وكان مع العبد مال استتم عتقه، ولو لم يعتق فيما بيده من مال، عتق فيما بقي من ثلث سيده الذي بيده رقبته، وكذلك إن أوصى له بسدس وقيمته سدس، فإنه يعتق، وقاله ربيعة والليث، وقال ابن وهب عن مالك: إنه إذا أوصى لعبده بثلث ماله أو سدسه جعل ذلك في رقبة العبد، وإن كان قيمة العبد السدس خرج حراً، قال مالك:] وإن لم يترك(4/247)
غير العبد وأوصى له بثلث ماله وبيد العبد ألف دينار، فلا يعتق من العبد إلا ثلثه، [ولا يعتق فيما بيده من المال] ، ويوقف المال بيده، وقاله بعض كبار أصحاب مالك.
3760 - قال ربيعة: وإن كان للعبد امرأة حرة وولده منها أحرار، فأوصى سيد العبد لجميعهم بثلث ماله، عتق العبد في ذلك، لأن ولده ملكوا منه بعضه، وملك [هو] من نفسه البعض.
3761 - ومن أوصى لرجل بخدمة عبده سنة، لم يجز للورثة بيعه على أن يقبضه المشتري إلى سنة، وإن أوصى له بخدمة عبده أو سكنى داره سنة، جعل في ثلث قيمة الرقاب،(4/248)
فإن حملها الثلث نفذت الوصايا، وإن لم يحمل [الثلث] ذلك خير الورثة في إجازة ذلك، أو القطع للموصى له بثلث الميت من كل شيء بتلاً، والوصية في العبد بالخدمة أو بالغة سواء. (1)
وما ولدت بالأمة] الموصى بعتقها قبل موت سيدها، فهم رقيق، وما ولدت بعد موته، فهم بمنزلتها يعتقون [بعتقها] معها في الثلث أو ما حمل [الثلث] منهم بغير قرعة.
وما ولدت المدبرة بعد التدبير، فهو بمنزلتها يكون مدبراً معها.
ومن وهب حمل أمته، أو تصدق به، أو أوصى به ثم أعتقها هو أو ورثته، عتقت بما في بطنها وبطلت الوصية والعطية، ألا ترى أنه لو وهب ما في بطنها لرجل ثم فلس، بيعت وكان ما في بطنها لمن اشتراها.
3762 - ومن أخدم عبده رجلاً سنين، ثم بعد ذلك وهبه لرجل آخر فقبضه المخدم، ثم مات السيد في الأجل، فقَبْض المخدم للعبد قَبض لنفسه وللموهوب له، وسواء
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/127) .(4/249)
كانت الهبة والخدمة معاً أو وهبه بعد الخدمة وقبضه المخدم في صحة السيد، فالعبد بعد الأجل للموهوب له.
ومن قال في مرضه: يخدم عبدي فلاناً سنة ثم هو حر، فلم يقبل فلان الخدمة، خدم العبد ورثة الميت سنة ثم يعتق، ولو وهبها للعبد أو باعها منه عتق مكانه.
وإن كان الموصى له غائباً ببلد ناء، أجره له السلطان وأُعتق للأجل، إلا إن كان أريد به وجه الكفالة والحضانة، فينتظر به ويكتب إليه أو يخرج العبد إليه، فإن انقضت السنة فيما بين ذلك ولم يجده، كان حراً خدم فيها أو لا، ولا شيء عليه، كمن أبق أو مرض في الأجل الذي أعتق إليه.
ومن قال في وصيته وهو صحيح: عبدي حر بعد موتي بخمس سنين، فإنما يحسب له من يوم موته لا من يوم وصيته.
3763 - والأمة الموصى بخدمتها لرجل حياته أو أجلاً مسمى، وبرقبتها لآخر بعد الخدمة إذا ولدت في الخدمة، فولدها يخدم معها. وكذلك ولد العبد المخدم من أمته يولد في الخدمة، ونفقة الموصى بخدمته في الخدمة على المخدم.
ومن أوصى لوارث بخدمة عبده سنة، ثم هو حر والثلث يحمله، دخل بقية الورثة(4/250)
مع ذلك الوارث في الخدمة على المواريث إن لم يجيزوا له الخدمة، فإذا مضت السنة فهو حر.
3763 - وتجوز وصية المحجور عليه والسفيه والمصاب في حال إفاقته، ولا تجوز [في حال] خبله، ولا وصية مغلوب عل عقله.
3764 - وتجوز وصية صبي ابن عشر سنين وأقل مما يقاربها إذا أصاب وجه الوصية وذلك إذا لم يكن فيها اختلاط.
وروى ابن وهب أن أبان بن عثمان، أجاز وصية جارية ابنة ثمان سنين [أو تسع] . (1)
_________
(1) رواه مالك في الموطأ (2/762) .(4/251)
3765 - ومن أوصى أن يشترى عبد أبيه فيعتق، لم يزد على قيمته بخلاف الأجنبي.
ولا تجوز وصية رجل لعبد وارثه إلا بالتافه، كالثوب ونحوه مما يريد به ناحية العبد لا نفع سيده، كعبد كان قد خدمه ونحوه، ومن أوصى لعبد ابنه ولا وارث له غيره، جاز، ولا ينزع ذلك منه الابن.
وإن أوصى لعبد نفسه بمال، كان للعبد إن حمله الثلث، وليس للوارث انتزاعه، ويباع بماله، ولمن اشتراه انتزاعه. وإن أوصى بمال لعبد أجنبي، فلسيده انتزاعه. وإن أوصى لمكاتب نفسه بوصية، جاز ذلك.
3766 - والموصى له إذا قتل الموصي خطأ، جازت الوصية في ماله دون الدية، وإن قتله عمداً، فلا وصية له في مال ولا في دية، كمن قتله وارثه خطأ، فإنما يرث من المال دون الدية، وإن قتله عمداً، لم يرث من مال ولا دية.
ولو أوصى له بعد أن ضربه وعلم به، فإن كانت الضربة خطأ، جازت الوصية في المال والدية. وأما في العمد، فتجوز في ماله دون الدية، لأن قبول الدية فيه كمال لم يعلم به.(4/252)
وإذا مات الموصى له بعد موت الموصي، فالوصية لورثة الموصى له، علم بها أو لا، ولهم ألا يقبلوها، كشفعة له أو خيار في بيع ورثوه.
3768 - ومن أوصى لوارث، لم تجز وصيته، وإن أوصى له ثم حدث من يحجبه، جازت الوصية إن مات [بعد علمه بمن يحجبه] ، لأن تركه لها بعد علمه بمن يحجبه إجازة [لها] . قال أشهب: يجوز، علم بمن يحجبه أو لم يعلم.
3769 - ومن أوصى لامرأة، ثم تزوجها في صحته، ثم مات عنها، بطلت الوصية.
3770 - وتجوز الوصية للصديق الملاطف بالثلث فأقل منه، وإن زاد على الثلث، لم يجز منه إلا الثلث إلا أن يجيزه الورثة.
وإن أقر له في المرض بدين، جاز إن ورثه ولد، أو ولد ولد.
وأما إن كان ورثته أبوين أو زوجة أو عصبة ونحوه لم يجز [إقراره له] .(4/253)
3771 - ومن أوصى في مرضه، فَعَال على ثلثه، جاز منه الثلث. وأما ذات الزوج إذا عالت على ثلثها في عطاياها في الصحة فرده الزوج، لم يجز منه شيء عند مالك، [لأن المريض لا يريد الضرر، وإنما يريد البر لنفسه، فيجوز من فعله الثلث. والمرأة إذا زادت على ثلثها، فذلك ضرر عند مالك فيرد كله، ولا ينبغي أن يجاز بعض الضرر ويترك بعضه] .
3772 - ومن أوصى لرجل بعبد له قيمته أل [درهم، ولآخر بدار قيمتها ألف] وترك ألفاً، فلم تجز الورثة، فالثلث بين الموصى لهم في الأعيان، فيكون لهذا نصف العبد ولهذا نصف الدار، وكل وصية فلا تدخل إلا فيما علم به الميت.
3773 - وأما المدبر في الصحة فيدخل فيما علم به أو لم يعلم، من غائب أو حاضر. فمن أوصى بثلثه أو بعتق أو بغيره ولا مال له يومئذ، أو كان له مال ثم هلك عن مال بفائدة أو مورث، فإن علم بالمال المستفاد قبل موته في صحته أو مرضه، دخلت فيه الوصايا، وإن لم يعلم به لم يدخل فيه إلا المدبر في الصحة، وكل دار ترجع بعد موته من عمري أو [من] حبس هو من ناحية التعمير، فالوصايا تدخل فيه، ويرجع فيه من انتقض من وصية، وإن بعد عشرين سنة.(4/254)
وأما الحبس المبتّل، فلا يرجع ميراثاً ولا ترجع فيه الوصايا.
3774 - ومن أوصى بعتق كل مملوك له، وقد ورث رقيقاً لم يعلم بهم، فلا يعتق منهم إلا من علمه [منهم] ، والدين مبدأ على الوصايا، والإجماع على ذلك.
وأول من يبدأ في الثلث، المدبر في الصحة على كل وصية وعلى العتق الواجب وغيره، وليس للميت أن يرجع في تدبيره قبل موته، وله أن يرجع في الوصية بالعتق قبل موته، بخلاف ما بتل في مرضه. ويبدأ المدبر في الصحة على ما بتل في المرض أو ما أوصى به مما فرط فيه، من زكاة أو كفارة أو نذر. وما أوصى به من زكاة فرط فيها أو كفارة أو نذر فهو في الثلث.
فأما المريض يحل حول زكاته، أو يقدم عليه مال حلّ حوله، فما عرف من هذا فأخرجها في مرضه أو أمر بذلك ثم مات، فإنها خارجة من رأس ماله، فإن لم يأمر بها لم يقض بها على الورثة، وأمروا بغير قضاء. (1)
وإذا أقر المريض بدين، وأوصى بزكاة فرط فيها، وبتل في المرض [ودبّر فيه] ، وأوصى بعتق عبد له بعينه، وبشراء عبد بعينه ليعتق، وأوصى بكتابة عبد له [بعينه] ، وبحجة الإسلام، وبعتق نسمة بغير عينها، فالديون تخرج من
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (6/379) .(4/255)
رأس ماله وإن كانت لمن يتهم فيه. وهذا الذي ذكرنا في ثلث ما بقي، فإن كان الدين لمن يجوز إقراره له أخذه. وإن كان لمن لا يجوز إقراره له، رجع ميراثاً ثم يبدأ بالزكاة فيما ذكرنا، ثم المبتاع والمدبر في المرض معاً، ثم الموصى له بالعتق [بعينه] والمشترى بعينه معاً، ثم المكاتب بعينه ثم النسمة بغير عينها مع الحج معاً. وقد قال: يبدأ بالرقبة لضعف أمر الحج.
ومن قال: أعتقوا عبدي فلاناً بعد موتي واشتروا نسمة فأعتقوها عني، بدئ بالعبد الذي بعينه.
ومن أوصى بشيء في السبيل، بدئ بأهل الحاجة منهم، وإن قال: ثلث مالي لفلان وللمساكين، أو في السبيل والفقراء واليتامى، قسم بينهم بالاجتهاد لا أثلاثاً ولا أنصافاً.(4/256)
ومن أوصى بعتق عبده بعد موته بسنة، ولفلان بثلثه أو بمائة دينار، والعبد هو الثلث بدئ بالعبد ولم يعتق إلا بعد سنة، وخُيّر الورثة: [بين] أن يعطوا المائة أو الثلث للموصى له بالثلث ويأخذوا الخدمة، وبين أن يسلموا هذه الخدمة للموصى له، لأنها بقية الثلث، فإن أسلموها إليه فمات العبد قبل السنة عن مال، فهو لأهل الوصايا، وإن لم يحمل العبد الثلث خير الورثة في إجازة الوصية أو العتق من العبد مبلغ الثلث بتلاً وتسقط [جميع] الوصايا، [لأن العتق مبدأ على الوصايا] . وقاله جميع الرواة إلا أشهب.
قال مالك: ومن دبّر عبداً في مرضه وقال لآخر: إن حدث بي حدث(4/257)
الموت فأنت حر، فالمدبر مبدأ. [قال سحنون:] وكذلك عند جميع الرواة إلا أشهب.
3775 - ومن باع في مرضه عبداً أو حابى فيه، وقيمة العبد الثلث، وأعتق عبداً له آخر وقيمة المعتق الثلث، بُدئ بالمعتق، كما لو أعتق عبداً وأوصى بوصية، كان العتق مبدأ.
وإن قال: إن مت فمرزوق حر، وميمون حر على أن يؤدي إلى ورثتي مائة دينار، فإن عجل ميمون المائة تحاصا، وإلا بُدئ مرزوق. فإن بقي من الثلث ما لا يحمل ميموناً خُيّر الورثة بين إمضاء الوصية أو يعجلوا فيه عتق بقية الثلث.
وقيل: يبدأ الموصى بعتقه على الذي قال يؤخذ منه مال ويعتق. [وإن أوصى(4/258)
بعتق هذا وبكتابة هذا، بدئ العتق] .
وإن أوصى بعتق عبد معجل وآخر إلى شهر، تحاصّا لقرب الأجل، ولو بعد الأجل كالسنة ونحوها بُدئ بالمعجل في الثلث.
وإن أوصى بمال وأوصى بحج، تحاصا. وكذلك إن أوصى بمال وأوصى بعتق نسمة بغير عينها، تحاصا.
والموصي برقبة وبحج، وثلثه يحمل الرقبة وبعض الحجة، فبدّينا بالرقبة، فإنه يُحج عنه ببقية الثلث من حيثما بلغ ولو من مكة.
وإن أوصى أن يحج عنه، فلم يبلغ ثلثه ما يحج [به] عنه إلا من المدينة أو من مكة، فلتنفذ وصيته، وإن لم يوص فلا يحج عنه.
وكره مالك أن يتطوع الولد من مال نفسه فيحج عن أبيه، وكان يقول: لا يعمل أحد عن أحد.
ومن أعتق في مرضه عبداً بعينه يملكه، أو أوصى بعتقه بعد موته وأوصى بوصايا، فالعبد إذا كان بعينه يبدأ. وكذلك إن أوصى بشراء رقبة بعينها فتعتق، فهي أيضاً مبدأة.(4/259)
وإن أوصى بدنانير في رقبة، فهو يحاص أهل الوصايا.
3776 - وروى [ابن وهب] أن النبي ÷ أمر بتبدية العتق على الوصايا، وفعل ذلك أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -. (1)
ولا يقدم ما قدم الميت في لفظ أو كتاب ولا يؤخر ما أخر وليقدم الأوكد إلا أن ينص على تبدئة غير الأوكد فيقول: ابدءوا عتق النسمة بغير عينها على التي بعينها فينفذ.
[ولو] لم يبدّه الميت لكان المعتق بعينه أولى بالثلث، فإن فضل شيء كان للآخر، [ولا يلتفت إلى اللفظ في كلام الموصي إلا أن يبديه الميت كما وصفنا.
_________
(1) رواه الدرامي (2/506) ، والبيهقي في الكبرى (6/276، 277) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/223، 224) ، وانظر: المدونة الكبرى (15/43) ، والمحلي (9/333) ، وتلخيص الحبير (3/96) .(4/260)
وقد قال الله تبارك وتعالى: ×مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ% [النساء: 11] ، فأجمع أهل العلم أن الدين يُبدّا على الوصايا] .(4/261)
(كتاب الوصايا)
3630 - وإذا شهد ولدان للميت أن أباهما أعتق هذا العبد، وشهد أجنبيان أنه أوصى بالثلث لرجل، والعبد هو الثلث، فإن كان عبداً يتهمان في جر ولائه، لم تجز شهادتهما وجازت الشهادة بالوصية، وإن لم يتهما، فهي جائزة، وهذا كشهادتهما بذلك ومعهما من الورثة نساء، فما يتهمان فيه مع النساء يتهمان فيه مع الموصى له.
[ابن القاسم:] ومن قال في وصيته: يخدم عبدي فلاناً سنة ثم هو حر، ولم يدع سواه، فإن لم يجز الورثة، بُدئ بالعتق، فعتق ثلث العبد بتلاً وتسقط الخدمة.
[قال سحنون: وعلى هذا أكثر الرواة] .(4/263)
3777 -[قال مالك:] ومن أوصى [لرجل] بخدمة عبده سنة، أو سكنى داره سنة، وليس له مال غير ما أوصى فيه، [أو له مال لا يخرج ما أوصى به من الثلث] ، خيّر الورثة في إجازة ذلك أو القطع بثلث الميت من كل شيء للموصى له.
[قال سحنون: وهذا قول الرواة كلهم لا أعلم بينهم فيه اختلافاً] .
قال مالك: وأما إن أوصى له برقبة عبد أو دار، والثلث لا يحمل ذلك، فإنه يقطع لذلك محمل الثلث في تلك الأعيان.
[قال سحنون: وهذا في الوصية بالخدمة والسكنى قول الرواة كلهم، لا أعلم بينهم فيه اختلافاً، وهو أصل من أصول قولهم.
وكذلك قال ابن أبي سلمة إذا أوصى بسكنى داره ولا مال له غيرها: إن الورثة يخيرون في إجازة ذلك أو يقطعون له بثلثها بتلاً] .(4/264)
3778 - ومن أوصى لرجل بخدمة عبده سنة، أو حياته ثم هو لفلان، فإن حمله الثلث بُدئت الخدمة، فإذا انقضت [الخدمة] أخذه صاحب الرقبة، زادت قيمته [الآن] أو نقصت عن القيمة التي نفذت في الثلث، وإن حمل الثلث بعضه، خدم ذلك البعض، إن كان نصفه، خدم الموصى له بالخدمة يوماً وللورثة يوماً، فإذا انقضى أجل الخدمة صار نصفه لصاحب الرقبة، وللورثة بيع حصتهم قبل السنة. (1)
3779 - ومن هلك ولم يدع غير ثلاثة أعُبد قيمتهم سواء، فأوصى بأحدهم لرجل، وبخدمة الآخر لآخر حياته، فإن لم يجز الورثة أسلموا الثلث، فضرب فيه صاحب الرقبة بقيمتها، وصاحب الخدمة بقيمتها على غررها على أقل العمرين: عمر العبد [أو عمر] المُخْدَم، [يقال: بكم يتكارى هذا العبد إلى انقضاء أقلهما عمراً، المخدوم أو العبد، إن حيي إلى ذلك فهو لكم، وإن مات [قبل ذلك] بطل حقكم، فما صار لصاحب الرقبة أخذه فيها، وما صار لصاحب الخدمة كان به شريكاً في سائر التركة بتلاً.
وكذلك إن أوصى مع ذلك لآخر بالثلث فإنهم يتحاصون في ثلث الميت، إذا لم يجز الورثة كما ذكرنا.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/46) .(4/265)
3780 - ومن أوصى لرجل بمائة دينار، ولآخر بخدمة عبده حياته ثم هو حر، والعبد كفاف الثلث. قال مالك - رحمه الله -: يعمر الموصى له بالخدمة حياته، أو العبد إن كان أقصرهما عمراً، فتقوم خدمة العبد تلك السنين ذهباً، ثم يتحاص هو والموصى له بالمائة في خدمة العبد، فإذا هلك الموصى له بالخدمة، خرج العبد حراً.
وإن لم يحمل العبد الثلث ولم يجز الورثة، عتق من العبد مبلغ الثلث، وسقطت الوصايا بالخدمة وغيرها.
وإن قال في وصيته: لفلان مائة دينار، ولفلان خدمة عبدي [هذا] حياته، ثم هو لفلان، والثلث لا يحمل وصيته، فإن لم يجز الورثة، أسلموا الثلث فضرب فيه صاحب المائة بمائة، ولا يضرب معه صاحب الرقبة وصاحب الخدمة إلا بقيمة الرقبة فقط، فما صار لهما في المحاصة من الثلث أخذاه في [العبد] ، وما صار لهما من العبد بُدئ فيه المخدم [بالخدمة] ، فإن مات المخدم، رجع ما كان من العبد [في] الخدمة لصاحب الرقبة، وما صار لصاحب المائة، كان به شريكاً للورثة في جميع التركة، ولا يعمر المخدم في هذه المسألة، ويعمر في التي قبلها.(4/266)
وإن قال في وصيته: عبدي يخدم فلاناً، ولم يقل: حياته ولا أجلاً، وأوصى أن رقبته لفلان، ولم يقل: من بعده، قومت الرقبة وقومت الخدمة على غررها حياة الذي أخدم، ثم تحاصا في رقبة العبد بقدر ذلك.
وقال أشهب: بل هي وصية واحدة، والخدمة حياة فلان، ثم يرجع إلى صاحب الرقبة.
وإن أخدمت عبدك رجلاً أجلاً مسمى، فمات الرجل قبل انقضاء الأجل، خدم العبد ورثته بقية الأجل إذا لم يكن من عبيد الحضانة والكفالة، وإنما هو من عبيد الخدمة.
ومن قال: قد وهبت خدمة عبدي لفلان، ثم مات فلان، فإن لورثته خدمة العبد ما بقي، إلا أن يستدل من قوله: [إنه] إنما أراد حياة المخدم. وقال(4/267)
أشهب: يحمل على أنه [أراد] حياة فلان، ولو كانت حياة العبد كانت هبة لرقبته.
ومن أوصى بخدمة عبده لرجل حياته، وقال: ما بقي من ثلثي فلفلان، فكان العبد هو الثلث، بدئ بالخدمة، فإذا انقضت كانت الرقبة لصاحب باقي الثلث، زادت قيمته الآن أو نقصت.
وكذلك من قال: داري حبس على فلان حياته، وما بقي من ثلثي فلفلان، والدار كفاف الثلث، فإذا رجعت الدار، كانت لصاحب [باقي] الثلث.(4/268)
3781 -[ومن أوصى بشيء] يخرج كل يوم إلى غير أمد، من وقيد في مسجد، أو سقي ماء، أو بخبز كل يوم بكذا وكذا أبداً، وأوصى مع ذلك بوصايا، فإنه يحاص بها المجهول في الثلث، وتوقف حصته لذلك، [وهو قول أكثر الرواة] .
3782 -[قال مالك - رحمه الله -:] ومن أوصى بسكنى داره لرجل [حياته] ولا مال له غيرها، قيل للورثة: أسلموا إليه سكناها وإلا فاقطعوا له بثلثها بتلاً. وقاله ابن أبي سلمة وجميع الرواة.(4/269)
وإن أوصى أن يؤاجر أرضه منه سنين مسماة، بثمن معلوم، وقيمة الأرض أكثر من الثلث، فلم يجز الورثة، قيل لهم: فأخرجوا له من ثلث الميت بتلاً بغير ثمن.
3783 - ومن أوصى بوصايا وله مال حاضر ومال غائب، ولا تخرج الوصايا مما حضر، خُيّر الورثة بين إخراجها مما حضر، أو إسلام ثلث الحاضر والغائب لأهل الوصايا يتحاصون فيه، وكذلك إن أوصى لرجل بمائة دينار، وهي لا تخرج من ثلث ما حضر، خُيّر الورثة بين تعجيلها مما حضر أو يقطعوا له بثلث الميت في الحاضر والغائب، وإن لم يترك إلا مائة عيناً ومائة عيناً، فأوصى لرجل بثلث العين ولآخر بثلث الدين، فذلك نافذ، ولكل واحد ثلث مائته بلا حصاص. (1)
3784 - وإن أوصى لهذا بخمسين من العين، ولآخر بأربعين من الدين، فإن لم يجز الورثة أسلموا ثلث العين والدين إليهما، ونظر كم قيمة الأربعين الدين نقداً، فإن قيل: عشرون، كان ثلث الدين والعين بينهما على سبعة أجزاء للموصى له بخمسين خمسة أجزاء، وللموصى له بأربعين جزآن.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/51) .(4/270)
3785 - ومن أوصى لرجل بدين لا يحمله الثلث وله عين حاضرة، فإما أجازه الورثة، أو قطعوا له بثلث العين والدين، وكذلك إن أوصى من العين بأكثر من ثلث العين وله عقار وعروض كثيرة، فقال الورثة: لا نسلم العين ونأخذ العروض، فإما أعطوه ذلك من النقد، وإلا قطعوا له [بثلث] ما ترك الميت من عرض، أو دين، أو عين، أو عقار، أو غيره إلا في خصلة واحدة، فإن مالكاً اختلف فيها قوله، فقال مرة: إذا أوصى له بعبد بعينه أو بدابة بعينها، وضاق الثلث، فإن لم يجز الورثة قطعوا له بالثلث من كل شيء.
وقال مرة: بمبلغ الثلث من جميع التركة في ذلك الشيء بعينه، وهذا أحب إليّ.
3786 - ومن أوصى بعتق عبده وهو لا يخرج مما حضر، وله مال غائب يخرج فيه، فإن العبد يوقف لاجتماع المال، فإذا اجتمع قوّم حينئذ في ثلثه، وليس له أن يقول: أعتقوا مني ثلث الحاضر الساعة. قال سحنون: إلا أن يضر ذلك بالموصى له وبالورثة فيما يعسر جمعه ويطول.(4/271)
ومن ردّ ما أوصي له به، رجع ميراثاً بعد أن يحاص به أهل الوصايا، مثل أن يوصي لثلاثة نفر بعشرة عشرة، وثلثه عشرة، فيرد أحدهم وصيته، فللباقين ثلثا الثلث. وهذا قول جميع الرواة لا اختلاف بينهم فيه.
3787 - ومن أوصى لرجل بماله، ولآخر بنصفه، ولآخر بثلثه، ولآخر بعشرين ديناراً، والتركة ستون، فخُذْ لصاحب الكل ستة أجزاء، ولصاحب النصف ثلاثة [أجزاء] ، ولصاحب الثلث اثنين، ولصاحب العشرين سهمين، لأن عشرين هي الثلث، فذلك ثلاثة عشر جزءاً يقسم عليها الثلث فيأخذ كل واحد ما سميناه له.
وكذلك إن أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بربعه، ولآخر بسدسه أو خمسه، ولم يجز الورثة تحاصوا في الثلث من عين ودين وغيره على الأجزاء، وهذا على حساب عول الفرائض.
قال مالك - رحمه الله -: وما أدركت الناس إلا على هذا. قال سحنون: وهو قول جميع الرواة لا اختلاف بينهم فيه.
ومن أوصى لرجل بثلثه، ولآخر بعبده، وقيمته الثلث، فهلك العبد بعد موت السيد وقبل النظر في الثلث، فإن ثلث ما بقي للموصى له بالثلث، وكأن الميت لم يوص إلا بثلثه لهذا فقط.(4/272)
ومن أوصى بثلث ماله لرجل، وبربع ماله لآخر، وأوصى بأشياء بعينها لقوم، نظر إلى قيمة هذه المعينات وإلى ما أوصى له من ثلث وربع، فيضربون في ثلث الميت بمبلغ وصاياهم، فما صار لأصحاب الأعيان من ذلك أخذوه في ذلك، وما صار للآخرين كانوا به شركاء مع الورثة.
وإن هلكت الأعيان بطلت الوصايا فيها، وكان ثلث ما بقي بين أصحاب الثلث والربع، يتحاصون فيه.
ومن أوصى لرجل بعبده، ولآخر بسدس ماله، والعبد هو الثلث، فللموصى له بالعبد ثلث الثلث في العبد، والآخر شريك للورثة بسبع ما بقي من بقية العبد وسائر التركة.
وإن كان العبد السدس، كان جميعه للموصى له بالعبد، والآخر شريك للورثة بخمس بقية التركة، وقاله علي بن زياد [ورواه] عن مالك. (1)
3788 - وروى ابن وهب أن النبي ÷ قال: لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة. (2)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/54) .
(2) رواه الترمذي (4/433) ، والبخاري (3/1008) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/208) ، وعبد الرزاق (9/68، 70) ، وابن ماجة (2/905) ، والبيهقي في الكبرى (6/85) ، وابن الجارود (238) ، وانظر: الزرقاني (4/86) ، والشرح الكبير (4/437) ، والمواهب (4/368) ، والمدونة (6/36) ، والتمهيد (23/442) .(4/273)
ومن أوصى لوارث وأجنبي، تحاصا، وعاد حظ الوارث موروثاً إلا أن يجيز الورثة، ولو لم يدع إلا هذا الوارث الموصى له، لم يحاص الأجنبي في ضيق الثلث وبُدئ الأجنبي.
قال يحيى بن سعيد فيمن أوصى بثلثه في السبيل، فإن وليّه يضعه في السبيل، فإن أراد أن يغزو به وله ورثة غيره يريدون الغزو، فإنهم يغزون به بالحصص، فإن لم يرثه غيره، فلا بأس باستنفاقه منه فيما وضع فيه.
قال ربيعة: وإن أوصت امرأة لبعض ورثتها بوصية، وفي السبيل بوصية، فأجاز الزوج ذلك ثم قال: إنما أجزت رجاء أن يعطوني الوصية التي في السبيل، لأنه غاز، فليس ذلك له، ويلزمه ما أجاز.(4/274)
3789 - ومن أوصى عند موته أن يحج عنه، أنفذ ذلك، ويحج عنه من قد حج [عن نفسه] أحب إليّ. وإن استؤجر من لم يحج، أجزأ، وتحج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة، ولا يجزئ أن يحج عنه صبي، أو عبد، أو من فيه علقة رق، إذ لا حج عليهم، ويضمن الدافع إليهم، إلا أن يظن أن العبد حر وقد اجتهد ولم يعلم، فإنه لا يضمن.
قاله سحنون: وقال غيره: لا يزول عنه الضمان بجهله.
وإن أوصى أن يحج عنه عبد، أو صبي بمال، فذلك [جائز] نافذ، ويدفع ذلك إليه ليحج به عنه إن أذن السيد لعبده والوالد لولده، وذلك أنه كتطوع(4/275)
أوصى به، فهو لو لم يكن صرورة فأوصى بحجة تطوعاً، أنفذت ولم ترد، فهذا مثله.
وإن لم يكن للصبي أب، فأذن له الوصي في ذلك، فإن كان على الصبي فيه مشقة وضرر، وخيف عليه في ذلك ضيعة، فلا يجوز إذنه له، وإن كان الصبي قوياً على الذهاب وكان ذلك نظراً له جاز إذنه، لأن الولي لو أذن له أن يتجر وأمره بذلك، جاز. ولو خرج في تجارة من موضع إلى موضع بإذن الولي، لم بكن به بأس، فكذلك يجوز إذنه له في الحج على ما وصفنا. وقال غيره: لا يجوز للوصي أن يأذن له في هذا.
قال ابن القاسم: فإن لم يأذن له وليه، وقف المال لبلوغه، فإن حج به وإلا رجع ميراثاً، لأنه حين أوصى بحج الصبي والعبد، أراد التطوع لا الفريضة، ولو كان صرورة فسمى رجلاً بعينه يحج عنه، فأبى ذلك الرجل فيحج عنه غيره، بخلاف المتطوع الذي قد حج إذا أوصى أن يحج عنه رجل [بعينه] تطوعاً، هذا إن أبى الرجل أن يحج عنه رجعت ميراثاً، كمن أوصى لمسكين بعينه بمال من ثلثه، فمات المسكين قبل الموصي أو أبى أن يقبل، فذلك يرجع ميراثاً، وكمن أوصى لرجل بشراء عبد بعينه للعتق في غير عتق عليه واجب، فأبى أهله أن يبيعوه، فالوصية ترجع ميراثاً بعد الاستيناء واليأس من العبد.(4/276)
وقال غيره في الموصي بحجة تطوعاً إذا أبى الرجل أن يحج عنه: لا يرجع ميراثاً. والصرورة في هذا وغير الصرورة سواء، لأن الحج إنما أراد به نفسه، بخلاف الوصية لمسكين بعينه بشيء يرده أو شراء عبد بعينه للعتق.
قال ابن القاسم: ومن قال في وصيته: أحجوا فلاناً، ولم يقل: عني، أُعطي من الثلث قدر ما يحج به، فإن أبى أن يحج، فلا شيء له، وإن أخذ شيئاً رده، إلا أن يحج به.
وإن أوصى أن يحج عنه وارث في فرض أو تطوع، أنفذت وصيته، ولم يزد الوارث على النفقة والكراء شيئاً.
وكان مالك يكره الوصية بهذا، فإن نزل أمضاه، وإن قال: ادفعوا ثلثي لفلان يحج به عني، فإن كان وارثاً لم يدفع إليه إلا قدر نفقته، وكراه ويرد ما بقي من الثلث، وإن كان أجنبياً كان له ما فضل من الثلث كالأجير، وأما الذي يحج على البلاغ، فهو كرسول لهم ويرد ما فضل [من الثلث] .(4/277)
والبلاغ قولهم: تحج بهذه الدنانير عن فلان، وعلينا ما نقص عن البلاغ، أو: خذها فحج منها عن فلان.
والإجارة: أن يستأجره بمال على أن يحج عن فلان، فهذا يلزمه الحج، وله ما زاد وعليه ما نقص، وقد عرف الناس الإجارة والبلاغ.
3790 - ومن أوصى لرجل بدينار من غلة داره كل سنة، أو بخمسة أوسق من غلة حائطه كل عام، والثلث يحمل الدار والحائط، فأخذ ذلك عاماً ثم بار ذلك أعواماً، فللموصى له أخذ وصيته كل عام ما بقي من غلة العام الأول شيء، فإذا لم يبق منه شيء، فإذا غل [ذلك] ، أخذ ذلك منه لكل عام مضى [لم] يأخذ له شيئاً.
ولو أكرى الدار في أول سنة بعشرة دنانير، فضاعت إلا ديناراً، كان ذلك الدينار للموصى له، لأن كراء الدار لا شيء لورثة منه إلا بعد أخذ الموصى له منه وصيته، وكذلك غلة الجنان.
ولو قال: أعظه من غلة كل سنة خمسة أوسق، أو من كراء كل سنة ديناراً، لم يكن له أن يأخذ من غلة سنة عن سنة أخرى لم تغل.(4/278)
ولو أكريت الدار أول عام بأقل من دينار، وجاءت النخل بأقل من خمسة أوسق، لم يرجع بتمام ذلك في عام بعده.
ومن أوصى بغلة داره أو بغلة جنانه للمساكين، جاز ذلك.
3791 - وإن أعمرك رجل حياتك خدمة عبد، أو سكنى دار، أو ثمرة حائط، جاز أن يشتري ذلك منك هو أو ورثته، أو يصالحوك على مال، وإن لم تثمر النخل.
وإن أوصى لك بذلك حياتك، جاز شراؤه للورثة بنقد أو دين، كما يجوز للمعطي، وكالمعري يبيع باقي الحائط، فيجوز للمشتري شراء العرية بخرصها، ولم تختلف الرواة في سكنى الدار فيما ذكرنا. (1)
ولو صالحوك من الخدمة على مال، ثم مات العبد وأنت حي، فليس لهم رجوع عليك، ولا يجوز لك أن تبيع هذه الخدمة من أجنبي، أو تؤاجره العبد إلا مدة قريبة كسنة وسنتين وأمد مأمون، ولا تكريه إلى أجل غير مأمون، وأما لو أوصى لك بخدمة العبد عشر سنين فأكريته فيها، جاز، كمن واجر عبده عشر سنين.
قال مالك: ولم أر من فعله، ولو فعل جاز، وهذا خلاف المخدم حياته، لأنه إذا مات المخدم سقطت الخدمة، والمؤجل يلزمه باقيها لورثة الميت.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/434) .(4/279)
وللرجل أن يؤاجر ما أوصى به له من سكنى دار، أو خدمة عبد، إلا أن يكون عبداً قال له: اخدم ابني ما عاش، أو حتى يبلغ [أو ينكح] أو أجلاً مسمى، ثم أنت حر، وعلم أنه أراد ناحية الحضانة، فليس للابن أن يؤاجره، ولو مات الابن قبل ذلك عتق مكانه، إلا أن يكون من عبيد الخدمة، [أو] ممن أريد به الخدمة، فإنه يخدم ورثته بقية الأجل إن كان أجلاً.
قال ربيعة: وإن قال: إذا تزوج ابني فأنت حر، فبلغ الابن النكاح وهو موسر، فأبى أن ينكح وتسرر، فإن العبد يعتق الآن، لأنه أراد بلوغ رشده وأن يستعين بالعبد فيما قبل ذلك من السنين.
3792 - ومن أوصى لرجل برقبة جنانه، أو بأمته، أو بعتقها، فأثمر الجنان عاماً أو عامين، أو ولدت الأمة، وذلك كله قبل موت الموصي، والثلث يحمل الجنان وما أثمر، أو الأمة وولدها، فإن الولد والثمرة للورثة دون الموصى له.
وكذلك إذا أبرت النخل وألقحت الشجر قبل موت الموصي، فالثمرة للورثة دون الموصى له، وما أثمر الجنان بعد موته قبل النظر في الثلث، فتلك الثمرة للموصى له.
ولا تقوم الثمرة مع الأصل، وإنما تقوم مع الأصل بعد موت الموصي في الولادة(4/280)
وشبهها، والثمرة هاهنا كالغلة والخراج، لا كولادة الأمة، وكذلك ما أفاد المدبر والموصى بعتقه، والموصى به لرجل من فوائد بعد موت الموصي قبل النظر في الثلث، فلا يقوّم معهم في الثلث، وإنما يقوم معهم من أموالهم ما مات السيد وهو بأيديهم، أو ما نما من ربحه بعد موته.
وليس لهم أن يتجروا فيه بعد موته، فإن فعلوا فالربح بمنزلة رأس المال، وكذلك لا يقوم مع المبتل في المرض، ما أفاد بعد عتقه قبل موت السيد أو بعد موته.
فهذه فوائد لهم وللموصى له بالعبد إن حمل الثلث رقابهم، وإن حمل بعض الرقاب، وقف المال بأيديهم.
واستحداث الميت للدين في المرض يرد ما بتل من العتق في مرضه، ويضر العبد، كما يضره ما تلف من المال.
قال سحنون: وقد قال غير هذا، وهو قول أكثر الرواة: إن ما اجتمع في(4/281)
الإيقاف بعد الموت لاجتماع المال للمدبر، أو للموصى له بعتقه، أو برقبته لرجل من مال تقدم [لهم] ، أو ما ربحوا فيه من تجارة، أو من عمل أيديهم، أو بهبة، أو بغيرها من الفوائد، فإن ذلك يقوم في الثلث معهم، خلا أرش ما جنى على المدبر، فليس له، وذلك للسيد كبعض تركته.
وكذلك المبتل في المرض يقوم معه ماله، وما أفاد من ذلك كله بعد العتق قبل موت السيد أو بعده.
وكذلك الجنان الموصى بها لرجل، أن ما أثمرت بعد موت الموصي، يقوم مع الأصول في الثلث، وإن حمل الثلث جميع العبيد الذين ذكرنا، كان المال لهم وللموصى له بالعبد.
وكذلك النخل إذا حملها الثلث بثمرها كانت الثمرة للموصى له، وإن حمل الثلث نصف ما ذكرنا، وقف المال بأيدي العبيد ولا ينزع ممن جرت فيه حرية منهم، ويكون للموصى له بالجنان نصف النخل ونصف الثمرة. قال سحنون: وهذا أعدل أقوال أصحابنا.
3792 - ومن قال في صحته: غلة داري للمساكين، وأنا ألي غلتها وأفرقها ما دمت(4/282)
حياً، فإن ردها ورثتي بعد موتي، فهي وصية في ثلثي، تباع ويتصدق بثمنها، فذلك نافذ كما قال.
ولو قال: هي لبعض ورثتي، وألي أنا قسمتها، فإن رد ذلك ورثتي بعد موتي، بيعت، وتصدق بثمنها من ثلثي، لم يجز ووُرثت. وإذا أوصى بثلثه لوارث وقال: فإن لم يجزه باقي الورثة فهو في السبيل، لم يجز ذلك، وهو من باب الضرر. وكذلك بعبد، فإن لم يجيزوا فهو حر، فإنه يورث إن لم يجيزوا.
ولو قال: هو حر أو في السبيل، أو قال: داري أو فرسي في السبيل إلا أن يشاء ورثتي أن ينفذوا ذلك لابني، فذلك نافذ على ما أوصى [به] .
3793 - ومن أوصى لرجل بثلاثين ديناراً، ثم أوصى له تارة أخرى بالثلث، فله أن يضرب مع أهل الوصايا بالأكثر.
قال مالك: ومن أوصي له بمبذر عشرين مدياً من أرضه، فإن كانت الأرض مبذرها مائة، فله خمسها بالسهم، وقع له أقل من عشرين أو أكثر لكرم(4/283)
الأرض أو رداءتها، وإن أوصى له بدار ثم أوصى له بعشرة دور، وللميت عشرون داراً، فله الأكثر إن حمله الثلث، أو ما حمل الثلث إلا أن يجيز الورثة، وإن كانت الدور في بلدان شتى أخذ النصف من كل دار بالسهم.
ومن أوصى بوصية بعد أخرى فإن لم تتناقضا أنفذتا جميعاً، وإن كانتا من صنف واحد فزادت إحداهما، أنفذت الزائدة فقط، وإذا تناقضتا، أخذ بالآخرة وبطلت الأولى، كمن أوصى لرجل بشيء بعينه من صنف، ذكر منه كيلاً، أو وزناً، أو عدداً من طعام، أو عرض، أو عين، أو غيره، أو بعدد بغير عينه من رقيق عنده، أو غنم، ثم أوصى له من ذلك الصنف بأكثر من تلك التسمية أو أقل، فله أكثر الوصيتين كانت الأولى أو الآخرة. وإن كان أوصى له آخراً بنصف آخر، فله الوصيتان جميعاً.
3794 - ومن أوصى بشيء بعينه من دار، أو ثوب، أو عبد، أو دابة لرجل، ثم أوصى بذلك لرجل آخر، [فهو بينهما، وكذلك لو أوصى بثلثه، ثم أوصى لرجل آخر] بجميع ماله، لم يعدّ رجوعاً، وكان الثلث بينهما على أربعة أسهم.
3795 - ومن له ثلاثة دور أوصى بثلثهن لرجل، فاستُحق منها داران، أو أوصى بثلث داره فاستُحق ثلثاها، فللموصى له ثلث ما بقي، وإن قال: العبد الذي أوصيت به لزيد، هو [وصية] لعمرو، فذلك رجوع.(4/284)
وإن أوصى بعتق عبد بعينه، ثم أوصى به لرجل، أو أوصى به أولاً لرجل، ثم أوصى به للعتق، فالآخرة تنقض الأولى، إذ لا يشترك في العتق.
3796 - ومن أوصى لرجل بمثل مصاب أحد بنيه فإن كانوا ثلاثة، فله الثلث.
قال مالك - رحمه الله -: وإذا قال: لفلان مثل ما يصيب أحد ورثتي، وترك رجالاً ونساء، فليقسم المال على عدد رؤوسهم فيعطى جزءاً منه، ثم يقتسم ما بقي بين الورثة إن كانوا ولده، للذكر مثل حظ الأنثيين.
3797 - ومن أوصى لولد ولده بثلثه ولا يرثونه، فذلك جائز، قيل: فإن مات أحدهم وولد غيرهم بعد موت الموصي قبل قسمة المال؟ قال: [فإن] ذلك كقول مالك في الموصي لأخواله وأولادهم أو لمواليهم. قال ابن القاسم: أو لبني عمه أو لبني فلان بثلثه، فذلك لمن حضر القسم، لا يحسب من مات بعد موت الموصي ولا يحرم من ولد، لأنه لم يسم قوماً بأعيانهم.(4/285)
وقال ابن القاسم في باب بعد هذا، فيمن أوصى بثلثه لموالي فلان، فمات بعضهم، وولد لبعضهم، وعتق آخرون قبل القسم: إن ذلك لمن حضر القسم كالوصية لولد الولد.
وإن قال: ثلثي لهؤلاء النفر، وهم عشرة، فإن من مات منهم يرث نصيبه وارثوه. قيل له: فإن قال: ثلثي لولد فلان، وولد [فلان] ذلك الرجل عشرة ذكور وإناث؟ قال: الذي سمعت من مالك أنه إذا أوصى بحبس داره أو ثمرة حائطه على ولد فلان، أو على ولد ولده، أو على بني فلان، فإنه يؤثر أهل الحاجة [منهم] في السكنى والغلة، وأما الوصايا فلا أحفظ قول مالك فيها، ولكني أراها بينهم بالسوية. قال سحنون:(4/286)
فهذه المسألة أحسن من المسألة التي قال فيمن أوصى لأخواله وأولادهم.
وقد روى ابن وهب في الأخوال مثل رواية ابن القاسم، إلا أن قول عبد الرحمن ابن القاسم في هذه المسألة أحسن، وكذلك يقول غيره.
وليس وصيته لأخواله، أو ولد فلان بشيء ناجز، كوصيته لهم بغلة موقوفة تقسم إذا حضرت كل عام، فهذا قد علم أنه أراد بها غير معين، فهي على مجهول ممن يأتي، فإنما تكون الغلة لمن حضر قسمتها كل عام، فأما وصيته لأخواله، أو ولد فلان بمال ناجز وهم معروفون لقلتهم، وتعلم عدتهم، فكالوصية لقوم مسمّين. (1)
3798 - وإذا كانت الوصية لقوم مجهولين لا تعرف عدتهم لكثرتهم، مثل قوله على بني تميم، أو بني زهرة، أو المساكين، فهذا لم يرد قوماً بأعيانهم، لأن ذلك لا يحصى ولا يعرف، فإنما يكون ذلك لمن حضر القسم، وتركت مسألة من حبس داراً على قوم حبساً صدقة، لأنها مذكورة في آخر كتاب الهبات أتم مما هنا.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/72) ، والتاج والإكليل (6/374) .(4/287)
3799 - ومن قال: ثلثي لولد فلان. وقد علم أنه لا ولد له، جاز، وينتظر أيولد له أم لا، ويساوى فيها بين الذكر والأنثى. وإن لم يعلم أنه لا ولد له، فذلك باطل.
وكذلك وصيته لميت ولا يعلم بموته، فوصيته باطلة، وإن علم بموته، نفذت الوصية لورثة الموصى له وقضى بها دينه.
3800 - وإذا مات الموصى له بعد موت الموصي، فالوصية لورثة الموصى له، علم بها أو لا، وإن مات قبل موت الموصي، بطلت الوصية، علم الموصي بموته أم لا.
قال مالك: ويحاص بها ورثة الموصي أهل الوصايا في ضيق الثلث، ثم تورث تلك الحصة. [وقد قال مالك - رحمه الله -: إذا علم الموصي بموت الموصى له، بطلت الوصية، ولا يحاص بها أهل الوصايا.
[قال سحنون: وعلى هذا قول الرواة، وإنما تحاص الورثة أهل الوصايا](4/288)
بوصية الموصى له، إذا مات الموصى له قبل موت الموصي، والموصي لا يعلم أن الموصى له مات، والأمر عنده أن وصيته لمن أوصى له جائزة، فلما بطلت بموت الموصى له، رجع ما كان له إلى مال الميت ودخل الورثة، فحاصوا أهل الوصايا بوصيته، لأنه هو كان كذلك، كان يحاصهم بوصيته] .
وأكثر الرواة على أنهم يتحاصون بها إن لم يعلم بموته ولا يتحاصون بها إن علم، وقاله أيضاً مالك.
3801 - مالك: ومن أوصى بثلثه لبني تميم أو لقيس، جاز وقسم على الاجتهاد، قال: ولقد نزلت أن رجلاً أوصى لخولان بوصية، فأجازها مالك ولم ير فيها شيئاً للموالى.
ومن أوصى بثلثه لموالى فلان، كان لمواليه الأسفلين دون الأعلين.
ومن قال: ثلثي لفلان وفلان، أحدهما غني والآخر فقير، فالثلث بينهما نصفين، فإن مات أحدهما بعد موت الموصي ورث نصيبه ورثته، وإن مات قبله فللباقي نصف الثلث، ولا شيء لورثة الآخر، ويرجع نصيبه إلى ورثة الموصي.
3802 - وإن أوصى لفلان بعشرة، ولفلان بعشرة، والثلث عشرة، فمات أحدهما قبل(4/289)
موت الموصي، فكان مالك يقول: إن علم الموصي بموته فالعشرة للباقي، وإن لم يعلم حوصص بينهما، فيصير للحي خمسة، وترجع الخمسة التي وقعت للميت لورثة الموصي ميراثاً، وعليه أكثر الرواة. ثم قال مالك: تكون العشرة للباقي علم الموصي بموته أم لا. ثم قال [آخر زمانه] : أرى أن يحاص بها الباقي، علم الموصي بموت الآخر أم لا.
قال ابن القاسم: وبه آخذ، [وقد ذكر ابن دينار أن قوله هذا الآخر هو الذي يعرف من قوله قديماً.
قال ابن القاسم:] وكذلك قوله: ثلث مالي لفلان، وثلثا مالي لفلان، فيموت أحدهما [قبل الموصي] على اختلاف القول في صاحبي العشرة سواء. فإن(4/290)
كان الميت منهما صاحب الثلث كان للباقي منهما ثلثا الثلث في قول مالك الآخر، [ويحاصه الورثة، علم الموصي بموت الآخر أم لا، وبه أقول] .
وفي قول مالك الأول يختلف، إن علم أو لم يعلم بحال ما وصفنا.
وفي قوله الأوسط يكون للباقي جميع الثلث، فعلى هذا فقس ما يرد عليك.
3803 - قلت: فمن أوصى في مرضه بأكثر من ثلثه، فأجاز ورثته ذلك قبل موته من غير أن يطلبهم الميت بذلك، أو طلبهم فأجازوا، ثم رجعوا بعد موته.
قال: قال مالك - رحمه الله -: إذا استأذنهم في مرضه فأذنوا له، ثم رجعوا بعد موته، فمن كان عنه بائناً من ولد، أو أخ، أو ابن عم، فليس ذلك لهم. ومن كان في عياله من ولد قد احتلم، أو بناته، أو زوجاته، فذلك لهم، وكذلك ابن العم الوارث إن كان ذا حاجة إليه، ويخاف إن منعه، وصح أن يضربه في منع رفده إلا أن يجيزوا بعد الموت، فلا رجوع لهم بعد ذلك. ولا يجوز إذن البكر والابن السفيه وإن لم يرجعا، ومن أوصى(4/291)
بجميع ماله وليس له إلا وارث واحد مديان، فأجاز ذلك، فلغرمائه رد الثلثين وأخذه في دينهم.
3804 - وإن أقر الولد أن أباه أوصى لرجل بثلث ماله، وعلى الولد دين يغترق مورثه، وأنكر غرماؤه الوصية، فإقراره قبل القيام عليه بالدين جائز.
ولا يجوز إقراره بعد القيام عليه، وكذلك إقراره بدين على أبيه، أو بوديعة عند أبيه، فإقراره بعد قيام الغرماء عليه، لا يقبل إلا ببينة، وإقراره قبل أن يقام [عليه] جائز.
فإن كان المقر له حاضراً، حلف واستحق، كمن شهد أن هذا الذي في يديه تصدق به فلان على فلان وتركه له في يدي، وأنكر الذي هو له، فإن حضر المشهود له، جاز ذلك مع يمينه، وإن كان غائباً لم يجز، لأن المقر يتهم على بقاء ذلك الشيء بيده.
* * *(4/292)
(كتاب الوديعة) (1)
3805 - ومن أودعته مالاً فدفعه إلى زوجته أو خادمه، لترفعه له في بيته، ومن شأنه أن ترفع له، لم يضمن ما هلك من ذلك، وهذا [ما] لا بد منه. وكذلك إن دفعه إلى عبده أو أجيره الذي في عياله، أو رفعه في صندوقه أو بيته ونحوه، لم يضمن، ويصدق أنه دفعه إلى أهله، أو أنه أودعه على هذه الوجوه التي ذكرنا أنه لا يضمن فيها، وإن لم تقم له بينة.
وإن أراد سفراً أو خاف عورة منزله ولم يكن صاحبها حاضراً، فيردها عليه، فليودعها ثقة ولا يُعرِّضها للتلف، ثم لا يضمن، وإن أودعها لغير هذا الذي يعذر به
_________
(1) انظر: منح الجليل (7/3) ، والتاج والإكليل (4/249) ، ومواهب الجليل (5/259) ، والكافي (ص403) ، والمدونة الكبرى (15/144) .(4/293)
ضمن، إلا أنه لا يصدق إن أراد سفراً أو خاف عورة منزله فأودعها، إلا أن يعلم سفره وعورة منزله، فيصدق، وإن سافر فحمل الوديعة معه، ضمن.
وإن أودعت المسافر مالاً فأودعه في سفره فضاع، ضمن، [بخلاف الحاضر يسافر] .
3806 - قال مالك - رحمه الله في امرأة ماتت بالإسكندرية فكتب وَصِيُّها إلى ورثتها وهم بالمدينة، فلم يأته منهم خبر، فخرج بتركتها إليهم فهلكت في الطريق، فهو لها ضامن حين خرج بها بغير أمر أربابها.
ومن أودعته دنانير ودراهم فخلطها بمثلها ثم ضاع المال كله، لم يضمن، وإن ضاع بعضه كان ما ضاع وما بقي بينكما، لأن دراهمك لا تعرف من دراهمه، ولو عرفت بعينها كانت مصيبة دراهم كل واحد منه، ولا يغيرها الخلط.
وإن أودعته حنطة فخلطها بحنطة، فإن كانت مثلها وفعل ذلك بها على الإحراز لها والرفع، فهلك الجميع لم يضمن، وإن كانت مختلفة ضمن، وكذلك إن خلط حنطتك بشعير ثم ضاع الجميع، فهو ضامن، لأنه قد أفاتها بالخلط قبل هلاكها.
وإن أودعته حنطة فخلطها صبي أجنبي بشعير للمودع، ضمن الصبي ذلك في ماله، وإن لم يكن له مال ففي ذمته، لهذا مثل حنطته ولهذا مثل شعيره، وإن اختارا(4/294)
ترك الصبي ويكونان في المخلوطين شريكين بقدر طعام كل واحد بعد العلم بكيله فَعَلا، ولو أعطى أحدهما الآخر مثل طعامه على أن يدع له جميع المخلوط، لم يجز، [لأنه بيع] ، إلا أن يكون هو المتعدي في خلطه، فيجوز ذلك، لأنه قضاء لما لزمه.
ومن أودعته دراهم أو حنطة أو ما يكال أو يوزن، فاستهلك بعضها ثم هلك بقيتها، لم يضمن إلا ما استهلك [أولاً] . ولو كان قد ردّ ما استهلك، لم يضمن شيئاً، وهو مصدق أنه رد فيها ما أخذ، كما يصدق في ردها إليك وفي تلفها. وكذلك إن تسلف جميعها ثم رد مثلها مكانها لبرئ، كان أخذه إياها على السلف أو على غيره، فلا شيء عليه إن هلكت بعد أن ردها. ولو كانت ثياباً فلبسها حتى بليت، أو استهلكها ثم رد مثلها، لم تبرأ ذمته من قيمتها، لأنه إنما لزمته قيمتها.
3807 - ومن بيده وديعة أو قراض لرجل، فقال له: رددت ذلك إليك، فهو مصدق، إلا أن يكون قبض ذلك ببينة، فلا يبرأ إلا ببينة، ولو قبضه ببينة فقال: ضاع مني أو سرق، صدق.(4/295)
وإن دفعت إليه مالاً ليدفعه إلى رجل، فقال: دفعته إليه، وأنكر ذلك الرجل، فإن لم يأت الدافع إليه ببينة، ضمن، قبض [ذلك منه] ببينة أو بغير بينة.
ولو شرط الرسول أن يدفع المال إلى من أمرته بغير بينة، لم يضمن، وإن لم تقم له بينة بالدفع إذا ثبت هذا الشرط. وإن قال الرسول: لم أجد الرجل فرددت المال إليك صدق، إلا أن يكون قبضه ببينة [فلا يبرأ إلا ببينة] .
3808 - ولو قال في الوديعة والقراض: قد رددت ذلك إلى ربه مع رسولي، ضمن، إلا أن يكون رب المال أمره بذلك.
3809 - وإن بعثت بمال إلى رجل بلد فقدمها الرسول ثم مات بها، وزعم الرجل أن الرسول لم يدفع إليه شيئاً، فلا شيء لك في تركة الرسول ولك اليمين على من يجوز أمره من ورثته أنه ما يعلم لك شيئاً. ولو مات الرسول قبل أن يبلغ البلد فلم يوجد للمال أثر، فإنه يضمن ويؤخذ من تركته.
3810 - ومن هلك وقبله قراض وودائع لم توجد ولم يوص بشيء، فذلك في ماله ويحاص(4/296)
بذلك غرماؤه، وإن قال عند موته: هذا قراض [فلان] وهذه وديعة فلان، فإن لم يتهم صدق، وذلك للذي سمى له.
ومن بعثت معه بمال ليدفعه إلى رجل صدقة أو صلة أو سلفاً، أو من ثمن بيع، أو ليبتاع لك به سلعة، فقال: دفعته إليه وأكذبه الرجل، لم يبرأ الرسول إلا ببينة، وكذلك إن أمرته بصدقته على قوم معينين، فإن صدقه بعضهم وكذّبه بعضهم، ضمن حصة من كذبه، ولو أمرته بصدقته على غير معينين صدق مع يمينه [و] إن لم يأت ببينة.
3811 - ومن أودع وديعة بيده لغير عذر، ثم استردها فهلكت عنده، لم يضمن، كرده لما تسلف منها.
[ومن أودعته] وديعة فجحدك إياها وأقمت عليه بينة، فإنه يضمن.
3812 - ومن قال لرجل: أقرضتك كذا وكذا، وقال الرجل: بل أودعتنيه وتلف، صدق رب المال، ولو قال ربه: بل غصبتنيه وسرقته مني، فهو مدع، لأنه من معنى التلصص، فلا يصدق عليه، ولا يضمن له الرجل شيئاً.(4/297)
ومن أخذ من رجل مالاً فقال الدافع: إنما قضيتكه من دينك [الذي] لك عليّ، أو رددته [إليك] من القراض الذي لك عندي، وقال الآخر: بل أودعتنيه فضاع عندي، صدق الدافع مع يمينه.
3813 - وإن كانت لك عند رجل ألف درهم قرضاً وألف درهم وديعة، فأعطاك ألفاً أو بعث بها إليك، ثم زعم أنها القرض وأن الوديعة قد تلفت، وقلت أنت: بل الذي قبضت الوديعة، فالقول قول المستودع كما يصدق في ذهاب الوديعة.
3814 - ومن أودع صبياً صغيراً وديعة بإذن أهله أو بغير إذنهم فضاعت، لم يضمن.
ومن باع منه سلعة فأتلفها فليس له اتباعه بثمن ولا قيمة. (1)
ولو ابتاع من الصبي سلعة ودفع الثمن إليه فأتلفه، فالمبتاع ضامن للسلعة ولا شيء له قبل الصبي من الثمن.
_________
(1) انظر: مختصر خليل (1/227) ، ومواهب الجليل (5/567) ، والفواكه الدواني (2/116) ، والتاج والإكليل (5/267) ، وحاشية الدسوقي (3/296) .(4/298)
وإن أودعت عبداً محجوراً عليه وديعة فأتلفها، فهي في ذمته إن عتق يوماً ما، إلا أن يفسخها عنه السيد في الرق، فذلك له، لأن ذلك يعيبه فيسقط ذلك عن العبد في رقه وبعد عتقه.
3815 - وما أتلف المأذون [له] من وديعة بيده فذلك في ذمته لا في رقبته، لأن الذي أودعه متطوع بالإيداع، وليس للسيد أن يفسخ ذلك عنه. وكذلك ما أفسد العبد الصانع المأذون له في الصناعة مما دفع إليه ليعمله أو يبيعه فأتلفه. وكذلك من ائتمنه على شيء أو أسلفه فإن ذلك في ذمته، لا في رقبته ولا فيما في يديه من مال السيد، وليس للسيد فسخ ذلك عنه.
وما قبضه العبد والمكاتب وأم الولد والمدبر من وديعة بإذن ساداتهم فاستهلكوها، فذلك دين في ذممهم لا في رقابهم، بخلاف الصبي يقبض وديعة بإذن أبيه فيتلفها هذا، لا يلزمه شيء ولا ينبغي ذلك لأبيه.
ومن أودعته وديعة فاستهلكها ابنه الصغير، فذلك في مال الابن، فإن لم يكن له مال فذلك في ذمته.
ومن أودعته وديعة فاستهلكها عبده فهي جناية في رقبته، فإما فداه بذلك أو أسلمه، ومن قتل عبداً فقيمته في ماله حالّة ولا تحملها العاقلة.(4/299)
3816 - ومن أودعته وديعة فادعى أنك أمرته أن يدفعها إلى فلان ففعل، وأنكرت أنت أن تكون أمرته، فهو ضامن، إلا أن تقوم له بينة أنك أمرته بذلك.
وإن بعثت إليه بمال فقال: [قد] تصدقت به [عليّ] ، وصدقه الرسول وأنت منكر للصدقة، فالرسول شاهد يحلف معه المبعوث إليه ويكون المال صدقة عليه. قيل: كيف يحلف ولم يحضر؟ قال: كما يحلف الصبي إذا كبر مع شاهده في دين أبيه.
3817 - وإن بعت من رجل ثوباً وبعثت معه عبدك أو أجيرك ليقبض الثمن فقال: قبضته وضاع مني، فإن لم يقم المشتري بينة بالدفع إلى رسولك ضمن بخلاف من دفعت إليه مالاً ليدفعه إلى رجل فقال: دفعته إليه بغير بينة، وصدقه الرجل، هذا لا يضمن.
3818 - ومن أودعته أمة فوطئها، فعليه الحد والولد عبد لك.(4/300)
ومن أودعته وديعة فأتى رجل فزعم أنك أمرته بأخذها، فصدقه ودفعها إليه فضاعت، فالدافع ضامن، فإن ضمّنته كان له الرجوع على آخذها منه.
ومن أودع رجلين وديعة أو استبضعهما فليكن ذلك عند أعدلهما كالمال بيد الوصيين، وإذا لم يكن في الوصيين عدل خلعهما السلطان ووضع المال عند غيرهما.
[قال ابن القاسم: ولم أسمع من مالك في الوديعة والبضاعة شيئاً وأراه مثله] .
3819 - ومن استودعك دابة وغاب فأنفقت عليها بغير أمر السلطان، فإنك إن أقمت بينة أنه أودعكها منذ وقت كذا فإن الإمام يبيعها ويقضيك ما ادعيت من النفقة وإن لم يشهدوا بها إذا لم تدع شططاً.
ومن أودعته بقراً أو أًتناً أو نوقاً فأنزى عليهن فحملن فمتن من الولادة(4/301)
أو كانت أمة فزوجها فحملت وماتت من الولادة، فهو ضامن. وكذلك لو عطبت تحت الفحل. (1)
وقد روي عن مالك - رحمة الله عليه - فيمن رهن جارية عند رجل فزوّجها المرتهن بغير أمر صاحبها، فحملت وماتت من النفاس، أن ضمانها من الراهن. وقال ابن القاسم: ضمانها من المرتهن.
3820 - ومن أودعته إبلاً فأكراها إلى مكة ورجعت بحالها إلا أنه حبسها
_________
(1) انظر: التقييد (6/212) .(4/302)
عن أسواقها ومنافعك فيها فأنت مخير في تضمينه قيمتها يوم تعديه ولا كراء لك، أو [تأخذها] وتأخذ كراها، وكذلك المستعير يزيد في المسافة أو المكترى.
3821 - ومن أودعته وديعة فقال: أنفقتها على أهلك وولدك وصدقوه في ذلك، فهو ضامن إلا أن يقيم بينة ويكون ما أنفق يشبه نفقتهم ولم تكن أنت تبعث إليهم بالنفقة، فيبرأ.
ومن أودعته أمة فزوجها بغير إذنك فهو ضامن لما نقصها التزويج، وإن ولدت وكان في الولد ما يجبر به نقص النكاح لم يغرم لنقص النكاح شيئاً، وربها مخير إن شاء أخذها وولدها وإن شاء ضمّنه قيمتها بلا ولد.
وقاله مالك - رحمه الله - فيمن رد أمة ابتاعها بعيب وقد زوجها وولدت أنه يجبر نقص النكاح بالولد، كما يجبره بزيادة قيمتها، والنكاح ثابت، زوّجها من عبد أو من حر، لأنه زوجها وهي في ملكه كما لو أعتقها جاز عتقه، وإن أعتقها بعد علمه بالعيب لم يرجع بشيء، وإن لم يعلم رجع بحصته، ولو تسوق بها بعد علمه بالعيب لزمته ولم يردها.(4/303)
3822 - ومن أودعته مالاً فتجر فيه فالربح له، وليس عليه أن يتصدق بالربح.
[وتكره التجارة بالوديعة] ومن لك عليه مال من وديعة أو قراض أو بيع [فجحدك ثم صار بيدك مثله بإيداع أو بيع] أو غيره. قال مالك - رحمه الله -: فلا يعجبني أن تجحده. (1)
_________
(1) انظر: منح الجليل (7/22) ، وحاشية الدسوقي (3/425) .(4/304)
وقد روي: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". (1)
3823 - ومن أودعك وديعة ثم غاب فلم تدر أين موضعه، أحي هو أم ميت، ولا مَنْ ورثته، فإنك تستأني بها، فإن طال الزمان ويئست منه، فينبغي أن تتصدق بها عنه.
وإن أودعته وديعة فاستهلكها ثم ادعى أنك وهبتها له وأنكرت، فالقول قولك.
3824 - ومن أودعك عبداً فبعثته في سفر أو في أمر يعطب في مثله فهلك، ضمنته.
_________
(1) رواه الترمذي (3/564) ، (1264) ، وأبو داود (3535) ، والدارمي (2/343) ، والحاكم في المستدرك (2/46) ، والدارقطني (3/35) ، والبيهقي (10/270، 271) ، وانظر: كفاية الطالب (2/359) ، وحاشية الدسوقي (3/431) ، والفواكه الدواني (2/170) ، والمدونة (15/160) ، وحاشية العدوي (2/359) ، والتمهيد (20/159) ، وشرح الزرقاني (4/40) .(4/305)
وأما إن بعثته لشراء بقل أو غيره من حاجة تقرب من منزلك، لم تضمن، لأن الغلام لو خرج في مثل هذا لم يمنع منه.
وإن أودعك عبد وديعة وهو مأذون أو غير مأذون ثم غاب فقام سيده ليأخذها، فله ذلك.
وقاله مالك - رحمه الله - فيمن ادعى متاعاً بيد عبد غير مأذون وصدّقه العبد وقال رب العبد: بل المتاع لي، أو قال: لعبدي، فالقول قول السيد، ولو كان العبد مأذوناً كان القول قول العبد. وكذلك في إقراره بدين.
* * *(4/306)
(كتاب العارية)
3825 - ومن استعار دابة ليركبها حيث شاء وهو في الفسطاط، فركبها إلى الشام أو إفريقية، فإن كان وجه عاريته إلى مثل ذلك فلا شيء عليه، وإلا ضمن، والذي يسأل رجلاً يسرج له دابته ليركبها في حاجة له، فيقول له ربها: اركبها حيث أحببت، فهذا يعلم الناس أنه لم يسرجها له إلى الشام ولا إلى إفريقية.
قال ابن القاسم: وقد وجدت في مسائل عبد الرحيم.(4/307)
وقال مالك - رحمه الله - فيمن استعار دابة ليركبها إلى موضع، فلما رجع زعم ربها أنه أعارها إياه إلى دون ما ركبها إليه، أو إلى بلد آخر: فالقول قول المستعير إن ادعى ما يشبه مع يمينه، ويكون عليه فضل ما بين كراء الموضع الذي [أقر المعير أنه أعار إليه، وبين كراء الموضع الذي] ركب إليه المستعير [إذا ادعى ما لا يشبه] .
وكذلك إن اختلفا فيما حمل عليها، [صُدّق المستعير فيما يشبه] .
3826 - ومن استعار مهراً فحمل عليها حمل بز، لم يصدق أنه استعاره لذلك، وإن كان بعيراً، صُدّق.
ومن استعار دابة ليحمل عليها حنطة، فحمل عليها حجارة، فكل ما حمل عليها مما ÷وأضر بها مما استعارها له فعطبت به، فهو ضامن.
وإن كان مثله في لضرر لم يضمن، كحمله عدساً في مكان حنطة أو كتاناً أو قطناً في مكان بز.(4/308)
وكذلك من اكتراها لحمل أو ركوب، فأكراها من غيره في مثل ما اكتراها له فعطبت، لم يضمن.
وإن استعارها لحمل حنطة فركبها فعطبت، فإن كان ذلك أضر بها وأثقل ضمن، وإلا لم يضمن. وإن استعارها ليركبها إلى موضع فركب وأردف رديفاً تعطب في مثله فعطبت، فربها مخير في أخذ كراء الرديف فقط، أو يضمنه قيمة الدابة يوم أردفه.
وفي كتاب الأكرية ذكر المكتري يزيد في الحمل ما تعطب الدابة في مثله أو لا.
3827 - وإن استعارها إلى مسافة فجاوزها بها فتلفت، فربها مخير في أن يضمنه قيمتها يوم التعدي أو كراء التعدي فقط.
ومن استعار ما يغاب عليه من ثوب أو غيره فكسره أو خرقه أو ادعى أنه سرق منه أو احترق، فهو له ضامن وعليه فيما أفسده إفساداً يسيراً ما نقصه، وإن كان كثيراً ضمن قيمته كلها إلا أن يقيم بينة أن ذلك هلك بغير سببه، فلا يضمن إلا أن يكون منه تضييع أو تفريط فيضمن.
قال ابن القاسم: وكذلك وجدت هذه المسألة في مسائل عبد الرحيم.(4/309)
ولا يضمن ما لا يغاب عليه من حيوان [أو غيره] ، وهو مصدق في تلفه، ولا يضمن شيئاً مما أصابه عنده إلا أن يكون بتعديه.
3828 - وإن أمرت من يضرب عبدك عشرة أسواط ففعل، فمات العبد منها، فلا شيء لك عليه، واستحب له أن يكفر كفارة الخطأ. وإن ضربه أحد عشر سوطاً أو عشرين سوطاً، فمات من ذلك، فإن زاد زيادة أعانت على قتله، ضمن.
3829 - ومن أذنت له أن يبني في أرضك أو يغرس، فلما فعل أردت إخراجه، فأما بقرب إذنك له مما لا يشبه أن تعيره إلى مثل تلك المدة القريبة، فليس لك إخراجه إلا أن تعطيه ما أنفق. وقد قال في باب بعد هذا: قيمة ما أنفق وإلا تركته إلى مثل ما يرى الناس أنك أعرته إلى مثله من الأمد.
وإذا أردت إخراجه بعد أمد يشبه أنك أعرته إلى مثله فلك أن تعطيه قيمة البناء والغرس مقلوعاً وإلا أمرته بقلعه إلا أن يكون مما لا قيمة له ولا نفع فيه من جص ونحوه فلا شيء للباني فيه، وكذلك لو ضربت لعاريته أجلاً فبلغه، وليس لك ههنا إخراجه قبل الأجل، وإن أعطيته قيمة ذلك قائماً، وكذلك لو لم يبن ولم يغرس حتى أردت إخراجه، فليس ذلك لك قبل الأجل، ولو لم تضرب أجلاً كان ذلك لك.(4/310)
وإذا سميت له أجلاً ولم يسم ما يبنى [فيه] ويغرس، فليس لك منعه مما يبني ويغرس إلا فيما يعلم أنه يضر فيه بأرضك، وإن [ضربا أجلاً] فأراد الباني أن يخرج قبل الأجل، فله قلع بنائه أو غرسه إلا أن تشاء أنت أخذه بقيمته مقلوعاً إن كان إذا قلع فيه منفعة، وإن لم تكن فيه منفعة، فلا شيء له عليك.
وإن أعرته أرضك للزرع فزرعها، فليس لك إخراجه حتى يتم الزرع، إذ ليس مما يباع حتى يطيب، فتكون فيه القيمة، وليس لك أخذه بكراء من يوم رمت إخراجه، ولا فيما مضى، إلا أن تكون إنما أعرته للثواب، فهذا بمنزلة الكراء، وإن أعرته أرضك يبني فيها ويسكن عشر سنين، ثم يخرج ويدع البناء، فإن بيّن صفة البناء ومبلغه وضرب لذلك أجلاً، فهو جائز، وهي إجارة، وإن لم يصفه لم يجز، وإن وصفه وقال: أسكن ما بدا لي، ولم يؤجّل، فمتى خرجت فالبناء لك، لم يجز ذلك، فإن بنى على هذا وسكن، فله قلع بنائه ولك عليه كراء أرضك، ولك أن تعطيه قيمته مقلوعاً ولا ينقضه.
وإن أعرته أرضك عشر سنين على أن يغرسها أصولاً، على أن يكون لك بعد(4/311)
المدة شجرها، لم يجز، إذ ليس للشجر حد معروف، والمغارسة من ناحية الجعل، وإنما يجوز أن تعطيه أرضك يغرسها أصولاً نخلاً وكرماً أو فرسكاً أو تيناً أو شبه ذلك، فإن بلغت شباباً كذا، فالشجر والأرض بينكما على النصف أو الثلث أو ما سميتما.
وإن أعطيتها له سنتين أو ثلاثاً يغرسها شجراً كذا، فإذا خرجت من الأرض فهي لك، لم يجز، بخلاف البناء، لغرر الغراسة، إذ لا يدرى ما ينبت منها، كما لو استأجرته يغرس لك كذا وكذا شجرة مضمونة عليه إلى أجل، لم يجز، ولو كان بناء معلوماً يوفيكه إلى أجل معلوم، جاز. (1)
3830 - ومن استعار مسكناً عشر سنين ثم مات، فورثته بمثابته، كان قد قبضه أو لم يقبضه، وإن مات المعير قبل القبض بطلت العارية. وإن مات بعد القبض نفذ ذلك كله إلى أجله.
ومن أعمر رجلاً داراً حياته، رجعت بعد موته إلى المعطي، والناس عند
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/299) .(4/312)
شروطهم، وتكون العمرى في الرقيق والحيوان كله، ولم أسمع ذلك في الثياب، وهي عندي على ما أعارها عليه من شروط.
3831 - ولم يعرف مالك الرقبى، وفُسّرت له فلم يجزها، وهي أن تكون دار بين رجلين فيحبسانها على أن من مات منهما [أولاً] فنصيبه حبس على الآخر، وسألته عن العبد بينهما يحبسانه على أن من مات أولاً فنصيبه يخدم آخرهما موتاً حياته، ثم يكون العبد حراً بعده، فلم يجزه مالك، إلا أنه ألزمهما العتق إلى موتهما، ومن مات منهما فنصيبه يخدم ورثته دون صاحبه ويبطل ما أوصى به في الخدمة، لأنه خطر. وإذا مات آخرهما كان نصيب كل واحد حراً من ثلثه، كمن قال: إذا مت فعبدي يخدم فلاناً حياته، ثم هو حر. ولو قال: عبدي حر بعد موت فلان، كان من رأس ماله. وكذلك لو كان ذلك في العبد الذي بين الرجلين،(4/313)
فمات أحدهما لكان نصيب الحي حراً من راس ماله في قوله: نصيبي منه بعد موت فلان حر.
3832 - ومن استعار دنانير أو دراهم أو فلوساً أو طعاماً، فذلك سلف مضمون لا عارية.
وقال مالك فيمن حبس على رجل مائة دينار يتجر بها أمداً معلوماً، فإنه ضامن لما نقصت، وهي كالسلف، وذلك جائز، فإن شاء قبلها على ذلك أو ردها، فترجع ميراثاً.
وقال في امرأة حبست دنانير على ابنة ابنتها على أن تنفق منها إذا أرادت الحج أو نفست، فذلك نافذ فيما شرطت، وليس للابنة أن تتعجلها قبل [ذلك على] أن تضمنها.
3833 - ومن اعترف دابة فأقام البينة أنها له، سألهم القاضي عن علمهم، فإن شهدوا أنهم لا يعلمون أنه باع ولا وهب، قُضي له بها بعد يمينه على البت أنه(4/314)
ما باع ولا وهب ولا خرجت عن ملكه بوجه من الوجوه، فإن شهدوا أن الدابة له ولم يقولوا: لا نعلم أنه باع ولا وهب ولا تصدق، حلف على البت كما ذكرنا ويقضى له، [قال أشهب: هذا إذا لم يقدر على كشف الشهود] .
وإن شهدوا على البت أنه ما باع ولا وهب كانت شهادتهم زوراً.
3834 - ومن استأجر دابة فعطبت [تحته] [ثم استحقت] ، فليس لمستحقها أن يُضمّنه قيمتها، بخلاف من ابتاع طعاماً فأكله، وإنما يضمن المبتاع ما هلك بانتفاعه.
وليس للعبد أن يعير شيئاً من متاعه أو يدعو إلى طعام إلا بإذن سيده، وهذا مذكور في كتاب المأذون.
3835 - ومن استعار سيفاً ليقاتل به فضرب به [فانكسر] ، لم يضمن، لأنه فعل ما أذن له فيه، وهذا إذا كانت له بينة أو عرف أنه كان معه في اللقاء، وإلا ضمن.(4/315)
قلت: فمن استعار دابة إلى مسافة فجاوزها بميل ونحوه، ثم رجع بها إلى الموضع الذي استعارها إليه، ثم رجع بها ليردها إلى ربها فعطبت في الطريق، وقد رجع إلى الطريق الذي أذن له فيه، هل يضمن؟ [قال: قال مالك: هو ضامن إلا أن يكون مثل منازل الناس، فلا شيء عليه] .
3836 - قال: [وسمعت مالكاً] يُسأل عمن تكارى دابة إلى ذي الحليفة فتعداها، ثم رجع فعطبت بعد أن رجع إلى ذي الحليفة، فقال: إن كان تعدى إلى مثل منازل الناس فلا شيء عليه، وإن جاوز ذلك بمثل الميل والميلين، ضمن.
قال ابن القاسم: ومن بعث رسولاً إلى رجل يعيره دابة إلى برقة، فقال له الرسول: يسألك فلان أن تعيره إياها إلى فلسطين فأعاره، فركبها المستعير ولا يدري فعطبت، فإن أقر الرسول بالكذب ضمنها، وإن قال: بذلك أمرتني، وأكذبه المستعير فلا يكون الرسول ههنا شاهداً، لأنه خصم، [والمستعير ضامن إلا أن يأتي ببينة أنه أمره إلى برقة.(4/316)
3837 - قال ابن القاسم:] ومن ركب دابة لرجل إلى بلد وادعى أنه أعاره إياها، وقال ربها: بل أكريتها منه، فالقول قول ربها، إلا أن يكون ليس مثله يكري الدواب لشرفه وقدره. (1)
* * *
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/271) .(4/317)
(كتاب الحبس)
3838 - قال: ومن حبّس في سبيل الله فرساً أو متاعاً، فذلك في الغزو، ويجوز أن يصرف في مواحيز الرباط، كالإسكندرية ونحوها، وأمر مالك في مال جُعل في السبيل أن يُفرَّق في السواحل من الشام ومصر [وتونس بالغرب] ولم يَرَ جُدَّة من ذلك. قيل: قد نزل بها العدو. قال: كان ذلك أمراً خفيفاً. (1)
[وسأله قوم: أيام كان من دهلك ما كان، وقد تجهزوا يريدون
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/32) ، والتقييد (6/157) .(4/319)
الغزو إلى عسقلان وإلى الإسكندرية أو بعض السواحل، فاستشاره قوم أن ينصرفوا إلى جدة فنهاهم عن ذلك وقال لهم: الحقوا بالسواحل] .
3839 - قال ربيعة: كل ما جعل حبساً أو حبساً صدقة، فذلك يصرف في مواضع الصدقة على نحو النفع به، إن كانت دواب ففي الجهاد، وإن كانت غلة أموال فرأي الإمام في [أي وجه] الصدقة [يضعها] .
ومن قال: داري حبس فقط، ولم يجعل لها مخرجاً في وصيته، فهي حبس على الفقراء [والمساكين] إلا أن يُرى لذلك وجه يصرف إليه، مثل أن يكون بموضع رباط كالإسكندرية، وجُلّ ما حبس الناس بها في السبيل فيجتهد فيها الإمام. (1)
3840 - ومن حبس رقيقاً أو دواب في السبيل، استعملوا في ذلك ولم يباعوا، ولا بأس أن يحبس الرجل الثياب والسروج.
وما ضعف من الدواب المحبسة في السبيل، وما بلي من الثياب حتى لا ينتفع به،
_________
(1) انظر: منح الجليل لعليش (8/145) .(4/320)
بيع فاشتُري بثمن الدواب فرس أو برذون أو هجين، فإن لم يبلغ أُعين به في فرس.
ابن وهب عن مالك: وكذلك الفرس يكْلِب أو يخبث، فلا باس أن يباع ويشترى فرس مكانه.
قال ابن القاسم: وأما الثياب فيشترى بثمنها ثياباً ينتفع بها، فإن لم يبلغ، تصدق بها في السبيل.
وقد روى غيره أنه لا يُباع ما حبس من عبد أو ثوب، كما لا تباع الرباع الداثرة [الحبس إذا خربت، وبقاء أحباس السلف خراباً دليل على أن بيعه غير(4/321)
مستقيم] ، وإن كان قد روي عن ربيعة في الرباع والحيوان خلاف هذا، إذا رأى ذلك الإمام.
3841 - مالك: ومن قال: هذه الدار حبس على فلان وعقبه، أو عليه وعلى ولده وولد ولده، أو قال: حبس على ولدي، ولم يجعل لها مرجعاً، فهي موقوفة لا تباع ولا توهب، وترجع بعد انقراضهم حبساً على أولى الناس، بالذي حبس يوم المرجع وإن كان حياً.
قال مالك: وإن تصدق بدار له على رجل وولده ما عاشوا، ولم يذكر شرطاً ولا مرجعاً فانقرضوا، فإنها ترجع حبساً في فقراء أقارب الذي حبس ولا تورث.(4/322)
قال غير ابن القاسم: كل حبس أو صدقة لا مرجع لها على مجهول [يأتي] فهو الحبس الموقوف، مثل أن يقول: على ولدي، ولم يسمهم، [هذا مجهول] ، ألا ترى أن من حدث من ولده بعد هذا القول يدخل فيه؟.
وكذلك لو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي بعدهم، فإنها لا ترجع ملكاً.
قال ربيعة: وكذلك على قوم لا يحاط بعددهم.
قال ربيعة: فأما الصدقة على قوم بأعيانهم - ومعناه: ما عاشوا ولم يذكر تعقيباً - فهو تعمير ترجع إليه إذا ماتوا مُلْكاً. (1)
_________
(1) انظر: المقدمات لابن رشد (2/420) ، والتقييد (6/160) .(4/323)
3842 -[قال مخرمة بن بكير: أو لورثته إن مات ملكاً] .
وأصل قول مالك أنه إذا قال: حبساً، ولم يقل: صدقة، فهي حبس إذا كانت على غير قوم بأعيانهم، وإن كانت على قوم بأعيانهم فقال: حبس، ولم يقل: صدقة، لا تباع ولا توهب، فقد اختلف قوله فيه، فمرة قال: ترجع بعد انقراضهم إلى ربها إن كان حياً، أو إلى ورثته بعد موته ملكاً تباع. وقال مرة: لا ترجع ملكاً، وتكون حبساً، كقوله: لا تباع.(4/324)
وإن قال في المعينين حبساً صدقة، أو قال: لا تباع، فانقرضوا، فلم يختلف قوله أنها لا تباع وترجع إلى أولى الناس به يوم المرجع حبساً، ولا ترجع إليه وإن كان حياً، وعليه أكثر الرواة.
3843 - وقال ربيعة: ومن حبس داره على ولده وولد غيره، فليسكنوها بقدر مرافقهم، فإن انقرضوا فهي لولاته دون ولاة من ضم مع ولده.
قال يحيى بن سعيد: من حبس داره على ولده، فهي على ولده وولد ولده: ذكرهم وأنثاهم، إلا أن ولده أحق من أبنائهم ما عاشوا، إلا أن يكون فضل فيكون لولد الولد.
وقال مالك: من قال حبس على ولدي فإن ولد الولد يدخلون مع الآباء، ويؤثر الآباء.
وإن قال: على ولدي وولد ولدي، دخلوا أيضاً ويبدأ بالولد، فإن كان فضل كان لهم وكان المغيرة وغيره يساوي بينهم.(4/325)
3844 - قال مالك: ولا شيء لولد البنات، للإجماع أنهم لم يدخلوا في قول الله عز وجل: ×يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ% [النساء: 11] .
[ابن القاسم:] ومن حبس في مرضه داراً على ولده وولد ولده والثلث يحملها، ثم مات وترك [أماً] وزوجة، فإنها تقسم على عدد الولد وولد الولد، فما صار لولد الولد نفذ لهم في الحبس، وما صار للأعيان كان بينهم وبين الأم والزوجة على الفرائض موقوفاً بأيديهم حتى ينقرض ولد الأعيان، فتخلص الدار كلها لولد الولد حبساً، [ولو ماتت الأم أو الزوجة كان ما بيدهما لورثتهما موقوفاً، وكذلك يورث نفع ذلك عن وارثهما [أبداً] ما بقي أحد من ولد الأعيان] ، فإن مات أحد ولد الأعيان قسم نصيبه [بالتحبيس] على من بقي من ولد الأعيان وعلى ولد الولد، [لأنهم هم الذين حبس عليهم] ، ثم تدخل الأم والزوجة وورثة الميت من ولد الأعيان في الذي أصاب ولد الأعيان من ذلك على فرائض الله تعالى، فإن هلكت الأم أو الزوجة أو هلكتا جميعاً، دخل ورثتهما في حظوظهما ما دام أحد من ولد الأعيان حياً.(4/326)
فإذا انقرضت الأم أو الزوجة أولاً دخل ورثتهما مكانهما.
فإن انقرض أحد ولد الأعيان بعد ذلك، قسم نصيبه على من بقي من ولد الأعيان [وعلى ولد الولد، ورجع من بقي من ورثة ذلك الهالك من ولد الأعيان] وورثة الزوجة وورثة الأم في الذي أصاب ولد الأعيان، فيكون بينهم على الفرائض، فإن مات ورثة الزوجة والأم وبقي ورثة ورثتهم دخل في ذلك ورثة ورثتهم، وورثة من هلك من ولد الأعيان أبداً، ما بقي من [ولد الأعيان أحد بحال ما وصفنا، فإن انقرض ولد الأعيان و] ولد الولد، رجعت الدار حبساً على أقرب الناس بالمحبس.(4/327)
3845 - ومن حبس داراً على رجل وعلى [ولده و] ولد ولده، واشترط على الذي حبس عليه إصلاح ما رثّ منها من ماله، لم يجز، وهو كراء مجهول، ولكن يمضي [ذلك] ولا مرمة عليه، وترم من غلتها، وقد فاتت في سبيل الله ولا يشبه البيوع.
3846 - وقال مالك في الفرس يحبس على الرجل ويشترط على المحبس عليه حبسه سنة وعلفه فيها: إنه لا خير فيه، إذ قد يهلك الفرس قبلها فيذهب علفها باطلاً.(4/328)
3847 - قال ابن القاسم: وأرى إن لم يمض الأجل أن يخير الذي حبس الفرس، فإما ترك الشرط وبتل الفرس للرجل، أو أخذه وأدى للرجل ما أنفق عليه، وإن مضى الأجل لم يؤد، وكان للذي بتل له بعد السنة بغير قيمة. (1)
3848 - وأما بائع العبد على أنه مدبر على المبتاع، فلا خير فيه، إلا أنه لا يفسخ، لأنه بيع [قد] فات بالتدبير، ويرجع البائع على المبتاع بتمام الثمن، إن كان البائع هضم له من الثمن [لذلك] شيئاً.
_________
(1) انظر: البيان والتحصيل لابن رشد (12/204) .(4/329)
3849 - ويكره لمن حبس أن يخرج البنات من حبسه، [ولا يخرج من الحبس أحد لأحد] .
[وروى ابن وهب أن عائشة - رضي الله عنها - كانت إذا ذكرت صدقات الناس(4/330)
اليوم وإخراج الناس بناتهم منها، تقول: ما وجدت للناس مثلاً اليوم في صدقاتهم إلا ما قال الله تبارك وتعالى: ×وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء% [الأنعام: 139] .
قال سحنون: فهذا من قول عائشة يدل أن الصدقات فيما مضى إنما كانت على البنين والبنات، ولقد كتب عمر بن عبد العزيز أن ترد صدقات [الناس] التي أخرجوا منها البنات. ولا يخرج من الحبس أحد لأحد] .
ومن لم يجد مسكناً فلا كراء له، ومن مات أو غاب غيبة انتقال استحق الحاضر مكانه، وأما من سافر لا يريد مقاماً، فهو على حقه إذا رجع.
قال عطاء: لا يخرج أحد لأحد إلا أن يكون بيده فضل مسكن.(4/331)
3850 - قال مالك: ومن حبس على ولده وأعقابهم ولا عقب له يومئذ، فأنفذه في صحته ثم هلك هو وولده وبقي ولد ولده وبنوهم، فذلك بين جميعهم إن تساووا في الحال، والمؤنة سواء بينهم إلا أن الأولاد ما داموا صغاراً لم يبلغوا أو ينكحوا أو تعظم مؤنتهم، فإنه لا يقسم لهم، ولكن يعطى الأب بقدر ما يمون، وإذا نكح الأبناء وعظمت مؤونتهم كانوا بقسم واحد مع آبائهم.
وقد قال مالك: وإذا بنى بعض أهل الحبس فيه، أو أدخل خشبة، أو أصلح ثم مات ولم يذكر لما أدخل في ذلك ذِكْراً، فلا شيء لورثته فيه.
قال ابن القاسم: وإن كان قد أوصى به أو قال: هو لورثتي، فذلك لهم، وإن لم يذكر ذلك، فلا شيء لهم، قلّ أو كثر.
وقال المغيرة: لا يكون من ذلك صدقة محرمة إلا فيما لا بال له من الميازيب والسُّتَر، وأما ما له خطر، فإنه مال له يورث عنه ويقضى به دينه.(4/332)
3851 - ومن حبس نخل حائط على المساكين في مرضه والثلث يحمله فلم يخرجه من يده حتى مات، فذلك نافذ، لأنها وصية، وأما من حبس في صحته مالاً غلة له مثل السلاح والخيل وشبه ذلك، فلم ينفذها ولا أخرجها من يده حتى مات، فهي ميراث، وإن كان يخرجه في وجوهه ويرجع إليه، فهو نافذ من رأس ماله.
وإن أخرج بعضه وبقي بعضه فما أخرج فهو نافذ وما لم يخرج فهو ميراث.
وكذلك ما حبس صحته أو تصدق به على المساكين من حائط أو دار أو شيء له على، فكان يكريه ويفرق غلته كل عام على المساكين، ولم يخرجه من يده حتى مات لم يجز ذلك، لأن هذا غير وصية إلا أن يخرج ذلك من يده قبل موته أو يوصي بإنفاذه في مرضه لغير وارث، فينفذ من ثلثه.
ولا يجوز من فعل الصحيح إلا ما قُبِض وحيز قبل أن يموت أو يفلس.
وكذلك إن وهب أو تصدق على من يقبض لنفسه من وارث أو غيره فلم يقبض ذلك المعطى حتى مات المعطي، لم يكن للمعطى قبضها الآن، وكانت إن مات مال وارث، وكذلك الحبس والعمرى والعطايا والنحل.(4/333)
[وروي أن أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم أجمعين - وغيرهم قالوا: لا تجوز صدقة حتى تقبض] .
وقال عثمان بن عفان: إلا أن ينحل ولده الصغير الذي لم يبلغ أن يحوز [نحلته] ، فيعلن بها ويشهد، فيجوز وإن وليه الأب.
3852 - ومن حبس ثمرة حائطه على رجل بعينه حياته فكان يغتلها، ثم مات المعطي وفيه ثمرة قد طابت، فهي لورثته، وإن لم تطب فهي لرب الحائط، كما قال مالك فيمن حبس حائطاً على قوم معينين فكانوا يلونه ويسقونه، فمات أحدهم بعد طيب الثمرة، فإن نصيبه لورثته، وإن أُبرت ولم تطب فجميع الثمرة لبقية أصحابه يقوون بها على العمل. قال: وإن لم يلوا عملها وإنما تقسم عليهم الغلة، فنصيب الميت ها هنا لرب النخل. ثم رجع مالك فقال: بل يرد ذلك على من بقي من أصحابه.
وبهذا أخذ ابن القاسم أن ذلك يرجع على من بقي منهم كان مما تنقسم غلته أو كانوا يلونه بأنفسهم.(4/334)
وروى الرواة كلهم عن مالك: ابن القاسم وأشهب وابن وهب وابن نافع وعلي والمغيرة، أنه قال فيمن حبس على قوم بأعيانهم ما يقسم من غلة دار أو غلة عبد أو ثمرة: إن من مات منهم رجع نصيبه إلى الذي حبسه، [لأن هذا مما يقسم عليهم] ، وأما دار يسكنونها أو عبد يخدمهم، فنصيب الميت لباقيهم، لأن سكناهم الدار سكناً واحداً، واستخدامهم العبد كذلك. (1)
فثبت الرواة [كلهم] عن مالك على هذا، وقاله المغيرة على هذا فيما يقسم وفيما لا يقسم، على ما وصفنا، إلا ابن القاسم فإنه أخذ برجوع مالك في هذا بعينه، فقال: يرجع على من بقي، كان مما ينقسم أو لا ينقسم، وهذا ما اجتمعوا عليه.
_________
(1) انظر: منح الجليل (8/140) .(4/335)
فإن مات منهم ميت والثمرة قد أبرت، فحقه فيها ثابت، قاله غير واحد من الرواة.
3853 - ومن أسكن رجلاً داراً سنين مسماة، أو حياته على أن عليه مرمتها، لم يجز، وهو كراء مجهول.
وأما إن أعطاه رقبتها على أن ينفق على ربها حياته فهو بيع فاسد، والغلة للمعطي بالضمان، وترد الدار على ربها ويتبعه بما أنفق عليه. (1)
* * *
_________
(1) انظر: البيان والتحصيل (12/187) .(4/336)
(كتاب الصدقة)
3854 - ومن تصدق على رجل بدار، فلم يقبضها المعطى حتى باعها المعطي، فإن علم المعطى بالصدقة فلم يقبضها حتى بيعت، تم البيع وكان الثمن للمعطى، وإن لم يعلم فله نقض البيع في حياة البائع وأخذها، فإن مات المعطي قبل أن يقبضها المعطى فلا شيء له، بيعت أو لم تبع. (1)
قال أشهب: إن خرجت من ملك المعطي بوجه ما وحيزت عليه، فليس
_________
(1) انظر: منح الجليل (8/186) .(4/337)
للمعطى شيء، وكل صدقة أو حبس أو هبة أو عطية بتلها مريض لرجل بعينه أو للمساكين، فلم تخرج من يده حتى مات، فذلك نافذ في ثلثه كوصاياه، لأن حكم ذلك وحكم ما أعتق الإيقاف ليصح المريض فيتم ذلك أو يموت، فيكون في الثلث، ولا يتم فيه للقابض في المرض قبض. ولو قبضه كان للورثة إيقافه، وليس لمن قبضه أكل غلته إن كانت له، ولا أكله إن كان مما يؤكل، ولا رجوع للمريض فيه، لأنه بتل بخلاف الوصية، ولا يتعجل الموهوب قبضه إلا على أحد قولي مالك في المريض له مال مأمون، فينفذ ما بتل من عتق أو غيره.
3855 - ومن تصدق على ابنه الصغير بجارية فتبعتها نفسه، فلا باس أن يقومها على نفسه، ويشهد ويستقضى للابن.
3856 - ومن تصدق على أجنبي بصدقة، لم يجز له أن يأكل من ثمرتها ولا يركبها ولا ينتفع بشيء منها.(4/338)
وأما الأب والأم إذا احتاجا، أُنفق عليهما مما تصدقا [به] على الولد. ولا يشتري الرجل صدقته من المتصدق عليه ولا من غيره.
3857 - وإن تصدقت على رجل بدراهم وجعلتها على يدي غيره، والموهوب له حاضر عالم جائز الأمر، فلم يقم [ولا قبض] حتى مت أنت، فذلك نافذ إن لم تكن أنت نهيت الذي هي على يديه عن دفعها إليه إلا بأمرك. فإن كنت نهيته فذلك لورثتك، وإن لم تنهه فللمعطى أخذها بعد موتك، لأنه إنما تركها في يدي رجل قد حازها له، ولو شاء أخذها منه في حياتك ولا رجوع لك فيها، ولو دفعت في الصحة مالاً لمن يفرقه في الفقراء وفي السبيل ثم مت قبل إنفاذه، فإن كنت شهدت فإنه ينفذ ما فات وما بقي وهي من رأس المال. وإن لم تشهد فالباقي لورثتك، وإن فرق باقيه بعد موتك ضمن البقية لورثتك.
3858 - وما اشترى الرجل من هدية لأهله في سفره من كسوة ونحوها، ثم مات قبل أن يصل إلى بلده، فإن كان أشهد على ذلك فهو لمن اشتراه له، وإن لم يشهد فهو ميراث. وإن بعث [رجل] بهدية أو صلة لرجل غائب، ثم مات المعطي أو المعطى قبل(4/339)
وصولها، فإن كان أشهد فهي للمعطى أو لورثته، وإن لم يشهد فهي للذي أعطى أو لورثته.
3859 - ومن تصدق بحائط على رجل وفيه ثمرة فزعم أنه لم يتصدق عليه بثمرها، فإن كانت الثمرة يوم الصدقة لم تؤبّر فهي للمعطى، وإن كانت مأبورة فهي للمعطي، ويقبل قوله ولا يمين عليه، وكذلك الهبة.
قال: ويحوز المعطى الرقاب، والسقي على المعطي، لمكان ثمرته، [و] يتولى ذلك المعطى فيتم الحوز.
3860 - ومن وهب لرجل نخلاً واستثنى ثمرتها لنفسه عشر سنين، فإن كان الموهوب له يسقيها بمائه لم يجز، وهو غرر.
وقد قال مالك فيمن دفع فرسه إلى رجل يغزو عليه سنتين أو ثلاثاً وينفق عليه المدفوع إليه الفرس من عنده ثم هو للمدفوع إليه الفرس بعد الأجل، واشترط عليه أن(4/340)
لا يبيعه قبل الأجل: [إنه لا خير فيه، إذ قد يهلك الفرس قبل الأجل] فتذهب نفقته باطلاً، فهو غرر.
قال ابن القاسم: ولو كانت النخل بيد الواهب يسقيها ويقوم عليها جاز، وكأنه وهبها له بعد عشر سنين، فإن سلمت النخل إلى ذلك الأجل ولم يمت ربها ولم يلحقه دين فله أخذها، وإن مات ربها أو لحقه دين فلا حق له فيها. (1)
قال أشهب في الفرس إن شرطه: ليس مما يبطل العطية، وهو كمن أعاره لرجل يركبه سنة ثم هو لفلان فترك المعار عاريته لصاحب البتل أنه يتعجل قبضه فإذا [جعله عارية له و] كان مرجعه إليه من نفسه كان أحرى أن يتعجله ويزول الخطر.
_________
(1) انظر: الكافي (1/354) .(4/341)
3861 - وإذا تزوجت الجارية ولم تدخل بيتها فلا يجوز عتقها ولا صدقتها في ثلث ولا غيره حتى تدخل بيتها وتكون رشيدة، فذلك لها حينئذ في ثلثها، وليس بعد الدخول حد مؤقت يجوز إليه صنيعها، وحدها الدخول إن كانت مصلحة.
قال ربيعة: ثم لها رد ما أعطت قبل جواز أمرها.
* * *(4/342)
(كتاب الهبة) (1)
3862 - ومن وهب من مال ابنه [الصغير] شيئاً، لم يجز، فإن تلفت الهبة ضمنها الأب.
ومن تصدق على رجل أو وهبه شقصاً له في دار أو عبد، فذلك جائز، ويحل المعطى فيه محله، فيكون ذلك حوزاً.
3863 - وإن وهبت رجلاً عشرة أقساط زيت من زيت جلجلانك هذا، جاز ذلك كهبتك له ثمرة نخلك قابلاً ويلزمك عصره. ولا ينبغي أن تعطيه من زيت غيره مثله لخوف التأخير في طعام بمثله، ولعل الجلجلان الذي وهبته من زيته يهلك قبل ذلك فتكون قد أعطيته زيتك باطلاً.
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/248) ، ومواهب الجليل (4/380) ، والمدونة الكبرى (15/118) ، وأنيس الفقهاء (ص255) ، والمطلع (11/591) ، وشرح حدود ابن عرفة (597) .(4/343)
3864 - ربيعة: ومن قال: [اشهدوا] أن لفلان في مالي صدقة مائة دينار، لزمه ذلك إن حملها ماله، وإلا لم يتبع بما عجز.
ورأى ابن شهاب أن من وهب لرجل من عطائه وكتب له به كتاباً، فلا رجوع له فيما أعطى، ومن وهب لرجل نصيباً من دار ولم يسمه، [قيل للواهب: أقر بما شئت مما يكون نصيباً] .
وإن وهبه مورثه من فلان وهو لا يدري كم هو ربع أو سدس أو وهبه نصيبه من دار أو جدار، ولا يدري كم ذلك، فهو جائز.
والغرر في الهبة لغير الثواب يجوز، لا في البيع.
وإذا وهبت دينك لأحد ورثة غريمك، كان له دونهم.
وإن وهبت هبة لحر أو عبد فلم يقبض حتى مات، فلورثة الحر وسيد العبد قبضها، وليس لك أن تمتنع من ذلك.
3865 - ومن وهب عبداً له مأذوناً قد اغترقه الدين، جاز، ويجوز بيعه إياه إذا تبين أن عليه ديناً.(4/344)
ومن باع عبداً له، أو وهبه، أو تصدق به بعد أن جنى جناية وهو بجنايته عالم، لم يجز ذلك إلا أن يتحمل الجناية، فإن أبى حلف ما أراد حملها ورد، وكانت الجناية أولى به في رقبته.
3866 - ومن باع عبده بيعاً فاسداً، ثم وهبه لرجل قبل تغيره في سوق أو بدن، جازت الهبة إن قام بها الموهوب، ويرد البائع الثمن، ولو مات الواهب قبل تغير سوقه وقبل قبض الموهوب إياه، بطلت هبته، ولو وهبه بعد تغيره في سوق أو بدن، لم تجز الهبة، لأنه لزم المبتاع بقيمته.
وكذلك إن أعتقه قبل تغيره في سوق أو بدن، جاز عتقه إذا ردّ الثمن، لأن البيع بينهما مفسوخ ما لم يفت العبد.
وإن وهبت لرجل عبداً قد رهنته، جاز، ويقضى له عليك بافتكاكه إن كان لك مال، وإن لم يقم عليك حتى فديته، فله أخذه ما لم تمت أنت فتبطل الهبة، وليس قبض المرتهن قبضاً للموهوب له إن مات الواهب، لأن للمرتهن حقاً في رقبة العبد بخلاف المخدم، وإن وهبته عبدك المغصوب، جاز ذلك إن قبضه قبل موتك، وليس حوز الغاصب حوزاً للموهوب.(4/345)
[قلت] : ولِمَ والهبة ليست في يد الواهب؟ قال: لأن الغاصب لم يقبض للموهوب له، ولم يأمره الواهب أن يحوزها الموهوب له، فيحوزها إن كان غائباً، وإن كان الموهوب له حاضراً غير سفيه وأمر الواهب رجلاً يقبض له [ذلك] ويحوزه له، لم يجز هذا، فالغاصب ليس بحائز. وكذلك خليفتك على دار ليس حوزه حوزاً للموهوب له.
ولو وهبته عبداً وأجّرته من رجل، فليس حوز المستأجر حوزاً للموهوب له إلا أن يسلم إليه إجارته معه، فيتم الحوز.
وأما العبد المخدم أو المعار إلى أجل، فقبض المستعير والمخدم له قبض للموهوب، وهو في رأس المال إن مات الواهب قبل ذلك.
3867 - ويقضى بين المسلم والذمي في هبة أحدهما للآخر بحكم المسلمين، وإن كانا ذميين فامتنع الواهب من دفع الهبة لم أعرض لهما، وليس هذا من التظالم الذي أمنعهم منه.(4/346)
3868 - ولا باس بهبة ما لم يبد صلاحه من زرع أو ثمر، أو ما تلد أمته أو غنمه، أو ما في ضروعها من لبن أو ما على ظهورها من صوف أو ثمر قد طاب في شجره، والحوز في ذلك كله حوز الأرض أو رقاب النخل أو الأمهات، وعلى الواهب تسليم ذلك إليه بالقضاء والسقي فيما يسقى على الموهوب، وحيازة من أسكنته أو أخدمته حوز للدار أو العبد.
3869 - ومن وهب لرجل ما تلد أمته أو ثمر نخله عشرين سنة، جاز ذلك إذا حاز الأصل أو الأمة، أو حاز ذلك أجنبي، وإن لم يخرج ذلك من يده حتى مات، بطل، ولا يقضى بالحيازة إلا بمعاينة بينة لحوزه في حبس، أو رهن، أو هبة، أو صدقة.
3870 - ولو أقر المعطي في صحته أن المعطى قد حاز وقبض، وشهدت عليه بإقراره بينة، ثم مات، لم يقض بذلك إن أنكر ورثته حتى تعاين البينة الحوز.
3871 - قال ابن القاسم: ومن وهب عبداً لابنه الصغير ولأجنبي، فلم يقبض الأجنبي حتى مات الواهب، فذلك كله باطل، كقول مالك فيمن حبس على ولده الصغار والكبار فمات قبل أن يقبض الكبار: إنه يبطل كله، بخلاف ما حبس عليهم وهم صغار كلهم، هذا إن مات كان الحبس لهم جائزاً.(4/347)
وروى ابن نافع وعلي عن مالك فيمن تصدق على ولده الصغير مع كبير أو أجنبي، أن نصيب الصغار جائز ويبطل ما سواه، ولو كان حبساً بطل جميع الحبس، لأنه لا يقسم أصله. والصدقة يملكونها وتقسم بينهم، وقد حازها للصغير من يحوز حوزه.
3872 - ومن وهبك ديناً له عليك فقولك: قد قبلت، قبض، فإذا قبلت سقط، وإن قلت: لا أقبل، [سقطت الهبة و] بقي الدين بحاله، وإن كان الدين على غيرك فوهبه لك، فإن أشهد لك وجمع بينك وبين غريمه، ودفع إليك ذكر الحق إن كان عنده، فهذا قبض، وإن لم يكن كتب عليه ذكر حق فأشهد لك وأحالك عليه، كان ذلك قبضاً، وكذلك إن أحالك [به] عليه في غيبته فأشهد لك وقبضت ذكر الحق، فهكذا قبض الديون.
3873 - ومن تصدق عليه رجل بأرض، فقَبْضُها حيازتها، فإن كان لها وجه تحاز به من كراء يكريه، أو حرث يحرثه، أو غلق يغلق عليها، فإن أمكنه شيء من(4/348)
ذلك فلم يفعله حتى مات المعطي، فلا شيء له، وإن كانت أرضاً قفاراً مما لا تحاز بغلق، ولا فيها كراء يكرى، ولا أتى لها إبان تزرع فيه، أو تمنح، أو يحوزها بوجه يعرف حتى مات المعطي، فهي نافذة للمعطى، وحوز هذه [الأرض] الإشهاد.
وإن كانت داراً حاضرة أو غائبة فلم يحزها حتى مات المعطي، بطلت، وإن لم يفرط، لأن لها وجهاً تحاز به. وإذا قل في الأرض الغائبة: قد قبلت وقبضت، لم يكن ذلك حوزاً، وذلك كالإشهاد على الإقرار بالحوز، إلا أن يكون له في يديك أرض، أو دار، أو رقيق بكراء، أو عارية، أو وديعة وذلك ببلد آخر، فوهبك ذلك، فإن قولك: قبلت، حوز، وإن لم تقل: قبلت، حتى مات الواهب، فذلك لورثته.
وقال غيره: ذلك حوز لمن ذلك في يديه.
3874 - والواهب إذا اشترط الثواب، أو رُئي أنه أراد الثواب فلم يثب، فله أخذ هبته(4/349)
إن لم تتغير في بدنها بنماء أو نقصان، والهبة في هذا الوجه بخلاف البيع، وكذلك إن أثابه أقل من قيمتها، فإما رضي الواهب بذلك أو أخذها إن كانت قائمة، ولا يجبر الموهوب على ثواب إذا لم تتغير الهبة عنده، إلا أن يرضى بدفع قيمتها، فيلزم الواهب أخذها، ولا كلام له في الهبة، وإن فاتت [الهبة] عند الموهوب بزيادة بدن أو نقصان، لزمته قيمتها. قال عمر بن عبد العزيز وغيره: يوم قبضها.(4/350)
3875 - قال ابن القاسم: وليس للموهوب ردها في الزيادة إلا أن يرضى الواهب، ولا للواهب أخذها في نقص البدن إلا أن يرضى الموهوب. (1)
[قال ابن القاسم:] ولا يفيتها عند الموهوب حوالة سوق.
[[قال ابن وهب:] قال مالك - رحمه الله -: وله أن يمسكها أو يردها] .
[قال ابن القاسم:] وإذا عوض الموهوب للواهب أقل من قيمة الهبة، ثم قام الواهب بعد ذلك يطلب، فليحلف بالله ما قبل ذلك، ولا سكت إلا انتظاراً
_________
(1) انظر: المقدمات لابن رشد (2/447، 448) .(4/351)
لتمام الثواب، ثم إما أتم له الموهوب القيمة، وإما رد الهبة إن لم تفت، وأخذ عوضه.
ومن تصدق بصدقة على ثواب فهي كالهبة.
ومن وهب لرجل ديناً له على آخر لغير ثواب، جاز، ولا رجوع له فيه، وإن وهبه إياه لثواب لم يجز أن يثيبه إلا يداً بيد.
3876 - ومن وهب لحاضر وغائب أرضاً، فقبض الحاضر جميعها، فقبضه حوز للغائب وإن لم يعلم ولا وكله.
وكذلك إن وهب لغائب، أو تصدق عليه بشيء فأخرجه من يده وجعل من يحوزه له حتى يقدم فيأخذه، فذلك نافذ. ألا ترى أن أحباس السلف كان قابضها يحوز قبضه على الغائب والحاضر الكبير المالك لأمره، وعلى الصغير ومن لم يولد بعد، قيل: فالعبيد، والحيوان، والعروض، والحلي كيف يكون قبضه؟ قال: بالحيازة.
قال ابن القاسم: ومن وهب لصغير هبة، وجعل من يحوزها له إلى أن يبلغ وترضى حاله فتدفع إليه وأشهد له بذلك، فذلك حوز، وإن كان له أب أو وصي حاضر، فإذا بلغ فله أن يقبض.
وأما إن وهب لحاضر غير صغير ولا سفيه ولا عبد، وجعل من يحوز له، وأمره أن لا يدفعها إليه، لم تكن هذه حيازة إن لم يقبضها الموهوب حتى مات الواهب، لأن(4/352)
الموهوب له جائز الأمر وهو حاضر، فلم يسلمها إليه، فعلى أي وجه حازها هذا له، وإلى أي أجل يدفعها إليه؟ وهذا بخلاف الصغير، لأنه أراد في الصغير ارتقاب بلوغ رشده، أو لئلا يأكله الأب، ولا يرتقب في كبير حاضر شيئاً، ولا يكون حوز غيره له حوزاً إلا أن يحبس عليه غلة نخل، ويجعل ذلك بيد من يجري عليه الغلة ويتولاه، فذلك جائز. وكذلك كانت أحباس الماضين.
وقال غيره: الصغير والسفيه لهما وقت يقبضان إليه [الهبة] ، وهو البلوغ في الصغير مع حسن الحال، وحسن الحال في السفيه وهذا البالغ الذي أعطي عطية، تكون له مالاً تراثاً لما منع من قبضها لغير شيء عقده فيها [مما مثله يعقد في الصدقات] ، يدل على أنه لم يرد أن يبتلها له ويعطيه إياها.
3877 - ومن وهب لرجل هبة على أن لا يبيع ولا يهب، لم يجز، إلا أن يكون سفيهاً أو صغيراً فيشترط ذلك عليه ما دام في ولاية، فيجوز.
وإن اشترط ذلك عليه بعد زوال الولاية لم يجز، كان ولداً للواهب أو أجنبياً، ولا تكون الأم حائزة لما وهبت لصغار بنيها وإن أشهدت، ولا لما تصدقت به(4/353)
عليهم، بخلاف الأب، إلا أن تكون وصية للوالد أو وصية وصي للوالد، فيتم حوزها لهم ولابنتها البكر وإن حاضت، والأب يحوز لصغار ولده ولمن بلغ من أبكار بناته ما وهبهم هو وأشهد [لهم] عليه، ولا يزول حوزه حتى يبلغ الذكور ويدخل بالبنات أزواجهن بعد المحيض، ويؤنس من جميعهم مع ذلك رشد، فإن مات الأب قبل رشدهم، فذلك لهم نافذ، وإن بلغوا مبلغاً تجوز حيازتهم فلم يقبضوا حتى مات الأب، بطلت هبة الأب من ذلك.
وليس للابنة وإن ولدت أولاداً وهي سفيهة، ولا للابن البالغ السفيه، حوز ولا أمر، وكذلك إن كانت الابنة بالغة مرضية، لم تبرز إلى زوجها، وذلك على الأب والوصي.
3878 - ومن وهب لابنه الصغير - وهو عبد لرجل - هبة وأشهد، لم يكن حائزاً له، لأن سيده يحوز ماله دون الأب، فإن جعل الأب هذه الهبة بيد أجنبي يحوزها للصبي، جاز ذلك، وكان حوزاً رضي سيده أو كره.
3879 - وما وهب الزوج لزوجته [البكر] قبل البناء، أو تصدق به عليها وأشهد، ولم يخرج ذلك من يده حتى مات، فليس ذلك لها بحوز، إلا أن يجعله بيد من يحوزه لها، وكذلك بعد دخوله بها وهي سفيهة أو مجنونة. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/134) ، والتاج والإكليل (6/59) ، وحاشية الدسوقي (2/435) .(4/354)
ولا يكون واهب حائزاً للموهوب إلا والد، أو وصي، أو من يجوز أمره عليه.
والزوج لا يجوز أمره عليها ولا بيعه ما لها، وأبوها: الحائز بلها] وإن دخل بها زوجها، ما دامت سفيهة وفي حال لا يجوز لها أمر.
3880 - وللأم أن تعتصر ما وهبت أو نحلت لولدها الصغير في حياة أبيه، أو ولدها الكبار، إلا أن ينكحوا أو يتداينوا، فإن لم يكن للصغير أب حين وهبته أو نحلته، فليس لها أن تعتصر، لأنه يتيم ولا يعتصر من يتيم، وتعد كالصدقة عليه.
وإن وهبتهم وهم صغار لا أب لهم ثم بلغوا ولم يحدثوا في الهبة شيئاً، فليس لها أن تعتصر، لأنها وهبت في حال اليتم، [وهي بمنزلة الصدقة] .
وإن وهبتهم وهم صغار والأب مجنون جنوناً مطبقاً، فهو كالصحيح في وجوب الاعتصار لها.
وللأب اعتصار ما وهب أو نحل لبنيه الصغار والكبار، وكذلك إن بلغ الصغار ما لم ينكحوا، [أو يحدثوا ديناً] ، أو يحدثوا في الهبة حدثاً، أو تتغير الهبة عن حالها.(4/355)
وللأب أن يعتصر من الأصاغر وإن لم تكن لهم أم، لأن اليتم من قبل الأب.
ولو وهب لولده الكبير أمه فقبضها الولد، ثم وطئها، لم يكن للأب أن يعتصرها بعد الوطء. ولا يعتصر الأب ما وهب أجنبي لولده.
ولا يعتصر الأبوان ما تصدقا به على [ولدهما] ، صغيراً كان أو كبيراً. وأما الهبة، والعطية، والعُمر، والنحل، فلهما الاعتصار في ذلك.
وأما الحبس فإن كان بمعنى الصدقة لم يُعتصر، وإن كان بمعنى الهبة، يكون سكنى أو عمرى إلى شهر أو شهرين، ثم مرجعهما إليه، فإنه يعتصر.
وقضى عمر بن عبد العزيز فيمن نحل ابنه أو ابنته بعد أن نكحا، أن له أن يعتصر، إلا أن يتداينا أو يموتا.
[قال - أيضاً - عمر بن عبد العزيز: ما وهب الأب لابنه أو لابنته، فله أن يعتصر ذلك ما لم ينكحا أو يموتا] .(4/356)
قال ربيعة ومالك: ولا يعتصر الصدقة من ابنه وإن عقه.
وليس لغير الأبوين أن يعتصر هبة، لا جد، ولا جدة، ولا غيرهما، إلا الأبوان من الولد.
قال ربيعة: وليس للولد أن يعتصر من والده شيئاً.
3881 - ومن وهب لرجل هبة لغير ثواب فقبضها الموهوب بغير أمر الواهب، جاز قبضه، إذ يقضى على الواهب بذلك إذا منعه إياها، فأما هبة الثواب، فللواهب منعها حتى يقبض العوض كالبيع، ولو قبضها الموهوب قبل الثواب وقف، فإما أثابه أو ردها. ويتلوم لهما تلوماً لا يضر بهما فيه، فإن مات الواهب للثواب والهبة بيده، فهي نافذة كالبيع، وللموهوب قبضها إن دفع العوض للورثة.
3882 - وإن مات الموهوب قبل أن يثيب الواهب، فلورثته ما كان له.
ولا ثواب في هبة الدنانير والدراهم، وإن وهبها فقير لغني، إلا أن يشترط(4/357)
الثواب، فيثاب عرضاً أو طعاماً، وإن وهب حلياً للثواب، فله عوضه عرضاً، ولا يعوض عيناً ولا من حلي فضة ذهباً.
3882 - وإذا قدم غني من سفره فأهدى له جاره الفقير الفواكه والرطب وشبهها، ثم قام يطلب الثواب، فلا شيء له، ولا له أخذ هبته وإن كانت قائمة بعينها.
3883 - ولا يقضى بين الزوجين بثواب، ولا بين ولد ووالده، إلا أن يظهر ابتغاء الثواب بينهم كالزوجة تهب لزوجها الموسر جارية فارهة يسألها إياها لما تستجلب من صلته، أو الزوج يهبها لذلك، والابن لما يستغزر من أبيه، فلذلك حُكم الثواب، ولو شرطا ثواباً لزمهما.
3884 - وما وهبت لقرابتك أو ذوي رحمك وعلم أنك أردت ثواباً، فذلك لك، إن أثابوك، وإلا رجعت فيها.
وما علم أنه ليس للثواب كصلتك لفقيرهم وأنت غني، فلا ثواب لك ولا تصدق أنك أردته ولا رجعة لك في هبتك. وكذلك هبة غني لأجنبي فقير، أو فقير لفقير ثم يدعي أنه أراد الثواب، فلا يصدق إذا لم يشترط في أصل الهبة ثواباً،(4/358)
ولا رجعة له في هبته، وأما إن وهب فقير لغني، أو غني لغني، فهو مصدق أنه أراد الثواب، فإن أثابوه وإلا رجع في هبته.
3885 - وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ومن وهب هبة يُرى أنه أراد [بها] الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها، فإن هلكت، فله شَرْواها بعد أن يحلف بالله ما وهبها إلا رجاء أن يثيبه عليها. (1)
3886 - قال ابن القاسم: وإن وهبت [لرجل] [هبة] فعوضك، منها فلا رجوع لأحدكما في شيء مما أعطى.
ومن وهب عبداً لرجلين، فعوضه أحدهما من حصته، فله الرجوع في حصة الآخر إن لم يعوضه، كمن باع عبداً من رجلين في صفقة واحدة، فنقده أحدهما وفلس الآخر، كان أحق بنصيب الآخر من الغرماء، وإذا عوض الواهب أجنبي عن الموهوب بغير أمره، لم يرجع على الواهب [له] به، ولكن إن
_________
(1) روى مالك في الموطأ (2/754) ، أثر عمر رضي الله عنه.(4/359)
رئي أنه أراد ثواباً من الموهوب، رجع عليه بقيمة العوض إلا أن يكون العوض دنانير أو دراهم، فلا يرجع عليه بشيء إلا أن يريد به سلفاً، فله اتباعه، فإن لم يرد ثواباً ولا سلفاً فلا شيء له.
وباقي مسائل هذا الكتاب قد تقدمت قبل هذا، وفي كتاب الاستحقاق ذكر العوض في الهبة يستحق.
* * *(4/360)
(كتاب الهبات) (1)
3887 - قال: وإذا تغيرت الهبة عند الموهوب في بدنها بزيادة أو نقصان، لزمته قيمتها، وليس له ردها، ولا تفيتها حوالة الأسواق، ومن وهبك حنطة، أو تمراً، أو غيره من مكيل الطعام أو موزونه، إلا أن تعوضه قبل التفرق طعاماً من كعام، فإنه يجوز، لأن هبة الثواب بيع.
قال: إلا أن تعوضه طعاماً مثل طعامه صفة وجنساً ومقداراً، فذلك جائز. ولا تعوضه دقيقاً من حنطة ولا من جميع الحبي [إلا] عرضاً. وإن وهبك ثياباً فسطاطية، فعوضته بعد ذلك أثواباً فسطاطية أكثر منها، لم يجز. وإن وهبته داراً
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/108) ، والتاج والإكليل (4/482) ، ومواهب الجليل (4/83) ، والمدونة (15/79) ، والتقييد (6/184) ، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص9) ، وشرح حدود ابن عرفة (ص605) .(4/361)
أو عرضاً، فعوضك بعد تغير الهبة في بدنها سكنى دار، أو خدمة عبد، أو عرضاً له موصوفاً على رجل إلى أجل، لم يجز ذلك لفسخك ما وجب لك من القيمة فيما لا تتعجله من خلافها.
ولو لم تتغير الهبة أو تغيرت بحوالة سوق فقط، جاز ذلك إن كانت الهبة مما يسلم في ذلك العرض المؤجل، وكأنك بعتها بذلك. وإن عوضك بعد تغير الهبة في بدنها ديناً له حل أو لم يحل، جاز ذلك إذا كان مثل القيمة في العين والوزن، ومثل العدد فأقل، لأنها حوالة ومعروف صَنَعْته بالموهوب. وإن كان الدين المؤجل أكثر من قمية الهبة، لم يجز، لأنك أخرته بزيادة، ولو لم تتغير الهبة، جاز ذلك.
3888 - وقد قال مالك: افسخ ما حلّ من دينك، فيما قد حل وفيما لم يحل، إذا فسخته في مثل دينك من عين أو عرض صفة ومقداراً. ومن لك عليه دراهم [حالة] ، فأحالك على دنانير له على رجل، وهي كصرف دراهمك، وقد حلت أو لم تحل لم يجز. وكذلك لو فسخت دراهمك في طعام ولم تقبضه.
وإن كان لك عليه عرض من بيع، أو قرض قد حل، فلا بأس أن تفسخه في(4/362)
عرض له على رجل آخر من بيع أو قرض إذا كان مثل عرضك الذي لك عليه، وإن كان مخالفاً له، لم يجز، لأنه دين بدين، وكذلك إن كان لك عليه طعام من قرض قد حلّ فأحالك على طعام له من قرض قد حل أو لم يحل، جاز. وإن أحالك على طعام له من سلك لم يحل وهو مثل طعامك، لم يجز، لأنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه. وإن حلّ أجل الطعامين، جاز. وكذلك إن كان الذي لك من سلم والذي له [من] قرض قد حلا، فلا بأس في الوجهين أن يؤخر المحال من أحيل عليه. وإن كان الطعام الذي لك من سلم، فلا يجوز أن يحيلك على طعام له من سلم وإن حلا.
وكل دين لك من عين أو عرض، فلك بيعه من غير غريمك قبل محله، أو بعد بثمن يتعجله.
فإن كان دنانير أو دراهم، بعته بعرض، وإن كان عرضاً، بعته بعين أو بعرض يخالفه نقداً.
قال مالك - رحمه الله -: وهذا إذا كان الذي لك عليه الدين حاضراً مقراً، وإن كان لك عليه ثوب فسطاطي من بيع أو قرض إلى أجل، فبعته من غيره قبل الأجل بثوب مثله في صفته نقداً وأحلته به، فليس ببيع، ولكنه قضاك عن الرجل على أن أحلته عليه. فإن كان النفع لك، جاز، وإن اغتزى هو نفع نفسه لسوق يرجوه ونحوه، لم يجز.(4/363)
ولو بعته من غيره أيضاً قبل الأجل بثوب مثله إلى أجل من الآجال، لم يجز، لأنه دين بدين، وإن كان دينك دنانير فعجله لك رجل على أن أحلته عليه، لم يجز، كان النفع ههنا له أو لك دونه، لأنه بيع الذهب بالذهب إلى أجل.
قال سحنون: وقد قال ابن القاسم: لا بأس بهذا إذا كانت المنفعة لقابض الدنانير، وهو أسهل - إن شاء الله -، وهذا حسن.
3889 - وللمأذون أن يهب للثواب كالبيع، ويقضى عليه أن يعوض من وهبه.
ومن وهب لعبد هبة فأخذها منه سيده، قضي على العبد بقيمتها في ماله.(4/364)
وللأب أن يهب من مال ابنه الصغير للثواب ويعوض عنه واهبه للثواب، وبيع الأب جائز على ابنه الصغير.
3890 - وإذا وجد الموهوب بالهبة عيباً، فله ردها وأخذ العوض.
وإن وجد الواهب عيباً بالعوض، فإن كان عيباً فادحاً لا يتعاوض بمثله كالجذام والبرص، فله رده وأخذ الهبة إن لم تفت، إلا أن يعوضه، وإن لم يكن فادحاً نظر إلى قيمته بالعيب، فإن كان كقيمة الهبة فأكثر لم يجب له غيره، لأن ما زاده على القيمة تطوع غير لازم، وإن كان دون قيمتها فأتم له القيمة برئ.
وليس للواهب رد العوض إلا أن يأبى الموهوب أن يتم له قيمة هبته، لأن كل ما عوضه مما يجري بين الناس في الأعواض لزم الواهب قبوله، وإن كان معيباً وفيه وفاء بالقيمة، فذلك لازم له قبوله، وإن عوضته تبناً، أو حطباً، لم يلزمه أخذه، إذ ليس مما يتعاوضه الناس، وفي كتاب الشفعة مسألة من وهب شقصاً من دار للثواب، هل فيه شفعة؟.
3891 - ومن وهب هبة لغير الثواب، فامتنع من دفعها، قضي بها عليه للموهوب.(4/365)
ولو خاصمه فيها الموهوب في صحة الواهب، وأقام بينة، وأوقفت الهبة والسلطان ينظر فيها حتى مات الواهب قبل قبض الموهوب، فإنه يقضى بها للموهوب إن عُدّلت بينته، كالمفلس يخاصمه الرجل في عين سلعته، وتوقف السلعة ثم يموت المفلس، إن ربها أحق بها إن ثبتت ببينة.
ولو لم يقم الموهوب فيها حتى مرض الواهب، فلا شيء له إلا أن يصح.
3892 - ومن لزمه دين لرجل، أو ضمان عارية يغاب عليها، فحلف بالطلاق ثلاثاً ليؤدين ذلك، وحلف الطالب بالطلاق ثلاثاً أن قبله، فأما الدين فيجبر الطالب على قبضه ويحنث، ولا يجبر في أخذ قيمة العارية، ويحنث المستعير إن أراد ليأخذنه مني، فإن أراد ليغرمنّه له، قبله أو لم يقبله، لم يحنث واحد منهما. والفرق أن الدين لزم ذمته والعارية إنما ضمنها لغيبة أمرها، فإنما يقضى بالقيمة لمن طلبها في ظاهر الحكم وله تركها، وقد تسقط أن لو قامت بينة بهلاكها، وفوات الهبة عند الموهوب يوجب عليه قيمتها.
والفوت فيها في العروض والحيوان خروجها من يده.(4/366)
3894 - وحدوث العيوب والهلاك، وتغير الأبدان، والعتق وشبهه، وليس حوالة الأسواق في ذلك فوتاً.
ولو باع الموهوب الهبة ثم اشتراها، فذلك يفيتها وإن لم تحل. وولادة الأمة عند الموهوب فوت يوجب عليه قيمتها. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يوم الهبة.
3895 - قال ابن القاسم: وجناية العبد عند الموهوب فوت، وتلزمه القيمة، [لأنه نقص دخله] .
قال ابن القاسم: وإن كانت الهبة عبداً بعينه بياض، أو به صمم، فبرئ عند الموهوب وزال صممه وبياض عينه، فذلك فوت، لأنه نماء وتلزمه القيمة، والهدم والبناء في الدار والغرس في الأرض، فوت يوجب القيمة. وليس له أن يقول: أقلع بنياني وشجري وأردها، والبيع حرام مثله، وإحالتها عن حالها رضىً بالثواب.(4/367)
[قال ابن القاسم:] وإن وهبه ثوباً فصبغة بعصفر، أو قطعه قميصاً ولم يخطه، فذلك فوت.
وإن كان عبداً فأعتقه، أو دبره، أو كاتبه، أو وهبه، أو تصدق به، فإن كان ملياً جاز ولزمته القيمة، وإلا منع من ذلك.
ولو كانت بدنة فقلّدها وأشعرها ولا مال له، فللواهب أخذها، ولو ابتاعها ففعل ذلك بها، فإنها ترد وتحل قلائدها وتباع على المشتري في الثمن، [وبيع الهبة فوت] .
وإن كانت داراً، فباع نصفها، قيل له: اغرم القيمة، فإن أبى خُير الواهب، فإما أخذ نصف الدار ونصف قيمتها، وإما أخذ قيمة جميعها.
وإن كانا عبدين فباع أحدهما وأبى أن يثيب قيمتهما، فإن باع وجههما [وفيه كثرة الثمن] ، لزمته قيمتهما.
وإن لم يكن وجه الهبة، غرم قيمته يوم قبضه ورد الباقي، وإن وهبه عبدين فأثابه(4/368)
من أحدهما ورد عليه الآخر، فللواهب أن يأخذ العبدين، إلا [أن] يثيبه منهما جميعاً، لأنها صفقة واحدة.
3896 - ومن وهب لرجل هبة لغير الثواب، ثم ادعى رجل أنه ابتاعها من الواهب وجاء ببينة، فقام الموهوب يريد قبضها، فالمبتاع أحق.
وكذلك قول مالك في الذي حبس على ولد له صغار حبساً، ومات وعليه دين لا يدري اقبل الحبس أو بعده؟ فقال البنون: قد حُزْناه بحوز الأب علينا، فإن أقاموا البينة أن الحبس كان قبل الدين، فالحبس لهم، وإلا بيع للغرماء، فكذلك الهبة لغير ثواب.
3897 - ومن قال: داري صدقة على المساكين أو على رجل بعينه في يمين، فحنث، لم يقض عليه بشيء، وإن قال: لك في غير يمين بتلاً، فليقض عليه إن كان لرجل بعينه.
وإن قال: كل مال أملكه صدقة على المساكين، لم أجبره على صدقة ثلث ماله،(4/369)
وأما المكاتبون فيخرج ثلث قيمة كتابتهم، فإن رقوا يوماً نظر إلى قيمة رقابهم، فإن كان ذلك أكثر من قيمة كتابتهم، يوم أخرج ذلك، فليخرج ثلث الفضل.
قال: وإن لم يخرج ثلث ماله حتى ضاع ماله كله، فلا شيء عليه، فرّط أو لم يفرط.
وكذلك إن قال ذلك في يمين فحنث، فلم يخرج ثلثه حتى تلف جل ماله، فليس عليه [إلا إخراج ثلث ما بقي بيده] .
3898 - ومن قال لرجل: قد أعمرتك هذه الدار حياتك، أو قال: هذا العبد، أو هذه الدابة، جاز ذلك. وترجع بعد موته إلى الذي أعمرها أو إلى ورثته. قيل: فإن أعمر ثياباً أو حلياً؟ قال: لم أسمع من مالك في الثياب شيئاً، وأما الحلي فأراه بمنزلة الدور.(4/370)
ومن قال لرجلين: عبدي هذا حبس عليكما وهو للآخر منكما، جاز، وهو للآخر يبيعه ويصنع به ما شاء.
ومن قال لرجل: داري هذه لك صدقة سكناها، فإنما له السكنى دون رقبتها.
وإن قال له: قد أسكنتك هذه الدار وعقبك من بعدك، أو قال: هذه الدار لك ولعقبك سكناها، فإنها ترجع إليه ملكاً له بعد انقراضهم، فإن مات فإلى أولى الناس به [يوم مات] ، أو إلى ورثتهم، لأنهم هم ورثته، وأما إن قال: حبس عليك وعلى عقبك، قال مع ذلك: صدقة، أو لم يقل، فإنها ترجع بعد انقراضهم إلى أولى الناس بالمحبس يوم المرجع من ولد أو عصبة، ذكورهم وإناثهم سواء، يدخلون في ذلك حبساً، ولو لم تكن إلا ابنة واحدة كانت لها حبساً، ولا ترجع إلى المحبس وإن كان حياً، وهي لذوي الحاجة من أهل المرجع دون الأغنياء، فإن كانوا كلهم أغنياء، فهي لأقرب الناس بهم من الفقراء.
3899 - وهبة المريض عبداً للثواب، تجوز كبيعه، فإن قبض منه الموهوب أو المبتاع ذلك فأعتق ولا مال له، لم يجز ذلك، ولو باعه كان لورثة الواهب منعه حتى يأخذوا العوض. (1)
ومن أوصى لرجل بدار وثلثه يحملها فقال الورثة: نعطيك ثلث جميع ماله ولا نعطيك الدار، فليس ذلك لهم، وله أخذ الدار، لأنها لو غرقت فصارت بحراً
_________
(1) انظر: الكافي (1/545) .(4/371)
بطلت الوصية فيها، ويقضى بين المسلم والذمي فيما وهب أحدهما للآخر أو تصدق عليه بحكم الإسلام، لأن كل أمر يكون بين مسلم وذمي، فإنما يحكم بينهما بحكم الإسلام، وقد بقي من هذا الكتاب مسائل يسيرة، تقدم ذكرها في كتاب الأحباس وفي الوصايا فأغنى عن إعادتها.
* * *(4/372)
(كتاب اللقطة والضوال)
3900 - قال: ومن التقط دنانير، أو دراهم، أو حلياً مصوغاً، أو عروضاً، أو شيئاً من متاع أهل الإسلام، فليعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا لم آمره بأكلها، كثرت أو قلّت، درهماً فصاعداً، إلا أن يحب بعد السنة أن يتصدق بها، ويخير صاحبها إن جاء في أن يكون له ثوابها أو يغرمها له، فعل. وأكره له أن يتصدق بها قبل السنة، إلا أن يكون الشيء التافه. (1)
3901 - وإن التقط العبد لقطة فاستهلكها قبل السنة كانت في رقبته، وإن استهلكها بعد السنة لم تكن إلا في ذمته، لأن النبي ÷ قال للسائل عن القطة: "اعرف عفاصها
_________
(1) انظر: كفاية الطالب (1/624) ، ومواهب الجليل (6/73) ، والقوانين الفقهية (ص224) .(4/373)
ووكاءها ثم عرّفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" (1) ، فاختلف الناس في قوله: فشأنك بها] .
3902 - ويُعرِّف باللقطة حيث وجدها، وعلى أبواب المساجد، وحيث يظن أن ربها هنالك أو خبره، ولا يحتاج في ذلك إلى أمر الإمام.
وما وجد على وجه الأرض مما يعلم أنه من مال [أهل] الجاهلية، ففيه الخمس كالركاز.
_________
(1) رواه مسلم (1722) ، (3/1347) ، والبخاري (2429) ، (2/836) ، وابن حبان (11/250، 252، 261) ، ومالك في الموطأ (2/757) ، والبيهقي في الكبرى (3/419، 420) ، وابن ماجة (2/836) ، (2504) ، وأبو عاونة (4/181) ، وعبد الرزاق (10/130) .(4/374)
وكذلك ما وجد بساحل البحر من تصاوير الذهب والفضة، [ففيه الخمس.
وأما التراب يوجد بساحل البحار فيغسل فيخرج فيه ذهب أو فضة] ، ففيه الزكاة كالمعدن. ومن التقط لقطة فإن أتى رجل فوصف عفاصها ووكاءها وعدتها، لزمه أن يدفعها إليه ويجبره السلطان على ذلك، فإن جاء آخر فوصف مثل ما وصف الأول وأقام بينة أن تلك اللقطة كانت له، فلا شيء له على الملتقط، لأنه دفعها بأمر يجوز له.
ولا يتجر باللقطة في السنة ولا بعد السنة أيضاً، كالوديعة.
3904 - ومن التقط ما لا يبقى من الطعام فأعجب إلي أن يتصدق به، قلّ أو كثر.
ولم يوقت مالك في التعريف به وقتاً، فإن أكله أو تصدق به، لم يضمنه لربه، كالشاة يجدها في الفلاة، إلا أن يجدها في غير فلاة.(4/375)
3905 - ومن وجد ضالة الغنم بقرب العمران عرف بها في أقرب القرى إليه، ولا يأكلها، وإن كانت في فلوات الأرض والمهامه، أكلها، ولا يعرف بها، ولا يضمن لربها شيئاً، لقول النبي ÷: " [هي] لك أو لأخيك أو للذئب". (1)
وضالة البقر إن كانت بموضع يخاف عليها، فهي كذلك، وإن كانت بموضع يؤمن عليها من السباع والذئب، فهي كالإبل، وإن وجد ضالة الإبل في الفلاة تركها، فإن أخذها عرف بها سنة، وليس له أكلها ولا بيعها، فإن لم يجد ربها فليخلها بالموضع الذي وجدها فيه.
وإن رفعت إلى الإمام، فلا يبعها، وليفعل بها هكذا، وكذلك فعل عمر.
وكان عثمان يبيعها ويوقف أثمانها لأربابها.
وإن وجد الخيل والبغال والحمير، فليعرفها، فإن جاء ربها أخذها، وإن لم يأت تصدق بها.
_________
(1) رواه البخاري (2429) ، ومسلم (3/1347، 1348) ، والترمذي (3/655) ، وأبو داود (2/135، 137) ، والنسائي في الكبرى (3/416) ، وابن ماجة (2/836) ، والدارقطني (3/194) ، (4/235) .(4/376)
وما أنفق على هذه الدواب، أو أنفق على ما التقط من عبد أو أمة، أو على إبل قد كان ربها أسلمها، أو على بقر، أو على غنم، أو متاع أكرى عليه فحمله من موضع إلى موضع بأمر سلطان أو بغير أمره، فليس لرب ذلك أخذه حتى يدفع إليه ما أنفق فيأخذه إلا أن يسلمها إليه، فلا شيء عليه.
3906 - ومن أخذ آبقاً رفعه إلى الإمام، فالإمام يوقفه سنة وينفق عليه، ويكون فيما أنفق عليه كالأجنبي، فإن جاء صاحبه وإلا باعه وأخذ من ثمنه ما أنفق، وحبس بقية الثمن لربه في بيت المال.
وأمر مالك ببيع الأُبّاق بعد السنة، ولم يأمر بإطلاقهم يعملون ويأكلون، ولم يجعلهم كضوال الإبل، لأنهم يأبقون ثانية. قيل: هل لمن وجد آبقاً خارج المصر أو داخله جعْل إن طلبه؟ [قال:] قال مالك فيه، ولم يذكر خارج المصر أو داخله، إن كان ذلك شأنه يطلب الضوال لذلك [ويردها] فله الجعل بقدر بعد الموضع الذي أخذه فيه أو قربه، وإن لم يكن ذلك شأنه، وإنما وجده فأخذه، فلا جعل له وله نفتقه.(4/377)
3907 - ومن أخذ متاعاً مما عطب بساحل البحر فهو لربه ولا شيء عليه لمن وجده.
وإذا بيعت اللقطة بعد السنة، فليس لربها إن جاء أن يفسخ البيع وإن بيعت دون أمر الإمام، ولربها أخذ الثمن ممن قبضه، وإن ضاعت اللقطة من الملتقط، لم يضمن.
وإن قال له ربها: أخذتها لتذهب بها، وقال هو: بل لأعرفها، صُدق الملتقط. ومن التقط لقطة فبعد أن حازها وبان بها ردها بموضعها أو بغيره، ضمنها، فأما إن ردها في موضعها مكانه من ساعته، كمن مرّ في إثر رجل فوجد شيئاً فأخذه وصاح به: أهذا لك؟ فيقول: لا، فتركه فلا شيء عليه.
قال مالك في واجد الكساء بإثر رفقة فأخذه وصاح: أهذا لكم، فقالوا: لا، فرده، قال: قد أحسن في رده ولا يضمن.
3910 - ومن حل دواباً من مرابطها فذهبت، ضمنها، كالسارق [يسرق و] يدع(4/378)
باب الحانوت مفتوحاً، وليس فيه ربه، فيذهب ما في الحانوت، فالسارق يضمنه، [ولو كان فيها ربها قائماً، لم يضمن] .
3911 - ومن فتح باب دار فيها دواب فذهبت، فإن كانت الدار مسكونة فيها أهلها لم يضمن، وإن لم يكن فيها أربابها ضمن، ولو كان فيها ربها نائماً، لم يضمن.
وكذلك السارق يدع الباب مفتوحاً وأهل الدار فيها نيام [أو غير نيام] ، فلا يضمن ما ذهب بعد ذلك، وإنما يضمن إذا ترك البيت مفتوحاً وليس أرباب البيت فيه.
ولو خرجت امرأة من بيتها لزيارة جارة لها وأغلقت على متاع لها الباب، فسرق منه سارق وتركه مفتوحاً، فسرق ما بقي في البيت [بعده] ، ضمنه. وكذلك الحوانيت يتركها مفتوحة وليست بمسكونة.
ومن فتح باب قفص فيه طير فذهبت الطير، ضمن.
ومن حل عبداً من قيد قُيّد به لخوف إباقه، فذهب العبد، ضمن.(4/379)
3912 - وإذا تصدق باللقطة بعد السنة، ثم جاء ربها، فإن كانت قائمة بأيدي المساكين، فله أخذها وإن أكلوها فليس له تضمينهم، لأنه قد قيل في اللقطة: يعرّفها سنة ثم شأنه بها، بخلاف الموهوب يأكل الهبة ثم تستحق هذا، لربها أن يضمنه إياها.
* * *(4/380)
(كتاب الآبق)
3913 - ومن وجد آبقاً فأبق منه، فلا شيء عليه، وإن أرسله بعد أن أخذه، ضمنه. (1)
ومن اعترف آبقاً عند السلطان وأتى بشاهد، حلف معه، وأخذ العبد، ولا يستحلف طالب الحق مع شاهدين.
وإذا ادعى أن هذا الآبق عبده ولم يقم بينة، فإن صدقه العبد دفع إليه.
وكذلك متاع يوجد مع لصوص يدعيه قوم لا يعرف ذلك إلا بقولهم، فليتلوم الإمام فيه، فإن لم يأت سواهم دفعه إليهم.
_________
(1) انظر: مختصر اختلاف العلماء (4/348) .(4/381)
3914 - وإذا جاء رب الآبق بعد أن باعه الإمام بعد السنة والعبد قائم، فليس له إلا الثمن، ولا يرد البيع، ولو قال ربه: كنت أعتقته، أو دبرته بعدما أبق، [أو قبل أن يأبق] ، لم يقبل قوله على نقض البيع إلا ببينة، لأنه لو باعه هو نفسه ثم قال: كنت أعتقته، لم يقبل قوله. ولو كانت أمة فباعها الإمام بعد السنة ثم جاء سيدها فقال: قد كانت ولدت مني وولدها قائم، فإنها ترد إليه إن كان ممن لا يتهم.
وقاله مالك فيمن باع جارية له وولدها ثم استلحق الولد، أنه إن كان ممن لا يتهم على مثلها، رُدّت عليه. ولو قال: كنت قد أعتقتها، لم يصدق ولم ترد عليه إلا ببينة. قيل: فإن لم يكن معها ولد فقال بعد ما باعها: كانت ولدت مني؟ قال: أرى أن يصدق وترد إن لم يتهم فيها.
3915 - ويجوز لسيد الآبق عتقه وتدبيره وهبته لغير ثواب، ولا يجوز [له] بيعه ولا هبته لثواب.
وإذا زنى الآبق، أو سرق، أو قذف، أقيم عليه الحد في ذلك كله.(4/382)
3916 - وإذا أتى رجل بكتاب من قاض إلى قاض، يذكر أنه شهد عندي قوم، أن فلاناً صاحب كتابي هذا إليك قد هرب منه عبد صفته كذا، فوصفه ولاجه في الكتاب، وعند هذا القاضي عبد آبق محبوس على هذه الصفة، فليقبل كتاب القاضي والبينة التي شهدت فيه على الصفة، ويدفع إليه العبد. (1)
قال: وترى للقاضي الأول أن يقبل منه البينة على الصفة ويكتب [بها] إلى قاضٍ آخر؟ قال: نعم، لأن مالكاً قال في المتاع الذي يسرق بمكة إذا اعترفه رجل ووصفه [بصفة] ولا بينة له أن يستأنى الإمام فيه، فإن جاء من يطلبه وإلا دفعه إليه، فالعبد الذي أقام البينة على صفته، أحرى أن يدفع إليه، فإن ادعى العبد ووصفه ولم تقم البينة عليه فأرى أنه مثل المتاع ينتظر به الإمام ويتلوم، فإن جاء أحد يطلبه وإلا دفعه إليه وضمنه إياه. قيل: ولا يلتفت ههنا إلى العبد إن أنكر أن هذا هو مولاه، إلا أنه يقر أنه عبد لفلان ببلد آخر، قال: يكتب السلطان إلى ذلك الموضع وينظر في قول العبد، فإن كان كما قال وإلا ضمنه هذا وأسلمه إليه كالأمتعة، ومن اعترفت من يده دابة وقضي عليه، فادعى أنه اشتراها من بعض
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/142) .(4/383)
البلدان وأراد أن لا يذهب حقه، فله وضع قيمتها بيد عدل ويمكنه القاضي من الدابة ليخرج بها إلى بلد البائع منه لتشهد البينة على عينها، فإن قال مستحقها: أنا أريد سفراً وإنما يريد أن يعوقني عنه، قيل له: فاستخلف من يقوم بأمرك، ويمكن المطلوب من الخروج بها، ويطبع له في عنقها ويكتب له كتاباً إلى قاضي ذلك البلد: [إني] قد حكمت بهذه الدابة لفلان، فاستخرج له ماله من بائعه إلا أن يكون للبائع حجة، فإن تلفت الدابة في ذهابه أو مجيئه، أو اعورت أو انكسرت أو نقصها في ذهابه أو مجيئه فهي من الذاهب بها، والقيمة للذي اعترفها إلا أن يرد [إليه] الدابة بحالها.
وكذلك الرقيق إلا أن تكون جارية، فإنه إن كان أميناً دفعت إليه، وإلا فعليه أن يستأجر أميناً يذهب بها معه وإلا لم تدفع إليه. قيل: فإذا وصل كتاب القاضي إلى القاضي وثبت عنده بشاهدين، هل يكلف الذي جاء بالبغل [أن يقيم بينة] أن هذا البغل هو الذي حكم به عليه؟ قال: إن كان البغل موافقاً لما في كتاب القاضي من صفته وخاتم القاضي في عتقه، لم يكلف ذلك.
3917 - وإذا شهد قوم غرباء في بلد لا يعرفون [به] ، لم يقبلوا إلا بعدالة، لأن البينة لا تقبل إلا بعدالة، [وإن شهد قوم على حق، فعدَّلهم قوم غير معروفين، فعدَّل(4/384)
المعدلين آخرون] ، فإن كان الشهود غرباء، جاز ذلك، وإن كانوا من أهل البلد، لم يجز ذلك، لأن القاضي لا يقبل عدالة على عدالة إذا كانوا من أهل البلد، حتى تكون العدالة على الشهود أنفسهم عند القاضي.
3918 - قال مالك: لم أزل أسمع أن الآبق يحبس على ربه سنة، ثم يباع.
ومن وجد آبقاً فلا يأخذه، إلا أن يكون لقريبه أو جاره أو لمن يعرفه، فأحب إلي أن يأخذه، وهو من أخذه في سعة.
والآبق إذا اعترفه ربه بيدك ولم تعرفه، فأرى أن ترفعه إلى الإمام إن لم تخف ظلمه.
3919 - ومن استأجر آبقاً فعطب في عمله ولم يعلم أنه آبق، ضمنه لربه. (1)
وقاله مالك فيمن أجر عبداً على تبليغ كتاب إلى بلد ولم يعرف أنه عبد، فعطب في الطريق، إنه يضمنه، لأن من ابتاع سلعة من السوق فأتلفها هو نفسه، إنه يضمنها [إن استحقت] ، وإن أجرت الآبق فالإجارة لربه، وإن استعملته لزمتك قيمة عمله لربه، لأن ضمانه منه ونفقته عليه، وإنما يضمن الآبق إذا استعمله في عمل يعطب في مثله، فهلك فيه.
وإن استعملته في شيء فسلم، فلربه الأجر فيما له بال من الأعمال.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/85) .(4/385)
وكذلك من استعمل عبداً لرجل.
3920 - وإذا أبق المكاتب لم يكن فسخاً لكتابته إلا بعد حلول النجم، وبعد تلوم الإمام له.
ومن أعتق عبداً آبقاً عن ظهاره، لم يجزه، إذ لا يدري أحيّ هو أم ميت، أو معيب أو سليم، إلا أن يعرف في الوقت موضعه وسلامته من العيوب، فيجزيه، [أو لم] يعلم ذلك إلا بعد العتق، فيجزيه وإن جهله أولاً.
وإذا عرف أن الآبق عند رجل، جاز أن يباع منه أو من غيره ممن يوصف له إذا وصف أيضاً للسيد حاله الآن وصفته، ولا يجوز النقد فيه إذا كان بعيداً، وهو كعبد غائب لرجل باعه.
3921 - وإذا أبق العبد الرهن، لم يضمنه المرتهن وصدق في إباقه وأُحلف وكان على حقه، وإن وجده سيده وقامت الغرماء عليه، فالراهن أولى به إذا كان قد حازه المرتهن، لكونه بيده قبل الإباق، إلا أن يعلم المرتهن بكونه بيد الراهن فتركه حتى فلس، فهو أسوة الغرماء.(4/386)
3922 - وإن أبق عبد مسلم إلى بلد الحرب فدخل إليهم مسلم فاشتراه، لم يأخذه ربه منه إلا بالثمن الذي [ودّى] ، اشتراه بأمره أو بغير أمره، وكذلك عبيد أهل الذمة.
3923 - وإذا أسر العدو ذمياً فظفرنا به، رُدّ إلى جزيته، وقع في المقاسم أو لم يقع، لأنه لم ينقض عهداً ولم يحارب. (1)
فإن فات العبد بعتق عند الذي اشتراه ببلد الحرب، أو كانت أمة فأولدها مشتريها، مضى ذلك ولم ترد، بخلاف من ابتاع عبداً في سوق المسلمين ولا يعلم أن له سيداً غير بائعه، فأعتقه ثم استحقه سيده، إنه يأخذه، لأن هذا أخذه بغير ثمن، والأول لا يأخذه إن شاء إلا بالثمن، ما لم يفت بعتق - كما ذكرنا -.
* * *
_________
(1) انظر: مختصر خليل (242) .(4/387)
(كتاب تحريم الآبار)
3924 - وليس لبئر ماشية أو لبئر زرع، حريم محدود، ولا للعيون إلا ما يضر بها.
ومن الآبار آبار تكون في أرض رخوة، وأخرى في أرض صلبة أو في صفا، فإنما ذلك على قدر الضرر بالبئر، ولأهل البئر منه من أراد أن يبني أو يحفر بئراً في ذلك الحريم، لأنه حق للبئر وضرر بهم.(4/389)
وكذلك لو لم يكن على البئر من حَفْر بئر أخرى ضرر لصلابة الأرض، كان لهم منعه لما يضر بهم في مناخ الإبل ومرابض المواشي عند وردها.
3925 - وكل من حفر في أرضه أو داره بئراً، فله منعها وبيع مائها، وله منع المارة من مائها إلا بالثمن، إلا قوم لا ثمن معهم وإن تركوا إلى أن يردوا إلى ماء غيره هلكوا، فلا يمنعون ولهم جهاد من منعهم.
فأما من حفر في غير ملكه بئراً لماشية أو شفة، فلا يمنع فضلها من أحد، وإن منعوه حل قتالهم، فإن لم يقو المسافرون على دفعهم حتى ماتوا عطشاً، فدياتهم على عواقل المانعين، والكفارة عن كل نفس منهم على كل رجل من أهل الماء مع وجيع الأدب، وقال النبي ÷: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ". (1)
قال ابن القاسم: و [ذلك] في الصحاري، وأما في القرى والأرض المحوزة، فللرجل منع كلئه - عند مالك - إن احتاج إليه، وإلا فليخل بين الناس وبينه.
_________
(1) رواه مسلم (3/1198) ، وأبو عوانة (3/350) ، والترمذي (3/572) ، ومالك في الموطأ (2/744) ، والبخاري (2/830) ، والبيهقي (6/15، 151، 152) ، والشافعي في المسند (1/382) ، وأبو داود (3/277) ، والنسائي في الكبرى (3/407) ، وابن حبان (11/329) .(4/390)
وإذا حرث جارك على غير أصل ماء، فلك أن تمنعه أن يسقي بفضل ماء بئرك التي في أرضك إلا بثمن إن شئت.
وأما إن حرث ولأرضه بئر فانهارت، فخاف على زرعه، فإنه يقضى له عليك بفضل ماء بئرك بغير ثمن. وإن لم يكن في مائك فضل، فلا شيء له.
وسئل مالك عن ماء الأعراب يرد عليهم أهل المواشي يسقون منها فيمنعونهم؟ فقال: أهل ذلك الماء أحق بمائهم حتى يرووا، فإن كان فضل، سقى هؤلاء، والحديث: "لا يمنع فضل الماء" (1) هو ما يفضل عنهم.
وكذلك بئر الماشية، الناس أولى بفضلها، وأما بئر الزرع، فصاحب الزرع أولى بالفضل.
3926 - ولا بأس بشرائك شرب يوم أو يومين، من عين أو بئر دون الأصل، أو شراء أصل شرب يوم أو يومين من كل شهر، ولا شفعة في ذلك إن كانت الأرض قد قسمت.
وإذا قُسمت الأرض وترك الماء فباع أحدهم نصيبه من الأرض بغير ماء أو باع نصيبه من الماء فلا شفعة في ذلك، وإنما الشفعة في الماء إذا لم تقسم الأرض.
_________
(1) تقدم تخريجه.(4/391)
وإذا باع أحدهم حصته من الماء، ثم باع آخر بعده حصته من الماء، لم يضرب البائع الأول معهم في الشفعة في الماء بحصته من الأرض.
وكذلك لو باع حصته من الأرض، ثم باع آخر حصته من الأرض، لم يكن للأول فيها شفعة، لمكان ما بقي له من الماء.
وإذا كانوا شركاء في أرض [وماء] ، فاقتسموا الأرض، ثم باع أحدهم حصته من الماء، فلا شفعة له فيما باع بحصته نم الأرض.
3927 - وإن كان لرجل ماء خلف أرضك، وله أرض دون أرضك، فأراد أن يجري ماءه في أرضك لأرضه، فلك منعه من ذلك.
وكذلك لو كان له في أرضك مجرى ماء أراد أن يحوله في أرضك إلى موضع أقرب إليه، فلك منعه. وليس العمل على ما روي عن عمر في هذا.(4/392)
3928 - وإن اكتريت من رجل شرب يوم من كل شهر، أو من هذه السنة من قناته بأرضك هذه يزرعها سنته هذه، جاز ذلك، لأنك لو أكريت أرضك بدين، جاز.
3929 - وإن كانت بئر بين رجلين فانهارت، أو عين فانقطعت، فعملها أحدهما وأبى الآخر أن يعمل، لم يكن للذي لم يعمل من الماء قليل ولا كثير، وإن كان فيه فضل إلا أن يعطي شريكه نصف ما أنفق.
وإذا احتاجت قناة أو بئر بين شركاء لسقي أرضهم إلى الكنس لقلة مائها، فأراد بعضهم الكنس وأبى الآخرون - وفي ترك الكنس ضرر بالماء وانتقاص، والماء(4/393)
يكفيهم ولا يكفي الذين شاءوا الكنس [خاصة - فللذين شاءوا الكنس خاصة] أن يكنسوا، ثم يكونون أولى بما زاد في الماء كنسهم دون من لم يكنس حتى يؤدوا حصتهم من النفقة، فيرجعون إلى أخذ حصتهم من جميع الماء.
وكذلك بئر الماشية إذا قل ماؤها فأراد بعضهم الكنس وأبى الآخرون، فهي كبئر الزرع، فإن كنسها بعضهم كان جميعهم فيما كان من الماء قبل الكنس على قدر حقوقهم [فيه] ، ثم يكون الذين كنسوا أحق بما زاد الماء بكنسهم، فإذا رووا كان الناس وأُباة الكنس في الفضل سواء، حتى يؤدوا حصتهم من النفقة، فإذا أدوه كان جميع الماء بينهم على قدر ما كان لهم، ثم الناس في الفضل [شرعاً] سواء، ولا شفعة في بئر ماشية، ولا تباع [و] إن احتاج أهلها إلى بيعها.
ولا بأس ببيع بئر الزرع وفيها الشفعة إذا لم تقسم الأرض.
3930 - ومن أرسل في أرضه ماءً أو ناراً، فوصل إلى أرض جاره فأفسد زرعه، فإن(4/394)
كانت أرض جاره بعيدة يؤمن أن يصل ذلك إليها، فتحاملت النار بريح أو غيرها فأحرقت، فلا شيء عليه، وإن لم يؤمن وصول ذلك لقربها، فهو ضامن، وكذلك الماء، وما قتلت تلك النار من نفس، فعلى عاقلة مرسلها.
قيل: فمن كانت له أرض وإلى جانبها أرض لغيره، وله عين خلف أرض جاره، وليس له ممر إلا في أرض جاره، فمنعه من الممر إلى العين؟ قال: سئل مالك عن رجل له أرض وحواليها زرع للناس في أرضهم، فأراد أن يمر بماشيته إلى أرضه في زرع القوم، فقال: إن كان ذلك يفسد زرعهم فلهم منعه.
3931 - وإن كانت بركة أو غدير أو بحيرة في أرضك وفيها سمك، فلا تمنع من الصيد فيها ممن ليس له فيها حق، ولا تبع سمكها ممن يصيد فيها سنة، لأنها تقل وتكثر.
ولا بأس أن تبيع خصباً في أرضك ممن يرعاه عامه ذلك، ولا تبعه عامين ولا ثلاثة، وإنما يجوز بيعه بعد ما ينبت.(4/395)
3932 - ومن أحيا أرضاً ميتة بغير إذن الإمام، فهي له، وإحياؤها شق العيون، وحفر الآبار، وغرس الشجر، والبناء، والحرث، فما فعل من ذلك فهو إحياء.
وتفسير الحديث الذي جاء: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" (1) ، إنما ذلك في الصحاري [والبراري] ، وأما ما قرب من العمران، وما يتشاح الناس فيه، فليس له أن يحييه إلا بقطيعة من الإمام.
قيل: هل كان مالك يعرف هذا الذي يحجر الأرض، أنه يترك ثلاث سنين فإن أحياها وإلا فهي لمن أحياها؟ قال: ما سمعت من مالك في التحجير شيئاً، وإنما الإحياء عند مالك ما وصفت لك.
3933 - ومن أحيا أرضاً مواتاً ثم تركها حتى دثرت وطال زمانها وهلكت أشجارها، وتهدمت آبارها، وعادت كأول مرة، ثم أحياها غيره، فهي لمحييها آخراً، وهذا إذا
_________
(1) رواه أبو داود (3073) ، والترمذي (1378) ، ومالك في الموطأ (2/743) ، وابن أبي شيبة (4/466) ، والطحاوي في شرح المعاني (3/268، 270) ، والبيهقي (6/99، 141، 142) ، والدارقطني (3/35) ، والشافعي في المسند (1/224) ، والنسائي في الكبرى (3/404، 405) .(4/396)
أحيا في غير أصل كان له، فأما من ملك أرضاً بخطة أو شراء ثم أسلمها فهي له، وليس لأحد أن يحييها.
3934 - ولو نزل قوم أرضاً من أرض البرية فرعوا ما حولها أو حفروا بئراً لمواشيهم، لم يكن هذا إحياء لمرعاهم، [و] هم والناس في المرعى سواء، ولا يمنع الكلأ إلا رجل له أرض قد عرفت له، فهذا الذي يمنع كلأها، أو يبيعه إن احتاج إليه، وهؤلاء أحق ببئرهم حتى يرووا ثم يكون فضلها للناس، وليس لهم بيعها ولا منع فضل مائها.
3935 - ومن سيّل ماءً عن أرض غَرِقَة، أو نزل بغيضة فقطع شجرها، فذلك إحياء.
ومن حفر بئراً بعيدة من بئرك، فانقطع ماء بئرك من حفر بئره وعُلم ذلك، فلك ردمها عليه.
3936 - ومن حفر بئراً حيث لا يجوز له، ضمن ما عطب فيها من دابة أو إنسان.(4/397)
وإن حفرت بئراً في وسط دارك أو إلى جنب جدارك، فحفر جارك خلفها في داره بئراً أو حفرة في وسط داره، فإن كان ذلك مضراً ببئرك منع من ذلك.
وكذلك لو أحدث كنيفاً يضر ببئرك منع من ذلك، ومن رفع بناه ففتح كوى يشرف منها على جاره، منع من ذلك.
وكتب عمر - رضي الله عنه - في هذا أن يوقف على سرير فإن نظر إلى ما في دار جاره منع، وإلا لم تمنع [من ذلك] . (1)
قال مالك: يمنع من ذلك ما فيه ضرر، وأما ما لا ينال منه النظر [إليه] ، فلا يمنع.
وإن رفع بناءه ولم يفتح فيه كوة فستر جاره من الشمس وهبوب الريح، لم يمنع.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/160) .(4/398)
3937 - وإن كانت بين قوم أرض وعين فاقتسموا الأرض وبقيت العين، فأراد أحدهم أن يسقي بحصته من الماء أرضاً له أخرى، أو يؤجر ذلك ممن يسقي له أو يبيعه، [فله ذلك] ، ثم لا شفعة فيه لشركائه.
3938 - ومن غصبك أرضاً فزرعها، أو داراً فسكنها، أو بئراً فسقى بها أرضه، فعليه كراء ذلك. وإن غصبك دابة فركبها، فلا كراء عليه.
3939 - ومن ارتهن عيناً أو قناة، أو جزءاً من شرب بئر أو عين أو نهر، جاز ذلك إذا قبضه المرتهن وحازه وحال بين صاحبه وبينه.
وليس للراهن أن يكري ذلك، ولا للمرتهن أن يكريه بغير أمر ربه، فإن أمره بذلك أكراه المرتهن وكان الكراء للراهن.
وكذلك من ارتهن داراً، فليس لرب الدار أن يكريها، ولكن يتولى المرتهن كراها بأمره، ويكون الكراء لرب الدار، ولا يكون رهناً إلا أن يشترطه.(4/399)
وإن اشترط أن يكريها ويأخذ كراها في حقه، فإن كان دينه من قرض، جاز، وإن كان من بيع، [لم يجز] إلا أن [يكون] ذلك الشرط بعد عقد البيع، فجائز، وإن عقد البيع على هذا، لم يجز، إذ لا يدري ما يقتضي أيقل أم يكثر، إذ لعل الدار تنهدم قبل أن يقتضي. وللمرتهن أن يمنع الراهن أن يسقي زرعه بما ارتهن منه من بئر أو قناة.
وإن أذن له أن يسقي [بها] زرعه، خرجت من الرهن.
[وكذلك من ارتهن داراً فأذن لربها أن يسكن أو يكري، فقد خرجت من الرهن] حين أذن له، وإن لم يسكن ولم يكر.
ومسألة إنخساف البئر في أيام الخيار وما بعدها إلى آخر الكتاب، قد تقدم ذكره في كتاب بيع الخيار، فأغنى عن إعادتها ههنا.
* * *(4/400)
(كتاب الحدود في الزنا)
3940 - وينبغي للقاضي إذا شهدت عنده بينة على رجل بالزنا، أن يكشف عن شهادتهم: كيف رأوه؟ وكيف صنع؟ فإن رأى في شهادتهم ما تبطل به الشهادة، أبطلها. وإذا عدلت البينة والقاضي لا يعرف أبكر هو أم ثيب؟ فينبغي له أن يقبل قول الزاني: إنه بكر، ويجلده مائة جلدة، إلا أن يشهد على الزاني شاهدان بالإحصان، فيرجم.
3941 - ولا يجوز في الإحصان شهادة النساء مع الرجال ولا وحدهن، ولا في النكاح.(4/401)
3942 - ومن تزوج امرأة وتادم مكثه معها بعد الدخول [بها] ، فشهد عليه بالزنا فقال: ما جامعتها مذ دخلت عليها، فإن لم يعلم وطؤه: بولد يظهر أو بإقرار، لم يرجم، وإن علم منه إقرار بالوطء قبل ذلك، رُجم.
ولا يجتمع الرجم والجلد في الزنا على الثيب، والثيب حده الرجم بغير جلد، والبكر حده الجلد بغير رجم، بذلك مضت السنة، ولا نفي على النساء ولا على العبيد، ولا تغريب. (1)
_________
(1) انظر: سبل السلام (4/77) ، وفتح الباري (12/165) ، والتمهيد لابن عبد البر (9/88، 89) .(4/402)
ولا يُنفى الرجل الحر إلا في الزنا، أو في حرابة، ويسجنان جميعاً في الموضع الذي ينفيان إليه: يسجن الزاني سنة، والمحارب حتى تعرف له توبة.
والرجم على من أُحصن بنكاح يصح عقده ويصح الوطء فيه. وقد ذكرنا مسائل الإحصان في كتاب النكاح.
3943 - ومن خاصم في قذف، فمات قبل إيقاع البينة، فلورثته القيام بذلك، ويحدّ لهم القاذف إن أتوا ببينة.
ولو لم يقم المقذوف بقذفه حتى مت سنة، أو أقل أو أكثر، ولم يسمع منه عفو ثم مات فقام بذلك وارثه، فإن لم يمض من [طول] الزمان ما يعدّ به المقذوف تاركاً، فلورثته القيام، وإن مضى من طول الزمان ما يُرى أنه تارك، فلا قيام لهم، فأما لو قام المقذوف نفسه بعد طول الزمان لَحَلَف بالله ما كان تاركاً لذلك، ولا كان وقوفه إلا أن يقوم بحقه إن بدا له، حُدّ له بخلاف ورثته.
ومن قتل وله أم وعصبة، فماتت الأم، فورثتها مكانها، إن أحبوا أن يقتلوا قتلوا، ولا عفو للعصبة دونهم، كما لو كانت الأم باقية.(4/403)
3944 - ومن افترى على رجل مجلود في الزنا، أو مرجوم في الزنا، فلا حد عليه.
ومن قال لرجل: يا ابن الزانية، وقال: أردت جدة من جداته لأمه، فإن كانت جدة له لأمه قد عرفت بذلك، حلف أنه ما أراد غيرها، ولا حد عليه، وعليه العقوبة. قيل: فهل يُنكل في قذف هؤلاء الزناة؟ قال: إذا آذى مسلماً نكل.
3945 - وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا، فرجع أحدهم قبل إقامة الحد، أو وُجد عبداً، أو مسخوطاً، فإنهم يحدون كلهم حد الفرية.
وإن رجع شهود الزنا بعد الرجم حُدوا، وكانت الدية في أموالهم.
وإن رجع واحد بعد قيام الحد، جلد الراجع وحده دون الثلاثة الذين بقوا.(4/404)
وإن علم بعد الرجم والجلد أن أحدهم عبد، حُدّ الشهود أجمعون. وإن كان مسخوطاً لم يحد واحد منهم، لأن شهادتهم قد تمت باجتهاد الإمام في عدالتهم، ولم تتم في العبد، ويصير من خطأ الإمام، فإن لم يعلم الشهود كانت الدية في الرجم على عاقلة الإمام، وإن علموا فذلك على الشهود في أموالهم، ولا شيء على العبد في الوجهين.
وما أخطأ به الإمام من حد [هو] لله، يبلغ به ثلث الدية فأكثر فعلى عاقلته، وما كان دون الثلث ففي ماله خاصة.
ولا تجوز شهادة الأعمى في الزنا، ويُحدّ.
3946 - وإذا حكم القاضي بشاهدين في مال، ثم تبين أن أحدهما عبد، أو ممن لا تجوز شهادته، حلف الطالب مع شاهده الباقي ونفذ الحكم، فإن نكل حلف المطلوب واسترجع المال.
وإن شهدا عليه بقطع يد [أو] رجل عمداً، فاقتص منه، ثم تبين أن أحدهما عبد، أو ممن لا تجوز شهادته، لم يكن على متولي القطع شيء، وهذا من خطأ الإمام.
وإن شهد أربعة على رجل بالزنا، فرجمه الإمام، ثم أصابوه مجبوباً، لم يحد(4/405)
الشهود، إذ لا يحد من قال لمجبوب: يا زاني، وعليهم الدية في أموالهم مع وجيع الأدب وطول السَّجن. (1)
وإذا شهدوا على الحدود فماتوا، أو غابوا، أو عموا، أو أُخرسوا، [أو جنوا] ، ثم زكوا بعد ذلك، فليقم الإمام الحد إذا كان قد استقصى شهادتهم، وكذلك الحقوق.
3947 - ولم يكن مالك يعرف أن البينة تبدأ بالرجم، ثم الإمام، ثم الناس، وأنه في الإقرار والحمل يبدأ الإمام ثم الناس.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/200) ، والكافي (1/573) ، والمدونة (16/244) ، ومواهب الجليل (4/30) .(4/406)
قال: وليأمر الإمام بالرجم في ذلك كله كسائر الحدود، ولا يربط المرجوم ولا يحفر له، وكذلك المرأة. وفي الحديث: فرأيت الرجل يحني على المرأة ولو كان في حفرة ما حنى عليها. (1)
ويغسل المرجوم ويكفن ويصلى عليه ويدفن، ولا يصلي عليه الإمام.
_________
(1) رواه أبو داود (4440) ، والنسائي (7197) .(4/407)
3950 - وإذا قالت امرأة: زنيت مع هذا الرجل، وقال الرجل: هي زوجتي، وقد وطئها، أو وجدا في بيت فأقرا بالوطء وادعيا النكاح، فإن لم يأتيا ببينة حُدا.
3951 - ومن زنا بصغيرة يوطأ مثلها ولم يحصن، فعليه الحد.
3952 - وإن زنت امرأة بصبي مثله يجامع إلا أنه لم يحتلم، فلا حد عليها. وإن زنت بمجنون، فعليها الحد. ويحد قاذف المجنون.
3953 - وإن زنى مسلم بذمية، حُدّ، وردت هي إلى أهل دينها، وإن شاءوا رجمها لم أمنعهم.
3954 - ومن زنى بمجنونة لا تعقل، أو أتى نائمة، أو اغتصب امرأة، فعليه الحد والصداق لكل واحدة منهن.
3955 - ومن وطئ أمة بيده رهناً، وقال: ظننتها تحل لي، حُدّ، ولا يعذر بذلك أحد، ولا العجم إذا ادعوا الجهالة.(4/408)
ولم يأخذ مالك بالحديث الذي قالت: "زنيت بمرغوس بدرهمين" وأرى أن يقام الحد في هذا.
3956 - ومن اشترى حرة وهو يعلم بها، فأقر أنه وطئها، حُدّ.
ويضرب المحدود في الزنا والخمر والقذف [على ظهره، ويجرد الرجل في الحد والنكال، ويكشف ظهره بغير ثوب، ويقعد ولا يقام ولا يمد] ، وتجلد المرأة(4/409)
وتقعد، ولا تجرد مما لا يقيها الضرب، وإن جعلت على ظهرها ما يقيها الضرب، من لَبد ونحوه، نُزع.
وبلغ مالكاً أن بعض الأئمة أقعد امرأة للجلد في قفة، فأعجبه ذلك.
وصفة الجلد في الزنا والشرب والفرية والتعزير واحد، ضرباً بين الضربين، ليس بالمبرح ولا بالخفيف. ولم يحد مالك ضم الضارب يده إلى جنبه.
ولا يجزئ في الحدود الضرب بقضيب، ولا بشراك، ولا درة، ولكن بالسوط. وإنما كانت درة عمر للأدب. فإذا وقعت الحدود، قَرّب السوط.
3957 - وإذا دعاك إمام عادل عارف بالسنة، إلى قطع يد رجل، أو رجله، في سرقة، أو إلى قطع أو قتل في حرابة، أو إلى رجم في زنا، وأنت لا تعلم صحة ما قضى به إلا بقوله، فعليك طاعته، فأما الجائر فلا، إلا أن تعلم صحة ما أنفذ، وعدالة البينة، فعليك طاعته لئلا تضيع الحدود.(4/410)
3958 - ووجه الشهادة في الزنا: أن يأتي الأربعة الشهداء في وقت واحد، فيشهدوا على وطء واحد، في موضع واحد، بصفة واحدة، فبهذا تتم الشهادة.
قال: ويسألهم الإمام كيف رأوه؟ فإن وصف ثلاثة الزنا، وقال الرابع: رأيته بين فخذيها، حُدّ الثلاثة للقذف وعوقب الرابع، ولو لم يبينوا كيف رأوه، وقالوا: لا نزيدك على هذا، لم يحد الشهود عليه، وحُدّ الشهود حد القذف، وإن شهد رجلان أنه زنى بها في قرية كذا، وشهد اثنان أنه زنى بها في قرية أخرى، لم يجز ذلك، ويحد الأربعة للقذف، وكذلك كل ما شهدوا به في الزنا من فعلين مختلفين.
3959 - وتجوز الشهادة على الشهادة في الزنا، مثل أن يشهد أربعة على شهادة أربعة، أو اثنان على شهادة اثنين، واثنان على شهادة اثنين [آخرين] ، فتتم الشهادة.
ولو شهد اثنان أو ثلاثة على شهادة أربعة، لم يجز ذلك، ويحد الشهود(4/411)
للقذف، إلا أن يقيموا أربعة سواهم على شهادة أربعة أشهدوهم، فلا يحدوا ويحد الزاني أو يرجم.
3960 - ولو شهد ثلاثة على شهادة ثلاثة، وواحد على شهادة واحد، لم يجز حتى يشهد على الواحد اثنان. وكذلك إن شهد ثلاثة على رؤية أنفسهم، وواحد على شهادة واحد، لم تتم الشهادة، ويحد الشهود للقذف حتى يشهد اثنان على شهادة الرابع، فتتم الشهادة حينئذ، ويحد المشهود عليه إذا كانت شهادتهم كلها على وطء واحد، في موضع واحد كما وصفنا.
ومن قال لرجل: سمعت فلاناً يشهد أنك زان، أو يقول لك فلان: يا زاني، فإنه يحد إلا أن يقيم بينة على قول فلان.
ومن سمع رجلاً يقذف رجلاً غائباً، فليشهد له إن كان معه غيره.
قال مالك - رحمه الله -: ومن مرّ برجلين يتكلمان في أمر، فسمع منهما شيئاً ولم يشهداه، ثم طلب أحدهما تلك الشهادة، فلا يشهد له.
قال ابن القاسم: إذ قد يكون قبله أو بعده كلام لا تتم الشهادة أو تسقط إلا به، ولا يجيز القاضي شهادة مثل هذا إلا أن يستوعب كلامهما من أوله [إلى آخره] ، فليشهد وإن لم يشهداه. قيل لمالك - رحمه الله -: فمن شهد بين رجلين في حق فنسي بعض الشهادة وذكر بعضها؟ فقال: إن لم يذكرها كلها فلا يشهد. قيل له:(4/412)
فرجلان تنازعا في أمر فأدخلا بينهما رجلين على ألا يشهدا بما سمعا منهما فيتقارران ثم يفترقان فيتجاحدان؟ قال: فليعذر الشاهدان إليهما ولا يعجلا، فإن تماديا على الجحد فليشهدا عليهما.
3961 - ومن قذف رجلاً، فلما ضرب أسواطاً قذف آخر، أو قذف الذي يُجلد له، ابتدئ الجلد عليه ثمانين من حين يقذفه، ولا يعتد بما مضى من السياط.
ومن قذف رجلاً، حُدّ له، ثم إن قذفه، حد له ثانية.
ومن عفى عن قاذفه، جاز عفوه ما لم يبلغ الإمام، فإن عفى عنه على أنه متى شاء قام بحده، وكتب بذلك كتاباً، وأشهد على ذلك، فذلك له متى قام به، فإن مات كان لولده أن يقوم عليه بذلك الكتاب.
ولا تبطل شهادة القاذف حتى يحد. وكذلك إن عفى عنه، فإذا ضرب، سقطت شهادته حتى يحدث توبة [وخيراً] .(4/413)
3962 - ومن قذف وشرب خمراً سكر منه أو لم يسكر، جُلد حداً واحداً.
وإذا اجتمع على الرجل مع حد الزنا حد قذف، أو شرب خمر، أُقيما عليه جميعاً، ويجمع ذلك الإمام عليه، إلا أن يخاف عليه فيرى أن يفرق عليه الحدين، فذلك إلى اجتهاده، وكذلك المريض إذا خيف عليه من إقامة الحد، فليؤخر.
قال مالك - رحمه الله -: وكذلك إذا خيف على السارق إن قطع في البرد، فليؤخر.
قال ابن القاسم: والذي يضرب الحد في البرد عندي، بمنزلة القطع في البرد إذا خيف عليه، فليؤخره ويحبس. والحر بمنزلة البرد في ذلك.
وأحب إليّ أن يُبدأ بحد الزنا، إذ لا عفو فيه، واختلف في العفو في حد القذف بعد بلوغ الإمام، فأجازه مالك مرة، ثم رجع عنه.(4/414)
3963 - ومن عفا عن قاذفه، لم يكن لغيره أن يقوم بحده، وإن رفع القاذف إلى الإمام أجنبي غير المقذوف، لم يمكّن من ذلك ولا يحد له، لأن هذا لا يقوم به عند الإمام إلا صاحبه.
3964 - ولا تجلد البكر الحامل في الزنا حتى تضع وتستقل من نفاسها، لأنه مرض.
ولو كانت محصنة أمهلت حتى تضع، فإذا وضعت حُدّت ولم تؤخر، وهذا إذا وجد للمولود من يرضعه، وإن لم يوجد [أو لم يقبل غيرها] ، أُخّرت حتى ترضع ولدها لخوف هلاكه.
3965 - وإذا زنت امرأة، فقالت: إني حامل، فكيف إن قالت البينة: [إنا] رأيناها تزني منذ شهرين، أو ثلاثة أشهر، أو أربعة فإنه ينظر إليها النساء، فإن صدقتها لم يعجل عليها، وإلا حُدّت.(4/415)
وإذا شهد عليها بالزنا أربعة عدول، فقالت: إني عذراء، أو رتقاء، ونظر النساء إليها فصدقنها، لم ينظر إلى قولهن، وأقيم عليها الحد، لأنه قد وجب، ألا ترى أن البكر إذا أنكر زوجها الوطء بعد إرخاء الستر، وادعته، وشهد النساء أنها بكر، أن قولهن لا يقبل وتصدق المرأة. ولا يُكشف الحرائر على مثل هذا.
وإذا شهدت بينة على امرأة أنها زنت منذ أربعة أشهر، والزوج غائب منذ أربعة أشهر، وادعت هي الحمل وصدقها النساء في الحمل، فاخرت حتى وضعت، ثم رجمت، ثم قدم الزوج فنفى الولد وادعى الاستبراء، فإن كانت المرأة [قالت] قبل أن ترجم: ليس الولد منه، وقد استبرأني، نفى الولد بلا لعان، لأن مالكاً قال فيمن ظهر بامرأته حمل قبل البناء فنفاه، وصدقته هي أنه من زنا، وأنه لم يطأها، فإنه ينفي بلا لعان وتحد هي، وإن كانت بكراً جُلدت وبقيت له زوجة إن شاء طلق أو أمسك، وإن لم تذكر المرأة قبل موتها الاستبراء في المسألة الأولى، ولم تقل شيئاً، وادعى الزوج الاستبراء ونفى الولد، فلا ينفيه هاهنا إلا بلعان. وكذلك لو نفاه ولم يدع الاستبراء، فإنه يلتعن وينفي الولد.(4/416)
قيل: أليس من قول مالك: من لم يدع الاستبراء فنفى الولد، ضرب الحد وألحق به الولد؟ قال: لا، ولكن قال مالك: إذا رأى الرجل امرأته تزني وقد كان يطؤها قبل الرؤية، لاعن ونفى الولد، إلا أن يطأ بعد الرؤية فيلحق به الولد، ويحد، وإن لم يطأ بعد الرؤية إلا أنها كانت حاملاً يوم قال: رأيتها تزني، فإنه يلاعن ويلحق به الولد إذا كان حملها يومئذ بيناً مشهوداً عليه، أو مقراً به قبل ذلك، لأنه لم ينتف من الحمل، فإن لم يلتعن صار قاذفاً ولحق به الولد.
3966 - وحد العبد في الخمر والسكر والفرية، أربعون جلدة، وإذا زنى العبد، أو قذف، أو شرب خمراً، ثم قامت بينة أنه أعتق قبل ذلك، فإنه يكون له وعليه حكم الحر في ذلك كله، وفي القصاص بينه وبين الحر. (1)
وإن قد كان طلق زوجته تطليقتين بعد العتق، جعلت له عليها الثالثة، علم العبد في ذلك كله بعتقه، أو لم يعلم، كان السيد مقراً بالعتق أو منكراً.
وأما القول في خدمته وغلته، فمذكور في كتاب العتق.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/252) .(4/417)
3967 - وما تظالم أهل الذمة فيه بينهم من قطع جارحة، أخذ ذلك من بعضهم لبعض وإن قتل ذمي ذمياً، قُتل به، وإن سرق ذمي من مسلم أو ذمي، قطع، ولا يقبل في شيء من ذلك إلا شهادة المسلمين.
3968 - ومن دخل بزوجته البكر، فأفضاها ومثلها يوطأ، فماتت من جماعه، [فإن علم أنها ماتت من جماعه] فديتها على عاقلته، وإن لم تمت فعليه ما شانها بالاجتهاد في ماله، وتبقى له زوجة، إن شاء طلق أو أمسك. فإن بلغ الاجتهاد في ذلك ثلث الدية فأكثر، كان على العاقلة، وقد جعل فيها بعض الفقهاء ثلث الدية على عاقلته، ونحا ناحية الجائفة.
3969 - وإن وطئ أمته فأفضاها، لم تعتق عليه إذ لم يقصد به إلى المثلة، كالأدب يؤول إلى المثلة.
وإن زنى بامرأة فأفضها، فلا شيء لها إن أمكنته من نفسها، وإن اغتصبها، فلها(4/418)
الصداق مع ما شانها جميعاً، كمن أوضح رجلاً فسقطت عينه من ذلك، فعليه دية الموضحة ودية العين جميعاً، ولا يدخل بعض ذلك في بعض.
3970 - ومن وطئ امرأة في دبرها [زناً] ، ففيه الحد، وهو وطء يغتسل منه، وقد جعله الله وطئاً، فقال تعالى: ×إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ% [العنكبوت: 28] . (1)
ومن زنى بصغيرة لم تحض طائعة، ومثلها يوطأ، فحد ثم قذفها رجل بعد أن بلغت، فإنه يحد، لأن ما فعلته في الصبا لم يكن زناً.
ومن قذفها [بالزنا] وهي لم تبلغ المحيض ومثلها يوطأ، فعليه الحد.
ولا يحد من قذف صبياً لم يحتلم، وإن كان مثله يطأ.
3971 - ومن آلى من امرأته فجامعها في دبرها، [فقد] حنث وسقط عنه الإيلاء، وتلزمه الكفارة. قيل: أيسقط عنه الإيلاء وهو لم يكفر؟ قال: نعم، لأن هذا عند مالك جماع لا شك فيه، إلا أن يكون نوى الفرج بعينه حين حلف، فلا تلزمه كفارة في الدبر، وهو مول بحاله.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/213) .(4/419)
وإن وطئها المولي فيما دون الفرج ولا نية له، فعليه الكفارة، ويسقط عنه الإيلاء إذا كفّر، لأنه لو كفّر قبل أن يطأ لسقط عنه الإيلاء، فكيف إذا كفّر للإيلاء. وفي كتاب الإيلاء هذا المعنى.
3972 - وإذا زنا الكافران، لم يحدّا، ورُدّا إلى أهل دينهما. (1)
وإن أعلنوا الزنا وشرب الخمر فلينكلوا، فأما إن وجدوا على ذلك ولم يعلنوه، فلا.
3973 - قيل: فإن شهد أربعة على رجل بالزنا، فقالوا: تعمدنا النظر إليهما لتثبت الشهادة؟ فقال: وكيف يشهد الشهود إلا كذا.
فإن قال المشهود عليه: هم عبيد، وقال الشهود: نحن أحرار، فهم على قولهم أنهم أحرار، والبينة عليه.
وأصل الناس عند مالك الحرية حتى يثبت رقهم.
ومن قذف رجلاً لا يعرف برق وهو يدعي الحرية، وقال القاذف: بل هو عبد، فهو على الحرية، ومن يعرف الشامي والبصري والإفريقي في
_________
(1) انظر: منح الجليل (9/123) .(4/420)
المدينة؟ فأرى أن يحد له، إلا أن يأتي ببينة على رقه، فإن ادعى بذلك بينة قريبة، لم يعجل عليه، وإن كانت بعيدة جلد الحد ولم يلتفت إلى قوله، ثم إن أقام تلك البينة بعد الضرب زالت عنه جرحة الحد، وجازت شهادته، ولا يكون له من أرش الضرب شيء.
3974 - وإن أقر القاضي أنه رجم، أو قطع الأيدي، [أو زنى] تعمداً للجور، أقيد منه.
3975 - ولا بأس أن يقيم السيد على مملوكه حد الزنا والقذف وحد الخمر. وأما السرقة فلا، وإن شهد بها عند السيد عدلان سواه، ولا يقيمها على العبد إلا الوالي.
فإن قطعه السيد دون الوالي، وكانت البينة عادلة وأصاب وجه القطع، عوقب، ولا يحد السيد عبده في الزنا إلا بأربعة شهداء سوى السيد، فإن كان السيد رابعهم، فلا يحده، وليرفعه إلى الإمام، فيقيم الإمام عليه الحد، ويكون السيد شاهداً، ألا ترى أن الإمام إذا شهد على حد فلم تتم الشهادة إلا به، أنه لا يقيم الحد في ذلك، ولكن يرفعه إلى من فوقه، فيقيمه ويكون هو شاهداً.(4/421)
وإن شهد على العبد سيده وأجنبي أنه سرق، وهما عدلان، قطع الإمام يده، ولا يقطعه سيده دون الإمام.
3976 - ومن زنت جاريته ولها زوج، فلا يقيم عليها الحد، وإن شهد عليها أربعة سواه حتى يرفع ذلك إلى الإمام.
ولا يقيم الرجل على عبده قصاصاً، حتى يرفعه إلى الإمام.
[وكذلك إذا كان له عبدان فجرح أحدهما صاحبه، فلا يقتص منه حتى يرفعه إلى الإمام] .
وقال ناس: إذا كان العبدان له، فلا قصاص بينهما، لأن ماله جرح ماله، وأبى ذلك مالك.
3977 - ولا تجوز شهادة آكل الربا، أو شارب الخمر، أو لاعب بالحمام إذا كان يقامر عليها، ولا شهادة من يعصر الخمر ويبيعها، وإن كان لا يشربها.
وإذا طلب المشهود عليه تجريح البينة، أُمكن من ذلك، فمن أقام البينة عليه بشيء أنه فيه، مما لو شُهد عند القاضي [ابتداءً فعلمه القاضي] منه، أبطل به شهادته، كان ذلك له تجريحاً.(4/422)
وإذا ادعى الخصم بينة بعيدة في التجريح، لم ينتظر، لأن الحق قد وجب [عليه] .
وإنما يتلوم له القاضي في التجريح بقدر ما يرى، فإن جرحهم وإلا أمضى الحكم عليه.
3978 - وإن جرح واحداً من شهود الزنا وهم أربعة، حُدّ جميعهم حد الفرية.
ومن شهدت عليه بينة بالزنا فقذفهم، حُدّ للزنا، وحُد لقذفهم حد القذف، ولا تبطل شهادتهم بالزنا لطلبهم حد القذف منه.
3979 - وإذا شهد الإمام على حد، رفعه إلى من فوقه، فإن لم ينك فوقه أحد، رفعه إلى قاضيه وشهد عنده.
3980 - وإذا كتب قاض [إلى قاض] بما ثبت عنده من شهادة على رجل في حد، أو قصاص، أو حق سواه، [أو بقضاء] أنفذه في ذلك كله، فثبت عند المكتوب إليه أن هذا كتاب القاضي الذي كتب إليه وطابعه، أو كان فيه طابع فانكسر، أو ثبت [أنه] كتابه ولا طابع فيه، فذلك سواء، وينبغي لهذا الذي جاءه الكتاب(4/423)
إنفاذ ما فيه، فإن عُزل المكتوب إليه، أو مات ووصل الكتاب إلى من ولي بعده، فلينفذه، وكذلك إن عُزل الذي كتب به [إليه] ، أو مات قبل وصوله أو بعده، فلينفذه من وصل إليه.
وإن لم تشهد البينة على ما في كتاب القاضي، لم يلتفت إلى طابعه.
وينبغي أن يقيم الحدود في القتل ولاة المياه، وليجلب إلى الأمصار، ومصر كلها لا يقام القتل فيها إلا بالفسطاط، أو يكتب إلى والي الفسطاط، فيكتب إليه [يأمره بإقامة ذلك] . والله الموفق.
* * *(4/424)
(كتاب القطع في السرقة)
3981 - وينبغي للإمام إذا شهدت عنده بينة على رجل، أنه سرق ما يقطع في مثله، أن يسألهم عن السرقة ما هي؟ وكيف هي؟ ومن أين أخذها؟ وإلى أين أخرجها؟ كما يكشفهم عن شهادتهم على رجل بالزنا، فإن كان في ذلك ما يدرأ الحد به، درأه.
3982 - ومن سرق ذهباً وزنه ربع دينار، قُطع وإن كانت قيمته درهماً واحداً، وإن لم يبلغ وزنه ربع دينار، لم يقطع وإن ساوى ثلاثة دراهم فأكثر، وكذلك من سرق فضة نظر إلى وزنها دون قيمتها من الذهب، وإنما يقوّم غير الذهب والفضة من سائر الأشياء، فمن سرق عرضاً قيمته ثلاثة دراهم قُطع وإن لم يساو من الذهب ربع دينار. ولو ساوى ربع دينار ولم يساو ثلاثة دراهم، لم يُقطع.
وإنما تُقوّم الأشياء بالدراهم، وصرف الدينار في حد القطع والدية اثنا عشر درهماً، ارتفع الصرف أو انخفض.(4/425)
3983 - ومن سرق متاعاً سراً لرجل غائب فقام به أجنبي، قُطع.
ولو قال السارق: رب المتاع أرسلني، قُطع السارق وإن صدّقه ربه أنه بعثه، كان معه في بلد أو لم يكن.
وإن أُخذ في جوف الليل ومعه متاع، فقال: فلان أرسلني إلى منزله فأخذت له هذا المتاع، فإن عرف منه إليه انقطاع وأشبه ما قال، لم يقطع، وإلا قطع ولم يصدق. وإذا لم يقم رب المتاع على السارق وتركه بعد أن أخذ منه السرقة، أو لم يأخذها، أو عفا عنه، ثم رفعه بعد ذلك [بزمان] هو أو غيره إلى السلطان، قطع. (1)
وليس للوالي أن يعفو إذا انتهت إليه الحدود.
ولو قال رب المتاع: ما سرق مني شيئاً، وشهدت بينة أنه سرق، قُطع.
ويحبس السارق حتى تزكى البينة.
3984 - ولا يؤخذ في الحدود والقصاص كفيل، فإن زُكّوا أقام الحد، غاب الشهود أو رب السرقة، أو حضروا، وكذلك إن زكوا بعد أن ماتوا أو عموا أو جنّوا أو خرسوا أنفذ الإمام الحد الذي شهدوا به من زنا أو سرقة. وكذلك الحقوق.
وإن ارتدوا أو فسقوا قبل الحكم، لم يحكم بما شهدوا فيه وسقطوا.
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/341) ، والتاج والإكليل (6/307، 310) ، والمدونة (16/269، 274) ، ومنح الجليل (9/309) .(4/426)
وإذا ظهر منهم فسق، أو أخذوا يشربون خمراً، وذلك بعد أن حكم الإمام بإقامة الحدود أو القصاص إلا أن ذلك لم يقم [بعد] ، فإن ذلك ينفذ ويقام الحد والقصاص، وكذلك هذا في الحقوق، لأنه حكم نفذ بالأمر به.
3985 - وإذا شهدت البينة في الحدود، لم يفرقهم الإمام إذا كانوا عدولاً مبرزين، إلا أن يستنكر شيئاً.
ولا تجوز شهادة أهل الكفر في سرقة أو غيرها، على مسلم أو كافر.
3986 - وإن سرق جماعة ما تعاونوا في إخراجه من الحرز لثقله، قُطعوا كلهم، وإن لم تكن قيمته إلا ثلاثة دراهم فأكثر. وكذلك إن حملوه على ظهر أحدهم في الحرز ثم خرج به إذا لم يقدر على إخراجه إلا برفعهم معه، ويصيرون كأنهم حملوه على دابة، فيقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها لثقله أو لكثرته.
وإن حملوه على ظهر أحدهم وهو قادر على حمله دونهم، كالثوب والصرة، لم يقطع إلا الخارج [به] ن كما لو خرج به دون عونهم، ولا يقطع من أعانه،(4/427)
ولو خرج كل واحد منهم حاملاً لشيء دون الآخر، وهم شركاء فيما أخرجوا لم يقطع إلا من أخرج منهم ما قيمته ثلاثة دراهم.
3986 - ومن سرق عرضاً قيمته ثلاثة دراهم وهو لرجلين، قُطع.
وإن سرق متاعاً ممن هو بيده وديعة أو عارية أو بإجارة، قُطع، لأنه حرز له.
[ومن سرق متاعاً، فسرقه منه سارق، ثم سرقه من السارق سارق ثالث، قُطعوا كلهم] .
ومن سرق متاعاً، فقطع فيه، ثم سرقه ثانية، قُطع أيضاً.
3987 - ومن قام من الناس بسارق أو زان إلى الإمام، أقام عليه الحد إذا ثبت ذلك عنده، بخلاف القاذف يرفعه غير المقذوف هذا لا يحده حتى يحضر الطالب.
ولو سمع الإمام رجلاً يقذف رجلاً ومعه من تثبت شهادته عليه، أقام عليه الإمام الحد.
3988 - ومن عفا عن قاذفه قبل بلوغ [الإمام] ، لزمه ولا رجوع له في ذلك، وكان(4/428)
مالك يقول: في القذف العفو وإن بلغ الإمام، وقاله عمر بن عبد العزيز، ثم رجع مالك، فقال: لا عفو له إذا بلغ الإمام إلا أن يريد ستراً.
3989 - وإذا سرق الذمي قُطع، لأن السرقة من الفساد في الأرض، فلا يقروا عليها.
وأما إن زنى، فلا يقام عليه الحد، ويرد إلى أهل دينه، ولا أمنعهم رجمه إن شاءوا.
ولا قطع في سرقة خمر أو نبيذ مسكر أو خنزير، وإن كان لذمي سرقه مسلم أو ذمي، إلا أن للذمي المعاهد قيمته على المسلم، وكذلك على الذمي إذا حكمنا بينهما.
3990 - ولا يحل للبينة الكف عن الشهادة على السرقة إذا رفع السارق إلى الإمام،(4/429)
ولا بأس بالشفاعة [للسارق] إذا لم يعرف منه أذى للناس، إذا كانت [تلك] منه زلة ما لم يبلغ الإمام أو الشرط أو الحرس، فإذا بلغهم لم تجز الشفاعة.
وأما المعروف بالفساد فلا ينبغي أن يتشفع له أحد، ويترك حتى يحد.
وإذا عاينت البينة إخراج المتاع من البيت ولا يدرون لمن هو، فلا يشهدوا بملكه لرب البيت، ولكن يؤدّون ما عاينوا وعلموا. وتقطع يد السارق ويقضى بالمتاع لرب الدار، وكذلك إن عاينوا أنه غصبه ثوباً. وكذلك يشهدون لبائع السلعة في فلس المبتاع أنه باعها منه، ولا يقولوا: أنها له حين باعها، ولا يشهدوا في ذلك إلا بما عاينوا أو علموا.
3991 - وإذا جمع السارق المتاع وحمله، فأُدرك في الحرز قبل أن يخرجه، لم يقطع.
قيل: فإن أخرجه من البيت إلى الدار، والدار مشتركة مأذون فيها، والبيت محجور عن الناس؟ قال: قال مالك - رحمه الله -: يقطع إذا أخرجه من البيت إلى الدار والدار مشتركة، لأنه قد صيره إلى غير حرزه.(4/430)
3992 -[قيل:] فإن كانت داراً مأذوناً فيها، وفيها تابوت فيه متاع لرجل قد أغلقه، فأتى رجل ممن أُذن له فكسره أو فتحه، فاخرج المتاع منه، فأُخذ بحضرة ما أخرج المتاع من التابوت قبل أن يبرح به. قال: لا يقطع هذا، وإن كان ممن لم يؤذن له لم يقطع أيضاً، لنه لم يبرح بالمتاع ولم يخرجه من حرزه.
وقد سئل مالك - رحمه الله - عن الضيف يسرق من بعض منازل الدار المغلقة عنه؟ فقال: لا يقطع، لأنه ائتمنه حين أدخله داره.
وقال مالك - رحمه الله - في بيت مغلق في دار مأذون فيها: إن السارق إذا أخرج نم البيت شيئاً فأُخذ في الدار، لم يقطع، فكذلك التابوت.
قال ابن القاسم: والدار المشتركة المأذون فيها إذا سرق رجل منها دواب من مرابطها، قطع. وكذلك لو كان لها مرابط معروفة في السكة، فسرقها رجل من ذلك الموضع قطع، لأن ذلك حرزها.
ومن احتلها من مرابطها المعروفة لها فأخذها، قُطع.
ولو نشر أحد - من أهل دار مشتركة مأذون فيها - ثوبه على ظهر بيته، وبيته محجور عن الناس، وإن نشره في صحن الدار، لم يقطع إن كان سارقه(4/431)
من أهل الدار، وإن كان من غيرها قُطع، إلا أن تكون الدار مباحة لا يمنع منها أحد، فلا يقطع سارقه، كان من أهل الدار أو من غيرها.
3993 - وإذا نقب السارق فأدخل يده فأخرج الثوب بقصبة أو عود، قطع.
وإن دخل الحرز فأخذ متاعاً، فناوله رجلاً [آخر] خارجاً من الحرز، قُطع الداخل وحده، أُخذ في الحرز أو بعد أن خرج. ولو خرج بالمتاع من حرزه إلى خارجه، قُطع.
قال ابن القاسم: ولو أُخذ في الحرز بعد أن ألقى المتاع خارجاً منه، فقد شك فيه مالك بعد أن قال لي: يُقطع، وأنا أرى أن يقطع.
ولو ربطه الداخل بحبل وجره الخارج، قُطعا جميعاً. وإن ناول أحدهما المتاع لصاحبه وهما في الدار، لم يقطع إلا من خرج به.(4/432)
ولو قربه [أحدهما] إلى باب الحرز أو النقب، فتناوله الخارج، قُطع الخارج وحده، إذ هو أخرجه، ولا يقطع الداخل. ولو التقت أيديهما في المناولة في وسط النقب، قُطعا جميعاً.
3994 - ومن شهدت عليه بينة أنه سرق هذا المتاع من يد هذا، فقال السارق: حلّفوه انه ليس لي، فإنه يُقطع ويحلف له الطالب ويأخذه، فإن نكل حلف السارق وأخذه.
3995 - ويقطع من سرق ما وضع في أفنية الحوانيت [للبيع] ، أو في الموقف للبيع وإن لم يكن هناك حانوت، كان ربه معه أو لا، سرقه في ليل أو نهار. وكذلك إن سرق شاة أوقفها ربها في سوق الغنم للبيع، وهي مربوطة أو غير مربوطة، فعليه القطع.
3996 - ويُقطع من سرق من الحوانيت، والمنازل والبيوت والدور حرز لما فيها، غاب أهلها أو حضروا. وكذلك ظهور الدواب. (1)
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/308) .(4/433)
وإذا اجتمع في الجرين الحب أو التمر، وغاب ربه وليس عليه باب أو حائط ولا غلق، قُطع من سرق منه.
3997 - ولا قطع في شيء من المواشي في مراعيها حتى يأويها المراح، فإذا آواها المراح وإن كان مراحها إلى غير الدور وليس عليها حيطان ولا أغلاق - فعلى من سرق منها القطع وإن لم يبت معها أهلها، كالدواب في مرابطها المعروفة، وإن لم يكن دونها أبواب ولا غلق. والمتاع في الأفنية للبيع ولا غلق على ذلك ولا معه أهله، ففي ذلك القطع.
3998 - ومن سرق متاعاً من الحمام فإن كان معه من يحرزه، قطع وإلا لم يقطع، إلا أن يسرقه أحد لم يدخل الحمام [من] مدخل الناس من بابه، مثل أن يتسور أو ينقب ونحو ذلك، فإنه يقطع وإن لم يكن مع المتاع حارس.
ومن جر ثوباً منشوراً على حائط، بعضه في الدار وبعضه خارج منها إلى لطريق، أو سرق متاعاً من صنيع، لم يقطع.(4/434)
ومن أذنت له في دخول بيتك أو دعوته إلى طعامك فسرقك، فلا قطع فيه، وهذه خيانة.
3999 - ومن كابر رجلاً بسلاح أو غيره على مال له في زقاق، أو دخل عليه حريمه في المصر، حكم عليه بحكم الحرابة.
وإذا سرقت الحرة أو من فيها علقة رق أو ذمية، قُطعت.
وإذا دخل الحربي بأمان فسرق قُطع، لأنه لو قَتَل قتلته، ولو تلصص قضي عليه بحكم الحرابة.
4000 - ولا يقطع الصبي إذا سرق ولا المجنون ولا المطبق، وأما الذي يجن ويفيق: فإن سرق [في حال جنونه لم يقطع وإن سرق] في حال إفاقته قُطع [إلا أنه إن سرق في حال إفاقته فأُخذ] في حال جنونه، استؤني به حتى يفيق.
4001 - وإذا سرق أحد الأبوين من مال الولد، لم يُقطع، وكذلك الأجداد من قبل الأب(4/435)
والأم، أحب إلي أن لا يُقطعوا، لأنهم آباء، ولأن الدية تغلظ على أب الأب إذا قتل ابن ابنه ولا يقتل. فإن قيل: إن الجد يقطع، لأن نفقة ولد ولده لا تلزمه، قيل له: فالأب لا تلزمه نفقة ابنه الكبير ولا ابنته الثيب، وهو لا يقطع فيما سرق من أموالهما ولا يحد فيما وطئ من جواريهما فكذلك الجد لا حد عليه ولا قطع ولا نفقة.
4002 - وإن سرق الابن من مال أبيه، قُطع، وإن زنى بجارية أبيه حُد.
وتقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها من غير بيتها التي تسكنه، وكذلك إن سرق خادمها من مال الزوج من بيت قد حجره عليهم، أو سرق خادم الزوج من مال المرأة من بيت حجرته عليهم.
4003 - وإن سرق الأب مع أجنبي من مال الولد ما قيمته ثلاثة دراهم، لم يقطع واحد منهما. وكذلك إن سرق منك رجل أجنبي مع عبدك، أو مع أجيرك الذي ائتمنته على دخول بيتك، لم يقطع واحد منهما، وإن تعاونا في السرقة.(4/436)
4004 - وإذا سرق رجل مع صبي صغير أو مجنون ما قيمته ثلاثة دراهم، قُطع الرجل.
4005 - وإذا سرق الشريك من متاع الشركة مما قد أغلق عليه، لم يقطع، وإن كانا أودعاه لرجل فسرقه أحدهما منه، قُطع إن كان فيما سرق من حصة شريكه فضلٌ عن حصته ربع دينار. (1)
وشهادة الأخوين لأخيهما أن هذا الرجل سرق متاعه، جائزة إذا كانا عدلين، كالحقوق.
4006 - وإذا سرق المكاتب من مال سيده، أو سرق السيد من مال مكاتبه أو من مال مكاتب ابنه أو من عبد، لم يقطع.
4007 - ومن سرق ما قيمته ثلاثة دراهم من الطعام الذي لا يبقى في أيدي الناس، مثل: اللحم والبطيخ والقثاء وشبهه، قُطع. والأترجة التي قطع فيها عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه -، كانت تؤكل.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/308) .(4/437)
4008 - وإذا كان في الحائط نخلة زال رأسها فقطعها رجل من أصلها فسرقها أو قلع نخلة بثمرها لم يقطع. وكذلك جميع الشجر.
ولو قطع هذا الجذع ربه ووضعه في الحائط فكان ذلك حرزاً له، فسرقه رجل، قُطع.
ويقطع سارق البقل إذا آواه حرزه، ما لم يكن قائماً.
ويقطع سارق الزرنيخ والنطرون والنورة والحجارة والماء، إذا بلغت قيمته ثلاثة دراهم.
4009 - ومن سرق شيئاً من الطير بازياً أو غيره، قُطع. وأما سباع الوحش التي لا يؤكل لحمها إذا سرقها، فإذا كان في قيمة جلودها إذا ذكيت دون أن تدبغ ثلاثة دراهم، قُطع، لأن لصاحبا بيع جلودها ما ذكى منها، والصلاة عليها وإن لم تدبغ.
4010 - ولا قطع في جلد ميتة لم يدبغ، فأما إن دبغ ثم سُرق فإن كان قيمة ما فيه من الصنعة دون الجلد ثلاثة دراهم، قُطع.
ومن سرق كلباً صائداً أو غير صائد، لم يقطع، لأن النبي ÷ حرّم ثمنه. (1)
_________
(1) رواه مسلم (1569) ، والنسائي (4668) .(4/438)
4011 - وإذا وضع المسافر متاعه في خبائه أو خارجاً من خبائه، وذهب لحاجته، فسرقه رجل، أو سرق لمسافر فسطاطاً مضروباً بالأرض، أو احتل بعيراً من القطار في سيره وبان به، أو سرق مصحفاً، أو باب دار، أو كفناً من قبر، أو حلّ الطرّار من داخل الكم أو من خارجه، أو أخرج من الخف ما قيمته ثلاثة دراهم، أو سرق من محمل شيئاً مستسرّاً، أو أخذ من على البعير غرائر، أو شقها فأخذ منها متاعاً، أو أخذ ثوباً من على ظهر البعير [مستسراً] قُطع في ذلك كله إن بلغ ثمنه ما فيه القطع.
4012 - وإن أخذ الثوب غير مستتر فهو خلسة، ولا قطع على مختلس، والرفقة في السفر ينزل كل واحد على حدته، فإذا سرق أحدهم من الآخر، قُطع، كأهل الدار ذات المقاصير يسرق أحدهم من بعضها.(4/439)
ومن ألقى ثوبه في الصحراء، وذهب لحاجته وهو يريد الرجعة [إليه] ليأخذه، فسرقه رجل سراً، فإن كان منزلاً نزله، قُطع سارقه وإلا لم يقطع.
4013 - ومن سرق صبياً حراً أو عبداً من حرزه، قُطع، وإن سرق عبداً [كبيراً] فصيحاً، لم يقطع، وإن كان عجمياً، قُطع.
4014 - ومن سرق ثوباً لا يساوي ثلاثة دراهم، فيه دراهم أو دنانير مصرورة ولم يعلم أن ذلك فيه، قال مالك - رحمه الله -: أما الثوب وشبهه مما يعلم الناس أنه يرفع ذلك في مثله، فإنه يقطع وإن لم يدر ما فيه.
4015 - ولو سرق شيئاً لا يرفع ذلك فيه، كالحجر والخشبة والعصا، لم يقطع إلا في قيمة ذلك دون ما رفع فيه من فضة أو ذهب.
4016 - وإذا شهد على رجل شاهد [عدل] أنه سرق نعجة، وشهد آخر أنه سرق(4/440)
كبشاً، لم يقطع. وكذلك إن قال هذا: سرق يوم الخميس، وقال هذا: [سرق] يوم الجمعة، لم يقطع إذا لم يشهدا على عمل واحد.
4017 - وإذا دخل السارق الحرز فأكل الطعام فيه ثم خرج، لم يقطع وضمنه.
وإن دهن رأسه ولحيته في الحرز بدهن ثم خرج، فإن كان بما] في رأسه من الدهن إن سُلت بلغ ربع دينار، قُطع، وإلا لم يقطع.
وإذا ذبح شاة في الحرز أو خرق ثوباً أو أفسد طعاماً ثم خرج بذلك، فإن كانت قيمة ذلك بعد خروجه به بتلك الحال ثلاثة دراهم، قُطع، ولا ينظر إلى قيمته داخل الحرز وإنما ينظر إلى قيمة السرقة يوم سرقها [السارق] ، ولا تبالي زادت قيمتها يوم القيام به أو نقصت.
4018 - ومن سرق مرة بعد مرة قُطعت يده اليمنى، ثم رجله اليسرى، ثم يده اليسرى، ثم رجله اليمنى.
وإن سرق ولا يمين له أو له يمين شلاّء، قُطعت رجله [اليسرى] ، قاله مالك،(4/441)
ثم عرضتها عليه فمحاها، وقال: تقطع يده اليسرى، و [أراه] تأول قول الله عز وجل: ×فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا% [المائدة: 38] . وقوله في الرجل: أحبّ إلي وبه آخذ. (1)
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/332) ، وشرح الزرقاني (4/192) ، وموطأ مالك (2/834) ، والتمهيد (4/153) ، والمدونة (16/288) ، ومنح الجليل (9/293) .(4/442)
ومن سرق ولا يدان له ولا رجلان، أو كان أشلّ اليدين والرجلين فاستهلكها وهو عديم، لم يقطع منه شيء، ولكن يضرب ويحبس ويضمن قيمة السرقة.
وإن سرق وقد ذهبت من يده اليمنى أصبع، قطعت يده، كما لو قطع يمين رجل وإبهام يده مقطوعة، فإن يده تقطع، وإن لم يبق من يمنى يده إلا أصبع أو أصبعان قطعت رجله اليسرى، فإن كانت يداه ورجلاه كلها كذلك، لم يقطع وضُرب وسُجن وضمن قيمة السرقة.
4019 - ومن سرق فأُخذ مكانه، أو بعد ذلك ويُسْره متصل، فقطع وقد استهلك السرقة، ضمنها، فإن كان معسراً يوم قطعت يده، أو كان يسره ذلك قد ذهب ثم أعسر، ثم قطعت يده وقد أيسر ثانية، أو سرق وهو معسر ثم أُخذ وهو موسر، فقطعت يده، لم يضمن السرقة إن كان قد استهلكها، وإنما يضمنها إذا سرق وهو موسر فتمادى يسره إلى أن قُطع.(4/443)
4020 - وإذا شهد رجلان على رجل بالسرقة، ثم قالا قبل القطع: أوهمنا، بل هو هذا الآخر، لم يقطع واحد منهما.
وما بلغ من خطأ الإمام ثلث الدية فأكثر، فعلى عاقلته مثل خطأ الطبيب والمعلم والخاتن.
قال ابن القاسم: وأبى مالك أن يجيبنا في خطأ الإمام بشيء.
4021 - وإذا رجع الشاهدان قبل الحكم ولهما عذر بين يُعرف به صدقهما، وكانا بيّني العدالة، أُقيلا وجازت شهادتهما بعد ذلك، وإن لم يتبين صدقهما لم يقبلا فيما يستقبلان، ولو أُدّبا لكانا لذلك أهلاً.
وإن رجعا بعد الحكم وقد شهدا على دين أو طلاق أو حد أو عتق أو غير ذلك، فإنهما يضمنان الدين، ويضمنان العقل في القصاص في أموالهما، ويضمنان قيمة المعتق.
4022 - وفي الطلاق إن دخل بالزوجة، فلا شيء عليهما، وإن لم يدخل ضمنا نصف الصداق للزوج، ولا يقضي القاضي ببينة حتى يُزكّوا عنده، ولو لم يطعن فيهم الخصم. ويكشف عنهم إن شاء في السر أو في العلانية، ولا يقبل(4/444)
إلا تزكية رجلين عدلين لا أبالي فيم كانت الشهادة: في حق الله أو للناس، من حد أو قصاص.
4023 - وإذا ارتضى القاضي رجلاً للكشف، جاز أن يقبل منه ما نقل إليه من التزكية عن رجلين لا أقل من ذلك، فإذا زكت البينة والمطلوب يجهل وجه التجريح [هو] من جهلة الرجال أو من ضعفة النساء، فليخبره القاضي بماله من ذلك، ويبينه له، لعل بينه وبينهم عداوة أو شوكة مما لا يعلمه المعدلون.
وإن كان مثله لا يجهل التجريح لم يدعه إليه، وليس كرد اليمين، لأن الحكم لا يتم إلا بردها.
4024 - وإن أقام المشهود عليه بينة على الشهود بعد أن زكوا أنهم شربة خمر، أو أكلة ربا، أو فجار، أو أنهم يلعبون بالشطرنج أو النرد، أو بالحمام، فذلك مما تجرح به شهادتهم، وإن ثبت أنهم حدوا في قذف، فمن تاب ممن حُد في القذف وحسنت حاله وزاد على ما عرف منه من حسن حاله، جازت شهادته.
4025 - ولو حد نصراني في قذف ثم أسلم بالقرب، قُبلت شهادته.
4026 - ولا تجوز شهادة العبد في شيء من الأشياء. وإن شهد رجل وامرأتان على رجل(4/445)
بالسرقة، لم يقطع، وضمن قيمة ذلك، ولا يمين على صاحب المتاع. وإن شهد بذلك رجل [واحد] حلف الطالب مع شاهده وأخذ المتاع إن كان قائماً بعينه، ولا يقطع السارق.
وإن كان المتاع مستهلكاً، ضمن السارق قيمته وإن كان عديماً.
4027 - وتجوز الشهادة على الشهادة في السرقة وغيرها، إذا شهد رجلان على شهادة رجل.
وإذا شهدت بينة على رجل غائب بسرقة ثم قدم، فإنه يقطع ولا تعاد البينة، حضروا أم غابوا، إذا كان الإمام قد استكمل تمام الشهادة.
4028 - وإذا لم يقم بالسرقة حتى طال الزمان وحسنت حال السارق، ثم اعترف، أو قامت بينة بذلك، فإنه يقطع.
وكذلك حد الخمر والزنا، ولا يحد السكران حتى يصحو.(4/446)
4029 - وإن باع السارق السرقة، فقُطع ولا مال له، ثم أُلفيت عند المبتاع قائمة، فلربها أخذها ويتبع المبتاع السارق بالثمن. وكذلك لو كانت غنماً فتوالدت عند المبتاع لأخذها ربها وأولادها، فإن هلكت السرقة عند المبتاع بسببه أو باعها، فلربها أن يرجع على المبتاع بقيمتها. وإن هلكت عنده بأمر من الله سبحانه، فلا شيء عليه. (1)
ومن سرق ثوباً فصبغه، ثم قُطع ولا مال له غيره، فلرب الثوب أن يعطيه قيمة الصبغ ويأخذ ثوبه، فإن أبى بيع الثوب وأخذ ربه من الثمن قيمته يوم السرقة، وكان الفضل للسارق. وإن عجز ثمنه لم يتبع السارق بشيء لِعُدْمه. وإن قطعه السارق وجعله ظهارة لجبة أو لقلانس وأراد ربه فتقه وأخذه مقطوعاً فذلك له كما لو سرق خشبة فبنى عليها كان له أخذها، وإن أخرب بنيانه بذلك.
فإن أبى أن يأخذ ثوبه مقطوعاً والسارق عديم، صنع به كما وصفنا في الصبغ.
ومن سرق حنطة فطحنها سويقاً ولتها، ثم قُطع ولا مال له غيره، فأبى رب الحنطة أخذ السويق، فهو مثل ما وصفنا: يباع السويق ويشترى له من ثمنه مثل حنطته.
_________
(1) انظر: التقييد (6/251) .(4/447)
وإن سرق فضة فصاغها حلياً أو ضربها دراهم، ثم قُطع ولا مال له غيرها، فليس لربها إلا وزن فضته، لأني إن أجزت له [أخذها] بلا شيء، ظلمت السارق، وإن أمرته بأخذها ودفع أجرة الصياغة، كانت فضة بفضة وزيادة، فهذا ربا.
وإن سرق نحاساً فعمل منه قمقماً فعليه مثل وزنه، وهذا في كتاب الغصب مذكور.
4030 - ومن شهدت عليه بينة زكية أنه سرق، فحبسه القاضي حتى يقطعه، فقطع رجل يمينه في السجن، لم يقتص منه ونُكّل، وأجزأ ذلك من [قطع] السرقة، ولو فعل به ذلك قبل عدالة البينة أرجئ، فإن عدلت كان الأمر كذلك، وإن لم تعدل البينة اقتص منه.
وإذا أمر القاضي بقطع يمين السارق، فغلط القاطع فقطع يساره، أجزأه، ولا يقطع يمينه، ولا شيء على القاطع.(4/448)
وإذا قُطعت يمين السارق كان ذلك لكل سرقة تقدمت، أو قصاص وجب في تلك اليد، وإذا ضرب في شرب الخمر، أو أقيم عليه حد الزنى، فهذا [كله] لما كان قبله من ذلك. وإن فعل بعد ذلك شيئاً، أقيم عليه ذلك.
4031 - ومن سرق فقطعت يده ولا مال عنده إلا قدر قيمة السرقة فغرمها، ثم قام قوم سرق منهم قبل ذلك، فإن كان من وقت سرق منهم لم يزل ملياً بمثل هذا الذي غرم الآن، تحاصوا فيه كلهم، وإن أعدم في خلال ذلك ثم أيسر، فكل سرقة سرق من يوم يسره المتصل إلى الآن، فأهلها يتحاصون في ذلك دون من قبلهم، وإن لم يحضروا يوم القطع كلهم فلمن غاب الدخول عليهم فيما أخذوا، كغرماء المفلس.
4032 - ويقوم السرقة أهل النظر والعدل، قيل: فإن اختلف المقومون؟ قال: إذا اجتمع عدلان بصيران أن قيمتها ثلاثة دراهم، وجب القطع، ولا يقطع بقيمة رجل واحد.(4/449)
4033 - ومن سرق من سفينة، قُطع. وإن سرق السفينة [نفسها] ، فهي كالدابة تحبس وتربط وإلا ذهبت. فإن كان معها من يمسكها قُطع سارقها، كالدابة بباب المسجد أو في السوق، فإن كان معها من يمسكها قُطع سارقها وإلا فلا.
وإن نزلوا بالسفينة في سفرهم منزلاً فربطوها، فإنه يقطع سارقها، كان معها ربها أو ذهب لحاجته، وكلما درأت به الحد في السرقة، ضمنت السارق قيمة السرقة وإن كان عديماً.
4034 - وإن سرق مسلم من حربي دخل بأمان، قُطع. وإن سرق الحربي وقد دخل بأمان، قُطع.
4035 - ويقيم أمير الجيش الحدود ببلد الحرب على أهل الجيش في السرقة وغيرها، وذلك(4/450)
أقوى له على الحق. وإن دخل المسلمون دار الحرب بأمان، فسرق بعضهم من بعض، أو زنى أو شرب الخمر، ثم قدموا فشهد بعضهم على من فعل ذلك، فإنه يُحد.
وإذا أكل المسلم لحم خنزير عوقب.
وإن شرب خمراً في رمضان جُلد للخمر ثمانين، ثم يضرب للإفطار في رمضان، وللإمام أن يجمع ذلك عليه أو يفرقه.
4036 - ومن شهدت عليه بينة أنه أقر بالسرقة أو بالزنى فأنكر، فإن ذكر أنه [إنما] أقر لأمر يعذر به، أو جحد ذلك الإقرار أصلاً، أُقيل.
وإذا أقر عبد أو مدبر أو مكاتب أو أم ولد بسرقة، قُطعوا إذا عينوا السرقة وأظهروها، فإن ادعى السيد أنها له، صُدّق مع يمينه. (1)
4037 - وقاله مالك - رحمه الله - في أمة ادعى رجل في ثوب بيدها فصدقته، وادعاه السيد [لنفسه] ، أنه يقضى به للسيد مع يمينه، إلا أن يقيم المدعي بينة.
ولا يجب على الصبيان حد في سرقة أو زنا، حتى يحتلم الغلام وتحيض الجارية، أو يبلغوا سناً لا يبلغه أحد إلا بلغ ذلك: من احتلام أو حيض. قيل: فإن أنبت
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/313) .(4/451)
الشعر قبل ذلك؟ قال: قد قال مالك - رحمه الله -: يُحد إذا أنبت، وأحبّ إليّ أن لا يحكم بالإنبات. وقد أصغى مالك إلى الاحتلام حين كلمته في الإنبات.
4038 - ومن أقر بشيء من الحدود بوعيد، أو سجن، أو قيد، أو ضرب، أو قتل، وذلك كله إكراه، فإن تمادى [على إقراره بعد زوال الإكراه، فإنه يحبس حتى يُسْتَبْرأ أمره، فإن تمادى] على إقراره بعد أمن، أقيم عليه الحد إذا أتى بأمر يعرف به صدقه [مثل أن] يعين السرقة ونحو ذلك، فإنه يحد، وإلا لم يحد في قطع ولا غيره، لأن الذي كان من إقراره أول مرة قد انقطع، وهذا كأنه إقرار حادث.(4/452)
وإن أخرج السرقة أو القتيل في حال التهديد لم أقطعه ولم أقتله حتى يقر بعد ذلك آمناً.
ولو جاء ببعض المتاع وأتلف بعضه، لم أضمنه ما بقي إن جاء بأمر يعذر به في إقراره، وكذلك لا أضمنه الدية في القتل إذا جاء بوجه يعذر به.
ومن قامت عليه بينة بسرقة، لم أر للإمام أن يقول له: قل ما سرقت.
4039 - قال: قال مالك - رحمه الله -: ومن سرق في شدة البرد، فخيف عليه الموت إن قُطعت يده، فليؤخره الإمام إلى بعد ذلك.
قال ابن القاسم: وإن كان [في] الحر أمر يعرف [به] خوفه كالبرد، فأراه مثله.
4040 - ومن سرق وقتل عمداً، فإنه يقتل ولا يقطع، والقطع داخل في النفس.
ولو عفا عنه ولي المقتول، قطعته للسرقة.(4/453)
وإن سرق وقطع يمين رجل، قطع للسرقة فقط، إذ هي أوكد، إذ لا عفو فيها، ولا شيء للذي قطعت يده، كما لو ذهبت يد القاطع بأمر من الله تعالى.
ولو سرق وقطع شمال رجل، قطعت يمينه للسرقة، وشماله قصاصاً، وللإمام أن يجمع ذلك عليه أو يفرق، بقدر ما يخاف عليه أو يأمن. وكذلك الحد والنكال يجتمعان على رجل.
4041 - وإذا اجتمع عليه حد لله تعالى وحد للعباد بدئ بالحد الذي هو لله تعالى، إذ لا عفو فيه. فإن عاش أخذ منه حد العباد، وإن مات بطل ذلك، ويجمع الإمام ذلك كله عليه، إلا أن يخاف عليه الموت، فيفرق ذلك عليه.
4042 - وإن أقر أنه سرق من فلان شيئاً، وكذبه فلان، فإنه يقطع بإقراره ويبقى المتاع له، إلا أن يدعيه ربه فيأخذه.
ولو قال [فلان] إن المتاع الذي أُخذ متاعه، أو قال: كان استودعنيه أو بعثه معي إليه رجل، لم يقبل ذلك، وقطع بإقراره.
4043 - ومن سرق من بيت المال أو من المغنم، وهو من أهل [ذلك] المغنم، قُطع. قيل: أليس له في المغنم حصة؟ قال: قال مالك: وكم تلك الحصة؟ ٍ!.(4/454)
ولا تقطع أم الولد إذا سرقت من مال سيدها، وكذلك العبد والمكاتب. والقطع في السرقة في الرجل والمرأة سواء.
4044 - وإذا شُهد على الأخرس بسرقة، قُطع، وكذلك إن أقر بوجه يعرف به إقراره وعين، قُطع وإلا لم يقطع.
ومن سرق سرقة فلم يقطع حتى ورثها، أو اشتراها، أو وُهبت له أو تُصدق بها عليه، فلا بد من قطعه.
وإن سرق متاعاً كان أودعه رجلاً فجحده إياه، فإن أقام بينة أنه كان استودعه هذا المتاع نفسه، لم يقطع.
4045 - ومن سرق سرقة لرجلين وأحدهما غائب، فإنه يقطع إن كانت قيمتها ثلاثة دراهم فأكثر، ويقضى للحاضر بنصف قيمتها إن كانت مستهلكة، ثم إن قدم الغالب والسارق عديم: فإن كان يوم القطع ملياً بجميع القيمة، رجع على الشريك بنصف ما أخذ واتبعا جميعاً السارق بنصف القيمة، وإن لم يكن معه يوم القطع إلا ما أخذ الشريك، رجع على الشريك بنصف ما أخذ ولم يتبعا السارق بشيء.
وهذا مثل ما قال مالك في الشريكين لهما دين على رجل، يقبض منه أحدهما(4/455)
حصته وصاحبه غائب ثم يقدم الغائب فيجد الغريم عديماً: فإنه يدخل مع صاحبه فيما كان أخذ. (1)
4046 - ومن ادعى على رجل أنه سرقه، لم أُحلّفه إلا أن يكون متهماً يوصف بذلك، فإنه يُحلف ويُهدد ويُسجن وإلا لم يعرض له، فإن كان من أهل الفضل وممن لا يشار إليه بهذا، أُدب الذي ادعى ذلك عليه. وقد تقدم في الشهادات ذكر المرأة تدعي أن فلاناً أكرهها.
ومن أقر أنه سرق من رجل ألف درهم بغير محنة ثم جحد، لم يقطع، ويغرم الألف لمدعيها. والله الموفق.
* * *
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/241) .(4/456)
(كتاب المحاربين) (1)
4047 -[قال:] ومن حارب من أهل الذمة أو المسلمين، فأخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً ولم يقتلوا، فإن الإمام مخير: إن شاء قتل وإن شاء قطع.
قال مالك: ورب محارب لم يقتل، هو أخوف وأعظم فساداً في خوفه ممن قتل، فإذا نصب، وعلا أمره، وأخاف، وحارب ولم يقتل، وأخذ المال أو لم يأخذ مالاً، كان الإمام مخيراً [فيه] ، إن شاء قتله أو قطع يده ورجله. ولا يجتمع مع القتل قطع ولا ضرب. ولا يضرب إذا قطعت يده ورجله.
قال مالك - رحمه الله -: وليس كل المحاربين سواءً منهم من يخرج بعصاً أو بخشبة وشبه ذلك، فيوجد على تلك الحال بحضرة الخروج، ولم يخف
_________
(1) انظر: جامع الأمهات لابن الحاجب المالكي (ص523) ، ومختصر خليل (275) .(4/457)
بالسبيل] ولم يأخذ المال، فهذا لو أخذ فيه بأيسر الحكم، لم أر به بأساً، وذلك الضرب والنفي ويسجن في الموضع الذي نفي إليه.
وليس للإمام أن يعفو عنه ولا عن أحد من المحاربين، ولكن يجتهد الإمام في ضربه ونفيه. وقد نفى عمر بن عبد العزيز محارباً أخذ بمصر، إلى شغب.
قال مالك - رحمه الله -: وقد كان يُنفى عندنا إلى فدك وخيبر، ويسجن في الموضع الذي نفي إليه، حتى تعرف له توبة.
قال: وإذا أخذه الإمام وقد قَتَل وأخذ المال وأخاف السبيل، فليقتله، ولا يقطع يده ولا رجله، والقتل يأتي على ذلك كله، وأما الصلب مع القتل، فذلك إلى الإمام [يصنع فيه] بأشنع ما يراه.(4/458)
4048 - قال مالك: ولم أسمع أن أحداً صلب إلا عبد الملك بن مروان، فإنه صلب الحارث - الذي تنبأ - وهو حي، وطعنه بالحربة بيده. وكذلك يفعل بمن صُلب من المحاربين.
وحكم العبيد في الحرابة، مثل ما وصفنا في الأحرار، إلا أنه لا نفي على العبيد.
وحكم لمحارب فيما أخذ من المال من قليل أو كثير سواء، وإن كان أقل من ربع دينار، وإن قطعوا على المسلمين أو على أهل الذمة، فهم سواء، وقد قتل عثمان بن عفان مسلماً، قتل ذمياً على وجه الحرابة على مال كان معه.
4049 - وإذا أتى المحارب تائباً قبل أن يقدر عليه، سقط عنه ما يجب لله تعالى من حد الحرابة، وثبت ما للناس بعليه] من نفس أو جرح أو مال، ثم للأولياء القتل أو العفو فيمن قتل، وكذلك للمجروح في القصاص، وإن كانوا جماعة فقتلوا رجلاً، ولي أحدهم قتله وباقيهم عون له، فأُخذوا على تلك الحال، قُتلوا كلهم.(4/459)
وإن تابوا قبل أن يؤخذوا، دُفعوا إلى أولياء المقتول، فقتلوا من شاءوا وعفوا عمن شاءوا، وأخذوا الدية ممن شاءوا. وقد قتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ربيئة كان ناظوراً للباقين.
وإذا ولي أحدهم أخذ المال وكان الباقون له قوة، ثم اقتسموا فتاب أحدهم ممن لم يل أخذ المال، فإنه يضمن جميع المال، ما أخذ في سهمه وما أخذ أصحابه.
وإذا أخذوا المال ثم تابوا وهم عُدم، فذلك عليهم دين. وإن أخذوا قبل أن يتوبوا فأقيم عليهم الحد، قُطعوا أو قتلوا ولهم أموال، أُخذت أموال الناس من أموالهم، وإن لم يكن لهم يومئذ مال، لم يتبعوا بشيء مما أخذوا كالسرقة.
4050 - وإن أخذهم الإمام وقد قتلوا وجرحوا وأخذوا الأموال، فعفى عنهم أولياء القتلى و [أهل] الجراح والأموال، لم يجز العفو ها هنا لأحد ولا للإمام، ولا يصلح لأحد أن يشفع فيه، لأنه حد لله تعالى بلغ الإمام. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/301) .(4/460)
وإن تابوا قبل أن يقدر عليهم وقد قتلوا ذمياً، فعليهم ديته لأوليائه، إذ لا يقتل مسلم بذمي، ولو كانوا أهل ذمة أقيد منهم به، لأن النصراني يقتل بالنصراني، وتعرف توبة المحاربين من أهل الذمة، بترك ما كانوا فيه قبل أن يقدر عليهم.
4051 - وإن كان فيهم نساء، فلهم حكم الرجال في ذلك.
وأما الصبيان فلا يكونون محاربين حتى يحتلموا، وإن قطعوا الطريق إلى مدينتهم التي خرجوا منها فاخذوا، فهم محاربون.
4052 - وإذا قطع الإمام يد المحارب ورجله، ثم حارب ثانية فأخذه الإمام فرأى أن يقطعه، فليقطع يده الأخرى ورجله.
وإذا أخذ الإمام محارباً وهو أقطع اليد اليمنى، فأراد قطعه، فليقطع يده اليسرى ورجله اليمنى.
وإذا خرج محارب بغير سلاح ففعل فعل المحارب من التلصص وأخذ المال مكابرة، فهو محارب، ويكون الرجل الواحد محارباً. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/152) ، والتمهيد (14/391) .(4/461)
4053 - وتجوز على المحاربين شهادة من حاربوه إن كانوا عدولاً، لا سبيل إلى غير ذلك، شهدوا بقتل أو بأخذ مال أو غيره. ولا تقبل شهادة أحد منهم في نفسه، وتقبل شهادة بعضهم لبعض.
4054 - والمحاربون إذا أُخذوا ومعهم أموال، فادعاها قوم لا بينة لهم، فلتدفع إليهم بعد الاستناء في استبراء ذلك من غير طول، فإن لم يأت من يدعيها، دفعت إليهم بعد أيمانهم بغير حميل، ولكن يُضَمِّنَهم الإمام إياها إن جاء لذلك طالب ويُشهِد عليهم.
4055 - وإذا خرج تجار إلى أرض الحرب، فقطع بعضهم الطريق على بعض ببلد الحرب، أو قطعوها على أهل الذمة، [أو] دخلوا دار الحرب بأمان، فهم محاربون.
والخناقون والذين يسقون الناس السيكران ليأخذوا أموالهم محاربون.(4/462)
ومن قتل أحداً قَتْل غيلة، فرفع إلى قاض يرى أن لا يقتله، وقضى بأن أسلمه إلى أولياء المقتول فعفوا عنه، فذلك حكم قد مضى، ولا يغيره من ولي بعده لما فيه من الاختلاف.
4056 - ومن دخل عل رجل في حريمه ليأخذ ماله، فهو كالمحارب.
وإن قامت بينة على محارب، فقتله رجل قبل أن تزكى البينة، فإن زُكيت أدبه الإمام، وإن لم تزكّ قُتل به. (1)
قال مالك: وجهاد المحاربين جهاد. والله الموفق.
* * *
_________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/262) .(4/463)
(كتاب القذف) (1)
4057 - ومن شهد عليه أربعة أنه وطئ هذه المرأة ولا يدرون ما هي منه، فعليه الحد إلا أن يقيم بينة أنها زوجته أو أمته، أو يكونا طارئين، فلا شيء عليه، إذا قال: هي امرأتي أو أمتي، وأقرت له بذلك، إلا أن تقوم بينة بخلاف ما قال.
4058 - وإذا افترى ذمي على مسلم، حُد ثمانين.
ومن تزوج خامسة، أو امرأة طلقها ثلاثاً البتة قبل أن تنكح زوجاً غيره،
_________
(1) انظر: جامع الأمهات (ص517) ، ومنح الجليل (9/269) .(4/465)
أو أخته من الرضاعة أو النسب، أو شيئاً من ذوات المحارم [عليه] ، عامداً عارفاً بالتحريم، أُقيم عليه الحد، ولم يلحق به الولد، إذ لا يجتمع الحد وثبات النسب.
4059 - وإن تزوج امرأة في عدتها، [أو على عمتها] أو خالتها، أو نكح نكاح متعة عامداً، لم يحد في ذلك وعُوقب.
وكل وطء درأت فيه الحد عن الرجل - وإن كان ذلك الوطء لا يحل - فعلى من قذفه الحد.
4060 - ومن أقر أنه وطئ أمة رجل، أو قامت عليه بينة بذلك وادعى أنه ابتاعها منه وأنكر ذلك ربها، فإن لم يأت بالبينة على الشراء، حَدَدْته وحَدَدْت الأمة.
وإن أتى بامرأة تشهد على الشراء، لم يزل عنه الحد بذلك. وإن طلب الواطئ يمين السيد أنه لم يبعها منه، أحلفته له، فإن نكل حلف الواطيء، وقُضي له بها، ودرئ عنه الحد.
ومن وطئ امرأة وادعى نكاحها، وصدقته هي ووليها، وقالوا: عقدنا النكاح(4/466)
ولم نشهد، ونحن نريد أن نشهد الآن، فعلى الرجل والمرأة الحد، إلا أن تقوم بينة غير الولي.
وإن حددتهما وهما بكران، وأرادا أن يحدثا إشهاداً على ذلك النكاح ويقيما عليه، لم يجز حتى تُستبرأ من ذلك الماء، ثم يأتنفا نكاحاً إن أحبّا.
4061 - قال مالك - رحمه الله -: ومن دفع إلى امرأته نفقة سنة أو كسوتها، بفريضة قاض أو بغير فريضة، ثم مات أحدهما بعد يوم أو يومين، أو شهر أو شهرين، فلترد من بقية النفقة بقدر ما بقي من السنة.
وأستحسن في الكسوة أن لا ترد إذا مات أحدهما بعد أشهر، ولا تتبع المرأة فيها بشيء.(4/467)
قال ابن القاسم: وأما إن ماتت بعد عشرة أيام ونحوها فهذا قريب، ووجه ما قال [مالك] ، إذا مضى الأشهر.
4062 - وإذا وطئ أحد الشريكين أمة بينهما وهو عالم بتحريم ذلك، لم يحد لشبهة الملك، وعليه الأدب إن لم يعذر بجهل، ويخير الشريك إن لم تحمل بين أن تقوّم عليه أو يتماسك بحصته منها، فإن قومها عليه فلا صداق له، وإن تماسك فلا صداق له أيضاً ولا ما نقصها، لأن القيمة وجبت له فتركها [وتمسك] بنصيبه ناقصاً.
وإن حملت والواطيء مليء، فلا بد أن تقوم عليه يوم حملت، ولا شيء عليه من قيمة ولده، وتكون له أم ولد.
وإن كان معسراً خُير شريكه، فإن شاء تماسك بنصيبه واتبعه بنصف قيمة الولد، ولحق [الولد] بأبيه، وإن شاء أخذه بنصف قيمتها يوم حملت، وبيع(4/468)
ذلك النصف على الواطئ بعد أن تضع فيما لزمه من نصف قيمتها يوم حملت، فيأخذه شريكه [إن كان كفافاً لما لزم الواطئ] ، ويتبعه بنصف قيمة الولد ديناً.
[قال:] وإن كان نقص ذلك من نصف قيمتها يوم حملت، أتبعه بالنقصان مع نصف قيمة الولد، ولو ماتت هذه الأمة قبل أن يحكم فيها، كان عليه نصف قيمتها مع نصف قيمة ولدها.
وإذا أعتق أحد الشريكين في الأمة حصته منها وهو مليء، ثم وطئها المتمسك بالرق قبل التقويم، لم يحد، لأن حصته في ضمانه قبل التقويم، ولا صداق عليه إن طاوعته ولا ما نقصها.
وإن أكرهها فعليه نصف ما نقص من قيمتها بلا صداق، لأن من اغتصب أمة فوطئها إنما عليه ما نقصها مع الحد.
وإن كان نصفها حراً فوطئها رجل مكرهة، فعليه الحد وعليه ما نقصها، يكون بينها وبين السيد، وكذلك أرش جراحها وأحكامها أحكام أمة. (1)
وإن جنت هي، خُيّر السيد: بين أن يسلم نصفها أو يفديه بنصف الأرش.
وأما مهرها الذي تتزوج به بإذن سيدها، فجميعه يكون موقوفاً بيدها كالفوائد. ويزوجها المتمسك بالرق برضاها دون الآخر.
_________
(1) انظر: المدونة (16/205) .(4/469)
4063 - قال مالك: وإن أعتق الشريكين في الأمة جميعها وهو مليء، لزم ذلك شريكه. قال ابن القاسم: ثم ليس لشريكه عتق حصته.
ولو وطئها الآخر بعد علمه بعتق المليء [لجميعها] ، لحُدّ إن لم يعذر بجهل، فإن جهل أن عتق الشريك يلزمه، فلا حد عليه.
وإن كان المعتق لجميعها عديماً، لم يحد الواطئ بحال، ولو كان ملياً، ولم يؤخذ بالقيمة حتى أعدم، فإن علم الآخر بعتقه فتركه ولو شاء قام عليه فأخذه بذلك، فالعتق ماض، ويلزمه نصف القيمة ديناً، وإن كان غائباً أو لم يعلم بالعتق حتى أعسر المعتق، فهو على حقه منها.
4064 - ومن وطئ مكاتبته، فلا حد عليه: غصبها أو طاوعته، وينكل إن لم يعذر بجهل، وعليه ما نقصها إن اغتصبها، ولا صداق لها، وإن وطي مكاتبة بينه وبين رجل، فلا حد عليه.
4065 - ومن طلق امرأته قبل البناء طلقة [واحدة] ، ثم وطئها بعد التطليقة، وقال: ظننت أنه لا يبينها مني إلا الثلاث، فلها صداق واحد، ولا حد عليه إن عذر بالجهالة.(4/470)
ولو طلّقها بعد البناء ثلاثاً، ثم وطئها في العدة [أو أعتق أم ولده، ثم وطئها في العدة] ، وقال: ظننت ذلك يحل لي، فإن عُذر بالجهالة لم يحد.
وكذلك من تزوج خامسة، أو أخته من الرضاعة وعذر بالجهالة في التحريم، لم يحد.
وليس على الذي وطئ في العدة بعد الطلاق البائن، أو العتق البتل، صداق مؤتنف، وذلك داخل في الملك الأول، كمن وطئ بعد حنثه فيهما ناسياً ليمينه أو لم يعلم بحنثه.
4066 - ومن ارتدت أم ولده، فوطئها وهو عالم أنها لا تحل له في حال ردتها، لم يحد.
ولو وطئ بملك يمينه من ذوات محارمه من يعتق عليه إذا ملكه، وهو عالم بتحريم ذلك، لم يحد للملك الذي له في ذلك، ويلحق به الولد، ولكن ينكل عقوبة موجعة، وتعتق ساعتئذ. (1)
4067 - وإذا شهد على امرأة بالزنا أربعة، أحدهم زوجها، ضُرب الثلاثة ولاعن الزوج، لأنه قاذف.
وقد تقدم في كتاب الحد في الزنا ذكر الشهادة على الشهادة في الزنا.
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/414) .(4/471)
4068 - ومن قذف رجلاً بالزنا، فقال القاذف حين رفع إلى القاضي: أنا آتي بالبينة أنه زان، أُمكن من ذلك، ولا يجوز في ذلك إلا أربعة شهود.
ومن قال عند الإمام أو عند غيره: زنيت بفلانة، فإن أقام على قوله حُدّ للزنا وللقذف، وإن رجع [عن ذلك] حُد للقذف، وسقط عنه حد الزنا، ويقبل رجوعه، قال: أقررت لوجه كذا، أو لم يقل.
والمعترف بالزنا لا يكشف كما تكشف البينة، ويلزمه الحد رجماً كان أو جلداً، بإقراره مرة واحدة، ولا يقر أربع مرات، فإذا رجع أُقيل.(4/472)
وكذلك إن رجع بعد ما أخذت الحجارة مأخذها، أو بعد أن ضُرب بعض الحد [أو أكثره] ثم رجع، فإنه يقال.
4069 - وإن ظهر بامرأة حمل، فقالت: تزوجني فلان، وهذا الحمل منه، فإن لم تقم بينة بالنكاح، حُدّت، ويحد الزوج إن صدقها ولا يلحق به الولد.
4070 - ومن زنى بأمه، أو أخته، أو بعمته، أو خالته، أو بذات [رحم] [محرم] منه، فعليه الحد، ولا يحد الأب إذا وطئ أمة ولده. وكذلك الجد لا يحد في أمة ولد ولده، لأنه كالأب في رفع القود وتغليظ الدية.
4071 - وكل من أُحلت له جارية أحلها له أجنبي، أو أحد من أقاربه، أو امرأته، فإنها ترد أبداً إلى سيدها إلا أن يطأها الذي أحلت له، فيدرأ عنه الحد بالشبهة، كان جاهلاً أو عالماً، وتلزمه قيمتها، حملت أو لم تحمل، وليس لربها التماسك بها بعد الوطء، بخلاف وطء الشريك، فإن كان له مال أخذ منه قيمتها، وإن كان عديماً وقد حملت كانت القيمة في ذمته، وإن لم تحمل بيعت عليه في ذلك، فكان له الفضل [وعليه] النقصان.(4/473)
4072 - ومن أسلم ثم أقر أنه زنى في حال كفره، لم يحد، لأن ذلك زنا لا حد فيه.
وإن زنى مسلم بذمية، حُدّ وردت هي إلى أهل دينها.
وإن دخل مسلم دار الحرب بأمان، فزنى بحربية فقامت [عليه] بينة من المسلمين أو أقر بذلك، فعليه الحد.
4073 - وما أقر به العبد من قصاص أو حد لله تعالى يحكم به في بدنه، أقامه عليه الإمام بإقراره.
وإن أقر أنه جرح عبداً، فليس لسيد العبد المجروح إلا القصاص، وليس له أن يعفو عن العبد على أن يأخذه، لأن العبد يتهم حينئذ أنه أراد الخروج من يد سيده إلى هذا.
وكذلك إن أقر أنه قتل عبداً أو حراً، فإنما لسيد العبد وأولياء الحر القصاص، وليس لهم أن يستحيوه ويأخذوه.
4074 - ومن اجتمع عليه قصاص في بدنه للناس وحدود [لله] ، بدئ بما هو لله تعالى،(4/474)
فإن كان فيه محمل، أقيم عليه ما للناس مكانه، وإن خيف عليه، أُخّر حتى يبرأ أو يقوى. وقد تقدم هذا.
4075 - وإن سرق وزنى وهو محصن، رجم ولم تقطع سيده، لأن القطع يدخل في القتل، ولا يتبع بقيمة السرقة إن كان معدماً.
وإن طرأ له ما لعلم أنه أفاده بعد السرقة بهبة أو غيرها، لم يأخذ منه المسروق شيئاً في قيمة سرقته، إلا أن يعلم أن هذا المال كان له يوم سرق، لأن اليد لم يترك قطعها وإنما دخل قطعها في القتل.
ومن أقر أو شهدت عليه بينة أنه زنى بعشر نسوة، أجزأه حد واحد.
وإن شهدوا عليه أنه زنى وهو بكر، ثم زنى بعد أن أحصن فإنما عليه الرجم ولا يجلد.
ومن حد لله أو قصاص اجتمع مع قتل، فالقتل يأتي على ذلك كله، إلا حد القذف فإنه يقام [عليه] قبل القتل، وذلك لحجة المقذوف من لحوق عار القذف به إن لم يحد له.
4076 - ومن عمل عمل قوم لوط، فعلى الفاعل والمفعول به الرجم، أُحصنا أو لم يحصنا، ولا صداق في ذلك في طوع أو إكراه.(4/475)
4077 - وإن كان المفعول به مكرهاً أو صبياً طائعاً، لم يرجم، ورجم الفاعل، والشهادة فيه كالشهادة على الزنا.
4078 - وإن أتى امرأة أجنبية في دبرها، وليست له بزوجة ولا ملك يمين، أقيم عليه حد الزنا، وإن أكرهها فعليه المهر مع الحد. (1)
4079 - وإن أتى بهيمة، لم يحد ونكل، ولا تحرق البهيمة ولا يضمنها، ولا باس بأكل لحمها. وأنكر مالك الحديث: "إن غلّ أحرق رحله".
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/291) ، والقوانين الفقهية لابن جزي (233) .(4/476)
ومن قال لرجل: يا لوطي، أو: يا عامل عمل قوم لوط، فعليه حد الفرية.
وإن قذفه ببهيمة أُدّب موجعاً ولم يحد، إذ لا يحد من أتى بهيمة.
وكل ما لا يقام فيه الحد، فليس على من رمى رجلاً بذلك حد الفرية.
ومن قذف رجلاً بالزنى، فعليه الحد، وليس له أن يحلف المقذوف أنه ليس بزان، وإن علم المقذوف من نفسه أنه كان [قد] زنى، فحلال له أن يحده.(4/477)
4080 - ومن شهد عليه شاهد أنه قال يوم الخميس لفلان: يا زان، وشهد آخر أنه قال [له] يوم الجمعة: يا زان، فعليه الحد. وكذلك الطلاق والعتاق.
وإن شهد عليه رجل أنه قال يوم السبت: إن دخلت دار فلان فامرأتي طالق البتة، وشهد عليه آخر أنه حلف بتلك اليمين يوم الاثنين، فإنه إن حنث طلقت عليه بشهادتهما، ولو شهد واحد أنه طلق [عنده] امرأته في رمضان، وآخر في رجب، طلقت عليه.
وإن شهد واحد أنه قال: إن دخل دار فلان فامرأته طالق البتة، وشهد آخر أنه حلف: إن ركب دابة فلان فامرأته طالق البتة، وشهدت عليه بينة أنه دخل الدار وركب الدابة، لم تطلق عليه. والعتق [في] مثل هذا سواء.
ولو شهد شاهد على رجل أنه شج فلاناً موضحة، وشهد عليه آخر أنه أقر أنه شجه موضحة، قضي بشهادتهما، لأن الإقرار والفعل ههنا شيء واحد، ولو اختلف الفعل والإقرار، لم يقض بشهادتهما.
ولو شهد عليه رجل أنه ذبح فلاناً ذبحاً، وقال آخر: أشهد أنه أقر عندي أنه أحرقه بالنار، فالشهادة باطلة.(4/478)
4081 - ومن قذف جماعة في مجلس، أو مفترقين في مجالس شتى، فعليه حد واحد.
فإن قام به أحدهم فضرب له، كان ذلك الضرب لكل قذف كان قبله، ولا يحد لمن قام به منه بعد ذلك، وليس في حد القذف عفو إذا بلغ الإمام، أو صاحب الشرط أو الحرس، إلا أن يريد المقذوف ستراً.
وأما النكال والتعزير، فيجوز فيه العفو والشفاعة وإن بلغ الإمام.
وقد قال مالك - رحمه الله - فيمن يجب عليه التعزير أو النكال، وانتهى إلى الإمام، قال: إن كان من أهل العفاف والمروءة وإنما هي طائرة منه، تجافى السلطان عن عقوبته، وإن عرف بالأذى ضربه النكال.
4082 - ومن عفا عن قاذفه قبل بلوغ الإمام ولم يكتب عليه بذلك كتاباً، فلا قيام له بعد ذلك، وكذلك إن عفا في النكال.(4/479)
4083 - ويجوز العفو في القصاص الذي للناس بعد بلوغ الإمام.
ومن قال لرجل: يا مخنث، فرفعه إلى الإمام حُدّ، إلا أن يحلف أنه لم يرد قذفاً، فإن حلف أُدّب ولم يحد.
4084 - ولا يقوم بالقذف إلا المقذوف.
وإن شهد قوم على رجل أنه قذف فلاناً وفلان يكذبهم، ويقول: ما قذفني، لم تجز شهادتهم، إلا أن يكون المقذوف هو الذي أتى بهم وادعى ذلك، ثم أكذبهم بعد أن شهدوا عند السلطان، أو قال: ما قذفني، فإنه حَدّ وجب لا يزيله هذا، بمنزلة عفوه، ويضرب القاذف الحد، وإن قالت البينة بعد ما وجب الحد: ما شهدنا إلا بزور، دُرئ الحد [عنه] . (1)
4085 - وإذا شهد رجل على رجل بشرب الخمر أو بالزنا، وقال للقاضي: أنا آتيك بشهود على ذلك، فإن ادعى أمراً قريباً في الحضر، حُبس هو والمشهود عليه، ولا يؤخذ في هذا كفيل، وقيل له: ابعث إلى من يشهد معك، فإن أتى بمن يشهد معه أقيم على المشهود عليه الحد في الخمر، وإن لم يأت
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (6/305) ، والمدونة الكبرى (16/216) .(4/480)
به أو ادعى شهادة بعيدة، لم ينتظر ونُكّل. وأما في الزنا فلا يخرجه من حد القذف، إلا أن يأتي بأربعة سواه.
وكذلك لو قذفه بالزنا قاذف، ثم جاء هو وثلاثة يشهدون، فإنهم يحدون [أجمعون] .
4086 - ومن قال لرجل: يا سارق، على وجه المشاتمة، نُكل. فأما إن قال له: سرقت متاعي، ولا بينة له، وكان الذي قيل له ذلك من أهل التهم، فلا شيء عليه، وإن شهد عليه [شاهد] أنه سرق متاع فلان، حلف صاحب المتاع واستحقه، ولم يقطع السارق بشهادة واحد، وإن لم يكن للسرقة طالب، مثل أن يقول: رأيته دخل داراً فأخذ منها شيئاً، فإن كان الشاهد عدلاً، لم يعاقب وإلا عوقب، إلا أن يأتي بالمخرج من ذلك.
4087 - وتجوز كتب القضاة إلى القضاة في الحدود والقصاص والأموال.(4/481)
4088 - ومن قال لأجنبية: زنيت [وأنت صبية، أو زنيت] وأنت نصرانية، أو قال ذلك لرجل، فعليه الحد، لأنه لا يخلو أن يكون قاذفاً أو معرضاً.
4089 - وكذلك لو قال لهما: رأيتكما تزنيان في حال الصبا، أو في حال كفر تقدم، أو قذفهما بالزنا قذفاً، [ثم] أقام بينة أنهما زنيا في حال الصبا، أو في حال كفر تقدم [منهما، لم ينفعه ذلك] ويحد، لأن هذا لا يقع عليه اسم زنا.
ومن قال لعبد وأمة قد عتقا: زنيتما في حال رقكما، أو قال لهما: يا زانيان، ثم أقام بينة أنهما زنيا في حال الرق، لم يحد، لأن اسم الزنا في الرق لازم لهما، وإن لم يُقم البينة، حُد.
4090 - ومن قال لزوجته: زنيت وأنت مستكرهة، أو قال ذلك لأجنبية، فإنه يلاعن الزوجة، ويحد للأجنبية.(4/482)
ولو جاء في هذا ببينة، لم يحد وإن لم يلحقها بالاستكراه اسم الزنا، لأنه علم أنه لم يرد إلا أن يخبر بأنها قد وُطئت غصباً.
ومن عرض بالزنا لامرأته ولم يصرح بالقذف، ضرب الحد إن لم يلتعن. ويكون الذي قذف التي أسلمت أو التي أعتقت، أو الصغيرة التي قد بلغت، أو امرأته، قاذفاً حين تكلم بذلك.
ومن قال لامرأة قد أسلمت: كنت [قد] قذفتك في نصرانيتك بالزنا، فإن كان إنما سألها العفو متمخياً، أو أخبر بذلك أحداً على وجه الندم على ما مضى من ذلك، فلا شيء عليه، وإن لم يقل ذلك لوجه يعذر به، فعليه الحد.
4091 - ومن قذف ميتاً كان لولده، وولد ولده، ولأبيه، وجده لأبيه أن يقوموا بذلك، ومن قام منهم أخذه بحده، وإن كان ثم من هو أقرب منه، لأنه عيب يلزمهم. (1)
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/305) .(4/483)
وليس للإخوة وسائر العصبة قيام مع هؤلاء، فإن لم يكن من هؤلاء أحد، فللعصبة القيام، وللأخوات وللجدات القيام بالحد، إلا أن يكون له ولد.
وإن لم يكن لهذا المقذوف وارث، فليس للأجنبي أن يقوم بحده، وأما الغائب فليس لولد ولا لغيره، القيام بقذفه إلا أن يموت، وإن مات ولا وارث له فأوصى بالقيام بقذفه، فلوصيه القيام به.
4092 - وإذا قذفت امرأة ميتة أو غائبة، فقام بحدها ولد، أو ولد ولد، أو أخ، أو أخت، أو ابن أخ، أو عم، أو أب، فأما في الموت فيمكن من ذلك، وأما في الغيبة فلا.
4093 - ومن وطئ أمة له مجوسية، أو امرأته وهي حائض، فقذفه رجل، فعليه الحد.
4094 - ومن قذف بالزنا صبياً لم يحتلم، فلا حد عليه، وإن كان مثله يطأ.
وإن قذف بذلك صبية لم تبلغ المحيض ومثلها يوطأ، فعليه الحد.
ولا يحد الصبي والصبية في الزنا أو غيره من الحدود، حتى يحتلم الغلام وتحيض الجارية، أو يتأخر ذلك حتى يبلغا سناً لا يبلغه أحد إلا رأى ذلك، من احتلام(4/484)
أو حيض، فإن أنبت الغلام، وقال: لم أحتلم، ويمكن فيمن بلغ سنه أن [لا] يحتلم، فلا يحد حتى يحتلم أو يبلغ سناً لا يبلغه أحد لا احتلم.
4095 - ومن قذف عبداً أو أم ولد، أُدّب.
ومن قذف ذمياً، زُجر عن أذى الناس [كلهم] .
ومن قذف نصرانية، ولها بنون مسلمون أو زوج مسلم، نكل بإذايته المسلمين.
وكل من فيه علقة رق إذا زنا أو قذف، فحده حد العبيد. (1)
4096 - ويؤخذ المحارب إذا تاب، بما قذف في حال حرابته وبحقوق الناس.
وإذا قذف حربي في دار الحرب مسلماً، ثم أسلم الحربي بعد ذلك أو أسر فصار عبداً، لم يحد للقذف، ألا ترى أن القتل موضوع عنه.
ويقطع الذمي إذا سرق، ولا يحد إذا زنى. وقد تقدم هذا.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/221) ، ومواهب الجليل (6/302) ، والتاج والإكليل (6/298) .(4/485)
وإذا أتى حربي بأمان فقذف مسلماً، فإنه يحد.
4097 - ومن قال لامرأته: يا زانية، فقالت له: زنيت بك، حُدت للزنا وللقذف، إلا أن ترجع عن الزنا فتحد للقذف فقط، ولا يحد الرجل، لأنها صدّقته.
ومن قال لرجل: يا فاجر، [أو] يا فاسق، أو قال [له] : يا ابن الفاجرة أو يا ابن الفاسقة، فعليه في ذلك النكال.
وإن قال له: يا خبيث، حلف ما أراد [بذلك] القذف ونكل، فإن لم يحلف، لم يحد ونكل.
ولو قال له: يا ابن الخبيثة، حلف أنه ما أراد قذفاً، فإن لم يحلف سجن حتى يحلف، فإن طال سجنه نكل، والنكال على قدر ما يراه الإمام.
وحالات الناس في ذلك مختلفة، فالمعروف بالأذى يبالغ في عقوبته.
وأما ذو الفضل والمروءة تقع منه الفلتة، فليعاقب بالشتم الفاحش عقوبة مثله، وإن كان شيئاً خفيفاً، فليتجاف عنه.(4/486)
4098 - ومن قال لرجل: يا شارب الخمر، أو: يا خائن، أو: يا آكل الربا، أو: يا حمار، أو: يا ابن الحمار، أو: يا ثور، أو: يا خنزير، فعليه النكال. (1)
وإن قال له: يا فاجر بفلانة، ضرب ثمانين، إلا أن يأتي ببينة على أمر صنعه بها من وجوه الفجور، أو يدعي أمراً له فيه مخرج، مثل أن يجحدها مالاً، فيقول: لم تفجر بي وحدي، قد فجرت بفلانة قبلي، للأمر الذي كان بينهما، فليحلف أنه ما أراد إلا ذلك ويصدق.
4099 - ومن قال لرجل: جامعت فلانة حراماً، أو باضعتها حراماً، أو وطئتها حراماً، ثم قال: لم أرد قذفاً، [و] أردت أنك تزوجتها تزويجاً حراماً، أو حكى ذلك عن نفسه فطالبته المرأة، فقال: لم أرد قذفاً وأردت أني [كنت] قد وطئتك بنكاح فاسد، فإنه يحد، إلا أن يقيم في الوجهين بينة أنه تقدم [له] فيها نكاح فاسد منه، أو من الرجل المقذوف، أو تزوجها في عدتها تزويجاً حراماً، ويحلف أنه ما أراد إلا ذلك، فيدرأ عنه الحد.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/223) ، ومواهب الجليل (6/303) ، والشرح الكبير (4/330) .(4/487)
وكذلك قوله لرجل: كنت وطئت أمك، وقال: أردت بنكاح، فإن أتى ببينة أنه تزوجها لم يحد، وإلا حد.
4100 - ومن قال لرجل: ما أنا بزان، أو قال: قد أخبرت أنك زان، حُد، لأن في التعريض الحد كاملاً.
وإن قال: أشهدني فلان أنك زان، حُد، إلا أن يقيم بينة على قول فلان.
وكذلك إن قال له: يقول لك فلان: يا زان، قال ذلك كله عند الإمام أو عند غيره.
4101 - وإن قال رجل حر لعبد: يا زان، فقال له العبد: لا، بل أنت، نكل الحر وجُلد العبد حد الفرية أربعين.
ومن قال لرجل: زنى فرجك، أو يدك، أو رجلك، فعليه الحد.
4102 - ومن قال لرجل مسلم: لست لأبيك، وأبوه نصراني وأمه نصرانية، أو كان أبوه عبداً مسلماً، فإنه يحد لأنه نفاه.(4/488)
وكذلك إن قال له: لست ابن فلان لجده، وجده كافر. أو قال لرجل من ولد عمر بن الخطاب: لست ابن الخطاب، فإنه يحد، لأنه قطع نسبه.
وإن قال له: ليس أبوك الكافر ابن أبيه، لم يحد، حتى يقول للمسلم: لست من ولد فلان.
[وكذلك] لو قال لكافر: لست لأبيك، أو ليس أبوك فلاناً، أو يا ولد زنا، أو يا ابن الزانية، فلا يحد وإن كان للمقذوف ولد مسلم.
وإن قال لرجل: لست ابن فلان لجده، وقال: أردت أنك لست ابنه لصلبه، لأن دونه لك أب، لم يصدق وعليه الحد، كان جده مسلماً أو كافراً.
وإن قال له: أنت ابن فلان، نسبه إلى جده في مشاتمة أو غيرها، لم يحد.
وكذلك إن نسبه إلى جده لأمه، لم يحد، لأنه كالأب يحرم عليه ما نكح.
ولو نسبه إلى عمه، أو خاله، أو إلى زوج أمه، لحد.
وكذلك إن نسبه إلى غير أبيه في سباب أو في غير سباب، فعليه الحد.
ومن قال لعربي: لست من بني فلان، لقبيلته التي هو منها، حُد، وإن كان مولى لم يحد بعد أن يحلف أنه لم يرد نفياً، لأنه من عرض بقطع نسب رجل، كمن عرض بالحد.(4/489)
وكذلك إن قال لعربي: يا نبطي، فعليه الحد، وإن قال [ذلك] لرجل من الموالي، حلف أنه لم يرد نفياً، ونكل، وإن لم يحلف، لم يحد ونكل. (1)
وإن قال لرجل من الموالي: لست من موالي بني فلان، وهو منهم، ضرب الحد، لأنه قطع نسبه.
وكذلك إن قال له: لست من الموالي، وله أب معتق، أو قال له: لست من موالي فلان، وفلان قد أعتق أباه أو جده، فإنه يحد.
وإن قال: لست مولى فلان، وفلان قد أعتقه نفسه، لم يحد، لأنه لم ينفه من نسب.
ومن قال لرجل: لست ابن فلان، وأمه أم ولد، ضُرب الحد، [لأنه قطع نسبه] .
4103 - ومن قال لعبده وأبواه حران [مسلمان] : لست لأبيك، ضرب سيده
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (6/227) ، والأنباط: جيل ينزلون بالبطائح بين العراقين، وهم ليسوا من العرب، اللسان (14/22) .(4/490)
الحد. وكذلك إن قال له: يا ابن الزانية، أو يا ابن الزاني، فإن كان أبوا العبد قد ماتا ولا وارث لهما، أو لهما وارث، فإن للعبد أن يحد سيده في ذلك.
وإن قال [لعبده] : لست لأبيك، وأبوه مسلم وأمه كافرة أو أمة، فقد وقف فيها مالك. قال ابن القاسم: وأنا أرى أن يحد، لأنه حمل أباه على غير أمه.
4104 - ومن قال: إن فلاناً الميت ليس لأبيه، فلأب الميت القيام بالحد، لما نفاه من نسب ولده.
ومن قال لعربي: لست من العرب، أو قال [له] : يا حبشي، أو: يا فارسي، أو يا رومي، أو: يا بربري، فعليه الحد.
وإن قال للفارسي: يا رومي، أو يا حبشي، أو [لبربري: يا فارسي، أو: يا حبشي، أو نحو هذا، لم يحد] .
وقد اختلف عن مالك - رحمه الله - في الذي يقول لبربري أو لرومي:(4/491)
يا حبشي، أن عليه الحد أو لا حد عليه، وأنا أرى أن لا حد عليه حتى يقول له: يا ابن الأسود، فإن لم يكن في آبائه أسود، فعليه الحد. وأما إن نسبه إلى جنس فقال له: يا ابن الحبشي، وهو بربري، فالحبشي والرومي في هذا سواء إذا كان بربرياً.
وإن قال لفارسي أو بربري: يا عربي، فلا حد عليه.
وإن قال لعربي: يا قرشي، أو لمصري: يا يماني، أو ليماني: يا مصري، أو لقيسي: يا كلبي، أو لرجل من كلب: يا تميمي، فعليه الحد، لأن العرب(4/492)
تنسب إلى آبائها [وهذا] نفي لها من آبائها. (1)
وإن قال لقرشي: يا عربي، فلا يحد، لأن كل قبيلة من العرب يجمعها هذا الاسم.
4105 - ومن قذف ولده، أو ولد ولده، أو ولد ابنته، فقد استثقل مالك أن يحد لولده، وقال: ليس ذلك من البر. قال ابن القاسم: وأنا أرى إن قام على حقه أن يحد له.
ويجوز في ذلك عفوه عند الإمام، وكذلك ولد الولد.
ولا يقاد من أب أو جد، في نفس أو جارحة، وتُغلظ عليهما الدية، إلا في العمد البين، مثل أن يضجعه فيذبحه أو يشق جوفه.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/227) .(4/493)
وإن قال له [أبوه] : يا ابن الزانية، فله القيام بحد أمه إن ماتت، وإن كانت حية فلا قيام له بذلك إلا أن توكله.
ومن قال لبنيه: ليسوا بولدي، فقام عليه أخوتهم لأمهم من رجل غيره، فطلبوا حد أمهم وقد ماتت، فإن حلف أنه لم يرد قذفاً وأنه أراد في قلة طاعتهم له، لم يحد، وإن نكل، حد، ولو كانت الأم حية كان لها القيام دون بنيها.
4106 - ومن قذف رجلاً بين يدي القاضي وليس معه غيره، فلا يقيم عليه الحد، وإن شهد معه [غيره] ، فلا يحده هو أيضاً، وليرفع ذلك إلى من هو فوقه [فيقيم الحد] ، وكذلك إن رأى رجلاً اغتصب من رجل مالاً ولم يره غيره، فلا يحكم به، وليرفع ذلك إلى من فوقه ويكون هو شاهداً. وهذا المعنى مستوعب في كتاب الأقضية.
4106 - ومن قال لرجل: يا ابن الزانيين، فإنما عليه حد واحد.
ومن قال لرجل: لست ابن فلانة، لأنه، لم يحد.
ومن قال لامرأته في ولدها منه: إنك لم تلديه، وقالت هي: بل قد ولدته، فإن(4/494)
كان مقراً به قبل ذلك، فهو ولده ولا يلاعن فيه، [وليس] بقاذف، وإن كان لم يقرّ [به] قط، ولم يعلم بالحمل، فالولد ولده، إلا أن ينفيه [بلعان] ، لأن من أقر بالوطء فالولد ولده، فإن نفاه التعن، وإن نكل عن اللعان، لزمه الولد ولم يحد، وكان كمن قال لرجل: لست لأمك.
4107 - ومن أقر بوطء أمته ثم أتت بولد، فقال لها: لم تلديه، ولم يدع استبراء، وقالت الأمة: بل [قد] ولدته منك، فهي مصدقة والولد لاحق به.
4108 - وإذا نظرت امرأة إلى رجل فقالت: ابني، ومثله يولد لمثلها، فصدقها، لم يثبت نسبه منها، إذ ليس ههنا أب يلحق به.
4109 - ومن قال لرجل: يا ابن الأقطع، أو المقعد، أو الأعمى، أو الأحمر، أو الأزرق، أو الأصهب، أو الآدم، فإن لم يكن أحد من آبائه كذلك، جُلد الحد، وإن قال له: يا ابن الأسود، رب الحد، عربياً كان أو مولى، إلا أن يكون من آبائه أسود. (1)
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/302) ، ومواهب الجليل (6/303) .(4/495)
4110 - وإن قال له: يا ابن الحجام، أو: يا ابن الخياط، فإن كان من العرب ضُرب الحد، إلا أن يكون من آبائه أحد يعمل ذلك [العمل] ، وإن كان من الموالي رأيت أن يحلف بالله ما أراد قطع نسبه، ولا يحد وعليه التعزير، لأن ذلك [من] أعمال الموالي.
وسُئل مالك - رحمه الله - عمن قال لرجل: يا ابن المطوق، يعني: الراية [التي] تُجعل في الأعناق وهو مولى فقال: لا يُحد، وكأني رأيته أن لو كان عربياً لجعل عليه الحد.
4111 - ومن قال لرجل أبيض: يا حبشي، فإن كان من العرب حُد، وإن كان من غير(4/496)
العرب ودعاه بغير جنسه من البيض كلهم، فلا حدّ عليه، وإن قال له: يا بربري، وهو حبشي لم يُحد.
ومن قال لرجل: يا أعور يا مقعد - وهو صحيح - على وجه المشاتمة، فإنما عليه الأدب، ومن آذى مسلماً أُدّب.
ومن قال لعربي: يا مولى، أو: يا عبد، فعليه الحد، وإن قال لمولى: يا عبد، لم يحد.
4112 - ومن قال لرجل: يا أبي، أو يا ابني، فلا شيء عليه. وإن قال له: يا يهودي، أو يا نصراني، أو يا مجوسي، ونحوه، نُكل، ولم يحد مالك في النكال حداً، وإن قال له: يا ابن اليهودي، أو يا ابن المجوسي، أو: [يا] ابن عابد وثنٍ، حد، إلا أن يكون أحد من آبائه كذلك فينكل. (1)
4113 - ومن قال: جامعت فلانة بين فخذيها، أو في أعكانها، فعليه الحد.
قال مالك - رحمه الله: ولا يجب الحد إلا في قذف، [أو نفي،] أو تعريض يُرى أنه أريد به القذف، ولا تعريض أشد من هذا، وإن قال: فعلت بفلانة في دبرها، فلها أن تطلبه بحدها، فإن ثبت على إقراره، حُد حد الزنا.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/233) ، ومواهب الجليل (6/302) .(4/497)
4114 - ومن قذف رجلاً، ثم ارتد المقذوف، أو قذفه وهو مرتد، لم يحد قاذفه، ولو رجع إلى الإسلام لم يحد له، كمن قذف رجلاً بالزنا فلم يحد له حتى زنا المقذوف، فلا يحد قاذفه.
ومن قذف رجلاً ثم ارتد القاذف، أو قذف وهو مرتد، فإنه يحد، أقام على ردته أو رجع إلى الإسلام.
4115 - ومن قذف ملاعنة التعنت بولد أو بغير ولد، حُد، ومن قال لولد الملاعنة: لست لأبيك، فإن كان في مشاتمة حُد، وإن كان على وجه الخبر، لم يحد.
4116 - ومن وطئ جارية عنده رهناً، أو عارية، أو وديعة، أو بإجارة، فعليه الحد. والله الموفق.
* * *(4/498)
(كتاب الأشربة) (1)
4117 - قال: وما أسكر كثيره من الأشربة، فقليله حرام.
ومن شرب خمراً، أو نبيذاً مسكراً، قليلاً أو كثيراً، سكر منه أم لا، فعليه الحد ثمانون جلدة، وكذلك إن شهدت عليه بينة أن به رائحة مسكر، جلد الحد، كان أصله نبيذ زبيب، أو عصير عنب أو تمر أو تين أو حنطة أو غير ذلك، وكذلك الأُسْكُرْكُة إذا أسكرت، لأنها عنده خمراً إذا كانت تسكر، وعصير العنب ونقيع الزبيب وجميع الأشربة، شربها حلال ما لم تسكر، فإذا أسكرت فهي خمر.
_________
(1) انظر: جامع الأمهات لابن الحاجب (524) ، والتقييد للزرويلي (6/306) ، ومنح الجليل (9/463) .(4/499)
ولا أَحُدّ في مقام الانتباذ قدراً من توقيت أو غليان، والسكر علة التحريم ولا ينظر إلى الغليان.
قال مالك - رحمه الله -: وكنت أسمع أن المطبوخ إذا ذهب ثلثاه لم يكره، ولا أرى ذلك، ولكن إذا طبخ حتى لا يسكر كثيره، حل، وإن أسكر كثيره، حرم قليله، ولا يجعل درديّ المسكر وعكره في شراب يضران به، ولا في شيء من الأشربة أو الأطعمة.
وأرخص مالك أن يُجعل في النبيذ عجين، أو سويق، أو دقيق، ليعجله أو ليشتد به قليلاً، ثم نهى عنه، وقال: بالمغرب تراب يجعلونه في العسل فأنا أكرهه، وهذه أشياء يريدون بها إجازة الحرام.
قال ابن القاسم: ولا أرى به بأساً ما لم يسكر، ولا يعجبني أن ينبذ البسر المذنب الذي قد أرطب بعضه، حتى يكون بسراً كله أو رطباً كله.(4/500)
4118 - ولا يجوز أن ينبذ تمر مع زبيب، ولا بسر أو زهو مع رطب، ولا حنطة مع شعير أو شيء من ذلك مع تين أو عسل، لأن النبي ÷ نهى أن ينبذ البسر والتمر جميعاً، أو الزهة والتمر جميعاً. (1)
قال مالك - رحمه الله -: وإن نبذ كل واحد مما ذكرنا على حدة، لم ينبغ أن يخلطا عند الشراب.
وما حلا من النبيذ، فلا يجوز فيه الخليطان، لنهي النبي ÷ الذي جاء.
_________
(1) رواه أبو داود (3703) ، والترمذي (1876) ، ومالك (2/844) ، ومسلم (1991) ، (3/1576) ، والبخاري (5/2120، 2121، 2126) ، والنسائي (8/288، 290) .(4/501)
وإذا خلط العسل بنبيذ لم يصلح أن يشربه، ويجوز أن يخلط نبيذه بالماء ويشربه، لأن الماء لا ينتبذ، وإنما يكره أن يخلطه بشيء يكون منه نبيذ.
ولا بأس بأكل الخبز بالنبيذ، لأن الخبز ليس بشراب. قيل: فهل ينقع في نبيذه الخبز ويدعه يوماً أو يومين ثم يشربه قبل أن يسكر؟ قال: هذا مثل ما أعلمتك من الجذيذة وشبه ذلك أن مالكاً كرهه في قوله الآخر.
ولا ينتبذ في الدباء والمزفت. قيل: أليس نهى النبي ÷ عن الظروف ثم وسع فيها؟ قال: قال مالك - رحمه الله -: قد ثبت نهي النبي عليه السلام عن الدباء.(4/502)
والمزفت (1) ، فلا ينبذ فيهما، ولا أكره غير ذلك من الفخار أو غيره من الظروف وأكره مزفت الدباء وغير مزفته، وأكره كل ظرف مزفت كان فخاراً أو دباء أو غيرهما، والزفت شيء يعرفه الناس يزفتون به قلالهم وظروفهم.
4119 - قال مالك - رحمه الله -: إذا ملك المسلم خمراً فليهرقها، فإن اجترأ فخللها فصارت خلاً أكلها وبئس ما صنع.
* * *
_________
(1) رواه مسلم (1992) ، ومالك في الموطأ (2/443) .(4/503)
وسئل مالك - رحمه الله - عن الخمر يجعل فيها الحيتان فيصير مرياً، فقال: لا أرى أكله، وكرهه.(4/504)
(كتاب جنايات العبد)
4120 - قال ابن القاسم: ولو أن عبداً قتل رجلاً له وليان، فعفا أحدهما عن العبد على أن يأخذ جميعه ورضي بذلك السيد، فإن دفع السيد إلى أخيه نصف الدية، تم فعله، وإن أبى خُيّر العافي بين أن يكون العبد بينهما أو يرده، فإذا رده فلهما القتل أو العفو، فإن عفوا عنه خُيّر السيد بين إسلامه أو فدائه منهما بالدية. وقد قال أيضاً: إن للأخ الدخول مع أخيه في العبد، فيكون بينهما لشركتهما في الدم، وكذلك إن عفا أحدهما على أن دفع إليه السيد [العبد] القاتل وزاده عبداً آخر، فإن السيد إن دفع إلى الذي لم يعف نصف الدية، تم ما صنع وإن أبى: قيل للعافي:(4/505)
ادفع إلى أخيك نصف القاتل وحده فيتم فعلك، فإن أبى، رد العبدين وقتلا القاتل إن أحبا. وقد قيل: إن الولي يدخل مع أخيه في العبدين، لأنه ثمن للدم الذي بينهما. (1)
4121 - ومن أعتق عبده بعد علمه أنه قد قتل قتيلاً خطأ، سئل سيده، فإن أراد حمل الجناية فذلك له، وإن قال: ظننت أنها تلزم ذمته ويكون حراً يتبع بها، حلف على ذلك ورد عتقه، وكذلك لو جرح الحر جرحاً، [و] حلف السيد [ما أراد حمل الجناية بعتقه] ، فإن كان للعبد مال مثل الجناية، أو وجد معيناً على أدائها مضى عتقه، وإلا بيع منه بقدرها وعتق ما فضل، فإن كان لا فضل فيه، أسلم رقاً لأهل الجناية، وإن باعه بعد علمه أنه قد جنى، حلف ما أراد حملها، ثم إن دفع الأرش لأهل الجناية، وإلا كان لهم إجازة البيع وقبض الثمن، ولهم فسخه وأخذ العبد. قال غيره: إلا أن يشاء المبتاع دفع الأرش إليهم، فذلك له، ويرجع على البائع بالأقل مما افتكه به أو الثمن.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/328، 336) .(4/506)
قال ابن القاسم: ولو افتكه البائع فللمبتاع رده بهذا العيب، إلا أن يكون البائع بيّنه له، فيلزمه البيع. قال غيره: هذا في العمد، وأما في الخطأ فلا، وهو كعيب ذهب.
4122 - وإذا قتل عبد رجلاً له وليان، فعفا أحدهما، ثم قال: عفوت ليكون لي نصف العبد، لم يصدق إلا أن يأتي بدليل، فإن جاء به كان العبد بين الوليين إلا أن يفديه سيده بجميع الدية، وله فداء نصفه بنصفها من أحدهما، وإسلام نصفه إلى الآخر.
4123 - ومن عفا عن عبد قتله عمداً، جاز عفوه وبقي العبد لسيده، إلا أن يعفو على أن يسترقه، فيرجع الخيار إلى سيده بين أن يفديه بالدية أو يسلمه، وإن كان خطأ فكانت قيمته قدر ثلث تركة القتيل، جاز عفوه، وإلا جاز منه قدر الثلث.
قال سحنون: وقد قيل: إنما يكون في الثلث الأقل من قيمة العبد أو الدية.
ومن جنى عبده جناية، فقال: أبيعه وأدفع الأرش من ثمنه، فليس له ذلك(4/507)
إلا أن يضمن وهو ثقة مأمون، أو يأتي بضامن ثقة فيؤخر اليومين ونحوهما، وإلا فداه أو أسلمه، فإن باعه ودفع [إلى] المجني عليه دية الجرح، جاز بيعه وإلا لم يجز.
4124 - وإذا ولدت الأمة بعد أن جنت، لم يسلم ولدها معها، إذ يوم الحكم يستحقها المجني عليه، وقد زايلها الولد قبله، ولكن تسلم بمالها، وهو قول أشهب في الولد والمال.
4125 - وإذا جنى عبد مأذون له وعليه دين من تجارة، ثم أسره العدو، فابتاعه رجل من العدو فلم يفده سيده بالثمن، فليس لأهل الجناية أخذه إلا بدفع الثمن الذي صار به لمبتاعه، إذ لو أسلمه سيده أولاً بالجناية، لم يكن [لمن صار] له أخذه إلا بدفع الثمن، وأما الدين فباق في ذمته، وإنما يسقط عن العبد وعمن يصير له ما كان قبل أن يؤسر العبد في رقبته.(4/508)
4126 - وإذا جنى عبد فلم يحكم فيه حتى جنى جنايات على قوم، فإن سيده بالخيار، إما فداه بدياتهم أجمع، وإلا أسلمه إليهم فتحاصوا فيه بقدر مبلغ جناية كل واحد منهم، ولو فداه ثم جنى، فعليه أن يفديه ثانية أو يسلمه.
4127 - ومن أعتق نصف عبده، ثم جنى قبل القضاء [عليه] بعتق بقيته، لم يكن كالحر، إذ لو مات السيد أو لحقه دين قبل الحكم، رق باقيه، ولكن يلزم السيد الأقل من نصف قيمته، أو من نصف الأرش للمجني عليه ويعتق جميعه، لأنه لو أسلمه لقَوَّمْته عليه أيضاً إن كان موسراً وعتق، ويكون نصف الأرش الباقي في ذمة العبد بكل حال، ولو مات السيد قبل القيام، كان نصف الأرش في ذمة العبد، ويخير الورثة في النصف الرقيق بين إسلامه رقاً، وبين أن يفدوه ويكون لهم رقاً.
ولو أعتق المليء شقصاً له من عبد بينه وبين رجل، ثم جنى العبد قبل التقويم خير المتمسك بين أن يفدي شقصه منه ثم يقومه على المعتق، أو يسلمه فيقومه المسلم إليه على المعتق بقيمته يوم الحكم معيباً، ويتبع العبد لا العاقلة بنصف الجناية وإن جاوزت ثلث الدية، لأن العاقلة لا تحمل عن عبد. (1)
ومن أعتق حصته من عبد، ثم وهب المتمسك منه حصته لرجل بعد العتق،
_________
(1) انظر: الكافي (1/504، 505) ، والتمهيد (14/277، 278) ، والتاج والإكليل (6/338) .(4/509)
جاز ذلك، وكان التقويم للموهوب له، بخلاف البيع، لأنه في البيع باع نصفه بعين أو عرض، على أن يأخذ المبتاع قيمته مجهولة، فذلك غرر، ولا غرر في الهبة.
وإذا جنى المعتق بعضه أو جُني عليه، فلسيده أو عليه بقدر ملكه منه، وللعبد بقدر ما عتق منه، وتبقى حصة العبد فيما يأخذ من أرش بيده. وكان مالك يقول: يأخذ الأرش كله من له فيه الرق، ثم قال: هو بينهما.
4128 - ومن أوصى، فقال: عبدي حر بعد موتي بشهر، فمات السيد والثلث لا يحمله، قيل للورثة: أجيزوا الوصية وإلا فأعتقوا منه الثلث بتلاً، فإن أجازوا [الوصية] خدمهم تمام الشهر ثم خرج كله حراً، فإن جنى قبل مضي الشهر، قيل للورثة: افدوا خدمته أو أسلموها، فإن أسلموها خدم العبد في الجناية، فإذا أتم الشهر، عتق واتبع ببقية الأرش في ذمته، وإن افتكه الورثة خدمهم بقية الشهر، ثم عُتق ولم يتبع بشيء، وإن لم يجيزوا الوصية، عتق من العبد محمل الثلث، ثم إن جنى أتبع بما يقع منه ويخير الورثة في إسلام ما رق منه أو فدائه.
ولو جنى قبل أن يجيز الورثة في ضيق الثلث، خُيّروا بين أن يفدوه ويخدمهم إلى(4/510)
الأجل ويعتق ولا يتبع بشيء، فيكونوا قد أجازوا الوصية، وإن أبوا عتق منه بتلاً ما حمل الثلث وأتبع من الأرش بحصة ذلك، وخُيّروا في فداء ما رق منه أو إسلامه.
4129 - وإذا جنى موصىً بعتقه قبل موت السيد، كان للسيد أن يدفعه أو يفتديه، فإن فداه كان على الوصية إذا لم يغيرها قبل موته، فإن أسلمه بطلت الوصية، إذ له أن يغيرها، وإن لم يقم ولي الجناية حتى مات السيد، فالعبد رهن بالجناية إن أسلمه الورثة للمجني عليه، وإن افتكوه عتق في ثلث سيده.
4130 - ومن بتل في مرضه عتق عبده، ثم جنى العبد، فإن كان يوم بتله له مال مأمون من ربع وعقار، كان كالحر في جنايته، والجناية عليه يقتص في العمد ويتبع العاقلة في الخطأ، وإن كان المال كثيراً وليس بمأمون، أوقف إلى موته، فكان كالمدبر إن حمله الثلث أتبع بالجناية أو بحصة ما حمل منه، وخُيّر الورثة فيما رق.
وكذلك إن أوصى بعتقه، فجنى بعد موت السيد، وقبل أن يقوم في الثلث، فإن حمله الثلث عتق وأتبع بالجناية ديناً عليه، كالمدبر، لنه في حدوده وحرمته كالعبد ما لم يقوم في الثلث وإن كان الثلث يحمله، إلا أن تكون أموال السيد مأمونة فيكون في جنايته، والجناية عليه كالحر.
قال سحنون: وقد أعلمتك باختلافهم في المال المأمون.(4/511)
ولو بتله في المرض ولا مال له، أو له مال غير مأمون، فجنى العبد جناية فلم ينظر فيها حتى أفاد السيد في مرضه مالاً مأموناً، فإني أبتل عتق العبد ويتبع بالجناية في الذمة، ولا تحملها العاقلة، لأنه يوم جنى كان ممن لا تحمل [العاقلةٍ] جريرته، والعاقلة لا تحمل جريرته حتى يحمل هو معها ما لزمها من الجرائر.
4131 - ولو جني عليه في مرض السيد أو قتل، فعقله عقل عبد، إذ لا تتم حرمته حتى تكون أموال السيد مأمونة، والذي قال مالك في المال المأمون: إنه الدور والأرضون والنخل.
وإن بتله في المرض ثم جنى جناية، ثم مات السيد ولا مال له غيره، عتق ثلثه واتبع بثلث الأرش، وخير الورثة في فداء مارق منه أو إسلامه، وهذا كالمدبر سواء، وإن صح السيد، عتق العبد وأتبع بالجناية. وإذا أوقف المبتل لم يقل لسيده: أسلمه أو افده، كما يخير في المدبر، لأن هذا لا خدمة له فيه ولا رق، وله في المدبر الخدمة إلى الموت.(4/512)
قال سحنون: وعلى هذا ثبت بعد أن قال غيره: وهو أصل قولهم وأحسنه، وكل قول تجده له أو لغيره على خلاف هذا، فأصلحه على هذا.
وإذا وقف المبتل في المرض أوقف ماله معه، وإن جنى لم يسلم معه في جنايته، لأنه قد يعتق بعضه إذا مات سيده، ولا مال له غيره، وليس للورثة إن افتكوا ما رق منه أن يأخذوا ماله، وإن أسلموه فلا يأخذ المجني عليه شيئاً ويكون المال موقوفاً معه، لأن من دخلت فيه شعبة من الحرية، وقف ماله معه، ولم يكن للذي له بقية الرق أن يأخذ من ماله شيئاً.
قال سحنون: هذه المسألة أصل مذهبهم، فلا تعدها إلى غيرها.
4132 - وكل عبد بين رجلين، فليس لأحدهما أن يأخذ من ماله قدر نصيبه، إلا أن يجتمعا على أخذ ماله، وإن أذن أحدهما لصاحبه في أخذ حصته من المال، وترك هو نصيبه في يد العبد، جاز، لأنه إن كانت هبة منه أو مقاسمة، فهي جائزة، ثم إن(4/513)
باعها العبد بعد ذلك فاشترط المبتاع ماله فالثمن بينهما نصفين، لأن ماله ملغى، ولا حصة له من الثمن.
ومن بتل في مرضه عتق عبده، وماله غير مأمون، وللعبد مال، فهو كمن لا مال له.
4133 - ومن قال: اعتقوا عبدي فلاناً بعد موتي، فجنى العبد بعد موته [قبل أن يعتقوه] ، فهو كالمدبر يجني بعد موت سيده، فإن حمله الثلث عتق وكانت جنايته في ذمته، وإن لم يحمله، قيل للورثة: ادفعوا ما بقي لكم من العبد بما بقي من الجناية أو افدوه بأرش ما بقي من الجناية، وإن أوصى أن يشتري عبد بعينه فيعتق، فاشتروه ثم جنى [العبد] قبل العتق، كان كالموصى بعتقه [بعينه] يجني بعد الموت، فإنه يعتق ويتبع بالجناية في ذمته، بخلاف عبد ليس بعينه، لأن لهم إذا اشتروه أن لا يعتقوه، ويستبدلوا به غيره إذا كان ذلك خيراً للميت.
4134 - ومن أخدم عبده رجلاً سنين معلومة أو حياة الرجل، فجنى العبد، خَيّر مالك رقبته، فإن فداه بقي في خدمته، وإن أسلمه خير المخدم [بين أن يفديه أو يسلمه للمجني عليه] ، فإن فداه خدمه، فإذا تمت خدمته فإن دفع إليه السيد ما فداه به(4/514)
أخذه، وإلا أسلمه للمخدم رقاً، وأما الموصى بخدمته لرجل سنة وبرقبته لآخر، والثلث يحمله إذا جنى، فإن صاحب الخدمة يبدأ، فإن فداه، خدمه ثم أسلمه بعد الأجل للموصى له بالرقبة، ولا يتبع بشيء مما أدى، وإن أسلمه خير صاحب الرقبة فإن فداه أخذه وسقطت الخدمة.
قال سحنون: اختلف قوله في هذا الأصل، وأحسن ما قال هو وغيره: إن من أخدم عبده رجلاً سنين، أو أوصى بذلك ثم برقبته لآخر، والثلث يحمل الموصى بذلك فيه، ثم جنى، أن يبدأ صاحب الخدمة بالتخيير، فإن فداه خدمه بقية الأجل، ثم لم يكن لصاحب الرقبة سبيل إليه حتى يعطيه ما افتكه به، وإلا كان للذي فداه رقاً، وإن أسلمه سقط عنه، وقيل لصاحب الرقبة: أسلم أو افتد، فإن أسلمه استرقه المجني عليه، وإن فداه صار له وبطلت الخدمة.
4135 - وإذا أوصى بخدمته لرجل سنين، وأوصى مع ذلك برقبته لآخر والثلث يحمله، فقتله رجل أو قطع يده في الخدمة، كان ما يجب في ذلك لمن له مرجع الرقبة، قاله مالك، واختلف فيه أصحابه، وهذا أصل مذهبهم.(4/515)
وإن جنى المعتق إلى أجل، خُيّر سيده، فإما فدا الخدمة أو أسلمها، فإن فداها عتق العبد للأجل ولم يتبعه بشيء، وإن أسلمها خدم العبد في الجناية، فإن أوفاها قبل الأجل رجع إلى سيده، وإن حل الأجل ولم تتم عتق وأتبع ببقية الأرش.
4136 - قال مالك - رحمه الله -: وإذا جنى المدبر وله مال، دفع ماله لأهل الجناية، فإن لم يكن فيه وفاء، قيل لسيده: أسلم خدمته، أو افدها بباقي الجناية.
وإن جنى المدبر على جماعة فأسلم إليهم، تحاصوا في خدمته، ولو جرح واحداً فأسلم إليه خدمته ثم جرح آخر، تحاص مع الأول في الخدمة، هذا بجنايته والأول بما بقي له.
قال ابن وهب وابن نافع عن مالك وعبد العزيز: إذا جنى المدبر خير سيده بين أنه يفدي خدمته بما جنى، أو يسلم خدمته فيختدمه المجني عليه فيما يجب له، فإن تم قصاصها وسيده حي، رجع إليه مدبراً. وإن مات السيد فعتق في ثلثه، كان بما(4/516)
بقي من جنايته ديناً عليه، قالا: فإن أدركه دين [يرقه] إذا مات سيده، والدين والجناية يغترقانه، فالمجني عليه أحق برقبته، إلا أن يفديه أهل الدين ببقية الجناية، وإن كانا لا يغترقانه، بيع منه للجناية وللدين، ثم عتق منه ثلث ما بقي.
4137 - قال ابن القاسم: إذا جنى المدبر في حياة سيده، وعلى سيده دين يغترق قيمة المدبر أو لا يغترقه، فأهل الجناية أحق بخدمته، إلا أن يدفع إليهم الغرماء الأرش فيأخذوه ويؤاجروه حتى يستوفوا دينهم، فإن لم يأخذه الغرماء وأسلم للمجني عليه يختدمه، ثم مات السيد وعليه دين، وفي رقبة المدبر كفاف للدين [والجناية] وفضلة، بيع منه لذلك، وبدئ بالبيع للجناية ثم للدين، ثم عتق ثلث ما بقي، وإن كان لا فضل في قيمته عنهما أو قيمته أقل منها، قيل للغرماء: أهل الجناية أحق به منكم إلا أن تزيدوا على قيمة الجناية فيأخذوه، ويحط عن الميت بقدر الذي زدتم، فذلك لكم. (1)
وإن جنى المدبر، وله مال وعليه دين، فغرماؤه أحق بماله، فإن لم يكن له مال، كان دينه في ذمته والجناية في خدمته، وإذا جنى العبد وعليه دين، كان دينه أولى بماله، وجنايته أولى برقبته، ويقال للسيد: ادفع أو افتد. وإذا مات سيد المدبر وعليه دين يغترق قيمة المدبر، وعلى المدبر دين، فليبع في دين سيده، ويكون دينه في
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (6/238) .(4/517)
ذمته يتبع به، أو في ماله إن كان له مال، ولغرماء السيد أن يؤاجروا المدبر في دينهم إن أعدم السيد. وفي كتاب المدبر طرف من هذا.
وإذا جنى العبد على سيده، فلا شيء عليه، وأما المدبر يجني على سيده، فإن عبد الحكم بن أعين أخبرني عن مالك، أنه قال: يختدمه السيد بالجناية، فإن مات السيد ولم يتمها عتق في ثلثه وأتبع ببقية الجناية، وإن عتق بعضه في الثلث أتبع بحصة ما عتق منه من بقيتها وسقط ما بقي.
قال غيره: لا يختدمه السيد بجنايته، إذ له عظم رقبته، و [إذ] لو فداه من أجنبي لم يتبعه بما فداه ولا اختدمه فيه، ولو أسلمه لأتبعه [المجروح] بما بقي إن عتق في الثلث.(4/518)
قال ابن القاسم: وإن جنى المدبر على سيده وعلى أجنبي، اختدماه بقدر جنايتهما. قال سحنون: وهذا مثل الأول.
ولو أن مدبراً ورجلاً حراً، قتلا قتيلاً خطأ، كانت نصف ديته على عاقلة الرجل، ونصف الدية في خدمة المدبر.
4138 - وإذا قتل المدبر رجلاً عمداً، فعفا أولياؤه على أخذ خدمته، فذلك لهم، إلا أن يفديها السيد بجميع الدية، وليس لهم العفو على رقه وإن رضي السيد.
وإذا جنى المدبر ثم أعتقه سيده، فإن أراد حمل الجناية لزمه، وإلا حلف ما أراد حملها، ثم ردت خدمته، وخير بين أن يسلمه أو يفتديه مدبراً، فإن أسلمه وكان للمدبر مال، أديت منه الجناية وعُتق، [فإن لم يكن في ماله وفاء للجناية، أُخذ منه وخدم المجروح بما بقي له وعتق] ، وإن لم يكن له مال أخدمته المجروح، فإن استوفي عَقْل جُرحه والسيد حي، خرج المدبر حراً.
4139 - وإن مات السيد قبل وفاء ذلك، وكان المدبر يحمله الثلث، عتق وأتبع ببقية الجناية، وإن لم يدع السيد غيره عتق ثلثه وأتبع ببقية الأرش، ورق باقيه للمجروح(4/519)
إن كان قيمة [ذلك] مثل ما قابله من بقية الأرش، ولا خيار فيه للورثة، لأن صاحبهم قد تبرأ منه لما أسلمه. (1)
وإن لم يحلف السيد أنه ما أراد حمل الجناية، عتق وكانت الجناية على السيد، فإن لم يكن له مال، رد عتقه وأسلم إلى المجروح يختدمه، فإن أدى في حياة سيده، عتق ولم يلحقه دين استحدثه السيد بعد عتقه.
وإن لم يوفها حتى مات السيد وقد استحدث بعد عتقه ديناً يغترق المدبر، لم ينظر إلى ذلك وعتق ثلثه، وأتبع [بثلث] بقية الأرش، ثم إن كان له معين في فداء ثلثيه بثلثي باقي الخدمة، عتق، وإلا رق ثلثاه لأهل الجناية، إلا أن يكون في ثمن ثلثيه فضل عن ثلثي باقي الجناية، فيباع من ثلثيه بقدر ثلثي [باقي] الجناية ويعتق ما بقي، ولو كان للسيد مال يخرج من ثلثه، عتق وأتبع بباقي الجناية، وإن كان دين السيد قبل العتق وقبل الجناية، كان كمدبر لم يجعل له عتق سواء.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (3/377) ، والفواكه الدواني (2/141) .(4/520)
4140 - ولو أن عبداً بين رجلين، دبر أحدهما نصيبه، فرضي شريكه وتماسك هو بنصيبه، جاز ذلك، فإن جنى خيّر من دبر في إسلام [خدمة] نصف العبد، أو دفع نصف الجناية، وخير المتمسك في إسلام نصف الرقبة، أو دفع نصف الجناية، وما جنى العبد أو استهلك من الأموال، فهو في رقبته.
وأما المدبر يجني أو يستهلك مالاً، فذلك سواء، وهو في خدمته إلا أن يكون للمدبر مال، فيدفع في جنايته، فإن كان فيه وفاء بالجناية رجع إلى سيده، وإن كان لم يف بذلك أو لم يكن معه شيء، خُيّر سيده، فإما فدى خدمته بجميع ما جنى أو استهلك أو بما عجز عنه ماله من ذلك، أو يدفع إليهم خدمته، فيتحاصون فيها، فإن مات السيد والثلث يحمله، عتق وأتبعوه بما بقي لهم، وإن لم يترك غيره عتق ثلثه وأتبعوه بثلث ما بقي لهم، وخُير الورثة في فداء ما رق منه، أو إسلامه.
وما جنى على المدبر فعقله لسيده وليس كماله، ومهر المدبرة كمالها، وهي أحق به بعد موت السيد من ورثته، إذ به استحلت.
4141 - وإذا جنى مدبر الذمي - والمدبر ذمي - خير بين إسلامه عبداً، إذ لا أمنعه بيعه،(4/521)
كما لو أعتق عبده فلم يخرج من يده، كان له بيعه، وإن فدى المدبر، بقي على تدبيره.
ولو أسلم مدبره ثم جنى، خير في إسلام خدمته، أو فدائها، فيؤاجر له ولا يختدمه، لأن مدبر الذمي إذا أسلم، ألزمته فيه التدبير وأجرته عليه، وصار حكماً بين مسلم وذمي، ولا يعتق عليه.
ولو حلف ذمي بعتق رقيقه، فأسلم السيد ثم حنث، لم يعتقوا عليه. ولو حلف بعتقهم ومنهم مسلمون، فحنث، عتقوا عليه، إذ لو أعتق النصراني عبده المسلم، لزمه ذلك.
وإذا أسلم مدبر الذمي، ثم قتل أو جرح، كان عقله لسيده.
4142 - قال مالك - رحمه الله -: أحسن ما سمعت في جناية أم الولد أن يلزم السيد الأقل من أرش جنايتها، أو من قيمتها أمة يوم الحكم، زادت قيمتها أو نقصت، فذلك عوض عن إسلامها لَمّا لم يكن سبيل إلى رقها، وكذلك ما استهلكت، أو أفسدت بيدها أو دابتها، أو بحفرة حفرتها حيث لا ينبغي لها، أو اغتصبت أو اختلست، لأن هذا كله من العبيد جناية، وعلى السيد فيها الأقل - كما ذكرنا -، وإن كان ذلك أكثر من قيمتها [و] لم يتبع السيد بما ناف على قيمتها، ولا هي إن أعتقت، لأنها إن كانت أمة فأسلمت لم يكن عليها فضل الجناية، وإخراج قيمتها بأمر قاض أو بغير أمره سواء، ويحاص أهل جنايتها بذلك غرماء سيدها،(4/522)
وتقوّم أمةً بغير مالها، وقيل: تقوم بمالها ولا يقوم ولدها معها وإن ولدته بعد الجناية.
وأما إن أسلم السيد عبده أو أمته بجرح أصابه واحد منهما، فليس عليه أكثر من ذلك.
ومن قتلت أم ولده رجلاً خطأ، فلم ينظر فيه حتى قتلت آخر، فليدفع قيمتها تكون بين أوليائهما نصفين.
ولو حكم في الأول بالأقل، ثم جنت على ثان، وجب للثاني الأقل أيضاً ثانية يوم الحكم له، وكذلك يفديها كلما جنت، إلا أن يتأخر الحكم حتى يجتمع لها جنايات كل جناية مثل قيمتها فأكثر، فلا يغرم إلا قيمة واحدة، يتحاصون فيها بقدر جناية كل واحد كالعبد يجني فيفديه السيد، ثم يجني، فعليه أن يفتديه أيضاً أو يسلمه.
وإذا اجتمعت عليه جنايات قبل أن يفتديه، خُيّر السيد بين أن يدفع قيمة ما جنى لكل واحد منهم، أو يسلمه فيتحاصون فيه بقدر جنايتهم.
وأما المدبر يجني فتسلم خدمته، ثم يجني على آخر، فإنه يحاص الأول في الخدمة، ولا يخير سيده ههنا ولا من أسلم إليه، بخلاف العبد.(4/523)
4143 - وإن جنت أم الولد على رجل أقل من قيمتها، ثم جنت على آخر أكثر من قيمتها، فعلى سيدها قيمتها لهما، يقتسمانها بقدر جناية كل واحد منهما.
ولو جنت، ثم جنت على آخر، فقام أحدهما والآخر غائب، فله الأقل من أرشه أو مما ينوبه في المحاصة مع الغائب من قيمتها الآن، ثم إن قام الآخر، فله الأقل من أرش جرحه أو حصته من قيمتها يوم تقوم.
ولو جنت فلم يحكم عليه حتى جنى عليها ما أخذت له أرشاً، فعلى سيدها أن يخرج الأقل من أرش الجناية أو من قيمتها، معيبة يوم الحكم فيها مع الأرش الذي أخذه فيها. وكذلك العبد يجني ثم يُجنى عليه قبل أن يحكم فيه بشيء فسيده مخير بين إسلامه مع ما أخذ في أرشه، أو يفتديه، وهذا إذا كان ما أخذ في أرشه أقل من دية ما جنى، فإن كان فيه وفاء لذلك أو أكثر، فلا خيار للسيد، ويؤدي من ذلك للمجني [عليه] أرش جرحه، ويبقون لسيدهم.
4144 - وأم الولد إذا قتلت رجلاً عمداً فعفا أولياؤه على أخذ قيمتها من السيد، لم يلزم(4/524)
السيد ذلك إلا أن يشاء، فإن أبى، فلهم القتل أو العفو، كالحر يُعفى عنه في العمد على غرم الدية فيأبى.
قال غيره: يلزم السيد في أم الولد، غرم الأقل من قيمتها أو من الأرش، وليست كالحر، ولها حكم العبد.
وقال أشهب في الحر: تلزمه الدية وإن كره، ولا يقتل.
قال ابن القاسم: ولو عفا الولي في العمد على أخذ رقبتها لم يكن له ذلك وإن رضي السيد. وكذلك المدبر، وإن جنت ولم يحكم فيها حتى ماتت، فلا شيء على السيد، ولو تمت ومات السيد ولا مال له، فلا شيء على أم الولد. (1)
_________
(1) انظر: التقييد (6/320) .(4/525)
قال غيره: هذا إذا قاموا على السيد وهو حي، وأما إن مات السيد قبل قيامهم، فلا شيء عليه، وذلك عليها، لأنها هي الجانية، وما جني على أم الولد، فعقله لسيدها، وكذلك المدبرة.
4145 - ومن اغتصب حرة نفسها، فعليه صداقها، وإن اغتصب أمة نفسها أو أم ولد أو مكاتبة أو مدبرة، فلم ينقصها ذلك فلا شيء عليه إلا الحد، وإن نقصها غرم ما نقصها، وكان ذلك للسيد، إلا في المكاتبة فإن سيدها يأخذه، ويقاصها به في آخر نجومها، وإنما يقوم من ذكرنا، ممن فيه علقة رق في الجناية عليه قيمة عبد.
وإذا جنت أم الولد على سيدها، فلا شيء [له] عليها. وأما المعتق إلى أجل، فهو في جنايته على سيده كالمدبر. وقد ذكرناه.
4146 - وإذا ولدت أم الولد ولداً، من غير السيد بعدما صارت له أم ولد، فجنى ذلك الولد جناية أكثر من قيمته أو أقل، فإن السيد مخير بين أن يفديه ويبقى على حاله، أو يسلم خدمته فيختدم بالأرش، فإن أوفى رجع إلى سيده، وإن مات السيد قبل أن يوفي، عتق ورجع ببقية الأرش عليه، وهو بخلاف أمه فيما جنت، وللمجني عليه أن يأخذ خدمة الولد حتى يتم حقه، إلا أن يفتكه السيد بدية الجناية.(4/526)
4147 - وإذا جنت أم ولد الذمي، فله أن يفديها بالأقل، وله إسلامها رقاً للمجني عليه، إذ لا أمنعه من بيعها، ويحل وطؤها لمن أسلمت إليه أو لمبتاعها. وما استدانت أم الولد من تجارة أذن لها فيها، ففي ذمتها كالعبد.
4148 - قال مالك - رحمه الله -: ولا قود بين الأرقاء وبين الأحرار في الجراح كلها، فأما في النفس، فلا يقتل حر بعبد. قال ربيعة: إلا في حرابة.
قال مالك - رحمه الله -: ويقتل العبد بالحر إن شاء الولي [قتله] ، فإن استحياه خُيّر سيده فإما أسلمه أو فداه بدية الحر.
وإن قتل حر عبداً، فعليه قيمته ما بلغت وإن جاوزت الدية، وإن جرحه فعليه ما نقصه بعد برئه.
قال مالك - رحمه الله -: وموضحة العبد ومنقلته وجائته ومأمومته في ثمنه(4/527)
بمنزلتها في دية الحر. قال عبد العزيز: إذ [قد] لا ينقص ثمنه إذا برئ، فلا بد أن يكون فيهن ما ذكرنا.
4149 - وإذا جنت أمة، ثم وطئها السيد فحملت، فإن لم يعلم بالجناية، أدى الأقل من قيمتها يوم حملت أو الأرش، فإن لم يكن معه أتبع به، وإن علم بالجناية قبل الوطء، لزمه جميع الأرش وإن جاوز قيمتها، وإن لم يكن له مال أسلمت إلى المجني عليه، ولا شيء عليه في الولد، إذ لا تسلم أمة بولدها، وكذلك الابن يطأ من تركة أبيه أمة، فتحمل وعلى الأب دين يغترقها، فإن علم به وبادر الغرماء، لزمته لهم قيمتها، فإن لم يكن له مال بيعت لهم في دينهم، وإن لم يعلم بدين أبيه، أتبع بقميتها في عدمه، وكانت له أم ولد.
وقال غيره: هذا بخلاف وطء السيد، وعلى السيد إسلامها في عدمه إن لم يعلم(4/528)
بالجناية، إذ لو باعها ولم يعلم بالجناية فأعتقها المبتاع، لم يكن ذلك فوتاً يبطل حق المجني عليه. ولو باعها الورثة ولم يعلموا بالدين، فأعتقها المبتاع، لم يرد العتق، وإنما لهم الثمن إن وجدوه، وإلا أتبعوا به من أخذه.
4150 - والقصاص في المماليك بينهم، كهيئته بين الأحرار: نفس الأمة بنفس العبد وجرحها بجرحه، يخير سيد المجروح إن شاء استقاد، وإن شاء أخذ العقل، إلا أن يسلم الجاني سيده.
4151 - وإن جرح عبد عبداً، فقال سيد المجروح: لا أقتص، ولكن آخذ العبد الجارح، [فذلك له] إلا أن يفديه سيده بالأرش.
ولو قال سيد الجارح: إما أن تقتص أو تدع، فالقول قول سيد المجروح. وكذلك في القتل. (1)
وإذا جنى العبد جناية، فسيده مخير فيها بين إسلامه أو فدائه، فإن مات العبد قبل أن يختار السيد بطلت الجناية، وإن كان للعبد مال، كانت رقبته وماله في جنايته، يقال لسيده: ادفعه وماله، أو افده بعقل [جميع] جنايته، ولو كان العبد مدياناً، فأهل دينه أولى بماله، وجنايته في رقبته.
_________
(1) انظر: المدونة (6/366) .(4/529)
وللرجل أن يقتص من عبده لعبده، في النفس والجراح، ولا يكون ذلك إلا عند السلطان ببينة ثبتت. وكذلك في [قطع] السرقة، لا يقطع إلا عند السلطان. وإنما للسيد أن يقيم حد الخمر والزنا، فإن قطع يد عبده في سرقة دون الإمام، عوقب، إلا أن يعذر بجهل، ولا يعتق عليه إذا كانت له بينة، لأن بعض الصحابة قد قطع دون الإمام، وإنما زجر الناس عن ذلك، لئلا يدعي من مثّل بعبده أنه سرق.
وكذلك إن عدى رجل، فقتل قاتل وليه دون الإمام، فإن كان إليه العفو أو القتل، لم يلزمه إلا الأدب، لئلا يجترئ على الدماء.
4152 - وإذا جرح رجل عبداً أو قذفه، فأقر سيده أنه أعتقه العام الأول، لم يصدق على الجرح والقذف إلا ببينة، وكان له حكم العبد في ذلك الجرح، وكان ذلك للعبد، لأن السيد قد أقر أنه لا شيء له فيه.(4/530)
ولو قامت البينة على ما قاله السيد، كان له حكم الحر في ذلك كله أقر السيد أو جحد.
ولو جرحه السيد أو قذفه، ثم ثبت أنه أعتقه قبل ذلك، والسيد جاحد، فلا شيء عليه من ذلك، إلا أنه يحكم بعليه] بالعتق، وجعل ابن القاسم حكمه حكم الحر مع الأجنبيين، بخلاف السيد.
وقال غيره: إذا جحد عبده العتق، فأثبت ذلك ببينة، فله حكم الحر فيما مضى من حد أو جرح، له أو عليه، مع أجنبي أو مع السيد، ذلك سواء، وبه قال سحنون. وقد تقدمت هذه المسألة في كتاب العتق الثاني أتم مما هنا.
4153 - قال مالك - رحمه الله -: وإن اغتصب العبد حرة أو أمة نفسهما، ففي(4/531)
رقبة العبد للحرة صداق مثلها، وللأمة ما نقصها، إما فداه بذلك سيده أو أسلمه.
قال ربيعة في عبد افتض بكراً: فهو لها إلا أن يكون صداقها دون رقبته، فإنه يباع بغير أرضها، فيأخذ صداقها من ثمنه، وما فضل فلسيده.
قال مالك - رحمه الله -: ومن باع عبداً سارقاً دلس به، فسرق من المبتاع، فرده على سيده بالعيب، فذلك في ذمته إن عتق يوماً ما. وإن سرق من أجنبي مالاً، فقطع فيه فرده المبتاع، فهي جناية: إما أسلمه البائع أو فداه [بها] ، بخلاف سرقته من المبتاع، إذ لا يقطع فيها للإذن في الدخول، وسرقته من أجنبي يقطع فيها، وإنما يلزم المبتاع ما حدث من العيوب عنده من غير العيب الذي دلس له به البائع. (1)
4154 - قال ابن القاسم: وما سرق العبد من سيده فلا يتبع بشيء منه، عتق أو رق، قلّ ما سرق من ذلك أو كثر.
_________
(1) انظر: المدونة (16/384) ، ومواهب الجليل (5/159) .(4/532)
4155 - وإن أقر عبد أنه وطئ هذه الأمة، أو هذه المرأة غصباً، لم يصدق إلا أن تأتي وهي مستغيثة أو متعلقة به، وهي تدمي إن كانت بكراً، وإن كانت ثيباً أدركت وهي تستغيث متعلقة به، فإنه يصدق. وكذلك إن أقر أنه قطع أصبع صبي، فإن أدرك الصبي وهو متعلق به وأصبعه تدمي، صدق في مثل هذا، وخير سيده في أن يفديه أو يسلمه، ولا يتهم ههنا بفرار إلى شيء، وما لم يتبين هكذا لم يصدق، ولا يلزم ذمته إن عتق. وفي كتاب الديات ذكر الحر يقر بقتل خطأ.
4156 - وقضى عمر بن عبد العزيز في أمة أقرت أنها عضّت أصبع صبي وقد طمرت أصبعه فمات، أن يحلف ولاته خمسين يميناً لمات من عضها، وتكون الأمة لهم، وإلا فلا شيء لهم. (1)
قال ابن القاسم: وما أقر به العبد مما يلزمه في جسده: من قتل، أو قطع، أو غيره، فإنه يقبل إقراره. قال أبو الزناد: إذا أقر طائعاً غير مسترهب.
وما آل إلى غرم سيده، فلا يقبل فيه إقراره إلا ببينة على فعله، مثل إقراره بغصب أمة أو حرة نفسها، ولم يكن من تعلقها به ما وصفنا، أو بجرح، أو بقتل
_________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه (18299) ، (10/45) .(4/533)
خطأ، أو باختلاس مال، أو استهلاكه أو سرقة لا قطع فيها، ولا يعلم ذلك إلا بقوله، فلا يصدق ولا يتبع بشيء من ذلك إن عتق.
وإن أقر العبد أنه قتل حراً عمداً، فلوليه القصاص، فإن عفا على أن يستحييه لم يكن له ذلك، وله معاودة القتل إن كان ممن يظن أن ذلك له، كعفو الولي عن حر قتل وليه عمداً على أخذ الدية، فيأبى القاتل أداءها، فللولي أن يقتله.
4155 - وإن أقر بسرقة، فقال المسروق منه: أنا آخذ السرقة وأعفو عن قطع يده ولا أرفعه إلى الإمام، لم يكن له شيء من ذلك.
4156 - قال مالك - رحمه الله -: أحسن ما سمعت في جناية المكاتب، أنه إن أدى جميع العقل حالاً وإن جاوز قيمة رقبته، أو كان ديناراً أو أكثر، بقي على كتابته، وإلا عُجِّز وخُير سيده في أن يسلمه رقاً أو يفتديه بالأرش، وعجزه عن الأرش قبل القضاء عليه به وبعده سواء، ولو قوي على أداء ما حلّ من الكتابة دون الأرش حالاً، فقد عجز ولا ينجم عليه الأرش بخلاف العاقلة. قيل: فإن عجز المكاتب عن أداء العقل وأداه عنه سيده، هل يبقى علة كتابته؟ قال: إذا لم يقو على [أداء] الجناية، رق مكانه، وخير سيده بين أن يدفعه أو يفتديه. وكذلك إن جنى على سيده فلم يعجل له الأرش، عجّزه.(4/534)
وللمكاتب دفع أم ولده في جنايته إن خاف العجز، كما لو بيعها في عجزه عن الكتابة.
4157 - وإذا جنى مكاتب جناية عمداً، فصالحه منها أولياء الجناية على مائة دينار فلم يؤدها حتى عجز، فإن ثبتت خير في إسلامه أو افتدائه بالأقل من المائة، أو قيمة الأرش.
وإذا أقر مكاتب بقتل عمداً أو خطأ، فصالح منه على مال، لم يجز، ولهم في العمد قتله بإقراره، فإن لم يقتصوا لم يكن لهم في مال المكاتب شيء، ولا في رقبته إن عجز.
وإن أقر مكاتب بقتل خطأ، لم يلزمه شيء، عجز أو عتق. ولو أقر بدين لزم ذمته، عتق أو رق.
وإن قتل المكاتب رجلاً له وليان عمداً، فعفا أحدهما، فإن أدى المكاتب إلى الآخر نصف الدية، وإلا عُجّز وخُيّر سيده في إسلام نصفه، أو افتدائه بنصف الدية، ولا شيء للعافي، أدى نصف الدية [المكاتب] أو السيد بعد عجزه، إلا أن يزعم أنه عفا لأخذ الدية ويستدل على ذلك، وإلا لم يقبل قوله.
وإذا جنى المكاتب ثم أدى الكتابة وعتق قبل القيام عليه، فلا عتق له إلا أن يؤدي.(4/535)
الجناية حالة للقائم بها، وإلا رق وخير سيده، فإما فداه، أو أسلمه ورد معه ما اقتضى من نجم بعد الجناية، ولا يحبس ذلك إذا أسلمه.
4160 - وإذا مات مكاتب وترك مالاً، وعليه دين وجناية خطأ، فأهل الدين أولى بماله، لأن الجناية في رقبته والدين في ماله، فإن فضل من ماله شيء، كان لأهل الجناية حتى يستوفوا الجناية. وإن مات ولا دين عليه فأهل الجناية أولى بماله من سيده، إلا أن يدفع إليهم السيد الأرش، والعبد مثله، وإن مات ولم يترك مالاً، بطلت الجناية والدين.
4161 - وإن كان على المكاتب دين [وجناية] ، ومعه ولد حدثوا في الكتابة، لم يلزم الولد دينه، وتلزمه الجناية في حياة الأب إن لم يقدر عليها الأب، فإن لم يؤدها الابن عجّز.
قال غيره: وكذلك الدين إن لم يؤده الولد عجز، إذ لا تؤدى كتابة قبل دين، قالا: فإن عجز أسلم السيد الجاني وحده أو فداه، والدين باق في ذمته.
قال غيره: ولو أدى الولد الدين أو الجناية وعتقا، لم يرجع على أبيه بشيء.(4/536)
قال ابن القاسم: ولو مات الأب قبل القيام عليه ولم يترك مالاً، بطلت الجناية والدين، ولم يلزم ولده من ذلك شيء، وإنما كان للأب معونة مال الولد في خوف العجز في حياته، فإذا مات عديماً لم يلزم ولده من دينه شيء ولا من جنايته.
ولو قام ولي الجناية في حياة الأب ولا مال له، فاختار الولد أداءها، ويتمادون على كتابتهم، فإن لم يؤدوها حتى مات الأب لزمتهم.
4158 - وإذا مات مكاتب وعليه دين، وترك عبداً قد جنى قبل موته أو بعده، فولي الجناية أحق بالعبد، إلا أن يفتكه غرماء المكاتب بالأرش، فذلك لهم، وكذلك عبد الحر المديان يجني جناية.
ومن جنى ما لا تحمله العاقلة وعليه دين وليس له غلا العبد، ضرب فيه أهل دينه وأهل جنايته، لأن ذلك كله لزم ذمته.
4159 - ومن قتل مكاتبه عمداً أو خطأ، ومعه ولد في الكتابة، فليقاصوا السيد بقيمته في آخر نجومه ويسعون فيما بقي، وإن أوفى ذلك بالكتابة عتقوا. وإن كان فضل أخذوه بينهم بالميراث، كانوا ممن كاتب عليهم أو حدثوا في الكتابة.
وكذلك إن قتله أجنبي فأخذ السيد قيمته، فليقاص ولده بها كما وصفنا. ولو شجه السيد موضحة، فليقاصه في آخر نجومه بنصف عشر قيمته،(4/537)
مكاتباً على حاله في أدائه وقوته. وكذلك إن جرحه فليحسب له ذلك في آخر كتابته.
وكذلك المكاتبة تلد ولداً في كتابتها فيقتله السيد، فإنه يغرم قيمته، فإن كان فيه وفاء بالكتابة، كان قصاصاً، وإن كان فيه فضل عن الكتابة، أخذت الأم من ذلك الفضل قدر مورثها.
4162 - وكذلك إن قتل المكاتب ومعه في الكتابة أبواه وولده لعجل السيد قيمته، فيحسب من آخر النجوم، فإن أوفت بالكتابة، عتقوا فيها ولا تراجع بينهم، وإن كان في القيمة فضل، فهو لورثته الذين معه في الكتابة ميراثاً. وكذلك لو كان السيد هو الجاني.
وليس لغرماء المكاتب أو العبد في قيمتهما إذا قُتلا شيء، قتلهما أجنبي أو السيد، ولا في شيء من قبل رقبتيهما من نفس أو جرح، كما لا يدخلون في ثمن العبد إن بيع، والدين [باق] في ذمتهما، وعلى قاتل المكاتب، قيمته عبداً مكاتباً في قوة مثله على الأداء وصفته، ولا ينظر إلى قلة ما بقي عليه وكثرته، حتى لو بقي عليه دينار فقط، وآخر لم يؤد شيئاً، فقتلهما رجل وكانت قوتهما على الأداء سواء [وقيمة رقابهما سواء] ، فقيمتهما متفقة، وإن تفاضلت قيم الرقاب خاصة وقوة الأداء واحدة، فقيمتهما مختلفة، وغنما يقوم على قدر قوته على الأداء(4/538)
مع قيمة رقبته. وفي كتاب المكاتب ذكر من وضع عن مكاتبه ما عليه في المرض.
4163 - ومن كاتب عبده وأمته - وهما زوجان في كتابة - فحدث بينهما ولد، ثم جنى على الولد ما قيمته أكثر من الكتابة، فللسيد تعجيل الكتابة من ذلك ويعتقون، وما فضل فللولد ولا يرجع على أبويه بما عتقا به.
وأما ما اكتسب الابن فهو له، وعليه أن يسعى معهما ويؤدي في الكتابة على قدر قوته وأداء مثله، وليس للأبوين أن يأخذا ماله إلا أن يخافا العجز، فلهما أن يؤديا الكتابة من مال الولد. وكذلك إن كان للأبوين مال وخاف الولد العجز، فإن الكتابة تؤدى من مال الأبوين، وليس للأبوين أن يعجزا أنفسهما إذا كان لهما مال ظاهر، وكذلك الولد، ولا يرجع بعضهم على بعض بشيء مما أدى عن صاحبه. وفي كتاب المكاتب إيعاب هذا.
4164 - وإذا مات مكاتب وترك ولداً لا سعاية فيهم رقوا مكانهم، إلا أن يكون فيما ترك ما يؤدي عنهم نجومهم، إلا أن يبلغوا السعي فيفعل ذلك بهم، أو يترك ولداً ممن يسعى فيدفع المال إليهم، فإن لم يقووا ومعهم أم ولد للأب، دفع إليها إن لم يكن فيه وفاء ولها أمانة وقوة على السعي، فإن لم يكن فيها ذلك وكان في المال مع(4/539)
ثمنها إن بيعت كفاف الكتابة، بيعت وأديت الكتابة وعتق الولد. أو يكون في ثمنها مع المال ما يؤدي إلى بلوغ الولد السعي، فإن لم يكن ذلك رقوا أجمعون مكانهم.
قال مالك - رحمه الله -: لا اختلاف عندنا أن ما جني على المكاتب كجناية عبد، وأن ذلك يتعجله السيد، ويحسب عليه من آخر النجوم، لحجته أن يعجز العبد فيرجع إليه معضوباً.
4165 - وإذا جنى عبد المكاتب، فله أن يسلمه أو يفديه على وجه النظر، والمكاتب إذا قتله عبده فللسيد أن يقتص منه في النفس والجراح بأمر الإمام، كعبدين له، إلا أن يكون مع المكاتب ولد في كتابته، فيصير له مثل ما للسيد من الحجة في النفع بماله، فإن اجتمع هو وهم على القصاص، قتلوا، ومن أبى ذلك من سيد أو ولد فلا قتل للثاني.
ثم إن صار العبد للولد بالأداء أو للسيد بالعجز، لم يكن لمن كان عفا عنه منهم أن يقتله إن صار إليه. وإن صار لمن كان أراد القتل من ولد أو سيد، فله أن يقتل.(4/540)
وإذا قتل المكاتب رجلاً عمداً، فعفا الأولياء على استرقاقه، بطل القتل وعادت كالخطأ، وقيل للمكاتب: أد الدية حالة، فإن عجز عن ذلك خير السيد بين إسلامه أو افتدائه [بالدية] ، وكذلك العبد إذا قتل رجلاً عمداً، فعفا عنه الأولياء على أن يكون لهم، فسيده يخير كما ذكرنا.
4166 - وإذا جنى مكاتب على عبد لسيده، أو على مكاتب آخر لسيده وهو معه في كتابة أو ليس معه في الكتابة، فعليه تعجيل قيمته للسيد، فإن عجز رجع رقيقاً وسقط ذلك عنه، وكذلك ما استهلك له، لأنه أحرز ماله، بخلاف العبد يجني على السيد، لأن العبد لو استهلك مالاً لسيده، لم يلزمه غرمه.
4167 - ومن كاتب عبدين له في كتابة، فقتل أحدهما الآخر عمداً أو خطأ - وهما أخوان أو أجنبيان - فللسيد أخذ القيمة في الخطأ، ويُخيّر في العمد بين أن يقتص أو يعفو على أخذ القيمة، فإن أخذها في عمد أو خطأ وفيها وفاء للكتابة، عتق بها الجاني وأتبعه السيد بحصة ما عتق به منها في عمد أو خطأ، كان أخاً أو أجنبياً، ولا أتهم الجاني أن يكون أراد تعجيل العتق بالقيمة التي أدى، إذا كان على أدائها قادراً قبل العتق، ويعتق بها.(4/541)
فأما إن لم يكن للجاني مال، أو كان معه أقل من القيمة وللمقتول مال، فلا أعتقه فيما ترك المقتول إن قتله عمداً، إذا استحيى، للتهمة على تعجيل العتق ههنا ويكون عليه قيمة المقتول، فإن كان كفاف الكتابة، عتق وأتبعه السيد بما ينوبه منها وإلا عجز.
وإن أداها ولم تف بالكتابة، أخذها السيد وحسبها له في آخر الكتابة، وسعى هذا القاتل فيما بقي، فإن أدى وعتق، رجع عليه السيد بما كان حسبه له من القيمة في حصته من الكتابة.
وإن كان القتل خطأ عتق القاتل في تركه المقتول، كان أخاً أو أجنبياً، لأنه لا تهمة عليه، إلا أن السيد يرجع على الأجنبي بما أدى عنه من المال الذي تركه المكاتب وبقيمة المقتول أيضاً، ولا يرجع السيد على الأخ بما عتق من التركة، لأن أخاه لم [يكن] يرجع عليه لو أدى عنه، ويرجع عليه بقيمة أخيه، لأن الأخ لا يرث من القيمة.
4168 - والمكاتب إذا قتله أجنبي فأدى قيمته، عتق فيها من كان في الكتابة، ولا يرجع عليه بشيء إذا كان ممن لا يجوز له ملكه.
4169 - وإذا جنى أحد المكاتبين في كتابة، فعجز عن الغرم، فإن لم يؤد من معه في الكتابة الأرش حالاً عجزا وإن لم يحل شيء من نجومها، وخير السيد في الجاني وحده،(4/542)
ولو أدى الذي معه الأرش ثم عتقه رجع به عليه إلا أن يكون ممن يعتق عليه، [فلا يرجع عليه] كأدائه عنه الكتابة.
4170 - وإذا قتلت مكاتبة ولدها عمداً، لم تقتل به، ولا يقاد ن الأبوين إلا في مثل أن يضجعه فيذبحه.
وليس للمكاتب أن يعفو عن قات لعبده عمداً أو خطأ، على غير شيء إن منعه سيده، لأنه معروف صنعه، لأن للسيد أن يمنعه من هبة ماله ومن صدقته، ويخير سيد الجاني بين فدائه، أو إسلامه رقاً للمكاتب. ولو طلب هو أن يقتص وعفا سيده على أخذ قيمة العبد، فذلك للسيد دونه إلا أن يعجل المكاتب كتابته، فيتم له ما يشاء من عفو أو قصاص.
4171 - وإذا قتل السيد مكاتباً لمكاتبه أو عبداً، غرم له قيمته معجلة ولم يقاصه بها في كتابته، لأنه جنى على مال له لا على نفسه، فإن كان للمكاتب الأسفل ولد في كتابته فللمكاتب الأعلى تعجيل تلك القيمة من سيده ويأخذها قصاصاً من آخر كتابة المقتول، ويبقى ولد المقتول فيما بقي، وإن كانت كفافاً عتقوا، وإن كان فضلاً ورثوه.(4/543)
4178 - ومن عجل عتق عبده أو عتق مكاتبه، وكتب عليهما مالاً يدفعانه إليه وثبتت حريتهما، ثم ماتا أو أفلسا، لم يدخل السيد مع الغرماء، ولا يكون له إلا ما فضل بعد الدين.
وليس للسيد أن يفلس مكاتبه إلا عند محل النجم، فينظر في حال العبد في العجز والأداء.
4179 - وإذا ولدت المكاتبة بعد أن جنت ثم ماتت، فلا شيء على الولد. وكذلك الأمة إذا ولدت بعد الجناية ثم ماتت، فلا شيء على الولد ولا على السيد، ولو لم تمت لم تكن الجناية إلا في رقبتها، ويكون ولدها في جنايتها، ولدتهم قبل الجناية أو بعدها. وبالله التوفيق.
* * *(4/544)
(كتاب الجراح) (1)
4180 - قال مالك - رحمه الله -: شبه العمد باطل لا أعرفه، وإنما هو عمد أو خطأ،
_________
(1) انظر: جامع الأمهات لابن الحاجب (ص488) ، والتقييد (6/332) ، والمقدمات لابن رشد (286) .(4/545)
ولا تغلظ الدية [إلا] في مثل ما فعله المدلجي بابنه، فإن الأب إذا قتل ابنه بحديدة حذفه بها أو بغيرها، مما يقاد من غير الولد فيه، فإن الأب يدرأ عنه القود وتغلظ عليه الدية وتكون في ماله حالة، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة.
[قال ابن القاسم:] [وهي التي] في بطونها أولادها، لا تبالي من أي الأسنان كانت، ولا يرث الأب في هذا من مال الولد ولا من ديته شيئاً، لأنه من(4/546)
العمد لا من الخطأ. ولو كان من الخطأ لحملته العاقلة وورث من ماله لا من ديته، والأم في ذلك بمنزلة الأب، وتغلظ الدية على أب الأب كالأب، وكذلك الأب يجرح ولده أو يقطع شيئاً من أعضائه، أو كحال ما صنع المدلجي، فإن الدية تغلظ فيه وتكون في مال الأب حالة، كان أقل من ثلث الدية أو أكثر، ولا تحمله العاقلة.
قال مالك: ولو أضجع رجل ابنه فذبحه ذبحاً، أو شق بطنه مما يعلم أنه تعمد القتل، أو صنعت ذلك والدة بولدها، ففيه القود، إلا أن يعفو من له العفو أو القيام، وقد قال غيره: إنه لا يقاد منه في هذا أيضاً.
ولا تغلظ الدية في أخ، [ولا زوجة] ، ولا زوج، ولا واحد من القرابات.
ولا تغلظ الدية في الشهر الحرام، ولا على من قتل خطأ في الحرم.
وتغلظ الدية على أهل الذهب والورق، فينظر كم قيمة أسنان دية المغلظة، وكم قيمة أسنان دية الخطأ، وهي: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون(4/547)
ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، فينظر كم زادت قيمة المغلظة على قيمة أسنان دية الخطأ، ثم ينظر كم ذلك الزائد من قيمة أسنان دية الخطأ، فإن كان قدر ربعها، كان له دية وربع. وكذلك ما قل أو كثر من الأجزاء، ولم يمض في هذا توقيت، ولكن ينظر فيه في كل زمان، فيزاد في الدية بقدر ما بين القيمتين.
4181 - ومن تعمد ضرب رجل بلطمة، أو بلكزة، أو ببندقة، أو بحجر، أو بقضيب، [أو بعصا، أو بغير ذلك] ، ففي ذلك كله القود إن مات من ذلك.
قال مالك - رحمه الله -: ومن العمد ما لا قود فيه، كالمتصارعين، أو يتراميان على وجه اللعب، [أو يأخذ برجله على وجه اللعب] فيموت من ذلك، ففي هذا كله دية الخطأ على العاقلة أخماساً.
ولو تعمد هذا على وجه القتال فصرعه فمات، أو أخذ برجله فسقط فمات، كان [له] في ذلك القصاص.
4182 - وفي الأنف الدية كاملة، قُطع من المارن أو من أصله كالحشفة، فيها الدية [كاملة] ، كما في استئصال الذكر.(4/548)
وإذا قطع بعض الحشفة، فمن الحشفة يقاس لا من أصل الذكر، فما نقص منها، ففيه بحسابه من الدية.
وكذلك ما قطع من الأنف، إنما يقاس من المارن لا من أصله، ألا ترى أن اليد إذا قطعت من المنكب تم عقلها، وإن قطع منها أنملة، فإنما فيها بحساب الأصبع.
مالك: ومن خرم أنف رجل أو كسره خطأ، فبرئ على غير عثل، فلا شيء عليه، وإن برئ على عثل ففيه الاجتهاد.
وقال سحنون: ليس فيه اجتهاد، لأن الأنف قد جاء فيه فرض(4/549)
مسمى، فإذا برئ على عثل، كان فيه بحساب ما نقص من ديته، لأن العثل نقص.
4183 - قال مالك - رحمه الله -: وكل نافذة في عضو من الأعضاء إذا برئ ذلك وعاد لهيئته على غير عثل فلا شيء فيه. وإن برئ على عثل ففيه الاجتهاد، وليس العمل عند مالك على ما قيل: إن في كل نافذة في عضو ثلث دية ذلك العضو، وليس كالموضحة تبرأ على غير عثل، وينبت الشعر في موضع الشجة فيكون فيها ديتها، وذلك نصف عشر الدية، لأن الموضحة فيها دية مسماة عن النبي ÷، وليس في خرم الأنف عقل مسمى.
وفي موضحة الخدّ، عقل الموضحة.(4/550)
وليس الأنف واللحي الأسفل بمن الرأس] في جراحهما، لأنهما عظمان منفردان، وإنما في موضحة ذلك الاجتهاد.
وليس فيما سوى الرأس من الجسد إذا أوضح عن العظم، عقل الموضحة.
وموضحة الوجه والرأس إذا برئت على شين، زيد في عقلها بقدر الشين، ولم يأخذ مالك بقول سليمان بن يسار في موضحة الوجه أنه يزاد لشينها ما بينها وبين نصف عقلها، وعظم الرأس من حيث ما أصابه فأوضحه، فهو موضحة، وكل ناحية منه سواء، وحد ذلك منتهى الجمجمة، فإن أصاب أسفل من الجمجمة، فذلك من العنق لا موضحة فيه، والموضحة والمنقلة لا تكون إلا في الوجه والرأس.
وحد الموضحة [ما أفضى] إلى العظم، ولو قدر إبرة.
وحد المنقلة ما أطار فراش العظم وإن صغر. (1)
ولا تكون المأمومة إلا في الرأس، وهي ما أفضى إلى الدماغ ولو بمدخل إبرة.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/316) ، والتاج والإكليل (6/246) .(4/551)
وحدّ الجائفة: ما أفضى إلى الجوف ولو بمدخل إبرة.
وإذا نفذت الجائفة [فقد اختلف فيها قول مالك، وأحب إلي أن يكون فيها ثلثا الدية] .
4184 - وإذا قطع اللسان من أصله، ففيه الدية كاملة، وكذلك إن قطع منه ما منع الكلام، وإن لم يمنع من الكلام شيئاً، ففيه الاجتهاد بقدر شينه إن شانه، وإنما الدية في الكلام لا في اللسان، بمنزلة الأذنين، إنما الدية في السمع لا في الأذنين.
وإن قطع من لسانه ما ينقص من حروفه، فعليه بقدر ذلك، ولا يحسب فيما نقص الكلام على عدد الحروف، فرب حرف أثقل من حرف في المنطق، لكن بالاجتهاد في قدر ما نقص من كلامه. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/310) ، والتاج والإكليل (6/262) .(4/552)
وفي اللسان القود إذا كان يستطاع القود منه، ولم يكن متلفاً، مثل: الفخذ والمنقلة والمأمومة وشبه ذلك، وإن كان متلفاً لم يقد منه.
ومن قطعت حشفته فأخذ الدية، ثم قطع عسيبه، ففيه الاجتهاد، وينتظر بالمقطوع حشفته حتى يبرأ، لأن مالكاً، قال: لا يقاد من جراح العمد ولا يعقل الخطأ إلا بعد البرء.
وإن طلب المقطوع الحشفة تعجيل فرض الدية، إذ لا بد [له] منها، مات أو عاش لم يكن له ذلك، ولعل أنثييه أو غيرهما تذهبان من ذلك. وكذلك إن أوضحه فأراد تعجيل دية الموضحة، فلا يعجل له شيء، إذ لعله يموت فتكون فيه القسامة. وكذلك إن ضرب مأمومة خطأ، فالعاقلة تحملها مات أو عاش، ولكن لا يعجل له شيء حتى يبرأ، لأنه لو مات منها لم تجب الدية إلا بقسامة، فإن أبى ورثته أن يقسموا، كان على العاقلة ثلث [الدية] لمأمومته، وإنما في هذا الإتباع.
قال: وقد سمعت أهل الأندلس سألوا مالكاً عن اللسان إذا قطع، وزعموا أنه ينبت، فرأيت مالكاً يصغي إلى أنه لا يعجل له حتى ينظر إلى ما يصير [إليه] ، إذا كان القطع قد منعه الكلام. قلت: في الدية أو في القود؟ قال: في الدية.(4/553)
4185 - قال مالك - رحمه الله -: في الصلب الدية. (1)
قال ابن القاسم: وذلك إذا أقعد عن القيام، مثل اليد إذا شلت، وإن مشى وقد برئ على حُدب أو عثل، ففيه الاجتهاد، والصلب إذا كسر خطأ فبرئ على هيئته، فلا شيء فيه، وكذلك كل كسر خطأ يبرا ويعود لهيئته، فلا شيء فيه، إلا أن يكون عمداً يستطاع فيه القصاص، فإنه يقتص منه وإن كان عظماً، إلا في المأمومة والجائفة والمنقلة وما لا يستطاع أن يقتص منه، فليس في عمد ذلك إلا الدية مع الأدب.
قال مالك: وفي عظام الجسد القود، مثل الهاشمة، إلا ما كان مخوفاً مثل الفخذ وشبهه، فلا قود فيه.
قال ابن القاسم: وإن كانت الهاشمة في الرأس، فلا قود فيها، لأني لا أجد هاشمة تكون في الرأس إلا كانت منقلة.
ولا قصاص في الصلب والفخذ، و [لا في] عظام العنق.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/312) ، والتمهيد (17/340) ، وشرح الزرقاني (4/217) .(4/554)
وفي كسر أحد الزندين - وهما قصبتا اليد - القصاص.
وإن كان خطأ، فلا شيء فيه إلا أن يبرأ على عثل، فيكون فيه الاجتهاد، وفي كسر الذراعين والعضدين والساقين والقدمين والكفين والأصابع، القصاص.
وفي كسر الضلع، الاجتهاد إذا برئ على عثل، وإن برئ على غير عثل فلا شيء فيه، وإن كسر عمداً، فهو كعظام الصدر إن كان مخوفاً كالفخذ، فلا قود فيه، وإن كان مثل اليد والساق، ففيه القصاص.
وفي الترقوة إذا كسرت عمداً، القصاص، لأن أمرها يسير لا يخاف منه.
وإذا كسرت خطأ، ففيها الاجتهاد إذا برئت على عثل، وإذا برئت على غير عثل فلا شيء فيها.
وكذلك اليد والرجل وجميع عظام الجسد، إذا كسرت خطأ فبرئت على غير عثل، فلا شيء فيها.
وإذا قطعت [اليد] من أصل الأصابع أو المنكب، فقد تم عقلها، وذلك على العاقلة في الخطأ، وإن كان عمداً، ففي ذلك القصاص، ويقتص في اليد من المنكب.
والأنف إذا كسر عمداً، اقتص منه، فإن برئ الجاني على مثل حال المجني عليه أو أكثر، فقد مضى، وإن كان في الأول عثل وبرئ المقتص منه على غير عثل أو على(4/555)
عثل دون عثل الأول، اجتهد للأول من الحكومة على قدر ما زاد [في] شينه، وهذا مثل اليد، وأما الباضعة والملطا والدامية والسمحاق، وشبه ذلك مما يستطاع منه القود، ففيه القود في العمد مع الأدب.
وفي كل عمد القصاص مع الأدب، وإن كان ذلك خطأ، فلا شيء فيه إذا برئ على غير عثل، وإن برئ على عثل، ففيه الاجتهاد.
4186 - وفي العقل الدية.
وليس في الأذنين إذا اصطُلمتا أو ضربتا فتشدخت، إلا الاجتهاد.
وفي الأذنين [الدية] إذا ذهب السمع، اصطلمتا أو بقيتا.
ومن طرحت سنه عمداً فردها فثبتت، فله القود فيها، والأذن كذلك. ولو رد السن في الخطأ فثبتت، لكان له العقل.(4/556)
وفي كل سن خمس من الإبل، والأضراس والأسنان سواء. وفي السن السوداء خمس من الإبل كالصحيحة، إلا أن تكون تضطرب اضطراباً شديداً، فليس فيها إلا الاجتهاد. وإن كانت سن أو ضرس مأكولة قد ذهب بعضها، فقلعها رجل عمداً أو خطأ، ففيها على حساب ما بقي، لأنها غير تامة، وليس في جفون العين وأشفارها إلا الاجتهاد.
وفي حلق الرأس إذا لم ينبت، الاجتهاد. وكذلك اللحية.
وليس في [عمد] ذلك قصاص. وكذلك الحاجبان إذا لم ينبتا.
وفي الظفر القصاص، إلا أن يقلع خطأ، فلا شيء فيه إذا برئ وعاد لهيئته. وإن برئ على عثل، ففيه الاجتهاد.
4187 - ومن ضرب عين رجل خطأ، فانخسفت، أو ابيضت، أو ذهب بصرها - وهي قائمة - ففيها ديتها، وإن كان ذلك عمداً فانخسفت العين، خُسفت عينه. وإن كان يستطاع القود من البياض في العين القائمة، أقيد وإلا فالعقل.(4/557)
ومن ضرب عين رجل فنزل فيها الماء وابيضت، فأخذ فيها الدية ثم برئت، فليرد الدية.
قال: وينتظر بالعين سنة، فإن مضت السنة والعين منخسفة لم تبرأ، فلينتظر برؤها، ولا يكون قود ولا دية إلا بعد البرء وإن ضربت فسال دمعها، انتظرها سنة، فإن لم يرق دمعها، ففيها حكومة.
ومن ضرب يد رجل أو رجله فشلت، فقد تم عقلها، وإن كانت الضربة عمداً، فإن الضارب يضرب مثله قصاصاً، فإن شلت يده وإلا كان العقل في ماله دون العاقلة.
4188 - ولا يُمكّن بالذي] له القود في الجراح أن يقتص لنفسه، ولكن يقتص له من يعرق القصاص، وأما في القتل، فإنه يدفع إلى ولي المقتول [فيقتله] ، وينهى عن العبث عليه.
وفي شلل الأصابع ديتها كاملة، ثم إن قطعت هذه الأصابع عمداً بعد ذلك أو خطأ، ففيها حكومة، ولا قود في عمدها.
وفي الأنثيين إذا أخرجهما أو رضهما، الدية كاملة. قيل: فإن أخرجهما(4/558)
أو رضهما عمداً؟ قال: قال مالك - رحمه الله -: في الأنثيين القصاص، ولا أدري ما قول مالك في الرض، إلا أني أخاف أن يكون رضهما متلفاً، فلا قود فيها. وكذلك كل ما علم أنه متلف، فلا قود فيه.
وإن قطعت الأنثيان مع الذكر، ففي ذلك ديتان، وإن قطعتا قبل الذكر أو بعده ففيهما الدية، وإن قطع الذكر قبلهما أو بعدهما، ففيه الدية.
ومن لا ذكر له ففي أنثييه الدية، [وإن قطع الذكر قبلهما أو بعدهما، ففيه الدية، ومن لا ذكر له، ففي أنثييه الدية] ، ومن لا أنثيين له، ففي ذكره الدية.
والبيضتان عند مالك سواء، اليمنى واليسرى في كل واحدة منهما نصف الدية، [وكذلك الشفتان، في كل واحدة منهما نصف الدية] : كانت السفلى أو العليا. ولم يأخذ مالك بقول ابن المسيب: إن في السفلى ثلثي الدية.
وأليتا الرجل والمرأة فيهما حكومة.
وليس في ثدي الرجل إلا الاجتهاد. وأما ثديا المرأة، ففيهما الدية، وإن قطع حلمتيها، فإن كان قد أبطل مخرج اللبن أو أفسده، ففيه الدية.
وإن قطع ثديا الصغيرة، فإن استُيقن أنه قد أبطلهما فلا يعودان أبداً، ففيهما(4/559)
الدية، وإن شك في ذلك وضعت الدية واستؤني بها كبر الصبية، فإن نبتتا فلا عقل لهما، وإن لم تنبتا أو انتظرت، فيبست أو ماتت قبل أن يعلم بذلك، ففيهما الدية.
وفي المفصلين من الإبهام، عقل الأصبع تام. وفي كل مفصل، نصف عقل الأصبع.
ومن قطعت إبهامه فأخذ دية الأصبع، ثم قطع رجل بعد ذلك العقد الذي بقي من افبهام في الكف، فليس فيه إلا حكومة. وإذا لم يكن في الكف أصبع، فعلى من قطعها أو بعضها حكومة عدل، ومن قطعت له أصبعان بما يليهما من الكف، ففيهما خمسا دية الكف، ولا حكومة له مع ذلك.
4189 - قال مالك - رحمه الله -: ولا يؤخذ في الدية إلا الإبل والدنانير والدراهم، وتؤخذ في ثلاث سنين، كانت إبلاً أو ذهباً أو ورقاً. وثلث الدية في سنة. وإن كان أقل من ثلث، ففي مال الجاني حال.
وثلثا الدية في سنتين، وأما نصفها، فقال فيه مالك مرة: تؤخذ في سنتين، وقال [أيضاً] : يجتهد فيه الإمام إن رأى أن يجعله في سنتين، أو في سنة ونصف فعل.(4/560)
[قال] ابن القاسم: [في] سنتين أحب إلي، لما جاء أن الدية تقطع في ثلاث سنين أو في أربع.
قال: وثلاثة أرباعها في ثلاث سنين.
قال: وفي خمسة أسداسها يجتهد الإمام في السدس الباقي.
4190 - قال مالك - رحمه الله - في كتاب الديات: إنما قوم عمر الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق إثنا عشر ألف درهم، حين صارت أموالهم ذهباً وورقاً، وترك دية الإبل على أهلها على حالها. (1)
_________
(1) انظر: الموطأ لمالك (2/850) .(4/561)
قال مالك - رحمه الله -: فأهل الذهب أهل الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق، وأهل الإبل أهل البادية والعمود.
ولا يقبل من أهل صنف من ذلك، صنف من غيره. ولا تقبل في الدية بقر ولا غنم ولا عروض.
4191 - والمرأة تعاقل لرجل في الجراح إلى ثلث الدية لا تستكمله، فإذا بلغت ذلك رجعت إلى عقل نفسها، وتفسير ذلك أن لها في ثلاثة أصابع ونصف أنملة، أحداً وثلاثين بعيراً وثلثي بعير، وهي والرجل في هذا سواء، فإن أصيب منها ثلاثة أصابع وأنملة رجعت إلى عقلها، فكان لها في ذلك ستة عشر بعيراً وثلثا بعير. (1)
وكذلك مأموتها وجائفتها إنما لها في كل واحدة منها ستة عشر بعيراً وثلثا بعير، وإن قطع لها أصبع، ففيه عشر من الإبل، وكذلك في ثان وثالث، ولو قطع لها ثلاثة أصابع معاً من كف واحدة، فلها ثلاثون من الإبل، ثم إن قطع لها من تلك اليد الأصبعان الباقيان في مرة أو مرتين، فإن في كل أصبع خمساً من الإبل.
ولو قطع من يدها ثلاثة أصابع، فأخذت ثلاثين بعيراً، ثم قطع لها من اليد الأخرى أصبع أو أصبعان أو ثلاثة، في مرة أو مرتين، لابتدأ فيها الحكم
_________
(1) انظر: الموطأ (2/854) ، وشرح الزرقاني (4/222) ، والتاج والإكليل (6/264) ، والفواكه الدواني (2/190) .(4/562)
كالأول، فيكون لها في الثلاثة الأصابع ثلاثون بعيراً. وإذا قطع لها أصبعان من كل يد في ضربة [واحدة] ، كان لها عشرون بعيراً، ثم إن قطع لها من إحدى اليدين أصبع، أخذت عشراً من الإبل، فإن قطع من اليد الأخرى أصبع، ففيها عشر. وكذلك لو قطع هذان الصبعان من اليدين، معاً ففيهما عشرون من الإبل، فما زاد بعد ثلاثة أصابع من كل كف، ففي كل أصبع خمس خمس، كان القطع معاً أو متفرقاً.
وإن قطع لها ثلاثة أصابع من يد، وأصبع من الأخرى في ضربة، أخذت خمساً خمساً، ثم إن قطع من اليد المقطوع منها الثلاثة [أصابع، أصبع] رابع، ومن اليد الأخرى أصبع أو أصبعان، أخذت في الرابع من إحدى اليدين خمسة أبعرة، وفي الأصبع أو الأصبعين من اليد الأخرى عشرة عشرة، افترق القطع أو كان ذلك كله في ضربة واحدة، ما لم يقطع لها من اليدين في ضربة واحدة أربعة أصابع، وكذلك رجلاها على ما فسرنا في اليدين.
قال ابن القاسم: ولو قطع لها أصبعان عمداً، فاقتصت أو عفت، ثم قطع من تلك الكف أصبعان أيضاً خطأ، فلها فيهما عشرون بعيراً،(4/563)
وإنما يضاف بعض الأصابع إلى بعض في الخطأ، ولو ضربها منقلة، ثم منقلة فلها في ذلك ما للرجل إذا لم يكن في فور واحد، وكذلك لو كانت المنقلة الثانية في موضع الأولى نفسه بعد برئها، فلها فيها مثل ما للرجل، وكذلك المواضح.
ولو أصابها في ضربة بمواضح أو نواقل تبلغ ثلث الدية، رجعت فيها إلى عقلها.
4192 - وفي لسان الأخرس الاجتهاد. قيل: كم في الرجل العرجاء؟ قال: العرج مختلف، وما سمعت [من مالك] فيه شيئاً، إلا أني سمعته يقول: كل شيء أصيب من الإنسان فانتقص، ثم أصيب بعد ذلك الشيء، فإنما له بحساب ما بقي من ذلك العضو.
4193 - قال مالك: وما كان من خلقة خلقها الله عز وجل، لم ينْقُص منه شيء، مثل استرخاء البصر، أو العين الرمدة يضعف بصرها، أو ضعف في يد(4/564)
أو رجل، إلا أنه يبصر بالعين ويسمع بإذنه ويمشي برجله ويبطش بيده، ففي هؤلاء الدية كاملة. وكذلك الذي يصيبه أمر من السماء، مثل العِرْق يضرب في رجل الرجل فيصيبه منه عرج أو رمد، غلا أنه يمشي على الرجل، ويبصر بالعين وقد مسها ضعف، ففيها إن أصيبت الدية كاملة، ولو كان ضعف هذه العين أو اليد أو الرجل بجناية خطأ، أخذ فيها عقلاً ثم أصيبت بعد ذلك، فإنما له ما بقي من العقل.
قال ابن القاسم: فالعرج عندي مثل هذا.
4194 - وقال مالك في باب بعد هذا، في العين يصيبها الرجل بالشيء ينتقص بصرها، أو اليد فيضعفها ذلك وبصرها قائم واليد يبطش بها ولم يأخذ لها عقلاً، فعلى من أصابها بعد ذلك العقل كاملاً، وذلك أن في السن السوداء إذا أصيبت العقل تاماً. قيل لمالك: فإن أخذ لنقص اليد والعين شيئاً؟ قال: ذلك أشكل، أي ليس له إلا ما بقي، ويقاص بما أخذ.(4/565)
قال ابن القاسم: وقد قال لي [مالك] قبل: إن هذا ليس له [إلا على حساب] ما بقي.
قال ابن القاسم: ولو أصيبت يد رجل أو عينه خطأ، فضعفت فأخذ لها عقلاً إلا أنه يبطش باليد ويعمل بها ويبصر بالعين، ثم أصابها بعد ذلك رجل عمداً، ففيها القصاص بخلاف الدية.
مالك: وفي العين القائمة الاجتهاد. ولم يأخذ مالك بما ذكر عن زيد أن فيها مائة دينار.
وإن كانت السن سوداء أو حمرا أو صفراء، فأسقطها رجل، ففيها العقل كاملاً، والسوداء أشد. قيل: فإن ضربه فاسودت أو احمرت أو اصفرت أو اخضرت؟ قال: إذا اسودت فقد تم عقلها، وإذا كان سائر ذلك كالسواد تم عقلها إلا فعلى حساب ما نقص.(4/566)
وإن ضربت السن فتحركت، فإن كان اضطراباً شديداً تم عقلها، وإن كان تحريكاً خفيفاً، عقل لها بقدر ذلك، والسن الشديدة الاضطراب ينتظر بها سنة.
4198 - وإذا ذهبت أصبع من الكف بأمر من الله عز وجل، أو بجناية وقع فيها قصاص وعقل، ثم أصيبت الكف خطأ، ففيها أربعة أخماس دية اليد، ولو ذهب منها أنملة قد اقتص منها لقوصص بها في دية الكف.
ومن قطع كفاً خطأ وقد ذهب بعض أصابعها، فإنما عليه بحساب ما بقي من الأصابع في الكف، فإن لم يسبق في الكف إلا أصبع واحدة، فعليه في الأصبع ديتها، واستحسن في الكف حكومة.
ومن قطع كف رجل عمداً، وقد ذهب منها أصبعان أو ثلاثة بأمر من الله تعالى، أو بجناية وقع فيها القصاص أو عقل، لم يقتص منه، ولكن عليه العقل في ماله، ولو ذهب منها أصبع واحدة، قطعت يده قصاصاً عنها كانت الإبهام مقطوعة أو غيرها.
ومن قطع يمين رجل عمداً ولا يمين له، فديتها في ماله لا على العاقلة، فإن كان عديماً ففي ذمته، ولا تغظ عليه الدية كدية العمد إذا قبلت. وعقل المأمومة والجائفة عمداً على العاقلة، كان للجاني مال أو لم يكن، وعليه ثبت مالك وبه(4/567)
أقول. وكان قد قال مالك: إنه في ماله، إلا أن يكون عديماً فتكون على العاقلة ثم رجع. والفرق بين ذلك وبين اليدين، أن الجائفة والمأمومة موضعهما قائم لا قود فيها. (1)
4199 - قال مالك: وكل ما يجنيه عمداً، فلا يقتص منه [و] في جسده مثله، فعقل ذلك على العاقلة، وعلى الجانب الأدب، وكذلك في المأمومة والجائفة. وكذلك ما لا يستطاع منه القود إذا بلغت الحكومة فيه ثلث الدية.
وأما ما ذهب من جسد الجاني، ولو كان قائماً لاقتص منه، فعقل ذلك في ماله أو في ذمته في عدمه.
ولا تحمل العاقلة أقل من الثلث، وإنما تحمل الثلث فصاعداً إذا كان خطأ.
4500 - ومن شج رجلاً ثلاث مأمومات في ضربة واحدة ففيها الدية كاملة، فإن شجه ثلاث منقلات في ضربة واحدة حملتها العاقلة، لأن هذا يبلغ أكثر من الثلث، وإن كان ذلك في ثلاث ضربات، وكان ضرباً متتابعاً لم يقلع عنه، فهو كضربة واحدة تحملها العاقلة، وإن كان مفترقاً في غير فور واحد لم تحمله العاقلة.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/324) ، والتاج والإكليل (6/248) .(4/568)
ومن طرح سن صبي لم يثغر خطأ، وقف [عليه] عقله بيد عدل، فإن عادت لهيئتها، رجع العقل إلى صاحبه، وإن لم تعد أعطي العقل كاملاً، وإن مات الصبي قبل أن تنبت سنه، فالعقل لورثته، وإن نبتت أصغر من قدرها الذي قلعت منه، كان له من العقل بقدر ما نقصت.
ولو قُلعت عمداً، وقف له العقل أيضاً، ولا يعجل بالقود حتى يستبرأ أمرها، فإن عادت لهيئتها، فلا عقل فيها ولا قود، وإن عادت أصغر من قدرها، أعطي ما نقصت، فإن لم تعد لهيئتها حتى مات الصبي، اقتص منه وليس فيها عقل، وهو بمنزلة ما لم ينبت.
* * *(4/569)
(كتاب الديات) (1)
4195 - ودية اليهودي [والنصراني] ، مثل دية نصف الحر المسلم، ودية نسائهم على النصف من دية رجالهم، ودية المجوسي ثمان مائة درهم، والمجوسية أربع مائة درهم، وجراحهم من دياتهم على قدر جراح المسلمين من دياتهم.
وإن قتل مسلم ذمياً خطأ، حملت عاقلته الدية في ثلاث سنين.
والديات كلها: دية المسلم والمسلمة، والذمي الذمية، والمجوسي والمجوسية، إذا وقعت تحملها العاقلة في ثلاث سنين، فإن جنى مسلم على مجوسية خطأ ما يبلغ ثلث ديتها، أو ثلث ديته، حملته عاقلته، [وكذلك لمن جنى على مسلمة ما يبلغ ثلث ديتها، حملته عاقلته،] مثل أن يقطع لها أصبعين، فتحمل ذلك عاقلته، لأن ذلك أكثر من ثلث ديتها.
_________
(1) انظر: جامع الأمهات لابن الحاجب (ص2500) .(4/571)
ولو جنت امرأة على رجل ما يبلغ ثلث ديتها، حملته العاقلة أيضاً.
قال مالك - رحمه الله -: والأول أبين، وأصل هذا أن الجناية إذا بلغت ثلث دية الجاني أو ثلث دية المجني عليه، حملتها العاقلة.
4196 - ولو جنى مجوسي أو مجوسية على مسلم ما يبلغ ثلث دية الجاني، حمل ذلك أهل عواقلهم، الرجال منهم دون النساء، وهم الذين يؤدون معهم الخراج.
وإذا جنى النصراني جناية حمل ذلك أهل جزيته، وهم أه لكورته الذين خراجه معهم، وعلى قاتل عبيدهم [قيمتهم] ما بلغت قيمتهم، كعبيد المسلمين، وإن كانت القيمة أضعاف الدية، إلا أن في مأمومة العبد وجائفته في كل واحد ثلث قيمته، وفي منقلته عشر قيمته ونصف عشر قيمته، وفي موضحته نصف عشر قيمته، وفيما سوى ذلك من جراحه ما نقص بعد برئه.
وإذا قتل ذمي مسلماً خطأ، حمّل ذلك عاقلته.(4/572)
4197 - وإن أصاب أهل الذمة بعضهم بعضاً، حمل ذلك عواقلهم، وما تظالموا بينهم فالسلطان يحكم فيه بينهم.
قال مالك - رحمه الله -: إنما العقل على القبائل، كانوا أهل ديوان أم لا، ومصر والشام أجناد قد جندت، فكل جند عليهم جرائرهم دون غيرهم من الأجناد، ولا يعقل أهل مصر مع أهل الشام، ولا أهل الشام مع أهل مصر، ولا الحضر مع البدو، ولا أهل البدو مع أهل الحضر، إذ لا يكون في دية واحدة إبل ودنانير، [أو دنانير] ودراهم، وإن انقطع بدوي فسكن الحضر عقل معهم، وكذلك الشامي يوطن مصر، فإنه يعقل معهم، بمنزلة رجل من أهل مصر [مع أهل الشام] ، ثم إن جنى وقومه بالشام وليس بمصر من قومه من يحمل ذلك لقلتهم، ضم إليه أقرب القبائل بها إلى قومه، وإن لم يكن بمصر من قومه أحد فليضم إليه أيضاً أقرب القبائل من قومه حتى يقووا على العقل، غذ لا يعقل أهل الشام مع أهل مصر.
ويحمل الغني من العقل بقدره، ومن دونه بقدره، وذلك على قدر طاقة الناس في يسرهم.(4/573)
4501 - وإذا جنى الصبي والمجنون عمداً أو خطأ بسيف أو غيره، فهو كله [خطأ] تحمله العاقلة إن بلغ الثلث، وإن لم يبلغ الثلث ففي ماله، ويتبع به ديناً في عُدمه.
وإن كان المجنون يفيق أحياناً فما جنى في حال الإفاقة، فكالصحيح في حكمه في الجراح والقتل. وإذا رفع للقود وقد أخذه الجنون، أُخّر لإفاقته.
4502 - وقضى النبي ÷ في الجنين يخرج ميتاً بجناية جان، بغرة عبد أو وليدة. (1)
قال مالك: والحمران من الرقيق أحب إلي من السودان، فإن قل الحمران بتلك البلدة فليؤخذ من السودان. والقيمة في ذلك خمسون ديناراً أو ستمائة درهم، وليست القيمة بسنة مجمع عليها، وإنا لنرى ذلك حسناً.
فإذا بذل الجاني عبداً أو وليدة، جبروا على أخذها إن ساوى ما بذل خمسين
_________
(1) رواه البخاري (6910) ، ومسلم (1681) .(4/574)
ديناراً أو ستمائة درهم، وإن ساوى أقل من ذلك، لم يجبروا على أخذه إلا أن يشاءوا. وليس عل أهل الإبل في ذلك إبل، وقد قضى النبي ÷ [في] الغرة والناس يومئذ أهل إبل، وإنما تقويمها بالعين أمر مستحسن.
4503 - وإذا ضربت المرأة عمداً أو خطأ، فألقت جنيناً ميتاً، فإن علم أنه حمل - وإن كان مضغة أو علقة، أو مصوراً ذكراً أو أنثى - ففيه الغرة بغير قسامة في مال الجاني، ولا تحملها العاقلة، ولا شيء فيه حتى يزابل بطنها، وتورث الغرة على فرائض الله عز وجل. قيل: فهل على الضارب كفارة؟ قال: قال مالك: إنما الكفارة في كتاب الله عز وجل [في قتل الحر خطأ.
واستحسن مالك الكفارة] في الجنين، وكذلك العبد والذمي إذا قتلا ففيهما الكفارة، وفي جنينهما الكفارة، ولو ضربها رجل [خطأ] فماتت، ثم خرج الجنين بعد موتها ميتاً، فلا غرة فيه، وإنما على عاقلته الدية، لأنه مات بموت أمه، وعليه كفارة واحدة.
وإن ضرب بطنها فألقت جنيناً حياً، ثم ماتت بجنين في بطنها، ومات الخارج قبل موتها أو بعد، ففي الأم دية واحدة والكفارة، ولا دية في الجنين الذي لم يزايلها(4/575)
ولا كفارة. والذي ألقته إن استهل صارخاً ففيه القسامة والدية، وإن لم يستهل [صارخاً] ففيه الغرة. وإذا خرج الجنين ميتاً أو حياً، فمات قبل موتها ثم ماتت بعده، ورثته.
ولو ماتت هي وقد استهل ثم مات بعدها، لورثها، ولو خرج الجنين ميتاً ثم خرج آخر حياً بعده أو قبله، أو ولد للأب ولد من امرأة أخرى فعاش، أو استهل صارخاً ثم مات مكانه وقد مات الأب قبل ذلك كله، كان لهذا الذي خرج حياً [ميراثه من دية الذي خرج ميتاً، ألا ترى أن المولود إذا خرج حياً] يرث أباه الميت أو أخاه قبل ولادته.
ولو ضر بالأب بطن امرأته [خطأ] فألقت جنيناً ميتاً، فلا يرث الأب من دية الجنين شيئاً ولا يحجب، وميراثه لسواه.
ومن ضرب بطن امرأة خطأ فألقت جنيناً حياً، فاستهل ثم مات، ففيه القسامة، والدية على العاقلة، ولو ضرب بطنها عمداً [فألقت جنيناً حياً، ثم استهل فمات] ، ففيه القصاص بقسامة، وذلك إذا تعمد ضرب بطنها خاصة.(4/576)
قال: ولم يكن في الجنين يخرج ميتاً قسامة، لأنه كرجل ضرب فمات ولم يتكلم، وإذا صرخ ثم مات كان كالمضروب يعيش أياماً، ففيه القسامة، إذ لا يدرى أمات الجنين من الضربة، أو لما عرض له بعد خروجه.
4504 - ولو ضرب مجوسي أو مجوسية بطن مسلمة خطأ، فألقت جنيناً ميتاً، حملته عاقلة الضارب، وإن كان ذلك عمداً كان في مال الجاني.
وفي جنين أم الولد من سيدها ما في جنين الحرة، وفي جنين الأمة من غير السيد عشر قيمة أمه، كان أبوه حراً أو عبداً.
وفي جنين الذمية عشر دية أمه أو نصف عشر دية أبيه، وهما سواء، [والذكر والأنثى في ذلك سواء] .
ولو أسلمت نصرانية حامل تحت نصراني، ففي جنينها ما في جنين النصرانية، وذلك نصف عشر دية أبيه، ولو استهل صارخاً ثم مات، حلف من يرثه يميناً واحدة لمات من ذلك واستحقوا ديته، لأن مالكاً قال في النصراني يقوم على قتله شاهد عدل مسلم: إن ولاته يقسمون معه يميناً واحدة، ويستحقون الدية على من قتله مسلماً كان أو نصرانياً.(4/577)
وإن تزوج عبد مسلم نصرانية، ففي جنينها ما في جنين الحر المسلم.
وإن أسلمت مجوسية حامل تحت مجوسي ففي جنينها ما في جنين المجوسي، أربعون درهماً.
4505 - وإذا قتل رجل وصبي رجلاً عمداً، قُتل الرجل، وعلى عاقلة الصبي نصف الدية، ولو كانت رمية الصبي خطأ، ورمية الرجل عمداً، فمات منهما جميعاً، فأحب إلي أن تكون الدية عليهما جميعاً، لأني لا أدري من أيتهما مات.
ومن ثبت عليه أنه قتل رجلاً عمداً ببينة، أو بإقراره، أو بقسامة، فعفي عنه، أو سقط عنه القتل لأن الدم لا يتكافأ، فإنه يضرب مائة ويحبس عاماً، كان القاتل رجلاً أو امرأة، مسلماً أو ذمياً، حراً أو عبداً، لمسلم أو لذمي، [والمقتول مسلم أو ذمي، حر أو عبد، لمسلم أو لذمي] ، وكذلك العبد يقتل وليك عمداً فتعفو عنه على أن تأخذه، فإنه يضرب مائة ويحبس عاماً، وإذا قتل عبد وليك فعفوت عنه ولم تشترط شيئاً، فذلك كما لو عفوت عن الحر، ولا تشترط الدية ثم تطلب الدية.(4/578)
قال مالك: لا شيء لك إلا أن يتبين أنك أردتها فتحلف بالله [إنك] ما عفوت على ترك الدية إلا لأخذها، ثم ذلك لك. وكذلك في العبد لا شيء لك إلا [أن يعرف] أنك عفوت لتسترقه، فذلك لك، ثم يخير سيده. ولو عفوت على أن تأخذه رقيقاً، وقال سيده: إما أن تقتله أو تدعه، فلا قول له، والعبد لك إلا أن يشاء ربه دفع الدية إليك ويأخذه، فذلك له.
4506 - ومن أقر بقتل خطأ، فإن اتهم أنه أراد غناء ولد المقتول كالأخ والصديق، لم يصدق، وإذا كان من الأباعد، صدق إن كان ثقة مأموناً، ولم يخف أن يرشا على ذلك، ثم تكون الدية على عاقلته بقسامة، ولا تجب عليه بإقراره. (1)
وإذا لزمت العاقلة كانت في ثلاث سنين، فإن أبى ولاة الدم أن يقسموا فلا شيء لهم ولا في مال المقر، كما لو ضُرب رجل فقال: قتلني فلان خطأ، فإنه يصدق، ويكون العقل على عاقلة القاتل بقسامة، وإلا لم يكن لهم في مال المدعى عليه شيء.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/406) .(4/579)
4507 - وإذا قتل عشرة رجال رجلاً خطأ وهم من قبائل شتى، فعلى قبيلة كل رجل عشر الدية في ثلاث سنين، ولو جنوا قدر ثلث الدية، حملته عواقلهم أيضاً في سنة، وما كان دون الثلث ففي أموالهم، ولا تحمله عواقلهم.
4508 - وإذا فقا أعور العين اليمنى عين رجل صحيح اليمنى خطأ، فعلى عاقلته نصف الدية، وإن فقأها عمداً، فعليه خمسمائة دينار في ماله، وهو كأقطع اليد اليمنى يقطع يد رجل اليمنى، فدية اليد في مال الجاني، ولا يقتص من اليد أو الرجل اليمنى باليسرى، ولا اليسرى باليمنى، وكذلك العين.
ولا يقاد لسن إلا بمثلها في صفتها وموضعها: الرباعية بالرباعية، والعليا بالعليا، والسفلى بالسفلى، وإن لم يكن للجاني مثل الذي طرح رجع ذلك إلى العقل.
قال: وإن كان المفقوءة عينه أعور العين اليسرى، فله في عينه اليمنى ألف دينار، إذ لا قصاص له في عين الجاني، [و] لأن دية عين الأعور عند مالك ألف دينار.
[قال مالك: وإن فقأ الأعور عين الصحيح التي مثلها باقية للأعور،(4/580)
فللصحيح أن يقتص [إن أحب] ، وإن أحب فله دية عينه، ثم رجع فقال: إن أحب أن يقتص اقتص، وإن أحب فله دية عين الأعور ألف دينار، وقوله الآخِر أعجب إلي. (1)
وإن فقأ أعمى عين رجل عمداً، فديتها في ماله لا على العاقلة.
وإن فقأ أعور عيني رجل [جميعاً] عمداً، فله القصاص في عينه ونصف الدية في العين الأخرى.
4509 - ومن ذهب سمع إحدى أذنيه، فضربه رجل فأذهب سمع الأخرى، [فعليه نصف الدية] بخلاف عين الأعور.
وليست الدية في شيء واحد مما هو زوج في الإنسان، مثل:
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/549) .(4/581)
اليدين والرجلين وشبههما، إلا في عين الأعور وحدها، لما جاء فيها من السنة، وإنما في كل واحد من ذلك نصف الدية، سواء ذهب أولاً أو آخراً.
4510 - ومن شجّ رجلاً موضحة خطأ، فأذهب سمعه وعقله، فعلى عاقلته ديتان ودية الموضحة، لأنها ضربة واحدة، وكذلك إن شجه موضحة ومأمومة في ضربة، فعقلهما على العاقلة.
وإن شجه موضحة ومأمومة في ضربة متعمداً، اقتص من الموضحة، وحملت العاقلة المأمومة.
وإن ضربه عمداً فأوضحه فأذهب منها سمعه وعقله، فإنه يقاد من الموضحة بعد البرء، ثم ينظر إلى المقتص منه، فإن برئ ولم يذهب سمعه وعقله من ذلك، كان في ماله عقل سمع الأول وعقله، وقد يجتمع في ضربة واحدة قصاص وعقل.
4511 - ولو قطع أصبع رجل عمداً، فشلت من ذلك يده أو أصبع أخرى، اقتص من(4/582)
الجاني في الأصبع ويستأنى به، فإن برئ ولم تشل يده، عقل ذلك في ماله.
قال مالك: وهذا أحب ما في ذلك [إلي] من الاختلاف، وإن ضرب [رجل] رجلاً خطأ فقطع كفه فشل الساعد، فعلى عاقلته دية اليد لا غيرها، لأنها ضربة واحدة.
4512 - وإذا أصيبت العين فنقص بصرها، أغلقت الصحيحة ثم جعل له بيضة أو شيء في مكان يختبر به منتهى بصر السقيمة، فإذا رآها، حولت له إلى موضع آخر، فإن تساوت الأماكن أو تقاربت، قيست الصحيحة ثم أعطي بقدر ما نقصت المصابة من الصحيحة، والسمع مثله، يختبر بالأمكنة أيضاً حتى يعرف صدقه من كذبه.
وإن ادعى المضروب أن جميع سمعه أو بصره ذهب، صدق مع يمينه، والظالم أحق بالحمل عليه، ويختبر إن قدر على ذلك بما وصفنا.
4513 - ومن جنى من أهل الإبل ما لا تحمله العاقلة، فذلك في ماله من الإبل، فإن قطع أصبع رجل خطأ كان في ماله ابنتا مخاض، وابنتا لبون، [وابنا لبون] ،(4/583)
وحقتان، وجدعتان، وكذلك لو جنى ما هو أقل من بعير، كان ذلك عليه في الإبل.
وقاتل العمد إذا صولح على أكثر من الدية، فذلك جائز، كان من أهل الإبل أو من غيرهم. وإذا قبلن دية العمد، فهي في مال القاتل لا على العاقلة.
ومن جنى جناية خطأ وهو من أهل الإبل، فصالح الأولياء عاقلته على أكثر من ألف دينار، فذلك جائز إن عجلوها، فإن تأخرت، لم يجز، لأنه دين بدين، ولو جنى عمداً فصالح الأولياء على مال إلى أجل، جاز ذلك، لأن هذا دم وليس بمال.
ولو صالح الجاني على العاقلة، والجناية خطأ مما تحملها العاقلة، فقالت العاقلة: لا نرضى بصلحه ولكنا نحمل ما علينا من الدية، فذلك لهم.
4514 - وما أصاب النائم من شيء يبلغ ثلث الدية، فهو على عاقلته، وإذا نامت امرأة على ولدها فقتلته، فديته على عاقلتها وتعتق رقبة. (1)
وإن شهد شاهد على رجل أنه قتل فلاناً خطأ، فليقسم أولياء القتيل ويستحقون الدية على العاقلة.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/413) .(4/584)
ولو شهد رجل على رجل أنه قتل فلاناً خطأ، وشهد آخر على إقرار القاتل بذلك، فلا يجب على العاقلة بذلك شيء إلا بالقسامة.
وإن شهد شاهد على إقرار القاتل أنه قتله خطأ، فلا يثبت ذلك من إقراره إلا بشاهدين، فيقسمون حينئذٍ معهما ويستحقون [الدية] ، وذلك بخلاف من أقام شاهداً على إقرار رجل بدين، هذا يحلف مع شاهده ويستحق حقه.
وإذا حسنت حال المحدود في القذف، جازت شهادته في الدم وغيره.
4515 - وتجوز شهادة النساء في جراح الخطأ وقتل الخطأ، لأن ذلك مال.
وإن شهدن مع رجل على منقلة أو مأمومة عمداً، جازت شهادتهن، [لأن العمد والخطأ فيهما مال ليس بقود] .
وإذا قال المقتول: دمي عند فلان قتلني عمداً أو خطأ، فلولاته أن يقسموا ويقتلوه في العمد، ويأخذون الدية في الخطأ من العاقلة، وليس للورثة أن يقسموا على خلاف ما قال المقتول.(4/585)
وإن قال: قتلني: ولم يقل عمداً أو خطأ، فما ادعاه ولاة المقتول من عمد أو خطأ، أقسموا عليه واستحقوه. وإن قال بعضهم: عمداً، و [قال] بعضهم: خطأ، فإن حلفوا كلهم استحقوا دية الخطأ بينهم أجمعين، ولا سبيل إلى القتل.
وإن نكل مدعو الخطأ، فليس لمدعي العمد أن يقسموا، ولا دم لهم ولا دية.
وإن قال بعضهم: عمداً، وقال الباقون: لا علم لنا بمن قتله ولا نحلف، فإن دمه يبطل.
وإن قال بعضهم: خطأ، وقال الباقون: لا علم لنا، أو نكلوا عن اليمين حلف مدعو الخطأ وأخذوا نصيبهم من الدية، ولا شيء للآخرين، ثم إن أراد الآخرون أن يحلفوا بعد نكولهم ويأخذوا نصيبهم من الدية لم يكن لهم ذلك.
قال مالك: إذا نكل مدعو الدم عن اليمين ردوا الأيمان على المدعى عليهم، ثم [إن] أرادوا بعد ذلك أن يحلفوا، لم يكن لهم ذلك. وكذلك من أقام شاهداً على مال وأبى أن يحلف معه، ورد اليمين على المطلوب، ثم بدا له أن يحلف، فليس ذلك له، وإن نكل المطلوب ههنا غرم، ولم يرد اليمين على الطالب.
فإن لم يكن للمقتول إلا وارث واحد فادعى الخطأ، فليحلف خمسين يميناً(4/586)
ويستحق الدية كلها، وإن ادعى العمد لم يقتل المدعى عليه إلا بقسامة رجلين فصاعداً، فإن حلف معه آخر من ولاة الدم [و] إن لم يكن مثله في القعدد، قُتل وإلا ردت الأيمان على المدعى عليه، فإذا حلف خمسين يميناً برئ، وإن نكل حبس حتى يحلف.
4516 - قال مالك: والمتهم بالدم إذا ردت عليه الأيمان، لا يبرأ حتى يحلف خمسين [يميناً] ، ويحبس حتى يحلفها، وليس في شيء من الجراح قسامة، ولكن من أقام شاهداً عدلاً على جرح عمداً أو خطأ، فليحلف معه يميناً واحدة، ويقتص في العمد ويأخذ الدية في الخطأ، وإنما خمسون يميناً في النفس لا في الجراح.
قيل لابن القاسم: لِمَ قال مالك ذلك في جراح العمد وليست بمال؟ فقال: كلمت مالكاً في ذلك فقال: إنه لشيء استحسناه، وما سمعت فيه شيئاً.(4/587)
قال مالك: الأمر المجتمع عليه أنه لا يقسم في دم العمد أقل من رجلين.
قال ابن القاسم: ولا أراه أخذه إلا من قبل الشهادة، إذ لا يقتل أحد إلا بشاهدين. فإن نكل واحد من ولاة الدم الذين يجوز عفوهم إن عفوا، فلا سبيل إلى القتل، كانوا اثنين أو أكثر.
4517 - وإذا كان للمقتول أولاد صغار - والقتل بقسامة -، فلأولياء المقتول تعجيل القتل، ولا ينتظر أن يكبر ولده فتبطل الدماء. وإن عفوا، لم يجز عفوهم إلا على الدية لا أقل منها.
وإن كان أولاد المقتول صغاراً وكباراً، فإن كان الكبار اثنين فصاعداً، فلهم أن يُقسموا ويقتلوا ولا ينتظر بلوغ الصغار، وإن عفا بعضهم فللباقين منهم وللأصاغر حظهم من الدية، وإن لم يكن له إلا ولدين كبير وصغير،(4/588)
فإن وجد الكبير رجلاً من ولاة الدم يحلف معه، وإن لم يكن ممن له العفو، حلفا جميعاً خمسين يميناً، ثم للكبير أن يقتل، وإن لم يجد من يحلف معه حلف خمساً وعشرين يميناً واستؤنى بالصغير، فإذا بلغ حلف أيضاً خمساً وعشرين يميناً ثم يستحق الدم. (1)
4518 - وإن كان القتل بغير القسامة وللمقتول ولدان أحدهما حاضر والآخر غائب، فإنما للحاضر أن يعفو، فيجوز العفو على الغائب ويكون له حظه من الدية، وليس له أن يقتل حتى يحضر الغائب، ويحبس القاتل حتى يقدم الغائب، ولا يكفل، إذ لا كفالة في الحدود ولا في القصاص.
وإن كان للمقتول أولياء كبار وصغار فللكبار، أن يقتلوا ولا ينتظروا الصغار، وليس الصغير كالغائب، [لأن الغائب] يكتب إليه فيصنع في نصيبه ما شاء. والصغير يطول انتظاره فتبطل الدماء، وإن كان أحد الوليين مجنوناً مطبقاً، فللآخر أن يقتل، وهذا يدل على أن الصغير لا ينتظر.
وإن كان في الأولياء مغمى عليه أو مبرسم، فإنه ينتظر إفاقته، لأن هذا مرض من الأمراض.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (6/252) .(4/589)
4519 - ولا يقسم النساء في دم العمد، ويقسمن في [دم] الخطأ. وإنما يحلف ولاة الدم في الخطأ على قدر مواريثهم من الميت، فإن لم يدع الميت إلا ابنة بغير عصبة، حلف خمسين يميناً وأخذت نصف الدية، وإن جاءت مع العصبة حلفت خمساً وعشرين يميناً والعصبة مثلها.
فإن نكلوا لم تأخذ البنت نصف الدية حتى تحلف خمسين يميناً، [وإن كانت بنتاً وابناً غائباً لم تأخذ البنت ثلث الدية حتى تحلف خمسين يميناً] ، وإذا قدم الولد الغائب حلف ثلثي الأيمان وأخذ ثلثي الدية. وإذا انكسرت عليهم يمين نظر من يقع له أكثر تلك اليمين فيجبر عليه. وإن لزم واحداً نصف اليمين وآخر ثلث وآخر سدس، حلفها صاحب النصف.
4520 - وإن كان للمقتول أخ وجد، وأتوا بلوث من بينة، وادعيا الدم عمداً(4/590)
أو خطأ، فليحلفا ويستحقا، وإن كان عشرة أخوة وجد، حلف الجد ثلث الأيمان والإخوة ثلثي الأيمان، فإن عفا الجد عن القتل دون الإخوة، جاز عفوه، وهو كأحدهم.
وإن شهد شاهد على دم عمد أو خطأ، كانت القسامة.
ولا يحبس المشهود عليه في الخطأ، لأن الدية إنما تجب على العاقلة. ويحبس في العمد حتى يزكوا الشهود، فتجب القسامة. وإن لم يزك فلا قسامة، إذ لا تجب القسامة إلا مع الشاهد العدل. ولا يقسم مع شاهد مسخوط.
ولا يكفل في القصاص ولا في الحدود. وليس في قتل الخطأ حبس ولا تعزير.
4521 - وإذا وجد قتيل في قرية قوم أو دارهم، ولا يدري من قتله، لم يؤخذ به أحد، وتبطل ديته ولا يكون في بيت المال ولا غيره.
4522 - وإذا قال المقتول: دمي عند فلان، وهو مسخوط أو غير مسخوط، فلا يتهم، وليقسم ولاته على قوله، وإن كانوا مسخوطين أيضاً فذلك لهم في(4/591)
العمد والخطأ. وكذلك المرأة تقول: دمي عند فلان، ولا يشبه المقتول الشاهد إذا كان مسخوطاً، ألا ترى أن المدعي يحلف مع شاهده والمدعي مسخوط، أو امرأة، ويقسم مع قول المرأة وهي غير تامة الشهادة، ولا يقسم مع شهادتها.
4523 - وإذا قتل صبي صبياً، فقال المقتول: فلان الصبي قتلني، وأقر القاتل بذلك، وقامت على قول المقتول بينة عادلة، فلا يقسم على قوله، ولا يقبل إقرار الصبي، ولا يجوز في ذلك إلا عدلان على معاينة القتل، والصبي في هذا بخلاف المسخوط والمرأة، لأن الصبي لو أقام شاهداً على حقه لم يحلف [معه] . (1)
4524 - ولو قام لنصراني أو عبد شاهد على حق له، حلف معه واستحقه.
ولو قال النصراني: دمي عند فلان، لم يقسم على قوله، لأن النصراني لا يقسم، وإنما يقسم المسلمون.
وإذا قال المقتول: دمي عند فلان، فذكر رجلاً أورع أهل البلد، أقسم مع قوله، وإن رمى بذلك صبياً أقسم مع قوله، وكانت الدية على عاقلة الصبي. وإن رمى ذمياً أو عبداً كان لورثته أن يقسموا ويقتلوا في العمد،
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/231) .(4/592)
فإن استحيوا العبد، خير سيده بين أن يفديه بالدية أو يسلمه. وإن ادعى الخطأ اقسموا، وخير سيده في غرم الدية أو إسلامه بها، وقيل لأهل جزية هذا الذمي: احملوا العقل.
4525 - وإذا قال ابن الملاعنة: دمي عند فلان، فإن كانت أمه معتقة فلمواليها أن يقسموا ويستحقوا الدم في العمد والدية في الخطأ. وإن كانت من العرب أقسمت في الخطأ أمه وأخوته لأمه، وأخذوا حظهم من الدية. وإن كان عمداً فلا قسامة فيه، وهو كمن لا عصبة له، فلا يقتل إلا ببينة، وليس لإخوته لأمه من الدم في العمد شيء. وفي كتاب الولاء والمواريث ذكر من يرثه.
وإذا قتل ابن الملاعنة ببينة، فلأمه أن تقتل، كمن قُتل وله أم وعصبة فصالح العصبة وأبت الأم إلا أن تقتل، فذلك لها، وإن ماتت الأم فلورثتها ما كان لها، وكذلك ابن الملاعنة.
4526 - وإذا شهد شاهدان على رجل بالقتل، لم يكن في ذلك قسامة. ولو قال المقتول: دمي عند فلان وشهد شاهد أنه قتله، لم يجتزأ بذلك، ولا بد من القسامة.
وإذا شهد رجل عدل أن هذا الرجل ضرب فلاناً حتى قتله، فلأوليائه أن يقسموا(4/593)
ويقتلوا. وإن شهد أنه ضربه، وعاش الرجل وتكلم وشرب، ولم يسألوه أين دمك؟ حتى مات، ففيه القسامة.
4527 - ويحلف الورثة في القسامة بالله الذي لا إله إلا هو أن فلاناً قتله، أو مات من ضربه إن كان حياً، ولا يزاد في أيمانهم الرحمن الرحيم، وكذلك سائر الأيمان.
4528 - ويمين القسامة على البت، وإن كان أحدهم أعمى أو غائباً حين القتل.
وما لزم العاقلة من الدية، فهو على الرجال خاصة دون النساء والذرية. ويؤدي الغني على قدره ومن دونه على قدره. وقد كان يحمل على الناس في أعطياتهم من كل مائدة درهم ونصف.
4529 - وإذا ادعى الدم ورثة المقتول على جماعة، وأتوا بلوث من بينة، أو تكلم بذلك المقتول، أو قامت بينة على أنهم ضربوه، أو حملوا صخرة فرموا بها رأسه فعاش بعد ذلك أياماً، وأكل وشرب ثم مات، فللورثة أن يقسموا على واحد أيهم شاءوا، ويقتلوا ولا يقسموا على جميعهم ويقتلوهم، لأن مالكاً قال: ولا يقسم في العمد إلا على واحد، وإن ادعو الخطأ على جماعة وأتوا بلوث من بينة، أقسم الورثة عليهم بالله الذي لا إله إلا هو أنهم قتلوه، ثم تفرق الدية في قبائلهم في ثلاث سنين.(4/594)
وكذلك إن قامت بينة أنهم جرحوه خطأ فعاش بعد ذلك أياماً ثم مات، فليس للورثة أن يقسموا على واحد ويأخذوا الدية من عاقلته، ولكن يقسمون على جميعهم وتفرق الدية على عواقلهم في ثلاث سنين.
والفرق بين العمد والخطأ، أنه يقول: الضرب منا أجمعين، فلا تخصوا عاقلتي بالدية، ولا حجة له في العمد إلا أن يقسم عليه، لأن في القسامة على الجميع إيجاب لدمه إن شاءوا قتله، واللوث من البينة: الرجل الواحد العدل الذي يرى أنه حاضر الأمر.
ومن أقام شاهداً أن فلاناً قتل عبده عمداً أو خطأ، حلف يميناً واحدة مع شاهده، لأنه مال، وغرم له القاتل قيمته، فإن كان القاتل عبداً خير سيده بين أن يغرم قيمة المقتول أو يسلم عبده، فإن أسلمه لم يقتل، لأنه لا يقتل بشهادة واحد، ولأنه لا قسامة في العبيد في عمد ولا خطأ.
4530 - وإذا قتل عبد رجلاً حراً، فأتى ولاة الحر بشاهد على ذلك، فلهم أن يحلفوا خمسين يميناً ويستحقون دم صاحبهم، فيقتلوا العبد إن شاءوا،(4/595)
أو يستحيوه، فإن قالوا: نحلف يميناً واحدة ونأخذ العبد فنستحييه، لم يكن لهم ذلك، لنه لا يستحق دم الحر إلا ببينة عادلة، أو يحلفوا خمسين يميناً مع شاهدهم.
وليس فيمن قتل بين الصفين قسامة.
4531 - وإذا ضربت امرأة فألقت جنيناً ميتاً، وقالت: دمي عند فلان، ففي المرأة القسامة ولا شيء في الجنين إلا ببينة تثبت، لأنه جرح من جراحها ولا قسامة في جرح، ولا يثبت إلا ببينة أو بشاهد عدل، فيحلف ولاته معه يميناً واحدة ويستحقون ديته.
وإن قالت: دمي عند فلان، فخرج جنينها حياً، فاستهل صارخاً ثم مات، ففي الأم القسامة، ولا قسامة في الولد، لأنها لو قالت: قتلني، وقتل فلانة [معي] ، لم يكن في فلانة قسامة [شيء] .
وكذلك لو قالت: ضربن يفلان، وألقت جنيناً حياً فاستهل صارخاً ثم مات وعاشت الأم، لم يكن فيه قسامة، ولو قالت [وهي حية] : قتل ابني، لم يقبل قولها، ولا قسامة في ابنها.(4/596)
4532 - ومن قال: دمي عند أبي، أقسم على قوله، وكانت الدية في الخطأ على العاقلة، وإذا كان عمداً ففي مال الأب.
وإذا حلف الورثة في قسامة العمد، وهم رجال عدد، ثم أكذب نفسه واحد منهم قبل القتل، فلا سبيل إلى القتل إذا كان ممن لو أبى اليمين لم يقتل المدعى عليه.
4533 - ومن قتل رجلاً بحجر قُتل بحجر، وإن خنقه فقتله، قُتل خنقاً، وإن أغرقه أغرقته به، ولو كتفه فطرحه في نهر، فليُصنع به كذلك.
قال مالك: يقتل بمثل ما قتله به، وإن قتله بعصا قُتل بعصا، وليس في مثل هذا عدد، فإن ضربه عصاوين فمات منهما، فإن القاتل يضرب بالعصا أبداً حتى يموت، وإن قطع يديه ثم رجليه ثم ضرب عنقه، فإنه يقتل، ولا تقطع يداه ولا رجلاه.
وكل قصاص عليه، فالقتل يأتي على ذلك كله. وكذلك إن قطع يد رجل وفقأ عين آخر وقتل آخر، فالقتل يأتي على ذلك كله.
وإن شهد شاهد أنه قطع يد رجل [خطأ] ، ثم قتله بعد ذلك عمداً، فدية اليد على عاقلته، ويقتل به القاتل، ويستحقون دية اليد بيمين واحدة، ولا يستحقون النفس إلا بقسامة.(4/597)
وإذا قتل الصحيح سقيماً أجذم كان أو أبرص، أو مقطوع اليدين والرجلين عمداً، قتل به، وإنما هي النفس بالنفس، ولا ينظر إلى نقص البدن و [لا إلى] عيوبه.
4534 - ويقتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، وفي الجراح بينهما قصاص.
وإذا اجتمع نفر على قتل امرأة أو صبي أو صبية عمداً، قتلوا بذلك، وكذلك إن اجتمعوا على قتل غيلة، قتلوا به. (1)
4535 - ولا يقتل الحر بالمملوك، ولا المسلم بالكافر إذا قتله عمداً، ولا قصاص بينهما في جرح ولا نفس إلا بقتله غيلة، وإن قطع يديه ورجليه غيلة، حكم عليه بحكم المحارب.
4536 - وإن قتل مسلم كافراً عمداً، ضرب مائة وحُبس عاماً. وإن قتله خطأ، فديته على عاقلته. وكذلك إن كانوا جماعة، فالدية على عواقلهم.
وإن جرحه المسلم أو قطع يده أو رجله، أو قتله عمداً، فذلك في ماله،
_________
(1) انظر: القوانين الفقهية لابن جزي (ص227) .(4/598)
ولا تحمل العاقلة من عمد المسلم في جنايته على الذمي إلا المأمومة والجائفة، وإنما استحسن مالك حمل العاقلة المأمومة والجائفة، ولم يكن عنده بالأمر البين.
قال ابن القاسم: وقد اجتمع أمر الناس أن العاقلة لا تحمل العهد. وفي كتاب الجنايات ذكر القصاص بين العبيد.
4537 - وإذا قطع جماعة يد رجل عمداً، فله قطع أيديهم كلهم، بمنزلة القتل، والعين كذلك.
ومن قطع يد رجل من نصف الساعد، اقتص منه، وإذا قطع بضعة من لحمه، ففيها القصاص.
4538 - مالك: ولا قود في اللطمة. قال ابن القاسم: وفي ضربة السوط القود.(4/599)
قال سحنون: وروي عن مالك أنه لا قود فيه كاللطمة، وفيه الأدب.
4539 - وإذا شهد صبيان على صبي قبل أن يفترقوا أنه جرح رجلاً أو قتله، لم تجز شهادتهم، وإنما تجوز شهادتهم فيما بينهم فقط. وهذا في كتاب الشهادات مذكور.
4540 - وإذا اغتالت المرأة رجلاً على مال فقتلته، حكم عليها بحكم المحارب.
ومن قطع يد رجل أو فقأ عينه [على وجه الغيلة] ، فلا قصاص له، والحكم فيه إلى الإمام، إلا أن يتوب قبل أن يقدر عليه، فيكون عليه القصاص.
ومن قتل وليه قتل غيلة، فصالح فيه على الدية، فذلك مردود، والحكم فيه إلى الإمام، إما أن يقتله أو يصلبه حياً ثم يقتله، على ما يرى من أشنع ذلك.(4/600)
4541 - ومن فقأ أعين جماعة [اليمنى] وقتاً بعد وقت، ثم قاموا فلتفقأ عينه لجميعهم، وكذلك اليد والرجل، ولو أقام أحدهم وهو أولهم أو آخرهم، فله القصاص، ولا شيء لمن بقي. وكذلك لو قتل رجلاً عمداً، ثم قتل بعد ذلك رجالاً عمداً، قُتل ولا شيء عليه لهم.
ولو قطع يمين رجل، ثم ذهبت يمين القاطع بأمر من الله تعالى، أو سرق فقطعت يده، فلا شيء للمقطوعة يده، وقال في أقطع الكف اليمنى يقطع يمين رجل صحيح من المرفق، فالمجني عليه مخير إما أخذ عقل يده، وإما قطع اليد الناقصة من المرفق ولا عقل له، وكذلك من قطع يد رجل صحيح، والقاطع قد قُطعت من يده ثلاثة أصابع، فلصاحب اليد أن يأخذ العقل أو يقتص، ولا عقل له.
ومن شج رجلاً موضحة فأخذت ما بين قرنيه، و [هي] لا تبلغ من الجاني إلا نصف رأسه، أو أخذت نصف رأس المشجوج وهي تبلغ من الجاني ما بين قرنيه، فإنما ينظر إلى قياس الجرح فيشق من رأس الجاني بقدره.(4/601)
وإن أوضحه من قرنه إلى قرنه في ضربة، فهي موضحة بواحدة] ، وإن ضربه ضربة [واحدة] فأوضحه موضحتين، فله عقل موضحتين، وما دون الموضحة في العمد، ففيه القصاص.
وإن قطع أشل اليد اليمنى يمنى رجل، فله العقل ولا قصاص له.
وإن قطع يد رجل عمداً، ثم قطعت يد القاطع خطأ، فديتها للمقطوع الأول، وإن كان عمداً فللأول أن يقتص من قاطع قاطعه.
4542 - ومن قتل رجلاً [عمداً] ، فعدا عليه أجنبي فقتله، غرم ديته لأولياء المقتول الأول، ويقال لأولياء المقتول آخراً: ارضوا أولياء المقتول أولاً وشأنكم بقاتل وليكم في القتل أو العفو، فإن لم يرضوهم، فلأولياء الأول قتله أو العفو عنه، ولهم أن لا يرضوا بما بذلوا لهم من الدية أو أكثر منها.
ومن قتل رجلاً عمداً فحبس للقتل، ففقأ رجل عينه أو جرحه في السجن عمداً أو خطأ، فله القود في العمد والعقل في الخطأ، وله العفو في عمده، ولا شيء لولاة المقتول في ذلك كله، وإنما لهم سلطان على من أذهب نفسه.(4/602)
وكذلك لو حكم القاضي بقتله وأسلمه إليهم ليقتلوه، فقطع رجل يده عمداً، فله القصاص، بمنزلة ما وصفنا.
ومن قتل وليك عمداً فقطعت يده، فله أن يقتص منك. ولو قطعت يده أو فقأت عينه خطأ، حملت ذلك عاقلتك، ويستقاد له ما لم يقد منه، وتحمل عاقلته ما أصاب من الخطأ. (1)
ومن كسر بعض سن رجل، ففيه القصاص برأي أهل المعرفة. وقد تقدم في كتاب الجراح ذكر من يستقيد في الجراح والقتل.
4543 - ومن سقى رجلاً سماً فقتله، فإنه يقتل بقدر رأي الإمام. والذين يسقون الناس السيكران ويموتون منه ويأخذون أمتعتهم، كالمحاربين.
ومن صالح من موضحة خطأ، على شيء أخذه ثم نزى منها فمات، فليقسم ولاته أنه مات منها، ويستحقون الدية على العاقلة، ويرجع الجاني فيما دفع، ويكون في العقل كرجل من قومه.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/535) .(4/603)
وإن قطع يده عمداً فعفا عنه ثم مات منها، فلأوليائه القصاص في النفس بقسامة، إن كان عفا عن اليد لا عن النفس.
4544 - وللمقتول أن يعفو عن قاتله عمداً، وكذلك في الخطأ إن حمل ذلك الثلث.
4545 - ومن ضُرب فمات تحت الضرب أو بقي مغموراً، لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم ولم يفق حتى مات، فلا قسامة فيه، وإن أكل وشرب وعاش حياة [بينة] تعرف، ثم مات بعد ذلك، ففيه القسامة في العمد والخطأ، إذ لعله مات من أمر عرض له غير ذلك، وكذلك إن مكث يوماً أو يومين فتكلم، [ولم يأكل ولم يشرب، وكذلك إن قطع فخذه فعاش يومه، فأكل وشرب، ثم مات آخر النهار، ففيه القسامة، وأما إن شقت حشوته فتكلم] ، وأكل وعاش يومين أو ثلاثة، فإنه يقتل قاتله بغير قسامة إذا كان قد أنفذ مقاتله، ألا ترى أن الشاة إذا خرق السبع بطنها فشق أمعاءها ونثرها أنها لا تؤكل، لأنها غير ذكية، وهي لا تحيا على حال.(4/604)
4546 - وإذا قتل جماعة رجلاً عمداً، فللولي قتل من أحب منهم، أو العفو أو الصلح فيمن أحب [منهم] .
ولو عفا المقتول عن أحدهم، كان للورثة قتل من بقي. ومن قتل عمداً وله إخوة وجَدّ، فمن عفا من الإخوة أو الجد، جاز عفوه، وليس للإخوة للأم في العفو عن الدم نصيب، وإذا قامت بينة بالقتل عمداً، وللمقتول بنون وبنات، فعفو البنين جائز على البنات، ولا أمر لهن مع البنين في عفو ولا قيام، فإن عفوا على الدية دخل فيها النساء، وكانت على فرائض الله عز وجل، وقضي منها دينه.
فإن عفا واحد من البنين سقط حظه من الدية، وكان بقيتها بين من بقي على الفرائض، وتدخل في ذلك الزوجة وغيرها. وكذلك إذا وجب الدم بقسامة، ولو أنه عفا على الدية، كانت له ولسائر الورثة على المواريث، وإذا عفا جميع البنين، فلا شيء للنساء من الدية، وإنا لهن إذا عفا بعض البنين.
قال: والإخوة والأخوات إذا استووا فهم كالبنين [والبنات] فيما ذكرنا،(4/605)
وإن كان الأخوات شقائق والإخوة للأب، [فلا عفو إلا باجتماعهم، لأن الإخوة للأب معهن عصبة، وإذا كان للمقتول بنات وعصبة، أو أخوات وعصبة، فالقول قول من دعا إلى القتل، كان من الرجال أو من النساء] .
ولا عفو إلا باجتماعهم، إلا أن يعفو بعض البنات وبعض العصبة، أو بعض الأخوات وبعض العصبة، فلا سبيل إلى القتل، ويقضى لمن بقي بالدية.
وإن قال بعض البنات: نقتل، وبعضهن: نعفو، نظر إلى قول العصبة، فإن عفوا تم العفو، وإن قالوا: نقتل، فذلك لهم. وإن قال بعض العصبة وبعض البنات: نقتل، وعفا من بقي من العصبة والبنات، فلا سبيل إلى القتل.
وإن لم يترك إلا ابنته وأخته، فلابنة أولى بالقتل وبالعفو، وهذا إذا مات مكانه، وإن عاش وأكل وشرب ثم مات، فليس لهما أن يقسما، لأن النساء لا يقسمن في العمد، وليقسم العصبة، فإن أقسموا وأرادوا القتل وعفت الابنة، فلا عفو لها، وإن أرادت القتل وعفا العصبة، فلا عفو لهم إلا باجتماع منهم ومنها، أو منها وبعضهم.
4547 -[وإن كان رجلاً لا عصبة له وكان القتل خطأ، أقسمت أخته وابنته وأخذتا الدية] ، وإن كان عمداً لم يجب القتل إلا ببينة.(4/606)
4548 - ومن أسلم من أهل الذمة أو رجل لا تعرف عصبته، فقتل عمداً أو مات مكانه وترك بنات، فلهن أن يقتلن، فإن عفا بعضهن وطلب بعضهن القتل، نظر السلطان بالاجتهاد في ذلك إذا كان عدلاً، فإن رأى العفو أو القتل أمضاه.
وإن ادعى القاتل أن وليّ الدم عفا، فله أن يستحلفه، فإن نكل ردت اليمين على القاتل، فإن ادعى القاتل بينة غائبة على العفو تلوم له الإمام.
وإذا كان للمقتول عمداً ولد صغير وعصبة، فللعصبة أن يقتلوا أن يأخذوا الدية ويعفوا، ويجوز ذلك على الصغير، وليس لهم أن يعفو على غير مال. وكذلك من وجب لابنه الصغير دم عمد أو خطأ، لم يجز للأب أن يعفو [فيه] إلا على الدية لا اقل منها، فإن عفا الأب في الخطأ وجعل الدية في ماله، جاز ذلك إن كان الأب ملياً يُعرف ملاؤه، فإن لم يكن ملياً لم يجز عفوه. وكذلك العصبة، وإن لم يكونوا أوصياء.
4549 - وإذا جرح الصبي عمداً وله وصي، فللوصي أن يقتص له، وأما إن قتل فولاته أحق من الوصي بالقيام بذلك، وليس للأب أن يعفو عمن جرح ابنه الصغير، إلا أن يعوضه من ماله.(4/607)
وليس للوصي أيضاً أن يعفو في ذلك إلا على مال على وجه النظر، والعمد في ذلك والخطأ سواء.
ولا يأخذ الأب والوصي في ذلك أقل من الأرش، إلا أن يكون الجارح عديماً فيرى الأب أو الوصي من النظر صلحه على أقل من دية الجرح، فذلك جائز.
وإذا قُتل للصغير عمداً عبد، فأحب إليّ أن يختار أبوه أو وصيه أخذ المال، إذ لا نفع له في القصاص.
4550 - وسئل مالك - رضي الله عنه - عن خير الناس بعد نبيهم؟ فقال: أبو بكر [ثم عمر] ، ثم قال: أوفي ذلك شك؟ فقيل: فعلي وعثمان أيهما أفضل؟ فقال: ما أدركت أحداً ممن يقتدى به يفضل أحدهما على صاحبه ويرى الكف عنهما.(4/608)
4551 - ومن وجب لهم الدم قبل رجل، فقتلوه قبل أن ينتهوا به إلى الإمام، فلا شيء عليهم غير الأدب.
وإذا عفا المقتول خطأ عن ديته، جاز ذلك في ثلثه، فإن لم يكن له مال وأوصى مع ذلك بوصايا، فلتتحاص العاقلة وأهل الوصايا في ثلث ديته.
ولو أوصى بثلثه لرجل بعد الضرب دخلت الوصية في ديته، لأنه قد علم أن قتل الخطأ مال. وكذلك إن أوصى بثلثه قبل أن يضرب وعاش بعد الضرب ومعه من عقله ما يعرف به ما هو فيه فلم يغير الوصية، فإنها تدخل في ديته [إلا أن تختلس نفسه ولا يعرف له بعد الضرب حياة، فلا تدخل الوصايا في ديته] .
ولو كان القتل عمداً فقبل الأولياء الدية، لم تدخل فيه الوصايا وإن عاش بعد الضرب، وتورث على الفرائض، إلا أن يكون عليه دين فأهل الدين أولى بذلك.(4/609)
4552 - ومن قتل رجلاً عمداً، فلم يقتل حتى مات أحد ورثة المقتول وكان القاتل وارثه، بطل القصاص، لأنه ملك من دمه حصة، فهو كالعفو، ولبقية أصحابه عليه حصتهم من الدية. وإن مات وارث المقتول الذي له القيام بالدم، فورثته مقامه في العفو والقتل.
وإن مات من ولاة الدم رجل وورثه رجال ونساء، فللنساء من القتل أو العفو ما للذكور، لأنهم ورثوا الدم عمن له العفو أو القتل.
ومن قُتل عمداً وله بنون وبنات، فماتت واحدة من البنات وتركت بنين ذكوراً، فلا شيء لهم من الدم في عفو ولا قيام، كما لم يكن لأمهم، وإنما لهم إن عفا بعض البنين الذكور عن الدم حصة أمهم من الدية لا غير.
ومن قتل رجلاً عمداً فكان وليّ الدم ولد القاتل، فقد كره [له] مالك القصاص منه، وكان يكره أن يحلفه في الحق، فكيف يقتله؟!.(4/610)
وإذا هرب القاتل، فلولاة الدم أن يقيموا عليه البينة في غيبته ويقضى عليه، لجواز القضاء على الغائب، فإذا قدم كان على حجته ولا تعاد البينة.
وإذا أفلست امرأة، ثم تزوجت وأخذت مهراً، فليس لغرمائها فيه قيام بدينهم، ولا تقتضي منه ديناً، ويبقى زوجها بلا جهاز، إلا أن يكون الشيء الخفيف كالدينار ونحوه. وفي كتاب التفليس إيعاب هذا بحمد الله تعالى.
4553 - ومن دفع إلى صبي دابة أو سلاحاً يمسكه، فعطب بذلك، فديته عل عاقلته. وكذلك الدابة يسقيها له، وعليه عتق رقبة.
ومن حمل صبياً على دابة يمسكها أو يسقيها، فوطئت رجلاً فقتلته، فالدية على عاقلة الصبي، ولا رجوع لعاقلته على عاقلة الرجل الذي حمله على الدابة بشيء، وإن كان رجلان مرتدفان على دابة فوطئت رجلاً بيديها أو برجليها فقتلته، فأراد على المقدم إلا أن يعلم أن المؤخر حركها أو ضربها فيكون عليهما، لأن المقدم بيده لجامها، أو يأتي من فعلها أمر يكون من المؤخر لا يقدر المقدم على دفعه، وذلك مثل أن يضربها المؤخر فترمح لضربه، فتقتل رجلاً، فهذا وشبهه(4/611)
على عاقلة المؤخر خاصة. ولا يضمن المقدم النفحة إلا أن يكون سببها من فعله، وإذا كان صنيعها لفعل المؤخر لم يعلم به المقدم ولا استطاع حبسها، فذلك على المؤخر خاصة، وإن كان المقدم صبياً فإن كان قد ضبط الركوب، فهو كالرجل فيما ذكرنا. ولا يضمن المقدم ما كدمت إلا أن يكون ذلك بسببه.
وكذلك الراكب على الدابة لا يضمن ما كدمت أو نفحت، غلا أن يكون ذلك من شيء فعله بها. ويضمن ما وطئت بيديها أو رجليها، لأنه هو يسيرها.
وإن جمحت دابة براكبها فوطئت إنساناً فعطب، فهو ضامن.
ومن نخس دابة [رجل، فوثبت] فقتلت إنساناً، فديته على عاقلة الناخس.
ومن قاد قطاراً، فهو ضامن لما وطئ البعير في أول القطار أو في آخره.(4/612)
وإن نفحت رجلاً فأعطبته، لم يضمن القائد ذلك إلا أن يكون ذلك من شيء فعله بها. والقائد والسائق ضامن لما وطئت الدابة بيديها أو برجليها.
وإن اجتمع قائد وسائق وراكب، فما أوطئت الدابة فعلى القائد والسائق، إلا أن يكون فعلها بسبب الراكب، فذلك عليه، خاصة إذا لم يكن فيه عون من القائد أو السائق.
4554 - وقال مالك في جمّال حمل عدلين على بعير لغيره بإذنه وهو أجير، فسار به وسط السوق، فانقطع الحبل، فسقط عدل على أحد فقتله: إن الجمال ضامن من دون صاحب البعير.
ومن سقط عن دابته على أحد فقتله، فالساقط ضامن، وذلك على عاقلته.
4555 - وما أشرع الرجل في طريق المسلمين من ميزاب، أو ظلة، أو حَفْر بئر، أو سرب للماء أو للريح في داره أو في أرضه، أو حفر شيئاً مما يجوز له في داره(4/613)
أو في طريق المسلمين، مثل: بئر المطر أو مرحاض يحفره إلى جنب حائطه، فلا غرم عليه لما عطب في ذلك كله، وما صنعه في طريق المسلمين مما لا يجوز له من حفر بئر أو رباط دابة ونحوه، فهو ضامن لما أصيب بذلك.
وإن حفر حفيراً في داره، أو جعل حبالة ليُعطب بها سارقاً، فعطب فيها السارق أو غيره، فهو ضامن لذلك. وإن حفر حفيراً في دار رجل بغير إذنه، فعطب فيه إنسان، ضمنه الحافر.
4556 -[مالك:] ومن اتخذ كلباً عقوراً، فهو ضامن لما أصاب إن تقدم إليه فيه.
قال ابن القاسم: وذلك إذا اتخذه حيث يجوز له، فلا يضمن ما أصاب حتى يتقدم إليه فيه، وإن اتخذه بموضع لا يجوز له اتخاذه فيه كالدور وشبهها وقد عرف أنه عقور، ضمن ما أصاب. (1)
والحائط المخوف إذا أُشهد [به] على ربه، ثم عطب تحته أحد، فربه ضامن، وإن لم يشهدوا عليه، لم يضمن وإن كان مخوفاً.
وإن كانت الدار مرهونة أو مكتراة، لم ينفعهم الإشهاد إلا على ربها،
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/278) ، ومواهب الجليل (6/241) .(4/614)
فإن غاب رفع أمره إلى الإمام ولم ينفعهم الإشهاد على الساكن، إذ ليس له هدم الدار.
4557 - ومن استأجر عبداً في بئر يحفرها له، ولم يأذن له سيده في الإجارة ولا في العمل، أو بعثه بكتاب إلى سفر بغير إذن سيده، فعطب فيه، فهو ضامن.
4558 - وإذا اصطدم فارسان، فمات الفارسان والراكبان، فدية كل واحد على عاقلة الآخر، وقيمة فرس كل واحد في مال الآخر.
ولو أن سفينة صدمت سفينة أخرى، فكسرتها فغرق أهلها، فإن كان ذلك من ريح غلبتهم أو من شيء لا يستطيعون حبسها، فلا شيء عليهم، وإن كانوا قادرين على أن يصرفوها فلم يفعلوا، ضمنوا.
ولو أن حراً أو عبداً اصطدما، فماتا جميعاً، فثمن الغلام في مال الحر، ودية الحر في رقبة الغلام، فإن [كان] في ثمن الغلام فضل عن دية الحر، كان في مال الحر، وإلا فلا شيء لسيد العبد.
وإن قتل حر وعبد جميعاً رجلاً خطأ، فعلى عاقلة الحر نصف الدية، ويقال لسيد العبد: ادفع عبدك أو افده بنصف الدية.(4/615)
4559 - ومن جرح رجلاً جرحين خطأ، وجرحه آخر جرحاً خطأ، فمات من ذلك فأقسمت الورثة عليهما، كانت الدية على عاقلتيهما بنصفين، لا على الثلث والثلثين.
وإذا قتل العبد رجلاً له وليان، فعفى أحدهما، قيل لسيده: ادفع نصفه أو افده بنصف الدية، وإن قتل قتيلين وليهما واحد، فليس له أن يسلم نصفه بدية أحدهما ويفتك نصفه بدية الآخر، ولكن يسلمه كله أو يفتكه بديتيهما، وإن كان لكل قتيل أولياء، فعفا أولياء أحدهما، فلأولياء الآخر قتله، فإن استحيوه ليأخذوه، قيل لسيده: إما أن تسلم نصفه أو تفديه بالدية.
4560 - وإذا جرح العبد رجلاً، فبرأ جرحه، وفدى العبد سيده، ثم انتقض الجرح فمات منه، فليقسم ولاته ولهم قتله في العمد، فإن استحيوه على استرقاقه، صار العمد كالخطأ، وخير سيده بين أن يسلمه أو يفديه بالدية، فإن أسلمه رجع بما دفع أولاً في الجرح، وإن فداه قاصه به في الدية.(4/616)
ولو أن عبيداً قتلوا رجلاً خطأ، أو جرحوه وهم لمالك واحد أو لجماعة، فدية النفس أو الجرح تقسم على عددهم، فمن شاء سيده منهم فداه بما يقع عليه أو أسلمه، قلّت قيمته أو كثرت، قلّ ما يقع عليه أو كثر، كانوا لواحد أو لجماعة.
4561 - ومن فقأ عيني عبد أو قطع يديه جميعاً فقد أبطله، ويعتق عليه ويضمن قيمته، فإن لم يبطله مثل أن يفقأ عينه الواحدة أو يجذع أذنه وشبهه فعليه ما نقصه ولا يعتق عليه. وقد سمعت أنه يسلم إلى من فعل ذلك به ويعتق عليه، وذلك رأيي إذا أبطله على صاحبه.
4562 - وإذا قطع عبدك يد رجل خطأ، وقتل آخر خطأ، فإن أسلمته فهو بينهما أثلاثاً، ولو استهلك مع ذلك مالاً، حاص أهل المال أهل الجراح في رقبته بقيمة(4/617)
ما استهلك لهم، ولو قتل [رجلاً] واحداً خطأ، وفقا عين آخر، فلك أن تفدي ثلثيه في القتل بجميع الدية، وتسلم إلى صاحب العين ثلثه، فيكون معك في العبد شريكاً.
4563 - وقال في المدبر يجني، فتسلم خدمته في الجناية، فيموت السيد قبل أن يفي ما خدم بالجناية، فلم يحمله الثلث فيعتق منه محمل الثلث: فإنه ينظر ما بقي لأهل الجناية فيقسم [على] ما رق منه وما عتق، فإما فدى الورثة ما رق منه بما ينوبه أو أسلموه، وما وقع على المعتق منه أتبع به.
قيل: أفيأخذون [منه] جميع كسبه حتى يستوفوا بقية الجناية التي صارت لهم على العتيق منه؟ قال: قد قال مالك - رحمه الله - في العبد نصفه حر يجني، فيفدي السيد حصته: إن ما بيد العبد من مال يؤخذ في نصف الجناية التي لزمته، وكذلك المدبر فيما بيده من المال.(4/618)
وأما ما اكتسب العبد من مال، فلا يؤخذ من الجزء العتيق إلا ما فضل عن عيشه وكسوته، والذي أُخذ من العبد في جنايته إنما هو قضاء لنصيبه الذي عتق منه، فإن كان كفافاً لم يتبع بشيء، وإن كان فيه فضل، وقف الفضل بيده، وإن قصر عن ذلك أتبع به في حصة الحر، وأما ما رق لهم منه، فلا يتبعوه فيه بشيء من الجناية، لأنه رقيق لهم، وعليهم أن يطعموه ويكسوه بقدر الذي رق لهم.
4564 - قال مالك - رحمه الله - في عبد على برذون، مشى على أصبع صبي فقطعها، فتعلق به يقول: هذا فعل بي ذلك، وصدقه العبد: فما كان في مثل هذا، يتعلق به وهو يدمي، ويقر به العبد، [فهو] في رقبته إما فداه سيده أو أسلمه، وأما على غير هذا من إقرار العبد، فلا يقبل إلا ببينة، وإن أقر العبد بقتل عبد لهم، فلهم قتله، فإن استحيوه فليس لهم ذلك، للتهمة أن يكون أقر ليفر إليهم.
4565 - وإن جنى عبد في يديك عارية، أو وديعة، أو رهناً، أو بإجارة، وهو لرجل(4/619)
غائب ففديته، ثم قدم [الغائب] ، فإما دفع إليك ما فديته وأخذه، وإلا أسلمه إليك ولا شيء عليه.
4566 - وإن عجز المكاتب وعليه دين، فديته في ذمته إلا أن يكون له مال حين عجز، فيؤدوا منه الدين، وكلما أفاد بعد عجزه، فللغرماء أن يأخذوه في دينهم، إلا ما كان من كسب يده وعمله في الأسواق.
وإذا أذن المكاتب لعبده في التجارة، فرهق العبد دين، وعلى المكاتب دين، فقام الغرماء، فالعبد يباع في دين المكاتب ويثبتون أن عليه ديناً، ويبقى دين العبد في ذمته يتبع به.
4567 - وإذا جنت مكاتبة، ثم ولدت فماتت، فلا شيء على الولد من جنايتها، ولا مما في ذمتها من دين. وكذلك المدبرة تلد بعد الجناية، فلا يدخل ولدها في الجناية، وكذلك الأمة تجني وهي حامل، أو حملت بعد أن جنت ثم وضعت، فلا يسلم ولدها معها في الجناية، وتسلم بمالها، كسبته بعد الجناية أو قبلها. وإذا جنت الأمة، منع سيدها من وطئها حتى يحكم فيها.(4/620)
4568 - وإذا قتلت أم الولد رجلاً عمداً له وليان، فعفا أحدهما، فعلى السيد الأقل من نصف قيمتها أو نصف الدية، وإذا قال: لا أدفع [إليكم] شيئاً، إنما لكم قتل، فليس ذلك له، كالحر يقتل رجلاً له وليان فيعفو أحدهما، فعليه للآخر نصف الدية، ويجبر على ذلك.
4569 - ولا تجوز شهادة النساء في دم العمد، ولا في العفو عنه.
4570 - ومن قطع أصابع رجل [عمداً] ، ثم قطع بقية كفه، فإنما عليه أن يقطع يده من الكف، إلا أن يكون فعل ذلك به على وجه العذاب، فيصنع به مثل ذلك.
ولو طرح رجلاً في نهر ولم يدر أنه لا يحسن العوم، [فمات] ، فإن كان على [وجه] العداوة والقتال، قُتل به، وإن كان على غير ذلك، فعليه الدية ولا يقتل به.(4/621)
4571 - وإن شهد رجل أن فلاناً قتل فلاناً بالسيف، وشهد آخر أنه قتله بالحجر، فذلك باطل، ولا يقسم بذلك. (1)
4572 - ومن وضع سيفاً في طريق المسلمين، أو في موضع يرصد به قتل رجل، فعطب به ذلك الرجل، فإنه يقتل بهن وإن عطب به غيره، فديته على عاقلته.
قال المصنف - رضي الله عنه -: وقد تركت من هذا الباب مسائل كثيرة، قد تقدم ذكرها في كتاب التفليس، وفي كتاب الجنايات [وغيره] ، فأغنى عن إعادتها.
* * *
[قال خلف بن أبي القاسم البراذعي القروي: قد تضمن هذا الكتاب مسائل المدونة والمختلطة كلها، خلا كثيراً من تكرارها وآثارها، وأجريت فيه ذكر مالك وغيره من أصحابه، فيما لا غنى فيه عنه، مما هو في المدونة، وجعلت ما لم أذكر قائله من المسائل منسوباً إلى عبد الرحمن بن القاسم، وإن كانت كلها قول مالك،
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/271) .(4/622)
فمنها ما سمعه منه، أو بلغه عنه، أو قاسه على أصوله، إلا ما بيّن أنه خالفه فيه واختاره من أحد قوليه، فإني ذكرت ذلك حسبما هو في المدونة، وما كان في هذا الكتاب "وهو أحب إليّ"، أو "وبه أقول"، فهو اختيار ابن القاسم، والله تعالى أسأله التوفيق برحمته، وحسبنا الله ونعم الوكيل] .
[تم جميع الديوان بحمد الله وعونه، في العشر الأواخر من شعبان المكرم، سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، فرحم الله كاتبه وكاسبه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً الله على محمد خاتم النبيين وسلم تسليماً] .
* * *
تم بحمد الله(4/623)